كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
والأجل المسمى هو أوان صفاء القلب متوجهاً إلى الحق { أولم يسيروا } في أرض البشرية بالسلوك لتبديل الأخلاق { والذين من قبلهم } هم الفلاسفة والبراهمة المعتمدون على مجرد البراهين من غير اعتبار الشرائع . والسوأى هي أن صاروا أئمة الكفر والضلال { الله يبدؤا الخلق } بتصيير النفس متعلقة بالقالب { ثم يعيده } بطريق السير والسلوك والعبور عن المنازل والمقامات إلى عالم الأرواح { ثم إليه ترجعون } بجذبة { ارجعي } [ الفجر : 28 ] { ويوم تقوم الساعة } الإرادة { يبلس المجرمون } بتضييع الأوقات في طلب ما سوى الله . ويوم تقوم الساعة قيامة العشق يومئذ تتفرق المحبون ، فبعضهم يطلب الجنة ، وبعضهم يطلب الوصلة ، وبعضهم يريد الوحدة { فسبحان الله } حين تغلبون على ليل نيل الشهوات وحين صباح نهار تجلي شموس الوصال ، وله الحمد إن كنتم في سموات القربات أو أرض البعد والغفلات ، وسبحانه في عشاء غشاء القساوة وفي حالة استواء شمس المعرفة في وسط سماء القلب ، فإن الربح الخسران في كلتا الحالتين راجع إلى الطائفتين والله منزه عن العالمين . يخرج القلب الحي بنور الله من النفس الميتة في ظلمات صفاتها إبرازاً للطفه ، ويخرج القلب الميت عن الأخلاق الحميدة من النفس الحية بالصفات الحيوانية ، إظهاراً لقهره ، ويحيي أرض القلوب بعد موتها وكذلك تخرجون بدأ وإعادة . فمن آياته خلق سموات القلوب وأرض النفوس ، واختلاف ألسنة القلوب وألسنة النفوس ، فلسان القلب يتكلم بلغة العلويات ، ولسان النفس يتكلم بلغات السفليات { واختلاف ألوانكم } وهي الطبائع المختلفة . منكم منيريد الدنيا ، ومنكم من يريد الآخرة ومنكم من يريد الله { ومن آياته منامكم } في ليل البشرية { وابتغاؤكم من فضله } في نهار الروحاينة والمكاشفات الربانية { لقوم يسمعون } كلام الله من شجرة الوجود ، ويريكم بروق شواهد الحق ثم اللوامع ثم الطوالع . فتلك الأنوار ترى شهوات الدنيا نيراناً فيخاف منها ، وترى مكاره التكاليف جناناً فيطمع فيها . أن تقوم سماء النفس وارض القلب بأمره لأن الروح من أمره { ثم إذا دعاكم } بجذبة { ارجعي } [ الفجر : 28 ] { إذ أنتم } يعني النفس والقلب والروح { تخرجون } من أنانيته وجودكم { وهو أهون عليه } لأنه في البداية كان مباشراً بنفسه وفي الإعادة يكون المباشر إسرافيل بنفخه ، والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق . ويحتمل أن يكون أهون من الهون بالضم وهو الذلة والضمير للخلق ، وذلك أنهم في البداية لم يكونوا ملوثين بلوث الحدوث ، ولا مدنسين بأدناس الشرك والمعاصي ، فلعزتهم في البداية باشر خلقهم بنفسه ، ولهونهم في الإعادة باشرهم بغيره ، { وله المثل الأعلى } فيما أودع من الآيات في سموات الأرواح وأرض القلوب . { ضرب لكم } أي للروح والقلب والسر والعقل { مما ملكت أيمانكم } من الأعضاء والجوارح والحواس والقوى { فيما رزقناكم } من العلوم والكشوف { تخافونهم } أن لا يضيعوا شيئاً من المواهب بالتصرفات الفاسدة { كخيفتكم أنفسكم } اي كخيفة الروح من القلب أن لا يضيع شيئاً منها بأن يصرفها في غير موضعها رياء وسمعة وهوى ، أو كخيفة القلب من السر والعقل بأن يصرفها فيما يفسد العقائد ويوقع في الشكوك . فكما لا يصلح هؤلاء لشركتكم فكذلك لا تصلحون أنتم لشركتي إذا تجليت عليكم ، فدعوى الاتحاد والحلول باطلة والكبرياء ردائي لا غير .
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
القراآت : { آتيتم من رباً } مقصوراً : ابن كثير { لتربوا } بضم التاء وسكون الواو على الجمع : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب { لنذيقهم } بالنون : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل { يرسل الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { كسفاً } بالسكون : يزيد وابن ذكوان { آثار } على الجمع : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { ضعف } وما بعده بفتح الضاد : حمزة وعاصم غير للفضل . الباقون : بالضم وهو اختيار خلف وحفص { لا ينفع } بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وعاصم . والآخرون : بتاء التأنيث { لا يستخفنك } بالنون الخفيفة : رويس عن يعقوب .
الوقوف : { يشركون } 5 لا وقد يوقف على توهم لام الأمر { آتيناهم } ط للعدول إلى الخطاب وابتداء أمر التهديد { فتمتعوا } قف لاستئناف التهديد { تعلمون } 5 { يشركون } 5 { بها } ج ط فصلاً بين النقيضين { يقنطون } 5 { ويقدر } ج { يؤمنون } 5 { وابن السبيل } ط { وجه الله } ز ط { المفلحون } 5 { عند الله } ج ط لعطف جملتي الشرط { المضعفون } 5 { يحييكم } ط { شيء } ط { يشركون } 5 { يرجعون } 5 { من قبل } ط { مشركين } 5 { يصدّعون } 5 { كفره } ج لما مر { يمهدون } 5 لا وقد يوقف على جعل اللام للقسم وحذف نون التأكيد { من فضله } 5 { الكافرين } 5 { تشكرون } 5 { أجرموا } ط وقيل : يوقف على { حقاً } أي وكان الانتقام حقاً . ثم ابتداً علينا أي واجب علينا { نصر المؤمنين } 5 { خلاله } ط ج للشرط مع الفاء { يستبشرون } 5 { لمبلسين } 5 { موتها } ط { الموتى } ج لاتفاق الجملتين مع العدول عن بيان الإحياء إلى بيان القدرة { قدير } 5 { يكفرون } 5 { مدبرين } 5 { ضلالتهم } ط { مسلمون } 5 { وشيبة } ط { ما يشاء } ج ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول { القدير } 5 { المجرمون } 5 لا لأن ما بعده جواب القسم { غير ساعة } ط { يؤفكون } 5 { يوم البعث } ز لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول { لا تعلمون } 5 { يستعتبون } 5 { مثل } ط { مبطلون } 5 { لا يعلمون } 5 { لا يوقنون } 5 .
التفسير : لما بين التوحيد بالدلائل وبالمثل بين أنه أمر وجداني يعرفونه في حال الضر والبلاء وإن كانوا ينكرونه في حال الرحمة والرخاء ، وفي لفظي المس والإذاقة دليل على أن الإِنسان قليل الصبر في حالتي الضراء والسراء . وإنما قال { إذا فريق منهم } ولم يقل « إذا هم يشركون » كما قال في آخر « العنكبوت » ، لأن الكلام هناك مع أهل الشرك وههنا مع الناس كلهم وليس كل الناس كذلك . ثم استفهم على سبيل الإِنكار قائلاً { أم أنزلنا } كأنه قال : إذا تقررت الحجج المذكورة فماذا يقولون ، أيتبعون أهواءهم بغير علم أم لهم دليل على ما يقولون؟ وإسناد التكلم إلى الدليل مجاز كما تقول : نطقت الحال بكذا .
و « ما » في قوله { بما كانوا } مصدرية والضمير في { به } لله أو موصولة والضمير لها اي بالأمر الذي بسببه يشركون ، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ذا سلطان وهو الملك فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه { يشركون } وحين ذكر الشرك الظاهر أتبعه ذكر الخفي وهو أن تكون عبادة الله للدنيا فإذا أتاه بهواه رضي ، وإذا منع وعسر سخط وقنط ، والرحمة المطر والصحة والأمن وأمثالها ، والسيئة أضداد ذلك . وإنما لم يذكر سبب الرحمة ليعلم أنها بفضله وذكر سبب السيئة وهو شؤم معاصيهم ليدل على عدله . والفرح بالنعمة مذموم إذا كان مع قطع النظر عن المنعم ، فإذا كان مع ملاحظة المنعم فمحمود بل الفرح الكلي يجب أن يكون بالمنعم . والقنوط من رحمة الله أيضاً مذموم كما مر في قوله { إنه لا ييأس من روح الله غلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] ثم اشار بقوله { أولم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء } إلى أن الكل من الله فيجب أن يكون نظر المحقق في الحالين على الله . ففي حالة الرحمة يشتغل بالشكر ، وفي حالة الضراء لا ينسب الله إلى عدم القدرة وإلى عدم العناية بحال العبد بل يشتغل بالتوبة والإنابة إلى أوان الفرج والنصر ، وهذه مرتبة المؤمن الموحد فلذلك قال { إن في ذلك لايات لقوم يؤمنون } ولا يخفى أن بسط الرزق مما يشاهد ويرى فلذلك قال { أولم يروا } وقال في « الزمر » { أولم يعلموا } [ الآية : 52 ] مناسبة لما قبله وهو { أوتيته على علم } [ القصص : 78 ] وقوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } قال جار الله : لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت ايديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك قائلاً { فآت ذا القربى حقه } الآية . وأقول : لما بين كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى الشفقة على خلق الله قائلاً { فآت } أيها المكلف أو النبي والأمة يتبعونه لا محالة كما مر في قوله { فأقم وجهك } [ الروم : 30 ] وفيه أن الله إذا بسط الرزق فلا ينقص بالإِنفاق ، وإذا ضيق لم يزدد بالإمساك ، فينبغي أن لا يتوقف الإنسان في الإحسان . وفي تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر دلالة على أنهم أولى بالإشفاق عليهم من سائر الأصناف . وإنما قال { ذا القربى } ولم يقل « القريب » ليكون نصاً في معناه ولا يشتبه بالقرب المكاني ، وفيه أن القرابة أمر له دوام بخلاف المسكنة وكونه من ابناء السبيل . وفي قوله { فآت ذا القربى حقه } دون أن يقول « فآت هذه الأصناف حقوقهم » تشريف لذوي القرابة حيث جعل الصنفين الآخرين تابعاً لهم على الإطلاق . فإنه إذا قال الملك : خل فلاناً يدخل وفلاناً أيضاً كان أدخل في التعظيم من أن يقول : خل فلاناً وفلاناً يدخلان { ذلك } الإيتاء { خير } في نفسه أو خير من المنع { للذين يريدون وجه الله } أي ذاته أو جهة قربته فإن من أنفق ألوفاً رياء وسمعة لم ينل درجة من أنفق رغيفاً لوجه الله { وأولئك هم المفلحون } كقوله في أول « البقرة » لأن قوله
{ فأقم وجهك } [ الروم : 30 ] إشارة إلى الإيمان بالغيب وغيره أو إلى إقامة الصلاة ، وقوله { وآت ذا القربى } أمر بالزكاة بل بالصدقة المطلقة . وفي قوله { يريدون وجه الله } إشارة إلى الاعتراف بالمعاد . ثم أراد أن يعظم شأن الصدقة فضم إلى ذلك تقبيح أمر الربا استطراداً .
فمن قرأ ممدوداً فظاهر ، ومن قرأ مقصوراً فهو من الإتيان أي وما غشيتموه أو أصبتموه من إعطاء ربا ليربو أي ليزيد في أموال أكلة الربا ، وفي القراءة الأخرى ليزيد في أموالهم { فلا يربو } فلا يزكو ولا ينمو { عند الله } لأنه يمحق بركتها نظيره ما مر في آخر البقرة { يمحق الله الربا ويربى الصدقات } [ الآية : 276 ] قيل : نزلت في ثقيف وكانوا يرابون . وقيل : نزلت في الهبة أو الإهداء لأجل عوض زائد ، فبين الله تعالى أن ذلك لا يوجب الثواب عند الله وإن كان مباحاً . وفي الحديث « الجانب المستغزر يثاب عن هبته » أي الرجل الغريب إذا أهدى شيئاً فإنه ينبغي أن يزاد في عوضه . قال جار الله : في قوله { فأولئك } التفات حسن كأنه قال ذلك لخواصه ولملائكته وهو أمدح لهم من أن يقول « فأنتم المضعفون » أي ذوو الإضعاف من الحسنات نظيره المقوي والموسر لذوي القوة واليسار ، ولارابط محذوف أي هم المضعفون به . وجوز في الكشاف أن يراد فمؤتوه أولئك هم المضعفون . قالت العلماء : أراد الإضعاف في الثواب لا في المقدار ، فليس من أعطى رغيفاً فإن الله يعطيه عشرة أرغفة ، وإنما المراد أن الرغيف الواحد لو اقتضى أن يكون ثوابه قصراً في الجنة فإن الله تعالى يعطيه عشرة قصور تفضلاً .
ثم عاد إلى بيان التوحيد مرة أخرى بتذكير الخلق والرزق والإماتة والإحياء بعدها نظراً إلى الدلائل ، ثم طلب منهم الإنصاف بقوله { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } قال جار الله : « من » الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم . قلت : الأولى للتبعيض كأنه أقام فعل البعض مقام فعل الكل توسعة على الخصم ، والثالثة لتأكيد الاستفهام ، والمتوسطة للابتداء ولكنه يفيد أنه رضي منهم بشيء واحد من تلك الأشياء للتوسعة المذكورة أيضاً . ثم بين أن الشرك وسائر المعاصي سبب ظهور الفساد في البر والبحر وذلك لقلة المنافع وكثرة المضار ومحق البركات من كل شيء . وفسره ابن عباس بإجداب البر وانقطاع مادة البحر وتموجه بمائه ، وعن الحسن : المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي على سواحله ، وقال عكرمة : العرب تسمي الأمصار بحاراً { لنذيقهم } وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن نعاقبهم بجميعها في الآخرة إرادة أن يرجعوا عماهم عليه ، وجوز جار الله أن يراد ظهر الشر والمعاصي في الأرض براً وبحراً بكسب الناس .
وعلى هذا فاللام في قوله { لنذيقهم } لام العاقبة . ثم أمرهم بالنظر في حال أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم كقوم نوح وعاد وثمود { كان أكثرهم مشركين } فيه إشارة إلى أن بعضهم كانوا مرتكبي ما دون الشرك من المعاصي ولكنهم شاركوا المشركين في الهلاك تغليظاً عليهم . أو هو كقوله { واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة } [ الأنفال : 25 ] أو المراد أن أهل الشرك كانوا أكثر من أهل سائر الأديان الباطلة كالمعطلة والمجسمة ونحوهم . خاطب نبيه وبتبعيته أمته بقوله { فأقم } كأنه قال : وإذ قد ظهر فساد سائر الملل والنحل { فاقم وجهك للدين } البليغ الاستقامة { من قبل أن يأتي } من الله { يوم } لا يرده راد . ويجوز أن يتعلق قوله { من الله } بقوله { لا مردّ } أي لا راد له من جهة الله فلا يقدر غيره على رده فلا دافع له أصلاً { يومئذ يصدّعون } أي يتصدعون والتصدع التفرق . ثم بين وجه تفرق الناس بقوله { من كفر فعليه كفره } اي وبال كفره عليه لا على غيره { ومن عمل صالحاً } أي آمن وعمل صالحاً لأن العمل الصالح لا يتصور إلا بعد الإِيمان ، على أن الإِيمان ، أيضاً عمل صالح قلبي ولساني وسيصرح به في قوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ومعنى { يمهدون } يوطؤن كما يسوّي الراقد مضجعه وجوز جار الله ن يراد فعلى أنفسهم يشففقون من قولهم : في المشفق أم فرشت فأنامت . وذلك ان الإشفاق يلزمه التمهيد عرفاً وعادة . ثم بين غاية التمهيد بقوله { ليجزي } وقوله { من فضله } عند أهل السنة ظاهر : وحمله المعتزلة على شبه الكناية لأن الفضل تبع للثواب فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له ، أو الفضل بمعنى العطاء والثواب . وفي قوله { إنه لا يحب الكافرين } وعيد عظيم لهم لأنه إذا لم يحبهم أرحم الراحمين فلا يتصور لهم خلاص من عذابه ولا مناص ولا رحمة من جهته ولا نعمة ، وفيه تعريض بأنه يحب المؤمنين ولا وعد أعظم من هذا ولا شرف فوق ذلك . قال جار الله : تكرير الذين آمنوا وعملوا الصلاحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح . وقوله { إنه لا يحب الكافرين } تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس . قلت : يشبه أن يكون مراده أنه ذكر الكافر أولاً ثم المؤمن ، وفي الآية الثانية قرر أولاً أمر المؤمن ثم أردفه بتقرير أمر الكافر . أو أراد أن قوله { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } دل بصريحه على ثواب المؤمن وبتعريضه على حرمان الكافر ، وقوله { إنه لا يحب الكافرين } دل بصريحه على حرمان الكافر وبتعريضه على ثواب المؤمن .
فالأول طرد والثاني عكس وكل منهما مقرر للآخر . وحين ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح وبين أنه من دلائل الوحدانية بقوله { ومن آياته أن يرسل الرياح } ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما مر من أن الكريم لا يذكر ، لإحسانه سبباً ويذكر لأضراره سبباً . ومن قرأ على التوحيد فللدلالة على الجنس ، ومن قرأ على الجمع فإما لأنه أراد الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة دون الدبور التي هي للعذاب ، وإما لأن أكثر الرياح نافعة والضارة كالسموم قليلة جداً لا تهب إلا حيناً ، وإما لأن الرياح إذا اجتمعت وتزاحمت وتراكمت حتى صارت ريحاً واحداً أضرت بالأشجار والأبنية وقلعتها وإذا تفرقت وصارت رياحاً اعتدلت ونفعت . قوله { مبشرات } أي بالمطر كقوله { بشراً بين يدي رحمته } [ الأعراف : 57 ] وقيل : أي بتصحيح الأهوية وإصلاح الأبدان .
وقوله { وليذيقكم } إما معطوف على ما قبله معنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم بعض رحمته لأن راحات الدنيا زائلة لا محالة ، وإما معطوف على محذوف أي وليكون كذا وكذا أرسلناها . وفي قوله { بأمره } إشارة إلى أن مجرد هبوب الريح لا يكفي في جريان الفلك ولكنها تجري بإذن الله وجعله الريح على اعتدال وقوام . وفي قوله { ولتبتغوا من فضله } دلالة على أن ركوب البحر لأجله التجارة جائز . وفي قوله { ولعلكم تشكرون } إشارة إلى أن نعم الله تعالى يجب أن تقابل بالشكر . وإنما بنى الكلام في هذه الآية على الخطاب بخلاف قوله { ليذيقهم بعض الذي عملوا يرجعون } تشريفاً لأهل الرحمة ، ورحمة الله قريب من المحسنين فكان من حقهم أن يخاطبوا ثم أشار إلى أصل النبوة مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { ولقد ارسلنا } واختصر الكلام فدل بذكر عاقبة الفريقين المجرم والمؤمن عليهما ، فعاقبة المجرمين الذين لم يصدِّقوا رسلهم الإنتقام منهم ، وعاقبة الذين صدَّقوهم النصر والظفر على الأعداء . وفي قوله { حقاً علينا } تعظيم لأهل الإيمان ورفع في شأنهم وإلا فلا يجب لأحد على الله شيء . ثم أراد أن يشير إلى الأصل الثالث وهو المعاد فمهد لذلك مقدمة منتزعة مما تقدم ذكره وهو بيان إرسال الرياح لأجل إحداث السحاب الماطر المبسوطة بعضها على الاتصال والمتفرق بعضها كسفاً اي قطعاً . وقوله { فترى الودق } أي المطر يخرج من خلاله قد مر في النور . ثم ذكر في ضمن ذلك عجز الإنسان وقلة ثباته وتوكله وقوله { من قبله } مكرر للتأكيد ومعناه الدلالة على أن عهدهم بالمطر تطاول فاستحكم بأسهم وتحقق إبلاسهم . وقيل : اراد أنهم من قبل نزول المطر ، أو من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب كانوا مبلسين ، وذلك أن عند رؤية السحب وهبوب الرياح قد يرجى المطر فلا يتحقق الإبلاس . ثم صرح بالمقصود قائلاً { إن ذلك لمحي الموتى وهو على كل شيء } من الإبداء والإعادة { قدير } .
ثم أكد تزلزل الإنسان وتذبذبه وأنه بأدنى سبب يكفر بنعمة الله فقال { ولئن أرسلنا ريحاً } ضارة باردة أو حارة { فرأوه } اي رأوا أثر الرحمة وهو النبات . ومن قرأ آثار فالضمير عائد إلى المعنى لأن آثار الرحمة النبات أيضاً واسم النبات يقع على القليل والكثير ، وإنما قال { مصفراً } ولم يقل « أصفر » لأن تلك الصفرة حادثة . وقيل : فرأوا السحاب مصفراً لأنه إذا كان كذلك لم يمطر . ثم زاد في تسلية رسوله بقوله { فإنك لا تسمع الموتى } إلى قوله { فهم مسلمون } وقد مر في آخر النمل . ثم أعاد من دلائل التوحيد دليلاً آخر من الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله وأطواره وتقلبه من ضعف الطفولية إلى قوة الشباب والكهولة ومنها إلى ضعف الهرم . وفي قوله { خلقكم من ضعف } إشارة إلى أن أساس أمر الإنسان الضعف كقوله { خلق الإنسان من عجل } [ الأنبياء : 37 ] وقيل : من ضعف اي من نطفة .
وهذا الترديد في الأطوار المختلفة أظهر دليل على وجود الصانع العليم القدير . وقوله { يخلق ما يشاء } كقوله في دليل الآفاق { فيبسطه في السماء كيف يشاء } [ الروم : 48 ] والكل إشارة إلى بطلان القول بالطبيعة المستقلة . ثم عاد إلى ذكر المعاد وأحوال القيامة ، وذكر أن الكفار يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث ، وأن أهل العلم والإيمان وهم الملائكة والأنبياء وغيرهم حالهم بالعكس . وذلك أن الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله ، والموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها . ومعنى { يؤفكون } يصرفون عن الصدق والتحقيق أي هكذا كان أمرهم في الدنيا مبيناً على الظن الكاذب وكانوا يصرون بمثله . ويحتمل أن يكونوا ناسين أو كاذبين . ومعنى في كتاب الله في اللوح والمحفوظ أو في علمه وقضائه ، أو فيما كتب وأوجب . وفيه رد قول الكفار وإلاع لهم على مصدوقية الحال . قال جار الله : في الحديث « ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون » قالوا : لا نعلم أهي أربعون سنة أو أربعون الف سنة . وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم . والفاء في قوله { فهذا يوم البعث } جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قيل : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث وبه تبين بطلان قولكم { ولكنكم كنتم لا تعلمون } أنه حق . ثم بين أن ذلك اليوم لا يقبل فيه عذر من أهل الشرك وسائر أنواع الظلم { ولا هم يستعتبون } أي لا يطلب منهم الرضا فلا يقال لهم ارضوا ربكم بتوبة وطاعة ، وقد مر في « النحل » . ثم بين أن القرآن مشحون بقصص وأخبار كلها كالمثل في غرابتها وحسن مواقعها ، وأن الرسول مهما جاءهم بدليل أنكروه لأن الذي اجترأ على العناد في دليل واحد ، والأغلب أن يتجرأ على أمثاله وهذا نتيجة الطبع والخذلان ، فلا علاج في مثل هذه القضية إلا بالصبر وتحمل أعباء الرسالة إلى إنجاز وعد الله بالنصرة وإعلاء الدين . ومعنى { لا يستخفنك } لا يحملنك على الخفة والقلق قوم شاكون فأمثال هذه الأفعال والأقوال لا تستبعد من أهل الريب والضلال أمر أن لا يضجر ويشتغل بالدعاء إلى الحق حتى يأتي أوان النصر والظفر والله المستعان .
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
القراآت : { ورحمة } بالرفع . حمزة وأبو عون عن قنبل { ليضل } بفتح الياء : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب و { يتخذها } بالنصب : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد { يا بني لا تشرك } بسكون الياء : البزي والقواس . وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله { يا بني أقم } الباقون : بكسر الياء . { مثقال } بالرفع : ابو جعفر ونافع { نصاعر } بالألف : أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف . الآخرون . بالتشديد .
الوقوف : { الم } 5 كوفي { الحكيم } 5 وقف لمن قرأ { ورحمة } بالرفع على تقدير هو هدى . ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في { تلك } فلا وقف { للمحسنين } 5 لا { يوقنون } 5 ط { المفلحون } 5 { بغير علم } ط قد يوقف لمن قرأ { ويتخذها } بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفاً على { ليضل } فهو معطوف على { يشتري } { هزواً } ط { مهين } 5 { وقرأ } ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء { أليم } 5 { النعيم } 5 لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم { فيها } ط لأن التقدير وعد الله وعداً { حقاً } ط { الحكيم } 5 { دابة } 5 للعدول { كريم } 5 { دونه } ط { مبين } 5 { لله } ط { لنفسه } ج { حميد } 5 { بالله } ط وقد يوقف على { لا تشرك } على جعل الباء للقسم وهو تكلف { عظيم } 5 { بوالديه } ج لانقطاع النظم مع تعلق { أن اشكر } ب { وصينا } { ولوالديك } ط { المصير } 5 { معروفا } ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين { إلي } ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار { تعملون } 5 { الله } ط { خبير } 5 { أصابك } ط { الأمور } 5 ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين { مرحاً } ط { فخور } ج لما ذكر { من صوتك } 5 ط { الحمير } 5 .
التفسير : لما قال في آخر السورة المتقدمة { ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل } [ الزمر : 27 ] وكان في إشارة إلى إعجاز القرآن ، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم ، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة . وتفسيره إلى { المفلحون } كما في أول البقرة . إلا قوله { تلك آيات الكتاب الحكيم } فإنه مذكور في أول « يونس » . وحيث زاد ههنا { ورحمة } قال { للمحسنين } فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى لقوله صلى الله عليه وسلم « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه » ولقوله سبحانه { إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون } [ النحل : 128 ] { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ومما يؤيد ما قلنا أنه لم يقل هنا { يؤمنون بالغيب } [ البقرة : 3 ] لئلا يلزم شبه التكرار ، فإن الإحسان لا مزيد عليه في باب العقائد . ثم بين حال المعرضين عن الحق بقوله { ومن الناس من يشتري لهو الحديث } الإضافة بمعنى « من » أي الحديث الذي هو لهو ومنكر .
وجوز في الكشاف أن تكون « من » للتبعيض أي يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه وفيه نظر ، لأنه يصح هذا التأويل في قولنا « خاتم فضة » وليس بمشهور . قال المفسرون : نزلت في النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشاً . وقيل : كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ويقول : هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه . فعلى هذا معنى { ليضل } بضم الياء ظاهر ، ومن قرأ بالفتح فمعناه الثبات على الضلال أو الإضلال نوع من الضلال . وقوله { بغير علم } متعلق ب { يشتري } كقوله { فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين } [ البقرة : 16 ] أي للتجارة قاله في الكشاف وغيره . ولا يبعد عندي تعلقه بقوله { ليضل } كما قال { ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم } [ النحل : 25 ] قال المحققون : ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح ، وإذا كان الحديث لهواً لا فائدة فيه كان أقبح . وقد يسوغه بعض الناس بطريق الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم { روِّحوا القلوب ساعة فساعة } والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق كقوله « يا بلال روّحنا » ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان معه اشتغاله بلهو الحديث مستكبراً عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبراً } ومحل { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً } نصب على الحال قال جار الله : الأولى حال من ضمير { مستكبراً } والثانية من { لم يسمعها } قلت : هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما و { مستكبراً } حالاً من فاعل { ولى } أي مستكبراً مشابهاً لمن لم يسمعها مشابهاً لمن في أذنيه وقر . وجوز أي يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن ، قال أهل البرهان : هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ ههنا في ذمة لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله { كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقراً } اي صمماً لا يقرع مسامعه صوت ، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة . وترك الجملة الثانية في « الجاثية » لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله { وإذا علم من آياتنا شيئاً } [ الجاثية : 9 ] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره . وحين بين وعيد أعداء الدين بين حال أولياء الله بقوله { إن الذين آمنوا } الآية .
وقد مر مثله مراراً وفي قوله { وهو العزيز الحكيم } إشارة إلى أنه لا غالب ولا مناوئ ، يعطي النعيم من شاء والبؤس من شاء حسب ما تقتضيه حكمته وعدله . ثم بين عزته وحكمته بقوله { خلق السموات بغير عمد } وقد مر في أول « الرعد » . وقوله { وألقى في الأرض } مذكور في أول « النحل » و { من كل زوج كريم } ذكر في أول الشعراء . هذار الذي ذكر من السموات بكيفياتها والأرض بهيآتها بسائطها ومركباتها { خلق الله } أي مخلوقه { فأروني ماذا خلق الذين من دونه } وهم الآلهة بزعمهم . وهذا أمرتعجيز وتبكيت فلهذا سجل عليهم بالضلال المبين . ثم بين فساد اعتقاد أهل الشرك بأنه مخالف ايضاً لعقيدة الحكماء الذين يعولون على المعقول الصرف منهم لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته أو من أولاد آزر ، عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم ، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام ، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له؟ فقال : الا أكتفي إذا كفيت وأكثر الأقاويل أنه كان حكيماً . عن ابن عباس : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود فرزقه الله العتق ورضي الله قوله « ووصيته » وحكاها في القرآن . وقيل : خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة . وقال عكرمة والشعبي : كان نبياً . روي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد ، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت ، فلما أتمها لبسها وقال : نعم لبوس الحرب أنت . فقال : الصمت حكمة وقليل فاعله . فقال له داود عليه السلام : بحق ما سميت حكيماً . روي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب ، ثم امره بمثل ذلك بعد ايام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضاً فسأله عن ذلك فقال : هما أطيب ما فيها إذا طابا ، وأخبث ما فيها إذا خبثا .
ثم فسر الحكمة بقوله { أن اشكر لله } لأن إيتاء الحكمة في معنى القول . قال العلماء : هذا أمر تكوين أي جعلناه شاكراً فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم ، وفيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد . وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لأبنه المسمى أنعم أو أشكم . قيل : كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظمهما حتى أسلما . ووجه كون الشرك ظلماً عظيماً أنه وضع في أخس الأشياء - وهو الفقير المطلق- موضع اشرف الاشياء - وهو الغني المطلق- ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الإشراك بالله .
وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان : أحدهما أن طاعة الأبوين تالية لعبادة الله ، والثاني تأكيد كون الشرك أمراً فظيعاً منكراً حتى إنه يلزم فيه مخالفة من يجب طاعته . وقوله { حملته أمه وهناً } أي حال كونها تهن وهناً { على وهن } أي ضعفاً على ضعف ، لأن الحمل كلما زاد وعظم ازدادت ثقلاً وضعفاً ، اعتراض في اعتراض تحريضاً على رعاية حق الوالدة خصوصاً . روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال : « قلت : يا رسول الله من أبر؟ قال : أمك ثم أمك ثم أباك » وقوله { وفصاله في عامين } توقيت للفطام كما مر في « البقرة » في قوله { والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من المشاق . ومعنى { معروفاً } صحاباً أو مصاحباً معروفاً على ما يقتضيه العرف والشرع . وفي قوله { واتبع سبيل من أناب إليّ } إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة . واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في « العنكبوت » وفي « الأحقاف » نزلت في سعد بن ابي وقاص وفي أمه حمنة بنت ابي سفيان ، وذلك أنه حين أسلم قالت : يا سعد ، بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليَّ حرام حتى تكفر بمحمد - وكان أحب ولدها إليها « فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآيات ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتراضاها بالإحسان وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله { حسناً } لأن قوله { أن اشكر } قام مقامه ، وإنما قال ههنا { وإن جاهداك على أن تشرك } لأنه أراد ون حملاك على الإشراك ، وقال في العنكبوت { لتشرك } [ العنكبوت : 8 ] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار . وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله { فأنبئكم بما كنتم تعملون } أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهوة قوله { يا بني إنها } أي القصة { إن تك } أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال : الحبة إن تك كحبة الخردل . ومن قرأ { مثقال } بالرفع تعين أن يكون الضمير في { إنها } للقصة وتأنيث { تك } لإِضافة المثقال إلى الحبة . وروي أن ابن لقمان قال له : أرأيت الحبة تكون في مقل البحر اي في مغاصة يعلمها الله؟ إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء .
