كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
والسؤال المشهور في الآية هو أن المعلق بكلمة أن على الشيء يفهم منه عدمه عند عدم ذلك الشيء فتدل الآية على جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن . والجواب بعد تسليم أن مفهوم الخطاب حجة هو أن الإكراه مع عدم غرادة التحصن والتعفف مما لا يجتمعان ، فهذا المفهوم قد خرج عن كونه دليلاً لامتناعه في ذاته . وقد يقال : إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخكاب كما مر في قوله { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } [ النساء : 101 ] وقيل : « إن » بمعنى « إذ » لأن سبب النزول وارد على ذلك . قال جار الله : أوثرت كلمة « أن » على « إذ » إيذاناً بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من قبيل الشاذ والنادر . وللآية مفهوم آخر وهو أن للسادة إكراههن على النكاح وليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها . و { عرض الحياة الدنيا } كسبهن وأولادهن { ومن يكرههن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } لهم على الإطلاق أو بشرط التوبة على أصل الأشاعرة والمعتزلة ، أو غفور لهن لأن الإكراه قد لا يكون على حد المعتبر في الشرع من التخويف الشديد فتكون آثمة حينئذ . وحين فرغ من الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث : ألأولى الآيات المبينات أي الموضحات أو الواضحات في معاني الحدود والأحكام وغيرها ولا سيما الآيات التي ثبتت في هذه السورة . الثانية كونه مثلاً من الذين خلوا أي قصة عجيبة من قصصهم فإن العجب في قصة عائشة ليس باقل من العجب في قصة يوسف ومريم وماتهما به . وعن الضحاك أنه أراد بالمثل شبه ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود . وعن مقاتل : اراد شبيه ما حل بهم من العقاب إذا عصوا . الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة .
التأويل : لا تدخلوا بيوت عالم القرار التي هي غير بيوتكم من دار القرار حتى تتعرفوا أحوالها { وتسلموا على أهلها } سلام توديع ومتاركة { فإن لم تجدوا فيها أحداً } فإن صرتم بحيث فتنتم عن حظوظ الدنيا وشهواتها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بالتصرف فيها بالحق للحق { وإن قيل لكم ارجعوا } بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { فارجعوا } ثم أشار إلى أن التصرف في الدنيا لأجل البلاغ وبحسب الضرورة جائز إذا لم تكن النفس تطمئن إليها فقال { ليس عليكم جناح } الاية . ثم أمر بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا ، وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة ، بصر السر عن الدرجات والقربات ، وبصر الروح عن الالتفات غلى ما سوى الله ، وبصر الهمة عن العلل بأن لا يرى نفسه أهلاً لشهود الحق تنزيهاً له وإجلالاً ، ولهذا أمر بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه .
ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال تنبيهاً على أن النساء بالصورة قد يكن رجالاً في المعنى . ثم نهى عن إظهار ما زين الله به سرائرهم وأحوالهم إلا ماظهر على صفحات أحوالهم من غير تكلف منهم . ثم اباح لهم إظهار بعض الأسرار إلى شيوخهن أو إخوانهن في الدين والحال ، أو المريدين الذين هم تحت تربيتهم وتصرفهم بمنزلة النساء والمماليك ومن لا خبر عندهم من عالم المعنى كالبله والأطفال ، ففيه نفثة مصدور من غير ضرب . { وتوبوا إلى الله جميعاً } فإن حسنات البرار سيئات المقربين . فتوبة المبتدئ من الحرام وتوبة المتسوط من الحلال وتوبة المنتهي مما سوى الله { وأنكحوا الأيامى } فيه أمر بطلب شيخ كامل يودع في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الأعلى وهو الولادة الثانية المستديعة للولوج في ملكوت السماء والأرض ، وقد اشار إلى إفاضة هذا الاستعداد بقوله { إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله وليستعفف } ليحفظ الذين لا يجدون شيخاً في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حتى يدلهم الله على شيخ كامل كما دل موسى على الخضر عليه السلام ، أو يخصهم بجذبة { الله يجتبي } [ الشورى : 13 ] { والذين يبتغون } فيه أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الصلاح ووجب أن يؤتى بعض ما خص الله الشيخ به من المواهب { ولا تكرهوا } فيه أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا وإن كان بالحق لم تكره عليه فإن أصحاب الخلوة غير أرباب الجلوة .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
القراآت : { نور السموات } على الفعل : يزيد من طريق ابن أبي عبلة وابن مشيا { كمشكاة } ممالة : أبو عمرو عن الكسائي { دريء } بكسرتين وبالهمز : أبو عمرو وعلي والمفضل مثله بضم الدال : حمزة وأبو بكر وحماد والخزاز . الباقون بضم الدال وتشديد الياء { توقد } بضم التاء وفتح القاف : حمزة وعلي وخلف وابو بكر وحماد مثله ولكن بياء الغيبة على أن الضمير للمصباح : ابن عامر ونافع وحفص وابو زيد عن المفضل . الباقون وجبلة { توقد } بالفتحات وتشديد القاف { يسبح } بفتح الباء : ابن عامر وأبو بكر وحماد : { سحاب } { ظلمات } على الإضافة : البزي { سحاب } بالتنوين { ظلمات } بالكسر على أنه نصب على الحال : القواس وابن فليح . الباقون بالرفع والتنوين فيهما . { ينزل } من الإنزال : ابن كثير وابو عمرو وسهل ويعقوب { يذهب } من الإذهاب يزيد على أن الباء زائدة { خالق كل شيء } على الإضافة : حمزة وعلي وخلف . الآخرون { خلق } على لفظ الماضي { كل } منصوباً .
الوقوف : { والأرض } ط { مصباح } ط { زجاجة } ط { غربية } ط لأن ما بعدها صفة شجرة { نار } ط { نور } ط { يشاء } ط { للناس } ط { عليم } 5 لا بناء على أن الظرف يتعلق بما قبله وهو { كمكشاة } أي مثل مشكاة في بعض بيوت الله عز وجل والأولى تعلقه ب { يسبح } وفيها تكرار كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف وهو سبحوا اسمه لا لأن ما بعده صفة بيوت أو لأن الظرف يتعلق ب { يسبح } { والآصال } ط لمن قرأ { يسبح } بفتح الباء كأنه قيل : من يسبح؟ فقيل : { رجال } أي يسبحه رجال . ومن قرأ بالكسر لم يقف لأنه فاعل الفعل الظاهر { رجال } لا لأن ما بعده صفة { الزكاة } لا لأن ما بعده أيضاً صفة { والأبصار } 5 لا لتعلق اللام . أو حاتم يقف ويجعل اللام لام القسم على تقدير ليجزين قال : فلما سقطت النون انكسرت اللام . { من فضله } ط { حساب } 5 { ماء } ط { حسابه } ط { الحساب } 5 لا للعطف { سحاب } ط لمن قرأ { ظلمات } بالرفع ولم يجعلها بدلاً { فوق بعض } ط { يراها } ط { من نور } 5 { صافات } ط { وتسبيحه } ط { يفعلون } 5 { والأرض } ج فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين { المصير } 5 { من خلاله } ج لما قلنا { عمن يشاء } ط { بالأبصار } 5 ط { والأنهار } ط { الأبصار } ج { من ماء } ج للفاء مع التفصيل { بطنه } ج { رجلين } ج لمثل ما قلنا { اربع } ط { ما يشاء } ط { قدير } 5 { مبينات } ط { مستقيم } 5 { ذلك } ط { بالمؤمنين } 5 { معرضون } 5 { مذعنين } 5 ط { ورسوله } ط { الظالمون } 5 .
التفسير : أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور ، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة .
أما الأول فهو قوله { الله نور السموات والأرض } واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يجاذيها من الأجرام ، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلهاً لأنه إن كان عرضاً فظاهر ، وإن كان جسماً فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا متنقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار ، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوهاً : الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين ، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السموات والأرض لأنه قال { مثل نوره } { ويهدي الله لنوره } والمضاف مغاير للمضاف إليه . فنظير الاية قولك « زيد كرم وجود » للمبالغة . الثاني أن معناه منور السموات كقراءة من قرأ { نور } بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق منا قال في آخر الآية { يهدي الله لنورهه من يشاء } شبهه بالنور في ظهوره وبيانه . وأضافه إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض ، أو على حذف المضاف أي نور أهل السموات والأرض وقيل : نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وابي العالية . وقيل : هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيراً حسناً ، فهو لهم كالنور الذي يهتدي به في المضايق والمزالق . وهذا القول اختيار الأصم والزجاج . وقيل : هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح . وقد يعبر بالنور عن النظام . يقال : ما أرى لهذه الأمور نوراً . الثالث : ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار : أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور ، إلا هو بيانه أن للإنسان بصراً يدرك به النور المحسوس الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة ، وبصيرة هي القوة العاقلة ، ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تردك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين ، وأما لقوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ ، والإدراك الحسي غير منتج لأنه لا يصير سبباً لإحساس آخر ، والإدراك العقلي يصير سبباً لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة ، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلاً بعد سماع الصوت الشديد ، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها ، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن ، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن ، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد ، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة ، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أنه منزه عن القرب والبعد والجهة ، والحس لا يدرك من الشياء إلا ظواهرها ، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها ، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات ، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى .
وإدراك العقل قد يكون مقدماً على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي ، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نوراً فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نوراً ، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلاً ، فنور البصيرة ايضاً يحتاج في إدراكه إلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نوراً { والنور الذي أنزلنا } [ التغابن : 8 ] والنبي نوراً { وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 46 ] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام . ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله { علمه شديد القوى } [ النجم : 5 ] { قل نزله روح القدس من ربك } [ النحل : 102 ] فكل الأنوار تنتهي إلى مالا نور أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه . والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مراراً وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات . وأيضاً الوجود نور والعدم ظلمة ، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله ، فهو نور الأنوار . وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار ، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره ، واحتجب عنهم بإشراق نوره ، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم « إن الله سبعين حجاباً من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره » وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون الفاً . قال العلماء : الحجب ثلاثة أقسام : حجب ظلمانية محضة ، وحجب ممزوجة من نور وظلمة ، وحجب نورانية صرفة ، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع . وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر ، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى ، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة ، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات ، فعرف منهذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا انحصار للسلوب والإضافات ، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير .
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء : المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير . وقيل : هي بلغة الحبشة ، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي ، ومثله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة . وقال الضحاك : هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر اي ابيض متلألئ ، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت ، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه . وقال أبو عبيد : إن ضممت الدال وجب أن لا تهمزة لأنه ليس في كلام العرب « فعيل » . ومن همزة من القراء فإنما أراد « فعول » على سبوح فاستثقل فرد بعضه غلى الكسر . والدراري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول . ومعنى { من شجرة مباركة } أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون . عن النبي صلى الله عليه وسلم « عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور » وقيل : سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين ، أو بارك فيها سبعون نبياً منهم إبراهيم عليه السلام فقوله { زيتونة } بدل من { شجرة } ومعنى { لا شرقية ولا غربية } أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه ، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية . وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة ، وقيل : أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب . وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة ، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج : المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط ، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعاً لأنها في موضع مكشوف ، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت . ومنهم من قال : لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة ، قال صلى الله عليه وسلم
« لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى » ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار ، فإذا مسته النار ازداد ضوءاً على ضوء .
فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير ، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول : إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلى أنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء ، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية ، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء . وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهان التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل ، وهذا المقصود لا يحصل من ضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلاً . والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح . زعم بعضهم أن في الكلام قلباً والمراد كمصباح في مكشاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب ، ولهذا قال جار الله : أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة ، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية ، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نوراً . ومنها كون المصباح متقداً بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس . ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كما نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها . وأما الإمام الغزالي رضي الله عنه فإنه يقول : المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية . فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان ، وأوفق مثال لها من عالم الأجسام المشكاة لأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم . وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزوناً عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه ، وأنت لا تجد شيئاً في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة . كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ ، ولنه إذا صفي وهذب صار موازياً للمعاني العقلية ومؤدياً لأنوارها ، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك ، وبالقمر على الوزير ، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح . وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجاً .
وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي مالمقدمة للعقل قيل : إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح . ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة ، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون ، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان . وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهى ثمرته غلى حد محدود أولى أن يسمى مباركاً . وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها { لا شرقية ولا غربية } وخامسها القوة القدسية النبوية التي { يكاد زيها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور } .
وأما الشيخ الرئيس أو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة . فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض ، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات . ثم إن كان الانتقال ضعيفاً فهي الشجرة وتسمى فكراً وإن كان قوياً فهي الزيت ويسمى حدساً ، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي { يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور } ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلاً بالفعل ، وغياته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلاً مستفاداً . أما الأول فلأن الملكة نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر ، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل . وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء ، وعبر عنه في الآية بالنار . وعن مقاتل أنه قال { مثل نوره } أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله ، والزجاجة نظير جسد محمد ، واشجرة النبوة والرسالة . وقيل : المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام ، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ { مثل نور من آمن به } ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعاً للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته؟ فقالوا : الله ورسوله أعلم . فقال : على وجه السموات { الله نور السموات والأرض } وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين . وقيل : المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه ، والمصباح ما في قلبه من الدين ، والشجرة إبراهيم عليه السلام ، { ويوقد من شجرة } كقوله
{ فاتبعوا ملة إبراهيم } [ آل عمران : 95 ] ومعنى { لا شرقية ولا غربية } أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى { يكاد زيتها يضيء } أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب . وقال الضحاك : يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة :
لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر
وقال يحيى بن سلام : قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من قوله صلى الله عليه وسلم « اتقوا فراسة المؤمن فإِنه ينظر بنور الله » وقيل : يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نوراً على نور . قال ابي بن كعب : المؤمن بين اربع خلال : إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل . فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي ين أموات يتقلب في خمس من النور : كلامه نور ، وعلمه نور ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة . قال الربيع : سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال : سره وعلانيته .
قالت الأشاعرة في قوله { يهدي الله لنوره من يشاء } إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه ، وقالت المعتزلة : اراد يهدي الله لطريق الجنة ، أو أراد بقوله { من يشاء } الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف : معناه يوفق . لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف ، وجانب جانب المراء والاعتساف ، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله { ويضرب الله الأمثال للناس } يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا : إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة .
ثم زاد التأكيد بقوله { والله بكل شيء عليم } ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر . قوله { في بيوت } اعترض أبومسلم على قول من قال إنه يتعلق ب { كمشكاة } و { بتوقد } لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة . وأيضاً الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله { في بيوت } أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة ، وكذا لو جعل { في بيوت } صفة { مصباح } و { زجاجة } أو { كوكب } وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالباً في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل .
وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل : « الذي يصلح لخدمتي رجل » يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد . وذهب أبو مسلم إلا أنه راجع إلى قوله { ومثلاً من الذين خلوا } اي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة . واعترض عليه بتفكيك النظم إذ ذاك وبأن الذين خلوا هم المكذبون . والأكثرون على أن البيوت هي المساجد ، والإذن الأمر ، والرفع التعظيم أو البناء . وعن عكرمة هي البيوت كلها ، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر . وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه . وقيل : لا يتكلم فيها بما لا ينبغي . والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به . وقيل : الصلوات الخمس وقيل : صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما . وعن ابن عباس : إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية . والأولى العموم . قيل : خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء . ويحتمل أن يقال : لأنهم أصل والنساء تبع . واختلفوا في { لا تلهيهم تجارة } فقيل : نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله : _@_
ولا ترى الضب فيها ينجحر ... وقيل : أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين . وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها شيء . وما الفرق بين التجارة والبيع؟ قيل : الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء ، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون ، فالبيع أدخل في الالهاء . وقيل : اراد بالتجارة الشراء ، إطلاقاً لاسم الجنس على النوع . وقال الفراء : التجارة لأهل الجلب يقال : تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده . وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل : هو الصلاة . ومن هنا قال ابن عباس : أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها ، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له . والتاء في { إقامة } عوض من العين الساقطة للإعلال ، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت . ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة . وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع ، وتقلب الأبصار شخوصها ، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها ، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة إلى اليقين والمعاينة . وقال الضحاك : إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والبصار تصير زرقاً . وقال الجبائي : يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما انضج بالنار ، ومرة بهيئة ما أحرق ، وقيل : إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة إلى الخوف من الهلاك ، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن اي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل .
قوله { ليجزيهم } متعلق بما قبله لفظاً أو معنى يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر إلى سبعمائة وأكثر . وقيل : أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها . قال مقاتل : إنما ذكر الأحسن تنبيهاً على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي : أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال . وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة . ومعنى { ويزيدهم من فضله } كقوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] وقوله { والله يرزق من يشاء بغير حساب } قد مر تفسيره في « البقرة » . وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح وفي الآخرة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم ، أتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات ، وضرب لكل من حاليه مثلاً ، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله { والذين كفروا أعمالهم كسراب } قال الأزهري : هو ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبهاً بالماء الجاري كأنه يسرب على وجه الأرض أي يذهب . وأما الآل فهو ما يتراءى في أول النهار . وظاهر كلام الخليل أنه لم يفرق بينهما . والقيعة بمعنى اللقاع وهو المستوى من الأرض . وقال الفراء : هي جمع قاع كجيرة في جار . والظمآن الشديد العطش ، ووجه التشبيه أن الكافر يأتي ببعض أعمال البر ويعتقد ثواباً عليه فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب عظمت حسرته وتناهى غمه وحيرته فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى ما يحييه ويبقيه ، فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به رجاءً للحياة ، فإذا جاءه ولم يجد شيئاً عظم غمه وطال حزنه ، قال مجاهد : السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته وفراقه الدنيا . وههنا سؤال وهو أنه كيف قال { جاءه } فأثبت أنه شيء لأن العدم لا يتصور المجيء إليه ثم قال { لم يجده شيئاً } فنفى كونه شيئاً؟ والجواب أراد شيئاً نافعاً كما يقال « فلان ما عمل شيئاً » وإن كان قد اجتهد . أو المراد جاء موضع السراب فلم يجد هناك شيئاً وأراد أنه تخيل أولاً ضباباً وهباء شبه الماء وذلك بإعانة من شعاع الشمس فإذا قرب منه رق وانتثر وصار هواء وهذا قول الحمكماء . قوله { ووجد الله } أي وجد عقاب الله أو زبانية الله يأخذونه فيصلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق خلاف ما يتصور من الراحة والنعيم ، قيل : نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام .
وأما المثل الآخر فهو قوله { أو كظلمات } وقد يقال معنى أو أنه شبه أعمالهم الحسنة بالسراب والقبيحة بالظلمات ، أو الأول لأعمالهم الظاهرة والثاني لعقائدهم الفاسدة وللجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر ، والظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب . وكذا الكافر له ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل قاله الحسن . وعن ابن عباس قلبه وبصره وسمعه . وقيل : قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم . والظاهر أن الجمع للتكثير ، وأن أنواع الضلالات والأباطيل اجتمعت فيه . والضمير في { أخرج } للواقع في الظلمات يدل عليه قرينة الحال . ومعنى { لم يكد يراها } لم يقرب أن يراها ، ونفي القرب من الرؤية أبلغ من نفي الرؤية نفسها وقد مر هذا البحث في البقرة في قوله { وما كادوا يفعلون } [ البقرة : 71 ] قالت الأشاعرة في قوله { ومن لم يجعل الله له نوراً } دلالة على أن الهداية بتخليق الله تعالى وبجعله جملة المعتزلة على منح الألطاف وقد مر أمثال ذلك مراراً .
ولما وصف أنوار المؤمنين وظلمات الكافرين صرح بدلائل التوحيد فقال مستفهماً على سبيل التقرير { ألم تر أن الله يسبح له } وقد مر مثله في سورة « سبحان » . والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول وقد علمه من جهة الاستدلال . ومعنى { صافات } أنهن يصففن أجنحتهن في الهواء والضمير في علم لكل أو لله عز وجل . وعلى الأول فالضمير في { صلاته وتسبيحه } إما لكل أو لله . والمعنى كل مسبح قد علم صلاته التي تليق بحاله أو صلاة الله التي كلفه إياها ، وعلى الثاني فالضمير فيهما لكل والصلاة بمعنى الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهما سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها ، والاستقصاء في حكاياتهن مذكور في خواص الحيوانات ولا سيما في كتاب عجائب المخلوقات . ثم بين أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال { ولله ملك السموات } الآية . ثم ذكر دليلاً آخر من الآثار العلوية قائلاً { الم تر أن الله يزجي سحاباً } أي يسوقه بالرياح { ثم يؤلف بينه } اي بين أجزائه أي يجمع قطع السحاب فيجعلها سحاباً واحداً متراكماً ساداً للأفق { فترى الودق } المطر أو القطر { يخرج من خلاله } من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل قوله { من السماء من جبال فيها من برد } الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض على أن قوله { من جبال } مفعول { ينزل } والثالثة للبيان أو الأوليان للبيان والثالثة للتبعيض ، ومعناه أنه ينزل بعض البرد من السماء من جبال فيها وقد مر في أول البقرة في قوله
{ أو كصيب من السماء } [ البقرة : 19 ] معنى البرد وأنه بخار يجمد بعدما استحال قطرات ماء . قال عامة المفسرين : إن في السماء جبالاً من برد خللقها الله فيها كما خلق في الأرض جبالاً من حجر . وقال أهل المعنى : السماء ههنا هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس ، والمراد بالجبال الكثرة كما يقال « فلان يملك جبالاً من ذهب » ثم بين بقوله { فيصيب به } إلى آخر الاية . أنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها كيف يشاء ، أو يهلك بالبرد من يشاء أن يعذبه به أبصارهم ليعتبروا ويحذروا ، أو يعاقب بين الليل والنهار ويخالف بينهما في الطول والقصر وفي كل ذلك معتبر لذوي الأبصار ، والذين يترقون من المصنوع إلى الصانع ويستدلون بالمحسوس على الغائب منتقلين من ظلمة التقليد إلى نور البرهان . ثم ذكر دليلاً ثالثاً من عجائب خلق الحيوان فقال { والله خلق كل دابة من ماء } قال علماء المعاني : التنكير في { ماء } للتنويع أي خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة ، أو خلق الكل من ماء مخصوص وهو النطفة . وعلى التقديرين الوحدة نوعية إلا أن شموله على التقدير الثاني أكثر . وإنما عرّف في قوله { وجعلنا من الماء كل شيء حي } [ الأنبياء : 30 ] لأنه قصد هناك معنى آخر وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء . وعن القفال أن قوله { من ماء } صفة { دابة } لا صلة خلق . والمعنى أن كل دابة متولدة من ماء فهي مخلوقة لله تعالى واحترز بها عن الاعتراض الذي ذكرناه في سورة الأنبياء وهو أن بعض الأحياء لم يخلقهم الله من الماء وقيل : نزل الغالب منزلة الكل أو أراد بالدابة من يدب على وجه الأرض ومسكنهم هناك وكل منها إما متولد من النطفة وإما بحيث لا يعيش إلا بالماء . ثم بين أن اصلهم وإن كان واحداً إلا أن خلقتهم مختلفة { فمنهم من يمشي على بطنه } وقدم هذا القسم لغرابته ومنهم كذا ومنهم كذا ، وفي ضمير العقلاء وإطلاق لفظة من تغليب للعقلاء . وسمي الزحف على البطن مشياً على سبيل المشاكلة أو الاستعارة نظيره قوله « فلان لا يتمشى له أمر » وقد يوجد من الدواب ذوات ارجل أزيد من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلاوات بل مثل الحيوان الذي له اربع وأربعون رجلاً المسمى « دخال الأذن » . وإنما لم يذكرها سبحانه لأنها نادرة بالنسبة إلى سائرهن . ومن العقلاء من زعم أن أمثال هذه الدواب إنما يعتمد وقت المشي على اربع فقط .
وقيل : إن في قوله تعالى { يخلق الله ما يشاء } تنبيهاً على سائر الأقسام ، ولا ريب أن اختلاف الحيوانات لا يكاد ينحصر ، إلا أنا نذكر طرفاً من ذلك تذكيراً لعجائب قدرة الله في خلقه فنقول : الاختلاف بين الحيوانات إما في جوهر العضو كالفرس له ذنب دون الإنسان وإن كانت أجزاء الذنب من العظم والعصب واللحم والجلد والشعر حاصلة في غير هذا العضو كالسلحفاة فله صدف يحيط به ليس للإنسان ، وكذا السمك فله فلوس والقنفيذ له شوك ، وإما في كيفية العضو كاختلاف الألوان والأشكال والصلابة واللبن ، وإما في الوضع كما أن يدي الفيل أقرب إلى الصدر من يدي الفرس ، وإما في الانفعال كما أن عين الخطاف لا تتحير في الضوء وعين الخفاش تتحير ، وإما في سائر الأحوال وذلك أن من الحيوانات برياً وبحرياً أو برياً فقط أو بحرياً فقط ، ومن البحري ما يعتمد في السباحة على جناحه كالسمك ، ومنها ما يعتمد فيها على أرجله كالضفادع ، وكل من البري والبحري له أماكن مختلفة من البر والبحر .
فمنها ما له مأوى معلوم كالروابي أو الحفر أو الشقوق أو الحجرة في البر أو كالقعر أو الشط أو الصخر أو الطين في البحر ، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة . ومن الحيوانات طيارة فمنها ما يسبح في الهواء فقط ، ومنها ما يسبح على وجه الماء أيضاً ، وكل طائر فإنه يمشي على رجلين وقد يصعب عليه المشي كالخطاف الكبير السود وكالخفاش ، ومنها ما جناحه جلد أو غشاء . وقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات بالحبشة يطير ، ومنها ما يختار الاجتماع كالكراكي ومنها ما يؤثر التفرد كالعقاب . وكثير من الجوارح التي تنازع على الطعم ، ومنها ما يتعايش زوجاً كالقطا والإنسان من الحيوانات الذي لا يمكنه أن يعيش وحده ، ويضاهيه النحل والنمل إلا أن النمل لا رئيس لها . ومنها آكل لحم ، ومنها لاقط حب ، ومنها آكل عشب وزهر ، ومنه النحل ، ومن الحيوانات ما هو إنسيّ كالإنسان ، وما هو إنسيّ بالمولد كالهرة والغرانيق ، أو بالقهر كالفهد . ومنه ما لا يأنس كالنمر أو يبطئ استئناسه كالأسد . ومن الحيوان ما لا صوت له ومنه ما له صوت ، وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتاً حتى الإنسان . ومنه ماله شبق يسفد كل وقت كالديك ، ومنه عفيف له وقت معين ، ومنه ولود ومنه بيوض ، وكل ولود أذون ، وكل صموخ بيوض سوى الخفاش . ومنه هادئ الطبع قليل الغضب كالبقر ، ومنه شديد الجهل حال الغضب كالخنزير البري ومنه حليم حمول كالإبل ، ومنه محتال مكار كالثعلب ، ومنه غضوب سفيه إلا أنه قلق متردد كالكلب ، ومنه شديد الكيس مستأنس كالقرد والفيل ، ومنه حسود تياه كالطاوس ، ومنه شديد الحفظ كالجمل والحمار لا ينسى الطريق الذي رآه . وفي قوله { إن الله على كل شيء قدير } إشارة إلى أن اختصاص كل حيوان بهذه الخواص وبأمثالها لا يكون إلا عن فاعل مختار قدير قهار .
وحين فرغ من إثبات هذه الدلائل اراد أن يبين أحوال المكلفين وأن فيهم منافقين فقدم لذلك مقدمة وهي قوله { ولقد أنزلنا آيات مبينات } وإنما فقد العاطف ههنا بخلاف قوله { ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا } [ النور : 34 ] لأن المقصود هناك هو ما سبق من التكاليف والمواعظ ، والغرض ههنا توطئة مقدمة لما يجيء عقيبه من حال أهل النفاق والوفاق . وقوله { وما أولئك } إشارة إلى الفريق المتولي . وإنما قال { بالمؤمنين } معرِّفاً لأنه اراد أنهم ليسوا بالذين عرفت صحة إيمانهم لثباتهم واستقامتهم . ويحتمل ان يكون { أولئك } إشارة إلى جميع القائلين آمنا وأطعنا وحينئذ يكون قوله { ثم يتولى فريق منهم } حكماً على بعض دفعاً للإلزام والنقض ، فإن الحكم الكلي قلما يخلو عن منع ولمثل هذا قال في الاية الثانية { إذا فريق منهم معرضون } والحاصل أنه حكم أولاً على بعضهم بالتولي ثم صرح آخراً بأن الإيمان منتفٍ عن جميعهم . ويجوز أن يراد بالفريق المتولي رؤساء النفاق . وقيل : أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين . قال جار الله : معنى { إلى الله ورسوله } إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقولك « أعجبني زيد وعكرمة » . أما سبب نزول الاية . فعن مقاتل أنها في بشر من المنافقين كما سبق في سورة النساء في قوله { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت } [ النساء : 60 ] وعن الضحاك : نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فدفع إلى علي منها ملا يصيبه الماء إلا بمشقة . فقال المغيرة : يعني أرضك فباعها منه وتقابضا . فقيل للمغيرة : أخذت سبخة لا ينالها الماء . فقال لعلي : اقبض ارضك فأبى ودعا المغيرة إلى محاكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة : أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإِنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ . قوله { يأتوا إليه } الجار صلة أتى فإنه قد يعدَّى بإلى . قال جار الله : والأحسن أن يتصل بمذعنين ليفيد الاختصاص أي لا يتحاكمون إذا عرفوا أن الحق لهم إلا إلى الرسول مسرعين في طاعته . ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه ، وهذه الأمور وإن كانت متلازمة إلا أنها متغايرة في الاعتبار فصحت القسمة . ثم بين بقوله { بل أولئك هم الظالمون } أنهم لا يخافون حيفه لأنهم عارفون أمانته ولكن الظلم مركوز في جبلتهم وأنهم لا يستطيعون الظلم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك يأبون المحاكمة إليه إذا كان الحق عليهم .
التأويل : للآية تأويلان : أحدهما من عالم الآفاق والآخر من عالم الأنفس . أما الأول فالمشكاة عالم الأجسام ، والزجاجة العرش ، والمصباح الكرسي ، والشجرة شجرة الملكوت وهي باطن عالم الأجسام ، وهي غير راقية إلى شرق الأزل والقدم ولا إلى غرب الفناء والعدم ، بل هي مخلوقة للأبد لا يعتريها الفناء { يكاد زيتها } وهو عالم الأرواح { يضيء } اي يظهر من العدم إلىعالم الصورة المتولدة بالازدواج عالم الغيب والشهادة { ولو لم تمسسه نار } ونور القدرة الآلهية وذلك لقرب طبيعتها من الوجود { نور على نور } فالأول نور الصفة الرحمانية والثاني نور العرش فهو كقوله
{ الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] وفي قوله { يهدي الله لنوره من يشاء } إشارة إلى أن فيض نور الرحمانية ينقسم على كل من يريد الله تعالى إيجاده من العرش إلى ما تحت الثرى . وأما التأويل الثاني : فالمشكاة الجسد ، والزجاجة القلب ، والمصباح السر ، والشجرة شجرة الروحانية التي خلقت للبقاء كما مر ، والزيت الروح الإنساني القابل لنور العرفان قبولاً في غاية القرب ، والنار نار التجلي والهداية في الأزل فإذا انضم إلى نور العقل صار نوراً على نور ، وإذا تنور مصباح سر من يشاء بنور القدم تنور زجاجة القلب ومشكاة الجسد ، وتخرج أشعتها من روزنة الحواس فتستضيء أرض البشرية كما قال { واشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] وهو مقام « كنت له سمعاً وبصراً » الحديث : { في بيوت } هي القلوب { أذن الله } أمر واراد { أن ترفع } درجاتها من بين سائر الأرواح والنفوس إلى أن تسع الله كما قال « وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن » يروى أنه أوحى إلى داود عليه السلام « فرغ لي بيتاً اسكن فيه » فقال : رب أنت منزه عن البيوت . فقال : فرغ لي قلبك . ولن يتأتى هذا الرفع إلا بوساطة ذكر الله فلهذا قال { ويذكر فيها اسمه } { لا تلهيهم تجارة } هي الفوز بدرجات الجنات كما قال { هل أدلكم على تجارة تنجيكم } [ الصف : 10 ] { ولا بيع } هو بيع الدنيا بالجنة كقوله { إن الله اشترى } [ التوبة : 111 ] إلى قوله { فاستبشروا ببيعكم } [ التوبة : 111 ] وفيه أن الرجولية لا تتحقق إلا إذا لم يلتفت إلى الدنيا ولا إلى الآخرة فيكون بحيث لا يتصرف فيه ما سوى الله ، وحينئذ يصلي صلاة الوصال ويفيض على المستعدين زكاة حصول نصاب الكمال { يخافون يوماً } هو يوم الفراق { تتقلب فيه القلوب والأبصار } والبصائر لأنها بيد الله يقلبها كيف يشاء { أو كظلمات في بحر لجي } هو حب الدنيا { يغشاه موج } الرياء { من فوقه موج } هو حب الجاه وطلب الرياسة { من فوقه سحاب } الشرك الخفي { إذا أخرج } يد سعيه واجتهاده { لم يكد يراها } يرى طريق خلاصة { ومن لم يجعل الله له نوراً } أي لم يصبه رشاش النور الالهي في الأزل { يزجى } سحب المعاصي المتفرقة إلى أن تتراكم فترى . والودق هو مطر التوبة { يخرج من خلاله } كما خرج من سحاب وعصى آدم مطر ثم اجتباه ربه . ينزل من سماء القلب { من جبال } من قساوة { فيها من برد } هو برد القهر { يقلب الله } ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس لأولي الأبصار أصحاب البصائر الذين يشاهدون آثار لطفه وقهره في مرآة التقليب { والله خلق } كل ذي روح { من ماء } هو روح محمد صلى الله عليه وسلم كما قال
« أول ما خلق الله روحي » { فمنهم من يمشي } أن تكون سيرته تحصيل مشتهيات بطنه { ومنهم من يمشي على رجلين } أن يضيع عمره في مشتهيات الفرج لأن الحيوان إذا قصد الوقاع يعتمد على رجلين وإن كان من ذوات الأربع { ومنهم من يمشي على أربع } هم أصحاب المناصب يركبون الدواب ألبتة { أفي قلوبهم مرض } انحراف في الفطرة { أم ارتابوا } بتشكيك أهل البدع والأهواء { أم يخافون } الحيف حين أمروا بترك اللذات العاجلة لأجل الخيرات الباقية { وإليه المآب } .
