كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وقال أيضاً خيار المجلس غير ثابت لقوله : { أوفوا بالعقود } وخصص الشافعي عموم الآية بقوله : صلى الله عليه وسلم : « المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا » وقال أبو حنيفة : الجمع بين الطلقات حرام لأن النكاح من العقود بدليل : { ولا تعزموا عقدة النكاح } [ البقرة : 235 ] وق : { أوفوا بالعقود } ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى سائرها على الأصل . والشافعي خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يحرم . ثم إنه سبحانه لما مهد القاعدة الكلية ذكر ما يندرج تحتها فقال : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } والبهيمة كل حي لا عقل له من قولهم : استبهم الأمر إذا اشكل . وهذا باب مبهم أي مسدود . ثم خص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر . والأنعام الحافر لأنه مأخوذ من من الإبل والبقر والغنم . قال الواحدي : ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء ، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان مثل : خاتم فضة بتقدير من . وفائدة زيادة لفظ البهيمة مع صحة ما لو قيل أحلت لكم الأنعام كما قال في سورة الحج هي فائدة الإجمال ثم التبيين . وإنما وحد البهيمة لأنها اسم جمع يشمل أفرادها . وجمع الأنعام لأن النعم مفرداً يقع في الأكثر على الإبل وحدها . وقيل : المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا ففيه وجهان : أحدهما أن البهيمة الظباء وبقرة الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه . الثاني أنها الأجنة . عن ابن عباس أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال : هذه بهيمة الأنعام وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمة ، قالت الثنوية : ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح وخصوصاً إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه ولم يكن له لسان يحتج على من يقصد إيلامه ، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم فلا يكون الذبح مباحاً حلالاً ، فلقوة هذه الشبهة زعم البكرية من المسلمين أنه تعالى يدفع ألم الذبح عن الحيوانات . وقالت المعتزلة : إن الإيلام إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقاً بجناية ولا ملحوقاً بعوض ، وههنا يعوض الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات بأعواض شريفة فلا يكون ظلماً وقبيحاً كالفصد والحجامة لطلب الصحة وقالت الأشاعرة : الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه فلا اعتراض عليه ولذا قال : { إن الله يحكم ما يريد } قال بعضهم : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام } مجمل لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتقاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو بالكل .
والجواب أن الإحلال لا يضاف إلى الذات فتعين إضمار الانتفاع بالبهيمة فيشمل أقسام الانتفاع . على أن قوله : { والأنعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون } [ النحل : 5 ] يدل على الانتفاع بها من كل الوجوه ، إلاّ أنه ألحق بالآية نوعين من الاستثناء الأول قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } أي إلاّ محرم ما يتلى عليكم أو ما يتلى عليكم آية تحريمه وأجمع المفسرون على أن الآية قوله بعد ذلك : { حرمت عليكم الميتة والدم } والثاني قوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } اي داخلون في الحرم أو في الإحرام . قال الجوهري : رجل حرام أي محرم والجمع حرم مثل قذال وقذل . وقيل : مفرد يستوي فيه الواحد والجمع كما يقال قوم جنب ، وانتصاب : { غير محلي } على الحال من الضمير في : { لكم } أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد في حالة الإحرام وفي الحرم . ثم كان لقائل أن يقول : ما السبب في إباحة الأنعام في جميع الأحوال وإباحة الصيد في بعض الأحوال؟ فقيل : إن الله يحكم ما يريد فليس لأحد اعتراض على حكمه ولا سؤال بلم وكيف . ثم أكد النهي عن مخالفة تكاليفه بقوله : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } الأكثرون على أنها جمع شعيرة : « فعيلة » بمعنى : « مفعلة » . وقال ابن فارس : واحدها شعارة . ثم المفسرون اختلفوا على قولين : أحدهما أنها عامة في جميع تكاليفه ومنه قول الحسن : شعائر الله دين الله . والثاني أنها شيء خاص من التكاليف . ثم قيل : المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد . وقيل : الأفعال التي هي علامات الحج التي يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر . وقال الفراء : كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج فنهوا عن ترك السعي بينهما . وقال أبو عبيدة : الشعائر الهدايا التي تطعن في سنامها وتقلد ليعلم أنها هدي . وقال ابن عباس : « إن الحطم واسمه شريح بن ضبيعة الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة إلى المدينة فخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إلام تدعو الناس؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة . فقال : حسن إلاّ أن لي أمراء لا أقطع أمراً دونهم ، ولعلي أسلم وآتي بهم . وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده . فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم » فمرّ بسرح المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرة القضاء سمع تلبية حجاج اليمامة فقال لأصحابه : هذا الحطم وأصحابه وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة ، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } يريد ما أشعر لله وإن كانوا على غير دين الإسلام .
وقال زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء عن البيت كما صدنا أصحابهم؟ فأنزل الله : { لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام } أي قوماً قاصدين إياه . والمعنى لا تعتدوا على هؤلاء العمار لأن صدكم أصحابهم فالشهر الحرام شهر الحج أعني ذا الحجة ، أو المراد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وعبر عنها بلفظ الواحد اكتفاء باسم الجنس ، أي لا تحلوا القتال في هذه الأشهر . والهدي ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك جمع هدية . والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر الحرم . والمراد لا تحلو ذوات القلائد من الهدي أفرد للاختصاص بالفضل مثل وجبريل وميكال . ويحتمل أنه نهي عن التعرض للقلائد ليلزم النهي عن ذوات القلائد بالطريق الأولى كقوله : { ولا يبدين زينتهن } [ النور : 31 ] فإنه نهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها . وللمفسرين خلاف في الآية فذهب كثير منهم كابن عباس ومجاهد والحسن والشعبي وقتادة أنها منسوخة ، وذلك أن المسلمين والمشركين كانوا يحجون جميعاً فنهى المسلمون أن يمنعوا أحداً عن حج البيت بقوله : { لا تحلوا } ثم نزل بعد ذلك : { إنما المشركون نجس } [ التوبة : 28 ] { ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } [ التوبة : 17 ] وهؤلاء فسروا ابتغاء الفضل بالتجارة ، وابتغاء الراضوان بأن المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على شيء من الدين وأن الحج يقرّبهم إلى الله فوصفهم الله بظنهم . وقال الآخرون : إنها محكمة وإنه تعالى أمرنا { ورضواناً } وأن يرضى عنهم وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر . وقال أبو مسلم : المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الخطر . { وإذا حللتم فاصطادوا } ظاهر الأمر للوجوب إلاّ أنه يفيد ههنا الإباحة لأنه لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام لقوله : { غير محلي الصيد وأنتم حرم } فإذا زال الإحرام رجع إلى أصل الإباحة { ولا يجرمنكم } معطوف على { لا تحلوا } وجرم بمعنى كسب من حيث المعنى ومن حيث تعدية إلى مفعول واحد تارة وإلى مفعولين أخرى . تقول : جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه وهذا هو المذكور في الآية .
الشنآن بالتحريك والتسكين مصدر شنأته أشنؤه وكلاهما شاذ فالتحريك شاذ في المعنى لأن فعلان من بناء الحركة والاضطراب كالضربان الخفقان . والتسكين شاذ في اللفظ لأنه لم يجيء شيء من المصادر عليه قاله الجوهري . ومعنى الآية لا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء أو لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء . وقوله : { أن صدوكم } من قرأ بكسر الهمزة فهو شرط وجوابه ما يدل عليه { لا يجرمنكم } ، ومن قرأ بفتح « أن » فمعناه التعليل أي لأن صدوكم .
قيل : هذه القراءة أولى لأن المراد منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة والسورة نزلت بعد الحديبية { وتعاونوا على البر والتقوى } على العفو والإغضاء أو على كل ما يعدّ براً وتقوى . { ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } على الانتقام والتشفي أو على كل ما يورث الإثم والتجاوز عن الحد . والحاصل أن البال والإثم لا يصلح لأن يقتدي به ويعان عليه وإنما اللائق بالاقتداء به والتعاون عليه هو الخير والبر وما فيه تقوى الله سبحانه وتعالى . ثم بالغ في هذا المعنى بقوله : { واتقوا الله } أي في استحلال محارمه . { إن الله شديد العقاب } ثم شرع في تفصيل الاستثناء الموعود تلاوته في قوله : { إلاّ ما يتلى عليكم } فقال : { حرمت عليكم الميتة } الآية . والمجموع المستثنى أحد عشر نوعاً : الأول الميتة كانوا يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله . قالت العقلاء : الحكمة في تحريم الميتة أن الدم جوهر لطيف فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن فيحصل من أكله مضار كثيرة . الثاني الدم كانوا يأكلون الفصيد وهو دم كان يجعل في معىً من فصد عرق ثم يشوى فيطعمه الضيف في الأزمة ومنه المثل : « لم يحرم من فصد له » أي فصد له البعير وربما يقال : « من فزد له » الثالث لحم الخنزير . قالت العلماء : الغذاء يصير جزءاً من جوهر المغتذي ولا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلاً في الغذاء ، والخنزير مطبوع على الحرص والشره فحرم أكله لئلا يتكيف الإنسان بكيفيته . وأما الغنم فإنها في غاية السلامة وكأنها عارية عن جميع الأخلاق فلا تتغير من أكلها أحوال الإنسان . والرابع : { ما أهل لغير الله به } والإهلاك رفع الصوت وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى وقد مر في سورة البقرة سائر ما يتعلق بهذه الأنواع الأربعة فليرجع إليها . الخامس المنخنقة كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها . وقد تنخنق بحبل الصائد وقد يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتنخنق فتموت ، وبالجملة فبأي وجه انخنقت فهي حرام . السادس الموقوذة وهي المقتولة بالخشب . وقذها إذا ضربها حتى ماتت ومنها ما رمي بالبندق فمات .
السابع المتردية التي تقع في الردى وهو الهلاك ، وتردى إذا وقع في بئر أو سقط من موضع مرتفع ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أن زهوق روحه بالتردي أو بالسهم . الثامن النطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بسببه ، ولا يخفى أن هذه الأقسام الأربعة داخلة في الميتة دخول الخاص في العام فأفردت بالذكر لمزيد البيان . والهاء في المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لأنها صفات الشاة بناء على أغلب ما يأكله الناس وإلاّ فالحكم عام . وإنما أنث النطيحة مع أن « فعيلا » بمعنى « مفعول » لا يدخله الهاء كقولهم : كف خضيب ، ولحية دهين ، وعين كحيل ، لأن الموصوف غير مذكور . تقول : مررت بامرأة قتيل فلان فإذا حذفت الموصوف قلت : بقتيلة فلان لئلاّ يقع الاشتباه . التاسع ما أكل السبع وهو اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان ويفترس الحيوان كالأسد وما دونه . قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئاً فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله وفي الآية حذف التقدير : وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له وإنما الحكم للباقي . قوله : { إلاّ ما ذكيتم } الذكاء في اللغة تمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وفي السن التمام فيها ، والمذاكي الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان ، وتذكية النار رفعها وقوّة اشتعالها ، والتذكية كمال الذبح . أما المستثنى منه فعن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنه جميع ما تقدم من قوله : { والمنخنقة } إلى قوله : { وما أكل السبع } والمعنى أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عيناً تطرف أو ذنباً يتحرك أو رجلاً تركض فاذبح فهو حلال لأن ذلك ذلك دليل الحياة المستقرة . وقيل : إنه مختص بقوله : { وما أكل السبع } وقيل : إنه استثناء منقطع من المحرمات كأنه قيل : لكن ما ذكيتم من غير هذا فهو حلال ، أو من التحريم أي حرم عليكم ما مضى إلاّ ما ذكيتم فإنه لكم حلال . العاشر ما ذبح على النصب وهو مفرد وجمعه أنصاب كطنب وأطناب وهو كل ما نصب فعبد من دون الله قاله الجوهري . وضعف بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله : { وما أهل لغير الله به } وقال ابن جريج : النصب ليست بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة ، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويشرحون اللحوم عليها ، فالمراد ما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب ، ويحتمل أن يكون الذبح للأصنام واقعاً عليها . وقيل : النصب جمع إما لنصاب كحمر وحمار أو لنصب كسقف وسقف . الحادي عشر ما أبدعه أهل الجاهلية وإن لم يكن من جملة المطاعم أي حرم عليكم بأن تستقسموا بالأزلام ، وإنما ذكر مع الذبح على النصب لأنهم كانوا يفعلون كلاً منهما عند البيت؛ كان أحدهم إذا أراد سفراً أو غزواً أو تجارة أو نكاحاً أو أمراً آخر من معاظم الأمور ضرب القداح وكانوا قد كتبوا على بعضها : « أمرني ربي » وعلى بعضها : « نهاني ربي » وتركوا بعضها غفلاً أي خالياً عن الكتابة .
فإن خرج الأمر أقدم على الفعل وإن خرج النهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد العمل . فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح . وقال كثير من أهل اللغة : الاستقسام ههنا هو الميسر المنهي عنه . والأزلام قداح الميسر والتركيب يدور على التسوية والإجادة . يقال : ما أحسن مازلم سهمه أي سوّاه ورجل مزلم إذا كان مخفف الهيئة وامرأة مزلمة إذا لم تكن طويلة { ذلكم فسق } إشارة إلى جميع ما تقدم من المحرمات أي تناولها فسق ، ويحتمل أن يرجع الى الاستقسام بالإزلام فقط . وكونه فسقاً بمعنى الميسر ظاهر ، وأما بمعنى طلب الخير والشر فوجهه أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ويعتقدون أن ما خرج من الأمر أو النهي هو إرشاد الأصنام وإعانتها فلذلك كان فسقاً وكفراً . وقال الواحدي : إنما حرم لأنه طلب معرفة الغيب وأنه تعالى مختص بمعرفته ، وضعف بأن طلب الظن بالأمارات المتعارفة غير منهي كالتعبير والفأل وكما يدعيه أصحاب الكرامات والفراسات .
ثم إنه سبحانه حرض على التمسك بما شرع فقال : { اليوم يئس } قيل : ليس المراد يوماً بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنه الماضية والآتية كقولك : كنت بالأمس شاباً وأنت اليوم شيخ . وقيل : المراد يوم معين وذلك أنها نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته العضباء . وعن ابن عباس أنه قرأ الآية ومعه يهودي فقال اليهودي : لو نزلت علينا في يوم لاتخذناه عيداً . فقال ابن عباس : إنها نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد في يوم جمعة وافق يوم عرفة أي يئسوا من أن يحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة أو يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم لأنه حقق وعده بإظهار هذا الدين على سائر الأديان { فلا تخشوهم واخشون } أخلصوا إلى الخشية . قيل : في الآية دليل على أن التقية جائزة عند الخوف لأنه علل إظهار هذه الشرائع بزوال الخوف من الكفار . { اليوم أكملت لكم دينكم } سئل ههنا إنه يلزم منه أن الدين كان ناقصاً قبل ذلك ، وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مواظباً على الدين الناقص أكثر عمره؟ وأجيب بأنه كقول الملك إذا استولى على عدوه : اليوم كمل ملكنا . وزيف بأنّ السؤال بعد باقٍ لأنّ ملك ذلك الملك لا بد أن يكون قبل قهر العدوّ ناقصاً .
وقيل : المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعليم الحلال والحرام وقوانين القياس وأصول الاجتهاد ، وضعف بأنه يلزم أن لا يكمل لهم قبل ذلك اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز . والمختار في الجواب أن الدين كان أبداً كاملاً بمعنى أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت - ناسخة أو منسوخة أو مجملة أو مبينة أو غير ذلك - كافية بحسب ذلك الوقت وفي آخر زمان البعثة حكم ببقاء الأحكام على حالها من غير نسخ وزيادة ونقص إلى يوم القيامة . قال نفاة القياس : إكمال الدين أن يكون حكم كل واقعة منصوصاً عليه فلا فائدة في القياس . وأجيب بأن إكماله هو جعل النصوص بحيث يمكن استنباط أحكام نظائرها منها . قالوا : تمكين كل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه لا يكون إكمالاً للدين وإنما يكون إلقاء للناس في ورطة الظنون والأوهام . وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعاً بأنه عامل بحكم الله . روي أنه لما نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فرح الصحابة وأظهروا السرور إلاّ أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا : ليس بعد الكمال إلاّ الزوال . وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلاّ أحداَ وثمانين يوماً أو اثنين وثمانين يوماً ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص . قال العلماء : كان ذلك جارياً مجرى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزاً . واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين - سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل - لا يحصل إلاّ بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلاّ وأصله منه . والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع . ثم قال : { وأتممت عليكم نعمتي } أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام ، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين { ورضيت } أي اخترت { لكم الإسلام ديناً } نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت . واعلم أن قوله : { ذلكم فسق } إلى ههنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس من بين سائر الأديان . ثم بين الرخصة بقوله : { فمن اضطر في مخمصة } أي في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن { غير متجانف } منصوب باضطرّ أو بمضمر أي فتناول غير منحرف إلى إثم بأن يأكل فوق الشبع أو عاصياً بسفره ، وقد مرّ القول في هذه الرخصة مستوفي في سورة البقرة .
{ يسألونك ماذا أحل لهم } كأنهم حين تلي عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم والسؤال في معنى القول . وإنما لم يقل ماذا أحل لنا على حكاية قولهم نظراً إلى ضمير الغائب في : { يسئلونك } ومثل هذا يجوز فيه الوجهان . تقول : أقسم زيد ليفعلن أو لأفعلن . أما سبب النزول فعن أبي رافع أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فلم يدخل ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل : إنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة . فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو . قال أبو رافع : فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلباً إلاّ قتلته حتى بلغت العوالي فإذا أمرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاء ناس فقالوا : يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي تقتلها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية . فأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي وأذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها . وقال سعيد بن جبير : نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير حين قالا : يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإنها تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقتل فلا ندرك وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزل : { قل أحل لكم الطيبات } أي ما ليس بخبيث منها وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد ، أو أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة ، واعلم أن الأصل في الأعيان الحل لأنها خلقت لمنافع العباد { هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً } [ البقرة : 29 ] واستثنى من ذلك أصول : الأوّل : تنصيص الكتاب على تحريمه كالميتة والدم وغيرهما . الثاني : تنصيص السنة كما روي عن جميع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية والبغال كالحمير . ولا تحرم الخيل عند الشافعي لما روي عن جابر أنه قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل . الثالث : ما هو في معنى المنصوص كالنبيذ فإنه مسكر كالخمر فيشاركها في التحريم . الرابع : كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور وقد مر معنى السبع عن قريب فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر والفهد والدب والببر والقرد والفيل لأنها تعدو بأنيابها ، ولا يحل من الطيور البازي والشاهين والصقر والعقاب وجميع جوارح الطير . الخامس : ما أمر بقتله من الحيوانات فهو حرام لأنّ الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنه من اقتنائه .
ولو كان مأكولاًَ لجاز اقتناؤه للتسمين وإعداده للأكل وقت الحاجة . ومنه الفواسق الخمس . روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة » السادس ما ورد النهي عن قتله فهو حرام لأنه لو كان مأكولاً لجاز ذبحه ليؤكل كما روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف ، وكذا الصرد والنملة والنحلة والهدهد والخفاش . السابع : الاستطابة والاستخباث لقوله تعالى : { قل أحل لكم الطيبات } قال العلماء : فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة وذلك يخالف موضوع الشرع . فالعرب أولى أمة بالاعتبار لأنّ الدين عربي وهم المخاطبون أوّلاً وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس ، ولكن المعتبر استطابة سكان القرى والبلاد دون أجلاف البوادي الذين لا تمييز لهم . وأيضاً يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات . وأيضاً المعتبر حال الخصب والرفاهية دون حال الجدب والشدة . والحشرات بأسرها مستخبثة كالذباب والخنفساء والجعلان وحمار قبان إلاّ الضب فإنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا آكله ولا حرمه » ومن الأصول أنه لا يجوز أكل الأعيان النجسة في حال الاختيار وكذا أكل الطاهر إذا نجس بملاقاة النجاسة كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل . ومن الأصول الكسب بمخامرة النجاسة ولكن كسب الحجام حلال عند الشافعي ، ومن الأصول ما يضر كالزجاج والسم والنبات المسكر أو المجنن . قوله سبحانه : { وما علمتم من الجوارح } معناه أحل لكم صيد ما علمتم على حذف المضاف لدلالة { فكلوا مما أمسكن عليه } ويجوز أن تكون « ما » شرطية والجزاء { فكلوا } وعلى هذا يجوز الوقف على { الطيبات } والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والبازي والصقر . قال تعالى : { ويعلم ما جرحتم بالنهار } [ الأنعام : 6 ] أي كسبتم . وجوّز بعضهم أن يكون من الجراحة . وقال : ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل . وانتصاب { مكلبين } على الحال من { علمتم } وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب { علمتم } أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهراً في علمه مدرباً فيه موصوفاً بالتكليب . نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صادها غير الكلاب فلم يدرك ذكاته لم يجز أكله لأنّ قوله : { مكلبين } يدل على كون هذا الحكم مخصوصاً بالكلب . والجمهور على أنّ الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع . قالوا : المكلب مؤدب الجوارح ورائضها لأنّ تصطاد لصاحبها وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه أو لأنّ كل سبع يسمى كلباً كقوله صلى الله عليه وسلم : « اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك فأكله الأسد »
أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة . يقال : فلان كلب بكذا إذا كان حريصاً عليه . وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها { تعلمونهن } حال ثانية أو استئناف مما علمكم الله من علم التكليب لأنّ بعضه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وإنزجاره بزجره . واعلم أنه يعتبر في صيرورة الكلب معلماً أمور منها : أن ينزجر بزجر صاحبه في ابتداء الأمر وكذا إذا انطلق واشتد عدوه وحدّته ، يشترط أن ينزجر بزجره أيضاً على الأشبه فبه يظهر التأدب . ومنها أن يسترسل بإرسال صاحبه أي إذا أغري بالصيد هاج . ومنها أن يمسك الصيد لقوله : { فكلوا مما أمسكن عليكم } وفي هذا اعتبار وصفين : أحدهما أن يحفظه ولا يخليه ، والثاني أن لا يأكل منه لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : فإن أكل فلا تأكل منه فإنما أمسكه على نفسه . وجوارح الطير يشترط فيها أن تهيج عند الإغراء وأن تترك الأكل ولكن لا مطمع في انزجارها بعد الطيران ويشترط عند الشافعي تكرر هذه الأمور بحيث غلب على الظن تأدب الجارحة بها وأقله ثلاث مرات . ولم يقدر الأكثرون عددالمرات كأنهم رأوا العرف مضطرباً ، وطباع الجوارح مختلفة فيرجع إلى أهل الخبرة بطباعها . وعن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل فعندهم الإمساك هو أن يحفظه ولا يتركه . ومعنى الآية كلوا مما تبقي لكم الجوارح وإن كان بعد أكلها منه . و « من » في { مما أمسكن } قيل زائدة نحو { كلوا من ثمره } [ الأنعام : 141 ] وقيل مفيدة وذلك أن بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش . وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني : يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب . والفرق أن تأديب الكلب بالضرب على الأكل ممكن وتأديب الطير غير ممكن . ولا خلاف أنه إذا كانت الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح وقتلته وأدركه الصائد ميتاً فهو حلال ، وجرح الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح ففي حله خلاف . أما قوله سبحانه : { واذكروا اسم الله عليه } فالضمير إما أن يعود إلى { ما أمسكن } أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته ، أو إلى { ما علمتم } أي سموا عليه عند إرساله أو إلى الأكل ، وعلى هذا فلا كلام . وعلى الأول فالتسمية محمولة على الندب عند الشافعي ، وعلى الوجوب عند أبي حنيفة وسيجيء تمام المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى .
{ اليوم أحلّ لكم الطيبات } فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره { وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم } الأكثرون على أنّ المراد بالطعام الذبائح لأنّ ما قبل الآية في بيان الصيد والذبائح ولأنّ ما سوى الصيد والذبائح محللة قبل إن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة .
وعن بعض أئمة الزيدية أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة . وقيل : إنه جميع المطعومات { وطعامكم حلّ لهم } أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعلى إطعامهم من ذبائحنا . وأيضاً فالفائدة في ذكره أن يعلم أن إباحة الذبائح حاصلة في الجانبين وليست كإباحة المناكحة فإنها غير حاصلة في الجانبين { والمحصنات } الحرائر أو العفائف من المؤمنات ، وعلى الثاني يدخل فيه نكاح الإماء . وقد يرجح الأول بأنه تعالى قال : { إذا آتيتموهن أجورهن } ومهر الإماء لا يدفع إليهن بل إلى ساداتهن ، وبأن نكاح المحصنات ههنا مطلق ونكاح الأمة مشروط بعدم طول الحرة وخشية العنت ، وبأن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهراً على تحريم نكاح الزانية ، وقد ثبت أنه غير محرم . ولو حملنا المحصنات على الحرائر لزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات ، وبأن وصف التحصين في حق الحرة أكثر ثبواتأً منه في حق الأمة لأن الأمة لا تخلو من البروز للرجال { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } احتج بها كثير من الفقهاء في أنه لا يحل نكاح الكتابية إلاّ إذا دانت بالتوارة والإنجيل قبل نزول الفرقان ، لأنّ قوله : { من قبلكم } ينافي من دان بهما بعد نزوله . وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات أصلاً متمسكاً بقوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } [ البقرة : 221 ] ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من قولها إن ربها عيسى . وأوّل الآية بأنّ المراد التي آمنت منهن . فمن المحتمل أن يخطر ببال أحد أن الكتابية ، إذا آمنت هل يحل للمسلم التزوج بها أم لا؟ وعن عطاء أن الرخصة كانت مختصة بذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة ولأن الاحتراز عن مخالطة الكفار واجب . { ولا تتخذوا بطانة من دونكم } [ آل عمران : 118 ] وأي خلطة أشد من الزوجية وقد يحدث ولد ويميل إلى دين الأم . وقال سعيد بن المسيب والحسن : الكتابيات تشمل الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن . وأكثر الفقهاء على أنّ ذلك مخصوص بالذمية فقط وهو مذهب ابن عباس فإنه قال : من أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل لقوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } [ التوبة : 29 ] واتفقوا على أن المجوس قد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم . { إذا آتيتموهن أجورهن } فيه أن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقاً كان كالزاني . والزنا ضربان : سفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان ، واتخاذ خدن وهو على سبيل الإسرار فحرمهما الله تعالى في الآية وأحلّ التمتع بهن على سبيل الإحصان وهو التزوج بالشروط والأركان .
ثم حث على التزام التكاليف المذكورة بقوله : { ومن يكفر بالإيمان } أي بشرائع الله وتكاليفه التي هي من نتائج الإيمان بالله ورسوله . وقال ابن عباس ومجاهد : معناه ومن يكفر برب الإيمان أي بالله . وقال قتادة : ومن يكفر بالقرآن الذي أنزل فيه هذه التكاليف التي لا بد منها في الإيمان فقد خاب وخسر . وفيه أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلاّ أن ذلك لا يفيدهم في الآخرة لأنّ كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة ألبتة . واعلم أنّ القائلين بالإحباط فسروا قوله : { قد حبط عمله } بأنّ عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثواب أعماله . ومنكروا الإحباط قالوا : إنّ عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان قد بان أنه لم يكن معتداً به وكان ضائعاً في نفسه . ثم إنه سبحانه لما افتتح السورة بطلب الوفاء بالعقود فكأن قائلاً قال : عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا وأنت أولى بتقديم الوفاء بعهد الربوبية فأجاب الله تعالى نعم أنا أوفى بعهد الربوبية والكرم ، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين : لذات المطعم ولذات المنكح فبيّن الحلال والحرام من المطاعم والمناكح ، وقدم المطعوم على المنكوح لأنه أهم . وعند تمام هذا البيان كأنه قال : قد وفيت بعهد الربوبية فاشتغل أيها العبد بوظائف العبودية ولا سيما بالصلاة التي هي أعظم الطاعات وبمقدماتها . ونبني تفسير الآية على مسائل : الأولى ليس المراد بقوله : { إذا قمتم } نفس القيام وإلاّ لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو بالإجماع باطل ، وأيضاً لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعداً أو مضطجعاً لخرج عن العهدة بالإجماع ، فالمراد إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك ووجه هذا المجاز أنّ الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم المسبب على السبب مجاز مستفيض . الثانية : ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس تكليفاً مستقلاً لأنه شرط القيام إلى الصلاة . والأصح أنه عبادة برأسها لأن قوله : { فاغسلوا } أمر ظاهره الوجوب غاية ذلك أنه مقيد بوقت التهيّؤ للصلاة . وأيضاً إنه طهارة وقد قال تعالى في آخر الآية : { ولكن يريد ليطهركم } وقال صلى الله عليه وسلم : « بني الدين على النظافة » وقال : « أمّتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة » والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة . الثالثة : قال داود : يجب الوضوء لكل صلاة فإنه ليس المراد قياماً واحداً في صلاة واحدة وإلاّ لزم الإجمال إذ لا دليل على تعيين تلك المرة ، والإجمال خلاف الأصل فوجب حمل الآية على العموم . وأيضاً ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلية فيتكرر بتكرره فيجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة .
وأيضاً إنه نظافة فلا يكون منها بدّ عند الاشتغال بخدمة المعبود . وقال سائر الفقهاء : إنّ كلمة « إذا » لا تفيد العموم ولهذا لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق مرة أخرى بالدخول ثانياً . ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلاّ يوم الفتح فإنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد . قال عمر : فقلت له في ذلك فقال : عمداً فعلت ذلك يا عمر . أجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن . وأيضاً في الخبر معنيان : أحدهما : وجوب التجديد لكل صلاة لا أقل من استحباب ذلك . الثاني أنه ترك ذلك يوم الفتح والأوّل يوجب المتابعة والثاني مرجوح لأنّ الفتح يقتضي زيادة الطاعة لا نقصانها . وأيضاً التجديد أحوط ، وأيضاً دلالة ظاهر القرآن قولية ودلالة الخبر فعلية والقولية أقوى . ولناصر المذهب المشهور أن يقول : التيمم على المتغوّط والمجامع واجب إذا لم يجد الماء لقوله : { أو جاء أحد منكم من الغائط } الآية . وذلك يدل على أنّ وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة فلم يكن هو مؤثراً وحده ، وإذا لم يكن مؤثراً مستقلاً جاز تخلف الأثر عنه . نعم التجديد مستحب لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يتوضؤن لكل صلاة وقال صلى الله عليه وسلم : « من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات » وقيل : كان الوضوء لكل صلاة واجباً أوّل ما فرض ثم نسخ . الرابعة : الأصح أن في الآية دلالة على أنّ الوضوء شرط لصحة الصلاة لأنه علق فعل الصلاة بالطهور ، ثم بيّن أنه متى عدم الماء لم تصح الصلاة إلاّ بالتيمم ، فلو لم يكن شرطاً لم يكن كذلك . وأيضاً إنه أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بها بدون الوضوء تارك للمأمور به فيستحق العقاب وهذا معنى البقاء في عهدة التكليف . الخامسة : قال أبو حنيفة : النية ليست شرطاً في الوضوء لأنها غير مذكورة في الآية والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخير الواحد وبالقياس غير جائز . وعند الشافعي هي شرط فيه لأنّ الوضوء مأمور به لقوله : { فاغسلوا } { وامسحوا } وكل مأمور به يجب أن يكون منوياً لقوله تعالى : { وما أمروا إلاّ ليعبدوا الله مخلصين } [ البينة : 5 ] والإخلاص النية الخالصة ، فأصل النية يجب ان يكون معتبراً . وغاية ما في الباب أنها مخصوصة في بعض الصور فتبقى حجة في غير محل التخصيص .