سؤال : الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟ الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا : الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء .
وقال أهل الأدب : فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله ، أراد فكانت مع صغرها في أخفى موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت العالم العلوي أو السفلي ، وقال أهل التحقيق : إن خفاء الشيء يكون إما لغاية صغره ، وإما لاحتجاجه ، وإما لكونه بعيداً ، وإما لكونه في ظلمة . فأشار إلى الأول بقوله { مثقال من خردل } وإلى الثاني بقوله { فتكن في صخرة } وإلى الثالث بقوله { أو في السموات } وإلى الرابع بقوله { أو في الأرض } وقوله { يأت بها الله } أبلغ من قول القائل « يعلمه الله » ففيه مع العلم بمكانه إظهار القدرة على الإتيان به { إن الله لطيف } نافذ القدرة { خبير } ببواطن الأمور ، وحين منع ابنه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بمكارم الأخلاق والعادات وأولها الصلاة ، وفيها تعظيم المعبود الحق ، وبعدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهما تتم الشفقة على خلق الله . وقوله { واصبر على ما اصابك } من أذيات الخلق في البأس ، أو هو مطلق في كل ما يصيبه من المصائب والمكاره { إن ذلك } المذكور { من عزم الأمور } أي من معزوماتها من عزم الأمر بالنصب إذا قطعه قطع إيجاب وإلزام ، ومنه العزيمة خلاف الرخصة ، أو من عزم الأمر بالرفع أي جد وقد مر في آخر « آل عمران » . وحين أمره بأن يكون كاملاً في نفسه مكملاً لغيره وكان يخشى عليه أن يتكبر على الغير بسبب كونه مكملاً له أو يتبختر في النفس بسبب كونه كاملاً في نفسه قال { ولا تصعِّر خدك للناس } يقال : أصعر خدَّه وصعره وصاعره من الصعر بفتحتين وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه . والمعنى : أقبل على الناس بكل وجهك تواضعاً لا بشق الوجه كعادة المتكبرين . ومعنى { ولا تمش في الأرض مرحاً } مذكور في سورة « سبحان الذي » والمختال والفخور مذكوران في سورة النساء . فالمختال هو الماشي لأجل الفرح والنشاك لا لمصلحة دينية أو دنيوية ، والفخور هو المصعر خده ، بين أن الله لا يحبهما فيلزم الاجتناب عن الاتصاف بصفتهما . ثم امره عند الاحتياج إلى المشي لضرورة بالمشي القصد أي الوسط بين السرعة والإبطاء على قياس سائر الأخلاق والآداب فخير الأمور أوساطها ، ومثله غض الصوت حين التكلم . قال أهل البيان : في تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير التي هي مثل في البلادة حتى استهجن التلفظ باسمها في أغلب الأمر ، وفي تمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن أداة التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة ، تنبيه على أن الإفراط في رفع الصوت من غير ضرورة ولا فائدة مكروه عند الله جداً ، واشتقاق أنكر من النكر ليكون على القياس لا من المنكر والحمير جمع الحمار ، وإنما لم يقل أصوات الحمير لأن المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق وغير الناطق له صوت ، وإن أنكر أصوات هذه الأجناس صوت أفراد هذا الجنس .
قال بعض العقلاء : من نكر صوت هذا الحيوان أنه لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق ، وأما سائر الحيوانات فلا يصيح إلا لحاجة قالوا : ومن فوائد عطف الأمر بغض الصوت على الأمر بالقصد في المشي ، أن الحيوان يتوصل إلى مطلوبه بالمشي فإن عجز عن ذلك فبالتصويت والنداء كالغنم تطلب السخلة ، ومنها أن الإنسان له عقيدة ولسان وجوارح يتحرك بها كسائر الحيوانات فأشار إلى الأولى بقوله { إنها إن تك مثقال حبة } أي أصلح ضميرك فإن الله خبير ، واشار إلى التوسط في أفعال الجوارح بقوله { واقصد في مشيك } وإلى التوسط في الأقوال بقوله { اغضض من صوتك } أو نقول : اشار بقوله { أقم الصلاة } إلى الأوصاف الملكية التي يجب أن تكون في الإنسان ، وبقوله { وأمر } إلى قوله { مرحاً } إلى الأوصاف الفاضلة الإنسانية ، وبقوله { واقصد } { واغضض } غلى الأوصاف التي يشارك فيها الإنسان سائر الحيوان والله تعالى أعلم .
التأويل : { ويؤتون الزكاة } هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين ، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله ، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود { لهو الحديث } قال الجنيد : السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم ، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم ، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم . { وإذ قال لقمان } القلب { لابنه } السر المتولد من ازدواج الروح والقلب { وهو يعظه } أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا { في عامين } يريد فطامه عن مألوفات الدارين { وإن جاهداك } فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات ، فإن الروح قد يميل غلى مجانسة من الروحانيات ، والقلب يميل تارة إلى الروح ، وأخرة إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة ، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد . { واتبع سبيل من أناب إليّ } وهو الخفي . { إنها إن تك } يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها { لصوت الحمير } قالوا : هو الصوفي يتكلم قبل أوانه .
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
القراآت : { نعمه } على الجمع : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص { والبحر } بالنصب : أبو عمرو ويعقوب عطفاً على اسم « أن » الآخرون : بالرفع حملاً على محل « أن » ومعمولها { وأن ما يدعون } على الغيبة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب { وينزل الغيث } التشديد : ابو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم .
الوقوف : { وباطنه } ط { منير } 5 { آباءنا } ط { السعير } 5 { الوثقى } ط { الأمور } 5 { كفره } 5 { عملوا } ط { الصدور } 5 { غليظ } 5 { ليقولن الله } ط { الله } ط { لا يعلمون } 5 { والأرض } ط { الحميد } 5 { كلمات الله } ط { حكيم } 5 { واحدة } ط { بصير } 5 { والقمر } ز لأن قوله { كل } مبتدأ مع عطف « أن » على « أن » الأولى { خبير } 5 { الباطل } لا { الكبير } 5 { من آياته } ط { شكور } 5 { الدين } ج { مقتصد } ط { كفور } 5 { عن ولده } لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظاً مع صدق الاتصال معنى { شيئاً } ط { الدنيا } قف للفصل بين الموعظتين { الغرور } 5 { الساعة } ج لاختلاف الجملتين { الغيث } ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب { الأرحام } ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام { غداً } ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها { تموت } ط { خبير } 5 .
التفسير : لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة ايضاً ، ولو كانت تعبداً محضاً للزم قبوله ، كيف وإنها توافق المعقول ، أعاد الاستدلال بالأمور المشاهدة الآفاقية والأنفسية . ومعنى { سخر لكم } لأجلكم كما مر في سورة إبراهيم من قوله { وسخر لكم الشمس والقمر دائبين } [ إبراهيم : 33 ] الآية ومعنى { اسبغ } أتم ، والنعم الظاهرة كل ما يوجد للحس الظاهر إليه سبيل ومن جملتها الحواس أنفسها . والباطنة مالا يدرك إلا بالحس الباطن أو بالعقل أو لا يعلم أصلاً . ومن المفسرين من يخص ، فعن مجاهد : الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ظاهراً ، والباطنة إمداد الملائكة . وعن الضحاك : الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة والعلم .
وقيل : النفس . ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول « الحج » . ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد ، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلاً { أولو كان } إلخ . ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا؟ ثم اراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال { ومن يسلم وجهه إلى الله } وهو نظير قوله في « البقرة » { بلى من أسلم وجهه لله } [ الآية : 112 ] والفرق أن معناه مع « إلى » يرجع إلى التفويض والتسليم ، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي .
وقوله { يمتعهم } الاية . كقوله في البقرة { ومن كفر فأمتعه قليلاً ثم أضطره } [ الآية : 126 ] وغلظ العذاب شدته . ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر « العنكبوت » مثله إلا أنه قال في آخره { بل أكثرهم لا يعلمون } وذلك أنه زاد هناك قوله { وسخر الشمس والقمر } [ الرعد : 2 ] فبالغ ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس . ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق . وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال { ولو أن ما في الأرض } الاية . عن ابن عباس : أنها نزلت جواباً لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة . وقيل : هي جواب قول المشركين أن الوحي سينفد .
وتقدير الآية على قراءة الرفع : لو ثبت كون الأشجار أقلاماً وثبت البحر ممدوداً بسبعة أبحر . ويجوز أن تكون الجملة حالاً واللام في البحر للجنس . وجعل جنس البحار ممدوداً بالسبعة للتكثير لا للتقدير ، فإن كثيراً من الشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله قوله صلى الله عليه وسلم « المؤمن يأكل في معاً واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء » أراد الأكل الكثير . وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة ، وجعل الأبحر السبعة مملوأة مداداً ، فهي تصب فيه مدادها ابداً صباً لا ينقطع . قلت : جعله الأبحر سبعة تقديراً ينافي قوله « أبدا لا ينقطع » وإنما لم يجعل للأقلام مداداً لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم . وإنما لم يقل : كلم الله « على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمه؟ وقيل : أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة » كن « وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف . ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة . ثم أكد ذلك بأن سمعه يتعلق في زمان واحد بكل المسموعات ، وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء . ثم أعاد طرفاً من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلاً { الم تر } وقد مر نظيره في » الحج « إلى قوله { الكبير } وقوله ههنا { يجري إلى أجل مسمى } وقوله في » فاطر « و » الزمر « { لأجل مسمى } [ الزمر : 5 ، فاطر : 13 ] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايراً ، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر . وعن الحسن : هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ .
والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا . ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام ، أن هذه الآية صدِّرت بالتعجيب فناسب التطويل . والمشار إليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق . قال بعضهم { العلي } إشارة إلى كونه تماماً وهو أن حصل له كما ينبغي أن يكون له . و { الكبير } إشارة إلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه . ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية .
ومعنى { بنعمته } بإحسانه ورحمته أو بالريح الطيبة التي هي بأمر الله { إن في ذلك } الإجراء { لايات لكل صبار } على الضراء { شكور } في السراء . ووجه المماسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر » ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد ، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب ، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة . وإنما قال ههنا .
{ فمنهم مقتصد } وقد قال فيما قبل { إذا هم يشركون } [ العنكبوت : 65 ] لأنه ذكر ههنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله اثر في الخيال فيخفض شيئاً من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار ، ويلزمه أن يكون متوسطاً في الإخلاص أيضاً لا غالياً فيه ، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر . والختر أشد الغدر ومنه قولهم « لا تمد لنا شبراً من غدر إلا مددنا لك باعاً من ختر » . والختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر وقلة الاعتماد على الله في دفع المكروه . والكفور طباق الشكور . وحين بيَّن الدلائل وعظ بالتقوى وخوف من هول يوم القيامة . ومعنى { لا يجزي } لا يقضي كما مر في أول « البقرة » .
وذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى ، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن ، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن ، فكأنه قال : لا يجزي فيه { والد عن ولده } شيئاً من الآلام { ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً } من أسباب الإهانة . قال جار الله : إنما أوردت الجملة الثانية إسمية لأجل التوكيد . وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط « هو » مزيد تأكيد . وفي لفظ { المولود } دون أن قول « ولا ولد » تأكيد آخر ، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضاً بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل : إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلاً أن يشفع لمن فوقه .
وقيل : إنما أوردت الثانية إسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازياً عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوباً { إن وعد الله } بمجيء ذلك اليوم { حق } أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق . و { الغرور } بناء مبالغة وهو الشيطان اي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « مفاتيح الغيب خمس » وتلا قوله { إن الله عنده علم الساعة } إلى آخرها . وعن المنصور ، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالاً أخرج يده من البحر واشار إليه بالأصابع الخمس . فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة : تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله ، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه . قال في التفسير الكبير : ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور ، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة . كان لقائل أن يقول : متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مراراً وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام ، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى . ثم إنه كأنه قال : أيها السائل إن لك شيئاً أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم { ماذا تكسب غداً } مع أنه فعلك وزمانك ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة؟ والسر في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت بل مكانة هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول « طه » ، ولو علم المكلف مكان موته لأمن الموت إذا كان في غيره . والسر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف ابداً مشغول السر بالله معتمداً عليه في اسباب الرزق وغيره . روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه . فقال الرجل : من هذا؟ قال : ملك الموت . فقال : كأنه يريدني . وسأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل . ثم قال ملك الموت لسليمان : كان نظري إليه تعجباً منه لأني أمرت أن اقبض روحه بالهند وهو عندك . قال جار الله : جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة كأنه قال : إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرئ { بآية أرض } والأفصح عدم تأنيثه .
التأويل : { وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة } هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية ، البسطية والمركبة . وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها . وتسخير ما في أرض النفوس من اضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها . { ثم نضطرهم } لفساد استعدادهم { تجري في البحر بنعمة الله } سلامتهم في الظاهر معلومة ، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحققة لإِراءة آيات شواهد الحق ، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف .
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
القراآت : { خلقه } بفتح الام : عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وسهل : الآخرون : بالسكون على البدل من كل شيء . وعلى الأول يكون وصفاً له { أئذا } { أئنا } كما في « الرعد » { ما أخفي } بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم : حمزة . الباقون : بفتحها على أنه فعل ماضٍ مجهول { لما صبروا } بكسر اللام وتخفيف الميم : حمزة وعلي ورويس . الباقون : بفتح اللام وتشديد الميم { أولم نهد } بالنون : يزيد عن يعقوب .
الوقوف : { الم } 5 كوفي { العالمين } 5 ط لأن « أم » استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة { افتراه } ج لعطف الجملتين المختلفتين { يهتدون } 5 { العرش } ط { شفيع } 5 { تتذكرون } 5 ط { تعدون } 5 { الرحيم } ط { من طين } 5 ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار { مهين } 5 ج لذلك { والأفئدة } ط { تشكرون } 5 { جديد } 5 { كافرون } 5 { ترجعون } 5 { عند ربهم } ط لحق القول المحذوف { موقنون } 5 { أجميعن } 5 { هذا } ج للابتداء بان مع تكرار { وذوقوا } { تعملون } 5 { لا يستكبرون } 5 { وطمعاً } ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول { ينفقون } 5 { أعين } ج لأن { جزاء } يحتمل أن يكون مفعولاً له وأن يكون مصدراً لفعل محذوف { يعملون } 5 { فاسقاً } ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار { لا يستوون } 5 { المأوى } ز لمثل ما مر في { جزاء } { يعملون } 5 { النار } ط { تكذبون } 5 { يرجعون } 5 { عنها } ط { منتقمون } 5 { إسرائيل } 5 ج وإن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول وهو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية { صبروا } ط لمن شدد { يوقنون } 5 { يختلفون } 5 { مساكنهم } ط { لآيات } ط { يسمعون } 5 { وأنفسهم } ط { يبصرون } 5 { صادقين } 5 { ينظرون } 5 { منتظرون } 5 .
التفسير : لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحدانية ودلائل الحشر وهما الطرفان ، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط وهو الرسالة المصححة ببرهان القرآن . وإعرابه قريب من قوله { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1-2 ] وميل جار الله إلى قوله { تنزيل الكتاب } مبتدأ خبره { من رب العالمين } ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير في { فيه } راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلاً من عنده . ويمكن أن يقال : في وجه النظم لما عرَّف ي أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى ورحمة قال ههنا : إنه من رب العالمين ، وذلك أن من عثر على كتب سأل أولاً أنه في أي علم . فإذا قيل : إنه في الفقه أو التفسير .
سأل : إنه تصنيف اي شخص؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة إلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته . ثم اضرب عما ذكر قائلاً { أم يقولون افتراه } وهو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر .
ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك . ومعنى { لتنذر قوماً } قد مر في « القصص » ويندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الشعراء : 214 ] وحين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال { الله } مبتدأ خبره ما يتلوه وقد مر نظائره . وقوله { ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع افلا تتذكرون } إثبات للولاية والشفاعة أي النصرة من عنده ونفي لهما من غيره ، وفيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعيمن أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو الله سبحانه . ولما بين الخلق شرع في المر فقال { يدبر الأمر } اي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبراً من السماء إلى الرض ثم يعرج إليه ذلك العمل ي يوم طويل ، وهو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود ولا يقوى على العروج إلا العمل الخالص ، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد { قليلاً ما تشكرون } أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من ايام الله وهو ألف سنة ، ثم يصعد إليه مكتوباً في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم الخ . ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله وهلم جراً . أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي . ورده مع جبرائيل ايضاً وتقدير الزمان بالف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا . وقيل : إنه إشارة إلى نفوذ الأمر ، فإن نفاذ الأمر كلما كان في مدة أكثر حاله أعلى أي يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة منه ، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه؟ فلا فرق على هذا بين الف سنة وبين خمسين ألف سنة كما في « المعارج » . وقيل : إن هذه عبارة عن الشدة واستطالة أهلها إياها كالعادة في استطالة ايام الشدة والحزن واستقصار أيام الراحة والسرور . وخصت السورة بقوله { ألف سنة } موافقة لما قبله وهو قوله { في ستة أيام } وتلك الأيام من جنس هذا اليوم . وخصت سورة المعارج بقوله { خمسين ألف سنة } [ الآية : 4 ] لأن فيها ذكر القيامة وأهوالها فكان هو اللائق بها . وعن عكرمة : إن اليوم في المعارج عبارة عن أول أيام الدنيا إلى انقضائها وأنها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم كم مضى وكم بقي إلا الله عزو وجل .
وبالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق وسعة مكانه ، والآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر وامتداد زمانه .
ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه وملكوته عليم بأمر العالمين فقال { ذلك عالم الغيب والشهادة } وفي قوله { العزيز الرحيم } إشارة إلى صفتي القهر واللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك ، وإنما أخر { الرحيم } مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله { الذي أحسن كل شيء خلقه } نظيره { الذي أعطى كل شيء خلقه } [ طه : 50 ] وقد مر في « طه » . وعطف عليه تخصيصاً بعد تعميم خلق الإنسان وهو آدم بدليل قوله { ثم جعله نسله } أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل ، والسلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول « المؤمنين » ، وقوله { من ماء } بدل من سلالة والمهين الحقير . ومعنى { سوَّاه } قوَّمه وأداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه ، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله { وجعل لكم } تنبيهاً على جسامة نعم هذه الجوارح وتوبيخاً على قلة الشكر عليها . ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى وليست الثانية بأصعب منها . والواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا : إن محمداً مفتر وقالوا : الله ليس بواحد { وقالوا أئذا } يعني أنهم واسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن .
ومعنى { ضللنا في الأرض } غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء وتلاشيها . والعامل في { أئذا } ما يدل عليه قوله { أئنا لفي خلق جديد } وهو نبعث أو يجدد خلقنا . ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق واللقاء لقاء الجزاء الشامل لجيمع أحوال الآخرة . ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح ثم يرجعون إلى حكم الله وحده . ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله { ولو ترى } أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب { إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم } خجلاً وندامة قائلين { ربنا أبصرنا } ما كنا شاكين في وقوعه { وسمعنا } منك تصديق رسلك وجواب « لو » محذوف وهو لرأيت أمراً فظيعاً ، وجوزا أن يكون « لو » للتمني كأنه جعل لنبيه تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الذل والهوان ليشمت بهم . ثم إنه سبحانه ألزمهم وألجمهم بقوله { ولو شئنا } الآية . وفيه أنه لو ردهم إلى الدنيا لم يهتدوا لأنهم خلقوا لجهنم القهر وقد مر نظيره في آخر « هود » . ثم أكد إهانتهم بقوله { فذوقوا } وانتصب { هذا } على أنه مفعول { فذوقوا } وقوله { لقاء } مفعول { نسيت } أي ذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم وذهلتم عنه بعد وضوح الدلائل أو تركتم الفكر فيه ، ويجوز أن يكون { هذا } صفة { يومكم } ومفعول { ذوقوا } محذوف وهو العذاب و { لقاء } مفعول { نسيتم } او هو مفعول { فذوقوا } على حذف المضاف أي تبعة لقاء يومكم ويكون { نسيتم } متروك المفعول أو محذوفه وهو الفكر في العاقبة .
وقوله { إنا نسيناكم } من باب المقابلة والمراد تركهم من الرحمة نظيره { نسوا الله فنسيهم } [ التوبة : 67 ] وقوله { عذاب الخلد } من باب إضافة الموصوف إلى الصفة في الظاهر نحو : رجل صدق . أمرهم على سبيل الإهانة بذوق عذاب الخزي والخجل ، ثم بذوق العذاب الخلد أعاذنا الله منه بفضله العميم ، ثم ذكر أن كما الإيمان بآيات الله من شأن الخلص من عباده الساجدين لله شكراً وتواضعاً حين وعظوا بآيات ربهم منزهين له عما لا يليق بجنابه وجلاله متلبسين بحمده غير مستكبرين عن عبادته { تتجافى جنوبهم عن المضاجع } ترتفع وتتنحى عن مواضع النوم داعين ربهم أو عابدين له { خوفاً } من اليم عقابه { وطمعاً } في عظيم ثوابه ، وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وهو التهجد . قال : « إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس » عن علي رضي الله عنه :
جنبي تجافى عن الوساد ... خوفاً من النار والمعاد
من خاف من سكرة المنايا ... لم يدر ما لذة الرقاد
قد بلغ الزرع منتهاه ... لا بد للزرع من حصاد
عن أنس بن مالك : كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم . وقيل : هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها .
و « ما » في قوله { ما أخفي } موصولة ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى اي شيء ، والمعنى لا تعلم نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك مما تقرّ به عيونهم حتى لا تطمح إلى غير ولا تطلب الفرح بما عداه . عن النبي صلى الله عليه وسلم « يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ماأخفى لهم من قرة أعين » وعن الحسن : أخفى القوم أعمالاً في الدنيا فأخفى الله لهم مالا عين رأت ولا أذن سمعت . قال المحققون : إنه يصدر من العبد عمال صالحة وقد صدر عن الرب أشياء سابقة من الخلق والتربية وغيرهما ، وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام ، فلله تعالى أن يقول : أنا أحسنت أولاً ، والعبد أحسن في مقابلته ، فالثةواب تفضل من غير عوض . وله أن يقول : الذي فعلته أولاً تفضل فإذا أتى العبد بالعمل الصالح جزيته خيراً لأن جزاء الإحسان إحسان ، وهذا الاعتبار الثاني أليق بالكرم ليذيق العبد لذة الأجر والكسب ، والاعتبار الأول أليق بالعبودية حتى يرى الفضل لله في جانب الأبد فإذن لا تنقطع المعاملة بين الله وبين العبد أبداً ، وتكون العبادة لهم في الآخرة بمنزلة التنفس للملائكة .
يروى أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام فقال له الوليد : اسكت فإِنك صبي . فقال له علي : اسكت فإِنك فاسق . فأنزل الله تعالى فيهما خاصة وفي أمثالهما من الفريقين عامة { افمن كان مؤمناً } إلى آخر ثلاث آيات أو أربع . ومن أول الآية محمول على اللفظ وفي قوله { لا يستوون } محمول على المعنى . ثم فصل عدم استوائهما بقوله { أما الذين آمنوا } { وأما الذين فسقوا } و { جنات المأوى } نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء على قول ابن عباس . وقال بعضهم : هي عن يمين العرش . وفي لام التمليك في { لهم } مزيد تشريف وإيذان بأنهم لا يخرجون منها كما لا يخرج المالك من ملكه ولهذا لو قيل : هذه الدار لزيد يفهم منه الملكية بخلاف ما لو قيل : اسكن هذه الدار . فإنه يحمل على الإعارة وإنه تعالى قال لأبينا آدم { اسكن أنت وزوجك الجنة } [ البقرة : 35 ] لأنه كان في علمه أنه يخرج منها . وإنما قيل ههنا { عذاب النار الذي كنتم به } وفي « سبأ » { عذاب النار التي كنتم بها } [ الآية : 42 ] لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها ، والكنايات لا توصف فوصف العذاب . وفي « سبأ » لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار .
وتكذيبهم العذاب هو أنهم كانوا يقولون في الدنيا إنه لا عذاب في الآخرة ، ويحتمل أن يراد بالتكذيب أنهم يقولون في الآخرة أول ما تأخذهم النار أنه لا عذاب فوق ما نحن فيه ، فإذا زاد الله لهم ألماً على ألم وهو قوله { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } صاروا كاذبين فيما زعموا أنه لا عذاب أزيد مما هم فيه ، وعلى هذا يمكن أن يراد بالخروج منها والإعادة فيها هو أن أبدانهم تألف النار وتتعودها فيقل الإحساس بها فيعيد الله عليهم إحساسهم الأول فيزيد تألمهم ، ومن هنا قالت الحكماء : إن الإحساس بحرارة حمى الدق اقل من الإحساس بحرارة الحمى البلغمية مع أن نسبة الدق إلى الثانية نسبة النار إلى الماء المسخن ، ونظيره أن الإنسان يضع يده في الماء البارد فيتألم أولاً ، ثم إذا صبر زماناً طويلاً زال ذلك الألم وذلك لبطلان حسه . ثم حتم على نفسه أنه يذيقهم عذاب الدنيا من القتل والسر والقحط قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة . وعن مجاهد : أن الأدنى هو عذاب القبر .
وإنما ل يقل الأصغر في مقابلة الأكبر ، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى ، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد .
ومعنى قوله { لعلهم يرجعون } والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله { إنا نسيناكم } أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلاً اي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدرج ، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل : لعلهم يرجعون بسببه . قال في التفسير الكبير : إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة ، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك ، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزوماً بيناً . قلت : هذا يرجع إلى التأويل الأول ، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا ، وكون مطلق التعذيب مستدعياً لذلك لا يكفي للسائل . وقالت المعتزلة : لعل من الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر . وإنما يقدم في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل . وجوَّز في الكشاف أن يراد : لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله { فارجعنا نعمل صالحاً } سميت إرادة الرجوع رجوعاً كما سميت إرادة القيام قياماً في قوله { إذا قمتم إلى الصلاة } [ المائدة : 6 ] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولاً والنقم ثانياً وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم .
ومعنى { ثم } أنه ذكر مرات ثم بالآخرة { أعرض عنها } والفاء في سورة الكهف تدل على الإعراض عقيب التذكير وقد سبق . وقال أهل المعاني : « ثم » ههنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول . قال المحققون : الذي لا يحتاج في معرفة الله إلا إلى الله عدل كقوله { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] كما قال بعضهم : ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله . والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط ، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله { وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه } [ الروم : 33 ] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه . وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام . ولو قال « إنا منهم منتقمون » لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة . ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقال { ولقد آتينا موسى الكتاب } قال جار الله : اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان .
والضمير في { لقائه } للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي ، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله . واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله { وإنك لتلقى القرآن } [ النمل : 6 ] وقيل : الضمير في { لقائه } لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة ، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول . والضمير في { جعلناه } للكتاب على أنه منزل على موسى .
واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل . ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من ائمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به . وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضاً سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر . ومثله إخبار النبي صلى الله عليه وسلم « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » ولا يخفى أن « من » التبعيضة في قوله { وجعلنا منهم } كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى ، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال { إن ربك هو يفصل بينهم } الاية . وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل . ثم أعاد أصل التوحيد مقروناً بالوعيد قائلاً { أولم يهد لهم } وقد مر نظيره في آخر « طه » وإنما قال في آخر الآية { إن في ذلك لآيات } على الجمع ليناسب القرون والمساكن . وإنما قل { أفلا يسمعون } لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع ، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع . وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة . ومعنى { نسوق الماء } نسوق السحاب وفيه المطر { إلى الأرض الجرز } وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل . قال جار الله : ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله { فنخرج به زرعاً } وعن ابن عباس أنها ارض اليمن ، والضمير في « به » للماء . وإنما قدم الأنعام ههنا على الأنفس لأن الزرع لا يصلح أوّله إلا للأنعام وإنما يحدث الحب في آخر أمره . شقال في « طه » { كلوا وارعوا أنعامكم } [ الآية : 54 ] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح لإِنسان في أول ظهروه مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الاية بقوله { أفلا يبصرون } تأكيداً لقوله في أول الآية { أولم يروا } ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب . قال المفسرون : كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل ، فاستعجل المشركون ذلك .
ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن . فإن قلت : كيف ينطلق قوله { قل يوم الفتح } الخ جواباً عن سؤالهم عن وقت الفتح؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم : لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا . ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناساً يوم بدر . ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله { قل تربصوا فإني معكم من المتربصين } [ الطور : 31 ] .
التأويل : اللف المحبون لقربى والعارفون بتمجيدي فلا يصبرون عني ولا يستأنسون بغيري . اللام الأحباء لي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على وثاقي أم قصروا في وفائي . الميم ترك أوليائي مرادهم فلذلك اخترتهم على جميع عبادي { تنزيل الكتاب } أعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزله { رب العالمين } لأهل الظاهر على ظاهرهم ولأهل الباطن في باطنهم فاستناروا بنوره وتكلموا بالحق عن الحق للحق فلم يفهمه أهل الغرة والغفلة فقالوا { افتراه } . خلق سموات الرواح وارض الأشباح وما بينهما من النفس والقلب والسر في ستة أجناس هي : الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك { ثم استوى على العرش } الخفي وهو لطيفه ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة { فلا تتذكرون } كيف خلقكم في أطوار مختلفة { يدبر الأمر } من سماء الروح إلى ارض النفس البدن { ثم يعرج إليه } النفس المخاطبة بخطاب { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] في يوم طلعت فيه شمس صدق الطلب ، وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق { كان مقداره } في العروج بالجذبة كألف سنة مما تعدون من أيامكم في السير من غير جذبة كما قال صلى الله عليه وسلم « جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين » { وبدأ خلق الإنسان من طين } وخمرة بيده في أربعين صباحاً فأودع في كل صباح خاصية نوع من أنواع عالم الشهادة { ثم جعل نسله من سلالة } سلها من أجناس عالم الشهادة . { ثم سوَّاه } شخص إنسان جديد المرآة { ونفخ فيه من روحه } فصار مرآة قابلة لإراءة صفات جماله وجلاله . ثم تجلى فيها بتجلية صفة السمعية والبصرية والعالمية التي مرآتها السمع والأبصار والأفئدة { ضللنا } في أرض البشرية { يتوفاكم ملك الموت } وهو المحبة الإلهية بقبض الأرواح من صفات الإنسانية ويميتها عن محبوباتها بجذبة { ارجعي } [ الفجر : 28 ] { ناكسوا رؤسهم } بالتوجه إلى حضيض عالم الطبيعة كالأنعام بعد أن كانوا رافعي الرؤوس يوم الميثاق . { تتجافى جنوب } همتهم عن مضاجع الدارين { جنات المأوى } التي هي مأوى الأبرار تكون نزلاً للمقربين السائرين إلى الله { كنتم به تكذبون } لأنه لم يكن لكم به شعور في الدنيا لأنكم كنتم في يوم الغفلة والاشتغال بالمحسوسات { العذاب الأدنى } إذا وقعت للسالك فترة ووقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة ابتلاه الله ببلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبابه لعله ينتبه من نوم الغفلة ويدارك أيام العطلة قبل أن يذيقه العذاب الأكبر في الخذلان والهجران { فلا تك في مرية من لقائه } أي من أنه يرى الرب ببركة متابعتك حين قال : اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الرؤية مخصوصة بك وبتبعتك لأمتك .
ويحتمل أن يكون الخطاب في فلاتك لموسى القلب والضمير في { لقائه } لله . وجعلنا موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب { وجعلناهم أئمة } هم السر الخفي { إن ربك هو يفصل بينهم } الآية . لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين ، ولأنه أعلم بحالهم من غيرهم ولئلا يطلع على أحوالهم غيره لأنه خلقهم للمحبة والرحمة فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا ، لأنه عفوّ يفيض العفو والجود فتحيا به القلوب الميتة فيسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها { فنخرج به زرعاً } من الواردات التي تصلح لتربية النفوس وهي الأنعام ، ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب . ويقول المنكرون لهذه الطائفة { متى هذا الفتح } أي الفتوح التي تدعونها قل لا ينفعكم ذلك إذ لم تقتدوا بهم ولم تهتدوا بهديهم { فأعرض عنهم } أيها الطالب بالإقبال علينا وبالله التوفيق .