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
القراآت : { ويتقه } بكسر القاف واختلاس الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد . وأبو عمرو طريق الهاشمي . بكسر القاف وسكون الهاء على أنها للسكت : أبو عمرو غير عباس وخلاد ورجاء ويحيى وحماد وهبيرة من طريق الخراز وابن مجاهد عن ابن ذكوان . بإسكان القاف وكسر الهاء : حفص غير الخراز ووجهه أنه شبه « تقه » بكتف فخفف ، وعلى هذا فالهاء ضمير فإِن تحريك هاء السكت ضعيف . الباقون { ويتقهى } بالإشباع { فإن تولوا } بإِظهار النون وتشديد التاء : البزي وابن فليح { كما استخلف } مجهولاً : أبو بكر وعمار { وليبدلنهم } خفيفاً : ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو كبر وحماد { لا يحسبن } على الغيبة : ابن عامر وحمزة { ثلاث عورات } بالنصب : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل . الآخرون بالرفع { لبعض شأنهم } بإسكان الضاد وتشديد الشين : شجاع وأبو شعيب وحمله على الإخفاء أولى منه على الإدغام . { يرجعون } مبنياً للفاعل : عباس ويعقوب .
الوقوف : { وأطعنا } ط { المفلحون } 5 { الفائزون } 5 { ليخرجن } ط { لا تقسموا } ج لحق المحذوف مع اتحاد المقول { معروفة } ط { تعملون } 5 { الرسول } ج للشرط مع الفاء { ما حملتم } ط { تهتدوا } ط { المبين } 5 { من قبلهم } ص { أمنا } ط بناء على أن ما بعده مستأنف { شيئاً } ط { الفاسقون } 5 { ترحمون } ط { في الأرض } ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول { النار } ط { المصير } 5 { مرات } ط أي متى كذا وكذا { العشاء } قف عند من قرأ { ثلاث عورات } بالرفع أي هو ثلاث { لكم } ط { بعدهن } ط أي هو طوافون { على بعض } ص { الآيات } ط { حكيم } 5 { من قبلهم } ط { آياته } ط { حكيم } 5 ط { بزينة } ط { لهن } ط { عليم } 5 { صديقكم } ط { أشتاتاً } ط بناء على أن ما بعده استئناف حكم { طيبة } ط للعدول من المخاطبة إلى الغيبة { تعقلون } 5 { يستأذنوه } 5 { ورسوله } ط للشرط مع الفاء { لهم الله } ط { رحيم } 5 { بعضاً } ط { لو إذا } ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب { اليم } 5 { والأرض } ط { عليه } ط فصلاً بين حال وحال مع العدول من المخاطبة إلى الغيبة { بما عملوا } 5 { عليم } 5 .
التفسير : لما حكى سيرة المنافقين وما قالوه وفعلوه ، أتبعه ذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون من طريق الأخلاق . وعن الحسن أنه قرأ قول المؤمنين بالرفع والقراءة المشهورة وهي النصب أقوى . قال جار الله : لأن أولى الاسمين بكونه اسماً أوغلهما في التعريف { أن يقولوا } أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين . قلت : وذلك لاحتمال كون الإضافة فيه لفظية و { أن يقولوا } يشبه المضمر كما بينا في الأنعام في قوله { ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا } [ الآية : 23 ] فلا سبيل إلى تنكيره .
ومعنى { كان } صح واستقام أي لا ينبغي أن يكون قولهم إلا السمع والطاعة . عن ابن عباس { ومن يطع الله } في فرائضه { ورسوله } في سننه { ويخش الله } على ما مضى من ذنوبه { ويتقه } فيما يستقبل من عمره { فأولئك هم الفائزون } وهذه آية جامعة لأسباب الفوز وفقنا الله تعالى للعمل بها . ثم حكى عن المنافقين أنهم يريدون أن يؤكدوا أساس الإيمان بالأيمان الكاذبة . قال مقاتل : من حلف بالله فقد اجتهد في اليمين وكانوا يقولون : والله إن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا ، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا ، فنهوا عن هذه الأقسام لما علم من نفاقهم وشقاقهم وإضمارهم الغدر والخديعة وإلا فمن حلف على فعل البر لا يجوز أن ينهى عنه . وقوله { طاعة معروفة } مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معلومة لا شك فيها ولا نفاق أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة ، أو خبر محذوف المبتدأ أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة لا ارتياب فيها كطاعة الخلص من المؤمنين ، أو طاعتكم طاعة معروفة بأنها بالقول دون الفعل . ثم صرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب لمزيد التبكيت والعتاب . ومعنى { فإن تولوا } فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين . وما حمل الرسول هو أداء الرسالة ، وما حمل على الأمة هو الطاعة والانقياد ، والبلاغ المبين كون التبليغ مقروناً بالآيات والمعجزات أو كونه واقعاً على سبيل المجاهرة لا المداهنة . وههنا شبه إضمار والتقدير : بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون فقد وعد الله الذين آمنوا منكم أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح . وفي الوعد معنى القسم لأن وعد الله محقق الوقوع ولذلك قال في جوابه { ليستخلفنهم } أو القسم محذوف أي أقسم ليجعلنكم خلفاء في الأرض كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشأم بعد إهلاك الجبابرة . { وليمكنن } لأجلهم الدين المرتضى وهو دين الإسلام . وتمكين الدين تثبيته وإشادة قواعده ، كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه فسئموا وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا تغبرون إلا يسيراً حتى يجلس الرجل في الملأ العظيم محتبياً ليس معه حديدة ، فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وورثوا ملك الأكاسرة خزائنهم ، وهذا إخبار بالغيب فيكون معجزاً . ومحل { يعبدونني } نصب على الحال أي وعدهم ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم أو هو استئناف كأن قائلاً قال : ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال : { يعبدونني } وعلى الوجهين فقوله { لا يشركون } بدل من { يعبدونني } أو بيان لها . وفيه دليل على أن المقصود من الكل هو عبادة الله تعالى والإخلاص له . { ومن كفر } بهذه النعم الجسام وهي الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف بعد حصول ذلك أو بعدما ذكر { فأولئك هم } الكاملون في الفسق . قال أهل السنة : في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين لأن قوله { منكم } للتبعيض وذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب ، ومعلوم أن الأئمة الأربعة كانوا من أهل الإيمان والعمل الصالح ، وكانوا حاضرين وقتئذ وقد حصل لهم الاستخلاف والفتوح ، فوجب أن يكونوا مرادين من الآية .
واعترض بأن قوله { منكم } لم لا يجوز أن يكون للبيان ، ولم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرف والتوطن فيها كما في حق بني إسرائيل؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة علي عليه السلام؟ والجمع للتعظيم أو يراد هو وأولاده الأحد عشر بعده؟ وقيل : إن في قوله { ومن كفر بعد ذلك } إشارة إلى الخلفاء المتغلبين بعد الراشدين يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم « الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم تصير ملكاً عضوضاً » { وأقيموا الصلاة } معطوف على { أطيعوا } وليس ببدع أن يقع بين المعطوفين فاصلة وإن طالت ، وكررت طاعة الرسول للتأكيد .
من قرأ { لا يحسبن } على الغيبة فمفعولاه { معجزين في الأرض } أي لا يحسبن الكفرة أحداً يعجز الله في الأرض حتى يطيعوهم في مثل ذلك ، وفالعه ضمير النبي ، أو المفعول الأول محذوف لأنه هو الفاعل بعينه أي لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين والمراد بهم الذين أقسموا أو عام قوله { ومأواهم } قال جار الله : هو معطوف على ما تقدم معنى كأنه قيل : الذين كفروا لا يفوتون الله عز وجل ومأواهم النار . وحين ذكر من دلائل التوحيد وأحوال المكلفين ما ذكر تنشيطاً للاذهان وترغيباً فيما هو الغرض الأصلي من التكاليف وهو العرفان ، عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو الحكم العام في باب الاستئذان فذكره ههنا على وجه أخصر فقال { ليستأذنكم } قال القاضي : هذا الخطاب للرجال ظاهراً ولكنه من باب التغليب فيدخل فيه النساء . وقال الإمام فخر الدين الرازي : يثبت للنساء بقياس جلي لأنهن في باب حفظ العورة أشد حالاً من الرجال . وظاهر قوله { الذين ملكت أيمانكم } يشمل البالغين والصغار ، فالأمر للبالغين على الحقيقة وللصغار على وجه البيان والتأديب كما يؤمرون بالصلاة لسبع ، أو هو تكليف لنا لما فيه من المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ كقولك للرجل « ليخفك أهلك وولدك » فظاهره الأمر لهم وحقية الأمر له بفعل ما يخافون عنده . وعن ابن عباس أن المراد الصغار وليس للكبار أن ينظروا إلى مالكيهم إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه . ثم إنه هل يشكل الإماء؟ فعن ابن عمر ومجاهد لا ، وعن غيرهما نعم ، لأن الإنسان كما يكره إطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضاً إطلاع الإناث عليها . عن ابن عباس : آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ أراد امرأته ، وكان ابن عباس ينام بين جاريتين . ومن العلماء من قال : هذا الأمر للاستحباب .
ومنهم من قال للوجوب . ومن هؤلاء من قال : إنه ناسخ لقوله { لا تدخلو بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا } لأن ذلك يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال ، وهذا يدل على وجوبه في الأوقات الثلاثة فقط ، ومنه لزوم النسخ بأن الأولى في المكلفين وهذه في غير المكلفين قالوا : الذين ملكت أيمانكم يشمل البالغين . قلنا : لو سلم فلا نسخ أيضاً لأن قوله { غير بيوتكم } لا يشمل العبيد لأن الإضافة توجب الاختصاص والملكية ، والعبد لا يملك شيئاً فلا يملك البيت أمر المماليك والأطفال الذين لم يحتملوا من الأحرار وهذا معنى قوله { منكم } أن تستأذنوا ثلاث مرات في اليوم والليلة . إحداها قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع ووقت استبدال ثياب اليقظة بثياب النوم ، وثانيتها عند الظهيرة وهو نصف النهار عند اشتداد الحر وظهوره فحينئذ يضع الناس ثيابهم غالباً ، وثالثها بعد صلاة العشاء يعني الآخرة لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم . ثم بين حكمة الاستئذان في هذه الأوقات فقال { ثلاث عورات } فمن قرأ { ثلاث } بالرفع فظاهر كما مر في الوقوف ، ومن قرأ بالنصب فقد قال في الكشاف : إنه بدل من { ثلاث مرات } أي أوقات ثلاث عورات قلت : هذا بناء على أن قوله { ثلاث مرات } ظرف ويجوز أن يكون { ثلاث مرات } مصدراً بمعنى ثلاثة استئذانات ، ويكون { ثلاث عورات } تفسيراً وبياناً للأوقات الثلاثة لأنها منصوبة تقديراً . وأصل العورة الخلل ومنه الأعور المختل العين ، وأعور الفارس إذا بدا منه موضع خلل للضرب ، وأعور المكان إذا خيف فيه القطع . قال جار الله : إذا رفعت { ثلاث عورات } فمحل هذه الجملة الرفع على الوصف أي هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان ، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاماً مقرراً للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة .
ثم بين وجع العذر بقوله { طوّافون عليكم } وهم الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المداخلة والمخالطة للاستخدام ونحوه . وارتفع { بعضكم } بالإبتداء وخبره { على بعض } أو بالفاعلية أي بعضكم طائف ، أو يطوف بعضكم على بعض يدل على المحذوف طوّافون . وفي الاية دلالة على وجوب اعتبار العلل في الأحكام ما أمكن . يروى أن مدلج بن عمرو وكان غلاماً أنصارياً أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة إلى عمر ليدعوه ، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر : لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن . ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية . ثم بين حكم الأطفال والأحرار بعد البلوغ وهو أن لا يكون لهم الدخول إلا بإذن في جميع الأوقات .
ومعنى { الذين من قبلهم } الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال الذين ذكروا من قبلهم في قوله { يا ايها الذين آمنوا لا تدخلوات بيوتاً } الآية . ومتى يحكم ببلوغ الطفل؟ اتفقوا على أنه إذا احتلم كان بالغاً وأما إذا لم يحتلم فعند عامة العلماء وعليه الشافعي أنه إذا بلغ خمس عشرة سنة فهو بالغ حكماً لما روي أن ابن عمر عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزه وكان له اقل من خمس عشرة سنة ، وعرض عليه يوم الخندق وكان ابن خمس عشرة سنة فأجازه . وعن بعض السلف ويروى عن علي عليه السلام أيضاً أنه كان يعتبر القامة ويقدر بخمسة الأشبار وعليه يحمل قول الفرزدق :
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما وأدرك خمسة الأشبار
وإنبات العانة غير معتبر إلا في حق الأطفال الكفار وقد مر في أول سورة النساء . وإنما ختم هذه الآية بقوله { كذلك يبين الله لكم آياته } وقبلها وبعدها { لكم الآيات } لأنهما يشتملان على علامات يمكن الوقوف عليها وهي في الأولى الأوقات الثلاثة ، وفي الآخرة { من بيوتكم أو بيوت آبائكم } إلى آخرها ومثلهما في قوله { يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين ويبين الله لكم الآيات } [ النور : 1718 ] يعني حد الزانيين وحد القاذف . وأما بلوغ الأطفال فلم يذكر لها علامات يمكن الوقوف عليها بل تفرد سبحانه بعلم ذلك فخصها بالإضافة إلى نفسه . { والله عليم } بمصالح العباد { حكيم } في أوامره ونواهية . ثم بين حكم النساء اللواتي خرجن عن محل الفتنة والتهمة فقال و { القواعد } وهي جمع « قاعد » بغير هاء كالحائض والطالق ، وقد زعم صاحب الكشاف لها أنها جمع قاعدة بالهاء وفيه نظر لأنه من أوصاف النساء الخاصة بهن ، سميت بذلك لقعودها عن الحيض والولد لكبرها ولذلك أكد بقوله { اللاتي لا يرجون نكاحاً } أي لا يطمعن فيه لعدم من يرغب فيهن وليست من القعود بمعنى الجلوس حتى يحتاج إلى الفرق بين المذكر والمؤنث ، ولا شبهة أنه لا يحل لهن وضع كل ثيابهن لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون : المراد بالثياب ههنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار . وعن ابن عباس أنه قرأ { أن يضعن جلابيبهن } وعن السدي عن شيوخه يضعن خمرهن عن رؤوسهن ، خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع شيء من الثياب الظاهر ، وإنما أبيح وضع الثياب حال كونهن { غير متبرجات بزينة } أي غير مظهرات شيئاً من الزين الخفية المذكورة في قوله { ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا احتجن إليه . وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قوله « سفينة بارج لا غطاء عليها » .
واليرج سعة العين يرى بياضها محيطاً بسوادها لا يغيب منه شيء . واختص التبرج في الاستعمال بتكشف المرأة للرجال .
وحين ذكر الجائز عقبه بالمستحب تنبيهاً على اختيار الأفضل في كل باب فقال { وأن يستعففن خير لهن } وذلك أنهن في الجملة مظنة شهوة وفتنة وإن عرض عارض الكبر والنحول فلكل ساقطة لاقطة . وسئل بعض الظرفاء المذكورين عن حكمة تستر النساء فقال : لأنهن محل فتنة وشهوة فقيل : فعلى هذا كان ينبغي أن لا يحسن تكليف العجائز بالتستر فأجاب بأنه كان يلزم إذ ذاك مصيبتان : أحدهما عدم رؤية الحسان ، والثانية لزوم رؤية القباح . ثم ختم السورة بسائر الصور التي يعتبر فيها الإذن فقال { ليس على الأعمى حرج } نفى الحرج عن الأصناف الثلاثة ذوي العاهات ثم قال { ولا على أنفسكم أن تأكلوا } فذهب ابن زيد إلى أن المراد نفي الحرج عنهم في القعود عن الجهاد ، ثم عطف على ذلك أنه لا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة . ووجه صحة العطف التقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج . قال جار الله : مثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فقلت : ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر . وقال آخرون : كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي الآفات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها ، فخالج قلوب الكل ريبة خوفاً من أن يكون أكلاً بغير حق لقوله { ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] فقيل : لهم ليس على هؤلاء الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك . قال قتادة : كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكاننت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا . والقزازة احتراز مع القزة وهي مدح ، والكزازة ذم . وروى الزهري عن سعيد بن السمي وغيره أن المسلمين كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم ، فكانوا يتحرجون كما يحكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازياً وخلف مالك بن زيد في ماله وبيته ، فلما رجع رآه مجهوداً فقال : ما أصابك؟ قال : لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك . فقيل : ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تخرجوا عنه ، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت . قال الأكثرون : كان هؤلاء الضعفاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم فيقول الأعمى : إني لا ارى شيئاً فربما آخذ الأجود وأترك الردئ ، والأعرج يفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه ، والمريض لا يخلو من رائحة أو غيرها من اسباب الكراهة . وأيضاً كان المؤمنون يقولون الأعمى لا يبصر الطعام الجيد ولا يأله ، والأعرج لا يتمكن من الجلوس فلا يقدر على الأكل مما ينبغي ، والمريض لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الأصحاء فقيل : ليس على هؤلاء ولا عليكم في المؤاكلة حرج .
ثم إنه تعالى عدد من مواضع الأكل أحد عشر موضعاً : الأول قوله { من بيوتكم } وفيه سؤال : وهو أنه أيّ فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه من بيته؟ والجواب أراد من بيوت أزواجكم وعيالكم لأن بيت المرأة بيت الزوج قاله الفراء . وقال ابن قتيبة : اراد بيوت أولادهم ولهذا لم يذكر الأولاد في جملة الأقارب وإن الولد أقرب الأقربين لأنه بعض الرجل وحكمه حكم نفسه ، وفي الحديث « إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه » وباقي البيوت لا إشكال فيها إلى البيت العاشر وهو قوله { أو ما ملكتم مفاتحه } وفيه وجوه : أحدها قال ابن عباس وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا باس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه . وثانيها قال الضحاك : يريد الزمنى الذين يخلفون الغزاة . وثالثها قيل : أراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه . الحادي عشر قوله { أو صديقكم } ومعناه أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحداً وجمعاً كالعدو . وعن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من اصدقائه وقد استلوا سلالاً من تحت سريره فيها الخبيص واطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون ، فتهللت أسارير وجهه سروراً وضحك وقال : هكذا وجدناهم يريد أكابر الصحابة . وعن جعفر الصادق بن محمد عليه السلام : من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الإنس والثقة والانبساط بمنزلة النفس والأب والأخ والابن . قال العلماء : إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح ، وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه . احتج أبويوسف بالآية على أنه لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم وذلك أنه تعالى أباح الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذن فلا يكون ماله محرزاً منهم ، وأورد عليه أن لا يقطع إذا سرق من صديقه . فأجاب بأن السارق لاي كون صديقاً للمسروق منه . واعلم أن ظاهر الآية دل على أن إباحة الأكل من هذه المواضع لا تتوقف على الاستئذان . فعن قتادة أن الأكل مباح ولكنه يجمل . وجمهور العلماء أنكروا ذلك فقيل : كان ذلم مباحاً في صدر الإسلام ثم نسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم « لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه » ومما يدل على هذا النسخ قوله { لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] وقال أبو مسلم : هذا في الأقارب الكفرة . وفي هذه الآية إباحة ما حظر وفي قوله
{ لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله } [ المجادلة : 22 ] وقيل : إن هؤلاء القوم كانت تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فلا جرم خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق . وإذا علمنا أن الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا ، فلا حاجة إلى القول بالنسخ .
وحين نفى الحرج عنهم في نفس الأكل أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل فقال { ليس عليكم جناح أن تأكلوا } وانتصب قوله { جميعاً أو اشتاتاً } على الحال أي مجتمعين أو متفرقين . والأشتات جمع شت وهو نعت وقيل مصدر وصف به . ثم اجمع أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس على أنها نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرّجون عن الانفراد في الطعام ، فربما قعد الرجل منتظراً نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل . وقال عكرمة وأبو صالح : نزلت في قوم من الأنصار لا يأكلون إلا مع ضيفهم . وقال الكلبي : كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاماً عزلوا للأعمى طعاماً على حدة ، وكذلك الزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب . وقال آخرون : كانوا يأكلون فرادى خوفاً من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذى فرفع الله الحرج . ثم علمهم أدباً جميلاً قائلاً { فإذا دخلتم بيوتاً } أي من البيوت المذكورة لتأكلوا { فسلموا على أنفسكم } أي ابدؤا بالسلام على أهلها الذين هم منكم ديناً وقرابة وانتصب { تحية } ب { سلموا } نحو « قعدت جلوساً » ومعنى { من عند الله } أنها ثابتة من عنده مشروعة من لدنه ، أو أراد أن التحية طلب حياة للمخاطب من عند الله وكذا التسليم طلب السلامة له من عنده . ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق وتضعيف الثواب . عن أنس قال : كنت واقفاً على رأس النبي صلى الله عليه وسلم أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال : « ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت : بلى بأبي وأمي يا رسول الله . قال : متى لقيت من أمتى أحداً فسلم عليه يطل عمرك ، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك ، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين » قال العلماء : إن لم يكن في البيت أحد فليقل « السلام علينا من ربنا ، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » ومن صور الإذن قوله سبحانه { وإنما المؤمنون } الآية . والمقصود أن يبين عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه { إذا كانوا معه على أمر جامع } وهو الذي يجمع له الناس . فلما كان الأمر سبب الجمع وصف به مجازاً .
قال مجاهد : هو أمر الحرب ونحوه من الأمور التي يعم ضررها ونفعها . وقال الضحاك : هو الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة . وذلك أنه لا بد في الخطوب الجليلة من ذوي رأي وقوة يستعان بهم وبآرائهم وتجاربهم في كفايتها ، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويشعب عليه رأيه . قال الجبائي : في الآية دلالة على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لحاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان . وأجيب بأن ترك الاستئذان من أهل النفاق لا نزاع أنه كفر لأنهم تركوه استخفافاً . قال جار الله : ومما يدل على عظم هذه الجناية أنه جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه فيأذن لهم ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله ، ومع ذلك صدر الجملة بإنما وأوقع المؤمنين مبتدأ مخبراً عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين . ثم عقبه بمزيد توكيد وتشديد حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله { إن الذين يستأذنونك أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله } فجعل الاستئذان كالمصدق الصحة الإيمان بالله والرسول وفيه تعريض بحال المنافقين وتسللهم لواذاً . وفي قوله { لبعض شأنهم } دليل على أن أمر الاستئذان مضيق لا يجوز ارتكابه في كل شأن . وفي قوله { فأذن لمن شئت منهم } دلالة على أنه تعالى فوّض بعض أمر الدين إلى اجتهاد الرسول ورايه . وزعم قتادة أنها منسوخة بقوله { لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] وفي قوله { واستغفر لهم الله } وجهان : أحدهما أن هذا الاستغفار لأجل أنهم تركوا الأولى والأفضل وهو أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه ، والآخر أنه جبراً لهم على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان .
ثم حثهم على طاعة رسوله بقوله { لا تجعلوا دعاء الرسول } اي لا تقيسوا دعاءه إياكم لخطب جليل على دعاء بعضكم بعضاً ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي ، وذلك أن أمره فرض لازم وأمر غيره ليس بفرض ، وإنما هو أدب مستحن رعايته مع الأئمة والمتقدمين . هذا ما عليه الأكثرون منهم المبرد والقفال ، وعن سعيد بن جبير : لا تنادوه باسمه ولا تقولوا « يا محمد » ولكن « يا نبي الله ويا رسول الله » مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض . وقيل : اراد احذروا دعاء الرسول ربه عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره . والتسلل الانسلال والذهاب على سبيل التدرج ، واللواذ الملاوذة وهو أن يكون هذا بذاك وذاك بهذا . وانتصابه على الحال والحاصل أنهم يتسللون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة وهو استتار بعضهم ببعض . وقيل : كان يلوذ من لم يؤذن له بالذي أذن له فينطلق معه . قال مقاتل : هذا في الخطبة . وقال مجاهد : في صف القتال . وقال ابن قتيبة : نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن .
ومعنى { قد يعلم } يكثر العلم والمبالغة فيه كما مر في « البقرة » في قوله { قد نرى تقلب وجهك } [ البقرة : 144 ] يقال : خالفته عن القتال أي جبنت عنه واقدم هو وخالفته إلى القتال اي اقدمت ، وجبن هو الفتنة المحنة في الدنيا كالقتل أو الزلازل ، وسائر الأهوال والعذاب الليم هو عذاب النار . وعن جعفر بن محمد عليه السلام : الفتنة أن يسلط عليهم سلطان جائر . وقال الأصوليون : في الآية دلالة على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر فإن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والموافقة ضد المخالفة ، فإذا أخل بمقتضاه كان مخالفاً والمخالف مستحق للعقاب بالآية ، ولا نعني بالوجوب إلا هذا . واعترض عليه بأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه على الوجه الذي يقتضيه الأمر ، فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة الأمر . ومنع من أن المندوب مأمور به فإن هذا أول المسألة ، والظاهر أن الضمير في أمره للرسول ولو كان لله لم يضر لأنه لا فرق بين أمر الله وأمر رسوله ، وأمر الرسول متناول عند بعضهم للقول والفعل والطريقة كما يقال « أمر فلان مستقيم » وعلى هذا فكل ما فعله الرسول فإنه يكون واجباً علينا . ثم بين كما قدرته وعمله بقوله { ألا أن لله } الخ . تأكيد الوجوب الحذر . قال جار الله : الخطاب والغيبة في قوله { ما أنتم عليه ويوم يرجعون } كلاهما للمنافقين على طريقة الالتفات إذ الأول عام والثاني لأهل النفاق . وأقول : يحتمل أن يكون كلاهما عاماً للمنافقين . والفاء في قوله { فينبئهم } لتلازم ما قبلها وما بعدها كقولك { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] .
التأويل : { ومن يطع الله ورسوله } فيما يدعوانه إلى الحضرة بترك ما سوى الله { ويخشى } الانقطاع عن الله ويثق به عما سواه { فأولئك هم الفائزون } بالوصول والوصال وصالاً بلا انفصال وزوال { لئن أمرتهم بالخروج } عن غير الله { طاعة معروفة } بالفعل دون القول { ليستخلفنهم } ليخرجن ما في استعدادهم من خلافة الله في أرض البشرية من القوة إلى الفعل . { وليمكنن } كل صنف حمل الأمانة المودعة فيه على اختلاف مراتبهم وطباقتهم ، فمنهم حفاظ لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وللقرآن ، ومنهم علماء الأصول ، ومنهم علماء الفروع ، ومنهم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وأرباب السلوك الكاملون المكملون ، وإنهم خلفاء الله على الحقيقة وأقطاب العالم وأوتاد الأرض { وليبدلنهم من بعد خوفهم } من الشرك الخفي { أمنا يعبدونني } بالإخلاص { لا يشركون بي شيئاً } من مطالب الدنيا والآخرة { ليستأذنكم } المريدون الذين هم تحت تصرفكم { والذين لم يبلغوا } أوان الشيخوخة { ثلاث مرات } في المبادي وفي أوساط السلوك وفي نهاية أمرهم ، فإذا صلحت أحوالهم في هذه الأوقات صلح سائرها في الأغلب والله المستعان . { والقواعد } فيه إشارة إلى أن المريد إذ صار بحيث أمن منه إفشاء الأسرار وما استودع فيه من متولدات الأحوال ، فلا ضير عليه أن لا يبالغ في التستر والإخفاء من الأغيار والكتمان خير له { ليس على الأعمى حرج } قال الشيخ المحقق نجم الدين المعروف بداية رضى الله عنه : فيه إشارة إلى أن من لا يبصر إلا بالله ولا يمشي إلا بالله ولا يعلم إلا بالله فإنهم مخصوصون بالتكون بكينونة الله كما قال « كنت له سمعاً » الحديث .
فإنهم مستعدون لقبول الفيض الإلهي وهم السابقون المقربون فلا حرج في الشرع على من يكون مستعداً لهذا الكمال ، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها . وفي قوله { ولا على أنفسكم } الخ إشارة إلى أنه لا حرج على أرباب النفوس على أن يكون مأكلهم من بيوتهم أو بيوت أبناء جنسهم وهي الجنات ومراتبها كما قال { وفيها ما تشتهيه الأنفس } [ الزخرف : 71 ] وفي قوله { أو ما ملكتم مفاتحه } إشارة إلى أن درجات الجنة مساكن أهل المكاسب كما أن مقامات أهل القرب عند مليك مقتدر منازل أهل المواهب .
قوله { أو صديقكم } فيه أن درج الجنان ينالها المرء ببركة جليسه الصالح ، وقد ينعكس نور ولاية الشيخ على مرآة قلب المريد الصادق فينال به مرتبة لم يكن يصل إليها بمجرد أعماله : { ليس عليكم جناح } فيه أنه لا حرج على أهل الجنة أن تكون مآكلهم من درجة واحدة أو من درجات شتى . { فإذا دخلتم بيوتاً } أي بلغتم منزلاً من المنازل { فسلموا } أي استسلموا لأحكام الربوبية بمزيد العبودية حتى ترتقوا منها إلى منازل أعلى وأطيب { إنما المؤمنون } فيه أن المريد الصادق ينبغي أن لا يتنفس إلا بإذن شيخه فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته { أن تصيبهم فتنة } من المال أو الجاه أو قبول الخلق أو التزويج أو السفر بإذن الشيخ أو التردد غعلى أبواب الملوك ونحو ذلك ، وما العصمة إلا من واهبها وهو المستعان .
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
القراآت : { جنة نأكل } بالنون : حمزة وعلي وخلف . الباقون بالياء التحتانية { ويجعل لك } بالرفع : ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل وابن كثير . الباقون بالجزم وذلك أن الشرط إذا وقع ماضياً جاز في جزائه الرفع والجزم { يحشرهم } { فيقول } كلاهما بالياء : ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وعباس وحفص ، وقرأ ابن عامر بالنون فيهما . الباقون بالنون في الأول وبالياء في الثاني { أن يتخذ } على البناء للمفعول : زيد ويزيد { بما تقولون } بتاء الخطاب : يعقوب وعباس وحفص والسرنديبي عن قنبل . { تستطيعون } على الخطاب : حفص غير الخزاز .
الوقوف : { نذيراً } 5 لا بناء على أن ما بعده بدل من { الذي نزل } والتعليل من تمام الصلة ، ولو قدر رفعه أو نصبه على المدح جاز الوقف { تقديراً } 5 { ولا نشوراً } 5 { آخرون } ج لأجل الفاء مع اختلاف القائل أو لاحتمال أن يكون { فقد جاؤا } من قول الكفار أي جاء محمد ومن أعانه بظلم وزور { وزوراً } 5 ج للاحتمال المذكور أو لعطف المتفقتين مع عوارض وطول الكلام { وأصيلاً } 5 { والأرض } ط { رحيماً } 5 { السواق } ط { نذيراً } 5 { منها } ط { مسحوراً } 5 { سبيلاً } 5 { الأنهار } ط لمن جعل رفع يجعل على الاستئناف { قصوراً } 5 { سعيراً } 5 لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافاً { وزفيراً } 5 { ثبوراً } الأول 5 ط { كثيراً } 5 { المتقون } ط لانتهاء الاستفهام { مصيراً } 5 { خالدين } ط { مسؤولاً } 5 { السبيل } 5 { الذكر } ج لجواز أن يكون المراد وقد كانوا ولجواز أن يراد وصاروا فيتصل بقوله { بوراً } 5 { تقولون } 5 إلا لمن قرأ { تستطيعون } بتاء الخطاب { نصيراً } ج5 للشرط مع العطف { كبيراً } 5 { في السواق } ط { فتنة } ط { أتصبرون } ج لاحتمال كون الواو للحال { بصيراً } 5 .
التفسير : إنه سبحانه تكلم في هذه السورة أولاً في التوحيد لأنه أقدم وأهم ، ثم في النبوة لأنها الواسطة ، ثم في المعاد وسيختم السورة بصفات العباد المخلصين الموقنين فما أشرف هذه المطالب وما أحسن هذا الترتيب . ومعنى { تبارك } كثر خيره وزاد أو تعالى عن أوصاف الممكنات وقد مر في قوله تعالى { فتبارك الله أحسن الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] وفي وصفه نفسه بتنزيل الفرقان الفارق بين الحق والباطل أو المفرق في الإنزال بعد قوله { تبارك } دليل على أن كل البركة والخير إنما هو في القرآن ، وكانت هذه الصفة معلومة بدلائل الإعجاز فذلك صح إيقاعها صلة للذي . والضمير في { ليكون } لعبده أو للفرقان كقوله { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } والعالمون يشمل الخلائق كلهم إلا أن الإجماع دل على خروج الملائكة وما عدا الثقلين فبقي أن يكون مبعوثاً إلى الجن والإنس إلى آخر مدة التكليف . والنذير المنذر أو الإنذار كالنكير . قالت المعتزلة : لو لم يرد الإيمان من الكل لم يكن الرسول نذيراً للكل .
