كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
الثانية كونه شفاء لما في الصدور لحصول العقائد الحقة والأخلاق الحميدة فيها بدل أضدادها كالطبيب يعيد الصحة بدل المرض والأخلاط المحمودة بدل الأخلاط الفاسدة بالمعالجات الصائبة والأدوية النافعة . الثالثة حصول الهدي بسببه وذلك أنه إذا زالت الملكات الرديئة التي طبيعتها الظلمة وصارت مرآة النفس مصقولة محاذية لعالم القدس انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت . الرابعة كونه رحمة للمؤمنين وذلك بأن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم . وإنما خص المؤمنين بهذه الرحمة لأن كل روح لم يتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم ينتفع بأنوارهم كما أن كل جرم لم يقع في مواجهة قرص الشمس لا يستضيء بنورها . والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة ، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة والأخلاق الرديئة بتحصيل أضدادها وهي الطريقة ، والهدى عبارة عن ظهور نور الحق في قلوب الصدّيقين وهي الحقيقة ، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للباقين وهي النبوة .
ولما أرشد سبحانه إلى الطريق الموصل إلى السعادات الباقية الروحانية ذكر أنها هي التي يجب أن يكمل الفرح بحصولها دون السعادات الفانية الجسمانية فقال : { قل بفضل الله وبرحمته } قال في الكشاف : أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا { فبذلك فليفرحوا } والتكرير للتقرير والتأكيد ، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة الآخر عليه . والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح ، وجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا ، وأن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي بمجيئها فليفرحوا . وعلى هذا يكون { قل } اعتراضاً . ومن قرأ بتاء الخطاب فمعناه على ما نقل عن زيد بن ثابت فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار ، ونسبت هذه القراءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأصل والقياس لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تحريضاً به ، وإنما قلنا إنه الأصل لأن حكم الأمر في المخاطب والغائب واحد إلا أنه خفف أمر المخاطب بحذف اللام وبحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال فاضطروا إلى همزة الوصل . ومن قرأ تجمعون بتاء الخطاب فإنه عنى المخاطبين والغائبين جميعاً إلا أنه غلب الخطاب كما يغلب التذكير ، أو كأنه أراد المؤمنين وفيه حث لهم على ترجيح الجواذب العقلية الروحانية على النوازع النفسانية الجسدانية لأنه لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام ، والمعنى العدمي لا يستحق الفرح به ، وبتقدير أن تكون صفات ثبوتية إلا أن التضرر بالآمها أقوى من الانتفاع بلذاتها فلا نسبة للذة الوقاع - وهي أقوى اللذات - إلى ألم القولنج وسائر الآلام القوية .
وأيضاً إن مداخل اللذات الجسمانية معظمها البطن والفرج ، ومداخل الآلام كل جزء من أجزاء البدن . وأيضاً اللذات الجسمانية لا بقاء لها مثلاً إذا زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل ، وكل ما لا بقاء له لا يشتد فرح العاقل بحصوله ، ولو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب الحواس والجوارع في مقدماتها ولواحقها لكفى . ومن المعلوم أن الفرح الحاصل بحدوث الولد لا يعادل الحزن الواقع عند موته وفيه قال المعري :
إن حزناً في ساعة الموت ضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد
فتبين بهذه الوجوه أن الفرح إنما يجب أن يكون بالروحانيات الباقيات لا بالجسمانيات الزائلات ، أما المفسرون فقد قالوا : فضل الله الإسلام ، ورحمته ما وعد عليه . وعن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا { قل بفضل الله وبرحمته } فقال : بكتاب الله والإسلام . ومثله ما روي عن أبي سعيد الخدري : فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله . ثم أشار إلى طريق ثالث في إثبات النبوة فقال : { قل أرأيتم } الآية . وتقريره أنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وبحرمة بعضها فإن كان هذا لمجرد التشهي فذلك طريق باطل مهجور بالاتفاق لأدائه إلى التنازع والتشاجر واختلاف الآراء وافتراق الأهواء ، وإن كان لأنه حكم الله فيكم فبم عرفتم ذلك فإن كان بقول رسول أرسله إليكم فقد اعترفتم بصحة النبوة وإلا كان افتراء على الله . وفي الآية أيضاً إشارة إلى فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم من تحريم السوائب والبحائر وقولهم : { هذه أنعام وحرث حجر } [ الأنعام : 138 ] وغير ذلك . { وما أنزل } الجملة في محل الرفع بالابتداء وخبره { آلله أذن لكم } و { قل } مكرر للتأكيد والرابط محذوف ، ومجموع المبتدأ والخبر متعلق ب { أرأيتم } والمعنى أخبروني الذى أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً آلله أذن لكم في تحريمه وتحليله { أم على الله تفترون } وعن الزجاج أن « ما » في { ما أنزل } بمعنى الاستفهام منصوباً ب { أنزل } وأنه مع معموله مفعول { أرأيتم } معناه أخبرونيه . وعلى هذا يكون { قل آلله } كلاماً مستأنفاً . ومعنى أنزل خلق وأنشأ كقوله : { وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج } [ الزمر : 6 ] وذلك أن كل ما في الأرض من زرع أو ضرع فإنه بسبب الماء النازل من السماء . قال في الكشاف : ويجوز أن تكون الهمزة في { آلله } للإنكار و « أم » منقطعة بمعنى « بل » أتفترون على الله تقريراً للافتراء . ثم قال : { وما ظن الذين } يعني أي شيء ظنهم في ذلك اليوم وما يصنع بهم فيه؟ وهو في صورة الاستعلام ولكن المراد تعظيم وعيد من يفتري على الله حيث أبهم أمره وكفى به زاجراً للمفتي في الأحكام بغير علم فليتق الله وليصمت { لذو فضل على الناس } إذ أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال النبي وتعليم الشرائع { ولكن أكثرهم لا يشكرون } هذه النعمة بجحد نبيه أو مخالفته .
التأويل : { أفأنت تسمع الصم } صم آذان القلوب { أفأنت تهدي العمى } عمي أبصار البصائر . { ويوم نحشرهم } حشر العوام خروج أجسادهم من القبور إلى المحشر ، وحشر الخواص خروج أرواحهم الأخروية من قبور أجسادهم الدنيوية بالسير والسلوك ، وحشر الأخص خروجهم من قبور الأنانية الروحانية إلى هوية الربانية كما قال : { يوم نحشر المتقين إلى الرحمن } [ مريم : 85 ] كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار لأنه لا نسبة لمدة الدنيا إلى ما بين الأزل والأبد . { يتعارفون بينهم } يعرفون تفاوت مقامات كل صنف من هؤلاء { وإما نرينك بعض الذي نعدهم } بشرط الإيمان من نعيم الجنان ولقاء الرحمن { أو نتوفينك } فنبلغك أقصى المراتب ومقامك المحمود { فإلينا مرجعهم } رجوعاً اضطرارياً لا اختيارياً { ثم الله شهيد على ما يفعلون } من خسارة الدارين { ولكل أمة رسول } في الظاهر من الأنبياء وفي الباطن من إلهام الحق . { لكل أمة أجل } في استكمال السعادة والشقاوة { بياتاً } أي في الأزل { أو نهاراً } أي يظهر الآن ما قدّر لكم في الأزل . { قل أي وربي إنه لحق } أي أقسم بربك الذي يريك أن وقوع الأمور الأخروية حق لأنك عبرت على الجنة والنار ليلة المعراج ظلمت بإفساد الاستعدادات . { ألا إن لله ما في السموات } الأرواح وأرض القلوب والنفوس { ألا إن وعد الله } لأهل السعادة ولأهل الشقاوة في الأزل { حق هو يحيي } قلوب بعضهم بالمعرفة { ويميت } قلوب آخرين بالجهل ، أو يحيي بالنور ويميت بالظلمة ، أو يحيي بصفة الجمال ويميت بصفة الجلال { يا أيها الناس } يأ أهل النسيان { قد جاءتكم موعظة } هي خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] وهو داء العشق وشفاء من ذلك الداء وهو توفيق إجابة { بلى } { لما في الصدور } وهو القلب فإنها درة صدف الصدر وهدى عناية خاصة إذ الدعوة عامة والهداية خاصة . ورحمة اتصال إمداد الفيض إلى أن يبلغ غاية الكمال ويفوز بالوصول والوصال { قل بفضل الله } وهو إسماع الخطاب ورحمته وهو الإبقاء على مدلول الخطاب { فليفرحوا هو خير مما } يجمعه أهل الدنيا في دنياهم { ما أنزل الله لكم من رزق } القلوب والأرواح فضلاً عن النفوس والأشباح من الواردات والشواهد { فجعلتم منه حراماً } على أنفسكم { وحلالاً } على غيركم أي حدثت أنفسكم بأن تحصيل هذه السعادات ونيل تلك الكرامات ليس من شأننا وإنما هو من شأن الأنبياء وخواص الأولياء { قل آلله أذن لكم } أن تعرضوا عن هذه المقامات وتحيلوها إلى غيركم وتركنوا إلى الدنيا وزخارفها { أم على الله تفترون } بأن الدعوة اختصت بهم دوننا { إن الله لذو فضل على الناس } بتسوية الاستعداد الفطري .
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
القراآت : { شأن } بغير همز حيث كان : أبو عمرو غير شجاع والأعشى ويزيد والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { يعزب } بالكسر حيث كان : علي . الباقون بالضم . { ولا أصغر } { ولا أكبر } بالرفع فيهما : حمزة وخلف وسهل ويعقوب والمفضل . الآخرون بالنصب .
الوقوف : { تفيضون فيه } ط { مبين } ه { يحزنون } ه ج لأن { الذين } يصلح صفة { لأولياء } ويصلح نصباً أو رفعاً على المدح فيوقف على { يتقون } أو مبتدأ خبره { لهم البشرى } فلا يوقف على { يتقون } { وفي الآخرة } ط { لكلمات الله } ط { العظيم } ه ط لأنه لو وصل لأوهم أن الضمير عائد إلى { أولياء } وقول الأولياء لا يحزن الرسول . { قولهم } م لئلا يوهم أن قوله : { إن العزة } مقول الكفار . { جميعاً } ط { العليم } ه { الأرض } ط { شركاء } ط { يخرصون } ه { مبصراً } ط { يسمعون } ه { سبحانه } ط { الغني } ط { وما في الأرض } ط { بهذا } ط { ما لا تعلمون } ه { لا يفلحون } ه ط ، { يكفرون } .
التفسير : لما بين فساد طريقة الكفار في عقائدهم وأحكامهم بيّن كونه سبحانه عالماً بعمل كل أحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف والرياء والإخلاص وغير ذلك فقال : { وما تكون } يا محمد { في شأن } أي أمر من الأمور . وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده . قال ابن عباس : أي في شأن من أعمال البر . وقال الحسن : في شأن الدنيا وحوائجها و « ما » في { وما تكون } { وما تتلو } نافية والضمير في { منه } إما لله عز وجل أي نازل من عنده ، وإما للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه ولهذا أفرد بالذكر كقوله : { وملائكته وجبريل وميكال } [ البقرة : 98 ] وإما للقرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن . ثم عمم الخطاب فقال : { ولا تعملون } أيها المكلفون { من عمل } أيّ عمل كان { إلا كنا عليكم شهوداً } شاهدين رقباء والجمع للتعظيم أو لأن المراد الملائكة الموكلون { إذ تفيضون فيه } الإفاضة الشروع في العمل على جهة الانصباب والاندفاع ومنه قوله : { فإذا أفضتم من عرفات } [ البقرة : 198 ] قيل : شهادة الله علمه فيلزم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وجودها . والجواب أن الشهادة علم خاص ولا يلزم منه امتناع تقدم العلم المطلق على الشيء كما لو أخبرنا الصادق أن زيداً يفعل كذا غداً فنكون عالمين بذلك لا شاهدين . ثم زاد في التعميم فقال : { وما يعزب عن ربك } أي لا يبعد ولا يغيب ومنه كلأ عازب أي بعيد ، والرجل العزب لبعده عن الأهل . ومعنى { مثقال ذرة } قد مر في قوله : { إن الله لا يظلم مثقال ذرة }
[ النساء : 140 ] وذلك في سورة النساء . والمقصود أنه لا يغيب عن علمه شيء أصلاً وإن كان في غاية الحقارة . وإنما قال ههنا { في الأرض ولا في السماء } خلاف ما في سورة سبأ وهو المعهود في القرآن لأن الكلام سيق لشاهدته على شؤون أهل الأرض فناسب أن يقدم ذكر ما في الأرض ، هذا بعد تسليم أن الواو تفيد الترتيب . ثم بالغ في تعميم علمه فقال : { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } من قرأ بالنصب على نفس الجنس أو بالرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسه فلا إشكال ، وأما من جعله منصوباً معطوفاً على لفظ مثقال لأنه في موضع الجر بالفتح لامتناع الصرف ، أو جعله مرفوعاً معطوفاً على محل { من مثقال } لأنه فاعل { يعزب } فأورد عليه الإشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب ، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله وإنه محال . ويمكن أن يجاب عنه بأن الأشياء المخلوقة قسمان : قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض . وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد ، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسة العلية والمعلولية عن مرتبة واجب الوجود ، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده شيء في الأرض ولا في السماء إلا هو في كتاب مبين . وهو كتاب أثبت فيه صور تلك المعلومات ، والغرض الرد على من يزعم أنه تعالى غير عالم بالجزيئات . أو نقول : إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن هو في كتاب مبين . وذكر أبو علي الجرجاني صاحب النظم إن « إلا » بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله : { ولا أكبر } ثم وقع الابتداء بكلام آخر فقال : { إلا في كتاب } أي وهو أيضاً في كتاب { مبين } والعرب تضع « إلا » موضع واو النسق كثيراً ومنه قوله : { إني لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم } [ النمل : 11 ] يعني ومن ظلم . وقوله : { لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا } يعني والذين ظلموا .
ثم إنه لما بين إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية قلوب المطيعين وكسر قلوب المذنبين أتبعها تفصيل حال كل فريق فقال : { ألا إن أولياء الله } الآية . والتركيب يدل على القرب فكأنهم قربوا منه تعالى لاستغراقهم في نور معرفته وجماله وجلاله . قال أبو بكر الأصم : هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبوديته والدعوة إليه . وقال المتكلمون : ولي الله من يكون آتياً بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل ، ويكون آتياً بالأعمال الصالحة الواردة في الشريعة وعنوا بذلك قوله تعالى في وصفهم { الذين آمنوا } وهو إشارة إلى كمال حال القوة النظرية .
{ وكانوا يتقون } وهو إشارة إلى كمال حال القوة العملية . وههنا مقام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ويكون الولي متقياً في كل الأحوال ، أما في موقف العلم فبأن يقدس ذاته عن أن يكون مقصوراً على ما عرفه أو يكون كما وصفه ، وأما في مقام العمل فأن يرى عبوديته وعبادته قاصرة عما يليق بكبريائه وجلاله فيكون أبداً في الخوف والدهشة . وأما نفي الخوف والحزن عنهم فقد مر تفسيره في أوائل سورة البقرة : وعن سعيد بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله؟ فقال : هم الذين يذكر الله برؤيتهم . يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة : وعن عمر سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إن من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله . قالوا : يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم . قال : هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها ، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس ، ثم قرأ الآية » .
يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه ، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفاً منها والشيخ كان فارغاً من تلك السباع ، فلما أصبح زالت تلك الحالة . ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد : كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ : تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي ، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله . ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } فقيل : بشراهم في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه { وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات } [ البقرة : 25 ] { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات } [ التوبة : 21 ] وقيل : إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن . عن أبي ذر رضي الله عنه قلت : يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس . قال : تلك عاجل بشرى المؤمن . والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوباً لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده ، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضاً عما سواه . ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوماً بالطبع لما سوى الله . وقيل : هي الرؤيا الصالحة . وعنه صلى الله عليه وسلم :
« » الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة « وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلى الله عليه وسلم استنبىء بعد أربعين سنة إلى كمال عمره - وهو ثلاث وستون سنة - وكان يأتيه الوحي أوّلاً بطريقة المنام ستة أشهر . ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين . وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك . وعن عطاء : البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت { تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة } [ فصلت : 30 ] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة { لا تبديل لكلمات الله } لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في » الأنعام « { ذلك } إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين ، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام . تقول : فلان ينطق بالحق والحق أبلج ، قال القاضي : { لا تبديل لكلمات الله } يدل على أنها قابلة للتبديل ، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديماً ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد : لا شريك لله . ثم سلى رسوله عن صنيع الفريق المكذبين فقال : { ولا يحزنك } أو نقول : إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله : { ألا إن أولياء الله } أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله : { ولا يحزنك قولهم } أي تكذيبهم لك وتهديدهم بالخدم والأموال وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك ، وبالجملة كل ما يتكلمون به في شأنك من المطاعن والقوادح . ثم استأنف قوله : { إن العزة لله } كأنه قيل : ما لي لا أحزن؟ فقيل : لأن العزة لله . { جميعاً } إن الغلبة والقهر له ولحزبه { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] وقرىء » أن « بالفتح لا على أنه بدل فإن ذلك يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إن العزة لله جميعاً والرسول كان يحزنه ذلك وهذا كفر ، بل لأن العزة على صريح التعليل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم واثقاً بوعد الله تعالى في جميع الأحوال وإن كان قد يقع في بعض الحروب والوقائع انكسار وهزيمة فإن الأمور بخواتيمها . ثم أكد الوعد بقوله : { هو السميع العليم } يسمع ما يقولون ويعلم ما يدبرون فيكفيك شرهم .
ثم زاد في التأكيد مع إشارة إلى فساد عقيدة المشركين فقال : { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } فخصص ذوي العقول إما للتغليب وإما لأن الآية سيقت لبيان فساد عقائد أهل الشرك ، فذكر أن العقلاء المميزين - وهم الملائكة والثقلان - كلهم عبيد له ولا يصلح أحد منهم لأن يكون شريكاً له فما وراءهم ممن لا يسمع ولا يعقل كالأصنام أولى بأن لا يكون نداً له .
ثم أكد هذا المعنى بقوله : { وما يتبع } « ما » نافية ومفعول { يدعون } محذوف أي ليس يتبع { الذين يدعون من دون الله شركاء } شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها لأن شركة الله في الربوبية محال . وإنما حذف أحد المكررين للدلالة ، فالأول مفعول { يدعون } والثاني مفعول { يتبع } ويجوز أن تكون « ما » استفهامية بمعنى أي شيء يتبعون . و { شركاء } على هذا نصب ب { يدعون } ولا حاجة إلى إضمار . ويجوز أن تكون « ما » موصولة معطوفة على « من » كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم . ثم زاد في التأكيد فقال : { إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون } وقد مر مثله في سورة الأنعام . ثم ذكر طرفاً من آثار قدرته مع إشارة إلى بعض نعمه فقال : { هو الذين جعل لكم الليل لتسكنوا فيه } طلباً للراحة { والنهار مبصراً } ذا إبصار باعتبار صاحبه أي جعله مضيئاً لتهتدوا به في حوائجكم وهذان طرفان من منافع الليل والنهار { إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون } سماع تأمل وتدبر وقبول .
ثم حكى نوعاً آخر من أباطيلهم فقال : { قالوا اتخذ الله ولداً سبحانه } وقد مر في « البقرة » . ولما نزه نفسه عن اتخاذ الولد برهن على ذلك بقوله : { هو الغني } وتقريره أن الغنى التام يوجب امتناع كونه ذا أجزاء ، وحصول الولد لا يتصور إلا بعد انفصال جزء منه يكون كالبذر بالنسبة إلى النبات ، وأيضاً إنما يحتاج إلى الولد وإلى توليد المثل الذي يقوم مقامه من يكون بصدد الانقضاء والانقراض فالأزلي القديم لا يفتقر إلى الولد ولا يصح له مثل . وأيضاً الغني لا يفتقر إلى الشهوة ولا إلى إعانة الولد ، ولو صح أن يتولد منه مثله لصح أن يكون هو أيضاً متولداً من مثله ولا يشكل هذا بالولد الأول من الأشخاص الحيوانية فإن المدعي هو الصحة لا الوقوع . ثم بالغ في البرهان فقال : { له ما في السموات وما في الأرض } وإذا كان الكل ملكه وعبيده فلا يكون شيء منها ولداً له لأن الأب يساوي الابن في الطبيعة بخلاف المالك . ثم زيف دعواهم الفاسدة فقال : { إن عندكم من سلطان بهذا } أي ما عندكم من حجة بهذا القول . قال في الكشاف : والباء حقها أن تتعلق بقوله : { إن عندكم } على أن يجعل القول مكاناً للسلطان كقولك : ما عندكم بأرضكم موز . كأنه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان . أقول : كأنه نظر إلى أن استعمال الباء بمعنى « في » أكثر منه بمعنى « على » .
ثم وبخهم على القول بلا دليل ومعرفة فقال : { أتقولون على الله ما لا تعلمون } . ثم أوعدهم على افترائهم فقال : { قل أن الذين يفترون } الآية . ثم بين أن ذلك المفتري إن فاز بشيء من المطالب العاجلة والمآرب الخسيسة من رياسة ظاهرة وغرض زائل فذلك { متاع قليل } في الدنيا . ثم لا بد من الموت والرجوع إلى حكم الله ثم حصول الشقاء المؤبد والعذاب الأليم أعاذنا الله منه .
التأويل : { وما تكون في شأن } من النبوة { وما تتلوا } من شأن النبوة { من قرآن } { ولا تعملون } يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم { من عمل } من الأعمال من قبول القرن ورده من مثقال ذرة مما أظهر من حركة في أرض البشرية بعمل من أعمال الخير والشر . { ولا في السماء } أي في سماء القلوب بالنيات الصالحة والفاسدة { ولا أصغر } من الحركة وهو القصد دون الفعل { ولا أكبر } من النية وهو العمل { ألا إن أولياء الله } الذين هم أعداء النفوس { لا خوف عليهم } من تمني النظر بنفوسهم { ولا هم يحزنون } على ما فاتهم من شهوات النفوس للعداوة القائمة بينهم { لهم البشرى في الحياة الدنيا } بالوقائع والمبشرات { وفي الآخرة } بكشف القناع عن جمال العزة . { لا تبديل لكلمات الله } لأحكامه الأزلية حيث قال للولي كن ولياً وللعدوّ كن عدواً { ولا يحزنك } يا رسول القلب قول مشركي النفوس في تزيين شهوات الدنيا ولذاتها في نظرك { إن العزة لله جميعاً } يعز من يشاء في الدنيا وفي الآخرة جميعاً فلا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة بل ربما يعينه على الآخرة كما جاء في الحديث الرباني « وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك » { ألا إن لله من في السموات ومن في الأرض } أي القلوب السماوية والنفوس الأرضية { إن يتبعون إلا الظن } أي يظنون أنهم يتبعون شركاء الدنيا والهوى باختيارهم لا باختيارنا { هو الذي جعل لكم } ليل البشرية لتستريحوا فيه من تعب المجاهدات ، وتزول عنكم الملالة والكلالة ونهار الروحانية ذا ضياء وبصيرة يبصر بها مصالح السلوك والترقي في المقامات { لقوم يسمعون } حقائق القرآن بسمع القلوب الواعية . ثم أخبر عن الشبهات التي تقع في أثناء السلوك قالوا أي مشركو النفوس عند تجلي الروح بالخلافة في صفة الربوبية معترفاً بتجلي صفة إبداع الحق ومبدعة الروح مع كمال قربه واختصاصه بالحق عند بقاء تصرفات الخيال حتى تثبت الأبوة والبنوة بين الله وبين العبد ، إذ البنوة أخص التعلقات بالوالد . وهذا الكشف والابتداء هو مبتدأ ضلالة اليهود والنصارى { له ما في السموات } الروحانية من الكشوف والأحوال { وما في الأرض } البشرية من الوهم والخيال وما ينشأ من الشبهات والآفات { إن الذين يفترون } هم النفوس الأمارة بالسوء { لا يفلحون } لا يظفرون بكشف الحقائق { ثم نذيقهم لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فأحسوا بالألم والله أعلم .