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
القراآت : { بما يعملون خبيراً } على الغيبة والضمير للمنافقين : أبو عمرو { اللائي } بهمزة بعدها ياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر . بهمزة مكسورة فقط : سهل ويعقوب ونافع غير ورش من طريق النجاري وابن مجاهد وابن عون عن قنبل { اللاي } بياء مكسورة فقط : أبو عمرو وورش من طريق النجاري ويزيد وسائر الروايات عن ابن كثير وكذلك في « المجادلة » و « الطلاق » { تظاهرون } من المظاهرة عاصم { تظاهرون } بحذف إحدى تاءي الفاعل : حمزة وعلي وخلف . مثله ولكن بإدغام التاء في الظاء : ابن عامر الباقون { تظهرون } بتشديد الظاء والهاء { بما يعملون بصيراً } على الغيبة : أبو عمرو وعباس مخير { وإذ زاغت } مدغماً : أبو عمرو وعلي وهشام وحمزة في رواية ابن سعدان وخلاد وابن عمرو { وزاغت } ممالة : نصير وحمزة في رواية خلاد ورجاء { الظنونا } و { الرسولا } و { السبيلا } في الحالين : أبو عمرو ونافع وابن عامر وعباس والخراز وأبو بكر وحماد والمفضل . وقرأ أبو عمرو غير عباس وحمزة ويعقوب بغير ألف في الحالين . الباقون : بالألف في الوقوف وبغير ألف في الوصل { لا مقام } بضم الميم : حفص الآخرون : بفتحها . { لأتوها } مقصوراً من الإتيان : أبو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون : بالمد من الإيتاء والإعطاء و { يساءلون } بإدغام التاء في السين من التفاعل : يعقوب الباقون { يسألون } ثلاثياً .
الوقوف : { والمنافقين } ط { حكيماً } 5 { ربك } ط { خبيراً } 5 { على الله } ط { وكيلاً } ط5 { في جوفه } ج فصلاً بين بيان الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين { أمهاتكم } ج لذلك { أبناءكم } ط { بأفواهكم } ط { السبيل } 5 { عند الله } ج للشرط مع العطف { ومواليكم } ط { أخطأتم به } لا لأن التقدير ولكن فيما تعمدت قلوبكم وكذا إن كان خب مبتدأ محذوف أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح وذلك للاستدراك { رحيماً } 5 ط { أمهاتكم } ط { معروفاً } 5 { مسطوراً } 5 { عيسى ابن مريم } ص للعطف { غليظاً } 5 { صدقهم } ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولكن التقدير : وقد أعاد { اليماً } 5 { تروها } ط { بصيراً } 5 ج لاحتمال أن يكون المراد واذكر إذ جاؤكم ولا سيما على قراءة { يعملون } على الغيبة { الظنونا } ط { شديداً } 5 { غروراً } 5 { فأرجعوا } ج لظاهر الواو وإن كانت للاستئناف { بعورة } ط بناء على أن ما بعده ابتداء إخبار من الله ، ومن وقف على { عورة } وجعل ابتداء الإخبار من هناك لم يقف { فراراً } 5 { يسيراً } 5 { الأدبار } ط { مسؤلاً } 5 { قليلاً } 5 { رحمة } ط { ولا نصيراً } 5 { إلينا } ج لاحتمال كون ما بعده استئنافاً أو حالاً { قليلاً } لا لأن ما بعده حال { عليكم } ج لعطف الجملتين المختلفتين { الموت } ج فصلاً بين تناقض الحالين { الخير } ط { أعمالهم } ط { يسيراً } 5 { لم يذهبوا } ج { أنبائكم } ط { قليلا } 5 .
التفسير : لما أمره في آخر السورة المتقدمة بانتظار الفرج والنصر أمره في أول هذه السورة بأن لا يتقي غير الله ولا يطيع سواه . قال جار الله عن زر قال : قال ابي بن كعب : كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت : ثلاثاً وسبعين آية . قال : فوالذي يحلف به ابي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ، ولقد قرأنا منها آية الرجم « الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما » إلى آخره . أراد أبي بن كعب أنها من جملة ما نسخ من القرآن . وأما من يحكى أن تلك الزيادة كانت ي صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات المبتدعة . ومن تشريفات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نودي في جميع القرآن بالنبي أو الرسول دون اسمه كما جاء { يا آدم } [ البقرة : 35 ] { يا موسى } [ طه : 11 ] { يا عيسى } [ آل عمران : 55 ] { يا داود } [ ص : 26 ] وإنما جاء في الأخبار { محمد رسول الله } [ الفتح : 29 ] تعليماً للناس وتلقيناً لهم أنه رسول وجاء { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله } [ الأحزاب : 40 ] { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } [ آل عمران : 144 ] { والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد } [ محمد : 2 ] لأن المقام مقام تعيين وتشخيص وإزالة اشتباه مع قصد أن لايكون القرآن خالياً عن بركة اسمه العلم وحيث لم يقصد هذا المعنى ذكره بنحو ما ذكره في النداء كقوله { لقد جاءكم رسول } [ التوبة : 128 ] { النبي أولى بالمؤمنين } { لقد كان لكم في رسول الله أسوة } [ الأحزاب : 21 ] والمراد بقوله { اتق الله } واظب على ما أنت عليه من التقوى ولو أريد الازدياد جاز لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ولا يأمن أحد أن يصدر عنه مالا يوافق التقوى ولا يطابق الدعوى ولهذا جاء { قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ } [ الكهف : 110 ] يعني إنما يرفع عني الحجاب فينكشف لي الوحي ، وإذا أرخى لدي الستر فإني كهيئتكم . يروى أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام يهود قريظة والنضير وغيرهم وقد تابعه ناس منهم على النفاق كان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم فنزلت . وروي أن أبا سفيان بن حرب وأشياعه قدموا المدينة أيام المصالحة فقالوا : يا رسول الله ارفض ذكر آلهتنما وندعك وربك ، فشق ذلك على المؤمنين فهموا بقتلهم فنزلت . أي اتق الله في نقض العهد . { ولا تطع الكافرين } من أهل مكة { والمنافقين } من أهل المدينة فيما طلبوا إليك وكانوا يقولون له أن يعطوه شطر أموالهم إن رجع عن دينه . { إن الله كان عليماً } بالصواب { حكيماً } فيما أمرك به من عدم اتباع آرائهم وأهوائهم ، وحين نهاه عن اتباع الغي أمره باتباع ما هو رشد وصلاح وهو القرآن ، وبأن يثق الله ويفوِّض إليه أموره فلا يخاف غيره ولا يرجو سواه ، ولما أمر رسوله بما أمر من اتقاء الله وحده وقد ابتدر منه صلى الله عليه وسلم في حكاية زينب زوجة دعيه زيد ما ابتدر قال على سبيل المثل { ما جعل الله لرجل من قلبين } كأنه قال : يا أيها النبي اتق الله حق تقاته وهو أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره كما جاء في قصة زيد { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } ث اراد ان يدفع عنه مقالة الناس بأنه تعالى لم يجعل دعي المرء ابنه فقدم على ذلك مقدمة وهي قوله { وما جعل أزواجكم } إلى آخرها أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم : أنت عليّ كظهر أمي لا تصير أماً بإجماع الكل ، أما في الإسلام فإنه ظهار لا يحرم الوطء كما سيجيء في سورة المجادلة .
وأما ي الجاهلية فلأنه كان طلاقاً حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها ثانياً . فكذلك قول القائل للدعيّ إنه ابني لا يوجب كونه ابناً فلا تصير زوجته زوجة الابن ، فلم يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئاً ، فلم يكن لخوفك من الناس وجه ولو كان أمراً مخوفاً ما كان يجوز أن تخاف غير الله إذ ليس لك قلبان في الجوف . والفائدة في ذكر هذا القيد كالفائدة في قوله { القلوب التي في الصدور } [ الحج : 46 ] من زيادة التصوير للتأكيد . ومعنى ظَاهَرَ من امرأته قال لها : أنت علي كظهر أمي . كأنه قال : تباعدي مني بجهة الظهار . وعدى ب « من » لتضمين معنى التباعد . وإنما كنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب الفرج فكنوا عنه بالظهر الذي يلازمه لأنه عموده وبه قوامه . وقيل : إن إتيان المرأة في قبلها من جانب الظهر كان محذوراً عندهم زعماً منهم بأن الولد حينئذ يجيء أحول ، فلقصد التغليظ شبهها المطلق منهم بالظهر ، ثم لم يقنع بذلك حتى جعله ظهر أمه . والدعي « فعيل » بمعنى « مفعول » وهو المدعو ولد اشبه بفعيل الذي هو بمعنى « فاعل » كتقي وأتقياء فجمع على « أفعلاء » .
واعلم أن زيد بن حارثة كان رجلاً من قبيلة كلب سبي صغيراً فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة ، فلما تزوجها رسول الله وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وكانوا يقولون زيد بن محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية . وقوله { ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } [ الأحزاب : 40 ] وقيل : كان أبو معمر رجلاً من أحفظ العرب وكان يقال له ذو القلبين . وقيل : هو جميل الفهري كان يقول : إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد ، فأكذب الله قولهما وضربه مثلاً في الظهار والتبني .
وقيل : سها في صلاته فقالت اليهود وأهل النفاق : لمحمد قلبان ، قلب مع اصحابه وقلب معكم . وعن الحسن : نزلت فيمن يقول : نفس تأمرني ونفس تنهاني ومعنى التنكير في { رجل } وزيادة من الأستغراقية التأكيد كأنه قيل : ما جعل الله لنوع الرجال ولا لواحد منهم قلبين ألبتة { ذلكم } النسب { قولكم بأفواهكم } إذ ا أصل شرعاً لقول القائل : هذا ابني : وذلك إذ كان معروف النسب حراً ، أما إذا كان مجهول النسب فإن كان حراً ثبت نسبه من المتنبي ظاهراً إن أمكن ذلك بحسب السن ، وإن كان عبداً له عتق وثبت النسب . وإن كان العبد معروف النسب عتق ولم يثبت النسب . ثم بين كا هو الحق والهدى عند الله فقال { ادعوهم لآبائهم } اي انسبوهم إليهم { فإن لم تعلموا آباءهم } فهم إخوانكم في الدين ومواليكم فقولوا : هذا أخي أو مولاي يعني الولاية في الدين . ثم رفع الجناح إذا صدر القول المذكور خطأ على سبيل سبق اللسان وكذا ما فعلوه من ذلك قبل ورود النهي . ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ على طريق العموم فيتناول لعمومه خطأ النبي وعمده { وكان الله غفوراً } للخاطئ { رحيماً } للعامل ولا سيما إذا تاب . ثم إنه كان لقائل أن يقول : هب أن الدعي لا يسمى ابناً ، أما إذا كان لدعيه شيء حسن فكيف يليق بالمروءة أن تطمح عينه إليه وخاصة إذا كان زوجته فلذلك قال في جوابه { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } والمعقول فيه أنه راس الناس ورئيسهم فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم كما أن رعاية العضو الرئيس وحفظ صحته وإزالة مرضه أولى وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول » ويعلم من إطلاق الآية أنه أولى بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدنيا والدين . وقيل : إن أولى بمعنى ارأف وأعطف كقوله صلى الله عليه وسلم « ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤوا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن هلك وترك مالا فلترثه عصبته من كانوا وان ترك ديناً أو ضياعاً أي عيالاً فإليَّ » وكما رفع قدره بتحليل أزواج غيره له إذا تعلق قلبه باحداهن رفع شأنه بتحريم أزواجه على أمته ولو بعد وفاته فقال { وأزواجه أمهاتهم } أي في هذا الحكم فإنهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن . ومن كمال عناية الله سبحانه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لم يقل وهو أب لهم وإن جاءت هذه الزيادة في قراءة ابن مسعود وإلا حرم زوجات المؤمنين عليه أبداً ، إلا أن يراد الأبوة والشفقة في الدين كما قال مجاهد : كل نبي فهو أبو أمته . ولذلك صار المؤمنون أخوة .
قال النفسرون : كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة فنسخه الله بقوله { وأولوا الأرحام } الآية . وجعل التوارث بحق القرابة ومعنى { في كتاب الله } في اللوح أو في القرآن وهو هذه الآية وآية المواريث وقد سبق نظيره في آخر « الأنفال » . وقوله { من المؤمنين } إما أن يتعلق ب { ألوا الأرحام } أي القارب من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب ، وإما أن يتعلق ب { أولى } أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية الدينية ومن المهاجرين بحق الهجرة . ثم أشار إلى الوصية بقوله { إلا أن تفعلوا } أي إلا أن يسدوا ويوصلوا إلى أوليائهم في الدين وهم المؤمنون والمهاجرون معروفاً براً بطريق التوصية . والحاصل أن القارب أحق من الأجانب في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية فإنه لا وصية لوارث . قال أهل النظم : كأنه سبحانه قال : بينكم هذا التوارث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فلذلك جعلنا له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم ، أو لعله أراد دليلاً على قوله { أولى بالمؤمنين } فذكر أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض ، ثم لو اراد أحد براً مع صديقه صار ذلك الصديق أولى من قريبه كأنه بالوصية قطع الإرث وقال : هذا مالي لا ينتقل مني إلا إلى من أريده ، فالله تعالى كذلك جعل لصديقه من الدنيا ما أراده . ثم ما يفضل منه يكون لغيره { كان ذلك } الذي ذكر في الايتين { في الكتاب } وهو القرآن أو اللوح { مسطوراً } والجملة مستأنفة كالخاتمة للأحكام المذكورة .
ثم أكد الأمر بالاتقاء بقوله { وإذ أخذنا } اي اذكر وقت أخذنا في الأزل { من النبيين ميثاقهم } بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القويم من غير تفريط وتوانٍ . وقد خصص بالذكر خمسة لفضلهم وقدم نبينا صلى الله عليه وسلم لأفضليته . وإنما قدم نوحاً في قوله { شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك } [ الشورى : 13 ] لأن المقصود هنالك وصف دين الإسلام بالأصالة والاستفامة فكأنه قال : شرع لكم من الدين الأصلي الذي بعث عليه نوح في العهد القديم ، ومحمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث ، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير . وإنما نسب الدين القديم إلى نوح لا إلى آدم لأن نوحاً كان أصلاً ثانيا للناس بعد الطوفان ، وخلق آدم كان كالعمارة ونبوته كانت إرشاداً للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب كما في زمن نوح والله أعلم . قال أهل البيان : اراد بالميثاق الغليظ ذلك الميثاق بعينه أي وأخذنا منهم بذلك المياق ميثاقاً غليظاً أي عظيماً وهو مستعار من وصف الأجرام . وقال آخرون : هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال
{ ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولاً وأمره بشيء وقبله كان ميثاقاً فإذا أعلمه بأنه يسال عن حاله في أفعاله وأقواله يكون تغليظاً في الميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة ، وعلى هذا يحق أن يقال : قوله في سورة النساء { وأخذت منكم ميثاقاً غليظاً } [ الآية : 21 ] هو الإخبار بأنهم مسؤولون عنهن كما قال صلى الله عليه وسلم « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » ثم بين الغاية من إرسال الرسل فقال { ليسأل الصادقين عن صدقهم } الآية . وفيه أن عاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب والكاذب معاقب كما قال علي رضي الله عنه : حلالها حساب وحرامها عقاب . فالصادقون على هذا التفسير هم الذين صدقوا عهدهم يوم الميثاق حين قالوا { بلى } في جواب { الست بربكم } [ الأعراف : 172 ] ثم أقاموا على ذلك في عالم الشهادة ، أو هم المصدقون للأنبياء فإن من قال للصادق صدقت كان صادقاً . ووجه آخر وهو أن يراد بهم الأنبياء فيكون كقوله { ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] وكقوله { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم } [ المائدة : 109 ] وفائدة مسألة الرسل تبكيت الكافرين كما مر . قال جار الله : قوله { وأعد } معطوف على أخذنا كأنه قال : أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد أو على ما دل ليسأل كأنه قيل : فأثاب للمؤمنين وأعد للكافرين . وفيه وجه آخر عرفته في الوقوف . ثم أكد الأمر بالتقاء من الله وحده مرة أخرى فقال { يا أيها الذين آمنوا اذكروا } الآية . وذلك أن في وقعة الأحزاب اشتد الأمر على الأصحاب لاجتماع المشركين بأسرهم واليهود بأجمعهم ، فأمنهم الله وهزم عدوهم فينبغي أن لا يخاف العبد غير الله القدير البصير . وذكروا في القصة أن قيرشاً كانت قد أقبلت في عشرة آلاف من أحزاب بني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وقد خرج غطفان في ألف ومن تابعهم من نجد وقائدهم عيينة بن حصن معامر بن الطفيل في هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير . وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة أشار عليه بذلك سلمان الفارسي ، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم ، وأمر بالنساء أن يرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المسلمون كل ظن ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير : كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط . ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر ، وذلك بأن ارسل على أولئك الجنود المتحزبة ريح الصبا في ليلة باردة شاتية فسفت التراب في وجوههم { و } أرسل { جنوداً لم تروها } وهم الملائكة وكانوا ألفاً فقلعوا الأوتاد وقطعوا الأطناب وأطفأوا النيران وأكفأوا القدور وتفرقت الخيول وكثرت الملائكة في جوانب عسكرهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا .
ومعنى { من فوقكم } من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم بنو غطفان { ومن اسفل منكم } من اسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش تحزبوا وقالوا : سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمداً . ومعنى زيغ الأبصار ميلها عن سننها واستوائها حيرة ، أو عدولها عن كل شيء إلا عن العدو فزعاً وروعاً . والحنجرة منتهى الحلقوم ، وبلوغ القلوب الحناجر إما أن يكون مثلاً لاضطراب القلوب وقلقها وإن لم تبلغها في الحقيقة ، وإما أن يكون حقيقة لأن القلب عند الخوف يجتمع فيتقلص ويلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى ان يسد مخرج النفس فيموت وإنما جمع الظنون مع أن الظن مصدر لأن المراد أنواع مختلفة ، فظن المؤمنون الابتلاء والفتنة فخافوا الزلل وضعف الاحتمال ، وظن المنافقون وضعاف اليقين الذين في قلوبهم مرض وهم على حرف ما حكى الله عنهم وهو قوله { ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً } كما حكينا عن معتب . ومن فوائد جمع الظن أن يعلم قطعا أن فيهم من أخطأ الظن فإن الظنون المختلفة لا تكون كلها صادقة . فأما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فقط والمقام مقام تقرير نتائج الخوف .
{ وإذ قالت طائفة منهم } كعبد الله بن ابي وأصحابه ويثرب اسم المدينة أو ارض وقعت المدينة في ناحية منها { لا مقام لكم } أي لاقرار لكم ولا مكان ههنا تقومون أو تقيمون فيه على القراءتين ، فارجعوا إلى المدينة واهربوا من عسكر رسول الله ، أو ارجعوا كفاراً واتركوا دين محمد وإلا فليست لكم يثرب بمكان ، ثم إن السامعين عزموا على الرجوع فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي ذات خلل لا يأمن أصحابها بها السراق على متاعهم ، أو أنها معرضة للعدو فأكذبهم الله تعالى بقوله { وما هي بعورة } ثم أظهر ما تكن صدورهم فقال { إن يريدون إلا فراراً } ثم بين مصداق بقوله { ولو دخلت } اي المدينة عليهم من أقطارها أو دخلت عليهم بيوتهم من جوانبها وأكنافها { ثم سئلوا الفتنة } أي الارتداد والرجوع إلى الكفر وقتال المسلمين { لآتوها } والحاصل أنهم يتعللون بأعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو دخلت عليهم هؤلاء العساكر المتحزبة التي يفرون منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها لأجل النهب والسبي ثم عرض عليهم الكفر ويقال لهم كونوا على المسلمين لتسارعوا غليه وما تعللوا بشيء . ويمكن أن يراد أن ذلك الفرار والرجوع ليس لأجل حفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال كيلا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله ، فأكذبهم الله تعالى بأن الأحزاب لو دخلت بيوتهم وأخذوها منهم لرجعوا عن نصرة المسلمين فتبين أن رجوعهم عنك ليس إلا لكفرهم ومقتهم الإسلام .
والضمير في قوله { وما تلبثوا بها إلا يسيراً } يرجع إلى الفتنة أي لم يلبثوا بإتيان الفتنة أو بإعطائها إلا زماناً يسيراً ريثما يكون السؤال والجواب أو لم يقيموها إلا قليلاً ثم تزول وتكون العاقبة للمتقين . ويحتمل عود الضمير إلى المدينة أي وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا قليلاً فإِن الله يهلكهم . قوله { ولقد كانوا } الآية . عن ابن عباس : عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم . وقيل : هم قوم غابوا عن بدر فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن . وعن محمد بن اسحق : عاهدوا يوم أحد أن لا يفروا بعد أن نزل فيهم ما نزل . ثم ذكر أن عهد الله مسؤول عنه وأن ما قضى الله وقدر من الموت حتف الأنف أو من القتل فهو كائن والفرار منه غير نافع ، ولئن فرض أن الفرار منه فتمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع في مراتع الدنيا إلا زماناً قليلاً . عن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال : ذلك القليل نطلب . ثم أكد التقرير المذكور بقوله { قل من ذا الذي يعصمكم } الاية . قال جار الله : لا عصمة إلا من السوء فتقدير الكلام : من يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءاً أو من يصيبكم بسوء إن اراد بكم رحمة فاختصر الكلام كقوله متقلجاً سيفاً ورمحاً . اي ومعتقلاً رمحاً . أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع . والمعوقون الذين يمنعون الناس من نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون واليهود { هلم إلينا } معناه قربوا أنفسكم إلينا وقد مر في « الأنعام » في قوله { قل هلم شهداءكم } [ الآية : 150 ] وقوله { ولا يأتون } معطوف على { القائلين } لأنه في معنى الذين يقولون . وقوله { إلا قليلاً } أي إلا إتياناً قليلاً كقوله { ما قاتلوا إلا قليلاً } لقلة الرغبة . وعوز الجد والأشحة جمع شحيح قيل : معناه أضناء بكم أي يظهرون الإشفاق على المسلمين قبل شدة القتال ، فإذا جاء البأس ارتعدت فرائصهم وتدور أعينهم كدوران عين من يغشى عليه من سكرات الموت . وقيل : أراد أنهم يبخلون بأموالهم وأنفسهم فلا يبذلونهما في سبيل الله { فإذا ذهب الخوف } وجمعت الغنائم { سلقوكم } أي بسطوا إليكم ألسنتهم قائلين وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبنا نصرتم وبمكاننا غلبتم عدوكم ، فهم عند البأس أجبن قوم وأخذلهم للحق ، وأما عند حيازة الغنيمة فأشحهم وأوقعهم والحداد جمع حديد ، وكرر اشحة لأن الأول مطلق والثاني مقيد بالخير وهو المال والثواب أو الدين أو الكلام الجميل . { أولئك } المنافقون { لم يؤمنوا } حقيقة وإن آمنوا في الظاهر { فأحبط الله أعمالهم } التي لها صورة الصلاح بأن أعلم المسلمين أحوال باطنهم { وكان ذلك } الذي ذكر من أعمال أهل النفاق { يسيراً } على الله لا وزن لها عنده أو وكان ذلك الإحباط عليه سهلاً .
قال في الكشاف : لأن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف . ويمكن أن يقال : إعدام الجواهر هين على الله فإعدام الإعراض ولا سيما بمعنى عدم اعتبار نتائجها أولى بأن يكون هيناً . ثم قرر طرفاً آخر من جبنهم وهو أنهم { يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } وقد ذهبوا فانصرف المنافقون إلى المدينة منهزمين بناء على هذا الحسبان . ومن جملة جبنهم وضعف احتمالهم أنه { أن يأت الأحزاب } كرة ثانية تمنوا { أنهم بادون } أي خارجون إلى اليد وحاصلون فيما بين الأعراب حذراً من عيان القتال فيكون حالهم إذ ذاك أنهم { يسألون عن أنبائكم } قانعين من العيان بالأثر ومن الحضور بالخبر { ولو كانوا فيكم } ولم ينصرفوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا { إلا قليلاً } إبداء للعذر على سبيل الرياء والضرورة .
التأويل : { اتق الله } من التكوين وكان عليه السلام متقياً من الأزل إلى الأبد ، وكذا الكلام فيما يتلوه من النواهي والأوامر { ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } لأن القلب صدف درة المحبة ومحبة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا والهوى وغيرهما ، فالقلب واحد كما أن المحبة واحدة والمحبوب واحد { وما جعل أزواجكم أمهاتكم } و { وأدعياءكم أبناءكم } فيه أن الحقائق لا تنقلب لا عقلاً ولا طبعاً ولا شرعاً { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به } من معرفة الأنساب فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه النسب الباقي كما قال « كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي » فحسبه الفقر ونسبه النبوة { ولكن ما تعمدت قلوبكم } بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } لأنهم لا يقتدرون على توليد أنسهم في النشأة الثانية كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى ، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه وأزواجه وهن قلوبهم أمهاتهم لأنه يتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم ليقع من صلب النبوة نطفة الولاية في ارحام القلوب ، وإذا حملوا النطفة صانوها عن الآفات لئلا تسقط بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فيرتدوا على أعقابهم . وبعد النبي صلى الله عليه وسلم سائر أقارب الدين بعضهم أولى ببعض لأجل التربية ومن المؤمنين بالنشأة الأخرى والمهاجرين عن أوطان البشرية إلا إذا تزكت النفس بالأخلاق الحميدة وصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيعمل معها معروفاً برفق من الإزهاق { وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم } في الأزل { ومنك } يا محمد أولاً بالحبيبية { ومن نوح } بالدعوة ومن إبراهيم بالخلة ومن موسى بالمكالمة ومن عيسى بن مريم بالعبدية ، وغلطنا الميثاق بالتأييد والتوثيق { ليسأل الصادقين } سؤال تشريف لا سؤال تعنيف .
والصدق أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب ، ولا في اعتقادك ريب ، ومن أمارته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب ، وسلامة القول من المعاريض ، والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس ، وإدامة التبري من الحول والقوة ، بل الخروج من الوجود الحقيقي { إذ جاءتكم جنود } الشياطين وصفات النفس الدنيا وزينتها { من فوقكم } وهي الآفات السماوية { ومن أسفل منكم } وهي المتولدات البشرية . أو { من فوقكم } وهي الدواعي النفسانية في الدماغ ، { ومن أسفل منكم } هي الدواعي الشهوانية { فأرسلنا عليهم ريحاً } من نكبات قهرنا { وجنوداً لم تروها } من حفظنا وعصمتنا { وعاهدوا الله من قبل } الشروع في الطلب أنهم لا يولون أدبارهم عند الجهاد مع الشيطان والنفس لإخوانهم وهم الحواس والجوارح كونوا أتباعاً لنا والله أعلم .
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
القراآت : { أسوة } بضم الهمزة حيث كان : عاصم وعباس . الآخرون : بكسرها { نضعف } بالنون وكسر العين { العذاب } بالنصب : ابن كثير وابن عامر ، وقرأ أبو عمرو ويزيد ويعقوب بالياء المضمومة والعين مفتوح وبرفع العذاب . الآخرون : مثله ولكن بالألف من المضاعفة { ويعمل صالحا يؤتها } على التذكير والغيبة : حمزة وعلي وخلف وافق المفضل في { ويعمل } الباقون : بتأنيث الأول وبالنون في الثاني . { وقرن } بفتح القاف : أبو جعفر ونافع وعاصم غير هبيرة . الباقون : بكسرها . { ولا تبرجن } { أن تبدل } بتشديد التاءين : البزي وابن فليح أن يكون على التذكير : عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام . { وخاتم } بفتح التاء بمعنى الطابع : عاصم . الباقون : بكسرها .
الوقوف : { كثيراً } 5 لإبتداء القصة { الأحزاب } لا لأن { قالوا } جواب « لما » { رسوله } الثاني ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه { وتسليما } ط { عليه } ج لابتداء التفصيل مع الفاء { ينتظر } لا لاحتمال الحال وجانب الابتداء بالنفي أرجح { تبديلا } 5 لا إلا عند ابي حاتم { عليهم } ط { رحيما } 5 لا للآية لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً { شجرها } ط { مع الله } ط { يعدلون } 5 { حاجزاً } ط { مع الله } ط { لا يعلمون } 5 ط { خلفاء الأرض } 5 ط { مع الله } ط { ما تذكرون } 5 ط { رحمته } ط { مع الله } ط { يشركون } ط { والأرض } ط { مع الله } ط { صادقين } 5 { الا الله } ط { يبعثون } 5 { عمون } 5 .
التفسير : القصة الرابعة قصة ثمود ، والفريقان المؤمن والكافر . وقيل : صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد . والاختصام قول كل فريق الحق معي ، وفيه دليل على أن الجدال في باب الدين حق . ومعنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة أنه تعالى قد مكنهم من التوصل إلى رحمة الله وثوابه فعدلوا إلى استعجال عذاب . وقال جار اله : خاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وذلك أنهم قدروا في أنفسهم إن التوبة مقبولة عند رؤية العذاب فقالوا : متى وقعت العقوبة تبنا حينئذ ، فالسيئة العقوبة ، والحسنة التوبة ، و « لولا » للتحضيض أي هلا تستغفرون قبل عيان عذابه { لعلكم ترحمون } بأن يكشف العذاب عنكم . والحاصل أن التوبة يجب أن تقدم على رؤية العذاب ولا يجوز أن تؤخر ، وفيه تنبيه على خطئهم وتجهيل لهم { قالوا أطيرنا } اي تشاء منا { بك بومن معك } وكانوا قد قحطوا { قال طائركم } أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم { عند الله } وهو قضاؤه وقدره أو أراد عملكم مكتوب عنده ومنه ينزل بكم العذاب . ومعنى التطير والطائر قد مر في « الأعراف » وفي « سبحان » . ثم جزم بنزول العذاب بقوله { بل أنتم قوم تفتنون } أي تعذبون أو تختبرون أو يفتنكم الشيطان بوسوسة الطيرة . ثم حكى سوء معاملتكم مع نبيهم بقوله { وكان في المدينة } يعنى منزلهم المسمى بالحجر وكان بين المدنية والشام { تسعة رهط } لم يجمع المميز لأن الرهط في معنى الجمع وهو من الثلاثة إلى العشرة ، أو من السبعة إلى العشرة .