وعورض بنحو قوله { ولقد ذرأنا لجهنم } [ الأعراف : 179 ] والإنذار الموجب للخوف لا ينافي وصفه تعالى بالبركة والخير لأن النظر على السعادات الأخروية التي تحصل بالإنذار على فوات بعض اللذات العاجلة . ثم وصف ذاته بصفاته الأربع أولها { الذي له ملك السوات والأرض } وفيه تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وفي توابعه من البقاء وغيره . الثانية { ولم يتخذ ولداً } وفيه رد النصارى واليهود الثالثة { ولم يكن له شريك في الملك } وفيه رد على سائر المشركين من الثنوية والوثنية وأرباب الشرك الخفي ايضاً ، ولكنه صرح بهذا الأخير في الصفة الرابعة وهي قوله { وخلق كل شيء فقدره تقديراً } قال جار الله : المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثاً مراعى فيه التقدير والتسوية والتهيئة لما يصلح له ، أو المراد بالخلق الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق وهو مافيه من معنى التقدير لئلا يلزم التكرار فكأنه قيل : أوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتاً ، أو أحدثه فقدره للبقاء إلى أمد معلوم . وعندي أن الكلام محمول على القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس أي قدره في الأزل تقديراً فخلفه في وقته موافقاً لذلك التقدير . والبحث فيه بين المعتزلة والأشاعرة كما مر في قوله { الله خالق كل شيء } [ الزمر : 62 ] ثم صرح بتزييف مذاهب عبدة الأوثان قائلاً { واتخذوا } الآية . وحاصله أن إله العالم يجب أن يكون أقدر الأشياء وأشرفها لا أعجزها وأخسها وهو الجماد بل الملائكة والمسيح لأنه لا قدرة لهم على الإيجاد والتصرف في شيء إلا بإذن الله ، فتكون الآية رداً على الكل . وإنما قال في هذه السورة { من دونه } لتقدم الذكر مفرداً وفي مريم ويس { من دون الله } [ يس : 74 ومريم : 48 ] لأن ما قبلهما بلفظ الجمع تعظيماً فلن يكن بد من التصريح .
وحين فرغ من بيان التوحيد ونفي الأنداد شرع في شبهان منكري النبوة والأجوبة عنها .
فالشبهة الأولى قولهم { إن هذا إلا إفك افتراه } أرادوا أنه كذب في نفسه أو أرادوا أنه كذب في غضافته إلى الله تعالى . وقوله { وأعانه عليه قوم آخرون } نظير قوله تعالى { إنما يعلمه بشر لسان الذي } [ النحل : 103 ] وقد مر ما قيل في سبب نزوله في النحل فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { فقد جاؤا ظلماً وزوراً } اي أتوهما فانتصب بوقوع المجيء عليه . وعن الزجاج أنه انتصب بنزع الخافض اي أتوا بالظلم والزور . فالظلم هو أنهم نسبوا هذا الفعل الشنيع وهو الافتراء على الله . إلى من هو عندهم في غاية الأمانة والصدق ، والزور وهو انحرافهم عن جادة العدل والإنصاف ، فلو أنصفوا من أنفسهم لعلموا أن العربي لا يتلقن من العجمي كلاماً عربياً أعجز بفصاحته دهماءهم ، ولو استعان محمد في ذلك بغيره لأمكنهم ايضاً أن يستعينوا بغيرهم .
قال أبو مسلم : الظلم تكذيبهم الرسول والزور كذبهم عليه .
الشبهة الثانية قولهم { أنه أساطير الأولين } اي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم { اكتتبها } لنفسه كقولك « استكب الماء » أي سكبه لنفسه وأخذه وقد يظن أن في الكلام قلباً لأنه يقال « أمليت عليه فهو يكتتبها » وأجيب بأن المعنى أراد اكتتابها فهي تقرأ عليه أو كتبت له وهو أمي فهي تملى أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها ، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب . قال الضحاك : ما يملى عليه بكرة يقرأ عليكم عشية ، وما يملى عليه عشية يقرأ عليكم بكرة ، وقال جار الله { بكرة وأصيلاً } أي دائماً أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم . فأجاب عن هذه الشبهة بقوله { قل أنزله الذي يعلم السر } الآية . والمعنى أن العالم بكل سر هو الذي يقدر على الإتيان بمثل هذا الكتاب لفصاحة مبانيه وبلاغة معانيه وبراءته من التناقض والاختلاف واشتماله على الغيوب وعلى مصالح العباد في المعاش والمعاد . قال أبومسلم : أراد أنه يعلم كل سر خفي ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد والنفاق فهو يجازيكم عليه ، ولأجل هذا الوعيد ختم الآية بذكر المغفرة والرجمة فإنه لا يوصف بهما إلا القادر على العقوبة . وقيل : هو تنبيه على أنهم استحقوا بمكابرتهم العذاب العاجل ولكنه صرفه عنهم برحمته وغفرانه .
الشبهة الثالثة قولهم على سبيل الاستهانة وتصغير الشأن { ما لهذا } الزاعم أنه رسول أي ما باله { يأكل الطعام } كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد . زعموا أنه كان يجب أن يكون ملكاً مستغنياً عن الأكل والتعيش ، ثم نزلوا عن هذا المقام فطلبوا أن يكون إنساناً معه ملك يعضده ويساعده في باب الإنذار ، ثم نزلوا فاقترحوا أن يكون مستظهراً بكنز يلقى إليه من السماء حتى لا يحتاج إلى تحصيل المعاش ، ثم نزلوا فقالوا : لا أقل من أن يكون كواحد ن الدهاقين له بستان ينتفع هو أو ننتفع نحن بذلك على اختلاف القراءتين . وانتصب { فيكون } لأنه جواب « لولا » بمعنى « هلا » وحكمه حكم الاستفهام ومحل { أنزل } الرفع كما يقول : لولا ينزل ولهذا عطف عليه يلقى ويكون مرفوعين { وقال الظالمون } من وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالظلم فيما قالوا ، وهم كفار قريش النضر بن الحرث وأمثاله . والمسحور المغلوب على عقله ، والأمثال الأقوال النادرة ، والاقتراحات الغريبة المذكورة فبقوا متحيرين لا يجدون قولاً يستقرون عليه ، أو فضلوا عن الحق ولا يجدون طريقاً إليه . وقد مر مثل هذه الآية في أواسط سورة بني إسرائيل .
وحين حكى شبههم ومطاعنهم مدح نفسه بما يلجمهم ويفحمهم وهو قوله { تبارك } أي تكاثر خبر { الذي إن شاء } وهب لك في الدنيا خيراً مما قالوا : ثم فسر ذلك الخبر بقوله { جنات } عن ابن عباس : خيراً من ذلك أي مما عيروك بفقده الجنة الواحدة .
وعنه في رواية عكرمة خيراً من المشي في الأسواق لابتغاء المعاش . وفي قوله { إن شاء } دليل على أنه لا حق لأحد من العباد عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن حصول الخيرات معلق بمحض مشيئته وعنايته . وقيل : « إن » بمعنى « إذ » أي قد جعلنا لك في الآخرة وبنينا لك قصوراً . والقصر المسكن الرفيع فيحتمل أن يكون لكل جنة قصر وأن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة . وقال مجاهد : إن شاء جعل لك في الآخرة جنات وفي الدنيا قصوراً . عن طاوس عن ابن عباس قال : « بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبرائيل عنده قال جبرائيل : هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك . فلم يلبث إلا قليلاً حتى جاء الملك وسلم وقال : إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء ولم يعطها احداً قبلك ولا يعطيها أحداً بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئاً . فقال صلى الله عليه وسلم : بل يجمعها لي في الآخرة » فنزلت هذه الآية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « عرض عليّ جبرائيل عليه السلام بطحاء مكة ذهباً فقلت : بل شبعة وثلاث جوعات » وفي رواية « أشبع يوماً وأجوع ثلاثاً فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت » قوله { بل كذبوا بالساعة } عطف على ما حكى عنهم يقول : بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها إذ لا يرجون ثواباً ولا عقاباً . ويجوز أن يراد ليس ما تعلقوا به شبهة عالية في نفس المسألة بل إنما حملهم على ذلك تكذيبهم بالساعة استثقالاً للاستعداد لها . { وأعتدنا } جعلناها عدة ومعدة لهم . وقد يستدل به على أن النار مخلوقة ويحتمل أن يقال : هو كقوله { ونادى } [ الأعراف : 48 ] { وسيق } [ الزمر : 73 ] قالت الأشاعرة : البنية ليست شرطاً في الحياة وتوابعها فأجروا قوله { إذا رأتهم } على ظاهره وقالوا : لا امتناع في كون النار حية رائية مغتاظة على الكفار . والمعتزلة أوّلوا فقالوا : معنى رأتهم ظهرت لهم في قولهم « دورهم تتراءى وتتناظر » كأن بعضها يرى بعضاً على سبيل المجاز . والمعنى إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها ، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر . وقال الجبائي : ذكر النار واراد خزنتها والمراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضباً على الكفار وشهوة للانتقام منهم . قيل : التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعاً فكيف قال الله سبحانه { سمعوا لها تغيظ } وأجيب بأن المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت أي سمعوا لها صوتاً يشبه صوت المتغيظ .
قاله الزجاج وقال قطرب : علموا لها تغيظاً وسمعوا لها زفيراً كما قال الشاعر :
متقلداً سيفاً ورمحاً ... يروى أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجثو على ركبتيه ويقول : نفسي نفسي .
وحين وصف حال الكفار إذا كانوا بالبعد من جهنم وصف حالهم عندما يلقون فيها . عن ابن عباس أنه يضيق عليهم المكان كما يضيق الزج على الرمح . وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : « والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط » قال الكلبي : الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة . وقال جار الله : الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض . وجاء في الأحاديث « إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا » وقال الصوفية . : المكان الضيق قلب الكافر في صدره كقوله { يجعل صدره ضيقاً حرجاً } [ الأنعام : 125 ] ثم إن أهل جهنم مع ما هم فيه يكونون مقرنين في السلاسل والأصفاد وقد مر في آخر سورة إبراهيم . والثبور الهلاك ودعاؤه النداء بواثبوراه اي يقال يا ثبور فهذا أوانك وههنا إضمار اي يقال لهم { لا تدعوا اليوم ثبوراً واحداً } إذ هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثمة قول . ومعنى { وادعوا ثبوراً كبيراً } أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً إنما هو ثبور كثير . إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم ، أو لأنهم يجدون بسبب ذلك القول خفة فإن المعذب إذا صاح وبكى وجد بسببه راحة . قال الكبي : نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات . ثم وبخهم بقوله { قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون } أي وعدوها فحذف الرابط للعلم به وليس هذا الاستفهام كقول القائل « السكر أحلى أم الصبر » ولكن الغرض منه التقريع كلما إذا أعطى السيد عبده مالاً فتمرد وأبى واستكبر فضربه ضرباً وجيعاً ويقول على سبيل التوبيخ : هذا أطيب أم ذاك؟ والإضافة في جنة الخلد للتوضيح والتأكيد لا للتمييز فإن الجنة معلوم أن نيعمها لا ينقطع . قالت الشاعرة : في قوله { وعد } دلالة على أن الجنة إنما تستحق بحسب الوعد والفضل لا لأجل العمل . وقالت المعتزلة : في قوله { المتقون } إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بالتقوى ولذلك أكد بقوله على سبيل التخصيص بسبب تقديم الجار { كانت لهم جزاء ومصيراً } أجابت الأشاعرة بأن كونه جزاء ثبت في الأزل ولا عمل هناك . قالت المعتزلة : لا غفران لصاحب الكبيرة لأن الجنة جاءت جزاء للمتقين خاصة فلا يعطى حقهم غيرهم .
أجابت الأشاعرة بأنه لم لا يجوز أن يرضى المتقون بإدخال الله أهل العفو الجنة؟ قال جار الله : ذكر المصير مع ذكر الجزاء مدحاً للثواب مكانه كقوله { نعم الثواب وحسنت مرتفقاً } [ الكهف : 31 ] وفي قوله { لهم فيها ما يشاؤن } دلالة على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون إلا في الجنة ، وأما في الدنيا فالراحات فيها مخلوطة بالجراحات . والضمير في { كان } { لما يشاؤن } واستدلت المعتزلة بقوله { على ربك } أن ذلك واجب على الله حتى إنه لو لم يفعل استحق الذم . وأجيب بأنه واجب بحكم الوعد لقوله { وعداً مسؤلاً } كأن المكلفين سألوا بلسان الحال من حيث تحملوا المشقة الشديدة في طاعته ، أو سألوه حقيقة بقولهم { ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك } [ آل عمران : 194 ] أو سألته الملائكة في قولهم { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } [ غافر : 8 ] أو من حقه أن يسأل ويطلب لأنه حق واجب بحكم الاستحقاق أو بحسب الموعد على المؤمنين .
قوله { يوم نحشرهم } رجوع إلى قوله { واتخذوا من دونه آلهة } وظاهر قوله { وما يعبدون } أنها الصنام وظاهر قوله { أأنتم أضللتم } أنه من عبد من العقلاء كالملائكة والمسيح فلأجل هذا اختلفوا فحمله قوم ومنهم الكلبي على الأوثان ثم قالوا : لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيها الحياة والنور والنطق ، أو أراد أنهم تكلموا بلسان الحال . وقال الأكثرون : إنه عام للأصنام وللمعبودين العقلاء نظيره قوله { ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } [ سبأ : 40 ] ثم قالوا : إن لفظة « ما » قد تستعمل في العقلاء ، أو أريد به الوصف كأنه قيل : ومعبوديهم كما إذا أردت السؤال عن صفة زيد فتقول : « ما زيد » تريد أطويل أم قصير . والسائل الله وحده أو الملائكة بإذنه . وإنما قال أنتم وهم ولم يقل « أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل » ، لأن السؤال وقع عمن تولى فعل الإضلال لا عن نفس الإضلال . وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب أن يجيب المعبودين بما أجابوا به حتى يحصل لعبدتهم الإلزام والتوبيخ كما قال لعيسى { أأنت قلت للناس } [ المائدة : 116 ] وكان القياس أن يقال : ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل هداه إلى الطريق أو للطريق . { قالوا سبحانك } تعجباً مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وأنطقوا ب { سبحانك } ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون الموسومون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له ملك أو نبي أو غيرهما نداً ، أو قصدوا تنزيهه من أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفاده علم أو إيذاء من كان بريئاً من الجرم بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم .
من قرأ { أن نتخذ } بفتح النون فظاهر وهو متعدٍ إلى واحد والأصل أن نتخذ أولياء من دونك فزيدت « من » لتأكيد معنى النفي . ومن قرأ بضم النون فهو متعدٍ إلى اثنين : الأول ضمير نحن ، والثاني من أولياء . ولا تكون « من » زائدة لأنها لا تزاد في المفعول الثاني تقول : ما اتخذت من أحد ولياً ولا تقول ما أتخذت أحداً من ولي ف « من » للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء . وتنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام ، والمعنى إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا . وفي تفسير الآية على القراءة الأولى وجوه : الأول أن المعنى إذ كنا لا نرى أن نتخذ من دونك ولياً فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟ الثاني : ما كان يصح لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار . قال تعالى { فقاتلوا أولياء الشيطان } [ النساء : 76 } يريد الكفرة عن أبي مسلم : الثالث تقدير مضاف محذوف أي ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلنا . أو قالت الملائكة : أنا وهم عبيد ولا ينبغي لعبيدك أن يدعوا من دون إذنك ولياً . الرابع قالت الأصنام : لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادّعاء أنا من المعبودين . وفي الآية دلالة على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله ، والولاية المبنية على ميل النفس وشهوة الطبع مذمومة شرعاً . و { الذكر } ذكر الله والإيمان به أو القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة . قالت المعتزلة : في قوله { ولكن متعتهم } الخ . دليل بيِّن على أن الله عز وجل لا يضل عباده على الحقيقة وإلا كان جواب العبيد أن يقولوا : بل أنت أضللتهم لا أن يقولوا بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وعلى آبائهم تفضل جواد كريم ، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشر سبب الكفر ونسيان الذكر . فالحصال أنهم ضلوا بأنفسهم لا بإضلالنا . وقالت الأشاعرة : بل فيه دلالة على أن الله تعالى هو المضل حقيقة كأنهم قالوا : إلهنا أنت الذي أعطيتهم جميع مطالبهم في الدنيا حتى استغرقوا في بحر الشهوات وأعرضوا عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك . أما قوله { وكانوا قوماً بوراً } فالأكثرون على أن البور جمع بائر من البوار الهلاك كعائذ وعوذ وحائل وحول . وحكى الأخفش أنه اسم جمع يقال « رجل بور » أي فاسد هالك لا خير فيه « وامرأة بور » و « قوم بور » كما يقال « أنت بشر » و « أنتم بشر » . قالت المعتزلة : صاروا إلى الهلاك بسبب اختيارهم الضلال . وقالت الأشاعرة : أراد أنهم كانوا في اللوح المحفوظ من جملة الهالكين ولو قيل : إنه فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر صح القول بالقدر أيضاً .
قوله { فقد كذبوكم } التفات لأجل الإلزام والفاء فيه تدل على شرط مقدر كأنه قال : إن زعمتم أنهم آلهتكم فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة . أو بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا على اختلاف قراءتي الخطاب واليغبة . قال جار الله : الباء في الأول كقوله { بل كذبوا بالحق } والجار والمجرور بدل من كاف الخطاب كأنه قيل : فقد كذبوا بما تقولون . وفي الثاني كقولك « كتبت بالقلم » . { فما تستطيعون } أنتم يا كفار أو فما يستطيع آلهتكم على القراءتين صرف العذاب عنكم . وقيل : الصرف التوبة لأنها تصرف العاصي عن فعله . وقيل : الحيلة من قولهم « إنه ليتصرف » أي يحتال . ثم ذكر وعيد كل ظالم بقوله { ومن يظلم } الآية . فاستدلت المعتزلة به على وعيد الفاسق وخلوده وذلك أن الفسق ظلم لقوله { ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون } [ الحجرات : 11 ] والإنصاف أنه لا دلالة في الاية على مطلوبهم لأن « من » ليست من صيغ العموم عند بعضهم ، ولئن سلم فلعل المراد الأكثر أو أقوام بأعيانهم لقوله { منكم } ولئن سلم فلعله مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط عند المعتزلة بعدم التوبة ، ولو سلم الجميع فإذاقة العذاب لا تدل على الخلود . ثم بين بقوله { وما أرسلنا } الآية . أنه لا وجه لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام لأن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله . قال الزجاج : الجملة بعد « إلا » صفة لموصوف محذوف والمعنى : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين : إلا آكلين وماشين . وإنما حذف لأن في قوله { من المرسلين } دليلاً عليه نظيره { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي وما منا أحد . وقال الفراء : المحذوف هو الموصول والتقدير : إلا من انهم . وقال ابن الأنباري : المحذوف هو الواو بعد إلا فتكون الجملة حالاً كقوله { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] قوله { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } قال الكلبي والفراء والزجاج : إن هذا في رؤساء المشركين كأبي جهل وغيره وفي فقراء الصحابة كأنه إذا رأى الشريف الوضيع وقد اسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه دليله قوله تعالى { لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] وعن ابن عباس والحسن أنه في أصحاب البلاء والعافية يقول أحدهم : لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق والعلم والعقل والرزق والأجل وغير ذلك يؤيده ما روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم « ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة وقرأ هذا الآية »
وقال آخرون : إنه احتجاج عليهم في اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم لهم العداوة وأنواع الأذى ، وابتلى المرسل إليهم بالتكليف وبذل النفس والمال وصيرورتهم تابعين خادمين بعد أن كانوا متبوعين مخدومين . قالت الأشاعرة : في هذا الجعل إشارة إلى مذهبنا في القدر . وقال الجبائي : هذا الجعل بمعنى التعريف كما يقال فيمن بين أن فلاناً لص إنه جعله لص . قال في الكشاف : موقع { أتصبرون } بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله { ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } [ الملك : 2 ] قلت : أراد أن كلاً من الابتلاء والفتنة يستدعي التمييز فيحسن الاستفهام بعده أي بفتنكم ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أم لا ، ولعل الأظهر أن الاستفهام غير متعلق بالفتنة وإنما هو مستأنف للوعيد كقوله { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] ويؤيده قوله { وكان ربك بصيراً } عالماً بمن صبر ومن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بحسب ذلك . وقيل : في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما عيروه به من الفقر فقد جعل الأغياء فتنة للفقراء . وقيل : جعلناك فتنة لهم حين بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله ، ولو كنت غنياً صاحب كنز كما اقترحوا لم يظهر الطائع من المخلص . وقالت الصوفية : أتصبرون يا معشر الأنبياء على ما يقولون ويا معشر الأمم عما يقولون والله أعلم .
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
القراآت : { تشقق } بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل وكذلك في سورة « ق » : عاصم وحمزة وعلي وخلف وأبو عمرو . والآخرون بالتشديد للإدغام . { وننزل } من الإنزال { الملائكة } بالنصب : ابن كثير . الباقون { وينزل } ماضياً مجهولاً من التنزيل { الملائكة } بالرفع . { يا ليتني اتخذت } بفتح ياء المتكلم : ابو عمرو { قومي اتخذوا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . { وثمود } بغير تنوين في الحالين : حمزة وسهل ويعقوب وحفص . الآخرون بالتنوين للمشاكلة ، أو بتأويل الحي لا القبيلة ، أو لأنه اسم الأب الأكبر . { الريح } على التوحيد : ابن كثير { بشراً } مذكور في « الأعراف » . { ميتاً } بالتشديد : يزيد { ونسقيه } بفتح النون : المفضل والبرجمي الباقون بضمها .
الوقوف : { ربنا } ط { كبيراً } 5ط { محجوراً } 5 { منثوراً } 5 { مقيلاً } 5 { تنزيلاً } 5 { للرحمن } ط { عسيراً } 5 { سبيلاً } 5 { خليلاً } 5 { إذ جاءني } ط لأن ما بعده من أخبار الله تعالى ظاهراً ، ويحتمل أن يكون من تتمة حكاية كلام الظالم . { خذولاً } 5 { مهجوراً } 5 { المجرمين } 5 ط { ونصيراً } 5 { واحدة } ج على تقدير فرقنا إنزاله كذلك أي كما ترى لنثبت وإن وصلت وقفت على { كذلك } والتقدير جملة واحدة كذلك الكتاب المنزل وهو التوراة ، ثم اضمرت فعلاً أي فرقناه لنثبت . { ترتيلاً } 5 { تفسيراً } 5 ط لأن ما بعده مبتدأ { جهنم } لا لأن ما بعده خبر { سبيلاً } 5 { وزيراً } 5 ج للآية ولفاء العطف { بآياتنا } ط للفاء الفصيحة أي فذهبا وبلغا فعصوهما { فدمرناهم تدميراً } 5ط لأن { قوم نوح } منصوب بمحذوف أي وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم { آية } ط لأن ما بعده مستأنف { أليما } ج للآية ولاحتمال عطف { عاداً } على الضمير في { جعلناهم } واحتمال انتصابه بمحذوف أي وأهلكنا عاداً { كثيراً } 5 { الأمثال } ز فصلاً بين الأمرين المعظمين مع عطف الجملتين المتفقتين { تتبيراً } 5 { السوء } { يرونها } لا للعطف مع الإضراب . { نشوراً } 5 { هزواً } ط لحق المحذوف أي يقولون أهذا الذي { رسولاً } 5 { عليها } ط لانتهاء مقولهم { سبيلاً } 5 { هواه } ط { وكيلاً } 5 لا للعطف { يعقلون } 5 ج لابتداء النفي { سبيلاً } 5 { الظل } ج لانتهاء الاستفهام إلىلشرط مع اتحاد المقصود { ساكناً } ج للعدول مع العطف { دليلاً } 5 { يسيراً } 5 { نشوراً } 5 { رحمته } ج للعدول { طهوراً } 5 ج لتعلق اللام { كثيراً } 5 { ليذكروا } ز والوصل أولى للفاء { كفوراً } 5 .
التفسير : هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة وإنهم في قول الكلبي أبو جهل والوليد وأضرابهما ، وتقريرها أن الحكيم لا بد أن يختار في مقصده طريقاً يكون أسهل إفضاء إليه ، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا على صدق محمد أعون على المطلوب ، فلو كان محمد صادقاً لكان مؤيداً بإنزال الملائكة الشاهدين بصدقه .
قال الفراء : معنى { لا يرجون } لا يخافون ، والرجاء في لغة تهامة الخوف ، وقال غيره : الرجاء على أصله وهو الأمل إلا أن الخوف يلزمه في هذه الصورة فإن من لا يرجو الجزاء والمعاد لا يخاف العقاب أيضاً . واللقاء الوصول لا بمعنى المكان والجهة فإنه تعالى منزه عن ذلك بل بمعنى الرؤية عند الأشاعرة ، أو على إرادة الجزاء والسحاب عند المعتزلة ، وقد مر في أوائل البقرة في قوله { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون } [ البقرة : 46 ] ولعل تفسيره بلقاء الجزاء أنسب في هذا المقام لئلا يناقض قوله : { أو نرى ربنا } أي جهرة وعياناً فيأمرنا بتصديقه واتباعه اللهم إلا أن يراد : إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة اقترحوا رؤيتنا في الدنيا . قال جار الله : لا يخلو إما أن يكونوا عالمين بأن الله عز وجل لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء وإنه تعالى لا يصح أن يرى وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون ، وإما أن يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم كما فعل قوم موسى حين قالوا { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } [ البقرة : 55 ] . ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم بقوله : { لقد استكبروا في أنفسهم } أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه . ثم نسبهم إلى الإفراط في الظلم بقوله { وعتواً } ثم وصف العتوّ بالكبر . قال جار الله : اللام جواب قسم محذوف وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفيها معنى التعجب كأنه قال : ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوّهم! وقال في التفسير الكبير : تحرير هذا الجواب من وجوه أحدها : أن القرآن لما ظهر كونه معجزاً فقد تمت دلالة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح أمثال هذه الآيات إلا محض الاستكبار والاستنكار . وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان ايضاً من جملة المعجزات ، ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزاً فيكون قبول ذلك وردّ الآخر ترجيحاً لأحد المثلين من غير مرجح . وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب وتصديقه لرسوله لا يستفيدون علماً أزيد من تصديق المعجزات ، لا فرق بين أن يقول النبي اللهم إن كنت صادقاً فأحي هذا الميت فيحييه ، وبين أن يقول إن كنت صادقاً فصدّقني فتعيين أحد الطرفين محض العناد . ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على فعل مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي . وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداها واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء . وسادسها لعل المراد أني لو علمت بأنهم ليسوا مستكبرين عاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت إنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم .
وسابعا لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة على عوام الخلق ، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون . واستدلت الأشاعرة بقوله : { لا يرجون لقاءنا } على أن رؤية الله مرجوّة . واستدلت المعتزلة بقوله { لقد استكبروا } { وعتواً } أن اقتراح الرؤية مستنكر ولا يخفى ضعف الاستدلالين : وانتصب { يوم يرون } بإضمار « اذكر » فيكون { لا بشرى } مستأنفاً أو بما دل عليه { لا بشرى } أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى بالجنة وبرؤية الحق . { يومئذ } للتكرير وقوله { للمجرمين } ظاهر في موضع الضمير أو عام فيتناول هؤلاء لعمومه ، ولأجل هذا العموم استدلت المعتزلة به على القطع بوعيد كل مجرم وإن كان من أهل القبلة ، وحمل الأشاعرة الجرم على الكفر .
أما قوله : { حجراً محجوراً } فإنها كلمة يتلفظ بها عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة ، يضعونها موضع الاستعاذة يقول الرجل للرجل : تفعل كذا؟ فيقول : حجراً . وقد ذكره سيبويه في باب المصادر التي ترك إظهار فعلها نحو « معاذ الله وعمرك الله ومعناه منعاً » اي اسال الله أن يمنع ذلك منعاً كما أن المستعيذ طالب من الله عز وجل أن يمنع المكروه . ووصفه بالمحجور للتأكيد كما يقال « شعر شاعر وجد جده » . والأكثرون على أن القائلين هم الكفار إذا رأوا الملائكة عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فيقولون ما كانوا يقولونه عند نزول كل شدّة . وقيل : هم الملائكة ومعناه حراماً محرّماً أي جعل الله الجنة والغفران أو البشرى حراماً عليكم . يروى أن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم : حجراً محجوراً . وقال الكلبي : الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين : حجراً محجوراً . وقال عطية : إذا كان يوم القيامة تأتي الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم : بشرونا فيقولون : حجراً محجوراً . ثم أخبر عن وعيد آخر لهم وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالاً لها صورة الخير من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف وأمثالها مع عدم ابتنائها على أساس الإيمان ، فمثلت حالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى اشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فافسدها بحيث لم يترك منها أثراً وإلا فلا قدوم ولا ما يشبه القدوم ، ولتنزهه سبحانه عن الجسمية وصفاتها . قال أهل المعاني : القادم إلى لاشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في القدوم فأطلق اسم المسبب على السبب مجازاً . وقيل : أراد قدوم الملائكة بأمره إلا موضع الحساب في الآخرة . والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار . وقال مقاتل : إنه الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب وفي أمثالهم أقل من الهباء شبه عملهم بالهباء في قلته وحقارته .
وأكد المعنى بوصف الهباء بالتناثر لأنك تراه منتظماً مع الضوء حتى إذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب . والمراد : جعلناه جامعاً لحقارة الهباء والتناثر ولام الهباء واو بدليل الهبوة بمعناه . ثم ميز حال الأبرار عن حال الفجار بقوله : { اصحاب الجنة يومئذ خير } ووجه صحة التفضيل ما بين في قوله : { قل أذلك خير أم جنة الخلد } أو التفاوت بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه ، أو هو على سبيل الفرض اي لو كان لهم مستقر كان مستقر أهل الجنة خيراً منه . والسمتقر مكان الاستقرار والمقيل المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والاستمتاع بمغالتهنّ وملامستهنّ كحال المترفين في الدنيا ، ولا نوم في الجنة وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلاً على طريق التشبيه ، وفي اختيار لفظ الأحسن دون أن يقول « خير مقيلاً » رمزاً إلى التحسنات الحاصلة في مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور وغير ذلك . قال ابن مسعود : لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار . وعن سعيد بن جبير : إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم كقدر ما بين صلاة الغداة إلى نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار . وقال مقاتل : يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من ايام الدنيا ثم يقولون من يومهم ذلك في الجنة . وحاصل الاية أن أصحاب الجنة من المكان في أطيب مكان ومن الزمان في أحسن زمان . ثم أراد أن يصف أهوال يوم القيامة فقال { ويوم تشقق } أي واذكر يوم تتفتح السماء بسبب غمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة فينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد : قال الفراء : الباء بمعنى « عن » لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام كما يقال : انشقت الأرض عن النبات أي ارتفع التراب عنه عند طلوعه ، وقال القاضي : لا يمتنع أن يجعل الله تعالى الغمام بحيث يشقق السماء باعتماده عليها . عن مقاتل : تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وكذلك تتشقق سماء سماء ، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش ، ثم ينزل الرب تعالى . قال العلماء : هذا نزول الحكم والقضاء لا نزول الذات . وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وصغر حجم الأرض بالقياس إلى السماء فقالوا : لا يبعد أن يوسع الله الأرض عرضاً وطولاً بحيث تسع كل هؤلاء . ومن المفسرين من قال : المئكة يكونون في الغمام وهو سترة بين السماء والأرض ، والله تعالى فوق أهل القيامة . وروى الضحاك عن ابن عباس قال : تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصبرون سبع صفوف حول العالم .
والظاهر أن اللام في الغمام لجنس . ومنهم من قال : هي للعهد والمعهود قوله : { هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام } وقيل : هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة كما كان لبني إسرائيل في التيه .
ومعنى { تنزيلاً } توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه . قال الزجاج { الحق } صفة الملك اي الملك الثابت الذي لا يزول { للرحمن } يومئذ ونظيره { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 4 ] ويجوز أن يكون يومئذ تكريراً لقوله { ويوم تشقق } وإعرابهما واحد . والفائدة في تخصيص ذلك اليوم أن يعلم أنه لا مالك فيه سواه لا بالصورة ولا في الحقيقة فيخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل رقاب الجبابرة . قالت الأشاعرة : ههنا لو وجب على الله يومئذ الثواب لاستحق الذم بتركه وكان خائفاً أن لا يفعل فلم يكن له الملك على الإطلاق . وأيضاً لو كان العبد مالكاً للثواب لم يكن الله تعالى مالكاً مطلقاً بل يكون عبداً ضعيفاً لا يقدر على أن لا يؤدي ما عليه من العوض ، أو فقيراً محتاجاً إلى أن يدفع الذم عن نفسه بأداء ما عليه؟ وكان ذلك اليوم يوماً عسيراً على الكافرين لا على المؤمنين . واللام في { الظالم } ظاهر الاستغراق والشمول أو للجنس . وعن ابن عباس أنه للعهد وذلك أن الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط وكان يكثر مجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم فاتخذ ضيافة ودعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى يأتي بالشهادتين ففعل ، وكان أُبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال : صبأت يا عقبة؟ قال : لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له ، والشهادة ليست في نفسي . فقال : وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً فلم تطأ قفاه لو تبزق في وجهه . فوجده ساجداً في دار الندوة ففعل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألقاك خارجاً من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فقتل يوم بدر أمر علياً رضي الله عنه بقتله . وفي روايات الشيعة أن الظالم هو رجل بعينه وأن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلاناً بدلاً من اسمه وذكروا فاضلين من الصحابة وفيه بعد ، لأن تغيير القرآن كفر . والعض على اليدين كناية عن الغيظ والسحرة لأنه من لوازم الغيظ والتحسر غالباً ونظيره « سقط في يده وأكل من بنانه » وأمثال ذلك . وقال الضحاك : يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت . قال جار الله : تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقاً واحداً وهو طريق الحق ولم تتشعب به طرق الضلالة والهوى ، أو اراد أني كنت ضالاً لم يكن لي سبيل قط فليتني حصلت لنفسي في صحبة الرسول سبيلاً .