السادسة : قال مالك وأبو حنيفة : الترتيب غير مشروط في الوضوء لأن الواو لا تفيد الترتيب ، فلو قلنا بوجوبه كان من الزيادة على النص وهو نسخ غير جائز . وقال الشافعي : إنه واجب لأن فاء التعقيب في قوله : { فاغسلوا } توجب تقديم غسل الوجه ثم سائر الأعضاء على الترتيب .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الصفا : « ابدؤا بما بدأ الله به » وأيضاً الترتيب المعتبر في الحس هو الابتداء من الرأس إلى القدم أو بالعكس ، والترتيب العقلي إفراد العضو المغسول عن الممسوح . ثم إنه تعالى أدرج الممسوح في المغسول فدل هذا على أن الترتيب المذكور في الآية واجب لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه . وأيضاً إيجاب الوضوء غير معقول المعنى لأن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ولأن أعضاء المحدث طاهرة لقوله : « المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً » وتطهير الطاهر محال ولأن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء وليس في التيمم نظافة ، وأقام المسح على الخفين مقام الغسل ولا يفيد في نفس العضو نظافة والماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فإذن الاعتماد على مورد النص . ولعل في الترتيب حكماً خفية لا نعرفها أو هو محض التعبد . وقد أوجبنا رعاية الترتيب في الصلاة مع أن أركان الصلاة غير مذكورة في القرآن مرتبة فرعاية الترتيب في الوضوء مع أن القرآن ناطق به أولى . السابعة : قال الشافعي وأبو حنيفة : الموالاة في أفعال الوضوء غير واجبة لأن إيجاب هذه الأفعال قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي ، وهذا القدر معلوم من الآية ومفيد للطهارة والزائد لا دليل عليه ، وأيضاً روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وترك لمعة من عقبة فأمره بغسلها ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن المدة الفاصلة ، وعند غيرهما شرط كيلا يتخلل بين أجزاء العبادة ما ليس منها ، وحدّ التفريق المخل بالموالاة أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص . الثامنة : قال أبو حنيفة : الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء لأن ظاهر الآية يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة لما مر ترك العمل به عندما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولاً به عند خروج الخارج النجس . وخالفه الشافعي تعويلاً على ما روي أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه . التاسعة : قال مالك : لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة لنا التمسك بعموم الآية . العاشرة : قال أبو حنيفة : القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء . وقال الباقون : لا تنقض لأبي حنيفة أن يتمسك بعموم الآية . الحادي عشر : قال أبو حنيفة : لمس المرأة وكذا لمس الفرج لا ينقض الوضوء . وقال الشافعي : ينقض متمسكاً بالعموم . الثانية عشرة : لو كان على وجهه وبدنه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة من الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوءاً؟ قال في التفسير الكبير : ما رأيت هذه المسألة في كتب الأصحاب .
قال : والذي أقوله أنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله : { واغسلوا } وقد أتى به ، وأقول : الظاهر أنه لا يكفي لأنه لا يرتفع بغسلة واحدة نجاستان حكمية وعينية وهذا بخلاف ما لو نوى التبرد أو التنظف فإن النجاسة هناك حكمية فقط . الثالثة عشرة : لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوءه؟ يمكن أن يقال : لا لأنه لم يأت بعمل . وأن يقال : نعم لأنه أتى بما أفضى إلى المقصود وهو الانغسال . الرابعة عشرة : إذا غسل أعضاء الوضوء ثم كشط جلده فالأظهر وجوب غسله لتحصيل الامتثال فإن ذلك الوضع غير مغسول . الخامسة عشرة : لو رطب الأعضاء من غير سيلان الماء عليها لم يكف لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل ، وفي الجنابة يكفي لأنه هناك مأمور بالتطهير لقوله : { ولكن يريد ليطهركم } والتطهير يحصل بالترطيب . السادسة عشرة : لو أمر الثلج على العضو فإن ذاب وسال جاز وإلاّ فلا خلافاً لمالك والأوزاعي لنا فاغسلوا وهذا ليس بغسل . السابعة عشرة : التثليث سنة لأن ماهية الغسل تحصل بالمرة . الثامنة عشرة : السواك سنة لا واجب لأن الآية ساكتة عنه وكذا القول في التسمية خلافاً لأحمد وإسحاق . وكذا في تقديم غسل اليدين على الوضوء خلافاً لبعضهم . التاسعة عشرة : قال الشافعي : لا تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل ، وأحمد وإسحاق يجب فيهما . أبو حنيفة : يجب في الغسل لا في الوضوء . حجة الشافعي أنه أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجهاً وحده من مبتدأ تسطيح الجهة إلى منتهى الذقن طولاً ، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً ، وداخل الفم والأنف غير مواجه . العشرون : ابن عباس : يجب إيصال الماء إلى داخل العين لأن العين جزء من الوجه . الباقون : لا يجب لقوله في آخر الآية : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } وإدخال الماء في العين حرج . الحادية والعشرون : غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند الشافعي وأبي حنيفة ومحمد خلافاً لأبي يوسف . لنا أنه واجب قبل نبات الشعر بالإجماع فكذا بعده ولأنه من الوجه والوجه يجب غسله كله . الثانية والعشرون : أبو حنيفة : لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة . الشافعي : يجب لقوله : { فاغسلوا } ترك العمل عند كثافة اللحية دفعاً للحرج فيبقى عند كثافتها على الأصل . الثالثة والعشرون : الأصح عند الشافعي وجوب إمرار الماء على ظاهر اللحية النازلة طولاً والخارجة إلى الأذنين عرضاً لأن مواجه . مالك وأبو حنيفة والمزني : لا يجب لأنه لا جلد تحتها حتى يغسل ظاهرها بتبعيتها . الرابعة والعشرون : لو نبت للمرأة لحية وجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت لحيتها كثيفة لأنا تركنا العمل بظاهر الآية في اللحية الكثيفة للرجل دفعاً للحرج ولحية المرأة نادرة وخصوصاً الكثيفة فيبقى حكمها على الأصل .
الخامسة والعشرون : يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع : العنفقة والحاجب والشارب والعذار والهدب لأن قوله : { فاغسلوا } يدل على وجوب غسل كل جلدة الوجه ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعاً للحرج وهذه الشعور خفيفة غالباً فتبقى على الأصل . السادسة والعشرون : الشعبي : ما اقبل من الأذن فهو من الوجه فيغسل ، وما أدبر فمن الرأس فيمسح وردّ بأن الأذن غير مواجه أصلاً . السابعة والعشرون : الجمهور على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وخالف مالك وزفر وكذا ، الخلاف في قوله : { وأرجلكم إلى الكعبين } والتحقيق أن « إلى » تفيد معنى الغاية مطلقاً ، والمراد بالغاية جميع المسافة أو حقيقة النهاية . ثم إنّ حد الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود حساً انفصال الظلمة عن النور في قوله : { ثم أتموا الصيام إلى الليل } [ البقرة : 187 ] فيكون الحد خارجاً عن المحدود . وقد لا يكون كذلك نحو حفظت القرآن من أوّله إلى آخره وبعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فيدخل الحد في المحدود ، ولا شك أن المرفق وهو موصل الذراع في العضد سمي بذلك لارتفاق صاحبها بها غير متميزة في الحس عن محدودها فلا يكون إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب غسلها جميعاً . وإن سلم أن المرفق لا يجب غسلها لكنها اسم لما جاوز طرف العظم ، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله . وهذا الجواب اختيار الزجاج . وعلى هذا فمقطوع اليد من المرفق يجب عليه إمساس الماء بطرف العظم وإن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب عليه شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلاً . الثامنة والعشرون : تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب خلافاً لأحمد . لنا أنه ذكر الأيدي والأرجل في الآية من غير تقديم لإحدى اليدين أو الرجلين . التاسعة والعشرون : ذهب بعضهم إلى أن مبتدأ الغسل يجب أن يكون الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرافق لأن المرافق جعلت في الآية نهاية الغسل وجمهور الفقهاء على أن عكس هذا الترتيب لا يخل بصحة الوضوء لأن المراد في الآية بيان جملة الغسل لا بيان ترتيب أجزاء الغسل . الثلاثون : لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله : { وأيديكم إلى المرافق } كما لو نبت على الكف أصبع زائدة . الحادية والثلاثون : المراد من تحديد الغسل بالمرفق بيان الواجب فقط لما ورد في الأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة . الثانية والثلاثون : مالك : يجب مسح كل الرأس . أبو حنيفة : يتقدر بالربع لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وأنها ربع الرأس . الشافعي : الواجب أقل ما ينطلق عليه اسم المسح لأنه إذا قيل مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلاّ عند مسحه بالكلية ، أما لو قال مسحت يدي بالمنديل كفى في صدقه مسح اليد بجزء من أجزاء المنديل فهكذا في الآية وإلاّ احتيج في تعيين المقدّر إلى دليل منفصل وتصير الآية مجملة وهو خلاف الأصل .
الثالثة والثلاثون : لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة لأن ذلك ليس مسحاً للرأس . وقال الأوزاعي والثوري وأحمد : يجوز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة . وأجيب بأنه لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة . الرابعة والثلاثون : اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل القفال في تفسيره عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أن الواجب فيهما المسح وهو مذهب الإمامية . وجمهور الفقهاء والمفسرين على أن فرضهما الغسل . وقال داود : يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية . وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري : المكلف مخير بين المسح والغسل . حجة من أوجب المسح قراءة الجر في : { وأرجلكم } عطفاً على : { برؤوسكم } ولا يمكن أن يقال إنه كسر على الجوار كما في قوله : « حجر ضب خرب » لأن ذلك لم يجىء في كلام الفصحاء وفي السعة ، وأيضاً إنه جاء حيث لا لبس ولا عطف بخلاف الآية . وأما القراءة بالنصب فيكون للعطف على محل { رؤوسكم } حجة الجمهور أخبار وردت بالغسل وأن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح . والقوم أجابوا بأن أخبار الآحاد لا تُعارض القرآن ولا تنسخه وبالمنع في مجل النزاع فزعم الجمهور أن قراءة النصب ظاهرة في العطف على مفعول : { فاغسلوا } وإن كان أبعد من : { امسحوا } وقراءة الجر تنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء لأن الأرجل تغسل بالصب فكانت مظنة للإسراف . الخامسة والثلاثون : جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان الناتئان من جانبي الساق . وقالت الإمامية وكل من قال بالمسح : إن الكعب عظم مستدير موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم كما في أرجل جميع الحيوانات . والمفصل يسمى كعباً ومنه كعوب الرمح لمفاصله . حجة الجمهور أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعباً واحداً وكان ينبغي أن يقال : وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقاً واحداً لا جرم قال : { إلى المرافق } وأيضاً العظم المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلاّ أهل العلم بتشريح الأبدان ، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان لكل أحد ومناط التكليف ليس إلاّ أمراً ظاهراً ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ألصقوا الكعاب بالكعاب » السادسة والثلاثون : الجمهور على جواز مسح الخفين خلافاً للشيعة والخوارج . حجة الجمهور الأحاديث ، وحجة الشيعة الآية ، وأن جواز المسح على الخفين حاجة عامة فلو كانت ثابتة لبلغت مبلغ التواتر .
السابعة والثلاثون : رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس ، فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه سقط عنه ذلك أيضاً لأن قوله : { فاغسلوا } { وامسحوا } مشروط بالقدرة عليه فإذا فاتت القدرة سقط التكليف . الثامنة والثلاثون . قوله سبحانه : { وإن كنتم جنباً فاطهروا } الأصل « تطهروا » أدغم التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل . وللجنابة سببان : نزول المني لقوله صلى الله عليه وسلم : « الماء من الماء » والثاني التقاء الختانين خلافاً لزيد بن ثابت ومعاذ وأبي سعيد الخدري لما روي انه صلى الله عليه وسلم قال : « إذا التقى الختانان وجب الغسل » وختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة ، وأما ختان المرأة فإن شفريها يحيطان بثلاثة أشياء : ثقبة من أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد ، وثقبة فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير ، والثالث جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك فوق ثقبة البول ، وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانه ختانها . التاسعة والثلاثون : لا يجوز للجنب مس المصحف خلافاً لداود . لنا قوله : { فاطهروا } يدل على أن الطهارة غير حاصلة وإلاّ لكان أمراً بتطهير الطاهر وحينئذٍ لا يجوز له مس المصحف لقوله : { لا يمسه إلاّ المطهرون } [ الواقعة : 79 ] ولإطلاق قوله : { فاطهروا } علم أنه أمر بتحصيل الطهارة في كل البدن وإلاّ خصت تلك الأعضاء بالذكر كما في الطهارة الصغرى ، وعلم أنه لا يجب تقديم الوضوء على الغسل خلافاً لأبي ثور وداود ، وعلم أن الترتيب غير واجب خلافاً إسحق فإنه أوجب البداءة بأعلى البدن ، وعلم أن الدلك غير واجب خلافاً لمالك . الأربعون : الشافعي : المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل لقوله صلى الله عليه وسلم : « أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت » أبو حنيفة : هما واجبان لقوله تعالى : { فاطهروا } والتطهير لا يحصل إلاّ بطهارة جميع الأعضاء . ترك العمل به في الاعضاء الباطنة للتعذر وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما هما فيبقى داخلاً في النص ولأن قوله صلى الله عليه وسلم : « بلوا الشعر » يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعراً : « وأنقوا البشرة » يدخل فيه جلدة داخل الفم . الحادية والأربعون : لا يجب نقض الشعر إن لم يمنع عن وصول الماء إلى منابته لأن المقصود التطهير وإن منع وجب خلافاً للنخعي . الثانية والأربعون : إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلاً في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي : يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم للاحتياط . وقال أبو حنيفة : إن كان أكثر البدن صحيحاً غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحاً يكفيه التيمم لأن المرض إذا كان حالاً في بعض أعضائه فهو مريض .
الثالثة والأربعون : لو ألصق على موضع التيمم لصوقاً منع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف . قال الشافعي : يلزم نزع اللصوق حتى يصل التراب إليه أخذاً بالأحوط . وقال الأكثرون : لا يجب دفعاً للحرج . الرابعة والأربعون : قال الشافعي : الاستنجاء واجب إما بالماء أو بالأحجار لقوله صلى الله عليه وسلم : « فليستنج بثلاثة أحجار » وقال أبو حنيفة : واجب عند المجيء من الغائط إما الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحدث فدل على أنه غير واجب . الخامسة والأربعون : لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي ولا ينقضه عند أبي حنيفة وقد مرت المسألة في سورة النساء . السادسة والأربعون : لا يكره الوضوء بالماء المسخن لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وههنا قد وجد ماء وخالف مجاهد . السابعة والأربعون : أبو حنيفة وأحمد : لا يكره المشمس لقوله تعالى : { فلم تجدوا ماء } وهذا قد وجد ماء . الشافعي يكره للحديث . الثامنة والأربعون : لا يكره الوضوء بفضل ماء المشرك وبالماء في آنية المشرك لأنه واجد للماء فلا يتيمم ، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشرك وتوضأ عمر من ماء في جرة نصرانية . وقال أحمد وإسحق : لا يجوز . التاسعة والأربعون : يجوز الوضوء بماء البحر لأنه واحد الماء خلافاً لعبد الله بن عمرو بن العاص . الخمسون : جوّز أبو حنيفة بنبيذ التمر في السفر للحديث ولم يجوّزه الشافعي وقال : يتيمم لأنه غير واجد للماء . الحادية والخمسون : ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات لطاهرة ، والأكثرون لا يجوز . حجتهما : { فاغسلوا } أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو غسل قال الشاعر : فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها . لنا : أنه عند عدم الماء أوجب التيمم . الثانية والخمسون : الشافعي : الماء المتغير بالزعفران تغيراً فاحشاً لا يجوز الوضوء به لأن واجده يصدق عليه أنه غير واجد للماء . وخالف أبو حنيفة لأن أصل الماء موجود بصفة زائدة كما لو تغير وتعفن بطول المكث أو بتساقط الأوراق بالاتفاق . الثالثة والخمسون : مالك وداود : الماء المستعمل في الوضوء بقي طاهراً طهوراً لأن واجده واجد للماء وهو قول قديم للشافعي . والقول الجديد إنه طاهر غير طهور ، ووافقه محمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة في أكثر الروايات : إنه نجس لأن النجاسة الحكمية كالعينية . الرابعة والخمسون : مالك : إذا وقع في الماء نجاسة ولم يتغير بقي طاهراً طهوراً قليلاً كان أو كثيراً وهو قول أكثر الصحابة والتابعين . وقال الشافعي : إن كان أقل من القلتين ينجس . وقال أبو حنيفة : إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس . حجة مالك أنه واجد للماء ترك العمل بهذا العموم في الماء القليل المتغير فيبقى حجة في الباقي ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم :
« خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلاّ ما غير طعمه أو ريحه أو لونه » حجة الشافعي مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً » الخامسة والخمسون : يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب لأن واجده واجد للماء ، وقال أحمد وإسحاق : لا يجوز الوضوء بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب . السادسة والخمسون : أسآر السباع ، طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار لأنه واجد للماء . وقال أبو حنيفة : نجسه . السابعة والخمسون : قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون : لا بد في التيمم من النية لأنه قال : { فتيمموا } والتيمم عبارة عن القصد وهو النية . وقال زفر : لا يجب . الثامنة والخمسون : الشافعي : لا يجوز التيمم إلاّ بعد دخول الصلاة لأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل الوقت . أبو حنيفة : يجوز قياساً على الوضوء ولظاهر قوله : { إذا قمتم } والقيام إلى الصلاة يكون بعد دخول وقتها . التاسعة والخمسون : لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى : { صعيداً طيباً } . الستون : لا خلاف في جواز التيمم بدلاً عن الوضوء ، أما التيمم بدل غسل الجنابة فعن علي رضي الله عنه وابن عباس جوازه وهو قول أكثر الفقهاء ، وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز . لنا قوله تعالى : { أو لامستم } إما يختص بالجماع أو يدخل الجماع فيه . الحادية والستون . الشافعي : لا يجوز أن يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرضين لأن ظاهر قوله : { إذا قمتم } يقتضي إعادة الوضوء لكل صلاة ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى في التيمم على ظاهره . أبو حنيفة : يجوز أداء الفرائض به كالوضوء . أحمد : يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين . الثانية والستون : الشافعي : إذا لم يجد الماء في أول الوقت وتوقع في آخره جاز له التيمم لأن قوله : { إذا قمتم } يدل على أنه عند دخول الوقت إن لم يجد الماء جاز له التيمم . وقال أبو حنيفة : يؤخر الصلاة إلى آخره . الثالثة والستون : إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه لأنه وجد الماء فلا يجوز له الشروع في الصلاة بالتيمم . وخالف أبو موسى الأشعري والشعبي . الرابعة والستون : لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة لأنه خرج عن عهدة التكليف خلافاً لطاوس . الخامسة والستون : ولو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها - وبه قال مالك وأحمد - ، لأنه انعقدت صلاته صحيحة بحكم التيمم فما لم تبطل صلاته لا يصير قادراً على استعمال الماء ، وما لم يصر قادراً على استعمال الماء لم تبطل صلاته فيدور . وقال أبو حنيفة والثوري والمزني : يلزمه الخروج لأنه واجد للماء .
السادسة والستون : لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي وهو قول أحمد وأبي يوسف . والثاني لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة ومحمد لأن النسيان في حكم العجز وكذا إذا ضل رحله في الرحال بالطريق الأولى لأن مخيم الرفقة أوسع من رحله . ولو تيقن الماء في رحله واستقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد فالأكثرون على أنه يلزمه الإعادة لأن العذر ضعيف . وقيل : لا لأن حكمه حكم العاجز . السابعة والستون : لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكنه استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أوّلاً ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله ، وإن يكن عالماً فإن كان عليها علامة ظاهرة فالإعادة وإلاّ فلا لأنه كالعاجز . الثامنة والستون : إذا لم يكن معه ماء ولا يمكنه أن يشتري إلاّ بالغبن الفاحش جاز التيمم لقوله : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } ولو وهب منه الماء لزمه القبول لأن المنة فيه سهل ، ولو وهب منه ثمنه لم يلزمه القبول لثقل المنة ووجود الحرج ، ولمثل هذا يجب قبول إعارة الدلو لاهبته فهذه جملة المسائل الفقهية المستنبطة من الآية سوى ما مرت في سورة النساء .
واعلم أن قوله سبحانه وتعالى : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أصل معتبر في علم الفقه لأنه يدل على أن الأصل في المضار الحرمة وفي المنافع الإباحة . وقد تمسك به نفاة القياس قالوا : إن كل حادثة فحكمها المفصل إن كان مذكوراً في الكتاب والسنة فذاك وإلاّ فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيها الحرمة ، وإن كان من باب المنافع فالأصل فيها الإباحة ، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياساً واقعاً في مقابلة النص فيكون مردوداً . أما قوله : { ولكن يريد ليطهركم } فله تفسيران : أحدهما وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة ، أن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية ، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية ، وزيف بأن أعضاء المؤمن لا تنجس لقول تعالى : { إنما المشركون نجس } [ التوبة : 28 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : « المؤمن لا ينجس لا حياً ولا ميتاً » وبأنه لو كان رطباً فأصابه ثوب لم ينجس ، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق ، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع ، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر ، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير ، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين ، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوساً ولا من الأعراض أن انتقال الأعراض محال .
التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف ، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه . { وليتم نعمته عليكم } بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء ، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه . ثم ذكر ما يوجب عليهم قبول تكاليفه وذلك من وجهين : الأول تذكر نعمته يعني التأمل في هذا النوع الذي لا يقدر عليه غيره لأن هذا النوع وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى الخيرات في الدنيا والآخرة حيث إنه يمتاز عن نعمة غيره وأنه لا يقدر عليه غيره يجب تلقيه بالتشكر وهو الإذعان لأوامره والانقياد لنواهيه . فإن قيل : اذكروا مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل نسيانها مع تواترها وتواليها في كل لحظة ولمحة؟ فالجواب أنها صارت لتواليها كالأمر المعتاد فصار من غاية الظهور كالأمر المستور ، أو المراد التوبيخ على عدم القيام بمواجبها فكأنها كالشيء المنسي . الثاني ذكر الميثاق ومعنى : { واثقكم به } عاقدكم به عقداً وثيقاً يعني ميثاق رسوله حين بايعهم تحت الشجرة وغيرها على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه . وعن ابن عباس : هو الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل حين قالوا : آمنا بالتوراة وبما فيها من البشارة بنبي آخر الزمان ومن غيرها . وقال مجاهد والكلبي ومقاتل : إنه إشارة إلى قوله للذرية : { ألست بربكم قالوا بلى } [ الأعراف : 172 ] وقال السدي : هو ما ركز في العقول من حسن هذه الشريعة وهو اختيار أكثر المتكلمين .
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلاّ أنها منحصرة في نوعين : التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله : { كونوا قوّامين لله } والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله : { شهداء بالقسط } قال عطاء : يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك . وقال الزجاج : بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه . ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحداً إلاّ على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال { ولا يجرمنكم } أي لا يحملنكم بغض { قوم على أن لا تعدلوا } أي فيهم فحذف للعلم . ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيداً فقال : { اعدلوا } ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال : { هو } أي العدل الذي دل عليه اعدلوا { أقرب للتقوى } أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه . وقيل : المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام ، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة ، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نيقض عهد أو نحو ذلك .
وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله : { لهم مغفرة } بيان للوعد قدم لهم وعداً ، ثم كأنه قيل : أي شيء ذلك؟ فقيل : لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة ، أو يكون وعد مضمناً معنى قال ، أو يجعل وعد واقعاً على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجزاً أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل . وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نوراً وفي عرصه القيامة فيزيده حبوراً والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله : { قالوا ابنوا له بنياناً فألقوه في الجحيم } [ الصافات : 97 ] وأصحاب الجحيم ملازموها . بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه اليد مدّها إلى المبطوش به . عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها ، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم على شجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ثم أقبل عليه فقال : من يمنعك مني؟ قال : الله - قالها ثلاثاً - والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : الله . فأغمد الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه . وقال مجاهد والكلبي وعكرمة : قتل رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من بني سليم - وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة - فجاء قومهما يطلبون الدية فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فدخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستقرضهم في عقلهما فقالوا : نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة ، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا . فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا : إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب : أنا . فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده ، فجاء جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عيله وسلم وأنزل الله هذه الآية وقيل : نزلت قصة عسفان حين هم الأعداء أن يواقعوهم فنزلت صلاة الخوف . وقيل : إنها لم تنزل في واقعة خاصة ولكن المراد أن الكفار أبداً كانوا يريدون إيقاع البلاء والنهب والقتل بالمسلمين فأعز الله المسلمين وفل شوكة الكفار وقوى دين الإسلام وأظهره على الأديان .
التأويل : سماع اسم الله وهو من صفات الهيبة يوجب الفناء والغيبة ، وسماع الرحمن الرحيم وهما من صفات اللطف يورث البقاء والقربة { أوفوا } أيها العشاق { بالعقود } التي جرت بيننا يوم الميثاق ليوم التلاق . فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده { أحلت لكم } ذبح { بهيمة } النفس التي كالأنعام في طلب المرام إلا النفس المطمئنة التي تليت عليها { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] فتنفرت من الدنيا بما فيها فهي كالصيد في الحرم { وأنتم حرم } بالتوجه إلى كعبة الوصال وإحرام الشوق إلى حضرة الجمال والجلال { إن الله يحكم ما يريد } لمن يريد فيأمر بذبح النفس إذا كانت متصفة بصفة البهيمة وبترك ذبحها إذا كانت مطمئنة بذكر الحق ومتسمة بسمات الملك . ثم أخبر عن تعظيم الشعائر من صدق الضمائر فقال : { يا أيها الذين آمنوا } بشهود القلوب فقصدوا زيارة المحبوب وخرجوا عن أوطان الأوطار وسافروا عن ديار الأغيار { لا تحلوا } معالم الدين والشريعة ومواسم آداب الطريقة والحقيقة ، وعظموا الزمان والمكان والإخوان القاصدين كعبة الوصول إلى الرحمن الذين أهدوا للقربان نفوسهم وقلدوها بلحاء الشجرة الطيبة ليأمنوا عن مكر الأعداء الخبيثة { وإذا حللتم } أتممتم مناسك الوصول { فاصطادوا } أرباب الطلب بشبكة الدعوة إلى الله ، ولا يحملنكم حسد الحساد الذين يريدون أن يصدّوكم عن الحق على أن تعتدوا على الطالبين فتكونوا قطاع الطريق عليهم في طلب الحق . { حرمت عليكم } يا أهل الحق { الميتة } وهي الدنيا بأسرها { والدم ولحم الخنزير } أي حلالها وحرامها قليلها وكثيرها لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة إلى اللحم قليل { وما أهل به } أي كل طاعة هي { لغير الله والمنخنقة والموقوذة } يعني الذين يخنقون أنفسهم بالمجاهدات ويقذونها بالرياضات رياء وسمعة { والمتردية والنطيحة } الذين يتردون أنفسهم إلى أسفل سافلي الطبيعة بالتناطح مع الأقران والتفاخر بالعلم والزهد بين الإخوان { وما أكل السبع } الظلمة المتهارشون في جيفة الدنيا تهارش الكلاب { إلاّ ما ذكيتم } بالكسب الحلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال { وما ذبح على النصب } ما تذبح عليه النفوس من المطالب الفانية { وأن تستقسموا بالأزلام } أي أن تكونوا مترددين في طلب المرام ، فإذا انتهيتم عن هذه المناهي وتخلصتم عن هذه الدواهي فقد عاد ليكلم نهاراً وظلمتكم أنواراً . { اليوم يئس الذين كفروا } من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها { من دينكم فلا تخشوهم واخشون } فإن كيدي متين { اليوم } أي في الأزل { أكملت لكم دينكم } ولكن ظهر الأمر في حجة الوداع يوم عرفة { وأتممت عليكم نعمتي } وهي أسباب تحصيل الكمال ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم { فمن اضطر } فمن ابتلى بالتفات لشيء من الدنيا والآخرة غير مائل إليه للإعراض عن الحق ولكن من فترة للطالبين أو وقفة للسالكين { يسئلونك ماذا أحل } لأرباب السلوك إذا الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا وهما حرام على أهل الله الطيبات كل مأكول ومشروب وملبوس يكون سبباً للقيام بأداء الحقوق .