وقد عدّ في الكشاف أسماءهم منهم قدار بن سالف عاقر الناقة ، وكانوا مفسدين لا يخلطون الإفساد بشيء من الإصلاح ومن جملة { وتسليماً } لقضائه . وقيل : هذا إشارة إلى ما أيقنوا من أن عند الفزع الشديد يكون النصر والجنة كما قال { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتيكم مثل الذين خلوا } [ البقرة : 214 ] إلى آخره . كان رجال من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حرباً ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستشهدوا ، فمدحهم الله تعالى بأنهم صدقوا ما عاهدوا أي صدقوا الله فيما عاهدوه عليه . ويجوز أن يجعل المعاهدة عليه مصدوقاً على المجاز كأنهم قالوا للمعاهد عليه : سنفي بك فإذا وفوا به صدقوه { فمنهم من قضى نحبه } أي نذره فقاتل حتى قتل كحمزة ومصعب ، وقد يقع قضاء النحب عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته . { ومنهم من ينتظر } الشهادة كعثمان وطلحة { وما بدلوا تبديلاً } ما غير كل من الفريقين عهده . وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلب فكأنه قال : صدق المؤمنون ونكث المنافقون ، فكان عاقبة الصادقين الجزاء بالخير بواسطة صدقهم ، وعاقبة أصحاب النفاق التعذيب إن شاء الله إلا أن يتوبوا . وإنما استثنى لأنه آمن منهم بعد ذلك ناس وإلى هذا أشار بقوله { إن الله كان غفوراً رحيماً } حيث رحمهم ورزقهم الإيمان ، ويجوز أن يراد يعذب المنافقين مع أنه كان غفوراً رحيماً لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم لو كان دون ذلك لغفر لهم { وردّ الله الذين كفروا } وهم الأحزاب ملتبسين { بغيظهم لم ينالوا خيراً } أي غير ظافرين بشيء من مطالبهم التي هي عندهم خير من كسر أو أسر أو غنيمة . { وكفى الله المؤمنين القتال } بواسطة ريح الصبا وبإرسال الملائكة كما قصصنا { وأنزل الذين } ظارهوا الأحزاب { من أهل الكتاب من صياصيهم } والصيصية ما تحصن به ومنه يقال لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك التي في ساقه صيصية لأن كلاً منها سبب التحصن به . « روي أن جبرائيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزواب على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال : ما هذا يا جبرائيل؟ فقال : من متابعة قريش : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال : يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عائد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا ، وإنهم لكم طعمة . فأذن في الناس ان من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة ، فما صلى كثير من الناس العصر إلا هناك بعد العشاء الآخرة فحصارهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنزلون على حكمي . فأبوا فقال : على حكم سعد بن معاذ فرضوا به ، فقال سعد : حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم ، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة ارقعة ثم أنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً فقدمهم وضرب أعناقهم وهم ثمانمائة إلى تسعمائة »
وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير . وإنما قدم مفعول { تقتلون } لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين ، وكان الاعتناء بحالهم أشد ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل بقاؤهم هناك بالأسر أشد لأنه لو قال و « فريقا تاسرون » فإذا سمع السامع قوله « وفريقاً » ربما ظن أنه يقال بعده يطلقون أو لا يقدرون على اسرهم ولمثل هذا قدم قوله { وأنزل } على قوله { وقذف } وإن كان قذف الرعب قبل الإنزال وذلك أن الاهتمام والفرح بذكر الإنزال أكثر .
{ وأورثكم ارضهم } التي استوليتم عليها ونزلتم فيها أولاً { وديارهم } التي كانت في القلاع فسلموها إليكم { وأموالهم } التي كانت في تلك الديار { وأرضا لم تطؤها } قيل : هي القلاع أنفسها . وعن مقاتل : هي خيبر . وعن قتادة : كنا نحدّث أنها مكة . وعن الحسن : فارس والروم . وعن عكرمة : كل أرض تفتح إلى يوم القيامة . وعن بعضهم : أراد نساؤهم وهو غريب . ثم أكد الوعد بفتح البلاد بقوله { وكان الله على كل شيء قديراً } قال أهل النظم : إن مكارم الأخلاق ترجع أصولها إلى أمرين : التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإليها الإشارة بقوله عليه السلام « الصلاة وما ملكت أيمانكم » ولما أرشد نبيه إلى القسم الأول بقوله { اتقِ الله } أرشده إلى القسم الآخر وبدأ بالزوجات لأنهن أولى الناس بالشفقة ولهذا قدّمهنّ في النفقة . لنبن تفسير الآية على مسائل منها : أن التخيير هل كان واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فنقول : التخيير قولاً كان واجباً بالاتفاق لأنه إبلاغ الرسالة ، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا . ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يعتبر اختيارها فراقاً؟ والظاهر أنه لا يعتبر فراقاً وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله { فتعالين } وعلى هذا التقرير فهل كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق أم لا؟ الظاهر الوجوب ، لأن خلف الوعد منه غير جائز بخلاف الحال فينا فإِنه لا يلزمنا الوفاء بالوعد شرعاً . ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره الظاهر نعم ليكون التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا .
ومنها أن المختارة لله ورسله هل يحرم طلاقها؟ الظاهر نعم بمعنى أنه لو أتى بالطلاق لعوتب . وفي تقديم اختيار الدنيا إشارة إلى أنه كان لا يلتفت إليهن كما ينبغي اشتغالاً بعبادة ربه . وكيفية المتعة وكميتها ذكرناهما في سورة البقرة . والسراح الجميل كقوله { أو تسريح بإحسان } [ الآية : 229 ] وفي ذكر الله والدار الآخرة مع ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قوله { للمحسنات } إشارات إلى أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم سبب مرضاة الله وواسطة حيازة سعادات الآخرة ، وأنه يوجب وصفهن بالإحسان . والمراد بالأجر العظيم كبره بالذات وحسنه بالصفات ودوامه بحسب الأوقات ، فان العظيم لا يطلق إلا على الجسم الطويل العريض العميق الذاهب في الجهات في الامتدادات الثلاثة ، وأجر الدنيا في ذاته قليل ، وفي صفاته غير خال عن جهات القبح كما في قوله من الضرر والثقل ، وكذلك في مشروبه وغيرهما من اللذات ومع ذلك فهو منغص بالانقطاع والزوال . ويروى أنه حين نزلت الآية بدأ بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم اختار جميعهن اختيارها فشكر ذلك لهنّ الله فأنزل { لا يحل لك النساء من بعد } [ الأحزاب : 52 ] وروى أنه قال لعائشة إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت : أفي هذا استأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم قالت : لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال : إنما بعثني الله مبلغاً ولم يبعثني متعنتاً أما حكم التخيير في الطلاق فإِذا قال لها : اختاري . فقالت : اخترت نفسي . أو قال : اختاري نفسك فقالت : اخترت : لا بد من ذكر النفس في أحد الجانبين . وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان في المجلس أو لم يشتغل بما يدل على الإعراض . واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن مسعود . وعن الحسن وقتادة والزهري : أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره . وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بالاتفاق لأن عائشة اختارت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعد ذلك طلاقاً وعن علي رضي الله عنه مثله في رواية ، وفي أخرى أنه عد ذلك واحدة رجعية إذا اختارته ، وإذا اختارت نفسها فواحدة بائنة . وحين خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهدّدهن على الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته ، وأوعدهن بتخفيف العذاب لأن الزنا في نفسه قبيح ومن زوجة النبي أقبح ازدراء بمنصبه ، ولأنها تكون قد اختارت حينئذ غير النبي فلا يكون النبي عندها أولى من الغير ولا من نفسها ، وفيه إشارة غلى شرفهن فإن الحرة لشرفها كان عذابها ضعف عذاب الأمة .
وأيضاً نسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادة إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم ، فكذلك زوجاته اللواتي هن أمهات المؤمنين .
وليس في قوله { من يأت } دلالة على أن الإتيان بالفاحشة منهن ممكن الوقوع فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء من الفاحشة ولكنه في قوة قوله { لئن أشركت ليحبطن عملك } [ الزمر : 65 ] { ولئن اتبعت أهواءهم } [ البقرة : 120 ] وقوله { منكن } للبيان لا للتبعيض لدخول الكل تحت الإرادة . وقيل : الفاحشة أريد بها كل الكبائر . وقيل : هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه . وفي قوله { وكان ذلك على الله يسيراً } إشارة إلى أن كونهن نساء النبي لا يغني عنهن شيئاً ، كيف وإنه سبب مضاعفة العذاب؟ وحين بين مضاعفة عقابهن ذكر زيادة ثوابهن في مقابلة ذلك . والقنوت الطاعة ، ووصف الرزق بالكرم لأن رزق الدنيا لا يأتي بنفسه في العادة وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار ، ورزق الآخرة بخلاف ذلك . ثم صرح بفضيلة نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء كقولك : ليس فلان كآحاد الناس أي ليس فيه مجرد كونه إنساناً بل فيه وصف أخص يوجد فيه ولا يوجد في أكثرهم كالعلم أو العقل أو النسب أو الحسب . قال جار الله : أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد ، ثم وضع في النفي العام مستوياً فيه المذكر والمؤنث . والواحد وما وراءه . والمعنى ، إذا استقريت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن من جماعة واحدة تساويكن في الفضل . وقوله { إن اتقيتن } احتمل أن يتعلق بما قبله وهو ظاهر ، واحتمل أن يتعلق بما بعده أي ان كنتن متقيات فلا تجبن بقولكن خاضعاً ليناً مثل كلام المريبات { فيطمع الذي في قلبه مرض } أي ريبة وفجور . وحين منعهن من الفاحشة ومن مقدماتها ومما يجرّ إليها أشار إلى أن ذلك ليس أمراً بالإِيذاء والتكبر على الناس بل القول المعروف عند الحاجة هو المأمور به لا غير . ثم أمرهن بلزوم بيوتهن بقوله { وقرن } بفتح القاف أمر من القرار بإسقاط أحد حرفي التضعيف كقوله { فظلتم تفكهون } [ الواقعة : 65 ] واصله « إقررن » . من قرأ بكسرها فهو أمر من قر يقر قراراً أو من قر يقر بكسر القاف .
وقيل : المفتوح من قولك قار يقار إذا اجتمع . والتبرج إظهار الزينة كما مر في قوله { غير متبرجات بزينة } [ النور : 60 ] وذلك في سورة النور . والجاهلية الأولى هي القديمة التي كانت في أول زمن إبراهيم عليه السلام ، أو ما بين آدم ونوح ، أو بين إدريس ونوح ، أو في زمن داود وسليمان . والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم .
وقيل : الأولى جاهلية الكفر ، والأخرى الفسق والابتداع في الإسلام . وقيل : إن هذه أولى ليست لها أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة ، وكانت المرأة تلبس درعاً من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال . ثم امرهن أمراً خاصاً بالصلاة والزكاة ثم عاماً في جميع الطاعات ، ثم علل جميع ذلك بقوله { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس } فاستعار للذنوب الرجس ، وللتقوى الطهر . وإنما أكد إزالة الرجس بالتطهير لأن الرجس قد يزول ولم يطهر المحل بعد و { أهل البيت } نصب على النداء أو على المدح وقد مر في آية المباهلة أنهم أهل العباء النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصل ، وفاطمة رضي الله عنهما والحسن والحسين رضي الله عنهما بالاتفاق . والصحيح أن علياً رضي الله عنه منهم لمعاشرته بنت النبي صلى الله عليه وسلم ملازمته إياه . وورود الآية في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يغلب على الظن دخولهن فيهن ، والتذكير للتغليب . فإن الرجال وهم النبي وعلي وأبناؤهم غلبوا على فاطمة وحدها أو مع أمهات المؤمنين . ثم أكد التكاليف المذكورة بأن بيوتهن مهابط الوحي ومنازل الحكم والشرائع الصادرة من مشرع النبوة ومعدن الرسالة . ثم ختم الآية بقوله { إن الله كان لطيفا خبيراً } إيذاناً بأن تلك الأوامر والنواهي لطف منه في شأنهن وهو أعلم بالمصطفين من عبيده المخصوصين بتأييده . يروى أن أم سلمة أو كل أزواج النبي صلى الله عليه ولم قلن : يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء فنحن نخاف أن لا يقبل منا طاعة فنزلت { إن المسلمين والمسلمات } وذكر لهن عشر مراتب : الأولى التسليم والانقياد لأمر الله ، والثانية الإيمان بكل ما يجب أن يصدّق به فإن المكلف يقول أولاً كل ما يقول الشارع فأنا أقبله فهذا إسلام ، فإذا قال له شيئاً وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده . ثم إن اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة ، ثم إذا آمن وعمل صالحاً كمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله { والصادقين والصادقات } ثم إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال في قصة لقمان { واصبر على ما أصابك } [ الآية : 17 ] أي بسببه . ثم إنه إذا كمل في نفسه وكمل غيره قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله { والخاشعين والخاشعات } وفيه إشارة إلى الصلاة لأن الخشوع من لوازمها { قد أفلح المؤمنون الذي هم في صلاتهم خاشعون } [ المؤمنون : 1 ، 2 ] فلذلك أردفها بالصدقة . ثم بالصيام المانع مطلقاً من شهوة البطن فضم إلى ذلك الحفظ من شهوة الفرج التي هي ممنوع منها في الصوم مطلقاً وفي غير الصوم مما وراء الأزواج والسراري . ثم ختم الأوصاف بقوله { والذاكرين الله كثيراً } يعني أنهم في جميع الأحوال يذكرون الله يكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصومهم وحفظهم فروجهم لله .
وإنما وصف الذكر بالكثرة في أكثر المواضع فقال في أوائل السورة { لمن يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً } وقال في الآية { والذاكرين الله كثيراً } ويجيء بعد ذلك { يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً } لأن الإكثار من الأفعال البدنية متعسر يمنع الاشتغال ببعضها من الاشتغال بغيرها بحسب الأغلب ، ولكن لا مانع من أن يذكر الله وهو آكل أو شارب أو ماشٍ أو نائم أو مشغول ببعض الصنائع والحرف ، على أن جميع الأعمال صحتها أو كمالها بذكر الله تعالى وهي النية . قال علماء العربية : في الآية عطفان : أحدهما عطف الإناث على الذكور ، والآخر عطف مجموع الذكور والإناث على مجموع ما قبله . والأول يدل على اشتراك الصنفين في الوصف المذكور وهو الإسلام في الأول والإيمان في الثاني إلى آخر الأوصاف ، والثاني من باب عطف الصفة على الصفة فيؤل معناه إلى أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم .
وحين انجر الكلام من قصة زيد إلى ههنا عاد إلى حديثه ، قال الراوي : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت أمهات أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية . فقالا : رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه المهر ستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً وإزاراً وخمسين مداً من طعام وثلاثين صاعاً من تمر . وقيل : نزلت في أن كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط وهي أول من هاجر من النساء وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد قبلت ، وزوّجها زيداً فسخطت هي وأخوها وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجها عبده ، وقال أهل النظم : إنه تعالى لما أمر نبيه أن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ضرر الغير فعليه أن يترك حق نفسه لحظ غيره ، فذكر في هذه الآية أنه لا ينبغي أن يظن ظانّ أن هوى نفسه متبع ، وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في حق زوجات النبي ، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله ، فأمر الله هو المتبع وقضاء الرسول هو الحق ، ومن خالف الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً ، لأن المقصود هو الله والهادي هو النبي ، فمن ترك المقصد وخالف الدليل ضلا ضلالاً لا يرعوي بعده . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر زينب ذات يوم بعد ما أنكحها زيداً فوقعت في نفسه فقال : سبحان الله مقلب القلوب ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يردها أولاً ، لعله أي لم يلده الخ تأمل ولو ارادها لاختطبها .
وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني أريد أن أفارق صاحبتي . فقال : ما لك أرى بك شيء منها؟ قال : لا والله ما رأيت منها إلا خيراً ولكنها تتكبر عليّ لشرفها . فقال له : أمسك عليك زوجك واتق الله ثم طلقها بعد . فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أجد أحداً أوثق في نفسي منك اخطب عليّ زينب . قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري إن رسول الله يخطبك . ففرحت وقالت : ما أنا بصانعة شيئاً حتى أؤامر ربي . فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها ، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها ، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار ولنرجع إلى ما يتعلق بتفسير الألفاظ . قوله { للذي } يعني زيداً { أنعم الله عليه } بالإيمان الذي هو أجل النعم وبتوفيق الأسباب حتى تبناه رسوله { وأنعمت عليه } أي بالإعتاق وبأنواع التربية والاختصاص . وقوله { واتق الله } أي في تطليقها فلا تفارقها . نهي تنزيه لا تحريم ، أو أراد اتق فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وإيذاء الزوج . الذي أخفى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو تعلق قلبه بها أو مودّة مفارقة زيد إياها أو علمه بأن زيداً سيطلقها . وعن عائشة لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه لكتم هذه الآية ، وذلك أن فيه نوع تخالف الظاهر والباطن في الظاهر وليس كذلك في الحقيقة ، لأن ميل النفس ليس يتعلق باختيار الآدمي فلا يلام عيه ، ولا هو مأمور بإبدائه . والذي أبداه كان مقتضى النصح والإشفاق والخشية والحياء من قالة الناس إن قلب النبي مال إلى زوجة دعيه فبهذا القدر عوتب بقوله { والله أحق أن تخشاه } فإِن حسنات الأبرار سيئات المقربين . فلعل الأولى بالنبيّ أن يسكت عن إمساكه حذراً من عقاب الله على ترك الأولى كما سكت عن تطليقه حياء من الناس . قال جار الله : الواوات في قوله { وتخفى } { وتخشى } { والله } للحال . ويجوز أن تكون للعطف كأنه قيل : وإذ تجمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس { والله أحق أن تخشاه } حتى لا تفعل مثل ذلك .
قوله { فلما قضى زيد منها } حاجته ولم يبق له يها رغبة وطلقها وانقضت عدتها { زوّجناكها } نفياً للحرج عن المؤمنين في مثل هذه القضية فإن الشرع كما يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم يستفاد من فعله ايضاً ، بل الثاني يؤكد الأول .
ألا ترى أنه لما ذكر ما فهم منه حلّ الضب ثم لم يأكل بقي في النفوس شيء ، وحيث أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه لا يؤكل في بعض الملل وكذلك الأرنب ، وقوله { إذا قضوا منهن وطراً } يفهم منه نفي الحرج عند قضاء الوطر بالطريق الأولى . عن الخليل : قضاء الوطر بلوغ كل حاجة يكون فيها همة وأراد بها في الآية الشهوة . وقيل : التطليق . فلا إضمار على هذا { وكان أمر الله مفعولاً } مكوناً لا محالة . ومن جملة أوامره ما جرى من قصة زينب ، ثم نزه النبي صلى الله عليه وسلم عن قالة الناس بقوله { ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله } أي قسم وأوجب { له } و { سنة الله } مصدر مؤكد لما قبله أي سن الله نفي الحرج سنة في الأنبياء الذين خلوا فكان من تحته أزواج كثيرة كداود وسليمان وسيجيء قصتهما في سورة ص . ومعنى { قدراً مقدوراً } قضاء مقضياً هكذا قاله المفسرون ولعل قوله { وكان أمر الله مفعولاً } إشارة إلى القضاء ، وهذا الأخير إشارة إلى القدر وقد عرفت الفرق بينهما مراراً . وفي قوله { ولا يخشون أحداً إلا الله } تعريض بما صرح به في قوله { وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه } والحسيب الكافي للمخاوف أو المحاسب على الصغائر والكبائر فيجب أن لا يخشى إلا هو . ثم أكد مضمون الآي المتقدمة وهو أن زيداً لم يكن ابناً له فقال { ما كان محمد أبا أحد } فكان لقائل أن يقول : أما كان أباً للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم فلذلك قيل { من رجالكم } فخرجوا بهذا القدر من جهتين : إحداهما أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال ، وبهذا الوجه يخرج الحسن والحسين أيضاً من النفي لأنهما لم يكونا بالغين حينئذ . والأخرى أنه أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم وكذا الحسن والحسين ، أو أراد الأب الأقرب . ومعنى الاستدراك في قوله { ولكن رسول الله } صلى الله عليه وسلم إثبات الأبوة من هذه الجهة لأن النبي كالأب لأمته من حيث الشفقة والنصيحة ورعاية حقوق التعظيم معه ، وأكد هذا المعنى بقوله { وخاتم النبيين } لأن النبي إذا علم أن بعده نبياً آخر فقد ترك بعض البيان والإرشاد إليه بخلاف ما لو علم أن ختم النبوة عليه { وكان الله بكل شيء عليماً } ومن جملة معلوماته أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ومجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان لا ينافي ذلك لأنه ممن نبئ قبله وهو يجيء على شريعة نبيناً مصلياً إلى قبلته وكأنه بعض أمته .
التأويل : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة } أي كان في الأول مقدراً لكم متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلقت قدرتنا بإخراج أرواحكم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح الرسول من العدم إلى الوجود
« أول ما خلق الله نوري أو روحي » وبحسب القرب إلى روح الرسول والبعد عنه يكون حال الأسوة ، وكل ما يجري على الإنسان من بداية عمره إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأخلاق والأحوال . فمن كان يرجو الله كان عمله خالصاً لوجه الله تعالى ، ومن كان يرجو اليوم الآخر يكون عمله للفوز بنعيم الحنان . وكل هذه المقامات مشروط بالذكر وهو كلمة « لا إله إلا الله محمد رسول الله » نفياً وإثباتاً ، وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله . { ولما رأى المؤمنون الأحزاب } المجتمعين على إضلالهم واهلاكهم من النفس وصفاتها ، والدنيا وزينتها ، والشيطان واتباعه { قالوا } متوكلين على الله { هذا ما وعدنا الله ورسوله } أن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل { من المؤمنين رجال } يتصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث { صدقوا ما عاهدوا الله عليه } أن لا يعبدوا غيره في الدنيا والعقبى . { فمنهم من قضى نحبه } فوصل إلى مقصده { ومنهم من ينتظر } الوصول وهو في السير وهذا حال المتوسطين { وكفى الله المؤمنين القتال } بريح القهر أذهبت على النفوس فأبطلت شهواتها ، وعلى الشيطان فردت كيده ، وعلى الدنيا فأزالت زينتها . { وأنزل الذين ظاهروهم } أي أعانوا النفس والشيطان والهوى على القلوب من أهل الكتاب طالبي الرخص لأرباب الطلب المنكرين أحوال أهل القلوب { من صياصيهم } هي حصون تكبرهم وتجبرهم ، وأنزل وقعهم من حصون اعتقاد أرباب الطلب كيلا يقتدوا بهم ولا يغتروا بأقوالهم ، وقذف بنور قلوبهم في قلوب النفوس والشياطين الرعب { فريقاً تقتلون } وهم النفس وصفاتها والشيطان وأتباعه { وتأسرون فريقاً } وهم الدنيا وجاهها { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } لتنفقوا في سبيل الله وتجعلوها بذر مزرعة الآخرة { وارضاً لم تطؤها } يشير إلى مقامات وكمالات لم يلغوها فيبلغوها باستعمال الدنيا فإن ذلك بعد الوصول لا يضر لأنه يتصرف بالحق للحق . { قل لأزواجك } فيه إشارة إلى أن حب الدنيا يمنعهن من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهن محال النطفة الإنسانية الروحانية الربانية ، والأجر العظيم هو لقاء الله العظيم فمن أحب غير الله وإن كان الجنة نقص من الأجر بقدر ذلك إلا محبة النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن محبة الجنة بالحظ دون الحق فيها ما تشتهي الأنفس ، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم بالحق لا الحظ { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] ومضاعفة العذاب سقوطهن عن قرب الله وعن الجنة كما أن إيتاء الأجر مرتين عبارة عن هذين ، وكان من دعاء السري السقطي : اللهم إن كنت تعذبني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب . والرزق الكريم رزق المشاهدات الربانية { يا نساء النبي } هم الذين اسلموا أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية الشيخ ليست أحوالهم كأحوال غيرهم من الخلق { إن اتقيتن } بالله من غيره { فلا تخضعن بالقول } لشيء من الدارين فإن كثيراً من الصادقين خضعوا بالقول لأرباب الدنيا الذين في قلوبهم مرض حب المال والجاه فاستجروهم ووقعوا في ورطة الهلاك والحجاب .
فالقول المعروف وهو المتوسط الذي لا يكون فيه الميل الكلي إلى أهل الدنيا أصوب وإلى الحق أقرب . { وقرن في بيوتكن } من عالم الملكوت { ولا تبرجن } في عالم الحواس راغبين في زينة كعادة الجهلة { وأقمن الصلاة } التي هي معراج المؤمن يرفع يده من الدنيا ويكبر عليها ويقبل على الله بالإعراض عما سواه ، ويرجع من مقام تكبر الإنسان إلى خضوع ركوع الحيوان ، ومنه إلى خشوع سجود النبات ، ثم إلى قعود الجماد فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في البداية الروحاينة ، ثم يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة ، ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها وعن شماله على الدنيا وما فيها . وإيتاء الزكاة بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي . الرجس لوث الحدوث ، والبيت لأهل الوحدة بيت القلب يتلى فيه آيات الواردات والكشوف . إن الذين استسلموا للأحكام الأزلية وآمنوا بوجود المعارف الحقيقية ، وقتنوا أي أغرقوا الوجود في الطاعة والعبودية ، وصدقوا في عهدهم وصبروا على الخصال الحميدة وعن الأوصاف الذميمة ، وخشعوا أي أطرقت سريرتهم عند بواده الحقيقة ، وتصدقوا بأموالهم وأعراضهم حتى لم يبق لهم مع أحد خصومة ، وصاموا بالإمساك عن الشهوات وعن رؤية الدرجات ، وحفظوا فروجهم في الظاهر عن الحرام وفي الباطن عن زوائد الحلال ، وذكروا الله بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية . { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } إذا صدر أمر المكلف أو عليه ، فإن كان مخالفاً للشرع وجب عليه الإنابة والاستغفار ، وإن كان موافقا للشرع فإن كان موافقا لطبعه وجب عليه الشكر ، وإن كان مخالفاً لطبعه وجب أن يستقبله بالصبر والرضا . وفي قوله { والله أحق أن تخشاه } دلالة على أن المخلصين على خطر عظيم حتى إنهم يؤاخذون بميل القلب وحديث النفس وذلك لقوة صفاء باطنهم ، فاللطيف أسرع تغيراً . { فلما قضى زيد منها وطراً } قضاء شهوته بين الخلق إلى قيام الساعة { ما كان على النبيّ من حرج } فيما فيه أمان هو نقصان في نظر الخلق فإنه كمال عند الحق إلا إذا كان النظر للحق { ولكن رسول الله } صلى الله عليه وسلم فيه أن نسبة المتابعين إلى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبة الابن إلى الأب الشفيق ولهذا قال « كل حسب ونسب ينقطع إلاّ حسبي ونسبي » .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
القراآت : { ترجى } بغير همز : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وحفص وخلف والأعشى والمفضل وعباس { لا تحل } بتاء التأنيث : أبو عمرو ويعقوب { إناه } بالأمالة وغيرها مثل { الحوايا } في « الأنعام » وافق الخزاز عن هبيرة ههنا بالإِمالة { ساداتنا } بالألف وبكسر التاء : ابن عامر وسهل ويعقوب وجبلة . الباقون : على التوحيد { كبيراً } بالباء الموحدة : عاصم وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون : بالثاء المثلثة .
الوقوف : { كثيراً } لا { وأصيلاً } 5 { النور } ط { رحيماً } 5 { سلام } ج لاحتمال الجملة حالاً واستئنافاً { كريماً } 5 { نذيراً } لا { منيراً } 5 { كبيراً } 5 { على الله } ط { وكيلاً } 5 { تعتدّونها } ج لانقطاع النظم مع الفاء { جميلاً } 5 { معك } ج لاحتمال ما بعده العطف والنصب على المدح مع أن طول الكلام يرجح جانب الوقف { يستنكحها } ق للعدول على تقدير جعلناها خالصة { المؤمنين } 5 { حرج } ط { رحيماً } 5 { إليك من تشاء } ط لأن ما بعده واو استئناف دخل على الشرط { عليك } ط { كلهن } ط { قلوبكم } ط { حلماً } 5 { يمينك } ط { رقيباً } 5 { اناه } لا للعطف مع الإستدراك { الحديث } ط { منكم } ط فصلاً بين وصف الخلق وحال الحق مع اتفاق الجملتين { من الحق } ط لإبتداء حكم آخر { حجاب } ط { وقلوبهن } ط { أبداً } ط { عظيماً } 5 { عليماً } 5 { ايمانهنّ } لا والوقف أجوز لتكون الواو للاستئناف { واتقين الله } ط { شهيداً } 5 { النبيّ } ط { تسليما } 5 { مهيناً } 5 { مبيناً } 5 { جلابيبهن } ط { يؤذين } ط { رحيماً } 5 { قليلاً } 5 ج لأن قوله { ملعونين } يحتمل أن يكون حالاً أو منصوباً على الشتم { ملعونين } 5 ج لأن الجملة الشرطية تصلح وصفاً واستئنافاً { تقتيلاً } 5 { قبل } ط { تبديلاً } 5 { الساعة } ط { عند الله } ط { قريباً } 5 { سعيراً } لا { أبداً } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { نصيراً } 5 ج لاحتمال تعلق الظرف ب { لا يجدون } أو ب { يقولون } أو باذكر { الرسولا } 5 { السبيلاً } 5 { كبيراً } 5 { قالوا } ط { وجيها } 5 { سديداً } 5 لا { ذنوبكم } 5 { عظيماً } 5 { الإنسان } ط { جهولاً } 5 لا { والمؤمنات } ط { رحيماً } 5 .
التفسير : اعلم أن مبنى هذه السورة على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد مر أنه سبحانه بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبيّ مع الله وهو التقوى ، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله فأمر بعد ذلك عامة المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين : وبدأ بما يتعلق بجانب التعظيم لله وهو الذكر الكثير ، وفيه لطيفة وهي أن النبيّ لكونه من المقربين لم يكن ناسياً فلم يؤمر بالذكر بل أمر بالتقوى والمحافظة عليها فإنها تكاد لا تتناهى . والتسبيح بكرة وأصيلاً عبارة عن الدوام لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط كقوله صلى الله عليه وسلم
« ولو أن أوّلكم وآخركم » قال جار الله : خص التسبيح بالذكر من جملة الذكر لفضله على سائر الأذكار ففيه تنزيه عما لا يجوز عليه . ولقائل أن يقول : هذا لا يطابق قوله صلى الله عليه وسلم « أفضل الذكر لا إله إلا الله » وجوّز أن يراد بالذكر الكثير الإقبال على العبادات كلها ، ويراد بالتسبيح الصلاة ، وبالوقتين العموم كما مر ، أو صلاة الفجر والعشاءين ، لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد . ثم حرض المؤمنين على ذكره بأنه أيضاً يذكرهم والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ، فلعله أراد باللفظ المشترك كلا مفهوميه كما ذهب إليه الشافعي ، أو في الكلام حذف أي وملائكته تصلي ، أو المراد بصلاة الملائكة هي قولهم : اللهم صل على المؤمنين . جعلوا لاستجابة دعوتهم كأنهم فعلوا الرحمة ، أو المراد القدر المشترك وهو العناية بحال المرحوم والمستغفر له . وأصل الصلاة التعطف وذلك أن المصلي يتعطف في ركوعه وسجوده فاستعير لمن يتعطف على غيره وحنوّاً وترؤفاً . ثم بين غاية الصلاة وهي إخراج المكلف من ظلمات الضلال إلى نور الهدى . وفي قوله { وكان بالمؤمنين رحيماً } بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن تلك الرحمة لا تخص السامعين وقت الوحي . ومعنى { تحيتهم يوم يلقونه سلام } مذكور في أول « يونس » وفي « إبراهيم » . واراد بيوم اللقاء يوم القيامة لأن الخلق مقبلون على الله بكليتهم بخلاف الدنيا . والأجر الكريم هو ما يأتيه عفواً صفواً من غير شوب نغص ، ثم إشار إلى ما ينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مع عامة الخلق فقال { إنا أرسلناك شاهداً } وهي حال مقدرة أي مقبولاً قولك عند الله لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل ، وفيه أن الله تعالى جعل النبي شاهداً على وجوده بل على وحدانيته لأن المدعي هو الذي يذكر شيئاً بخلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس فلا ينبغي أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم مدع لها . بل يقال : إنه شاهد عليها كما قال « على مثل الشمس فاشهد » وإنه قد جازاه بشهادته لله شهادته على نبوته كما قال { والله يعلم انك لرسوله } [ المنافقون : 1 ] والحاصل أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط ، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا من الطاعة والمعصية والصلاح والفساد . وإنما قال { وداعياً إلى الله بإذنه } لأن الشهادة للمرء لا تفتقر إلى إذنه وكذلك الإنذار والتبشير إذا قال من يطع الملك أفلح ومن عصاه لم يربح . أما إذا قال : تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه احتاج إلى رضاه . ويمكن أن يكون قوله { بإذنه } متعلقاً بمجموع الأحوال أي بتسهيله أو تيسيره . ووصف النبي عليه السلام بالسراج بأن ظلمات الضلال تنجلي به كما ينجلي ظلام الليل بالسراج ، وقد أمدّ الله بنور نبوته نور البصائر كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار .
وإنما لم يشبه بالشمس لأن الشمس لا يؤخذ منه شيء ويؤخذ من السراج سرج كثيرة وهم الصحابة والتابعون في المثال ولهذا قال « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » وصفهم بالنجم لأن النجم لا يؤخذ منه شيء ، والتابعي لا يأخذ من الصحابي في الحقيقة وإنما يأخذ من النبيّ . ووصف السراج بالإنارة لأن السراج قد يكون فاتراً ومنه قولهم « ثلاثة تضني : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظرها من يجيء » . ويجوز أن يكون سراجاً معطوفاً على الكاف ويراد به القرآن ، ويجوز أن يكون المعنى وذا سراج أو تالياً سراجاً . قوله { ودع أذاهم } أي خذ بظاهرهم وادفع عنهم الأسر والقتل وحسابهم على الله ، وإضافة أذاهم يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول .
ثم أمر المؤمنين بما يتعلق بجانب الشفقة على الخلق واكتفى بذكر الزوجات المطلقات قبل المسيس لأنه إذا لزم الإحسان إليهنّ بمجرد العقد وهو المراد بالنكاح ههنا ، فبالوطء يكون أولى وقد مر حمكهنّ في سورة البقرة . في قوله { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } [ الآية : 237 ] وذلك لأجل تشطير الصداق . وإنما أعاد ذكرهن ههنا لبيان عدم وجوب العدّة عليهن . وتخصيص المؤمنات بالذكر دون الكتابيات إيذان بأنهن أولى بتخيرهن للنطفة . وفي قوله { ثم طلقتموهن } تنبيه على أنه لا تفاوت في هذا الحكم بين قريبة العهد من النكاح وبين بعيدة العهد منه ، فإذا لم تجب العدّة على البعيدة العهد فلأن لا تجب على القريبة العهد أولى . وقد يستدل بكلمة « ثم » على أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن المعية تنافي التراخى . وفي قوله { فما لكم عليهن } دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء وإن كان لا يسقط بإسقاط لما فيها من حق الله تعالى أيضاً . ومعنى { تعتدونها } تستوفون عددها تقول : عددت الدراهم فاعتدها نحو : كلته فاكتاله . ثم عاد إلى تعليم النبي صلى الله عليه وسلم . وفائدة قوله { اللاتي آتيت أجورهن } وقوله { مما أفاء الله عليك } وقوله { اللاتي هاجرن معك } هي أن الله تعالى اختار لرسوله الأفضل الأولى ، وذلك أن سوق المهر إليها عاجلاً أفضل من أن تمسيه وتؤجله . وكان التعجيل ديدن السلف ومن الناس من قال : ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجب عليه إعطاء المهر لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها ، والنبي عليه السلام لم يكن يستوفي مالا يجب له كيف وإنه إذا طلب شيئاً حرم الامتناع على المطلوب منه . والظاهر أن طالب الوطء ولا سيما في المرة الأولى يكون هو الرجل لحياء المرأة ، ولو طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم من المرأة التمكين قبل المهر لزم أن يجب وأن لا جيب ، ولا كذلك أحدنا .
ومما يؤكد هذا قوله { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبيّ } صلى الله عليه وسلم يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها . والجارية إذا كانت سبية مالكها ومخطوبة سيفه ورمحه فإنها أحل وأطيب من المشتراة لكونها غير معلومة الحال . قال جار الله : السبي على ضربين : سبي طيبة وهي ما سبي من أهل الحرب ، وسبي خبيثة وهي ما سبي ممن له عهد ، فلا جرم قال سبحانه { مما أفاء الله عليك } لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث ، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه . وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتها مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد ، ولم يحسن الاقتصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة وشرط في استحلال الواهبة نفسها إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها . وفيه أنه لا بد من قبول الهبة حتى يتم النكاح ، وبه استدل أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة ، وحملها الشافعي على خصائص النبي صلى الله عليه وسلم . وعن أبي الحسن الكرخي أن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز لقوله { اللاتي آتيت أجورهن } قال أبو بكر الرازي : لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت وعقد النكاح مؤبد . والظاهر أن { خالصة } حال من { امرأة } وقال جار الله : هي مصدر مؤكد كوعد الله أي خلص لك الإحلال خلوصاً . وفائدة هذا الحال على مذهب الشافعي ظاهرة . وقال أبو حنيفة : أراد بها أنها زوجته وهي من أمهات المؤمنين فأورد عليه أن أزواجه كلهن خالصات له فلا يبقى لتخصيص الواهبة فائدة . وقوله { قد علمنا ما فرضنا عليهم } جملة اعتراضية معاها أن الله قد علم ما يجب على المؤمنين في حق الأزواج وفي الإماء على أي حدّ وصفة ينبغي أن يكون . ثم بين غاية الإحلال بقوله { لكيلا يكون عليك حرج } أي لئلا يكون عليك ضيق في دينك ولا في دنياك حيث أحللنا لك أصناف المنكوحات { وكان الله غفوراً } للذي وقع في الحرج { رحيماً } بالتوسعة والتيسير على عباده .
ثم بيّن أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن من غير إيجاب قسم بينهنّ ، لأنه صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته كالسيد المطاع فزوجاته كالمملوكات فلا قسم لهن . والإرجاء التأخير ، والإيواء الضم وهما خبران في معنى الأمر . { ومن ابتغيت ممن عزلت } يعني إذا طلبت من كنت تركتها { فلا جناح عليك } في شيء من ذلك وهذه قسمة جامعة للغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك ، وإذا أمسك ضاجع أو ترك ، وإذا ضاجع قسم أو لم يقسم ، وإذا طلق أو عزل فإما أن يترك المعزولة أو يبتغيها .
يروى أنه أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء ، وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب . وروي أنه كان يسوّي مع ما خير فيه إلاّ سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت : لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك . وقيل : أراد تترك تزوّج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت . وعن الحسن : وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها . ومن قال : إن القسم كان واجباً مع أنه ضعيف بالنسبة إلى مفهوم الآية قال : المراد تؤخرهن إن شئت إذ لا يجب القسم في الأول ، وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن { ومن ابتغيت ممن عزلت فلا جناح عليك } في ذلك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى . ثم قال { ذلك } التفويض إلى مشيئتك { أدنى } إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن وإلى رضاهّن جميعاً لأنه إذا لم يجب عليه القسم . ثم إنه يقسم بينهن حملهن ذلك على تلطفه وتخلصه . وفي قوله { والله يعلم ما في قلوبكم } وعيد لمن يرض منهن بما دبر الله له { وكان الله عليما } بذات الصدور { حليماً } مع ذلك لا يعاجل بالعقوبة فتحاً لباب التوبة . وقوله { كلهن } بالرفع تأكيد لنون يرضين ، وقرئ بالنصب تأكيداً لضمير المفعول في { آتيتهن } ثم إنه سبحانه شكر لأزواج رسول الله اختيارهن لله ورسوله فأنزل { لا يحل لك النساء من بعد } قال أكثر المفسرين : اي من بعد التسع المذكورة ، فالتسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن . وإنه تعالى زاد في إكرامهن بقوله { ولا أن تبدّل بهن } أي ولا يحل لك أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجاً أخر بكلهن أو بعضهن ، وأكد النفي بقوله { من أزواج } وفائدته استغراق جنس جماعات الأزواج بالتحريم . وذهب بعضهم إلى أن الاية فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهنّ ، والمعنى لا يحل لك من النساء من بعد اللاواتي نص على إحلالهنّ من الأجناس الأربعة ، وأما غيرهنّ من الكتابيات والإماء بالنكاح والأعربيات والغرائب فلا يحل لك التزوّج بهن . وقوله { ولا أن تبدل بهن } منع من فعل الجاهلية وهو قولهم « بادلني بامرأتك وابادلك بامرأتي » فكان ينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه . يحكى أن عيينة بن حصن دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عيينة أين الاستئذان؟ فقال : يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت .
ثم قال : من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال : هذه عائشة أم المؤمنين . قال عيينة : أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق . فقال عليه السلام : إن الله قد حرم ذلك . فلما خرج قالت عائشة : من هذا يا رسول الله؟ قال : أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه . وقوله { ولو أعجبك حسنهنّ } في موضع الحال أي مفروضاً إعجابك بهن . قال جار الله : والأظهر أن جوابه محذوف يدل عليه ما قبله وهو { لا يحل } وفائدة هذه الشرطية التأكيد والمبالغة . واستثنى ممن حرم عليه الإماء . وفي قوله { وكان الله على كل شيء رقيباً } تحذير من مجاوزة حدوده . واعلم أن ظاهر هذه الآية ناسخ لما كان قد ثبت له صلى الله عليه وسلم من تحريم مرغوبته على زوجها ، وفيه حكمة خفية ، وذلك أن الأنبياء يشتدّ عليهم برحاء الوحي في أوّل الأمر ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم فكان الحاجة إلى تفريغ بال النبي تكون في أوّل الأمر أكثر لو هي القوّة ولعدم إلفه بالوحي ، فإذا تكاملت قوّته وحصل إلفه بتعاقب الوحي لم يبق له الالتفات إلى غير الله فلم يحتج إلى إحلال التزوّج بمن وقع بصره عليها . وعن عائشة : ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء . تعني أن الآية نسخت ، ونسخها إمّا بالسنة عند من يجوِّز نسخ القرآن بخبر واحد ، وأمّا بقوله { إنا أحلنا لك } وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف .
ثم عاد إلى إرشاد الأمة ، وحالهم مع النبيّ إما حال الخلوة فالواجب هناك احترام أهله واشار إليه بقوله { لا تدخلوا } وإما حال الملأ فالواجب وقتئذ التعظيم بكل ما أمكن وذلك قوله { إن الله وملائكته } كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه فقيل : لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا وقت الإذن أي مأذونين وإلا غير ناظرين إناه . وإنى الطعام إدراكه ، أنى الطعام إنى نحو قلاه قلى . وقيل : أناه وقته فقد تلخص أن الإذن مشروط بكونه إلى طعام فلزم منه أن لا يجوز الدخول إذا لم يكن الإذن إلى طعام كالدخول بالإذن لاستماع كلام مثلاً ، فأجيب بأن الخطاب مع قوم كانوا موصوفين بالتحين للطعام فمنعوا من الدخول في وقته من غير إذن . وجوز بعضهم أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي لا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعاً من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن والأوّل أولى . ولا يشترط في الإذن التصريح به إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قيل { إلا أن يؤذن } على البناء للمفعول ليشمل إذن الله وإذن الرسول أو العقل المؤيد بالدليل . وقوله { فانتشروا } للوجوب وليي كقوله
{ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا } [ الجمعة : 10 ] وذلك للدليل العقلي على أن بيوت الناس لا تصلح للمكث بعد الفراغ مما دعي لأجله ، وللدليل النقلي وذلك قوله { ولا مستأنسين لحديث } وهو مجرور معطوف على { ناظرين } أو منصوب على الحال أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين . يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنساً أن يدعو بالناس فترادفوا افواجاً إلى أن قال : يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحد أدعوه . فقال : ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون فأطالوا فقام رسول الله ليخرجوا فانطلق غلى حجرة عائشة فقال : السلام عليكم اهل البيت فقالوا : وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء وذلك قوله { إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم } اي من إخراجكمن فلما رأوه متولياً خرجوا فرجع فنزلت الآية ناهية للثقلاء أي يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدّثه به أو يستأنسون حديث اهل البيت واستماعه . ومعنى { لا يستحي } لا يمتنع ولا يترك كما مر في أول البقرة . والضمير في { سألتموهن } لنساء النبيّ بقرينة الحال . قال الراوي : إن عمر كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يقول : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت . والمتاع الماعون وما يحتاج إليه . وثاني مفعولي { فاسألوهن } محذوف وهو المتاع المدلول عليه بما قبله . { ذلكم } الذي ذكر من السؤال من وراء الحجاب { أطهر } لأجل قلوبكم لأن العين روزنة القلب ومنها تنشأ الفتنة غالباً . وروي أن بعضهم قال : نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة عنى عائشة ، فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله { وما كان } اي وما صح { لكم أن تؤذوا رسول الله } بوجه من الوجوه { ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم } الإيذاء والنكاح { كان عند الله } ذنباً { عظيماً } لأن حرمة الرسول ميتاً كحرمته حياً .
ثم بين بقوله { إن تبدوا شيئاً } الآية . إنهم إن لم يؤذوه في الحال ولكن عزموا على إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عالم بكل شيء فيجازيهم بحسب ذلك . ثم إنه لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله { لا جناح عليهن } أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء . قال في التفسير الكبير عند الحجاب : لما أمر الله الرجل بالسؤال من رواء الحجاب فيفهم كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى ، وعند الاستثناء قال { لا جناح عليهن } فرفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك . وقدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر فقد رأوهن في حالة الصغر ، ثم الأبناء ثم الأخوة ، وقدم بني الإخوة لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم فقد يصف الابن خالته عند أبيه ففي ذلك نوع مفسدة فأوجبت التأخر عن رتبة المحرمية ، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين ، أو لأنهما قد يصفيان لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم .
وقد يستدل بقوله { ولا نسائهن } مضافة إلى المؤمنات أنه لا يجوز التكشف للكافرات في وجه ، وأخر المماليك لأن محرميتهم كالأمر الضروري وإلا فالمفسدة في التكشف لهم ظاهرة ولهذا عقبة بقوله { واتقين } فإن التكشف لهم مشروط بشرط سلامة العاقبة والأمن من الفتنة . ومنهم من قال : المراد من كان منهم دون البلوغ . قال جار الله : في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله { واتقين } فضل تشديد وبعث على سلوك طريقة التقوى فيما أمرن به من الاحتجاب كأنه قيل : وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأتقن غير محتجبات ليفضل سركن علنكن . ثم أكد الكل بقوله { إن الله كان على كل شيء شهيداً } وفيه أنه لا يتفاوت في علمه ظاهر الحجاب وباطنه . ثم كمل بيان حرمة النبي بأنه محترم في الملأ الأعلى فليكن واجب الاحترام في املأ الأدنى ، وقد مر معنى الصلاة في السورة . وإنما قال هناك { هو الذي يصلي عيكم وملائكته } وقال ههنا { ان الله وملائكته يصلون } ليلزم منه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم : وذلك لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلاً للمذكور على المعطوف ، فكأنه سبحانه شرف الملائكة بضمهم مع نفسه بواسطة ضلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . واستدل الشافعي : بقوله { صلوا عليه سلموا } وظاهر الأمر للوجوب أن الصلاة في التشهد واجبة وكذا التسليم لأنه لا يجب بالاتفاق في غير الصلاة فيجب فيها . وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه وهو قول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . ولم يؤكد الصلاة هذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله { إن الله وملائكته يصلون } وسئل النبي كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال : قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد . وعنه صلى الله عليه وسلم « من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشراً » ومن العلماء من أوجب الصلاة كلما جرى ذكره لما روي في الحديث « من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله » ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس ، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره . ومنهم من أوجبها في العمر مرة ، وكذا قال في إظهار الشهادتين . والأحوط هو الأول وهو الصلاة عليه عند كل ذكر ، وأما الصلاة على غيره فقد مر الخلاف فيها في سورة التوبة في قوله
{ وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } [ الآية : 103 ] ثم رتب الوعيد على إيذاء الله ورسوله فيجوز أن يكون ذكر الله توطئة وتشريفاً وإعلاماً بأن إيذاء رسول الله هو إيذاء الله كقوله تعالى { فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] ويجوز أن يراد بإيذاء الله الشرك به ونسبته إلى ما لا يجوز عليه . وعن عكرمة : هو فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق كخلق الله . وقيل : أذى رسول الله قولهم إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون . وقيل : طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حي ، والأظهر التعميم . وعن بعضهم أن اللعن في الدارين هو جزاء من يؤذي الله ، وإعداد العذاب المهين هو جزاء من يؤذي رسول الله ، ولعل الفرق لاغ . ثم رتب وعيداً آخر على إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولكن قيده بقوله { بغير ما اكتسبوا } لأنه إذا صدر عن أحدهم ذنب جاز إيذاؤه على الوجه المحدود في الشرع ، ولعل المراد هو الإيذاء القولي لقوله { فقد احتملوا بهتاناً } يوحتمل ن يقال : احتمال البهتان سببه الإيذاء القولي ، واحتمال الإثم المبين سببه الإيذاء الفعلي ، ويحتمل أن يكون كلاهما وعيد الإيذاء القولي ، وإنما وقع الاكتفاء به لأنه أجرح للقلب ولا مكان الاستدلال به على الفعلي ، ولأن إيذاء الله لا يكون إلا بالقول إلا إذا جعل السجود لصنم « إيذاء . قيل : نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون علياً رضي الله عنه . وقيل : في إفك عائشة . وقيل : في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات .
ثم أراد أن يدفع عن أهل بيت نبيه وعن أمته المثالب التي هي مظان لصوق العار فقال { يا أيها النبي } الآية . ومعنى { يدنين عليهن } يرخين عليهن . يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدني ثوبك على وجهك . ومعنى التبعيض في { من جلابيبهن } أن يكون للمرأة جلابيب فتقتصر على واحد منها ، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها . وكانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة ، فأمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه { ذلك } الإدناء { أدنى } وأقرب إلى { أن يعرفن } أنهن حرائر أو أنهن لسن بزانيات فان التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها { فلا يؤذين } لا هن ولا رجالهن أقاربهن لأن أكثر الإيذاء والطعن إنما يتفق من جهة نساء العشيرة إذا كن مرئيات فضلاً عن كونهن مزينات { وكان الله غفوراً } لما قد سلف { رحيماً } حين ارشدكم إلى هذا الأدب الجميل . ولما أوعدهم بعذاب الآخرة خوّفهم بعقاب الدنيا قائلاً { لئن لم ينته المنافقون } عن الإيذاء { والذين في قلوبهم مرض } وهم الضعفة الإيمان أو الزناة وأهل الفجور { والمرجفون } في مدينة الرسول وهم الخائضون في أخبار السوء من غير حقيقة ، سمي بذلك لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة .
روي أن ناساً كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله يوقعون في الناس أنهم قتلوا أو هزموا وكانوا يقولون قد أتاكم العدوّ ونحو ذلك . ومعنى { لنغرينك بهم } لنسلطنك عليهم وهو مجاز من قولهم : أغريت الجارحة بالصيد . المراد لنأمرنك بأن تفعل ما يضطرهم إلى الجلاء ثم لا يساكنونك في المدينة إلا زمناً قليلاً ريثما يتأهبون فيرتحلون بأنفسهم وعيالهم . ومعنى « ثم » تراخي الرتبة كأنه يفعل بهم أفاعيل تسوءهم إلى أن يبلغ حد الاضطرار فيزعجهم ، ويجوز أن يكون { قليلاً } منصوب على الحال ايضاً ومعناه لا يجاورونك غلا أقلاء أذلاء ملعونين . وفي قوله { لا يجاورونك } عطف على جواب القسم كأنه قيل : إن لم ينتهوا لا يجاورونك { سنة الله } أي سنة الله في الدين ينافقون في الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا . وقال مقاتل : أراد كما قتل واسر أهل بدر { ولن تجد لسنة الله تبديلا } أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكانم لا في الأفعال والأخبار . ثم إن المشركين واليهود كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استهزاء وامتحاناً فأمر نبيه أن يقول : إن ذلك العلم مما استأثر الله ولكنها قريبة الوقوع . ومعنى { قريباً } شيئاً قريباً أو يوماً أو زماناً . ثم أوعدهم بما أعدّ لهم من عذاب السعير . ومعنى تقليب وجوههم تصريفها في الجهات كاللحم يدار على النار حين يشوى ، أو تغييرها عن أحوالها ، أو تحويلها عن هيآتها ، أو نكسها على رؤوسها . والوجه عبارة عن الجملة وخص بالذكر لأنه اشرف وأكرم ، وإذا كان الأشرف معرضاً للعذاب فالأخس أولى .
ثم حكى أنهم يعترفون ويتمنون ولا ينفعهم شيء من ذلك ثم يطلبون بعض التشفي بالدعاء على من أضلهم . قوله { ضعفين } اي ضعفاً لضلالهم وضعفاً لإضلالهم . من قرأ { لعناً كبيراً } بالباء الموحدة فالمراد أشد اللعن وأفظعه ، ومن قرأ بالثاء المثلثة أراد تكثير عدد اللعن وقد علموا أن العذاب حاصل فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب وكثرة اللعن أو عظمه . قوله { لا تكونوا كالذين اذوا موسى } قال المفسرون : نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة بعض الناس . وإيذاء موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذف موسى ، أو حديث الأدرة أو البرص الذي قرفوه بذلك ففر الحجر بثوبه حتى رأوه عرياناً وقد مر في « البقرة » . وقيل : اتهامهم إياه بقتل هارون وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتاً حتى أبصروه فعرفوا أنه غير مقتول ، أو أحياه الله عز وجل فأخبرهم ببراءة موسى ومعنى { مما قالوا } من مؤدى قولهم أو من مضمون مقولهم { وكان عند الله وجيها } ذا جاه ومنزلة فلذلك كان يذب ويدفع عنه المثالب والمطاعن كما يفعل الملك بمن له عنده قربة .
وروي عن شنبوذ وكان عبداً لله . ثم أشار إلى ماينبغي أن يكون المؤمن عليه فقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتقويم أمركم بسداد قولكم ، فبتقوى الله يصلح العمل وبصلاح العمل تكفر السيئات وترفع الدرجات . أمرهم أوّلاً بالتخلية وهي ترك الإيذاء وثانياً بالتحلية وهي التقوى الموجبة لتحصيل الأخلاق الفاضلة ، ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله { إنا عرضنا الأمانة } فقيل : العرض حقيقة . وقيل : أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسموات فرجحت الأمانة . والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر إبليس بالإباء ولك يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكباراً وههنا استصغاراً بدليل قوله { وأشفقن منها } وقد يقال : المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات ، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام . واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة ، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط ، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة ، والجبال لا يطلب منها السير ، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس . وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداة فله الكرامة . فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر ، أو المراد هو التصوير المذكور . وقد خص بعضهم التكليف بقول « لا إله إلا الله » . والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه ، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال : فلان ركب عليه الدين . فكل من أخرج ما في قوته إلى الفعل فهو مؤدٍّ للأمانة وقاضٍ حقها وإلا فهو حامل لها . ولا ريب أن السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى ، والأرض ثابتة في مستقرها ، والجبال راسخة في أمكنتها ، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] إلا الإنسان فإن كثيراً من الأشخاص بل أكثرهم مائلة إلى اسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد ، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته . فاللام في { الإنسان } للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس .
وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة . وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة ، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلاً ، وكلا المحذورين موجود في التكليف . وأيضاً كان الزمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت . وأيضاً قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت ، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولاً ، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوماً وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب . واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها ، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال { إياك نعبد وإياك نستعين } [ الفاتحة : 5 ] وقيل : إنه كان ظلوماً جهولاً في ظن الملائكة حيث قالوا { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] وقال الحكيم : المخلوقات على قسمين : مدرك وغير مدرك . والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل ، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا { وقالوا سبحانك لا علم لنا } [ البقرة : 32 ] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات . ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته . فغير الإنسان إن كان مكلفاً كان بمعنى كونه مخاطباً لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة . وفي قوله { وحملها الإنسان } دون أن يقول « وقبلها » إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم . ( لطيفة ) . الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أميناً عليها ، والقول قول الأمين فهو فائز . وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز ، ولهذا ذكر ما فيه عاقبة حمل الأمانة قائلاً { ليعذب } إلى قوله { ويتوب } إشارة إلى الفريقين . ثم وصف نفسه بكونه غفوراً رحيماً بإزاء كون الإنسان ظلوماً جهولاً ولا يخفى ما في هذه الإشارة من البشارة .
التأويل : { اذكروا اله ذكراً كثيراً } فمن أحب شيئاً أكثر ذكره . وأهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحرّ يكفيه الإشارة { هو الذي يصلي } أي لولا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أنه لولا سابقة محبتي لما هديتم إلى محبتي ، فكان في الأزل بالمؤمنين رحيماً فلهذا أخرجهم في الأبد من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي { إنا أرسلناك شاهداً } لنا بنعت المحبوبية { ومبشراً } للطالبين برؤية جمالنا { ونذيراً } للبطالين عن كمال حسننا وحسن كمالنا { وداعياً إلى الله بإذنه } لا بطبعك وهواك { وسراجاً منيراً } في أوقات عدم الدعوة ، وذلك أن النظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم كافٍ لمن كان له قلب مستنير ، فإذا انضمت الدعوة إلى ذلك كان في الهداية غاية .
{ وفضلاً كبيراً } هو القلب المستنير . { إنا أحللنا لك أزواجك } لما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى اتصفت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة { إن الله وملائكته يصلون } صلاة تليق بتلك الحضرة المقدّسة مناسبة لحضرة النبوّة بحيث لا يفهم معناها غيرهما منها الرحمة ، ومنها المغفرة الواردة ، ومنها الشواهد ، ومنها الكشوف ، ومنها المشاهدة ، ومنها الجذبة ، ومنها القربة ، ومنها الشرب ، ومنها الري ، ومنها السكون ، ومنها التجلي ، ومنها الفناء في الله ، ومنها البقاء به ، وهكذا لأمته بحسب مراتبهم كقوله { أولئك عليهم صلوات من ربهم } [ البقرة : 157 ] { إنا عرضنا الأمانة } هي قبول الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمي أمانة لأن الفيض من صفات الحق فلا يتملكه أحد . وقد اختص الإنسان بإصابة رشاش النور الإلهي فكان عرض الفيض عاماً على قلب المخلوقات ولكن كان حمله خاصاً بالإنسان لأن نسبة الإنسان إلى سائر المخلوقات نسبة القلب إلى الشخص ، فالروح يتعلق بالقلب ثم يصل فيضه بواسطة العروق والشرايين إلى سائر البدن فيتحرك به وهذا سر الخلافة { إنه كان ظلوماً } لأنه خلق ضعيفاً وحمل قوياً { جهولا } لأنه ظن أنه خلق للمطعم والمشرب والمنكح ولم يعلم أن هذه الصورة قشر وله لب وللبه لب وهو محبوب الله . فبقوّة الظلومية والجهولية حمل الأمانة ثم بروحه المنوّر برشاش الله أدّى الأمانة فصارت الصفتان في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحاً ، وفي حق الخائنين فيها ذمّاً . ولما لم يكن لروح الملائكة ولغيرهم من المخلوقات راحلة تحملها بالعزة أبين منها وأشفقن . فالمخاطبون إذن على ثلاث طبقات : طبقة يظهر فيها جمال صفة عدله وهم الملك والأجسام العلوية والسفلية سوى الثقلين لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها ، وطبقة يظهر فيها جمال قهره وهم المشركون والمنافقون حملوها طمعاً في نفعها ثم لم يؤدّوا حقها بأن باعوها بالأعراض الفانية ، والطبقة الثالثة المؤمنون وهم الذين حملوها طوعاً ورغبة وشوقاً ومحبة وأدّوا حقها بقدر وسعهم . ولكن الحكم لكل جواد كبوة يقع قدم صدقهم في حجر بلاء وابتلاء فيتوب الله عليهم بجذبات العناية وهم مرآة جمال فضله ولطفه الله حسبي ونعم الوكيل وبالله التوفيق .
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
القراآت : { عالم الغيب } بالرفع : أبو جعفر ونافع وابن عامر ورويس . { علام } بالجر وبناء المبالغة : حمزة وعلي . الباقون { عالم } بالجر وبدون المبالغة . { معاجزين } بالألف وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو { معجزين } بالتشديد { رجز أليم } بالرفع صفة العذاب وكذلك في « الجاثية » : ابن كثير وحفص ويعقوب وجبلة . الآخرون : بالجر { إن يشأ يخسف } { أو يسقط } على الغيبة فيهما : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون { نخسف بهم } بإدغام الفاء في الباء : علي { كسفاً } بفتح السين : حفص غير الخزاز { والطير } بالرفع حملاً على لفظ المنادى : يعقوب غير رويس الآخرون : بالنصب حملاً على المحل أو لأنه مفعول معه أو معطوف على { فضلاً } بمعنى وسخرنا له الطير { الريح } بالرفع : أبو بكر وحماد والمفضل بتقدير : ولسليمان الريح مسخرة أو سخرت الريح له { الرياح } بالرفع أيضاً ولكن مجموعاً : يزيد . الباقون : موحداً منصوباً { كالجوابي } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو وورش في الوصل { عبادي الشكور } يسكون الياء حمزة والوقف بالياء لا غير { منساته } بالألف : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب . وقرأ ابن ذكوان ساكنة الهمزة . الآخرون : بفتح الهمزة { تبينت الجن } على البناء للمفعول : يعقوب غير زيد { سبأ } غير مصروف : أبو عمرو والبزي { سبأ } بهمزة ساكنة : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل { سبأ } بالألف : ابن فليح وزمعة والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون { مسكنهم } بفتح الكاف : حمزة وحفص ، وبكسرها علي وخلف الباقون { مساكنهم } مجموعة { بجنتيهم } بضم الهاء : سهل ويعقوب { أكل خمط } بضم الكاف والإضافة : أبو عمرو وسهل ويعقوب . الآخرون : بالسكون والتنوين { نجازي } بضم النون وكسر الزاي { إلا الكفور } بالنصب : حمزة وعلي وخلف وحفص ويعقوب . الآخرون : بضم الياء وفتح الزاي وبرفع { الكفور } { ربنا } بالرفع { باعد } بلفظ الماضي من المفاعلة : سهل . الآخرون : { ربنا } بالنصب على النداء { باعد } على الأمر . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام { بعد } أمراً من التبعيد { صدّق } بالتشديد : عاصم وعلي وخلف . الباقون : بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق يظن ظناً نحو « فعلته جهدك » .
الوقوف : { في الآخرة } ط { الخبير } 5 { فيها } ط { الغفور } 5 { الساعة } ط { لتأتينكم } 5 لمن قرأ { عالم } بالرفع أي هو عالم ومن خفض جعله نعتاً لربي فلم يقف { بالغيب } ج لأن قوله { لا يعزب } يصلح حالاً واستئنافاً { مبين } 5 لا لتعلق اللام أبو حاتم يقف { الصالحات } ط { كريم } 5 { أليم } 5 { الحق } ج لأن قولهن { ويهدي } عطف على المعنى اي يحق قبوله ويهدي { الحميد } 5 { ممزق } ط لأن ما بعده في حكم المفعول لأنه مفعول ثان ل { ينبئكم } وإنما كسرت لدخول اللام في خبرها { جديد } 5 ج للآية ولاتحاد المقول { جنة } ط { البعيد } 5 { الأرض } ط { السماء } ط { منيب } 5 { فضلاً } ط { والطير } ج لأن ما يتلوه يصلح حالاً واستئنافاً { الحديد } 5 لا لتعلق « أن » { صالحاً } ط { بصير } 5 { ورواحها شهر } ط لأن قوله { واسلنا } عطف على محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح { القطر } ط { ربه } ط { السعير } 5 { راسيات } ط { شكراً } ط { الشكور } 5 { منسأته } 5 { المهين } 5 { آية } ج لاحتمال أن يكون التقدير هي جنتان وأن يكون بدلاً من آية { وشمال } ط { له } ط اي لكم بلدة { غفور } 5 { قليل } 5 { كفروا } ط { الكفور } 5 { السير } ط { آمنين } 5 { ممزق } ط { الشكور } 5 { المؤمنين } 5 { شك } ط { حفيظ } 5 .