وفلان كناية عن الإعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس ، فإِن أريد بالظالم عقبة فالمعنى ليتني لم اتخذ أُبياً خليلاً فكنى عن اسمه ، وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلاً كان لخليله اسم علم فجعله كناية عن . قلت : زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية . لا يقال : جاءني فلان ولكن يقال : قال زيد جاءني فلان . لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم ولذلك جاء في كلام الله تعالى : { يقول يا ليتني } الخ . والذكر ذكر الله والقرآن أو موعظة الرسول أو نطقه بشهادة الحق وعزمه على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله الذي أضله كما يضله الشيطان ، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة . أو إشارة إلى إبليس وأنه هو الذي حمله على أن صار خليلاً لذلك المضل وخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خذله ، أو أراد الجنس فيدخل فيه كل من تشيطن من الجن والإنس .
ثم إن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله عز وجل وقال { يا رب إن قومي } يعني قريشاً { اتخذوا هذا القرآن مهجوراً } أي تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به . وعن ابي مسلم أن المراد : وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة . روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم « من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقاً به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه » وقيل : هو من هجر إذا هذى . والجار محذوف أي جعلوه مهجوراً فيه . وعلى هذا فله معنيان : أحدهما أنهم زعموا أنه كلام لا فائدة فيه . والثاني أنهم كانوا إذا سمعوه لغوا فيه . وجوز الكشاف أن يكون المهجور مصدراً بمعنى الهجر كالميسور والمجلود أي اتخذوه هجراً . سؤال : هذا النداء بمنزلة قول نوح { رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً } [ نوح : 5 ] فكيف صارت شكاية نوح سبباً لحلول العذاب بأمته ولم تصر شكاية نبينا صلى الله عليه وسلم سبباً لذلك؟ الجواب أن الكلام بالتمام ، وكان من تمام كلام نوح { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] ولم يكن كلام رسولنا إلا مجرد الشكاية ولم يقتض الدعاء عليهم وذلك من غاية شفقته على الأمة وإن بلغ إيذاؤهم إياه الغاية « ما أوذي نبي مثل ما أوذيت » هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال { وكذلك جعلنا } بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله
{ وكذلك جعلنا لكل نبيّ عدواً شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] { وكفى بربك هادياً ونصيراً } إلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيراً لك على أعدائك . ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم : هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعاً . ومعنى التنزيل ههنا التعدية فقط لقريتة قوله { جملة } خلاف ما تقرر في أكثر المواضع من إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله { نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل } [ آل عمران : 3 ] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { لنثبت } الخ . وتقريره من وجوه أحدها : أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئاً كاتباً بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجماً في عشرين سنة . وعن ابن جريج : في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو . وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لا بد فيه من التدرج . وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة . ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة . وخامسها أن نزوله مفرّقاً يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعة ، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز . وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها . وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل .
وللترتيل معانٍ منها : أنه قدره آية بعد آية وفدعة عقيب دفعة . ومنها التأني في القراءة ومعنى { ورتلناه } أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءته : لا يسرد كسردكم . هذا لو اراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل الأسنان أي تفليحها . يقال : ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه . ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة . ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله : { ولا يأتونك بمثل } اي بسؤال عجيب من اسئلتهم الباطلة الذي كأنه مثل في البطلان إلا ونحن نأتي بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم . قال جار الله : لما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا : تفسير الكلام كيت وكيت كما قيل : معناه كذا وكذا . ووجه آخر وهو أن يراد { ولا يأتونك } بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت صفته وحاله أن ينزل معه ملك أو يلقى إليه كنز أو ينزل عليه القرآن جملة إلا أعطيناك نحن ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا وما هو أحسن بياناً لما بعثت به ، ومن جملة ذلك تنزيل القرآن مفرقاً منجماً فإن ذلك أدخل في الإعجاز كما مر ، ثم أوعد هؤلاء الجهلة بأنهم شر مكاناً من أهل الجنة والبحث عنه نظير ما مر في صفة أهل الجنة خير مستقراً .
قال جار الله : كأنه قيل لهم : إن الذي يحملكم على هذه الأسئلة هو أنكم تضللون سبيله صلى الله عليه وسلم وتحتقرون مكانه ومنزلته ، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوهكم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث : ثلث على الدواب وثلث على وجوهم وثلث على اقدامهم ينسلون نسلاً » ثم ذكر طرفاً من قصص الأولين على عادة افتنانه في الكلام تنشيطاً للأذهان وتسلية لنبيه كأنه قال : لست يا محمد بأول من ارسلناه فكذب وآتيناه الآيات فردّ بل آتينا موسى التوراة وقويناه بأخيه ومع ذلك كذب ورد . ومعنى الوزير تقدم في « طه » . والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضاً . ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما { اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا } إن حملناه على تكذيب آيات الإلهية فظاهر ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ ماضٍ والمعنى على الاستقبال على عادة إخبار الله تعالى . ويجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا فدمرناهم ، وعلى هذا فلا حذف . والتدمير الإهلاك { وقوم نوح لما كذبوا الرسل } بأن كذبوه وكذبوا من قبله من الرسل صريحاً كأنهم لم يروا بعثة الرسل اصلاً كالبراهمة ، أو لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب كلهم { أغرقناهم وجعلناهم } أي إغراقهم وقصتهم { للناس آية } محل اعتبار { وأعتدنا للظالمين } وهم قوم نوح أو لكل من سلك سبيلهم في التكذيب . وقصة عاد وثمود مذكورة مراراً ، وأما الرس فعن أبي عبيدة أنه البئر غير المطوية ، والقوم كانوا من عبدة الأصنام اصحاب آبار ومواش ، بعث الله عز وجل إليهم شعيباً فدعاهم إلى الإسلام فأبوا ، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم . وقيل : الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود . وقيل : هم اصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم الله بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطيرسميت بذلك لطول عنقها ، وكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة . ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا . وقيل : هم اصحاب الأخدود والرس عند العرب الدفن يقال : رس الميت : إذا دفن وغيب في الحفيرة . وقيل : الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيباً النجار وستجيء القصة في سورة يس .
وعن علي رضي الله عنه أنهم قوم يعبدون شجرة الصنوبر رسوا نبيهم في الأرض . وقيل : هم قوم كانت لهم قرى على شاطئ نهر يقال له الرس من بلاد المشرق ، فبعث الله تعالى إليهم نبياً من ولد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زماناً ثم حفروا بئراً فرسوه فيها قوالوا : نرجو أن يرضى عنا إلهنا ، وكان عامة قومهم يسمعون أنين نبيهم يقول : إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي فعجل قبض روحي حتى مات ، فأرسل الله تعالى ريحاً عاصفة شديدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقداً وأظلتهم سحابة سوداء فذابت ابدانهم كما يذوب الرصاص . « وروى ابن جرير بإسناده إلىلنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله بعث نبياً إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا عبد أسود ، ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئراً فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجراً ضخماً ، فكان ذلك العبد يحتطب فيشتري له طعاماً وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه وكان كذلك ما شاء الله فاحتطب يوماً فلما اراد أن يحملها وجد نوماً فاضطجع فضرب الله على آذانه سبع سنين . ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين ، ثم هب فاحتمل حزمته وظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته فاشترى طعاماً وشراباً وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحداً ، وكان قومه استخرجوه فآمنوا به وصدقوه وذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون : لا ندري حاله حتى قبض الله تعالى النبي وقبض ذلك الأسود فقال صلى الله عليه وسلم : إن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة » قلت هذه الرواية إن صحت فلا مدخل لها في المقصود فإِن المقام يقتضي أن يكون قوماً كذبوا نبيهم فأهلكوا لأجل ذلك .
أما قوله { وقروناً بين ذلك } فالمشار إليه ما ذكر من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ومثله قوله الحاسب « فذلك كذا » أي فما ذكر من الأعداد مجموعها كذا { وكلاً } من الأمم والقرون { ضربنا له الأمثال } بينا له القصص العجيبة ليعتبروا ويتعظوا { وكلاً تبرنا } أهلكنا أشنع الإهلاك حين لم ينجع فيهم ضرب المثل . والتتبير التفتيت والتكسير . و { كلاً } الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو انذرنا أو حذرنا { كلاً } الثاني منصوب { بتبرنا } لأنه ليس بمشتغل عنه بضميره . والضمير في { ولقد أتوا } لقريش ، والقرية سدوم من قرى قوم لوط وكانت خمساً ، ومطر السوء الحجارة . { افلم يكونوا } في مرات مرورهم على تلك القرية في متاجرهم إلى الشام { يرونها بل كانوا } قوماً كفروا بالبعث لا يتوقعون نشوراً وعاقبة فمن ثم لم ينظروا إلى آثار عذاب الله نظر عبرة وادكار . { و } من جملة كفرهم وعنادهم أنهم { إذا رأوك يتخذونك إلا } محل هزؤ .
ثم فسر ذلك الاستهزاء بأنهم يقولون مشيرين إليه على سبيل الاستحقار . هذا الذي بعثه الله حال كونه رسولاً بزعمه . ويجوز أن يكون تسميته رسولاً استهزاء آخر من حيث إنه تسليم وإقرار في معرض الجحود والإنكار . وفي هذا جهل عظيم لأنهم إن استحقروا صورته فإنه أحسنهم خلقاً وأعدلهم مزاجاً مع أنه لم يكن يدعي التميز بالصورة ، وإن استهزؤا بالمعنى فبه قد وقع التحدي بظهور المعجز عليه وقامت الحجة عليهم فهم أحق بالاستهزاء منه حين اصروا على الباطل بعد وضوح البرهان على الحق ، ولقد شهد عليهم بمضمون هذا التقرير ابن أخت خالتهم إذ قالوا { إن كاد } هي مخففة من الثقيلة واللام في { ليضلنا } هي الفارقة كأنهم سلموا أنه لقوة العقل وسطوع الحجة شارف أن يغلبهم على دينهم ويقلبهم عن طريقتهم لولا فرط لجاجهم وصبرهم على عبادة آلهتهم . أطلقوا المقاربة أوّلاً ثم قيدوها بلولا الامتناعية ثانياً ، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم بذل قصارى مجهوده في دعوتهم حتى شارفوا على الإيمان بزعمهم . وحين وصفوه بالإضلال والمضل لا بد ان يكون ضالاً في نفسه فكأنهم وصفوه بالضلال فلا جرم أوعدهم الله على ذلك بقوله { وسوف يعلمون } إلى آخر الآية . وإنما يرون العذاب عند كشف الغطاء عن بصر البصيرة . ثم بين إنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع هوى النفس فقال معجباً لرسوله : { أرأيت من اتخذ إلهة هواه } قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول : علمت منطلقاً زيداً . ثم نفى أن يكون هو حافظاً عليهم كقوله : { وما أنت عليهم بوكيل } [ الأنعام : 107 ] { لست عليهم بمصيطر } [ الغاشية : 22 ] قال الكلبي : نسختها آية القتال . عن سعيد بن جبير : كان الرجل يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخذ آخر . ثم أضرب عن ذمهم باتخاذ الهوى إلهاً إلى نوع آخر أشنع في الظاهر قائلاً : { أم يحسب } وهي منقطعة ومعناه « بل » أيحسب وخص أكثرهم بالذكر إما لصون الكلام عن المنع على عادة الفصحاء العقلاء ، وإما لأن منهم من كان يعرف الحق إلا أن حب الرياسة يحمله على الخلاف . وإنما نفى عنهم السماع والعقل لانتفاء فائدتهما وأثرهما . وباقي الآية تفسيرها مذكور في آخر الأعراف في قوله { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] قال جار الله : جعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها التي تعلفها وترعف المحسن من المسيء وتجذب المنافع وتجتنب المضارّ وتهتدي للمراعي والمشارب ، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان ، ولا يطلبون أعظم المنافع وهو الثواب ، ولا يتقون أشد المضارّ وهو العقاب ، ولا يهتدون للحق الذي هو المرتع الهنيّ والشمرب الرويّ ، قلت : ويحسن أيضاً ان يذكر في وجه التفضيل أن جهل الأنعام بسيط غير مضر وجهل هؤلاء مركب مضر . ومنهم من قال : إن الأنعام تسبح لله تعالى بخلاف الكفار .
ثم ذكر طرفا من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الأنعام فأولها الاستدلال من أحوال الظل والرؤية إما بمعنى البصر فالمراد : ألم تر إلى صنع ربك أو الم تر إلى الظل كيف مده ربك . وإما بمعنى العلم وهو ظاهر وذلك أن الظل متغير ولكل متغير موجد وصانع . والخطاب لكل من له أهلية النظر والاستدلال . وللكلام في تفسير الآية مجال إلا أن ملخص الأقوال فيه اثنان : الأول أن الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة كالكيفيات الحاصلة داخل السقوف الكاملة وأفنية الجدران وهو أعدل الأحوال ، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوّته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين ، ولذلك وصف الجنة به في قوله : { وظل ممدود } [ الواقعة : 30 ] ثم إن الناظر في الظل إلى الجسم الملون كأنه لا يشاهد شيئاً سوى الجسم واللون ، فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم زال ظلمه فيظهر للعقول أنه كيفية زائدة على ما شاهده أوّلاً . فمعنى الآية : ألم تر إلى عجيب صنع ربك { كيف مدّ الظل } أي جعله ممتداً منبسطاً على الأجسام . { ولو شاء لجعله ساكناً } لاصقاً بكل مظل . { ثم جعلنا الشمس } على وجوده { دليلاً } فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجوداً ، لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها : { ثم قبضناه } اي أزلنا الظل لا دفعه بل يسيراً يسيراً فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الإظلال في جانب المغرب شيئاً بعد شيء ، وفي القبض على هذا الوجه منافع جمة . الثاني أنه سبحانه لما خلق السماء والأرض ألقت السماء ظلها على الأرض ممدوداً منبسطاً ، ولو شاء لجعله ساكناً مستقراً على تلك الحالة ، ثم خلق الشمس وجعلها دليلاً على ذلك الظل ، لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من حيث إنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص ، ثم لقبض الظل معنيان : أحدهما : انتهاء الإظلال إلى غاية مّا من النقصان بالتدريج ، وثانيهما قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة . وقوله { إلينا } يؤكد هذا المعنى الثاني فيكون قوله { يسيراً } كما قال { ذلك حشر علينا يسير } [ ق : 44 ] الاستدلال الثاني من أحوال الليل والنهار شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر ، والسبات الراحة قاله أبومسلم . وذلك أن النوم سبب الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه عند طائفة ، وعلى هذا فالنشور بمعنى الانتشار والحركة . قال جار الله : السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة ، وعلى هذا فالنشور بمعنى البعث وتكون الآية نظير قوله : { وهو الذي يتوفاكم بالليل } [ الأنعام : 60 ] عن لقمان أنه قال لابنه : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر . الاستدلال الثالث قوله { وهو الذي أرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته } أي قدام المطر وقد مر تفسيره في « الأعراف » وأنه لم قال ههنا { أرسل } بلفظ الماضي وهناك { يرسل } أما قوله { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } فهو علم بين الفقهاء في الاستدلال به على طهارة الماء في نفسه وعلى مطهريته لغيره حتى فسر الطهور بعضهم - ومنهم أحمد بن يحيى- بأنه الذي يكون طاهراً في نفسه مطهراً لغيره .
واعتراض عليهم صاحب الكشاف بأن الذي قالوه إن كان شرحاً لبلاغته في الطهارة كان سديداً وإلا فليس « فعول » من « التفعيل » في شيء وأقول : إن الزمخشري سلم ان الطهور في العربية على وجهين : صفة كقولك « ماء طهور » اي طاهر ، واسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضأ به وتوقد به النار ، وعلى هذا فالنزاع مدفوع لأن الماء مما يتطهر به هو كونه مطهراً لغيره فكأنه سبحانه قال : وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهراً في نفسه . ومما يؤكد هذا التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الأنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل ، ولا يخفى أن المطهر أكمل من الطاهر نظيره { وينزل عليكم ماء من السماء ماء ليطهركم به } [ الأنفال : 11 ] .
ولا ضير أن نذكر بعض أحكام المياه المستنبطة من الآية فنقول : ههنا نظران : الأول أن عين الماء هو طهور أم لا؟ مذهب الأصم والأوزاعي أنه يجوز الوضوء بجميع المائعات ، وقال أبو حنيفة : يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وتجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات المزيلة لأعيان النجاسات . وقال الشافعي وغيره من الأئمة : إن الطهورية مختصة بالماء لما مر في أول المائدة من إيجاب التيمم عند عدم الماء ولو شارك الماء مائع آخر لما أمر بالتيمم إلا بعد إعوازه أيضاً ودليله في الخبث قوله صلى الله عليه وسلم « ثم اغسليه بالماء » النظر الثاني في الماء وفيه بحثان : الأول في الماء المستعمل وإنه طاهر عند الشافعي وليس بمطهر في قوله الجديد . أما الأول فلإطلاق الآية { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } والصل بقاؤه وللحديث « خلق الماء طهوراً » ولأن السلف كانوا لا يحترزون عن تقاطر ماء الوضوء على ثيابهم وابدانهم ، ولأنه ماء طاهر لقي جسماً طاهراً فأشبه ما إذا لاقى حجارة . وأما الثاني فلقوله صلى الله عليه وسلم « لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب » ولو بقي الماء كما كان طاهراً مطهراً لما كان للمنع منه معنى ، وكانت الصحابة لا يعتنون بحفظه ليستعملوه ثانياً ولو كان طهوراً لحفظوا ما يغنيهم عن التيمم . وقال مالك والسدي : إنه طاهر مطهر لإطلاق الآية والحديث ، والأصل بقاء صفته على ما كان عليه . وروي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده .
وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة ، ولقياس ما انفصل من العضو على ما لم ينفصل منه . وقال أبو حنيفة : إنه نجس قياساً للنجاسة الحكمية على النجاسة الحقيقية . والمراد باستعمال الماء في المسألة تأدى عبادة الطهارة به أو انتقال المنع إليه فيه وجهان لأصحاب الشافعي ، ويتفرع عليه أن المستعمل في الكرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء والأغسال المسنونة ليس بطهور على الأول طهور على الثاني . والماء المستعمل في الحدث لا يجوز استعماله في الخبث على الأصح لأنه مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث كسائر المائعات . البحث الثاني الماء المتغير إن تغير بنفسه لطول المكث جاز الوضوء به لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة ، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء . وإن تغير بغيره ولم يتصل به كما لو وقع بقرب الماء جيفة فأنتن الماء فهو أيضاً مطهر ، وإن اتصل به وكان طاهراً ولم يخالطه كما لو تغير بدهن أو عود أو كافور صلب فهو أيضاً مطهر ، وإن خالطه فإن لم يمكن صون الماء عنه كالمتغير بالتراب والحمأة والورق المتناثر والطحلب فلا بأس بذلك دفعاً للحرج ، وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل وإن أمكن بأن يكون الماء مستغنياً عن جنس ذلك الخليط فإن كان التغير قليلا بحيث لا يضاف الماء إليه أو لا يستحدث اسما جديدا جاز التوضوء به وإلا فلا خلافاً لأبي حنيفة . حجة الشافعي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، فذلك الوضوء إن كان بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وليس كذلك بالاتفاق بماء غير متغير وهو المطلوب . ولقائل أن يقول : إن هذا إشارة إلى كيفية الوضوء لا إلى كيفية الماء ، والمراد أنه تعالى لا يقبل الصلاة بما دون ذلك ، وأما الكمال فلا كلام فيه . قال : وأيضاً إذا اختلط ماء الولد بالماء فتوضأ الإنسان به يحتمل أن ينغسل بعض الأعضاء بما الورد لا بالماء فيكون الحدث يقيناً والطهر مشكوكاً فيه والشك لا يرفع اليقين ، وهذا بخلاف ما إذا كان قليلاً لا يظهر اثره فإنه كالمعدوم . وأيضاً الوضوء تعبد لا يعقل معناه ولهذا لو توضأ بماء الورد لم يصح وضوءه ، ولو توضأ بالماء الكدر والمتعفن صح وضوءه وما لا يعقل معناه وجب الاعتماد فيه على مورد النص . حجة أبي حنيفة إطلاق الآية وقوله : { فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] وقوله { فلم تجدوا ماء } [ النساء : 43 ] وهذا الشخص غسل ووجد الماء ولأنه صلى الله عليه وسلم أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن خالطهما شيء من لعابهما ، ولأنه لا خلاف في جواز الوضوء بماء السيول وإن تغير لونها إلى ألوان ما تمر عليها في الصحاري من الحشائش وغيرها .
هذا كله إذا كان الخليط طاهراً ، فإن كان نجساً فمذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه الغزالي في الإحياء أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة ، سواء كان الماء كثيراً أو قليلاً . ومذهب أبي حنيفة أن الماء ينجس باستعماله في البدن لأداء عبادة . وتيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن سواء تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير . قال أبو بكر الرازي : ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري . قال : وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في وجه يغلب على الظن عدم بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر ، وليس كلاماً في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله .
ومن الناس من فرق بين القليل والكثير ثم اختلفوا في حد الكثير : فعن عبد الله بن عمر : إذا كان الماء اربعين قلة لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير : الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال . وقال الشافعي : إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه . وقد ينصر من المذاهب قول مالك لوجوه منها : قوله { وأنزلنا من السماء ماء طهوراً } ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه ، ولقوله « خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه » فبقي ما عداه على الأصل . ومنها قوله تعالى : { فاغسلوا } والمتوضئ بهذا الماء قد غسل أعضاءه ولا سيما إذ1 كانت النجاسة مستهلكة فيه لا يظهر عليه آثارهما وخواصها من الطعم أو اللون أو الريح . ومنها أن عمر توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أوانيهم غالبة على الظن ، فدل ذلك على أنه لم يعول إلا على عدم التغير . ومنها أن تقدير الماء بمقدار معلوم لو كان معتبراً كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند ابي حنيفة ، لكان أولى المواضع بذلك مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هنالك لا الجارية ولا الراكدة ، ولم ينقل أ ، هم خاضوا في تقدير المياه ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظها ، وكانت أوانيهم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات ، وكانوا لا يمنعون الهرة من شرب الماء وقد اصغى لها الإناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يرون أنها تأكل الفأرة ، ولم يكن في بلادهم حياض تكرع السنانير فيها .
ومنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير بنجس ، واي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه ، وأي معنى لقول القائل : إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم يتمنع المخالطة؟ ومنها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة . وقال الشافعي : إذا وقع بول في ماء جارٍ ولم يتغير جاز الوضوء به . وايّ فرق بين الجاري والراكد؟ والتعويل على قوة الماء بسبب الجريان ليس أولى من التعويل على عدم التغير . ومنها أنه لو وقعت نجاسة في قلتين فكل كوز يؤخذ منه فهو طاهر عنده ، ومعلوم أن البول ينتشر فيه وهو قليل فأي فرق بينه إذا وقع ذلك البول في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل غليه عند اتصال غيره به؟ . ومنها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ منها المتقشفون مع علمهم بأن اليدي والأواني الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها ، ولو كان التقدير بالقلتين وغير ذلك معتبراً لاشتهر وتواتر . ومنها أن النصوص في التقدير متخالفة؛ أما تقدير أبي حنيفة بالعشر في العشر فمجرد تحكم ، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على قوله صلى الله عليه وسلم « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً » فضعيف . لأن راوية مجهول ، فإن الشافعي لما روى هذا الخبر قال : أخبرني رجل . فيكون الحديث مرسلاً والمرسل عنده ليس بحجة . سلمناه ولكن القلة مجهولة فإنها تصلح للكوز وللجرة ولكل ما يقل باليد وهي أيضاً اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل . سلمنا لكن في متن الخبر اضطراب ، فقد روي « إذا بلغ الماء قلتين » وروي « إذا بلغ قلة » وروي « أربعين » « وإذا بلغ كرين » سلمنا صحة المتن لكنه متروك الظاهر لأن قوله « لم يحمل خبثاً » لا يمكن إجراؤه على ظاهره ، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله . سلمنا إجاءه على الظاهر لكن الخبث لغوي وشرعي وحمله على اللغوي لكونه حقيقة أولى ، فمعنى الحديث أن لا يصير مستقذراً طبعاً . ونحن نقول : بموجبه لكن لم قلتم : إنه لا ينجس شرعاً؟ سلمنا أن المراد هو الخبث الشرعي لكن لم لا يجوز أن يكون معنى قوله « لم يحمل خبثاً » أنه يضعف عن حمله أي يتأثر به؟ أجاب بعض الشافعية عن هذه المنوع بأن كثيراً من المحدثين عينوا اسم الراوي في حديث القلتين ، فإن يحيى بن معين قال : إنه جيد الإسناد . فقيل له : إن ابن علية وقفه على ابن عمر . فقال : إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه . وقوله « القلة مجهولة » غير مسلم لأن ابن جريج قال في روايته : بقلال هجر .
ثم قال : وقد شاهدت قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئاً . وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن الحديث اضطراب ، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح في بعض الروايات « إذا كان الماء قلتين لم ينجس » ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين ايضاً بتلك المثابة ، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل . حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى : { ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] وقوله { إنما حرم عليكم الميتة والدم } [ النحل : 115 ] وقال في الخمر { رجس من عمل الشيطان } [ المائدة : 90 ] حرم هذه الشياء مطلقاً ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء ، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءاً من النجاسة . وأيضاً الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم « لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة » أطلق من غير فرق بين القليل والكثير . أجاب مالك أنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات ، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم .
واعلم أنه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال : { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } [ الأنفال : 11 ] ففي وصفه ههنا بكونه طهوراً إشارة إلى ذلك . ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين . أولاهما تتعلق بالنبات ، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق . وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف ، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم . قال { ميتاً } مع قوله { بلدة } بالتأنيث لأن « فيعلاً » غير جارٍ على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به ، أو بتأويل البلد والمكان . والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن اصله أناسين فقلبت النون ياء . و « فعيل » قد يستوي فيه الواحد والجمع فلهذا لم يقل وأناسي كثيرين ومثله { وقروناً بين ذلك كثيراً } . اسئلة أوردها جار الله مع أجوبتها : الأول : أن إنزال الماء موصوفاً بالطهارة وتعليله بالإحياء ولاسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة الإحياء والسقي كما تقول : حملني الأمير على فرس جواد لأصيد به الوحش . الجواب لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراماً لهم وتتميماً للمنة عليهم وغشارة إلى أن من حق استعمال الماء في الباطن والظاهر أن يكون طاهراً غير مخالط لشيء من القاذورات .
قلت : قد قررنا فائدة هذا الوصف بوجه آخر آنفاً . السؤال الثاني : لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان المنتفع بالماء؟ الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب لاماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام ، ولأنها قنية الإنسان وعامة منافعه متعلقة بها فسقيها إنعام عليه . الثالث : ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهم بالكثرة؟ الجواب لأن بعض الأنعام والأناسي الذين هم بقرب الأودية والأنهار العظام لا يحتاجون إلى ماء السماء احتياجاً بيناً ، ولمثل هذا نكر البلدة في قوله { بلدة ميتاً } قوله سبحانه { ولقد صرفناه } الأكثرون على أن الضمير عائد إلى ما ذكر من الدلائل أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا ، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها . وقال آخرون : إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتباينة من وابل وطل وغير ذلك فأبوا إلا كفوراً وأن يقولوا : مطرنا بنوء كذا استقلالاً . فإن جعلوا الأنواء كالوسائط والأمارات فلا بأس . والنوء سقوط نجم من المنازل الثمانية والعشرين للقمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه وهو نجم آخر في المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوماً وهو أكثر ، أو إلى أربعة عشر وهو أقل . والعرب تضيف الأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع . فإذا مضت مدة النوء ولم يحدث شيء من مطر وغيره يقال : خوى نجم كذا أي سقط ولم يكن عنده اثر علوي؟ عن ابن عباس : ما من عام أقل مطراً من عام ولكن الله عز وجل قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية . ويؤيد هذا التفسير تنكير البلدة والأنعام والأناسي . قال الجبائي : في قوله { ليذكروا } دليل على أنه تعالى أراد من الكل التذكر والإيمان . وفي قوله { فأبى أكثر الناس } دلالة على أن المكلف له قدرة على الفعل والترك إذ لا يقال للزمن مثلاً إنه أن يسعى . وقال الكعبي : الضمير في { بينهم } لكل الناس فيكون الأكثر داخلا في ذلك العام إذ لا يجوز أن يقال : أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفوراً . وعند هذا يظهر أنه أراد من جميع المكلفين أن يؤمنوا ويعتبروا ومعارضة الأشاعرة معلومة .
التأويل : { ويوم تشقق السماء } سماء القلب من غمام البشرية وهو يوم سعادة الطالبين الصادقين ، ونزل ملائكة الصفات الروحانية { الملك } الحقيقي { يومئذ } { للرحمن } إذ لم يبق غيره ورجع إليه وذلك مقام الوحدة والفناء في الله والبقاء به : { وكان يوماً على الكافرين عسيراً } إذ لم يبق من صفات النفوس الكافرة وحظوظها أثر ولا عين : { ويوم يعض الظالم } نفسه وهو المشرك شركاً ظاهراً أو خفياً { على يديه } والآية حكمها عام في كل متحابين اجتمعا على معصية الله تعالى .
وعن مالك بن دينار : إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل كل الخبيص مع الفجار . { لنثبت به فؤادك } بأن نخلق قلبك بقلب القرآن وكان بذر التوحيد أوقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم في سر { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] وكان يتربى بما أنزل عليه بل على قلبه منجماً ، فلما أورق كان ورقه { الرحمن علم القرآن } [ الرحمن : 1 ] فلما أزهر كان زهره { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] فلما أثمر كانت ثمرته { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] { يحشرون على وجوههم } لأن توجههم إلى أسفل سافلي الطبيعة فيحشرون منكوسين إلى جهنم البعد عن الحضرة { الم تر إلى ربك } فيه أن نبينا صلى الله عليه وسلم رآه وقد قال لموسى { لن تراني } [ الأعراف : 143 ] وذلك البقاء أنانيته { كيف مدّ الظل } عالم الأجسام { ولو شاء لجعله ساكناً } في كتم العدم { ثم جعلنا } شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلاً بأن كانت محركة لها إلى غاياتها المخلوقة هي لأجلها ، فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد ولم تتكون بالأجسام . وفي قوله : { ثم قبضناه إلينا } إشارة إلى أن كل مركب فإنه سيحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير . وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود وهذا شأن الذاهبين من غيره إليه . وفي قوله { ثم جعلنا } إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به على غيره كقوله : { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [ فصلت : 53 ] وهذه مرتبة الصديقين . وقوله { ثم قبضناه } كقوله { كل شيء هالك } [ القصص : 88 ] { ألا إلى الله تصير الأمور } وبوجه آخر الظل هو حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس التجلي المعروفة من افق العناية عند صباح الهداية : { ولو شاء لجعله } دائماً لا يزول وإنما يستدل على الذهول بالعرفان . وفي قوله : { ثم قبضناه } إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف . ثم بين حكمة الإظلال بقوله : { وهو الذي جعل لكم } ليلة البشرية { لباساً } كيلا تحترقوا بدوام شمس تجلي الربوبية ، وجعل ليوم الغفلة راحة بعد سطوة التجلي ، وجعل نهار العرفان نشوراً أي حياة بنور الربوبية { وهو الذي أرسل } رياح الإشراق على قلوب الأحباب فتزعجها من المساكنات عند الستر فلا تستقر إلا بالكشف والتجلي { وأنزلنا } من سماء الكرم { ماء } حياة العرفان الذي يطهر قلوب المشتاقين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأوقات من الغفلات { لنحيي به بلدة } القلوب اليمتة عن نور الله بنور الله { ونسقيه } من جملة مخلوقاتنا من هو على طبع الأنعام لغلبة الصفات الحيوانية عليه فيسقي زرع إيمانه بماء الرحمة والذكر كما قال صلى الله عليه وسلم « لا إله إلا الله تنبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقلة » ونسقيه من الأنس من سكن إلى رياض الأنس يفطمه به عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية ، ويطهره عن وصمة الملاحظات ويذيقه طع المكاشفات . { ولقد صرفنا } الذي هو ماء حياة القلوب بينهم { ليذكروا } به أيام جوار الحق وأوطانهم الحقيقية { فأبى أكثر } الناسين تلك المعاهدة والمشاهدة { إلا كفوراً } بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها والله المستعان وإليه المآب .
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
القراآت : { ملح } بفتح الميم وكسر اللام كحذر أو لأنه مقصور مالح وكذلك في « فاطر » : قتيبة { يأمرنا } على الغيبة : حمزة وعلي { سرجاً } بضمتين : حمزة وعلي وخلف . { أن يذكر } من الذكر : حمزة وخلف . { يقتروا } بضم التاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى المفضل ، وبضم الياء وكسر التاء من الإقتار : أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل . الباقون بفتح الياء وكسر التاء . { يضاعف } { ويخلد } بالرفع فيهما من المضاعفة ومن الخلود : أبو بكر وحماد مثله ، ولكن يخلد مجهولاً من الإخلاد : المفضل { يضعف } بالتشديد والرفع { ويخلد } بالرفع من الخلود : ابن عامر مثله ولكن بالجزم فيهما : ابن كثير ويعقوب وزيد . الآخرون كالأول ولكن بالجزم فيهما . { فيهي } بإشباع الكسرة : ابن كثير وحفص : { يبدل } من الإبدال : البرجمي { وذريتنا } على التوحيد : أبو عمرو وعلي وخلف وعاصم والمفضل : { ويلقون } بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من اللقاء : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل . الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من باب التفعيل .