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
القراآت : { وشركاؤكم } بالرفع : يعقوب { إن أجري } بفتح الياء حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص { ويكون لكما } بياء الغيبة : حماد ويزيد وزيد . الباقون بتاء التأنيث { آلسحر } بالمد : يزيد وأبو عمرو { أن تبويا } بالياء : الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة . الآخرون بالهمز . { ليضلوا } بضم الياء : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل { ولا تتبعان } بتخفيف النون : ابن عامر غير الحلواني عن هشام . { تتبعان } خفيفة التاء والنون : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثينة . الباقون والحلواني عن هشام { تتبعان } بتشديدها في الحالين { منت أنه } بكسر الهمزة على الاستئناف بدلاً من { آمنت } : حمزة وعلي وخلف . الآخرون بالفتح . { ننجيك } من الإنجاء : سهل ويعقوب وقتيبة . والآخرون بالتشديد .
الوقوف : { نبأ نوح } م لئلا يوهم أن « إذ » ظرف لقوله : { اتل } بل التقدير : واذكر إذ قال . { ولا تنظرون } ه { من أجر } ط { على الله } ج لأن التقدير وقد أمرت { من المسلمين } ه { بآياتنا } ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر { المنذرين } ه { من قبل } ط { المعتدين } ه { مجرمين } ه { مبين } ه { لما جاءكم } ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله : { أسحر } يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان { هذا } ط للفصل بين الأخبار والاستخبار { الساحرون } ه { في الأرض } ط { بمؤمنين } ه { عليم } ه { ملقون } ه { ما جئتم به } ط لمن قرأ { آلسحر } مستفهماً { السحر } ط { سيبطله } ط { المفسدين } ه { المجرمين } ه { أن يفتنهم } ط { في الأرض } ج لاتصال الكلام { المسرفين } ه { مسلمين } ه { توكلنا } ج للعدول مع اتحاد القائل { الظالمين } ه لا للعطف . { الكافرين } ه ج { وأقيموا الصلاة } ط لأن قوله { وبشر } خطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم وإن أريد به موسى فلا بد من العدول { المؤمنين } ه { الدنيا } لا لتعلق قوله : { ليضلوا } بقوله : { آتيت } و { وربنا } تكرار للأول لأجل التضرع . { عن سبيلك } ج لابتداء النداء مع اتحاد القائل { الأليم } ه { لا يعلمون } ه { وعدواً } ط { الغرق } لا لأن قال جواب « إذا » { المسلمين } ه { المفسدين } ه { آية } ط { لغافلون } ه .
التفسير : لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين ، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في « الأعراف » . ومعنى كبر ثقل وشق كقوله : { وإنها لكبيرة } [ البقرة : 45 ] وفي مقامي وجوه منها : أنه زيادة كقولك : فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله ، وكقوله تعالى :
{ ولمن خاف مقام ربه } [ الرحمن : 46 ] أي ربه ومثله قولهم : فلان ثقيل الظل . ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مدداً طوالاً ألف سنة إلا خمسين عاماً ، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجباً للتنفر والثقل ، وخاصة إذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة . ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود . وجواب الشرط إما قوله : { فعلى الله توكلت } أي إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديماً وحديثاً وإما قوله : { فأجمعوا } وقوله : { فعلى الله توكلت } اعتراض كقولك : إن كنت أنكرت عليّ شيئاً فالله حسبي فاعمل ما تريد . ولا يحسن أن يقال : إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلباً وخبراً ، ومعنى { فأجمعوا أمركم } اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء . وقال أبو الهيثم : أجمع أمره أي جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا ، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعاً . فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل ب « على » فقيل : أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر ، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم . وانتصب { شركاءكم } على المفعول معه أي مع شركائكم . ومن قرأ بالرفع جعله عطفاً على الضمير المتصل ، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل . والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قولهم ودينهم ، وإما الأصنام . وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم كقوله : { قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون } [ الأعراف : 195 ] واعلم أنه عليه السلام قال في أول الأمر { فعلى الله توكلت } ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره ، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال : { فأجمعوا أمركم } كأنه قال : حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم . ثم ضم إلى ذلك قيداً آخر فقال : { ثم لا يكن أمركم عليكم غمة } قال أبو الهيثم : أي مبهماً من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس . وقال الليث : لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له . وقال الزجاج : أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهراً منكشفاً أي تجاهرونني بالإهلاك . ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غماً وهماً والغم والغمة كالكرب والكربة .
ثم زاد قيداً آخر فقال : { ثم اقضوا إليّ } ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه . وعن القفال أن فيه تضميناً والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكماً مفروغاً منه . ثم ختم الكلام بقوله : { ولا تنظرون } أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال ، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى . ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال : { فإن توليتم } أعرضتم عن نصحي وتذكيري { فما سألتكم من أجر } فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل { إن أجري } ليس أجري { إلا على الله } أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو . وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله : { فعلى الله توكلت } إلى آخره . ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله : { فإن توليتم } الآية . { وأمرت أن أكون من المسلمين } أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام ، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة . { فكذبوه } بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة . { فنجيناه ومن معه في الفلك } قد ذكرنا في « الأعراف » الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك { وجعلناهم خلائف } يخلفون الهالكين بالطوفان { فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم { ثم بعثنا من بعده } من بعد نوح { رسلاً } كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب { فجاؤوهم بالبينات } بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات { فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل } الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد ههنا لفظة « به » فقيل : لتناسب ما قبله وهو { كذبوا بآياتنا } وكذلك في « الأعراف » راعى المناسبة لأن ما قبله { ولكن كذبوا } [ الآية : 96 ] بغير الباء { ثم بعثنا من بعدهم } بعد الرسل أو الأمم { بآياتنا } يعني الآيات التسع { فاستكبروا } عن قبولها { وكانوا قوماً مجرمين } كفاراً ذوي آثام ولذلك اجترأوا على رد الآيات . أما قوله : { أسحر هذا } فليس بمقول لقوله : { أتقولون } لأنهم قطعوا في قوله : { إن هذا لسحر مبين } بأنه سحر ، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال : إن القول ههنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله : { سمعنا فتى يذكرهم } [ الأنبياء : 60 ] ومنه قولهم : فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال : أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال : { أسحر هذا } أو يقال : مفعول تقولون محذوف وهو قولهم { إن هذا لسحر مبين } أو يقال : جملة قوله { أسحر هذا } { ولا يفلح الساحرون } حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة ، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه { قالوا أجئتنا لتلفتنا } التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات « افتعال » من اللفت وهو الصرف واللي { وتكون لكما الكبرياء في الأرض } أي الملك والعز في أرض مصر .
قال الزجاج : سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا . وأيضاً فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم . وقيل : لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين : التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام ، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة . ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا . ثم صرحوا بالتكذيب قائلين { وما نحن لكما بمؤمنين } ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في « الأعراف » . أما قوله : { ما جئتم به } فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله . قال الفراء : وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر . فقال موسى : بل ما جئتم به السحر . فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة . يقول الرجل لغيره : لقيت رجلاً . فيقول له : من الرجل؟ ولو قال : من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره . ومن قرأ { آلسحر } بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ و { جئتم به } خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به . ثم قال على وجه التوبيخ السحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به { إن الله سيبطله } بإظهار المعجزة عليه { إن الله لا يصلح عمل المفسدين } لا يؤيده بجميل الخاتمة { ويحق الله الحق } يثبته { بكلماته } بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره { فما آمن لموسى } أي في أول أمره { إلا ذريّة من قومه } قال ابن عباس : لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير ، ولا ريب أن المراد ههنا ليس هو الإهانة ، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد . وقيل : المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون ، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم . وقيل : إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل . وقيل : الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته ، فالضمير في { قومه } على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين ، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في { ملئهم } إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له ، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف ، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله : { أن يفتنهم } أي يعذبهم فرعون .
ثم أكد أسباب الخوف بقوله : { وإن فرعون لعال } لغالب { في الأرض } أرض مصر { وإنه لمن المسرفين } في القتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه من أخس العبيد فادعى الربوبية العليا { وقال موسى } تثبيتاً لقومه { إن كنتم آمنتم بالله } صدقتم به وبآياته { فعليه توكلوا } خصوه بتفويض أموركم إليه { إن كنتم مسلمين } قال لعلماء : المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره : إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة . والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره ، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده . { فقالوا } مؤتمرين لموسى { على الله توكلنا } ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين { ربنا لا تجعلنا فتنة } أي موضع فتنة لهم . والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم ، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق . ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق ، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال : { ونجنا } الآية . وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفس ، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق . { وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتاً } تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعاً مثل توطنه إذا اتخذه وطناً . واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله : { في بيوت أذن الله أن ترفع } [ النور : 36 ] فالمراد من قوله : { واجعلوا بيوتكم قبلة } أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس : وقال الحسن : الكعبة قبلة كل الأنبياء : وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة . ومنهم من قال : إنها مطلق البيوت . ثم قيل : المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم . وقيل : المراد اجعلوا بيوتكم متقابلة ، أما السبب في اتخاذ هذه البيوت فأن يصلوا في بيوتهم خفية خيفة من الكفرة كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة ، أو المقصود الجمعية واعتضاد البعض بالبعض . وقيل : على التفسير الأول لما أظهر فرعون العداوة الشديدة أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل أن يصونهم عن شرهم .
وإنما ثنى الخطاب أوّلاً ثم جمع لأن اختيار المكان للعبادة مما يفوض إلى الأنبياء فخوطب موسى وهارون بذلك ، ثم جعل الخطاب عاماً لهما ولقومهما لأن استقبال القبلة وإقامة الصلاة واجب على الجمهور . ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير في قوله : { وبشر المؤمنين } لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات هو هذه البشارة فلم تكن لائقة إلا بحال موسى الذي هو الأصل في الرسالة ، وفيه تعظيم لشأن البشارة والمبشر ( قال الضعيف مؤلف الكتاب ) قد سنح في خاطري وقت هذه الكتابة أن الخطاب في قوله : { وبشر المؤمنين } لنبينا صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض . ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجداً وطهوراً دون سار الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه ألبتة للعبادة والله أعلم بمراده . ثم إن موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة ، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم ، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلاً سبب الدعاء عليه فلهذا { قال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالاً } فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق . عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة . قالت الأشاعرة : اللام في قوله : { ليضلوا } لام التعليل كأن موسى عليه السلام قال : يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا ، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيىء أسبابه . ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم . والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه : { من قبل أن نطمس وجوهاً } [ النساء : 47 ] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم . وقالت المعتزلة : قوله { ليضلوا } دعاء بلفظ الأمر للغائب ، دعا عليهم بثلاثة أمور : بالضلال وبالطمس وبالشد . كأنه لما علم بالتجربة وطول الصحبة أن إيمانهم كالمحال أو علم ذلك بالوحي اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره قائلاً ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليطبع الله على قلوبهم كما يقول الأب المشفق لولده إذا لم يقبل نصحه واستمر على غيه . سلمنا أن قوله : { ليضلوا } ليس دعاء عليهم لكن اللام فيه للعاقبة كقوله : « لدوا للموت » . سلمنا أن اللام للتعليل لكنهم جعلوا الله سبباً في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا . ولم لا يجوز أن يكون « لا » مقدرة أي لئلا يضلوا كقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } [ النساء : 176 ] أي أن لا تضلوا ، أو يكون حرف الاستفهام مقدراً في آتيت على سبيل التعجب .
أما قوله تعالى : { فلا يؤمنوا } فإما أن يكون معطوفاً على قوله : { ليضلوا } على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض ، وإما أن يكون جواباً لقوله { واشدد } ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفاً على { اشدد } . { قال قد أجيبت دعوتكما } أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن ، ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة ، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته { فاستقيما } فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة ، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا . قال ابن جريج : فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله { ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون } أن الاستعجال لا يفيد في اجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حين . { وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } قد مرت تلك القصة في أوائل سورة البقرة في قوله : { وإذ فرقنا بكم البحر } [ البقرة : 50 ] الآية ، ومعنى قوله : { فأتبعهم } لحقهم . يقال : تبعه حتى أتبعه ، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاثة مرات إحدها قوله : { آمنت } وثانيتها { أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } وثالثتها { وأنا من المسلمين } فلم تقبل توبتة . والجواب من وجوه : الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف . الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة . الثالث أن ذلك التوحيد كان مبنياً على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع ، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية . الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت ، وكانت هذه الكلمة سبباً لزيادة الكفر . الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما آمن إلا بالإله الموصوف بالجسمية والحلول والنزول . السادس لعل الإيمان إنما يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبنبوة موسى كما أنه لو قيل ألف مرة لاإله إلا الله لم يصح إيمان إلا إذا قرن به محمد رسول الله إلى الناس كافة . السابع يروى أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحر ، ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه . أما قوله { آلآن } فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل . وقيل : إنه قول الله سبحانه والتقدير : أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك .
وقوله : { وكنت من المفسدين } في مقابلة قوله : { وأنا من المسلمين } يروى أن جبريل أخذ يملأ فاه بالطين حين قال : { آمنت } لئلا يتوب غضباَ عليه ، والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى : { وتعاونوا } [ المائدة : 2 ] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح ، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر . وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان . ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منفياً لقوله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم : 64 ] { لا يسبقونه بالقول } [ الأنبياء : 27 ] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال : إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضباً لله على الكافر . قوله : { فاليوم ننجيك ببدنك } فيه أقوال منها : أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق . وقوله : { ببدنك } في موضع الحال أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن . قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور ، أو المراد ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير ، أو عرياناً لست إلا بدناً وفيه نوع تهكم كأنه قيل : ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال : نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت . وقيل : ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع . وقيل : ببدنك أي بدرعك . قال الليث : البدن الدرع القصير الكمين . عن ابن عباس قال : كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف ، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه السلام . وأما قوله : { لتكون لمن خلفك آية } فقيل : إن قوماً اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه . وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل : { لمن خلفك } وقيل : إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله : { أنا ربكم الأعلى } [ النازعات : 24 ] ليكون ذلك زجراً للعابرين عن مثل طريقته ، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل ، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه . وقيل : المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية ، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال { وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون } .
التأويل : { واتل عليهم نبأ نوح } الروح { إذ قال لقومه } وهم القلب والسمع والنفس وصفاتها { يا قوم إن كان } عظم { عليكم مقامي } في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة { فما سألتكم من أجر } من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله . و { جعلناهم خلائف } خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في « الأعراف » . وهكذا في قصة موسى { ولا يفلح الساحرون } لأن الفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي . { ويحق الله الحق } أي الذكر { بكلماته } وهي لا إله إلا الله { ولو كره } أهل الهوى والنفوس الأمارة { فما آمن لموسى } القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية { على خوف من فرعون } النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها . { وأوحينا إلى موسى } القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي . واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق . { وأقيموا الصلاة } أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية { ليضلوا عن سبيلك } ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك { ربنا اطمس على أموالهم } بمحقها وتحقيرها في نظرهم { واشدد } طريق النظر إلى الدنيا وما فيها { على قلوبهم } واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فقط { حتى يروا العذاب الأليم } فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها . { سبيل الذين لا يعلمون } طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره { وجاوزنا ببنى إسرائيل } هم القلب والسر وصفاتها . والبحر بحر الروحانية الملكوتية { فأتبعهم فرعون } النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك قهراً وقسراً ، حتى إذا هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل واستغرق موسى القلب وصفاته في لجي بحر الوصال ، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية ، أدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة ذلك الفريق : { آمنت } ومن أمارات أجنبية فرعون النفس من عالم الروح أنه لم يتمسك بحبل التوحيد والمعرفة بيد الصدق والاستقلال ، ولم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو وإنما تمسك بين الاضطراب والتقليد فقال : { لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل } { ننجيك ببدنك } أي نخلصك مع قالبك من بحر الضلالة لتكون دليلاً على كمال قدرتنا وعنايتنا . وإن من اتبع خواص عبادنا نجعله من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات والله حسبنا .
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
القراآت : { وأنا } مثل { أنشانا } و { نجعل } بالنون : يحيى وحماد . الآخرون بالياء التحتانية . { ثم ننجي } من الإنجاء : نصر وروح ويزيد . { ننجي المؤمنين } من الإنجاء أيضاً : علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل . الآخرون بالتشديد فيهما .
الوقوف : { الطيبات } ج للابتداء بالنفي مع الفاء { العلم } ط { يختلفون } ه { من قبلك } ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى { الممترين } ه لا للعطف { الخاسرين } ه { لا يؤمنون } ه لا لتعلق لو بما قبلها { الأليم } ه { يونس } ط { حين } ه { جميعاً } ط { مؤمنين } ه { بإذن الله } ط أي وهو يجعل { لا يعقلون } ه { والأرض } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار . { لا يؤمنون } ه { من قبلهم } ط { من المنتظرين } ه { كذلك } ج لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على { آمنوا } والتقدير ننجي المؤمنين إنجاء كذلك و { حقا علينا } اعتراض . { المؤمنين } ه { يتوفاكم } ج لاحتمال أن يراد وقد أمرت { المؤمنين } ه لا للعطف { حنيفاً } ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف { المشركين } ه { ولا يضرك } ج للابتداء بالشرط مع الفاء { الظالمين } ه { إلا هو } ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين { لفضله } ط { من عباده } ط { الرحيم } ه { من ربكم } ج { لنفسه } ج { عليها } ج للعطف مع النفي { بوكيل } ه ط { يحكم الله } ج لاحتمال العطف والاستئناف { الحاكمين } ه .
التفسير : لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال : { ولقد بوأنا } أي أسكناهم مسكن صدق أو إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدراً ، والعرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه فيكون المعنى منزلاً صالحاً مرضياً . والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة الأرزاق ومع ذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق والصامت { فما اختلفوا } في دنيهم وما تشعبوا فيه شعباً وكانوا على طريقة واحدة حتى قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب المتعددة ، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى هذا ذهب جم غفير من المفسرين . عن ابن عباس : هم قريظة والنضير وبنو قينقاع ، أنزلناهم منزل الصدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطباً وتمراً ليس في غيرها ، فبقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد صلى الله عليه وسلم فاختلفوا في نعته وصفته ، وآمن به قوم وبقي على الكفر آخرون .
وبالجملة فالله تعالى يقضي بين المحقين منهم والمبطلين في يوم الجزاء لأن دار التكليف ليست دار القضاء . ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما أنزل عليه بقوله : { فإن كنت في شك } والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد ، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته ، والشكيكة الفرقة من الناس ، والشكاك البيوت المصطفة . والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه ، والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم } [ الطلاق : 1 ] والدليل عليه قوله بعيد ذلك { قل يا أيها الناس إن كنتم في شك من ديني } ولأنه لو كان شاكاً في شأنه لكان غيره بالشك أولى . ويمكن أن يقال : الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً والقضية الشرطية لا إشعار فيها ألبتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه ، بل المراد استلزام الأول للثاني على تقدير وقوع الأول . وقد يكونان محالين كقول القائل : إن كانت الخمسة زوجاً كانت منقسمة بمتساويين . وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول الطمأنينة ، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك ، وفيه أن أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعة مثلك فضلاً عن غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا وصف الرسول بالشك ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم عند نزوله : لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق . وعن ابن عباس : لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم . وقيل : « إن » نافية أي فما كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقيناً . وقيل : الخطاب لكل سامع يتأتى منه الشك . ومن المسؤول منه قال المحققون : هم مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم . ومنهم من قال : الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض ، لأن تلك الآية لما بقيت مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائل . والظاهر أن المقصود من السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { مما أنزلنا إليك } وقيل : السؤال راجع إلى قوله : { فما اختلفوا حتى جاءهم العلم } . ثم إنه سبحانه لما بين الطريق المزيل للشك شهد بحقيته فقال : { لقد جاءك الحق من ربك } ثم إن فرق المكلفين بعد المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطباً في الظاهر لنبيه قائلاً { فلا تكونن من الممترين ولا تكونن } الآية .
والمراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية وانتفاء التكذيب ، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه . ثم لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عباداً قضى عليهم بالشقاء وعباداً ختم لهم بالحسنى فلا يتغيرون عن حالهم ألبتة . أما الأولون فأشار إليهم بقوله : { إن الذين حقت } الآية . وقد مر مثله في هذه السورة . وقالت المعتزلة : إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم ، لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد . وقالت الأشاعرة : كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر ، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مراراً كثيرة . وأما الآخرون فذلك قوله : { فلولا كانت } أي فهلا حصلت { قرية } واحدة { آمنت } تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معانية العذاب { فنفعها إيمانها } لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار { إلا قوم يونس } هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها . وقيل : إن « لولا » في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس . يروى أن يونس صلى الله عليه وسلم بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضباً كما سيجيء في سورة الأنبياء ، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة . وقيل : قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك ، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم ، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها ، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة . وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده . وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم : قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت ، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم . وعن الفضيل بن عياض قالوا : اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل ، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله . ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال : { ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً } قالت الأشاعرة : هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة لكنه ما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل .
وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر . وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف ، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام . ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال : { أفأنت تكره } فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه ، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده . فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان . وحمل الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله : { وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس } أي الكفر والفسق { على الذين لا يعقلون } وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان ، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه ، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر . واستدلت الأشاعرة بقوله : { وما كان لنفس } على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر . وإذا كان أصل الشرع - وهو الإيمان بإذن الله - فما ترتب عليه أولى . أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف . ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال : { قل انظروا ماذا في السموات والأرض } أي شيء فيهما من الآيات والعبر . ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال : { وما تغني } يحتمل أن تكون « ما » نافية أي لا تفيد هذه { الآيات والنذر } وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان . وأن تكون } استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال : { فهل ينتظرون } والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم ، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه { قل فانتظروا } وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله : { ثم ننجي رسلنا } الآية . قالت المعتزلة : { حقاً علينا } المراد به الوجوب والاستحقاق إذ لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين .
وقالت الأشاعرة : إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن العبد لا يستحق على خالقه شيئاً . ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة المشركين فقال : { قل يا أيها الناس } والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } وتخصيص هذا الوصف لأنه يدل على الخلق أوّلاً وعلى الإعادة ثانياً كما مر مراراً ، أو لأن الموت أشد الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع ، أو لأنه قد قدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال : أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي . وفي الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه . ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال : { وأمرت أن أكون } أي بأن أكون { من المؤمنين } ثم عطف عليه قوله : { وأن أقم وجهك } ولا تدع نظراً إلى المعنى كأنه قيل له : كن مؤمناً ثم أقم ولا تدع ، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم . قال في الكشاف : قد سوغ سيبويه أن يوصل « أن » بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم : أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر ، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال ، ومعنى { أقم وجهك } استقم إليه ولا تلتفت يميناً ولا شمالاً . و { حنيفاً } حال من { الدين } أو من الوجه . قال المحققون : الوجه ههنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظراً تاماً فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه . ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال : { ولا تكونن من المشركين ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت } أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، وكنى عنه بالفعل للاختصار . و « إذا » جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه . ثم صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال : { وإن يمسسك الله } الآية . وقد مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام . قال الواحدي : { وإن يردك بخير } من القلب وأصله وإن يرد بك الخير ، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر . وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض . ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره في الهداية والضلال فقال : { قل يا أيها الناس } الآية .
وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك ، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه كما مر في سورة الأنعام { قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه } [ الأنعام : 104 ] الآية . وقالت المعتزلة : المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة ، فمن اختار الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه ، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه . يروى عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه . ثم أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين . ولبعضهم في الصبر :
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمر من الصبر
التأويل : { ولقد بوأنا بني إسرائيل } يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر دون النفس لأنها من البنات لا من البنين { مبوأ صدق } منزلاً علياً في العالم النوراني { وزقناهم من الطيبات } من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستوٍ على عرش القلب ، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر ، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم : فمن قبلها صار مقبولا ، ومن ردها كان مردوداً . وبوجه آخر { مبوأ صدق } بين الأصبعين من أصابع الرحمن { فما اختلفوا } حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء { فإن كنت في شك } خلق الإنسان ضعيفاً ، فإذا انفتح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما يخادع به الأطفال فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصية { إنما أنا بشر مثلكم } [ الكهف : 110 ] يرتع في هذه الرياض وباختصاص { يوحي إلي } [ الكهف : 110 ] يسقى بكساسات المناولات من تلك الحياض . فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين ، فأدركته العناية الأزلية فأكرم بخطاب { لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن } بل كان هذا النهي نهي التكوين فما كان ممترياً ولهذا قال : والله لا أشك ولا أسأل . { إلا مثل أيام الذين خلوا } من أنه كل ميسر لما خلق له { قل فانتظروا } ظهور ما قدر لكم { ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم } بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفاً طاهراً عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم .
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
القراآت : { وإن تولوا } بإظهار النون وتشديد التاء : البزي وابن فليح { فإني أخاف } بفتح الياء ، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير . { عني إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابو عمرو .
الوقوف : { آلر } ق كوفي { خبير } 5 لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله { إلا الله } ط { وبشير } 5 لا للعطف { فضله } ج { كبير } 5 { مرجعكم } ج لاحتمال الحال والاستئناف { قدير } 5 { منه } ط { ثيابهم } لا بناء على أن عامل { حين } قوله : { يعلم } { يعلنون } ج { الصدور } 5 { ومستودعها } ط { مبين } 5 { عملاً } ط { مبين } 5 { ما يحبسه } ط { يستهزؤون } 5 { منه } ج لحذف جواب { لئن } أي لييأسن . وقيل : جوابها إنه والأول أوجه { كفور } 5 { عني } ط { فخور } لا للاستثناء { الصالحات } ط { كبير } 5 { ملك } ط { نذير } 5 { وكيل } ه ط « أم » استفهام تقريع { افتراه } ط { صادقين } 5 { إلا هو } ج ط للاستفهام مع الفاء . { مسلمون } 5 { يبخسون } 5 { إلا النار } ز بناء على أن « ليس » بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن « ليس » فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء . { يعملون } 5 { رحمة } ط { يؤمنون به } ط { موعده } ج لاختلاف الجملتين مع الفاء { لا يؤمنون } 5 { كذباً } ط { على ربهم } الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الاشهاد أو ابتداء إخبار . { الظالمين } 5 لا { عوجاً } ط { من أولياء } م لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء { العذاب } ط { يبصرون } 5 { يفرون } 5 { الأخسرون } 5 { إلى ربهم } لا لأن ما بعده خبر « إن » . { الجنة } ج { خالدون } 5 { والسميع } ط { مثلاً } ط { تذكرون } 5 .
التفسير : { آلر } إن كان اسماً للسورة فما بعده خبره ، وإن كان وارداً على سبيل التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله : { كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب . والإِشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن . ومعنى { أحكمت } نظمت نظماً رصيناً من غير نقض ونقص ، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيماً . أو منعت من الفساد والبطلان من قوله : أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح . أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع ، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير . { ثم فصلت } كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص ، لكل معنى من هذه المعاني من هذه المعاني فصل انفرد به . أو جعلت فصولاً سورة سورة وآية وآية ، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة ، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد .
ومعنى « ثم » التراخي في الحال كقولك : فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل . و { أحكمت } صفة كتاب . و { من لدن } صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها . وفي قوله : { حكيم خبير } لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور . احتج الجبائي بقوله : { أحكمت ثم فصلت } على كون القرآن محدثاً لأن الإحكام والتفصيل يكون بجعل جاعل ، وكذا بقوله : { من لدن } لأن القديم لا يصدر من القديم . وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي . وقوله : { ألا تعبدوا إلا الله } مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون « أن » مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل : ثم قيل للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم لا تعبدوا . وجوز في الكشاف أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عما قبله محكياً على لسان النبي صلى الله عليه وسلم يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال : ترك عبادة غير الله مثل { فضرب الرقاب } [ محمد : 4 ] والضمير في { منه } لله عز وجل حالاً من { نذير وبشير } أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد ، وبشير إن خصصتموه بذلك . ويجوز أن يكون { منه } صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه ، ويكون صلة بشير محذوفاً أي أبشركم بثوابه . ثم عطف على قوله : { أن لا تعبدوا } قوله : { وأن استغفروا } أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم . ن ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال : { ثم توبوا إليه } فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار ، وما كان آخراً في الحصول كان أولاً في الطلب ، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة . وقيل استغفروا أي توبوا ثم قال : { توبوا } أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها . وقيل : استغفرا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب . وقيل : استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة . وقيل : الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في إزالة ما لا ينبغي ، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس . ثم رتب على الامتثال أمرين : الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] . سؤال : كيف الجميع بين هذا وبين قوله تعالى : { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } { الزخرف : 33 ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم : « الدنيا سجن المؤمن » « البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء » ؟ وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان . والجواب الثاني أن الإِنسان إذا كان مشغولاً بطاعة الله مستغرقاً في نور معرفته وعبادته كان مبتهجاً في نفسه مسروراً في ذاته ، هيناً عليه ما فاته من اللذات العاجلة ، قانعاً بما يصيبه من الخيرات الزائلة .
الثاني قوله : { ويؤت } أي في الآخرة { كل ذي فضل فضله } أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات . وتسمية العمل الحسن فضلاً تشريف ويجوز أن يعود الضمير في { فضله } إلى الله تعالى . وفيه تنبيه على أن الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات . ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال : { وإن تولوا } أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإِخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة { فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير } هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضاً { ويذورن وراءهم يوماً ثقيلاً } [ الدهر : 27 ] . ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله : { إلى الله مرجعكم } أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه ، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله . وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر . وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة الاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزاً مشرفاً على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزناً . اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة . ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطناً كالتولي عنها ظاهراً فقال : { ألا إنهم يثنون } يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورَّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحاً .
قال المفسرون : وههنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون { ليستخفوا منه } أي من الله . ثم كرر كلمة { ألا } تنبيهاً على وقت استخفائهم وهو { حين يستغشون ثيابهم } أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب . قال الكلبي : ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا : إذا أغلقنا أبوابنا وأبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا . وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار . وقيل : إنه حقيقة ، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتلو من القرآن ، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن . ثم استأنف قوله : { يعلم ما يسرون وما يعلنون } تنبيهاً على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر . ثم أكد كونه عالماً بكل المعلومات بكونه كافلاً لأرزاق جميع الحيوانات ضامناً لمصالحها ومهامها فضلاً وامتناناً وكرماً وإحساناً فقال : { وما من دابة } الآية . والمستقر مكانها من الأرض ، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة . وقال الفراء : مستقرها حيث تأوي إليه ليلاً أو نهاراً ، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه . وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام .
واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر . ثم إنا نرى إنساناً لا يأكل من الحال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقاً . ثم ختم الآية بقوله : { كل في كتاب مبين } أي كل واحد من الدواب . ورزقها ومستقرها ومستودعها ثابت في علم الله أو في اللوح المحفوظ . وقد ذكرنا فائدته في قوله : { ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين } [ الأنعام : 59 ] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية ، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة ، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها ، فسمع الدودة تقول : سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني . ثم أكد دلائل قدرته بقوله : { وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } قال كعب الأحبار : خلق الله ياقوته خضراء ، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد ، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرض على الماء ، وقال أبو بكر الأصم : هذا كقولك : لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقاً بالآخر . وعلى هذا فيكون الآن أيضاً عرشاً على الماء . وقال في الكشاف : المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء ، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض ، وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبرا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثاً إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى . وقال أبو مسلم : العرش البناء أي الماء بناؤه للسموات كان على الماء . وقال حكماء الإسلام : المراد بالماء تحركه شبه سيلان الماء أي وكان عرشه يتحرك . وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير . أما قوله : { ليبلوكم } فالمعتزلة قالوا : اللام للتعليل ، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكفلين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه . والأشاعرة قالوا : إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلاً لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض . وإنما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك : انظر أيهم أحسن وجهاً واسمع أيهم أحسن كلاماً . قال في الكشاف : الذين هم أحسن عملاً هم المتقون . وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وارءهم من الفساق والكفار تشريفاً لهم . قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين .
ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله : { ولئن قلت } الآية . والإشارة في قوله : { إن هذا إلا سحر } إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث ، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من العبث . وقال القفال : معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا واجتذابهم إلى الانقياد لكم الدخول تحت طاعتكم . ومن قرأ { ساحر } فالإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم : ثم بين أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال : { ولئن أخرنا عنهم } الآية : والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد والمراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود . وقيل : هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك : كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين . فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس . وقال في الكشاف . أي جماعة من الأوقات . والعذاب عذاب الآخرة . وقيل : عذاب يوم بدر . عن ابن عباس : قتل جبريل المستهزئين . ومعنى { ما يحبسه } أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالاً له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله : { أَلا يوم يأتيهم } وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفاً عنهم يوم يأتيهم . واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع . ثم قال : { وحاق بهم } أي أحاط بهم { ما كانوا به يستهزؤون } أراد يستعجلون ولكنه وضع { يستهزؤون } موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء . وإنما قال : { وحاق } بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع . ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال : { ولئن أذقنا الإنسان } الآية . واختلف المفسرون فقيل : الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله : { إلا الذين آمنوا } ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات . وقيل : المراد الكافر ، والاستثناء منقطع واللام للعهد . وقد مر ذكر الكافر ، ، ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر ، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية ، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد ، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الله بل يكفره ، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذهوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد . وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير . أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم ، وفيه دليل على أن الإنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عليه ، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين .
والرحمة والنعمة من صحة أو أمن أو جدة ، ونزعها سلبها . واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة ، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه ، والضراء مضرة كذلك . قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء . والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله : { فلعلك تارك } قال ابن عباس : إن رؤساء مكة قالوا : إن كنت رسولاً فاجعل لنا جبال مكة ذهباً أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك } واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له : ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك . وقال الحسن : طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يترك قوله : { إن الساعة آتية } [ طه : 15 ] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إليه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة ، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب بعدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها ، أو لعله صلى الله عليه وسلم بين محذورين : أحدهما ترك أداء شيء من الوحي ، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء ، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما ، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره : لعلك تفعل كذا أي لا تفعل . وإنما قال : { وضائق } ولم يقل وضيق { به صدرك } دلالة على أنه ضيق حادث لأنه صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً . ومعنى { أن يقولوا } مخافة أن يقولوا : { لولا أنزل } أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه . ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها الى إنزال المقترحات ، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء ، ومن كمال قدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله : { أم يقولون } الآية . وقد مر مثله في سورة يونس . عن ابن عباس : السور العشر هي من أول القرآن إلى ههنا . واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السورة المتقدمة عليها مدنية ، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد . فالأولى أن يقال : إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه . تحداهم أوّلاً بمجموع القرآن في قوله : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } [ الإسراء : 88 ] الآية . وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود ، ثم بسورة في يونس وفي البقرة ، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه : اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال : اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب ، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر : قد اقتصرت منك على سطر واحد مثله ، ثم إذا أراد غاية المبالغة قال : قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال الانفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال : { فإن لم يستجيبوا } إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان { لكم } أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم ، أو الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم { فاعلموا أنما أنزل بعلم الله } أي ملتبساً بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة الغائبة .
ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة . ثم ختم الآية بقوله : { فهل أنتم مسلمون } وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد صلى الله عليه وسلم وازددتم بصيرة وطمأنينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة . وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في { لم يستجيبوا } لمن في { من استطعتم } والخطاب في { لكم } للمشركين ، وكذا في قوله : { فاعلموا } وفي { أنتم } والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب . ثم رغبهم في أصل الإِسلام وهددهم على تركه بقوله : { فهل أنتم } بعد لزوم الحجة { مسلمون } ثم أوعد من كانت همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلاً عن الدين جهلاً أو عناداً فقال : { من كان يريد } الآية . عن أنس أنهم اليهود والنصارى . وقيل : المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان صلى الله عليه وسلم يسهم لهم فيها . وقال الأصم : هم منكرو البعث . وقال آخرون : هي عامة في الكافر والمسلم المرائي . وقال القاضي : المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم ، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات المنافع . عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له : ما عملت فيه؟ فيقول : يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار . فيقول الله : كذبت أردت أن يقال فلان قارىء . وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه؟ فيقول : وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله : كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك . ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول : قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى : كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء . قال أبو هريرة : ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال : يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة »
وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال : صدق الله ورسوله : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } الآيتان . ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتاً بيناً فقال : { أفمن كان } والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عند الله ولا يقاربونهم؟ نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول : الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولاً ثم الجهال . ويمكن أن يقال : التقدير أفمن كان { على بينة من ربه } كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله { أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً } [ فاطر : 35 ] { أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } [ الزمر : 9 ] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة : الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو؟ الثاني ما المراد بالبينة؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو؟ الرابع الشاهد من هو؟ وللمفسرين فيها أقوال : أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق ، والذي هو على البينة مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه ، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة . بتأويل البيان والبرهان ، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله : { أم يقولون افتراه } ، { ومن قبله كتاب موسى } أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها { إماماً } أو أعني إماماً كتاباً مؤتماً به في الدين قدوة فيه { ورحمة } ونعمة عظيمة على المنزل إليهم . والحاصل أن المعارف اليقينية المكتسبة إما أن يكون طريق اكتسابها بالحجة والبرهان ، وإما أن يكون بالوحي والإلهام ، وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق . ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق ، ثم إنه حصل على تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعاً : البينة . وهي الدلائل العقلية اليقينية ، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي ، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به ، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب .
وقيل : أفمن كان محمد صلى الله عليه وسلم ، والبينة القرآن ، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه ، أو شاهد هو بعض محمد يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أو يتلوه أي يعقب ذلك البرهان شاهد من النبي صلى الله عليه وسلم هو صورته ومخايله ، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولاكاهن . وقيل : الكائن على البينة هم المؤمنون ، والبينة القرآن ، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد صلى الله عليه وسلم أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجداً قبله ، أو ذلك الشاهد كونه القرآن واقعاً على وجه يعرف المتأمل فيه إعجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم : ثم مدح الكائن على البينة بقوله : { أولئك يؤمنون به } أي بالقرآن . ثم أوعد غيرهم بقوله : { ومن يكفر به من الأحزاب } يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس { فالنار موعده فلا تك في مرية } في شك { منه } من القرآن أو من الموعد ، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله : { من كان يريد الحياة الدنيا } ومن إنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوله : { أفمن كان على بينة } أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال ، { ومن أظلم } . ثم قال : { أولئك يعرضون } لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام ، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف . أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد . ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب . والسؤال أو المراد عرضهم على من يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين ، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب . قال مجاهد : الأشهاد الملائكة الحفظة . وقال قتادة : هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس . وقيل : هم الأنبياء لقوله : { ولنسألن المرسلين } [ الأعراف : 6 ] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب ، أو جمع شهيد كشريف وأشراف . قال أبو علي : وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن { ويكون الرسول عليكم شهيداً } [ البقرة : 143 ] { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً } [ النساء : 41 ] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضحية . وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في « الأعراف » . { أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض } أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي . { وما كان لهم من دون الله من أولياء } تنصرهم وتمنعهم من عقابه .
جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة . وقيل : هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم { يضاعف لهم العذاب } من قبل الكفر والصد أي الضلال والإِضلال . { ما كانوا يستطيعون السمع } يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب وعمى البصائر . ثم إن الأشاعرة قالوا : إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق ، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال : إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله : { ما كانوا يستطيعون } الآية . وفي الآخرة كما قال : { يدعون إلى السجود فلا يستطيعون } [ القلم : 42 ] . وقالت المعتزلة : المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل : هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه ، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره . والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال : الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء . ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يمسعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية؟ وعلى هذا يكون قوله : { يضاعف لهم العذاب } اعتراضاً بوعيد . واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة . الأولى { ومن أظلم ممن افترى } الثانية { أولئك يعرضون } أي في موقف الذل والهوان . الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله : { ويقول الأشهاد } الرابعة اللعنة عليهم . الخامسة الصد عن سبيل الله . السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله : { ويبغونها عوجاً } السابعة كونهم كافرين بالآخرة . الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار { أولئك لم يكونوا } . التاسعة { وما كان لهم من دون الله من أولياء } . العاشرة مضاعفة العذاب لهم . الحادية عشرة والثانية عشرة { ما كانوا يستطيعون } الآية . الثالثة عشرة { أولئك الذين خسروا أنفسهم } وقد مر في « الأنعام » . الرابعة عشرة { وضل عنهم ما كانوا يفترون } وقد سبق في « يونس » . الخامسة عشرة { لا جرم } قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقاً . وقال النحويون : « لا » حرف نفي وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع { أنهم في الآخرة هم الأخسرون } وقال الزجاج « لا » نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و « جرم » معناه كسب ، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين . قال الأزهري : وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين { وأخبتوا إلى ربهم } معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأرض المطمئنة ، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله . وقيل : المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده .
وقيل : المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال . ثم ضرب للفريقين مثلاً وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع ، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع . ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة ، وأما الفريق المؤمن فقيل : المراد به قوله : { أفمن كان على بينة } وقيل : المذكرون في قوله : { إن الذين آمنوا } ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله { هل يستويان مثلاً } أي تشبيهاً . وفي قوله : { أفلا تذكرون } تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه .
التأويل : { آلر } إشارة إلى الله ، واللام الى جبرائيل ، والراء إلى الرسول . يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله : { وعلمناه من لدنا } [ الكهف : 65 ] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد { أن لا تعبدوا إلا الله وأن استغفروا ربكم } مما ضاع من عمركم في غير طلب الله { ثم توبوا } ارجعوا { إليه } بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار . { يمتعكم متاعاً حسناً } هو الترقي في المقامات العلية { إلى أجل مسمى } هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول { ويؤت كل ذي فضل فضله } أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول ، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات . والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله . { عذاب يوم كبير } هو عذاب الانقطاع عن الله الكبير { ألا حين يستغشون } ثياب الجسمية على وجه الروح كان { يعلم ما يسرون } من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب { وما يعلنون } من ثني الصدور { إنه عليم بذات الصدور } أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية . { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائماً لمزاجه . فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقاً لمزاج كل منها ، ثم يهديها إلى ما هو أوفق لها { ويعلم مستقرها } في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها { ومستودعها } الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل . { ليبلوكم } فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقاء . { ولئن قلت } للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية { ليقولن الذين كفروا } ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية { إن هذا إلا سحر مبين } أي كلام مموه لا أصل له . { ولئن أخرنا عنهم } عذاب البعد { إلى أمة } إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
القراآت : { إني لكم } بكسر الهمزة : نافع وابن عامر وعاصم وحمزة . والآخرون بفتحها { بادىء } بالهمزة : أبو عمرو ونصير . { الرأي } بالياء : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف { فعميت } مجهولاً مشدداً . حمزة وعلي وخلف وحفص . الباقون بضدهما { أنلزمكموها } باختلاس ضمة الميم : عباس { أجري إلا } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص { ولكني أريكم } بالفتح حيث كان : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { نصحي إن } أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { بأعيننا } مدغماً . حيث كان : عباس { من كل } بالتنوين حيث كان : حفص والمفضل { مجريها } بفتح الميم بالإِمالة : حمزة وعلي وخلف وحفص { مجريها } بالضم وبالإمالة : أبو عمرو . والباقون بالضم مفخماً . { يا بني } بفتح الياء : عاصم { اركب معنا } مظهراً : عاصم وحمزة { عمل } على أنه فعل غير بالنصب : علي وسهل ويعقوب . الآخرون { عمل } غير بالرفع فيهما { تسألن } بالنون المشددة المسكورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في الحالين : ابن عامر وقالون : بإثبات الياء في الوصل : أبو جعفر ونافع غير قالون بفتح النون المشددة : ابن كثير { تسألني } بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير ياء في الحالين { إني أعظك } { إني أعوذ } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو .
الوقوف : { مبين } 5 لا { إلا الله } ط { أليم } 5 { الرأي } ج { كاذبين } 5 { فعيمت عليكم } ط { كارهون } 5 { مالاً } ط { آمنوا } ط { تجهلون } 5 { طردتهم } ط { تذكرون } 5 { خيراً } ط { أنفسهم } ج { الظالمين } 5 { الصادقين } 5 { بمعجزين } 5 { أن يغويكم } ط { ترجعون } 5 ط { افتراه } ط { تجرمون } 5 { يفعلون } 5 ج للآية والعطف { ظلموا } ج لا حتمال التعليل . { مغرقون } 5 { سخروا منه } 5 { تسخرون } 5 ط { تعلمون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { مقيم } 5 { التنور } 5 لا لأن ما بعده جواب « إذا » { ومن آمن } ط { قليل } 5 ط { ومرساها } ط { رحيم } 5 { الكافرين } 5 { من الماء } ط ، { رحم } ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل . { المغرقين } 5 { الظالمين } 5 . { الحاكمين } 5 { من أهلك } ج { علم } ط { الجاهلين } 5 { علم } ط { الخاسرين } 5 { معك } ط { أليم } 5 { إليك } ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف { هذا } ط وعلى قوله : { فاصبر } أحسن للابتداء ب « أن » { للمتقين } 5 . التفسير : لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح . ومعنى { إني لكم } أي متلبساً بهذا الكلام وهو قوله : { إني لكم } فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول . و { أن لا تعبدوا } بدل من { إني لكم نذير } أي أرسلناه بأن لا تعبدوا { إلا الله } أو يكون « أن » مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير .
ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازاً . وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار . ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات . الأولى أنه بشر مثلهم . الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا : لو كنت صادقاً لاتبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم . والأراذل جمع أرذل . وقيل : جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته . ومعنى { بادي الرأي } أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية ، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر ، ومنه البادية للبرية لظهروها وبروزها للناظر . وهذا تفسير من قرأ بغير همز . وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه ، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . ويجوز أن يتعلق { بادي الرأي } بقوله : { أراذلنا } أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عياناً ، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ { إلا الذين هم أراذلنا رأي العين } وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه ، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعناً في النبوة وفي متابعة النبي . الشبهة الثالثة : { وما نرى لكم علينا من فضل } لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل { بل نظنكم كاذبين } خطاب لنوح ولمن آمن به بتبعيته ، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان . ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله : { أرأيتم إن كنت على بينة } برهان { من ربي وآتاني } بإيتاء تلك البينة { رحمة } وعلى هذا البينة هي الرحمة ، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس { فعيمت } خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم . والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازاً باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيراً اهتدوا وإن كان أعمى بقول خابطين متحيرين . ثم قال : { أنلزمكموها } أي أنكرهكم على قبول البينة { وأنتم لها كارهون } والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك . وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق . ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالاً حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنياً أو فقيراً { وما أنا بطارد الذين آمنوا } عن ابن جريج أنهم قالوا : إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم ، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله { إنهم ملاقو ربهم } فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم ، أو المراد أنهم متقدون لقاء ربهم { ولكني أراكم قوماً تجهلون } لقاء ربكم وأنهم خير منكم ، أو قوماً تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذل .
ثم أكد عدم طردهم بقوله : { ويا قوم من ينصرني من الله } من يمنعني من عقابه { إن طردتهم } لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية . سؤال : إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهي عنه بقوله : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم } ؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طرداً مطلقاً وإنما عين لأجلهم أوقاتاً مخصوصة ، ولأشراف قريش أوقاتاً أخرى فعوتب على ذلك القدر . احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى ، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه . وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو . ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالاً فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلاً عليهم من هذه الجهة . { ولا أعلم الغيب } حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر { ولا أقول إني ملك } أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في « الأنعام » سائر ما يتعلق بالآية . ومعنى { تزدري } تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه . وفي قوله تعالى { الله أعلم بما في أنفسهم } دلالة على أنهم كانوا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة الى النفاق { إني إذا } أي إن قلت شيئاً من ذلك كنت من الظالمين لنفسي . أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيراً مع أنه لا وقوف لي على باطنهم . ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين { يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا } قال أهل المعاني : أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقوله : جاد لي فلان فأكثر . لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف . وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء . ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجاب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد . وقوله : { ولا ينفعكم نصحي } كقول القائل لامرأته : أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز .
ولهذا قال الفقهاء : المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل : { إن كان الله يريد أن يغويكم } فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي . واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر . وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه ، ولعل نوحاً إنا قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة ، ولو تشبث الخصم بالجبر لزم إفحام النبي . ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك ، أو يراد به الخيبة كقوله : { فسوف يلقون غياً } [ مريم : 59 ] أي خيبة من خير الآخرة ، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مراراً . ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله : { هو ربكم وإليه ترجعون } ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال : { أم يقولون افتراه } فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله : { قل إن افتريته فعليّ إجرامي } أي عقاب إثمي وهو الافتراء . { وأنا بريء مما تجرمون } أي من إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وههنا إضمار كأنه قيل : لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه . وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح . وعن مقاتل أنها من قصة محمد صلى الله عليه وسلم وقعت في أثناء قصة نوح .
قوله سبحانه : { وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن } إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله : { إلا من قد آمن } فإن « قد » للتوقع . وقوله : { فلا تبتئس } تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم . قال أكثر المعتزلة : إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أو في أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] إلى قوله : { إلا فاجراً كفاراً } [ نوح : 27 ] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك . وذهب كثير منهم إلى الجواز ، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح . ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء . ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال : { واصنع الفلك } وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك ، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . وقيل : أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه داراً يسكنها . والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته . وقوله : { بأعيننا ووحينا } في موضع الحال أي متلبساً بذلك .
والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين : أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله : { بأعيننا } وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة . والثاني أن يكون عالماً بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها . عن ابن عباس : لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر . وقيل : المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة . ثم قال : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } أي في شأنهم . وقيل : علل عدم الخطاب بقوله : { إنهم مغرقون } أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة . وقيل : لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل . وقيل : المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه . ثم حكى الحال الماضية بقوله : { ويصنع الفلك } الحال أنه { كلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه } يحتمل أن يكون هذا جواباً ل « كلما » وقوله : { قال إن تسخروا } استئناف على تقدير سؤال سائل كأنه قيل : ماذا قال حينئذٍ؟ ويحتمل أن يكون { سخروا } بدلاً من { مر } أو صفة ل { ملأ } و { قال } جواب { قيل } كانوا يقولون : يا نوح كنت نبياً فصرت نجاراً ، ولو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق . وقيل : إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون . وقيل : إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون . وقيل : طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذباً فيسخرون منه فأجابهم بقوله : { إن تسخروا منا } في الحال { فإنا نسخر منكم } في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة . أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله ، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر . والبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الأغمار . وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] ثم هددهم بقوله : { فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه } من الدنيا وهو عذاب الغرق { ويحل عليه عذاب مقيم } في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم . و « من » موصولة أو استفهامية وقد مر في « الأنعام » . روي أن نوحاً عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعاً وارتفاعها ثلاثين . وكانت من خشب الساج ، وجعل لها ثلاثة بطون : الأسفل للوحوش والسباع والهوام ، والأوسط للدواب والأنعام ، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزد وحمل معه جسد آدم .
وقال الحسن : كان طولها ألفاً ومائتي ذراع وعرضها ستمائة .
قوله : { حتى إذا جاء أمرنا } هي غاية لقوله : { ويصنع الفلك } أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك . { وفار التنور } أي نبع الماء من بشدة وسرعة تشبيهاً بغليان القدر . والتنور هي التي يختبز فيها فقيل : هو ما استوى فيه العربي والعجمي . وقيل : معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء . عن ابن عباس والحسن ومجاهد : هو تنور نوح . وقيل : كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي . وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبياً . وقيل : بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل . وقيل : بالهند . روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان . ويروى عن علي رضي الله عنه أيضاً أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله : { وفجرنا الأرض عيوناً } [ القمر : 12 ] وعنه أيضاً كرم الله وجهه أن معنى { فار التنور } طلع الصبح . وقيل : معناه اشتد الأمر كما يقال حمي الوطيس . والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله { قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين } والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكراً والآخر أنثى . فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين ، ومن قرأ بالتنوين . فالمراد حمل من كل شيء زوجين . واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلاً فيه لاحتياج الناس إليه { وأهلك } معطوف على مفعول { احمل } وكذا { من آمن } وقوله { إلا من سبق عليه القول } قال الضحاك : أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذا علم منهما ذلك . ثم قال { وما آمن معه إلا قليل } أي نفر قليل : عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحة الموصل لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها . وقيل : اثنان وسبعون رجلاً وامرأة ، وأولاد نوح : سام وحام ويافث ونساؤهم . فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء . وعن محمد بن إسحق كانوا عشرة ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثمانية ، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم . وقيل في بعض الروايات : إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه .
قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله { وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرسيها } الآية . فيه أبحاث الأول : أن الركوب متعد بنفسه يقال : ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها . فما الفائدة في زيادة لفظة « في »؟ قال الواحدي : فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره .
الثاني قوله : { بسم الله } إما أن تتعلق بقوله : { اركبوا } حالاً من الواو أي مسمين الله ، أو قائلين باسم الله { ومجريها ومرسيها } مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم : جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج ، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانها . وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل ، أو بالقول المقدر . وعلى التقادير يكون مجموع قوله : { وقال اركبوا } إلى قوله : { ومرساها } كلاماً واحداً . وإما أن يكون { باسم الله مجريها ومرساها } كلاماً آخر من مبتدإ وخبر أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها . يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست . ويجوز أن يقحم الاسم كقوله : تم اسم السلام عليكما ، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها ، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلاً ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته . وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم لله تعالى . يقال : رسا الشيء يرسو إذا ثبت ، وأرساه غيره . يروى أنها سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم . ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعاً فأعقتها الله من الغرق . البحث الثالث قوله : { إن ربي لغفور رحيم } كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم ، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته . وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذ ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل بلسان الحال بسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان ، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام .
قال في الكشاف : { وهي تجري بهم } متصل بمحذوف كأنه قيل : فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها { في موج كالجبال } في التراكم والارتفاع ، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج . واختلف المفسرون في قوله : { ونادى نوح ابنه } فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة الى المجاز من غير ضرورة ، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافراً كعكسه . واعترض عل هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال : { رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } [ نوح : 26 ] وأجيب بأنه كان منافقاً وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله : { ولا تكن مع الكافرين } أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء .
وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه قرأ { ونادى نوح ابنها } ويؤكد هذا الظن قوله : { إن ابني من أهلي } دون أن يقول « إنه مني » وقيل : إنه ولد على فراشه لغير رشده وإليه الإشارة بقوله تعالى { فخانتاهما } [ التحريم : 10 ] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله : { الخبيثات للخبيثين } [ النور : 26 ] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوجي مجنون . وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه . وقوله : { وكان في معزل } هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها ، أو كان في معزل عن دين أبيه . وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة ، ولكن قوله : { ولا تكن مع الكافرين } لا يساعد هذا القول . وقوله { يا بني } بكسر الياء لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة ، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء ، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين . ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال { سآوي إلى جبل } فأجاب نوح بأنه { لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم } واعترض عليه بأن معنى { من رحم } من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن « من » فاعلة في المعنى لا مفعول ، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام ، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله : { إن ربي لغفور رحيم } وهو عاصم لا معصوم ، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم ، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر . وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة ، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل : ولكن من رحمه الله فهو المعصوم { وحال بينهما الموج } أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى .
وقوله سبحانه : { وقيل يأرض } الآية . مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد ههنا بعض ما استفدنا منهم فنقول : النظر فيها من أربع جهات : من جهة علم البيان ، ومن جهة علم المعاني ، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية . أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها . فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد ، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع ، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض ، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي ، وأن تستوي السفينة على الجودي - وهو جبل بقرب الموصل - فاستوت ، وأبقينا الظلمة غرقى ، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه - لكمال هيبته - العصيان ، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويراً لاقتداره ، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته وإعداماً وتغييراً وتصريفاً كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علماً يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما ، فاستعمل { قيل } بدل « أريد » مجازاً إطلاقاً للمسبب على السبب ، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته .
وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله : { يا أرض ابلعي ماءَك ويا سماء } والخطابان أيضاً على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين . وأيضاً استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ . ووجعل قرينة الاستعارة نسبه الفعل إلى المفعول ، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضاً استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام ، وجعل قرينة الاستعارة لفظة { ابلعي } لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء . ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحاً لاستعارة النداء إذ كونه مخاطباً من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال { ماءك } بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيهاً لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك . واختار ضمير الخطاب دون أن يقول « ليبلع ماؤها » لأجل الترشيح المذكور . ثم اختار مستعيراً لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في { ابلعي } من ترشيح استعارة النداء . ثم قال { وغيض الماء } غاض الماء قل ونضب ، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى { وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً } فلم يصرح بالفاعل سلوكاً لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره ، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية ، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيام الطوفان .
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها ، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها ، فذلك أنه اختير « يا » للنداء لأنها أكثر استعمالاً ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة ، ولهذا لم يقل « يا أرضي » بالإضافة تهاوناً بالمنادى ، ولم يقل « يا أيتها الأرض » للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه .
واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة ، واختير { ابلعي } على { ابتلعي } لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين { أقلعي } أوفر . وقيل : { ماءك } بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار ، وكذا في إفراد الأرض والسماء . ولم يحذف مفعول { ابلعي } لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض . ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من { أقلعي } حذراً من التطويل . وإنما لم يقل « ابلعي ماءك فبلعت » لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم . واختير { غيض } على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان ، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل ، ولأن { استوت } أخصر لسقوط همزة الوصل . ثم قيل : { بعداً للقوم } دون أن يقال « ليبعد القوم من بعد » بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك ، للتأكيد مع الاختصار ودلالة « لام » الملك على أن البعد حق لهم . وقول القائل « بعداً له » من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها . ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم . وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي ، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله : { وفار التنور } ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله : { وغيض الماء } ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله { وقضي الأمر } أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين . ثم بين حال استقرار السفينة بقوله : { واستوت على الجودي } وكان جبلاً منخفضاً فكان استواء السفينة عليه دليلاً على انقطاع مادة الماء . ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض . قيل : كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل ، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة . وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين . وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات . والظاهر أن القائل في قوله : { وقيل بعداً } هو الله تعالى لتناسب صدر الآية ، ويحتمل أن يكون القائل نوحاً وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام ، ولأنه جارٍ مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق .
وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف ، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه . وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي كالعسل في الحلاوة ، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات ، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه . { ونادى نوح ربه } أي أراد أن يدعوه { فقال رب إن ابني من أهلي } بعض سواء كان من صلبه أو رببياً له { وإن وعدك } أي كل ما تعد به { الحق } الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي { وأنت أحكم الحاكمين } أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل ، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع . { قال يا نوح إنه ليس من أهلك } أي من أهلك دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك . ثم صرح بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال : { إنه عمل غير صالح } من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملاً غير صالح وهو الإشراك والتكذيب ، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال : فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله : { غير صالح } دون أن يقول « فاسد » تعريض بل تصريح بأنه إنما نجا من نجا بالصلاح ، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في { إنه } إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح . وقيل : المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه . ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله : { فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين } قال المحققون : الظاهر أن ابنه كان منافقاً فلذلك اشتبه أمره على نوح ، وحمله شفقة الأبوة أوّلاً على دعوته إلى ركوب السفينة ، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق ، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمناً فإنه يخلص من الغرق لا محالة . ولما لم يصبر إلى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلاً { رب إني أعوذ بك أن أسألك } فيما يستقبل من الزمان { ما ليس لي به علم } تأدباً بآدابك واتعاظاً بعظتك . { وألا تغفر لي } ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد ، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر ، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله :
{ ربنا ظلمنا } [ الأعراف : 23 ] الآية . فلذلك عفى عنه .
{ وقيل يا نوح اهبط } أي من السفينة بعد استوائها على الجبل ، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبساً { بسلام منا } بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات ، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفاً من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات . وقيل : أي مسلماً عليك مكرماً . والبركات الخيرات النامية الثابتة ، وفسروها في هذا المقام بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو ذريته ، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته ، دليله قوله سبحانه { وجعلنا ذريته هم الباقين } [ الصافات : 77 ] فنوح آدم الأصغر . وقيل : لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايذ والثبات لا عليك وحدك بل { وعلى أمم ممن معك } إن كان « من » للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات ، أو هم أصل الأمم التي انشعبت منه . وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر . وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال : { وأمم } وهو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم { سنمتعهم } في الدنيا { ثم يمسهم } في الآخرة { منا عذاب أليم } عن ابن زيد : هبطوا والله عنهم راض ، ثم أخرج منهم نسلاً منهم من رحم ومنهم من عذب ، وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب و { تلك } إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار . وقوله { ولا قومك } للمبالغة كقول القائل : لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك . والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى . ومعنى { من قبل هذا } أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي ، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتاً للنبي صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله : { فاصبر } كما صبر نوح و { إن العاقبة } الحميدة { للمتقين } .
التأويل : { ما نراك إلا بشراً مثلنا } أي مخلوقاً محتاجاً مثلنا . وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفلياً فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة ، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون { إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي } والأراذل من اتباع الروح البدن والجوارح الظاهرة ، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأفعال الشرعية ، ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق .
{ وما أنا بطارد الذين آمنوا } من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح : إن ترد أن أومن بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف { من ينصرني من الله } من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة ، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون : إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة . { أفلا تذكرون } أن جميعة الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع ، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع { لن يؤتيهم الله خيراً } أي استعداداً لتحصيل الدرجات العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال { وأنا بريء مما تجرمون } من التكذيب . وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئاً من ذنوب النفس متأسفاً على معاملات النفس وتتبع هواها . { وأوحي إلى نوح } الروح { أنه لن يؤمن من قومك } وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه { إلا من قد آمن } من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه . فأما النفس فإنها لا تؤمن أبداً اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحياناً دون الإيمان { فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهباً مقبولاً عند طرح الروح عليها ، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيراً عند طرح التوبة عليها { أولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات } ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم ، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم { واصنع الفلك } اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها { ولا تخاطبني في الذين ظلموا } فإن الظلم من شيم النفوس { إنهم مغرقون } في بحر الدنيا وشهواتها . { وكلما مر عليه ملأ } هم النفس وهواها وصفاتها { يسخرون } من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها { حتى إذا جاء أمرنا } وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة { وفار } ماء الشهوة من تنور القالب { قلنا احمل } في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها : كالشهوة وزوجها العفة . والحرص وزوجها القناعة ، والبخل وزوجها السخاء ، والغضب وزوجه الحلم ، وكذا الحقد مع السلامة ، والعداوة مع المحبة ، والكبر مع التواضع ، والتأني مع العجلة { وأهلك } وهم صفات الروح لا النفس { ومن آمن } وهم القلب والسر . وفي قوله تعالى : { وقال اركبوا فيها باسم الله } إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتلقيد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقية كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله :
{ وأن إلى ربك المنتهى } [ النجم : 42 ] { في موج } من الفتن { كالجبال ونادى نوح } الروح { ابنه } كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب { وكان في معزل } من معرفة الله وطلبه { سآوي إلى جبل } العقل { يعصمني من الماء } الفتن { لا عاصم اليوم } أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة { ابلعي } ماء شهواتك { اقلعي } عن إنزال مطر الآفات { وغيض } ماء الفتن ببركة الشرع { وقضي الأمر } ما كان مقدراً من طوفان الفتن للابتلاء والتربية ، { واستوت } سفينة الشريعة { على الجودي } وهو مقام التمكين بعد مقامات التلوين { وإن وعدك الحق } وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من الرجوع إلى العالم العلوي : { إنه ليس من أهلك } وكان للروح أربعة بنين : ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل ، وواحد كافر وهو النفس . فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية { اهبط } من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن { وأمم سنمتعهم } هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية { ثم يمسهم } في الآخرة عذاب البعد عن المألوفات ، { فاصبر } على تربية الروح و النفس { إن العاقبة } لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى .
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
القراآت : { فطرني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي { إني أشهد } بالفتح : أبو جعفر ونافع . { فإن تولوا } بتشديد التاء : البزي وابن فليح . { ويستخلف } بالجزم : الخزاز عن هبيرة . الباقون بالرفع { يومئذ } بفتح الميم وكذلك في « المعارج » : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس . الآخرون بالجر . { ألا ان ثمود } غير منصرف والوقف بغير الألف : حمزة وحفص وسهل ويعقوب . الباقون بالتنوين والوقف بالألف . { لثمود } بالتنوين في الوصل : علي . الوقوف : { هوداً } ط { غيره } ط { مفترون } 5 { أجراً } ط { فطرني } ط { تعقلون } 5 { مجرمين } 5 { بمؤمنين } 5 { بسوء } ط { تشركون } 5 لا { لا تنظرون } 5 { وربكم } ط { بناصيتها } ط { مستقيم } 5 { به إليكم } ط للاستئناف إلا لمن قرأ { ويستخلف } بالجزم { غيركم } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { شيئاً } ط { حفيظ } 5 { منا } ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم { غليظ } 5 ط { عنيد } 5 { ويوم القيامة } ط { ربهم } ط { هود } 5 { صالحاً } م لما مر في « الأعراف » . { غيره } ط { إليه } ط { مجيب } 5 { مريب } 5 { تخسير } 5 { قريب } 5 { أيام } ط { مكذوب } ط { يومئذٍ } ط { العزيز } 5 { جاثمين } 5 لا لكاف التشبيه { فيها } ط { ربهم } ط { لثمود } 5 .
التفسير : قد مر في « الأعراف » تفسير قوله : { وإلى عاد } الآية . ومعنى قوله : { إن أنتم إلا مفترون } أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور . ثم قال مثل قول نوح { يا قوم لا أسألكم عليه أجراً } لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع { أفلا تعقلون } أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء . قيل : إنما قال في قصة نوح { مالاً } دون { أجراً } لذكر الخزائن بعده ، فلفظ المال بها أليق . وحذف الواو من { يا قوم } لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف . { ويا قو م استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } قد مر مثله في أول السورة . وقال الأصم : المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله . ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإِيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصاً على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة ، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية ، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم ، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم .
وقيل : المراد بالقوة الزيادة في المال . وقيل في النكاح . وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحيا الله بلادهم ورزقهم المال والولد . والمدرار الكثير الدر كما مر في أول « الأنعام » . عن الحسن بن علي رضي الله عه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال : إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال : عليك بالاستغفار . فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال : هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال : ألم تسمع قول هود { ويزدكم قوة إلى قوتكم } وقول نوح { ويمددكم بأموال وبنين } [ نوح : 12 ] ثم قول هود { لا تتولوا } أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه { مجرمين } مصرين على الإِجرام والآثام . فجحدوا هوداً وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم { لولا أنزل عليه آية من ربه } [ الرعد : 27 ] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا : إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوانٍ آية من الآيات . وقوله : { عن قولك } حال من الضمير كأنه قيل : وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك { وما نحن لك بمؤمنين } لا يصدق مثلنا مثلك أبداً . ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم : { إن نقول إلا اعتراك } وإلا لغو أي ما نقول شيئاً إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين . والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح . وأشهدهم أيضاً وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية : أشهد عليَّ أني لا أحبك تهكماً به . وقد مر قوله : { فكيدوني } الآية في آخر سورة الأعراف . وقوله : { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها } تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل ، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره . قالت المعتزلة : هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا مالك إلا هو . وقوله : { إن ربي على صراط مستقيم } دليل العدل . والأشاعرة قالوا : معناه معنى . { إن ربك لبالمرصاد } [ الفجر : 14 ] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب { فإن تولوا فقد أبلغتكم } كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى . والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة . وفي قوله : { ويستخلف } إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئاً { إن ربي على كل شيء حفيظ } يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها ، أو يحفظني من شرككم وكيدكم ، أو يحفظني من الهلاك { والذين آمنوا معه } قيل : كانوا أربعة آلاف { برحمة منا } أي بفضل وامتنان أو بسبب ما هم فيه من الإيمان والعمل الصالح { ونجيناهم من عذاب غليظ } أطلق التنجية أوّلاً ثم قيدها على معنى وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ سموم تدخل في أفواههم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضواً عضواً .