{ فكلوا مما أمسكن عليكم } تناولوا ما اصطادت النفوس المطمئنة المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريقة كمالية الدين الأزلية وهو يوم { واذكروا } عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية { اسم الله } أي لا تصرفوا فيه إلاّ لله بالله في الله { اليوم } يعني الذي فيه ظهر كمالية الدين الأزلية وهو يوم عرفة . وهذه فائدة التكرار { أحل لكم الطيبات } { أحل لكم الطيبات } التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل لكم التخلق بالأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات { وطعام الذين أوتوا الكتاب } وهم الأنبياء { حل لكم } أي غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة { وطعامكم حل لهم } أي منبع لبن النبوة والولاية واحد وإن كان الثدي اثنين { قد علم كل أناس مشربهم } [ البقرة : 60 ] وللنبي وراء ذلك كله مشرب « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { والمحصنات من المؤمنات } وهي أبكار حقائق القرآن { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب } أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمم السالفة أي التي أدرجت في القرآن { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرّة أعين } [ السجدة : 17 ] { إذا آتيتموهن أجورهن } وهي بذل الوجود محصنين في هذا البذل ليكون على وجه الحق { غير مسافحين } على وجه الطبع { ولا متخذي أخدان } غير ملتفتين إلى شيء من الأكوان { ومن يكفر بالإيمان } بهذ المقامات { فقد حبط عمله } الذي عمل من دون المكاشفات { يا أيها الذين آمنوا } إيماناً حقيقياً عند خطاب ألست بربكم { إذا قمتم } من نوم الغفلة { إلى الصلاة } وهي معراجكم للرجوع إلى مكامن قربكم { فاغسلوا وجوهكم } التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار { وأيديكم إلى المرافق } أي اغسلوا أيديكم من التمسك بالدارين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق { وامسحوا برؤسكم } ببذل نفوسكم { وأرجلكم إلى الكعبين } من طين طبيعتكم والقيام بأنانيتكم { ولا يجرمنكم } ولا يحملنكم حسد الحساد وعداوة الأنذال { على أن لا تعدلوا } مع أنفسكم { إذ هم قوم } من الشيطان والنفس والهوى { أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم } والله خير موفق ومعين .
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
القراآت : { قسية } حمزة وعلي والمفضل . الباقون { قاسية } .
الوقوف : { بني إسرائيل } ج للعدول عن الإخبار إلى الحكاية مع اتحاد القصة . { نقيباً } ج للعدول عن الحكاية إلى الإخبار . { معكم } ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف جوابه { لأكفرن } . { الأنهار } ج { السبيل } ه { قاسية } ج لاحتمال الاستئناف والحال أي لعناهم محرفين { مواضعه } ط لأنا ما يتلوه حال أي وقد نسوا { ذكروا به } ج للعدول عن الماضي إلى المستقبل مع الواو . { واصفح } ط { المحسنين } ه { ذكروا به } ص لعطف المتفقتين { يوم القيامة } ط { يصعنون } ه { عن كثير } ه { مبين } ه لا لأن قوله : { يهدي } وصف الكتاب إلى آخر الآية . { مستقيم } ه { المسيح ابن مريم } الأول ط { جميعاً } ط { وما بينهما } ط { ما يشاء } ط { قدير } ه { وأحباؤه } ط { بذنوبكم } ط لتناهي الاستفهام إلى الأخبار { ممن خلق } ط { من يشاء } ط { وما بينهما } ز للفصل بين ذكر الحال والمال . { المصير } ه { ولا نذير } ر للعطف مع وقوع العارض . { ونذير } ط { قدير } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما خاطب المؤمنين بذكر نعمته وميثاقه أردفه ذكر ميثاق بني إسرائيل ونققضهم إياه ثم لعنهم بسبب ذلك تحذيراً لهذه الأمة من مثل ما فعلوا وفعل بهم . وبوجه آخر لما ذكر غدر اليهود وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالنبي صلى الله عليه وسلم لولا دفع الله تعالى ، أردفه بذكر سائر فضائحهم ليعلم أن ذلك لم يزل هجيراهم . والنقيب العريف « فعيل » بمعنى « فاعل » لأنه ينقب عن أحوال القوم فيكون شاهدهم وضمينهم . وقال أبو مسلم : بمعنى « مفعول » يعني اختارهم على علم بهم . وأصل النقب الطريق في الجبل . ونقب البيطار سرة الدابة ليخرج منها ماء أصفر . والمنافق الفضائل لأنها لا تظهر إلاّ بالنقب عنها . ويقال : كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرفع صوت نباحه ، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيق . قال مجاهد والكلبي والسدي : إن الله تعالى اختار من كل سبط من أسباط بني إسرائيل رجلاً يكون نقيباً لهم وحاكماً فيهم . ثم إنهم بعثوا إلى مدينة الجبارين لينقبوا عن أحوالهم فرأوا أجراماً عظيمة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلاّ رجلين منهم . ومعنى { إني معكم } إني ناصركم ومعينكم والتقدير : وقال الله لهم . فحذف الرابط للعلم به . والخطاب للنقباء أو لكل بني إسرائيل . والحاصل إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم . فهذه مقدمة معتبرة جداً في الترغيب والترهيب ثم ذكر بعدها جملة شرطية مقدمها مركب من خمسة أمور والجزاء هو قوله : { لأكفرن } وهو إشارة إلى إزالة العقاب .
وقوله : { ولأدخلنكم } وهو إشارة إلى إيصال الثواب . واللام في { لئن أقمتم } موطئة للقسم وفي { لأكفرن } جواب له ولكنه سد مسد جواب الشرط أيضاً . والعزر في اللغة الرد ومنه التعزير التأديب لأنه يرده عن القبيح ولهذا قال الأكثرون : معنى { عزرتموهم } نصرتموهم لأن نصر الإنسان رد أعدائه عنه . ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله : { وتعزروه وتوقروه } [ الفتح : 9 ] تكراراً . وههنا أسئلة : لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة إيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال؟ وأجيب بعد تسليم أن الواو للترتيب بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلاّ أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنه لا بد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل وإلاّ لم يكن لتلك الأعمال أثر . قلت : يحتمل أن يكون التقدير وقد آمنتم أو أخر الإيمان عن العمل تنبيهاً على أن الإيمان إنما يقع معتداً به إذا اقترن به العمل كقوله { وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى } [ طه : 82 ] أو هو من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس ، أو لعل اليهود كانوا مقصرين في الصلاة والزكاة فكان ذكرهما أهم . سؤال آخر ما الفائدة في قوله : { وأقرضتم } بعد قوله : { وآتيتم الزكاة } ؟ وأجيب بأن الإقراض أريد به الصدقات المندوبة . قال الفراء : ولو قال وأقرضتم الله إقراضاً حسناً لكان صواباً أيضاً إلاّ أنه أقيم الاسم مقام المصدر مثل { وأنبتها نباتاً حسناً } [ آل عمران : 37 ] آخر لم قال : { فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل } فإن من كفر قبل ذلك أيضاً فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم؟ والجواب أجل ، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع فلهذا خص بالذكر . { فبما نقضهم ميثاقهم } بتكذيب الرسل وقتلهم أو بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو بإخلال جملة الشروط المذكورة { لعناهم } قال عطاء : أخرجناهم من رحمتنا . وقال الحسن ومقاتل : مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير . قال ابن عباس : ضربنا الجزية عليهم { وجعلنا قلوبهم قاسية } من قرأ { قسية } فبمعنى القاسية أيضاً إلا أنها أبلغ كعليم وعالم ومنه قولهم « درهم قسي » أي رديء مغشوش لما فيه من اليبس والصلابة بخلاف الدرهم الخالص فإن فيه ليناً وانقياداً . قالت المعتزلة : معنى الجعل ههنا أنه أخبر عنها بأنها صارت قاسية كما يقال جعلت فلاناً فاسقاً أو عدلاً { يحرّفون الكلم } بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير كلامه { ونسوا حظاً } تركوا نصيباً وافراً أو قسطاً وافياً { مما ذكروا به } من التوراة يريد أن تركهم التوراة وإعراضهم عن العمل بها إغفال حظ عظيم ، أن فسدت نياتهم فحرفوا التوراة وزالت علوم منها عن حفظهم كما روي عن ابن مسعود : قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية .
وقال ابن عباس : تركوا نصيباً مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم بيّن أن نكث العهود والغدر لم يزل عادتهم خلفاً عن سلف فقال : { ولا تزال تطلع على خائنة } أي خيانة كالعافية والحادثة أو صفة لمحذوف مؤنث أي على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة أو التاء للمبالغة مثل « رجل راوية للشعر » { إلا قليلاً منهم } وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله ، أو هم الذين بقوا على الكفر من غير غدر ونقض لعهودهم { فاعف عنهم واصفح } بعث على حسن العشرة معهم . فقيل منسوخ بآية الجهاد { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] وقيل : المراد فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم . وقيل : بناء على أن القليل هم الباقون على العهد منهم أن المراد لا تؤاخذهم بالصغائر ما داموا باقين على العهد وهذا قول أبي مسلم { إن الله يحب المحسنين } قال ابن عباس : معناه إذا عفوت فأنت محسن ، وإذا كنت محسناً فقد أحبك الله . وعلى قول أبي مسلم فالمراد بهؤلاء المحسنين هم القليلون الذين ما نقضوا عهد الله وفي هذا التفسير بعد والله أعلم .
ثم قال : { ومن الذين قالوا إنا نصارى } ولم يقل ومن النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله ، وهم الذين قالوا لعيسى عليه السلام نحن أنصار الله وكانوا بالحقيقة أنصار الشيطان حيث اختلفوا وخالفوا الحق { أخذنا ميثاقهم } إن كان الضمير عائداً إلى الذين قالوا فالمعنى ظاهر ، وإن عاد إلى اليهود فالمعنى أخذنا منهم مثل ميثاق اليهود في أفعال الخير والإيمان بالرسل { فأغرينا } ألصقنا وألزمنا ومنه الغراء الذي يلصق به وغرى بالشيء لزمه ولصق به { بينهم } بين فرق النصارى أو بينهم وبين اليهود . ثم دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال : { يا أهل الكتاب } ووحد الكتاب لأنه أخرج مخرج الجنس { مما كنتم تخفون من الكتاب } كصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكصفة الرجم وهذا معجز لأنه لم يقرأ كتاباً وقد أخبرهم بأسرار كتابهم { ويعفو عن كثير } مما تخفونه فلا يبينه مما لا تمس إليه حاجة في هذا الدين . وعن الحسن : ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه بجرمه { قد جاءكم من الله نور } محمد أو الإسلام { وكتاب مبين } هو القرآن لإبانته ما كان خافياً على الناس من الحق ، أو لأنه ظاهر الإعجاز ، ويحتمل أن يكون النور والكتاب هو القرآن والمغايرة اللفظية كافية بين المعطوفين . ولا شك أن القرآن نور معنوي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات { يهدي به الله } أي بالكتاب { من اتبع رضوانه } من كان مطلوبه اتباع الدين الذي يرتضيه الله لا الذي ألفه بحسب هواه { سبل السلام } طرق السلامة أو طرق دار السلام أو سبيل دين الله { إن الله هو المسيح ابن مريم } بناء على جواز الحلول { فمن يملك من الله شيئاً } من الذي يقدر على دفع شيء من أفعاله الله ومنع شيء من مراده .
وقوله : { إن أراد } شرط جزاء آخر محذوف يدل عليه ما تقدمه والمعنى إن أراد { أن يهلك المسيح } المدعو إلها وغيره فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره؟ والمراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمه أنهما من جنسهم وشكلهم في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وسائر الأعراض . فلما سلمتم كونه تعالى خالقاً لغيرهما وجب أن يكون خالقاً لهما ومتصرفاً فيهما . وإنما قال : { وما بينهما } بعد ذكر السموات والأرض ولم يقل « بينهن » لأنه أراد الصنفين أو النوعين . وفي قوله : { يخلق ما يشاء } وجهان : أحدهما يخلق تارة من ذكر وأنثى ، وتارة من أنثى فقط كما في حق عيسى ، وتارة من غير ذكر وأنثى كآدم عليه السلام . وثانيهما أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فإن الله تعالى يخلق فيها اللحمية والحياة معجزة لعيسى ، وكذا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص { نحن أبناء الله وأحباؤه } قيل : عليه أن اليهود لا يقولون ذلك فكيف يجوز نقل ذلك عنهم؟ وأما النصارى فلا يقولون ذلك في حق أنفسهم . وأجيب بأن المضاف محذوف أي نحن أبناء رسل الله أو أريد إن عناية الله تعالى بحالهم أكمل وأشد من اعتناء الأب بالابن ، أو اليهود زعموا أن عزيراً ابن الله ، والنصارى أن المسيح ابن الله . وقد يقول أقارب الملوك وحشمه نحن الملوك وغرضهم كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك . عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله فقالوا : كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله أحباؤه؟ ومما يتلو النصارى في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم . ثم إنه سبحانه أبطل عليهم دعواهم بقوله : { قل فلم يعذبكم بذنوبكم } فسئل أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا فحينئذ تمكن المعارضة بوقعة أحد وبقتل أحباء الله كالحسن والحسين عليهما السلام أو عذاب الآخرة . فالقوم ينكرون ذلك ولو كان مجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم كافياً لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادّعاء أنهم أحباء الله كافياً ويصير الاستدلال ضائعاً . وأجيب بأن محل الإلزام عذاب عاجل ، والمعارضة بيوم أحد ساقطة لأنهم وإن ادعوا أنهم الأحباء لكنهم لم يدعوا أنهم الأبناء . أو عذاب آجل واليهود والنصارى يعترفون بذلك وأنهم تمسهم النار أياماً معدودة . ويمكن أن يقال : المراد مسخهم قردة وخنازير بل هذا الجواب أولى ليكون الاحتجاج عليهم بشيء قد دخل في الوجوه فلا يمكنهم الإنكار .
{ بل أنتم بشر من } جملة { من خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ولا قدرة تمنعه من أن يعذبه ، وباقي الآية تأكيد لهذا المعنى { يبيّن لكم } في محل النصب على الحال وفيه وجهان : أن يقدر المبين وهو الدين والشرائع وحسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع ، أو هو ما كنتم تخفون وحسن حذفه لتقدم ذكره وأن لا يقدر المبين . والمعنى يبذل لكم البيان وحذف المفعول أعم فائدة . وقوله : { على فترة } متعلق ب { جاءكم } أو حال آخر . قال ابن عباس : أي على حين فتور من إرسال الرسل وفي زمان انقطاع الوحي . وسميت المدّة بين الرسولين من رسل الله فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع . وكان بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون أو ستمائة سنة . وعن الكلبي : كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي ، وبين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء ، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي . وأما العنسي بالنون فهو المتنبىء الكاذب . والمقصود أن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وتطرق التحريف والتغير إلى الشرائع المتقدمة وكان ذلك عذراً ظاهراً في إعراض الخلق عن العبادات ، لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادات ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك ، فمن الله تعالى عليهم بإزاحة هذه العلة وذلك قوله : { أن تقولوا } أي كراهة أن تقولوا : { ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم } أي لا تعتذورا فقد جاءكم . والحاصل أن الفترة توجب الاحتياج إلى بعثة الرسل والله قادر على ذلك لأنه قادر على كل شيء ، فكان يجب في حكمته ورحمته إرسال الرسل في الفترات إلزاماً للحجج وإقامة للبينات .
التأويل : جعل في أمة موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً ، وجعل في هذه الأمة من النجباء البدلاء أربعين رجلاً كما قال صلى الله عليه وسلم : « يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم وسبعة على خلق موسى وثلاثة على خلق عيسى عليه السلام وواحد على خلق محمد صلى الله عليه وسلم » وقال أبو عثمان المغربي : البدلاء أربعون والأمناء سبعة ، الخلفاء ثلاثة ، والواحد هو القطب ، والقطب عارف بهم جميعاً ويشرف عليهم ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه وهو إمام الأولياء ، وهكذا حال الثلاثة مع السبعة والسبعة مع الأربعين ، فإذا نقص من الأربعين واحد بدل مكانه واحد من غيرهم ، وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين ، وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة ، وإذا مضى القطب الذي به قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا إلى أن يأذن الله تعالى في قيام الساعة { لئن أقمتم الصلاة } بأن تجعلها معراجك إلى الحق في درجات القيام والركوع والسجود والتشهد .
فبالقيام تتخلص عن حجب أوصاف الإنسانية وأعظمها الكبر وهو من خاصية النار ، وبالركوع تتخلص عن حجب صفات الحيوانية وأعظمها الشهوة وهو من خاصية الهواء ، وبالسجود تتخلص عن حجب طبيعة النبات وأعظمها الحرص على الجذب للنشو والنماء وهو من خاصية الماء ، وبالتشهد تتخلص عن حجب طبع الجماد وأعظمها الجمود وهو خاصية التراب ، فإذا تخلصت من هذه الحجب فقد أقمت الصلاة مناجياً ربك مشاهداً له كما قال صلى الله عليه وسلم : « اعبد الله كأنك تراه » { وآتيتم الزكاة } بأن تصرف ما زاد من روحانيتك بتعلق القالب في سبيل الله { وآمنتم برسلي } استسلمتم بالكلية لتصرفات النبوّة والرسالة { وأقرضتم الله } بالوجود كله { قرضاً حسناً } وهو أن يأخذ منكم وجوداً مجازياً فانياً ويعطيكم وجوداً حقيقاً باقياً كما يقول . { لأكفرن } لأسترن بالوجود الحقيقي { عنكم سيّآتكم } الوجود المجازي { ولأدخلنكم جنات } الوصلة { تجري من تحتها } أنهار العناية { ولا تزال تطلع على خائنة منهم } لأنّ العصيان يجر إلى العصيان { فأغرينا بينهم العداوة } حيث نسوا حظ الميثاق وأبطلوا الاستعداد الفطري صاروا كالسباع يتهارشون ويتجاذبون { يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } يجعل أقوماً مظهر لطفه وفضله وآخرين مظهر قهره وعدله وهو أعلم بعباده .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
القراآت : { جبارين } بالإمالة : قتيبة ونصير وأبو عمرو حيث كان { فلا تاس } بغير همزة حيث وقعت : أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف .
الوقوف : { ملوكاً } ز { جبارين } ق قد قيل لشبهة الابتداء بأن ولكن كسر ألف « إن » بمجيئه بعد القول معطوفاً على الأول . { حتى يخرجوا منها } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب . { داخلون } ه { الباب } ج لذلك . { غالبون } ه { مؤمنين } ه { قاعدون } ه { الفاسقين } ه { سنة } ج لأنها تصلح ظرفاً للتيه بعده والتحريم قبله { الفاسقين } ه .
التفسير : وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال : أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وذكرهم موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في الكل . منّ الله عليهم بأمور ثلاثة : أوّلها قوله : { إذ جعل فيكم أنبياء } وذلك أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء . وثانيها قوله : { وجعلكم ملوكاً } قال السدي : أي جعلكم أحراراً تملكون أنفسكم بعد ما استعبدكم القبط . وقال الضحاك : كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكان لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكاً . وقال الزجاج : الملك من لا يدخل عليه أحد إلاّ بإذنه . وقيل : الملك هو الصحة والإسلام والأمن والفوز وقهر النفس . وقيل : من كان مستقلاً بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجاً في مصالحه إلى أحد فهو ملك . وقيل : كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء ، وقد يقال لمن حصل فيهم ملوك إنهم ملوك مجازاً . وقيل : كل نبي ملك لأنه يملك أمر أمته ينفذ فيهم حكمه . وثالثها : { وآتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين } من فلق البحر وإغراق العدوّ وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الخوارق والعظائم . وقيل : أراد عالمي زمانهم . روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله تعالى له : انظر فما أدرك بصرك فهو مقدّس وميراث لذريتك . وقيل : لما خرج قوم موسى من مصر وعدهم الله إسكان أرض الشام ، فكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد . ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيباً من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي . فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساماً عظيمة هائلة . قال المفسرون : لما بعث موسى النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجباً للملك : هؤلاء يريدون قتالنا . فقال الملك : ارجعوا إلى صاحبكم وأخبروه بما شاهدتم . فانصرف النقباء إلى موسى وأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلاّ رجلان - هما كالب بن يوفنا من سبط يهودا ، ويوشع بن نون من سبط افراييم بن يوسف - فإنهما قالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم وأجسامهم عظيمة إلاّ أن قلوبهم ضعيفة ، وأما العشرة الباقية فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم .
والأرض المقدسة هي المطهرة من الآفات ، وقيل من الشرك . وزيف بأنها لم تكن وقت الجبارين كذلك . وأجيب بأنها كانت كذلك فيما قبل لأنها كانت مسكن الأنبياء . ثم إنها ما هي؟ فعن عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحاء . وقال الكلبي : دمشق وفلسطين وبعض الأردن . وقيل : الطور وما حوله . وقيل : بيت المقدس . وقيل : الشام ومعنى { كتب الله لكم } وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها . قال ابن عباس : كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم . وقيل : المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم . وقيل : إن الوعد كان مشروطاً بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط . وقيل : حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب . وفي قوله : { كتب الله لكم } تقوية القلبو وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم . { ولا ترتدوا على أدباركم } لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وإخباره بهذه النصرة ، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها . فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر { فتنقلبوا خاسرين } في الآخرة يفوت الثواب ولحوق العقاب ، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة . والجبار « فعال » من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج . قال الفراء : لم أسمع « فعالاً » من « أفعل » إلاّ في حرفين : جبار من أجبر ، ودراك من أدرك . ويقال : نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها . والقوم الاستبعاد { إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون } كقوله تعالى : { ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط } [ الأعراف : 40 ] { قال رجلان } هما يوشع وكالب { من الذين يخافون الله أنعم الله عليهما } أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل { أنعم الله } مرفوع صفة لرجلان . ويحتمل أن يكون جملة معترضة . قال القفال : يجوز أن يكون الضمير في { يخافون } لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين { ادخلوا عليهم الباب } مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال : متى دخلتم باب بلدهم لم يبق منهم نافخ نار ولا ساكن دار { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } علموه ظناً أو يقيناً من عادة الله في نصرة رسله عامة ومن صنعه لموسى عليه سلام في قهر أعدائه خاصة { وعلى الله فتوكّلوا } الفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها .
والمعنى لما وعدكم الله النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من عظم أجسامهم بل توكلوا على الله { إن كنتم مؤمنين } مقرين بوجود الإله القدير ، موقنين بصحة نبوّة موسى { قالوا إنّا لن ندخلها } نفوا دخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس وزادوا في التأكيد بقولهم : { أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك } قال العلماء : لعلهم كانوا مجسمة يجوّزون الذهاب والمجيء على الله تعالى أو أنهم لم يقصدوا حقيقة الذهاب كقولك : « كلمته فذهب يجيبني » يريد القصة والإرادة . وقيل : المراد بالرب أخوه هارون وسموه رباً لأنه أكبر من موسى . وقيل : التقدير اذهب وربك معين لك بزعمك ولكن لا يجاوبه . قوله { فقاتلا } ولا يبقى لقوله أنت فائدة واضحة . ولا يخفى أنّ هذا القول منهم كفر أو فسق فلهذا قال موسى على سبيل الشكوى والبث { ربي إني لا أملك إلاّ نفسي وأخي } قال الزجاج : في إعرابه وجهان : الرفع على موضع إني والمعنى أنا لا أملك إلاّ نفسي وأخي كذلك ، أو نسقاً على الضمير في { أملك } أي لا أملك أنا وأخي إلاّ أنفسنا . والنصب على أنه نسق على الياء أي إني وأخي لا نملك إلاّ أنفسنا ، أو على نفسي أي لا أملك إلاّ نفسي ولا أملك إلاّ أخي ، لأنّ أخاه إذا كان مطيعاً له فهو مالك طاعته ، وكأنه لم يثق بالرجلين كل الوثوق فلهذا لم يذكرهما ، أو لعله قال ذلك تقليلاً لمن يوافقه ، أو أراد من يؤاخيه في الدين . { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله : { ونجني من القوم الظالمين } [ التحريم : 11 ] أو المراد فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لكل منا بما يستحق وهو في معنى الدعاء عليهم بدليل فاء التسبيب في قوله : { فإنها } أي الأرض المقدسة { محرمة عليهم أربعين سنة } ثم يفتحها الله لهم من غير محاربة . أو المراد أنهم يتيهون أربعين سنة ومعنى يتيهون يسيرون متحيرين . عن مقاتل أن موسى عليه السلام لما دعا عليهم فأخبره الله بأنهم يتيهون قالوا له : لم دعوت علينا وندم على ما عمل فأوحى الله إليه : { فلا تأس } أي لا تحزن ولا تندم { على القوم الفاسقين } فإنهم أحقاء بالعذاب لفسقهم . وجوّز بعضهم أن يكون ذلك خطاباً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن على قوم لم تزل مخالفة الرسل هجيراهم .
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم : إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب ، ولأن التيه عذاب والأنبياء لا يعذبون ، ولأنّ سبب ذلك العذاب التمرد وهما لم يتمرّدا . وقال آخرون : إنهما كانا مع القوم إلاّ أنّ الله تعالى سهل عليهم ذلك العذاب كما أن النار كانت على إبراهيم برداً وسلاماً .
ثم من هؤلاء من قال : إنّ هارون عليه السلام مات في التيه ومات موسى عليه السلام بعده فيه بسنة ، ودخل يوشع عليه السلام أريحاء بعد موته بثلاثة أشهر وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته ، ومات النقباء في التيه بغتة بعقوبات غليظة إلاّ كالب ويوشع . ومنهم من قال : بل بقي موسى عليه السلام بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله تعالى أعلم . واختلفوا أيضاً في التيه وهي المفازة التي تاهوا فيها فقال الربيع : مقدار ستة فراسخ . وقيل : تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخاً . وقيل : ستة في اثني عشر . وقيل : كانوا ستمائة ألف فارس . ثم الأكثرون على أنّ قوله : { فإنها محرمة } تحريم منع كانوا يسيرون كل يوم على الاستدارة جادّين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه ، وكان مع ذلك نعمة الله عليهم من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك متظاهرة كالوالد الشفيق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولكن لا يقطع عنه معروفه وإحسانه . ويشكل هذا القول بأنه كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في ذلك القدر الصغير من المفازة سنين متطاولة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يهتدي طريقاً للتيه ولو بأمارات حركات النجوم؟ والجواب أنّ هذا من الخوارق التي يجب التصديق بها كسائر المعجزات التي يستبعد وقوعها . وقال بعضهم : إنّ هذا التحريم تعبّد وإنه تعالى أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة عقاباً لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا فلا إشكال .
التأويل : أشار موسى الروح إلى القوى البدنية ادخلوا أرض القلب المقدسة التي كتبها الله تعالى للإنسان المستعد في الفطرة ، فهابوا تحمل أعباء المجاهدات ولزوم المخالفات والرياضات فقال لهم رجلان - النفسان اللوّامة والمطمئنة - إنكم غالبون إذا دخلتم باب الجدّ والطلب تستبدل الراحة بالتعب ، فلم يعتدّوا بقولهما فحرّم الله تعالى ذلك عليهم أربعين سنة هي مدة استيفاء حظوظ النفس الأمارة وانكسار سورة قواها في الأغلب كقوله : { حتى إذا بلغ اشدّه وبلغ أربعين سنة } [ الأحقاف : 15 ] وفي الآية نكتة هي أنّ موسى عليه السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه ابتلاه الله في الحال بالدعاء على أمته لأنّ المرء إنما يملك نفسه إذا ملكها عند الغضب فشتان بينه وبين من قال حين شج رأسه وكسرت رباعيته « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » اللهم صلّ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كل بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
القراآت : { لأقتلنك } بالنون الخفيفة . روى المعدّل عن زيد { يدي إليك } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع . { من أجل } بكسر النون : يزيد وقرأ ورش بفتح النون موصولة { رسلنا } بسكون السين حيث كان : أبو عمرو .
الوقوف : { بالحق } م على أن « إذ » معمول اذكر محذوفاً ولو وصل لأوهم أنه معمول { اتل } وهو محال { من الآخر } ط { لأقتلنك } ط { المتقين } ه { لأقتلك } ج لاحتمال إضمار اللام أو الفاء . { العالمين } ه { النار } ج لاختلاف الجملتين { الظالمين } ه ج لأجل الفاء { الخاسرين } ه { سوأة أخيه } ط { أخي } ج لطول ما اعترض من المعطوف والمعطوف عليه { النادمين } ه ج { من أجل ذلك } ج كذلك لأنّ قوله : { من أجل } يصلح أن يتعلق ب { أصبح } وب { كتبنا } . { جميعاً } في الموضعين ط . { بالبينات } ز لأنّ « ثم » لترتيب الأخبار { لمسرفون } ه { من الأرض } ط { عظيم } ه { لا عليهم } ج لتناهي الاستثناء مع الجواب أي لا تعذب التائبين { فإنّ الله غفور رحيم } ه { تفلحون } ه { منهم } ج لتناهي الشرط مع اتحاد المقصود من الكلام { أليم } ه لاتحاد المقصود مع اختلاف الجملتين { مقيم } ه { من الله } ط { حكيم } ه { يتوب عليه } ط { رحيم } ه { لمن يشاء } ط { قدير } ه .
التفسير : في النظم وجوه منها : أنه راجع إلى قوله : { إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم } [ المائدة : 11 ] فكأنه تعالى ذكر لأجل تسلية نبيّه صلى الله عليه وسلم قصصاً كثيرة كقصة النقباء وما انجرّ إليه الكلام من إصرار أهل الكتاب وتعنتهم بعد ظهور الدلائل القاطعة ، ثم ختمها بقصة ابني آدم وأنّ أحدهما قتل الآخر حسداً وبغياً ليعلم أنّ الفضل كان محسوداً بكل أوان . ومنها أنه عائد إلى قوله : { يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب } [ المائدة : 15 ] فإنّ هذه القصة وكيفية إيجاب القصاص بسببها كانت من أسرار التوراة . ومنها أنه من تمام قوله : { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينفع قابيل . والمراد اتل على الناس أو على أهل الكتاب خبر ابني آدم من صلبه - هابيل وقابيل - تلاوة ملتبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى ، أو ملتبسة بالصدق - لما في التوارة والإنجيل أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد والتحذير من سوء عاقبة الحاسد . أو اتل عليهم وانت محق صادق لا مبطل هازل كالأقاصيص التي لا غناء فيها { إذ قربا } قال في الكشاف : نصب بالنبا أي قصتهم في ذكل الوقت أبو بدل من النبا أي نبأ ذلك الوقت على حذف المضاف والمقصود إذ قرب كل واحد منهما قرباناً إلاّ أنه جمعهما في الفعل اتكالاً على قرينة الحكاية ، أو لأنّ القربان في الأصل مصدر ، ثم سمي به ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة .
يروى أنّ آدم عليه السلام كان يولد له في كل سنة بطن غلام وجارية ، فكان يزوّج البنت من بطن بالغلام من بطن آخر فولد قابيل وتوأمته إقليما وبعدهما هابيل وتوأمته لبودا . وكانت توأمه قابيل أحسن وأجمل فأراد آدم أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل وقال : أنا أحق بها وليس هذا من الله وإنما هو رأيك . فقال آدم لهما : قرّبا قرباناً فمن أيكما قبل قربانه زوّجتها منه . فقبل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطاً وقتل أخاه حسداً . هذا ما عليه أكثر المفسرين وأصحاب الأخبار وقال الحسن والضحاك : إنهما ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل لقوله عزّ من قائل : { من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل } ومن البين أنّ صدور الذنب من أحد ابني آدم لا يصلح أن يكون سبباً لإيجاب القصاص على بني إسرائيل ، وزيف بأنّ الآية تدل على أنّ القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لم يخف عليه . قال مجاهد : أكل النار علامة الرد . وجمهور المفسرين على أنّ ذلك علامة القبول . وقيل : ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب إلى الله فكانت النار تنزل من السماء فتأكله . وإنما صار أحد القربانين مقبولاً والآخر مردوداً لأنّ حصول التقوى شرط في قبول الأعمال ولهذا قال تعالى حكاية عن المحق في جواب المبطل : { إنما يتقبل الله من المتقين } وذلك لأنه لما كان الحسد هو الذي حمله على توعده بالقتل فكأنه قال له : ما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على طاعة الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ قيل في هذه القصة : إنّ أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه وكان صاحب غنم ، والآخر جعله أرادأ ما كان معه وكان صاحب زرع . وقيل : إنه أضمر حين قرب أنه لا يزوّج أخته من هابيل سواء قبل أو لم يقبل . وقيل : لم يكن قابيل من أهل التقوى وفي الكلام حذف فكأن هابيل قال في جواب المتوعد : لم تقتلني؟ قال : لأنّ قربانك صار مقبولاً . فقال هابيل : وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين . ثم حكى الله سبحانه عن المظلوم أنه قال : { لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك } فذكر الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل مقروناً بالباء المزيدة لتأكيد النفي دلالة على أنه لا يفعل ام يكتسب به هذا الوصف الشنيع ألبتة . قال مجاهد : كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفاً من الله لانّ الدفع لم يكن مباحاً في ذلك الوقت وهذا وجه قوله : { إني أخاف الله رب العالمين } وقيل : المعنى لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع .
قال أهل العلم : الدافع عن نفسه يجب عليه أني دفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع ، ثم إن لم يندفع إلاّ بالقتل جاز له ذلك . ثم قال : { إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك } فسئل أنه كيف يعقل أن يرجع القاتل مع إثم المقتول { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [ الأنعام : 164 ] ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة : أي تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي . وقال الزجاج : ترجع إلى الله بإثم قتلي وأثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك . وقال في الكشاف : إنه يحتمل مثل الإثم المقدر كأنه قال إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي . سؤال آخر : كيف جاز أن يريد معصية أخيه وكونه من أهل النار؟ والجواب أن هذا الكلام إنما دار بينهما عندما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل فكأنه لما وعظه ونصحه قال له : إن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد أن تترصد لقتلي في وقت غفلة وحينئذٍ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلاّ إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية ، وإذا دار الأمر بين أن أكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن تكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي ، ومن البين أن إرادة صدور الذنب عن الغير في هذه الحالة لا يكون حراماً بل هو عين الطاعة . أو المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي ، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يرد من الله تعالى عقاب الظالم . وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم ، فعلى هذا يجوز أن يقال : إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني ، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جواباً عن السؤال الأوّل أيضاً . { فطوّعت له نفسه قتل أخيه } وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل : حفظت لزيد ماله . ومنهم من قال : شجعته فقتله . والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفاً له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع . وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافاً إلى قضاء الله فتنبه . يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيراً وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه .
ثم إنه وجد هابيل يوماً نائماً فضرب رأسه بصخرة فمات . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تقتل نفس ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها » ولذلك أنه أوّل من سن القتل { فأصبح من الخاسرين } دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذموماً إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالداً . قيل : لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له : إنما أكلت النار قربان هابيل أنه كان يخدم النار ويعبدها . فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار . وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة ، وكان قتله عند عقبة حراء . وقيل : بالبصرة في موضع المسجد الأعظم . وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال : ما كنت عليه وكيلاً . فقال : بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك . ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا :
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح
قال في الكشاف : إنه كذب بحت وقد صح أن الأنيباء معصومون عن الشعر وصدّقه في التفسير الكبير وقال : إنّ ذلك من غاية الركاكة بحيث لا يليق بالآحاد فضلاً من الأفراد وخصوصاً من علمه حجة على الملائكة . وأقول : أما أن جميع الأنبياء معصومون عن الشعر فلعل دعوى العموم لا تمكن فيه وكأنه من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا أثنى الله تعالى عليه بقوله : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له } [ يس : 69 ] وأما أنه من الركاكة بالحيثية المذكورة فمكابرة مع أن مقام البث والشكوى لا يحتمل الشعر المصنوع والله أعلم بحقيقة الحال . قال المفسرون : إنه لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغيّر فبعث الله غراباً . روى الأكثرون أنه بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم من الغراب . وقال : الأصم : لما قتله وتركه بعث الله غراباً يحثى على المقتول فلما رأى القاتل أنّ الله تعالى كيف يكرمه بعد موته ندم . وقال أبو مسلم : عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئاً فتعلم ذلك منه { ليريه } أي الله أو الغراب أي ليعلمه وذلك أنه كان سبب تعليمه { كيف يواري } محله نصب على الحال من ضمير { يواري } والجملة منصوبة بيرى مفعولاً ثانياً أي ليريه كيفية مواراة سوأة أخيه أي عورته وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده . وقيل : أي جيفة أخيه . والسوأة السوء الخلة القبيحة { يا ويلتي } كلمة عذاب . يقال : ويل له وويله ومعناه الدعاء بالإهلاك وقد يقال في معرض الترحم .
وإنما طلب إقبال الويل ههنا على سبيل التعجب والندبة أي احضر حتى يتعجب منك ومن فظاعتك أو احضر فهذا أوان حضورك . والألف بدل من ياء المتكلم { أعجزت } استفهام بطريق الإنكار { أن أكون } أي عن أن أكون { مثل هذا الغراب } أي فيء الفعلة المذكورة ولهذا قال : { فأواري } بالنصب على جواب الاستفهام { من النادمين } الندم وضع للزوم ومنه النديم لملازمته المجلس . وإنما لم يكن ندمه توبة لأنه لما تعلم الدفن من الغراب صار من النادمين على أنّ حمله على ظهره سنة ، أو ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله بل سخط عليه أبواه وإخوته ، أو ندم لأنه تركه بالعراء استخفافاً وتهاوناً وكان دون الغراب في الشفقة على مقتولة حتى صار الغراب دليلاً وقد قيل :
إذا كان الغراب دليل قوم ... { من أجل ذلك } القتل قيل : هو من أجل شراً يأجله أجلاً إذا جناه { كتبنا على بني إسرائيل } إن كان القاتل والمقتول من بني إسرائيل فالمناسبة بين الواقعة وبين وجوب القصاص عليهم ظاهرة ، وإن كانا ابني آدم من صلبه فالوجه أن يكون ذلك إشارة إلى ما في القصة من أنواع المفاسد كخسران الدارين وكالندم على الأمور المذكورة ، أي من أجل ما ذكرنا في أثناء القصة من المفاسد الناشئة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص في حق القاتل ، ثم وجوب القصاص وإن كان عاماً في جميع الأديان والملل إلاّ أنّ التشديد المذكور في الآية - وهو أن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس - غير ثابت إلاّ على بني إسرائيل . والغرض بيان قساوة قلوبهم فإنهم مع علمهم بهذا الحكم أقدموا على قتل الأنبياء والرسل فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي عزموا فيها على قتله . ثم القائلون بالقياس استدلوا بالآية على أنّ أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل لأنه صرّح بأن الكتبة معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله : { من أجل ذلك } والمعتزلة أيضاً قالوا : إنها دلّت على أنّ الأحكام معللة بمصالح العباد . ويعمل منه امتناع كونه تعالى خالقاً للكفر والقبائح لأنّ ذلك ينافي مصلحة العبد . والأشاعرة شنعوا عليهم بلزوم الاستكمال . والتحقيق أنّ استتباع الفعل الغاية الصحيحة لا ينافي الكمال الذاتي وقد سبق مراراً . { بغير نفس } أي بغير قتل نفس وهو أن يقع لا على وجه الاقتصاص . { أو فساد } قال الزجاج : إنه معطوف على { نفس } بمعنى أو بغير فساد { في الأرض } كالكفر بعد الإيمان وكقطع الطريق وغيره من المهدّدات { فكأنما قتل الناس جميعاً } وههنا نكتة وهي أنّ التشبيه لا يستدعي التسوية بين المشبة والمشبه به من كل الوجوه ، فلا يكون قتل النفس الواحدة قتل جميع الناس فإنّ الجزء لا يعقل أنه مساوٍ للكل . فالغرض استعظام أمر القتل العمد العدوان واشتراك القتلين في استحقاق الإثم كما قال مجاهد : قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله والعذاب العظيم ولو قتل الناس جميعاً لم يزد على ذلك .
والتحقيق فيه أنه إذا أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة ، وإذا ثبت الترجيح بالنسبة إلى واحد ثبت بالنسبة إلى كل واحد بل بالإضافة إلى الكل لأنّ كل إنسان يدلي من الكرامة والحرمة بما يدلي به الآخر . وفيه أن جد الناس واجتهادهم في دفع قاتل شخص واحد يجب أن يكون مثل جدّهم في دفعة لو علموا أنه يقصد قتلهم بأسرهم { ومن أحياها } استنقذها من مهلكة كحرق أو غرق أو جوع مفرط ونحو ذلك ، والكلام في تشبيه إحياء البعض بإحياء الكل كما تقرر في القتل { ثم إنّ كثيراً منهم } أي من بني إسرائيل { بعد ذلك } بعد مجيء الرسل { لمسرفون } في القتل لا يبالون بهتك حرمة . ومعنى « ثم » تراخي الرتبة .
ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال : { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معاً من لفظ واحد لأنّ محاربة الله عبارة عن المخالفة فقط لا يمكن حملها على حقيقة المحاربة . ويحتمل أن يقال : إنا نحمل هذه المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف . والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله ، أو المراد إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله كما جاء في الخبر « من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » { ويسعون في الأرض فساداً } نصب على الحال أي مفسدين ، أو على العلة أي للفساد ، أو على المصدر الخاص نحو : رجع القهقرى . لأنّ افساد نوع من السعي . عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا فكانت الآية ناسخة لتلك السنة . وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقاَ للسنة الناسخة . وقيل : نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي - وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد - فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم . وقيل : إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل . وقيل : في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء . قالوا : ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض ، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي ، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها ، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه ، ولأن اللفظ عام .
وشرطوا في هذا المحارب بعد كونه مسلماً مكلفاً أن يكون معتمد القوة في المغالبة مع البعد عن الغوث فيخرج الكفار والمراهقون والمعتمد على الهرب ، وكذا المعترض للقادر على الاستعانة بمن يغيثه . واتفقوا على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كان قاطع الطريق ، فأما في نفس البلد فكذلك عند الشافعي لعموم النص . وخالف أبو حنيفة ومحمد لأنه يلحقه الغوث في الغالب فحكمه حكم السارق . وللعلماء في لفظ « أو » في الآية خلاف . فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى . وعنه في رواية عطاء أنّ الأحكام تختلف بحسب الجنايات ، فمن اقتصر على القتل قتل ، ومن قتل وأخذ المال قدر نصاب السرقة قتل وصلب ، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف ، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض ، وإليه ذهب الشافعي والأكثرون . والذي يدل على ضعف القول الأول أنه ليس للإمام الاقتصار على النفي بالإجماع ولأن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وهذا لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي . فتقدير الآية أن يقتلوا إن قتلوا ، أ يصلبوا إن جمعوا بين القتل والأخذ ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على الأخذ . والتشديد في هذه الأفعال للتكثير . { أو ينفوا من الأرض } إن أخافوا السبيل والقياس الجلي أيضاً يؤيد هذا التفسير لأنّ القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق بالتحتم وعدم جواز العفو . وأخذ المال يتعلق به قطع اليد فغلظ في حقه بقطع الطرفين { من خلاف } أي يده اليمنى ورجله اليسرى ، فإن عاد فالباقيتان . قيل : وإنما قطع هكذا لئلاّ يفوت جنس المنفعة . قلت : هذا أيضاً من باب التغليظ لأنّ اليد اليمنى أعون في العمل والرجل اليسرى أعون في الركوب . وإن جمعوا بين القتل والأخذ يجمع بين القتل والصلب ، لأنّ بقاءه مصلوباً في ممر الطريق أشهر وأزجر . وإن اقتصروا على مجرد الإخافة اقتصر الشرع على عقوبة خفيفة هي النفي . قال أبو حنيفة : إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين أن يقتل فقط أو يقطع ثم يقتل ويصلب . وعندالشافعي لا بد من الصلب لأجل النص . وكيفية الصلب أن يقتل ويصلّى عليه ثم يصلب مكفناً ثلاثة أيام . وقيل : يترك حتى يتهرى ويسيل صديده أي صليبه وهو الودك . وعند أبي حنيفة يصلب حياً ثم يمزق بطنه برمح حتى يموت أو يترك بلا طعام وشراب حتى يموت جوعاً ، ثم إن أنزل غسل وكفن وصلّي عليه ودفن ، وإن ترك حتى يتهرى فلا غسل ولا صلاة .
أما النفي فإنّ الشافعي حمله على معنيين : أحدهما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن ظفر بهم أقام عليهم الحد ، وإن لم يظفر بهم طلبهم أبداً . فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي . والثاني الذين يحضرون الواقعة ويعينونهم بتكثير السواد وإخافة المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال ، فالإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم ، فيكون المراد بنفيهم هو هذا الحبس . وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق : النفي هو الحبس لأنّ الطرد عن جميع الأرض غير ممكن ، وإلى بلدة أخرى استضرار بالغير ، وإلى دار الكفر تعريض للمسلم بالردة ، فلم يبق إلاّ أن يكون المراد الحبس لأنّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا فكأنه خارج منها ولهذا قال صالح بن عبد القدوس حين حبسوه على تهمة الزندقة وطال لبثه :
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
{ ذلك لهم خزي } ذل وفضيحة { في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم } استدل المعتزل بها على القطع بوعيد الفساق وعلى الإحباط . وقالت الأشاعرة : بل بشرط عدم العفو { إلاّ الذين تابوا } قال الشافعي : إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه ما يختص بقطع الطريق من العقوبات لأنه متهم حينئذٍ بدفع العذاب عنه وفي سائر الحدود بعد القدرة عليه . قيل : يكفي في التوبة إظهارها كما يكفي إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف . والأصح أنه لا بدّ مع التوبة من إصلاح العمل لقوله تعالى في الزنا { فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما } [ النساء : 16 ] وفي السرقة { فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح } ولعل الفائدة في هذا الشرط أنه إن ظهر ما يخالف التوبة أقيم عليه الحد ، وإنما يسقط بتوبة قاطع الطريق قبل القدرة عليه تحتم القتل . فالولي يقتص أو يعفو بناء على أن عقوبة قاطع الطريق لا تتمحض حداً بل يتعلق بها القصاص وهو الأظهر ، أما إذا محضناه حداً فلا شيء عليه ، وإن كان قد أخذ المال وقتل سقط الصلب وتحتم القتل . وفي القصاص وضمان المال ما ذكرنا وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع الرجل . وفي قطع اليد وجهان : الأظهر السقوط أيضاً بناء على أنه جزء من الحد الواجب فإذا لم يقم الكل لم يقم شيء من أجزائه بالاتفاق . والثاني أنه ليس من خواص قطع الطريق لأنه يجب بالسرقة ففي سقوطه الخلاف في سائر الحدود .
ثم إنه سبحانه لما بيّن كمال جسارة اليهود على المعاصي وغاية بعدهم عن الوسائل إلى الله وآل الكلام إلى ما آل عاد إلى إرشاد المؤمنين ليكونوا بالضدّ منهم فقال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة } وأيضاً فإنهم قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن أبناء الأنبياء وكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقيل للمؤمنين : لتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بأسلافكم فقوله : { اتقوا الله } إشارة إلى ترك المنهيات وقوله : { وابتغوا إليه الوسيلة } عبارة عن فعل المأمورات وإن كان ترك المناهي أيضاً من جملة الوسائل إلاّ أن هذا التقرير مناسب ، والفعل والترك أيضاً يعتبران في الأخلاق الفاضلة والذميمة وفي الأفكار الصائبة والخاطئة ، وأهل التحقيق يسمون الترك والفعل بالتخلية والتحلية أو بالمحو والحضور أو بالنفي والإثبات أو بالفناء والبقاء ، والأول مقدّم على الثاني ، فما لم يفن عما سوى الله لم يرزق البقاء بالله .
والوسيلة « فعيلة » وهي كل ما يتوسل به إلى المقصود ولهذا قد تسمى السرقة توسلاً والواسل الراغب إلى الله قال لبيد :
ألا كل ذي لب إلى الله واسل ... والتوسيل والتوسل واحد يقال : وسل إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه بعمل قالت التعليمية : إنه تعالى أمر بابتغاء الوسيلة إليه فلا بد من معلم يعلمنا معرفته . وأجيب بأن الأمر بالابتغاء مؤخر عن الإيمان لقوله : { يا أيها الذين آمنوا } فعلمنا أن المراد بالوسائل هي العبادات والطاعات . ثم إن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي لما كان شاقاً على النفس ثقيلاً على الطبع لأن العقل يدعو إلى خدمة الله والنفس تدعو إلى اللذات الحسيات والجمع بينهما كالجمع بين الضرتين والضدّين أردف التكليف المذكور بقوله : { وجاهدوا في سبيله } والمراد بهذا القيد أن تكون العبادة لأجلة لا لغرض سواه وهذه مرتبة السابقين . ثم قال : { لعلكم تفلحون } والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه والفوز بالمحبوب وهذه دون الأولى لأن غرضه الرغبة في الجنة أو الرهبة من النار وكلتا المرتبتين مرضية . ثم أشار إلى مرتبة الناقصين بقوله { إن الذين كفروا } وخبر « إن » مجموع الجملة الشرطية وهي قوله : { لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به } أي بالمذكور أو الواو بمعنى « مع » والعامل في المفعول معه وهو المثل ما في « إن » من معنى الفعل أي لو ثبت { من عذاب يوم القيامة ما تقبل منهم } والغرض التمثيل وأن العذاب لازم لهم وقد مر مثله في سورة آل عمران . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول : نعم . فيقال له : قد سئلت أيسر من ذلك » { يريدون أن يخرجوا } أي يتمنون الخروج من النار أو يقصدون ذلك . قيل : إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج . وقيل : يكادون يخرجون منها لقوتها ورفعها إياهم . عمم المعتزلة هذا الوعيد في الكفار وفي الفساق ، وخصصه الأشاعرة بالكفار لدلالة الآية المتقدمة .
ثم إنه تعالى عاد إلى تتميم حكم أخذ المال من غير استحقاق وهو المأخوذ على سبيل الخفية لا المحاربة فقال : { والسارق والسارقة } وهما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه والأخفش والتقدير فيما فرض أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمها . وعند الفراء - وهو اختيار الزجاج - أن الألف واللام فيهما بمعنى الذي والتي وخبرهما : { فاقطعوا } ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط كأنه قيل : الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما . وقراءة عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة لأن الإنشاء لا يحسن أن يقع خبراً إلاّ بتأويل وأما إذا نصبت فإنه يكون من باب الإضمار على شريطة التفسير والفاء يكون مؤذناً بتلازم ما قبلها وما بعدها مثل : { وربك فكبر } [ المدثر : 3 ] وضعف قول سيبويه بأنه طعن ي قراءة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيح للقراءة الشاذة وفيه ما فيه على أن الإضمار الذي ذهب إليه هو خلاف الأصل . والذي مال إليه الفراء أدل على العموم وأوفق لقوله سبحانه : { جزاء بما كسبا } فإنه تصريح بأن المراد من الكلام الأول هو الشرط والجزاء . أما البحث المعنوي في الآية فإن كثيراً من الأصوليين زعموا أنها مجملة لأنه لم يبين نصاب السرقة وذكر الأيدي وبالإجماع لا يجب قطع اليدين ، ولأن اليد تقع على الأصابع بدليل أن من حلف لا يلمس فلاناً بيده فلمسه بأصابعه فإنه يحنث ، وتقع على الأصابع مع الكف وعلى الأصابع والكف والساعدين إلى المرفقين وعلى كل ذلك إلى المنكبين . وأيضاً الخطاب في : { فاقطعوا } إما لإمام الزمان كما هو مذهب الأكثرين أو لمجموع الأمة أو لطائفة مخصوصة فثبت بهذه الوجوه أن الآية مجملة . وقال المحققون : مقتضى الآية ولا سيما في تقدير الفراء عموم القطع بعموم السرقة إلاّ أن السنة خصصته بالنصاب . أو نقول : إن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة بر إنه سارق . والمراد بالأيدي اليدان مثل : { فقد صغت قلوبكما } [ التحريم : 4 ] وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معاً ولا الابتداء باليسرى . واليد اسم موضوع لهذا العضو إلى المنكب ولهذا قيد في قوله : { وأيديكم إلى المرافق } [ المائدة : 6 ] وقد ذهب الخوارج إلى وجوب قطع اليدين إلى المنكبين لظاهر الآية إلاّ أن السنة خصصته بالكوع . والحاصل أن الآية عامة لكنها خصصت بدلائل منفصلة فتبقى حجة في الباقي ، وهذا أولى من جعلها مجملة غير مفيدة أصلاً . ثم إن جمهور الصحابة والفقهاء ذهبوا إلى أن القطع لا يجب إلاّ عند شروط كالنصاب والحرز ، وخالف ابن عباس وابن الزبير والحسن وداود الأصفهاني والخوارج تمسكاً بعموم الآية ، ولأن مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة ، فالذي يستقله الملك يستكثره الفقير . وقد قال الشافعي : لو قال لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بالحبة يقبل لاحتمال أن يريد أنه عظيم في الحل أو عظيم عنده لشدة فقره .
ولما طعنت الملحدة في الشريعة بأن اليد كيف ينبغي أن تقطع في قليل مع أن قيمتها خمسمائة دينار من الذهب ، أجيب عنه بأن ذلك عقوبة من الشارع له على دناءته . وإذا كان هذا الجواب مقبولاً من الكل فليكن مقبولاً منا في إيجاب القطع على القليل والكثير . وأيضاً اختلاف المجتهدين في قدر النصاب كما يجيء يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن . ودعوى الإجماع على أن القطع مخصوص بمقدار معين غير مسموعة لخلاف بعض الصحابة والتابعين كما قلنا . واعلم أن الكلام في السرقة يتعلق بأطراف المسروق ونفس السرقة والسارق . وأما المسروق فمن شروطه عند الأكثرين أن يكون نصاباً . ثم قال الشافعي : إنه ربع دينار من الذهب الخالص وما سواه يقوم به وهو مذهب الإمامية لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا قطع إلاّ في ربع دينار » وقال أبو حنيفة : النصاب عشرة دراهم لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا قطع إلا في ثمن المجن » والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم ، وقال مالك : ربع دينار أو ثلاثة دراهم . وعن أحمد روايتان كالشافعي وكمالك . وقال ابن أبي ليلى : خمسة دراهم . وعن الحسن : درهم . وفي مواعظه : « احذر من قطع يدك في درهم » . ومنها أن يكون المسروق ملك غير السارق لدى الإخراج من الحرز . فلو سرق مال نفسه من يد غيره كيد المرتهن والمستأجر أو اطرأ ملكه في المسروق قل إخراجه من الحرز بأن ورثه السارق أو اتهبه وهو فيه سقط القطع . ومنها أن يكون محترماً لا كخمر وخنزير . ومنها أن يكون الملك تاماً قوياً . والمراد بالتمام أن لا يكون السارق فيه شركة أو حق كمال بيت المال ، وبالقوّة أن لا يكون ضعيفاً كالمستولدة والوقف . ومنها كون المال خارجاً عن شبهة استحقاق السارق ، فلو سرق رب الدين من مال المديون فإن أخذه لا على قصد استيفاء الحق أو على قصده والمديون غير جاحد ولا مماطل قطع ، وإن أخذه على قصد استيفاء الحق وهو جاحد أو مماطل فلا يقطع سواء أخذ من جنس حقه أو لا من جنسه . وإذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكان المال محرزاً عنه فعند أبي حنيفة لا يجب القطع . وعند الشافعي ومالك وأحمد يجب . ومنها كون المال محرزاً لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن » وحرز كل شيء على حسب حاله . فالإصطبل حرز الدواب وإن كانت نفيسة وليس حرزاً للثياب والنقود .
والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي والنقود فإن العادة فيها الإحراز في الصناديق والمخازن . وعن أبي حنيفة أن ما هو حرز لمال فهو حرز لكل مال . وأما السرقة فهي إخراج المال عن أن يكون محرزاً ولا بد من شرط الخفية فلا قطع على المختلس والمنتهب والمعتمد على القوة ، ولا على المودع إذا جحد خلافاً لأحمد . وأما السارق فيشترط فيه التكليف والتزام الأحكام والاختيار؛ فيقطع الذمي والمعاهد ولا يقطع المكره . وإنما تثبت السرقة بثلاث حجج : باليمين المردودة أو بالإقرار أو بشهادة رجلين . ويتعلق بها حكمان : الضمان والقطع . وقال أبو حنيفة : القطع والغرم لا يجتمعان . حجة الشافعي أن قوله صلى الله عليه وسلم : « على اليد ما أخذت حتى تؤدى » يوجب الضمان . وقد اجتمع في هذه السرقة أمران ، وحق الله لا يمنع حق العباد ولهذا يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك ، ولو كان المسروق باقياً وجب رده بالاتفاق . حجة أبي حنيفة قوله تعالى : { جزاء بما كسبا } والجزاء هو الكافي ، فهذا القطع كاف في جناية السرقة . ورد بلزوم رد المسروق عند كونه قائماً . أما كيفية القطع فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطع يمينه . قال الشافعي : فإن سرق ثانياً قطعت رجله اليسرى ، فإن سرق ثالثاً فيده اليسرى ، فإن سرق رابعاً فرجله اليمنى ، وبه قال مالك . وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقطع في الثانية وما بعدها لما روي عن ابن مسعود أنه قرأ فاقطعوا أيمانهما ، وضعفه الشافعي بأن القراءة الشاذة لا تعارض ظاهر القرآن المقتضي لتكرر القطع بتكرر السرقة . واتفقوا على أنه يقطع اليد من الكوع ، والرجل من المفصل بين الساق والقدم . والسيد يملك إقامة الحد على مماليكه لعموم قوله : { فاقطعوا } ولم يجوّزه أبو حنيفة . واحتج المتكلمون بالآية في أنه يجب على الأمة نصب الإمام لأن هذا التكليف لا يتم إلاّ به وما لا يتم الواجب إلاّ به وكان مقدوراً للمكلف فهو واجب . وانتصاب { جزاء } و { نكالاً } على أنه مفعول لهما ، والعامل { اقطعوا } وإن شئت فعلى المصدر من الفعل الذي دل عليه : { فاقطعوا } أي جازوهم ونكلوا بهم { جزاء بما كسبا نكالاً من الله } . { فمن تاب } من السراق { من بعد ظلمه } أي سرقته { وأصلح } أي يتوب بنية صالحة وعزيمة صحيحة خالية من الأغراض الفاسدة { فإن الله يتوب عليه } وعند بعض الأئمة تسقط العقوبة أيضاً . وعند الجمهور لا تسقط . وباقي الآيات قد مر تفسيره . وإنما قدم التعذيب على المغفرة طباقاً لتقدم السرقة على التوبة .
التأويل : إن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى ، ثم هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل ، فكان الهوى في غاية الحسن في نظر النفس فبه تميل إلى الدنيا ولذاتها .
وكان في نظر القلب أيضاً في غاية الحسن فبه يميل إلى طلب المولى ، وكان العقل في نظر النفس في غاية القبح لأنها به تنزجر عن طلب الدنيا ، وكذا في نظر القلب لأنه بالعقل يمتنع عن طلب الحق والفناء في الله ولهذا قيل : العقل عقيله الرجال ، فحرم الله تعالى الازدواج بين التوأمين لأن الهوى إذا كان قرين النفس أنزلها أسفل سافلين الطبيعة ، وإذا كان قرين القلب كان عشقاً فيوصله إلى أعلى فراديس القرب ، وإذا كان العقل قرين القلب صار عقالاً له ، وإذا كان قرين النفس حرضها على العبودية فرضي هابيل القلب وسخط قابيل النفس وكان صاحب زرع أي مدبر النفس النامية وهي القوّة النباتية ، فقرب طعاماً من إردإ زرعه وهي القوّة الطبيعية ، وكان هابيل القلب راعياً لمواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية فقرب الصفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية والشيطانية . فوضعا قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فحملت الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس شيئاً لأنها ليست من حطبها بل هي حطب نار الحيوانية { فتبوء بإثمي وإثمك } أي إثم وجودي وإثم وجودك ، فإن الوجود حجاب بيني وبين محبوبي . فقتل قابيل النفس هابيل القلب والنفس أعدى عدو القلب { فأصبح من الخاسرين } أما في الدنيا فبالحرمان عن الواردات والكشوف ، وأما في الآخرة فبالبعد عن جنات الوصول { فبعث الله غراباً } هو الحرص في الدنيا ليشغل بذلك عن فعلتها . وفي تعليم الغراب إشارة إلى أنه تعالى قادر على تعليم العباد بأي طريق شاء فيزول تعجب الملائكة والرسل باختصاصهم بتعليم الخلق { في الأرض لمسرفون } أي في أرض البشرية { إنما جزاء الذين يحاربون } أولياء الله { أون يقتلوا } بسكين الخذلان { أو يصلبوا } بحبل الهجران على جذع الحرمان { أو تقطع أيديهم } عن أذيال الوصال { وأرجلهم من خلاف } عن الاختلاف { أو ينفوا } من أرض القربة والائتلاف { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء : في الإيمان وهو إصابة رشاش النور في بدو الخلقة وبه يخلص العبد من ظلمة الكفر ، وفي التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأعمال الشرعية وبه الخلاص عن ظلمة المعاصي ، وفي ابتغاء الوسيلة وهو إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وبه يخلص من ظلمه أوصاف الوجود ، وفي الجهاد في سبيله وهو محو الأنانية في إثبات الهوية وبه يخلص من ظلمة أوصاف الوجود ويظفر بنور الشهود { وما هم بخارجين منها } لأنهم خلقوا مظاهر القهر { السارق والسارقة } كانا مقطوعي الأيدي عن قبول رشاش النور فكان تطاول أيديهما اليوم إلى أسباب الشقاوة من نتائج قصر أيديهما عن قبول تلك السعادة { جزاء بما كسبا } الآن في عالم الصورة { نكالاً من الله } تقديراً منه في الأزل .