التفسير : قال في التفسير الكبير : السور المفتتحة بالحمد خمس : ثنتان في النصف الأول « الأنعام » و « الكهف » ، وثنتان في النصف الأخير هذه « والملائكة » والخامسة وهي « الفاتحة » تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير ، وذلك لأن المكلف له حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة لله علينا نعمتان : نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فأشار في أوّل « الأنعام » إلى نعمة الإيجاد الأول بدليل قوله تعالى { هو الذي خلقكم من طين } [ الآية : 2 ] واشار في أوّل « الكهف » إلى إنزال الكتاب الذي به يتم نظام العالم ويحصل قوام معاش بني آدم ، وأشار في أوّل هذه السورة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى { وله الحمد في الآخرة } وأشار في أوّل سورة الملائكة غلى الإبقاء الأبدي بدليل قوله { جاعل الملائكة رسلاً } [ فاطر : 1 ] والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلاً إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كقوله { وتتلقاهم الملائكة } [ الأنبياء : 103 ] وقال تعالى في تحتهم { سلام عليكم طبتم } [ الزمر : 73 ] وفاتحة الكتاب حيث تشتمل على نعمة الدنيا بقوله { الحمد لله رب العالمين } [ الفاتحة : 2 ] وعلى نعمة الآخرة بقوله { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] يقرأ في الافتتاح وفي الاختتام . واعلم أنه تعالى وصف نفسه في أول هذه السورة بأن له ما في السموات وما في الأرض إيذاناً بأنه كونه مالكاً لكل الأشياء يوجب كونه محموداً على كل لسان ، لأن الكل إذا كان له فكل من ينتفع بشيء من ذلك كان مستنفعاً بنعمه . ثم صرح بأن له الحمد في الآخرة تفضيلاً لنعم الآخرة على نعم الدنيا وإيذاناً بأنها هي النعمة الحقيقية التي يحق أن يحمد عليها ويثنى عليه ن أجلها مع إفادة الاختصاص بتقديم الظرف { وهو الحكيم } في الابتداء { الخبير } بالانتهاء . ثم أكد علمه بقوله { يعلم ما يلج في الأرض } أي يدخل فيها من المياه والحبات والكنوز والأموات { وما يخرج منها } من الشجر والنبات ومياه الآبار والجواهر والمعدنيات { وما ينزل من السماء } من الأمطار والأرزاق وأنواع البركات والوحي { وما يعرج فيها } من الملائكة وأعمال العباد .
وقد اشار بقوله { فيها } دون أن يقول « إليها » إلى أن الأعمال الصالحة مقبولة والنفوس الزكية واصلة ، قد ينتهي الشيء إلى الشيء ولا ينفذ فيه ولا تصل به { وهو الرحيم } حين الإنزال { الغفور } وقت عروج الأعمال للمفرطين في الأقوال والأفعال . ثم بين أن نعمة الآخرة بإتيان الساعة الآخرة قد ينكرها قوم ثم رد عليهم بقوله { بلى } وأكد ذلك بقوله { وربي } ثم برهن على ذلك بقوله { عالم الغيب } لأن العالم بجميع الأشياء عالم بأجزاء الأحياء قادر على جمعها كما بدأها . وفي قوله { لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض } إشارة إلى أن الإنسان له جسم أرضي وروح سماوي ، فالعالم بما في العالمين القادر على تأليفهما قادر على إعادتهما على ما كانا عليه . وإنما ذكر الأكبر مع أن الأصغر هو اللائق بالمبالغة لئلا يتوهم متوهم أن الصغار تثبت لكونها تنسى أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته ، بل المراد أن الصغير والكبير مثبت في الكتاب وقد مر نظيره في « يونس » . وقدم السموات على الأرض موافقة لقوله { له ما في السموات وما في الأرض } بخلاف « يونس » فإن المخاطبين في الأرض فقدمت . ثم ذكر غاية الإعادة بقوله { ليجزي } إلى قوله { من رجز أليم } ومعنى { سعوا في آياتنا } أي في إبطال آياتنا معاجزين مريدين تعجيز النبيّ في التقرير والتبلي ، أو يعجزون من آمن بنا . وقيل : أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا . وقال ابن زيد : جاهدين وهو قولهم { لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه } [ فصلت : 26 ] وعن قتادة : الرجز سوء العذاب . وحين بين جزاء المؤمن الصالح وعمله والمكذب الساعي العجز علم منه حال غيرهما ، فالمؤمن الذي لم يعمل صالحاً يكون له مغفرة من غير رزق كريم ، والكافر غير المعاند يكون له عذاب وإن لم يكن من أسوأ أنواعه . ثم بين أن الذين أوتوا العلم لا يغترون بشبهات أهل العناد ويرون ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ليس الحق إلا هو والنزاع غير لفظي حتى يمكن تصحيح قول المعاند بوجه . وأولو العلم هم اصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم : وقيل : هم علماء أهل الكتابين الذين أسلموا . ويرى من فعل القلب مفعولاه الذي مع صلته والحق وهو فصل . وقيل : إن { يرى } معطوف على { ليجزي } فلا وقف على { أليم } أي ويعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على المعاند ، أو وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة . والعزيز إشارة إلى كونه منتقماً من الساعين في التكذيب ، والحميد إشارة إلى أنه يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحاً ، وقدم صفة الهيبة لأن الكلام مع منكري البعث .
ثم قص عناد أهل قريش وخصهم بالتعجيب من حالهم لأنهم تجاهلوا حين قالوا على رجل مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم أظهر من الشمس قصدوا بذلك الطعن والسخرية فأخرجوا الكلام مخرج الحكاية ببعض الأضاحيك والأعاجيب كأن لم يكونوا قد عرفوا منه إلا أنه رجل ما .
ومعنى { مزقتم كل ممزق } فرقت أوصالكم كل تفريق وجوّز جار الله أن يكون اسم مكان فمن الأموات ما حصل أجزاؤه في بطون الطير والسباع ، ومنها ما مرت به السيول فذهب به كل مذهب أو سفته الرياح فطرحته كل مطرح . والعامل في « إذا » ما دل عليه قوله { إنكم لفي خلق جديد } وهو تبعثون أو تخلقون ، ثم ازدادوا في التجاهل قائلين { افترى على الله كذبا } إن كان يعتقد خلافه { أ به جنة } إن كان لا يعتقد خلافه . وفيه أن الكافر لا يرضى بالكذب البحت فيردد كلامه بين الأمرين ولكن أخطأ ابن أخت خالته حين ترك قسماً ثالثاً وهو أنه عاقل صادق فلذلك ردّ الله عليهم بقوله { بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد } جعل وقوعهم في العذاب رسلاً لوقوعهم في الضلال إذ العذاب من لوازم الظلال وموجباته قابل قولهم { أفترى } بالعذاب وقولهم { به جنة } بالضلال البعيد لأن نسبة الجنون إلى العاقل أقل في باب الإيذاء من نسبة الافتراء إليه . وقد أسقطت همزة الوصل في قوله { أفترى } استثقالا لاجتماع همزتين : همزة الاستفهام المفتوحة وهمزة الوصل المكسورة وهو على القياس . وجوز بعضهم أن يكون هذا الاستفهام من كلام السامع المجيب لمن قال : هل ندلكم . وحين قرر دليل الحشر من جهة كونه علام الغيوب أراد أن يذكر دليلاً آخر على ذلك من قبل كمال قدرته فقال { أفلم يروا } معناه أعموا فلم ينظروا ، خصت بالفاء وليس غيره في القرآن تعجيلاً للجواب وتعقيباً لحل الشبهة نظيره قوله { أو ليس الذي خلق السموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } [ يس : 81 ] ثم هدّدهم بأنه قادر على أن يجعل عين النافع ضاراً بالخسف وإسقاط الكسف . وقال جار الله : أراد فلم ينظروا إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن يخرجوا من أقطارهما فلم يخافوا أن يخسف الله بهم ، أو يسقط عليهم كسفاً لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة . { إن في ذلك } النظر والاعتبار { لآية لكل عبد منيب } لأن الراجع إلى ربه قلما يخلو من الاعتبار والاستبصار . ثم ذكر من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في « ص » { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } [ ص : 24 ] وقال في سليمان { وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب } [ ص : 34 ] وفي قوله { منا } تنويه بالفضل وشأنه .
ثم بين الفضل بقوله { يا جبال أوّبي } لأن هذا القول نوع من إيتاء الفضل ، ويجوز أن يكون التقدير : قلنا يا جبال أوّبي أي رجعي معه التسبيح . قيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير باصدائها ، وقد مر تحقيقه في سورة الأنبياء . والتأويب السير طول النهار والنزول ليلاً فكأنه قال : أوّبي النهار كله بالتسبيح معه . وفي خطاب الجماد إشعار بأنه ما من صامت ولا ناطق إلا وهو منقاد لمشيئته . وقد ألان الله له الحديد كالشمع أو لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة . و « أن » في قوله { أن أعمل } مفسرة لأن إلانة الحديد له في معنى الأمر بأن يستعمل . { سابغات } أي دروعاً واسعة وهي من الصفات التي غلبت عيها الاسمية حتى ترك ذكر موصوفها . والسرد نسج الدروع ومعنى التقدير فيه أن لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتفصم الحلق . يروى أنه كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكراً فيسال الناس عن نفسه ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه فقيض الله تعالى ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه . فخاف داود فسأله فقال : لولا أنه يطعم عياله من بيت المال فطلب عند ذلك من الله أن يغنيه عن أكل بيت المال فعلمه صنعة اللبوس . وإنما اختار له ذلك لأنه وقاية للروح ويحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزرّاد خير من القوّاس والسياف . وقيل : إن التقدير في السرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب يكون بقدر الحاجة إلى القوت وباقي اليوم والليلة للعبادة بدليل قوله { واعملوا صالحاً } اي لستم يا آل داود مخلوقين إلا للعمل الصالح فأكثروا منه وأما كسب القوت فاقتصدوا فيه . ثم أكد الفعل الصالح بقوله { إني بما تعملون بصير } فإن من يعلم أنه بمرأى من الملك اجتهد في حسن العمل وتزكية الباطن .
ثم ذكر المنيب الآخر وهو سليمان ، وحكى ما استفاد هو بالإنابة وهو تسخير الريح له كالمملوك المنقاد لأمره { غدوّها شهر } أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك . يروى أن بعض أصحاب سليمان كتب في منزل بناحية دجلة : نحن نزلناه وما بنيناه ، ومبنياً وجدناه غدونا من اصطخر فقلناه ، ونحن رائحون منه وبائتون بالشام إن شاء الله . ومن جملة معجزاته إسالة عين القطر ، والقطر النحاس أساله لأجله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سماه عين القطر . روي أنه كان يسيل في شهر ثلاثة أيام . زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده وكان هو عليه السلام يففقه تسبيحهم فيسبح .
والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهو كالريح . وقوله { غدوها شهر } أي ثلاثون فرسخاً لأن الذي يخرج للتفرج لا يسير في العادة أكثر من فرسخ ثم يرجع . والمراد بإلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها . والمراد بالشياطين ناس أقوياء . ولا يخفى ضعف هذه التأويلات فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكثر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات . وقال في التفسير الكبير : الجبال لما سبحت تشرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب ، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة . أو نقول : الجبل في السير ليس أصلاً بل هو يتحرك معه تبعاً ، والريح لا تتحرك مع سليمان بل تتحرك مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح . وههنا نكتة وهي أن اله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان . لعله كالمصروف عن جهته تأمل فالجبال المسخرة لداود من جس تسخير الريح لسليمان : إذ كل منهما ثقيل مع خفيف ، فالجبال أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح . وأيضاً تسخير الطير من جنس الجن فإن الطير تنفر من الآدمي والآدمي يتقي مواضع الجن والجن تطلب ابداً اصطياد الناس والإنسان يطلب اصطياد الطير . وإلانة الحديد شبيهة بإسالة القطر . وفي قوله { بإذن ربه } إشارة إلى أن حضور الجن بين يديه كان مصلحة له لا مفسدة . وفي قوله { عن أمرنا } دون أن يقول « عن أمر ربه » إشارة إلى أن الجن كانوا بصدد التعذيب عند زيغهم عن أمر الله ، فإن لفظ الرب ينبئ عن الرحمة ، وصيغة جمع المتكلم في مقام الوحدة ينبئ عن الهيبة . قال ابن عباس : عذاب السعير عذاب الآخرة . وعن السدي : كان معه ملك بيده سوط من النار كلما استعصى عليه الجنيّ ضربه من حيث لا يراه الجني . ثم فصل عمل الجن بقوله { يعملون له ما يشاء من محاريب } وهي المساجد والمجالس الرفيعة الشريفة المصونة عن الابتذال وقد مر في « آل عمران » . والتماثيل صور الملائكة والنبيين كان يأمر بأن تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم . عن أبي العالية : لم يكن اتخاذ الصور في تلك الشرائع محرماً ولعلها صور غير الحيوان من الأشجار ونحوها . ويروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما . وحين فرغ من تقرير مسكنه ونقوشه شرع في تقرير آلات مجلسه فقدم ذكر الجفان التي بها تظهر عظمة السماط الممدود منه . والجفنة القصعة الكيبرة ، والجوابي الحياض الكبار ، لأن الماء يجبى فيها اي يجمع جعل الفعل لها مجازاً وهي من الصفات الغالبة كالدابة ، وكان يقعد على الجفنة ألف رجل .
وحين ذكر الجفان كان يقع في النفس أن هذه الأطعمة كيف تكون قدروها فذكر أنها قدور راسيات تابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها . ويعلم من تقرير قصتي داود سليمان أن اشتغال داود بآلة الحرب أكثر لأنه قتل جالوت ، ثم أراد تسوية الملك والغلبة على الجبابرة ، وأما في زمن سليمان فالملك قد استوى ولم يكن على وجه الأرض أحد يقاومه وكان يفرق الأموال في الإطعام والإنعام .
ثم بين بقوله { اعملوا آل داود شكراً } أن الدنيا عرض زائل وإن كان ملك سليمان فعلى العاقل أن يصرف همته في طلب الآخرة . وانتصب { شكراً } على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين ، أو مصدراً لأن { اعلموا } في معنى الشكر ، أو مفعول به لأن الشكر عمل صالح . وقال جار الله : إنه على طريق المشاكلة ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً . قلت : وفي لفظ العمل إشارة إلى أن الشكر اللساني غير كافٍ وإنما المعتبر الشكر الفعلي أو هو مع القولي . يروى أن داود عليه السلام جزّاً ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي . والشكور هو المتوفر على آداء الشكر الباذل وسعه فيه بالقلب واللسان والجوارح في أكثر الأوقات والأحوال وإنهم لقليل فلذلك قال بعضهم : اللهم اجعلني من الأقلين . وهذا الشكر القليل إنما هو بقدر الطاقة البشرية وأما الذي يناسب نعم الله فلن يقدر الإنسان عليه إلا أن يقول الله : عبدي ما أتيت به من الشكر قبلته منك مع قلته وكتبتك شاركاً لأنعمي بأسرها ، وهذا القول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها . وحين بين عظمة سليمان وتسخير الريح والجن له ، بين أنه لم ينج من الموت وأنه قضى عليه الموت ولو نجا أحد منه لكان نبي الله أولى بذلك . يروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس فمات قبل أن يتمه ، فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه ، وكان من عادته أن يعتكف فيه أحياناً . فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله عز وجل فيسألها لأي شيء أنت؟ فتقول : لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها لأيّ شيء أنت؟ فقالت : لخراب هذا المسجد . فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ . فقال : اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب . وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني . فقال : مرت بك وقد بقيت في عمرك ساعة . فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ليس له باب؟ فقام يصلي متكئاً على عصاه فقبض روحه فبقي كذلك وظن جنوده أنه في العبادة فكانوا يواظبون على الأعمال الشاقة إلى أن أكلت الأرضة عصاه فخرّ ميتاً وذلك بعد سنة .
والأرض مصدر أرضت الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرضة . والمنسأة العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر ، وقديترك همزها . وقرئ { من سأته } أي طرف عصاه سميت بسأة القوس على الاستعارة . وتبينت بمعنى ظهرت « وأن » مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال على نحو قولك « تبين زيد جهله » أو هو بمعنى علمت أي علم الجن كلهم بعد التباس الأمر على عامتهم أن كبارهم لا يعلمون الغيب وكان ادعاؤهم ذلك من قبل زوراً . أو المراد التهكم بهم وأن الذين ادعّوا منهم علم الغيب اعترفوا بعجزهم مع أنهم كانوا من قبل عارفين عجزهم كما لو قلت لمدعي الباطل إذا دحضت حجته : هل تبينت أنك مبطل . وأنت تعلم أنه لم يزل متبيناً لذلك . وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة ، ملك وهو ابن ثلاث عشرة وبقي في ملكه إلى أن مات ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه . ولما بين حال الشاكرين لأنعمه ذكر حال من كفر النعمة . وسبأ بصرف بناء على أنه اسم للحي أو الأب الأكبر ، ولا يصرف بتأويل القبيلة وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . ثم سميت مدينة مأرب بسبأ ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث . من قرأ { مساكنهم } فظاهر . ومن قرأ على التوحيد فالمراد مسكن كل واحد منهم أو موضع سكانهم وهو بلدهم وأرضهم . عن الضحاك : كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام . ومعنى كون الجنيتن آية أنه جعل قصتهما عبرة لأهل الكفران ، أو علامة دالة على الصانع وكمال اقتداره ووجوب شكره . قال جار الله : لم يرد بستانين اثنين فحسب وإنما أراد جماعيتن من البساتين : جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها ، كأن كل واحد من الجماعتين في تقاربها وتضامها جنة واحدة ، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كقوله { جعلنا لأحدهما جنيتن من أعناب } [ الكهف : 32 ] .
وقوله { كلوا من رزق } حكاية لسان الحال أو لسان الأنبياء المبعوثين إليهم وهم ثلاثة عشر نبياً على ما روي . وفيه إشارة إلى كمال النعمة حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض . وكذا قوله { واشكروا له } لأن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة . وكذا قوله { بلدة طيبة } اي عن المؤذيات من لعقارب والحيات وسائر الهوام والحشرات ، أو المراد أنها ليست بسبخة كقوله { والبلد الطيب } [ الأعراف : 58 ] { ورب غفور } أي ربكم الذي رزقكم فطلب شكركم غفور لمن يشكره بقدر طاقته لا يؤاخذه بالتقصير في أداء حق الشكر إذا توجه عليه الشكر وبذل وسعة فيه ، أو أراد غفران سائر الذنوب فكأنه وعدهم سعادة الدارين . وعن ثعلب : معناه اسكن واعبد .
وحين بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم وهو قوله { فأعرضوا } أي عن الشكر . ثم ذكر جزاءهم بقوله { فأرسلنا عليهم سيل العرم } وهو الجرذ . يروى أن بلقيس الملكة عمدت إلى جبال هناك فسدّت ما بينها من الشعب بالصخر والقار فحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقاً لها أبواب مترتبة بعضها فوق بعض على مقدار ما يحتاجون إليه في سقي أراضيهم ، فلما طغوا سلط الله على سدّهم الخلد فثقبه من أسفله . وقيل : العرم جمع عرمة وهي الحجارة المركوزة والمراد بها المسناة التي عقدوها سكراً . وقيل : العرم اسم الوادي : وقيل : المطر الشديد . والتركيب يدل على الشكاسة وسوء الخلق ومنه قولهم « صبي عارم » من العرام بالضم أي شرس . ومن ذلك « عرمت العظم » عرقته و « عرمت الإبل الشجر » نالت منه { ذواتي أكل } صاحبتي ثمر . والقياس ذاتي إلا أن المستعمل في التثنية هو الجمع . والخمط شجر الأراك . ابو عبيدة : كل شجر ذي شوك . الزجاج : كل نبت أخذ طعماً من مرارة حتى لا يمكن أكله . والأثل نوع من الطرفاء وهو من أحسن أشجار البادية فلذلك وصفه ههنا بالقلة . عن الحسن : قلل السدر لأنه أكرم ما بدّلوا ، والتحقيق فيه أن البساتين إذا عمرت كل سنة ونقيت من الحشائش كانت ثمارها زاكية وأشجارها عالية ، فإذا تركت سنين صارت كالغيضة والأجمة والتفت الأشجار بعضها ببعض فيقل الثمر وتكثر الحشائش والإشجار ذوات الشوك على أنه لا يبعد التبديل تحقيقاً فيكون شبه المشخ . من قرأ { أكل خمط } بالإضافة فظاهر ، ومن قرأ بالتنوين فعلى حذف المضاف أي أكل أكل خمط ، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل : ذواتي أكل بشع . وتسمية البدل جنتين لأجل المشاكلة أو التهكم . قال في الكشاف : الأثل والسدر معطوفان على { أكل } لا على { خمط } لأن الأثل لا أكل له { ذلك } الإرسال والتبديل { جزيناهم بما كفروا } النعمة وغمطوها { وهل مجازي } مثل هذا الجزاء وهو العقاب العاجل { ألا الكفور } قال بعضهم : المجازاة في النقمة والجزاء في النعمة إلا إذا قيد كقوله سبحانه { جزيناهم بما كفروا } وقال جار الله : الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل في المعاقبة تارة وفي الإثابة أخرى ، فلما استعمل أوّلاً في معنى المعاقبة استعمل ثانياً على نحو ذلك . وقيل : إن المجازاة مفاعلة وهي في الأكثر تكون بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر ، ففي النعمة لا يكون مجازاة لأن الله مبتدئ بالنعم . وحين ذكر حال مسكنهم وجنتيهم وحكى تبديل الجنتين بما لا نفع فيه أراد أن يذكر حال خارج بلدهم وما يؤل إليه أمره فقال { وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها } وهي قرى الشام { قرى ظاهرة } متواصلة يرى من كل منها ما يتلوها لتقاربها ، أو ظاهرة للسابلة لكونها على متن الطريق .
{ وقدرنا فيها السير سيروا } فيقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في أخرى ، فمنازل ما بين تلك القرى مقدّرة ومعلومة لا يجوزها المسافر عرفاً بخلاف المفاوز فإن السائر يسير فيها بقدر طاقته حتى يقطعها . ثم بين أمن تلك الطريق بقوله { سيروا } أي قلنا لهم سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار . قال أهل البيان : لا قول ثمة ولكنهم مكنوا من السير بتهيئة أسبابه من وجدان الزاد والراحلة وعدم المخاوف والمضارّ فكأنهم أمروا بذلك . والمقصود من ذكر الليالي والأيام تقرير كمال الأمن ولذلك قدمت الليالي فإنها مظنة الآفات . ويمكن تقرير الأمن بوجه آخر وهو أن يقال : سيروا فيها وإن تطاولت مدّة سفركم فيها وامتدت أياماً وليالي ، أو يراد بالليالي واليام مدّة أعمارهم أي سيروا فيها مدّة عمركم فإنكم لا تلقون إلا الأمن .
ثم حكى أنهم سئموا العيش الهنيء وملوا الدعة والراحة كما طلب بنو إسرائيل البصل والفوم مكان المن والسلوى { فقالوا ربنا باعد بين اسفارنا } أرادوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزوّدوا الأزواد قائلين : لو كان جني جناتنا ابعد كان أشهى وأرغد . ويحتمل أن يكون لفساد اعتقادهم وشدّة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره : اضربني مشيراً بذلك إلى أنه لا يقدر عليه . ومن قرأ على الابتداء والخبر فالمراد استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم { وظلموا أنفسهم } بوضع الكفر موضع الشكر { فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق } فرقناهم كل تفريق لا جرم اتخذ الناس حالهم مثلاً قائلين « ذهبوا أيدي سبأ » اي في طرق شتى . واليد في كلام العرب الطريق يقال : سلك بهم يد البحر . وقيل : الأيادي الأولاد لأنه يعضد بهم كما بالأيدي . والمعنى ذهبوا تفرق أولاد سبأ فلحق غسان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان { إن في ذلك } الجعل والتمزيق { لآيات لكل صبار } عن المعاصي { شكور } للنعم أو صبار على النعم حتى لا يلحقه البطر شكور لها برعاية حق الله فيها . ثم أخبر عن ضعف عزم الإنسان بقوله { ولقد صدّق عليهم } أي على بني آدم لقرينة الحال . وقيل : على أهل سبأ وظن إبليس هو قوله { لأغوينهم } [ الحجر : 39 ] أو قوله { أنا خير منه } [ ص : 76 ] بدليل قوله { فاتبعوه } والمتبوع خير من التابع . ولا ريب أن الكافر أدون حالاً من إبليس لأنه خالف أمر الله في سجدة آدم والكافر يجحد الصانع أو يشرك به . ثم بين قوله { وما كان له } أن الشيطان ليس بملجئ ولكنه آية وعلامة يتميز به ما هو السابق في علمه من المقرّ والشاك . والحفيظ المحافظ ويدخل في مفهوم الحفظ العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه وكذا العاجز .
التأويل : { يعلم ما يلج } في أرض البشرية بواسطة الحواس والأغذية الحلال والحرام { وما يخرج منها } من الصفات المتولدة منها .
{ وما ينزل } من سماء القلب من الفيوض والإلهامات { وما يعرج فيها } من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من سماء القلب وارض النفس ، نخسف بهم أرض البشرية بغلبات صفاتها أو يغلب عليهم صفة من صفات القلب بالميل إلى الإفراط فنهلكهم بها كالسخاوة فإنها صفة حميدة لكنها إذا جاوزت حدّ الاعتدال صارت ذميمة { إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين } [ الإسراء : 27 ] { يا جبال أوبي } قد مر تأويله في سورة الأنبياء { وقدّر في السرد } وهو المتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس { ولسليمن } القلب سخرت ريح العناية وذلك أن مركب القلوب في السير هو الجذبة الإِلهية كما أن مركب البدن في المسير البدن . يروى أن سليمان في سيره لاحظ ملكه يوماً فمال الريح ببساطه فقال سليمان للريح : استو قالت الريح : استو أنت فإني لا أكون مستوية حتى تستوي أنت . كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } [ الرعد : 11 ] { وأسلنا له عين القطر } الحقائق والمعاني وسخرنا له صفات الشيطنة لتعمل بين ديه على وفق أوامر الله ونواهيه كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم « شيطاني اسلم على يدي فلا يأمرني إلا بالخير » { من محاريب } وهو كل ما يتوج إلى الله به بخاصية الإباء والاستكبار وأنفة السجود لغير الله ، ولو وكل القلب والروح إلى خاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كان يرغب في العبور عن مقام الروحانية كالملائكة . قال جبرائيل عليه السلام : لو دنوت أنملة لاحترقت . { وجفان كالجواب } فيه إشارة إلى مأدبة الله التي أكل منها الأنبياء والأولياء إذ يبيتون عنده { اعملوا آل داود } وهم متولدات الروح فشكر البدن استعمال الشريعة بجميع الأعضاء والحواس ، وشكر النفس بإقامة شرائط التقوى والورع ، وشكر القلب بمحبة الله وحده ، وشكر السر المراقبة ، وشكر الروح بذل الوجود على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة ، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مخفياً بنور الوحدة عن نفسه . فالعوام شكرهم بالأقوال ، والخواص شكرهم بالأعمال ، وخواص الخواص شكرهم بالأحوال من الاتصاف بصفة الشكورية التي تعطي على عمل . فإن عشرة ثواب باقٍ ولذلك وصفهم بالقلة { تاكل منسأته } اتكأ سليمان على عصاه فبعث الله أخس دابة لإبطال متكئه وجعله سبباً لزوال ملكه وفوات روحه وكان قبل متكئاً على فضل الله فآتاه ما لم يؤت أحداً من خلقه { لقد كان لسبأ } السر { جنتان } جنة الروح عن يمين السر وجنة القلب عن شمال السر { بلدة طيبة } هي بلدة الإنسانية القابلة لبذر التوحيد { ورب غفور } يستر العيوب { فأعرضوا } عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء { فأرسلنا عليهم سيل } سطوات { العرم } قهرنا { وبدلناهم بجنتيهم } الشجرتين بأشجار الأخلاق الحميدة { جنيتن } من الأوصاف الذميمة { وهل نجازي } وهل يكون للأشجار الخبيثة إلا الأثمار الخبيثة . { قرى ظاهرة } منازل السالكين ومقامات العارفين من التوبة والزهد والتوكل والتزكية والتحلية . وقلنا لهم سيورا في ليالي البشرية وايام الروحاينة { آمنين } في حيازة الشريعة فطلبوا البعد عن الله بالميل إلى ما سواه ففرقناهم في أودية الهلاك ودركات البعد . { وما كان له عليهم من سلطان } فيه أن الشيطان إنما سلط على بني آدم لاستخراج جواهر النفوس من معادنها .
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
القراآت : { أذن له } على البناء للمفعول : أبو عمرو وعي وخلف والأعشى والبرجمي { فزع علي } البناء للفاعل : ابن عامر ويعقوب { جزاء } بالنصب { الضعف } مرفوعاً : يعقوب { في الغرفة } على التوحيد : حمزة { يحشرهم } { ثم يقول } على الغيبة فيهما : حفص ويعقوب . الباقون : بالنون { ثم تفكروا } بتشديد التاء : رويس { أجري إلا } بفتح الياء : ابو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص { ربي إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو : { التناؤش } مهموزاً : ابو عمرو وحمزة وخلف وعاصم سوى حفص والشموني والبرجمي . { حيل } بضم الحاء وكسر الياء : ابن عامر وعلي ورويس .
الوقوف : { من دون الله } ج لاحتمال الجملة بعده حالاً واستئنافاً { ظهير } 5 { أذن له } ط { الحق } ط { الكبير } 5 { والأرض } ط { قل الله } لا لاتصال المقول { مبين } 5 { تعملون } 5 { بالحق } ط { العليم } 5 { كلا } ط { الحكيم } 5 { لا يعلمون } 5 { صادقين } 5 { ولا تستقدمون } 5 { بين يديه } ط { عند ربهم } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً وهذا أوجه { القول } ج لمثل ذلك { مؤمنين } 5 { مجرمين } 5 { أنداداً } ط { العذاب } ط { كفروا } ط { يعملون } 5 { كافرونه } 5 { بمعذبين } 5 { لا يعملون } 5 { صالحاً } ز أن أولئك مبتدأ مع الفاء { آمنون } 5 { محضرون } 5 { ويقدر له } 5 { يخلفه } ج لعطف الجملتين المختلفتين { الرازقين } 5 { يعبدون } 5 { من دونهم } ج لتنويع الكلام مع اتحاد المقول { الجن } ج لذلك { مؤمنون } 5 { ضراً } ط { تكذبون } 5 { آباؤكم } ج للعطف مع طول الكلام والتكرار { مفترى } ط { مبين } 5 { من نذير } 5 { نكير } 5 { بواحدة } ج لأن ما بعده بدل أو خبر أي هي أن تقوموا { من جنة } ط { شديد } 5 { لكم } ط { الله } ج { شهيد } 5 { بالحق } ج لاحتمال أن ما بعده بدل من الضمير في يقذف أو خبر أي هو علام { الغيوب } 5 { بعيد } 5 { على نفسي } ج لعطف جملتي الشرط { ربي } ط { قريب } 5 { قريب } لا لأن ما بعده معطوف على { أخذوا } : { آمنا به } ط لاحتمال كون الجملة الاستفهامية مبتدأ بها أو حالاً { بعيد } 5 لا للآية ولاحتمال الاستئناف والحال بعده والعامل معنى الفعل في التناوش { من قبل } ج للعطف على كفروا بناء على أنه حال ماضية أو للاستئناف اي وهم يقذفون { بعيد } 5 { من قبل } ط { مريب } 5 .
التفسير : لما فرغ من حكاية أهل الشكر وأهل الكفران تمثيلاً عاد إلى مخاطبة كفار قريش وتقريعهم . ومفعولاً زعم محذوف أي زعمتموهم آلهة ، وسبب حذف الأوّل استحقاق عوده إلى الموصول ، وسبب حذف الثاني إقامة الصفة وهي { من دون الله } مقام الموصوف . وتفسير الآية مبني على تفصيل وهو أن مذاهب أهل الشرك اربعة : أحدها قولهم إنا نعبد الملائكة والكواكب التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم فالله تعالى قال في إبطال قولهم أنهم لا يملكون في السموات شيئاً كما اعترفتم ، ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم أن الأرض والارضيات في حكمهم .