ويحتمل أن يراد بالثانية النجاة من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه .
ولما ذكر قصتهم خاطب محمداً وأشار إلى قبورهم وآثارهم بقوله : { وتلك عاد } فانظروا واعتبروا . ثم استأنف وصف أحوالهم مجملة فقال : { جحدوا بآيات ربهم } فلم يتسلقوا من المعجزات إلى صدق الأنبياء ، ولم يرتقوا من الممكنات إلى وجود الواجب بالذات { وعصوا رسله } قيل : لم يرسل إليه إلا هود ، وصح الجمع لأن عصيان رسول واحد يتضمن عصيان كلهم { لا نفرق بين أحد من رسله } [ البقرة : 285 ] { واتبعوا أمر كل جبار عنيد } أطاعوا رؤساءهم وكبراءهم المتمردة والمعاندة ولهذا جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين . وفي تكرير « ألا » والنداء على كفرهم ، والدعاء عليهم بالبعد بعد إهلاكهم دلالة على تفظيع شأنهم وأنهم كانوا مستأهلين للدعاء عليهم بالهلاك ، ويحتمل أن يراد البعد من رحمة الله في الآخرة . وقوله : { قوم هود } عطف بيان لعاد إما للتأكيد ومزيد التقرير ، وإما لأن عاداً عاداً القديمة التي هي قوم هود ، والأخرى وهي إِرم . قوله في قصة ثمود { هو أنشأكم } تقديم الضمير للحصر أي لم ينشئكم إلا هو ، ومعنى الإنشاء من الأرض أن الكل مخلوق من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض . ويمكن أن يقال : إن الإنسان مخلوق من المني وهو يحصل من الغذاء والغذاء ينتهي إلى النبات ثم إلى الأرض . وقيل : إن « من » بمعنى « في » . { واستعمركم } من العمارة أي جعلكم عماراً للأرض ، وأمركم بالعمارة . فمنها واجب وندب ومباح ومكروه ، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار فعمروا الأعمار الطوال مع ما كان منهم من الظلم . فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وقيل : من العمر نحو استبقاكم من البقاء . وقيل : من العمرى . ومعناه أعمركم الله فيها دياركم ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم . أو جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنه أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لوارثه . ومعنى كونه تعالى قريباً قد مر في قوله : { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ البقرة : 186 ] وذلك في « البقرة » { قالوا يا صالح قد كنت فينا مرجواً } عن ابن عباس : فاضلاً خيراً نقدمك على جميعنا . وقيل : كنا نظن بك الرشد والصلاح وكمال العقل وإصابة الرأي . وقيل : كنت تعطف على فقيرنا وتعيد ضعيفنا وتعود مرضانا فظننا أنك من الأنصار والأحباب وأهل الموافقة في الدين ، فكيف أظهرت العداوة والبغضاء؟ ثم أضافوا إلى هذا الكلام التمسك بالتقليد ومتابعة الآباء ، ثم صرحوا بالتوقف والريب في أمره .
ومريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة ، أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة وهو من الإِسناد المجازي واعلم أن قوله { وإنا لفي شك } بنون الوقاية ههنا على الأصل ، وأما في سورة إبراهيم فإنما قال : { وإنا } بغير نون الوقاية لقوله بعده : { تدعوننا } [ الآية : 9 ] على الجمع فكان اجتماع النونات مستكرهاً . فأجابهم هو بقوله : { إن كنت على بينة } الآية . وبنى أمره على الفرض والتقدير لأن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول كأنه قال : قدروا أني على بينة { من ربي } وأني نبي على الحقيقة فمن يمنعني من عذاب الله { إن عصيته } في أوامره { فما تزيدونني غير تخسير } أي على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها ، أو فما تزيدونني بما تحملونني عليه إلا أني أنسبكم إلى الخسران وأقول إنكم خاسرون . والمعنى الأول أقرب لأنه كالدلالة على أن متابعتهم لا تزيده إلا خسران الدارين . { ويا قوم هذه ناقة الله } قد مر تفسيره في « الأعراف » . ومعنى { عذاب قريب } عاجل لا يستأخر إلا ثلاثة أيام و { غير مكذوب } من باب الاتساع أي غير مكذوب فيه فحذف الحرف . وأجرى الضمير مجرى المفعول به أو من باب المجاز كأن الوعد إذا أوفى به فقد صدق ولم يكذب أو المكذوب مصدر كالمجلود وصف به .
قوله : { فلما جاء أمرنا } بالفاء . وفي قصة هود بالواو ولمكان التعقيب ههنا بدليل قوله : { عذاب قريب } ومثله في قصة لوط لقوله : { أليس الصبح بقريب } [ هود : 81 ] وأما في قصة هود فإنه قال : { ويستخلف } بلفظ المستقبل ومثله في قصة شعيب { سوف تعلمون من يأتيه } بحرف التسويف فلم يكن الفاء مناسباً . واعتبر هذا المعنى في سائر المواضع كما في سورة يوسف قال : { ولما جهزهم } [ الآية : 59 ] بالواو أوّلاً لأن التعقيب لم يكن مراداً ثم قال : { فلما جهزهم } [ الآية : 70 ] لمكان التعقيب والله أعلم . قوله : { ومن خزي يومئذٍ } معطوف على محذوف والتقدير نجينا صالحاً ومن معه من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم ، أو يتعلق بمعطوف محذوف أي ونجيناهم من خزي يومئذ كما قال : { ونجيناهم من عذاب غليظ } والمعنيان كما قلنا هناك . والقراءتان في { يومئذٍ } لأن الظرف المضاف إلى « إذ » يجوز بناؤه على الفتح ، والتنوين في « إذ » عوض من المضاف إليه أعني الجملة ، والتقدير يوم إذ كان كذا وكسر الذال للساكنين { إن ربك هو القوي العزيز } القادر الغالب فمن قدرته ميز المؤمن من الكافر ، ومن عزته وقهره أهلك الكفار بالصيحة التي سمعوها من جانب السماء إما بواسطة جبرائيل وإما لإحداثها في سحاب مع برق شديد محرق . وإنما تصير الصيحة سبباً للهلاك لأن التموج الشديد في الهواء يوجب تأذي صماخ الإنسان ، وقد يتمزق غشاء الدماغ بذلك ، والأعراض النفسانية أيضاً إذا قويت أوجبت الموت وتمام القصة مذكور في سورة الأعراف ، وقوله : { ألا إن ثمود } إلى آخره . شبيه بما مر في قصة هود ، والتأويل كما مر في سورة الأعراف والله أعلم .
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
القراآت : { سلم } بكسر السين بلا ألف فيهما . حمزة وعلي { ويعقوب } بالنصب : ابن عامر وحمزة وحفص ، الآخرون بالرفع . { سيء بهم } وبابه كضرب مجهولاً : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس . الآخرون { سيء } مثل { قيل } { تخزوني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل . وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل { ضيفي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { فاسر } وبابه بهمزة الوصل : أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس من طريق الموصلي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة { إلا امرأتك } بالرفع : ابن كثير وأبو عمرو . الباقون بالنصب .
الوقوف : { سلاماً } ط { حنيذ } 5 { خيفة } ط { قوم لوط } 5 ط { بإسحق } ط لمن قرأ { يعقوب } بالرفع { يعقوب } 5 { شيخاً } ط { عجيب } 5 { أهل البيت } ط { مجيد } 5 { في قوم لوط } ط { منيب } 5 { عن هذا } ج لاحتمال التعليل { أمر ربك } ج للاتبداء بأن مع اتصال المعنى . { مردود } 5 { عصيب } 5 { إليه } ج للعطف ولاختلاف النظم { السيئات } ط { ضيفي } ط { رشيد } 5 { من حق } ج لما مر { ما نريد } 5 { شديد } ه . { إلا امرأتك } ط { أصابهم } ط { الصبح } ط { بقريب } 5 { منضود } 5 لا لأن ما بعده صفة حجارة { عند ربك } ط { ببعيد } 5 .
التفسير : الرسل ههنا الملائكة ، وأجمعوا على أن الأصل فيهم جبرائيل ، ثم اختلفوا فقيل : كان معه اثناء عشر ملكاً على أحسن ما يكون من صورة الغلمان . وقال الضحاك : كانوا تسعة . وقال ابن عباس : كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرائفيل وهم الذين ذكر الله تعالى في سورة الحجر { ونبئهم عن ضيف إبراهيم } [ الآية : 51 ] وفي الذاريات { هل أتاك حديث إبراهيم } [ الآية : 24 ] والظاهر أن البشرى هي البشارة بالولد . وقيل : بهلاك قوم لوط . ومعنى { سلاماً } سلمنا عليك . ومعنى { سلام } أمركم سلام أو سلام عليكم . ولأن الرفع يدل على الثبات والاستقرار ، والنصب يدل على الحدوث لمكان تقدير الفعل . قال العلماء : إن سلام إبراهيم كان أحسن اقتداء بقوله تعالى : { وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحس منها } [ النساء : 86 ] وإنما صح وقوع { سلام } مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصها بالإِضافة إلى المتكلم إذ أصله سلمت سلاماً فعدل إلى الرفع لإفادة الثبات . ومن قرأ { سلماً } فمعناه السلام أيضاً . قال الفراء . سلم وسلام كحل وحلال وحرم وحرام . وقال أبو علي الفارسي : يحتمل أن يراد بالسلم خلاف الحرب . قالوا : مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك فجاءته الملائكة فرأى أضيافاً لم ير مثلهم فما لبث { أن جاء } أي فما لبث في أن جاء بل عجل أو فما لبث مجيئه { بعجل } هو ولد البقرة { حنيذ } مشوي في حرفة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف . ومعناه محنوذ كطبيخ بمعنى مطبوخ .
وقيل : الحنيذ الذي يقطر دسماً لقوله : { بعجل سمين } [ الذاريات : 26 ] تقول : حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى يقطر عرقاً { فلما رأى أيديهم لا تصل إليه } إلى العجل أو الطعام { نكرهم } أي أنكرهم واستنكر فعلهم { وأوجس } أضمر { منهم خيفة } لأنه ما كان يعرف أنهم ملائكة وكان من عادة العرب أنه إذا نزل بهم الضيف ولم يتناول طعامهم وتوقعوا منه المكروه والشر . وقيل : إنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس ، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به شراً . وقيل : إنه كان يعرف أنهم ملائكة الله لقولهم : { لا تخف } . { وإنا أرسلنا إلى قوم لوط } لم يقولوا لا تخف إنا ملائكة بل ذكروا سبب الإرسال وهو إهلاك قوم لوط . وعلى هذا فإنما خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله أو لتعذيب قومه ، والاحتمال الأول وهو أنه كان لا يعرف أنهم ملائكة أقرب بدليل إحضاره الطعام واستدلاله بترك أكلهم على توقع الشر منهم . وإنما ذكروا سبب الإرسال إيجازاً واختصاراً لدلالة الإرسال على كونهم رسلاً لا أضافياً . وإنما أتوه على صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها لأنه كان مشغوفاً بالضيافة . وبم عرف الملائكة خوفه؟ قيل : بالتغير في وجهه أو بتعريف الله ، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب { وامرأته } وهي سارة بنت هاران بن ناحورا بنت عم إبراهيم { قائمة } وراء الستر تسمع تحاورهم ، أو كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم وهو قعود { فضحكت } .
قال العلماء : لا بد للضحك من سبب فقيل : سببه السرور بزوال الخيفة . وقيل : بهلاك أهل الخبائث . وعن السدي أن إبراهيم قال لهم : ألا تأكلون؟ قالوا : إنا لا نأكل طعاماً إلا بالثمن . فقال : ثمنه أن تذكروا اسم الله على أوله وتحمدوه في آخره . فقال جبرائيل لميكائيل : حق لمصل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلاً ، فضحكت امرأته فرحاً بهذا الكلام . وقيل : كانت تقول لإبراهيم اضمم لوطاً ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب ، ففرحت بموافقة قولهم لقولها فضحكت . وقيل : طلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي إلى مرعاه فضحكت سارة من طفرته . وقيل : ضحكت تعجباً من قوم أتاهم العذاب وهم غافلون . وقيل : تعجبت من خوف إبراهيم مع كثرة خدمه وحشمه من ثلاثة أنفس . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير أي فبشرناها بإسحق ، فضحكت سروراً . وعن مجاهد وعكرمة ضحكت أي حاضت ومنه ضحكت الطلعة إذا انشقت يعني استعدادها لعلوق الولد . من قرأ { يعقوب } بالرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي يعقوب مولود أو موجود بعد إسحاق ، ومن قرأ بالنصب فعلى العبارة المتروكة كأنه قيل : ووهبنا لها إسحق ومن بعد إسحق يعقوب .
أقول من المحتمل أن يكون { يعقوب } مجروراً بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحاق وقيل : الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده { يا ويلتي } كلمة تلهف وقد مرت في « المائدة » في { يا ويلتي أعجزت } [ المائدة : 31 ] و { شيخاً } نصب الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير { إن هذا } يعني إن تولد ولد من هرمين { لشيء عجيب } عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف { رحمة الله وبركاته عليكم } يا أهل بيت خليل الرحمن . والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب . ويحتمل أن يكون انتصاب { أهل البيت } على الاختصاص . وقيل : الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم . ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم : { إنه حميد } محمود في أفعاله { مجيد } ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه . { فلما ذهب عن إبراهيم الروع } الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه { وجاءته البشرى } البشارة بحصول الولد { يجادلنا في قوم لوط } في معناهم وفي شأنهم وهو جواب « لما » على حكاية الحال ، أو لأن « لما » ترد المضارع إلى الماضي عكس « إن » ، ويحتمل أن يكون جواب « لما » محذوفاً دل عليه { يجادلنا } أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا ، ثم ابتدأ فقال : { يجادلنا } وقيل : معناه أخذ يجادلنا ولا بد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعياً في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم . ويروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال : أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا : لا قال : فأربعون؟ قالوا : لا حتى بلغ العشرة قالوا لا . قال : فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا . فعند ذلك { قال إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم بمن فيها لنُنَجِّيَنهُ وأهله } [ العنكبوت : 32 ] قال الأصوليون : إن إبراهيم كان يقول : إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور ، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك ، فهذه هي المجادلة . أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون . وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضاً عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك ههنا ولذلك مدحه بقوله : { إن إبراهيم لحليم } غير عجول في الأمور { أوّاه } كثير التأوّه من الذنوب { منيب } راجع إلى الله في كل ما يسنح له . وهذه الصفات تدل على رقة القلب والشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم .
ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا : { يا إبراهيم أعرض عن هذا } الجدال { إنه قد جاء أمر ربك } بإهلاكهم { وإنهم آتيهم } لاحق بهم { عذاب غير مردود } فلا راد لقضائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء .
{ ولما جاءت رسلنا } المذكورون { لوطاً سيء بهم } أصله « سوىء » لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره ، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء ، ومن قرأ { سيء } بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة . { وضاق بهم ذرعاً } قال الأزهري : الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه ، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة ، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعاً . { وقال هذا يوم عصيب } أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور . عن ابن عباس : انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن ، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واغتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم . وقيل : سبب المساءة أنه لم يكن قادراً على القيام بحق ضياقتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم . وقيل : السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره . وقيل : عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه . والصحيح هو الأول . يروى أنه تعالى قال لهم : لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات . فلما مشى معهم منطلقاً به إلى منزله قال لهم : أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا : وما أمرهم؟ قال : أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملاً - يقول ذلك أربع مرات - فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها فذلك قوله : { وجاءه قومه يهرعون إليه } قال أبو عبيدة : يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضاً . وقال الجوهري : الإهراع الإسراع . وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع . وقيل : إنما لم يسم فاعله للعلم به . والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه . ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال : { ومن قبل كانوا يعملون السيئات } الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء . وقيل : معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقال : { هؤلاء نباتي } عن قتادة : بناته من صلبه . وعن مجاهد وسعيد بن جبير : أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته . واختير هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات . ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم ، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة .
والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلى التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر ، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزاً كما في أول الإسلام ، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى - وهما كافران - فنسخ بقوله : { ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } [ البقرة : 221 ] وقيل : كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه ، وقيل : إن بناته كن أكثر من ثنتين . ويجوز أ يكون قد عرض البنات عليهم لا بطريق الجد بل طمعاً فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له . و { أطهر } بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال { فاتقوا الله } بإيثارهن عليهم { ولا تخزون } ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء . { في ضيفي } في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار . والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدراً . { أليس منكم رجل رشيد } صالح أو مصلح مرشد يمنتع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح .
{ قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق } من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا { وإنك لتعلم ما نريد } ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بأزواج فلا حق لنا فيهن من حيث الشرع ومن حيث الطبع ، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن ألبتة فلا يتصور لنا حق فيهن . قال لوط { لو أن لي بكم قوّة } وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم . قال أهل المعاني : حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع . والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة ، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة { أو آوي } أنضم { إلى ركن شديد } حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته . وقوله : { أو آوي } عطف على الفعل المقدر بعد « لو » . والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره ، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له : إن ركنك لشديد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم « رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه » ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصناً يتحصن به فيأمن من شرهم ، ويحتمل أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمني حصول قوة قوية على الدفع . ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله .
روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب { قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك } وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره ، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له ، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه { ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم } [ القمر : 37 ] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة . ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال : { فأسر بأهلك } الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى ، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء . { بقطع من الليل } عن ابن عباس : أي في آخر الليل بسحر . وقال قتادة : بعد طائفة من الليل . وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين { ولا يلتفت منكم أحد } أي لا ينظر إلى ما رواءه { إلا امرأتك } أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من { أحد } على القياس والنصب مستثنى من قوله : { فأسر } لا من قوله { لا يلتفت } وزيف بأن الاستثناء من { أسر } يقتضي كونها غير مسرى بها ، والاستثناء من { لا يلتفت } يقتضي كونها مسرياً بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسرياً بها غير مسرى بها . ويمكن أن يجاب بأن { أسر } وإن كان مطلقاً في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات ، فاستثن على هذا إن شئت من { أسر } وإن شئت من { لا يلتفت } ولا تناقض . وبعضهم - كابن الحاجب - جعل { إلا امرأتك } في كلتا القراءتين مستثنى من { لا يلتفت } ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى . ويمكن أن يقال : إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من { أسر } إذ لو جعل استثناء من { لا يلتفت } لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمراً لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعاً على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم ، وإذا كان هذا الاستثناء منقطعاً كان التفاتها موجباً للمعصية . قاله في الكشاف . وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها . واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين . أقول : في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة ، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراآت كلها . روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت : يا قوماه : فأدركها حجر فقتلها .
وقيل : المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة . فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطاً أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين . ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها .
يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له { إن موعدهم الصبح } فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا : { أليس الصبح بقريب؟ } { فلما جاء أمرنا } بإهلاكهم { جعلنا } أي جعل رسلنا { عاليها سافلها } روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء ، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض ، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل - وهو معرب سنك وكل - كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة . وقيل : سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة ، وقيل : أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته . وقيل : أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان . وقيل : من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لاماً . ويل : إنه اسم من أسماء السماء الدنيا . ومعنى { منضود } موضع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق . أو نضد في السماء نضداً معداً لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله : { من جبال فيها من برد } [ النور : 43 ] { مسوّمة } معلمة للعذاب أو بياض وحمرة ، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم . وقال ابن جريج كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض . وقال الربيع : مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به . وقال أبو صالح : رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع . ومعنى { عند ربك } أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو ، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها { وما هي } أي تلك الحجارة { من الظالمين } أي من كل ظالم { ببعيد } وهو وعيد لأهل مكة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصدد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة . وقيل : أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام . وقيل : المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقاً بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده .
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
القراآت : { إني } بالفتح { أريكم } بالإمالة : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي ، وكذلك روى عن أهل مكة . { إني أخاف } { شقاقي أن } بفتح الياء فيهما : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { وصلواتك } كما مر في سورة التوبة في قوله : { إن صلاتك سكن } { التوبة : 103 ] { توفيقي } بالفتح : أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع { أرهطي } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو { بعدت ثمود } بالإظهار : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى .
الوقوف : { شعيباً } ط { غيره } ط { محيط } 5 { مفسدين } 5 { مؤمنين } ج للابتداء بالنفي مع الواو { بحفيظ } 5 { ما نشاء } ط { الرشيد } 5 { حسناً } ط { عنه } ط { ما استطعت } ط { إلا الله } ط { أنيب } 5 { صالح } ط { ببعيد } 5 { إليه } ط { ودود } 5 { ضعيفاً } ج لأن « لولا » للابتداء مع الواو { لرجمناك } ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه { بعزيز } 5 { من الله } ط للفصل بين الاستخبار والاخبار واتحاد المقصود وجه للوصل { ظهرياً } ط { محيط } 5 { عامل } ط { تعلمون } 5 لا { كاذب } ط للفصل بين الخير والطلب { رقيب } 5 { جاثمين } 5 لا { فيها } ط { ثمود } 5 { مبين } 5 لا لتعلق الجار { فرعون } ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال { برشيد } 5 { النار } ط { المورود } 5 { القيامة } ط { المرفود } 5 { وحصيد } 5 { أمر ربك } ج { تتبيب } 5 { ظالمة } ط { شديد } 5 .
التفسير : نقص المكيال يشمل معنيين : بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب ، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير . ثم علل النهي بقوله : { إني أراكم بخير } أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف ، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال . { وإني أخاف عليكم } عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم . وقال آخرون : إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم . والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد . وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإِسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واشتمل عليه ذلك اليوم . قيل : هو عذاب الاستئصال في الدنيا . وقيل : عذاب الآخرة والأظهر العموم . قوله : { أوفوا المكيال } إلى قوله { أشياءهم } قد مر تفسير مثله في الأعراف . وقوله : { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } مضى تفسيره في أوائل البقرة ، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلاً عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده ، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحة تعييراً وتوبيخاً لكنه يوهم النهي عن أصل المبايعة ، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل ، ففيه إباحة أصل المبايعة ، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب .
وفي أيضاً فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بواجب بل هو فضل ومروءَة لا تقف عند حد ، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس { بقية الله } قيل : ثواب الله . وقيل : طاعته ورضاه كقوله : { والباقيات الصالحات خير } [ الكهف : 46 ] وقيل : أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم { خير لكم } بشرط أن تؤمنوا لأن شيئاً من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم . ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب ، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته . قالت المعتزلة . في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله . وقرىء { تقية الله } بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح { وما أنا عليكم بحفيظ } أحفظ أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر . قوله : { أصلاتك } قيل : أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه . وقيل : المراد الأتباع لأنه أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك . والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة يروى أن شعيباً عليه السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغمزوا وتضاحكوا فقصدوا بقولهم : { أصلاتك تأمرك } السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلاً ونهاراً هي من باب الجنون والوساوس . ومعنى { تأمرك أن نترك } تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره . وقوله { أو أن نفعل } معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل { في أموالنا ما نشاء } روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير . { إنك لأنت الحليم الرشيد } قيل : إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكماً به . وقيل : حقيقة وإنه كان معروفاً فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له : إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها . ثم أشار عليه السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف ، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح ، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ { وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه } يقال : خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه .
فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفاً لقولي فلا أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها { إن أريد إلا الإصلاح } إلا أن أصلحكم بالموعظة . والنصحية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . { ما استطعت } ما للمدة ظرفاً للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم ، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه ، أو المضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت ، أو مفعولاً للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله : ضعيف النكاية أعداءه . أي إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم . ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال : { وما توفيقي إلا بالله } والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله { عليه توكلت } أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادىء { وإليه أنيب } لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه . ثم أوعدهم بقوله { لا يجرمنكم شقاقي } لا يكسبنكم خلافي { إن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح } من الغرق { أو قوم هود } من الريح العقيم { أو قوم صالح } من الصيحة { وما قوم لوط منكم ببعيد } لم يقل « ببعيدة » حملاً على لفظ القوم لأنه مؤنث ، ولا « ببعيدين » حملاً على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم . أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد . وجوزوا أن يسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما . { إن ربي رحيم ودود } يجوز أن يكون بمعنى « فاعل » أو « مفعول » كقوله : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة ، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة . ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان { قالوا يا شعيب ما نفقهُ كثيراً مما تقول } إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكماً واستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه : ما أدري ما تقول . كأنهم جعلوا كلامه تخليطاً وهذياناً لا ينفعهم كثير منه . وقيل : لأنه كان ألثغ { وإنا لنراك فينا ضعيفاً } عن الحسن : مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروهاً . وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العمى سبب الضعف ، أو لأنه لغة حمير . وزيف هذا القول أما عند من جوز العمى على الأنبياء فلأن لفظة { فينا } يأباه لأن الأعمى فيهم وفي غيرهم ، وأما عند من لا يجوزه - كبعض المعتزلة - فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً ، فلأن يمنع من النبوة كان أولى .
ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه - والرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة - والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة ، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم . ثم أكدوا المذكور بقولهم { وما أنت علينا بعزيز } وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفاً من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا ، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم { أرهطي أعز عليكم من الله } ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب ، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذاناً بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله : { من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ] { واتخذتموه } أي أمر الله أو ما جئت به { وراءكم ظهرياً } منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه . ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال : { إن ربي بما تعملون محيط } . ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله : { اعملوا على مكانتكم } وقد مر تفسير مثله في « الأنعام » قال في الكشاف : الاستئناف يعني في { سوف تعلمون } وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهو باب في أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه . ثم بالغ في التهديد بقوله : { وارتقبوا } انتظروا عاقبة الشقاق { إني معكم رقيب } راقب كالضريب بمعنى الضارب ، أو مراقب كالعشير والنديم ، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع . وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصحية كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسناً بخلاف قصة صالح . وإنما دعاه عليه بقوله : { كما بعدت ثمود } لما روى الكلبي عن ابن عباس قال : لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح . فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم ، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم . قوله سبحانه { بآياتنا وسلطان مبين } قال في التفسير الكبير : الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين . والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحس ، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس . وقال في الكشف : يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته ، وأن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها ، وقوله : { إلى فرعون } متعلق ب { أرسلنا } { فاتبعوا أمر فرعون } أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى { وما أمر فرعون برشيد } أي ليس في أمره رشد إنما فيه غي وضلال ، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى .
ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه الى اتباع من ليس في أمره رشد قط ، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي تقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره ، ويجوز أن يراد بالرشد الإِحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة . ثم فسره بأنه { يقدم قومه } أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته . ويقال : قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين . وإنما قال { فأوردهم } بلفظ الماضي تحقيقاً للوقوع . والورد المورود الذي وردوه ، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء ، وشبه أتباعه بالواردة . ثم نعى عليهم بقوله : { وبئس الورد } الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده وتذكير { بئس } لتذكير الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك : نعم المنزل دارك ولو قلت : نعمت جاز نظراً إلى الدار . وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم { وأتبعوا في هذه } حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد . و { بئس الرفد المرفود } أي بئس العطاء المعطى ذلك . وقيل : الرفد العون والمرفود المعان وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة ، قال قتادة : ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة . { ذلك } الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض { أنباء القرى } المهلكة { نقصه عليك } خبر بعد خبر ، ثم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود { وما ظلمناهم } بإهلاكنا إياهم { ولكن ظلموا أنفسهم } بارتكاب ما به أهلكوا . عن ابن عباس : وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله { فما أغنت } فما قدرت أن ترد { عنهم آلهتهم التي يدعون } يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء { وما زادوهم } يعني آلهتهم { غير تتبيب } تخسير . تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران . كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيورثهم ذلك الاعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين . ثم بيَّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال : { وكذلك } أي مثل ذلك الأخذ { أخذ ربك } فالأخذ مبتدأ وذلك خبره وقوله { وهي ظالمة } حال من القرى باعتبار أهلها { إن أخذه أليم شديد } وجيع صعب على المأخوذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال .
التأويل : { ولا تنقصوا } مكيال المحبة وميزان الطلب ، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله ، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة { إني أراكم بخير } هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غير الحق { بالقسط } في تعظيم أمرالله والشفقة على خلق الله .
{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم } حقوق النصيحة وحسن العشرة في الله ولله { ولا تعثوا } في أرض وجودكم { مفسدين } { بقية الله } بقاؤكم ببقائه { خير لكم } مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان . { رزقاً حسناً } نوراً تاماً أراني به إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق { وما } معاملة { قوم لوط } من معاملتكم { ببعيد } لأن الكفر كله ملة واحدة . { وما أمر فرعون برشيد } لأن فرعون النفس أمارة بالسوء . { إذا أخذ القرى } قرى الأجساد { منها قائم } قابل لتدارك ما فات . ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب .
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
القراآت : { وما يؤخره } بالياء : يعقوب والمفضل . الباقون بالنون { يوم يأتي } بإثبات الياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل . الآخرون بحذف الياء { لا تكلم } بتشديد التاء : البزي وابن فليح { سعدوا } بضم السين : حمزة وعلي وخلف وحفص . قيل إنه على حذف الهمزة من « أسعدوا » لأن { سعدوا } لازم ولكنه قد جاء المسعود ، الآخرون بفتحها { وإن كلاً } بالتخفيف : ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد . الباقون بالتشديد . { لما } مشدداً : ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة و كذلك في « الطارق » . الباقون بالتخفيف { وزلفاً } بضمتين : يزيد . الآخرون بفتح اللام { فؤادك } وبابه بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف { يرجع } مجهولاً : نافع وحفص والمفضل { تعملون } خطاباً وكذلك في آخر « النمل » : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص . الباقون على الغيبة .
الوقوف : { الآخرة } ط { مشهود } 5 { معدود } ط { بإذنه } ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب . { وسعيد } 5 { شهيق } 5 لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل { شاء ربك } ط { يريد } 5 { شاء ربك } ط لأن التقدير يعطون عطاء { مجذوذ } 5 { هؤلاء } ط { من قبل } ط { منقوص } 5 { فاختلف فيه } ط { بينهم } ط { مريب } 5 { أعمالهم } ط { خيبر } 5 { ولا تطغوا } ط { بصير } 5 { النار } لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا { تنصرون } 5 { من الليل } ط { السيئات } ط { للذاكرين } 5 { المحسنين } 5 { منهم } ج لأن التقدير وقد اتبع { مجرمين } 5 { مصلحون } 5 { مختلفين } 5 لا { رحم ربك } ط { خلقهم } ط { أجميعن } 5 { فؤادك } ج إذ التقدير وقد جاءك { للمؤمنين } 5 { مكانكم } ط { عاملون } 5 لا للعطف { وانتظروا } ج أي فإنا { منتظرون } ط { وتوكل عليه } ط { تعملون } 5 .
التفسير : { إن في ذلك } الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم { لآية } لعبرة { لمن خاف } أي لمن هو أهل لأن يخاف { عذاب الآخرة } كقوله : { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] لأن انتفاعه يعود إليهم . قال القفال - في تقرير هذا الاعتبار : إنه إذاعلم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى . واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا . والقفال جعل الأمر على العكس قال : والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم موجب بالذات لا فاعل مختار ، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب ، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلاً على صدق الأنبياء عليهم السلام .
أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار . أقول : وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلاً ومثله في القرآن كثير . { إن في ذلك لعبرة لمن يخشى } [ النازعات : 26 ] { إن في ذلك لآية لقوم يذكرون } [ النحل : 13 ] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله : { ذلك يوم مجموع } أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب . { الناس } وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد : إنك لمنهوب مالك محروب قومك . فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل { وذلك يوم مشهود } أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به . والفرق بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه . والجمع المطلق لا يفيد هذ المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونها مشهودات . وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهوداً فيه دونها { وما نؤخره إلا } لانتهاء { لأجل معدود } أي انقضاء مدة معلومة عيَّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان : إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر ، والثانية أن ذلك الأجل متناهٍ وكل منتاهٍ فإنه يفنى لا محالة وكل آتٍ قريب . ثم ذكر بعض أهوال ذلك اليوم فقال : { يوم يأت } حذف الياء والاكتفاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل ، وفاعل { يأتي } قيل : الله كقوله : { أو يأتي ربك } [ الأنعام : 158 ] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ { وما يؤخره } بالياء وقوله : { بإذنه } . وقيل : المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف . وقيل : فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هوله وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفاً لإتيان اليوم . وانتصاب { يوم } ب { لا تكلم } أو باذكر مضمراً أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم ، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى : { يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها } { النحل : 111 ] وكقوله : { هذا يوم لا ينطقون } { المرسلات : 35 ] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة ، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب . ثم قسم أهل الموقف المجموعتين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال : { فمنهم شقي وسعيد } أي ومنه سعيد . ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل الفاسد والعمل الصالح ويترتب عليهما الجنة والنار في الآخرة ، وإنما النزاع في أن العمل سبب للشقاء مثلاً كما هو مذهب المعتزلة ، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة ، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته ، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مراراً .
قيل : قد بقي ههنا قسم آخر ليسوا من أهل النار ولا من أهل الجنة كالمجانين والأطفال فهم أصحاب الأعراف ، وتخصيص القسمين بالذكر لا يدل على نفي الثالث . أما قوله في صفة أهل النار { لهم فيها زفير وشهيق } ففيه وجوه قال الليث وكثير من الأدباء : الزفير استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه وحينئذٍ يرتفع صدره وينتفخ جنباه ، والشهيق إخراج ذلك الهواء بجهد شديد من الطبيعة ، وكلتا الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم . الحاصل أنهم جعلوا الزفير بمنزلة ابتداء نهيق الحمار ، والشهيق بمنزلة آخره . وقال الحسن : إن لهب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى دركات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من النار ، فارتفاعهم في النار هو الزفير ، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق . وقال أبو مسلم : الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس ، والشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن ، وربما يتبعها الغشية ، وربما يحصل عقيبه الموت . وقال أبو العالية : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر . وقيل : الزفير الصوت الشديد ، والشهيق الصوت الضعيف . وعن ابن عباس : لهم فيها بكاء لا ينقطع وحزن لا يندفع . وقال أهل التحقيق : قوة ميلهم إلى الدنيا ولذاتها زفير ، وضعفهم عن الاستسعاد بكمالات الروحانيات شهيق . ثم إن قوماً ذهبوا إلى أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث والمعقول . أما القرآن فقوله سبحانه : { خالدين فيها ما دامت السموات والأرض } أي مدة بقائهما { إلا ما شاء ربك } وفي استدلالان : الأول أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض المتناهية بالاتفاق . الثاني استثناء المشيئة ويؤكد هذا النص قوله : { لابثين فيها أحقاباً } { النبأ : 23 ] وأما الحديث فما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص « ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد » وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقاباً . وأما المعقول فهو أن العقاب ضرر خال عن النفع لا في حق الله تعالى ولا في حق المكلف فيكون قبيحاً . وأيضاً الكفر جرم متناه ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم . والجمهور من الأمة على أن عذاب الكافر دائم . وأجابوا عن الآية بأن المراد سموات الآخرة وأرضها المشار إليهما بقوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات }
[ ابراهيم : 48 ] ولا بد لأهل الآخرة مما يظلهم ويقلهم فهما السماء والأرض ، وإذا علق حصول العذاب للكافر بوجودهما لزم الدوام . وأيضاً القرآن قد ورد على استعمالات العرب . وإنهم يعبرون عن الدوام والتأبيد بقولهم « ما دامت السموات والأرض » ونظيره قولهم : « ما اختلف الليل والنهار » . و « ما أقام ثبير وما لاح كوكب » . ويمكن أيضاً أن يقال : حاصل الآية يرجع إلى شرطية هي قولنا : إن دامت السموات والأرض دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات والأرض دائمة لزم دوام عقابهم وهو المطلوب ، وإن قلنا لكنهما لم تدوما فإنه لا ينتج مطلوب الخصم لأن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئاً . وبعبارة أخرى دلت الآية على أنه كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم . فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم ، أو يوجد فالآية لا تدل على حصول العقاب لهم دهراً طويلاً ومدة مديدة . وأما إنه هل يكون له آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و « الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك » وقد يكون عزمك على ضربه ألبتة وتعلم أنك لا ترى غير ذلك . وردّ بالفرق ، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله ، فالمشيئة قد حصلت جزماً . ولقائل أن يقول : المضاي ههنا في معنى الاستقبال مثل { ونادى أصحاب الأعراف } [ النساء : 48 ] { وسيق الذين اتقوا } [ الزمر : 73 ] فلم يبق فرق : وقيل : « إلا » بمعنى « سوى » أي سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه ، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له . وقال الأصم وغيره : المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف . وقيل : الاستثناء يرجع إلى قوله : { لهم فيها زفير وشهيق } كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود . وقيل : فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك ، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله : { إن ربك فعال لما يريد } فكأنه تعالى يقول : أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد ، وليس لأحد عليّ حكم ألبتة . وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون : إن الاستثناء الثاني لا يساعده لحصول الإجماع على أن أحداً من أهل الجنة لا يدخل النار . فالصواب أن يقال : إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة ، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله ، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالاً من الجنة كقوله :
{ ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] ثم قالا : إنه ختم آية الوعيد بقوله : { إن ربك فعال لما يريد } وآية الوعد بقوله : { عطاء غير مجذوذ } رعاية للمطابقة كأنه قال : إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع . وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف : إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها . وأقول : يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى . وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناهٍ فعذاب البعد عنه أيضاً يجب أن يكون غير متناهٍ : أو نقول : لا نهاية لنوره فلا غاية لظلمة الغافل عنه والمنكر له . أو نقول : أوضح الأشياء الوجود الواجب فإذا كان الشخص ذاهلاً عنه كان مسلوب الاستعداد بالكلية فلا يكون إنساناً في الحقيقة ، فلا يتصور له عروج من عالم الطبيعة ، والعبارات في هذا المقام كثيرة والمعنى واحد يدركه من وفق له وخلق لأجله . ولما فرغ من أقاصيص عبدة الأصنام وبيان أحوال الأشقياء والسعداء سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن نهي له عن الامتراء في سوء مغبتهم قائلاً { فلا تك } حذف النون لكثرة الاستعمال { في مرية } في شك { مما يعبد } « ما » مصدرية أو موصولة أي من عبادة { هؤلاء } أو من الذي يعبده هؤلاء المشركون والمراد النهي عن الشك في سوء عاقبة عبادتهم . ثم علل النهي مستأنفاً فقال : { ما يعبدون إلا كما يعبد } كالذي يعبده { آباؤهم } أو كعبادة آبائهم . والحاصل أنهم شبهوا بآبائهم في لزوم الجهل والتقليد . { وإنا لموفوهم نصيبهم } من الرزق والخيرات الدنيوية أو من إزالة العذر وإزاحة العلة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ، أو نصيبهم من العذاب كما وفينا آباؤهم أنصباؤهم . وفي الكشاف أن { غير منقوص } حال من النصيب ليعلم أنه تام كامل إذ يجوز أن يوفي بعض الشيء كقولك وفيته شطر حقه . قلت : هي مغالطة لأن قول القائل : « وفيته شطر حقه » التوفية تعود إلى الشطر . فلو قيل : غير منقوص كان كالمكرر . وعاد السؤال . فالصواب أن يقال : إنه حال مؤكدة أو صفة تقوم مقام المصدر أي توفية نحو { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } [ البقرة : 60 ] أي إفساداً . ثم أورد نظيراً لإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه السلام فقال : { ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه } آمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف في القرآن ، والغرض أن إنكار الحق عادة قديمة للخلق { ولولا كلمة سبقت من ربك } هي أن رحمتي سبقت غضبي أو هي ان دار الجزاء الآخرة لا الدنيا أو هي أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال .
{ لقضي بينهم } بين قوم موسى أو بين قومك بتمييز المحق من المبطل بسبب الإنجاء والإهلاك وهذه من جملة التسلية أيضاً { وإنهم } يعني قوم موسى أو قومك { لفي شك منه } من كتابه أو من كتابك أو من أمر المعاد أو القضاء أو الجزاء . ثم جميع الأولين والآخرين في حكم توفية الجزاء ثواباً أ وعقاباً فقال : { وإن كلاً } التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي وإن كلهم يعني أن جميع المختلفين فيه . ومن قرأ بالتخفيف فعلى إعمال المخففة إذ لا يلزم من التخفيف إبطال العمل كما في « لم يكن » « ولم يك » . ومن قرأ « لما » مخففاً فاللام هي الداخلة في خبر « إن » و « ما » مزيدة للفصل بين لام « إن » وبين لام جواب القسم المقدر كما فصلوا بالألف بين النونات في قولهم « أضربنان » . ويمكن أن يكون « ما » نكرة أي لخلق أو جمع . والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود . ومن قرأ « لما » مشدداً فأصله « لمن ما » قلبت النون ميماً فاجتمع ثلاث ميمات ، فحذفت الأولى تخفيفاً ، وجاز حذف الأولى وإبقاء الساكنة لاتصال اللام بها . ويجوز أن يكون أصله « لما » بالتنوين - كما في قراءتي الزهري وسليمن بن أرقم - فحذف فبقى « لما » ممدوداً ومعناه ملومين أي مجموعين . وقرأ أبيّ { وإن كل لما ليوفينهم } على أن « إن » نافية و « لما » بمعن « إلا » كما في الطارق . ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات توفية الجزاء وأن شيئاً من الحقوق لا يضيع عنده . منها لفظة « إن » ، ومنها لام خبر « إن » ، ومنها « كل » ، ومنها « ما » المزيدة ، ومنها القسم ، ومنها لا القسم ، ومنها نون التأكيد ، ومنها لفظ التوفية ، ومنها ربك فإن من يربيك يقدر على توفية حقك ، ومنها الجميع المضاف ، ومنها ختم الآية بقوله : { إنه بما يعملون خبير } فإنه إذا كان عالماً بكل المعلومات قادراً على كل المقدورات كان عالماً بعمل كل احد وبمقدار جزاء عمله ، وقادراً على إيصال ذلك إليه ، ثم إن كلامه حق وصدق وقد أخبر عن التوفية مع المؤكدات المذكورة فيقع وعده ووعيده لا محالة . ثم أمر نبيه لتقتدي به أمته بكلمة جامعة للعقائد والأعمال قائلاً { فاستقم كما أمرت } عن جعفر الصادق رضي الله عنه . معناه افتقر إلى الله بصحة العزم يعني الوثوق به والتوكل عليه { ومن تاب معك } عطف على الضمير في { فاستقم } وصح للفصل أو هو ابتداء أي ومن تاب معك فليستقم أو مفعول معه .
ثم كما أمر بالاستقامة على جادّة الحق نهى عن الانحراف عنها فقال { ولا تطغوا } والطغان مجاوزة الحد . وقال ابن عباس : يريد تواضعوا للحق ولا تتكبروا على الخلق . وخصص بعضهم الطغيان بالتجاوز عن حدود القرآن بتحليل حرامه وتحريم حلاله . وهذه الآية أصل عظيم في الشريعة فيكون الترتيب في الوضوء واجباً كما ورد في القرآن ، وكذلك القول في الحدود والكفارات ونصاب الزكاة وأعداد الركعات وغيرها من جميع المأمورات والمنهيات . ويجب الاحتياط في المسائل الاجتهادية وفي القياسات . وكذا في الأخلاق والملكات وفي كل ما له طرفا إفراط وتفريط فهما مذمومان . والمحمود هو الوسط وهو الصراط المستقيم المأمور بالاستقامة والثبات عليه . ولا ريب أن معرفته صعبة وبتقدير معرفته فالعمل به والبقاء عليه أصعب ولهذا قال ابن عباس : ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية في القرآن أشد ولا أشق من هذه حتى إن أصحابه قالوا له : لقد أسرع فيك الشيب فقال صلى الله عليه وسلم : « شيبتني هود » أعني هذه الآية منها . ثم لما كان لقرين السوء مدخل عظيم في تغيير العقائد وتبديل الأخلاق نهى عن مخالطة من يضع الشيء في غير موضعه فقال : { ولا تركنوا } أي لا تميلوا بالمحبة والهوى { إلى الذين ظلموا } فقال المحققون : الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة وتحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب ، فأما مداخلتهم لدفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون . أقول : هذا من طريق المعاش والرخصة ، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية { أليس الله بكاف عبده } [ الزمر : 36 ] وفي قوله : { فتمسكم النار } إشارة إلى أن الظلمة أهل النار بل هم في النار أو كالنار { أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار } [ البقرة : 174 ] ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار . وقوله : { وما لكم من دون الله } من تتمة الجزاء . وقال في الكشاف : الواو للحال { من أولياء } من أنصار أي لا يقدر على منعكم من عذاب الله إلا هو . { ثم لا تنصرون } ثم لا ينصركم هو أيضا . وفيه إقناط كلي . وفائدة « ثم » تبعيد النصرة من الظلم . قال أهل التحقيق : الركون الميل اليسير وقوله : { إلى الذين ظلموا } أي الذين حدث منهم الظلم . فلم يقل « ولا تميلوا إلى الظالمين » ليدل على أن قليلاً من الميل إلى من حدث منه شيء من الظلم يوجب هذا العقاب ، وإذا كان هذا حال من ركن إلى من ظلم فكيف يكون حال الظالم في نفسه؟ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من دعا الظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه »
وقال سفيان : في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك . وعن محمد بن مسلمة : الذباب على العذرة أحسن من قارىء على باب هؤلاء . ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هي يسقى شربة ماء؟ فقال : لا . فقيل له : يموت . فقال : دعه يموت . ثم خص من أنواع الاستقامة إقامة الصلاة تنبيهاً على شرفها فقال : { وأقم الصلاة } قيل : تمسك بعض الخوارج بهذه الآية على أن الواجب من الصلاة ليس إلا الفجر والعشاء لأنهما طرفا النهار وهما الموصوفان بكونهما زلفاً من الليل ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً . غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف وهو كثير في كلامهم ، ولئن سلم وجوب صلاة أخرى إلا أن قوله : { إن الحسنات يذهبن السيئات } يشعر بأن إقامة الصلاة طرفي النهار كفارة لترك سائر الصلوات . وجمهور الأمة على بطلان هذا القول واستدلوا بالآية على وجوب الصلوات الخمس لأن طرفي النهار منصوب على الظرف لإضافتهما إلى الوقت فيكتسب المضاف حكم المضاف إليه كقولك « أتيته نصف النهار » والطرفان هما الغدوة وهي الفجر والعشية وفيها الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشيّ { وزلفاً } جمع زلفة كظلم وظلمة أي ساعات { من الليل } قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه . وقرىء { زلفاً } بسكون اللام نحو « بسرة » و « بسر » . والزلف فيمن قرأ بضمتين نحو « بسر » و « يسر » .