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
القراآت : { السحت } بضمتين : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعلي . الباقون بسكون العين . { واخشوني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل { والعين } وما بعده بالرفع علي وافق أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويزيد في { والجروح } بالرفع . { والأذن } وبابه بسكون العين : نافع . { وليحكم } بالنصب : حمزة . الباقون بالجزم .
الوقوف : { قلوبهم } ج أي ومن الذين هادوا قوم سماعون ، وإن شئت عطفت { ومن الذين هادوا } على { من الذين قالوا آمنا } ووقفت على { هادوا } واستأنفت بقوله { سماعون } راجعاً إلى الفئتين ، والأول أجود لأن التحريف محكي عنهم وهو مختص باليهود { آخرين } لا لأن ما بعده صفة لهم . { لم يأتوك } ط { مواضعه } ج لاحتمال ما بعده الحال والاسئناف { فاحذروا } ط { شيئاً } ط { قلوبهم } ط { عظيم } ه { للسحت } ط لأن المشروط غير مخصوص بما يليه { أعرض عنهم } ج { شيئاً } ط { بالقسط } ط { المقسطين } ه { ذلك } ط لتناهي الاستفهام { بالمؤمنين } ه { ونور } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { شهداء } ط لاختلاف النظم مع فاء التعقيب { قليلاً } ط { الكافرون } ه { بالنفس } ط لمن قرأ { والعين } وما بعده بالرفع { بالسن } ط لمن قرأ { والجروح } بالرفع { قصاص } ط لابتداء الشرط { كفارة له } ط { الظالمون } ه { من التوراة } الأولى ص لطول الكلام { ونور } ط لأن الحال بعده معطوف على محل الجملة قبله الواقعة حالاً . { للمتقين } ط لمن قرأ { وليحكم } بالنصب { فيه } ط { الفاسقون } ه .
التفسير : خاطب محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله : { يا أيها النبي } في مواضع ولم يخاطبه بقوله : { يا أيها الرسول } إلا ههنا وفي قوله : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك } [ المائدة : 67 ] ولا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم شرف به في هذه السورة التي هي آخر السورة نزولاً حيث تحققت رسالته في الواقع . أما وجه النظم فهو أنه سبحانه لما بين بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم مسارعة بعض الناس إلى الكفر فلا جرم صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحمل ذلك ووعده أن ينصره عليهم ويكفيه شرهم . والمراد بمسارعتهم في الكفر تهافتهم فيه وحرصهم عليه حتى إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها . { آمنا بأفواههم } فيه تقديم وتأخير أي قالوا بأفواههم آمنا { سماعون للكذب } قابلون لما يفتعله أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه والطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من قولك : الملك يسمع كلام فلان أي يقبله { سماعون لقوم آخرين لم يأتوك } أي قابلون من الأحبار ومن الذين لم يصلوا إلى مجلسك من شدة البغضاء وإفراط العداوة ، ويحتمل أن يراد نفس السماع . واللام في { للكذب } لام التعليل أي يسمعون كلامك لكي يكذبوا عليك { يحرّفون الكلم } مبدلين ومغيرين سماعون لأجل قوم آخرين وجوههم عيوناً وجواسيس { من بعد مواضعه } أي التي وضعها الله فيها من أمكنة الحل والحظر والفرض والندب وغير ذلك ، أو من وجوه الترتيب والنظم فيهملوها بغير مواضع بعد أن كانت ذات موضع { إن أوتيتم هذا } المحرّف المزال عن موضعه { فخذوه } واعلموا أنه الحق واعملوا به { وإن لم تؤتوه } وأفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بخلافه { فاحذروا } فهو الباطل .
عن البراء بن عازب قال : مُرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فقال : « هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا : نعم . فدعا رجلاً من علمائهم فقال صلى الله عليه وسلم : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال : لا ، ولولا أنك نشدتني لم أخبرك . نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد فقلنا : تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه به فرجم » فأنزل الله الآية إلى قوله : { إن أوتيتم هذا } يقولون ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فحذوا به ، إن أفتاكم بالرجم فاحذروا . وفي رواية أخرى أن شريفاً من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة ، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطاً منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا : إن أمركم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا ، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم ، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل عليه السلام : اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال : هل تعرفون شاباً أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا . نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكماً . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدك الله الذي لا إله إلاّ هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون . والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه ، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال : نعم . فوثب عليه سفلة اليهود فقال : خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب . ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال : أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده . قال العلماء القائلون برجم الثيب الذمي ومنهم الشافعي : إن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المقصود ، وإن كان مما ثبت في شريعة موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخه ، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } حكمه باق في شرعنا { ومن يرد الله فتنته } ظاهر الآية أن المراد بالفتنة أنواع الكفر التي حكاها عن اليهود وغيرهم .
والمعنى ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك . ثم أكد هذا بقوله : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل لآمن . والمعتزلة فسروا الفتنة بالعذاب كقوله : { يوم هم على النار يفتنون } [ الذاريات : 13 ] أو بالفضيحة أو بالإضلال أي تسميته ضالاً ، أو المراد ومن يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها { فلن تملك له من الله } ثواباً ولا نفعاً . ثم قال : { أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم } بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قولهم ، أو يطهر قلوبهم من الحرج والغم والوحشة الحالة على كفره ، أو هو استعارة عن سقوط وقعة عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله . ثم وصف اليهود بقوله : { سماعون للكذب أكالون للسحت } وهو الحرام وكل ما لا يحل كسبه من سحته وأسحته أي استأصله لأنه مسحوت البركة ، ومال مسحوت أي مذهب . قال الليث : السحت حرام يحصل منه العار وذلك أنه يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها . ورجل مسحوت المعدة إذا كان أكولاً لا يلفى إلاّ جائعاً أبداً كأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام . والسحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستكساب في المعصية روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعمر عثمان وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد ، وزاد بعضهم ونقص بعضهم وكل ذلك يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون فيه عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة . قال الحسن : كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلاً في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت . وقيل : كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالاً ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فكانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت . وقيل : سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة ، أكالون للربا لقوله تعالى : { وأخذهم الربا } [ النساء : 161 ] { فإن جاؤك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } خيره الله تعالى بين الحكم والإعراض . فقيل : إن هذا الخبر مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم .
وقيل : إنه في أمر خاص وهو رجم المحصن قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري : وقيل : في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم كاملة وفي قريظة نصف دية ، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء . وعن النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم أن الآية عامة في كل ما جاء من الكفار ، وأن الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ . وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وهو مذهب الشافعي أن هذا التخيير منسوخ في في حق غير المعاهدين بقوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغاراً لهم . وأهل الحجاز بعضهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ويقولون : إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية ، ثم إنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلاّ لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم ، فإذا أعرض صلى الله عليه وسلم عنهم وأبى الحكومة بينهم شق عليهم وعادوا فآمنه الله بقوله : { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } بالعدل والاحتياط كما حكمت في الرجم { وكيف يحكمونك } تعجيب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم لوجوه منها : عدولهم عن حكم كتابهم ، ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلاً ، ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد . والواو في قوله : { وعندهم } للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب . أما قوله : { فيها حكم الله } فإما أن ينتصب حالاً من التوراة على ضعف وهي مبتدأ خبره { عندهم } وإما أن يرتفع خبراً عنها والتقدير وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله فيكون { عندهم } متعلق بالخبر ، وإما أن لا يكون له محل ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كقولك : عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره . وأنثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث . { ثم يتولون } عطف على { يحكمونك } و « ثم » لتراخي الرتبة أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم { وما أولئك بالمؤمنين } إخبار بأنهم لا يؤمنون أبداً ، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون ، أو المراد أنهم غير كاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم .
ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } ونور العطف يقتضي التغاير فقيل : الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد . وقال الزجاج : الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه ، والنور بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق .
وقيل : فيها هدى يهدي للحق والعدل ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام ، فهما عبارتان عن معبر واحد ، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لا بد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكراراً . وأيضاً إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لا بد أن يكون داخلاً فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج . ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون . أما قوله : { الذين أسلموا } فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف ، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديماً وحديثاً لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوارة أخذ الرشا من العوام ، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله : { للذين هادوا } أي يحكمون لأجلهم . قال في الكشاف : قوله تعالى : { الذين أسلموا للذين هادوا } مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام . قلت : هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين . ولقائل أن يقول : بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : المراد بالنبيين هو محمد صلى الله عليه وسلم كقوله : { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء : وقيل : أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة . فمن الأنبياء من لم تكن شريعتهم شريعة موسى . والربانيون قد مر تفسيره في آل عمران . والأحبار عن ابن عباس هم الفقهاء ، الواحد حبر بالفتح من قولهم : فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلاً حسن الهيئة ، أو حبر بالكسر من ذلك أيضاً لقولهم : حسن الحبر بالكسر أيضاً . وفي الحديث : « يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره » أي جماله وبهاؤه ، وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب . قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة . ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالاً من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء . وقوله : { بما استحفظوا } إما أن يكون من صلة { يحكم } أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا ، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بام سألهم أنبياؤهم حفظه . و « من » في { من كتاب الله } للتبيين . وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين : أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم ، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل ، ويحتمل أن يعود ضمير { استحفظوا } إلى النبيين وغيرهم جميعاً والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء .
ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال : { فلا تخشوا الناس واخشوني } وعن التغيير لرغبة فقال : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه . ثم عمم الحكم فقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر . وللمفسرين في جوابهم وجوه : الأول انها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولا ريب أن لفظ « من » في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص . وقال عطاء : هو كفر دون كفر . وقال طاوس : ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر . فلعلهما أراد كفران النعمة ، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين . وقال ابن الأنباري : المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلاً مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر . وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفاً . واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط ، ويمكن أن يقال : المحرّف داخل في الكل . وقال عكرمة : إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية .
ثم إنه سبحانه لما بيّن أن حكم الزاني المحصن في التوراة هو الرجم واليهود غيروه أراد ان يبين أن نص التوراة هو قتل النفس بالنفس وأنهم بدّلوه حيث فضلوا بني النضير على بني قريظة فقال : { وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين } من قرأ المعطوفات كلها بالنصب فظاهر ، ومن قرأ ما سوى الأوّل بالرفع فللعطف على محل النفس إذ المعنى وكتبنا عليهم في التوراة النفس بالنفس إما لإجراء { كتبنا } مجرى « قلنا » وإما بطريق الحكاية كقولك : كتبت الحمد لله وقرأت سورة « إن أنزلناه » وإما على سبيل الاستئناف والمعنى على جميع التقادير . فرضنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس إذا قتلتها بغير حق ، والعين مفقوأة بالعين ، والأنف مجدوع بالأنف ، والأذن مصلومة بالأذن ، والسن مقلوعة بالسن ، والجروح ذات قصاص أي مقاصة . وهذا تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل والمراد منه كل ما يمكن المساواة فيه من الأطراف كالذكر والأنثيين والإليتين والقدمين واليدين ، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلاً وهي التي توضح العظم وتبدي وضحة وهو الضوء والبياض ، وكذا منافع الأعضاء والأطراف كالسمع والبصر والبطش .
فأما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم أو كسر في عظم أو خدش وإدماء في جلد ففي ذلك أرش أو حكومة وتفاصيلها في كتب الفقه . { فمن تصدق به فهو كفارة له } الضمير في { به } يعود إلى القصاص وفي { هو } إلى التصدق الدال عليه الفعل . وفي { له } وجهان : أحدهما أنه يعود إلى العافي المتصدق لما روى عبادة بن الصامت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه » وعن عبد الله بن عمرو : « يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به » والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو ، وأما العافي فأجره على الله تعالى { وقفينا على آثارهم } أي على آثار النبيين { بعيسى ابن مريم } أي عقبناهم به ، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء . وقوله : { على آثارهم } يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه { مصدّقاً لما بين يديه } أي مقراً بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقاً واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضاً لكونه مبشراً بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة . وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف ، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد ، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته ، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك . ومن قرأ { وليحكم } بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه ، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم بما فيه كتابهم من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو مما لم يصر منسوخاً بالقرآن . ومن قرأ بالنصب فلأنه علة فعل محذوف يدل عليه ما تقدمه أي ولأجل حكمهم بما فيه آتيناهم كتابهم ، وعلى هذا يجوز أن يكون هدى وموعظة أيضاً غرضين معطوفين للحكم والله أعلم . أما قوله : { الكافرون } { الظالمون } { الفاسقون } فللمفسرين فيه خلاف . قال القفال : هو كقولك من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو المتقي ، لأن كل ذلك أوصاف مختلفة حاصلة لموصوف واحد ، فهذه كلها نزلت في الكفار . وقال آخرون : الأول من الجاحد ، والثاني والثالث في المقر التارك . وقال الأصم : الأول والثاني في اليهود ، والثالث في النصارى .
التأويل : سماعون لكذبات الشيطان في وساوسه والنفس في هواجسها { سماعون لقوم آخرين } يسنون السنة السيئة لغيرهم { يحرفون } يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة وهذه حال مؤوّلي القرآن والأحاديث على وفق أهوائهم { سماعون للكذب أكالون للسحت } لأن الأخلاق الردية أورثتهم الأعمال الدينية .
فالأخلاق نتائج الأعمال والأعمال نتائج الأخلاق وكلها من نتائج الاستعداد الفطري { فإن جاؤك فاحكم بينهم } مداوياً لدائهم إن رأيت التداوي سبباً لشفائهم أو أعرض عنهم إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } داوهم على ما يستحقون من دائهم { بما استحفظوا من كتاب الله } الفرق بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة أنهم استحفظوا التوراة فضيعوها وحرفوها ، وقال في حقنا : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] { وكتبنا عليهم } كما أن في إهلاك النفس هلاك نفس المهلك ففي إحياء نفس الطالب بحياة الدين حياة نفس محييها ، وفي معالجة عين قلبه وأنف قلبه وأذن قلبه وسن قلبه معالجة هذه الأعضاء بمزيد الإدراك . { فمن تصدق } بهذا الإحياء { فهو كفارة له } فيما فرط من إحياء نفسه ومعالجة قلبه طرفة عين . { ومن لم يحكم } على نفسه { بما أنزل الله } في تزكيتها وتحليتها فأولئك الذين ظلموا أنفسهم بوضع الحظوظ مقام الحقوق والله أعلم .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
القراآت : { تبغون } بتاء الخطاب : ابن عامر والخراز عن هبيرة . الباقون بالياء . { ويقول } بالواو وبالرفع : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب بالنصب . عياش : مخير . الباقون { يقول } بدون واو العطف . { من يرتد } بالإظهار : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون بالإدغام . { والكفار } بالجر : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي . الباقون بالنصب عطفاً على محل { الذين اتخذوا } وقرأ أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وابن رستم الطبري عن نصير طريق ابن مهران بالإمالة .
الوقوف : { بالحق } ط { ومنهاجاً } ط { الخيرات } ط { تختلفون } ه لا لعطف { وأن احكم } على ما قبله . ومن وقف فلأنه رأس آية . { أنزل الله إليك } ط { ذنوبهم } ط { الفاسقون } ه { يبغون } ط { يوقنون } ه { أولياء } ه ليلزم النهي عن اتخاذ الأولياء مطلقاً { أولياء بعض } ط { منهم } ط { الظالمين } ه { دائرة } ط لتمام المقول . { نادمين } ه لا لمن قرأ { ويقول } بالنصب عطفاً على { أن يأتي } . { جهد أيمانهم } لا لأن قوله : { إنهم } جواب القسم { لمعكم } ط { خاسرين } ه { ويحبونه } لا لأن ما بعده صفة قوم { الكافرين } ه لشبه الآية . { لائم } ط { من يشاء } ط { عليم } ه { راكعون } ه { الغالبون } ه { أولياء } ج للعطف ولطول الكلام . { مؤمنين } { ولعباً } ط { لا يعقلون } ه .
التفسير : منّ الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن إليه مصدقاً لما بين يديه من الكتاب أي جنسه وهو كل كتاب سوى القرآن نازل من السماء . وفي المهيمن قولان : قال الخليل وأبو عبيدة : هيمن على الشيء يهيمن إذا كان رقيباً على الشيء وشاهداً ومصدقاً . وقال الجوهري : أصله أأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين ، ثم الأولى هاء كما في هرقت وهياك . والمعنى إنه أمين على الكتب التي قبله لأنه لا ينسخ ألبتة ولا يحرف لقوله : { وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] ومن هنا قرىء : { ومهيمناً عليه } فتح الميم أي هو من عليه بأن حوفظ من التغيير والتبديل ، والذي هيمن عليه عز وجل كما قلنا ، أو الحفاظ في كل بلد والقراء المشهود لهم بالإجادة { فاحكم بينهم } بين اليهود بالقرآن { ولا تتبع أهواءهم } منحرفاً { عما جاءك من الحق } أو ضمن لا تتبع معنى لا تحزن . قيل : لولا جواز المعصية على الأنبياء لم يجز هذا النهي . والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي . أو الخطاب له والمراد غيره { لكل جعلنا منكم } أيها الناس أو الأمم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكر الثلاث { شرعة ومنهاجاً } قال ابن السكيت : الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وملحته . وقيل : إنه من الشروع في الشيء الدخول فيه ، والشرعة مصدر للهيئة بمعنى الشريعة « فعلة » بمعنى « مفعولة » وهي الأمور التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها والمنهاج الطريق الواضح وهما عبارتان عن معبر واحد هو الدين والتكرير للتأكيد .
ويحتمل أن يقال : الشريعة عامة والمنهاج مكارم الشريعة ، فالأولى أقدم وهذه تتلوها وهي الطريقة . وقال المبرد : الشريعة ابتداء الطريق والطريقة المنهاج المستمر { ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة } جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا خلاف فيه . وفيه دليل على أن الكل بمشيئة الله تعالى . والمعتزلة حملوه على مشيئته الإلجاء { ولكن ليبلوكم } أي جعلكم مختلفين متخالفين ليعاملكم معاملة المختبر هل تعملون بالنواميس الإلهية وتذعنون للعقائد الحقة أم تقصرون في العمل وتتبعون الشبه ولذلك قال { فاستبقوا الخيرات } سارعوا إليها وتسابقوا نحوها . ويعني بالخيرات ههنا ما هو الحق من الاعتقادات والمحقق من التكاليف . ثم علّل الاستئناف بقوله : { إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم } فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعام والمقصر . والمراد أن الأمر سيؤل إلى ما يحصل معه اليقين من مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته { وأن احكم } قيل معطوف على { الكتاب } أي وأنزلنا إليك أن احكم على أن « أن » المصدرية وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال ، أو على قوله : { بالحق } أي أنزلناه بالحق وبأن احكم . وأقول : يحتمل أن تكون « أن » مفسرة وفعل الأمر محذوف أي وأمرناك أن احكم . وتكرار الأمر بالحكم إما للتأكيد وإما لأنهما حكمان لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين ثم احتكموا في قتل كان بينهم . وزعم بعض الأئمة أن هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله : { فاحكم بينهم أو أعرض } وعن ابن عباس أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشماس بن قيس من أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه . فأتوه فقالوا : يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهم : { واحذرهم أن يفتنوك } محله نصب على أنه مفعول له أي مخافة أن يفتنوك ، أو على أنه بدل اشتمال من مفعول احذر . والمراد بالتفنة رده إلى أهوائهم فكل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن . قال بعض أهل العلم : في الآية دليل على أن الخطأ والنسيان جائزان على النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن التعمد في مثل هذا غير جائز فلم يبق إلاّ الخطأ والنسيان فلو لم يكونا جائزين أيضاً لم يكن للحذر فائدة ، { فإن تولوا } عن الحكم المنزل أي فإن لم يقبلوا حكمك { فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم } أما الإصابة فالمراد بها قتلهم وإجلاؤهم ، وأما ذكر بعض الذنوب فلأن مجازاتهم ببعض الذنوب كافية في إهلاكهم وتدميرهم ، أو أراد بالبعض ذنب التولي عن حكم الله .
وفيه أن لهم ذنوباً جمة وأن هذا الذنب عظيم جداً كقول لبيد :
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
أراد نفسه وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام فكأنه قال نفساً كبيرة لأن التنكير في معنى البعضية أيضاً . { لفاسقون } لمتمردون في الكفر . وفيه أن التولي عن حكم الله فسق مؤكد جداً .
ثم استفهم منكراً لرأيهم فقال : { أفحكم الجاهلية يبغون } وفيه تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك يطلبون حكم الملّة الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى . وقال مقاتل : إن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاصيل بين القتلى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القتلى بواء أي سواء . فقال بنو النضير : نحن لا نرضى بذلك فنزلت . وعن الحسن هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله . وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فتلا هذه الآية . واللام في قوله : { لقوم يوقنون } للبيان كلام في : { هيت لك } [ يوسف : 23 ] أي هذا لخطاب وهذا الاستفهام لهم لأنهم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكماً ولا أحسن منه بياناً . قال عطية العوفي : جاء عبادة بن الصامت فقال : يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيراً عددهم حاضراً نصرهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود ، أو إلى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه . قال : قد قبلت فأنزل الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } تعاشرونهم معاشرة المؤمنين . ثم علل النهي بقوله : { بعضهم أولياء بعض } لأن الجنسية علة الضم . ثم أكد ذلك بقوله : { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } من جملتهم وحكمه حكمهم ولذلك قال ابن عباس : يريد أنه كافر مثلهم وفيه من التغليظ والتشديد ما فيه . { إنّ الله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة فوضعوا الولاء في غير موضعه . عن أبي موسى الأشعري قال : قلت لعمر بن الخطاب : إن لي كاتباً نصرانياً فقال : ما لك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفاً؟ أما سمعت هذه الآية؟ قلت : له دينه ولي كتابته . فقال : لا أكرمهم إذ أهانهم الله ، ولا أعزهم إذا أذلهم الله ، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله . قلت : لا قوام بالبصرة إلاّ به .
قال : مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما كنت تكون صانعاً حينئذٍ فاصنعه الآن . { فترى الذين في قلوبهم مرض } يعني أمثال عبدالله بن أبي { يسارعون فيهم } في موالاة اليهود والنصارة يهود بني قينقاع ونصارة نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهامهم ويقرضونهم { يقولون } يعتذرون عن الموالاة بقولهم : { نخشى أن تصيبنا دائرة } قال الواحدي : هي الدولة ومثلها صروف الزمان ونوائبه . وقال الزجاج : نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك . ثم سلى رسوله والمؤمنين بقوله : { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده } فعسى من الله الكريم إطماع واجب . والفتح إما فتح مكة أو مطلق دولة الإسلام وغلبة ذويه . وقوله : { أو أمر من عنده } المراد به فعل لا يكون للناس فيه مدخل ألبتة كقذف الرعب في قلوب بني النضير وغيرهم من الكفار . وقيل : هو أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار المنافقين وقتلهم . { فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم } من النفاق والشك في أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يتم { نادمين ويقول الذين آمنوا } قال الواحدي : حذف الواو ههنا كإثباتها فلهذا جاء في مصاحف أهل الحجاز والشام بغير واو ، وفي مصاحف أهل العراق بالواو ، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكراً من المعطوف عليها ، فإن قوله : { أهؤلاء } إشارة إلى الذين يسارعون ، فلما حصل في كل من الجملتين ذكر من الأخرى حسن الوجهان . ووجه العطف مع النصب ظاهر ووجه ذلك مع الرفع على أنه كلام مبتدأ أي ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت . ووجه الفصل هو أن يكون جواب سائل يسأل فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ وإنما يقولون هذا القول فيما بينهم تعجباً من حالهم وفرحاً بما منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص ، أو يقولونه لليهود الذين كانوا يحلفون لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم : { وإن قوتلتم لننصرنكم } [ الحشر : 11 ] وقوله : { جهد أيمانهم } أي بإغلاظ الأيمان نصب على الحال أي يجتهدون جهد أيمانهم أو على المصدر من غير لفظه . { حبطت أعمالهم } من قول الله تعالى أو من جملة قول المؤمنين أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها رياء . وفيه معنى التعجب أي ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم حيث بقي عليهم التعب في الدنيا والعذاب في العقبى { من يرتدّ منكم عن دينه } أي من يتولّ الكفار منكم فيرتد فليعلم أن الله تعالى يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه . وقال الحسن : علم الله تعالى أن قوماً يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فأخبرهم أنه سبحانه سيأتي { بقوم يحبهم ويحبونه } فتكون الآية إخباراً عن الغيب وقد وقع فيكون معجزاً . روي في الكشاف أن أهل الردّة كانوا إحدى عشرة فرقة ، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار الأسود العنسي وكان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي ، بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول .
وبنو حنيفة قوم مسليمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : من مسليمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك . فأجاب صلى الله عليه وسلم : من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب . أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين . فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام . أراد في جاهليتي وإسلامي . وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسلو الله صلى الله عليه وسلم خالداً فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه . وسبع في عهد أبي بكر : فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري ، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل ، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة ، وبعض بني تميم قوم سجاج بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب ، وكندة قوم الأشعث بن قيس ، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وحاربهم أبو بكر وكفى الله أمرهم على يديه . وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم كان يطوف بالبيت ذات يوم بعد أن كان أسلم على يد عمر فرأى رجلاً جارّاً رداءه فلطمه فتظلم الرجل إلى عمر فقضى بالقصاص عليه . فقال : أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلاّ القصاص فاستنظره فأنظره عمر فهرب إلى الروم وتنصر . وتفسير المحبة قد مر في سورة البقرة في قوله : { يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] وإنما قدم محبته على محبتهم لأن محبتهم إياه نتيجة محبته الأزلية إياهم فتلك أصل وهذه فرع . والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن للشرط محذوف معناه فسوق يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم { أذلة } جمع ذليل لأن ذلولاً من الذل نقيض الصعوبة لا يجمع على أذلة وإنما يجمع على ذلل . وليس المراد أنهم مهانون عند المؤمنين بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب ، فإن من كان ذليلاً عند إنسان فإنه لا يظهر الكبر والترفع ألبتة .
ولتضمين الذل معنى الحنو العطف عدّي بعلى دون اللام كأنه قيل : عاطفين عليهم . أو المراد أنهم مع شرفهم واستعلاء حالهم واستيلائهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ليضموا إلى منصبهم فضيلة التواضع { أعزة على الكافرين } يظهرون الغلظة والترفع عليهم من عزه يعزه إذا غلبه ونحو هذه الآية قوله : { أشداء على الكفار رحماء بينهم } [ الفتح : 29 ] أما الواو في قوله : { ولا يخافون } فإما أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين حيث يخافون لومة أوليائهم اليهود ، وإما أن تكون للعطف كقوله :
إلى الملك القرم وابن الهمام ... أي هم الجامعون بين المجاهدة لله وبين الصلابة في الدين إذا شرعوا في أمر من أمور الدين ، لا يرعبهم اعتراض معترض . وفي وحدة اللوم وتنكير اللائم مبالغتان كأنه قيل : لا يخافون شيئاً قط من لوم أحد من اللوام { ذلك } الذي ذكر من نعوت الكمال من المحبة والذلة وغيرها { فضل الله } إحسانه وتوفيقه . قالت الأشاعرة : إنه صريح في أن الأعمال مخلوقة لله تعالى . والمعتزلة حملوه على فعل الألطاف . وضعف بأن اللطف عام في حق الكل فلا بد للتخصيص من فائدة { والله واسع عليم } تام القدرة كامل العلم يعلم أهل الفضل فيؤتيهم الفضل .
واعلم أن للمفسرين خلافاً في أن القوم المذكورين في الآية من هم . قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج : هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة . وقال السدي : نزلت في الأنصار . وقال مجاهد : هم أهل اليمن لأنها لما نزلت أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال : هم قوم هذا . وقال آخرون : هم الفرس لما روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه ثم قال : لو كان الدين معلقاً بالثريا لناله رجال من أبناء فارس . وقالت الشيعة : نزلت في علي رضي الله عنه وكرّم الله وجهه لما روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي يوم خيبر وكان قد قال : لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، ولأن ما بعد هذه الآية نازلة فيه باتفاق أكثر المفسرين قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر ، لو كانوا أنكروا نصاً جلياً على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق . ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن فرقة الشيعة مقهورون أبداً حصل الجزم بعدم النص . ولناصر مذهب الشيعة أن يقول : ما يدريك أنه تعالى لا يجيء بقوم تحاربهم ، ولعل المراد بخروج المهدي هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل وهذا إنما ذكرته بطريق المنع لا لأجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع والله أعلم .
ثم إنه سبحانه لما نهى في الآي المتقدمة عن موالاة الكفار أمر بعد ذلك بموالاة من يحق موالاته فقال : { إنما وليكم } ولم يقل أولياؤكم ليعلم أن ولاية الله أصل والباقي تبع { الله ورسوله والذين آمنوا } وفيه قولان : الأول أن المراد عامة المؤمنين لأنّ الآية نزلت على وفق ما مر من قصة عبادة من الصامت . وروي أيضاً أن عبد الله بن سلام قال : يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية . فقالوا : رضينا بالله تعالى وبرسوله وبالمؤمنين أولياء . ثم قال : { الذين يقيمون الصلاة } ومحله رفع على البدل أو على هم الذين يقيمون ، أو نصب بمعنى أخص أو أعني وفي الكل مدح والغرض تميز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان نفاقاً ومعنى { وهم راكعون } قال أبو مسلم : أي منقادون خاضعون لأوامر الله تعالى ونواهيه . وقيل : المراد ومن شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر لشرفه . وقيل : إنّ الصحابة كانوا عند نزول الآية مختلفين في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد الصلاة راكعاً فنزلت الآية على وفق أحوالهم . القول الثاني أن المراد شخص معين وجيء به على لفظ الجمع ليرغب الناس في مثل فعله . ثم إن ذلك الشخص من هو؟ روى عكرمة أنه أبو بكر وروى عطاء عن ابن عباس أنه علي عليه السلام . روي أن عبد الله بن سلام قال : لما نزلت هذه الآية قلت : يا رسول الله أنا رأيت علياً تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه . وروي عن أبي ذر أنه قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد ، فرفع السائل يده إلى السماء . وقال : اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئاً وعليّ عليه السلام كان راكعاً فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « اللهم إن أخي موسى سألك فقال : { رب اشرح لي صدري } إلى قوله : { وأشركه في أمري } [ طه : 25 ، 32 ] فأنزلت قرآناً ناطقاً { سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً } [ القصص : 35 ] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي علياً اشدد به أزري » قال أبو ذر : فوالله ما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال : يا محمد اقرأ { إنما وليكم الله } الآية . فاستدلت الشيعة بها على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام لأن الولي هو الوالي المتصرف في أمور الأمة ، وأنه علي عليه السلام برواية أبي ذر وغيره .