وثانيها قول بعضهم إن السموات من الله على سبيل الاستقلال ، وإن الأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب واتصالاتها وانصرافاتها فأبطل معتمد هؤلاء بقوله { وما لهم فيهما من شرك } أي الأرض كالسماء لله لغيره فيها نصيب . وثالثها قول من قال : التركيبات والحوادث كلها من الله لكن فوض ذلك إلى الكواكب وإعانتها فأشار إلى إبطال معتقد هؤلاء بقوله { وما له منهم من ظهير } ورابعها مذهب من زعم أنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فبين بطلان مذهبهم بقوله { ولا تنفع الشفاعة } قال جار الله : تقول الشفاعة لزيد على أنه الشافع وعلى معنى أنه المشفوع له أي لا تنفع الشفاعة { إلا } كائنة { لمن أذن له } من الشافعين أو إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله . و « حتى » غاية لمضمون الكلام الدال على انتظار الإذن كأنه قيل : يتربصون ويقفون ملياً فزعين { حتى إذا فزع } أي كشف الفزع في القيامة عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضاً { ماذا قال ربكم قالوا } قال { الحق } أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى ، يريد هذا التفسير قول ابن عباس عن النبي « فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة » والتشديد للسلب والإزالة على نحو « قردته وجلدته » أي أزلت قراده وسلخت جلده . وقيل : إن « حتى » على هذا التفسير متعلق بقوله { زعمتم } أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق . ومنهم من ذهب إلى أن التفزيع غاية الوحي المستفاد من قل فإنه عند الوحي يفزع من في السموات كما جاء في حديث « إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيه جبرائيل فإذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون : يا جبرائيل ماذا قال ربكم؟ فيقول الحق » أي يقول الحق الحق . وقيل : أراد بالفزع أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فزع من في السموات من القيامة لأن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من أشراطها فلما زال عنهم ذلك قالوا : ماذا قال الله؟ قال جبرائيل وأتباعه : الحق . وقيل : إنه الفزع عند الموت يزيله الله عن القلوب فيعرف كل أحد أن ما قال الله هو الحق فينتفع بتلك المعرفة أهل الإيمان ولا نيتفع بها أهل الكفر . وحين بين بقوله { قل ادعوا } أنه لا يدفع الضر إلا هو أشار بقوله { قل من يرزقكم } إلى أن جلب النفع لا يكمل إلا به .
وههنا نكتة هي أنه قال في دفع الضر { قالوا الحق } وفي طلب النفع قال { قل الله } تنبيهاً على أنهم في الضراء مقبلون على الله معترفون به ، وفي السراء معرضون عنه غافلون لا ينتبهون إلا بمسه . وقوله { وإنا أو إياكم } من الكلام المنصف الذي يتضمن قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا . وفي تخالف حرفي الجر في قوله { لعلى هدى أو في ضلال } إشارة إلى أن أهل الحق راكبون مطية الهدى مستعلون على متنها ، وأن أهل الباطل منغمسون في ظلمة الضلال لا يدرون أين يتوجهون . وإنما وصف الضلال بالمبين وأطلق الهدى لأن الحق كالخط المستقيم واحد ، والباطل كالخطوط المنحنية لا حصر لها فبعضها أدخل في الضلالة من بعض وابين .
وقوله { عما أجرمنا } إلى قوله { عما تعملون } أبلغ في سلوك طريقة الإنصاف حيث أسند الإجرام وهو الصغائر والزلات أو هي مع الكبائر إلى أهل الإيمان ، وعبر عن إجرام أهل الكفر بلفظ عام وهو العمل . وفيه إرشاد إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها ، وإذا قال أحد المناظرين للآخر : أنت مخطئ أغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر ، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض . ومعنى الفتح الحكم والفصل بين الفريقين بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار . وحين حث في الآية الأولى على وجوب النظر من حيث إن كل أحد يؤاخذ بجرمه ولو كان البريء أخذ بالمجرم لم يكن كذلك ، أكد ذلك المعنى بالآية الثانية فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب فكيف إذا كان يوم عرض وحساب . وفي قوله { العليم } إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا كحكم من يحكم بمجرد الغلبة والهوى . ولما بين أن غير الله لا يعبد لدفع الضر ولا لجلب النفع أراد أن يبين أن غير الله لا ينبغي أن يعبد لأجل استحقاق العبادة فإنه لا مستحق للعبادة إلا هو . ومعنى { اروني } وكان يعرفهم ويراهم الاستخفاف بهم والتنبيه على الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله أو اراد أعلموني بأي صفة الحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء ف { شركاء } نصب على الحال والعائد محذوف و { كلا } ردع لهم عن مذهبهم بعدما كسده بإبطال المقايسة وردّ الإلحاق . ثم زاد في توبيخهم بقوله { بل هو الله العزيز الحكيم } كأنه قال : اين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات فإن الإله لا يمكن أن يخلو عن القدرة الكاملة والحكمة الشاملة . وهو يحتمل أن يكون ضمير الشأن . وحين فرغ من التوحيد شرع في الرسالة . ومعنى { كافة } عامة لأن الرسالة إذا شملتهم قد منعتهم أن يخرج أحد منهم والكف المنع وكافة صفة لرسالة . وقال الزجاج : التاء للمبالغة كتاء الراوية والعلامة وإنه حال من الكاف أي أرسلناك جامعاً للناس في الإبلاغ والتبشير والإنذار ، أو مانعاً للناس من الكفر والمعاصي .
وبعض النحويين جعله حالاً من الناس وزيف بأن حال المجرور لا يتقدم عليه . ومن هؤلاء من جعل اللام بمعنى « إلى » لأن أرسل يتعدى بإلى فضوعفت تخطئته بأن استعمال اللام بمعنى . « إلى » ضعيف ، ولا يخفى أن ثاني مفعولي { ارسلنا } على غير هذا التفسير محذوف والتقدير : وما أرسلناك إلى الناس إلا كافة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } وذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم . وحين ذكر الرسالة بين الحشر وذكر أنهم استعجلوه تعنتاً منهم فبين على طريق التهديد أنه لا استعجال فيه كما لا إمهال وهذا شأن كل أمر ذي بال . قال جار الله { ميعاد يوم } كقولك « سحق عمامة » في أن الإضافة للتبيين يؤيده قراءة من قرأ { ميعاد يوم } بالرفع فيهما فأبدل منه اليوم . وفي إسناد الفعل إليهم بقوله { لا تستأخرون عنه } دون أن يقول لا يؤخر عنكم زيادة تأكيد لوقوع اليوم . ولما بين الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والحشر ، ذكر أنهم كافرون بالكل قائلين { لن نؤمن بهذا القرآن ولا بالذي بين يديه } من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل . يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع الكتب . وقيل : الذين كفروا عام والذي بين يديه يوم القيامة وما جاء ذكره في القرآن من تفاصيل الحشر وغيرها ، وأن أهل الكتاب لو صدّقوا بشيء من ذلك فليس لأجل مجيئه في القرآن ولكن لمجيئه في كتبهم . وحين وقع اليأس من إيمانهم بقولهم { لن نؤمن } وعد نبيه بأنه سيراهم على أذل حال موقوفين للسؤال متجاذبين أهداب المراجعة كما يكون حال جماعة أخطأوا في تدبير أمره وجواب « لو » محذوف أي لقضيت العجب . وبدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ . وفي قوله { لولا أنتم } إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى فن الرسول قد جاء ولم يقصر في الإبلاغ . ثم ذكر جواب المستكبرين وهم الرؤوس والمتبوعين على طريقة الاستئناف . وفي إيلاء الاسم وهو نحن حرف الإنكار إثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عن الهدى بكسب منهم واختيار وأن المانع لم يكن راجحاً على المقتضى ولا مساوياً له وأكدوا ذلك بقولهم { بل كنتم مجرمين } أي إنكم أنتم الذين أطعتم أمر الشهوة فكنتم كافرين ولم يكن منا إلا التسويل والتزيين .
ثم عطف قولاً آخر للمستضعفين على قولهم الأول . والإضافة في { مكر الليل والنهار } من باب الاتساع بإجراء الظرف مجرى المفعول به وأصل الكلام : بل مكرهم في الليل والنهار . أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي ، فالأول اتساع لفظي ، والثاني معنوي .
أبطلوا إضرابهم بإضرابهم قائلين : ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا مستمراً دائماً دائباً ليلاً ونهاراً . وقدم الليل لأنه أخفى للمكر والويل . وقرئ { مكرّ الليل } بالتشديد أي سبب ذلك أنكم تكرّون الإغواء مكراً دائباً . والمعنى : ما أنتم بالصارف القطعي والمانع القويّ ولكن انضم إلى ذلك طول المدة فصار قولكم جزء السبب . وفي قوله { أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً } إشارة إلى أن الشرك وإن كان مثبتاً لله في الظاهر ولكنه نافٍ له على الحقيقة لأنه جعل مساوياً للصنم . ويجوز أن يكون كل منهما قول طائفة فبعضهم كانوا مأمورين بجحد الصانع وبعضهم بالإشراك به . وتفسير قوله { واسروا الندامة لما رأوا العذاب } مذكور في سورة يونس . والضمير يعود إلى جنس الظالمين الشامل للمستضعفين وللمستكبرين . وقوله { في أعناق الذين كفروا } أي في أعناقهم من وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما استحقوا به الأغلال وهي محمولة على الظاهر وإن جاز أن يراد بها العلائق . وفي قوله { هل تجزون } إشارة إلى أنهم استحقوها عدلاً . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعاً وإنما ذلك هجيراهم قدماً . وإنما خص المترفين بالذكر لأنهم أصل في الجحود والإنكار وغيرهم تبع ، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد اعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله ما رزقهم ، ثم قاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا فقالوا { وما نحن بمعذبين } فبين الله خطأهم بأن القابض الباسط ه والله { ولكن أكثر الناس لا يعملون } أن ذلك بمجرد المشيئة لا بالكسب والاستحقاق فكم من شقيّ موسر وتقي معسر . ثم زاد في البيان بقوله { وما أموالكم } اي وما جماعة أموالكم { ولا } جماعة { أولادكم بالتي تقرّبكم عندنا زلفى } أي قربى اسم بمعنى القربة وقع موقع المصدر كقوله { والله أنبتكم من الأرض نباتاً } [ نوح : 17 ] ثم استثنى من ضمير المفعول في تقرّبكم بقوله { إلا من آمن } والمراد أن الأموال والأولاد لا تقرّب أحداً إلا المؤمن الصالح ينفق الأموال في سبيل الله ويعلم أولاده الخير والفقه في الدين . ويحتمل أن يكون الاستثناء من الفاعل والمعنى أن شيئاً من الأشياء لا يقرّب إلا عمل المؤمن الصالح لأن ما سوى ذلك شاغل عن الله ، والعمل الصالح إقبال على العبودية . ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب شيئاً من الله حصل . وجزاء الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول تقديره : فأولئك لهم أن يجاوزوا الضعف . ومعنى قراءة يعقوب : أولئك لهم الضعف جزاء . والتضعيف يكون إلى العشر وإلى سبعمائة وأكثر كما عرفت . والباقي إلى قوله { محضرون } قد سبق . وحين بين أن حصول الترف لا يدل على الشرف ذكر أن بسط الرزق لا يختص بهم ولكنه سبحانه قد يبسط الرزق لمن يشاء من عباده المؤمنين .
ثم رتب وعد الإخلاف على الإنفاق وذلك إما في العاجل بالمال أو بالقنوع ، وإما في الآخرة بالثواب الذي لا خلف فوقه ولا مثله . ومما يؤكد الآية قوله صلى الله عليه وسلم « اللهم أعط منفقاً خلفاً » الحديث . وقول الفقهاء ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه ، وأن التاجر إذا علم أن مالاً من الأموال في معرض الفناء يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء وإلا نسب إلى الخطأ وسخافة الرأي ، ولا ريب أن مال الدنيا في معرض الزوال وأن أغنى الأغنياء قد طلب منا الإقراض ووعد الإضعاف والإخلاف فأي تجارة عند العاقل اربح من هذا؟ { وهو خير الرازقين } لأن سلسلة الأرزاق والرزق تنتهي إليه . وعن بعضهم : الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي .
ثم حكى عاقبة حال الكفار بقوله { ويوم يحشرهم } وفي خطاب الملائكة تقريع الكفار وتقرير لما يعروهم من الخجل والوجل عند اقتصاص ذلك كما مر في قوله لعيسى { أءنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ] { قالوا سبحانك } ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة { بل كانوا يعبدون الجن } حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة ، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا : هذه صور الملائكة فاعبدوها ، أو كانوا يدخلون في أجواب الأصنام فيعبدون بعبادتها . وإنما قالوا { أكثرهم بهم مؤمنون } وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار . وأيضاً أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن ، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري . ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله { لا يملك بعضكم } للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه : أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا . ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضاً بهذا التأويل ، وعلى الأول يكون قوله { ونقول للذين ظلموا } إفراداً للكفرة بالذكر ، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيداً لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئاً وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم . وإنما قال ههنا { عذاب النار التي كنتم بها تكذبون } وفي السجدة { عذاب النار الذي كنتم به } [ الآية : 20 ] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله { كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها } [ الآية : 20 ] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] وههنا لم يروا النار .
وقيل : لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار . ثم حكى أكاذيبهم بقوله { وإذا تتلى } الآية . ولا يخفى ما فيه من المبالغات . ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال { وما آتيناهم من كتب يدرسونها } فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك { وكذب الذين من قبلهم } كعاد وثمود { وما بلغوا معشار ما آتيناهم } والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع . قال الأكثرون : معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر . ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟ . وقال بعضهم : اراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد صلى الله عليه وسلم من البيان والبرهان لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب . ثنم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء؟ قال جار الله : قوله { فكذبوا رسلي } بعد قوله { وكذب الذين من قبلهم } تخصيص بعد تعميم كأنه قيل : وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي؟ نظيره قول القائل : أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم . ويجوز أن ينعطف على قوله { وما بلغوا معشار ما } كقولك : ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه . قلت : فعلى هذا تكون الفاء للسببية ، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا؟ { فكيف كان نكير } للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله . ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريراً للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل : فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك : فعلت كذا وكذا ، فإذا فعلت ذلك فتربص .
وبعد تقرير الأصول الثلاثة : التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله { قل إنما أعظكم بواحدة } أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله { أن تقوموا } على أنه عطف بيان لها . والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيُّ متفرقين إلى أوطانهم . وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد . فقوله { مثنى وفرادى } إشارة إلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال : أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله . وقوله { ثم تتفكروا } يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعدما بان وظهر ، ثم تتفكروا فيما اقول بعده ، وهو الرسالة المشار إليها بقوله { ما بصاحبكم من جنة } والحشر المشار إليه بقوله { بين يدي عذاب شديد } قيل : وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال : ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد .
فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد ، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد . وعند جار الله : الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى : إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها اصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصاً متفرقين اثنين اثنين وواحداً واحداً ، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى ، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفه حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان : مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان ، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان . لكن محمداً صلى الله عليه وسلم بالاتفاق أرجح النتاس عقلاً وأصدقهم قولاً وأوفرهم حياء وأمانة ، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها . وقوله { ما بصاحبكم } إما أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد : ثم تتفكروا فتعلموا ذلك . وجوز بعضهم أن تكون « ما » استفهامية . وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبياً ذكر وجهاً آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله { ما سألتكم من أجر } الآية . وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود ههنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء ، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب . هذا إذا أريد بقوله { فهو لكم } نفي سؤال الآخر رأساً كما يقول الرجل لصاحبه : إن أعطيتني شيئاً فخذه وهو لم يعطه شيئاً . ويحتمل أن يراد بالأجر قوله { لا أسألكم عليه أجراً إلا المودّة في القربى } [ الشورى : 23 ] وقوله { ما أسألكم عليه من أجر الا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً } [ الفرقان : 57 ] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عز وجل فيه نصيبهم ونفعهم . { وهو على كل شيء شهيد } يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم . قوله { يقذف بالحق } اي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه { علام الغيوب } يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل ، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه ، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت .
وفي قوله { علام الغيوب } إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة ، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه .
وحين ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يده . وقيل : السيف . وقوله { وما يبدئ الباطل وما يعيده } مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدئ فعلاً أو يعيده ، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة . والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت . ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتاً في نفسه بيناً لمن نظر إليه كان جائياً ، وحين كان ماأتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل : إنه لا يبدئ ولا يعيد أي لا يعيد شيئاً لا في الأوّل ولا في الآخر . وقيل : الباطل إبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشئ خلقاً ولا يعيد وإنما المنشئ والباعث هو الله . وعن الحسن : لا يبدئ لأهله خيراً ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة . وقال الزجاج : « ما » استفهامية والمعنى أي شيء ينشئ إبليس ويعيده؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله { قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي } يعني كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين . قال جار الله : هذا حكم عام لكل مكلف ، والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه . وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به { إنه سميع قريب } يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء ، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي . ثم عجب نبيه أو كل راءٍ من مآل حال أهل العناد بقوله { ولو ترى } وجواب محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً . والأفعال الماضية التي هي { فزعوا } { وأخذوا } { وقالوا } { وحيل } كلها من قبيل { ونادى } [ الأعراف : 48 ] { وسيق } [ الزمر : 73 ] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر . وعن ابن عباس : نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفاً أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء { فلا فوت } أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه . والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار ، أو من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو من صحراء بدر إلى القليب ، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض .
وجوّز جار الله أن يعطف { وأخذوا } على { لافوت } على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا . ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد صلى الله عليه سولم أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله { وأنى لهم التناوش } وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولاً سهلاً لا تعب فيه ، أو أراد أن تناولهم التوبة وإيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب . وعن أبي عمرو : التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم : نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت . والصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت فلي أجوه . وقيل : التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب « المدخل في تفسير القرآن » والضمير في قوله { وقد كفروا } عائد إلى ما يعود إليه في قوله { آمنا به } .
قوله { ويقذفون بالغيب } فيه وجوه أحدها : أنه قولهم في رسول الله صلى الله عيله وسلم شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور . وثانيهاك أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه . وثالثها : أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث ، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ . ورابعها : قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا . وخامسها : قالوا { ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً } [ السجدة : 12 ] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا . { وحيل بينهم وبين ما يشتهون } من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا { كما فعل باشياعهم } أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله و { مريب } موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود .
التأويل : { مثقال ذرة في السموات } القلوب { ولا في الأرض } النفوس من سعادة أو شقاوة { قالوا الحق } يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق { قل من يرزقكم } من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية . { ألحقتم به شركاء } من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين في عالم الأجساد وهو ظاهر ، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالاً عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام ، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار .
فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض ، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة ، والتوحيد والمعرفة ثمرتها ، والشريعة كالماء والبشير والنذير كالآكار . وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم . يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به . ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتاً معلوماً لا تتجاوزه { أكثرهم بهم مؤمنون } اي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون { ويقذفون بالغيب } فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو اسير في أيدي صفات النفس { وحيل بينهم } لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق .
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
القراآت : { غير الله } بالجر : يزيد وحمزة وعليّ . الآخرون : بالرفع حملاً على المحل { فلا تذهب } من الإذهاب { نفسك } منصوباً : يزيد . الآخرون : بفتح التاء والهاء من الذهاب { نفسك } مرفوعاً : { الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { ولا ينقص } بفتح الياء وضم القاف : روح وزيد . الباقون : بالعكس . { من عمره } باختلاس الضمة : عباس { والذين يدعون } على الغيبة : قتيبة .
الوقوف : { ورباع } ط { يشاء } ط { قدير } 5 { لها } ج { بعده } ط { الحكيم } 5 { عليكم } ط { والأرض } ط { إلا هو } ز للاستفهام ولفاء التعقيب وإتحاد المعنى { تؤفكون } 5 { قبلك } ط { الأمور } 5 { الغرور } 5 { عدوّاً } ط { السعير } 5 ط لأن { الذين } مبتدأ . { شديد } 5 { كبير } 5 { حسناً } ط لحذف الجواب { حسرات } ط { يصنعون } 5 { موتها } ط { النشور } 5 { جميعاً } ط { يرفعه } ط { شديد } 5 { يبور } 5 { أزواجاً } ط { بعلمه } ط { في كتاب } ط { يسير } 5 { أجاج } ط { تلبسونها } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { تشكرون } 5 { مسمى } ط { الملك } ط { قطمير } 5 { دعاءكم } ج للشرط مع العطف { لكم } ط { بشرككم } ط { خبير } 5 { إلى الله } ط لاتفاق الجملتين مع حسن الفصل بين وصفي الخالق والمخلوق { الحميد } 5 { جديد } 5 ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { بعزيز } 5 { أخرى } ط لاستئناف الشرط { قربى } ط { الصلاة } ط { لنفسه } ط { المصير } 5 { والبصير } 5 لا { ولا النور } 5 لا { ولا الحرور } 5ج للطول والتكرار { الأموات } ط { يشاء } ج للعطف مع الإثبات إلى النفي مع اتفاق الجملتين { القبور } 5 { إلا نذير } 5 { ونذيراً } ط { نذير } 5 { من قبلهم } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { المنير } 5 { نكير } 5 .
التفسير : لما بين في آخر السورة المتقدمة انقطاع رجاء الشاك وعدم قبول توبته في الآخرة ذكر في أوّل هذه السورة حال الموفق المؤمن وبشر بإرسال الملائكة إليهم مبشرين ، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة . و { فاطر السموات والأرض } مبدعهما أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض يؤيد التفسير الثاني قوله { جاعل الملائكة رسلاً } وقوله { وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون } [ الأنبياء : 103 ] و { أولي أجنحة } اي أصحاب أجنحة أراد أن طائفة منهم أجنحة كل منهم اثنان اثنان ، وبعضهم أجنحة ثلاثة ثلاثة لعل الثالث منها في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة أو لعله لغير الطيران فلقد رأيت في بعض الكتب أن صنفاً من الملائكة لهم ستة أجنحة ، فجناحان يلفون بهما أجسادهم ، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله عز وجل ، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرائيل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح .
وروي أن إسرافيل له اثنا عشر جناحاً ، جناح منها بالمشرق ، وجناح بالمغرب ، وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل لعظمة الله سبحانه وتعالى حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير . ويجوز أن يخالف حال الملائكة حال الطيور في الطيران كالحيوان الذي يدب بأرجل كثيرة ، ويجوز أن يكون البعض للزينة ، ويجوز أن يكون كل جناح ذا شعب . قال الحكيم : الجناحان إشارة إلى جهتين : جهة الأخذ من ا لله ، وجهة الإعطاء لمن دونهم بإذن الله كقوله { نزل به الروح الأمين على قلبك } [ الشعراء : 193 194 ] { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] { فالمدبرات أمرا } [ النازعات : 5 ] ومنهم من يفعل بواسطة فلهم ثلاث جهات أو أكثر على حسب الوسائط . ثم بين كمال قدرته بقوله { ويزيد في الخلق ما يشاء } والظاهر أنه عام يتناول كل زيادة في كل أمر يعتبر في الصورة كحسن الوجه والخط والصوت ونحوهما ، أو في المعنى كحصافة العقل وجزالة الرأي وسماحة النفس وذلاقة اللسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة . ثم أكد نفاذ أمره وجريان الأمور على وفق مشيئته بقوله { وما يفتح الله للناس } الآية . وفيها دلالة على أن رحمته سبقت غضبه من جهة تقديم الرحمة ومن جهة بيان الضمير في القرينة الأولى بقوله { من رحمة } والإطلاق في قوله { وما يمسك } فيشمل إمساك الغضب وإمساك الرحمة . ومن جهة قوله { من بعده } أي من بعد إمساكه فيفيد أن الرحمة إذ جاءته لم يكن لها انقطاع وإن ضدّها قد ينقطع وإن كان لا يقطعه إلا الله ولهذا لا يخرج أهل الجنة من الجنة وقد يخرج أهل النار من النار { وهو العزيز } الغالب على إرسال الرحمة وإمساكها { الحكيم } الذي لا يمسك ولا يرسل إلا عن علم كامل وصلاح شامل . وحيث بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة المستدعية للحمد على التفصيل أمر المكلفين بتذكر العمة على الإجمال لساناً وقلباً وعملاً ، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أياديّ عندك يريد حفظها وشكرها والعمل بموجبها . وعن ابن عباس : أن الناس أهل مكة أسكنهم حرمه ويتخطف الناس من حولهم . وعنه أيضاً أنه اراد بالنعمة العافية ، والظاهر تعميم النعمة والمنعم عليهم . ثم اشار إلى نعمة الإيجاد بقوله { هل من خالق غير الله } وإلى نعمة الإبقاء بقوله { يرزقكم } وهو نعت خالق أو مستأنف أو تفسير لمضمر والتقدير : هل يرزقكم خالق يرزقكم؟ قال جار الله : إن جعلت { يرزقكم } كلاماً مستأنفاً ففيه دليل على أن الخالق لا يطلق إلا على الله عز وجل . وأما على الوجهين الآخرين فلا ، إذ لا يلزم مننفي خالق رازق غيره نفي خالق غيره مطلقاً . وقوله { لا إله إلا هو } جملة مفصولة لا محل لها مثل { يرزقكم } في غير وجه الوصف إذ لو جعلت وصفاً لزم التناقض لأن قولك « هل من خالق آخر سوى الله » إثبات الله ، ولو جعلت المنفية وصفاً صار تقدير الكلام : هل من خالق آخر سوى لا إله إلا ذلك الخالق فلزم نقض الإثبات المذكور مع أن الكلام في نفسه يكون غير مستقيم .
{ فأنى تؤفكون } أي وكيف تصرفون عن هذا الظاهر فتشركون المنعوت بمالك الملك والملكوت . وحين بينّ الاصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله { وإن يكذبوك } الآية . والمراد إن يكذبوك فتسل بهذا المعنى . ثم بينت الأصل الثالث وهو الحشر بقوله { يا أيها الناس } وقد مرّ مثل الآية في آخر سورة لقمان . وقد يسبق إلى الظن ههنا أن الغرور وهو الشيطان لأنه عقبه بقوله { إن الشيطان لكم عدّو فاتخذوه عدّواً } لأن الحازم لا يقبل قول العدوّ ولا يعتمد عليه . ثم صرح بوجه اتخاذه وبعاقبة دعوته فقال { إنما يدعو حزبه ليكونوا من اصحاب السعير } ثم فصل مال حال حزبه وحزب الله بقوله { الذين كفروا } إلى قوله { وأجر كبير } عرض على العقول أنه لا سواء بين الحزبين والمعنى { أفمن زين له سوء عمله } من الفريقين كمن لم يزين له . ولا ريب أن المزين لهم عملهم هم أهل الأهواء والبدع الذين لا مستند لهم في مأخذهم سوى التقليد واتباع الهوى . ثم أنتج من ذلك قوله { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } وذلك أن الناس متساوية الأقدام في الإنسانية ومتفاوتة الأحوال في الأعمال ، فتبين أنه لا استقلال ، وأن أفعال العباد مستندة إلى إزادة مصرف القلوب والأحوال . ثم رتب على عدم الاستقلال قوله { فلا تذهب } أي فلا تهلك { نفسك } و { عليهم } صلة تذهب كما تقول هذك عليه حباً أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق ب { مجسرات } المفعول لأجله لأن المصدر لا يتقدم عليه صلته . وجوّز جار الله أن يكون حالاً كأن كل نفسه صارت حسرات لفرط التحسر . وعن الزجاج أن تقدير الآية : أمفن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم فحذف لدلالة المذكور وهو فلا تذهب عليه ، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله ، فحذف لأن قوله { فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء } يدل عليه . ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد منهم الإيمان لآمنوا وإن كان لما بهم منالإيذاء فالله عليم بفعلهم فيجازيهم بذلك .
ثم أكد كونه فاعلاً مختاراً قادراً قهاراً مبدئاً معيداً بقوله { والله الذي أرسل } وهو من الالتفات الموجب للتهويل والتعظيم . وقوله { فتثير } بلفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن ، عرف نفسه بفعل الإرسال ثم قال { فسقناه } كأنه قال : أنا الذي عرفتني بمثل هذه السياقة والصناعة وأنعمت عليك بهذه النعمة الشاملة . ثم شبه البعث والنشور بالصنع المذكور ووجهه ظاهر .
وحين بين برهان الإيمان أشار إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة الت يكانوا يتوهمونها من حيث إن معبوديهم كانت تحت تسخيرهم والرسول كان يدعوهم إلى الإيمان لطاعة الله وطاعة أنبيائه فكنه قال : إن كنتم تطلبون حقيقة العزة { فلله العزة } خاصة كلها فلتطلبها من عنده ومن عند أوليائه نظيره قولك « من أراد النصيحة فهي عند الأبرار » يريد فليطلبها عندهم فاعتبر في هذه الآية حرف النهاية . وأما في قوله { لله العزة ولرسوله وللمؤمنين } [ المنافقون : 8 ] فاعتبر الوسائط فالعزة للمؤمنين بواسطة الرسول وله من رب العزة . ثم إن الكفار كأنهم قالوا : نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده فإن البعد من الملك ذلة فقال { إليه يصعد } أي إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب منها وذلك آية العزة ، وأما هذه الأصنام فلا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا حياة لها ولا شعور وهكذا العمل الصالح لا تراه هذه الأصنام فلا يمكن لها مجازاة الأنام . وفاعل قوله { يرفعه } إن كان هو الله فظاهر ، وإن كان الكلم أعني قوله « لا إله إلا الله » فمعناه أنه لا يقبل عمل إلا من موحد وإن كان هو العمل فالمعنى : أن الكلم وهو كل كلام فيه ذكر الله أو رضاه يريد الصعود إلى الله إلا أنه لا يستطيع الصعود ولا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقروناً بالعمل الصالح . عن النبي صلى الله عليه وسلم « الكلم الطيب هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه » وعن ابن المقفع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر ، وقوس بلا وتر . ولا تخفى أن القول هو الأصل والعمل مؤكده فلهذا قدم القول . وحين بيّن حال العمل الصالح ذكر أن المكرات السيئات بائرة كاسدة لا حقيقة لها ، ولعله أشار بها إلى مكرات قريش المذكورات في قوله { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } [ الأنفال : 30 ] جمع الله مكراتهم فقلبها عليهم حين أوقعهم في قليب بدر . ولما ذكر دليل الآفاق أكده بدليل الأنفس قائلاً { والل خلقكم من تراب } وفيه إشارة إلى خلق آدم { ثمن من نطفة } وفيه إشارة إلى خلق أولاده . ومعنى { أزواجاً } أصنافاً أو ذكراناً وإناثاً . ثم أشار إلى كمال علمه بقوله { وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه } ثم بين نفوذ إرادته بقوله { وما يعمر من معمر } قال جار الله : معناه من أحد ولكنه سماه معمراً باعتبار ما يؤل إليه . وليس المراد تعاقب التعمير وخلافه على شخص واحد وإنما المراد تعاقبهما على شخصين فتسومح في اللفظ تعويلاً على فهم السامع كقول القائل : ما تنعمت بكذا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي .
وتأويل آخر وهو أن يراد لا يطول عمر إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان بعينه { إلا في كتاب } وصورته أن يكتب في اللوح إن حج أو وصل الرحم فعمره أربعون سنة ، وإن جمع بين الأمرين فعمره ستون ، فإذا جمع بينهما فعمر ستين كان الغاية ، وإذا أفرد فعمر أربعين فقد نقص منتلك الغاية . وبهذا التأويل يستبين معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار » ويصح ما استفاض على الألسن « أطال الله بقاءك » . وعن سعيد بن جبير يكتب في الصحيفة أن عمره كذا سنة ، ثم يكتب بعد ذلك في آخرها ذهب يوم ذهب يومان حتى تنقضي المدّة . وعن قتادة : المعمر من بلغ ستين ، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين . وذلك في علم الله . { إن ذلك } الذي ذكر من خلق الإنسان من المادة المذكورة أو الزيادة في الأعمار أو النقصان منها { على الله يسير } . ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر وذكر ليلاً آخر على عظم قدرته فقال { وما يستوي البحران } الآية . على الأوّل يكون قوله { ومن كل تأكلون } غلى آخر الآية تقريراً للنعمة على سبيل اللاستطراد ، أو هو من تمام التشبيه كأنه شبه الجنسين بالبحرين . ثم فضل البحر الأجاج على الكافر لأنه شارك العذب في استخراج السمك واللؤلؤ وجرى الفلك فيه ، وأما الكافر فلا نفع فيه ألبتة فيكون كقوله في البقرة { ثم قست قلوبكم } [ البقرة : 74 ] إلى آخر قوله و { إن منهما لما يهبط من خشية الله } [ الآية : 74 ] والأشبه أن الآية تقرير دليل مستأنف كما مرّ في أوّل « النحل » يؤيده تعقيبه بدليل آخر وهو قوله { يولج الليل } إلى قوله { أجل مسمى } قد مرّ في آخر « لقمان » مثله ، وفيه ردّ على عبدة الكواكب الذين ينسبون حوادث هذا العالم إلى الكواكب بالذات لا إلى تسخير مبدعها . قوله { ذلكم الله } أي الذي فعل الأشياء المذكورة من فطر السموات والأرض وإرسال الرياح وخلق الإنسان من التراب وغير ذلك هو المعبود الحق . وقوله { ربكم له الملك } خبران آخران ، ويجوز أن يكون { الله ربكم } خبرين و { له الملك } جملة مبتدأه واقعة في طبقات . قوله { والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير } وذلك أن المشركين كانوا معترفين بأن الصنام ليسوا خالقين وإنما كانوا يقولون إنه تعالى فوض أمور الأرضيات إلى الكواكب التي هذه الأصنام صورها وطوالعها ، فأخبر الله تعالى أنهم لا يملكون قطميراً وهو القشرة الرقيقة للنواة فضلاً عما قوفها . قال جار الله : يجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان و { ربكم } خبراً لولا أن المعنى يأباه فقيل : لأن ذلك إشارة إلى معلوم سبق ذكره .