الوقوف : { نذيراً } 5 والوصل أولى للفاء { كبيراً } 5 أجاجر ج لعطف الجملتين المتفقتين مع العارض { محجوراً } 5 { وصهراً } 5 { قديراً } 5 { ولا يضرهم } ط { ظهيراً } 5 { نذيراً } 5 { سبيلاً } 5 { بحمده } ط { خبيراً } 5 ج لأن الذي يصلح صفة للحي والوقف على العرش على تقدير هو الرحمن إذ لا وقف عليه ايضاً بناء على أن { الرحمن } بدل من المستترفي { استوى } ويصلح أن يكون { الذي } مبتدأ { والرحمن } خبره { خبيراً } 5 { وما الرحمن } 5 قد قيل : ولا وجه له لأن الكل مقول قالوا { نفوراً } 5 سجدة { منيراً } 5 { شكوراً } 5 { سلاماً } 5 { وقياماً } 5 { جهنم } ق قد قيل : والوصل أولى لاتحاد القائل { غراماً } 5 كذلك { ومقاماً } 5 { قواماً } 5 { ولا يزنون } ج للشرط مع واو العطف { أثاماً } 5 لمن قرأ { يضاعف } بالرفع على الاستئناف دون الجزم على إبدال الجملة من الجملة لتقارب معنييهما { مهاناً } 5 لا وقد يوقف على جعل إلا بمعنى « لكن » والوصل أولى لأن « لكن » تقتضي الوصل أيضاً { حسنات } ط { رحيماً } 5 { متاباً } 5 { الزور } 5 لا { كراماً } 5 { عمياناً } 5 { إماماً } 5 { وسلاماً } 5 لا لاتصال الحال { فيها } ط { ومقاماً } 5 { دعاؤكم } ج لاختلاف الجملتين { لزاماً } 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما قرر سيرة القوم من كفران النعمة وإيذاء النبي أراد تهييج نبيه على استمرار الدعوة . وفي الآية لطف ممزوج بنوع تأديب وإرشاد وفحواه ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى ، وبعثنا في كل قرية نبياً ، ولكن خصصناك برسالة الثقلين إجلالاً وتعظيماً ، فقابل هذا التفضل بالتشدد بالدين ففي أول الآية بيان كمال الاقتدار وأنه لا حاجة به إلى نبي محمداً كان أو غيره ، ولكن في مفهوم « لو » دلالة على أنه لم يفعل ذلك بل خصه بهذا المنصب الشريف لكمال العناية به وبأمته ، فعليه أن يترك طاعة الكافرين فيما يريدونه عليه مما يوافق أهواءهم .
النهي كقولك للمتحرك « لا تسكن » لا كقولك للساكن « لا تسكن » فإنه صلى الله عليه وسلم لم يترك طاعة الله طرفة عين . ثم بالغ في النهي بأن أمره بضدّه قائلاً { وجاهدهم به } أي بالقرآن أو بترك طاعتهم أو بسبب كونك نذير القرى كلها لأنه لو بعث في كل قرية نذيراً لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة قريته . وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى الله عليه وسلم فلا جرم اجتمع عليه تلك المجاهدات كلها فكبر جهاده وعظم وصار جامعاً لكل مجاهدة ، ثم ذكر دليلاً رابعاً على التوحيد فقال { وهو الذي مرج البحرين } اي خلاهما وارسلهما متجاورين متلاصقين . يقال : مرجت الدابة أي خليتها لترعى . وسمى الماءين الكثيرين بحرين . والفرات البليغ العذوبة ، والتركيب يدل على كسره العطش بخلاف الأجاج وهو الملح فإنه يدل على الشدة والتوهج . وقوله { هذا } إشارة إلى ما ارتسم في الذهن بعد ذكر البحرين والبرزخ الحائل الذي جعل الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج { وحجراً محجوراً } كلمة يقولها المتعوذ كما قلنا في السورة كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له هذا القول ، ونظيره في سورة الرحمن { بينهما برزخ لا يبغيان } [ الرحمن : 20 ] فانتفاء البغي ثمة كالتعوّذ ههنا وكل منهما مجاز في غاية الحسن . سؤال : لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى؟ والجواب من وجهين : أحدهما أن في البحار مواضع فيها مياه عذبة يعرفها الملاحون يحمل منها الماء إلى حين الوصول إلى الموضع الآخر . وثانيهما لعل المراد من البحر العذب الأودية العظام كالنيل والفرات وجيحون ، ومن البحر الأجاج البحار المشهورة ، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض ووجه الاستدلال على هذا الوجه أن يقال : العذوبة والملوحة إن كانتا بسبب طبيعة الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وإلا فلا بد من قادر مختار يخص كل واحد من الماءين بصفة مخصوصة . الاستدلال الخامس : من أحوال خلقة الإنسان والماء إما العنصر كقوله : { وجعلنا من الماء كل شيء حي } أو النطفة . ومعنى { فجعله نسباً وصهراً } أنه قسم البشر قسمين ذوي نسب وذوات صهر ، والأول الذكور ينسب إليهم فيقال : فلان وفلانة بنت فلان ومنه أخذ الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
والثاني الإناث التي يصاهر بهن ونحوه قوله عز من قائل { فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى } [ القيامة : 39 ] والأصهار أهل بيت المرأة عن الخليل . قال : ومن العرب من يجعل الصهر من الأحماء والأختان .
يقال : صاهرت إليهم إذا تزوّجت فيهم . { وكان ربك قديراً } حين خلق من ماء واحد صنفين مختلفين بل أشخاصً متباينة لا تكاد تنحصر .
ثم عاد إلى تهجين سيرة عبدة الأوثان فقال { ويبعدون } الاية . يروى أنها نزلت في أبي جهل المراد بالكافر والأولى حمله على العموم . والظهير المظاهر أي المعاون أي هذا الجنس يظاهر الشيطان على ربه بالشرك والعداوة . والمظاهرات على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه ، ويجوز أن يكون الظهير جمعاص كقوله : { والملائكة بعد ذلك ظهير } [ التحريم : 4 ] والمعنى أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله جل وعلا . وقال أبو مسلم : هو من قولهم « ظهر فلان بحاجتي » . إذا نبذها وراء ظهره . والمراد أن الكافر وكفره هين على ربه غير ملتفت إليه . قوله : { وما ارسلناك } إلى قوله { سبيلاً } وجه تعلقه بما قبله أن الكفار يطلبون العون على الله وعلى رسوله ولا أجهل ممن استفرغ جهده في إيذاء من يبذل وسعه في إصلاح مهماته ديناً ودنيا حتى يبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية ولا يسألهم على ذلك أجراً إلا أن يشاؤا التقرب بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلاً إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه . ومعنى الاستثناء عن الأجر والتقدير إلا فعل من شاء هو معنى قولك لمن سعيت له في تحصيل مال ما أطلب منك ثواباً على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه ، فيكون في تسمية حفظ المال ثواباً . فائدتان : إحداهما قلع شبهة الطمع في شيء من الثواب ، والثانية إظهار الشفقة وأنه إن حفظ ماله رضي الساعي به كما يرضى المثاب بالثواب هذا ما قاله جار الله . وقال القاضي : معناه لا أسألكم أجراً لنفسي واسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم بالإيمان والطاعة . ولما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجراً ألبتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع ويتمسك بقاعدة التنزيه والتحميد . وفي وصفه ذاته بالحي الذي لا يموت إشارة إلى أن الذي يوثق به في المصالح يجب أن يكون موصوفاً بهذه الصفة وليس إلا الله وحده . وعن بعض السلف أنه قرأها فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وإلا صار ضائعاً إذا مات ذلك المخلوق . ثم ختم الآية بما لا مزيد عليه في الوعيد أي لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مجازاتهم . ومعنى كفى به أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك « كفى بالعلم جمالاً وكفى بالأدب مالاً » . ثم زاد لعلمه وقدرته مبالغة وبياناً فقال : { الذي خلق } الخ . وقد سبق تفسيره في « الأعراف » وأما قوله { فاسأل به خبيراً } ففيه وجوه .
قال الكلبي : الضمير في { به } يعود إلى ما ذكر من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش . والباء من صلة الخبير قدمت لرعاية الفاصلة وذلك الخبير هو الله عز وجل لأن كيفية ذلك الخلق والاستواء لا يعلمها إلا الله سبحانه . وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبرائيل . وقال الأخفش والزجاج : الباء بمعنى « عن » فسأل به مثل « اهتم به » واشتغل به وسأل عنه كقولك « بحث عنه وفتش عنه » . قال تعالى { سأل سائلٍ بعذاب واقع } [ المعارج : 1 ] . وقال ابن جرير : الباء زائدة والمعنى فاسأله حال كونه عالماً بكل شيء . وجوز جار الله أن تكون الباء تجريدية كقولك « رأيت به اسداً » أي برؤيته . والمراد فاسال بسؤاله خبيراً أي إن سألته وجدته عالماً به . وقيل : الباء للقسم ولعل الوجه الأول أقرب إلى المراد نظيره { ولا ينبئك مثل خبير } [ فاطر : 14 ] .
ثم أخبر عن قوم أنهم { قالوا وما الرحمن } والواو عاطفة وقعت في كلام فحكى كما هو فاحتمل أ ، هم جهلوا الله سبحانه ، واحتمل أنهم عرفوه لكن جحدوه ، واحتمل أنهم عرفوه بغير هذا الاسم فلهذا سألوا عنه ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى تفسير آخر لقوله { فاسأل به خبيراً } وهو أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه فقيل : فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره وكانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة . قال القاضي : والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم يعلمون أنها تفيد المبالغة في « الأنعام » . ثم إن قلنا : إنهم كانوا منكرين لله فاسؤال عن الحقيقة كقول فرعون { وما رب العالمين } [ الشعراء : 23 ] وإن قلنا : إنهم كانوا مقرين لكنهم جهلوا أنه تعالى سمي بهذا الاسم فالسؤال عن الاسم . ومعنى { لما تأمرنا } للذي تأمرناه بمعنى تأمرنا بسجوده مثل « أمرتك الخبير » فاتسع أولاً ثم حذف ثانياً . ويجوز أن تكون « ما » مصدرية أي لأمرك لنا ومن قرأ على الغيبة فالضمير لمحمد أو للمسمى بالرحمن كأنهم قالوا هذا القول فيما بينهم . والضمير في { زادهم } للمقول وهو اسجدوا للرحمن أي وزادهم أمره { نفورا } ومن حقه أن يكون باعثاً على الفعل والقبول . قال الضحاك : لما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئينن فمعنى الآية وزادهم سجودهم نفوراً . ومن السنة أن يقول الساجد والقارئ إذا بلغ هذا الموضع زادنا الله خضوعاً وما زاد للأعداء نفوراً . ثم ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن فقال { تبارك } الخ . فالبروج هي الأقسام الاثنا عشر للفلك وأساميها مشهورة : الحمل والثور والجوزاء الخ . شبهت بالقصور العالية . واشتقاق البروج لظهوره والسراج الشمس . ومن جمع أراد الشمس والكواكب الكبار والخلفة للهيئة من الخلافة يريد الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر أي جعلهما ذوي خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ومثله قوله
{ واختلاف الليل والنهار } [ البقرة : 164 ] في أحد تفاسيره . وعن ابن عباس جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل ، فمن فاته شيء من وظائف العبادة في أحدهما قضاه في الآخر . وعن مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل مختلفين « هما خلفتان » فالمعنى أن أحدهما أسود والآخر أبيض أو هذا طويل وهذا قصير . ثم بين أن هذه النعمة سبب للتذكر لمن اراد ذلك أو للشكر لمن اراده . أما التذكر فلدلالة الانتقال والتغير على الناقل والمغير ، وأما الشكر فلأن الليل سبب الراحة والسكون والنهار سبب لسهولة التصرف في المعايش . قال بعضهم : معنى « أو » الفاصلة أنه إن كان كافرا تذكر وإن كان مؤمناً شكر . وقيل : أراد ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر . والشكور مصدر كالكفور . ثم أراد أن يختم السورة بوصف عباده المخلصين فقال { وعباد الرحمن } وهو مبتدأ خبره في آخر السورة { أولئك جزون الغرفة } أو خبره { الذين يمشون } والإضافة إلى الرحمن للتخصيص والتشريف . وقرئ { وعبّاد } جمع عابد وصف سيرتهم مع الخلق بالنهار أوّلاً ، ثم وصف معاملتهم مع الحق بالليل ثانياً ، ثم قسم الوصف الأول إلى نوعين : أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد بقوله { الذين يمشون على الأرض هوناً } مصدر وضع للمبالغة موضع الحال أو الصفة للمشي بمعنى هينين أو مشياً هيناً والمعنى أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم اشراً وبطراً ، ولذلك كره بعضهم الركوب في الأسواق والمشي في الأسواق دون الركوب سيرة المرسلين قال عز من قائل { وما ارسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [ الفرقان : 20 ] وثانيهما تحمل الإيذاء وإليه الإشارة بقوله { وإذا خاطبهم الجاهلون } يعني السفهاء وقليلي الأدب { قالوا سلاماً } يعني سلام توديع ومتاركة كسلام إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين قال لأبيه { سلام عليك } [ مريم : 47 ] ولا نسخ في الآية على ما زعم الكلبي وأبو العالية من أنها نسخت بآية القتال ، فإن الإغضاء عن السفهاء وترك مقابلتهم بسوء الأدب مستحسن عقلاً وشرعاً ، والبيتوتة هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم ، وصفهم بإحياء الليل أو أكثره . وقوله { لربهم } إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده أي يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون خدودهم ويعفرون جباههم . وقيل : من قرأ شيئاً من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجداً وقائماً . وقيل : هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء قاله ابن عباس .
ثم وصفهم بأنهم يقولون في سجودهم وقيامهم { ربنا اصرف عنا } الآية . وقال الحسن : خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل خوفاً من عذاب جهنم .
وقوله : { غراماً } أي هلاكاً وخسراناً ملحاً لازماً ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه ، وفلان مغرم بالنساء إذا كان مولعاً بهن . وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال : هو الموجع . وعن محمد بن كعب في { غراماً } إنه سأل الكفار عن نعمه فما أدّوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار . { وساءت } إما بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم إن ومستقر حال أو تمييز ، وإما بمعنى بئست وفيها ضمير مبهم يفسره { مستقراً } والمخصوص بالذم وهو الرابط ايضاً محذوف اي ساءت مستقراً ومقاماً هي . والظاهر أن الجملتين منقول الداعين . وجوز جار الله أن يكون من كلام الله ، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين بأن يكون قوله { إنها ساءت } تعليلاً لقوله { أن عذابها كان غراماً } وأن يكونا مترادفين كل منهما تعليل لقوله : { ربنا اصرف } قال المتكلمون : التعليل الأول إشارة إلى أن عقاب أهل النار مضرة خالصة ، والتعليل الثاني إشارة إلى كونها دائمة وقد يفرق بين المستقر والمقام بأن المستقر للعصاة من أهل الإيمان والمقام للكفار الذين لا خلاص لهم منها . ثم وصفهم بالتوسط في الإنفاق والقتر . والإقتار التضييق نقيض الإسراف ، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون طعاماً للتنعم واللذة ولا يلبسون ثياباً للجمال والزينة ، ولكن ما يسد جوعتهم ويستر عورتهم ويكنهم من الحر والقر . عن عمر : كفى شرهاً أن لا يشتهي رجل شيئاً إلا اشتراه فأكله . ثم بالغ في نسبة إنفاقهم إلى الاعتدال بقوله { وكان } أي الإنفاق { بين ذلك قواماً } والمنصوبان يجوز أن يكونا خبرين وأن يكون الظرف خبراً و { قواماً } حالاً مؤكدة . وقال في الكشاف : يجوز أن يجعل بين ذلك لغواً وقواماً مستقراً . ولعل معناه أنه يقوم مقام لفظ المستقر إذا كان متعلقاً به في قولك الإنفاق بين ذلك . وقد ذكر مثله في أول « الشعراء » في قوله { إنا معكم مستمعون } [ الشعراء : 15 ] والقوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء . وقرئ بكسر القاف وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل ولا ينقص . وأجاز الفراء أن يكون { بين ذلك } اسم { كان } على أنه مبني لإضافته إلى غير متمكن كما يقال : كان دون هذا كافياً يريد اقل من ذلك ، فيكون المعنى وكان الوسط بين ذلك قواماً . وضعفه في الكشاف بأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة . واقول : إذا اريد بالقوام حاق الوسط وبقوله { بين ذلك } أعلم منه لم يلزم التكرار . وعن ابن مسعود قلت : يا رسول الله اي الذنب أعظم؟ قال : أن تجعل الله نداً وهو خلقك . قلت : ثم اي؟ قال : أن تقتل ولدك خشيه أن يأكل معك . قلت : ثم أي؟ قالك أن تزاني حليلة جارك .
فأنزل الله عز وجل تصديقه { والذين لا يدعون } إلى قوله { ولا يزنون } قال جار الله : نفى هذه الأمور الشنيعة عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين تعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم كأنه قيل : والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه . وقيل : إن الموصوف بالصفات المذكورة قد يرتكب هذه الأمور تديناً فبين الله تعالى أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانباً لهذه الكبائر ، والقتل بغير حق يشمل الوأد وغيره كما مر في سبب النزول { ومن يفعل ذلك } أي المذكور فترك المأمورات أو ارتكب المنهيات . والأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال ومعناهما . وقيل : هو الإثم والمضاف محذوف أي يلق جزاء الإثم ، وقرأ ابن مسعود { اياماً } بتشديد الياء التحتانية يعني ايام الشدة . ومعنى مضاعفة العذاب لمن ارتكب مخالفة المذكورات أن يعذب على الشرك وعلى المعاصي الأخر جميعاً . هذا عند من يرى تعذيب الكفار بفروع الشرائع ، والمخالف يدعي أن الشمار إليه بقوله { ذلك } هو قوله { والذين لا يدعون } قال القاضي : قوله { ويخلد فيه } أي في ذلك التضعيف أو المضعف ففيه دليل على أن حال الزيادة كحال الأصل في الدوام فيكون عقاب المعصية دائماً ، وإذا كان كذلك في حق الكافر لزم أن يكون كذلك في حق المؤمن . وأجيب بأن الشيئين قد يكون كل واحد منهما قبيحاً ويكون الجمع بينهما أقبح فلا يلزم أن يكون للانفراد حكم الاجتماع . وفي قوله { ويخلد فيه مهاناً } إشارة إلى أن العقاب هو المضرة الخالصة الدائمة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم .
وقوله { إلا من تاب } لا يفهم منه إلا أن التائب لا يضاعف له العذاب ولا يلزم منه أن يكون مثاباً فلذلك قال : { فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أن هذا التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدلهم بالشرك إيماناً ، وبقتل المسلمين قتل المشركين ، وبالزنا عفة وإحصاناً ، يبشرهم الله تعالى بأنه يوقفهم لهذه الأعمال الصالحة إذا تابوا وآمنوا وعملوا سائر الأعمال الصالحة ، وإنما أفرد التوبة والإيمان بالذكر أوّلاً لعلو شأنهما . وقال الزجاج . السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن السيئة تمحى بالتوبة ، وتكتب الحسنة مع التوبة ، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات . وذهب سعيد بن المسيب ومكحول إلى ظاهر الآية وهو أنه تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة ، وأكدوا هذا الظاهر بما روي عن أبي هريرة مرفوعاً « ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل : من هم يا رسول الله؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات » وقال القاضي والقفال : إنه تعالى يبدل بالعقاب الثواب فذكر السبب وأراد المسبب . ثم عمم الحكم فذكر أن جميع الذنوب بمنزلة الخصال المذكورة أي ومن يترك المعاصي كلها ويندم عليها وأتى بالعمل الصالح فإنه بذلك تائب غلى الله عز وجل متاباً مرضياً مكفراً للخطايا .
ويجوز أن ترجع الفائدة إلى تخصيص اسم الله أي فإنه تائب متاباً إلى الله الذي هو المفيض لكل الخيرات يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يليق بكرمه ، ويحتمل أن ترجع الفائدة إلى تنكير متاباً . والمتاب المرجع أي يرجع إلى الله مرجعاً حسناً اي مرجع ، وقيل : هو وعد للتائبين المخلصين فيما مضى بأنه سيوفقهم للتوبة في المستقبل . ثم وصفهم بأنهم لا يشهدون الزور . فإن كان من الشهادة فالمضاف محذوف أي لا يشهدون شهادة الزور ، وإن كان من الشهود الحضور فللمفسرين أقوال : فعن قتادة : هي مجالس الباطل . وعن أبي حنيفة : اللهو والغناء . وعن مجاهد : أعياد المشركين . وعن ابن عباس : هي المجالس التي يقال فيها الزور والكذب على الله تعالى وعلى رسوله . والتحقيق أنه يدخل فيه حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي كمحاضر الكذابين ومجالس الخطائين وكالنظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة ، لأن الحضور والنظر إلى تلك المجالس دليل الإهانة وبعث لفاعله عليه لا زجر له عنه . وفي مواعظ عيسى بن مريم « إياكم ومجالسة الخطائين » { وإذا مروا باللغو } وهو كل ما ينبغي أن يلغى ويطرح { مرّوا كراماً } مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه مع المشتغلين به . وأصل الكلمة من قولهم « ناقة كريمة » إذ كاننت لا تبالي بما يحلب منها للغزارة ، فاستعير للصفح عن الذنب . ويقال : تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عن ذلك . وقيل : إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا . وقيل : إذا ذكروا النكاح كفوا عنه . قال جار الله : قوله { لم يخروا عليها } ليس نفياً للخرور ولكنه إثبات له ونفي للصمم والعمى كما تقول : لا يلقاني زيد مسلماً هو نفي للسلام لا للقاء . والمراد أنهم إذا ذكروا بآيات الله أي وعظوا بها ونبهوا حرصوا على استماعها بآذان واعية وعيون باكية لا كالمنافقين الذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان لا يعونها ولا يبصرون ما فيها فهم متساقطون عليها غير منتفعين بها . قوله { من أزواجنا } « من » للبيان وتسمى في علم البيان تجريدية كأنه قيل : هب لنا قرة أعينن ثم فسرت القرة بالأزواج والذرية كقولهم « رأيت منك أسداً » أي أنت أسد . ويجوز أن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا لا في الأمور الدنيوية من الجاه والمال والجمال بل في الأمور الأخروية من الطاعة والصلاح . عن محمد بن كعب : ليس شيء أقر لعين المؤمن من ان يرى زوجته وأولاده مطيعين لله . وعن ابن عباس : هو الولد إذا رآه يكتب الفقه .
وقيل : سألوا أن يلحق الله عز وجل بهم أولادهم وأزواجهم في الجنة ليتم لهم سرورهم . وتنكير أعين إما لأنه أراد أعيناً مخصوصة هي أعين المتقين ولهذا اختير جمع القلة لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم { وقليل من عبادي الشكور } [ سبأ : 13 ] وإما لأجل تنكير القرة فإن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه أي هب لنا منهم سروراً وفرحاً . قال الزجاج : يقال أقر الله عينك اي صادف فؤادك ما يحبه . وقال المفضل : في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها : برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك كما أن حره دليل الحزن والغم . والثاني قرتها أن تكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن . والثالث حصول الرضا . وقوله { إماماً } في معنى الجمع اكتفى به لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كما قال : { يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] أو أريد كل واحد منا أو اجعلنا إماماً واحداً لاتحاد كلمتنا ، أو هو جمع آمّ كصائم وصيام وصاحب وصحاب . وقيل : في الاية دلالة على أن الرياسة يجب أن تطلب ويرغب فيها والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدي بهم . ومن هنا فسره القفال بأن المراد اجعلنا حجة للمتقين . قالت الأشاعرة : الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل ذلك على أن العلم والعمل بل جميع افعال العباد مخلوقة لله تعالى . وقالت المعتزلة : إنهم سألوا من الألطاف ما بها يخارون أفعال الخير إلى أن يصيروا أئمة . وأجيب بأن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثاً . ثم بين جزاء عبادة العباد بقوله { أولئك يجزون الغرفة } أي الغرفات وهي العلاليّ في الجنة فوحد اكتفاء بالجنس . وقيل : الغرفة اسم للجنة . وقوله { بما صبروا } أي بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات أو على اذى الكفار وضر الفقر وغير ذلك ولهذا أطلق إطلاقاً ليشمل كل مصبور عليه . ثم بين بقوله { ويلقون } أن تلك المنافع مقرونة بالتعظيم والتحية والدعاء بالتعمير ، والسلام دعاء بالسلامة من الآفات وهما من الملائكة أو من الله أو من بعضهم لبعض . ثم ذكر أنه غني عن طاعة الكل وأنه إنما كلفهم لينتفعوا بذلك . قال الخليل : ما أعبأ بفلان اي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ويدعي أن وجوده وعدمه سواء . وقال الزجاج : { ما يعبأ بكم ربي } يريد ايّ وزن يكون لكم عنده؟ والعبء الثقل ، و « ما » استفهامية أو نافية ، والدعاء إما مضاف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة ، وإما إلى الفاعل أي لولا إيمانكم أو لولا عبادتكم أو لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله } [ العنكبوت : 65 ] أو لولا شكركم له على إحسانه كقوله { ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم } [ النساء : 147 ] أو ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة ، أو ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم أو تستغفروني فأغفر لكم .
قوله : { فقد كذبتم } أي أعلمتكم أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي . { فسوف يكون لزاماً } وهو عقاب الآخرة نظيره قول الملك لمن استعصى عليه : إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى عقوبتي . والخطاب لجنس الإنس وإذا وجد في جنسهم التكذيب فقد صح الخطاب ، والأوجه أن يترك اسم « كان » غير منطوق به ليذهب الوهم كل مذهب من أنواع الإبعاد . وقيل : يكون العقاب لزاماً . وعن مجاهد : هو القتل يوم بدر وقد لوزم إذ ذاك بين القتلى لزاماً والله تعالى أعلم .
التأويل : { ولو شئنا لبعثنا } فيه كمال القدرة وإن أمر النبوة ليس يتعلق بالقربات والمزاجات بل بمحض المشيئة الأزلية . ويروى أن موسى عليه السلام سئم الرسالة وتبرم في بعض الأيام فأوحى الله تعالى : في ليلة واحدة إلى ألف من بني إسرائيل فاصبحوا أنبياء ، فضاق قلب موسى وغار وقال : يا رب إني لا أطيق ذلك . فقبض الله ارواحهم في ذلك اليوم . وفيه كمال الحكمة فإن العزة في القلة ومنه تظهر فائدة الخاتمة وعموم رسالته ، وفيه تأديب الخواص وعصمتهم عن رؤية الأعمال . فلا تطع كفار النفس وسائر القوى البدنية { وجاهدهم } بهذا الخلاق { جهاداً كبيراً } لا تواسيهم بالرخص ولكن يحملهم على العزائم { وهو الذي مرج } بحر الروح وبحر النفس { هذا عذب فرات } من الأخلاق الحميدة الربانية { وهذا ملح أجاج } من الصفات الذميمة الحيوانية . والرزخ هو القلب . وفائدة مرج الأجاج هو احتياج الإنسان إلى الأخلاق الذميمة لدفع المضرات الدنيوية والأخروية في مقامها . وحرام على الروح أن تكون منشأ الأخلاق الذميمة ، وعلى النفس أن تكون معدن الأخلاق الحميدة { فجعله نسباً وصهراً } أهل النسب هم الذين صحت نسبتهم إلى عالم الأمر وهو قوله { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] وأهل الصهرهم الذين بقوا في عالم الخلق واختلطوا بالصفات البشرية من الحرص والشهوة والغضب ، وأشار إلى هذا الصنف بقوله : { ويعبدون من دون الله } [ يونس : 18 ] الآية وكان كافر النفس على ربه ظهيراً في إظهار صفة قهره لأنه مظهرها { وما أرسلناك إلا مبشراً } لأهل النسب { ونذيراً } لأهل الصهر إلا من شاء إلا أجر من شاء أن يتوسل إلى الرب بطاعته إياي وبخدمته لي . ومن ههنا قال المشايخ : يصل المريد بالطاعة إلى الجنة وبتعظيم الشيخ وإجلاله إلى الله . { وتوكل } اصل التوكل أن يعلم العبد أن الحادثات بأسرها مستندة إلى تكوين الله وتخليقه وهذا القدر من أصول الإيمان { وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين } [ المائدة : 23 ] وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فإنه مقام أرباب الأحوال وأصحاب الكمال . { وسبح بحمده } أي بما حمد به نفسه كقوله « أنت أثنيت على نفسك »
والقديم لا يليق به إلا الحمد القديم { وزادهم نفوراً } لأن الرحمن أقبل عليهم بقهره ولو كان أقبل عليهم بلطفه لخضعوا واستكانوا . { تبارك الذي جعل } في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر : التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء . وهو الذي جعل ليل السر ونهار التجلي خلقة رعاية لحقوق القلب وحظوظ النفس ، إن اراد أن يتعظ عند السر أو اراد شكوراً عند التجلي { وعباد الرحمن } دون الشيطان والدنيا والهوى والنفس يمشون في أرض الوجود عند السير إلى الله هوناً لئلا يتاذى بإثارة غبار صفات بشريتهم أحد { وإذا خاطبهم الجاهلون } وهم كل ما سوى الله من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم { قالوا سلاما } سلام مودّع { والذين يبيتون لربهم } لا لحظ أنفسهم في الروح ساجدون وفي الصباح واجدون . وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود وباطن في الوجود مزين ، ومع هذه الأحوال والمقامات يقفون في موقف الاعتذار والتذلل قائلين { ربنا اصرف عنا عذاب جهنم } القطيعة والبعد إذا أفنوا وجودهم في ذات الله وصفاته لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن { ولم يقتروا } في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات { لا يدعون مع الله إلهاً آخر } بأن لا يرفعوا حوائجهم إلى الأغيار ، ولا يشوبون أعمالهم بالرياء والسمعة ولا يحبون مع الله غيره { ولا يقتلون النفس التي حرم الله } قتلها بكثرة المجاهدة إلا بسطوات تجلي صفات الحق في مثل هذا القتل حياة أبدية { ولا يزنون } بالتصرف في عجوز الدنيا بغير إذن الله { يضاعف له العذاب } وهو عذاب النيران وعذاب الحرمان عن نعيم الجنان ومن قرب الرحمن { إلا من تاب } من عبادة الدنيا وهوى النفس . { وآمن } بكرامات الأولياء ومقامات الأصفياء { وعمل عملاً صالحاً } هو الإعراض عن غير الله وهو الإكسير الأعظم الذي لو طرح ذرة منه على ملء الأرض سيئة يبدلها إبريز الحسنات . { ومن تاب } رجع عن إنانيته إلى هوية الحق { وعمل صالحاً } بالدوام على هذه الحالة { فإنه يتوب } يرجع { إلى الله متاباً } لا مزيد عليه وهو جذبة { ارجعي } [ الفجر : 28 ] وحينئذ لا يشهد الزور اي لا يساكن غير الحق . { وإذا مرّوا باللغو } وهو ما سوى الحق لا يلتفت إليه . وإذا ذكر بآيات ربه تأمل فيها حق التأمل ودعا الله بأن يهب له من ازدواج الروح والجسد ومتولداتهما من القلب والنفس وملكات الأعمال الصالحة ما تقر به عين القلب وعين السر وعين الروح اي يتنور بنورها ، ويصير إذ ذاك مقتدى للمتقين لمتقي الجسد من مخالفات الشريعة ، ولمتقي النفس من الأوصاف الذميمة ولمتقي الروح عما سوى الله ، فيجزى الغرفة في مقام العندية بما صبر في البداية على التكاليف الشرعية ، وفي الوسط على تبديل الأخلاق الحميدة بالذميمة ، وفي النهاية بإفناء الوجود . ثم أخبر عن استغنائه عن وجود الخلق وعدمهم لولا دعاؤهم إياه بلسان الحاجة في حس العدم ، أو لولا دعاؤه إياهم في الأزل بلسان القدرة { فقد كذبتم } حين ادعيتم الغنى عن الصانع { فسوف يكون } خسران السعادة الأبدية لازماً لكم أعاذنا الله منه .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
القراآت : { طسم } وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد . وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب ، وقرأ حمزة ويزيد مظهرة النون عند الميم { إني أخاف } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { ويضيق ولا ينطلق } بالنصب فيهما : يعقوب . { أرجه } مثل ما في « الأعراف » { أين لنا } بالمد وبالياء . يزيد وأبو عمرو وزيد وقالون . وقرأ ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد بهمزة ثم ياء ، وعن قنبل { إن لنا } على الخبر . الباقون بهمزتين . هشام يدخل بينهما مدة . { آمنتم } بالمد : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب { آمنتم } على الخير : حفص غير الخزاز . الأخرون { أأمنتم } بهمزتين . { بعبادي إنكم } بفتح الياء : نافع وأبو جعفر { حاذرون } بالألف : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر . الباقون بغير الألف { فاتبعوهم } بالتشديد : زيد عن يعقوب . الباقون بقطع الهمزة وسكون التاء { تراءى الجمعان } بكسر الراء والهمزة في الوصل : حمزة ونصير وهبيرة في طريق الخزاز . واختلفوا في الوقف؛ فعن الكسائي بكسر الراء والهمزة على وزن « تريعى » وفي رواية أخرى عنه « ترائى » اي ترائى ، والمشهور عنه « ترأ » بكسر الراء وفتح الهمزة ، وأما حمزة فإنه يقف « ترى » بترك الهمزة وكسر الراء ويمد ويشير إلى موضع الهمزة وهو المصدر . وأما هبيرة فإنه يقف « تريا » بكسر الراء ويشير إلى فتح الهمزة . الباقون يقفون « تراءى » على وزن « تراعى » { معي ربي } بفتح الياء : حفص .