وأجيب بالمنع من أن الولي ههنا هو المتصرف بل المراد به الناصر والمحب لأن الولاية المنهي عنها فيما قبل هذه الآية ، وفيما بعدها هي بهذا المعنى فكذا الولاية المأمور بها . وأيضاً إن علياً لم يكن نافذ التصرف حال نزول الآية وإنها تقتضي ظاهراً أن تكون الولاية حاصلة في الحال . وأيضاً إطلاق لفظ الجمع على الواحد لأجل التعظيم مجاز والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فالمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وأن بعضهم يجب أن يكون ناصراً لبعض كقوله : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } [ التوبة : 71 ] وأيضاً الآية المتقدمة نزلت في أبي بكر كما مر من أنه هو الذي حارب المرتدين فالمناسب أن تكون هذه أيضاً فيه . ثم إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الإمامية فلو كانت الآية دالة على إمامة عليّ لاحتج بها كما احتج بما ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع مناقبه وفضائله . وهب أنها دالة على إمامته لكنه ما كان نافذ التصرف في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا أنه سيصير إماماً ونحن نقول بموجبه ولكنه بعد الشيوخ الثلاثة . ومن أين قلتم إنها تدل على إمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير فصل؟ وأيضاً إنهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله فلا حاجة بهم إلى ذكر ذلك . فالمراد بقوله : { إنما وليكم الله ورسوله } أن من كان الله ورسوله ناصرين له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة عن غيره ، وإذا كان الولي مستعملاً بمعنى النصرة مرة امتنع أن يراد به معنى المتصرف لأنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه معاً فكأنه تعالى قسم المؤمنين قسمين وجعل أحدهما أنصاراً للآخر . وأيضاً الزكاة اسم للواجب لا للمندوب ، ومن المشهور أن علياً عليه السلام ما كان يجب عليه الزكاة ، ولو سلم فاللائق بحاله أن يكون في الصلاة مستغرق القلب بالله فلا يتفرغ لاستماع كلام السائل ولا إلى دفع الخاتم إليه لأنه عمل كثير ، اللهم إلا أن يكون الخاتم سهل المأخذ أو كان قد أومأ به إلى السائل فأخذه السائل . والحق أنه إن صحت الرواية فللآية دلالة قوية على عظم شأن علي عليه السلام ، والمناقشة في أمثال ذلك تطويل بلا طائل إلا أن أصحاب المذاهب لما تكلموا فيها أوردنا حاصل كلامهم على سبيل الاختصار { ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله } من إقامة المظهر مقام المضمر تشريفاً . والمراد فغنهم هم الغالبون . حزب الرجل أصحابه المجتمعون لأمر حزبهم .
وقال الحسن : جند الله . أبو روق : أولياء الله . أبو العالية : شيعة الله . وقيل : أنصار الله . الأخفش : هم الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم . صاحب الكشاف : يحتمل أن يراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب . ثم عمم النهي عن موالاة جميع الكفار فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا } عن ابن عباس : كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت ، يعني أن اتخاذهم دينكم هزواً ولعباً ينافي اتخاذكم إياهم أولياء بل يجب أن يقابل ذلك بالشنآن والبغضاء . وإنما عطف الكفار على أهل الكتاب مع أن أهل الكتاب أيضاً كفار والعطف يقتضي المغايرة ، لأنه أراد بالكفار المشركين الوثنيين خاصة لما أن كفرهم أغلظ فكانوا أحق باسم الكفر . ومعنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم به إظهارهم ذلك باللسان دون مواطأة الجنان . { واتقوا الله } في موالاة الكفار { إن كنتم مؤمنين } حقاً لأن الإيمان الحقيقي يأبى موالاة أعداء الدين . قال الكلبي : كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود : قد قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا ركعوا لا ركعوا على طريق الاستهزاء والضحك فنزل { وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها } أي الصلاة والمناداة . وهذا بعض ما اتخذوه من هذا الدين هزواًَ ولعباً ، فلهذا أردفه بالآية المقدمة الكلية . وقال السدي : نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول : أشهد أن محمداً رسول الله . قال : حرق الكاذب . فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله . وقال آخرون : إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية . فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك ، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل قبلك ، فمن أين لك صياح كصياح العنز؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر . فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأنزل : { ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله } قال بعض العلماء : فيه دليل على ثبوت الآذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده . وأقول : لو قيل إن أصل الأذان بالمنام والتفرير بنص الكتاب كان اصوب ذلك الاتخاذ . { بأنهم قوم لا يعقلون } ما في الصلاة من المنافع لأنها التوجه إلى الخالق والاشتغال بخدمة المعبود ، أو لا يفهمون ما في اللعب والهزء من السفه والجهل . قال بعض الحكماء : أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام .
التأويل : { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق } أي بالحقيقة لأنه أنزل على قلبه وأنزل سائر الكتب في الألواح والصحف فلهذا كان خلقه القرآن .
وكان مهيمناً على جميع الكتب تصديقاً عيانياً لا بيانياً بحيث يشاهد قلب المنزل عليه بنوره حقائق جميع الكتب وأسرارها بخلاف ما أنزل في الألواح فإن الألواح لا تشهد ولا تشاهد حقائق الكتب ومعانيها { لكل جعلنا منكم } معاشر الأنبياء { شرعة } يشرع فيها بالبيان { ومنهاجاً } يسلك فيه بالعيان { ولكن ليبلوكم } أيها الأمم { فيما آتاكم } من البيات والتبيان والحجج والبرهان والعزة والسلطان ، فابتلاكم بزينة الدنيا واتباع الهوى ونيل المنى والرفعة بين الورى والنجاة في العقبى ليهتدي التائبون بالبيان ، ويستفيد العاملون بالبرهان ، ويحكم العارفون بالسلطان بل يقصد الزاهدون برفض الدنيا ويقدم العابدون بنهي الهوى ، ويسلك المشتاقون بنفي المنى ، ويجذب العارفون بترك الورى ، ويسلب الواصلون بالسلو عن الدنيا والعقبى { فاستبقوا الخيرات } من هذه المقامات { إلى الله مرجعكم جميعاً } اختياراً بقدم الصدق أو اضطراراً بحلول الأجل { فإن تولوا } عن قبول الحق { فاعلم } بمطالعة القضاء { أنما يريد الله } في حكم القدر { أن يصيبهم } مصيبة الإعراض { ببعض ذنوبهم } وهو الاعتراض ، فإن الحق سبحانه يلزم بشرط التكاليف ويقدمهم ويؤخرهم بعين التصريف . فالتكليف فيما أوجب والتصريف فيما أوجدوا العبرة بالإيجاد لا بالإيجاب { لفاسقون } لخارجون عن جذبات العناية { أفحكم الجاهلية يبغون } أيطلبون منك أن تحيد عن المحجة المثلى بعد ما طلعت شموس الدنيا وسطعت براهين اليقين وانهتكت أستار الريب واستنار القلب بأنوار الغيب { يسارعون فيهم } لأن شبيه الشيء منجذب إليه { أن يأتي بالفتح } فتح عيون القلوب { أو أمر من عنده } وهو الجذبة التي توازي عمل الثقلين { ويقول الذين آمنوا } بأنوار الغيوب في أستار القلوب { فأصبحوا خاسرين } بإبطال الاستعداد الفطري . { بقوم يحبهم ويحبونه } هم أرباب السلوك أفناهم عنهم بسطوات يحبهم ثم أبقاهم به عند هبوب نفحات يحبونه ، فإن محبة الله للعبد إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية ، ومحبة العبد بصفته ذاته أزلاً وهي الإرادة القديمة الناسوتية . والشيخ نجم الدين الرازي المعروف بداية رضي الله عنه قد عكس القضية ، فلعله فهم غير ما فهمنا . ثم قال إنه تعالى يحب العبد بصفته ذاته أزلاً وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالغاية ، والعبد يحب الله بذات تلك الصفة أبداً { أذلة على المؤمنين } لارتفاع الأنانية { أعزه على الكافرين } ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية { يجاهدون في سبيل الله } في طلب الحق في البداية ببذل الوجود { ولا يخافون لومة لائم } عند غلبات الوجد في الوسط لدوام الشهود ذلك يعني صدق الطلب في البداية وغلبات الوجد في الوسط والاختصاص بالمحبة في النهاية { والله واسع } كرمه قادر على أن يتفضل على كل أحد لكنه { عليم } بحال كل أحد فلا يتفضل إلا على من يستأهله . { يقيمون الصلاة } يديمونها مراقبين حقوقها في الباطن بمراعاة السر { ويؤتون الزكاة } ما زكى من وجودهم وهو الفناء في الله { وهم راكعون } راجعون إلى الله بانحطاط . فمن قيام البشرية إلى قيام القيومية هم الغالبون على أهوائهم وأنفسهم والدنيا والشيطان { الذين اتخذوا دينكم } يعني أهل الغفلة والسلو المستهزئين بأهل المحبة والقرب { من الذين أوتوا الكتاب } أي العلوم الظاهرة والكفار يعني الفلاسفة ومقلديهم لأنهم بمعزل عن العلوم اللدنية والكشفية { وإذا ناديتم إلى الصلاة } دعوتموهم إلى محل القرب والنجوى ولا يعقلون بالوهم والخيال لذاذة شهود ذلك الجمال .
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
القراآت : { هل تنقمون } وبابه مدغماً : حمزة وعلي وهشام { وعبد الطاعون } بضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت : حمزة . الباقون بنصب الطاغوت على أن . { عبد } فعل ماض عطفاً على صلة من كأنه قيل : ومن عبد الطاغوت . { مبصوطتان } بالصاد مثل { وزاده بصطة } [ البقرة : 247 ] وقد مر في البقرة { رسالته } أبو عمرو وابن كثير وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون { رسالاته } .
الوقوف : { من قبل } لا لعطف { وأن أكثركم } على { أن آمنا } . { فاسقون } ه { عند الله } ط لتناهي الاستفهام والتقدير هو { من لعنه الله } ط ومن جعل محله جراً على البدل من { شر } لم يقف . { الطاغوت } ط { السبيل } ط { خرجوا به } ط { يكتمون } ه { السحت } ط { يعملون } ه { السحت } ط { يصنعون } ه { مغلولة } ط وقيل : لا وقف ليتصل قوله : { غلت } وهو جزاء قولهم { يد الله مغلولة } . { بما قالوا } م لئلا يوهم أن قوله : { بل يداه مبسوطتان } مفعول { قالوا } . { مبسوطتان } ط لأن قوله : { ينفق } من مقصود الكلام فلا يستأنف . { كيف يشاء } ط { وكفراً } ط { يوم القيامة } ط { أطفأها الله } لا قال السجاوندي : لأن الواو للحال أي وهم يسعون وفيه نظر { فساداً } ط { المفسدين } ه { النعيم } ه { أرجلهم } ط { مقتصدة } ط { يعملون } ه { من ربك } ط { رسالته } ط { من الناس } ط { الكافرين } ه { من ربكم } ط { وكفراً } ج لاختلاف النظم مع فاء التعقيب . { الكافرين } ه { يحزنون } ه .
التفسير : لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزواً ولعباً قال لهم : ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين . نقمت على الجل أنقم بالكسر ، إذا عتبت عليه ، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضاً إذا كرهته وأنكرته . وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل . والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلاّ الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتباً وعيباً لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات ، وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء عليهم السلام فهو الحق الذي لا محيد هنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض . ثم عطف عليه : { وأن أكثركم فاسقون } والمراد ما تنقمون منا إلاّ الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل : ما تنكرون منا إلاّ مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم . وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل : هل تنقم مني إلاّ أني عفيف وأنك فاجر . ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلاّ الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين ، ويجوز أن تكون الواو بمعنى « مع » أي ما تنكرون منا إلاّ الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسباً للصفات الحميدة مع اتصاف الآخر بالصفات الذميمة كان ذلك أشد تأثيراً في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم .
ويحتمل أن يكون تعليلاً معطوفاً على تعليل محذوف أي ما تنقمون منا إلاّ الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل فسقكم ، ومن هنا قال الحسن في تفسيره : بفسقكم نقمتم ذلك علينا . ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف يدل عليه ما قبله أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون ، أو يرتفع بالابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم ثابت محقق عندكم إلا أن حب الجاه والمال يدعوكم إلى عدم الإنصاف . وانما خص الأكثر بالفسق مع أن اليهود كلهم فساق تعريضاً بأحبارهم ورؤسائهم الطالبين للرياسة والمال والتقرب إلى الملوك . والمراد أن أكثرهم في دينهم فساق لا عدول ، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه أو ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك . قال ابن عباس : أتى نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال : أؤمن بالله { وما أنزلنا إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل } [ البقرة : 136 ] إلى قوله { ونحن له مسلمون } [ البقرة : 136 ] فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته ، وقالوا : والله ما نعلم أهل دين أقل حظاً في الدنيا والآخرة منكم ، ولا ديناً شراً من دينكم ، فأنزل الله تعالى : { قل هل أنبئكم بشر من ذلك } يعني المتقدم وهو الإيمان ولا بدّ من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله و { مثوبة } نصب على التمييز من { شر } وهي من المصادر التي جاءت على « مفعول » كالميسور والمجلود ومثلها المشورة ، وقرىء مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة . واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل : { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وقد أخرج الكلام ههنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلاّ فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر ، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم : هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك . قال المفسرون : عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام . ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير ، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون : يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم . أما قوله : { وعبد الطاغوت } فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعاً من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلاّ قراءة حمزة ، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلاّ أنه بناء مبالغة كقولهم : رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة . قال الشاعر :
أبني لبيني إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد
أبني لبيني لستم بيدٍ ... إلاّ يداً ليست لها عضد
وقيل : هما لغتان مثل سبع وسبع . وقيل : إن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر إلا أنهم استثقلوا الضمتين فأبدلت الأولى فتحة . وقيل : أرادوا أعبد الطاغوت مثل : فلس وأفلس إلا أنه حذف الألف وضم الباء لئلا يشبه الفعل . والطاغوت ههنا قيل : هو العجل . وقيل : هو الأحبار . والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله ، وكل من أطاع أحداً في معصية فقد عبده . احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى . وقالت المعتزلة : معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله : { وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } [ الزخرف : 19 ] أو أنه خذلهم حتى عبدوها { أولئك } المعلونون الممسوخون { شر مكاناً } من المؤمنين . قال ابن عباس : إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه . وقال علماء البيان : هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان . { وأضل عن سواء السبيل } قصده ووسطه . كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقاً فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط . وقوله : { بالكفر } وبه حالان أي ملتبسين بالكفر ، وكذلك قوله : { وقد دخلوا } { وهم قد خرجوا } ولذلك دخلت « قد » تقريباً للماضي من الحال ، وليفيد التوقع أيضاً . وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعاً لإظهار الله أسرارهم . والعامل في هذه الحال قالوا : وفي الأولى : { دخلوا } و { خرجوا } أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين . وإنما ذكر عند الخروج كلمة « هم » لتأكيد إضافة الكفر إليهم . ونفى أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفراً فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر ، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم . وههنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي . { والله أعلم بما يكتمون } فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ . الإثم الكذب كقوله بعد : { عن قولهم الإثم } والعدوان الظلم وقيل : الإثم ما يختص بهم ، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم . وقيل : الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله . وفي الآية فوائد منها : ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك . ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات . ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت . وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب .
وقال الحسن : الربانيون علماء الإنجيل ، والأحبار علماء التوراة . وإنما قال ههنا : { لبئس ما كانوا يصنعون } وفي الأول { يعملون } لأن الصنع أرسخ من العمل فلا يسمى العامل صانعاً ولا العمل صناعة إلا إذا تمكن فيه وتدرب وينسب إليه فكان ذنب العلماء إذا تركوا النهي عن المنكر أشد وأعظم وأثبت وأرسخ . وتحقيقه أن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وصفاته وأحكامه ، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة كالمرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال . وعن ابن عباس : هي أشد آية في القرآن . وعن الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها { وقالت اليهود يد الله مغلولة } قيل : في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون على أنا لا نقول ذلك ، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة لأن الله اسم لموجود قديم قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه ، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة . والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم ، فلعل القوم قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قوله : { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } قالوا من احتاج إلى القرض كان فقيراً عاجزاً مغلول اليدين ، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الفقر والضر قالوا : إن إله محمد كذلك . وقال الحسن : أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياماً معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب . وقيل : لعلهم كانوا على مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالى موجب لذاته ، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره على غير ذلك النسق بغل اليد . وقال المفسرون : كان اليهود أكثر الناس مالاً وثروة ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا : يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة النعت بالبخل ، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ . وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله : { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط } [ الإسراء : 29 ] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه ، فأطلقوا اسم السبب على المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد سبط البنان رطب الأنامل ، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل ، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازاً عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع : ما أبسط يده بالنوال . وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد :
قد أصبحت بيد الشمال زمامها ... فجازاهم الله تعالى بقوله : { غلت أيديهم } وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كاوا أبخل خلق الله وأنكدهم ، دعا به عليهم تعليماً لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله : { لتدخلنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } [ الفتح : 29 ] وكما عملهم الدعاء على المنافقين في قوله : { فزادهم الله مرضاً } [ البقرة : 10 ] وعلى أبي لهب في قوله : { تبت يدا أبي لهب } [ المسد : 1 ] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة إو إخباراً . قال الحسن : يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز . وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله : { غلت أيديهم } كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره . { ولعنوا بما قالوا } قال الحسن : عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار . ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقى الناس كان قد سمع بهذه الآية ، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوباً بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين ، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال : أين هذه الآية يعني قوله : { غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا } فأروه إياها فمحاها ، فلم يمض أسبوع إلاّ وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله . ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله : { بل يداه مبسوطتان } واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة - وهو ظاهر - وعلى النعمة . يقال : لفلان عندي يد أشكرها له . وعلى القوة مثل : { أولي الأيدي والأبصار } [ ص : 45 ] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا . والمعنى سلب كمال القدرة . وعلى الملك تقول : هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى : { بيده عقدة النكاح } [ البقرة : 237 ] وقد يراد به شدة العناية قال : { لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] ويقال : يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئاً . ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافاً للمجسمة ، وأما سائر المعاني فلا بأس بها . وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله . وقد جاء في بعض اقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله : { لما خلقت بيدي } [ ص : 75 ] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة : { يد الله فوق أيديهم } [ الفتح : 10 ] وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية ، وبإثبات الأيدي أخرى : { مما عملت أيدينا أنعاماً } [ يس : 71 ] ووجه التوحيد والجمع ظاهر . وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله ، أو المراد نعمة الدين نعمة الدنيا ، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن ، أو نعمة النفع ونعمة الدفع ، أو نعمته على أهل اليمين ونعمته على أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء ، أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو : لبيك وسعديك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وإسعاداً بعد إسعاد .
ثم أكد الوصف بالقدرة والسخاء فقال : { ينفق كيف يشاء } وفيه أنه لا ينفق إلاّ على مقتضى الحكمة وقانون العدالة وعلى حسب المشيئة والإرادة ، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئاً أو اعترض على فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلى ما لا يليق به . { وليزيدن } جواب قسم محذوف { كثيراً منهم } يعني علماء اليهود { ما أنزل إليك من ربك } من القرآن والحجج { طغياناً وكفراً } مجاوزة ي الحد وغلواً في الإنكار لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرهاً { وألقينا بينهم } بين اليهود والنصارى - قاله مجاهد والحسن - أو فيما بين اليهود { العداوة والبغضاء } لا تأتلف كلمتهم ولا تتساعد أفئدتهم ، فمن اليهود جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة ، ومن النصارى ملكانية ونسطورية ، وكل ذلك الاختلاف يوجب السخط واللعن بخلاف هذه الأمة فإن اختلافهم رحمة ولتفرق أهوائهم وتشعب آرائهم { كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله } فلا يهمون بأمر من الأمور إلاّ وقد رجعوا بخفي حنين . وقيل : كلما حاربوا رسول الله غلبوا . وعن قتادة : لا تلقى اليهود بلدة إلاّ وجدتهم أذل الناس { ويسعون في الأرض فساداً } يستخفون كيداً للإسلام وذويه { والله لا يحب المفسدين } فلا ينجح لهم كيد ولا ينتج لهم سعي . وقيل : خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر ، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس ، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين إلى يوم القيامة . ثم لما بالغ في تهجين سيرتهم ذكر أنهم مع ما عدّد من مساويهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به واتقوا المنكرات التي كانوا يأتونها لتكون توبتهم نصوحاً { لكفرنا عنهم } تلك السيآت سترناها عليهم { ولأدخلناهم } مع المسلمين { جنات النعيم } من النعم خلاف البؤس أي نعيم صاحبها فام أوسع رحمة الله تعالى وما أعظم عفوه وغفرانه { ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } عملوا بما فيهما من الوفاء بعهود الله تعالى ومن الإقرار بنبوّة نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم ، أو حافظوا على أحكامهما وحدودهما ، أو أقاموهما نصب أعينهم لئلا ينسوا ما فيهما من التكاليف . { وما أنزل إليهم من ربهم } يعني القرآن أو سائر الكتب الإلهية كصحف إبراهيم وزبور داود وكتاب شعيا وحيقوق ودانيال فإن كلها مشحونة من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها .
{ لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } أي ينزل عليهم بركات السماء وبركات الأرض ، أو يكثر لهم الأشجار المثمرة والزروع المغلة ، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تناثر على وجه الأرض . ويحتمل أن يراد به المبالغة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقاً أو تحتاً أي لأكلوا أكلاً كثيراً متصلاً ، ويشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم . والحاصل أنه سبحانه وعدهم سعادة الدارين بشرط الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقدم السعادة الأخروية بقسميها وهما دفع العذاب وإيصال الثواب لشرفها . ثم فصل حالهم فقال : { منهم أمة مقتصدة } طائفة متوسطة في الغلو والتقصير ، وذلك أن من عرف مقصوده فإنه يكون قاصداً له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب بخلاف من لا مقصد له فإنه يذهب متحيراً يميناً وشمالاَ ، فجعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ومن هم فيه قولان : أحدهما الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولاً في دينهم ولا يوجد فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة ، والثاني هم المئمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى . { وكثير منهم ساء ما يعملون } فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أسوأ عملهم لكونهم أجلافاً متعصبين لا ينجع فيهم القول ولا يؤثر فيهم الدليل قيل : هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم .
ثم أمر رسوله بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة المعاندين ولا يتخوف مكروههم فقال : { يا أيها الرسول بلغ } عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجه يوم غدير خم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال : « من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه . اللهم وال من والاه وعاد من عاداه » فلقيه عمر وقال : هنيئاً لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة . وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي . وروي أنه صلى الله عليه وسلم نام في بعض أسفاره تحت شجرة وعلق سيفه عليه افأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال : يا محمد ، من يمنعك مني؟ فقال : الله . فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ونزل : { والله يعصمك من الناس } وقيل : لما نزلت آية التخيير : { يا أيها النبي قل لأزواجك } [ الأحزاب : 28 ] فلم يعرضها عليهن خوفاً من اختيارهن الدنيا نزلت { يا أيها الرسول بلغ } وقيل : نزلت في أمر زيد وزينت بنت جحش . وقيل : لما نزل { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله }
[ الأنعام : 108 ] سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيب آلهتهم فنزلت . أي بلغ معايب آلهتهم ولا تخفها . وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم لما بين الشرائع والمناسك في حجة الوداع . قال : هل بلغت؟ قالوا : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشهد » فنزلت وقيل : نزلت في قصة الرجم والقصاص المذكورتين . وقال الحسن : إن نبي الله قال : « لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعاً وعرفت أن من الناس من يكذبني واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فنزلت الآية فزال الخوف » وقالت عائشة « سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقلت : يا رسول الله ما شأنك؟ قال : ألا رجل صالح يحرسني الليلة . قالت : فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال : من هذا؟ قال سعد وحذيفة : جئنا نحرسك . فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت هذه الآية ، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم فقال : انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله » وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية . فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسونه فقال : يا عماه إن الله تعالى قد عصمني من الجن والإنس . ومعنى قوله : { ما أنزل إليك } جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك { وإن لم تفعل } ما أمرتك به كما أمرتك به { فما بلغت رسالته } من قرأ على الوحدة فلأنّ القرآن كله رسالة واحدة ، أو لأن الرسالة اسم المصدر فيقع على الواحد وعلى الجمع . ومن جمع فلأن كل آية أو حكم رسالة . فإن قيل : معنى قوله : { وإن لم تفعل فما بلغت رسالته } إن لم تبلغ رسالته فما بلغت منها أدنى شيء فأنت صحته؟ فالجواب أن هذا جار على طريق التهديد والمراد إن لم تبلغ منها أدنى شيء فأنت كمن لم يبلغ شيئاً لأن أداء بعضها ليس أولى من أداء البعض الآخر كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كما لم يؤمن بكلها . أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعاً فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت » فإن قيل : اين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد . أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله : { إنّ الله لا يهدي القوم الكافرين } أي لا يمكنهم مما يريدون .
ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب : { لستم على شيء } أي على دين يعتد به كما تقول : هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه ، وباقي الآية مكرر للتأكيد . ومعنى { فلا تأس } لا تاسف ولاتحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم ، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك . يقال : آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن . ثم لما بين أن أهل التكاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيَّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلاّ إذا آمن وعمل صالحاً ، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلاّ بمعرفة المبدأ والمعاد - أعني الإيمان بالله واليوم الآخر - وكمال القوة العملية إنما يحصل بتعظيم المعبود والشفقة على المخلوق - أعني العمل الصالح - وغاية هذا الكمال الخلاص من الخوف مما يستقبل ومن الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراً أعظم وأشرف . وقد تقدم تفسير الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أموراَ أعظم وأشرف . وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة إلاّ أنه بقي ههنا بحث لفظيّ وهو أن قوله : { والصابئون } عطف على ماذا؟ فقال الكوفيون : إنه معطوف على محل { الذين } لأن اسم « إن » إذا كان مبنياً جاز العطف على محله ، وإن كان قبل ذكر الخبر فيجوز : إنك وزيد ذاهبان . وإن لم يجز إن زيداً وعمرو قائمان . وذهب البصريون إلى عدم جواز ذلك مطلقاً لأنه يؤدي إلى إعمال « إنّ » وإعمال معنى الابتداء معاً في « قائمان » فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان وإنه محال . فإذن { الصابئون } مرفوع بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارة حكمهم كذا والصابئون كذلك ، فتكون هذه جملة معطوفة على جملة قوله : { إن الذين آمنوا } إلى آخره ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها ، وفائدة هذا التقديم التنبيه علىأن التوبة مقبولة ألبتة ، وذلك أن الصابئين بين هؤلاء المعدودين ضلال لأنهم صبؤا عن الأديان كلها أي خرجوا فكأنه قال : كل هؤلاء الفرق إذا أتوا بالإيمان والعمل الصالح قبلت توبتهم حتى الصابئون ولو قيل : والصابئين لم يكن من التقديم في شيء لأنه ثابت في مركزه الأصلي وإنما تطلب فائدة التقديم للمزال عن موضعه والراجع إلى اسم « إن » محذوف والتقدير من آمن منهم كما في البقرة والله أعلم .
التأويل : شر الفريقين من جعله الله مستعداً لقبول فيض القهر من اللعن والغضب ، وجعل صفة الفردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم .
{ أولئك شر مكاناً } من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله : { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به . الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة . { غلت أيديهم } كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا : { يد الله مغلولة } وكل إناء يرشح بما فيه . ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى الله عليه وسلم قال : « يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء » بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان ، وعلى الكافرين من العواية والخذلان . { وألقينا بينهم العداوة } فلا يوجد أحد إلاّ وبينه وبين صاحبه بغض إلى أن يتوارثوا بطناً بعد بطن . ولو أن أهل العلوم الظاهرة آمنوا بالعلوم الباطنة واتقوا الإنكار والاعتراض ، ولو أنهم عملوا بمتفقات الكتب المنزلة ومستحسناتها { لأكلوا من فوقهم } ورزقوا من الواردات الروحانية { ومن تحت أرجلهم } إلى أعلى مقاماتهم . من العلماء الظاهريين أمة مقتصدة إن لم تكن سابقة بالخيرات ، والمقتصد هو العالم المتقي والمريد الصادق دون السابق وهو الواصل الكامل العالم الرباني { بلغ ما أنزل إليك } يندرج تحته الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوّة والرسالة . فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد لم يمكنهم الوصول إلى الله فلا يحصل مقصود ما أرسل به فلم يبلغ رسالته إلاّ أن للتبليغ مراتب كما أنزل إليه . فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالهمة وتبليغ بجذبات الولاية وتبيليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة . وللخلق أيضاً مراتب في قبول الدعوة بحسب الاستعدادات المختلفة { أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها } [ الرعد : 17 ] { والله يعصمك } بأوصاف لاهوتيته عن أوصاف ناسوتيتك لتتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله . يا أرباب العلوم الظاهرة لستم على شيء من حقيقة الدين حتى تزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال الواردة في الكتب الإلهية وذلك بمقدمتين وأربع نتائج . فالمقدمتان : الجذبة الإلهية ونتيجتها الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى المولى ، ثم تربية الشيخ ونتيجتها تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الفاضلة والله حسبي ونعم الوكيل .
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
القراآت : { أن لا تكون } بالرفع : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد . الباقون بالنصب .