وكونه صفة أو عطف بيان يقتضي أن يكون فيما سبق ضرب إبهام . قلت : وفيه نظر ، أما أولاً فلأن اسم الله من قبيل الأعلام لا من قبيل أسماء الأجناس فكيف يجوز جعله صفة؟ وأما ثانياً فلأنه على تقدير التجويز يكون صفة مدح فلا ينافي كون المشار إليه معلوماً . والوجه الصحيح في إباء المعنى هو أن الوصف إذا كان معرفة كان أمراً متحققاً في الخارج مسلماً عند السامع . مثلاً إذا قلت : الرجل الكاتب جاءني . تريد الرجل الذي تعرفه أيها السامع أنه كاتب جاءني لكن الخطاب ههنا مع الكفار وهم يجحدون المعبود الحق ، أو يجحدون أن العبادة لا تصلح إلا له ، ن فلا يصح إيقاع اسم الله وصفاً لذلكم والخطاب معهم . ثم زاد في توبيخ الكفرة بقوله { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } لأنهم جماد ولو فرض سماعهم { ما استجابوا لكم } لما مرّ من أنهم لا يملكون شيئاً { ويوم القيامة } ايضاً { يكفرون بشرككم } قائلين ما كنتم إيانا تعبدون { ولا ينبئك } أي لا يطلعك على حقيقة الحال أيها النبيّ أو أيها السامع { مثل خبير } ببواطن الأمور . والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل عالم به . وفيه أنه الخبير بالأمر وحده ، وفيه ن هذا الخبر مما لا يعرف بمجرد المعقول لولا إخبار الله سبحانه .
ثم بين أن نفع العبادة إنما يعود على المكلفين فقال { يأيها الناس أنتم الفقراء } ومعنى تعريف الخبر القصد إلى أنهم جنس الفقراء مبالغة ، وذلك أن افتقار الإنسان إلى الله عاجلاً لأمور المعاش وآجلاً لنعيم الآخرة أبين من افتقار سائر المخلوقين إليه . وقيل : إن كون الناس فقراء أمر ظاهر لا يخفى على أحد فلهذا عرف كقول القائل : الله ربنا ومحمد نبينا . ثم بين أن فقرهم ليس إلا إلى الله فقابل الفقراء بقوله { والله هو الغنيّ } وقابل قوله { إلى الله } بقوله { الحميد } لأنه إذا أنعم عليهم استحق الحمد منهم . ثم ذكر أنه غني عن وجودهم أيضاً لا يفتقر في ظهور أثر قدرته إليهم فقال { إن يشأ يذهبكم } وقد مرّ في « النساء » وفي « إبراهيم » . وحين بين الحق بالدلائل الباهرة أراد أن يذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال { ولا تزر وازرة } يعني أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها . ولا ينافي في هذا قوله { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } [ العنكبوت : 13 ] لأن وزر الإضلال هو وزر النفس الوزارة أيضاً ، وفيه أن كل نفس وازرة مهمومة بهمّ وزرها متحيرة في أمرها .
ثم زاد في التهويل بقوله { وإن تدع مثقلة } أي نفس ذات حمل { لا يحمل منه شيء } فإن عدم قضاء الحاجة بعد السؤال أفظع . ثم زاد التأكيد بقوله { ولو كان } أي المدعوّ { ذا قربى } فإِن عدم القضاء بعد السؤال من القريب من أب وولد أدل على شدّة الأمر فيعلم منه أن لا غياث يومئذ أصلاً . ثم بين أن هذه الإنذارات إنما تفيد أهل الخشية والطاعة حال كونهم غائبين عن العذاب أو حال كون العذاب غائباً عنهم . ثم لما بيّن أن الوزر لا يتعدى إلى الغير بيّن أن التظهر عن الذنوب لا يفيد إلا نفس المتزكي { وإلى الله المصير } لكل فيجزيهم على حسب ذلك . ثم ضرب للكافر والمؤمن مثلاً فقال { وما يستوي الأعمى والبصير } وقيل : إنه مثل للصنم وللمعبود الحق . ثم ذكر للكفر والإيمان مثلاً قائلاً { ولا الظلمات ولا النور } وإذا كان الإيمان نوراً والمؤمن بصيراً فلا يخفى عليه النور ، وإذا كان الكفر ظلمة والكافر أعمى فله صادّ فوق صادّ . ثم بيّن لمآلهما ومرجعهما مثلاً وهو الظل والحرور . قال أهل اللغة : السموم يكون بالنهار والحرور أعم . وقال بعضهم : الحرور يكون بالليل فالمؤمن بإيمانه كمن هو في ظل وراحة ، والكافر في كفره كمن هو حرّ وتعب .
وههنا مسائل . الأولى : ضرب أوّلاً مثلاً للكافر والمؤمن ثم أعاد مثلهما بقوله { وما يستوي الأحياء ولا الأموات } وهذا أبلغ لأن الأعمى والبصير قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت ولمكان هذه المبالغة أعاد الفعل . الثانية : كرر « لا » النافية في الأمثال الأخيرة دون الأوّل ، لأن المنافاة بين العمى والبصر ليست ذاتية كما في سائرهما وقد يكون شخص واحد بصيراً بإحدى العينين أعمى بالأخرى . الثالثة : قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحيّ ، وأخره في الآخرين فهم أهل الظاهر أن ذلك لرعاية الفواصل . والمحققون قالوا : إنهم كانوا قبل البعث في ظلمة الضلال فصاروا إلى نور الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ، فلهذا الترتيب قدّم مثل الكافر وكفره على مثل المؤمن وإيمانه . ولما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لأن رحمته سبقت غضبه . ثم إن الكافر المصرّ بعد البعثة صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال { وما يستوي الأحياء } أي المؤمن الذي آمن بما أنزل الله . والأموات الذين تليت عليهم الآيات ولم تنجع فيهم البينات فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياتهم قبل ممات الكافرين المعاندين . الرابعة : إنما وحد الأعمى والبصير لأن المراد أن أحد الجنسين لا يساوي جنس الآخر من جهة العمى والبصر ، ولعل فرداً من أحدهما قد يساوي الفرد الآخر من جهة أخرى وكذا الكلام في إفراد الظل والحرور .
وإنما جمع الظلمات ووحّد النور لما مرّ في أوّل « الأنعام » من تحقيق أن الحق واحد والشبهات كثيرة . وإنما جمع الأحياء والأموات لأن المراد أن أحد الصنفين لا يساوي الآخر سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد . الخامسة : لا يخفى أن هذه الواوات بعضها ضمت شفعاً إلى شفع وبعضها ضمت وتراً إلى وتر . ثم سلى ورسوله بقوله { إن الله يسمع } الآية . فقد مرّ نظيره في قوله { إنك لا تسمع الموتى } [ النمل : 80 ] وإنما اقتصر على قوله { إن أنت إلا نذير } وكذا في قوله { إلا خلا فيها نذير } لأن الكلام في معرض التهديد مع أن ذكر البشير يدل عليه بل ذكر النذير يدل على مقابله . والمراد بالنذارة آثارها لثبوت زمان الفترة . ثم زاد في التسلية بقوله { وإن يكذبوك } وقد مر مثله في آخر « آل عمران » . وإنما حذف الفاعل هناك لبناء الكلام هنالك على الاقتصار دليله أنه قال { وإن يكذبوك فقد كذب } فاقتصر على لفظ المضيّ ولم يسم الفاعل ، ويحتمل أن يكون لفظ الماضي إشارة إلى وقوع التكذيب منهم فإن تلك السورة مدنية والله أعلم .
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
القراآت : { يدخلونها } مجهولاً : ابو عمرو و { يجزي } مجهولاً غائباً كل بالرفع : أبو عمرو . الباقون : بالنون مبيناً للفاعل كل بالنصب و { مكر السيء } بهمزة ساكنة : حمزة استثقالاً للحركات ، وحمله النحويون على الاختلاس ، وإذا وقف يبدل من الهمزة ياء ساكنة .
الوقوف : { ماء } ج للعدول { ألوانها } الأولى ج { سود } 5 { كذلك } ط { العلماء } ط { غفور } 5 { لن تبور } 5 { فضله } ط { شكور } 5 { يديه } ط { بصير } 5 { عبادنا } ج { لنفسه } ج { مقتصد } ج تفصيلاً بين الجمل مع النسق { بإذن الله } ط { الكبير } 5 ط لأن ما بعده مبتدأ لا بدل { ولؤلؤاً } ج لاختلاف الجملتين { حرير } 5 { الحزن } ط { شكور } 5 { فضله } ج لاحتمال الاستئناف والحال { لغوب } 5 { جهنم } ج لمثل ما قلنا { عذابها } ط { كفور } 5 ج لاحتمال الواو الحال { فيها } ج للقول المحذوف { كنا نعمل } ط { النذير } 5 { نصير } 5 { والأرض } ط { الصدور } 5 { في الأرض } ط { كفره } ط { مقتاً } ج وان اتفقت الجملتان ولكن لتكرار الفعل وتصريح الفاعل والمفعول في الثانية { خساراً } 5 { دون الله } ط { السموات } ج لاحتمال أن « أم » منقطعة { منه } ج { غروراً } 5 { تزولا } ج لابتداء ما في معنى القسم مع الواو { من بعده } ط { غفوراً } 5 { الأمم } ج { نفوراً } 5 لا { ومكر السيء } ط { بأهله } ط { الأولين } ج لانتهاء الاستفهام مع اتصال الفاء { تبديلاً } 5 ج { تحويلاً } 5 { قوة } ط { في الأرض } ط { قديراً } 5 { مسمى } ج { بصيراً } 5 .
التفسير : لما بين دلائل الوحداينة بطريق الإخبار ذكر دليلاً آخر بطريق الاستخبار لأن الشيء إذا كان خفياً ولا يراه من بحضرتك كان معذوراً ، أما إذا كان بارزاً مكشوفاً فإنك تقول : أما تراه . والمخاطب إما كل أحد أو النبي صلى الله عليه وسلم لأن السيد إذا نصح بعض العباد ولم ينفعهم الإرشاد قال لغيره . اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر معه ما ذكره مع الأول . والالتفات في { فأخرجنا } لأن نزول الماء يمكن أن يقال : إنه بالطبع ولكن الإخراج لا يمكن إلا بإرادة الله . وأيضاً الإخراج أتم نعمة من الإنزال لأن إنزال المطر لفائدة الإخراج . واختلاف ألوان الثمرات اختلاف « أصنافها أو هيئاتها ، والجدد الخطط ، والطرائق » فعلة « بمعنى » مفعول « والجد القطع . قال جار الله : لا بدّ من تقدير مضاف أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر مختلف ألوانها في البياض والحمرة ، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص وقد يكون أدنى من ذلك ، وكذلك الحمرة . والغرابيب تأكيد للسود إلا أنه أضمر المؤكد أوّلاً ثم أظهر ثانياً على طريقة قوله :
والمؤمن العائذات الطير ... وإنما لم يتصوّر اختلاف الألوان ههنا لأن السواد إذا كان في الغاية لم يكن بعدها لون .
يقال : أسود غربيب للذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب . ويمكن أن يقال : إن المختلف صفة الحمر فقط . وحين فرغ من دلائل النبات وما يشبه المعادن شرع في الاستدلال بالحيوان ، وقدّم الإنسان لشرفه ، ثم ذكر الدواب على العموم ، ثم خصص الأنعام ، أو أراد بالدابة الفرس فجعله لشرفه رديف الإنسان . وقوله { مختلف } اي بعض مختلف { ألوانه } وذكر الضمير تغليباً للإنسان أو نظراً إلى البعض . وقوله { كذلك } أي كاختلاف الجبال والثمرات ، وفيه ن هذه الأجناس كما أنها في أنفسها دلائل فهي باختلافها أيضاً دلائل . وحين خاطب نبيه بقوله { ألم تر } بمعنى ألم تعلم أتبعه قوله { إنما يخشى الله من عباده العلماء } كأنه قال : إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن نظر في دلائله فعرفه حق معرفته ، أو أراد أن يعرّفه كنه معرفته لأن الخشية على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله . وفي الحديث « أعلمكم بالله أشدّكم خشية له » وفائدة تقديم المفعول أن يعلم أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم ، ولو أخر المفعول كان معنى صحيحاً وهو أنهم لا يخشون أحداً إلا الله إلا أن ذلك غير مراد ههنا . وعن عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة قرءا برفع الله ونصب العلماء فتكون الخشية مستعارة للتعظيم اي لا يعظم الله ولا يجل من الرجال إلا العلماء به . ثم بين السبب الباعث على الخشية بقوله { إن الله عزيز غفور } فالعزة توجب الخوف من أليم عقابه والمغفرة توجب الطمع في نعيمه وثوابه ، وفيه أن خوف المؤمن ينبغي أن يكون مخلوطاً برجائه . ثم مدح العالمين العاملين بقوله { إن الذين يتلون } الآية . قال أهل التحقيق : قوله { إنما يخشى الله } إشارة إلى عمل القلب ، وقوله { إن الذين يتلون } أي يداومون على التلاوة إشارة إلى عمل اللسان . وقوله { وأقاموا الصلاة } إشارة إلى عمل الجوارح ، والكل أقسام التعظيم لأمر الله .
ثم اشار إلى الشفقة على خلق الله بقوله { وأنفقوا مما رزقناكم } وقوله { يرجون } وهو خبر « إن » إشارة إلى الإخلاص في العقائد والأعمال أي نفقون من الأموال لا ليقال إنه كريم أو لغرض آخر بل لتجارة لا كساد فيها ولا بوار وهي طلب مرضاة الله . ؟ وقوله { ليوفيهم } متعلق ب { لن تبور } أي تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أجورهم . وجوّز جار الله أن يجعل { يرجون } في موضع الحال واللام متعلق بالأفعال المتقدّمة اي فعلوا جميع ما ذكر من التلاوة والإقامة والإنفاق لغرض التوفية . وخبر « إن » قوله { إنه غفور } لهم { شكور } لأعمالهم . وحين ذكر دلائل الوحدانية أتبعه بيان الرسالة وذكر حقيقة الكتاب المتلوّ والكتاب للجنس ف « من » للتبعيض أو هو القرآن ، و « من » للتبيين أو هو اللوح المحفوظ و « من » للابتداء وقد مرّ في البقرة أن قوله { مصدقاً } حال مؤكدة .
وفي قوله { إن الله بعباده لخبير بصير } تقرير لكونه حقاً لأن الذي يكون عالماً بالبواطن والظواهر لم يمكن أن يكون في كلامه شوب باطل . وفيه لم يختر محمداً للرسالة جزافاً وعلى سبيل الاتفاق ولكنه أعلم حيث يجعل رسالته . قوله { ثم أورثنا الكتاب } زعم جمع من المفسرين أن الكتاب للجنس بدليل قوله فيما قبل { جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر } والإيراث الإعطاء ، والمصطفون من عبيده هم الأنبياء كأنه قال : علمنا البواطن وابصرنا الظواهر فاصطفينا عباداً ثم أورثناهم الكتاب . وعلى هذا فالمراد بالظلم على النفس وضع الشيء في غير موضعه وإن كان بترك الأولى ومنه قول ابينا آدم { ربنا ظلمنا أنفسنا } [ الأعراف : 23 ] وقوله يونس { إني كنت من الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] وإذا كان الظلم بهذا المعنى جائزاً عليهم فالاقتصاد أولى . ويجوز أن يعود الضمير في قوله { فمنهم } إلى الأمة كأنه قيل : إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا ، وآتيناهم كتباً فمن قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ، ومقتصد آمن به ولم يأتِ بجميع ما أمر به ، وسابق آمن وعمل صالحاً . وقال أكثرهم : إنه القرآن والإيراث الحكم بالتوريث أو هو على عادة إخبار الله في التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه أي نريد أن نورثه . والمصطفون هم الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة كقوله { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] { وكذلك جعلناكم أمة وسطا } [ البقرة : 143 ] وعلى هذا ففي تفسير المراتب الثلاثة أقوال أحدها : الظالم الراجح السيئات ، والمقتصد المتساوي الحسنات والسيئات ، والسابق راجح الحسنات . ثانيها الظالم من ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد المتساوي ، والسابق من باطنه خير . ثالثها : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم . رابعها : عن علي رضي الله عنه : الظالم أنا ، والمقتصد أنا ، والسابق أنا . فقيل له : كيف ذاك؟ قال : أنا ظالم بمعصيتي ، ومقتصد بتوبتي ، وسابق بمحبتي . خامسها : الظالم التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه ، والمقتصد التالي العالم غير العامل ، والسابق التالي العامل سادسها : الظالم الجاهل ، والمقتصد المتعلم ، والسابق العالم . سابعها : الظالم من يحاسب فيدخل النار وهو أصحاب المشأمة ، والمقتصد من يحاسب فيدخل الجنة وهو اصحاب الميمنة ، والسابق من يدخل الجنة بغير حساب ، ثامنها : الظالم من خالف أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للتكليف في غير موضعه ، والمقتصد هو المجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك فإنه قصد الحق واجتهد ، والسابق هو الذي لم يخالف تكاليف الله بتوفيقه دليله قوله في الأخير { بإذن الله } وذلك أنه إذا وقع الخير في نفسه سبق إليه قبل تسويل النفس ، والمقتصد يقع في قلبه فتردّده النفس ، والظالم تغلبه النفس .
وبعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ، ومن جاهد نفسه فغلبته تارة غلب أخرى فهو المقتصد صاحب النفس اللوامة ، ومن قهر نفسه فهو السابق . وفي تقديم الظالم ثم المقتصد إيذان بأن المقتصدين أكثر من السابقين والظالمون أكثر الأقسام كما قال { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] { ذلك } الذي ذكر من التوفيق أو من السبق بالخيرات أو من الإيراث { هو الفضل الكبير } قال جار الله : أبدل قوله { جنات عدن } من الفضل لأنها مسببة عنه وكأنها هو . قلت : ويمكن أن يقال { جنات عدن } مبتدأ لأنها معرفة بدليل قوله { جنات عدن التي وعد الرحمن } [ مريم : 61 ] ولئن سلم أنها نكرة فليكن { يدخلونها } صفة له وخبرها { يحلون } ثم إن ضمير { يدخلون } إن عاد إلى التالين لكتاب الله أو إلى السابقين فلا إشكال؛ فالظالم يدخل النار والمقتصد يكون أمره موقوفاً كقوله { وآخرون مرجون لأمر الله } [ التوبة : 106 ] أو كقوله { وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } وإن عاد إلى الفرق الثلاث فبشرط العفو أو بشرط التوبة ، وقد يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له » وفي تقديم { جنات عدن } وبناء الكلام عليها دون أن يقول « يدخلون جنات عدن » إيذان بأن الاهتمام بشأنها أكثر فإن نظر السامع على المدخول فيه لا على نفس الدخول . وقد مرت العبارة الاصلية في سورة الحج في قوله { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات } [ الآية : 23 ] إلى قوله { حرير } [ الآية : 23 ] وتغيير العبارة في هذا المقام لمزيد هذه الفائدة والله أعلم . وفي قوله { يحلون فيها } إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيراً للدخول . وفي تحليتهم بالسوار إشارة إلى أمرين : أحدهما الترفه والتنعم ، الثاني أنهم لا يحتاجون فيها إلى عمل من الصبخ وتهيئة سائر الأسباب . قال جار الله : أي يحلون بعض أساور من ذهب كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسوّرون به غيرهم ، والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحليّ . وقيل : إن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ ، والحزن للجنس فيعم كل حزن من أحزان الدنيا والدين كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » وقد خصه جمع من المفسرين بخوف سوء العاقبة أو بحزن الآفات أو بحزن الموت أو بهمّ المعاش حتى قال بعضهم : كراء الدار والتعميم أولى . والمقامة بمعنى الإقامة والفضل التفضل . وعند المعتزلة العطاء لأن الثواب أجر مستحق واجب عندهم . والنصب التعب والمشقة التي تصيب المزاول للأمر المنتصب له . واللغوب ما يلحقه من الفتور والكلال بعد ذلك قاله جار الله .
وقال غيره : إن الذي يباشر عملاً من الأعمال لا يظهر عليه الإعياء إلا بعد أن يستريح ، فالمراد أنهم لايخرجون من الجنة إلى موضع يتعبون بسبب ذلك ثم يلحقهم الإعياء بعد الرجوع .
ثم عطف قوله { والذين كفروا } على قوله { إن الذين يتلون } وقوله { فيموتوا } جواب للنفي والتقدير لا يقضي عليهم بالموت فيستريحوا و { يصطرخون } يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة كشأن المستغيث . وفائدة قوله { غير الذي كنا نعمل } زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح ، أو المراد نعمل صالحاً غير الذي كنا نحسبه صالحاً لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون . وفيه إشارة إلى أنهم في الآخرة أيضاً ضالون لم يهدهم الله في الآخرة كما لم يهدهم في الدنيا ، ولو كانوا مهتدين لقالوا : ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظراً إلى فضلك ، ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظراً إلى عدلك ، وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة . وهذا بخلاف حال المؤمن هداه في العقبى كما هداه في الدنيا حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة ، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا { الحمد لله } وقالوا { إن ربنا لغفور } اعترافاً بتقصيرهم { شكور } إقراراً بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وأحالوا الكل إلى فضله تصريحاً بأنه لا عمل لهم بالنسبة إلى بحار نعمه . قوله { أولم نعمركم } استفهام فيه توبيخ وإفحام وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه إلا أن التوبيخ في العمر الطويل أعظم . عن النبي صلى الله عليه وسلم « العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة » وروي « من جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار » وعن مجاهد : ما بين العشرين إلى الستين . وقيل : ثماني عشرة وسبع عشرة . وقوله { وجاءكم } معطوف على المعنى كأنه قيل : قد عمرناكم وجاءكم { النذير } وهو النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : الشيب . فبين بالجملتين أن القابل موجود والفاعل حاصل ، فالعذر غير مقبول { فذوقوا } العذاب { فما للظالمين } الذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها { من نصير } نفى الأنصار والناصرين في آخر « آل عمران » وفي « الروم » ووحد ههنا كأنهم في النار قد أيسوا من كثير ممنم كانوا يتوقعون منهم النصرة إلا من نصير واحد وهو الله سبحانه . ثم كان لسائل أن يسال : ما بال الكافر يعذب ابداً وإنه ما كفر إلا اياماً معدودة فلا جرم قال { إن الله عالم غيب السموات والأرض } فكان يعلم من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده .
وذات الصدور صواحباتها من الظنون والعقائد فذو موضوع لمعنى الصحبة ، فالصدور ذات العقائد والعقائد ذات الصدور باعتبار أنها تصحبها . وحين ذكرهم بما مر من أنه سوف يوبخهم بالتعمير وإيتاء العقول وإرسال من يؤيد المعقول بالمنقول وعظهم بأنه { هو الذي جعلكم } وفقد العاطف هنا خلاف ما في آخر « الأنعام » للعدول عن خطاب أهل الآخرة إلى خطاب أهل الدنيا . وقال ههنا { خلائف في الأرض } بزيادة « في » المفيدة لتمكن المظروف في الظرف لأجل المبالغة والترقي من الأدنى إلى الأعلى كأنه قيل : أمهلتهم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلفاء الهالكين الماضين فأصبحتم بحالهم راضين { فمن كفر } بعد هذا كله { فعليه } وبال { كفره ولا يزيد الكافرين كفرهم عند ربهم إلا مقتاً } لأن الكافر السابق ممقوت واللاحق الذي أنذروه الرسول ولم ينتبه أمقت لأنه رأى عذاب من تقدّمه ولم يتنبه { ولا يزيد الكافرين كفرهم إلا خسارا } فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر . ثم وبخ أهل الشرك بقوله { قل أرأيتم } وأبدل منه { أروني } كأنه قال : أخبروني عن هؤلاء الشركاء ، أروني أيّ جزء من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه { أم لهم } مع الله { شرك في } خلق { السموات } أم معهم أو مع عابديهم كتاب من عند الله فهم على برهان من ذلك الكتاب . والإضافة في { شركائكم } لملابسة العبادة ، أو المراد كونهم شركاءهم في النار كقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] { بل إن يعد الظالمون بعضهم } وهم الرؤساء { بعضاً } وهم الأتباع { إلا غروراً } وهو قولهم { هؤلاء شفعاؤنا } [ يونس : 18 ] وحين بين عجز الأصنام أراد أن يبين كمال القدرة فقال { إن الله يمسك السموات والأرض } أي يمنعهما من { أن تزولاً } أو كراهة زوالهما عن مقرهما ومركزهما ، ولو فرض زوالهما بأمر الله فلن يمسكهما أحد من بعد زوالهما أو من بعد الله . وقيل : أراد أنهما كانتا جديرتين بأن تهدّ هدّاً لعظم كلمة الشرك كقوله { تكاد السموات يتفطرن منه } [ مريم : 90 ] يؤيد هذا الوجه قوله { إنه كان حليماً } غير معاجل بالعقوبة { غفوراً } لمن تاب من الشرك . قال المفسرون : بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا : لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوا فوالله لئن أتانا رسول لكنا أهدى . وزيف هذا النقل بأن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر فكيف اعترفوا بأن اليهود والنصارى جاءهم رسل . سلمنا لكنهم كيف عرفوا تكذيب اليهود وتحريفهم ولم يأتهم رسول ولا كتاب؟ فالوجه الصحيح في سبب النزول أنهم كانوا يقولون : لو جاءنا رسول لم ننكره وإنما ينكرون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً لأنه كاذب ، ولو صح كونه رسولاً لآمنا . وقوله { من إحدى الأمم } ليس للتفضيل بل المراد أنا نكون أهدى مما نحن عليه ونكون من إحدى الأمم كقولك : زيد من المسلمين .
أو هو للتفضيل والأمم لتعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى عليهم السلام ، أو للعموم أي أهدى من ايّ أمة تفرض ويقال فيها إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة . { فلما جاءهم نذير } هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي صح لهم نذارته بالمعجزات الباهرة { ما زادهم } هو أو مجيئه { إلا نفوراً } كأنه صار سبباً في نفارهم عن الحق عناداً وكبراً فانتصب { استكباراً } على أنه مفعول لأجله أو حل ويجوز أن يون بدلاً من { نفوراً } وقوله { ومكر } من إضافة المصدر إلى صفة معموله أصله وأن مكروا السيء أي المكر السيء ، والمكر هو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من الهّم بالقتل والإخراج وقد حاق بهم يوم بدر ، أو هو عام وعاقبة الماكر وخيمة يصل إليه جزاؤه عاجلاً أو آجلاً . عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تمكروا ولا تعينوا ماكراً فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله » وفي أمثالهم « من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكباً » . وفي قوله { بأهله } دون أن يقول « إلا بالماكر إشارة إلى أن الرضا بالمكر والإعانة عليه كهو فيندرج مصاحبه في زمرة أهل المكر . وقوله { سنة الأوّلين } من إضافة المصدر إلى المفعول . وقوله { سنة الله } من إضافته إلى الفاعل والمراد بها إنزال العذاب على أمثالهم من مكذبي الرسل ، جعل استقبالهم لذلك واستعجالهم إياه انتظاراً له منهم . والتبديل تغيير الصورة مع بقاء المادة ، والتحويل نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر . خص هذه السورة بالجمع بين الوصفين لأن كثيراً من أحوال الكفرة جاءت ههنا مثناة كقوله { ولا يزيد الكافرين } إلى قوله { إلا خساراً } وكقوله { إلا نفوراً استكباراً في الأرض ومكر السيء } ويحتمل أن يريد بسنة الأوّلين استمرارهم على الإنكار كأنه قال : أنتم تريدون الإتيان بسنة الأوّلين والله يأتي بسنة لا تبدل . العذاب المعلوم بنوع آخر ولا تحوّله عن مستحقيه إلى من لا يستحقه . ثم أمرهم بالسير وذكرهم ما رأوه في مسايرهم ومتاجرهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الهالكين الأقدمين مع وفور قوّتهم وكثرة شوكتهم . ثم بين كمال علمه ونهاية قدرته على اتصال أصناف الاستحقاقات بقوله { وما كان الله ليعجزه } أي ليسبقه ويفوته شيء . ثم ختم السورة بما يدل على غاية حلمه وهو أنه لا يؤاخذ الناس بكل جرم { إلى أجل مسمى } هو القيامة وهو يومئذ أعلم بأحوالهم علماً عيانياً فيجزي كلاً بحسب علمه ، وقد مر مثل الآية في سورة النحل . وقيل : الأجل هو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو حين يجتمع الناس على الضلال والله أعلم .
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
القراآت : { يس } بإظهار النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن ابي غالب . وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد بالإمالة . { تنزيل } بالنصب : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . والباقون : بالرفع { سدّاً } بفتح السين في الحرفين : حمزة وعلي وخلف وحفص وابو زيد { فعززنا } بالتخفيف : أبو بكر وحماد والمفضل { آين } بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد . { أئن } بهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر ، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل { أين } على وزن « كيف » { آن } بسكون النون وبالمد : يزيد مثل { آنذرتهم } { ذكرتم } بالتخفيف : زيد { ومالي } بسكون الياء : حمزة ويعقوب { ينقذوني } في الحالين بالياء : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل { إني إذا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { إني آمنت } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { إلا صيحة واحدة } بالرفع وكذلك ما بعدها : يزيد { لما } بالتشديد : ابن عامر وحمزة وعاصم { الميتة } بالتشديد : أبو جعفر ونافع { عملت } بغير هاء الضمير : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل { لمستقر } بكسر القاف : زيد عن يعقوب { والقمر } بالرفع على الابتداء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس . الآخرون : بالنصب إضماراً على شريطة التفسير { ذرياتهم } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب .
الوقوف : { يس } 5 كوفي { الحكيم } 5 لا لجواب القسم { المرسلين } 5 لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثانٍ لمعنى الفعل في { المرسلين } أي أرسلت على صراط { مستقيم } 5 ط على القراءتين فمن نصب فمعناه نزل تنزيل أو أعني تنزيل ومن رفع فالتقدير هذا تنزيل { الرحيم } 5 لا لتعلق لام كي بمعنى التنزيل والإرسال { غافلون } 5 { لا يؤمنون } 5 { مقمحون } 5 { لا يبصرون } 5 { لا يؤمنون } 5 { بالغيب } 5 لانقطاع النظم مع دخول الفاء { كريم } 5 { وآثارهم } ط { مبين } 5 { القرية } 5 لأن « إذ » ليس ظرفاً { لاضرب } بل التقدير وإذكر إذ جاءها . وجوّز في الكشاف أن يكون « إذ » بدلاً من { أصحاب القرية } فلا وقف . { المرسلون } 5 ج لاحتمال أن يكون « إذ » بدلاً أو معمولاً لعامل آخر مضمر { مرسلون } 5 { مثلنا } لا { من شيء } لا لاتحاد المقول فيهما { تكذبون } 5 { لمرسلون } 5ج { المبين } 5 { بكم } ج للإبتداء بما في معنى القسم مع اتحاد المقول { أليم } 5 { معكم } ط { ذكرتم } ط { مسرفون } 5 { المرسلين } 5 لأن { اتبعوا } بدل من الأوّل { مهتدون } 5 { ترجعون } 5 { ولا ينقذون } 5 ج للابتداء بان مع تعلق « إذا » بما قبلها أي أني إذا اتخذت آلهة لفي ضلال { مبين } 5 { فاسمعون } 5 ط لأن التقدير فلم يسمعوا قوله فقتلوه ثم قيل له ادخل { الجنة } ط { يعلمون } 5 لا لتعلق الباء .