وقيل : { زلفاً } أي قرباً فيكون معطوفاً على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفاً أي صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل . وبالجملة فصلاة الزلف والمغرب والعشاء . وقيل : إن طرفي النهار لا يشمل إلا الفجر والعصر وبه استدل على مذهب أبي حنيفة أن التنوير بالفجر أفضل وتأخير العصر أفضل ، لأن الأمة أجمعت على أن نفس الطرفين - وهما وقت الطلوع والغروب - لا يصلح لإقامة الصلاة ، فكل وقت كان أقرب إلى الطرفين كان أولى بإقامة الصلاة فيه حملاً للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن . هذا ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره . ولقائل أن يقول : هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأن الطرف الأول للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق ، والتنوير مبعد الصلاة منه لا مقرّب . ولا أدري كيف ذهب عليه هذا المعنى مع إفراط عصبيته للشافعي . واستدل أيضاً لأبي حنيفة على مذهبه في وجوب الوتر أن أقل الجمع ثلاثة فتجب إقامة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث زلف من الليل أي ثلاث ساعات ذهب نها ساعتان للمغرب والعشاء فتعين أن تكون الساعة الثالثة للوتر ، وإذا وجب عليه وجب على أمته لقوله :
{ فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] ولمانع أن يمنع أن أقل الجمع ثلاثة أشياء ، ثم إن كل ساعة لأجل صلاة ، ثم إن كل ما يجب على النبي صلى الله عليه وسلم يجب على الأمة لأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعله أعم من أن يكون على تلك الجهة أم لا . { إن الحسنات يذهبن السيئات } قال المفسرون : نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري ، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها : إن في البيت أجود من هذا . فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من زوجته سوى الجماع ، ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال : أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال : نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت . فقيل له : هذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة . وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له : « توضأ وضوءاً حسناً وصل ركعتين » { إن الحسنات يذهبن السيئات } قال ابن عباس : أي الصلوات الخمس كفارة لسائر الذنوب ما لم تكن كبيرة . وقيل : المراد إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . وعن مجاهد : الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . وقد يحتج بالآية على أن المعصية لا تضرّ مع الإيمان الذي هو رأس الأعمال الحسنة . { ذلك } المذكور من قوله : { فاستقم } إلى ههنا { ذكرى للذاكرين } عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشيدن . ثم أمر بالصبر على التكاليف المذكورة أمراً ونهياً ، ونص عن أن الإتيان بها إحسان وأن جزاءه سيحصل لا محالة فقال : { واصبر } الآية . ثم عاد على أحوال الأمم الخالية وبين أن السبب في حلول عذاب الاستئصال بهم أمران : الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد وذلك قوله : { فلولا } أي فهلا { كان من القرون من قبلكم أولوا بقية } ذوو خير ورشد وفضل ، وذلك أن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصارت البقية مثلاً في الجودة . يقال : فلان من بقية القوم أي من خيارهم . ومن أمثالهم « في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا » . وجوّز في الكشاف أن يكون من البقوى كالتقية في التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه { إلا قليلاً } استثناء متصل لأن في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل : ما كان من القرون ناس ناهون إلا ناساً قليلاً . ومن في { ممن أنجيبنا } للبيان أي هم الذين أنجيناهم . قال في الكشاف : لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم . ولقائل أن يقول : إذا كان النهي عن المنكر فرض كفاية لم يلزم أن تنحصر النجاة في الناهين؟ فيحتمل أن تكون من للتبعيض ويجوز - على ما في الكشاف - أن يكون الاستثناء منقطعاً معناه ولكن قليلاً ممن أنجيناه من القرون نهوا عن الفساد .
قال : ولو جعلته متصلاً على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسداً لأنه يكون تحضيضاً لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول : هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم . تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن : أقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت : أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها ، على أن في جعل الاستثناء منقطعاً شبه تناقض ، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناهٍ وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام . السبب الثاني . في نزول العذاب قوله : { واتبع الذين ظلموا ما أترفوا } ما غرقوا { فيه } من التنعيم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما يتعلق بأمر الدين ، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا . ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل : أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم . والمترف الذي أبطرته النعمة ، وصبي مترف منعم البدن . وقوله : { وكانوا مجرمين } إما معترضة وإما معطوف على { اتبع } أي وكانوا مجرمين بذلك ، أو على { أترفوا } أي اتبعوا الإتراف . وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام ، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر . ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم . قال أهل السنة : أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم ، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على المساهلة بخلاف حقوق العباد ، وهذا كما قيل : الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم . ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض . وقالت المعتزلة قوله : { بظلم } حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالماً لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيهاً لذاته عن الظلم وإيذاناً بأن إهلاك المصلحين ظلم . ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } مهدية . والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مراراً . { ولا يزالون مختلفين } في الأديان والأخلاق والأفعال ، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية ، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلاً وهم الدهرية ، ومنهم من أثبت له مبدأ موجباً بالذات وهم الفلاسفة على ما أشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس ههنا موضع بيانه ، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة ، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى .
وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر ، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } وما بعده وهو قوله : { إلا من رحم ربك } قالت المعتزلة : إلا ناساً هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق . وقال أهل السنة : جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضاً في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص بالمؤمن مرجح لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده . ثم قال : { ولذلك خلقهم } فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك ، فالمعتزلة قالوا : ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره ، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره ، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم . والأشاعرة قالوا : ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلاً ، وخلق النار وخلق لها أهلاً . وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله : { وتمت كلمة ربك } أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة { لأملأن جهنم } الآية . وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده . ثم ذكر طرفاً من فوائد القصص المذكور في السورة فقال : { وكلاً } أي وكل نبأ { نقص عليك } وقوله : { من أنباء الرسل } بيان لكل و { ما نثبت } بدل من { كلاً } أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على الأساليب المختلفة نقص ، و { ما نثبت } مفعول . ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم ، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء . { وجاءك في هذه } السورة أو في هذه الأنباء { الحق } وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد { وموعظة } وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع . { وذكرى للمؤمنين } وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة ، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجعل إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره . واعلم أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل وفاعل ، وقابلها القلب وإنه ما لم يكن مستعداً لم يحصل له الانتفاع بسماع الدلائل وورودها عليه فلهذا السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد ، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله : { فاستقم كما أمرت } مشتملة على الحق والموعظة والذكرى ، وهذا ترتيب في غاية الحسن .
ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال : { وقل للذين لا يؤمنون اعملوا } وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي « الأنعام » { وانتظروا } ما يعدكم الشيطان { إنا منتظرون } ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان . وعن ابن عباس : انتظروا بنا الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم . ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر « البقرة » في تفسير آية { آمن الرسول } [ البقرة : 285 ] فلا حاجة إلى الإعادة .
التأويل : { ما دامت السموات والأرض } أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية { إلا ما شاء ربك } من الأشقياء ، وذلك أن أهل الشقاء ضربان : شقي وأشقى . فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخراً ، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلداً ، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالداً فيها ، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر . وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال : { عطاء غير مجذوذ } { لموفوهم نصيبهم } الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء . { ولولا كلمة سبقت من ربك } باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلاً { لفي شك منه } إشارة إلى الضلال . وقوله : { مريب } إشارة إلى الإضلال . { وإن كلاً } أي كل واحد من الضالين ومن المضلين { فاستقم } أمر التكوين ولذلك قال : { كما أمرت } أي في الأزل ، وفي قوله : { ومن تاب معك } إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي صلى الله عليه وسلم { إن الحسنات يذهبن السيئات } يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية ، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله : { والعصر إن الإنسان لفي خسر } [ العصر : 1 ] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدة الربانية ، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله : إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلى أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة . وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظوا على جميعها لأن الإنسان خلق ضعيفاً ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة . { فلولا كان من القرون } صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار ، فعال لما تريد ، خلقت خلقاً للإقرار وخلقت خلقاً للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤديه قوله : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } طالبة للحق متوجهة إليه { ولا يزالون مختلفين } منهم من يطلب الدنيا ، ومنهم من يطلب العقبى ، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله : { إلا من رحم ربك } { ولذلك } أي لطلب الله { خلقهم } بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه ، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله : { وتمت كلمة ربك } جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتشكيك منه ، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر { إنا عاملون } في طلب الحق من باب لطفه { وانتظروا } نتائج أعمالكم { إنا منتظرون } ثمرات أعمالنا { ولله غيب السموات والأرض } أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس { وإليه يرجع } أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر { فاعبده } أيها الطالب للحق فإنك مظهر اللطف { وتوكل عليه } في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده { وما ربك بغافل } في الأزل { عما تعملون } إلى الأبد والله حسبي .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
القراآت : { يا أبت } بفتح التاء والوقف بالهاء : يزيد وابن عامر . وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء . الباقون بالكسر في الحالين { أحد عشر } بسكون العين : يزيد وابن عباس والخزاز { لي ساجدين } بفتح الياء : الأعشى والبرجمي { يا بني } بفتح الياء أياً كان : حفص والمفضل . الباقون بكسرها { رؤياك } بالإمالة : عليّ غير قتيبة وليث . وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع ، وورش من طريق الأصبهاني والأعشى وحمزة في الوقف بغير همزة { آية للسائلين } على التوحيد : ابن كثير : الآخرون { آيات } على الجمع . { يخل لكم } بالإدغام : شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب { غيابات } وما بعده على الجمع : أبو جعفر ونافع . الباقون { غيابة } على التوحيد { لا تأمنا } بغير إشمام ضمة النون : يزيد والحلواني عن قالون . الآخرون بإشمام { الذئب } وما بعده بغير همزة : أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف { يرتع ويلعب } بالياء فيهما وبالجزم : عاصم وحمزة وعليّ وخلف . بكسر العين في الأول : أبو جعفر ونافع . بالنون فيهما بالجزم : ابن عامر وأبو عمرو . وبكسر العين : ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما { نرتعي } بالكسر مع الياء بعده { نرتع ويلعب } بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني : يعقوب عن رويس { ليحزنني أن } بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير . وقرأ نافع { ليحزنني أن } بفتح الياء أيضاً ولكن من باب الأفعال { بل سولت } وبابه مدغماً : حمزة وعلي وهشام . { يا بشرى } بالإمالة غير مضافة : حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة . { يا بشرى } بغير إمالة وإضافة : عاصم غير حماد والخزاز . الباقون { يا بشراي } بالإضافة إلى ياء المتكلم .
الوقوف : { آلر } قف كوفي { المبين } 5 ط كوفي أيضاً وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في { آلر } { القرآن } ق والوصل أصح لأن الواو للحال { الغافلين } 5 { ساجدين } 5 { كيداً } ط { مبين } 5 { وإسحق } ط { حكيم } 5 { للسائلين } 5 { عصبة } ط { مبين } 5 ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن { صالحين } 5 { فاعلين } 5 { لناصحون } 5 { لحافظون } 5 { غافلون } 5 { لخاسرون } 5 { في غيابة الجب } ج لاحتمال أن يكون جواب « لما » محذوفاً والواو في { وأوحينا } للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه ، وأن تكون الواو مقحمة والجواب { أوحينا } { لا يشعرون } 5 { يبكون } 5 ط { فأكله الذئب } ج لابتداء النفي مع واو العطف { صادقين } 5 { كذب } ط { أمراً } ط { جميل } ط { تصفون } 5 { دلوه } ط { غلام } ط { بضاعة } ط { يعملون } 5 { معدودة } ج لاحتمال الواو والحال { الزاهدين } 5 .
التفسير : قال في الكشاف : { تلك } إشارة إلى { آيات } السورة و { الكتاب المبين } السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليها في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم ، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر ، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم ، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف ، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين : سلوا محمداً لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف .
أقول : مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال : أبان الشيء وأبان هو بنفسه { إنا أنزلناه } أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه { قرآناً عربياً } والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه . وقوله : { قرآناً عربياً } يسمى حالاً موطئة لأن المراد وصفه بالعربية . احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربياً وآيات على أن أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات . وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفس ومعنى { لعلكم تعقلون } إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم . قال الجبائي : فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه . وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة ، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان العمل الصالح . قال أهل اللغة : القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئاً فشيئاً ، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية ، ثم إن كان القصص مصدراً بمعنى الاقتصاص فيكون { أحسن } مثله لإضافته إلى المصدر ، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفاً وهو الوحي لدلالة { أوحينا } عليه ، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول { أوحينا } محذوفاً كأنه قيل : نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك . وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة . وحسن المنطق كونه على أبدع طريق وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز ، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد بالنبأ والخبر المنبأ والمخبر ، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين ، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج ، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد . ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا فقالوا : يا رسول الله لو حدثتنا . فأنزل الله عز وجل { الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً } [ الزمر : 23 ] ثم إنهم ملوا فقالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله { نحن نقص عليك أحسن القصص } كل ذلك يؤمرون بالقرآن { وإن كنت } هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة .
والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك { لمن الغافلين } عن هذ القصة أو عن الدين والشريعة { إذ قال } بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذاً قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار « اذكر » . و { يوسف } ليس عربياً على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني ، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضاً فقد أخطأ ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربياً تارة وأعجمياً أخرى . وهذا الخلاف روي في « يونس » أيضاً . عن النبي صلى الله عليه وسلم « الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم » قال النحويون : التاء في { يا أبت } عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف . ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو « حمامة » ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها . والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا { إني رأيت } هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له { ولا تقصص رؤياك } ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد . من قرأ { أحد عشر } بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة ، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان . قال في الكشاف : روى جابر أن يهودياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف . فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي : إن أخبرتك هل تسلم؟ قال : نعم . قال : جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو الكتفين . رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له . فقال اليهودي : إي والله إنها لأسماؤها . وأقول : إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة ، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء . وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله { وملائكته وجبريل وميكائيل } [ البقرة : 98 ] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له : كيف رأيتها؟ فقال : رأيتهم لي ساجدين . والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع .
وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام : { وتراهم ينظرون إليك } [ الأعراف : 198 ] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر . عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر ، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر . وقيل : هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك . وعن وهب أن يوسف رأى - وهو ابن سبع سنين - أن إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة ، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال : إياك أن تذكر هذا لإخوتك . ثم رأى - وهو ابن اثنتي عشرة سنة - الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له : لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل . وقيل : كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة . وقيل ثمانون . قال علماء التعبير : إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن ، والرؤيا الجيدة يبطىء أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم . قوله { فيكيدوا } منصوب بإضمار « أن » جواباً للنهي . واللام في { لك } لتأكيد الصلة مثل « نصحتك » و « نصحت لك » . وقال في الكشاف : ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف . وقيل : متعلق بالمصدر الذي بعده . ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئاً ن تعبير رؤياه فقال : { وكذلك } أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة { يجتبيك ربك } لأمور عظام . والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك ، وجبيت الماء في الحوض جمعته ، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة . قال في الكشاف { ويعلمك } كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل : وهو يعلمك ويتم نعمته عليك . أقول : ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر . وفي { تأويل الأحاديث } وجوه منها : أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم ، سمى التعبير تأويلاً لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك . والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث بها الناس . ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان : قال الله كذا وقال الرسول كذا . ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه . وأما إتمام النعمة فيمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة ، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة ، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق ، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد ، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه ، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح .
والمراد بآل يعقوب نسله قيل : علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالاً بضوء الكواكب . واعترض بما فرط منهم في حق يوسف . وأجيب بأن ذلك قبل النبوة . وقيل : إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكاً وأنبياء و { إبراهيم وإسحاق } عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب { إن ربك عليم } بمن يستحق الاجتباء { حكيم } لا يضع الشي إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق . قيل : حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال : { وأخاف أن يأكله الذئب } ؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطاً بعدم كيد إخوته ، ولعل قوله : { أخاف أن يأكله الذئب } كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلاً عظيماً في وجود الأشياء وحصولها { لقد كان في يوسف وإخوته } أي في قصتهم وحديثهم { آيات للسائلين } لمن سأل عن تلك القصة وعرفها ، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم . وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف . يروى أن أسامي إخوته : يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة - وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب - ودان ونفتالي وجاد وآشر - وهم من سريتين زلفة وبلهة - فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف . { إذ قالوا } ظرف لكان أو منصوب بإضمار « اذكر » { ليوسف } في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة . { وأخوه } أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين { أحب } إذا كان أفعل التفضيل مستعملاً بمن لم يتصرف فيه { ونحن عصبة } الواو للحال والعصبة العشرة فصاعداً لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران . لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه { إن إبانا لفي ضلال مبين } أرادوا ضلالاً خاصاً وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد ، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف ، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر . ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره { اقتلوا يوسف } قيل : الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعاً آمرين . والظاهر أنه قال بعضه بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم { أو اطرحوه } فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليه كقوله
{ وإذ قتلتم نفسا } [ البقرة : 72 ] وانتصب { أرضاً } على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضاً مجهولة بعيدة عن العمارة { يخل لكم وجه أبيكم } تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذرك الوجه تصويراً لإقباله عليهم بالكلية ، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف { وتكونوا } مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر { من بعده } من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب { قوماً صالحين } تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه ، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال { قال قائل منهم } هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأياً وأدباً وهو الذي قال : { فلن أبرح الأرض } [ يوسف : 80 ] { لا تقتلوا يوسف } لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء { وألقوه في غيابت الجب } سمى البئر جباً لأنها قطعت قطعاً ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض ، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها . ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطاراً ونواحي { يلتقطه بعض السيارة } أي الرفقة السائرة قال ابن عباس : أي المارة ، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ { إن كنتم فاعلين } إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي . ثم إن يعقوب كان خائفاً على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا : { ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون } ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق { أرسله معنا غداً يرتع ويلعب } من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة ، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعاراً من ارتعاء الإبل والماشية . واللعب ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع . فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه ، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله { إنا ذهبنا نستبق } سمي لعباً لأنه في صورته ، أو اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر قال صلى الله عليه وسلم لجابر : « فهلا تزوجت بكراً تلاعبها وتلاعبك . » { قال إني ليحزنني } لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال { وأخاف أن يأكله الذئب } أصله الهمز ولهذا قال بعضهم : إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة . قيل : كان أرضهم مذأبة فلذلك قال : { أخاف } . وقيل : رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق . قوله : { إنا إذاً } جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط ، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار ، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها .
كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين : أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة ، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني ، وههنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم { فلما ذهبوا به وأجمعوا } عزموا على { أن يجعلوه في غيابت الجب } قيل : هو بئر ببيت المقدس . وقيل : بأرض الأردن . وقيل : بين مصر ومدين : وقيل : على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوبٍ . ثم إن كان جواب « لما » محذوفاً ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف . قال السدي : إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه ، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء . فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقاً أن لا تقتلوه ، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخواه بالدم ويحتالوا به على أبيهم . فقال : يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له : ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً حتى ينقذوك ودلوه في البئر ، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام . وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال : يا شاهداً غير غائب ، ويا قريباً غير بعيد ، ويا غالباً غير مغلوب ، اجعل لي من أمري فرجاً ومخرجاً . وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحاق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه { وأوحينا إليه } في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى . وقيل : كان إذ ذاك بالغاً وعن الحسن كان له سبع عشر سنة { لتنبئنهم } لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك { وهم لا يشعرون } أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهئيات والأشكال . . يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس .
ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحي وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله { وأوحينا } روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي : يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال : قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية . عن مقاتل : إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم . ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال : ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا . قال : فما لكم وأين يوسف { قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق } أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل { وما أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف ، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق { ولو كنا صادقين } ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا { وجاؤوا على قميصه } نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه { بدم كذب } ذي كذب أو دم هو الكذب بعينة مبالغة . يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها ، ويروى أن يعقوب لما سمع بخير يوسف صاح بأعلى صوته وقال : أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص . وقال : تالله ما رأيت كاليوم ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه . وقيل : كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم ، وآية حين ألقاه البشير على وجهه فارتد بصيراً ، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر . ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قال على سبيل الإضراب . { بل سوّلت } قال ابن عباس بل زينت { لكم أنفسهم أمراً } في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية . قال الأزهري : وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة . وقال في الكشاف : سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم { فصبر جميل } لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل . وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله } [ يوسف : 86 ] وقيل : أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت . يحكى أنه سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له : ما هذا؟ فقال : طول الزمان وكثرة الأحزان . فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ قال : يا رب خطيئة فاغفرها لي . ثم بين أن الصبر على ما وصفوه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال : { والله المستعان على ما تصفون } فالقرينتان كقوله :
{ إياك نعبد وإياك نستعين } { الفاتحة : 5 ] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا . واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير ، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديداً للمحنة عليه ، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله ، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل :
فإذا رميت يصيبني سهمي ... فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى . ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال : { وجاءت سيارة } عن ابن عباس : قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريباً منه ، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة . وقيل : كان ماؤه ملحاً فعذب حين ألقي فيه يوسف . { فأرسلوا واردهم } رجلاً يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء . ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم { فأدلى دلوه } أرسلها في البئر . قال الواحدي : فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو . { قال يا بشرى } التقدير فظهر يوسف فقال الوارد : يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك . ومتى قال الوارد هذا الكلام؟ قال جمع من المفسرين : حين رأى يوسف متعلقاً بالحبل . وقال آخرون : لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به . قال السدي : كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد . والأكثرون على أنها بمعنى البشارة . فقال أبو علي : يحتمل أن يكون منادى مضموماً مثل يا رجل وأن يكون منصوباً مثل يا رجلاً كأنه جعل ذلك النداء شائعاً في جنس البشرى . ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر . والضمير في { وأسروه } إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط ، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه . وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر ، وإما عائد الى إخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة : هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله { بضاعة } وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعاً للتجارة . وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم .
{ والله عليم بما يعملون } فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر ، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئاً مما علم الله من حال المرء . والضمير في قوله : { وشروه } إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه { بثمن } قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به { وكانوا فيه من الزاهدين } ممن يرغب عما في يده . قال أهل اللغة : زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه ، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه ، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه ، وهكذا الضمير في { وكانوا } إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا ، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهم اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير . عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره ، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا : هذا عبد أبق منا فقالوا لهم : فبيعوه منا فباعوه منهم ، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفاً من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا إنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار . وقال ابن عباس : البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّاً . ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون . عن ابن عباس كانت عشرين درهماً . وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئاً . ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق . والظاهر أن الضمير في { فيه } عائد إلى يوسف . ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه . قال النحويون : قوله : { فيه } ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة ، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلاً : وكانوا زيداً من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقيل : زهدوا فيه والله تعالى أعلم . التأويل : { تلك آيات الكتاب } دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان { إذ قال يوسف } القلب { لأبيه } يعقوب الروح { إني رأيت أحد عشر كوكباً } هن الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحسن المشترك مع المفكرة ، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدو بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس { رأيتهم لي ساجدين } وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطاناً يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى { وكذلك يجتبيك ربك } على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف { ويعلمك من تأويل الأحاديث } العلم اللدني المختص بالقلب { ويتم نعمته عليك } بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب { وعلى آل يعقوب } أي متولدات الروح من القوى والحواس { كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم } السر { وإسحاق } الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي ، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل .
{ آيات للسائلين } عن طريق الوصول إلى الله { ليوسف } القلب { وأخوه } بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصاً بالقلب { أحب إلى أبينا منا } لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه ، والحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش . { اقتلوا يوسف } القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا { أو اطرحوه } في أرض البشرية { يخل لكم وجه أبيكم } يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها { وتكونوا } بعد موت القلب { قوماً صالحين } للنعم الحواني والنفساني . { قال قائل منهم } هو يهوذا القوة المفكرة { لا تقتلوا يوسف } القلب { وألقوه في غيابت الجب } القالب وسفل البشرية { يلتقطه بعض } سيارة الجواذب النفسانية . { يرتع } في المراتع البهيمية { ويلعب } في ملاعب الدنيا { وإنا له لحافظون } من فتنة الدنيا وآفاتها { لئن أكله الذئب } الشيطان { إنا إذا لخاسرون } لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب { وهم لا يشعرون } فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب . فإن كانت الغلبة للروح سعد ، وإن كانت للنفس شقي { وجاؤوا أباهم عشاء } أي في النصف الآخر من مدّة العمر { نستبق } نتشاغل باللهو في أيام الشباب { وتركنا يوسف } أي قالب مهملاً معطلاً عن الاستكمال { فأكله } ذئب الشيطان . { وجاؤا على قميصه } أي قالب القلب { بدم كذب } هو آثار الملكات الردية ، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية . { قال } يعقوب الروح { بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل } على ما قضى الله وقدر { والله المستعان على ما تصفون } من رين القلب وموته { وجاءت سيارة } هي هبوب نفحات ألطاف الحق { فأرسلوا واردهم } وارداً من واردات الحق { فأدلى دلوه } جذبه من جذبات الرحمن { قال يا بشرى } فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصة من جب الطبيعة كما قال تعالى : { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] { والله عليم } بحكمة البشارتين و { بما يعملون } من شرائه { بثمن بخس } هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة { وكانوا فيه من الزاهدين } لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم .
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
القراآت : { هيت لك } بضم التاء وفتح الهاء : ابن كثير { هيت } بكسر الهاء وفتح التاء : أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز ، الحلواني عن هشام مثل هذا لكن بضم التاء ، النجاري عن هشام . والباقون { هيت لك } بفتحتين . وسكون الياء { المخلصين } بفتح اللام حيث كان : أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف { ربي أحسن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير { من قبل } و { من دبر } بالاختلاس : عباس { قد شغفها } مدغماً : أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام { وقالت اخرج } بكسر التاء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم . الآخرون بالضم للإتباع . { حاشا لله } وما بعده في الحالين بالألف : أبو عمرو { ربي السجن } بفتح السين على أنه مصدر : يعقوب . الباقون . بالكسر .
الوقوف : { ولداً } ط { في الأرض } ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة ب { مكنا } أو هي عطف على محذوف قبله ليتمكن ولنعلمه ، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن { الأحاديث } ط { لا يعلمون } 5 { وعلماً } ط { المحسنين } 5 { هيت لك } ط { الظالمون } 5 { همت به } ز قد قيل بناء على أن قوله { وهم } جواب « لولا » وليس بصحيح لأن جواب « لولا » لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا . قال السجاوندي : وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد { وهم بها } ج { برهان ربه } ط { والفحشاء } ط { المخلصين } 5 { لدى الباب } 5 { أليم } 5 { عن نفسي } لم يذكر الأئمة عليه وقفاً ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف { وشهد } على { راودتني } أو على جملة { هي راودتني } . { من أهلها } ج على تقدير وقال إن كان { من الكاذبين } 5 { الصادقين } 5 { من كيدكن } ط { عظيم } 5 { عن هذا } سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب { لذنبك } ج لاحتمال التعليل { الخاطئين } 5 { عن نفسه } ج لأن « قد » لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل { حباً } ط { مبين } 5 { عليهن } ج { بشراً } ط { كريم } 5 { فيه } ط { فاستعصم } ط لاحتمال القسم { الصاغرين } 5 { إليه } ج للشرط مع الواو { الجاهلين } 5 { كيدهن } ط { العليم } 5 { حين } 5 .
التفسير : قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشرتاه العزيز - واسمع قطفير أو أطفير - ولم يكن ملكاً ولكنه كان يلي خزائن مصر ، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف . روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاثة عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة .
وقيل : كان الملك في أيامه فرعون موسى ، عاش أربعمائة سنة دليله قوله : { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } [ غافر : 34 ] وقيل : فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف . والمعنى ولقد جاء آباءكم . وقيل : اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين . وقيل : أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً فابتاعه قطفير بذلك المبلغ . ومعنى { أكرمي مثواه } اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً أي حسناً مرضياً . وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي . وقال في الكشاف : المراد تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا . ويقال للرجل : كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده؟ واللام في { لامرأته } تتعلق ب { قال } . ثم بين الغرض من الإكرام فقال : { عسى أن ينفعنا } بكفاية بعض مهماتنا { أو نتخذه ولداً } لأن قطفير كان لا يولد له ولد وكان حصوراً . وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس ، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره ، وأبو بكر حين استخلف عمر . وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه . ثم قال : { وكذلك } أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه { مكنا له } في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي { ولنعلمه } قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائلا لسورة معنى تأويل الأحاديث . والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة ، وأشار إليها بقوله : { مكنا } والعلم وأشار إليه بقوله { ولنعلمه } ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال { وأوحينا إليه لتنبئنهم } وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعداً للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق { والله غالب على أمره } أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع ، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر . { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن الأمر كله بيد الله . ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال : { ولما بلغ أشدّة } قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون ، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين { آتيناه حكماً وعلماً } فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية ، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضيات والمجاهدات يصلون أوّلاً إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار ، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء ، والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات ، وقيل : الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين .
وقيل : الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها ، فحينئذٍ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس . والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية ، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات ، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارة الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق . فقوله { ولما بلغ أشده } إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية ، وقوله : { آتيناه حكماً وعلماً } إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها . قال في الكشاف : { وكذلك نجزي المحسنين } فيه تنبيه على أنه كان محسناً في عمله متقياً في عنفوان أمره ، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه . واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة . والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار ، فالأنوار السابقة تصير سبباً للأضواء اللاحقة وهلم جراً . عن الحسن : من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله .
ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال ، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله : { وراودته } والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب ، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشي الذي يريد أن يخرجه من يده ، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال : راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل منهما الوطء والجماع ، وإنما قال : { التي هو في بيتها } ولم يقل زليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة { وغلقت الأبواب } لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح . والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة { وقالت هيت لك } هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ { هئت لك } بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها معنى تهيأت لك . يقال : هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ . قال النحويون : هيت جاء بالحركات الثلاثة : فالفتح للخفة ، والكسر للالتقاء الساكنين ، والضم تشبيهاً بحيث . وإذا بين باللام نحو « هيت لك » فهي صوت قائم مقام المصدر كأفٍ له أي لك أقول هذا . وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل ، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل . وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد { قالت هيت لك } بالعبرانية هيتالج أي تعال عربه القرآن .
وقال الفراء : إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها . وقال ابن الأنباري : هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس ، ولغة العرب والفرس في السجيل ، ولغة العرب والترك في الغساق ، ولغة العرب والحبشة في ناشئة الليل . ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه السلام بثلاثة أجوبة : الأول { قال معاذ الله } وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذاً ، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل ، الثاني { إنه } والضمير للشأن { ربي } أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقاهم وإلا فيوسف كان عالماً بأنه حر والحر لا يصير عبداً بالبيع ، أو المراد التربية أي الذي رباني { أحسن مثواي } حين قال { أكرمي مثواه } وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضاً يمنع عن ذلك العمل . وقيل : أراد بقوله : { ربي } الله تعالى لأنه مسبب الأسباب . الثالث قوله : { إنه لا يفلح الظالمون } الذين يجازون الحسن بالسيء ، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم . وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة ، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة .
قوله سبحانه { ولقد همت به وهمّ بها } لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم ، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين : إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة . وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع . وعنه أيضاً أنها استقلت له وقعد هو بين شعبها الأربع . وروي أن يوسف حين قال : { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبرائيل : ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك { وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } وقال آخرون : إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين . أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زاويا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف : ولم؟ فقالت : أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية . فقال يوسف : تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت ، فوالله لا أفعل ذلك أبداً . وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضاً فوه على أصابعه قائلاً : أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين .
وقال سعيد بن جبير : تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله . وقيل : صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له رئيس فلما زنى قعد لا ريش له . وقيل : بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها { وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين } { الإنفطار : 11 ، 12 ] فلم ينصرف ثم رأى فيها { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [ الإسراء : 32 ] فلم ينته ثم رأى فيها { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [ البقرة : 281 ] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل : أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة . فانحط لجبرائيل وهو يقول : يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في يوان زمرة الأنبياء؟ وقيل : رأى تمثال العزيز . وأما الآخرون فما سلموا شيئاً من هذه الروايات . وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية ، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذ الزواجر تكميلاً للألطاف وتتميماً للعناية . قالوا : ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة . قالوا : والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني ، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين ، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هارباً عنها . وفي قوله : { وهمّ بها } فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل ، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله : { هي راودتني } وبقوله : { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وقالت { الآن حصحص الحق } وزوج المرأة صدّقه فقال : { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال : { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك { لنصرف عنه السوء } خيانة السيد { والفحشاء } الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك . ثم أكد الشهادة بقوله : { إنه من عبادنا } والإضافة للتشريف كقوله : { وعباد الرحمن } [ الفرقان : 63 ] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص ، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها .
ويحتمل أن يكون « من » للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام . فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب ، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور .
وقوله : { واستبقا الباب } أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا . وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها . روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب { وقدت قميصه من دبر } لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولاً { وألفيا سيدها } صادفا بعلها وهو قطفير . وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكاً في الحقيقة . روي أنهما ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل وقيل جالساً مع ابن عم للمرأة . ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذا ذاك؟ فقيل : قالت : { ما جزاء } هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه ، أو ليس جزاءه إلا السجن أو العذاب الأليم . وربما فسر العذاب { الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعاً في أن يواتيها خوفاً وإن لم يواتيها طوعاً . ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلاً ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن . وأيضاً لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءاً بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه . وفي قولها : { إلا أن يسجن } إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى { لأجعلنك من المسجونين } [ الشعراء : 29 ] ففيه إشعار بالتأييد { قال } يوسف { هي راودتني عن نفسي } وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها . قال سبحانه { وشهد شاهد من أهلها } قال جمع من المفسرين : الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلاً حكيماً ، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال : قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه ، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب ، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة ، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها : { إنه من كيدكن } وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبياً في المهد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه « تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم »
وعن مجاهد : الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل ، واعترض على القول الأول بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضب عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضرباً وجيعاً . وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد ، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم . واعترض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة . وأيضاً لفظ { شاهد } لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة . والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم ، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشاهد ههنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها . قال في الكشاف : التنكير في « قبل » . و « دبر » معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر . أما الضمير في قوله : { فلما رأى } وفي قوله : { قال إنه من كيدكن } فقيل : إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً ، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن { إن كيدكن عظيم } قال بعض العلماء : أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول : { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } [ النساء : 76 ] وقال للنساء : { إن كيدكن عظيم } وأقول : لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه ، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « النساء حبائل الشيطان » .
ثم قال الشاهد : { يوسف } أي يا يوسف فحذف حرف النداء { أعرض عن هذا } الأمر واكتمه ولا تحدّث به { واستغفري } يا امرأة { لذنبك } والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوا يثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } [ يوسف : 39 ] { إنك كنت من الخاطئين } من المتعمدين للذنب . يقال : خطىء إذا أذنب متعمداً والتذكير للتغليب . وقيل : الضمير في { رأى } وفي { قال } لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم . { وقال نسوة } هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضم نونها .
قال الكلبي : هن أربع في مدينة مصر : إمرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن ، وزاد مقاتل امرأة الحاجب ، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية { قد شغفها } أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب ، وقيل : جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب و { حباً } نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال : كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء . وقرىء بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران . وقال ابن الأنباري : هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها . والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب . { فلما سمعت بمكرهن } اغتيابهن وسوء قالتهن فيها ، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء . وقيل : التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكراً { أرسلت إليهن } تدعوهن . وقيل : أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سمي مكراً . وقيل : كن أربعين . { وأعتدت } وهيأت { لهن متكئاً } موضع اتكاء وأصله موتكئاً لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت ، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه . وقيل : المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات ، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئاً . وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها . وقيل : أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ . وقال مجاهد : هو طعام يحتاج الى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكىء على المقطوع بآلة القطع وقرىء متكاً مضموم الميم ساكن التاء مقصوراً وهو الأترج { فلما رأينه أكبرته } أعظمنه وهبن ذلك الجمال ، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أملح . قيل : كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجداران وقد ورث الجمال من جدته سارّة . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل : ما هذا؟ فقال : يوسف . فقيل : يا رسول الله كيف رأيته؟ قال : كالقمر ليلة البدر » وقال الأزهري : أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت . يقال : أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض ، ووجه حيضهن حينئذٍ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت ، فالمراد حضن ودهشن . وقيل : أكبرنه لما رأين عليه من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق . الفاضله الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهن { وقطعن أيديهن } أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد ، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن { حاش لله } أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة { إن هذا إلا ملك كريم } في السيرة والعفة والطهارة .
وأما قول زليخا : { فذلكن الذي لمتنني فيه } فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق . وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله ، كما أن قولهن { حاش لله ما علمنا عليه } تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله . قال صاحب الكشاف : « حاشا » كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في { لله } لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة . وقال أبو البقاء : الجمهور على أنه ههنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر ، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية . { ما هذا بشراً } أعمال ما عمل ليس لغة حجازية { إن هذا } أي ما هذا الشخص { إلا ملك كريم } استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا : وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان . واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك . وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب ، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة ، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } وسئل ههنا إن يوسف كان حاصراً فلم أشارت بعبارة البعيد؟ وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل . وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنها لم تقل فهذا رفعاً لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعاداً لمحله ، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتتني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به . ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت : { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } قال السدي : أي بعد حل السراويل : والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا : إن { استعصم } بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها ، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلاً .
{ ولئن لم يفعل ما آمره } قال في الكشاف : معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير ، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه { وليكونا من الصاغرين } هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف . والصغار الذل والهوان ، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها : أن زليخا كانت في غاية الحسن ، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة قد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها ، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات ، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفاً من شرها ومن إقدامها على قتله ، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلاً عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلاً : { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة { وإلا تصرف عني كيدهن } بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة { أصب إليهن } والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبوا إلى روحها . { وأكن من الجاهلين } الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة ، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح . ولما كان في قوله : { وإلا تصرف } معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه { فاستجاب له ربه } ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري ، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر ، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى : { ثم بدا } أي ظهر { لهم } للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف { من بعد ما رأو الآيات } الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة . وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو { ليسجننه } والقسم محذوف { حتى حين } إلى زمان ممتد . عن أبن عباس : إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة .
وعن الحسن : خمس سنين . وعن غيره سبع سنين . وعن مقاتل : أنه حبس اثنتي عشرة سنة .
التأويل : لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة فاشتراه عزيز مصرها وهو الدليل المربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة . { فقال لامرأته } وهي الدنيا { أكرمي مثواه } اخدميه بقدر الحاجة الضرورية { عسى أن ينفعنا } حتى يكون صاحب الشريعة فيتصرف في الدنيا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة { أو نتخذه ولداً } نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة إلى أن يرى الفطام عن الدنيا الدنية { وكذلك مكنا } يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو لتعلم العلم اللدني ، لأن الثمرة إنما تظهر على الشجرة إذا كان أصل الشجرة راسخاً في الأرض { والله غالب على } أمر القلب في توجيهه إلى محبة الله وطلبه ، أو على أمر القالب بجذبات العناية وإقامته على الصراط المستقيم فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنهم خلقوا مستعدّين لهذا الكمال { وكذلك نجزي المحسنين } أي كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم كذلك نجزي الأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء ، وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة . { وراودته } فيه إشارة إلى أن يوسف القلب وإن استغرق في بحر صفات الألوهية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها أي في الجسد الدنياوي { وغلقت } أبواب أركان الشريعة { وقالت هيت لك } أقبل إلى وأعرض عن الحق { قال } أي القلب الفاني عن نفسه الباقي ببقاء ربه { معاذ الله } عما سواه . { أحسن مثواي } في عالم الحقيقة { إنه لا يفلح الظالمون } الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى { وهمّ بها } فوق الحاجة الضرورية { لولا أن رأى برهان ربه } وهو نور خصلة القناعة التي هي من نتائج نظر العناية { لنصرف عنه السوء } الحرص على الدنيا { والفحشاء } بصرف حب الدنيا فيه { إنه من عبادنا المخلصين } الذي خلصوا من سجن الوجود المجازي ووصلوا إلى الوجود الحقيقي . { واستبقا } باب الموت الاختياري { وقدت } قميص بشريته { من دبر } بيد شهواتها قبل خروجه من الباب { وألفيا سيدها } وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخا الدنيا لأنه يتصرف في الدنيا كما ينبغي تصرف الرجل في المرأة { وشهد شاهد من أهلها } هو حاكم العقل الغريزي دون العقل المجرد الذي هو ليس من الدنيا وأهلها في شيء ، فبين حاكم العقل أن يد تصرف زليخا الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته { إن كيدكن عظيم } وهو قطع طريق الوصول إلى الله لعظيم على القلب السليم . { يوسف أعرض عن هذا } فإن ذكر الدنيا يورث محبتها وحب الدنيا رأس كل خطيئة .
{ وقال نسوة } هي الصفات البشرية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد { تراود فتاها } لأن الرب إذا تجلى للعبد خضع له كل شيء « يا دنيا اخدمي من خدمني » { واعتدت لهن متكئاً } أطعمة مناسبة لكل منها { وآتت كل واحد منهن سكيناً } هو سكين الذكر { وقالت اخرج عليهن } إشارة إلى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية { وقطعن أيديهن } بالذكر عما سوى الله . { ثم بدا لهم } أي ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقة ومن يراعي صلاح حال القلب { من بعد ما رأوا } آثار عناية الله وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه { ليسجننه } في سجن الشرع إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظيره { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] وإذا كان النبي مع نهاية كماله مأموراً بأن يكون مسجوناً في هذا السجن فكيف بمن دونه والله أعلم .
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
القراآت { إني أراني أعصر } بالفتح في الحرفين : أبو جعفر ونافع ، وأبو عمرو وافق ابن كثير في { أراني } كليهما . الباقون : بسكون ياء المتكلم في الكل : { نبينا } بغير همزة : أوقية والأعشى وحمزة في الوقف . { ترزقانه } مختلسة : الحلواني عن قالون { نبأتكما } مثل { أنشأنا } { ربي إني } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { آبائي } بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { إني أرى } بالفتح : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { رؤياي } بالإمالة : عليّ غير قتيبة . أبو عمرو بالإمالة اللطيفة . والقول في ترك الهمزة مثل ما تقدم { للرؤيا } ممالة : عليّ ، وأبو عمرو بالإمالة اللطيفة . { لعلي أرجع } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو { دأبا } بفتح الهمزة : حفص . الآخرون بالسكون { تعصرون } بتاء الخطاب : حمزة وعليّ وخلف والمفضل . الباقون على الغيبة . { ما بال النسوة } بضم النون : الشموني والبرجمي { نفسي } { رحم ربي } بالفتح فيهما : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو .
الوقوف : { فتيان } ط { خمراً } ج فصلاً بين القضيتين مع اتفاق الجملتين { الطير منه } ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا . { نبئنا بتأويله } ج لاحتمال التعليل . { المحسنين } 5 { أن يأتيكما } ط { ربي } ط { كافرون } 5 { ويعقوب } ط { من شيء } ط { لا يشكرون } 5 { القهار } 5 ط { من سلطان } ط { إلا الله } ط { إلا إياه } ط { لا يعلمون } 5 { خمراً } ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين { من رأسه } ط لأن قوله : { قضى } جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا { تستفتيان } ط لاستئناف حكاية أخرى { عند ربك } ز { سنين } 5 ط { يابسات } ط { تعبرون } 5 { أحلام } ج للنفي مع العطف { بعالمين } 5 { فأرسلون } 5 { ياباسات } لا لتعلق « لعلى » { يعلمون } 5 { دأباً } ج للشرط مع الفاء { تأكلون } 5 { تحصنون } 5 { يعصرون } 5 { ائتوني به } ج { أيديهن } ط { عليم } 5 { عن نفسه } ط { من سوء } ط { الحق } ز لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل . { الصادقين } 5 { الخائنين } 5 { نفسي } ج للحذف أي عن السوء { ربي } ط { رحيم } 5 .
التفسير : تقدير الكلام فحبسوه { ودخل معه } أي مصاحباً له في الدخول { السجن فتيان } غلامان للملك الأكبر خبازه وشاربيه نقلاً عن أئمة التفسير أو استدلالاً برؤياهما المناسبة لحرفتهما . رفع إلى الملك أنهما أرادا سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذ دخل يوسف { قال أحدهما إني أراني } أي في المنام لقولهما : { نبئنا بتأويله } وهو حكاية حال ماضية { أعصر خمراً } أي عنباً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه . وقيل : الخمر بلغة عمان اسم العنب . والضمير في قوله : { بتأويله } يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل : نبئنا بتأويل ذلك { إنا نراك من المحسنين } عبارة الرؤيا .