الوقوف : { طسم } 5 { المبين } 5 { مؤمنين } 5 { خاضعين } 5 { معرضين } 5 { يستهزؤن } 5 { كريم } 5 { لآية } ط { مؤمنين } 5 { الرحيم } 5 { الظالمين } 5 لا للابدال أو البيان تسجيلاً عليهم بالظلم { فرعون } ط للعدول عن الأمر إلى الاستفهام { يتقون } 5 { يكذبون } 5 لمن قرأ { ويضيق } بالرفع على الاستئناف { هرون } ط { يقتلون } 5 { قال كلا } لا للعطف معنى لا لفظاً { مستمعون } 5 { العالمين } 5 لا لتعلق « أن » { بني إسرائيل } ط { سنين } 5 { الكافرين } 5 { الضالين } 5 { المرسلين } 5 { إسرائيل } ط { العالمين } 5 { وما بينهما } ط لأن جواب الشرط محذوف اي إن كنتم موقنين فلا تكذبوني { موقنين } 5 { تستمعون } 5 { الأولين } 5 { لمجنون } 5 { وما بينهما } ط { تعقلون } 5 { المسجونين } 5 { مبين } 5 { الصادقين } 5 { مبين } 5 ج للآية مع العطف { للناظرين } 5 { عليم } 5 لا لأن ما بعده صفة { بسحره } ق قد قيل : بناء على أن ما بعده قول الملأ لفرعون والجمع للتعظيم ، والأصح أنه من تتمة قول فرعون . { تأمرون } 5 { حاشرين } 5 لا لأن ما يتلوه جواب .
{ عليم } 5 { معلوم } 5 لا للعطف { مجتمعون } لا لاتصال المعنى { الغالبين } 5 { لمن المقربين } 5 { ملقون } 5 { الغالبون } 5 { ما يأفكون } 5 للآية وللدلالة على إسراعهم في السجود { ساجدين } 5 { العالمين } 5 { وهرون } ط { لكم } 5 { لكم } 5 للابتداء بأن مع اتحاد القول { السحر } ط للفاء ولام الابتداء { فلسوف تعلمون } 5 لتقدير القسم { أجميعن } 5 { لا ضير } ط توقية لحق « إن » وإلا فالأصل هو الوصل لأن ما بعده هو القول في الحقيقة كما في « الأعراف » { منقلبون } 5 ج للآية مع اتحاد المقول { المؤمنين } 5 { متبعون } 5 { حاشرين } 5 للآية مع أن التقدير بأن هؤلاء { قليلون } 5 { لغائظون } 5 { حاذرون } 5 ط لابتداء الخبر من الله { وعيون } 5 لا { كريم } 5 لا لتعلق الكاف { كذلك } ط أي كما وعدنا بني إسرائيل إيراثها ثم أخبر عن وقوع الموعود لبني إسرائيل { مشرقين } 5 { لمدركون } 5 ووجه الوصل الإسراع في تداركهم عن خوف الإدراك { كلا } ج لاحتمال أن يكون للردع وأن يكون بمعنى حقاً { سيهدين } 5 { البحر } ط لأجل الفاء الفصيحة أي فضرب فانفلق { العظيم } 5 { الآخرين } 5 { أجمعين } 5 { الآخرين } 5 الآية ط { مأمنين } 5 { الرحيم } 5 .
التفسير : قال جار الله : معنى طسم إن آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين وقد مر مثله في أول « يوسف » . والبخع الإهلاك وقد مر في اول « الكهف » . عزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا ينفع . ثم بين أنه قادر على تنزيل آية ملجئة إلى الإيمان ولكن المشيئة والحكمة تقتضيان بناء الأمر على صورة الاختبار . قال صاحب الكشاف : وجه عطف { فظلت } على { ننزل } كما قيل في قوله { فاصدق وأكن } [ المنافقون : 10 ] كأنه قيل : أنزلنا فظلت . وأقول : الظاهر أن الفاء في { فظلت } لسببية بدليل عدم المستتر فيه كما في { ننزل } . ووجه العدول إلى الماضي كما قيل في { ونادى } [ الأعراف : 48 ] { وسيق } [ الزمر : 73 ] وجه مجيء { خاضعين } خبراً عن الأعناق إذ الأعناق تكون مقحماً لبيان موضع الخضوع . وأصل الكلام : فظلوا لها خاضعين أي حين وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل { خاضعين } كقوله { والشمس والقمر رايتهم لي ساجدين } [ يوسف : 4 ] وقيل : أعناقهم رؤساؤهم كما يقال لهم الرؤوس والصدور . وقيل : اراد جماعاتهم . يقال : جاءنا عنق من الناس لفوج منهم . عن ابن عباس : نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية . قال : ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة . ومعنى { ما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث } قد مر في سورة الأنبياء . نبه سبحانه بذلك على أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين غلى الإيمان حكيم يأتيهم بالقرآن حالاً بعد حال رعاية لقاعدة التكليف .
ثم ذكر أنه تعالى لا يحدد لهم توجيه موعظة وتذكير إلا جددوا ما هو نقيض المقصود ، وذلك النقيض هو الإعراض والتكذيب والاستهزاء وهذا ترتيب في غاية الحسن كأنه قيل حين أعرضوا عن الذكر : فقد كذبوا به وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره حتى صار عرضة للاستهزاء . وهذه درجات من أخذ في الشقاء فإنه يعرض أوّلاً ، ثم يصرح بالتكذيب ثانياً ، ثم يبلغ في التكذيب والإنكار إلى حيث يستهزئ . وفي قوله { فسيأتيهم } وعيد لهم بعذاب بدر أو يوم القيامة وقد مر مثله في أول « الأنعام » . ثم بين أنه مع حكمته في إنزال القرآن حالاً بعد حال رحيم يظهر من الدلائل الحسية ما يكفي للمتأمل في باب النظر والاستدلال . والزوج الصنف والكريم نعت لكل ما يرضى ويحمد في بابه منه « وجه كريم » إذا رضي في حسنه وجماله ، و « كتاب كريم » مرضي في مبانيه ، و « نبات كريم » مرضي فيما يتعلق به من المنافع ، فما من نبت إلا وفيه نفع وفائدة من جهة وإن كانت فيه مضرة من جهة أخرى . ويحتمل أن يراد بالكريم النافع منه وتكون المضارّ مسلوبة عنه . قال جار الله : معنى الجمع بين « كم » و « كل » دون أن يقول « كم أنبتنا فيها من زوج كريم » هو أن « كلا » قد دل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل ، و « كم » دل على أن هذا محيط مفرط الكثرة . قلت : فالحاصل أن خلق النوع يصدق بخلق فرد واحد منه كما يصدق بخلق أفراد كثيرة . فقوله { كل زوج } إشارة إلى خلق كل نوع من أنواع النبات ، وقوله { كم أنبتنا } إشارة إلى كثرة افراد كل نوع منه وفيه تنبيه على كمال القدرة ونهاية الجود والرحمة ولهذا ختم الكلام بقوله { إن في ذلك } الإنبات أو في كل واحد من تلك الأزواج { الآية } على الإبداء والإعادة { وما كان أكثرهم مؤمنين } لأن الله تعالى طبع على قلوبهم { وإن ربك لهو العزيز الرحيم } فمن عزته قدر على عقوبتهم ومن رحمته بين لهم الدلائل ليتفكروا ويعتبروا ، والرحمة إذا صدرت عن القدرة كانت أعظم موقعاً ، واعلم أنه سبحانه كرر بعض الآيات في هذه السورة لأجل التأكيد و « التقرير »؛ فمن ذلك أنه كرر قوله { إن في ذلك لآية } إلى قوله { الرحيم } في ثمانية مواضع : أولها في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، والثانية في قصة موسى ، ثم إبراهيم ، ثم نوح ، ثم هود ، ثم صالح ، ثم لوط ، ثم شعيب . ومن ذلك قوله { ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين } وهو مذكور في خمسة مواضع : في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب .
ومن ذلك أنه كرر { فاتقوا الله وأطيعون } في قصة نوح وهود وصالح وليس في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : { ما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاَّ على رب العالمين } [ الشعراء : 109 ] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة . وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال { ألم نربك فينا وليداً } ولا في قصة إبراهيم لأن اباه في المخاطبين حيث يقول : { إذ قال لأبيه وقومه } [ الأنبياء : 52 ] وهو قد ربَّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا { وما أسألكم عليه من أجر } وإن كانا منزهين من طلب الأجر .
ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتباراً لهذه الأمة ، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور . والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والأصوات ، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك . قال جار الله : قوله { ألا يتقون } كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم ، أو حال أدخلت عليه همزة الإنكار . ثم إن موسى خاف أن يذكب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون . وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام ، ولعله اراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في « طه » . ومعنى { فأرسل إلى هارون } أرسل إليه جبريل واجعله نبياً يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصاراً . ثم ذكر أن لهم عليه ذنباً فسمى جزاء الذنب ذنباً ، أو المضاف محذوف اي تبعه ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص . فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من المقصود ، وهذا قد جوزه الكعبي وغيره من البغداديين . وقال الأكثرون : الأقرب من حال الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه يمكنهم من أدائها فلا معنى للخوف من القتل قبل الأداء . نعم لو خاف بعد الأداء جاز وذلك لما جبل عليه طبع الإنسان من التنفر عن القتل فيسأل الله الأمان من ذلك وقد جمع الله له بقوله { كلا } الكلاءة وبقوله { فاذهبا } استنباء أخيه كأنه قيل : ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون { ومعكم ومستمعون } خبران لأن أو الخبر { مستمعون } و { معكم } متعلق به . ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام ، فالمراد معية النصرة والمعونة ، وأما الاستماع فمجاز أيضاً وإن كان إطلاق السمع على الله حقيقة لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء ولا بد فيه من الجارحة .
فحاصل الآية إنا لكما ولعدوّكما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه . وإنما وحد الرسول في قوله { إنا رسول رب العالمين } لأنه أراد كل واحد أو أراد الرسول بمعنى المصدر أي ذو رسالة رب العالمين . يقال : أرسلتهم برسول اي برسالة أو جعلا لاتفاقهما واتحاد مطلبهما كرسول واحد . وههنا إضمار دل عليه سياق الكلام أي فأتيا فرعون فقالا له ذلك . يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب : إن ههنا إنساناً يزعم أنه رسول رب العالمين . فقال : ائذن له لعلنا نضحك منه . فأديا إليه الرسالة فعرف أنه موسى فعند ذلك قال { ألم نربك فينا وليداً } أي صبياً وذلك لقرب عهده من الولادة . قيل : مكث فيهم ثلاثين سنة من أول عمره . وقيل : وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة ففر منهم . والفعلة الوكزة عدد عليه نعمه ، ثم وبخه بقتل نفس منهم وسماه كافراً لنعمه بسبب ذلك . وجوز جار الله أن يراد وأنت إذ ذاك ممن يكفر بالساعة فيكون قد افترى على موسى أو جهل أمره لأنه كان يعايشهم بالتقية . وإنما قلنا إنه افتراء أو جهل لأن الكفر غير جائز على الأنبياء ولو قبل النبوة ، ويجوز أن يراد أنه من الكافرين بفرعون وإلهيته أو بآلهة كانوا يعبدونها . قال تعالى : { ويذرك وآلهتك } [ الأعراف : 127 ] ثم إن موسى ما أنكر تربيته ولكن أنكر الكفر فلم ينسب نفسه إلا إلى الضلال وأراد به الذهاب عن الصواب ، أو أراد النسيان أو الخطأ وعدم التدبر في أدبار الأمور . ثم ذكر موهبة ربه في حقه حين فر من فرعون وملئه المؤتمرين بقتله . والحكم العلم بالتوحيد وكمال العقل والرأي ، ولا تدخل فيه النبوة ظاهراً لئلا يلزم شبه التكرار بقوله : { وجعلني من المرسلين } قال جار الله { وتلك } إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بعد أن فسرت بقوله { أن عبدت } نظيره قوله { وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع } [ الحجر : 66 ] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ كأنه أبى أن يسمي نعمته إلا نقمة لأن تعبيدهم أي تذليلهم واتخاذهم عبيداً وقصدهم . بذبح أبنائهم صار هو السبب في حصوله عنده وفي تربيته فلهذا قال الزجاج : « أن » مع ما بعده في موضع نصب أي إنما صارت نعمة عليّ لأن عبدت بني إسرائيل إذ لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم ومن هنا قال جار الله : إن قول موسى { فعلتها إذن } جواب لقول فرعون { وفعلت فعلتك } وجزاء له كأن فرعون قال : جازيت نعمتي بما فعلت . فقال موسى : فعلتها مجازياً لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء .
وقال الحسن : أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني . وقيل : اراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة .
واعلم أن للعلماء خلافاً في نعمة الكافر فقيل : إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد . وقيل : لا يبطل بالكفر إلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان ، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين . ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله { إنا رسول رب العالمين } { قال فرعون وما رب العالمين } وقد سبق مراراً أن كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأ ، يكون كفر جهالة ، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته ، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديريه ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل إليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه ، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو ، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال : إنه رب السموات والأرض وما بينهما ، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلاً : { ربكم ورب آبائكم الأولين } وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال { رب المشرق والمغرب وما بينهما } من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق . وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله { إن كنتم موقنين } أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه . وخاشنهم في الأخير بقوله { إن كنتم تعقلون } حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله : { إن كنتم تعقلون } حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله { إن رسولكم } ويمكن أن يراد بقوله { وما بينهما } ثانياً ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم ، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين ، والأول أقرب إلى اليقين فلهذا قال { إن كنتم موقنين } والثاني أقرب إلى الحس فلهذا قال { إن كنتم تعقلون } ولما انجر الكلام إلى حد العناد والمخاشنة هدده فرعون بقوله : { لئن اتخذت إلهاً غيري لاجعلنك من المسجونين } وهذا أبلغ من أن لو قال : « لأسجننك » والمعنى لأجعلنك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه يطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع ، وحينئذ عدل موسى إلى الحجة الأصلية في الباب وهو ادعاء المعجز المنبئ عن صدقه فقال { أولو جئتك } أي أتفعل فيَّ ذلك ولو جئتك بشيء أي جائياً بالمعجزة .
وفي قوله { إن كنت من الصادقين } إن سلم أنه قاله جداً لا هزلاً وجدالاً دلالة على ما ركز في العقول من أن دعوى الرسالة إن اقترنت بظهور المعجزة على يده تحقق صدقها . وقد شنع في الكشاف ههنا أن في أهل القبلة من خفي عليهم ما لم يخف على فرعون حتى جوزوا القبيح عليه سبحانه ولزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات . وفي التخطئة سهو من وجهين : أحدهما : أنه لا قبيح عند الأشاعرة عقلاً . والثاني أنه على تقدير التسليم لا يلزم تجويز كل قبيح وهذا من ذلك للزوم الاشتباه . وباقي القصة سبق نظيرها في « الأعراف » فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالسورة . قوله { قال للملأ حوله } قال في الكشاف : الظرف في محل النصب على الحال . وأقول : الأصوب أن يجعل نعتاً للملأ أي الأشراف حوله على طريقة قوله :
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني ... قوله { لمقيات يوم معلوم } اليوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى كما مر في « طه » . قوله { هل أنتم مجتمعون } استبطاء لهم في الاجتماع وحث عليه كقول الرجل لغلامه : هل أنت منطلق إذا أراد أن يحثه على الانطلاق . قوله { لعلنا نتبع السحرة } لم يكن غرضهم اتباع السحرة في دينهم وإنما غرضهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى ، فساقوا الكلام مساق المجاز لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى . قوله { بعزة فرعون } هي من أيمان الجاهلية ولا يصح الحلف في الإسلام إلا بالله تعالى وبصفاته كما مر في « البقرة » و « المائدة » . وقوله { فألقى السحرة } لم يسم فاعله وهو الله تعالى في الحقيقة حين ألقى دايعة الإيمان في قلوبهم ويجوز أن ينسب إلى ما عاينوا من المعجزات الباهرة ولك أن لا تقدر فاعلاً أي خروا . قوله { لا ضير } أي لا ضير علينا فيما يتوعدنا به من القتل .
قوله { إنا نطمع } الطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقوله إبراهيم { والذي أطمع أن يغفر لي } ويحتمل الظن بناء على أن المرء لا يعلم ما يختاره أو يؤل إليه عند الوفاة . ومعنى { أن كنا } لأن كنا وكانوا أوّل طائفة مؤمنين من أهل زمانهم أو من قوم فرعون أو من أهل المشهد . قوله : { أنكم متبعون } تعليل للإسراء أي بنيت تدبير أمركم على أن تتقدموا لو يتبعكم فرعون وجنوده إلى أن يغشاهم من اليم ما يغشاهم . قوله : { لشرذمة } هي الطائفة القليلة . ثم وصفهم بالقلة واختار جمع السلامة ليدل على أن كل حزب منهم في غاية القلة ، وذلك بالنسبة إلى عسكره وإلا فهم كثير في أنفسهم .
يروى أن فرعون أرسل في اثرهم الف ألف وخمسمائة الف ملك مسور مع كل ملك الف وخرج فرعون في جمع عظيم ، وكانت على مقدّمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة ، وكان قوم موسى إذ ذاك ستمائة ألف وسبعين ألفاً . ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والحقارة لا قلة العدد . قوله : { وإنهم لنا لغائطون } معناه أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالاً لغيظنا كأخذ الحلي وادّعاء الاستقلال والاستخلاص عن ذل الاستخدام ونحن قوم مجموعون كلمة وائتلافاً ، ومن عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور . فالحذر المتيقظ وهو يفيد الثبات والحاذر الذي يجدد حذره . وقيل : هو تام السلاح لأنه فعل ذلك حذراً واحتياطاً لنفسه ، وكل هذه المعاذير لأجل أن لا يظن به العجز وخلاف ما ادّعاه من القهر والتسلط . وقرئ { حادرون } بالدال غير المعجمة ، والحادر السمين القوي أراد أنهم أقوياء أشدّاء . { فأخرجناهم من جنات } أي بساتينهم التي فيها عيون الماء وكنوزر الذهب والفضة . قال مجاهد : سماها كنوزاً لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى . والمقام الكريم المنازل الحسنة والمجالس البهية . وقال الضحاك : المنابر . وقيل : السرر في الحجال . { كذلك } يحتمل النصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا ، والجر على الوصف أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم ، ولارفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك ، وعلى هذا فيوقف على { كريم } . { فأتبعوهم } اي فلحقوهم . ومن قرأ بالتشديد فظاهر . والإشراق الدخول في وقت الشروق { فلما تراءى الجمعان } أي رأى قوم موسى قوم فرعون وحصل كل من الفريقين بمرأى للآخر { قال أصحاب موسى } خوفاً وفزعاً { إنا لمدركون } لملحقون . قال موسى تثبيتاً لهم وردعاً عماهم عليه من الجزع والفزع { كلا إن معي ربي } بالنصرة والمعونة { سيهدين } سبيل النجاة والخلاص كما وعدني . ثم بين أنه كيف هداه بقوله { فأوحينا } الآية . ومعنى { فانفلق } فضرب فانفلق { فكان كل فرق } اي كل جزء متفرق منفلق منه { كالطود } وهو الجبل العظيم ومع ذلك وصفه بالعظيم { وأزلفنا ثم } أي قربنا حيث انفلق البحر { الآخرين } وهم قوم فرعون والمقرب منه بنو إسرائيل أو قوم فرعون أيضاً أي أدنينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد ، ويجوز أن يراد قدمانهم إلى البحر . وقرئ { وأزلقنا } بالقاف أي أزللنا أقدامهم حساً بأن لم يكن لهم البحر يبساً كما كان لبني إسرائيل ، أو عقلاً أي أذهبنا عزهم . والبحر بحر القلزم أو بحر من وراء مصر يقال له أساف . قالت الأشاعرة : إنه تعالى أضاف الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم في طلب موسى كفر . أجاب الجبائي بأن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى ، فلما كان مسيرهم بتدبير الله وهؤلاء تبعوهم اضافه إلى نفسه توسعاً ، وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول : أتعبني الغلام لما حدث ذلك عند فعله .
أو المراد أزلفناهم إلى الموت والأجل . وقال الكعبي : أراد أنه جمع تفرقهم كيلا يصلوا إلى موسى وقومه ، أو اراد أنه حلم عنهم وترك لهم لابحر يابساً حتى طمعوا في دخوله . واعترض بأن كل ذلك لا بد أن يكون له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم فيعود المحذور . { إن في ذلك } الذي حدث في البحر من إنجاء البعض وإغراق البعض أو في ذلك أي ذكر من القصة بطولها { لآية } عجيبة للمتدبر المتفكر في الأمور الإلهية { وما كان أكثرهم مؤمنين } حين سألوا بعد النجاة أن يجعل لهم موسى إلهاً غير الله ، واتخذوا العجل ، واقترحوا اقتراحات خارجة عن قانون الأدب . ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الأمة بدليل { واتل عليهم } [ الشعراء : 69 ] وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه بعد ظهور المعجزات ونزول الآيات .
التأويل : الطاء طوله في كمال عظمته ، والسين سلامته عن كل عيب ونقص ، والميم مجده الذي لا نهاية له . أو الطاء طهارة قلب نبيه عن تعلقات الكونين ، والسين سيادته على الأنبياء والمرسلين ، واليمم مشاهدته جمال رب العالمين . أو الطاء طيران الطائرين بالله ، والسين سير السائرين إلى الله ، والميم مشي الماشين لله الذين يمشون على الأرض هوناً . { إن نشأ ننزل } من سماء قلوبهم { آية } من واردات الحق { فظلت } أعناق نفوسهم { لها خاضعين } { فسيأتيهم } بعد مفارقة الأرواح الأجساد { أنباء ما كانوا به يستهزؤن } لظهور نتائج معاملاتهم الخبيثة على أرواحهم { أو لم يروا إلى } أرض قلوب العارفين { كما أنبتنا فيها } من اشجار أصناف الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص وسائر الأخلاق الكريمة { وما كان أكثرهم مؤمنين } لأن جناب الحق لعزته يجل عن أن يكون شرعة لكل وارد { وإن ربك لهو العزيز } الذي لا يوجد بالسعي { الرحيم } حين أدرك أولياءه بجذبات العناية كما أدرك موسى حين ناداه من الشجرة ، وذلك لأنه جعله مظهر لطفه كما أ نه جعل فرعون مظهر قهره فصار من العتوّ والاستكبار في غاية الكمال . ويعلم منه أن الإنسان له استعداد في مظهرية صفة القهر ليس لإبليس فلذلك عاند إبليس آدم وقال أنا خير منه وعاند فرعون الرب وقال أنا ربكم الأعلى . وأن له استعداداً في مظهرية صفة اللطف ليس للملك ولهذا صار الإنسان مسجوداً للملائكة . { أن أرسل معنا بني إسرائيل } فيه أن موسى القلب مرسل إلى فرعون النفس لئلا تستعيد الصفات الروحانية فإن لفرعن النفس في البداية استيلاء على موسى القلب والصفات الروحانية فاستعملهم في قضاء حوائجه وتحصيل مقاصده فعرفه فرعون النفس وقال { ألم نربك فينا وليداً } فإن موسى القلب كان في حجر فرعون النفس إلى أن بلغ أوان الحلم وهي خمس عشرة سنة ، فقتل قبطي الشهوة حين كفر بإله الهوى وكان قبل القتل ضالاً عن حضرة الربوبية { ففرت منكم } غلى الله لما خفت أن تقطعوا عليّ الطريق إلى الله .
رب سموات القلوب وأرض البشرية وما بينهما من المنازل { قال لمن حوله } من صفات النفس { الا تستمعون } { قال موسى } القلب لتعارفه بربه { ربكم ورب آبائكم الأوّلين } يعني الآباء العلوية الرحانية . وفي قوله { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } إشارة إلى كمال ضدية القلب والنفس فما يصدر عن القلب تعده النفس من الجنون وبالعكس . { رب } مشرق الروح من أفق البدن { ورب } مغربه فيه { وما بينهما } من مدة التعلق وقد مر نظيره في محاجة إبراهيم في « البقرة » { لأجعلنك من السمجونين } في سجن حب الدنيا فإن القلب إذا توجه إلى الله فلا استيلاء للنفس عليه إلا بشبكة حب النجاة والرياسة فإنها آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين . فقال موسى القلب : لا تقدر على أن تسجنني فإن معي عصا الذكر واليد المنزعة عما سوى الله . وباقي التأويل قد سبق قوله : { فأخرجناهم } أي { من جنات } صفات الأوصاف الروحانية { وعيون } الحكمة { وكنوز } المعارف { ومقام كريم } في حضرة أكرم الأكرمين { وأورثاها بني إسرائيل } فيه أن النفس إذا فنيت ورث القلب منها صفاتها وبقوتها تصير إلى مقامات لم يمكنه الوصول إليها بقوة صفاته ، ولو مات القلب ورثت النفس منه صفاته وبقوتها تتنزل إلى دركات لم يمكنها الوصول إليها بمجرد صفاتها { فأتبعوهم } أي لحق أوصاف النفس أوصاف القلب عند إشراق شمس الروح { فكان كل فرق } فيه أن كل صفة من أوصاف الروح كجبل عظيم في العبور عنه . { وأزلفنا ثم الآخرين } أي قربنا صفات النفس بتبعية صفات القلب إلى بحر الروح . { وأنجينا موسى ومن معه } من الأوصاف في بحر الروح بالوصول إلى الحضرة { ثم أغرقنا } أوصاف النفس في بحر الروحانية فإن الوصول إلى الحضرة من خواص القلب وغاية سير النفس هو الاستغراق في بحر الروحانية { إن في ذلك لآية } لأرباب العرفان { وما كان أكثرهم مؤمنين } بهذه المنازل فإنه لا يصير إليها إلا الشاذ من المجذوبين بجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] جعلنا الله من المستعدين لها والله أعلم .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
القراآت : { لي إلا } { واغفر لأبي إنه } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع { وأجري إلا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص : { وأتباعك } على أنه جمع تابع أو تبع : يعقوب { أنا إلا } بالمد : أبو نشيط عن قالون { معي من المؤمنين } بفتح ياء المتكلم : حفص وورش .
الوقوف : { إبراهيم } م لئلا يوهم أن « إذ » طرف { اتل } وإنما هو منصوب باذكر { ما تعبدون } 5 { عاكفين } 5 { تدعون } 5 { يضرون } 5 { يفعلون } 5 { تعبدون } 5 لا لأن الضمير بعده توكيد { الأقدمون } 5 والوصل أولى للفاء { العالمين } 5 لا لأن { الذي } صفة الرب { يهدين } 5 لا { يشفين } 5 { ويسقين } 5 { يحيين } 5 لا { الدين } 5 { بالصالحين } 5 لا { الآخرين } 5 لا { النعيم } 5 لا { الضالين } 5 لا { يبعثون } 5 { ولا بنون } 5 لا { سليم } 5 ط بناء على أن ما بعده إلى آخر أحوال الجنة والنار هو من كلام الله تعالى وهو الظاهر . وقيل : هو من تتمة كلام إبراهيم { العالمين } 5 { المجرمون } 5 { شافعين } 5 { حميم } 5 ط { المؤمنين } 5 { الاية } ط { مؤمنين } 5 { الرحيم } 5 { المرسلين } ج لأن « إذ » تصلح ظرفاً للتكذيب مفعولاً لا ذكر { تتقون } ج 5 لأن ما بعده من تمام المقول { أمين } 5 لا للفاء { وأطيعون } ج5 { من أجر } ج { العالمين } ج5 { وأطيعون } 5 لا { الأرذلون } 5 ط { يعملون } ج5 لأن ما بعده من تمام المقول { تشعرون } 5 لذلك { المؤمنين } ج5 { مبين } 5 { المرجومين } 5 ط { كذبون } 5 ج { المؤمنين } 5 { المشحون } ج5 { الباقين } 5 { الآية } ط { مؤمنين } 5ط { الرحيم } 5 .
التفسير : القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام وكان يعلم عبدة أصنام ولكنه سألهم للإلزام والتبكيت . ومثله أهل المعاني بأن يقول أحد للتاجر : ما مالك؟ وهو يعلم أن ماله الرقيق ثم يقول له الرقيق : جمال وليس بمال . وإنما قال في سورة الصافات { ماذا تعبدون } [ الصافات : 85 ] بزيادة « ذا » لأنه أراد هناك مزيد التوبيخ ولذلك بنى الكلام على الزيادة ثم اردفه بقوله { أئفكا آلهة دون الله تريدون } [ الصافات : 86 ] وحين صرح هنالك بالتوبيخ لم يجيبوه وههنا ظنوا أنه يريد الاستفهام حقيقة فأجابوه ولكنهم بسطوا الكلام بسطاً ولم يقتصروا على { أصناماً } بل زادوا ناصبه وعقبوه بقولهم { فنظل لها عاكفين } إظهاراً للابتهاج والافتخار . قال في الكشاف : وإنما قالوا { فنظل } لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل . قلت : وهذا مبني على النقل الصحيح والظن به حسن . قال : لا بد في { يسمعونكم } من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم؟ قلت : ويحتمل أن يكون المحذوف مفعولاً ثانياً أي هل يسمعونكم تدعون إذ تدعون وهو حكاية حال ماضية لأن « إذ » للمضي ومعناه استحضار الأحوال الماضية التي كانوا يدعونها فيها .
وحين تمسكوا في الجواب بطريقة التقليد قائلين على سبيل الإضراب { بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } نبههم إبراهيم بقوله { أفرأيتم } على أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديماً أو حديثاً ولا بأن يكون في مرتكبيه كثرة أو قلة ، وصرح بأن معبوديه أعداء لقوله تعالى { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } [ مريم : 82 ] أو لأن الذي يغري على عبادتها هو الشيطان وهو أعدى عدو للإنسان ، وإنما لم يقل عدوّ لكم لأنه أراد تصوير المسألة في نفسه ليكون أدل على النصح وأقرب إلى القبول كأنه قال : إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ . ويحكى عن الشافعي أن رجلاً واجهه بشيء فقال : لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب . وقوله { إلا رب العالمين } استثناء منقطع أي لكن رب العالمين حبيب لي . ثم وصف لهم الرب بأنه { الذي خلقني فهو يهدين } أي خلق بدني على كماله الممكن له ثم يهدين في الاستقبال إلى ضروب مصالح الدين والدنيا كامتصاص الدم في البطن والثدي بعد الولادة نظيره ما مر في « طه » { الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] . ثم نبه بقوله { والذي هو يطعمني ويسقين } أن الذي يتعلق به قوام البدن من الاغتذاء بالطعام والإساغة بالشراب هو من جملة إنعام الله تعالى لأنه خلق هناك قوى جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها ، ولولاها لما تم أمر الاتفاع بالغذاء بل نفس الغذاء من جملة نعمه الشاملة ، ثم قال { وإذا مرضت فهو يشفين } وذلك أن البدن ليس دائماً على النهج الطبيعي بحيث تصدر عنه الأفعال الموضوع هو لها سليمة فاسترداد الصحة بعد زوالها ليس إلا بإذن الله وبما خلق لكل داء دواء وإنما لم يقل أمرضني لأن كثيراً من اسباب المرض يحدث بإسراف الإنسان في المطعم والمشرب . وأيضاً الصحة تحتاج إلى سبب قاهر يقسر الأخلاط والقوى على النسبة المطلوبة ، أما المرض فإنه بسبب تنافر الأخلاط وطلب كل منها مركزه الصلي . وأيضاً فيه رعاية الأدب في مقام المدح وتعداد النعم وإنما لم يراع هذه النكتة في قوله { والذي يميتني } لأن الإماتة ليست بضر كالمرض . إما بعدم الإحساس وقتئذ ، وإما لأنها مقدمة الوصول إلى عالم الخير والراحة . وإنما زاد لفظة « هو » في الإطعام والشفاء لأنهما قد ينسبان إلى الإنسان فيقال : زيد يطعم وعمرو يداوي . فأكد إعلاماً بأن ذلك في الحقيقة من الله ، واما الإماتة والإحياء فلا يدعيهما مدع فأطلق : ثم اشار إلى ما بعد الإحياء من المجازاة بقوله { والذي أطمع } فحمل الأشاعرة الطمع على مجرد الظن والرجاء بناء على أنه لا يجب لأحد على الله شيء . وحمله المعتزلة على اليقين تارة وعلى هضم النفس والتواضع وتعليم الأمة أخرى ، كما أنه أضاف الخطيئة إلى نفسه لمثل ذلك .
وقد تحمل الخطيئة على المعاريض المنسوبة إليه من قوله { إني سقيم } [ الصافات : 89 ] وقوله { بل فعله كبيرهم } [ الأنبياء : 63 ] وقوله لسارة « هي أختي » وإنما علق المغفرة بيوم الدين لأن أثرها يتبين يومئذ وهو في الدنيا خفي . قال بعضهم : فائدة زيادة « لي » هي أن يعلم أن المغفرة فائدتها تعود إليه والله سبحانه لا يستفيد بذلك كمالاً لم يكن له . والمراد : أطمع أن يغفر لي لمجرد عبوديتي له واحتياجي إليه لا بواسطة شفيع كما قال لجبرائيل : أما إليك فلا .
وحين قدم الثناء شرع في الدعاء تعليماً لأمته إذا أرادوا مسألة فقال { رب هب لي حكماً } وهو إشارة إلى كمال القوة النظرية { وألحقني بالصالحين } وهو إشارة إلى كمال القوة العملية . ولقد اجابه حيث قال { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } وقيل : الحكم النبوة إذ النبي ذو حكمة وذو حكم . بين عباد الله تعالى وزيف بأنه كان حاصلاً فكيف يطلبه؟ والظاهر أنه اراد بالحكم النسب الذهنية المطابقة للخارجية أعني العلوم النظرية كما بينا . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال ، إنه طلب العلم من الله فلولا أن العلم بخلقه وإلا كان السؤال عبثاً . وحمله المعتزلة على منح الألطاف . قيل : الحكم المطلوب بالدعاء إن كان هو العلم بغير الله لزم أن يكون سائلاً لما يشغله عن الله وهو باطل ، وإن كان العلم بالله بقدر ما هو شرط صحة الإيمان لزم طلب ما هو حاصل لأدنى المؤمنين فضلاً عن إبراهيم ، فإذن هو العلم الزائد على ما هو ضروري في الإيمان وهو الوقوف على حقيقة الذات والصفات ، ثم لا يكشف المقال عنها غير الخيال وبه يصير المؤمن من الواصلين إلى العين دون السامعين إلى الأثر . ثم طلب الذكر الجميل بقوله { واجعل لي لسان صدق } والإضافة فيه كقوله { قدم صدق } [ يونس : 2 ] وقال ابن عباس : وقد أعطاه الله ذلك لقوله { وتركنا عليه في الآخرين } [ الصافات : 78 ] ولهذا اتفق أهل الأديان قاطبة على حبه وادعاء متابعته . ومدح الكافر ليس مقصوداً لذاته من حيث هو كافر وإنما المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحموداً بكل لسان . وفائدة الثناء على الشخص بعد وفاته هو انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله زلفى وقد يصبر ذلك المدح داعياً للمادح أو لمن يسمعه إلى اكتساب مثل تلك الفضائل . وقيل : سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعياً إلى ملته وهو محمد صلى الله عليه وسلم . ثم سأل ما هو غاية كل سعادة فقال { واجعلني من ورثة جنة النعيم } وقد مر معنى هذه الوراثة في قوله { وتلك الجنة التي أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] وكذلك في سورة مريم { تلك الجنة التي نورث من عبادنا }
[ مريم : 63 ] ثم طلب السعادة الحقيقية لأشد الناس التصاقاً به وهو ابوه قائلاً { واغفر لأبي } وقد سبق في آخر التوبة وفي مريم « ما يتعلق به من المباحث . وههنا سؤال : وهو أنه متى حصلت الجنة بدعائه امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده { ولا تخزني } وايضاً قال تعالى { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } [ النحل : 27 ] وما كان نصيب الكافر كيف يستجير منه المعصوم؟ أجاب عنه في التفسير الكبير كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذلك درجات الأبرار دركات المقربين ، وخزي كل واحد ما يليق بحاله فكأنه سأل الشركة أوّلاً ثم الخصوصية ثانياً . وأقول : يحتمل أن يكون هذا الدعاء من تتمة دعائه لأبيه أي لا تخزني ولا تفضحني بسبب تعذيب ابي يوم يبعث الضالون أو العباد كلهم ، ومثل هذا الضمير مما يعلم عوده بالقرينة . ويجوز أن يكون سأل الجنة بشرط التعظيم والإجلال ، ويجوز أن يكون أخر هذا الدعاء لما يعقبه من حديث يوم القيامة وأهوالها وأحوالها فاراد أن لا ينقطع نظم الكلام . وفي قوله { إلا من أتى الله بقلب سليم } إشارة إلى ما وصفه الله به في قوله تعالى { وإن من شيعته لإبراهيم إذ جاء ربه بقلب سليم } [ الصافات : 84 ] وفي هذا الاستثناء وجوه منها : أنه منقطع والمضاف محذوف أي إلا حال من أتى الله بقلب سليم والمراد بالحال سلامة القلب والمعنى : أن المال والبنين لا ينفعان وإنما ينفع سلامة القلب عن الأمراض الروحانية كالجهل وسائر الأخلاق الذميمة ، ويندرج في سلامة القلب سلامة سائر الجوارح لأنه رئيسها . ولا شك أن المال والبنين ليسا من جنس سلامة القلب فيكون الاستثناء منقطعاً . ومنها أنه متصل وذلك على وجهين : أحدهما لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه . وثانيهما أن يجعل من باب قولهم :
تحية بينهم ضرب وجيع ... والمضاف المحذوف الحال أو السلامة نظيره أن يقال لك : هل لزيد مال وبنون؟ فتقول : ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلاً عن ذلك . ومنها أن يكون الموصول مفعولاً لينفع والاستثناء مفرغ أي لا ينفع مال ولا بنون أحداً إلا رجلاً سلم قلبه مع ماله وبنيه حيث أنفقه في طاعة الله وما قصر في باب تأديبهم وإرشادهم ، أو سلم قلبه من فتنة المال والبنين فلم يكفر ولم يعص . وقد يفسر السليم بالذائب من خشية الله تعالى .
وحين أنجرّ الكلام إلى ذكر يوم القيامة وصف الله تعالى أو إبراهيم أحواله وأهواله فقال { وأزلقت الجنة للمتقين } قال المفسرون : الجنة تقرب من موقف السعداء ليكون لهم فرجاً معجلاً ، وتجعل النار بارزة مكشوفة للأشقياء ليزدادوا غماً وحسرة ، ولمثل هذا اليوم وبخهم بقوله { إينما كنتم تعبدون } يعني الآلهة التي كنتم تعبدونها { من دون الله هل ينصرونكم } بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وذلك قوله { فكبكبوا فيها هم } أي الآلهة { والغاوون } الذين عبدوهم قال جار الله : الكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلاً على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها أعاذنا الله منها .
والمراد بجنود إبليس شياطينهم أو متبعوه من عصاة الجن والإنس . { قالوا } يعني الغاوين وجنود إبليس { وهم } يعني والحال أن الأصنام وعبدتهم { فيها يختصمون } قال أكثر المفسرين : يجوز أن ينطق الله الأصنام بحيث يصح منها التخاصم . وقيل : إن هذا التخاطب بين العصاة والشياطين إذ سووهم برب العالمين . والمراد بالمجرمين على التفسيرين الرؤساء والكبراء . وعن السدي : الأولون الذين سنوا الشرك . وعن ابن جريج : إبليس وقابيل لأنه سن القتل وأنواع المعاصي : { فما لنا من شافعين ولا صديق حميم } خالص يهمه ما يهمنا وفيه نفي الشفعاء والصديق راساً أو نفي للذين كانوا عدّوهم شفعاء واصدقاء من الأصنام والرؤساء ، أو نفي للانتفاع بهم قصدوا بنفيهم ما يتعلق بهم من الفائدة ، فكل عديم النفع حكمه حكم المعدوم . قال جار الله : إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء لأجل الخشية عادة ، ولكن الصديق الصادق أعز من الكبريت الأحمر حتى زعم بعض الحكماء أنه اسم لا معنى له . وجوز أن يكون الصديق في معنى الجمع والكرة الرجعة إلى الدنيا « ولو » في معنى التمني . وقوله { فنكون } جواب التمني أو عطف في المعنى على { كرة } أي ليت لنا كرة فإن نكون ، وعلى هذا جاز أن تكون « لو » على أصل الشرط والجواب محذوف وهو لفعلنا كيت وكيت . ثم بين أن فيما كره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين .
القصة الثالثة قصة نوح : ولا ريب أن نبأه عظيم فقد كان يدعوهم الف سنة غلا خمسين عاماً ، ومع ذلك لم يزد قومه إلا التكذيب . والقوم مؤنث بدليل قوله { كذبت } وكان أميناً فيهم مشهوراً كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش . وكرر قوله { فاتقوا الله وأطيعون } تأكيداً وتقريراً في النفوس مع أنه علق كل واحد بسبب وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني نظيره قول الرجل لغيره : ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيراً؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيراً؟ وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة طاعته . قوله { وما علمي } يريد ايّ شيء علمي ومعناه انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله عز وجل واطلاعه على باطنهم ومكنون ضميرهم كأنهم طعنوا في إيمانهم ايضاً فذكر أن حسابهم على الله وأنه لم يبعث إلا للنذارة .
ويجوز أن يكون فسر لهم الرذالة بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد فبنى جوابه على ذلك وقال : ما علمي إلا اعتبار الظاهر والله يتولى السرائر . وفي قوله { لو تشعرون } إشارة إلى أنهم لا يصدقون بالحساب والجزاء ، وفيه إنكار أن يسمى المؤمن رذلاً وإن كان أفقر الناس وأوضعهم فالغني غني الدين والنسب نسب التقوى . { رب أن قومي كذبون } ليس إخباراً لأنه علام الغيوب وإنما هو تمهيد مقدمة لطلب الفتح والحكومة . والفلك المشحون المملوء من كل زوجين اثنين مع نوح وأهله .
التأويل : { واتل عليهم نبأ إبراهيم } القلب { إذ قال لأبيه وقومه } وهو الروح وما يتولد منه { نعبد أصناماً } وهو ما سوى الله { فنظل لها عاكفين } إلا أن أدركتنا العناية فنعرض عنها : { بل وجدنا آباءنا } وهم الأرواح والآباء العلوية كذلك يتعلق بعضهم ببعض { فإنهم عدوّ لي } إن تعلقت فصرت محجوباً بهم عن الله { خلقني فهو يهدين } إلى حضرته و { يطعمني } من طعام العبودية الذي يعيش القلوب ، ويسقيني من شراب طهور التجلي { وإذا مرضت } بتعلقات الكونين { فهو يشفين } بالجذبة الإلهية { والذي يميتني } عن أوصاف البشرية { ثم يحيين } بأوصاف الروحانية ويميتني عن أوصاف الروحانية ثم يحيين بالأوصاف الربانية ثم يميتني عن أنانيتي ثم يحيين بهويته { والذي أطمع أن } يستر ظلمة خطيئة وجودي بطلوع شمس نهار الدين { رب هب لي } من ربوبيتك { حكماً } على بذل وجودي فيهويتك { وألحقني } بالذين صلحوا لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة . { واجعل لي لسان صدق في الآخرين } من النفس وصفاتها ليعرضوا عما سوى الله { واغفر لأبي } الروح { إنه كان من الضالين } حين رد من العالم العلوي إلى السفلي من قولهم « ضل الماء في اللبن » { ولا تخزني } بتعلقات الكونين { قال نوح } القلب { وما علمي بما كانوا يعملون } يعني أراذل الجسد والأعضاء لأنهم عملة عالم الشهادة وأنا من عملة عالم الغيب { إن حسابهم إلا على ربي } فيما يعملون من الأعمال الحيوانية لحاجة ضرورية يعفو عنها والشهوة حيوانية يؤاخذهم بها { لو تشعرون } الفرق بينهما { قالوا } أي النفس وصفاتها { لئن لم تنته يا نوح } القلب عما تدعونا إليه على خلاف إرادتنا { لنكونن من المرجومين } بأحجار الوساوس والهواجس { في الفلك المشحون } أي في فلك الشريعة المملوء بالأوامر والنواهي والحكم والمواعظ والأسرار والحقائق { ثم أغرقنا الباقين } بطوفان استيلاء الأخلاق الذميمة وآفات الدنيا الدنية ، وباقي القصص إشارات إلى رسول القلب المسلم من الله وقومه النفس وصفاتها وإليه المرجع والمآب لما قررناه .
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
القراآت : { أوعظت } مدغماً : عباس ونصير { خلق الأولين } بفتح الخاء وسكون اللام : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعليّ { كذبت ثمود } مثل { بعدت ثمود } [ هود : 95 ] { فارهين } بالألف : ابن عامر وعاصم وحمزة وعليّ وخلف .
الوقوف : { المرسلين } 5 { تتقون } 5 { أمين } 5 { وأطيعون } 5 { أجر } 5 { العالمين } 5 { تعبثون } 5 لا { تخلدون } 5ج { جبارين } 5 { وأطيعون } 5ج { تعلمون } 5 ج { وبنين } 5لا { وعيون } 5ج { عظيم } 5 ط { الواعظين } 5 لا للحتراز عن الابتداء بمقولهم { الأولين } 5 لا لذلك { بمعذبين } 5 ج { فأهلكناهم } ط { لآية } ط { مؤمنين } 5 { الرحيم } 5 { المرسلين } 5 ط { تتقون } 5 { أمين } 5 لا { وأطيعون } 5 { أجر } 5 { العالمين } 5 { آمنين } 5 لا لتعلق الظرف { وعيون } 5 لا { هضيم } 5 { فارهين } 5ج للآية مع العطف { وأطيعون } 5ج لذلك { المسرفين } 5 لا لأن { الذين } صفتهم { ولا يصلحون } 5 { المسحرين } 5ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول { مثلنا } ز { من الصادقين } 5 { معلوم } 5ج { عظيم } 5 { نادمين } 5 لا { العذاب } ط { لآية } ط { مؤمنين } 5 { الرحيم } 5 { المرسلين } 5 لا { ألا تتقون } 5 ج { أمين } 5 لا { وأطيعون } 5 ج { أجر } ج { العالمين } 5 ط { من العالمين } 5 لا للعطف { من أزواجكم } 5 { عادون } ط { المخرجين } 5 { القالين } 5 { يعملون } 5 { أجميعن } 5 { الغابرين } 5 { الآخرين } 5 ج { مطر المنذرين } 5 { لآية } ط { مؤمنين } 5 { الرحيم } 5 .
التفسير : القصة الرابعة قصة هود ولنذكر من تفسيرها ما هو غير مكرر . الريع بالكسر وقرئ بالفتح المكان المرتفع ومنه الغلة لارتفاعها . والآية العلم وفي هذا البناء وجوه : فعن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل موضع مرتفع علماً يعبثون فيه بمن يمر بالطريق إلى هود . وقيل : كانوا يبنون ذلك ليعرف به فخرهم وغناهم فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث وقيل : كانوا يقتنون الحمام قاله مجاهد . والمصانع مآخذ الماء . وقيل : القصور المشيدة والحصون . ومعنى { لعلكم تخلدون } ترجون الخلود في الدنيا أو ظلماً وعلواً فوصفوا بكونهم إذ ذاك جبارين . وقيل : الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب . وعن الحسن : اراد أنهم يبادرون العذاب من غير تفكر في العواقب . والحاصل أن اتخاذ الأبنية الرفيعة يدل على حب العلوّ ، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء ، والبطش الشديد يدل على حب التفرد بالعلوّ فكأنهم أحبوا العلوّ وبقاء العلوّ والتفرد بالعلوّ وكل هذه لمن له الصفات الإلهية لا العبدية . ثم بالغ في تنبيههم على نعم الله حيث أجملها بقوله { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون } إيقاظاً لهم عن سنة الغفلة مستشهداً بعلمهم ثم فصلها بقوله { أمدكم بأنعام } عليها تدور معايشكم { وبنين } بهم يتم أمر حفظها والقيام بها { وجنات } يحصل بها التفكه والتنزه { وعيون } بمائها يكمل النماء .
ثم ختم الكلام بتخويفهم تنبيهاً على أنه كما قدر أن يتفضل عليهم بهذه النعم الجسام فهو قادر على العذاب فيكون فيه مزيد حث على التقوى وكمال تنفر عن العصيان . ثم شرع في حكاية جواب القوم وأنهم قالوا : إن وعظه وعدم وعظه بالنسبة إليهم سيان . وإنما لم يقل « أوعظت أم لم تعظ » مع كونه أخصر لأن المراد سواء علينا افعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أو لم تكن من مباشريه وذويه راساً وهذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه . منقرأ { خلق الأولين } بفتح الخاء فمعناه أن هذا إلا اختلاق الأولين وأكاذيبهم ، أو ما هذا إلا خلق الأقدمين نحيا ونموت ولا بعث ولا جزاء . والقراءة الأخرى معناها لسنا نحن إلا على دين الأولين من آبائنا ، أو ليس ما نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة جارية لا خرق لها ، أو ما هذا الذي جئت به من تلفيق الأكاذيب . إلا عادة مستمرة من المتنبين . ثم أكدوا إنكارهم المعاد بقولهم { وما نحن بمعذبين } فأظهروا بذلك جلادتهم وقوة نفوسهم فأخبر الله تعالى عن إهلاكهم وقد سبقت كيفية ذلك مراراً .
القصة الخامسة قصة صالح . قال جار الله : الهمزة في { أتتركون } يجوز أن تكون للإنكار اي لا تتركون مخلدين في الأمن والراحة ولكل نعمة زوال ، ويجوز أن تكون للتقرير أي قد تركتم في أسباب الأمن والفراغ ، أجمل أولاً بقوله { فيما ههنا } أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم ، ثم فسره بقوله { في جنات وعيون } وذكر النخل بعد ذكر الجنات إما تخصيص للجنات بغير النخل ، وإما تخصيص للنخل بالذكر تنبيهاً على فضله ومزيته . وطلع النخلة ما يبدو منها كنصل السيف وقد مر في « الأنعام » . والهضيم اللطيف الضامر من قولهم « كشح هضيم » أراد أنه وهب لهم أجود النخل وألطفه كالبرني مثلاً . وقيل : وصف نخيلهم بالحمل الكثير فإنه إذا كثر الحمل هضم أي لطف . وقيل : الهضيم اللين النضيج كأنه قال : ونخل قد ارطب ثمره . والفراهة الكيس والنشاط ومنه « خيل فرهة » و { فارهين } حال من الناحتين . قال علماء المعاني : جعل الأمر مطاعاً مجاز حكمي وإنما المطاع بالحقيقة هو الآمر . وفي قوله { ولا يصلحون } إشارة إلى أن إفسادهم في الأرض غير مقترن بالإصلاح راساً . والمسحر الذي سحر كثيراً حتى غلب على عقله . وقيل : هو من السحر الرئة . أرادوا أنه بشر ذو سحر وهو ضعيف لأنه يلزم التكرار بقوله : { ما أنت إلا بشر مثلنا } إلا أن يقال : إنه بيان . والشرب النصيب من الماء كالسقي للحظ من السقي . وقرئ بالضم عن قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء .
سؤال : لم أخذهم العذاب وقد ندموا والندم توبة؟ جوابه كان ندمهم ندم خوف من العقاب العاجل أو ندموا ندم توبة في غير أوانها وذلك عند عيان العذاب . وقيل : ندموا على ترك عقر ولدها وفيه بعد . واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم .
القصة السادسة : قصة لوط : أنكر على قومه إتيانهم الذكور من الناس لا الإناث على كثرتهن ، أو أنكر عليهم كونهم مختصين من العالمين بهذه الفاحشة . فقوله : { من العالمين } يعود على الأول إلى المأتي ، وعلى الثاني إلى الآتي . والعالمون على هذا كل ما ينكح من الحيوان ولا شيء من الحيوان يرتكب هذه الفعلة إلا الإنسان . قوله { من أزواجكم } إما بيان لما خلق وإما للتبعيض فيراد بما خلق العضو المباح منهن فلعلهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم . والعادي المتجاوز الحد في ظلم اي { بل أنتم قوم عادون } في جميع المعاصي وهذه واحدة منها ، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن تنسبوا إلى العدوان حيث فعلتم هذه الجريمة العظيمة . { قالوا لئن لم تنته يا لوط } عن نهينا { لتكونن } من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يطردون من خالف أراد أنه كامل في قلاهم عصبية للدين ، أو أنه معدود في زمرة مبغضيهم كما تقول : فلان من العلماء . فيكون أبلغ من قولك « هو عالم » . ثم طلب النجاة من عقوبة عملهم أو سأل العصمة عن مثل عملهم ولقد عصمهم الله { إلا عجوزاً } رضيت بفعلهم وأعانت على ذلك وكانت من أهله بحث الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان . ومعنى { في الغابرين } إلا عجوزاص مقدراً غبورها أي بقاؤها في الهلاك . واللام في { المنذرين } للجنس لتصلح الفاء علة فعل الذم والمخصوص محذوف أي ساء مطر جنس المنذرين مطر أولئك المعهودين والله أعلم .
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
القراآت : { ليكة } بلام مفتوحة بعدها ياء ساكنة وبفتح التاء على أنها ممتنعة من الصرف للعلمية والتأنيث ، وكذلك في « صاد » : اي جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر . الآخرون { الأيكة } معرفاً مجروراً . { كسفاً } بفتح السين : حفص غير الخزاز . الآخرون بسكونها { ربي أعلم } بفتح الياء : نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو { ونزل به } مخففاً { الروح الأمين } مرفوعين : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وابو زيد عن المفضل وزيد عن يعقوب . الباقون { نزل } مشدداً { الروح الأمين } منصوبين { أو لم تكن } بتاء التأنيث { آية } بالرفع : ابن عامر . الباقون بالياء التحتانية { آية } بالنصب : { فتوكل } بالفاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون بالواو { من تنزل الشياطين } بتشديد التاء وكذلك { تنزل } البزي وابن فليح { يتبعهم } بالتخفيف : نافع { وادي } بالياء في الوقف : يعقوب والسرنديبي عن قنبل وقرأ قتيبة بالإمالة .
الوقوف : { المرسلين } ج5 { تتقون } 5 { أمين } 5 لا { وأطيعون } 5ج { أجر } ج { العالمين } 5 ط { المخسرين } ج5 { المستقيم } ج5 { مفسدين } ج5 { الأوّلين } 5 ط { المسحرين } 5 لا { الكاذبين } 5 ج { نصف آي القرآن } { الصادقين } 5 ط { تعملون } 5 { الظلة } ط { عظيم } 5 { لآية } ط { مؤمنين } 5 { الرحيم } 5 { العالمين } 5 { الأمين } 5 لا { المنذرين } 5 لا { مبين } 5 { الأولين } 5 { إسرائيل } ط5 { الأعجمين } 5لا { مؤمنين } 5 ط { المجرمين } 5 ط بناء على أن { لا يؤمنون } مستأنف للبيان ولو جعل حالاً فلا وقف { الأليم } 5 لا { لا يشعرون } 5 لا { منظرون } 5ط { يستعجلون } 5 { سنين } 5 لا للعطف { يوعدون } 5 لا لأن قوله { ما أغنى } جملة نفي أو استفهام قامت مقام الشرط { يمتعون } 5ط { منذرون } 5 وقد يوقف عليها بناء على أن { ذكرى } ليس بمفعول له والمراد ذكرناهم والوقف على { ذكرى } جائز { ظالمين } 5 { الشياطين } 5 { يستطيعون } 5 ط { المعزولون } 5ط { المعذبين } ج5 { الأقربين } ج5 للعطف { المؤمنين } 5 { تعملون } 5ج { الرحيم } 5 لا { تقوم } 5 لا { الساجدين } 5 { العليم } 5 { الشياطين } 5 ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار { أثيم } ج5 بناء على أن { يلقون } حال من ضمير { الشياطين } اي تنزل ملقين السمع أو صفة { لكل افاك } وإن جعل مستأنفاً كأن قائلاً قال : لم تنزل؟ فقيل : يفعلون كيت وكيت فلك الوقف . { كاذبون } 5ط { الغاوون } 5 ط { يهيمون } 5 لا { لا يفعلون } 5 { ظلموا } ط { ينقلبون } 5 .
التفسير : القصة السابعة قصة شعيب وأنه كان أخاً مدين دون أصحاب الأيكة ولهذا لم يقل « أخوهم شعيب » . يروى أن اصحاب الأيكة كانوا اصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهي التي حملها المقل . قال في الكشاف : قرئ { أصحاب ليكة } بتخفيف الهمزة وبالجر على الإضافة وهو الوجه ، ومن قرأ بالنصب وزعم أن { ليكة } بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف في هذه السورة وفي سورة ص ، ثم اعترض عليه بأن { ليكة } اسم لا يعرف .
قلت : إنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم ذلك الشيء ، والظن بالمتواتر يجب أن يكون أحسن من ذلك . أمرهم شعيب بإيفاء الكيل ونهاهم عن الإخسار وهو التطفيف وأن يجعل الشخص خاسراً فكأنه أمره بالإيفاء مرتين توكيداً ثم زاد في البيان بقوله { وزنوا بالقسطاطس المستقيم } وقد مر في سورة سبحان . قال في الكشاف : إن كان من القسط وهو العدل وجعلت السين مكررة فوزنه « فعلاس » وإلا فهو رباعي . قلت : إن كان مكرراً فوزنه « فعلال » أيضاً . وقوله { ولا تبخسوا } تأكيداً آخر وقد سبق في « هود » . والجبلة الخليقة حذرهم الله الذي تفضل عليهم بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين . قال في الكشاف : الفرق بين إدخال الواو ههنا في قوله { وما أنت إلا بشر } وبين تركها في قصة ثمود هو أنه قصد ههنا معنيان منافيان عندهم للرسالة : كونه مسحراً وكونه بشراً وهناك جعل المعنى الثاني مقرراً للأول . قلت : الفرق بين والإشكال في تخصصيص كل من القصتين بما خصت به ، ولعل السبب فيه هو أن صالحاً قلل في الخطاب فقللوا في الجواب ، وأكثر شعيب في الخطاب ولهذا قيل له خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب . « وإن » في قولهم { وإن نظنك } هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر . واللام في قوله { لمن الكاذبين } هي الفارقة . والكسف بالسكون والحركة جمع كسفة وهي القطعة وقد مر في سبحان في اقتراحات قريش . والمعنى إن كنت صادقاً في دعوة النبوة فادع الله أن يسقط علينا قطع السماء . وإنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فأرادوا بذلك إظهار كذبه فحلم عنهم شعيب ولم يدع عليهم بل فوض الأمر إلى الله بقوله : { ربي أعلم بما تعملون } يروى أن شعيباً بعث إلى أمتين : اصحاب مدين وأصحاب الأيكة . فأهلكت مدين بصيحة جبرائيل ، وأهلكت اصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة وذلك إنه حبس عنهم الريح سبعاً وسلط عليهم الحرّ فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظلٍ ولا ماء ولا شراب ، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى الصحراء فأظلتهم سحابة وجدوا لها برداً ونسيماً فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم ناراً فاحترقوا .
وحين سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه القصص المؤكدة بالمكررات المختتمة بالمقررات عاد إلى مخاطبته قائلاً { وإنه } اي وإن الذي نزل عليك من الأخبار { لتنزيل رب العالمين } أي منزله . والباء في { نزل به } علىلقراءتين للتعدية ولكنها في قراءة التشديد تقتضي مفعولاً آخر هو الروح أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلاً به على قلبك محفوظاً مفهوماً { لتكون من المنذرين } من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة : هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم .
ويجوز أن يكون قوله { لسان } متعلقاً { بنزل } أي نزله { بلسان عربي } لتنذر به فإنه لو نزله بالأعجمي لقالوا : ما نصنع بما لا نفهمه . ومن هذا الوجه ينشأ فائدة أخرى لقوله { على قلبك } أي نزلناه بحيث تفهمه ولو كان أعجمياً لكان نازلاً على سمعك دون قلبك . والظاهر من نقل أئمة اللغة أن القلب والفؤاد مترادفان . ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن بعضهم أن القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد وذكر كلاماً طويلاً في أن محل العقل هو القلب دون الدماغ وهو المخاطب في الحقيقة فلهذا قال { نزله على قلبك } ونحن قد تركناه لقلة تعلقه بالمقام ولضعف دلائله مع مخالفته لما عليه معظم أرباب المعقول . قوله { وإنه لفي زبر الأولين } يعني أن ذكر القرآن مثبت في الكتب السماوية للأمم المتقدمة ، وإن معاني القرآن في تلك الزبر . وقد يحتج به لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة . وقيل : الضمير فيه وفي { أن يعلمه } للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه حجة ثابتة على نبوته قد شهد بها علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره من الذين أسلموا منهم واعترفوا أن نعته وصفته في كتبهم مذكور ، وكان مشركو قريش يذهبون إلى اليهود يتعرفون منهم هذا الخبر . من قرأ { يكن } بالتذكير و { آية } بالنصب على الخبر والاسم { أن يعلمه } فظاهر ، ومن قرأ { تكن } بالتأنيث و { آية } بالرفع على الاسم والخبر { أن يعلمه } فقيل : ليست بقوية لوقوع النكرة اسماً والمعرفة خبراً . ويمكن أن يجاب بأن الفعل المضارع مع أن ليس من المعارف الصريحة ، وقد توجه هذه القراءة بتقدير ضمير القصة في { تكن } وجملته { آية أن يعلمه } و { لهم } لغواً أو { لهم آية } { وأن يعلمه } بدل من آية . قال جار الله : إنما كتب علموء بالواو على لغة من يميل الألف إلى الواو ولذلك كتبت الصلوة والزكوة بالواو . ثم أكد بقوله { ولو نزلناه } ما مر من آية لو نزله بالأعجمي فقرأه عليهم بعض الأعجمين لم يؤمنوا به لأنهم لم يكونوا يفهمونه . وقال جار الله : معناه ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلاً أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا فصيحاً معجزاً متحدّى به لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذراً ولسموه سحراً . ثم قال { كذلك } أي مثل هذا السلك { سلكناه } في قلوبهم وقررناه فيها فعلى أيّ وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى تغييرهم عما هم عليه من الإنكار والإصرار ، وقد سبق مثل هذه الآية في أول « الحجر » . والحاصل أنهم لا يزالون على التكذيب حتى يعاينوا الوعيد ، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن اليأس إحدى الراحتين .
قال في الكشاف : ليس الفاء في قوله { فيأتيهم بغتة فيقولوا } لأجل ترادف العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة ، وإنما المعنى ترتيبها في الشدة كأنه قيل : لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة . فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة . نظيره قولك : : إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله ، لا تريد الترتيب في الوجود ولكن في الشدة . قلت : هذا معنى صحيح ولكن لا مانع من إرادة الترتيب والتعذيب في الوجود يظهر بالتأمل إن شاء الله العزيز . ثم نكرهم بقوله { أفبعذابنا يستعجلون } وفيه إنكار وتهكم أي كيف يستعجل العذاب من لا طاقة له به حتى استمهل بعد أن كان من العمر في مهلة؟ وجوز في الكشاف أن يكون { يستعجلون } حكاية حال ماضية يوبخون بها عند استنظارهم ، أو يكون متصلاً بما بعده وذلك أنهم اعتقدوا العذاب غير كائن فلذلك استعجلوه وظنوا أنهم يمتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن ، فأنكر الله عليهم استعجالهم الصادر عن الأشر والبطر والاستهزاء والاتكال على طول الأمل . ثم قال : هب أن الأمر كما ظنوه من التمتع والتعمير فإذا لحقهم الوعيد أو الأجل أو القيامة هل ينفعهم ذلك؟ . عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له : عظني فتلا عليه هذه الآية فقال له ميمون : لقد وعظت فأبلغت .
ثم بين أنه ما أهلك قرية إلا بعد إلزام الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم ، وعلى هذا يكون { ذكرى } متعلقة { بأهلكنا } مفعولاً له . ويجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً { لأنذر } بمعنى التذكرة فإن { أنذر } وذكر متقاربان ، أو حالاً من الضمير في { منذرون } أو مفعولاً له متعلقاً به أي ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل الموعظة والتذكير ، أو التقدير : هذه ذكرى فالجملة اعتراض . ويجوز أن يكون صفة { لمنذرون } على حذف المضاف أي ذوو ذكرى ، أو جعلوا ذكرى لبلوغهم في التذكرة أقصى غاياتها . والبحث عن وجود الواو وعدمه في مثل هذا التركيب قد مر في أول الحجر في قوله { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] إلا أنا نذكر ههنا سبب تخصيص تلك الآية بالواو وهذه بعدم الواو فنقول : لا ريب أن الواو تفيد مزيد الربط والاجتماع في الحال وفي الوصف إن جوزتا : فسواء قدرنا الجملتين أعني قوله { ولها كتاب معلوم } [ الحجر : 4 ] وقوله { لها منذرون } حالاً أو وصفاً فالمقام يقتضي ورود النسق على ما ورد ، وذلك أن قوله { ولها كتاب } صفة لازمة للقرية فإن الكتب في اللوح وصف أزلي فناسب أن يكون في اللفظ ما يدل على اللزوم واللصوق وهو الواو ، ثم زيد في التأكيد بقوله { معلوم } وبقوله { ما تسبق } وهذا بخلاف قوله { لها منذرون } فإنها صفة حادثة فأطلقت وجود صدر الجملة عن الواو لذلك والله أعلم .
ثم إنه لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بكون القرآن معجزاً منزلاً من رب العالمين مشتملاً على معاني كتب الأولين وكان الكفار يقولون إنه من إلقاء الجن كحال الكهنة أراد أن يزيل شبهتهم بقوله : { وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم } التنزل بالوحي { وما يستطيعون } . ثم بين عدم اقتدارهم بقوله { إنهم عن السمع } أي عن سماع كلام أهل السماء { لمعزولون } وذلك بواسطة رجم الشهب كما أخبر عنه الصادق والمعجزات يتساند بعضها ببعض ، ولو فرض أنهم غير مرجومين بالشهب فالعقل يدل على أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى منه بشأن العدو ، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان الغيب بإلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم ذلك . وحين أثبت حقية القرآن أمر نبيه بجوامع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلاً { فلا تدع } والمراد أمته كما مر في نظائره من قوله { ولئن اتبعت أهواءهم } [ البقرة : 120 ] وغير ذلك { وأنذر عشيرتك الأقربين } فيه أن الاهتمام بشأن من هو أقرب إلى المرء أولى . وفيه أنه يجب أن لا يأخذه في باب التبليغ ما يأخذ القريب للقرب من المساهلة ولين الجانب . « يروى أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب فخذاً فخذاً وقال : يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله : إني لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من المال ما شئتم » . « وروي أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً ، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس على رجل شاة ، فأكلوا وشربوا حتى شبعوا ثم أنذرهم فقال : يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلاً أكنتم مصدقي؟ قالوا : نعم . قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » قوله { واخفض جناحك } قد مر تفسيره في آخر « الحجر » وفي « سبحان » وزاد ههنا { لمن اتبعك } كيلا يذهب الوهم إلى أن خفض الجناح وهو التواضع ولين الجانب مختص بالمؤمنين من عشيرته . وإنما لم يقتصر على قوله { لمن اتبعك } لأن كثيراً منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين . وقال في الكشاف : سبب الجمع بين اللفظين هو أنه سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك ، أو أراد بالمؤمنين المصدّقين بالألسنة فزاد قوله { لمن اتبعك } ليخرج من صدّق باللسان دون الجنان ، أو صدق بهما ولم يتبعه في العمل . وحين أمره بالتواضع لأهل الإخلاص في الإيمان أمره بالتبرئة من ارباب العصيان . فاستدل الجبائي به على أن الله تعالى أيضاً بريء من عملهم فكيف يكون فاعلاً له؟! وأجيب بأنه إن أراد ببراءة الله أنه ما أمر بها فمسلم ، وإن أراد أنه لا يريدها فممنوع لانتهاء جميع الحوادث إلى إرادته ضرورة قوله { وتوكل } معطوف على قوله { فلا تدع } أو على قوله { فقل } أمره بتفويض الأمر في دفع أعاديه إلى العزيز الذي يقهر من ناوأ أولياءه الرحيم الذي لا يخذل من ينصر دينه .
قال بعض العلماء : المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما فيه معصية الله عز وجل ، ولو وقع في محنة واستعان في دفعها ببعض المخلوقين لم يخرج من حد المتوكلين ، ثم عدد مواجب الرحمة وهي رؤيته قيامه وتقلبه في الساجدين أي في المصلين . وللمفسرين فيه وجوه منها : ما روي أنه حين نسخ فرض التهجد طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه حرصاً عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات فوجدها كبيوت الزنانير ذكراً وتلاوة . فالمراد بتقلبه في الساجدين تفصح أحوال المتهجدين من اصحابه ليطلع عليهم كيف يعملون لآخرتهم . ومنها أن المراد تصرفه فما بين المؤمنين به بالقيام والركوع والسجود والقعود . ويروى عن مقاتل أنه استدل به على وجود فضل صلاة الجماعة في القرآن . ومنها أنه إشارة إلى ما جاء في الحديث « أتموا الركوع والسجود فوالله إني لأراكم من خلف ظهري » فالتقلب تقلب بصره فيمن يصلي خلفه . وقيل : أراد أنه لا يخفى علينا كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين . وقد احتج بالآية علماء الشيعة على مذهبهم أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكونون كفاراً . قالوا : أراد تقلب روحه من ساجد إلى ساجد كما في الحديث المعتمد عليه عندهم « لم أزل أنتقل من اصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات » وناقشهم أهل السنة في التأويل المذكور وفي صحة الحديث . والأصوب عندي أن لا نشتغل بمنع أمثال هذه الدعوى ونسرح إلى بقعة الإمكان على أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول .
ثم أكد قوله وما تنزلت به الشياطين بقوله { هل أنبئكم على من تنزل } قال في الكشاف : تقديره أعلى من تنزل؟ ليكون الاستفهام في صدر الكلام كقولك : أعلى زيد مررت؟ قلت : هذا تكلف بارد لأن لاستفهام في « من » ضمني لا يصرح به قط . والأفاك الكثير الإفك ، والأثيم مبالغة آثم وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح ومسيلمة وأمثالهما . والضمير في { يلقون } عائد إلى الشياطين كانوا قبل الرجم بالشهب يختطفون بعض الغيوب من الملأ الأعلى بإلقاء { السمع } أي بالإصغاء ثم يرجعون به إلى أوليائهم { وأكثرهم كاذبون } لأنهم يخلطون الحق المسموع بكلامهم الباطل كما جاء في الحديث « الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة » والقر الصب . وقيل : السمع بمعنى السمموع أي يلقي الشياطين إلى أوليائهم ما يسمعونه من الملائكة .
ويحتمل أن يكون الضمير في : { يلقون } للأفاكين والسمع الأذن أو المسموع أي يلقونه السمع إلى لاشياطين فيتلقون وحيهم ، أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس . وإنما لم يقل « وكلهم كاذبون » لأن الكذوب قد يصدق فيصدق عليه انه صادق في الجملة لأن هذه عبارة الفصحاء لا يحكمون حكماً كلياً ما لم تدع إليه ضرورة . والحاصل أنهم كانوا يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلم على حال الكهنة فقيل لهم : إن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلا الصدق ، فكيف يكون كاهناً؟ ثم بين ما يعرف منه أن النبي ليس بشاعر كما أنه ليس بكاهن فقال { والشعراء يتبعهم الغاوون } قيل : أي الشياطين . والأظهر أنهم الذين يروون أشعارهم وكان شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأمية بن ابي الصلت يهجون النبي صلى الله عليه وسلم ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أهاجيهم فنزلت . ثم بين غوايتهم بقوله { ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول يمدحون إنساناً معيناً تارة ويذمونه أخرى غالين في كلا الطرفين مستعملين التخيل في كل ما يرومونه . وذكر من قبائح خصالهم { أنهم يقولون } عند الطلب والدعاوي { مالا يفعلون } ولعمري إنها خصلة شنعاء تدل على الدناءة واللؤم .
قالوا وما فعلوا وأين هم ... من معشر فعلوا وما قلوا
وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله
:
فبتن بجانبيّ مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال : وجب عليك الحد : قال : قد درأ الله عني الحد يا أمير المؤمنين وتلا الآية . ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم الذكر والفكر فيما لا بأس به من المواعظ والنصائح ، ومدح الحق وذويه ، ويكون هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم مثل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . « وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : اهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل » وكان يقول لحسان : هاجهم وروح القدس معك . والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي . فإن كان المعنى صحيحاً مطابقاً للحق والصدق فلا بأس بإِدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه صلى الله عليه وسلم « إن من الشعر لحكماً » وإن كان المعنى فاسداً والغرض غير صحيح فهو الذي توجه الذم إليه . وللانتصار حد معلوم وهو أن لا يزيد على الجواب لقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [ البقرة : 194 ] وقال صلى الله عليه وسلم
« المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم » ثم ختم السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال { وسيعلم الذين ظلموا } خصصه بعضهم بالشعراء إذا خرجوا عن حد الإنصاف ، ومالوا إلى الجور والاعتساف ، ولعله عام يتناول لكل من ظلم نفسه بالإعراض عن تدبر ما في السورة بل القرآن كله . وقوله { أيّ منقلب } صفة لمصدر محذوف والعامل { ينقلبون } أي ينقلبون في الدركات السفلى انقلاباً أيّ منقلب ولا يعمل فيه { يعلم } لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . وعن ابن عباس أنه قرأه بالفاء والتاء والمراد سيعلمون أنه ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة .
التأويل : { ولو نزلناه على بعض الأعجميين } فيه إظهار القدرة من وجهين : الأول جعل الأعجمي بحيث يقرا العربي عليهم كقول القائل : أمسيت كردياً واصبحت عربياً . والثاني أن أهل الإنكار لا يصيرون أهل الإقرار ولو أتاهم مثل هذا الإعجاز البين ، وذلك لأن الله كذلك يسلكه في قلوبهم فيأتيهم عذاب البعد والطرد في الدنيا { بغتة وهم لا يشعرون } لأنهم نيام فإذا ماتوا انتبهوا فيقولون هل نحن منظرون . { وما ينبغي لهم وما يستطيعون } لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم ، ولهذا تستغيث النار من نور المؤمن وتقول : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي . { فتكون من المعذبين } لأن كل من طلب مع الله شيئاً آخر حتى الجنة فله عذاب البعد والحرمان من الله . { وأنذر عشيرتك } فيه أن النسب نسب النفوس فإن أكل المرء يشبعه ولا يشبع ولده . إلا إذا أكل الطعام كما أكل والده وهذا معنى المتابعة . { إني بريء مما تعملون } لم يقل « إني بريء منكم » لأن المراد لا تبرأ منهم وقل لهم قولاً جميلاً بالنصح والموعظة الحسنة حتى يرجعوا ببركة دعوتك إلى القول الحق ، أو ينالوا الجنة بواسطة شفاعتك . { وتقلبك في الساجدين } بأن خلق روح كل ساجد من روحك . { إنه هو السميع } في الأزل مقالتك « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » لأن أرواحهم خلقت من روحك { العليم } باستحقاقك لهذه الكرامة الله تعالى حسبي .
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
القراآت : { إني آنست } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { بشهاب } منوناً على أن قبساً وهو بمعنى مقبوس بدل أو صفة : عاصم وحمزة وعلي وخلف ورويس . الباقون بالإضافة { من في النار } ممالة : عليّ غير ليث وابي حمدون وحمدويه وحمزة وفي رواية ابن سعدان والنجاري عن ورش وأبو عمرو غير إبراهيم بن حماد وكذلك في « القصص » .
الوقوف : { طس } 5 { مبين } 5 لا بناء على أن { هدى } حال والعامل معنى الإشارة في { تلك } أو هو مرفوع بدلاً من { الآيات } أو خبراً بعد خبر وإن كان التقدير هي هدى به فلك الوقف { للمؤمنين } 5 لا لأن { الذين } صفتهم { يوقنون } 5 { يعمهون } 5 ط تنصيصاً على أن { أولئك } مبتدأ مستأنف { الأخسرون } 5 { عليم } 5 { ناراً } 5 { تصطلون } { حولها } ط { العالمين } 5 { الحكيم } 5 لا للعطف الجملتين الداخلتين تحت النداء { عصاك } ط للعدول عن بيان حال الخطاب إلى ذكر حال المخاطب مع حذف أي فألقاها فحييت { ولم يعقب } ط لابتداء النداء { المرسلون } 5 لا لأن « إلاّ » إن كان بمعنى « لكن » فالاستدراك يوجب الوصل أيضاً . { رحيم } 5 { وقومه } ط { فاسقين } 5 { مبين } ج5 للآية والعطف { وعلواً } ط لاختلاف الجملتين وتعظيم الأمر بالاعتبار بعد حذف أي فأغرقناهم { المفسدين } 5 .
التفسير : تلك الآيات التي تضمنتها هذه السورة آيات القرآن الذي علم أنه منزل مبارك مصدق لما بين يديه وكتاب مبين . فإن أريد به اللوح فآياته أنه أثبت فيه كل كائن ، وإن أريد به السورة أو القرآن فالغرض تفخيم شأنهما من قبل التنكير . فآياتهما أن إعجازهما ظاهر مكشوف وفيهما من العلوم والحكم ما لا يفخى ، ولأن الواو لا تفيد الترتيب فلا حكمة ظاهرة في عكس الترتيب بين ما ههنا وبين ما في أول « الحجر » . ومعنى كون الآيات هدى وبشرى أنها تزيد في إيمانهم وتبشرهم بالثواب . قال جار الله : يحتمل أن يكون قوله { وبالآخرة هم يوقنون } من تتمة الموصول إلا أن الأوجه أن يكون جملة مستقلة ابتدائية شبيهة بالمعترضة بدليل تكرير المبتدأ الذي هو هم فكأنه قيل : وما يؤمن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح ، لأن خوف العاقبة هو الذي يسهل عليهم متاعب التكاليف . وأقول : إنه وصفهم بالإيمان ليكون إشارة إلى معرفتهم المبتدأ ، ثم وصفهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما الطاعة بالنفس والمال ، وهذه إشارة إلى وسط . ثم وصفهم بمعرفة المعاد فلا أحسن من هذا النسق . وفيه أن المهتدي بالقرآن حقيقة هو الذي يكون موقناً بأحوال المعاد لا شاكاً فيها ، آتياً بالطاعات للاحتياط قائلاً : إن كنت مصيباً فيها فقد نلت السعادة وإن كنت مخطئاً فلم تفتني إلا لذات يسيرة زائلة .
ثم أورد وعيد المنكرين للمعاد وإسناد تزيين الأعمال إلى الله ظاهر على قول الأشاعرة ، وأما المعتزلة فتأولوه بوجوه منها : أنه استعارة فكأنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا ذلك التمتع ذريعة إلى اتباع الشهوات وإيثار اللذات فقد زين لهم بذلك أعمالهم . ومنها أنه مجاز حكمي وهو الذي يصححه بعض الملابسات . ولا ريب أن إمهال الشيطان وتخليته حتى زين لهم أعمالهم كما قال { وزين لهم الشيطان أعمالهم } [ النمل : 24 ] ملابسة ظاهرة للتزيين . ومنها أنه أراد زيناً لهم أمر الدين ولا يلزمهم أن يتمسكوا به وذلك أن بينا لهم حسنه وما لهم فيه من الثواب { فهم يعمهون } يعدلون ويتحيرون عما زينا لهم قاله الحسن { لهم سوء العذاب } أي القتل والأسر كيوم بدر . ثم مهد مقدمة لما سيذكر في السورة من الأخبار العجيبة فقال { وإنك لتلقى القرآن } لتؤتاه وتلقنه من عند أيّ حكيم وأيّ عليم . و { إذ قال } منصوب ب { عليم } أو باذكر كأنه قيل : خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى العجيبة الشأن . والخبر خبر الطريق لأنه كان قد ضله . وفي قوله { سآتيكم } مع قوله في « طه » و « القصص » { لعلي آتيكم } [ طه : 10 ] دليل على أنه كان قوي الرجاء إلا أنه كان يجوّز النقيض ، وعد أهله بأنه يأتيهم بأحد الأمرين وإن أبطأ لبعد المسافة أو غيره . قالوا : في « أو » دليل على أنه جزم بوجدان أحد الأمرين ثقة بعناية الله تعالى أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها والاجتماع عليها وإنما خصت هذه السورة بقوله { فلما جاءها } وقد قال في « طه » و « القصص » { فلما أتاها } [ طه : 11 ] { نودي } لأنه كرر لفظ { آتيكم } ههنا بخلاف السورتين فاحترز من تكرار ما يقاربه في الاشتقاق مرة أخرى . و { أن } مفسرة لأن النداء فيه معنى القول لا مخففة من الثقيلة بدليل فقدان « قد » في فعلها . قال جار الله : معنى { بورك من في النار } بورك من في مكان النار ، ومن حول مكانها ، ومكانها البقعة التي حصلت النار فيها كما قال في القصص { نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة } [ القصص : 30 ] وسبب البركة حدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله إياه وإظهار المعجزات عليه . وقيل : معنى بورك تبارك ، والنار بمعنى النور أي تبارك من في النار وهو الله سبحانه مروي عن ابن عباس . وعن قتادة والزجاج أن من في النار هو نور الله ، ومن حولها الملائكة . وقال الجبائي : ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة وهي الشأم فكانت الشجرة محلاً للكلام والمتكلم هو الله بأن خلقه فيها ، ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها الملائكة .
وقيل : من في النار هو موسى لقربه منها ، ومن حولها الملائكة . وفي الابتداء بهذا الخطاب عند مجيء موسى بشارة له بأنه قد قضي أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشأم .
وفي قوله { وسبحان الله رب العالمين } تنزيه له عما لا يليق بذاته من الحدوث والحلول ونحوهما مما هو من خواص المحدثات ، وتنبيه على أن الكائن من جلائل الأمور التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين . والهاء في { إنه } إما للشأن وإما راجع إلى ما دل عليه سياق الكلام أي أن المتكلم { انا } وعلى هذا فالله مع وصفيه بيان لانا وفيه تلويح إلى ما أراد إظهاره عليه ، يريد أنا القادر القوي على إظهار الخوارق الحكيم الذي لا يفعل جزافاً ولا عبثاً . وقوله { وألق عصاك } معطوف على { بورك } وكلاهما تفسير { نودي } والمعنى : قيل له بورك وألق : ومعنى { لم يعقب } لم يرجع يقال : عقب المقاتل إذا كر بعد الفر . وإنما اقتصر ههنا على قوله { لا تخف } ولم يضف إليه أقبل كما في « القصص » لأنه أراد أن يبني عليه قوله { إني لا يخاف لدي المرسلون } وسبب نفي الخوف عن الرسل مشاهدة مزيد فضل الله وعنايته في حقهم . ثم استثنى من ظلم منهم بترك ما هو أولى به ، وقد مر بحث عصمة الأنبياء في أول « البقرة » . وفي الآية لطائف وإشارات منها : أنه أشار بقوله { أني لا يخاف لديّ المرسلون } إلى أن موسى قد جعل رسولاً . ومنها أنه أشار بقوله { إلا من ظلم } إلى ما وجد من موسى في حق القبطي ، وبقوله { ثم بدل حسناً بعد سوء } أي توبة بعد ذنب إلى قول موسى { رب إن يظلمت نفسي فاغفر لي } [ القصص : 16 ] وقرئ « الا » بحرف التنبيه . ومنها أنه أشار بقوله { ثم بدل } معطوفاً على { ظلم } إلى أن النبي المرسل بدّل النية ولم يصر على فعله وإلا كان هذا العطف مقطوعاً عن الكلام ضائعاً ، فإنه إذا ظلم ولم يبدل كان خائفاً أيضاً . ومنها أنه أشار بقوله { فإني غفور رحيم } إلى أن الخوف وإن لحق المستثنى إلا أنه منفي عنه أيضاً بسبب غفرانه ورحمته ، فنفي الخوف ثابت على كل حال فهذا الاستثناء قريب من تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :
هو البدر إلا أنه البحر زاخر ... وكقوله
:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وهذه اللطائف مما سمح بها الخاطر أوان الكتابة أرجو أن تكون صواباً إن شاء العزيز . قوله { وأدخل يدك } وفي « القصص » { اسلك يدك } [ القصص : 32 ] موافقة لأضمم ولأن المبالغة في { أدخل } أكثر منها في { أسلك } لأن سلك لازم ومتعد . وهناك قال { فذانك برهانان } [ القصص : 32 ] وههنا قال { في تسع آيات } وكان أبلغ في العدد فناسب الأبلغ في اللفظ .
قال النحويون : متعلق الجار محذوف مستأنف أي أذهب في تسع آيات . أو المراد وأدخل يدك في تسع أي في جملتهن وعدادهن ، اذهب إلى فرعون . وتفسير التسع قد مر في آخر « سبحان » وإنما قال ههنا { إلى فرعون وقومه } دون أن يقول { وملئه } [ الآية : 32 ] كما في القصص لأن الملأ أشراف القوم وقد وصفهم ههنا بقوله { فلما جاءتهم } إلى قوله { ظلماً وعلواً } فلم يناسب أن يطلق عليهم لفظ ينبئ عن المدح . ومعنى { مبصرة } ظاهرة بينة كأنها تبصر بطباق العين فتهدي ، ويجوز أن يكون الإِبصار مجازاً باعتبار إبصار صاحبها وهو كل ذي عقل أو فرعون وقومه . والواو في { واستيقنتها } للحال وقد مضمرة وفي زيادة { انفسهم } إشارة إلى أنهم أظهروا خلاف ما أبطنوا والاستيقان أبلغ من الإيقان . وقوله { ظلماً وعلواً } أي كبراً وترفعاً مفعول لأجلهما . وقرئ { مبصرة } بفتح الميم نحو « مبخلة » قرأها علي بن السحين وقتادة والله أعلم .
التأويل : طا طلب الطالبين ، وسين سلامة قلوبهم من تعلقات غير الله ، تلك دلالات القرآن وشواهد أنواره { وكتاب مبين } فيه بيان كيفية السلوك ولذلك قال { هدى وبشرى للمؤمنين } بالوصول إلى الله الذين يستقيمون في المعارج لحقائق الصلوات ويؤتون الزكاة أموالهم وأحوالهم بالإضافة على المستحقين { زيناً لهم أعمالهم } الدنيوية النفسانية { فهم يعمهون } لعمي قلوبهم عن رؤية الآخرة ونعيمها ، ولا يكون في عالم الآخرة أعمى إلا كان اصم وأبكم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « حبك للشيء يعمي ويصم » فبحب الدنيا صمت عين القلب وصمت أذنه وصار أبكم عن العلم اللداني والنطق به ، وهو سوء العذاب ، وهو الموجب لخسران الدارين مع خسران المولى ، وإنما يكون خسران الدارين ممدوحاً إذا ربح المولى . وجد أبو زيد في البادية قحفاً مكتوباً عليه خسر الدنيا والآخرة فبكى وقبله وقال : هذا رأس صوفي . وحين أخبر عن مقامات المؤمنين ودركات الكافرين أخبر عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بقوله { وإنك لتلقى القرآن } لا من عند جبريل بل { من لدن حكيم } تجلى لقلبك بحكمة القرآن { عليم } يعلم حيث يجعل رسالته . ثم ضرب مثالاً لذلك وهو أن موسى القلب لما كشف له أنوار شواهد الحق في ليلة الهوى وظلمة الطبيعة ( قال لأهله ) وهم النفس وصفاتها { إني آنست ناراً } بوادي أيمن السر { لعلكم تصطلون } بتلك النار عن جمود الطبيعة { فلما جاءها } على قدمي الشوق وصدق الطلب { نودي } من الشجرة الروحانية { أن بورك من في } نار المحبة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة { ومن حولها } كالفراش يريد أن يقع فيها و { ألق } عن يد همتك كل ما تعتمد عليه سوى فضل الله فإنه جان في الحقيقة { ولى مدبراً } هارباً إلى الله { ولم يعقب } لم يرجع إلى غيره فلذلك نودي ب { لا تخف } فإن القلوب الملهمة الموصلة إليها الهدايا والتحف والالطاف لا تخاف سوى الله { إلاَّ من ظلم } نفسه بالرجوع إلى الغير { وأدخل } يد همتك في جيب قناعتك { تخرج بيضاء } نقية من لوث الدارين { في تسع آيات } من أسباب هلاك النفس وصفاتها { فانظر كيف كان عاقبة } الذين أفسدوا الاستعداد الفطري والله أعلم .
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
القراآت : { وادي النمل } ممالة : عباس وقتيبة . وقرأ يعقوب وعلي والسرنديبي عن قنبل بالياء في الوقف . { لا يحطمنكم } بالنون الخفيفة : عباس ورويس . { أوزعني } بفتح الياء : ابن كثير وكذلك في « الأحقاف » { ما لي لا } بفتح ياء المتكلم : ابن كثير وعلي وعاصم { ليأتيني } بنون الوقاية بعد الثقيلة : ابن كثير . { فمكث } بفتح الكاف : عاصم وسهل ويعقوب غير رويس . الآخرون بضمها { من سبأ } بفتح الهمزة لامتناع الصرف : البزي وأبو عمرو وعن قنبل بهمزة ساكنة . وفي رواية أخرى عنه وعن ابن فليح وزمعة بغير همز . الباقون بهمزة منونة مكسورة ، وكذلك في سورة سبأ . { ألا يسجدوا } مخففاً : يزيد وعلي ورويس . الآخرون بالتشديد . وقال ابن مجاهد : إذا وقفوا على { إلا } وقفوا على « ألا ياء » والابتداء { اسجدوا } { تخفون } و { تعلنون } بتاء الخطاب فيهما : علي وحفص والباقون على الغيبة { فألقه } بسكون الهاء : حمزة وعاصم غير المفضل وأبو عمرو غير عباس ، وقرأ باختلاس حركة الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو من طريق الهاشمي عن اليزيدي الباقون بالإشباع { إني القي } بفتح ياء المتكلم : ابو جعفر ونافع { أتمدونني } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل وافق به ابو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل { اتمدوني } بتشديد النون وبالياء في الحالين : حمزة ويعقوب . الآخرون بإظهار النونين وحذف الياء { أتاني الله } بفتح الياء : ابو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وحفص . فمن فتح الياء فالوقف بالياء لا غير ، من حذف الياء فإنه يقف بغير الياء إلا سهلاً ويعقوب فإنهما يقفان بالياء . وقرأ علي { آتاني الله } بالإمالة { أنا آتيك } بالإمالة وكذلك ما بعده : حمزة في رواية خلف وابن سعدان والعجلي وأبي عمرو وخلف لنفسه { فلما رايه } بكسر الراء : نصير { ليبلوني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع . { ساقيها } وبابه بالهمز : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والأحسن تركها . قال في الكشاف : من همز فوجهه أنه سمع سؤقاً فأجرى عليه الواحد .
الوقوف : { علماً } ج للعدول عن بيان إيتاء الفضل ابتداء إلى ذكر قول المنعم عليهما شكراً ووفاء { المؤمنين } 5 { شيء } ط { المبين } 5 { يوزعون } 5 { النمل } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { مساكنكم } ج لانقطاع النظم لنهي الغائب مع اتحاد القائل { وجنوده } لا لأن الواو للحال { لا يشعرون } 5 { الصالحين } 5 { الهدهد } ز على معنى بل أكان من الغائبين على معنى التهديد والأصح أن « أم » متصل بمعنى الاستفهام في { مالي } أي أنا لا اراه أو هو غائب { الغائبين } 5 { مبين } 5 { يقيم } 5 { عظيم } 5 { لا يهتدون } 5 لا ومن خفف { ألا } وقف مطلقاً { تلعنون } 5 { العظيم } 5 سجدة { الكاذبين } 5 { يرجعون } 5 { كريم } 5 { الرحيم } 5 لا لتعلق « أن » { مسلمين } 5 { أمري } ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل { تشهدون } 5 { تأمرين } 5 { أذلة } ج لأن قوله { وكذلك } يحتمل أن يكون من تتمة قولها أو هو تصديق من الله لما قالت { يفعلون } 5 { المرسلون } 5 { بمال } ز لانتهاء الاستفهام مع فاء التعقيب وبيان الاستغناء على التعجيل { آتاكم } ج لاختلاف الجملتين على أن « بل » ترجح جانب الوقف { تفرحون } 5 { صاغرون } 5 { مسلمين } 5 { مقامك } ج للابتداء بإن مع اتحاد القائل { أمين } 5 { طرفك } ط للعدول { أم أكفر } 5 { لنفسه } ج { كريم } 5 { لا يهتدون } 5 { عرشك } ط { هو } ج لاحتمال أن يكون ما بعده من كلامها أو من كلام سليمان { مسلمين } 5 { من دون الله } ط { كافرين } 5 { الصرح } ج { ساقيها } ط { قوارير } 5 { العالمين } 5 .
التفسير : لما فرغ من قصة موسى شرع في قصة ثانية وهي قصة داود وابنه سليمان . والتنوين في { علماً } إما للنوع أي طائفة من العلم أو للتعظيم أي علماً غزيراً . قال علماء المعاني : الواو في { وقالا } للعطف على محذوف لأن هذا مقام الفاء كقولك : أعطيته فشكر . فالتقدي : ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة والفضيلة فيه { وقالا الحمد لله } وبيانه أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقاً بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية ، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات فكأنه قال : ولقد آتيناهما علماً فعملاَ به قلباً وقالباً { وقالا } باللسان { الحمد لله } قلت : لقائل أن يقول : الأصل عدم الإضمار وقوله هذا مقام الفاء ممنوع ، وإنما يكون كذلك إذا أريد التعقيب والتسبيب فإن كان المراد مجرد الإخبار عما فعل بهما وعما فعلا فالواو كقولك « أعطيته وشكر » . وقوله { على كثير من عباده } يجوز أن يكون واردا « على سبيل التواضع وإن كانا مفضلين على جميع أهل زمانهما . ويجوز أن يكون وارداً على الحقيقة بالنسبة إلى زمانهما أو بالنسبة إلى سائر الأزمنة وهذا أظهر ، وإنما وصف العباد بالمؤمنين لئلا يظن أن سبب الفضيلة هو مجرد الإيمان ولكن ما يزيد عليه من الاستغراق في بحر العبودية والعرفان . وفي الآية دليل على شرف العلم وأن العالم يجب أن يتلقى علمه بشكر الله تعالى قلباً وقالباً وما التوفيق إلا منه . قوله { وورث سليمان داود } عن الحسن أنه المال لأن النبوة عطية مبتدأة ، وزيف بأن المال أيضاً عطية مبتدأة ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنماً ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً . ومات المانع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام بها عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته . والظاهر أنه أراد وراثة النبوة والملك معاً دليله قوله تشهيراً لنعمة الله ودعاء للناس إلى تصديق المعجزة { يا أيها الناس علمنا منطق الطير } والمنطق يشمل كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف مفيداً وغير مفيد ، ومنه قولهم » نطقت الحمامة « .
قال المفسرون : إنه تعالى جعل الطير في ايامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها . يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال لأصحابه : إنه يقول : إني أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا أي التراب . وصاحت فاخته فأخبر أنها تقول : ليت الخق لم يخلقوا . وصاح طاوس فقال : يقول : كما تدين تدان . وأخبر أن الهدهد يقول : استغفروا الله يا مذنبون . والخطاف يقول : قدموا خيراً تجدوه . والرخمة تقول : سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وارضه . والقمريّ يقول : سبحان ربي الأعلى . والقطاة تقول : من سكت سلم . والببغاء تقول : ويل لمن الدنيا همه . والديك يقول : اذكروا الله يا غافلون . والنسر يقول : يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت . والعقاب يقول : في البعد من الناس أنس . ومعنى { من كل شيء } بعض كل شيء . وقال في الكشاف : أراد كثرة ما أوتي كما تقول « فلان يقصده كل أحد » تريد كثرة قاصديه . وإنما قال { علمنا } { وأوتينا } لأنه أراد نفسه واباه ، ويجوز أن يريد نفسه فقط لا على طريق التكبر بل على عادة الملوك يعظمون أنفسهم لمصلحة التهييب . وقوله { إن هذا لهو الفضل المبين } قول وارد على سبيل الشكر والتحدث بالنعم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا سيد ولد آدم ولا فخر » أي أقول هذا شكراً لا فخراً . يروى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ . خمسة وعشرون للجن ومثله للإنس ومثله للطير ومثله للوحش ، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلثمائة منكوحة وسبعمائة سرية ، وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسيّ الذهب والعلماء على كراسيّ الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر ، وإن كان يقول مع ذلك : لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود . ومعنى { يوزعون } يحبسون . قيل : كانوا يمنعون من يتقدم من عسكره ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب ، ومنه يعلم أنه كان في كل قبيلة منها وازع يكون له تسلط على الباقين يكفهم ويصرفهم . ومعنى { أتوا على واد النمل } قطعوه وبلغوا آخره من قولهم « أتى على الشيء » إذا أنفذه وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي .
ويجوز أن يقصد إتيانهم من فوق لأن الريح كانت تحلهم في الهواء فلذلك عدي ب « على » عن قتادة أنه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس فقال : سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضراً وهو غلام حدث فقال : سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكراً أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال ابو حنيفة : كانت أنثى لقوله تعالى { قالت نملة } لو كان ذكراً لم تجز التاء لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فلا بد التمييز بالعلامة .
وحين عبر عن تفاهم النمل بلفظ التقاول جعل خطابهم أولي العقل فحكى أنها { قالت يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم } أما جواب للأمر وإما نهي بدلاً من الأمر أي لا تكونوا بحيث يحطمكم أي يكسركم سليمان وجنوده على طريقة « لا أرينك ههنا » . وفي قوله { سليمان وجنوده } دون أن يقول جنود سليمان مبالغة أخرى كما تقول : أعجبني زيد وكرمه . وفي الآية دلالة على أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز . وفي قوله { وهم لا يشعرون } تنبيه على وجود الجزم بعصمة الأنبياء كأنها عرفت أن النبي لعصمته لا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو . وعن بعضهم أنها خافت على قومها أن يقعوا في كفران نعمة الله تعالى إذا رأوا جلالة سليمان ، وهذا معنى الحطم فلذلك أمرتهم بدخول المساكن . وفيه تنيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة . قيل : سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال { فتبسم ضاحكاً } أي شارعاً في الضحك آخذاً فيه ولكن لم يبلغ حدّ القهقهة وكمال الضحك . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه فعلى وجه المبالغة في الضحك النبوي . وإنما أضحكه من قولها شفقتها على قومها وسروره بما آتاه الله من إدراك الهمس واشتهاره بالتحرز والتقوى ولذلك مال إلى الدعاء قائلاً : { رب أوزعني } قال جار الله : حقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأربطه لا ينفلت عني فلا أزال شاكراً لك . وإنما أدرج ذكر الوالدين لأن النعمة على الولد نعمة عليهما وبالعكس . ثم طلب أن يضيف لواحق نعمه إلى سوابقها ولا سيما النعم الدينية فقال : { وأن أعمل صالحاً ترضاه } ثم دعا أن يجعله في الآخرة من زمرة الصالحين لأن ذلك غاية كل مقصود . يروى أن النملة أحست بصوت الجنود ولم تعلم أنها في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرون حتى دخلن مساكنهن ، ثم دعا بالدعوة .
القصة الثالثة قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد ، يروى أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج مع حشمه فأتى الحرم ومكث به أياماً يقرب كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة .
ثم عزم على السير إلى اليمن فخرج من مكة صباحاً فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً أعجبته بهجتها إلا أنهم لم يجدوا الماء فطلب الهدهد لأنه يرى الماء من تحت الأرض . وعن وهب أنه أخل بالنوبة التي كانت تنويه فلذلك تفقده . وقيل : إنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خالٍ فدعا عفريت الطير -وهو النسر- فسأله عنه فلم يجد عنده علمه . ثم قال لسيد الطير -وهو العقاب- عليّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فأقسم عليها بالله لتتركنه فتركته . وقالت : إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال : وما استثنى؟ قالت : بلى قال : { أو ليأتيني بسلطان مبين } أي بعذر واضح . فلما قرب من سليمان ارخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعاً له ، فلما دنا منه أخذ سليمان براسه فمده إليه فقال : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله عما لقي في غيبته . وفي تفقد الهدهد إشارة إلى أن الملوك يجب عليهم التيقظ وعدم الغفلة عن اصغر رعيتهم . وأرجع إلى التفسير . قوله { مالي لا أرى } استبعاد منه أنه لا يراه وهو حاضر في الجند كأن ساتراً ستره ثم لاح له أنه غائب فقال { أم كان من الغائبين } وقد مر في الوقوف قوله { لأعذبنه } لا شك أن تعذيبه إنما يكون بما يحتمله حاله . فقيل : أراد أن ينتف ريشه ويشمسه وكان هذا عذابه للطير . وقيل : كان يطلي بالقطران ويشمس . وقيل : هو أن يلقيه للنمل لتأكله . وقيل : إيداعه القفص . وقيل : التفريق بينه وبين إلفه . وقييل : أراد لألزمنه صحبة الأضداد كما قيل : أضيق السجون مجالسة الأضداد . وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه . ولعل تعذيب الهدهد وذبحه في عصره جائز لمصلحة السياسة كما أباح لنا ذبح كل مأكول لحمه لمصلحة التغذي . وحاصل القسم يرجع إلى قوله ليكونن أحد هذه الأمور الثلاثة : التعذيب أو الذبح أو الإتيان بعذر بين وحجة واضحة . ويحتمل أن يكون قد عرف إتيانه بالعذر بطريق الوحي فلذلك أدرجه في سلك ما هو قادر على فعله فأقسم عليه . ثم أخبر الله سبحانه أنه أتى بسلطان مبين وذلك قوله { فمكث غير بعيد } أي غير زمان بعيد { فقال } مخاطباً لسليمان { أحطت بما لم تحط به } قالوا : فيه إبطال قول من زعم أن إمام الزمان لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه . وفيه دليل على شرف العلم وأن صاحبه له أن يكافح به من هو أعلى حالاً منه . والإحاطة بالشيء علماً هو أن يعلمه من جميع جهاته . وقوله { من سبأ بنبأ } من جملة صنائع البديع على أن النبأ خبر له شأن فذكره في هذا الموضع دون أن يقول « من سبأ بخبر » حسن على حسن .