الوقوف : { رسلاً } ط { أنفسهم } لا لأن عامل { كلما } قوله { كذبوا } { يقتلون } ه { كثير منهم } ط { بما يعملون } ه { ابن مريم } ط { وربكم } ط { النار } ط { من أنصار } ه { ثلاثة } لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار { واحد } ط { أليم } ه { ويستغفرونه } ط والوصل أيضاً حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور { رحيم } ه { رسول } ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف { الرسل } ط لأن الواو للاستنئاف لا للعطل { صدّيقة } ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في { كانا } مثنى { الطعام } ط { يؤفكون } ه { ولا نفعاً } ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر { العليم } ه { السبيل } ه { ابن مريم } ط { يعتدون } ه { فعلوه } ط { يفعلون } ه { كفروا } ط { خالدون } ه { فاسقون } ه { أشركوا } ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين { نصارى } ط { لا يستكبرون } ه { من الحق } ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف { الشاهدين } 5 { من الحق } لا لأن الواو بعده للحال . { الصالحين } ه { خالدين فيها } ط { المحسنين } ه { الجحيم } ه .
التفسير : افتتح الله تعالى السورة بقوله { أوفوا بالعقود } وانجر الكلام إلى ما انجرّ والآن عاد إلى ما بدأ به والمقصود بيان عتوّ بني إسرائيل وشدة تمردهم أي أخذنا ميثاقهم بخلق الدلائل وخلق العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال { وأرسلنا إليهم رسلاً } لتعريف الشرائع والأحكام . قال في الكشاف { كلما جاءهم رسول } الخ جملة شرطية وقعت صفة ل { رسلاً } والراجع إلى الموصوف محذوف أي رسول منهم . وأقول : الأصوب جعلها جملة مستأنفة جواباً لسائل يسأل كيف فعلوا برسلهم؟ ولهذا كان الوقف على { رسلاً } مطلقاً ، أما جواب الشرط فاختار في الكشاف أنه محذوف لأن الرسول الواحد لا بكون فريقين ولأنه لا يحسن أن يقال : إن أكرمت أخي أخاك أكرمت فالتقدير : كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه أو عادوه وقوله { فريقاً كذبوا } جواب قائل : كيف فعلوا؟ وأقول أما أن التركيب المذكور غير مستحسن فعين النزاع ، وأما أن الرسول الواحد لا يكون فريقين فتغليط لأن قوله { كلما } يدل على كثرة مجيء الرسل فلهذا صح جعلهم فريقين ومعنى { بما لا تهوى أنفسهم } بما يضاد شهواتهم لرغبتهم عن التكاليف ، وفائدة تقديم المفعول وإيراد { يقتلون } مضارعاً ذكرناها في سورة البقرة وزعم في التفسير الكبير أنه ذكر التكذيب بلفظ الماضي لأنه إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام في ألبتة وتمردهم عن قبول قوله وقد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة ، وذكر القتل بلفظ المستقبل لأنه رمز إلى فعلوا بزكريا ويحيى وعيسى على زعمهم وإن ذلك الزمان قريب فكان كالحاضر .
{ وحسبوا أن لا تكون فتنة } قال علماء الأدب : الأفعال على ثلاثة أضرب : فعل يدل على ثبات الشيء كالعلم والتيقن فيقع بعده أن المشددة الدالة على ثبات الشيء أيضاً لتأكيد مقتضاه كقوله : { ويعلمون أن الله هو الحق المبين } [ النور : 25 ] فإن خففت ودخلت على الفعل لم يجز إلا أن يكون مع فعله « قد » أو « سوف » أو « السين » أو حرف نفي ليكون كالعوض من إحدى النونين وقيل : من حذف ضمير الشأن مثل { علم أن سيكون } [ المزمل : 20 ] وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو « أطمع » و « أخاف » و « أرجو » فلا يجيء معه إلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله { والذي أطمع أن يغفر لي } [ الشعراء : 82 ] وفعل يحتمل المعنيين فيجوز فيه كلا الوجهين كقوله { وحسبوا أن لا تكون } قرىء بالنصب على أن المصدرية ، وكون الحسبان بمعنى الظن وبالرفع على أن المخففة أي أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن ، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم ، وما يشتمل عليه صلة « أن » و « أنّ » من المسند والمسند إليه سد مسد المفعولين و « كان » تامة . والمعنى : وحسب بنو إسرائيل أنه لا تقع فتنة وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة . وعذاب الدنيا أقسام منها : القحط ومنها الوباء ومنها القتل ومنها العداوة والبغضاء فيما بينهم ومنها الإدبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وقد فسرت الفتنة بكل ذلك ، وحسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين : الأول أنهم كانوا يعتقدون أن لا نسخ لشريعة موسى ، وأن كل رسول جاء بعده يجب تكذيبه ، والثاني أنهم اعتقدوا كونهم مخطئين في التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وأن نبوّة إسلافهم تدفع العقاب عنهم . ثم إن الآية تدل على أن عماهم عن الدين وصممهم عن الحق حصل مرتين ، فقال بعض المفسرين : إنهم عملوا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفقهم للإيمان به { ثم عمموا وصموا كثير منهم } في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا نبوّته إلا بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه . وقوله { كثير منهم } بدل عن الضمير كقولك : رأيت القوم أكثرهم ، وقيل : إنه على لغة من يقول « أكلوني البراغيث » وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم ، وقال بعضهم : { عموا وصموا } حين عبدوا العجل ثم تابوا منه فتاب الله عليهم { ثم عموا وصموا كثير منهم } بالتعنت وهو طلب رؤية الله جهرة . وقال القفال : إنه يجوز أن يكون إشارة إلى ما في سورة بني إسرائيل
{ وإذا جاء وعد أولاهما } [ الإسراء : 5 ] { فإذا جاء وعد الآخرة } [ الإسراء : 7 ] وقراء { فعمموا وصموا } بالضم أي رماهم الله وضربهم بالعمى والصمم كما يقال : ركبته إذا ضربته بالركبة . ثم إنه سبحانه لما استقصى الكلام مع اليهود شرع في حكاية كلام النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم { قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وهذا قول اليعقوبية القائلين إن مريم ولدت إلهاً ، ولعل مرادهم أنه تعالى حل في ذات عيسى أو اتحد به . ثم حكى عن المسيح ما حكى ليكون حجة قاطعة على فساد ما اعقتدوا فيه وذلك أنه لم يفرق بين نفسه وبين غيره في المربوبية وفي ظهور دلائل الحدوث عليه ، ثم أكد ذلك المعنى بقوله : { إنه من يشرك بالله } أي في العبادة أو في تجويز الحلول أو الاتحاد أو في إجراء وصفه في المخلوقين أو بالعكس { فقد حرم الله عليه الجنة } التي هي دار الموحدين أي منعه منها { وما للظالمين من أنصار } من كلام الله تعالى أو من حكاية قول عيسى عليه السلام لهم وقد مر تفسيره في آخر سورة آل عمران وفيه تقريع لهم لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم أنصاراً كثيرة فيما ييقولون ويعتقدون فنفى الله تعالى أو عيسى ذلك وإن كانوا يريدون بذلك تعظيمه . قال المفسرون { ثالث ثلاثة } معناه ثالث آلهة ثلاثة ليلزم الكفر وإلا فما من شيئين وإلا والله ثالثهما . يحكى أن النصارى يقولون أب وابن وروح قدس والثلاثة إله واحد كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة . وعنوا بالأب الذات ، وبالابن الكلمة ، وبالروح الحياة ، قالوا : إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر ، وزعموا أن الأب إله واحد ، والابن إله واحد ، والروح إله واحد ، والكل إله واحد . واعلم أن هذا معلوم البطلان بالبديهة لأن الثلاثة لا تكون واحداً والواحد لا يكون ثلاثة فلا جرم رد الله مقالتهم بقوله : { وما من إله إلا إله واحد } فزاد من الاستغراقية . والمعنى ما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك . ثم زجرهم بقوله { وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا } قال الزجاج : يعني الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيراً منهم تابوا عن النصرانية ف « من » في قوله { منهم } للتبعيض ، ويجوز أن تكون للبيان والمراد ليمسنهم ، ولكن أقيم الظاهر مقام المضمر تكريراً للشهادة عليهم بالكفر ورمزاً إلى أنهم من الكفر بمكان حتى لو فسر الكفار المعذبون عنوا بذلك خاصة . ومعنى { عذاب أليم } نوع شديد الألم من العذاب { أفلا يتوبون } قال الفراء : إنه أمر بلفظ الاستفهام وفيه تعجيب من إصرارهم على الكفر بعد الوعيد الشديد .
ثم احتج على إبطال معتقدهم بقوله { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } وهذا ترتيب في غاية الحسن لأنه منعهم من الكفر أوّلاً ، ثم حثهم على الإسلام ثانياً ، ثم شرع في حل شبههم ثالثاً ، ومن هنا قيل : إن المرتد يستتاب بلا مهل ومناظرة إن عنت له شبهة بل يسلم أوّلاً ثم تحل شبهته ثانياً ، والمعنى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الماضين لا يتخطى الرسالة إلى الإلهية كما لم يتخطوا ، فإن خلق من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى ، وإن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى فقد جعل موسى العصا حية تسعى إلى غير ذلك من آيات ربه الكبرى { وأمه صديقة } كبعض النساء المؤمنات بالأنبياء الصادقات في أقوالهن وأفعالهن وأحوالهن قال تعالى في وصفها :
{ وصدّقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين } [ التحريم : 12 ] أي من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المجتهدون في إقامة مراسم العبودية . ففيه تكذيب للنصارى المفرطين فيها إذ جعلوها إلهاً ، وفيه تكذيب لليهود المفرّطين في شأنها حيث نسبوها إلى الهنات ، وإلى الكذب في أن عيسى خلق من غير أب . وفيه أن من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن فكان مخلوقاً لا إلهاً . ثم أكد حدوثهما وعجزهما بقوله { كانا يأكلان الطعام } فإن المحتاج إلى الاغتذاء سيحتاج إلى ما يتبعه من الهضم والنفض ، وكل هذه الافتقارات دليل ظاهر وبرهان باهر على حدوثهما وأفولهما في حيز الإمكان . ثم عجب من غاية غوايتهم { انظر } يا محمد أو كل من له أهلية النظر { كيف نبين لهم الآيات } الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم . والعامل في { كيف } قوله { نبين } ومفعول { انظر } مجموع الجملة بل مضمونها أي تبصر هذه الحالة وتفكر فيها ومثله { ثم انظر أنى يؤفكون } كيف يصرفون عن الحق . أفكه بالفتح يأفكه بالكسر أفكاً بالفتح والسكون صرفه عن الشيء . ومنه الإفك بالكسر للكذب لأنه مصروف عن الحق ، وأرض مأفوكة صرف عنها المطر . ومعنى « ثم » التراخي والبون بين العجبين أي بينا لهم الآيات بياناً عجيباً ولكن إعراضهم عنها أعجب ، ثم الصارف عن تأمل الحق هو الله أو العبد فيه خلاف مشهور بين الأشاعرة والمعتزلة ، وأنت قد عرفت التحقيق في ذلك مراراً . ثم أقام حجة أخرى على فساد قول النصارى فقال { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك } أي شيئاً لا يستطيع أو الذي لا يقدر على مثل ما يضركم به الله من البليات والمصائب أو ينفعكم به من الصحة والخصب بواسطة أو بغير واسطة بل لم يملك شيئاً من ذلك لنفسه ، فإن اليهود كانوا يقصدونه بالسوء ولم يقدر على دفعهم . ومن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء صبوا الخل في منخريه وكان عليه السلام مصروف الهمة إلى عبادة الله ولو كان إلهاً كان معبوداً فقط لا عابداً له { والله هو السميع العليم } يسمع أباطيلهم ويعلم ضمائرهم ليجازيهم عليه وفيه من الوعيد ما فيه .
ثم عاد إلى مخاطبة الفريقين فقال { يا أهل الكتاب لا تغلوا } والغلو مجاوزة حد الاعتدال وأنه شامل لطرفي الإفراط والتفريط وإن كان قد يخص بطرف الإفراط ويجعل مقابلاً للتقصير . ولعل المراد ههنا هو الأول فاليهود فرطوا فيه حيث نسبوه إلى الزنا والكذب ، والنصارى أفرطوا فيه حيث ادعوا فيه الإلهية . قال في الكشاف : قوله { غير الحق } صفة للمصدر أي غلوا غير الحق ، ولزمه القول بأن الغلو في الدين غلو ، إن حق وهو أن يبالغ في تقرير الحق وتوضيحه واستكشاف حقائقة ، وباطل وهو أن يتبع الشبهات على حسب الشهوت ، والثاني منهي عنه دون الأوّل ، وأقول : لما كان الغلو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز حدّه شابه ضدّه فكيف يتصوّر غلو حق ولّله در القائل :
كلا طرفي قصد الأمور ذميم ... فالأصوب أن يقال : انتصب { غير الحق } على أنه صفة قائمة مقام المصدر أي لا تغلوا غلواً كقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } [ البقرة : 60 ] أي إفساداً وكقولهم : تعال جائياً وقم قائماً . ولو سلم أن المصدر محذوف كان { غير الحق } صفة مؤكدة مثل { نفخة واحدة } [ الحاقة : 13 ] و « أمس الدابر » لا صفة مميزة فافهم { ولا تتبعوا أهواء قوم } هي المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة . قال الشعبي : ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه { ولا تتبع الهوى فيضلك } [ ص : 26 ] { وما ينطق عن الهوى } [ النجم : 3 ] { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } [ الجاثية : 23 ] قال أبو عبيد : لم نجد للهوى موضعاً إلا في الشر . لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال إنما يقال يريد الخير ويحبه . وقيل : سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار . وقال رجل لابن عباس : الحمد لّله الذي جعل هواي على هواك . فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة { قد ضلوا من قبل } يعني أئمتهم في النصرانية واليهودية قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم { وأضلوا كثيراً } ممن شايعهم على التثليث أو التفريط في شأن مريم وابنها { وضلوا عن سواء السبيل } عند مبعث النيب صلى الله عليه وسلم فكذبوه . والغرض بيان استمرارهم على الضلال قديماً وحديثاً . وقيل : الضلال الأوّل عن الدين ، والضلال الثاني عن الجنة . وقيل : الضلال الثاني اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق { لعنهم الله } في الزبور على لسان داود وفي الإنجيل على لسان عيسى ، وفيه تعيير لهم حيث ادعوا أنهم أولاد الأنبياء وقد لعنوا على ألسنتهم ، وقال كثير من المفسرين : إن أصحاب أيلة كما سيجيء في الأعراف لما اعتدوا في السبت قال داود : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة . وإن أصحاب المائدة لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى : اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي .
وعن الأصم أن داود وعيسى بشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكذبه ، وذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم . ثم فسّر المعصية والاعتداء بقوله { كانوا لا يتناهون } وللتناهي معنيان : أحدهما وعليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً . عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من رضى عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم » وذلك أن في التناهي المأمور به حسماً للفساد فكان الإخلال به معصية وظلماً . والثاني أنه بمعنى الانتهاء أي لا يمتنعون ولا ينتهون . والمراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه لأن النهي بعد الفعل لا يفيد ، أو المراد لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته ، أو لا ينتهون أو لا ينهون عن الإصرار على منكر فعلوه . ثم عجب من سوء فعلهم مؤكداً بالقسم المقدر فقال { لبئس ما كانوا يفعلون } ثم لما وصف أسلافهم بما وصف شرع في نعت الحاضرين بأن كثيراً منهم يتولون المشركين والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مر في تفسير سورة النساء عند قوله { أهؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً } [ النساء : 51 ] { لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم } من العمل لمعادهم . ومحل { أن سخط } رفع على أنه مخصوص بالذم أي بئس الزاد إلى الآخرة سخط الله يعني موجب سخط الله وسببه ، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدّعون واتخذوا المشركين أولياء لأن تحريم ذلك متأكد في شريعة موسى { ولكن كثيراً منهم فاسقون } في دينهم لأن مرادهم تحصيل الرياسة والجاه بأي طريق قدروا عليه لا تقرير دين موسى . ويحتمل أن يراد ولو كان هؤلاء اليهود المنافقون مؤمنين بالله وبمحمد والقرآن إيماناً خالصاً ما اتخذوا المشركين أولياء ولكن كثيراً منهم فاسقون متمردون في كفرهم ونفاقهم فلهذا يتولون المشركين . وقال القفال : ولو أن هؤلاء المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم اليهود أولياء .
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكة النصارى فقال { لتجدن } يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب { أشد الناس عداوة } وقد تعلقت بها اللام في قوله { للذين آمنوا } كما تعلقت بالمودة فيما بعد . وظاهر الآية يدل على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا وعن النبي صلى الله عليه وسلم « ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله » لكنه روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول لله صلى الله عليه وسلم وآمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين . وقال آخرون : مذهب اليهود أنه يجب عليهم ايصال الشر الى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان ، بالقتل أو بغصب الماء أو بوجوه المكايد والحيل ، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الايذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة ، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب . وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم . ثم ذكر سبب ذالك التفاوت فقال { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه . قال قطرب : هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين . وقال عروة بن الزبير : ضيعت النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيساً ، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس . والرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس . وقيل : إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظام يأباه . وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى ، وإنما صارت الرهبانية ممدوحة في مقابلة قساوة اليهود وغلظتهم وإلا فهي مذمومة في نفسها لقوله تعالى { ورهبانية ابتدعوها } [ الحديد : 27 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم « لا رهبانية في الإسلام » وههنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث إنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعاً أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيراً ابن الله . ثم إن النصارى لما يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلوا على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال { ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } [ البقرة : 96 ] { غلت أيديهم } [ المائدة : 64 ] فتبين صحة قوله صلى الله عليه وسلم « حب الدنيا رأس كل خطيئة » قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه الى النجاشي وقال : أنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً .
فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم : هل تعرفون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا : نعم . فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق . وقال آخرون : قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلاً بعثهم النجاشي وفداً الى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ثياب الصوف؛ اثنان وستون من الحبشة وثمانية من من أهل الشأم وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا فنزلت والخطاب في { ترى } لكل راء . وقد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء ، ويحتمل أن يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الأعين تفيض بأنفسها . ومعنى { مما عرفوا من الحق } أي مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق ف « من » الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق ، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة؟ { ربنا آمنا } المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه { فاكتبنا مع الشاهدين } مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد مر مثله في آل عمران . { وما لنا } إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين . قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم . ومحل { لا نؤمن } نصب على الحال نحو : مالك قائماً . والعامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير المؤمنين . وهو العامل أيضاً في { ونطمع } لكن مقيداً بالحال الأولى لأنك لو حذفتها وقلت : وما لنا ونطمع لا حلت ، ويحتمل أن يكون { ونطمع } حالاً من { لا نؤمن } كأنهم أنكروا أن لا يوحدوا الله وهم يطمعون في الثواب وأن يكون عطفاً على { لا نؤمن } أي ما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع ، أو ما لنا لا نجمع بين الإيمان وبين الطمع { فأثابهم الله بما قالوا } ظاهرة يدل على إنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول ، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم فلا جرم لما انضاف إليه القول كل الإيمان . ويحتمل أن يكون مأخوذاً من قولك : هذا قول فلان أي اعتقاده ومذهبه . وروى عطاء عن ابن عباس أن المراد بما سألوا من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين .
قال أهل السنة : فيه دليل على أن المعرفة مع الإقرار توجب حصول الثواب ، وصاحب الكبيرة له المعرفة والإقرار فلا بد أن يؤل حاله إلى هذا الثواب . والمعتزلة سلموا أن الإقرار مع المعرفة يوجب الثواب ولكن بشرط عدم الإحباط .
التأويل : لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه السلام { وأرسلنا إليهم رسلاً } بالأجساد في عالم الشهادة ، ومن الواردات الروحانية في عالم الغيب { فريقاً كذبوا } يعني الإلهامات والواردات { وفريقاً } يقتلون في عالم الحس { لقد كفر الذين قالوا } النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في أودية الشبهات ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلكوا الطريق بأقدام جذبات الأولوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال ، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول : نعم الدليل أنت . ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال فتحقق لهم أن عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلاً للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله ، كما أن المرايا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس { إنه من يشرك بالله } ظاهراً { فقد حرم الله عليه الجنة } ومن يشرك به باطناً حرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم . هذا سر الخلافة فإن الأنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق { لا يتناهون عن منكر } سمى العصيان منكراً لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفاً لأنها توجب المعرفة { ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً } . يعني أن تعارف الأرواح يُوجب ائتلاف الأشباح ، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الازل يوم الميثاق ، فآمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
القراآت : { بما عقدتم } بالتخفيف : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل ، وقرأ ابن ذكوان { عاقدتم } بالألف . الباقون { عقدتم } بالتشديد { من أوصط } مثل { مبصوطتان } [ المائدة : 64 ] { فجزاء } بالتنوين { مثل } بالرفع : يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم عن المفضل . { كفارة طعام } بالإضافة : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون { كفارة } بالتنوين { طعام } بالرفع { فبما } بغير ألف ابن عامر .
الوقوف : { ولا تعتدوا } ط { المعتدين } ه { طيباً } ص لعطف المتفقتين { مؤمنون } ه { الأيمان } ج لاختلاف النظم مع اتحاد الكلام وفاء التعقيب . { رقبة } ط { ثلاثة أيام } ط { حلفتم } ط للإضمار أي حلفتم وحنثتم { أيمانكم } ط { تشكرون } ه { تفلحون } ه { وعن الصلاة } ج لابتداء الاستفهام لأجل التحذير مع دخول الفاء فيه . { منتهون } ه { واحذروا } ط { المبين } ه { وأحسنوا } ط { المحسنين } ه { بالغيب } ج { أليم } ه { وأنتم حرم } ط { وبال أمره } ط { سلف } ط { منه } ط { انتقام } ه { وللسيارة } ج لطول الكلام وتضاد المعنيين وإن اتفقت الجملتان لفظاً . { حرما } ط لإطلاق الأمر بالابتداء { تحشرون } ه { والقلائد } ط { عليم } ه { رحيم } ه { البلاغ } ط { تكتمون } ه { كثرة الخبيث } ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض { تفلحون } ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد استقصاء المناظرة مع أهل الكتابين عاد الى بيان الأحكام فبدأ بحل المطاعم والمشارب واستيفاء اللذات كيلا يتوهم متوهم أن مدح القسيسين والرهبان يوجب إيثار طريقتهم في هذا الدين . قال المفسرون : « جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف ، فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا و كذا؟ قالوا : يا رسول الله وما أردنا إلا الخير . فقال : إني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم ، من رغب عن سنتي فليس مني . ثم جمع الناس وخطبهم فقال : ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع ، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان ، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله هذه الآية ، فقالوا : يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها - وكانو حلفوا على ما اتفقوا عليه »
- فنزلت هذه الآية { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } فهذا وجه اتصال الآيات . فإن قيل : ما الحكمة في قوله { لا تحرّموا } ومن المعلوم أن توسع الأنسان في اللذات والطيبات يمنعه عن الاستغراق في تحصيل السعادات الباقيات ، ولهذا قالت الحكماء : إذا شبعت الأجسام صارت الأرواح أجساداً ، وإذا جاعت الأجسام صارت الأجساد أرواحاً؟ فالجواب أن الرهبانية المفرطة مما توقع الآفة في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والكبد والدماغ والأنثيان فيختل الفكر ويقل التأمل في الجواهر الروحانية ومباديها ، على أن النفوس القوية لا يمنعها التصرف في الجسمانيات عن التأمل في الروحانيات . فالرهبانية دليل الضعف والقصور والكمال في الوفاء بالجهتين ، وكيف والرهبانية توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وترك الترهب مع رعاية وظائف الطاعة يفضي الى سعادة الدارين ، قال القفال : إنه تعالى قال في أوّل السورة { أوفوا بالعقود } [ المائدة : 1 ] فبين أنه كما لا يجوز تحليل المحرم لا يجوز تحريم المحلل ، وذلك أنهم كانوا يحللون الميتة والدم ويحرمون البحائر والسوائب . ومعنى { لا تحرموا } لا تعتقدوا تحريم { ما أحل الله } ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتناباً يشبه اجتناب المحرمات . فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل ، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى ، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله { يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } [ التحريم : 1 ] أو لا تخلطوا المملوك بالمغصوب أو الطاهر بالنجس خلطاً لا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل . والطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب . ثم نهى عن الاعتداء مطلقاً ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله { كلوا واشربوا ولا تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] و { كلوا } أمر إباحة وتحليل { مما رزقكم الله } في إدخال « من » التبعيضية إرشاد الى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي الى المحتاجين ، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم . قال في التفسير الكبير : قوله { حلالاً طيباً } إن كان متعلقاً بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالاً لأنه يدل على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالاً ، وإن كان متعلقاً بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالاً كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالاً . أقول : هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف : { حلالاً } حال { مما رزقكم الله } مع أنه من المعتزلة . ثم أكد التوصية بقوله { واتقوا الله } وزاده تأكيداً بقوله { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه .
ثم قال { لا يؤاخذكم } وقد ذكرنا وجه النظم آنفاً ، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة . أما قوله { بما عقدتم الأيمان } فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال ، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة . وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى ، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه ، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة . ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك : عاقبت اللص وعافاه الله . والمعنى على القراآت : ولكن يؤاخذكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم . فحذف الظرف للعلم به ، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف { فكفارته } أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير . وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها ، ولا يجوز الإخلال بجميعها ، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة ، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لا بعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة فإن عجز عنها جميعاً فالواجب شيء آخر وهو الصوم . أما مقدار الطعام فقد قال الشافعي : نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ ، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال { من أوسط ما تطعمون } فإن كان المراد ما كان متوسطاً في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقاً وخبز فإنه يصير قريباً من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد ، وإن كان المراد ما كان متوسطاً في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكيناً من غير ذكر مقدار . فقال الرجل : ما أجد . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أطعم هذا . وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ . ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبراً بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد . وقال أبو حنيفة : الواجب نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيرها قال : لأن الأسط هو الأعدل . وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي . وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مداً آخر ويزيد في الأغلب . أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا ، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة .
ثم قال الشافعي : الواجب تمليك الطعام قياساً على الكسوة . وقال أبو حنيفة : إذا غدّى وعشى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام ، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال { من أوسط ما تطعمون أهليكم } والقائل أن يقول : ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام . وقال أبو حنيفة : لو أطعم مسكيناً واحد عشر مرات جاز . وقال الشافعي : لا يجزي إلا إطعام عشرة لأن مدار الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه فيجب الوقوف على مورد النص .
قال في الكشاف { أو كسوتهم } عطف على محل { من أوسط } ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل : فكفارته من أوسط . وأقول : الأظهر أن يكون { من أوسط } مفعولاً آخر للإطعام سواء كان « من » للابتداء أو للتبعيض ، ويكون { كسوتهم } معطوفاً على الإطعام . والكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به . قال الشافعي : يجزىء في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة وهو الثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزىء يومئذٍ . وعن مجاهد : ثوب جامع . وقال الحسن : ثوبان أبيضان . و المراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه الى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة . ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز . ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه . وقال الشافعي : لا يجزىء إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكراً أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياساً على كفارة القتل ، ولم يجوز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب . وفي تقديم الإطعام على العتق من أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف . ويكمن أن يقال : الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لا يكون هناك من يعطيه فيقع في الضر ، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته ، فالعتق يحتمل التأخير والإطعام قد لا يحتمل ذلك . { فمن لم يجد } أحد الأمور الثلاثة المذكورة { فصيام } فعليه صيام { ثلاثة أيام } قال الشافعي : إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام ، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لا يجوز الصوم . تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوماً وليلة لأن ذلك ضروري ، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعاً فبقي الآية معمولاً بها في غيره . وعند أبي حنيفة : يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة .
ثم صيام الأيام الثلاثة المشروط عند أبي حنيفة بالتتاع تمسكاً بقراءة أبيّ وابن مسعود { فصيام ثلاثة أيام متتابعات } فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما . وقال الشافعي في أصح قوليه : إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلاً متوتراً وقد « روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً قال له : عليّ أيام من رمضان أفأقضيها متفرقات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟ قال : بلى . قال : فالله أحق أن يعفو ويصفح » وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى ، وأيضاً العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
مسألة : من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة الى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة { ذلك } المذكور { كفارة أيمانكم إذا حلفتم } وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف ، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين ، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقاً لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير » ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب . هذا إذا كان يكفر بغير الصوم ، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان ، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية ، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضاً لوجود أحد السببين . والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه . جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي ، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقاً . { واحفظوا أيمانكم } قللوها ولا تكثروا منها ، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث ، وعلى هذا تكون الأيمان المختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف مالو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث . وقيل : احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاوناً بها { كذلك } مثل ذلك البيان الشافي { يبين الله لكم آياته } أحكامه وأعلام شريعته { لعلكم تشكرون } نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج .
ثم إنه سبحانه استثنى من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر - وقد تقدم معناهما وما يتعلق بهما في سورة البقرة ، وسلك في سلك التحريم الأنصاب و والأزلام وقد ذكرناهما في أول هذه السورة .
واعلم أنه كانت تحدث قبل تحريم الخمر أشياء يكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال : كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفاً من الخمس ، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم واعدت رجلاً صوّاغاً من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر ، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي . فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعاً من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار ، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت : من فعل هذا؟ قالوا : فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها :
ألا يا حمز للشرف النواء ... وهن معقلات بالفناء
ضع السكين في اللبات منها ... فضرجهن حمزة بالدماء
وأطعم من شرائحها كباباً ... ملهوجة على وهج الصلاء
فأنت أبا عمارة المرجى ... لكشف الضر عنا والبلاء
فوثب الى السيف أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما . قال علي رضي الله عنه : فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتيت له فقال : ما لك؟ فقلت يا رسول الله ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هوذا في بيت معه شرب . قال : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره ، - أنا وزيد بن حارثة - حتى جاء البيت الذي فيه . فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب ، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه ، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال : وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى ، فخرج وخرجنا فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر . قالت العلماء : هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها : تصدير الجملة ب « إنما » الدالة على الحصر معناه ليست الخمر إلا الرجس وعمل الشيطان . ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ومنه قوله صلى اللّه عليه وسلم
« شارب الخمر كعابد الوثن » ومنها أنه جعلها رجساً كما قال في موضع آخر { فاجتنبوا الرجس من الأوثان } [ الحج : 30 ] وأصل الرجس العمل القبيح القذر . قال الفراء : { ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون } [ يونس : 100 ] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجساً . ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان ، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت . ومنها أنه أمر بالاجتناب وظاهر الامر للوجوب . ومنها انه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منه خيبة . والضمير في { فاجتنبوه } عائد الى الرجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك . ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر الله وعن الصلاة خصوصاً وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكد الألفة والمودّة . ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي الى التنازع واللجاج ، وكذا القمار يفضي الى إفناء المال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذان من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الإنسان . وأيضاً الخمر سبب تهييج اللذه الجسمية ، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية ، وكلتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحاصلة من الاستغراق في طاعة المعبود . وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانياً لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولاً بذكر الأنصاب والأزلام تنبيهاً على أنها جميعاً من أعمال الجاهلية وأهل الشرك ، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين . ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله { فهل أنتم منتهون } كأنه قيل : قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا؟ ولهذا قالوا قد انتهينا يا رب . إذ فهموا التحريم المؤكد . ومنها إنه قال عقيب ذلك { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا } والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من الأمر بالاجتناب والحذر عن المخالفة في ذلك الباب . ومنها تهديد من خالف هذا التكليف بقوله { فإن توليتم } الآية . والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف الى الله المقتدر . عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيخ البسر والتمر ، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت . قال : فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة : اخرج فأرقها . فقالوا : قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الطعم خلاف الشرب في الأغلب وقد يقع على المشروب كقوله تعالى
{ ومن لم يطعمه فإنه مني } [ البقرة : 249 ] فيجوز أن يكون المراد فيما شربوا من الخمر ، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعاً إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعاً ، فقد تقول العرب : أطعم أي ذق . ونظير هذه الآية قوله في نسخ القبلة { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والعامل في { إذا ما اتقوا } معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمّات لأنهم شربوها حين كانت محللة . والمراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان . وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل : لم يكن أو ما كان جناح مثل { وما كان الله ليضيع } [ البقرة : 143 ] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق . والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تأباه ، وأيضاً إن سبب نزول الآية يكذبه . روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر : يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار ، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها؟ فنزلت . وعلى هذا فالحال قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص . ثم أنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين ، وفي الثالثة التقوى والإحسان . فقال الأكثرون : الأول فعل الاتقاء ، والثاني دوامه والثبات عليه ، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم . وقيل الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية ، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية ، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية ، وهذا قول الأصم . وقيل : اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر . وقال القفال : الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة ، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية ، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق . ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل المثال التوكيد القسمي { ليبلونكم الله } أي ليعاملنكم معاملة المختبر { بشيءٍ } التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال ، فامتحن الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر . قال مقاتل بن حيان : ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط ، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء . قال الواحدي : الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار الوحش ، والذي تناله الرماح الكبار . و « من » في { من الصيد } للبيان أو للتبعيض وهو صيد البر أو صيد الإحرام والمراد به العين لا الحدث بدليل عود الضمير في { تناله } إليه { ليعلم الله } ليظهر معلومة وهو خوف الخائف أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم أو ليعلم أولياء الله ومحل { بالغيب } النصب على الحال أي يخافه حال كونه غائباً عن رؤيته أو عن حضور الناس { فمن اعتدى } فصاد { بعد ذلك } الابتلاء { فله عذاب أليم } في الآخرة وقيل في الدنيا .
عن ابن عباس : هو أن يضرب بطنه وظهره ضرباً وجيعاً وينزع ثيابه . { لا تقتلوا الصيد } قال الشافعي : إنه البري المتوحش المأكول اللحم . أما الأول فلقوله تعالى بعد ذلك { أحل لكم صيد البحر } وأما المتوحش فيدخل فيه نحو الظبي وإن صار مستأنساً ويخرج الإنسي وإن صار متوحشاً إبقاء لحكم الأصل ، وأما كونه مأكولاً فلقوله تعالى { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } فيعلم منه أنه مما يحل أكله في غير الإحرام . وقال أبو حنيفة : المحرم إذا قتل سبعاً لا يؤكل لحمه ضمن . وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي : لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لا سيما وقد جاء « خمس يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب والعقور » وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة بقول علي رضي الله عنه :
صيد الملوك أرانب وثعالب ... فإذا ركبت فصيدي الأبطال .
وزيف بأن الثعلب عندنا حلال . { وأنتم حرم } أي محرمون بالحج والعمرة أيضاً على الأصح . وقيل : وقد دخلتم الحرم . وقيل : هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي . وقوله { لا تقتلوا } يفيد المنع ابتداء والمنع تسبباً فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرماً أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم { ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل } من قرأ { جزاء } بالتنوين { ومثل } بالرفع فالمعنى : فعليه جزاء صفته كذا . ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعلية أن يجزىء مثل ما قتل . قال بعض العلماء : المثل مقحم للتأكيد إذ الواحب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو قولهم : أنا أحب مثلك أي أحبك . وقيل : الإضافة بمعنى « من » أي جزاء من مثل ما قتل . قال سعيد بن جبير : المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه شيء . وهو قول داود لأن النهي ورد عن التعمد وهو أن يقتله ذاكراً لإحرامه أو عالماً أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله ، فإن قتله وهو ناسٍ لإحرامه أو رمى صيداً وهو يظن أنه ليس بصيد ، أو رمى غير الصيد فعدل السهم فأصاب صيداً فهو مخطىء لا شيء عليه لفقدان القيد المذكور . ويتأكد هذا الرأي بقوله { ليذوق وبال أمره } وبقوله { ومن عاد } أي الى ما تقدم ذكره وهو القتل العمد ، والانتقام أيضاً يناسب العمد لا الخطأ قال جمهور الفقهاء : يلزمه الضمان سواء قتل عمداً أو خطأ قياساً على سائر محظورات الإحرام كحلق الرأس وغيره وكما في ضمان مال المسلم ، فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يختلف ذلك بكونه عمداً أو لا .
وإنما وردت الآية بالتعمد لأن العمد أصل والخطأ ملحق به للتغليظ ، ولما روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له : إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة . وعن الزهري نزل كتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ . قال صلى الله عليه وسلم « في الضبع كبش إذا قتله المحرم » وقالت الصحابة : في الظبي شاة . أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ . ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن : الصيد ضربان : منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل الواجب هو القيمة قياساً على ما لا مثل له . حجة الشافعي قوله تعالى { من النعم } فإنه بيان للمثل وكذا قوله { هدياً بالغ الكعبة } وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم في الضبع بكبش . وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وأزمان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم . فحكموا في النعامة ببدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة ، وفي الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الظبي بشاة ، وفي الأرنب بحمل - وفي رواية بعناق - وفي الضب بسخلة ، وفي اليربوع بجفرة ، وفي الحمام بشاة ، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة . والعب شرب الماء مرة ، والهدير ترجيعه صوته وتغريده . وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبهاً بالصيد من النعم ، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار . والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه ، والجفرة من أولاد المعز إذا انفصلت من أمها ، والعناق الأنثى من أولاد المعز . وأيضاً المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل .
( وههنا مسائل ) الأولى : جماعة محرومون قتلوا صيداً . فالشافعي وأحمد وإسحق : لا يجب عليهم إلا جزاء واحد لأن مثل الواحد واحد . وقال أبو حنيفة ومالك والثوري : على كل منهم جزاء واحد كما لو قتل جماعة واحداً يقتص منهم جميعاً ، وكذا لو حلف كل منهم أن لا يقتل صيداً فقتلوا صيداً واحداً لزم كلاً منهم كفارة . وأجيب بأن قتل الجماعة بالواحد تعبدي وتعدد الكفارة لتعدد الإيمان .
الثانية : قال الشافعي : المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية ، وكما لو دل على مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف .
وقال أبو حنيفة : يضمن لما روي أن عمر عبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال .
الثالثة : قال الشافعي : إذا جرح ظبياً فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشاداً إلى ما هو الأسهل لأنه قد لا يجد شريكاً في ذبح الشاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان . وقال المزني : عليه شاة . وقال داود : لا ضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط .
الرابعة : إذا قتل المحرم صيداً وأدى جزاءه ثم قتل صيداً آخر لزمه جزاء آخر خلافاً لداود ، وينقل عن ابن عباس وشريح . حجة الجمهور أن الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه : من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين ، فإنه لا يقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم . حجة داود { ومن عاد فينتقم الله منه } فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة .
الخامسة : قال الشافعي : إذا أصاب صيداً أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب ، وكذا الكبير لأجل الصغير . والذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر والأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقاً للمثلية . فالأنثى أفضل لأنها تلد ، والذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن .
قوله سبحانه { يحكم به ذوا عدل منكم } قال ابن عباس : أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به . وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال : التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد ، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا يفتقر إلى الاجتهاد . ورد بأن وجه المشابه بين النعم والصيد أيضاً يتوقف على الاجتهاد . عن قبيصة بن جابر أنه ضرب ظبياً في الإحرام فمات فسأل عمر - وكان الى جانبه عبد الرحمن ابن عوف - فقال له : ما ترى؟ قال : عليه شاة . قال : وأنا أرى ذلك ، فاذهب فأهد شاة . قال قبيصة : فخرجت إلى صاحبي وقلت : إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره . قال : ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال : أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى { يحكم به ذوا عدل منكم } فأنا عمر وهذا عبد الرحمن . قال الشافعي : ما ورد فيه نص فهو متبع كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش . وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابعين أو من أهل عصر آخر من النعم أن مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى . وقال مالك يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم . وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكماً؟ إن كان القتل عمداً عدواناً فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة ، وإن كان خطأ أو كان مضطراً إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات .
وجوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبياً فسأل عمر فقال : احكم فيه . فقال : أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين . فقال : إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني . فقال الرجل : أرى فيه جدياً فقال عمر : فذلك فيه . وأيضاً فإنه حق الله فيجوز أن يكون من عليه أميناً فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة . ولو حكم عدلان بأن الله له مثلاً وآخران بأنه لا مثل له فالأخذ بقول الأولين . ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ . قيل في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز . وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات ، وكعمل العامي بالفتوى ، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا ، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيد المقتول أمر كلي أيضاً . وانتصب { هدياً } على أنه حال من { جزاء } عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل { مثل } عند من أضاف ، أو حال من الضمير في { به } ووصف هدياً ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغاً الكعبة . والعرب تسمى كل بيت مربع كعبة ولا سيما إذا كان مرتفعاً . ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حياً لم يجز . قال الشافعي : يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضاً لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم . وقال أبو حنيفة : له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت إلى الكعبة فقد خرج عن العهدة . قوله { أو كفارة } عطف على قوله { فجزاء } و { طعام مساكين } بيان له . ومن أضاف فللبيان أيضاً أي كفارة من طعام مساكين مثل : خاتم فضة { أو عدل ذلك } الطعام { صياماً } نصب على التمييز كقولك : لي مثله رجلاً . وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه ، والعدل بالكسر المثل تقول : عندي عدل غلامك إذا كان غلاماً يعدل غلاماً ، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت العين . ثم مذهب الشافعي أنه يصوم لكل مد يوماً . ومذهب أبي حنيفة أنه يصوم لكل نصف صاع يوماً وذلك بحسب الاختلاف في طعام مسكين واحد كما مر في كفارة اليمين .
وبالجملة فحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يوجب قيمة الصيد يقوّم حيث صيد ، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعاً من غيره ، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوماً . وحاصل مذهب الشافعي أن الصيد قسمان : ما له مثل من النعم وما ليس كذلك . فالأوّل جزاؤه على التخيير والتعديل فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم إما بأن يفرق اللحم أو يملك جملته إياهم مذبوحاً ، وبين أن يقوّم المثل بدراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم ولكن إن شاء اشترى بها طعاماً وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوماً حيث كان . والثاني وهو ما ليس بمثلي كالعصافير وغيرها . وبالجملة كل ما دون الحمام أو فوقه فيه قيمته ولا يتصدق بها بل يجعلها طعاماً ، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مد يوماً ، فإن انكسر مد في القسمين صام يوماً لأن الصوم لا يتبعض . فللجزاء في القسم الأوّل ثلاثة أركان : الحيوان والطعام والصيام . وفي القسم الثاني ركنان : الطعام والصيام و { أو } هنا على التخيير في ظاهر المذهب لا على الترتيب . ووافق مالك وأبو حنيفة لأن « أو » للتخيير غالباً ، وخالف أحمد وزفر فقالا إنها في الآية للترتيب لأن الواجب هنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله { ليذوق وبال أمره } والتخيير ينافي التغليظ . ثم القائلون بالتخيير اتفقوا على أن الخيار في تعيين هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد كما هو ظاهر الآية إلا محمد بن الحسن فإنه قال : الخيار إلى الحكمين قياساً على تعيين المثل . ثم إن يكن الصيد مثلياً فالعبرة في القيمة بمحل الإتلاف قياساً على كل متلف متقوّم ، والمعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام بمكة . وإن كان مثلياً وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ أنها محل الذبح لو كان يذبح . ولا جزاء عل المحرم بأكل الصيد سواء ذبحه بنفسه أو اصطيد له أو بدلالته لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يؤل إلى النماء فلا يتعلق بإتلافه الجزاء ، كما لو أتلف بيضة مذرة هذا في الجديد من قولي الشافعي وفي قوله القديم - وبه قال مالك وأحمد - يلزمه القيمة بعدما أكل . وإذا ذبح المحرم صيداً لم يحل له الأكل منه ولا لغيره في الجديد - وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة - لأنه يكون ميتة كذبيحة المجوسي حتى لو كان مملوكاً وجب مع الجزاء القيمة للممالك . وهل يحل له بعد زوال الإحرام؟ أظهر الوجهين لا ، وكذا الكلام في الصيد الحرم إذا ذبح .
أما قوله { ليذوق } فإنه متعلق بقوله { فجزاء } أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق ، ويحتمل أن يقال : يتعلق بمحذوف أي شرعنا ما شرعنا ليذوق سوء عاقبة فعله وهو هتك حرمة الحرم والإحرام . والتركيب يدور على الثقل يقال : مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة ، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة . والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع ، والثالث وهو الصوم ثقيل على البدن أيضاً ، وكل منها نوع عقوبة { عفا الله عما سلف } في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم ، أو عما سلف قبل التحريم في الإسلام . وعلى مذهب داود { عفا الله عما سلف } في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء { ومن عاد } فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء { فينتقم الله منه } أي فهو ينتقم الله منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه . { أحل لكم صيد البحر } أي مصيداته . ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار ، وجملة ما يصاد منه ثلاث أجناس : الحيتان وجميع أنواعها حلال ، والضفادع وجميع أنواعها حرام ، وفيما سوى هذين خلاف . فقال أبو حنيفة : حرام . وقال ابن أبي ليلى والأكثرون : حلال . قوله { وطعامه } العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه : يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته ، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه . وقال جمع من العلماء : الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها . فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر ، وأحل لكم أكل المأكول منه . وعن سعيد بن جبير أن الصيد هو الطري ، والطعام هو القديد منه وفي الفرق ضعف . قال الشافعي : السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى { أحل لكم صيد البحر وطعامه } وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في البحر « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » { متاعاً لكم } في الحضر طرياً و { للسيارة } في السفر مالحاً . وانتصب { متاعاً } على أنه مفعول له ولكنه مختص بالطعام . وقال الزجاج : انه مصدر مؤكد لأن قوله { أحل لكم } في معنى التمتيع { وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً } قال العلماء : صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء ، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر ، والسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر ، ويجب على قاتله الجزاء . واتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد الذي صاده أما الذي صاده الحلال فعن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري واسحق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية ، ولما روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله .
وقال مالك والشافعي وأحمد : إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم » وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازوا للمحرم ما صاده الحلال وإن لأجله إذا لم يدل لم يشر ، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفه وأصحابه لما روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا : هل بقي من لحمه شيء؟ قالوا معنا رجله . فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها . هذان قولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد . وقال في الكشاف . أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل : وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر ، فيخرج عنه مصيد غيرهم . ويرد عليه أن المفهوم ليس بحجة . ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله { واتقوا الله الذي إليه تحشرون } وهو كلام جامع للوعد والوعيد .
ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال { جعل الله } أي حكم وبين بالخطاب والتعريف ، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب { قياماً للناس } وهم العرب ووجه المجاز أن أهل بلدة إذا قالوا « الناس فعلوا كذا » أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم . وبيان القيام أن قوام المعيشه إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبي إليه ثمرات كل شيء ، وإما بدفع المضار وقد صيره حرماً آمناً ، وإما بحصول الجاه والرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام . { فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم } [ إبراهيم : 37 ] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى . وانتصب { البيت الحرام } على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح ، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية . وعن عطاء بن أبي رباح : لو تركوه عاماً واحداً لم ينظرا ولم يؤخروا . وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أوّل السورة . وإنما كان الشهر الحرام سبباً لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم ويقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة ، فلولا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع . وأيضاً هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها .
وأما الهدي فأنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء ، وكذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد ، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قياماً للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع { لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض } وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل ، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سبباً للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان . ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات وأسبابها وغاياتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها ، عللها ومعلولها ، موجودها ومعدومها ، وذلك قوله { وأن الله بكل شيء عليم } فما أحسن هذا الترتيب! ثم خوّفهم وأطمعهم بقوله { اعلموا أن الله شديد العقاب } لمن انتهك محارمه { وأن الله غفور رحيم } لمن حافظ عليها . وذكر الوصفين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال « سبقت رحمتي غضبي » ثم قرر أن رسول الله ما كان مكلفاً إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم ، وفيه من الوعيد ما فيه ، عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها » فقام إليه أعرابي فقال : يا رسول الله إني كنت رجلاً هذه تجارتي واستفدت من بيع الخمر مالاً فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « إن أنفقته في الحج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة ، إن الله لا يقبل إلا الطيب » ، وأنزل الله عز وجل تصديقاً لقول رسوله { قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث } وهو عام في حرام الأموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها ، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية ، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته ، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني ، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم ، فلا تستبدل الخيبث يا إنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث ، لأن كثرته في تحقيق قلة ، ولذته في نفس الأمر ذلة ، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف .
التأويل : { لا تحرموا } على أنفسكم بالاستمتاعات النفسانية { طيبات ما أحل الله لكم } دون سائر المخلوقات من المواهب الربانية { ولا تعتدوا } ولا تجاوزوا عن حد العبودية { وكلوا مما رزقكم الله } واجتهدوا في طلب ما خصكم به الله من تجلى جماله وجلاله { حلالاً طيباً } يحل فيكم بريئاً من سمات النقائص .
{ باللغو في أيمانكم } أن تحلفوا بآلائه عن التبرم من ولائه لملالة النفوس وكلالة القوي واستيلاء النفس وغلبة سلطان الهوى في أثناء المجاهدات وإعواز المشاهدات { ولكن يؤاخذكم } إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان { فكفارته } حينئذ { إطعام عشرة مساكين } الحواس الظاهرة والباطنة . { من أوسط ما تطعمون أهليكم } وهم القلب والسر والروح والخفاء ، طعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف ، وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء يشغل الحواس العشرة بهذه الأمور ، أو يكسوهم لباس التقوى ، أو يحرر رقبة النفس من عبودية الحرص والهوى { فمن لم يجد } أمسك في اليوم الماضي عما عزم عليه وفي اليوم الحاضر عما لا يعنيه وفي اليوم المستقبل عن العود إليه . ومن لغو اليمين عند أرباب اليقين أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وحلاله أن يرزقه شيئاً من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو ، وفي مذهب التسليم سهو ولكن يرجى له عفو فلا يؤاخذه بمقاله لعلمه بضعف حاله والكمال في الثبات والاستقامة .
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
ومن اللغو في اليمين عندهم ما يجري على لسانهم في حال غلبات الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم :
وحقك ما نظرت إلى سواكا ... بعين مودّة حتى أراكا
فإن هذا ينافي التوحيد وأين في دار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار { ليس على الذين آمنوا } بالتقليد { وعملوا الصالحات } الأعمال البدنية الشرعية { جناح فيما طعموا } من المباحات { إذا ما اتقوا } الشبهة والإسراف { وآمنوا } بالتحقيق بعد التقليد { وعملوا الصالحات } الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه ومن تحليته بالأخلاق المضادة لهواه كالصدق والإخلاص والتوكل والتسليم وما عداه { ثم اتقوا } شرك الأنانية { وآمنوا } بهويته { ثم اتقوا } هذا الشرك وهو الفناء في الفناء { وأحسنوا } وهو البقاء به فافهم جعل الله البلاء لأهل الولاء كاللهب للذهب فقال { يا أيها الذين آمنوا } إيمان المحسنين الذين تجردوا عن ملاذ وشهواتها الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال { ليبلونكم الله } في أثناء السلوك بشيء من الصيد وهو المطالب النفسانية والمقاصد الدنيوية الدنية . { تناله أيديكم } يعني اللذات البدنية ورماحكم يعني اللذات الخيالية { فله عذاب } الردّ والصد { ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } يعني من أحرم لزيارة كعبة الوصال فعليه حسم الأطماع من الحرام والحلال { متعمداً } أي عالماً بما في الالتفات إلى غيره من المضار { مثل ما قتل من النعم } يجازي نفسه برياضة ومجاهدة يماثل ألمها تلك اللذة { ذوا عدل } هما القلب والروح يحكمان على مقدار الإسلام وعلى حسب قوّة السالك بتقليل الطعام والشراب ، أو ببذل المال أو بترك الجاه أو بالعزلة وضبط الحواس { هدياً بالغ الكعبة } خالصاً عن الخلق لأجل الحق { طعام مساكين } هم العقل والقلب والسر والروح والخفاء كانوا محرومين عن أغذيتهم الروحانية فيطعمهم المعاملات الروحانية من صدق التوجه والصبر على المكاره والفطام عن المألوفات ومن الشكر والرضا وغير ذلك .
{ أو عدل ذلك صياماً } هو الإمساك عن الأغيار والركون إلى الواحد القهار لتذوق النفس الأمارة وبال أمرها ، فإن كل هذه الأمور على خلاف طبعها { ذو انتقام } ينتقم من أحبائه بنقاب الدلال ، ومن أعدائه بحجاب الملام والملال . { أحل لكم صيد } بحر المعارف والكشوف تنتفعون بالواردات وتطعمون منها السائرين إلى الله من أهل الإرادات { صيد البر } ما سنح للسائرين من مطالب الدنيا { ما دمتم حرماً } أي في حال المحو لا في حال الصحو . رجعل الله الكعبة } كعبة الظاهر { قياماً } للعوام والخواص يستنجحون بها حاجاتهم الدنيوية والأخروية ، وكعبة القلب قواماً للخواص ولخواص الخواص يلوذون بها بدوام الذكر ونفي الخواطر حتى يعلموا أن لا موجود إلا هو ، ولا وجود إلا له { البيت الحرام } حرام أن يسكن في الكعبة القلب غيره والشهر الحرام هو أيام الطلب حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق . والهدي هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع قلائد أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها ، فإذا وصل العبد إلى كعبة القلب شاهد بأنواره أن لله ما في السموات وما في الأرض . { شديد العقاب } يسدل الحجاب لغير الأحباء غفور رحيم للصادقين في الطلب بفتح الأبواب { إلا البلاغ } بالقال يتلو عليهم آياته وبالحال ويزكيهم { ما تبدون } بإقرار اللسان { وما تكتمون } من تصديق الجنان الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك إلى الله بل الطيب هو الله والخبيث ما سوى الله وفي ذلك كثرة والله أعلم .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
القراآت : { ينزل } من الإنزال : أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب { شهادة } بالتنوين { آلله } بالمد : روح وزيد . الباقون بالإضافة . « استحق » على البناء للفاعل : حفص والأعشى في اختياره الباقون على البناء للمفعول . { الأولين } جمع الأول نقيض الآخر . سهل ويعقوب وحمزة خلف وعاصم غير حفص والأعشى في اختياره الباقون { الأوليان } تثنية الأولى الأحق { الغيوب } بكسر الغين حيث كان : حمزة وحماد وأبو بكر غير الشموني والبرجمي والخزاعي عن ابن فليح في { ساحر } وكذلك في هود والصف : حمزة وعلي وخلف الباقون { سحر } { هل تستطيع } بتاء الخطاب { ربك } بالنصب : علي والأعشى في اختياره ، الباقون بالياء وبالرفع { أن ينزل } بالتخفيف من الإنزال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون بالتشديد { منزلها } بالتشديد : عاصم وأبو جعفر نافع وابن عامر . الباقون بالتخفيف { فإني أعذبه } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع { وأمي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص { لي أن } بالفتح : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الباقون بالسكون { يوم ينفع } بفتح الميم : نافع . الباقون بالرفع .
الوقوف : { تسؤكم } ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف . { تبدلكم } ط { عنها } ط { حليم } ه { كافرين } ه { ولا حام } لا للاستدراك . { الكذب } ط { لا يعقلون } ه { آبائنا } ط { ولا يهتدون } ه { أنفسكم } ج لاحتمال الاستئناف أو الحال أي احفظوا أنفسكم غير مضرورين { إذا اهتديتم } ط { تعملون } ه { مصيبة الموت } ط { قربى } ز لأن وقوله { ولا نكتم } من جواب القسم . { شهادة } ط لمن قرأ { آلله } بالمد { الآثمين } ه { وما اعتدينا } ز لظاهر « إن » والوصل أجوز لتعلق « إذا » بقوله { وما اعتدينا } ز { الظالمين } ه { أيمانهم } ط لابتداء الأمر { واسمعوا } ط { الفاسقين } ه { أجبتم } ط { لنا } ط { الغيوب } ه { والدتك } لا لئلا يوهم أنه ظرف لا ذكر بل عامله محذوف والتقدير : واذكر إذا أيدتك { وكهلاً } ج { والإنجيل } ج { والأبرص بإذني } ج { الموتى } ج لأن « إذ » يجوز تعلقه تعلق به « إذ » الأول ، ويمكن تعلق كل واحد بمحذوف آخر لتفصيل النعم { سحر مبين } ه { وبرسولي } ط لاحتمال أن قالوا مستأنف أو عامل في { إذ أوحيت } { مسلمون } { من السماء } الأولى ط { مؤمنين } ه { الشاهدين } ه { وآية منك } ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض { الرازقين } ه { عليكم } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { العالمين } ه { من دون الله } ط { ما ليس لي } ط قد قيل وهو تعسف لأن المنكر لا يقسم به والقسم لا يجاب بالشرط بل الوقف على { بحق } { علمته } ط { نفسك } ط { الغيوب } ه { وربكم } ج على أن الواو للاستئناف أو الحال أي وقد كنت { فيهم } ط لأن عامل « لما » متأخر وفاء التعقيب دخلتها { عليهم } ط لأن الواو لا يحتمل الحال للتعميم في كل شيء { شهيد } ه { عبادك } ج لابتداء الشرط مع الواو { الحكيم } ه { صدقهم } ط لاختلاف الجملتين بلا عطف { أبداً } ط { عنه } ط { العظيم } ه { وما فيهن } ط { قدير } ه .
التفسير : « عن أنس أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال : فاسألوني فوالله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به . فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال : يا نبي الله من أبي؟ فقال : أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك » - ويروى عكاشة بن محصن - يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم ، والله إن قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لتركتم ، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه . وقام آخر فقال : يا رسول الله أين أبي؟ فقال : في النار . ولما اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال : رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً . فأنزل الله هذه الآية . فهي عائدة إلى قوله { ما على الرسول إلا البلاغ } كأنه قال : ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجيبكم بما شق عليكم . وأيضاً كان المشركون يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر كقوله حاكياً عنهم { لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى تمام الآية . وكان لبعض المسلمين أيضاً ميل إلى ظهورها فمنعوا ذلك لأن طلب الزيادة بعد ثبوت الرسالة من باب التحكم ، ولعلها لو ظهرت ثم أنكرت استحق المنكر العقاب العاجل ، ويحتمل أن يكون وجه النظم قوله { والله يعلم ما تبدون وما تكتمون } [ النور : 29 ] فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أشياء مخفية إن تبد لكم تسؤكم . وللنحويين في منع صرف أشياء وجوه ، فقال الخليل وسيبويه : أصلها « شياء » على وزن « حمراء » فهو اسم جمع لشيء استثقلوا الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فصار وزنه « لفعاء » . وقال الفراء : أصلها « أفعلاء » بناء على أن « شيا » مخفف شيء يقال « هين » في « هين » وقد يجمع « فيعل » على « أفعلاء » كنبي وأنبياء ، لكنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فحذفوا اللام فبقي « أشياء » على وزن « أفعاء » .
وقال الكسائي : وزنها « أفعال » ومنع الصرف تشبيهاً له بحمراء . ولا يلزم منه منع صرف « أبناء » و « أسماء » لأن ما ثبت على خلاف الدليل لا يلزم اطراده ولكنه يكون مقصوراً على المسموع . والحاصل أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتب عليه تكاليف شاقة صعبة . فالذي سأل عن أبيه لم يأمن أن يلحق بغير أبيه فيفتضح ، والسائل عن الحج كاد أن يوجبه في كل عام وقد قال الرسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أعظّم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسالته » وكان عبيد بن عمير يقول : إن الله أحل وحرم ، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه ، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى فاقبلوه . وقال أبو ثعلبة إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدوداً فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها . ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال { وإن تسألوا عنها حين ينزل القرآن } أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم { تبد لكم } تلك الأمور أو التكاليف . فالحالصل أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ساءتهم . وقيل : السؤال قسمان : أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله { لا تسألوا } والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله : { وإن تسألوا } رفعاً للحرج وتميزاً لهذا القسم من الأوّل . وإنما حسن عود الضمير في « عنها » إلى الأشياء وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين ، لأن كلاً منهما مسؤول عنه في الجملة . وقيل : المعنى وإن تسألوا عن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا تبد لكم . والمراد أن تطلب الرخصة في السؤال أولاً ثم يسأل { عفا الله عنها } أي عما سلف من مسألتكم وإغضابكم الرسول فلا تعودوا « إليها ، أو المراد بالعفو أنه تعالى ما أظهر عند تلك المسائل ما يشق عليهم من التكاليف . وقيل : إن الجملة صفة أخرى للأشياء كما أن الجملة الشرطية والمعطوف عليها صفة لها . والمعنى لا تسألوا عن أشياء أمسك الله عنها وكف عن ذكرها كما جاء في الحديث » « عفوت عن صدقة الخيل والرقيق » أي خفف عنكم بإسقاطها { قد سألها } يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا { قوم من قبلكم } سأل الناقة قوم صالح فعقروها ، وسأل الرؤية قوم موسى عليه السلام فصار وبالاً عليهم ، وسأل المائدة قوم عيسى عليه السلام فكفروا بها ، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعاً .