كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وأقسامهم إما بلسان الحال حيث بنوا شديداً وأملوا بعيداً ، وإما بلسان المقال أشراً وبطراً وجهلاً وسفهاً . و { ما لكم من زوال } جواب القسم . ولو قيل « ما لنا من زوال » على حكاية لفظ المقسمين لجاز من حيث العربية . والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزالون بالموت والفناء أو لا تنتقلون إلى دار أخرى هي دار الجزاء كقوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت } [ النحل : 38 ] .
ثم زادهم توبيخاً بقوله : { وسكنتم } استقررتم { في مساكن الذين ظلموا أنفسهم } بالكفر والمعاصي وهم قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم { وتبين لكم } بالأخبار والمشاهدة والبيان والعيان { كيف فعلنا بهم } من أصناف العقوبات { وضربنا لكم الأمثال } قال جار الله : أراد صفات ما فعلوا وما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم . وقال غير : المراد ما أورد في القرآن من دلائل القدرة على الإعادة والإبداء وعلى العذاب المعجل والمؤجل . ثم حكى مكر أولئك الظلمة فقال : { وقد مكروا مكرهم } أي مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم . وقيل : الضمير عائد إلى قوم محمد صلى الله عليه وسلم كما قال : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك } [ الأنفال : 30 ] وقيل : أراد ما نقل أن نمروذ حاول الصعود إلى السماء فاتخذ لنفسه تابوتاً وربط قوائمه الأربع بأربع نسور ، وكان قد جوعها ورفع من الجوانب الأربعة على التابوت عصياً أربعاً وعلق على كل واحدة منها قطعة من اللحم ، ثم إنه جلس مع صاحبه في ذلك التابوت . فلما أبصرت النسور ذلك اللحم تصاعدت في جو الهواء ثلاثة أيام وغابت الأرض عن عين نمروذ ورأى السماء بحالها ، فعكس تلك العصيّ التي عليها اللحوم فهبطت النسور إلى الأرض . وضعفت هذه الرواية لأنه لا يكاد يقدم عاقل على مثل هذا الخطر . { وعند الله مكرهم } إن كان مضافاً إلى الفاعل فالمعنى ومكتوب عند الله مكرهم فيجازيهم عليه بأعظم من ذلك ، وإن كان مضافاً إلى المفعول فمعناه وعنده مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقونه فيأتيهم به من حيث لا يشعرون . أما قوله : { وإن كان مكرهم لتزول } من قرأ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية فوجهان : أحدهما أن تكون « إن » مخففة من الثقيلة فزوال الجبال مثل لعظم مكرهم وشدته أي وإن الشأن كان مكرهم معداً لذلك . وثانيهما أن تكون « إن » نافية واللام المكسورة لتأكيد النفي كقوله : { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [ البقرة : 143 ] والمعنى ومحال أن تزول الجبال بمكرهم على أن الجبال مثل لآيات الله وشرائعه الثابتة على حالها أبد الدهر . ومن قرأ بفتح اللام الأولى ورفع الثانية فإن مخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة ، والمعنى كما مر .
ثم إنه سبحانه أكد كونه مجازياً لأهل المكر على مكرهم بقوله : { فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } قال جار الله : قدم المفعول الثاني - وهو الوعد - على المفعول الأول ليعلم أنه غير مخلف الوعد على الإطلاق . ثم قال : { رسله } تنبيهاً على أنه إذا لم يكن من شأنه إخلاف الوعد فكيف يخلفه رسله الذين هم صفوته . والمراد بالوعد قوله : { إنا لننصر رسلنا } [ غافر : 51 ] { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] ونحوهما من اللآيات . قوله : { إن الله عزيز ذو انتقام } قد مر في أول « آل عمران » { يوم تبدل الأرض } قال الزجاج : انتصاب يوم على البدل من { يوم يأتيهم } أو على الظرف للانتقام . والأظهر انتصابه باذكر كما مر في الوقوف . ومعنى قوله : { والسموات } أي وتبدل السموات قال أهل اللغة : التبديل التغيير وقد يكون في الذوات كقولك « بدلت الدراهم دنانير » وفي الأوصاف كقولك « بدلت الحلقة خاتماً » إذا أذبتها وسوّيتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل . وتفسير ابن عباس يناسب الوجه الثاني قال : هي تلك الأرض وإنما تغير فتسير عنها جبالها وتفجر بحارها وتسوّى فلا يرى فيها عوج ولا أمت ، وتبدل السماء بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبواباً . وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدّها مدّ الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً » وهذا القول يناسب مذهب الحكماء في أن الذوات لا يتطرق إليها العدم وإنما تعدم صفاتها وأحوالها . نعم جوزوا انعدام الصور مع أنها جواهر عندهم . وتفسير ابن مسعود يناسب الوجه الأول قال : يحشر الناس على أرض بيضاء لم يخطىء عليها أحد خطيئة . وعن علي كرم الله وجهه : تبدل أرضاً من فضة وسموات من ذهب وعن الضحاك : أرضاً من فضة بيضاء كالصحائف . وقيل : لا يبعد أن يجعل الله الأرض جهنم والسموات الجنة . { وبرزوا لله } قد ذكرناه في أول السورة . وتخصيص { الواحد القهار } بالموضع تعظيم وتهويل وأنه لا مستغاث وقتئذ إلى غيره ولا حكم يومئذ لأحد إلا له يتفرد في حكمه ويقهر ما سواه .
ومن نتائج قهره قوله : { وترى المجرمين يومئذ مقرنين } قرن بعضهم مع بعض لأن الجنسية علة الضم أو مع الشياطين الذين أضلوهم . قالت الحكماء : هي الملكات الذميمة والعقائد الفاسدة التي اكتسبوها في تعلق الأبدان . وقوله : { في الأصفاد } أي القيود إما أن يتعلق بمقرنين وإما أن يكون وصفاً مستقلاً أي مقرنين مصفدين . وقيل : الأصفاد الأغلال . والمعنى قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم بالأغلال . وحظ العقل فيه أن الملكات الحاصلة في جوهر النفس إنما تحصل بتكرير الأفعال الصادرة من الجوارح والأعضاء . { سرابيلهم } جمع سربال وهو القميص { من قطران } هو ما يتحلب أي يسيل من شجر يسمى الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحره وحدّته ، وقد تبلغ حرارته الجوف ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار ، وقد يستسرج به وهو أسود اللون منتن الريح فيطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلأوه لهم كالسرابيل فيجمع عليهم اللذع والحرقة والاشتعال والسواد والنتن ، على أن التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين والوجه العقلي فيه أن البدن بمنزلة القميص للنفس ، وكل ما يحصل للنفس من الآلام والغموم فإنما يحصل بسبب هذا البدن ، فلهذا البدن لذع وحرقة في جوهر النفس بنفوذ الشهوة والحرص والغضب وسائر آثار الملكات الردية فيه .
ومن قرأ { من قطرآن } فالقطر النحاس والصفر المذاب والآني المتناهي حره . قال ابن الأنباري : وتلك النار لا تبطل ذلك السربال ولا تفنيه كما لا تهلك النار أجسادهم والأغلال التي كانت عليهم { وتغشى وجوههم النار } خص الوجه بالذكر لأنه أعز موضع في ظاهر البدن وأشرفه فعبر به عن الكل . قوله : { ليجزي } اللام متعلقة ب { تغشى } أو بجميع ما ذكر كأنه قيل : يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي { الله كل نفس ما كسبت } قال الواحدي : أراد نفوس الكفار لأن ما سبق لا يليق إلا بهم . ويحتمل أن يراد كل نفس مجرمة ومطيعة لأنه تعالى إذا عاقب المجرمين لإجرامهم علم أنه يثيب المطيعين لطاعتهم . ثم أشار إلى القرآن إلى ما في السورة أو إلى ما مر من قوله : { ولا تحبسن الله غافلاً } إلى ههنا فقال { هذا بلاغ } كفاية { للناس } في التذكير والموعظة لينصحوا { ولينذروا به } بهذا البلاغ . ثم رمز إلى استكمال القوّة النظرية بقوله : { وليعلموا أنما هو إله واحد } وإلى استكمال القوة العملية بقوله : { وليذكر أولوا الألباب } لأنهم إذا خافوا ما أنذروا به دعتهم المخافة إلى استكمال النفس بحسب القوتين والله ولي التوفيق .
التأويل : { وإذ قال إبراهيم } الروح { رب اجعل } بلد القلب { آمناً } من وسوسة الشيطان وهواجس النفس وآفات الهوى { واجنبني وبني } هم الفؤاد والسر والخفى { أن نعبد الأصنام } وهو كل ما سوى الله . فصنم النفس الدنيا ، وصنم القلب العقبى ، وصنم الروح الدرجات العلى ، وصنم السر العرفان والقربات ، وصنم الخفى الركون إلى المكاشفات والمشاهدات وأنواع الكرامات { ومن عصاني فإنك غفور } فيه نكتتان : إحداهما لم يقل « ومن عصاك » إشارة إلى أن عصيان الله لا يستحق المغفرة والرحمة ، والثانية لم يقل « فأنا أغفره وأرحم عليه » لأن عالم الطبيعة البشرية يقتضي المكافأة وإنما المغفرة والرحمة من شأن الغني المطلق { أسكنت من ذريتي } هم صفات الروح والعقل والسر والخفى { بواد غير ذي زرع } وهو وادي النفس { عند بيتك المحرم } على ما سواك وهو كعبة القلب حرام أن يكون بيتاً لغير الله « لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن » .
وفيه أنه توسل في أجابة الدعاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكأنه قال : إن ضيعت هاجر وإسماعيل فقد ضيعت محمداً . وفي قوله : { ليقيموا الصلاة } إشارة إلى أنه لو لا تعلق الروح بالجسد وحلوله بأرض القالب لم يمكن استكمال الروح بالأعمال البدنية ، وأنه لولا غرض هذا الاستكمال لم يحصل ذلك التعلق { فاجعل أفئدة } الفات الناسوتية { تهوي } إلى الصفات الروحانية { وارزقهم من } ثمرات الصفات اللاهوتية { لعلهم يشكرون } هذه النعمة الجسيمة التي ليس ينالها الملائكة المقربون ، وفي هذا سر عظيم لا يمكن إنشاؤه { ربنا إنك تعلم ما نخفي } من حقائق الدعاء { وما نعلن } من ظاهر القصة { وما يخفى على الله من شيء } في أرض المعاملات الصورية ولا في سماء القلوب من الغيوب { على الكبر } أي بعد تعلق الروح بالقالب { إسماعيل } السر { وإسحق } الخفي { مقيم الصلاة } دائم العروج فإن الصلاة معراج المؤمن { ربنا اغفر لي } استرني وامنحني بصفة معرفتك { ولوالدي } من الآباء العلوية والأمهات السفلية لئلا يحجبوني عن رؤيتك يوم يقوم حسابك بكمالية كل نفس ونقصانها لأكون في حساب الكاملين لا في حساب الناقصين . { ولا تحسبن } أي لم يكن { الله غافلاً } في الأزل بل الكل بقضائه وقدره { وإنما يؤخرهم } ليبلغوا إلى ما قدر لهم من الأعمال فإنها مودعة في الأعمار ، وبذلك يصل كل من أهل السعادة والشقاوة إلى منازلهم { ما لكم من زوال } فيه من إبطال مذهب التناسخية . زعموا أن نفوسهم لا تزال تتعلق بالأبدان { وسكنتم في مساكن الذين ظلموا } تعلقتم بأبدان مثل أبدانهم منهمكين في ظلمات الأخلاق الذميمة { وعند الله } مقدار { مكرهم وإن كان مكرهم } بحيث يؤثر في إزالة الجبال عن أماكنها ولكنه لا تحرك شعرة إلا بإذن الله بقضائه { يوم تبدل } أرض البشرية بأرض القلوب فتضمحل ظلماتها بأنوار القلوب ، وتبدل سموات الأسرار بسموات الأرواح فإن شموس الأرواح إذا تجلت لكواكب الأسرار انمحت أنوار كواكبها بسطوة أشعة شموسها ، بل تبدل أرض الوجود المجازي عن إشراق تجلي أنوار هويته بحقائق أنوار الوجود الحقيقي كما قال : { وأشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] وحينئذ { برزوا لله الواحد القهار } فإن شموس الأرواح تصير مقهورة في تجلي نور الألوهية . { وترى المجرمين } يوم التجلي { مقرنين } في قيود الصفات الذميمة لا يستطيعون البروز لله . { سرابيلهم من قطران } المعاصي وظلمات النفوس فهم محجوبون بهما عن الله { وتغشى وجوههم } نار الحسرة والقطيعة { هذا بلاغ للناس } الذين نسوا عالم الوحدة { وليذروا به } قبل المفارقة فإن الانتباه بالموت لا ينفع { وليعلموا أنما هو إله واحد } فيعبدوه ولا يتخذوا إلهاً غيره من الدنيا والهوى والشيطان { وليتذكر أولوا الألباب } علام الشهود فيخرجوا من قشر الوجود ، والله أعلم .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
القراآت : { ربما } بفتح الباء مخففة : أبو جعفر ونافع وعاصم غير الشموني . و { ربما } بضم الباء خفيفة : الشموني . الباقون بالفتح والتشديد { ما ننزل } بالنون { الملائكة } بالنصب : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . { ما تنزل } بضم التاء وفتح الزاي المشددة { الملائكة } بالرفع : أبو بكر وحماد الباقون مثله ، ولكن بفتح التاء { ما تنزل } بالإدغام : البزي وابن فليح { سكرت } خفيفة : ابن كثير { فتحنا } بالتشديد : يزيد { الريح } على التوحيد : حمزة وخلف { صراط على } بكسر اللام ورفع الياء على النعت : يعقوب الآخرون { عليّ } جاراً ومجروراً { وعيون } بكسر العين : حمزة وعلي وابن كثير وابن ذكوان والأعشى ويحيى وحماد . الباقون بضمها { نبىء عبادي } مثل نبئنا عبادي أني بالفتح فيهما : { أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . والآخرون بالإسكان .
الوقوف { آلر } قف كوفي { مبين } 5 { مسلمين } { يعلمون } 5 { معلوم } 5 { وما يستأخرون } 5 { لمجنون } 5 ط لأن التحضيض له صدر الكلام { الصادقين } 5 { منظرين } 5 { لحافظون } 5 { الأولين } 5 { يستهزءُون } 5 { المجرمين } 5 { الأولين } 5 { يعرجون } 5 { مسحورون } 5 { للناظرين } لا { رجيم } لا 5 { مبين } 5 { موزون } 5 { برازقين } 5 { خزائنه } ز لاتفاق الجملتين مع الفصل بي معنيي الجمع في التقدير والتفريق في التنزيل . { فأسقيناكموه } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال { بخازنين } 5 { الوارثون } 5 { المستأخرين } 5 { يحشرهم } ط { عليم } 5 { مسنون } 5 ج لاتفاق الجملتين مع تقدم المفعول في الثانية { السموم } 5 { مسنون } 5 { ساجدين } 5 { أجمعون } 5 لا { إلا إبليس } ط { الساجدين } 5 { مسنون } 5 { رجيم } 5 { الدين } 5 { يبعثون } 5 { من المنظرين } لا 5 { المعلوم } 5 { أجمعين } لا 5 { المخلصين } 5 { مستقيم } 5 { الغاوين } 5 { أجمعين } 5 { أبواب } ط { مقسوم } 5 { وعيون } 5 لإرادة القول بعده { آمنين } 5 { متقابلين } 5 { بمخرجين } 5 { الرحيم } لا { الأليم } 5 .
التفسير قال جار الله : { تلك } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآي والكتاب والقرآن المبين السورة . وتنكير القرآن للتفخيم وقال آخرون : الكتاب والقرآن المبين هو الكتاب الذي وعد الله محمداً صلى الله عليه وسلم والمعنى تلك الآيات آيات ذلك الكتاب الكامل في كونه كتاباً وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان . أما قوله { ربما يود } فذكر السكاكي أن فيه سبع لغات أخر بعد المشهورة : رب بالراء مضمومة ، والباء مخففة مفتوحة أو مضمومة أم مسكنة ، ورب بالراء مفتوحة والباء كذلك مشددة ، وربة بالتاء مفتوحة والباء كذلك أي مفتوحة مخففة أو مشددة ، وإنما دخل على المضارع مع أنه مختص بالماضي لأن المترقب في أخبار الله بمنزلة الماضي المقطوع به في تحققه فكأنه قيل : ربما ود . و « ما » هذه كافة أي تكف رب عن العمل فتتهيأ بذلك للدخول على الفعل .
وقيل : إن « ما » بمعنى شيء أي رب شيء يوده الذين كفروا . ورب للتقليل فأورد عليه أن تمنيهم يكثر ويتواصل فما معنى التقليل؟ وأجيب بأنه على عادة العرب إذا أرادوا التكثير ذكروا لفظاً وضع لأجل التقليل كما إذا أرادوا اليقين ذكروا لفظاً وضع للشك . والمقصود إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالتعريض فيقولون : ربما ندمت على ما فعلت ، ولعلك تندم على فعلك . وإن كان العلم حاصلاً بكثرة الندم ووجوده بغير شك أرادوا لو كان الندم قليلاً أو مشكوكاً فيه لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من الغم القليل كما يحذرون من الكثير ، ومن الغم المظنون كما من المتيقن . فمعنى الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة كان جديراً بالمسارعة إليه فكيف وهو يودونه في كل ساعة . وقوله { لو كانوا مسلمين } إخبار عن ودادتهم كقولك « حلف بالله ليفعلن » . ولو قيل « لو كنا مسلمين » جاز من حيث العربية كقولك « حلف بالله لأفعلن » . ومتى تكون هذه الودادة؟ قال الزجاج : إن الكافر كلما رأى حالاً من أحوال العذاب أو رأى أحوالاً من أحوال المسلم ود لو كان مسلماً . وعلى هذا فقد قيل في وجه التقليل : إن العذاب يشغلهم عن كثير التمني فلذلك قلل . وقال الضحاك : هي عند الموت إذا شاهد أمارات العذاب . وقيل : إذا اسودت وجوههم . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم « إذا كان يوم القيامة اجتمع أهل النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة . فقال الكفار لهم : ألستم مسلمين؟ قالوا : بلى قالوا : فما أغنى عنكم من إسلامكم وقد صرتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم فيأمر لكل من كان من أهل القبلة بالخروج فحينئذٍ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين . وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الآية » وروى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : ما يزال الله يرحم المؤمنين ويخرجهم من النار ويدخلهم الجنة بشفاعة الملائكة والأنبياء حتى إنه تعالى في آخر الأمر يقول : من كان من المسلمين فليدخل الجنة فهناك يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين { ذرهم } ظاهره أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يخليهم وشأنهم ، فاحتجت الأشاعرة به على أنه سبحانه وتعالى قد يصد عن الإيمان ويفعل بالمكلف ما يكون مفسدة في الدين . وقالت المعتزلة : ليس هذا إذناً وتجويزاً وإنما هو تهديد ووعيد وقطع طمع النبي عن ارعوائهم ، وفيه أنهم من أهل الخذلان ولا يجيء منهم إلا ما هم فيه ، ولا زاجر لهم ولا واعظ إلا معاينة ما ينذرون به حين لا ينفعهم الوعظ . وفي الآية تنبيه على أن إيثار التلذذ والتمتع وما يؤدي إليه طول الأمل ليس من أخلاق المؤمنين { و } معنى { يلههم الأمل } يشغلهم الرجاء عن الإيمان والطاعة .
لهيت عن الشيء بالكسر ألهى لهياً إذا سلوت عنه وتركت ذكره وأضربت عنه . وألهاني غيره . عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خط خطاً وقال : هذا الإنسان . وخط آخر إلى جنبه وقال : هذا أجله . وخط آخر بعيداً منه فقال : هذا الأمل . فبينما هو كذلك إذا جاءه الأقرب { فسوف يعلمون } سوء صنيعهم مزيد تأكيد للتهديد .
ثم ذكر ما هو نهاية في الزجر والتحذير فقال { وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب } أي مكتوب { معلوم } وهو أجلها الذي كتب في اللوح . قال جار الله : قوله { ولها كتاب } جملة واقعة صفة لقرية والواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف . وذكر السكاكي في المفتاح أن هذا سهو لأن الفصل بين الموصوف والصفة لا يجوز ولكن الجملة حال من قرية ومثل هذا جائز ، ولو كان ذو الحال نكرة محضة كقولك « جاءني رجلٌ وعلى كتفه سيف » لعدم التباس الحال بالوصف لمكان الفاصلة بالواو ، وكيف وقد زادت الفاصلة في الآية بكلمة { إلا } وذو الحال قريب من المعرفة إذ التقدير : وما أهلكنا قرية من القرى من قبل إفادة من الاستغراق . قال قوم : المراد بهذا الهلاك عذاب الاستئصال الذي كان ينزله الله بالمكذبين المعاندين من الأمم السالفة . وقال آخرون : أراد الموت والأول أقرب لأنه في الزجر أبلغ وكأنه قيل : إن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغتر به العاقل فإن لكل أمة وقتاً معيناً في نزول العذاب لا يتقدم ولا يتأخر . وقيل : أراد مجموع الأمرين . قال صاحب النظم : إذا كان السبق واقعاً على شخص فمعناه جاز وخلف كقولك « سبق زيد عمراً » أي جازه وخلفه وأنه قصر عنه وما بلغه ، وإذا كان واقعاً على زمان فعلى العكس كقولك « سبق فلان عام كذا » معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه . فمعنى الآية أنه لا يحصل أجل أمة قبل وقته ولا بعده كما في كل حادث ، وقد مر بحث الأجل في أول سورة الأنعام . وأنث الأمة أولاً ثم ذكرها آخراً في قوله { وما يستأخرون } حملاً على اللفظ والمعنى ، وحذف متعلق { يستأخرون } وهو عنه للعلم به . ولما بالغ في تهديد الكفار شرع في تعديد بعض شبههم ومطاعنهم في النبي . فالأولى أنهم كانوا يحكمون عليه بالجنون لأنهم كانوا يسمعون منه صلى الله عليه وسلم . ما لا يوافق آراءهم ولا يطابق أهواءهم وإنما نادوه { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } مع أنهم كانوا لا يقرون بنزول الوحي عليه تعكيساً للكلام استهزاءً وتهكماً ، وأرادوا يا أيها الذين نزل عليه الوحي في زعمه واعتقاده وعند أصحابه وأتباعه ، الثانية . { لو ما تأتينا بالملائكة } « لو ما » حرف تحضيض مركب من « لو » المفيدة للتمني ومن « ما » المزيدة ، فأفاد المجموع الحث على الفعل الداخل هو عليه والمعنى : هلا تأتينا بالملائكة ليشهدوا على صدقك ويعضدوك على إنذارك؟ والمراد هلا تأتينا بملائكة العذاب إن كنت صادقاً في أن تكذيبك يقتضي التعذيب العاجل؟ فأجاب الله سبحانه عن شبههم بقوله { ما ننزل الملائكة إلا بالحق } قالت المعتزلة : أي تنزيلاً متلبساً بالحكمة والمصلحة والغاية الصحيحة ، ولا حكمة في أن تأتيكم عياناً فإن أمر التكليف حينئذٍ يؤول إلى الاضطرار والإلجاء ، ولا فائدة تعود عليكم لأنه تعالى يعلم إصراركم على الكفر فيصير إنزالهم عبثاً ، أو لا حكمة في إنزالهم لأنهم لو نزلوا ثم لم تؤمنوا وجب عذاب الاستئصال وذلك قوله { وما كانوا إذاً منظرين } فإن التكليف يزول عند نزول الملائكة وقد علم الله من المصلحة أن لا يهلك هذه الأمة ويمهلهم لما علم من إيمان بعضهم أو إيمان أولادهم .
وقالت الأشاعرة : إلا بالحق أي إلا بالوحي أو العذاب . قال صاحب النظم : لفظ « إذن » مركبة من « إذ » بمعنى « حين » ومن « أن » الدالة على مجيء فعل بعده ، فخففت الهمزة بحذفها بعد نقل حركتها وكأنه قيل : وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا . وقال غيره : « إذن » جواب وجزاء تقديره : ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين وما أخر عذابهم . ثم أنكر على الكفار استهزاءهم في قولهم { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } فقال على سبيل التوكيد { إنا نحن نزلنا الذكر } ثم دل على كونه آي منزلة من عنده فقال { وإنا له لحافظون } لأنه لو كان من قول البشر أو لم يكن آية لم يبق محفوظاً من التغيير والاختلاف . وقيل : الضمير في { له } لرسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] والقول الأول أوضح . ووجه حفظ القرآن قيل : هو جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر حتى لو زادوا فيه شيئاً ظهر ذلك للعقلاء . ولم يخف ، فلذلك بقي مصوناً عن التحريف . وقيل : حفظ بالدرس . والبحث ولم يزل طائفة يحفظونه ويدرسونه ويكتبونه في القراطيس باحتياط بليغ وجد كامل حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن في حرف من كتاب الله لقال له بعض الصبيان : أخطأت . ومن جملة إعجاز القرآن وصدقه أنه سبحانه أخبر عن بقائه محفوظاً عن التغيير والتحريف وكان كما أخبر بعد تسعمائة سنة فلم يبق للموحد شك في إعجازه . وههنا نكتة هي أنه سبحانه تولى حفظ القرآن ولم يكله إلى غيره فبقي محفوظاً على مر الدهور بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتول حفظها وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم ووقع التحريف . ثم ذكر أن عادة هؤلاء الجهال مع جميع الأنبياء كذلك ، والغرض تسلية النبي صلى الله عليه وسلم .
وفي الكلام إضمار والتقدير { ولقد أرسلنا من قبلك } رسلاً إلا أنه حذف ذكر الرسل لدلالة الإرسال عليه . ومعنى { في شيع الأولين } في أممهم وأتباعهم وقد مر معنى الشيعة في آخر « الأنعام » قال جار الله : معنى أرسلنا فيهم جعلناهم رسلاً فيما بينهم . قال الفراء : إضافة الشيع إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله { حق اليقين } [ الواقعة : 95 ] و { بجانب الغربي } [ القصص : 44 ] وقوله { وما يأتيهم } حكاية حال ماضية . وإنما كان الاسهزاء بالرسل عادة الجهلة في كل قرن لأن الفطام عن المألوف شديد وكون الإنسان مسخراً لأمر من هو مثله أو أقل حالاً منه في المال والجاه والقبول أشد ، على أن السبب الكلي فيه هو الخذلان وعدم التوفيق من الله سبحانه ووقوعهم مظاهر القهر في الأزل . قوله { كذلك نسلكه } السلك إدخال الشيء في الشيء كالخيط في المخيط . وقالت الأشاعرة : الضمير في { نسلكه } يجب عوده إلى أقرب المذكورات وهو الاستهزاء الدال عليه { يستهزءُون } وأما الضمير في قوله { لا يؤمنون به } فيعود إلى الذكر لأنه لو عاد إلى الاستهزاء وعدم الإيمان بالاستهزاء حق وصواب لم يتوجه اللوم على الكفار ، ولا يلزم من تعاقب الضمائر عودها على شيء واحد وإن كان الأحسن ذلك . والحاصل أن مقتضى الدليل عود الضمير إلى الأقرب إلا إذا منع مانع من اعتباره . وقال بعض الأدباء منهم : قوله { لا يؤمنون به } تفسير للكناية في قوله { نسلكه } أي نجعل في قلوبهم أن لا يؤمنوا به فثبتت دلالة الآية على أن الكفر والضلال والاستهزاء ونحوها من الأفعال كلها بخلق الله وإيجاده . وقالت المعتزلة : الضميران يعودان إلى الذكر لأنه شبه هذا السلك بعمل آخر قبله وليس إلا تنزيل الذكر . والمعنى مثل ذلك الفعل نسلك الذكر في قلوب المجرمين . ومحل { لا يؤمنون به } نصب على الحال أي غير مؤمن به أو هو بيان لقوله { كذلك نسلكه } والحاصل أنا نلقيه في قلوبهم مكذباً مستهزأً به غير مقبول نظيره ما إذا أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت : كذلك أنزلها باللئام تعني مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضية . واعتراض بأن النون إنما يستعمله الواحد المتكلم إظهاراً للعظمة والجلال ومثل هذا التعظيم إنما يحسن ذكره إذا فعل فعلاً يظهر له أثر قويّ كامل ، أما إذا فعل بحيث يكون منازعه ومدافعه غالباً عليه فإنه يستقبح ذكره على سبيل التعظيم ، والأمر ههنا كذلك لأنه تعالى سلك استماع القرآن وتحفيظه وتعليمه في قلب الكافر لأجل أن يؤمن به ، ثم إنه لم يلتفت إليه ولم يؤمن به فصار فعل الله كالهدر الضائع وصار الشيطان كالغالب المدافع فكيف يحسن ذكر النون المشعر بالتعظيم في هذا المقام؟ أما قوله { وقد خلت سنة الأولين } فقيل : أي طريقتهم التي بينها الله في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم وبالذكر المنزل عليهم ، وهذا يناسب تفسير المعتزلة ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم .
وقيل : قد مضت سنة الله في الأولين بأن يسلك الكفر والضلال في قلوبهم وهذا قول الزجاج ، ويناسب تفسير الأشاعرة . ثم حكى إصرارهم على الجهل والتكذيب بقوله { ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا } أي هؤلاء الكفار { فيه يعرجون } يتصاعدون { لقالوا إنما سكرت أبصارنا } هو من سكر الشراب أو من سكر سدّ الشق يقال : سكر النهر إذا سدّه وحبسه من الجري . والتركيب يدل على قطع الشيء من سننه الجاري عليه ومنه السكر في الشراب لأنه ينقطع عما كان عليه من المضاء في حال الصحو . فمعنى الآية حيرت أبصارنا ووقع بها من فساد النظر ما يقع بالرجل السكران ، أو حبست عن أفعالها بحيث لا ينفذ نورها ولا تدرك الأشياء على حقائقها . عن ابن عباس : المراد لو ظل المشركون يصعدون في تلك المعارج وينظرون إلى ملكوت الله تعالى وقدرته وسلطانه وإلى عباده الملائكة الذين هم من خشية ربهم مشفقون لتشككوا في تلك الرؤية وبقوا مصرين على كفرهم وجهلهم كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاق القمر وما خص به النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن المعجز الذي لا يستطيع الجن والإنس ان يأتوا بمثله . قال في الكشاف : ذكر الظلول يعني أنه قال { فظلوا } ولم يقل « فباتوا » ليجعل عروجهم بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون . وقال : إنما سكرت ليدل على أنهم يبتون القول بأن ذلك ليس إلا تسكيراً للأبصار . وقيل : الضمير في { فظلوا } للملائكة أي لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عياناً لقالوا : إن السحرة سحرونا وجعلونا بحيث نشاهد هذه الأباطيل التي لا حقيقة لها . وههنا سؤال وهو أنه كيف جاز من جم غفير أن يصيروا شاكين فيما يشاهدونه بالعين السليمة في النهار الواضح؟ وأجيب بأنهم قوم مخصوصون لم يبلغوا مبلغ التواتر وكانوا رؤساء قليلي العدد فجاز تواطؤهم على المكابرة والعناد لا سيما إذا جمعهم غرض معتبر كدفع حجة أو غلبة خصم .
ولما أجاب عن شبه منكري النبوة بما أجاب وكان القول بالنبوة مفرعاً على القول بالصانع أتبعه دلائل ذلك فقال { ولقد جعلنا في السماء بروجاً } وهي اثنا عشر عند أهل النجوم ، وذلك أنهم قسموا نطاق الفلك الثامن عندهم باثني عشر قسماً متساوية ، ثم أجيز بمنتهى كل قسم وبأوله مبتدأة من أول الحمل نصف دائرة عظيمة مارة بقطبي الفلك فصار الفلك أيضاً منقسماً باثنتي عشرة قطعة كل منها تشبه ضلعاً من أضلاع البطيخ تسمى برجاً . ولا شك أن هذه البروج مختلفة الطباع ، كل ثلاثة منها على طبيعة عنصر من العناصر الأربعة فلذلك يسمى الحمل والأسد والقوس مثلثة نارية ، والثور والسنبلة والجدي مثلثة أرضية ، والجوزاء والميزان والدلو مثلثة هوائية ، والسرطان والعقرب والحوت مثلثة مائية .
ثم إن كانت أجزاء الفلك مختلفة في الماهية على ما يجوّزه المتكلمون ، أو كانت متساوية ثم تمام الماهية مختلفة في التأثير كما يقول به الحكيم ، فعلى التقديرين يكون اختصاص كل جزء بطبيعة معينة أو بتأثير معين مع تساوي الكل في حقيقة الجسمية دالاً على صانع حكيم ومدبر قدير . الدليل الآخر قوله { وزيناها } أي بالشمس والقمر والنجوم { للناظرين } بنظر الاعتبار والاستبصار . وقال المنجمون . إن الكواكب الثابتة كلها على الفلك الثامن وهذا لا ينافي الآية على ما يمكن أن يسبق إلى الوهم ، لأنها سواء كن في سماء الدنيا أو في سموات أخر فوقها فلا بد أن يكون ظهورها في السماء الدنيا فتكون السماء الدنيا مزينة بها ، والآية لا تدل إلا على هذا القدر . ونظير هذه الآية قوله تعالى في « حم السجدة » { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } [ فصلت : 12 ] ومثله في سورة الملك . الدليل الثالث قوله { وحفظناها } أي البروج أو السماء { من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع } نصب عل الاستثناء المنقطع أي لكن من استرق وجائز أن يكون مخفوضاً أي إلا ممن استرق . وعن ابن عباس : يريد الخطفة اليسيرة { فاتبعه } أي أدركه ولحقه { شهابٌ مبين } ظاهر للمبصرين والشهاب شعلة نار ساطع ، وقد يسمى الكوكب شهاباً لأجل لمعانه وبريقه . قال ابن عباس : كانت الشياطين لا يحجبون من السموات وكانوا يدخلونها ويسمعون أخبار الغيوب من الملائكة فيلقونها على الكهنة ، فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ، فلما ولد محمد صلى الله عليه وسلم منعوا من السموات كلها وهذا هو المراد بحفظ السموات كما لو حفظ أحدنا منزله ممن يتجسس ويخشى منه الفساد . والاستراق السعي في استماع الكلام مستخفياً . قال الحكماء : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس ، فإذا بلغ النار التي دون الفلك احترق بها واشتعل لدهنية فيه فيحدث منها أنواع النيران من جملتها الشهب ، فلا ريب أنها كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنها لم تكن مسلطة على الشياطين . وإنما قيض كونها رجوماً للشياطين في زمن عيسى عليه السلام ثم في زمن محمد صلى الله عليه وسلم .
أسئلة : كيف يجوز أن يشاهد هؤلاء الجن واحداً كان أو أكثر من جنسهم يسترقون السمع فيحرقون ، ثم إنهم مع ذلك يعودون لمثل صنيعهم؟ والجواب : إذا جاء القضاء عمي البصر ، فإذا قيض الله لطائفة منهم الحرق لطغيانها قدر له من الدواعي المطمعة في درك المقصود ما عندها يقدم على العمل المفضي الى الهلاك والبوار . آخر : قد ورد في الأخبار أن ما بين كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، فهؤلاء الجن إن قدروا على خرق السماء ناقض قوله سبحانه { هل ترى من فطور }
[ الملك : 3 ] وإن لم يقدروا فكيف يمكنهم استماع أسرار الملائكة من ذلك البعد البعيد ، ولم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض؟ وأجيب بأنا سلمنا أن بعد ما بين كل سماء ذلك القدر إلا أن نحن الفلك لعله قدر قليل ، وقد روى الزهري عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : بينما النبي صلى الله عليه وسلم جالسٌ في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال : ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟ قالوا : كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يرمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ، ويستخبر أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السماء ، ويتخطف الجن فيرمون فما جاءُوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يزيدون » آخر : الشياطين مخلوقون من نار فكيف تحرق النار النار؟ والجواب : أن الأقوى قد يبطل الأضعف وإن كان من جنسه . آخر : إن هذا الرجم لو كان من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم بقي بعد وفاته؟ الجواب : هذا من المعجزات الباقية والغرض منه إبطال الكهانة . آخر : إن الشهب قد تحدث بالقرب من الأرض وإلا لم يمكن الإحساس بها فكيف تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك حين الاستراق؟ وأجيب بأن البعد عندنا غير مانع من السماع فلعله تعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقعوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة .
آخر : لو كان يمكنهم نقل أخبار الملائكة إلى الكهنة فكيف لم يقدروا على نقل أسرار المؤمنين إلى الكفار؟ وأجيب بأنه تعالى أقدرهم على شيء وأعجزهم عن شيء ولا يسأل عما يفعل . وأقول : لعل السبب فيه أن نسبتهم إلى الروحانيات أكثر .
آخر : إذا جوّزتم في الجملة اطلاع الجن على بعض المغيبات فقد ارتفع الوثوق عن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الغيوب فلا يكون دليلاً على صدقه . لا يقال : إنه تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم لأنا نقول : صدق هذا الكلام مبني على صحة نبوّته ، فلو أثبتنا صحة نبوّته به لزم الدور؟ والجواب : أنا نعرف صحة نبوّته بدلائل أخر حتى لا يدور ، ولكن لا ريب أن إخباره عن بعض المغيبات مؤكد لنبوّته وإن لم يكن مثبتاً لها .
الدليل الرابع : قوله { والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي } وقد مرّ تفسير مثله في أوّل سورة الرعد . الدليل الخامس قوله : { وأنبتنا فيها } أي في الأرض أو في الجبال الرواسي { من كل شيء موزون } بميزان الحكمة ومقدر بمقدار الحاجة ، وذلك أن الوزن سبب معرفة المقدار فأطلق اسم السبب على المسبب .
وقيل : أي له وزن وقدر في أبواب النعمة والمنفعة . وقيل : أراد أن مقاديرها من العناصر معلومة وكذا مقدار تأثير الشمس والكواكب فيها . وقيل : أي مناسب أي محكوم عليه عند العقول السليمة بالحسن واللطافة . يقال : كلام موزون أي مناسب ، وفلان موزون الحركات . وقيل : أراد ما يوزن من نحو الذهب والفضة والنحاس وغيرها من الموزونات كأكثر الفواكه والنبات . { وجعلنا لكم فيها } أي في الأرض أو في تلك الموزونات { معايش } ما يتوصل به إلى المعيشة وقد مر في أول « الأعراف » . { ومن } عطف على معايش أي جعلنا لكم من { لستم له برازقين } أو عطف على محل لكم لا على المجرور فقط فإنه لا يجوز في الأكثر إلا بإعادة الجار والتقدير : وجعلنا لكم معايش لمن لستم له برازقين . وأراد بهم العيال والمماليك والخدم الذين رازقهم في الحقيقة هو الله تعالى وحده لا الآباء والسادات المخاديم ، ويدخل فيه بحكم التغليب غير ذوي العقول في الأنعام والدواب والوحش والطير كقوله : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] وقد يذكر من يعقل بصفة من يعقل بوجه ما من الشبه كقوله : { يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } [ النمل : 18 ] والدواب تشبه ذوي العقول من جهة أنها طالبة لأرزاقها عند الحاجة . يحكى أنه قلت مياه الأودية في بعض السنين واشتد عطش الوحوش فرفعت رأسها إلى السماء فأنزل الله المطر . ثم بين غاية قدرته ونهاية حكمته فقال : { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } قال جمع من المفسرين : أراد بالشيء ههنا المطر الذي هو سبب لأرزاق بني آدم وغيرهم من الطير والوحش ، وذلك أنه لما ذكر معايشهم بين أن خزائن المطر الذي هو سبب المعايش عنده أي في أمره وحكمه وتدبيره . قوله : { وما ننزله إلا بقدر معلوم } عن ابن عباس : يريد قدر الكفاية . وقال الحكم : ما من عام بأكثر مطراً من عام آخر ولكنه يمطر قوم ويحرم آخرون ، وربما كان في البحر ، واعلم أن لفظ الآية لا يدل على هذين القولين فلو ساعدهما نقل صحيح أمكن أن يقبلهما العقل والا كان شبه تحكم والظاهر عموم الحكم ، وإن ذكر الخزائن تمثيل لاقتداره على كل مقدور . والمعنى إن جميع الممكنات مقدورة ومملوكة له يخرجها من العدم إلى الوجود كيف شاء ، وهي إن كانت غير متناهية بالقوّة لأن كلاً منها يمكن أن يقع في أوقات غير محصورة على سبيل البدل ، وكذا الكلام في الأحياز وسائر الأعراض والأوصاف . فاختصاص ذلك الخارج إلى الوجود بمقدار معين وشكل معين وحيز ووقت معين إلى غير ذلك من الصفات المعينة دون أضدادها لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وهو المراد من قوله : { وما ننزله إلا بقدر معلوم } وقد يتمسك بالآية بعض المعتزلة في أن المعدوم شيء .
قيل : المراد أن تلك الذوات والماهيات كانت مستقرة عند الله بمعنى أنها كانت ثابتة من حيث إنها حقائق وماهيات ، ثم إنه تعالى نزل أي أخرج بعضها من العدم إلى الوجود .
الدليل السادس : قوله { وأرسلنا الرياح } ومن قرأ الريح فاللام للجنس { لواقح } قال ابن عباس : معناه ملاقح جمع ملقحة لأنها تلقح السحاب بمعنى أنها تحمل الماء وتمجه في السحاب ، أو لأنها تلقح الشجر أي تقوّيها وتنميها إلى أن يخرج ثمرها . قاله الحسن وقتادة والضحاك . وقد جاء في كلام العرب « فاعل » بمعنى « مفعل » قال :
ومختبط مما تطيح الطوائح ... يريد المطاوح جمع مطيحة . وقال ابن الأنباري : تقول العرب : أبقل النبت فهو باقل أي مبقل . وقال الزجاج : معناه ذوات لقحة لأنها تعصر السحاب وتدره كما تدر اللقحة كما يقال رامح أي ذو رمح - ولابن وتامر أي ذو لبن وذو تمر . وقيل : إن الريح في نفسها لاقح أي حالة للسحاب أو للماء من قوله تعالى : { حتى إذا أقلت سحاباً ثقالاً } [ الأعراف : 57 ] أو حاملة للخير والرزق كما قيل لضدها الريح العقيم { فأسقيناكموه } أي جعلناه لكم سقياً قال أبو عليّ : يقال سقيته الماء إذا أعطاه قدر مما يروى ، وأسقيته نهراً أي جعلته شرباً له . والذي يؤكد هذا اختلاف القراء في قوله : { نسقيكم مما في بطونه } [ النحل : 66 ] ولم يختلفوا في قوله : { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } [ الدهر : 21 ] ويقال : سقيته لشفته وأسقته لماشيته وأرضه . { وما أنتم له بخازنين } نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله { وإن من شيء إلا عندنا خزائنه } أي نحن الخازنون للماء لا أنتم أراد عظيم قدرته وعجز من سواه . الدليل السابع : قوله { وإنا لنحن نحيي ونميت } والغرض الاستدلال بانحصار الإحياء والإماتة فيه على أنه واحد في ملكه . قال أكثر المفسرين : إنه وصف النبات فيما قبل فهذا الإحياء مختص بالحيوان ، ومنهم من يحمله على القدر المشترك بين إحياء النبات وبين إحياء الحيوان { ونحن الوارثون } مجاز عن بقائه بعد هلاك ما عداه كما مر في آخر « آل عمران » في قوله : { ولله ميراث السموات والأرض } [ الآية : 180 ] قوله : { ولقد علمنا } عن ابن عباس في رواية عطاء { المستقدمين } يريد أهل طاعة الله ، والمستأخرين يريد المتخلفين عن طاعته . ويروى أنه صلى الله عليه وسلم رغب الناس في الصف الأول في الجماعة فازدحم الناس عليه فأنزل الله الآية . والمعنى إنا نجزيهم على قدر نياتهم . وقال الضحاك ومقاتل : يعني في صف القتال . وقال ابن عباس في رواية أبي الجوزاء : كانت امرأة حسناء تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قوم يتقدمون إلى الصف الأول لئلا يروها ، وآخرون يتخلفون ويتأخرون ليروها ، وكان قوم إذا ركعوا جافوا أيديهم لينظروا من تحت آباطهم فنزلت .
وقيل : المستقدمون هم الأموات والمستأخرون هم الأحياء . وهذا القول شديد المناسبة لما قبل الآية ولما بعدها . وقيل : المستقدمون هم الأمم السالفة والمستأخرون هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عكرمة : المستقدمون من خلق ، والمستأخرون من لم يخلق بعد . والظاهر العموم وأن علمه تعالى شامل لجميع الذوات والأحوال الماضية والمستقبلة فلا ينبغي أن تخص الآية بحالة دون أخرى . ثم نبه على أن الحشر والنشر أمر واجب ولا يقدر على ذلك أحد إلا هو فقال : { وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم } فلحكمته بني أمر العباد على التكليف والجزاء ، ولعلمه قدر على توفية مقادير الجزاء .
الدليل الثامن : الاستدلال على خلق الإنسان خاصة وذلك أنه لا بد من انتهاء الناس إلى إنسان أول ضرورة امتناع القول بوجود حوادث لا أول لها . وقد أجمع المفسرون على أنه آدم عليه السلام ، ورأيت في كتب الشيعة عن محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أنه قد انقضى قبل آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم أو أكثر ، وكيف كان فلا بد من إنسان هو أول الناس . والأقرب أنه تعالى خلق آدم من تراب ثم من طين ثم من حمإٍ مسنون ثم من صلصال كالفخار . وقد كان قادراً على خلقه من أيّ جنس من الأجسام كان ، بل كان قادراً على خلقه ابتداء . وإنما خلقه على هذا الترتيب لمحض المشيئة . أو لما كان فيه من زلة الملائكة والجن ، أو لغير ذلك من المصالح ، ولا شك أن خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلق الشيء من شكله وجنسه ، والصلصال الطين اليابس الذي يصلصل أي يصوّت وهو غير مطبوخ فإذا طبخ فهو فخار . وقيل : هو تضعيف صل إذا أنتن . والحمأ الأسود المتغير من الطين ، وكذلك الحمأة بالتسكين . المسنون المصوّر من سنة الوجه أي صورته قاله سيبويه . وقال أبو عبيدة : المسنون المصبوب المفرغ أي أفرغ صورة إنسان كما تفرغ الصورة من الجواهر المذابة . وقال ابن السكيت : سمعت أبا عمرو يقول : معنا متغير منتن وكأنه من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل منهما سنين ولا يكون إلا منتناً . قال في الكشاف : قوله : { من حمإٍ } صفة صلصال أي خلقه من صلصال كائن من حمإ . قلت : ولا يبعد أن يكون بدلاً أي خلقه من حم. قال : وحق مسنون بمعنى مصوّر أن يكون صفة لصلصال كأنه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صلصل ، ثم غيره بعد ذلك الى جوهر آخر . قوله : { والجانّ } قال الحسن ومقاتل وقتادة وهو رواية عطاء عن ابن عباس يريد إبليس - وعن ابن عباس - في رواية أخرى : هو أبو الجن كآدم أبي الناس وهو قول الأكثرين .
والتركيب يدل على السبق والتواري عن الأعين وق مر فيما سلف ولا سيما في تفسير الاستعاذة في أول الكتاب { خلقناه من قبل } قال ابن عباس : أي من قبل خلق آدم و { السموم } الريح الحارة النافذة في السمام تكون في النهار وقد تكون بالليل . ومسام البدن الخروق الخفية التي يبرز منها العرق وبخار الباطن ، ولا شك أن تلك الريح فيها نار ولها لفح على ما ورد في الخبر أنه لفح جهنم . قال ابن مسعود : هذه السموم جزءاً من سبعين جزءاً من سموم النار التي خلق . الله منها الجان . ولا استبعاد في خلق الله الحيوان من النار فإنا نشاهد السمندل قد يتولد فيها . على قاعدة الحكيم : كل ممتزج من العناصر فإنه يمكن أن يغلب عليه أحدها ، وحينئذٍ يكون مكانه مكان الجزء الغالب والحرارة مقوية للروح لا مضادة لها . ثم إنه لما استدل بحدوث الإنسان الأول على كونه قادراً مختاراً ذكر بعده واقعته . والمراد بكونه بشراً أنه يكون جسماً كثيفاً يباشر ويلاقي ، والملائكة والجن لا يباشرون للطاقة أجسامهم .
والبشرة ظاهر الجلد من كل حيوان . { فإذا سوّيته } عدلت خلقته وأكملتها أو سويت أجزاء بدنه بتعديل الأركان والأخلاط والمزاج التابع لذلك اعتدالاً نوعياً أو شخصياً . { ونفخت فيه من روحي } النفخ إجراء الريح في تجاويف جسم آخر . فمن زعم أن الروح جسم لطيف كالهواء سار في البدن فمعناه ظاهر ، ومن قال إنه جوهر مجرد غير متحيز ولا حال في متحيز فمعنى النفخ عنده تهيئة البدن لأجل تعلق النفس الناطقة به . قال جار الله : ليس ثم نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه . وتمام الكلام في الروح سوف يجيء إن شاء الله في قوله : { يسألونك عن الروح } [ الإسراء : 85 ] . ولا خلاف في أن الإضافة في قوله : { روحي } للتشريف والتكريم مثل « ناقة الله » و « بيت الله » والفاء في قوله : { فقعوا } تدل على أن وقوعهم في السجود كان واجباً عليهم عقيب التسوية والنفخ من غير تراخ . قال المبرد : قوله { كلهم } أزال احتمال أن بعض الملائكة لم يسجدوا . وقوله : { أجمعون } أزال احتمال أنهم سجدوا متفرقين ، وقال سيبويه والخليل { أجمعون } توكيد بعد توكيد ، ورجح الزجاج هذا القول لأن أجمع معرفة فلا يقع حالاً ، ولو صح أن يكون حالاً وكا منتصباً لأفاد المعنى الذي ذكره المبرد ، ثم استثنى إبليس من الملائكة وقد سلف وجه الاستثناء في أول البقرة . ثم استأنف على تقدير سؤال سائل هل سجد؟ فقال : { أبى أن يكون مع الساجدين } يعني إباء استكبار .
ثم قال سبحانه وتعالى خطاب تقريع وتعنيف لا تعظيم وتشريف { يا إبليس مالك ألا تكون مع الساجدين } وقال بعض المتكلمين : خاطبه على لسان بعض رسله لأن تكليم الله بلا واسطة منصب شريف فكيف يناله اللعين؟ قال جار الله : حرف الجر مع أن محذوف ومعناه أيّ غرض لك في الامتناع من السجود { قال لم أكن لأسجد } اللام لتأكيد النفي أي لا يصح مني وينافي حالي أن أسجد { لبشر } وحاصل شبهة اللعين أنه روحاني لطيف وآدم جسماني كثيف ، وأصله نوراني شريف وأصل آدم ظلماني خسيس ، فعارض النص بالقياس فلا جرم أجيب بقوله : { فاخرج منها } أي من الجنة أو من السماء أو من جملة الملائكة .
وضرب يوم الدين أي يوم الجزاء حداً للعنة جرياً على عادة العرب في التأبيد كما في قوله : { ما دامت السموات والأرض } [ هود : 107 ] أو أراد اللعن المجرد من غير تعذيب حتى إذا جاء ذلك اليوم عذب بما ينسى اللعن معه . قال صاحب الكشاف : وأقول : هذا إن أريد باللعن مجرد الطرد عن الحضرة . أما إن أريد به الإبعاد عن كل خير فيتعين الوجه الأول إلا عند من أثبت لإبليس رجاء العفو . وإنما ذكر اللعنة ههنا بلام الجنس لأنه ذكر آدم بلفظ الجنس حيث قال : { إني خالق بشراً } ولما خصص آدم بالإضافة إلى نفسه في سورة « ص » حيث قال : { لما خلقت بيدي } [ الآية : 75 ] خصص اللعنة أيضاً بالإضافة فقال : { وإن عليك اللعنة } فافهم . { قال رب فأنظرني } قد مر مثله في أول « الأعراف » . ومعنى { الوقت المعلوم } أن إبليس لما عينه وأشار إليه بعينه صار كالمعلوم والمراد منه الوقت القريب من البعث الذي يموت فيه الخلائق كلهم ليشمل الموت اللعين أيضاً . وقيل : لم يجب إلى ذلك وأنظر إلى يوم لا يعلمه إلا الله { قال رب بما أغويتني } قد مر مباحثه في « الأعراف » . ومفعول { لأزينن } محذوف أي أزين لهم المعاصي في الأرض أي في الدنيا التي هي دار الغرور ، أو أراد أنه قدر على الاحتيال لآدم وهو في السماء فهو على التزيين لأولاده وهم في الأرض أقدر ، أو أراد لأجعلن مكان التزيين عندهم الأرض بأن أزين الأرض في أعينهم وأحدثهم أن الزينة هي في الأرض وحدها كقوله :
وإن يعتذر بالمحل من ذي ضروعها ... من الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
أراد يجرح عراقيبها نصلي ثم استثنى اللعين عباد الله المخلصين لأنه علم أن كيده لا يؤثر فيهم . قال بعض الحذاق : احترز إبليس بهذا الاستثناء من الكذب فيعلم منه أن الكذب في غاية السماحة والإخلاص فعل الشيء خالصاً لله من غير شائبة الغير لا أقل من أن يكون حق الله فيه راجحاً أو مساوياً . ولما ذكر إبليس من الاستثناء ما ذكر { قال } الله سبحانه { هذا } يعني الإخلاص طريق مستقيم عليّ ان أراعيه أو عليّ مروره أي على رضواني وكرامتي .
وقيل : لما ذكر اللعين أنه يغوي بني آدم لا من عصمه الله بتوفيقه تضمن هذا الكلام تفويض الأمور إلى مشيئته تعالى فأشير إليه بقول : { هذا } أي تفويض الأمور إلى إرادتي ومشيئتي . { صراط عليّ } تقريره وتأكيده ، ومن قرأ { عليّ } بالتوين فهو من علو الشرف أي الإخلاص أو طريق التفويض إلى الله والإيمان بقضائه طريق رفيع . { مستقيم } لا عوج له . وقال جار الله : هذا إشارة إلى ما بعده وهو قوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } قال الكلبي : المذكورون في هذه الآية هم الذين استثناهم إبليس وذلك أنه لما ذكر { إلا عبادك } بين به أنه لا يقدر على إغواء المخلصين فصدقه الله تعالى في الاستثناء قائلاً { إن عبادي ليس عليهم سلطان إلا من اتبعك } أي ولكن من اتبعك من الغواة فلك تسلط عليهم وهذا يناسب أصول الأشاعرة . وقال آخرون : هذا تكذيب لإبليس وذلك أنه أوهم بما ذكر أن له سلطاناً على عباد الله الذين لا يكونون من المخلصين فبين تعالى أنه ليس له على أحد منهم سلطان ولا قدرة أصلاً إلا الغواة ، لا بسبب الجبر والقسر بل من جهة الوسوسة والتزيين نظيره قوله : { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم } [ إبراهيم : 22 ] وهذا يناسب أصول الاعتزال { وإن جهنم لموعدهم أجميعن } قال ابن عباس : يريد إبليس ومن تبعه من الغاوين . { لها سبعة أبواب } أي سبع طبقات بعضها فوق بعض أعلاها للموحدين ، والثاني لليهود ، والثالث للنصارى ، والرابع للصابئين ، والخامس للمجوس ، والسادس للمشركين ، والسابع للمنافقين . وعن ابن عباس في رواية ابن جريج : إن جهنم لمن ادعى الربوبية ، ولظى لعبدة النار ، والحطمة لعبدة الأصنام ، وسقر لليهود ، والسعير للنصارى ، والجحيم للصابئين ، والهاوية للموحدين . وقيل : إن قرار جهنم مقسوم بسبعة أقسام لكل قسم باب معين لكل باب جزء من أتباع إبليس مقسوم في قسمة الله سبحانه . والسبب في أن مراتب الكفر مختلفة بالغلظ والخفة . فلا جرم صارت مراتب العقاب أيضاً متفاوته بحسبها .
ثم عقب الوعيد بالوعد فقال : { إن المتقين في جنات وعيون } فزعم جمهور المعتزلة أنهم الذين اتقوا جميع المعاصي وإلا لم يفد المدح . وقال جمهور : الصحابة والتابعين هم الذين اتقوا الشرك بالله واحتجوا عليه بأنه إذا اتقى مرة واحدة صدق عليه أنه اتقى ، وكذا الكلام في الضارب والكاتب فليس من شرط صدق الوصف كونه آتياً بجميع أصنافه وأفراده إلا أن الأمة أجمعوا على أن التقوى عن الشرك شرط في حصول هذا الحكم . والآية أيضاً وردت عقيب قوله : { إلا عبادك منهم المخلصين } { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } فلزمه اعتبار الإيمان في هذا الحكم . والظاهر أن لا يراد شرط آخر لأن التخصيص خلاف الظاهر فكلما كان أقل كان أوفق لمقتضى الأصل ، فثبت أن المتقين يتناول جميع القائلين بكلمة الإسلام وهي « لا إله إلا الله محمد رسول الله » قولاً واعتقاداً سواء كان من أهل الطاعة أو من أهل المعصية .
ثم إن الجنات أقلها أربع لقوله تعالى : { ولمن خاف مقام ربه جنتان } [ الرحمن : 46 ] ثم قال { ومن دونهما جنتان } [ الرحمن : 62 ] وأما العيون فإما أن يراد بها الأنهار المذكورة في قوله : { فيها أنهار من ماء غير آسن } [ محمد : 15 ] الآية وإما أن يراد بها منابع غير ذلك . ثم إن كل واحد من المتقين يحتمل أن يختص بعين وينتفع بها كل من في خدمته من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجتهم وعلى حسب شهوتهم . ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون من كل حقد وحسد . فإن قيل : إذا كانوا في جنات فكيف يعقل أن يقول لهم الله تعالى وبعض الملائكة { ادخلوها } فالجواب لعل المراد أنهم لما ملكوا الجنات فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ذلك . ومعنى { بسلام } أي مع السلامة من آفات النقص والانقطاع . قوله : { ونزعنا ما في صدورهم من غل } قد مر تفسيره في « الأعراف » { إخواناً } نصب على الحال . وكذلك { على سرر متقابلين } والمراد بالإخوة . إخوة الدين والتعاطف . والسرر جمع سرير . قيل : هو المجلس الرفيع المهيأ للسرور . وقال الليث : سرير العيش مستقره الذي يطمئن عليه حال سروره وفرحه . والتركيب يدور على العزة والنفاسة ومنه قوله : « سر الوادي لأفضل موضع منه » ومنه السر الذي يكتم . عن ابن عباس : يريد على سرر من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت ، وعن مجاهد : تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين . والتقابل التواجه نقيض التدابر ، وتقابل الإخوان يوجب اللذة والسرور ليكون كل منهم مقبلاً على الآخر بالكلية ، وتقابل الأعداء يكون تقابل التضاد التمانع فيكون موجباً للتباغض والتخالف ، واعلم أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خالصة من الآفات آمنة من الزوال . فقوله : { إن المتقين } إشارة إلى المنفعة وقوله : { ادخلوها } رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم ، وقوله : { ونزعنا } إلى قوله : { لا يمسهم فيها نصب } أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم خاصة من الآفات آمنة من الزوال . فقوله : { إن للمتقين } إشارة إلى المنفعة وقوله : { ادخلوها } رمز إلى أنها مقرونة بالتعظيم ، وقوله { ونزعنا } إلى قوله : { لا يمسهم فيها نصب } أي تعب تلويح إلى كونها سالمة من المنغصات إلا أن قوله : { ونزعنا ما في صدورهم } إشارة إلى نفي المضار الروحانية ، وقوله : { لا يمسهم } إشارة إلى نفي المضار الجسدانية ، وقوله : { وما هم بمخرجين } مفيد لمعنى الخلود . ثم لما ذكر الوعيد والوعد زاده تقريراً وتمكيناً في النفوس فقال : { نبىء عبادي } وفيه من التوكيدات ما لا يخفى : منها إشهاد رسوله وإعلامه ، ومنها تشريفهم بإطلاق لفظ العباد عليهم ثم بإضافتهم إلى نفسه ، ومنها التوكيد ب « أن » وبالفضل وبصيغتي الغفور والرحيم مع نوع تكرر كل ذلك يدل على أن جانب الرحمة أغلب كما قال : « سبقت رحمتي غضبي » .
التأويل : { ربما يود الذين كفروا } أي النفوس الكافرة { لو كانوا } مستسلمين لأوامر الله ونواهيه ، وذلك إنما يكون عند استيلاء سلطان الذكر على القلب والروح ، وتنور صفاتها بنور الذكر فيغلب النور على ظلمة النفس وصفاتها وتبدلت أحوالها من الأمّارية إلى الاطمئنان فتمنت حين ذاقت حلاوة الإسلام وطعم الإيمان لو كانت من بدء الخلق مسلمة مؤمنة كالقلب والروح . ثم هدد النفس التي ذاقت حلاوة الإسلام ثم عادت الميشوم إلى طبعها واستحلت المشارب الدنيوية بقوله : { ذرهم يأكلوا } { وما أهلكنا من قرية } من القرى البدنية بإفساد استعدادها { إلا ولها كتاب } مكتوب في علم الله من سوء أعماله وأحواله { ما تسبق من أمة أجلها } متى يظهر منها ما هو سبب هلاكها { وما يستأخرون } لحظة بعد استيفاء أسباب هلاكها { وقالوا } يعني النفوس المتمردة مخاطباً للقلب الذاكر { لو ما تأتينا } بصفات الملائكة المنقادين ، وفيه إشارة إلى أن النفس الأمارة لا تؤمن بما أنزل الله إلى القلوب من أنوار الإلهية حتى تصير مطمئنة مستعدة لهذه الصفات ، ولو أنزلت قبل أوانها وكمال استعداد القلوب ما كانوا إذاً منظرين مؤخرين من الهلاك لضيق نطاق طاقتهم { إنا نحن نزلنا } كلمة لا إله إلا الله في قلوب المؤمنين { كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] والمنافق يقول ذلك ولكن لم ينزل في قلبه ولم يحفظ . { ولو فتحنا } على من أسلكنا الكفر في قلوبهم { باباً من } سماء القلب لأنكروا فتح الباب . ولقد جعلنا في سماء القلب بروج الأطوار ، فكما أن البروج منازل السيارات فكذلك الأطوار منازل شموس المشاهدات وأقمار المكاشفات وسيارات اللوامع والطوالع { وزيناها } لأهل النظر السائرين إلى الله { وحفظناها من } وساوس الشيطان وهواجس النفس الأمارة ، ولكن من استرق السمع من النفس والشيطان فأدركه شعلة من أنوار تلك الشواهد فيضمحل الباطل ويتبين الحق { والأرض مددناها } فيه أن أرض البشرية تميل كنفس الحيوانات إلى أن أرساها الله بجبال العقل وصفات القلب { وجعلنا لكم فيها معايش } هي أسباب الوصول والوصال { ومن لستم له برازقين } وهو جوهر المحبة وإن غذاءه من مواهب الحق وتجلي جماله فقط ، ولكل شيء خزانة فلصورة الأجسام خزانة ، ولاسمها خزانة ، ولمعناها خزانة ، وكذا للونها ولطعمها ولخواصها من المنافع والمضار ، وكذا لظلمتها ونورها ولملكها وملكوتها ، وما من شيء إلا وفيه لطف الله وقهره مخزون ، وقلوب العباد خزائن صفات الله تعالى بأجمعها { وأرسلنا } رياح العناية { لواقح } لأشجار القلوب بأنهار الكشوف وبأثمار الشواهد كما قال بعضهم : إذا هبت رياح الكرم على أسرار العارفين أعتقهم من هواجس أنفسهم ورعونات طبائعهم ، وظهر في القلوب نتائج ذلك وهي الاعتصام بالله والاعتماد عليه .
{ فأنزلنا من } سماء الهداية { ماء } الحكمة { وما أنتم له بخازنين } في أصل الخلقة فإن المخلوق لا يوصف بالحكمة إلا مجازاً . وإنا لنحن نحيي قلوب أوليائينا بأنوار جمالنا ، ونميت نفوسهم بسطوة جلالنا { ونحن الوارثون } بعد إفناء وجودهم ليبقوا ببقائنا { وإن ربك هو } يحشر المستقدمين إلى حظائر قدسه والمستأخرين إلى أسفل سافلين الطبيعة ، خاطب إبليس النفس بقوله : { وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } أي إلى أن تطلع شمس شواهدنا من مشرق الروح وتصير أرض النفس مشرقة وتتبدل صفاتها الذميمة المظلمة بالأخلاق الروحانية الحميدة { إلى يوم يبعثون } أي يبعث الأرواح في قيامة العشق وهو الوقت المعلوم الذي يتجلى الرب فيه لأرواح العشاق ، فينعكس نور التجلي من الأرواح إلى النفوس فتجعلها مطمئنة . { بما أغويتني } أضللتني من طريق الأمارية { لأزينن } للأرواح في أرض البشرية من الأعمال الصالحات التي تورث الأخلاق الحميدة وبها تربية الأرواح وترقيها { ولأغوينهم أجمعين } عما كانا عليه من الأعمال الروحانية الملكية التي لا تتأتى إلا لعبادك الذين خلصوا من حبس الوجود بجذبات الألطاف . { هذا صراط } أي هو طريق أهل الاستقامة في السير في الله المنقطعين عن غيره { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } حجة تتعلق بتلك الحجة لهدايتهم وإغوائهم فإنهم بلاهم ، وإن من خصوصية العبودية المضافة إلى الحضرة الحرية عما سواه { لها سبعة أبواب } من الحرص والشره والحقد والحسد والغضب والشهوة والكبر ، أو الأبواب السبعة إشارة إلى الحواس الخمس الظاهرة وإلى الوهم والخيال فإنهما أصلا الحواس الباطنية ، لأن الأول يدرك المعاني والثاني يدرك الصور ، والباقية - أعني المفركة والحافظة والذاكرة - من أعوانهما ، وأكثر ما يستعمل الإنسان هذه المشاعر إنما يستعملها في الأحوال الدنيوية المفضية إلى الهلاك ، فلا جرم صارت أبواباً لجهنم . فإذا استعملها في تحصيل السعادات الباقية بحسب تصرف العقل الغريزي صرن مع العقل أبواباً بل أسباباً لحصول الجنة . { ادخلوها بسلام } والسلام من الله الجذبات { آمنين } من موانع الخروج والدخول بعد الوصول فإن السير في الله لا يمكن إلا بالله وجذباته ولهذا قال جبرائيل ليلة المعراج : لو دنوت أنملة لاحترقت . { ونزعنا } فيه أن نزع الغل من الصدور لا يكون إلا بنزع الله ، وأن الأرواح القدسية مطهرات عن علائق القوى الشهوانية والغضبية مبرءات من حوادث الوهم والخيال ، ومعنى تقابلهم أن النفوس المصفاة عن كدورات عالم الأجسام ونوازع الخيال والأوهام إذا وقع عليها أنواع جمال الله أو جلاله انعكست منها إلى من في مثل درجاتها كما تتعاكس المرايا الصافية ، المتحاذية ، فيزداد كل منها في نفسها بخفاء صفاتها . وفي قوله : { نبىء عبادي } إشارة إلى أن سلوك السالكين وطير الطائرين يجب أن يكون على قدمي الرجاء والخوف وجناحي الإنس والجن والله الموفق للصواب .
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
القراآت : { إذ دخلوا } وبابه مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف غير هشام { إنا نبشرك } بسكون الباء وضم الشين : حمزة . الآخرون بالتشديد { تبشرون } بالتشديد وكسر النون المخففة : نافع مثله . ولكن مشددة النون : ابن كثير . الباقون بفتح النون على أنها علامة رفع { يقنط } بكسر النون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وخلف وكذلك بابه . الآخرون بالفتح { آل لوط } مدغماً حيث كان شجاع { لمنجوهم } بالتخفيف : يعقوب وحمزة علي وخلف . الباقون بالتشديد { قدرنا } بالتخفيف حيث كان : أبو بكر وحماد { بناتي إن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { أني أنا } بفتح ياء المتكلم : جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
الوقوف : { إبراهيم } 5 ج لئلا يصير { إذا دخلوا } ظرفاً { لنبئهم } فإنه محال { سلاماً } ط { وجلون } 5 { عليم } 5 { تبشرون } 5 { القانطين } 5 { الضالون } 5 { المرسلون } 5 { مجرمين } 5 لا للاستثناء . { آل لوط } ط { أجمعين } 5 لا { قدرنا } لا لأن الجملة بعده مفعول والكسر لدخول اللام في الخبر { الغابرين } 5 { المرسلون } 5 لا لأن ما بعده جواب « لما » { منكرون } 5 { يمترون } 5 { لصادقون } 5 { تؤمرون } 5 { مصبحين } 5 { يستبشرون } 5 { فلا تفضحون } 5 لا للعطف { ولا تخزون } 5 { العالمين } 5 { فاعلين } 5 ط لابتداء القسم { يعمهون } 5 { مشرقين } 5 لا لاتصال انقلابها بالصيحة { من سجيل } ط { للمتوسمين } 5 { مقيم } 5 { للمؤمنين } 5 ط لتمام القصة { لظالمين } 5 لا لاتصال الانتقام بظلمهم { منهم } 5 ط لأن الواو للابتداء فلو وصل لشابه الحال وهو محال { مبين } 5 ط لتمام قصتهم { المرسلين } 5 لا لأن الواو بعده للحال وقد آتيناهم { معرضين } 5 لا للعطف { آمنين } 5 ط { مصبحين } 5 ط للاتصال معنى { يكسبون } 5 م لتمام القصص { إلا بالحق } ط { الجميل } 5 { العليم } 5 { العظيم } 5 { للمؤمنين } 5 { المبين } 5 ج لجواز تعلق الكاف بقوله : { فأخذتهم } أو بقوله : { فانتقمنا } ولجواز تعلقها بمحذوف أي أنزلنا عليهم العذاب كما أنزلنا ، وتمام البحث سيجيء في التفسير . { المقتسمين } 5 لا { عضين } 5 { أجمعين } 5 لا { يعملون } 5 { المشركين } 5 { المستهزئين } 5 لا { آخر } ج لابتداء التهديد مع الفاء { يعلمون } 5 { يقولون } 5 لا لاتصال الأمر بالتسبيح تسلية { الساجدين } 5 لا للعطف { اليقين } 5 .
التفسير : إنه سبحانه عطف { ونبئهم } على { نبىء عبادي } ليكون سماع هذه القصص مرغباً في الطاعة الموجبة للفوز بدرجات الأولياء ، ومحذراً من المعصية المستتبعة لدركات الأشقياء ، ولما في قصة لوط من ذكر إنجاء المؤمنين وإهلاك الظالمين ، وكل ذلك يقوّي ما ذكر من أنه غفور رحيم للمؤمنين ، وأن عذابه عذاب أليم للكافرين . وعند المعتزلة غفور للتائبين معذب لغيرهم . وقد مر تفسير أكثر هذه القصة في سورة هود فنذكر الآن ما هو مختص بالمقام .
فقوله : { وجلون } معناه خائفون خافهم لامتناعهم من الأكل أو لدخولهم بغير إذن وفي غير وقت . { إنا نبشرك } استئناف في معنى تعليل النهي عن الوجل . بشروه بالولد الذكر بكونه عليماً فقيل : أرادوا بعلمه نبوته . وقيل : العلم مطلقاً . وقوله : { على أن مسني } في موضع الحال أي مع هذه الحالة استفهم منكراً للولادة في حالة الهرم أنها أمر عجيب عادة لا لأنه شك في قدرة الله تعالى ولذلك قال : { فبم تبشرون } « ما » استفهامية دخلها معنى التعجب كأنه قال : فبأي أعجوبة تبشروني أي أو أنكم لا تبشروني بشيء في الحقيقة لأن ذلك أمر غير متصور في العادة؟ وأحسن ما قيل فيه أن لا يكون قوله : « بما » صلة للتبشير بل يكون سؤالاً عن الوجه والطريقة يعني إذا كان الطريق . المعتاد ممتنعاً فبأي طريق تبشرونني بالولد ، فلذلك قالوا في جوابه { بشرناك بالحق } أي باليقين الذي لا لبس فيه ، أو بشرناك بالولد بطريق هو حق وذلك قول الله تعالى ووعده وأنه قادر على خلق الولد من غير أبوين فضلاً من شيخ فانٍ وعجوز عاقر . قال أبو حاتم : حذف نافع ياء المتكلم مع النون وإسقاط الحرفين لا يجوز . وأجيب بأنه لم يحذف إلا الياء اكتفاء بالكسرة ونون الوقاية لم يوردها كما أوردت في قراءة التشديد ، وإنما كسر نون الجمع لأجل الياء وكلتا اللغتين فصيحة . قيل : عظم فرحه بتلك البشارة فدهش عن الجواب المنتظم فتكلم بالكلام المضطرب . وقيل : طلب مزيد الطمأنينة كقوله : { ولكن ليطمئن قلبي } [ البقرة : 260 ] عن ابن عباس : يريد بالحق ما قضى الله أن يخرج من صلب إبراهيم إسحق ومن صلب إسحق أكثر الأنبياء . وقوله : { فلا تكن من القانطين } لا يدل على أنه كان قانطاً فق ينهى عن الشيء ابتداء كقوله : { ولا تطع الكافرين } [ الأحزاب : 48 ] . ولذلك أنكر إبراهيم نهيهم بقول : { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } أي المخطئون طريق الصواب أو الكافرون نظيره { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] وفيه أنه لم يستنكر ذلك قنوطاً من رحمته ولكن استبعاداً له في العادة التي أجراها الله هما لغتان : قنط يقنط مثل ضرب يضرب ، وقنط يقنط مثل علم يعلم . وزعم الفارسي أن الأولى أعلى اللغتين . ثم سأل عما لأجله أرسلهم الله حيث قال : { فما خطبكم } والخطب الشأن العظيم . فسئل أنهم لما بشروه بالولد الذكر العليم فما وجه السؤال عن مجيئهم؟ وأجاب الأصم بأن المراد ما الأمر الذي وجهتم فيه سوى البشرى؟ . وقال القاضي : إنه علم أن المقصود لو كان التبشير فقط لكان الملك الواحد كافياً . وقيل : علم أنه لو كان تمام الغرض البشارة لذكروها أول ما دخلوا قبل أن يوجس إبراهيم منهم خيفة . قلت : لعله استصغر أمر التبشير إما لأجل التواضع وإما لأنه واقعة خاصة فسألهم عن الأمر الذي هو أعظم من ذلك وأعم تعظيماً لشأنهم { قالوا إنا أرسلنا } زعم صاحب الكشاف أن الإرسال ههنا في معنى التعذيب والإهلاك كإرسال الحجر أو السهم إلى المرمى .
وأقول : كأنه لا حاجة إلى هذا التجوز لقوله في سورة الذاريات { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين لنرسل عليهم حجارة من طين } [ الآيتان : 32 ، 33 ] فالتقدير إنا أرسلنا إليهم لنهلكهم { إلا آل لوط } وعلى هذا يكون الاستثناء منقطعاً لاختلاف الجنسين ، فإن القوم موصوفون بالإجرام دون آل لوط . يكون قوله : { إنا لمنجوهم } جارياً مجرى خبر « لكن » كأنه قيل : لكن قوم لوط منجون ، ويكون قوله : { إلا امرأته } استثناء من الاستثناء أي أرسلنا إليهم لنهلكهم إلا آل لوط { إلا امرأته } كقول المقر : لفلان علي عشرة إلا ثلاثة واحداً . وجوز في الكشاف أن يكون قوله : { إلا آل لوط } مستثنى من الضمير في { مجرمين } حتى يكون الاستثناء متصلاً أي إلى قوم قد أجرموا كلهم إلا آل لوط وحدهم . ولم لا يجوزالاستثناء من الاستثناء بناء على أن { آل لوط } مستثنى من معمول { أرسلنا } أو { مجرمين } و { إلا امرأته } من معمول { منجوهم } وقد عرفت ما فيه على أنه إذا جعل الإرسال بمعنى الإهلاك كما قرره هو آل الأمر إلى ما ذكرنا فلا أدري لم استبعده مع وفور فضله . قال أهل اللغة : قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل جعلت الشيء على مقدار غيره ، ومنه قدر الله الأقوات أي جعلها على مقدار الكفاية ، وقدر الأمور أي جعلها على مقدار ما يكفي في أبواب الخير والشر . وقيل : في معنى قدرنا : كتبنا . وقال الزجاج : دبرنا . وقيل : قضينا . والكل متقارب ، والمشدد في هذا المعنى أكثر استعمالاً وأنه جواب سؤال كأنه قيل : ما بالها استثنيت من الناجين؟ فقيل : { قدرنا إنها لمن الغابرين } أي الباقين في الهوالك . ويقال للماضي أيضاً غابر وهو من الأضداد . قال في الكشاف : علق فعل التقدير مع أن التعليق من خصائص أفعال القلوب لأنه في معنى العلم . وإنما أسندوا الفعل إلى أنفسهم مع التقدير لله عز وجل بياناً لاختصاصهم به تعالى كما يقول خاصة الملك دبرنا كذا أو أمرنا بكذا ولعل المدبر والآمر هو الملك وحده .
ثم إن الملائكة لما بشروا إبراهيم عليه السلام بالولد وأخبروه بأنهم مرسلون إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط وذلك قوله : { فلما جاء آل لوط المرسلون قال } أي لوط { إنكم قوم منكرون } تنكركم نفسي وتنفر منكم . وذلك أنهم هجموا عليه فلم يعرفهم وخاف أن يطرقوه بشر فلذلك { قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون } أي ما جئناك بما توهمت بل جئناك بما فيه فرجك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تخوفهم به وهم يشكون في وقوعه . { وأتيناك بالحق } باليقين الثابت .
وقال الكلبي : بالعذاب الذي لا شك فيه { وإنا لصادقون } فيما أخبرناك به { فأسر بأهلك بقطع من الليل } أي في آخره وقدم في سورة هود وزاد ههنا قوله : { واتبع أدبارهم } لأنه إذا ساقهم وكان من ورائهم علم بنجاتهم ، ولا يخفى حالهم . ففي الآية زيادة بيان لكيفية الإسراء ثم زاد في البيان فقال : { ولا يلتفت منكم أحد } ولم يستثن امرأته اكتفاء بما مر في السورة من قوله : { إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين إلا امرأته } قال جار الله : إنما أمر باتباع أدبارهم ونهى عن الالتفات ليكون فارغ البال من حالهم فيخلص قلبه لشكر الله ، ولئلا يتخلف منهم أحد لغرض له فيصيبه العذاب ، ولئلا يشاهدوا عذاب قومهم فيرقوا لهم مع أنهم ليسوا من أهل الرقة عليهم ، وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ولا يتحسروا على ما خلفوا . وجوز أن يكون النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني ، لأن من يلتفت لا بد أن يقع له أدنى وقفة { وامضوا حيث تؤمرون } قال الجوهري : مضى الشيء مضياً ذهب ، ومضى في الأمر مضياً أنفذه . وقال في الكشاف : عدى { وامضوا } إلى { حيث } تعديته إلى الظرف المبهم لأن { حيث } مبهم في الأمكنة ، وكذلك الضمير في { تؤمرون } قلت : حاصل الكلام يرجع إلى قوله : اذهبوا إلى المكان الذي تؤمرون بالذهاب إليه ، أو أنفذوا أمر الذهاب إلى هنالك . عن ابن عباس : إنه الشام . وقيل : مصر . وقال المفضل : حيث يقول لكم جبرائيل وكانت قرية معينة ما عمل أهلها عمل قوم لوط . ثم أخبر عن حالهم مجملاً فقال : { وقضينا } ضمن معنى أوحينا ولذلك عدي بإلى كأنه قيل : وأوحينا . { إليه ذلك الأمر } مقتضياً مبتوتاً . ثم فسر ذلك الأمر بقوله : { أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين } أي يستأصلون عن آخرهم حال ظهور الصبح ودخولهم فيه . وفي هذا الإجمال والتفسير تفخيم لشأن الأمر وتعظيم له .
ثم حكى ما أبدى قوم لوط من الفعال بعد نزول الملائكة فقال : { وجاء أهل المدينة } أي أهل سذوم التي ضرب بقاضيها المثل فقيل أجور من قاضي سذوم . { يستبشرون } بظهور السرور بمجيء الملائكة لأنهم رأوهم مرداً حسان الوجوه { قال } لوط لما قصدوا أضيافه { إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون } بفضيحة ضيفي لأن الضيف يجب إكرامه فإذا أسيء إليه في دار المضيف كان ذلك إهانة وفضيحة للمضيف . يقال : فضحه يفضحه فضحاً وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار { واتقوا الله ولا تخزون } مر في « هود » { قالوا } في جواب لوط { أو لم ننهك عن العالمين } أي ألسنا نهيناك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس إذا قصدناه بالفاحشة؟ وكانوا يتعرضون لكل أحد ، وكان لوط عليه السلام ينهاهم عن ذلك فأوعدوه نظيره { لئن لم تنته يا لوط لتكونن من المخرجين } { الشعراء : 116 ] وقيل : نهوه عن ضيافة الناس وإنزالهم { قال هؤلاء بناتي } من الصلب أو أراد نساء أمته كما مر في « هود » .
قال جار الله { إن كنتم فاعلين } شك في قبولهم لقوله كأنه قال وما أظنكم تفعلون . وقيل : إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فبما أحل الله دون ما حرم . ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام { لعمرك } مبتدأ محذوف الخبر لكثرة الاستعمال أي قسمي أو هو ما أقسم به . والعمر والعمر بالفتح والضم واحد إلاّ أنهم خصوا القسم بالمفتوح اتباعاً للأخف ، فإن الحلف كثير الدور على ألسنتهم { إنهم لفي سكرتهم } غوايتهم التي أذهبت عقولهم حتى لم يميزوا بين خطئهم وصوابك { يعمهون } يتحيرون فكيف يقبلون قولك الذي تأمرهم به من ترك البنين إلى البنات؟ وقيل : إنه سبحانه خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقسم بحياته صلى الله عليه وسلم كرامة له صلى الله عليه وسلم وما أقسم بحياة أحد قط وذلك يدل على أنه أكرم الخلق على الله { فأخذتهم الصيحة مشرقين } داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس كان اتبداء العذاب من أو الصبح لقوله : { مصبحين } أليس الصبح بقريب؟ وغلبته كانت عن طلوع الشمس قال المفسرون : هي صيحة جبرائيل . قلت : ويحتمل أن تكون صيحة قلب المدائن وإرسال الحجارة عليهم . قال بعض المفسرين : إنما قال : { وأمطرنا عليهم } وفي سورة هود { وأمطرنا عليها } [ الآية : 82 ] لأنه أراد ههنا من شذ من القرية منهم . وقيل : سبب تخصيص هذه السورة بجمع المذكر هو بناء القصة على قوله : { إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين } { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } للمتفرسين . وحقيقة التوسم التثبت في النظر حتى يعرف حقيقة سمة الشيء فعبر به عن التأمل والتفكر { وإنها } يعني تلك القرى وآثارها { لبسبيل مقيم } ثابت يسلكه الناس المارة من الحجاز إلى الشام يشاهدون آثار قهر الله وغضبه هنالك . قال بعضهم : إنما جميع الآيات في قوله : { إن في ذلك لآيات للمتوسمين } لأنه أشار إلى ما تقدم عن ضيف براهيم وقصة لوط وقلب المدينة وإمطار الحجارة عليها وعلى من غاب منهم . وقال في الثانية { وإنها } أي القرية { لبسبيل } وهذه واحدة من تلك الآيات فلذلك قال : { إن في ذلك لآية للمؤمنين } وقيل : ما جاء من القرآن من الآيات فلجمع الدلائل ، وما جاء من الآية فلوحدانية المدلول عليه ، فلما ذكر عقيبه المؤمنين وهم مقرون بوحدانيته وحد الآية نظيره في « العنكبوت » { خلق الله السموات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين } [ الآية : 44 ] . ثم أجمل قصة قوم شعيب فقال : { وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } « إن » مخففة من الثقيلة ولذلك دخلت اللام الفارقة في خبرها . كانوا أصحاب غياض ومواضع ذات شجر فنسبوا إليها . والآيكة الشجر الملتف . والضمير في قوله : { وإنهما } يعود إلى قرى قوم لوط وإلى الأيكة .
وقيل : بل إلى الآيكة ومدين لأن شعيباً كان مبعوثاً إليهما فدل بذكر أحد الموضعين ههنا - وهو الأيكة - على الآخر { لبإمام مبين } لبطريق واضح . قال الفراء والزجاج : سمي الطريق إماماً لأنه يؤم ويتبع . وقال ابن قتيبة : لأن المسافر يأتم به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده . ثم ختم القصص بقصة ثمود فقال : { ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين } وهو واد بين الشأم والمدينة . وجمع المرسلين لأن تكذيب نبي واحد- وهو صالح - كتكذيب جميع الأنبياء ، أو لأن القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل ، أو أراد صالحاً ومن معه من المؤمنين ، { وآتيناهم } أي أعطينا رسولهم { آياتنا } أراد الناقة وكانت فيها آيات خروجها من الصخر وعظم خلقها وكثرة لبنها إلى غير ذلك كما حكينا في « الأعراف » { فكانوا عنها } أي عن النظر فيها والاعتبار بها { معرضين } وفيه أن التقليد مذموم والاستدلال واجب { وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً آمنين } من أن تنهدم ويتداعى بنيانها أو يقع سقفهم عليهم ، أو آمنين من عذاب الله أو من حوادث الدهر . { فما أغنى عنهم } لم يدفع عنهم شيئاً من عذاب الله { ما كانوا يكسبون } من بناء البيوت الوثيقة ومن جمع الأموال والعدد . ولم فرغ من القصص قال : { وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } أي متلبسة بالفوائد والغايات والحكم الصحيحة منها : اشتغال المكلفين بالعبادة والطاعة حتى لو تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض منهم ، وهذا النظم يناسب أصول الاعتزال ، قال الجبائي : فيه بطلان مذهب الجبرية الذين يزعمون أن أكثر ما خلق الله بين السموات والأرض من الكفر والمعاصي باطل . وأجيب بأن أفعال العباد من جملة ما بين السموات والأرض فوجب أن يكون الله خالقها . ويمكن أن يقال في وجه النظم : إن هذا ابتداء شروع في تسلية النبي صلى الله عليه و سلم وتصبيره على أذيات قومه بعد اقتصاص أحوال الأمم السالفة ومعاملاتهم مع أنبيائهم ، ويؤيد هذا النظم قوله : { وإن الساعة لآتية } معناه أن الله سينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل فكيف يليق بحكمته وفضله إهمال أمرك؟ ولما صبره على أذى قومه رغبه في الصفح فقال : { فاصفح الصفح الجميل } أي فأعرض عنهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء إن كان اللام الجنس فالمراد هذا النوع من الصفح لا الذين يشتمل على حقد واجتهال ومكر ، وإن كان للعهد فلعل المراد ما أمر به في نحو قوله : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } [ الأعراف : 199 ] وقيل : هذا منسوخ بآية السيف والأظهر أن حسن المعاشرة والمخالقة مأمور به ما أمكن فلا حاجة إلى ارتكاب النسخ { إن ربك هو الخلاق } كثير الخلق { العليم } الكامل العلم يعلم ما يجري بين الخلائق من الأحوال والأخلاق وإن كثروا وكثرت فيجازيهم يوم القيامة على حسب ذلك .
وقيل : أراد أنه الذي خلقكم وعلم ما هو الأصلح لكم ، فاليوم الصفح أصلح فاصفحوا إلى أن يكون السيف أصلح .
ثم حثه على الصفح والتجاوز بذكر النعم العظام التي خصه بها فقال : { ولقد آتيناك سبعاً من المثاني } أكثر المفسرين على أن المراد بها فاتحة الكتاب وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما وابن مسعود وأبي هريرة والحسن وأبي العالية ومجاهد والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة . وذلك أنها سبع آيات . والمثاني جمع مثناة من التثنية أو جمع مثنية لأنها تثنى في كل صلاة . وقال الزجاج : تثنى بما يقرأ بعدها معها . وأيضاً قسمت بنصفين قسم ثناء وقسم دعاء ، وقد ورد الحديث في هذا المعنى « قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين » وقد مر في أول الكتاب . وأيضاً كلماتها مثناة مثل : { الرحمن الرحيم } { إياك } و { إياك } { الصراط } { صراط } { عليهم } { عليهم } واشتمالها على ثناء الله تعالى وتحميده مقرر ومما يتفرع على هذا القول ما نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنه قال : كان ابن مسعود لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب . فقيل : كأنه رأى أنه تعالى عطف عليه قوله : { والقرآن العظيم } والعطف يوجب المغايرة فوجب أن تكون السبع المثاني غير القرآن . والجواب أنه قد يكون بعطف الجزء على الكل كقوله : { وملائكته وجبريل } [ البقرة : 98 ] أو بالعكس كما في الآية . والمقصود في الوصفين تميز البعض عن الكل تنبيهاً على مزية ذلك البعض وشرفه . فإن قلت : ليس لعطف لكل على البعض نظير ، والاستدلال بالآية استدلال بصورة النزاع من غير دليل . قلنا : يكفي بقوله : { ولقد آتيناك } دليلاً على أنه من القرآن . وعن ابن عمر وسعيد بن جبير في رواية : أن السبع المثاني هي السبع الطوال سميت بذلك لما وقع فيها من تكرير القصص والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، أو لأنها تثني على الله بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى . وأنكر الربيع هذا القول لأن هذه السورة مكية وأكثر تلك السورة مدنية . وأجيب بأن المراد من الإيتاء إنزالها إلى السماء الدنيا ، والمكية والمدنية في ذلك سيان ، وضعف بأن إطلاق لفظ الإيتاء على ما لم يصل بعد إليه خلاف الظاهر . وقال قوم : السبع المثاني هي التي دون الطول والمئين وفوق المفصل ، واحتجوا عليه بما روى ثوبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله أعطاني السبع الطوال مكان التوراة ، وأعطاني المئين مكان الإنجيل ، وأعطاني المثاني مكان الزبور وفضلني ربي بالمفصل » قال الواحدي : والقول في تسمية هذه السور مثاني كالقول في تسمية الطول مثاني . وروي عن ابن عباس وإليه ذهب طاوس أنها هي القرآن لقوله سبحانه : { كتاباً متشابهاً مثاني } [ الزمر : 23 ] وأنها سبعة أسباع كرر فيها دلائل التوحيد والنبوة والتكاليف .
ومعنى العطف على هذا القول الجمعية كقوله : إلى الملك القرم وابن الهمام . وكأنه قيل : آتيناك ما هو الجامع لكونه سبعاً مثاني ولكونه قرآناً عظيماً . قال الزجاج ووافقه صاحب الكشاف : و « من » في { من المثاني } للبيان أو للتبعيض إذا أردت بالسبع الفاتحة أو الطول ، وللبيان إذا أردت الأسباع .
ولما عرف رسوله نعمه الدينية ورغبه فيها نفره من اللذات العاجلة الزائلة لأن كل نعمة وإن عظمت فإنها بالنسبة إلى نعمة القرآن ضيئلة حقيرة ، ومنه الحديث « من لم يتغن بالقرآن أي لم يستغن به - فليس منا » وقول أبي بكر : من أوتي القرآن فرآى أن أحداً أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً . فمن حق قارىء القرآن الواقف على معانيه أن لا يشغل سره بالالتفات إلى الدنيا وزهرتها . قال الواحدي : إنما يكون مادّاً عينيه إلى الشيء إذا أدام النظر نحوه ، وإدامة النظر إليه تدل على استحسانه وتمنيه . وقال في الكشاف : معنى { لا تمدن } لا تطمح ببصرك طموح راغب فيه متمن له { إلى ما متعنا به أزواجاً منهم } أي أصنافاً من الكفار قاله ابن قتيبة . وقال الجوهري : الأزواج القرناء . وقال بعضهم : لا تمدن عينيك أي لا تحسدنّ أحداً على ما أوتي من الدنيا . وضعف بأن الحسد منهي عنه مطلقاً فكيف يحسن تخصيص الرسول به؟ ويمكن أن يجاب بأن المراد منه نهي التكوين كقوله : { ولا تكونن من المشركين } [ الأنعام : 14 ] أو المراد الغبطة فهي محظورة عليه صلى الله عليه وسلم لجلالة منصبه وإن كانت جائزة لأمته . ويروى أنه وافت من بلاد الشام سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجوهر ، فقال المسلمون : لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها ولأنفقناها في سبيل الله . فقال لهم الله عز وجل : لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع . وإنما قال في هذه السورة { لا تمدن } بغير واو العطف لأنه لم يسبقه طلب بخلاف ما في سورة طه . ثم لما نهاه عن الالتفات إلى أموالهم وأمتعتهم نهاه عن الالتفات إليهم أنفسهم وإن لم يحصل لهم في قلبه قدر ووزن فقال : { ولا تحزن عليهم } أي على أنهم لم يؤمنوا فيتقوى بمكانهم الإسلام وينتعش بهم المؤمنون ، وكما أمره بالتكبر على الأغنياء والترفع عنهم إذا كانوا كفاراً أمره بالتواضع للفقراء ، إذا كانوا مؤمنين فقال : { واخفض جناحك للمؤمنين } الخفض نقيض الرفع ، وجناحا الإنسان يداه ، وخفضهما كناية عن اللين والرفق . وإنما قال في سورة الشعراء بزيادة { لمن اتبعك } [ الآية : 215 ] لأنه قال قبله { وأنذر عشيرتك الأقربين } [ الآية : 214 ] فلو لم يذكر هذه الزيادة لكان الظاهر أن اللام للعهد فصار الأمر بخفض الجناح مختصاً بالأقربين من عشيرته فزيد { لمن اتبعك } [ الشعراء : 215 ] ليعلم أن هذا التشريف شامل لجميع متبعيه من الأمة .
ولما بعثه على الرفق بأهل الإيمان أمره بالإنذار لكل المكلفين فقال : { وقل إني أنا النذير المبين } ويدخل تحت كونه نذيراً كونه مبلغاً لجميع التكاليف ، لأن كل ما كان واجباً ترتب على تركه عذاب ، وكل ما كان حراماً ترتب على فعله عقاب . ويدخل في كونه مبيناً كونه شارحاً لجميع مراتب أهل التكاليف من الجنة والنار . فالإنذار بالنار والإحذار بالجنة هو الإخبار عن موجب الحرمان عنها .
وفي متعلق قوله : { كما أنزلنا } وجهان بعد ما مر به في الوقوف : أحدهما أن يتعلق بقوله : { ولقد آتيناك } أي أنزلنا } أي أنزلنا عليك ما أنزلنا { على المقتسمين } ومن هم؟ قيل : أهل الكتاب { الذين جعلوا القرآن عضين } أي أجزاء جمع عضة وأصلها عضوة « فعلة » من عضى الشاة إذا جعلها أجزاء وأعضاء ، أو « فعلة » من عضهته إذا بهته فالمحذوف منها الهاء لا الواو . وعن عكرمة : العضه السحر بلسان قريش يقولون للساحرة عاضهة . ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم العاضهة والمستعضهة فينقصانها الهاء أيضاً . وجمعت العضة بالمعاني جمع العقلاء لما لحقها من الحذف ، فجعلوا الجمع بالواو والنون عوضاً عما لحقها من الحذف كسنين . فمعنى الآية أن اليهود اقتسموا القرآن إلى حق وباطل وجزؤه فقالوا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل ، وبعضه باطل مخالف لهما . ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرأونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وتكذيبهم ، والإقرار بالبعض والتكذيب بالبعض كقوله : { أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } [ البقرة : 85 ] وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيب قومه وعداوتهم ، ولهذا وسط بين المتعلق بقوله : { لا تمدن } الآية لأنه مدد للتسلية لما فيه من النهي عن الالتفات إلى دنياهم والتأسف على كفرهم ومن الإقبال بالكلية على المؤمنين . الوجه الثاني أن يتعلق بقوله : { النذير المبين } وعلى هذا لا يكون بد من التزام إضمار أو زيادة ، أما الإضمار فأن يكون التقدير : أنا النذير عذاباً كما أنزلنا كقولك رأيت كالقمر في الحسن أي وجهاً كالقمر ، وأما الزيادة فأن تكون الكاف زائدة كقوله : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] ويمكن أن يقال : الكاف بمعنى مثل ولا حاجة إلى الالتزام والتقدير : أنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم إما اليهود ويراد بالعذاب ما جرى على قريظة والنضير فيكون قد جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ، وإما غيرهم من أهل مكة أو من قوم صالح . قال ابن عباس : هم الذين اقتسموا طرق مكة ومداخلها أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان بالله ورسوله . يقول بعضهم : لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ، ويقول الآخر كذاب ، والآخر شاعر ، فأهلكهم الله يوم بدر وقبله بآفات وكانوا قريباً من أربعين ، منهم الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب .
وقال عكرمة : اقتسموا القرآن استهزاء وكان يقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول الآخر سورة آل عمران لي وقال مقاتل : اقتسموه . قال بعضهم سحر ، وبعضهم شعر ، وبعضهم كذب ، وبعضهم أساطير الأولين . وقال ابن زيد : المقتسمون هم الذين تقاسموا بالله ليبيتن صالحاً كما سيجيء في سورة النمل ، فرمتهم الملائكة بالحجارة وقتلوهم ، وعلى هذا يكون قوله : { الذين جعلوا } منصوباً بالنذير أي أنذر المعضين الذين يجزؤن القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين .
ثم أقسم على سبيل الوعيد فقال : { فوربك لنسألنهم } الآية وقد مر تفسير مثله في أول « الأعراف » وذلك قوله { فلنسألن الذين أرسل إليهم } [ الأعراف : 6 ] . والأظهر أن الضمير عائد إلى جميع المكلفين المنذرين ، وأن السؤال يكون عن جميع الأعمال ، وقد يخص الضمير بالمقتسمين والسؤال بالاقتسام . ثم شجع نبيه قائلاً { فاصدع } أي اجهر { بما تؤمر } وأظهره وفرق بين الحق والباطل . وأصل الصدع الشق والفصل ومنه سمي الصبح صديعاً كما سمي فلقاً . وصدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً . قال النحويون : الجار محذوف والمعنى بالذي تؤمر به من الشرائع مثل « أمرتك الخير » . وجوز أن تكون « ما » مصدرية أي بأمرك وشأنك مصدر من المبني للمفعول . وقالوا : وما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت هذه الآية . ثم قال : { وأعرض عن المشركين } أي لا تبال بهم ولا تلتفت إلى لومهم إياك على إظهار الدعوة وهذا لا ينافي آية القتال حتى يلزم النسخ على ما ظن بل يؤكدها . ثم أكد النهي عن الاكتراث بهم وقوّى قلبه فقال : { إنا كفيناك المستهزئين } ولا ريب أنهم طبقة ذو شوكة قدروا على الاستهزاء بالرسول مع جلالة قدره . والآية لا تفيد إلا هذا القدر لكن المفسرين ذكروا عددهم وأسماءهم مع اختلاف بينهم . والأشهر على ما رواه عروة بن الزبير أنهم خمسة نفر من الأشراف : الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد يغوث ، والأسود بن المطلب ، والحرث بن الطلاطلة . وعن ابن عباس : ماتوا كلهم قبل يوم بدر . وقال جبرائيل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظماً لأخذه فأصابه عرقاً في عقبة فقطعه فمات . وأومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيها شوكة فقال : لدغت لدغت فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى ومات ، وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي ، وأشار إلى أنف الحرث فامتخط قيحاً فمات ، وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح رأسه بالشجر ويضرب وجهه بالشوك حتى مات ، ثم زاد في تسلية نبيه صلى الله عليه وسلم { ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون } من المطاعن فيك وفي القرآن لأن الجبلة البشرية والمزاج الإنساني يقتضي ذلك .
ثم أمره لكشف ما نابه بأربعة أشياء : بالتسبيح والتحميد والسجود والعبادة إلى إتيان اليقين . عن ابن عباس : هو الموت سمي بذلك لأنه أمر متيقن ولا يجب الإخلال بالعبادة ما دام المكلف حياً وهذا كما قيل في تحديد مدة طلب العلم : إنه من المهد إلى اللحد . وكيف يصير الإقبال على الطاعات سبباً لزوال ضيق القلب؟ قال المحققون : لأنه ينكشف له أضواء عالم الربوبية فيهون في نظره المصالح الدنيوية فلا يستوحش من فقدانها ولا يستأنس بوجدانها . وقال أهل السنة : إذا نزل بالعبد بعض المكاره فعليه أن يفزع إلى الله بالذكر الدائم والسجود وسائر أنواع العبادة فكأنه يقول : وجب عليّ عبادتك سواء أعطيتني الخيرات أو ألقيتني في المكاره . وقالت المعتزلة : من اعتقد تنزيه الله عن القبائح سهل عليه تحمل المشاق لأنه يعلم أنه تعالى عدل منزه عما لا فائدة فيه ولا غرض فيطيب قلبه .
التأويل : في بشارة إبراهيم إشارة إلى أن الطالب الصادق وإن كان مسناً ضعيف القوى كما قيل : الصوفي بعد الأربعين بارد . فأنه ينبغي أن لا يقنط من رحمة الله ، ويتقرب إليه بالأعمال القلبية ليتقرب إليه ربه بأصناف الألطاف وجذبات الأعطاف ، فيخرج من صلب روحه ورحم قلبه غلاماً عليماً بالعلوم اللدنية وهو واعظ الله الذي في قلب المؤمن { إن في ذلك لآيات } لأصحاب القلوب المتوسمين بشواهد أحكام الغيب . وما خلقنا سموات الأرواح وأرض الأشباح ، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار والخفيات { إلا بالحق } أي إلا لمظهر الحق ، ومظهره هو الإنسان المخصوص بذلك من بين سائر المخلوقات { وإن الساعة } يعني قيامة العشق { لآتية } لنفوس الطالبين الصادقين من أصحاب الرياضات لأن أنفسهم تموت بالرياضة ومن مات فقد قامت قيامته { فاصفح } أيها الطالب الصادق عن النفس المرتاضة بأن تداويها وتواسيها ، فإن في قيامة العشق يحصل من تزكية النفس في لحظة واحدة ما لا يحصل بالمجاهدة في سنين كثيرة ومن هنا قيل : جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين . { إن ربك هو الخلاق } لصور المخلوقات ولمعانيها ولحقائقها { العليم } بمن خلقه مستعداً لمظهرية ذاته وصفاته ومظهريتهما وليس ذلك في السموات والأرض وما بينهما إلا الإنسان الكامل وغيره مختص بمظهرية الصفات دون الذات وان كان ملكاً فلهذا قال : { ولقد آتيناك سبعاً } أي سبع صفات ذاتية لله تبارك وتعالى : السمع والبصر والكلام والحياة والعلم والإرادة والقدرة { من المثاني } أي من خصوصية المظهرية ، والمظهرية الذات والصفات . { والقرآن العظيم } ولهذا صار خلقه عظيماً لأنه كان خلقه القرآن { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً } من أهل الدنيا والآخرة { واخفض جناحك للمؤمنين } بهذا المقام ليصلوا بجناح همتك إليه { على المتقسمين } الذين قسموا قهر الله على أنفسهم فصاروا مظاهر القهر { الذين جعلوا القرآن عضين } أي جزؤوه في الاستعمال فقوم قرأوه ليقال لهم القراء وبه يأكلون ، وقوم حفظوه ليقال لهم الحفاظ وبه يجرّون الرزق ، وقوم حصلوا تفسيره وتأويله إظهاراً للفضل وطلباً للشهرة ، وقوم استنبطوا معانيه وفقهه على وفق آرائهم ومذاهبهم فكفروا إذ فسروا القرآن برأيهم .
{ إنا كفيناك المستهزئين } الذين يستعملون الشريعة بالطبيعة استهزاء بدين الله { الذين يجعلون مع الله إلهاً آخر } من الهوى والدنيا { فسبح بحمد ربك } لأنك لست منهم { وكن من الساجدين } سجدة الشكر { واعبد ربك } بالإخلاص { حتى يأتيك اليقين } أي إلى الأبد لأن كل مقام يحصل فيه اليقين بالعيان بعد العرفان فإنه يحصل فوقه مقام آخر مشكوك فيه إلى أن يحصل برد اليقين فيه أيضاً ، فهناك مراتب لا تتناهى فاليقين يكون إشارة إلى الأبد والله أعلم .
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
القراآت : { تشركون } وما بعده بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف . والآخرون على الغيبة { تنزل } بالفتحات الثلاث { الملائكة } بالرفع : سهل وروح وزيد وأبو زيد مثله لكن بضم التاء الفوقانية : جبلة { ينزل } من الإنزال { الملائكة } بالنصب : ابن كثير وأبو عمرو ورويس : والباقون بالتشديد من التنزيل . { بشق الأنفس } بفتح الشين : يزيد . الباقون بكسرها { ننبت } بالنون : يحيى وحماد . الآخرون بياء الغيبة { والشمس والقمر والنجوم مسخرات } كلها مرفوعات : ابن عامر وافق حفص والمفضل { في النجوم مسخرات } الباقون : بنصب الجميع على أن { مسخرات } حال . { يسرون ويعلنون } بالياء التحتانية فيهما : الخزاز عن هبيرة . الآخرون بتاء الخطاب { يدعون } على الغيبة : سهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى . الباقون على الخطاب .
الوقوف : { فلا تستعجلوه } ط { يشركون } 5 { فاتقون } 5 { بالحق } ط { يشركون } 5 { مبين } 5 ج { خلقها } ج لاحتمال تمام الكلام واحتمال أن يكون { لكم } متعلقاً به والوقف حينئذٍ على { لكم } { تأكلون } 5 ص للعطف { تسرحون } 5 ص لذلك { الأنفس } ط { رحيم } 5 لا لأن { الخيل } مفعول { خلق } { وزينة } ط { ما لا تعلمون } 5 { جائر } ط { أجمعين } 5 { تسيمون } 5 { الثمرات } ط { يتفكرون } 5 { والنهار } ط لمن قرأ { والشمس } وما بعده بالرفع ومن نصب { الشمس والقمر } ورفع { النجوم } وقف على { القمر } ومن نصب الكل وقف على { بأمره } { بأمره } ط { يعقلون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { سخر } { ألوانه } ط { يذكرون } 5 { تلبسونها } ج لأن قوله { وترى } فعل مستأنف مع اتصال المعنى . { تشكرون } 5 لا { تهتدون } 5 لا لأن قوله { وعلامات } عطف على { سبلاً } { وعلامات } ط { يهتدون } 5 { لا يخلق } ط { تذكرون } 5 { لا تحصوها } ط { رحيم } 5 { وما تعلنون } 5 { وهم يخلقون } 5 ط لأن التقدير : هم أموات { غير أحياء } ج لاختلاف الجملتين { وما يشعرون } 5 لا لأن ما بعده مفعول { يبعثون } 5 { واحد } ط لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء { مستكبرون } 5 { وما يعلنون } 5 { المستكبرين } 5 .
التفسير : هذه السورة تسمى سورة النعم أيضاً ، وحكى الأصم عن بعضهم أن كلها مدنية . وقال الآخرون : من أولها إلى قوله : { كن فيكون } مدنية وما سواه مكي . وعن قتادة بالعكس منه . قال أهل النظم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخوفهم بعذاب الدنيا تارة وهو القتل والاستيلاء عليهم كما حصل في يوم بدر ، وتارة بعذاب القيامة . ثم إن القوم لما لم يشاهدوا شيئاً من ذلك أقبلوا على تكذيبه وكانوا يستعجلون ما وعدوا به استهزاء . وروي أنه لما نزلت { اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] قال الكفار فيما بينهم : إن هذا يزعم أن القيامة قد اقتربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن . فلما تأخرت قالوا : ما نرى شيئاً فنزلت
{ اقترب للناس حسابهم } [ الأنبياء : 1 ] فأشفقوا وانتظروا قربها ، فلما امتدت الأيام قالوا : يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوفنا به فنزلت { أتى أمر الله } فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع الناس رؤوسهم فنزلت { فلا تستعجلوه } فاطمأنوا . والحاصل أن قوله : { أتى أمر الله } جواب عن شبهتهم إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع كما يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها : جاءك الغوث فلا تجزع . أو المراد أن { أمر الله } بذلك وحكمه قد وقع وأتى . فأما المحكوم به فإنما لم يقع لأنه تعالى حكم بوقوعه في وقت معين فقبل مجيء ذلك الوقت لا يخرج إلى الوجود فلا تسعجلوه ولا تطلبوا حصوله قبل حضور ذلك الوقت . ثم إن المشركين كأنهم قالوا : هب يا محمد أنا سلمنا صحة ما تقول من أنه تعالى حكم بإنزال العذاب علينا إما في الدنيا وإما في الآخرة إلا أنا نعبد هذه الأصنام لأنها شفعاؤنا عند الله فكيف نستحق العذاب بسبب هذه العبادة؟ فأجاب الله عن هذه الشبه بقوله : { سبحانه وتعالى عما يشركون } كما مر في أول سورة يونس . والمراد تنزيه نفسه عن الأضداد والأنداد وأن يكون لأحد من الأرواح والأجساد أن يشفع عنده إلا بإذنه ، أو يستعجل في حكم من أحكامه ، أو قضية قبل أوانه . ثم إنهم كأنهم قالوا سلمنا أنه تعالى أن يقضي على طائفة باللطف وعلى الآخرين . بالقهر ولكن كيف صرت واقفا على أسرار الله تعالى في ملكه وملكوته دوننا ، من أين حصل لك هذا الفضل علينا؟ فأزال الله سبحانه شبهتهم بقوله : { ينزل الملائكة } الآية . والمراد أن له بحكم المالكية أن يختص بعض عبيده بإنزال الوحي عليه ويأمره بأن يكلف سائر العباد بمعرفة توحيد الله وبعبادته ، فظهر بهذا البيان أن هذه الآيات منتظمة على أحسن الوجوه . قال الواحدي : روى عطاء عن ابن عباس أنه أراد بالملائكة ههنا جبرائيل وحده ، وتسمية الواحد بالجمع إذا كان رئيساً مطاعاً جائزة . وعلى هذا التفسير فالمراد بالروح كلام الله تعالى كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] قال المحققون : الروح الأصلي هو القرآن الذي فيه بيان المبدأ والوسط والمعاد ، فبه يحصل إشراق العقل ، وبالعقل يكمل ضياء جوهر الروح ، وبالروح يكمل حال الجسد فهو الأصل والباقي فرع عليه وبهذه المناسبة يسمى جبرائيل روحاً وعيسى روحاً . وعن أبي عبيدة أن الروح ههنا جبرائيل ، والباء بمعنى « مع » أي تنزل الملائكة مع جبرائيل . وذلك أنه في أكثر الأحوال كان ينزل ومعه أقوام من الملائكة كما في يوم بدر وحنين ، وكان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ملك الجبال وملك البحار وخزان الجنة وغيرهم . قال في الكشاف : { بالروح من أمره } أي بما يحيي القلوب الميتة بالجهل من وحيه ، أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد وقال غيره : من أمره معناه أن ذلك التنزيل والنزول لا يكون إلا بأمر الله كقوله
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } [ مريم : 64 ] قال الزجاج : { أن أنذروا } بدل من « الروح » أي ينزلهم بأن أنذروا . و « أن » إما مفسرة لأن تنزيل الوحي فيه معنى القول ، وإما مخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر أي بأن الشأن أقول لكم أنذروا أي أعلموا الناس قولي : { لا إله إلا أنا } وهو إشارة إلى استكمال القوة النظرية . وقوله : { فاتقون } رمز إلى استكمال القوة العملية ومنه يعلم أن النفس متى كملت من هاتين الجهتين حصل لها روح حقيقي وحياة أبدية وسعادة سرمدية . قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا لا نعلم كون جبريل صادقاً ولا معصوماً من الكذب والتلبيس إلا بالدلائل السمعية ، وصحة الدلائل السمعية موقوفة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم ، وصدقه يتوقف على أن هذا القرآن معجز من قبل الله لا من قبل شيطان خبيث ، والعلم بذلك يتوقف على العلم بأن جبرائيل صادق مبرأ عن التلبيس وأفعال الشياطين ، وحينئذٍ يلزم الدور وهذا مقام صعب . أقول : قد ذكرنا مراراً أن الفرق بين المعجز والسحر هو أن صاحب المعجز يدعو إلى الخير ، وصاحب السحر يدعو إلى الشر ، والفرق بين الملك والشيطان هو أن الملك يلهم بالخير ، والشيطان يوسوس بضده وإذا كان الأمر كذلك فكيف تشتبه المعجزة بالسحرة وجبرائيل بإبليس ومن أين يلزم الدور؟
ولما بين الله سبحانه أن روح الأرواح وروح الأجسام هو أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل أن يعمل به ، أتبعه دلائل التوحيد مبتدئاً من الأشرف وهو السماويات إلى الأدون - وهو الأرضيات - فقال : { خلق السموات والأرض بالحق } وقد مر تفسير مثله مراراً . وقوله : { تعالى عما يشركون } تنزيه لذاته عمن يشاركه في الأزلية والقدم والتدبير والتأثير والصنع والإبداع . فالفائدة المطلوبة من هذا الكلام غير الفائدة المطلوبة من مثله في أول السورة كما ذكرنا فلا تكرار . ثم إن أشرف الأجسام بعد الفلكيات بدن الإنسان فلهذا عقب المذكور بقوله : { خلق الإنسان من نطفة } قالت الأطباء : إن الغذاء إذا وصل إلى المعدة حصل له هناك هضم ، وإذا وصل إلى الكبد حصل له فيها هضم ثانٍ ، وفي العروق له هضم ثالث ، وفي جواهر الأعضاء هضم رابع ، وحينئذٍ يصير جزءاً من العضو المغتذى شبيهاً به ، ثم عند استيلاء الحرارة على البدن وقت هيجان الشهوة يحصل ذوبان لجملة الأعضاء وتجتمع منه النطفة في أوعيتها ، وعلى هذا تكون النطفة جسماً مختلفة الأجزاء والطبائع ، وإن كانت تخيل في الحس أنها متشابهة الأجزاء . وكيفما كان فالمقتضي لتولد البدن منها ليس هي الطبيعة الحاصلة لجوهر النطفة ودم الطمث ، لأن الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار ، والقوّة الطبيعة إذا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكرة .
وعلى هذا الحرف عول الحكماء في قولهم : البسائط يجب أن تكون أشكالها الطبيعة في الكرة ، وإذا عملت في مادة مختلفة الأجزاء وكل مركب فإنه ينحل إلى بسائط فإنه يلزم أن يكون الحيوان على شكل كرات مضموم بعضها إلى بعض ، وكلا الأمرين غير مطابق للواقع ، فعلمنا أن حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاص ليس بالطبيعة وإنما هو بتدبير الفاعل المختار وهو الله سبحانه ، وكيف لا والنطفة رطوبة سريعة الاستحالة؟ فالأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة ، فالجزء الذي هو مادة الدماغ يمكن حصوله في الأسفل ، والجزء الذين هو مادة القلب قد يحصل في الفوق ، فلا يكون حدوث أعضاء الحيوان على هذا الترتيب الخاص دائماً ولا أكثرياً ، وحيث كان كذلك علمنا أن حدوثها بإحداث مدبر مختار . ثم إن نزلنا عن جميع هذه المراتب فلا خلاف بين الحكم وبين المتكلم أن الطبيعة خرقاء وأنها ليست واجبة الوجود لذاتها فلا بد من الانتهاء الى الصانع الحكيم الخبير . أما قوله : { فإذا هو خصم مبين } فقد ذكروا فيه وجهين : الأول فإذا هو منطيق مجادل عن نفسه مبين للحجة بعد أن كان نطفة لا حس به ولا حراك . وتقرير ذلك أن النفوس الإنسانية في أول الفطرة أقل فهماً وذكاء من نفوس سائر الحيوانات ، ألا ترى أن ولد الدجاجة كما يخرج من البيضة يعرف الصديق من العدو فيهرب من الهرة ويلتجىء إلى الأم ويميز بين الغذاء الذي يوافقه والذي لا يوافقه . وحال الطفل بخلاف ذلك فانتقاله من تلك الحالة الخسيسة إلى أن يقوى على معرفة الإلهيات والفلكيات والعنصريات وعلى إيراد الشكوك والشبهات على النتائج والمقدمات إنما يكون بتدبير إله مختار قدير ينقل الأرواح من النقصان إلى الكمال ومن الجهالة إلى المعرفة . الوجه الثاني أن المراد فإذا هو خصيم لربه منكر على خالقه قائل من يحيي العظام وهي رميم . فعلى الوجه الأول جوز أن يكون الخصيم « فعيلاً » بمعنى « مفاعل » كالأكيل والشريب ، وأن يكون بمعنى مختصم ، وعلى الوجه الثاني تعين كونه بمعنى « مفاعل » والترجيح من الوجهين للأول بناء على أن هذه الآيات مسوقة لتقرير الدلائل على وجود الصانع الحكيم وقدرته لا لأجل وصف الإنسان بالتمادي في القحة والكفران . وقد يرجح الثاني بما روي أن أبيّ بن خلف الجمحي جاء بعظم رميم إلى رسول الله صلى الله عليه فقال : يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رم؟ فنزلت .
ثم أردف تكوين الإنسان بتكوين الحيوانات التي ينتفع بها الإنسان في ضروراته من الأكل والركوب وجر الأثقال وفي غير الضروريات من الأغراض الصحيحة كالتزيين والجمال فقال : { والأنعام خلقها } هي الأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام وهي : الضأن والمعز والإبل والبقر .
وإن شئت قلت : الإبل والبقر والغنم . قال في الكشاف : وأكثر ما يقع هذا اللفظ على الإبل : قلت : ويمكن أن يستدل على ذلك بقوله بعد ذلك : { وتحمل أثقالكم } لأن هذا الوصف لا يليق إلا بالإبل . وانتصابها بمضمر يفسره الظاهر . ويجوز أن يكون معطوفاً على { الإنسان } أي خلق الإنسان والأنعام . ثم قال : { خلقها لكم } أي ما خلقها إلا لكم ولمصالحكم يا جنس الإنسان . قال صاحب النظم : وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله : { خلقها } بدليل أنه عطف عليه قوله : { ولكم فيها جمال } والدفء اسم ما يدفأ به كالملء اسم ما يملأ به وهو الدفاء من لباس معمول من صوف أو وبر أو شعر . قال الجوهري : الدفء نتاج الإبل وألبانها وما ينتفع به منها ، والدفء أيضاً السخونة . وقوله : { ومنافع } قالوا : المراد نسلها ودرّها ، والمنافع بالحقيقة أعم من ذلك فقد ينتفع بها في البيع والشراء بالنقود والأثواب وبسائر الحاجات . أما قوله : { ومنها تأكلون } بتقديم الظرف المؤذن بالاختصاص فلأن الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في مآكلهم عادة ، وأما الأكل من غيرها كالدجاج وصيد البر والبحر فكغير المعتد به الجاري مجرى التفكه ، ويحتمل أن يراد أن غالب أطعمتكم إنما يحصل منها لأنكم تحرثون بالبقر وتكتسبون بإكراء الإبل وتشترون بنتاجها وألبانها وجلودها جميع ما تشتهون من الأطعمة . قوله : { حين تريحون } الإراحة رد الإبل إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً ويقال : سرح القوم إبلهم سرحاً إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى . وقدم الإراحة لأن الجمال فيها أظهر حين تقبل ملأى البطون حافلة الضروع ثم تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها . قوله : { بشق الأنفس } من قرأ بفتح الشين فمعناه المشقة فيكون مصدر شق الأمر عليه شقاً وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع . ومن قرأ بالكسر فمعناه النصف كأنه يذهب نصف قوته لما يناله من الجهد . قال جار الله . معنى المضي في قوله : { لم تكونوا } راجع إلى الفرض والتقدير : أي لو لم يخلق الإبل لم تكونوا إلا كذلك . وإنما لم يقل « لم تكونوا حامليها إلى ذلك البلد » ليطابق قوله : { وتحمل أثقالكم } لأجل المبالغة كأنه قيل : قد علمتم أنكم لا تبلغونه بأنفسكم إلا بجهد ومشقة وذهاب قوة فضلاً أن تحملوا على ظهوركم أثقالكم ويجوز أن يكون العائد إلى الأثقال محذوفاً أي لم تكونوا بالغيها إلا بالشق ، أو المراد بالأثقال الأجساد ، عن ابن عباس أنه فسر البلد بمكة إلى اليمن وإلى الشام وإلى مصر ، قال الواحدي : هذا قوله والمراد كل بلد لو تكلفتم بلوغه على غير إبل شق عليكم . وخص ابن عباس هذه البلاد لأنها أكثر متاجر أهل مكة { إن ربكم لرءُوف رحيم } وإلا لم يخلق هذه الحوامل لأجل تيسير هذه المصالح .
احتج منكرو الكرامات بالآية على امتناع طي الأرض كما ينقل عن بعض الأولياء . والجواب أن الامتناع العادي لا ينافي الإمكان الذاتي .
{ والخيل والبغال والحمير } معطوفات على الأنعام أي وخلق هؤلاء للركوب والزينة فانتصب على أنه مفعول له معطوف على محل { لتركبوها } وإنما لم يقل و « لتتزينوا بها » ليكون المعطوف والمعطوف عليه على سنن واحد لأن الركوب فعل المخاطبين ، وأما الزينة ففعل الزائن وهو الخالق . والتحقيق فيه أن الركوب أحد الأمور المعتبرة في المقصود بخلاف التزين بالشيء فإنه قلما يلتفت إليه أرباب الهمم العالية لأنه يورث العجب والتيه غالباً وكأنه قال : خلقتها لتركبوها فتدفعوا عن أنفسكم بواسطتها ضرر الإعياء والمشقة ، وأما التزين بها فهو حاصل في نفس الأمر ولكنه غير مقصود بالذات . احتجت المعتزلة القائلون بأن أفعال الله معللة بالمصالح بأن قوله : { لتركبوها } يقتضي أن هذه الحيوانات مخلوقة لهذه المصلحة . والجواب أن استتباع الغاية والفائدة مسلم ولكن التعليل ممنوع ، واحتج الحنفية بالآية على تحريم لحوم الخيل من وجوه : أحدها إفراد هذه الأنواع الثلاثة بالذكر فيجب اشتراك الكل في الحكم ، لكن البغال والحمير محرمان فكذا الخيل . ثانيها أن منفعة الأكل أعظم منة من الركوب والتزين فلو كان أكل لحم الخيل جائزاً لكان هذا المعنى أولى بالذكر . وثالثها أن قوله فيما قبل : { ومنها تأكلون } يقتضي الحصر فيجب أن لا يجوز أكل ما عدا الأنعام إلا بدليل منفصل والأصل عدمه ورابعها أن قوله : { لتركبوها } يقتضي أن تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة هو الركوب والزينة ، فلو كان حل أكلها مقصوداً لزم أن يكون ما فرض تمام المقصود بعض المقصود هذا محال . والجواب أن تحريم الخيل محل النزاع وتحريم الحمير بنص الكتاب ممنوع لما روي عن جماعة من الصحابة أنه صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن لحوم الحمر الأهلية . فلو كان للآية دلالة على تحريم لحم الخيل لفهموه منها قبل ذلك العام لأن الآية مكية عند الأكثرين ، ولو فهموا التحريم قبل ذلك لم يبقَ لتخصيص التحريم بهذه السنة فائدة . وإذا لم يكن الحمير والخيل محرمين لم يكن لتحريم البغال المتولدة منهما وجه . وأيضاً كون معظم المنة في الأكل بالنسبة إلى هذه الأنواع ممنوع بل الركوب والزينة هما أعظم المنافع فيها ولهذا جعلا تمام المقصود منها ، فكأنما أعطى الأكثر والمعظم حكم الكل . واقتضاء الحصر في قوله : { ومنها تأكلون } ممنوع بل لعل الظرف قدم لرعاية الفاصلة . ثم إن أنواع الغرائب والعجائب المخلوقة في هذا العالم لا حد لها ولا حصر فلهذا أشار إلى ما بقي منها على سبيل الإجمال فقال : { ويخلق ما لا تعلمون } أي كنهه وتفاصيله بل نوعه وجنسه فإن مركبات العالم السفلي وغرائب العالم العلوي لا يعلمها إلا موجدها .
روى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال : إن عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة ، يدخل فيه جبرائيل عليه السلام كل سحر ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ، ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نقطة تقع من رأسه كذا وكذا ألف ملك يدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور ، وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة . وقيل : المراد ما خلق في الجنة والنار مما لم يبلغه فيهم أحد ولا وهمه .
ولما ذكر بعض دلائل التوحيد بين أنه إنما ذكرها إزاحة للعذر وإزالة للشبهة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فقال : { وعلى الله قصد السبيل } ذكر صاحب الكشاف أن السبيل للجنس والقصد مصدر بمعنى الفاعل يقال : قصد وقاصد أي مستقيم كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه ، والجور الميل عن الاستقامة . احتجت المعتزلة بالآية على مسألتين من أصولهم : إحداهما أنه يجب على الله تعالى الإرشاد والهداية لأن كلمة ، « على » للوجوب والمضاف محذوف أي وعلى الله بيان قصد السبيل؛ فالمعنى أن هداية الطريق الموصل إلى الحق واجبة عليه . والثانية أنه لا يضل أحداً ولا يغويه وإلا لقيل وعلى الله قصد السبيل وعليه جائرها أو وعليه الجائر فلما غير أسلوب الكلام قائلاً : { ومنها جائر } دل على أنه أراد أن يبين ما يجوز إضافته إليه من السبيلين وما لا يجوز . والجواب عن الأول بعد تسليم إفادة كلمة « على » الوجوب أنه وجوب بحسب الفضل والكرم لا بمعنى استحقاق الذم على الترك . وعن الثاني أن دلالة قوله : { ومنها جائر } على ما ذكرتم ليست دلالة المطابقة ولا التضمن ولا الالتزام ، لأن قول القائل « من السبيل سبل منحرفة » لا يفيد إلا الإخبار بوجود الانحراف في بعض السبيل ، فأما أن فاعل تلك السبيل من هو فلا دلالة للكلام عليه أصلاً على أن قوله : { ولو شاء لهداكم أجمعين } يناقض ما ادعيتم . وتفسير المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر أو بالهداية إلى الجنة خلاف الظاهر كما مر مراراً . ولما استدل على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال الحيوانات أراد أن يذكر الاستدلال على المطلوب بغرائب أحوال النبات فقال : { هو الذي أنزل من السماء ماء } وقوله : { لكم } متعلق بأنزل أو بشراب خبراً له . والشراب ما يشرب كالطعام لما يطعم والمراد أن الماء النازل من السماء قسمان : بعضه يبقى لأجل الشرب كما هو ويحتمل أن يكون الماء المحتبس في الآبار والعيون منه كقوله : { فأسكناه في الأرض } [ المؤمنون : 18 ] وبعضه يحصل منه شجر يرعاه المواشي . قال الزجاج : كل ما ينبت من الأرض فهو شجر لأن التركيب يدل على الاختلاط ومنه تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم بالبعض ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ وفيما له ساق .
وقال ابن قتيبة : المراد بالشجر في الآية الكلأ . وفي حديث عكرمة « لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت » أراد الكلأ . وقيل الشجر كل ما له ساق كقوله : { والنجم والشجر يسجدان } [ الرحمن : 6 ] والعطف يقتضي التغاير ، فلما كان النجم ما لا ساق له وجب أن يكون الشجر ما له ساق ، وأجيب بأن عطف الجنس على النوع جائز ، وبأن قوله : { فيه تسيمون } من سامت الماشية إذا رعت وأسامها صاحبها وهو من السومة العلامة لأنه تؤثر بالرعي علامات في الأرض يقتضي أن يكون الشجر هو العشب ليمكن الرعي . ورد بأن الإبل قد تقدر على رعي الأشجار الكبار . وحين ذكر مرعى الحيوان أتبعه ذكر غذاء الإنسان فقال : { ينبت لكم به الزرع } الذي هو الغذاء الأصلي { والزيتون } الذي هو فاكهة من وجه وغذاء من وجه لكثرة ما فيه من الدهن { والنخيل والأعناب } اللتين هما أشرف الفواكه . ثم أشار إلى الثمرات بقوله : { ومن كل الثمرات } كما أجمل الحيوانات التي لم يذكرها بقوله : { ويخلق ما لا تعلمون } قال في الكشاف : إنما لم يقل و « كل الثمرات » بل زاد « من » التبعيضية لأن كلها لا يكون إلا في الجنة . واعلم أنه قدم الغذاء الحيواني على الغذاء النباتي لأن النعمة فيه أعظم لأنه أسرع تشبيهاً ببدن الإنسان ، وفي ذكر الغذار النباتي قدم غذاء الحيوان - وهو الشجر - على غذاء الإنسان - وهو الزرع وغيره - بناء على مكارم الأخلاق وهو أن يكون اهتمام الإنسان بحال من تحت يده أكمل من اهتمامه بحال نفسه ، وإنما عكس الترتيب في قوله : { كلوا وارعوا أنعامكم } بناء على ما هو الواجب في نفس الأمر كقوله صلى الله عليه وسلم : « ابدأ بنفسك ثم بمن تعول »
قوله : { وسخر لكم الليل والنهار } معنى تسخيرهما للناس تصييرهما نافعين لهم بحسب مصالحهم على سنن واحد يتعاقبان دائماً كالعبد المطواع ، وكذا الكلام في تسخير الشمس والقمر والنجوم كما في « الأعراف » وفي سورة إبراهيم . وهذا حسم لمادة شبهة من يزعم أن حركات الأفلاك هي المقتضية لتعاقب الليل والنهار ومسيرات الكواكب هي المستدعية للحوادث السفليات ، فإنه إن سلم لهم ذلك فلا بد لتلك الحركات والمسيرات من الانتهاء إلى صانع قديم منزه عن التغير والإمكان مبرإ عن الحدوث والنقصان وهو الله سبحانه . { إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون } قال جار الله : جمع الآية وذكر العقل لأن آثار العلو أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة . وقال غيره : إنما جمع الآيات لتطابق قوله : { مسخرات } ومثله في هذه السورة في موضع آخر { مسخرات في جوّ السماء ما يمكسهن إلا الله إن في ذلك لآيات }
[ النحل : 79 ] وأقول : إنما جمع لأن كلاً من تسخيراً الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم آية في نفسها لتباين الليل والنهار وتخالف مسيرات الكواكب كما هو مقرر في علم الهيئة بخلاف قوله { ينبت لكم } فإن مطلق الإنبات آية واحدة . وكذا قوله : { وما ذرأ لكم في الأرض } أي خلق لكم فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك : { مختلفاً ألوانه } فإن ذرء هذه الأشياء على حالة اختلاف الألوان والأشكال مع تساوي الكل في الطبيعة الجسمية وفي تأثير الفلكيات فيها ، آية واحدة على وجود الصانع تعالى شأنه ، ولست أدعي إلا إمكان هذه الاعتبارات وإلا : ففي كل شيء آية تدل على أنه واحد . وإنما خص المقام الأول بالتفكر لإمكان إيراد الشبهة المذكورة ، وخص المقام الثاني بالعقل لذكره بعد إماطة الشبهة وإزاحة العلة ، فمن لم يعترف بعدها بالوحدانية فلا عقل له . وخص المقام الثالث بالتذكر لمزيد الدلالة فمن شك بعد ذلك فلا حس له . ومن جملة الآيات التي هي في الحقيقة إنعامات على الإنسان تسخير البحر بالركوب عليه والانتفاع به أكلاً ولبساً . والمراد باللحم الطريّ السمك . قال ابن الأعرابي : لحم طريّ غير مهموز ومصدره طراوة . يقال : شيء طريّ أي غض بين الطراوة . وقال قطرب : طرو اللحم وطري طراوة والمراد في الآية السمك وما في معناه . قال في الكشاف : وصفه بالطراوة لأن الفساد يسرع إليه فيسارع إلى أكله خيفة الفساد عليه . وقال المتكلمون : إنه لما خرج من البحر المالح الزعاق الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة ، علم أنه لم يحدث بحسب الطبع بل حدث بقدرة الله تعالى وحكمته بحيث أظهر الضد من الضد . قال أكثر الفقهاء ومنهم أبو حنيفة والشافعي : من حلف أن لا يأكل لحماً فأكل سمكاً لم يحنث لأن اللحم لا يتناوله عرفاً . ومبنى الأيمان على العرف والعادة . ولهذا لو قال لغلامه : اشتر لحماً فجاء بالسمك كان حقيقاً بالإنكار عيله . ورد عليهم الإمام فخر الدين الرازي بأنه إذا قال لغلامه : اشتر لحماً فجاء بلحم العصفور كان حقيقاً بالإنكار مع أنكم تقولون إنه يحنث بأكل لحم العصفور . فثبت أن العرف مضطرب والرجوع إلى نص القرآن متعين فليس فوق بيان الله بيان . ولقائل أن يقول : لعل الإنكار في هذه الصورة بعد تسليمه إنما جاء من قبل ندرة شراء العصفور أو شراء لحمه فإنه إنما يشترى كله ولم يجىء من إطلاق اللحم على لحمه . ومن منافع البحر استخراج الحلية منه قالوا : أراد بالحلية اللؤلؤ والمرجان ، والمراد بلبسهم لبس نسائهم لأنهن من جملتهم ولأن تزيينهن لأجلهم . ولقائل أن يقول : لا مانع من تزيين الرجال باللآلىء ونحوها شرعاً فلا حاجة إلى هذه التكلف . استدل الإمام فخر الدين بالآية في إبطال قول الشافعية إنه لا زكاة في الحلى قال : لأن اللام فيما يروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :
« لا زكاة في الحلى » تنصرف إلى المعهود السابق ولا معهود إلا ما في الآية من الحلية فصار معنى الحديث : لا زكاة في اللآلىء . وهذا باطل بالاتفاق . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن تكون اللام للجنس فتشمل المصوغ من الذهب والفضة أيضاً فيكون الحديث مخصصاً بالآية إن ثبت صحته؟
ومن عجائب البحر ومنافعه قوله سبحانه : { وترى الفلك مواخر فيه } قال أهل اللغة : مخر السفينة شقها الماء بصدرها . وعن الفراء صوت دويّ الفلك بالرياح . وقال ابن عباس : مواخر أي جواري . وإنما حسن هذا التفسير لأنها لا تشق الماء إلا إذا كانت جارية : وقوله : { لتبتغوا من فضله } أي تتجروا فيه فتطلبوا الربح من فضل الله وإذا وجدتم فضله وإحسانه فلعلكم تقدمون على شكره . واعلم أن قوله : { مواخر فيه } جاء على القياس لأن موضع الظرف المتعلق بمواخر بعد مضي مفعولي « ترى » ، وأما في سورة الملائكة فقدم الظرف ليكون موافقاً لقوله : { ومن كل تأكلون } ولتقدم الجار في قوله : { ومن كل تأكلون } حذف لفظة « منه » هناك . الواو في { ولتبتغوا } في هذه السورة للعطف على لام العلة في { لتأكلوا } وقوله : { وترى الفلك مواخر فيه } اعتراض في السورتين يجري مجرى المثل ولهذا وحد الخطاب في قوله : { وترى } وقبله وبعده جمع « أي لو حضرت أيها المخاطب لرأيته بهذه الصفة . ويمكن أن يقال : إنما قال في الملائكة { فيه مواخر } بتقديم الظرف لئلا يفصل بين لام العلة وبين متعلقها وهو مواخر ، وليكتنف المتعلق المتعلقان . وإنما بنينا الكلام على أن قوله : { فيه } متعلق ب { مواخر } لا ب { ترى } لقرب هذا وبعد ذاك والله أعلم . قوله : { أن تميد بكم } أي كراهة أن تميد الأرض بكم والباء للتعدية أو للمصاحبة . والميد الحركة والاضطراب يميناً وشمالاً . يروى أنه تعالى خلق الأرض فجعلت تمور فقالت الملائكة : ما هي بمقرّ على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال لم تدر الملائكة مم خلقت . قال جمهور المفسرين : إن السفينة إذا ألقيت على وجه الماء فإنها تميل من جانب إلى جانب وتضطرب ، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة في تلك السفينة استقرت على وجه الماء فهكذا الأرض تستقر على الماء بسبب ثقل الجبال . واعترض عليه بأن السفينة إنما تضطرب على الماء لتخلخلها وخفتها بسبب الهواء الداخل في تجاويف الخشب ومسامها ، أما الأرض فجسم كثيف ثقيل من شأنها الرسوب في الماء على ما هو مشاهد من حال أجزائها المنفصلة عنها . فإن كان طبيعة الكل كذلك فكيف يعقل طفوّها حتى توجب الجبال إرساءها وثباتها ، وإن لم تكن طبيعة الكل كذلك حتى تكون طافية مائدة وقد أرساها الله تعالى بالجبال ، فالرسو والرسوخ إنما يتصور على جسم واقف وليس إلا الماء فينقل الكلام إلى وقوف الماء في حيزه المعين .
فإن كان بحسب الطبيعة فهذا خلاف التقدير لأنا نفينا القول بالطبائع الموجبة لهذه الأحوال ، وإن لم يكن بالطبع بل كان واقفاً بتخليق الفاعل المختار وتسكينه في حيزه المخصوص فلم لا نقول مثله في تسكين الأرض؟ هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ونسب المقام إلى الصعوبة والإشكال واستخرج لحله وجهاً مبنياً على قوانين الحكمة ، وهو أن الأرض جسم كروي ، والكرة إذا كانت صحيحة الاستدارة فإنها تتحرك بأدنى سبب ، فلما أحدث الله سبحانه على وجه الكرة هذه الخشونات الجارية مجرى الأوتاد منعتها عن السلاسة والحركة . قلت : في هذا الحال خلل . أما أولاً فلكونه مبنياً على غير قواعد أهل التفسير ، وأما ثانياً فلما ثبت في الحكمة أن نسبة أعظم جبل في الأرض وهو ما ارتفاعه فرسخان وثلث فرسخ إلى جميع الأرض كنسبة خمس سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ، ولا ريب أن ذلك القدر من الشعيرة لا يخرج الكرة المذكورة عن صحة الاستدارة بحيث يمنعها عن سلاسة الحركة ، فكذا ينبغي أن يكون حال الجبال بالنسبة إلى كرة الأرض . والجواب الصحيح على قاعدة أهل الشرع أن يقال : لا نسلم أن الأرض بكليتها لها طبيعة موجبة لحالة من الأحوال ، وعلى تقدير التسليم فلا نسلم أن لها طبيعة الرسوب بل لعل طبيعتها الطفوّ فلهذا احتاجت إلى الرواسي . وأما قوله : « لم أوقف الله الماء في حيزه ولم يوقف الأرض من غير إرساء » فلا يخفى سقوطه مع القول بالفاعل المختار ، فللوسائط والأسباب مدخل في الأمور العادية ، وإن لم نقل بتأثيرها ، هذا وإن حركة الأرض عند الزلازل لا تنافي حكم الله بعدم اضطرابها لأن إثبات الحركة لجزء الشيء لا ينافي نفيها عن كله . وشبهوا الزلزلة وهي حركة قطعة من الأرض لاحتقان البخارات في داخلها وطلبها المنفذ باختلاج يحصل في جزء معين من بدن الحيوان .
قوله سبحانه : { وأنهاراً } معطوف على { رواسي } أي وجعل فيها رواسي وأنهاراً لأن الإلقاء ههنا بمعنى الجعل والخلق كقوله : { وألقيت عليك محبة مني } [ طه : 39 ] وكذا قوله { وسبلاً } أي أظهرها وبينها لأجل أن تهتدوا بها في أسفاركم . ولما ذكر أنه أظهر في الأرض سبلاً معينة ذكر أنه أظهر في تلك السبل علامات مخصوصة وهي كل ما يستدل به السابلة من جبل وسهل وغير ذلك . يحكى أن جماعة يشمون التراب فيعرفون به الطرقات . قال الأخفش : تم الكلام عند قوله : { وعلامات } وقوله { وبالنجم هم يهتدون } كلام منفصل عن الأول . والمراد بالنجم الجنس كما يقال : كثر الدرهم في أيدي الناس . وعن السدي هو الثريا والفرقدان وبنات نعش والجدي . قال بعض المفسرين : أراد بقوله { هم يهتدون } أهل البحر لتقدم ذكر البحر ومنافعه ، وقيل : أراد أعم من ذلك فأهل البر أيضاً قد يحصل لهم الاهتداء بالنجوم في الطرق والمسالك ، وفي معرفة القبلة ، وإنما جيء بالضمير الغائب لعوده إلى السائرين الدال عليهم ذكر السبل .
وقال في الكشاف : كأنه أراد قريشاً فقد كان لهم اهتداء بالنجوم في مسايرهم وكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم فكان الشكر أوجب عليهم والاعتبار ألزم لهم فخصصوا بتقديم النجم . وإقحام لفظ { هم } كأنه قيل : وبالنجم خصوصاً هؤلاء يهتدون . ثم لما عدد الآيات الدالة على الصانع ووحدانيته واتصافه بجميع صفات الكمال أراد أن يوبخ أهل الشرك والعناد فقال : { أفمن يخلق كمن لا يخلق } أي كالأصنام التي لا تخلق شيئاً إلا أنه أجراها مجرى أولي العلم فأطلق عليها لفظ « من » التي هي لأولي العقل بناء على زعمهم أنها آلهة ، أو لأجل المشاكلة بينه وبين من يخلق ، أو أراد أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم فكيف بما لا علم عنده ، أو أراد كل ما عبد من دون الله مغلباً فيه أولو العلم منهم . واعلم أنه أهل البيان يقولون : إن المشبه به يجب أن يكون أقوى وأتم في وجه الشبه من المشبه ليلتحق الأضعف بالأقوى في وجه الشبه كقولك « وجهه كالقمر » . ولا ريب أن الخالق أقوى من غير الخالق فكان حق النظم في الظاهر أن يقال : أفمن لا يخلق كمن يخلق . والقرآن ورد على العكس . ووجهه عند العلماء زيادة التوبيخ ليكون كأنهم جعلوا غير الخالق أقوى حالاً وأعرف من الخالق . قال في الكشاف : إنهم جعلوا الله من جنس المخلوقات وشبهوه بها حين جعلوا غيره مثله في التسمية والعبادة فأنكر عليهم ذلك ، ولوضوح كون هذا الأمر منكراً عند من له أدنى عقل بل حس قال { أفلا تذكرون } وفيه مزيد توبيخ وتجهيل لأنه لجلائه كالحاصل الذي يحصل عند العقل بأدنى تذكر ومع ذلك هم عنه غافلون . قال بعض الأشاعرة . في الآية دلالة على أن العبد غير خالق لأفعال نفسه لأن الآية سيقت لبيان امتيازه بصفة الخالقية . أجابت المعتزلة بأن المراد أفمن يخلق ما تقدم ذكره من السموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والبحار والجبال والنجوم . أو نقول : معنى الآية أن كل ما كان خالقاً يكون أفضل ممن لا يكون خالقاً ، وهذا القدر لا يدل على أن كل من كان خالقاً فإنه يجب أن يكون إلهاً نظيره قوله : { ألهم أرجل يمشون بها } [ الأعراف : 195 ] أراد به أن الإنسان أفضل من الصنم والأفضل لا يليق به عبادة الأخس فكذا ههنا . وقال الكعبي في تفسيره : نحن لا نطلق لفظ الخالق على العبد ومن أطلق ذلك فقد أخطأ إلا في مواضع ذكرها الله تعالى كقوله : { وإذ تخلق من الطين } [ المائدة : 110 ] فعلى هذا لا يتوجه عليهم السؤال إلا أن أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حتى إن أبا عبد الله البصري قال : إطلاق لفظ الخالق على العبد حقيقة وعلى الله مجاز لأن الخلق عبارة عن التقدير وهو الظن والحسبان .
ثم لما فرغ من تعديد الآيات التي هي بالنسبة إلى الملكلفين نعم قال : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } وقد مر تفسيره في سورة إبراهيم . قال العقلاء : إن كل جزء من أجزاء البدن الإنساني لو ظهر فيه أدنى خلل لنغص العمر على الإنسان وتمنى أن ينفق الدنيا لو كانت في ملكه حتى يزول عنه ذلك الخلل . ثم إنه سبحانه يدبر أحوال بدن الإنسان على الوجه الملائم له غالباً مع أن الإنسان لا علم له بوجود ذلك الجزء ولا بمصالحه ومفاسده ، فليكن هذا المثال حاضراً في ذهنك وقس عليه سائر نعم الله تعالى حتى تعرف تقصيرك وقصورك عن شكر أدنى نعمة فضلاً عن جميعها ، ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله لغفور رحيم } يغفر التقصير الصادر عنكم في أداء شكر النعمة ويرحمكم حيث لا يقطعها عنكم بالتفريط ولا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها . كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرون ضروباً من الكفر والمكايد في حق الرسول صلى الله عليه وسلم فأوعدهم بقوله : { والله يعلم ما تسرون وما تعلنون } وفيه أيضاً تعريض وتوبيخ بسبب أن الإله يجب أن يكون عالماً بالسر والعلانية ، والأصنام التي عبدوها جمادات لا شعور لها أصلاً فكيف يحسن عبادتها .
ثم زاد في التوبيخ فقال : { والذين يدعون } أي الآلهة الذين يدعونهم الكفار { من دون الله لا يخلقون شيئاً } وقد ذكر هذا المعنى في قوله : { كمن لا يخلق } وزاد ههنا قوله : { وهم يخلقون } أي بخلق الله أو بالنحت والتصوير وهم لا يقدرون على نحو ذلك فهم أعجز من عبدتهم ، ففي هذه الآية زيادة بيان لأنه نفى عنهم صفة الكمال وأثبت صفة النقصان . وكذلك قوله : { أموات غير أحياء } يستلزم ذمهم مرتين لأن من الأموات ما يعقب موته حياة كالنطفة والجسد الإنساني الذي فارقه الروح ، وأما الحجارة فأموات لا تقبل الحياة أصلاً . وفيه أن الإله الحق يجب أن يكون حياً لا يعقبه موت وحال هذه الأصنام بالعكس . وفيه أن هؤلاء الكفار في غاية الغباوة وقد يقرر المعنى الواحد مع الغبي الجاهل بعبارتين مختلفتين تنبيهاً على بلادته { وما يشعرون } الضمير فيه للآلهة . أما الضمير في { أيان يبعثون } فإما للآلهة أيضاً ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بالكل إلى النار ، وإما للداعين أي لا يشعر الآلهة متى يبعث عبدتهم فيكون فيه تهكم بالمشركين من حيث إن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! وفيه أنه لا بد من البعث وأنه من لوازم التكليف ، وإما للأحياء أي لا يعلم هؤلاء الآلهة متى تبعث الأحياء تهكماً بحلها لأن شعور الجماد محال فكيف بشعور ما لا يعلمه حي إلا الحي القيوم سبحانه؟ وجوز في الكشاف أن يراد بالذين يدعوهم الكفار الملائكة ، لأن ناساً منهم كانوا يعبدونهم .
ومعنى أنهم { أموات } أي لا بد لهم من الموت { غير أحياء } أي غير باقية حياتهم ولا علم لهم بوقت بعثهم . ولما زيف طريقة عبدة الأصنام صرح بما هو الحق في نفس الأمر فقال : { إلهكم إله واحد } ثم ذكر ما لأجله أصر الكفار على شركهم فقال : { فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة } للوحدانية أو لكل كلام يخالف هواهم { وهم مستكبرون } عن قبول الحق وذلك أن المؤمن بالعبث والجزاء يؤثر فيه الترغيب والترهيب فينقاد للحق أسرع ، وأما الجاحد للمعاد فلا يقبل إلا ما يوافق رأيه ويلائم طبعه فيبقى في ظلمة الإنكار { لا جرم } أي حقاً { أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون } فيجازيهم على ما أسروا من الاستكبار وأعلنوا من العناد { إنه لا يحب المستكبرين } عن التوحيد فيختص بالمشركين أو كل مستكبر فيدخل هؤلاء دخولاً أوّلياً لأن الكلام فيهم .
التأويل : الناس طبقات ثلاث : الغافلون والخطاب معهم بالعتاب إذا كانوا مشتاقين إلى الدنيا . وزخارفها وهم أصحاب النفوس ، والعاقلون والخطاب معهم بوعد الثواب لرغبتهم في الطاعات والأعمال الصالحات وهم أرباب العقول ، والعاشقون والخطاب معهم بوصل رب الأرباب لاشتياقهم إلى جمال ذي الجلال . فحين قال في الأزل { أتى أمر الله } استعجل أرواح كل طبقة منهم للخروج من العدم إلى الوجود لنيل المقصود وطلب المفقود فخاطبهم بقوله : { فلا تستعجلوه } فإنه سيصيب في كل طبقة منكم ما كتب له في القسمة الأزلية : والله سبحانه منزه عن أن يشاركه في الحكم أحد فلا مبدل لكلماته . { بالروح من أمره } أي بما يحيي القلوب من المواهب الربانية من أمره الوارد على الجوارح بالتكاليف الشرعية وعلى النفوس بآداب الطريقة ، وعلى القلوب بالإشارات ، وعلى الأرواح بملازمة الحضرة للمكاشفات ، وعلى الأسرار بالمراقبات للمشاهدات وعلى الخفيات بتجلي الصفات لإفناء الذوات . { على من يشاء من عباده } من الأنبياء والأولياء { أن أنذروا } أعلموا أوصاف وجودكم ببذلها في أنانيتي { أنه لا إله إلا أنا فاتقون } عن أنانيتكم بأنانيتي . { خلق } سموات الأرواح وأرض الأشباح وجعلها مظهراً لأفاعيله . فهو الفاعل لما يظهر على الأرواح والأشباح { تعالى عما يشركون } الأرواح والأشباح في إحالة أفاعيله إلى غيره { خلق الإنسان من نطفة } لا علم لها ولا فعل { فإذا هو خصيم مبين } يدعي الشركة معه في الوجود . والأفاعيل والأنعام أي الصفات الحيوانية { خلقها لكم فيها دفء } لأنها المودعة في جبلتكم { ومنافع ومنها تأكلون } باستفادة بدل ما يتحلل { ولكم فيها جمال } في أوقات الفترات وأزمنة الاستراحات { وتحمل } أثقال أرواحكم وهي أعباء الأمانة إلى بلد عالم الجبروت { إن ربكم لرءُوف رحيم } .
إذا أفنيتم أنفسكم في جبروته يبقيكم ببقاء عظموته { والخيل والبغال والحمير } أي صفاتها خلقت فيكم لأنها مراكب الروح عند السير إلى عالم الجبروت { وزينة } عند رجوعه بالجذبة إلى مستقره الذي أهبط منه { ويخلق } فيكم حينئذٍ { ما لا تعملون } وهو قبول فيض الله بلا واسطة . وعلى الله قصد السبيل } بجذبة { ارجعي } { ومنها جائر } يعني نفوسكم تحيد عن الفناء وبذل الوجود { هو الذي أنزل } من سماء الكرم ماء الفيض { منه شراب } المحنة لقلوبكم { ومنه شجر } القوى البشرية ودواعيها { فيه } ترعون مواشي نفوسكم { ينبت لكم } زرع الطاعات وزيتون الصدق ونخيل الأخلاق الحميدة وأعناب الواردات الربانية ، ومن كل ثمرات المعقولات والمشاهدات والمكاشفات . { وسخر لكم } ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس الروح وقمر القلب ونجوم الحواس والقوى ، وتسخيرها استعمالها على وفق الشريعة وقانون الطريقة { وما ذرأ لكم } في أرض جبلتكم من الاستعدادات يتلون في كل عالم بلونه من عوالم الملكية والشيطانية والحيوانية { وسخر لكم } بحر العلوم { لتأكلوا منه } الفوائد الغيبية السنية الطرية { وتستخرجوا منه } جواهر المعاني فيلبس بها أرواحكم النور والبهاء . وترى فلك الشرائع والمذاهب جواري في بحر العلوم لتبتغوا الأسرار الخفية عن الملائكة . وألقى في أرض البشرية جبال الوقار والسكينة لئلا تميد بكم صفات البشرية عن جادّة الشريعة والطريقة ، وأنهاراً من ماء الحكمة وسبلاً إلى الهداية والعناية ، وعلامات من الشواهد والكشوف ، وبنجم الجذبة الإلهية هم يهتدون فيخرجون من ظلمات الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي . أفمن يخلق الله فيه هذه الكمالات كمن لا يخلقها فيه من الملائكة وغيرهم { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } [ إبراهيم : 34 ] وهي قسمان : نعمة الأعطاف وهي ما يتعلق بوجود النعمة ظاهرة وباطنة ، ونعمة الألطاف وهي ما يتعلق بوجود المنعم من الذوات والصفات { والله يعلم ما تسرون } من أداء شكر نعمه بالقلوب { وما تعلنون } من أداء الشكر بالأجساد { والذين يدعون من دون الله } من الهوى والدنيا { لا يخلقون شيئاً } من المنافع { وهم يخلقون } بتعب الطالب في تحصيلها ولهذا قال : { أموات غير أحياء وما يشعرون أيان } يبعثها دواعي البشرية { فالذين لا يؤمنون بالآخرة } بما في عالم الغيب { قلوبهم منكرة } لأهل الحق لأنهم لا يتجاوزون عالم الحس { يعلم ما يسرون } من الإنكار { وما يعلنون } من الاستكبار . . الله حسبي .
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
القراآت : { شركاي } مثل { هداي } زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي . وقرأ الخزاز عن هبيرة { شركائي الذين } مرسلة الياء ، الباقون بفتح الياء وكذلك في « الكهف » و « القصص » . { تشاقون } بكسر النون : نافع ، الآخرون بفتحها { تتوفاهم } وما بعده بالإمالة : حمزة وخلف { لا يهدي } بفتح الياء وكسر الدال : عاصم وحمزة وعلي وخلف ، الباقون بضم الياء وفتح الدال . { كن فيكون } بالنصب : ابن عامر وعلي ، الباقون بالرفع .
الوقوف : { ربكم } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { الأولين } 5 لا لتعلق اللام { يوم القيامة } لا لأن قوله { ومن أوزار } مفعول { ليحملوا } ط { بغير علم } ط { ما يزرون } 5 { لا يشعرون } 5 { فيهم } ط { الكافرين } 5 لا بناء على أن ما بعده صفة { أنفسهم } ص لطول الكلام { من سوء } ط { تعملون } 5 { خالدين فيها } ط { المتكبرين } 5 { أنزل ربكم } ط { خيراً } ط { حسنة } ط { خير } ط { المتقين } 5 لا لأن ما بعده بدل { يشاءُون } ط { المتقين } 5 { طيبين } 5 لا لأن ما بعده حال آخر . { سلام عليكم } لا لأن قوله : { ادخلوا } مفعول { يقولون } { تعملون } 5 { أمر ربك } ط { من قبلهم } ط { يظلمون } 5 { يستهزءُون } 5 { من شيء } الثاني ط { من قبلهم } ج للاستفهام مع الفاء { المبين } 5 { الطاغوت } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { الضلالة } ط { المكذبين } 5 { ناصرين } 5 { أيمانهم } لا لأن ما بعده جواب القسم { يموت } ط { لا يعلمون } 5 لا لتعلق لام كي { كاذبين } 5 { فيكون } 5 { حسنة } ط { أكبر } م لأن جواب « لو » محذوف أي لو كانوا يعلمون لما اختاروا الدنيا على الآخرة ، ولو وصل لصار قوله : { ولأجر الآخرة } متعلقاً بشرط « أن » { لو كانوا يعلمون } وهو محال { يعلمون } 5 لا بناء على أن { الذين صبروا } بدل { الذين هاجروا } { يتوكلون } 5 .
التفسير : لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد أراد أن يذكر شبهات منكري النبوة مع أجوبتها . فالشبهة الأولى أنهم طعنوا في القرآن وعدّوه من قبيل الأساطير . قال النحويون : « ماذا » منصوب بأنزل بمعنى أي شيء أنزله ربكم ، أو « ما » مبتدأ و « ذا » موصولة ، والجملة صلتها ، والمجموع خبر المبتدأ ، وعلى التقديرين : فقوله : { أساطير الأوّلين } بالرفع ليس بجواب للكفار وإلا لكان المعنى الذي أنزله ربنا أساطير الأوّلين والكفار لا يقرون بالإنزال فهو إذن كلام مستأنف أي ليس ما تدّعون إنزاله منزلاً بل هو أساطير الأولين . وقال في الكشاف : معناه المنزل أساطير الأوّلين وذكر في دفع التناقض أنه على السخرية كقوله : { إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون } [ الشعراء : 27 ] وجوز كونه منصوباً ولم يقرأ به . واختلفوا في السائل فقيل : هو كلام بعضهم لبعض .
وقيل : هو قول المسلمين لهم وقيل : هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : أحاديث الأوّلين وأباطيلهم ، ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والحقائق والدقائق . ثم إنه تعال اقتصر في جواب شبههم على محض الوعي لأنه قد ثبت بالتحدي كما مر ذكره مراراً أن القرآن معجز تحدوا بالقرآن جملة ثم بعشر سور ثم بسورة فعجزوا عن المعارضة فكان طعنهم فيه بعد ذلك مجرد المكابرة والعناد فلم يستحقوا في الجواب إلا التهديد والوعيد . واللام في قوله : { ليحملوا } ليس لام الغرض لأنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير لغرض حمل الأوزار ، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن التعليل به فكان لام العاقبة ، وقوله : { كاملة } معناه أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً ، وفيه دليل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين لأن هذا المعنى لو كان حاصلاً في حق الكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل فائدة . قال الواحدي : لفظة « من » في قوله : { ومن أوزار الذين } ليست للتبعيض فإنه لا يخفف عن الأتباع بعض أوزارهم لقوله صلى الله عليه وسلم « أيما داع دعا إلى الضلال فاتبع كان عليه وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء » ولكنها للابتداء أي لحملوا ما قد نشأ من أوزار الاتباع ، أو للبيان أي ليحملوا ما هو من جنس أوزار تبعهم . ومعنى { بغير علم } أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يتسحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال . وقال في الكشاف : { بغير علم } حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال . وإنما وصف بالضلال واحتمال الوزر من أضلوه وإن لم يعلم لأنه كان عليه أن يبحث وينظر بعقله حتى يميز بين المحق والمبطل . ثم أوعدهم بما هو النهاية في التهديد فقال : { ألا ساء ما يزرون } وزرهم . ثم حكى حال أضرابهم من المتقدين فقال : { قد مكر الذين من قبلهم } ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد به نمروذ بن كنعان بنى صرحاً عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع - وقيل فرسخان - ورام الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها فأهب الله الريح فخر عليه وعلى قومه فهلكوا ، وألقت رأس الصرح في البحر فأحدث نمروذ وتبلبلت يومئذٍ ألسن الناس من الفزع فتكلموا بثلاثة وتسعين لساناً ولذلك سميت ببابل ، وكان لسان الناس قبل ذلك بالسريانية ، وابتلاه الله ببعوضة دخلت دماغه والحكاية مشهورة . والأصح أن الآية عامة في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحق الضرر بالمحقين . وعلى القول الأوّل معنى قوله : { فأتى الله } أي أمره وحكمه { بنيانهم من القواعد } وهي أساطين البناء التي تعمده أو الأساس أنه أسقط السقف عليهم بعد هدم القواعد .
وفائدة زيادة قوله : { من فوقهم } التنصيص على أن الأبنية تهدمت وهم ماتوا تحتها ، وعلى الثاني يكون الكلام محض التمثيل والمراد أنهم سوّوا منصوبات وحيلاً ليمكروا بها رسل الله ، فجعل الله هلاكهم في تلك الحيل كحيل قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين ، فأتي البنيان من الأساطين بأن ضعفت فسقط عليهم السقف فهلكوا ونحوه « من حفر بئراً لأخيه فقد وقع فيه » وبعبارة أخرى « من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً » .
ثم بين أن عذابهم ير مقصور على عذاب الدنيا بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة بإدخالهم النار { إنك من تدخل النار فقد أخزيته } [ آل عمران : 192 ] { ويقول } مع ذلك لأجل الإهانة والتوبيخ { أين شركائي } الإضافة لأدنى الملابسة أو هي حكاية لإضافتهم استهزاء وتوبيخاً { الذين كنتم تشاقون } تخاصمون المؤمنين في شأنهم . ومن قرأ بكسر النون فعلى حذف يا المتكلم لأن مشاقة المؤمنين مشاقة الله . ثم ذكر على سبيل الاستئناف { قال الذين أوتوا العلم } عن ابن عباس هم الملائكة . وقال الآخرون : هم الأنبياء والعلماء من أممهم الذين كانوا يعظونهم ولا يلتفتون إليهم فيقولون ذلك يوم القيامة شماتة بهم . قالت المرجئة قولهم : { إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين } يدل على أن ماهية الخزي والسوء مختص بالكافرين فينتفي عن غيرهم . أما قوله : { فألقوا السلم } فعن ابن عباس : المراد أنهم أسلموا وأقروا بالعبودية عند الموت . وقيل : إنه في يوم القيامة وقولهم : { ما كنا نعمل من سوء } أرادوا الشرك قالوه على وجه الكذب والجحود ، ومن لم يجوز الكذب على أهل القيامة قال : أرادوا في اعتقادهم وظنونهم فرد عليهم أولو العلم أو الملائكة بقوله : { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب وإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم . قال في الكشاف : وهذا أيضاً من الشماتة وكذلك { فادخلوا أبواب جهنم } وفي ذكر الأبواب إشارة إلى تفاوت منازلهم في دركات جهنم . ثم قال : { فلبئس مثوى المتكبرين } عن قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء . والفاء للعطف على فاء التعقيب في { فادخلوا } واللام للتأكيد يجري مجرى القسم موافقة لقوله بعد ذلك { ولنعم دار المتقين } ولا نظير لهما في كل القرآن . ثم أتبع أوصاف الأشقياء أحوال السعداء فقال : { وقيل للذين اتقوا } الآية . وإنما ذكر الجواب ههنا بالنصب ليكون الجواب مطابقاً مكشوفاً بيناً من غير تلعثم أي أنزل خيراً أو { قالوا خيراً } لا شراً كما قاله الكفار ، أو قالوا قولاً خيراً ولو رفعوا لأوهم أنه كلام مستأنف كما في جواب الكفار وليس بمنزل . روي أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف كما مر ، فكان الوافد يقول : كيف أرجع إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه .
فيلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرونه بصدقه وأنه نبي مبعوث فهم الذين قالوا خيراً . وجوّز في الكشاف أن يكون { للذين أحسنوا } وما بعده بدلاً من { خيراً } كأنه فسر الخبر بهذا القول ، وجوّز أن يكون كلاماً مبتدأ على سبيل الوعد فيكون قولهم الخير من جملة إحسانهم . أما قوله { في هذه الدنيا } فإما أن يتعلق بما قبله فالمعنى : الذين جاءُوا بالإحسان في هذه الدنيا لهم في الآخرة { حسنة } هي الثواب العظيم أو المضاعف إلى سبعمائة أو أكثر ، وإما أن يتعلق بما بعده والتقدير : الذين أحسنوا لهم الحسنة في الدنيا باستحقاق المدح والثناء ، أبو بالظفر على أعداء الدين باللسان والسنان وفتح البلاد ، أو بفتح أبواب المكاشفات والمشاهدات . والحاصل أن لهم في الدنيا مكافأة بإحسانهم . { ولدار الآخرة خير } منها . ثم بين الخيرية بقوله : { ولنعم دار المتقين } دار الآخرة فحذف المخصوص بالمدح لتقدم ذكره .
ثم قال : { جنات عدنٍ } أي هي هذه فيكون المبتدأ محذوفاً أو الجنات مبتدأ وما بعدها خبر أو { جنات عدن } هي المخصوص بالمدح . فالجنات يدل على القصور والبساتين ، والعدن على الدوام والإقامة . وقوله : { تجري من تحتها الأنهار } على أنه حصل هناك أبنية مرتفعة هم عليها والأنهار تجري من تحتهم . وقوله : { لهم فيها ما يشاءُون } أبلغ من قوله في موضع آخر { فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } [ الزخرف : 71 ] وفي تقديم الظرف دلالة على أن الإنسان لا يجد كل ما يريده إلا في الجنة ، وقوله : { الذين تتوفاهم الملائكة } أكثر المفسرين على أن هذا التوفي هو قبض الأرواح . وقوله : { طيبين } أي طاهرين عن دنس الكفر والمعاصي أو دنس الكفر وحده ، وهذه كلمة جامعة تشمل أنواع البراءة عن العلائق الجسمانية فلا يكون لصاحب هذه الحالة تألم بالموت دليله قوله : { يقول سلام عليكم } يروى أنه إذا أشرف العبد المؤمن على الموت جاءه ملك فيقول : السلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة فذلك قوله : { ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون } وعن الحسن أن المراد بهذا التوفي هو وفاة الحشر لأنه لا يقال عند قبض الروح في الدنيا ادخلوا الجنة . والأولون قالوا : البشارة بالجنة بمنزلة الدخول فيها .
قوله سبحانه : { هل ينظرون } قيل : إنه جواب شبهة أخرى لمنكري النبوة فإنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم ملكاً من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوة فقال تعالى : هل ينظرون في تصديق نبوتك { إلا أن تأتيهم الملائكة } شاهدين بذلك . ويحتمل أن يقال : إنهم لما طعنوا في القرآن بأنه أساطير الأولين أوعدهم الله تعالى بما أوعد ، ثم وصف القرآن بكونه حقاً وصدقاً وذكر جزاء المتقين ثم ذكر أن أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم بسبب البيانات التي ذكرناها إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد أو لقبض الأرواح أو أتاهم أمر ربك وهو العذاب المستأصل أو القيامة { كذلك فعل الذين من قبلهم } فأصابهم الهلاك المعجل { وما ظلمهم الله } بتدميرهم فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم { فأصابهم سيئات ما عملوا } أي جزاء سيئات أعمالهم أو هو من باب الطباق والمشاكلة كقوله
{ وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] { وحاق بهم } . أي نزل بهم على وجه الإحاطة عقاب استهزائهم . الشبهة الثالثة لمنكري النبوة أنهم تشبثوا بمسألة الجبر فقالوا : { لو شاء الله ما عبدنا } الآية . وقد مر في تفسير مثلها في آخر سورة الأنعام ، وذكرنا أسرار المتشابه هناك وكذا استدلال المعتزلة بها وجواب الأشاعرة عنها . وزاد بعض الأشاعرة فقالوا : إن المشركين ذكروا هذا الكلام على وجه الاستهزاء كما قال قوم شعيب { إنك لأنت الحليم الرشيد } [ هود : 87 ] ولو قالوا ذلك معتقدين كانوا مؤمنين . وقال آخرون : إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم وهي أنه لما كان الكل من الله كان بعثه الأنبياء عبثاً بقوله : { كذلك فعل الذين من قبلهم } يعني أنهم اعترضوا على أحكام الله وطلبوا لها العلة فعل من تقدمهم من الكفرة { فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } أي ما عليهم إلا التبليغ فإما تحصيل الإيمان فليس إليهم . ثم إنه أكد هذا المعنى بقوله : { ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً } إلى قوله : { ومنهم من حقت عليه الضلالة } وفيه دلالة على أن أمر الله قد لا يوافق إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان ولا يريد الهداية إلا للبعض إذّ لو أرادها للكل لم يكفر أحد ولم ينزل العذاب على قوم لكنه كفر ونزل لقوله : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ النحل : 36 ] . ثم خصص الخطاب قائلاً لرسوله { إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل } لا يرشد أحداً أضله ، قال ابن عباس : وقال الفراء : لا يهدي معناه لا يهتدي : ومن قرأ على البناء للمفعول فمعناه لا تقدر أنت ولا أحد على هداية من أضله الله فلن يكون مهدياً منصوراً ، ولا يخفى أن أول الآية ظاهره يوافق مذهب المعتزلة . أما قوله : { كذلك فعل الذين من قبلهم } إلى آخر الآيات فإنهم قد صاروا فيه إلى التأويل فقالوا : معناه أن متقدميهم أشركوا وحرموا حلال الله فلما نبهوا على قبح فعلهم أسندوه إلى الله { فهل على الرسل إلا } أن يبلغوا الحق وأن الله بريء من الظلم وخلق القبائح والمنكرات ، وما من أمة إلا وقد بعث الله فيهم رسولاً يأمرهم بالخير الذي هو عبادة الله وينهاهم عن الشر الذي هو طاعة الطاغوت . { فمنهم من هدى الله } لأنه من أهل اللطف ، ومنهم من ثبت عليه الخذلان لأنه عرفه مصمماً على الكفر ، أو المراد منهم من حكم الله عليه بالاهتداء ومنهم من صار محكوماً عليه بالضلال لظهور ضلاله ، أو منهم من هداه الله إلى الجنة ومنهم من أضله عنها .
{ فسيروا في الأرض فانظروا } ما فعلت بالمكذبين حتى لا يبقى لكم شبهة في أني لا أقدر الشر ولا أشاؤه . ثم ذكر عناد قريش وحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إيمانهم وعرفه أنهم من قسم من حقت عليه الضلالة ، وأنه لا يلطف بمن يخذل لأنه عبث والله تعالى متعال عن العبث . فهذا تفسير الفريقين لاشتمال آيات مسألة الجبر والقدر على الجهتين وعليك الاختيار بعقلك دون هواك . الشبهة الرابعة قدحهم في الحشر والنشر ليلزم إبطال النبوة وذلك أنهم { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } أي أغلاظ الأيمان كما في « المائدة » كأنهم ادّعوا علماً ضرورياً بأن الشيء إذا فني وصار عدماً محضاً فإنه لا يعود بعينه بل العائد يكون شيئاً آخر فأكدوا ادعاءهم بالقسم الغليظ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله : { بلى } وهو إثبات لما بعد النفي أي بلى يبعثهم وقوله : { وعداً } مصدر مؤكد لما دل عليه « بلى » لأن يبعث موعد من الله أي وعد البعث { وعدا عليه حقاً } لا خلاف فيه { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنهم يبعثون أو أن وعد الله حق . ثم ذكر لمية حقية البعث فقال { ليبين } أي يبعث كل من يموت من المؤمنين والكافرين ليبين { لهم } الحق الذي اختلفوا فيه بياناً عيانياً لا يشتبه فيه المطيع بالمعاصي والمحق بالمبطل والمظلوم بالظالم والصادق بالكاذب . وجوز بعضهم أن يكون قوله : { ليبين } متعلقاً بقوله : { ولقد بعثنا } أي بعثناه ليبين لهم ما اختلفوا به وأنهم كانوا على الضلالة قبله مفترين على الله الكذب في ادعاء الشريك له وفي قولهم بمجرد هواهم هذا حلال الله وهذا حرام .
ثم برهن على إمكان البعث بقوله : { إنما قولنا } وهو مبتدأ خبره { أن نقول } وقد فسرنا مثل هذه الآية في سورة البقرة ، وذكرنا فيه مباحث عميقة لفظية ومعنوية فلا حاجة إلى الإعادة . والغرض أنه سبحانه لا مانع له من الإيجاد والإعدام ولا تتوقف آثار قدرته إلا على مجرد الإرادة والمشيئة ، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو أهون من الإبداء؟! قال في الكشاف : قرىء { فيكون } بالنصب عطفاً على { نقول } قلت : ولا مانع من كونه منصوباً بإضمار « أن » لوقوعه في جواب الأمر بعد الفاء وقد مر في « البقرة » . احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم القرآن قال : إنه لو كان حادثاً لافتقر إلى أن يقال له « كن » . ثم الكلام في هذا اللفظ كالكلام في الأوّل وتسلسل ، والجواب بعد تسليم أن هذا ليس مثلاً وأن ثم قولاً أن « إذا » لا تفيد التكرار فلا يلزم في كل ما يحدثه الله تعالى إلى أن يقول له « كن » .
وكيف يتصور أن تكون لفظة « كن » قديمة والكاف مقدم على النون بزمان محصور ، ولو سلم فلا يجوز من قدم لفظة « كن » قدم القرآن . على أن قوله : { إنما قولنا لشيء إذا أردناه } يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة وما كان كذلك فهو محدث وأنه علق القول بكلمة « إذا » ولا شك أنها للاستقبال وكذا قوله : { أن نقول } ثم إن كلمة { كن } متقدمة على المكون بزمان واحد ، والمتقدم على المحدث بزمان يكون محدثاً ، فتلخص من هذه الدلائل أن الكلام المسموع لا بد أن يكون محدثاً . هذا تلخيص ما قاله الإمام فخر الدين الرازي ، ولعل لنا فيه نظراً . ولما حكى الله سبحانه عن الكفار ما حكى من إنكار البعث والجزاء لم يبعد منهم - والحالة هذه - إيذاء المسلمين وإنزال الضرر والهوان بهم وحينئذٍ يلزمهم أن يهاجروا تلك الديار فذكر ثواب المهاجرين قائلاً { والذين هاجروا في الله } أي في حقه وسبيله { من بعد ما ظلموا لنبوّئنهم في الدنيا } مثوبة { حسنة } أو مباءة حسنة هي المدينة أوهم أهلها ونصروهم قاله الحسن والشعبي وقتادة . وقيل : لننزلنهم منزلة حسنة هي الغلبة على أهل مكة الذين ظلموهم ، بل على العرب قاطبة بل على أهل المشرق والمغرب . قال ابن عباس : نزلت الآية في جماعة - منهم صهيب وبلال وعمار وخباب- جعل المشركون يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فقال صهيب : أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر ، فلما رآه أبو بكر قال له : ربح البيع يا صهيب ، وقال له عمر : نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه . أما الضمير في قوله : { لو كانوا يعلمون } فإما أن يرجع إلى الكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المستضعفين خير الدارين لرغبوا في دينهم ، وإما أن يعود إلى المهاجرين أي لو علموا أن أجر الآخرة أكبر لزادوا في اجتهادهم وصبرهم . ثم مدحهم بقوله : { الذين صبروا } على هم الذين أو أعني الذين . والمراد صبرهم على العذاب وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله ، وعلى المجاهدة في سبيل الله بالنفوس والأموال . قال المحققون : الصبر حبس النفس على خلاف ما تشتهيه من اللذات العاجلة وهو مبدأ السلوك ، والتوكل هو الانقطاع بالكلية عما سوى الحق وهو آخر الطريق والله ولي التوفيق . فإن العارفين بالصبر ساروا وبالتوكل طاروا ثم في الله حاروا حسبي الله ونعم الوكيل .
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
القراآت : { نوحي } بالنون : حفص غير الخزاز . الباقون بالياء مجهولاً { أو لم تروا } بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف { تتفيؤ } بتاء التأنيث : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، الآخرون على الغيبة .
الوقوف : { لا تعلمون } 5 لا لتعلق الباء { والزبر } ط { يتفكرون } 5 { لا يشعرون } 5 لا للعطف { بمعجزين } 5 لا كذلك { على تخوّف } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { رحيم } 5 { داخرون } 5 { لا يستكبرون } 5 { ما يؤمرون } 5 { اثنين } ج للابتداء بانما مع اتحاد القائل { واحد } ج للعدول مع الفاء { فارهبون } 5 { واصباً } ط { تتقون } 5 { تجأرون } 5 ج لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع شدة اتصال المعنى { يشركون } 5 لا لتعلق لام كي { آتيناهم } ط للعدول والفاء للاستئناف { تعلمون } 5 { رزقناهم } ط { تفترون } 5 { سبحانه } لا لأن ما بعده من جملة مفعول { يجعلون } و { سبحانه } معترض للتنزيه { يشتهون } 5 { كظيم } 5 ج لاحتمال أن ما بعد وصف { لكظيم } أو استنئاف . { ما بشر به } ط لأن التقدير يتفكر في نفسه المسألة { في التراب } ط { ما يحكمون } 5 { السوء } ج لتضاد الجملتين معنى مع العطف لفظاً { الأعلى } ط { الحكيم } 5 .
التفسير : الشبهة الخامسة أن قريشاً كانوا يقولون الله أعلى وأجل من أن يكون رسوله بشراً فأجاب سبحانه بقوله : { وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً } والمراد أن هذه عادة مستمرة من أوّل زمان الخلق والتكليف . وزعم أبو علي الجبائي أنه لم يبعث إلى الأنبياء إلا من هو بصورة الرجال من الملائكة . قال القاضي : ولعله أراد الملك الذي يرسل إلى الأنبياء بحضرة أممهم كما روي أن جبرائيل عليه السلام كان يأتي في صورة دحية وفي صورة سراقة ، وإنما قيدنا بحضرة الأمم لأن الملائكة قد يبعثون على صورتهم الأصلية عند إبلاغ الرسالة من الله إلى نبيه كما روي أنه صلى الله عليه وسلم رآى جبرائيل على صورته التي هو عليها مرتين . وعليه تأوّلوا قوله : { ولقد رآه نزلة أخرى } [ النجم : 13 ] ثم إنهم كانوا مقرين بأن اليهود والنصارى أصحاب العلوم والكتب فأمرهم الله - أعني قريشاً - بأن يرجعوا إليهم في هذه المسألة ليبينوا لهم ضعف هذه الشبهة وسقوطها وذلك قوله : { فاسئلوا أهل الذكر } قال بعض الأصولين : فيه دليل على أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر فيما يشتبه عليه . واحتج نفاة القياس بالآية قالوا : لو كان حجة لما وجب على المكلف السؤال بل كان عليه أن يستنبط ذلك الحكم بواسطة القياس . وأجيب بأنه قد ثبت العمل بالقياس لإجماع الصحابة ، والإجماع أقوى من ظاهر النص . أما قوله : { بالبينات } ففي متعلقه وجوه منها : أن يتعلق ب { أرسلنا } داخلاً تحت حكم الاستثناء مع { رجالاً } وأنكر الفراء ذلك قال : إن صلة ما قبل « إلا » لا تتأخر على ما بعد « إلا » لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل إلا مع صلته كما لو قيل : ما أرسلنا بالبينات إلا رجالاً .
ولما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه امتنع إدخال الاستثناء عليه . ومنها أن يتعلق ب { رجالاً } صفة له أي رجالاً متلبسين بالبينات . ومنها أن يتعلق ب { أرسلنا } مضمراً نظيره « ما مر إلا أخوك » ، ثم تقول « مرَّ بزيد » قاله الفراء . ومنها أن يتعلق ب { بيوحى } أي يوحى إليهم بالبينات . ومنها أن يتعلق بالذكر بناء على أنه بمعنى العلم . ومنها أن يتعلق ب { لا تعلمون } أي إن كنتم لا تعلمون بالبينات وبالزبر فاسألوا . وقال في الكشاف : الشرط ههنا في معنى التبكيت والإلزام كقول الأجير : إن كنت عملت لك فأعطني حقي . قلت : أراد أن عدم علمهم مقرر كما أن عمل الأجير ثابت . وسلم جار الله أن مثل قوله : { فاسألوا } جواب الشرط على هذا الوجه . وأما على الوجوه المتقدمة فجزم أنه اعتراض بناء على أن جواب الشرط هو ما دل عليه قوله { وما أرسلنا } الخ . وعندي أن هذا الجزم ليس بحتم ويجوز على كل الوجوه أن يكون مثل { فاسألوا } جواباً والله أعلم . وأهل الذكر أهل التوراة . كقوله : { ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر } [ الأنبياء : 105 ] يعني التوراة . وقال الزجاج : سلوا كل من يذكر بعلم وتحقيق . وقوله : { بالبينات والزبر } لفظ جامع لكل ما تتكامل به الرسالة لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق من يدعي الرسالة وهي البينات ، وعلى التكاليف التي تعتبر في باب العبادة وهي للزبر . ثم قال : { وأنزلنا إليك الذكر } أي القرآن الذي هو موعظة وتنبيه وتذكير لأهل الغفلة والنسيان ، وبيّن الغاية المترتبة على الإنزال وهي تبيين الأحكام والشرائع بالنسبة إلى الرسول وإرادة التأمل والتفكر في المبدإ والمعاد بالإضافة إلى المكلفين . وفي ظاهر هذا النص دلالة على أن القرآن كله مجمل ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أنه متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر لأن القرآن مجمل والخبر مبين له . وأجيب بمنع الكلية فمن القرآن ما هو محكم ، وقوله : { لتبين } محمول على المتشابهات المجملات . قال بعض من نفى القياس : لو كان القياس حجة لما وجب على الرسول أن يبين للمكلفين ما أنزل الله عليه من الأحكام بل كان له أن يفوض بعضها إلى رأي القائس ، وأجيب بأنه لما بيّن أن القياس من جملة الحجج فالقياس أيضاً راجع إلى بيان الرسول .
ثم لما ذكر شبهات المنكرين مع أجوبتها شرع في التهديد والوعيد والإنذار والتنبيه فقال { أفأمن الذين مكروا السيئات } أي المكرات السيئات أراد أهل مكة ومن حول المدينة . قال الكلبي : عنى بهذا المكر اشتغالهم بعبادة غير الله ، والأقرب أن المراد سعيهم في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وإيذاء أصحابه على سبيل الخفية { أن يخسف الله بهم الأرض } كما خسف بقارون { أو يأتيهم العذاب } أو ملائكة العذاب من السماء { من حيث لا يشعرون } كما فعل بقوم لوط { أو يأخذهم في تقلبهم فيما هم بمعجزين } فائتين الله ، وذكر المفسرون في هذا التقلب وجوهاً منها : أنه تعالى يأخذهم في أسفارهم ومتاجرهم فإنه قادر على أن يهلكهم في السفر كما أنه قادر على أن يهلكهم في الحضر وهم لا يفوتون الله بسبب ضربهم في البلاد البعيدة .
ومنها أنه يأخذهم بالليل والنهار في أحوال إقبالهم وإدبارهم وذهابهم ومجيئهم ، وحقيقته في حال تصرفهم في الأمور التي يتصرف فيها أمثالهم . ومنها أنه أراد في حال ما يتقلبون في قضاء أوطارهم بوجوه الحيل فيحول الله بينهم وبين مقاصدهم وحيلهم . والتقلب بالمعنى الأوّل مأخوذ من قوله : { لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد } [ آل عمران : 196 ] وبالمعنى الثالث من قرأ { وقلبوا لك الأمور } { التوبة : 48 ] . { أو يأخذهم على تخوف } على حالة تخوفهم وتوقعهم للبلاء بأن يكون قد أهلك قوماً قبلهم فكان أثر الخوف باقياً فيهم ظاهراً عليهم فهو خلاف قوله : { من حيث لا يشعرون } وقيل : التخوف التنقص والمعنى أنه يأخذهم بطريق النقص شيئاً بعد شيء في ديارهم وأموالهم وأنفسهم حتى يأتي الفناء على الكل . عن عمر أنه قال على المنبر : ما تقولون فيها؟ فسكتوا : فقام شيخ من هذيل فقال : هذه لغتنا التخوف التنقص فقال : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال : نعم قال شاعرنا زهير :
تخوّف الرحل منها تامكاً قرداً ... كما تخوف عود النبعة السفن
قوله تامكا قرداً أي سناماً مرتفعاً متراكماً ، والسفن ما ينحت به الشيء ومنه السفينة لأنها تسفن وجه الماء بالمر في البحر . فقال عمر : أيها الناس عليكم بديوانكم . قالوا : وما ديواننا؟ قال : شعر الجاهلية فإن فيه تفسير كتابكم . ثم ختم الآية بقوله : { فإن ربكم لرءُوف رحيم } فذهب المفسرون إلى أن معناه أنه يمهل في أكثر الأمر لأنه رءُوف رحيم فلا يعجل بالعذاب . وأقول : يحتمل أن يكون قوله « فإن » تعليلاً لقوله { أفأمن } كقوله : { ما غرك بربك الكريم } [ الانفطار : 6 ] .
ولما خوف الماكرين بما خوف أتبعه ذكر ما يدل على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي والسفلي وسكانهما فقال { أو لم يروا إلى ما خلق الله } قال جار الله : « ما » مبهمة بيانه { من شيء } وقال أهل المعاني : قوله : { يتفيؤ ظلاله } إخبار عن شيء وليس بوصف له . ويتفيأ « يتفعل » من الفيء وأصله الرجوع ومنه فيئة المولى . وقال الأزهري : تفيؤ الظلال رجوعها بعد انتصاف النهار . فالتفيؤ لا يكون إلا بالعشيّ ، وما انصرف عنه الشمس والقمر والذي يكون بالغداة ظل .
وقال ثعلب : أخبرت عن أبي عبيدة أن رؤبة قال : كل ما كانت عليه الشمس فزالت عنه فهو فيء وظل ، وما لم يكن عليه الشمس فهو ظل . وقوله : { ظلاله } أضاف الظلال إلى مفرد ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال ووجه حسنه كون المرجوع إليه واحداً في اللفظ وإن كان كثيراً في المعنى وهو قوله : { إلى ما خلق } نظيره { لتستووا على ظهوره } [ الزخرف : 13 ] أضاف الظهور - وهو جمع - إلى ضمير مفرد لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة وهو ما تركبون . قال الجوهري : تفيأت الظلال أي تقلبت . وقوله { عن اليمين والشمائل } قال أهل التفسير ومنهم الفراء : إنه وحد اليمين لأنه أراد واحداً من ذوات الأظلال ، وجمع الشمائل لأنه أراد كلها لأن قوله { ما خلق الله } لفظ مفرد ومعناه جمع ، وقيل : إن العرب إذا ذكرت صيغتي جمع عبرت عن إحداهما بلفظ الواحد كقوله { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] { وختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [ الأنعام : 46 ] وقيل : المراد باليمين النقطة التي هي مشرق الشمس وإنها واحدة ، والشمائل عبارة عن الانحراف الواقع في تلك الأظلال بعد وقوعها على الأرض وهي كثيرة . وإنما عبر عن المشرق باليمين لأن أقوى جانبي الإنسان يمينه ومنه تظهر الحركة القوية ، وكذا جانب الشرق أقوى جوانب الفلك ومنه تظهر الحركة اليومية التي هي أسرع الحركات وأقواها . ويمكن أن يقال : إن الإنسان إذا توجه إلى الشرق الذي هو أولى الجوانب بالاعتبار لشرفه كان الجنوب يمينه والشمال شماله ، ولا ريب أن وصول الشمس إلى فلك نصف النهار يختلف بحسب البلاد . وقد يتفق انتقالها من الجنوب إلى الشمال وبالعكس في بلد واحد إذا كان عرضه ناقصاً عن الميل الكلي . ومن المعلوم أن الشمس حين وصولها إلى نصف النهار إن كانت في جنوب سمت الرأس وقع ظلها إلى جانب الشمال ، وإن كانت في شماله وقع ظلها إلى الجنوب ، فيحتمل أن يراد بتفيؤ الأظلال تقلبها في هاتين الجهتين والله أعلم . أما قوله { سجداً لله } فإنه حال من الظلال ، ومعنى سجودها انقيادها لأمر الله منتقلة من جانب إلى جانب حسب تحرك النير على نسب مخصوصة ومقادير معلومة ذكرنا بعضها في كتبنا النجومية . وقد نبى المتأخرون على الأظلال مسائل كثيرة منها : الشكل الموسوم بالظلي مع فروعه ، وذكر بعضهم في تفسير هذا السجود أن هذه الأظلال واقعة على الأرض ملصقة بها على هيئة الساجد . وقوله { وهم داخرون } حال أخرى من الظلال . وإنما جمع بالواو والنون لأنهم أشبهوا العقلاء من حيث طاعتها لله سبحانه . وقال جار الله : اليمين والشمائل استعارة عن يمين الإنسان وشماله بجانبي الشيء أي ترجع الظلال من جانب إلى جانب منقادة لله غير ممتنعة عليه فيما سخرها له من التفيؤ . والأجرام في أنفسها داخرة أيضاً صاغرة منقادة لأفعال الله فيها لا تمتنع { ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة } قال الأخفش : أي من الدواب : وأخبر بالواحد كما تقول : ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله .
وقال ابن عباس : يريد كل ما دب على الأرض ، والوجه في تخصيص الدابة والملائكة بالذكر أنه علم من آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة له ، فبين في هذه الآية أن الحيوانات بأسرها أيضاً كذلك . ثم عطف عليها الملائكة إما لشرفها وإما لأنها ليست مما يدب ولكنها تطير بالجناحين ، وبين النوعين مغايرة لقوله : { وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] وعلى قاعدة الحكماء : وجه المغايرة أنها أرواح مجردة ليست من شأنها الحركة والدب . قال جار الله : ومن دابة يجوز أن يكون بياناً لما في السموات وما في الأرض جميعاً ، على أن في السموات خلقاً لله يدبون فيها كما يدب الأناسيّ في الأرض ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الخلق الذي يقال له الروح ، وأن يكون بياناً لما في الأرض وحده ويراد بما في السموات الملائكة . وكرر ذكرهم على معنى والملائكة خصوصاً من بين الساجدين لأنهم أطوع الخلق وأعدلهم ، ويجوز أن يراد بما في السموات ملائكتهن ، وبقوله : { والملائكة } ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم انتهى كلامه . ثم شرع سبحانه في صفة الملائكة وذكر عصمتهم قال : { وهم لا يستكبرون يخافون } على أنه حال منهم أو بيان لنفي استكبارهم لأن الخوف أثره عدم الاستكبار . وقوله { من فوقهم } إما أن يتعلق ب [ يخافون } والمعنى يخافون ربهم أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم ، وإما أن يكون حالاً من الرب أي يخافونه غالباً قاهراً . وبحث الفوقية قد تقدم في الأنعام في قوله : { وهو القاهر فوق عباده } { الأنعام : 18 ] زعم بعض الطاعنين في عصمة الملائكة أنه تعالى وصفهم بالخوف وحصول الخوف نتيجة تجويز الإقدام على الذنوب ، وهب أنهم فعلوا كل ما أمروا به فمن أين علم أنهم تركوا كل ما نهوا عنه؟ والجواب عن الأوّل أنهم إنما يخافون من العذاب لقوله تعالى : { ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم } [ الأنبياء : 29 ] فمن هذا الخوف يتركون الذنب . وعن ابن عباس أن هذا الخوف خوف الإجلال كقوله : { إنما يخشى الله من عباده العلماء } [ فاطر : 28 ] ولا ريب أنه كلما كانت معرفة جلال الله أتم كانت الهيبة والحيرة أعظم . وعن الثاني أن النهي عن الشيء أمر بتركه ، وفي الآية دلالة على أن إبليس لم يكن من الملائكة لأنه أبى واستكبر وإنهم لا يستكبرون . وقد يستدل بها على أن الملك أفضل من البشر بل من كل المخلوقات وإلا لما خصهم بالذكر من بينها ، ولخلو بواطنهم وظواهرهم عن الأخلاق الذميمة وانغماس البشر في الدواعي الشهوية والغضبية ، ولهذا ورد في حقه
{ قتل الإنسان ما أكفره } [ عبس : 17 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « ما منا إلا من قد عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا » وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم « الشيخ في قومه كالنبي في أمته » فضل الشيخ على الشاب لتقادم عهده وطول مدته ، ولا شك أن الملائكة خلقوا قبل البشر بسنين متطاولة وقرون متمادية ، وأنهم سنوا الطاعة والعبودية ومن سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها . وتمام البحث في هذه المسألة مذكور في أول سورة البقرة . وفي قوله : { ما يؤمرون } دلالة على أن الملائكة مكلفون بالأمر والنهي والوعد والوعيد راجين خائفين .
ولما بين أن كل ما سواه في عالمي الأرواح والأجسام فإنه منقاد خاضع لجلاله وكبريائه أتبعه النهي عن الشرك قائلاً { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد } فسئل أن التثنية والواحد حيث كانا يدلان على العدد الخاص ، فما الفائدة في وصف إلهين باثنين ووصف إله بواحد؟ وأجيب بوجوه منها : قول صاحب النظم أن فيه تقديماً وتأخيراً أي لا تتخذوا اثنين إلهين . ومنها أنه كررت العبارة لأجل المبالغة في التنفير عن اتخاذ الشريك . ومنها قول لأهل المعاني إن فائدة الوصف والبيان هي أن يعلم أن النهي راجع إلى التعدد لا إلى الجنسية ، ولهذا لو قلت : إنما هو إله ولم تؤكده بواحد سبق إلى الوهم إنك تثبت الإلهية لا الوحدانية . وكيف لا يحتاج المقام إلى التوكيد والأثنينية منافية للإلهية لاستلزام تعدد الواجب كون كل منهما مركباً من جزأين ما به الاشتراك في الوجوب الذاتي ، وما به الامتياز ولكن التركيب يوجب الافتقار إلى البسائط والافتقار ينافي الوجوب . ودليل التمانع أيضاً يعين على المطلوب كما لو أراد أحدهما تحريك جسم معين وأراد الآخر تسكينه ، أو قوي أحدهما على مخالفة الآخر أو لا يقوى ، أو قدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر أو لا يقدر . ثم نقل الكلام عن الغيبة إلى التكلم على طريقة الالتفات قائلاً : { فإياي فارهبون } وقد مر مثله في أوّل « البقرة » ثم لما قرر وحدته وأنه يجب أن يخص بالرهبة منه والرغبة إليه ذكر أن الكل ملكه فقال : { وله ما في السموات والأرض } فقالت الأشاعرة : ليس المراد من كونها لله أنها مفعولة لأجله ولغرض طاعته لأن فيها المباحات والمحظورات التي يؤتى بها لغرض الشهوة واللذة لا لغرض الطاعة ، فالمراد أن كلها بتخليقه وتكوينه ومن جملة ذلك أفعال العباد ، ثم قال { وله الدين واصباً } فالدين الطاعة ، والواصب الدائم ، ومفازة واصبة بعيدة لا غاية لها . ويقال للمريض وصب لكون ذلك المرض لازماً له . وانتصابه على الحال والعامل فيه ما في الظرف من معنى الفعل . قال ابن قتيبة : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك بسبب في حال الحياة أو الموت إلا الحق سبحانه ، فإن طاعته واجبة أبداً .
ويحتمل أن يكون الدين بمعنى الملة أي وله الدين ذا كلفة ومشقة ولذلك سمي تكليفاً ، أو وله الجزاء سرمداً لا يزول يعني الثواب والعقاب . وقال بعض المتكلمين المحققين : قوله { وله ما في السموات والأرض } إشارة إلى احتياج الكل إليه في حال حدوثه . وقوله : { وله الدين } أي الانقياد { واصباً } إشارة إلى أن جميع الممكنات مفتقرة إلى فيض وجوده في حال وجوده لأن الصحيح أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المرحج .
ثم أنكر أن يكون الممكن مع شدة افتقاره إليه يخشى غيره فقال { أفغير الله تتقون } ثم منّ عليهم بقوله : { وما بكم من نعمة فمن الله } « ما » بمعنى « الذي » وبكم صلته و { من نعمة } حال من الضمير في الجار ، أو بيان لما وقوله : { فمن الله } الخبر . وقيل : « ما » شرطية وفعل الشرط محذوف أي ما يكن . وقال جار الله : معناه أي شيء حل بكم أو اتصل بكم من نعمة فهو من الله ، قال الأشاعرة : أفضل النعم نعمة الإيمان والآية تفيد العموم فهو من نعم الله . والنعمة إما دينية وهي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به ، وإما دنيوية نفسانية أو بدنية أو خارجة كالسعادات المالية وغيرها ، وكل واحدة من هذه جنس تحتها أنواع لا حصر لها والكل من الله ، فعلى العاقل أن لا يشكر إلا إياه . ثم بين تلون حال الإنسان بعد استغراقه في بحار نعم الله قائلاً { ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } ما تتضرعون إلا إليه . والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة . { ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون } قال جار الله : يجوز أن يكون الخطاب في قوله : { وما بكم } عاماً ، ويريد بالفريق فريق الكفرة وأن الخطاب للمشركين و { منكم } للبيان لا للتبعيض كأنه قال : فإذا فريق كافر وهم أنتم ، ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر كقوله : { فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد } [ لقمان : 32 ] أقول : وأظهر الوجهين الأول والمعنى أن فريقاً منكم يبقى على ما كان عليه عند الضر في أن لا يفزع إلا إلى لله ، وفريقاً يتغير عن حاله فيشرك بالله ، ولعل هذه صفة لازمة لجوهر الإنسان ولهذا قال : { ليكفروا } كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفران النعمة ، ويجوز أن تكون لام العاقبة يعني عاقبة تلك التضرعات ما كانت إلا هذا الكفران . والمراد بقوله : { بما آتيناهم } كشف الضر وإزالة المكروه ، أو القرآن والشرائع ، أو جميع النعم الظاهرة والباطنة التي أنعم الله بها على الإنسان . ثم قال على سبيل التهديد وبطريقة الالتفات نظراً إلى أوّل الكلام { فتمتعوا فسوف تعلمون } عاقبة كفركم ومثله في « الروم » كما سيجيء ، وأما في « العنكبوت » فإنه قال :
{ ليكفروا بما أتيناهم وليتمتعوا } [ الآية : 66 ] بالعطف على القياس . ثم حكى نوعاً آخر من قبائح أعمال بني آدم فقال { ويجعلون لما لا يعلمون } الضمير الأوّل للمشركين والثاني قيل لهم وقيل للأصنام التي لا توصف بالعلم والشعور ، ورجح الأوّل بأن نفي العلم عن الحي حقيقة وعن الجماد مجاز ، وبأن جمع السلامة بالعقلاء أليق ، وقد يرجح الثاني بأن الأوّل يفتقر إلى الإضمار كما لو قيل : ويجعلون لما لا يعلمون في طاعته نفعاً ولا في الإعراض عنه ضراً . وقال مجاهد : يعلمون أن الله خلقهم ويضرهم وينفعهم ثم يجعلون لما لا يعلمون أنه يضرهم { نصيباً } أو يجعلون لما لا يعلمون إلاهيتها ، أو السبب في صيرورتها معبودة . والمراد بجعل النصيب ما مر في « الأنعام » في قوله : { وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا } [ الأنعام : 136 ] وقيل : البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي . عن الحسن : وقيل هم المنجمون الذين يوزعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة فيقولون لزحل كذا وكذا من المعادن والنبات والحيوان ، وللمشتري كذا إلى آخر الكواكب . ثم أوعدهم الله بقوله : { تالله لتسئلن عما كنتم تفترون } على الله من أن له شريكاً وأن الأصنام أهل للتقرب إليها مع أنه لا شعور لها بشىء أصلاً ، أو المراد بالافتراء قولهم هذا حلال وهذا حرام من غير إذن شرعي ، أو قولهم أن لغير الله تأثيراً في هذا العالم . ومتى يكون هذا السؤال؟ قيل : عند القرب من الموت ومعاينة ملائكة العذاب ، وقيل : في القبر . والأقرب أنه في الآخرة وهذا في هؤلاء الأقوام خاصة كقوله : { فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون } [ الحجر : 29 ] في الأمم عامة .
قوله : { ويجعلون لله البنات } نوع آخر من القبائح وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله . قال الإمام فخر الدين الرازي : أظن أن ذلك لأن الملائكة يستترون عن العيون كالنساء ، ومنه إطلاق التأنيث على الشمس لاستتارها عن أن تدرك بالأبصار لضوئها الباهر ونورها القاهر . { سبحانه } تنزيه لذاته عن نسبة الولد إليه أو تعجب من قولهم . ومحل « ما » في قوله { ولهم ما يشتهون } إما الرفع على الابتداء ، أو النصب أي وجعلوا لهم ما يشتهون يعني البنين . وأبى الزجاج جواز النصب وقال : لأن العرب لا تقول جعل له كذا وهو يعني نفسه وإنما تقول جعل لنفسه كذا . فلو كان منصوباً لقيل : و « لأنفسهم ما يشتهون » . ثم ذكر غاية كراهتهم للإناث التي جعلوها لله تعالى فقال : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه } أي صار { مسودّاً } ويحتمل أن يكون استعمل « ظل » لان وضع الحمل يتفق بالليل غالباً فيظل نهاره مسود الوجه { وهو كظيم } مملوء غماً وحزناً وغيظاً على المرأة . قال أهل المعاني : جعل اسوداد الوجه كناية عن الغم والكآبة لأن الإنسان إذا قوي فرحه انبسط الروح من قلبه ووصل إلى الأطراف ولا سيما إلى الوجه لما بين القلب والدماغ من التعلق الشديد فاستنار الوجه وأشرق ، وإذا قوي غمه انحصر الروح في داخل القلب ولم يبق منه أثر قويّ على الوجه فيتربد الوجه لذلك ويصفر أو يسود { يتوارى } يستخفي { من القوم من سوء ما بشر به } من أجل سوء المبشر به ولم يظهر أياماً يحدث نفسه ويدبر فيها ماذا يصنع بها وذلك قوله : { أيمسكه } أي يحبسه { على هون } ذل وهوان .
والظاهر أن هذا صفة المولود أي يمسكها على هوان منه لها . وقال عطاء عن ابن عباس : إنه صفة الأب أي يمسكها مع الرضا بهوان نفسه { أم يدسه في التراب } أي بيده . والدس إخفاء الشيء في الشيء . وإنما ذكر الضمير في { يمسكه } و { يدسه } باعتبار ما بشر به . كانوا مختلفين في قتل البنات فمنهم من يحفر الحفيرة ويدفنها إلى أن تموت ، ومنهم من يرميها من شاهق جبل ، ومنهم من يغرقها ، ومنها من يذبحها . وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة والحمية ، وأخرى خوفاً من الفقر والفاقة ولزوم النفقة . روي أن رجلاً قال : يا رسول الله والذين بعثك بالحق ما أجد حلاوة الإسلام وقد كانت لي في الجاهلية ابنة وأمرت امرأتي أن تزينها وأخرجتها ، فلما انتهيت إلى وادٍ بعيد القعر ألقيتها فقال : يا أبتي قتلتني . فكلما ذكرت قولها لم ينفعني شيء . فقال صلى الله عليه وسلم : ما في الجاهلية فقد هدمه الإسلام وما في الإسلام يهدمه الاستغفار . ولا ريب أن الأنثى التي هذا محلها عندهم كانت في غاية الكراهية والتنفير ومع ذلك أثبتوها لله المتعالي عن الصاحبة والولد فلذلك قال : { ألا ساء ما يحكمون للذين لا يؤمنون بالآخرة } ولهذا يقدمون على القتل والإيذاء { مثل السوء } وصفة السوء وهي الحاجة إلى الأولاد الذكور وكراهة الإناث ووأدهن خشية الإملاق والتزام الشح البالغ { ولله المثل الأعلى } وهو أضداد صفات المخلوقين من الغنى الكامل والجود الشامل { وهو العزيز } الذي لا يغالب فلا يستضر بأن ينسب إليه ما لا يليق به { الحكيم } في خلق الذكور والإناث أو في الوعيد على قتل البنات . قال القاضي : إن هؤلاء المشركين استحقوا الذم بإضافة النبات إلى الله وإنه أسهل من إضافة الفواحش والقبائح كلها إليه وهذا شأن المجبرة . وأجابت الأشاعرة بأنه ليس كل ما قبح منافي العرف فإنه يقبح من الله . ألا ترى أن رجلاً لو زين إماءه وعبيده وبالغ في تحسين صورهن وتقوية الشهوة فيهم وفيهن ، ثم جمع بين الكل وأزال الحائل والمانع فإن هذا بالاتفاق حسن من الله تعالى وقبيح من كل الخلق ، فعلمنا أن التعويل على هذه الوجوه المبنية على العرف إنما يحسن إذا كانت مسبوقة بالدلائل القطعية اليقينية ، وقد ثبت بالبراهين القطعية امتناع الولد على الله تعالى فعلى جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية .
أما أفعال العباد فقد ثبت بالدلائل اليقينية أن خالقها هو الله تعالى فكيف يمكن إلحاق إحدى الصورتين بالأخرى والله أعلم .
التأويل : أن يخسف الله بهم أرض البشرية ودركات السفل أو يأتيهم العذاب بالمكر والاستدراج من حيث لا يشعرون ، أنه من أين أتاهم من قبل الأعمال الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية أو يأخذهم في تقلبهم من أعمال الدنيا إلى أعمال الآخرة بالرياء ، ومن أعمال الآخرة إلى أعمال الدنيا بالهوى { أو يأخذهم على تخوّف } تنقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم { فإن ربكم لرءُوف } بالعباد إذ أعطاهم حسن الاستعداد { رحيم } حين لا يأخذهم بعد إفساد الاستعداد في الحال لعلهم يتوبون في المآل فيقبل توبتهم بالفضل والنوال . ما خلق الله من شيء وهو عالم الأجسام فإن عالم الأرواح خلق من لا شيء يتفيأ ظلاله ، فإن الأجسام ظلال الأرواح فتارة تميل بعمل أهل السعادة إلى أصحاب اليمين ، وأخرى تميل بعمل أهل الشقاء إلى أصحاب الشمال { سجداً لله } منقادين لأمره مسخرين لما خلقوا لأجله . وإنما وحد اليمين وجمع الشمال لكثرة أصحاب الشمال ، وسجود كل موجود يناسب حاله كما أن تسبيح كل منهم يلائم لسانه { وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } أراد بالإله الآخر الهوى لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما عبد إله أبغض على الله من الهوى » { ويجعلون } يعني أصحاب النفوس والأهواء { لما لا يعلمون } لمن لا علم لهم بأحوالهم { نصيباً } بالرياء { مما رزقناهم } من الطاعات { تالله ليسئلن عما كنتم تفترون } والسؤال عن المعاملات إنما هو بتبديل الصفات وتغير الأحوال من سمة السعادة إلى سمة الشقاوة وبالعكس { ويجعلون لله البنات } أظن أن البنات إشارة إلى صفات فيها نوع نقص كالتجسيم والتشبيه والحلول والاتحاد ، ونسبته إلى الظلم والجور والتعطيل وعدم الاستقلال بالتأثير وغير ذلك مما لا يليق بغاية جلاله ونهاية كماله فلهذا قال سبحانه : { ولهم ما يشتهون } يعني أن كل أحد يجب أن يوصف بغاية الكمال ويتغير وجهه إذا نبه على عيب فيه ولا يعلم أن مطلق الكمال لا يليق إلا بالواجب بالذات ، ونفس الإمكان نقصان يستلزم جميع النقصانات والله يقول الحق وهو يهدي السبيل .
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
القراآت : { لا جرم } في المد مثل { لا ريب فيه } [ البقرة : 2 ] { مفرطون } بكسر الراء المشددة : يزيد { مفرطون } بكسر الراء المخففة : نافع وقتيبة . الباقون بفتحها مخففة . { نسقيكم } بفتح النون : نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد . الآخرون بضمها .
الوقوف : { مسمى } ج للظرف مع الفاء { ولا يستقدمون } 5 { الحسنى } ط { وقيل علي } لا ثم يبدأ بجرم وهو تكلف . { مفرطون } 5 { أليم } 5 { فيه } لا للعطف على موضع { لتبين } تقديره إلا تبياناً وهدى { يؤمنون } 5 { موتها } ط { يسمعون } 5 { لعبرة } ط لأنه لو وصل اشتبه ما بعده بالوصف { للشاربين } 5 { حسناً } ط { يعقلون } 5 { يعرشون } 5 ج للعطف { ذللاً } ط للعدول { للناس } ط { يتفكرون } 5 { شيئاً } ط { قدير } 5 .
التفسير : لما حكى عن القوم عظيم كفرهم وفظيع قولهم بين غاية كرمه وسعة رحمته حيث إنه لا يعاجلهم بالعقوبة فقال : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } الآية . فزعم بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء أنه أضاف الظلم إلى ضمير الناس والأنبياء من جملة الناس فوجب أن يكونوا ظالمين عاصين ويؤكد هذا قوله : { ما ترك عليها من دابة } فإنه لو لم يصدر من الأنبياء ذنب لم يكن لإفنائهم وجه وحينئذ لم يصدق أنه لم يبق على الأرض واحد . والجواب لا نسلم عموم الناس في الآية لقوله سبحانه في موضع آخر { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ لقمان : 32 ] ولا ريب أن المقتصدين والسابقين ليسوا ظالمين ، فإذن المراد بالناس إما كل العصاة الذين استحقوا العقاب ، أو الذين تقدم ذكرهم من المشركين . وأما قوله : { من دابة } فعن ابن عباس أنه أراد من مشرك يدب عليها نظيره قوله : { إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } [ الأنفال : 55 ] ولو سلم أن المراد بها كل من يدب عليها فلعل الهلاك في حق الظلمة يكون عذاباً وفي غيرهم امتحاناً فقد وقعت هذه الواقعة في زمان نوح عليه السلام . وأيضاً من المعلوم أنه لا أحد إلا وفي آبائه من يستحق العذاب ، فلو أهلكوا لبطل نسلهم ولأدى إلى إفناء الناس ، بل الدواب كلها لأن الدواب مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم . عن أبي هريرة أنه سمع رجلاً يقول : إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال : بلى والله حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم . وعن ابن مسعود : كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم . وقيل : لو يؤاخذهم لانقطع القطر وفي انقطاعه انقطاع النبت وفي انقطاع النبت فناء الدواب . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن الظلم والمعاصي ليست من أفعال الله تعالى وإلا لم يؤاخذهم بها فرضاً ، ولم يضف الظلم إليهم ولم يذمهم على ذلك . وفي قوله : { بظلمهم } دليل على أن الظلم هو المؤثر في العقاب ، فإن الباء للعلية .
وجواب الأشاعرة معلوم وهو أنه لا يسأل عما يفعل ، وأيضاً المعارضة بالعلم والدواعي ووجوب انتهاء الكل إليه . قال بعض الأصوليين : الأصل في المضار الحرمة لأن الضرر لا يجوز أن يكون مشروعاً ابتداء بالإجماع ولقوله تعالى : { ما جعل عليكم في الدين من حرج } [ الحج : 78 ] { يريد الله بكم اليسر } [ البقرة : 185 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » في الإسلام « ملعون من ضر مسلماً » ولا أن يكون مشروعاً على وجه يكون جزاء عن جرم سابق بهذه الآية لأن كلمة « لو » وضعت لانتفاء الشيء لانتفاء غيره . فالآية تقتضي أنه تعالى ما آخذ الناس بظلمهم وأنه ترك على ظهرها دابة كما هو المشاهد إذا ثبت هذا الأصل فنقول : إذا وقعت حادثة مشتملة على المضار فإن وجدنا نصاً على كونها مشروعة قضينا به تقديماً للخاص على العام وإلا قضينا عليها بالحرمة بناء على هذا الأصل . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون الضرر مشروعاً على وجه يقع جزاء عن جرم سابق والآية لا تنافي ذلك لأنها لا تدل إلا على أنه سبحانه لا يؤاخذ بكل ظلم . أما على أنه لا يؤاخذ ببعض أنواع الظلم فلا ، دليلة قوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] ومنهم من قال : بناء على القاعدة المذكورة إن كل ما يريده الإنسان وجب أن يكون مشروعاً في حقه لأن المنع منه ضرر والضرر غير مشروع ، وكل ما يكرهه الإنسان لزم أن يكون محرماً لأن وجوده ضرر وأنه غير مشروع . فالذي يتمسك به في إثبات الأحكام من القياس إما أن يكون على وفق هذه القاعدة أو على خلافها والأول باطل ، لأن هذا الأصل يغني عنه ، وكذا الثاني لأن النص راجح على القياس . ولقائل أن يقول : توارد الأدلة على المدلول الواحد غير ممتنع . أما قوله : { ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى } فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه يريد أجل القيامة لأن معظم العذاب يوافيهم يومئذ . وقيل : أراد منتهى العمر لأن المشركين يؤاخذون بالذنوب إذا خرجوا من الدنيا ، وباقي الآية قد مر تفسيرها في أوائل سورة الأعراف .
واعلم أنه سبحانه قال في هذه السورة { ما ترك عليها من دابة } وفي سورة الملائكة { ما ترك على ظهرها } [ فاطر : 45 ] فالهاء كناية عن الأرض ولم يتقدم ذكرها ههنا والعرب تجوّز ذلك في كلمات لحصولها بين يدي كل متكلم وسامع منها الأرض والسماء : « فلان أفضل من عليها وأكرم من تحتها » ، ومنها الغداة « إنها اليوم لباردة » . ومنها الأصابع يقول : « والذي شقهن خمساً من واحدة » يعني الأصابع من اليد . وإنما لم يذكر الظهر في هذه السورة لئلا يلتبس بظهر الداب فكثيراً ما يستعمل الظهر بمعنى الدابة بخلاف سورة « الملائكة » فإنه قد تقدم ذكر الأرض في قوله :
{ أو لم يسيروا في الأرض } [ الآية : 44 ] وفي قوله : { ولا في الأرض } [ الآية : 44 ] فلم يكن ملتبساً . ويمكن أن يقال : لما قال ههنا { بظلمهم } لم يقل : { على ظهرها } وحين قال هنالك { بما كسبوا } قال : { على ظهرها } احترازاً عن الجمع بين الظاءين لأنها تقل في الكلام وليست لأمة من الأمم سوى العرب ، فلم يجمع بينهما في شرطية واحدة . ثم عاد إلى حكاية كلمتهم الحمقاء فقال : { ويجعلون لله ما يكرهون } لأنفسهم من البنات ولا يبعد أن يندرج فيه سائر ما يكرهون من الشركاء في الرياسة ومن الاستخفاف والتهاون برسلهم ورسالتهم ، وأنهم يجعلون أرذل أموالهم لله وأكرمها للأصنام . وعن بعضهم أنه قال لرجل من ذوي اليسار كيف تكون يوم القيامة إذا قال الله تعالى هاتوا ما دفع إلى السلاطين وأعوانهم فيؤتى بالدواب والثياب وأنواع الأموال الفاخرة ، وإذا قال هاتوا ما دفع إليّ فيؤتى بالكسر والخرق وما لا يؤبه له ، أما تستحيي من ذلك الموقف؟ ثم قال : { وتصف ألسنتهم الكذب } قال الفراء والزجاج : أبدل منه قوله : { أن لهم الحسنى } عن مجاهد أن الحسنى البنون كانت قريش يقولون لله البنات ولنا البنون . وقال غيره : هي الجنة أي إنهم مع جعلهم لله ما يكرهون حكموا لأنفسهم بالجنة والثواب من الله ، وأنهم يفوزون برضوان الله بسبب هذا القول زعماً منهم أنهم على الدين الحق والمذهب الحسن . وكيف يحكمون بذلك وكانوا منكرين للقيامة؟ الجواب أنه كان فيهم من يقر بالبعث ولذلك كانوا يربطون البعير على قبر الميت ويتركونه إلى أن يموت ظناً منهم أن الميت إذا حشر فإنه يحشر معه مركوبه ، وبتقدير أنهم كانوا منكرين فلعلهم قالوا إن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقاً في دعوى الحشر والقيامة فإنه يحصل لنا الجنة والثواب بسبب هذا الدين الحق الذي نحن عليه نظيره { ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى } [ فصلت : 50 ] ومن الناس من رجح هذا القول لأنه تعالى ردّ عليهم بعد ذلك بقوله : { لا جرم أن لهم النار } قال الزجاج : لا ردّ لقولهم أي ليس الأمر كما وصفوا . جرم أي كسب ذلك القول أن لهم النار ف « أنَّ » مع ما بعده في محل النصب لوقوع الكسب عليه . وقال قطرب : « أن » في موضع رفع والمعنى حق أن لهم الافتراء على الله . وجوّز أبو علي الفارسي أن يكون من أفرط أي صار ذا فرط مثل أجرب أي صار ذا جرب ، ومن قرأ بفتحها مخففة فهو من أفرطت فلاناً خلفى إذا خلفته ونسيته ، فالمعنى أنهم متروكون في النار منسيون . ومن قرأ بكسر الراء المشددة فهو من التفريط في الطاعات .
وقرىء بفتح الراء المشددة من فرّطته في طلب الماء إذا قدمته وجاء أفرطته بمعناه أيضاً ، فالمراد أنهم مقدمون إلى النار معجلون إليها .
ثم بين سبحانه أن مثل صنيع قريش قد صدر عن سائر الأمم فقال : { تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك } أي رسلاً { فزين لهم الشيطان أعمالهم } قالت المعتزلة : لو كان خالق الأعمال هو الله تعالى فما معنى تزيين الشيطان ، ومن أي وجه توجه عليه الذم ، وأن خالق ذلك العمل أجدر بأن يكون ولياً لهم من الداعي إليه؟ وأجيب بأن الوسائط معتبرة وانتهاء الكل إليه ضروري . قال جار الله : { فهو وليهم اليوم } حكاية الحال الماضية التي كان يزين لهم الشيطان أعمالهم فيها ، والمراد فهو وليهم أي قرينهم في الدنيا فجعل اليوم عبارة عن زمان الدنيا أو اليوم عبارة عن يوم الآخرة الذي يعذبون فيه في النار ، فهو حكاية للحال الآتية ، والولي الناصر أي هو ناصرهم يوم القيامة فقط ، والمراد نفي الناصر عنهم على أبلغ الوجوه لأن الشيطان لا يتصوّر منه النصرة أصلاً ، وإذا كان الناصر منحصراً فيه لزم أن لا نصرة بالضرورة . قال : ويجوز أن يرجع الضمير في { وليهم } إلى مشركي قريش وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي فهو ولي أمثالهم اليوم . ثم ذكر سبحانه أنه ما هلك من هلك إلا بعد إقامة الحجة وإزاحة العلة فقال : { وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه } كالشرك والتوحيد والجبر والقدر والإقرار بالبعث والإنكار له ، وكتحريم الأشياء المحللة كالبحيرة والسائبة وتحليل الأشياء المحرمة كالميتة والدم . { وهدى ورحمة } انتصبا على أنهما مفعول لهما ولا حاجة إلى اللام لأنهما فعلا فاعل ، والفعل المعلل بخلاف التبيين فإنه فعل المخاطب لا فعل المنزل ولهذا دخل عليه اللام ، قال الكعبي : وصف القرآن بكونه هدى ورحمة { لقوم يؤمنون } لا ينافي كون كذلك في حق الكل . وخص المؤمنون بالذكر من حيث إنهم قبلوه وانتفعوا به . ولما امتد الكلام في وعيد الكفار عاد إلى تقرير الإلهيات فقال : { والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها } وفي العنكبوت : { من بعد موتها } [ الآية : 63 ] لأن هنالك سؤال تقرير والتقرير يحتاج إلى التحقيق فقيد الظرف ب « من » للاستيعاب . وأيضاً حذف « من » في هذه السورة موافقة لقوله عما قريب : { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } وإنما حذف « من » هنا بخلاف ما في الحج لأنه أجمل الكلام في هذه السورة فقال : { والله خلقكم ثم يتوفاكم } وأطنب في الحج فقال : { خلقناكم من تراب ثم من نطفة } [ الحج : 5 ] الآية . فاقتضى الإيجاز الحذف والإطناب الإثبات { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } سماع تأمل وتدبر فمن لم يسمع متدبراً فكأنه أصم ، ثم استدل بعجائب أحوال الحيوانات قائلاً : { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه } وفي سورة المؤمنين :
{ مما في بطونها } [ الآية : 21 ] فذكر النحويون أن الأنعام من جملة الكلمات التي لفظها مفرد ومعناها جمع كالرهط والقوم والنعم . فجاز تذكيره حملاً على اللفظ وتأنيثه حملاً على المعنى . قال المبرد : هذا شائع في القرآن قال تعالى : { فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي } [ الأنعام : 78 ] بمعنى هذا الشيء الطالع . وقال : { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره } [ عبس : 11 ] أي ذكر هذا الشيء . وعند سيبويه الأنعام من الأسماء المفردة الواردة على أفعال . وجوّز في الكشاف أن يكون تأنيثه على أنه تكسير نعم . وقيل : إن الأنعام بمعنى النعم لأن الألف واللام تلحق الآحاد بالجمع والجمع بالآحاد .
قلت : ما ذكره الأئمة حسن إلا أنه لا يقع جواباً عن التخصيص . ولعل السر فيه أن الضمير في هذه السورة يعود إلى البعض وهو الإناث ، لأن اللبن لا يكون للكل فالتقدير : وإن لكم في بعض الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه ، وأما في « المؤمنين » فإنه لما عطف عليه ما يعود على الكل ولا يقتصر على البعض وهو قوله : { ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون وعليها } [ المؤمنون : 22 ] لم يتحمل أن يكون المراد به البعض فأنث ليكون نصاً على أن المراد بها الكل . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : إذا استقر العلف فى الكرش صار أسفله فرثاً وأعلاه دماً وأوسطه لبناً خالصاً فيجري الدم في العروق واللبن في الضروع ويبقى الفرث كما هو فذاك هو قوله تعالى : { من بين فرث ودم لبناً خالصاً } لا يشوبه الدم ولا الفرث . وأنكر الأطباء هذا القول لأنه على خلاف الحس والتجربة . أما الحس فلأن الأنعام تذبح ذبحاً متوالياً ولا يرى في كرشها دم ولا لبن ، وأما التجربة فلأن الدم لو كان في أعلى المعدة والكرش كان يجب إذا قاء أن يقيء الدم وليس كذلك ، بل الحق أن الحيوان إذا تناول العلف حصل له في معدته أو كرشه هضم أوّل ، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد ، وما كان كثيفاً نزل إلى الأمعاء . ثم الذي يحصل في الكبد ينطبخ فيها ويصير دماً وذلك هو الهضم الثاني . ويكون مخلوطاً بالصفراء والسوداء وزيادة المائية . أما الصفراء فتذهب إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، ومنها إلى المثانة . وأما الدم فإنه يدخل في الأوردة وهي العروق النابتة من الكبد وهناك يحصل الهضم الثالث . وبين الكبد والضرع عروق كثيرة فينصب الدم في تلك العروق إلى الضرع وهو لحم غددي رخو أبيض فيقلب الله الدم هناك إلى صورة اللبن ، وإنما اختص هذ المعنى بالحيوان الأنثى لأن الحكمة الإلهية اقتضت تدبير كل شيء على الوجه اللائق به ، والذكر من كل حيوان أسخن واجف ، والأنثى أبرد وأرطب لأن بدن الأنثى يحتاج إلى مزيد رطوبة لتصير مادة لتولد الولد ويتسع بدنها له .
ثم إن تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في الرحم تنصب بعد انفصال الجنين إلى الثدي لتصير مادة لغذاء الطفل . واعلم أنه تعالى خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثفل الغذاء ، فإذا تناول الإنسان غذاء أو شربة رقيقة انطبق ذلك المنفذ انطباقاً كلياً إلى أن يكمل انهضامه في المعدة وينجذب ما صفا منه إلى الكبد ، ويبقى الثفل هناك فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ وينزل منه ذلك الثفل فهذا الانطباق والانتفاح بحسب الحاجة وبقدر المنفعة مما لا يتأتى إلى بتقدير الفاعل الحكيم . وأيضاً إنه أودع في الكبد قوّة جاذبة للأجزاء اللطيفة التي في ذلك المأكول والمشروب طابخة لها حتى تنقلب دماً دون الأجزاء الكثيفة وفي المعدة بالعكس ، وأودع في المرارة قوة جاذبة للصفراء ، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائية ، وتخصيص كل واحد من هذه الأعضاء بفعله الخاص به لا يمكن إلا بتدبير العليم الخبير . وكذا الكلام في انصباب مادة اللبن إلى الثدي في وقت يحتاج الطفل إلى الغذاء وتوزعها على جميع البدن في غير ذلك الوقت . ثم إنه تعالى أحدث في حلمة الثدي ثقوباً صغيرة يخرج اللبن الخالص منها وقت المص أو الحلب فهي بمنزلة المصفاة للبن يخرج اللطيف منها ويبقى الكثيف ، فبهذا الطريق يصير خالصاً سائغاً للشاربين أي سهل المرور في الحلق حتى قيل إنه لم يغص أحد باللبن قط . ومن عجائب حال اللبن اجتماعه من أجسام مختلفة الطبائع مع أنها واحدة في الحس . فمنها الدهن وهو حار رطب ، ومنها الأجزاء المائية وهي باردة رطبة ، ومنها الجبن وهو بارد يابس وكلها حاصلة من عشب واحد . ثم إنه تعالى ألهم الطفل الصغير مص الثدي عند انفصاله من الأم وكل ذلك دليل على عناية كاملة ورحمة شاملة وعلم تام وقدرة باهرة . قال المحققون : في تقليب العشب في هذه الأطوار إلى أن يصير لبناً خالصاً سائغاً دليل على أنه تعال قادر على تقليب الإنسان في أطواره إلى أن يصير مستعداً للبقاء الأبدي واللقاء السرمدي . قال جار الله : و « من » في { مما في بطونه } للتبعيض و « من » في قوله : { من بين فرث } لابتداء الغاية فهو صلة { لنسقيكم } كقولك : « سقيته من الحوض » . وجوز أن يكون حالاً من قوله : { لبناً } مقدماً عليه فيتعلق بمحذوف أي كائناً من بين كذا وكذا . وإنما قدم لأنه موضع العبرة فهو جدير بالتقديم . قالت الشافعية : ليس بمستنكر أن يسلك المني مسلك البول وهو طاهر كما أنه يخرج اللبن من بين الفرث والدم طاهراً .
وأما قوله : { ومن ثمرات النخيل والأعناب } فإما أن يتعلق بمحذوف أي ونسقيكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب إذا عصرت وحذف لدلالة ما تقدم عليه فيكون قوله : { تتخذون منه } بياناً وكشفاً عن كنه حقيقة الاستقاء ، وإما أن يتعلق ب { تتخذون } فيكون قوله : { منه } تكريراً للظرف لأجل التأكيد نظيره قولك : « زيد في الدار فيها » وإنما ذكر الضمير في { منه } لأنه يعود إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف الذي هو العصير كأنه قيل : ومن عصير ثمرات النخيل ومن عصير الأعناب تتخذون منه ، واحتمل أن يكون { تتخذون } صفة موصوف محذوف كقوله :
{ وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي وما منا إلا ملك فالتقدير : ومن ثمرات النخيل ومن الأعناب ثمر . { تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً } لأنهم يأكلون بعضها ويتخذون من بعضها السكر وهو الخمر سميت بالمصدر من سكر سكراً وسكراً نحو رشد رشداً ورشداً . وعلى هذا التفسير ففي الآية قولان : أحدهما - ويروى عن الشعبي والنخعي - أنها منسوخة فإن السورة مكية وتحريم الخمر نزل في المائدة وهي مدنية ، وثانيهما أنها جامعة بين العتاب والمنة . وذكر المنفعة لا ينافي الحرمة على أن في الآية تنبيهاً على الحرمة أيضاً لأنه ميز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر ، فوجب في السكر أن لا يكون رزقاً حسناً لا بحسب الشهوة بل بحسب الشريعة . هذا ما عليه الأكثرون . وقيل : السكر النبيذ وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ، ثم يترك حتى يشتد وهو حلال عند أبي حنيفة إلى حد السكر . واحتج بأن الآية دلت على أن السكر حلال لأنه تعالى ذكره في معرض الإنعام والمنة ، ودل الحديث على أن الخمر حرام لعينها وهذا يقتضي أن يكون السكر شيئاً غير الخمر ، وكل من أثبت هذه المغايرة قال إنه النبيذ المطبوخ . ويحكى عن أبي علي الجبائي أنه صنف كتاباً في تحليل النبيذ ، فلما آخذت منه السن العالية قيل له : لو شربت منه ما تتقوّى به فأبى فقيل له : فقد صنفت في تحليله . فقال : تناولته أيدي الشيطان فقبح عند ذوي المروءات والأقدار . وقيل : السكر الطعم قاله أبو عبيدة . وقيل : السكر والرزق الحسن واحد كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن . ومن أعجب أحوال الحيوان حال النحل المناسب عسلها اللبن في موافقة اللذة وفي الخروج من البطن فلذلك أفردها بالذكر عقيب ذلك قائلاً : { وأوحى ربك } يا محمد أو يا إنسان إلى النحل أي ألهمها وعلمها على وجه هو أعلم به ، ولقد حق لغريب أمرها وعجيب صنعتها أن يطلق عليه لفظ الإيحاء وذلك أنها تبني البيوت المسدسة من الأضلاع المتساويات التي لا يمكن للعقلاء تركيب أمثالها إلا بالمساطر والفرجارات ، وقد علم من الهندسة أن تلك البيوت لو كانت مشكلة بما سوى المسدسات فإنه يبقى بالضرورة فيما بينها فرج خالية ضائعة .
فاهتداء ذلك الحيوان الضعيف إلى هذه الحكمة الدقيقة من الأعاجيب . ومن غرائب أمرها أن لها رئيساً هو أعظم جثة من الباقين وهم يخدمونه ويتبعون نهيه وأمره ، ومنها أنها إذا نفرت عن وكرها ذهبت مع الجمعية إلى موضع آخر فإذا أرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول والملاهي وآلات الموسيقى وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردها إلى أوكارها . وبالجملة فإن غرائب هذا الحيوان أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تخفى ، والغرض أن امتياز هذا الحيوان بهذه الخواص العجيبة الدالة على الذكاء والكياسة حالة شبيهة بالوحي بمعنى الإلهام . قال الزجاج : يجوز أن يقال سميت نحلاً لأنه تعالى نحل الناس العسل بواستطها وهي مؤنثة في لغة أهل الحجاز ولذلك قال تعالى : { أن اتخذي } وهي « أن » المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول .
ومعنى « من » في قوله : { من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون } أي يبنون ويرفعون البعضية لأنها لا تبني بيوتاً في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولكنها تبني في مساكن توافقها وتليق بها وكثيراً ما يتعهدها الناس وتصلح أحوالها { ثم كلي من كل الثمرات } أي بعضاً من كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها { فاسلكي سبل ربك } أي الطريق التي ألهمك وفهمك في عمل العسل { ذللاً } جمع ذلول وهي حال من السبل لأن الله ذللها لها وسهلها عليها ، أو من الضمير في { فاسلكي } أي وأت ذلك منقادة لما أمرت به غير ممتنعة ، أو المراد فاسلكي ما أكلت في سبل ربك المذللة أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المن عسلاً وهي أجوافك ومنافذ مأكلك ، أو أراد أنك إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا تضلين فيها . فقد يحكى أنها ربما أجدب عليها ما حولها فتسافر إلى البلد البعيد في طلب النجعة . ويجوز أن يريد بقوله : { ثم كلي } اقصدي أكل الثمرات { فاسلكي } في طلبها من مظانها { سبل ربك } . واعلم أن ظاهر قوله : { أن اتخذي } { ثم كلي } { فاسلكي } أمر . فمن الناس من قال لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول يتوجه بها عليها من الله أمر ونهي ، ومنهم من أنكر ذلك وقال : المراد أنه سبحانه خلق فيها غرائز وطبائع توجب هذه الأحوال . وتمام الكلام فيه سيجيء في سورة النمل . أما حدوث العسل من النحل فالأصح عند الأطباء أن الله تعالى دبر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع على أوراق الأشجار فقد يكون كثيراً يجتمع منه أجزاء محسوسة وهي الترنجبين ونحوه ، وقد يكون قليلاً متفرقاً على الأوراق والأزهار وهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل فتلتقط تلك الذرّات بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت مرة أخرى وذهبت بها ووضعتها في بيوتها ادخاراً لنفسها ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء محسوس من تلك الأجزاء الطلية فذاك هو العسل .
ولا يبعد أن يحصل لتلك الأجزاء في أفواهها نوع هضم وتغير ونضج لخاصية فيها فلذلك قال : { يخرج من بطونها } أي من أفواهها . ومن الناس من زعم أن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق العطرية ما شاءت ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنه عسلاً ، ثم إنه يقيء مرة أخرى فذلك هو العسل . قال العقلاء : والقول الأول أقرب إلى التجربة والقياس : فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل محدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا العسل . وأيضاً النحل إنما تغتذي بالعسل ولهذا يترك منه بقية في بيوتها بعد الأشتيار . ولكن قوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب } أي ما يشرب يعضد القول الثاني .
وقوله : { مختلف ألوانه } أي منه أبيض وأصفر وأحمر وأسود بحسب اختلاف الأماكن وأمزجة النحل واختلاف الأزهار والأعشاب التي ترعى فيها . ثم وصفه بقوله : { فيه شفاء الناس } لأنه من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة ولذا يقع في أكثر المعاجين . وتنكير { شفاء } لتعظيم الشفاء الذي فيه ، أو لأن فيه بعض الشفاء فإن كل دواء كذلك . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً جاء إليه فقال : إن أخي يشتكي بطنه . فقال : اسقه العسل . فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع . فقال : اذهب فاسقه عسلاً فقد صدق الله وكذب بطن أخيك . فسقاه فشفاه الله فبرأ كأنما نشط من عقال . قال أهل المعاني : إنه صلى الله عليه وسلم كان عالماً بأنه سيظهر نفعه فلهذا قال : كذب بطن أخيك حين لم يظهر النفع في الحال . وعن عبد الله بن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور ، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل . واعلم أنه سبحانه ختم الآية الأولى بقوله : { لقوم يسمعون } لأن إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض بسببه أمر مشاهد محسوس فمنكر ذلك فاقد الحس ، وإنما خص بالذكر حس السمع لأن لفظ القرآن المنبه على هذه الآية مسموع . وختم الآية الثانية بالعقل لأنه يحتاج إلى نوع تدبر فالمعرض عنه فاقد العقل دون الحس . وختم الثالثة بالتفكر لأن أمر النحل وقصتها العجيبة من انقيادها لأميرها واتخاذها البيوت على أشكال يعجز عنها الحاذق منا ، ثم تتبعها الزهر والطل ثم خروج ذلك من بطونها لعاباً أو قيئاً يقتضي فكرة بليغة . ولما ذكر بعض عجائب أحوال الحيوان أتبعه عجيب خلق الإنسان فقال : { والله خلقكم } ولم تكونوا شيئاً { ثم يتوفاكم } عند انقضاء آجالكم { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } إلى أخسه وأحقره .
عن علي رضي الله عنه هو خمس وسبعون سنة . وعن قتادة تسعون سنة . وقال السدي : هو حالة الخرف دليله قوله : { لكيلا يعلم بعد علم شيئاً } أي ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفل في النسيان وعدم التذكر وقيل : لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئاً أي لا يعلم زيادة علم على علمه . وقيل : إن الرد إلى أرذل العمر ليس في المسلمين والمسلم لا يزداد بسبب العمر إلا كرامة على الله تعالى ونظير الآية قوله : { ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ التين : 5 ، 6 ] .
واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع : أوّلها سن النشوء ، وثانيها سن الوقوف وهو سن الشباب ، وثالثها الانحطاط الخفي اليسير وهو سن الكهولة ، ورابعها سن الانحطاط الظاهر وهو سن الشيخوخة . وذكر الأطباء وأصحاب الطبيعي أن بدن الإنسان مخلوق من المني ومن دم الطمث وهما جوهران حارّان رطبان ، والحرارة إذا عملت في الجسم الرطب قلت رطوبته فلا يزال في هذين الجوهرين من قوة الحرارة يقلل ما في العضو من الرطوبة حتى يتصلب ويظهر العظم والغضروف والعصب والوتر والرباط وسائر الأعضاء ، فإذا تم تكوين البدن وكمل فعند ذلك ينفصل الجنين من رحم الأم وتكون رطوبة البدن بعد زائدة على حرارته ، فتكون الأعضاء قابلة للتمدد والازدياد والنماء وهو سن النشو وغايته إلى ثلاثين أو إلى خمس وثلاثين سنة ، ثم تصير رطوبات البدن أقل وتكون وافية بحفظ الحرارة الغريزية الأصلية إلا أنها لا تكون زائدة على هذا القدر وهو سن الوقوف والشباب وغايته وحينئذ يظهر النقصان قليلاً إلى ستين سنة وهي سن الكهولة ، ثم يظهر جداً إلى تمام مائة وعشرين سنة . قال المتكلمون : هذا التعليل ضعيف لأن رطوبات البدن في حال كونه منياً ودماً كانت كثيرة ولذلك كانت الحرارة الغريزية مغمورة ، ثم إنها مع ذلك كانت قوية على تحليل أكثر الرطوبات حتى نقلتها من حد الدموية والمنوية إلى أن صارت عظماً وغضروفاً وعصباً ورباطاً ، فعندما تولدت الأعضاء وكمل البدن وقلت الرطوبات وجب أن تقوى الحرارة الغريزية قوّة أزيد مما كانت قبل ذلك فوجب أن يكون تحليل الرطوبات بعد تولد البدن وكماله أكثر من تحليلها قبل تولد البدن وليس الأمر كذلك ، لأنه قبل تولد البدن انتقل جسم الدم والمني إلى أن صار عظماً وعصباً ، أما بعد تولد البدن فلم يحصل مثل هذا الانتقال ولا عشر عشيره ، فعلمنا أن البدن إنما يتولد بتدبير قادر حكيم لا لأجل ما قالوه . وبوجه آخر الحرارة الحاصلة في بدن الإنسان الكامل الغريزة إما أن تكون هي عين ما كان حاصلاً في جوهر النطفة ، أو صارت أزيد مما كانت . والأول باطل لأن الحار الغريزي الحاصل في جوهر النطقة كان بمقدار جرم النطفة ، فإذا كبر البدن وجب أن لا يظهر منه في هذا البدن تأثير أصلاً .
وأما الثاني ففيه تسليم أن الحرارة تتزايد بحسب تزايد الجثة ، ولا ريب أن تزايدها يوجب تزايد القوة والصحة ساعة فساعة فيلزم أن لا ينهدم البدن الحيواني أبداً وليس كذلك . وبوجه ثالث هب أن الرطوبة الغريزية صارت معادلة للحرارة الغريزية فلم قلتم إن الحرارة الغريزية يجب أن تصير أقل مما كانت حتى ينتقل الإنسان من سن الشباب إلى سن النقصان؟ قالوا : السبب فيه أنه إذا حصل هذا الاستواء فالحرارة الغريزية بعد ذلك تؤثر في تجفيف الرطوبة الغريزية فتقل الرطوبات الغريزية حتى صارت بحيث لا تفي بحفظ الحرارة الغريزية ، وإذا حصلت هذه الحال ضعفت الحرارة الغريزية أيضاً لأن الرطوبات الغريزية كالغذاء للحرارة الغريزية ، فإذا قل الغذاء ضعف المغتذي فينتهي الأمر إلى أن لا يبقى من الرطوبة شيء ، لأن الحرارة الغريزية توجب قلة الرطوبة الغريزية وقلتها توجب ضعف الحرارة الغريزية فيلزم من ضعف إحداهما ضعف الأخرى فتنطفىء الحرارة أيضاً ويحصل الموت . وأورد عليهم أن الحرارة إذا أثرت في تجفيف الرطوبة وقلتها فلم لا يجوز أن تورد القوة الغاذية بدلها؟ فأجابوا بأن القوة الغاذية لا تفي بإيراد البدل . قال الإمام فخر الدين الرازي راداً عليهم . إن القوة الغاذية إنما تعجز عن هذا الإيراد إذا كانت الحرارة الغريزية ضعيفة وذلك ممنوع ، وإنما تكون الحرارة الغريزية ضعيفة أن لو قلت الرطوبة الغريزية ، وإنما تحصل هذه القلة إذا عجزت الغاذية عن إيراد البدل وهذا دور محال ، فيثبت أن إسناد هذه الأحوال إلى الطبائع والقوى غير ممكن فيعين إسنادها إلى القادر المختار الحكيم ، ولهذا ختم الآية بقوله : { إن الله عليم قدير } يعلم مقادير المصالح والمفاسد ويقدر على تحصيلها كما يريد . وأما الطبيعة فجاهلة عاجزة . قلت : لا شك أن نسبة هذه الأمور إلى مجرد الطبيعة كفر وجهل ، لأنها ليست واجبة الوجود بالاتفاق ولكن إنكار القوى والطبائع أيضاً بعيد عن الإنصاف . والحق أنها وسائط وآلات لما فوقها من المبادىء والعلل إلى أن ينتهي الأمر إلى مسبب الأسباب ومبدأ الكل ، وقد ثبت عند الحكيم أن كل قوة جسمانية فإنها متناهية الأثر فلا محالة تعجز القوة الغاذية آخر الأمر عن إيراد بدل ما يتحلل فيحل الأجل بتقدير العليم القدير .
التأويل : { ولو يؤاخذ الله } النفوس الناسية { بما ظلمت } على القلوب والأرواح { ما ترك على } أرض البشرية صفة من صفات الحيوانية . ولكن يؤخر أهل السعادة إلى أجلهم وهو إفناء صفات النفس بصفات القلب والروح في حينه وأوانه ، ويؤخر أهل الشقاء إلى أوان العكس من ذلك . { ويجعلون لله ما يكرهون } أي يعاملون الله بأعمال يكرهون أن يعاملهم بها غيرهم وتسوّل لهم أنفسهم أن تلك المعاملة حسنة . والله أنزل من سماء العزة ماء بيان القرآن فأحيا به أرض قلوب الأمم بعد موتها باختلافهم على أنبيائهم { إن في ذلك لآية لقوم يسمعون } كلام الله من الله { وإن لكم في الأنعام } النفوس { لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث } الخاطر الشيطاني { ودم } الخاطر النفساني { لبناً خالصاً } من الإلهام الرباني { سائغاً للشاربين } جائزاً لأهل هذا الشرب { ومن ثمرات } نخيل الطاعات وأعناب المجاهدات { تتخذون منه سكراً } هو ما يجعل منها شرب النفس فتسكر النفس فتارة تميل عن الحق والصراط المستقيم ميلان السكران ، وتارة تظهر رعوناتها بالأفعال والأحوال رياء وسمعة وشهوة .
والرزق الحسن ما يكون منه شرب القلب والروح فيزداد منه الشوق والمحبة والصدق والطلب :
شربت الحب كأساً بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
{ وأوحى ربك إلى النحل } إشارة إلى حال السالك السائر { أن اتخذي من الجبال بيوتاً } أراد الاعتزال عن الخلق والتبتل إلى الله . كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء أسبوعاً وأسبوعين وشهراً ، ولا بد أن يتنظف كما أن النحل يحترز عن التلوث . وفيه أن نحل الأرواح اتخذت من جبال النفوس بيوتاً ومن شجر القلوب ومما يعرشون من الأسرار { ثم كلي من الثمرات فاسلكي سبل ربك } نظير قوله : { كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً } [ المؤمنون : 51 ] فثمرات البدن الأعمال الصالحات ، وثمرات النفوس الرياضيات ومخالفات الهوى ، وثمرات القلوب ترك الدنيا والتوجه إلى المولى ، وثمرات الأسرار شواهد الحق والتطلع على الغيوب والتقرب إلى الله ، وهذه كلها أغذية نحل الأرواح فإنها بقوّة هذه الأغذية تسلك السبل إلى أن تصل إلى المقعد الصدق عند مليكها ، فيكون غذاؤها مكاشفات الحق ومشاهداته فتبيت عند ربها يطعمها ويسقيها ، فحينئذ يخرج من بطونها شراب الحكم والمواعظ مختلف الألوان من المعاني والأسرار والدقائق والحقائق { فيه شفاء } للقلوب الناسية القاسية عن ذكر الله { والله خلقكم } أخرجكم من العدم إلى الوجود { ثم يتوفاكم } عن الوجود المجازي { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } وهو مقام الفناء في الله { لكيلا يعلم } بعد فناء علمه شيئاً يعلمه بل يعلم بربه الأشياء كما هي والله أعلم بالصواب .
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
القراآت : { تجحدون } بتاء الخطاب : أبو بكر وحماد . الآخرون على الغيبة . { من بطون إمهاتكم } ونحوها بكسر الهمزة وفتح الميم : عليّ . { إمهاتكم } بكسرهما : حمزة . الباقون بضم الهمزة وفتح الميم . { ألم تروا } على الخطاب : ابن عامر وحمزة وخلف وسهل ويعقوب { ظعنكم } بسكون العين : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر الباقون بفتحها .
الوقوف : { في الرزق } ج لاختلاف الجملتين مع الفاء { سواء } ط { يجحدون } 5 { من الطيبات } ط { يكفرون } 5 لا للعطف { ولا يستطيعون } 5 ج لابتداء النهي مع فاء التعقيب { الأمثال } ط { لا تعلمون } 5 { وجهراً } ط { هل يستوون } ط { الحمد لله } ط لأن « بل » للإعراض عن الأول . { لا يعلمون } 5 { مولاه } لا لأن الجملة بعده صفة أحدهما { بخير } ط ثم لا وقف إلى مستقيم لاتحاد الكلام { والأرض } ط { أقرب } ط { قدير } 5 { شيئاً } لا للعطف { والأفئدة } لا لتعلق { لعلكم تشكرون } 5 { السماء } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { إلا الله } ط { يؤمنون } 5 { إقامتكم } لا لوقوع { جعل } على { أثاثاً } { إلى حين } 5 { باسكم } ط { تسلمون } 5 { المبين } 5 { الكافرون } 5 .
التفسير : لما بين خلق الإنسان وتقلبه في أطوار مراتب العمر أراد أن يذكره طرفاً من سائر أحواله لعله يتذكر فقال : { والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق } ولا ريب أن ذلك أمر مقسوم من قبل القسام وإلا لم يكن الغافر رخي البال والعاقل ردي الحال ، وليس هذا التفاوت مختصاً بالمال وإنما هو حاصل في الحسن والقبح والصحة والسقم وغير ذلك ، فلرب ملك تقاد الجنائب بين يديه ولا يمكنه ركوب واحدة منها ، وربما أحضرت الأطعمة الشهية والفواكه العطرة عنده ولا يقدر على تناول شيء منها ، وربما نرى إنساناً كامل القوة صحيح المزاج شديد البطش ولا يجد ملء بطنه طعاماً . وللمفسرين في الآية قولان : أحدهما أن المراد تقرير كون السعادة والنحوسة والغنى والفقر بقسمة الله تعالى ، وأنه جعل بعض الناس موالي وبعضهم مماليك وليس المالك رازقاً للعبد وإنما الرازق للعبد والمولى هو الله ، فلا تحسبن الموالي المفضلين أنهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً من الرزق وإنما ذلك رزقي لهم أجريته لهم على أيديهم . وثانيهما أن المراد الرد على من أثبت لله شريكاً كالصنم أو كعيسى ، فضرب له مثلاً فقال : أنتم لا تسوّون بينكم وبين عبيدكم فيما أنعمت به عليكم ولا تردّون رزقكم عليهم حتى تتساووا في المطعم والملبس . فالفاء في قوله : { فهم فيه سواء } للتعليل . ولك أن تقول بمعنى « حتى » أي حتى يكون عبيدهم معهم سواء في الرزق ، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟! « عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في العبيد : » إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون «
فما رؤي عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزاره من غير تفاوت { أفبنعمة الله } وهي أنه جعلهم موالي مفضلين لا عبيداً مفضولين { يجحدون } أو جعل عدم التسوية بينهم وبين عبيدهم من جملة جحود النعمة ، أو جعل اعتقاد أهلية العبادة لغير الله كفراً بنعمة الله والجحود في معنى الكفران فلذلك عداه بالباء . قال أبو عبيدة وأبو حاتم . قراءة الغيبة - وهي الكثرى - أولى لقرب المخبر عنه ، ولأنه لو كان خطاباً كان ظاهره للمسلمين وإنهم لا يخاطبون بجحد نعمة البتة . الحالة الأخرى من أحوال الإنسان قوله عم طوله : { والله جعل لكم من أنفسكم } أي من جنسكم { أزواجاً } ليكون الأنس به أتم . ولا ريب أن تخليق الذكور والإناث مستند إلى قدرة الله وتكوينه . والطبيعيون قد يذكرون له وجهاً قالوا : إن المني إذا انصب من الخصية اليمنى إلى الذكر ثم انصب منه إلى الجانب الأيمن من الرحم كان الولد ذكراً تاماً في الذكورة بناء على أن الذكر أسخن مراجاً وكذا الجانب الأيمن ، وإن انصب من الخصية اليسرى إلى الجانب الأيسر من الرحم كان الولد تاماً في الأنوثية ، وإذا انصب من اليمنى إلى الأيسر كان ذكراً في طبيعة الإناث ، وإن كان بالعكس كان بالعكس . قال الإمام فخر الدين الرازي : هذه العلة ضعيفة فقد رأينا في النساء من كان مزاجه في غاية السخونة وفي الرجال من كان في غاية البرودة . ولقائل أن يقول : الكلام في المزاج الصنفي لا في المزاج الشخصي ، وهذا الإمام لم يفرق بينهما فاعترض بأحدهما على الآخر . { وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة } أصل الحفد الإسراع في الخدمة . والفاعل حافد والجمع حفدة . فقيل : أراد بها في الآية الأختان على البنات . وقيل : أولاد الأولاد . وقيل : أولاد المرأة من الزوج الأوّل وقيل : الخدم والأعوان . وقيل : البنون أنفسهم الجامعون بين الأمرين البنوّة والخدمة . وقيل : الأولى دخول الكل فيه . ثم ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطيبة لأن لذة المنكوح لا تهنأ إلا بعد الفراغ من لذة المطعوم أو بعد الفراغ من تحصيل أسبابها . وأورد « من » التبعيضية لأن لذة كل الطيبات لا تكون إلا في الجنة . ثم ختم الآية بقوله : { أفبالباطل يؤمنون } فقيل : الباطل هو ما اعتقدوه من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ونعمة الله ما عدده في الآيات السابقة . وقيل : الباطل ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم . وإنما قال ههنا : { وبنعمة الله هم يكفرون } وفي آخر « العنكبوت » { وبنعمة الله يكفرون } [ الآية : 67 ] لأن تلك الآيات استمرت على الغيبة فلم يحتج إلى زيادة ضمير الغائب . وأما في الآية فقد سبق مخاطبات كثيرة فلم يكن بد من ضمير الغائب المؤكد لئلا يلتبس بالخطاب .
ولما عدّد بعض الآيات الدالة على الإقرار بالتوحيد أنكر صنيع أهل الشرك عليهم قائلاً { ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقاً } قال جار الله : إن كان بمعنى المصدر نصبت به شيئاً أي لا يملك أن يرزق شيئاً ، وإن أردت المرزوق كان شيئاً بدلاً منه بمعنى قليلاً أو يكون تأكيداً للا يملك أي لا يملك شيئاً من الملك . و { من السموات والأرض } صلة للرزق إن كان مصدراً بمعنى لا يرزق من السموات مطراً ولا من الأرض نباتاً وصفة إن كان اسماً لما يرزق . أما الضمير في { ولا يستطيعون } فعائد إلى ما بعد أن قيل لا يملك على اللفظ المفرد وجمع بالواو والنون بناء على زعمهم أن الأصنام آلهة . والفائدة في نفي الاستطاعة عنهم أن من لا يملك شيئاً قد يكون موصوفاً باستطاعة أن يتملك بطريق من الطرق ، فبيّن تعالى أنها لا تملك ولا تستطيع تحصيل الملك . وجوّز في الكشاف أن يكون الضمير للكفار أي لا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون فكيف بالجماد الذي لا حس له؟ { فلا تضربوا لله الأمثال } أي لا تشبهوه بخلقه فإن ضارب المثل مشبه حالاً بحال وقصة بقصة . وقال الزجاج : لا تجعلوا لله مثلاً لأنه واحد لا مثل له . وكانوا يقولون إن إله العالم أجل من أن يعبده الواحد منا فكانوا يتوسلون إلى الأصنام والكواكب ، كما أن أصاغر الناس يخدمون أكابر حضرة الملك ، وأولئك الأكابر يخدمون الملك فنهوا عن غير الحنيفية والإخلاص . وعلل النهي بقوله : { إن الله يعلم } ما عليكم من العقاب { وأنتم لا تعلمون } ما في عبادتها من العذاب . وفيه أن القياس الذي توهموه ليس بصحيح والنص يجب تقديمه على ذلك . وقيل : إن الله يعلم كيف يضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون . ثم علمهم كيف تضرب فقال : { ضرب الله مثلاً } ثم أبدل من المثل قوله : { عبداً مملوكاً } لا حراً فإن جميع الناس عبيد لله فلا يلزم من كونه عبداً كونه مملوكاً . وقوله : { لا يقدر على شيء } ليخرج العبد المأذون والمكاتب فإنهما يقدران على التصرف . احتج الفقهاء بالآية على أن العبد لا يملك شيئاً وإن ملكه السيد لأن قوله : { لا يقدر } حكم مذكور عقيب الوصف المناسب ، فدل على أن العبدية أينما وجدت فهي علة للذل والمقهورية وعدم القدرة ، فثبت العموم وهو أن كل عبد فهو لا يقدر على التصرف . وأيضاً قوله : { ومن رزقناه منا رزقاً حسناً } يقتضي أن لا يحصل للقسم الأوّل هذا الوصف . فلو ملك العبد شيئاً ما صدق عليه أن الله قد آتاه الرزق الحسن فلم يثبت الامتياز ، والأكثرون على أن عدم اقتدار العبد مخصوص بماله تعلق بالمال . وعن ابن عباس أنه لا يملك الطلاق أيضاً .
قال جار الله : الظاهر أن « من » في قوله : { ومن رزقناه } موصوفة كأنه قيل : وحراً رزقناه ليطابق عبداً . ولا يمتنع أن تكون موصولة . وجمع قوله : { هل يستوون } لأنه أراد الأحرار والعبيد . وللمفسرين في مضرب المثل أقوال : فالأكثرون على أنه أراد أنا لو فرضنا عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ، وفرضنا حراً كريماً غنياً كثير الإنفاق سراً وجهراً ، فصريح العقل يشهد بأنه لا يجوز التسوية بينهما مع استوائهما في الخلقة والصورة ، فكيف يجوز للعاقل أن يسوّى بين الله القادر على الرزق والإفضال وبين الأصنام التي لا تملك ولا تقدر ألبتة؟! وقيل : العبد المملوك هو الكافر المحروم عن طاعة الله وعبوديته ، والآخر هو المؤمن المشتغل بالتعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله . والغرض أنهما لا يستويان في الرتبة والشرف والقرب من رضوان الله . وقيل : العبد هو الصنم لقوله : { إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً } [ مريم : 93 ] . والثاني عابد الصنم . والمراد أنهما لا يستويان في القدرة والتصرف . لأن الأوّل جماد وهذا إنسان فكيف يجوز الحكم بأن الأول مساوٍ لرب العالمين؟! .
{ الحمد لله } قال ابن عباس : أراد الحمد لله على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتوحيد . وقيل : معناه كل الحمد لله وليس شيء من الحمد للأصنام لأنه لا نعمة لها على أحد { بل أكثرهم لايعلمون } أن كل الحمد لي . وقيل : أراد قل الحمد لله . والخطاب إما للرسول صلى الله عليه وسلم وإما لمن رزقه الله رزقاً حسناً وميزه بالقدرة والاختيار والتصرف من العبد الذليل الضعيف . وقيل : لما ذكر مثلاً مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود قال : { الحمد لله } أي على قوة هذه الحجة وظهور هذه البينة { بل أكثرهم لا يعلمون } قوّتها وظهورها . ثم ضرب مثلاً ثانياً لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية وللأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع بل يصل منها إلى من يعبدها أعظم المضار . أما تفسير الألفاظ فالأبكم العي المفحم وقد بكم بكماً وبكامة . وقيل : هو الأقطع اللسان الذي لا يحسن الكلام . وروى ثعب عن ابن الأعرابي أنه الذي لا يسمع ولا يبصر . وقوله : { وهو كلٌّ على مولاه } أصله من الغلظ الذي هو نقيض الحدة . يقال : كَلَّ السكين إذا غلظت شفرته ، وكَلَّ اللسان إذا غلظ فلم يقدر على الكلام ، وكَلَّ فلان عن الكلام إذا ثقل عليه ولم ينبعث فيه ، وفلان كَلٌّ على مولاه أي ثقيل وعيال على من يلي أمره . وقوله : { أينما يوجهه } حيثما يرسله { لا يأت بخير } لم ينجح في مطلبه . والتوجيه أن ترسل صاحبك في وجه معين من الطريق { هل يستوي هو } أي الموصوف بهذه الصفات المذكورة . { ومن يأمر } الناس { بالعدل وهو } في نفسه { على صراط مستقيم } على سيرة صالحة ودين قويم غير منحرف إلى طرفي الإفراط والتفريط .
ولا شك أن الآمر بالعدل يجب أن يكون عالماً حتى يمكنه التمييز بين العدل والجور . قادراً حتى يتأتى منه الإتيان بالخير والأمر به ، وكلا الوصفين يناقض كونه أبكم لا يقدر . قال مجاهد : هذا مثل لإله الخلق وما يدعى من دونه . أما الأبكم فمثل الصنم لأنه لا ينطق ألبتة ولا يقدر على شيء وهو كَلٌّ على عابديه لأنه لا ينفق عليهم وهم ينفقون عليه وإلى أيّ مهم يوجه الصنم لا يأتي بخير ، وأما الذي يأمر بالعدل فهو الله سبحانه . وروى الواحدي بإسناده عن عكرمة عن ابن عباس قال : نزلت الآية المتقدمة في هشام بن عمرو وهو الذي ينفق ماله سراً وجهراً ، ومولاه أبو الحوار الذي كان ينهاه عنه . وهذه الآية نزلت في سعيد بن أبي العيص وفي عثمان بن عفان مولاه . والأصح أن المقصود من الآية الأولى كل عبد موصوف بالصفات الذميمة وكل حر موصوف بالخصال الحميدة . ومن الآية الثانية كل رجل جاهل عاجز وكل من هو بضد ذلك من كونه شامل العلم كامل القدرة وليس إلا الله سبحانه فلذلك مدح نفسه بقوله : { ولله غيب السموات والأرض } أي يختص به علم ما غاب عنه العباد فيهما ، أو أراد بغيبهما يوم القيامة لأن علمه غائب عن غير الله ويؤيد هذا التفسير قوله : { وما أمر الساعة إلا كلمح البصر } اللمح النظر بسرعة ولا بد فيه من زمان تتقلب فيه الحدقة نحو المرئي وكل زمان قابل للتجزئة فلذلك قال : { أو هو أقرب } وليس هذا من قبيل المبالغة وإنما هو كلام في غاية الصدق لأن مدّة ما بين الخطاب وقيام الساعة متناهية ، ومنها إلى الأبد غير متناه ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . وقيل : معنى أمر الساعة أن إماتة الأحياء وإحياء الأموات كلهم يكون في أقرب وقت وأقله . ثم أكده بقوله : { إن الله على كل شيء قدير } .
ثم زاد في التأكيد بذكر حالة أخرى للإنسان دالة على غاية قدرته ونهاية رأفته فقال : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } قال جار الله : هو في موضع الحال أي غير عالمين شيئاً من حق المنعم الذي خلقكم في البطون وسوّاكم وصوّركم ثم أخرجكم من الضيق إلى السعة . وقوله : { وجعل لكم } معناه وما ركب فيكم هذه الأشياء إلا آلات لإزالة الجهل الذي ولدتم عليه واجتلاب العلم والعمل به من شكر المنعم وعبادته والقيام بحقوقه والترقي إلى ما يسعدكم . { والأفئدة } في فؤاد كالأغربة في غراب ، وهو من جموع القلة التي تستعمل في مقام الكثرة أيضاً لعدم ورود غيرها . واعلم أن جمهور الحكماء زعموا أن الإنسان في مبدأ فطرته خال عن المعارف والعلوم إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر والفؤاد وسائر القوى المدركة حتى ارتسم في خياله بسبب كثرة ورود المحسوسات عليه حقائق تلك الماهيات وحضرت صورها في ذهنه ، ثم إن مجرد حضور تلك الحقائق إن كان كافياً في جزم الذهب بثبوت بعضها لبعض أو انتفاء بعضها عن بعض فتلك الأحكام علوم بديهية ، وإن لم تكن كذلك بل كانت متوقفة على علوم سابقة عليها ولا محالة تنتهي إلى البديهيات قطعاً للدور أو التسلسل فهي علوم كسبية .
وظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النفوس الإنسانية هو أن الله تعالى أعطى الحواس والقوى الدرّاكة للصور الجزئية . وعندي أن النفس قبل البدن موجودة عالمة بعلوم جمة وهي التي ينبغي أن تسمى بالبديهيات ، وإنما لا يظهر آثارهاعليها عند انفصال الجنين من الأم لضعف البدن واشتغالها بتدبيره ، حتى إذا قوي وترقى ظهرت آثارها شيئاً فشيئاً وقد برهنا على هذه المعاني في كتبنا الحكمية . فالمراد بقوله : { لا تعلمون شيئاً } أنه لا يظهر أثر العلم عليكم . ثم إنه بتوسط الحواس الظاهرة والباطنة يكتسب العلوم المتوقفة على التعلق . ومعنى { لعلكم تشكرون } إرادة أن تصرفوا كل آلة فيما خلقت لأجله . وليس الواو للترتيب حتى يلزم من عطف { جعل } على { أخرج } أن يكون جعل السمع والبصر متأخراً عن الإخراج من البطن ، وقد مر في أول البقرة في تفسيره قوله : { ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم } [ البقرة : 7 ] أنه لم وحد السمع وجمع غيره؟ ثم ذكر دليلاً آخر على كمال قدرته فقال : { ألم يروا إلى الطير مسخرات } مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة وسائر الأسباب المواتية لذلك كرقة قوام الهواء وإلهامهن بسط الجناح وقبضه فيه عمل السابح في الماء . وفي { جوّ السماء } أي في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلو وهو مضاعف عينه ولامه واو { ما يمسكهن إلا الله } بقدرته أو بإعطاء الآلات التي لأجلها يتسهل عليها الطيران . ومن جملة أحوال الإنسان قوله : { والله جعل لكم من بيوتكم سكناً } هو ما يسكن إليه من بيت أو إلف { جعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً } هي القباب والأبنية من الأدم والأنطاع { تستخفونها } أي تعدونها خفيفة المحمل في الضرب والنقض والنقل { يوم ظعنكم } أي في وقت ارتحالكم . والظعن بفتح العين وسكونها سير أهل البادية لنجعة ، ثم استعمل في كل شخوص لسفر . { ويوم إقامتكم } لا يثقل عليكم حفظها ونقلها من مكان إلى مكان ، ويمكن أن يكون اليوم على حقيقته أي يوم ترجعون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها { ومن أصوافها } وهي للضأن { وأوبارها } وهي للإبل { وأشعارها } وهي للمعز { أثاثاً } وهو متاع البيت . قال الفراء لا واحد له . وقال أبو زيد : الأثاث المال أجمع الإبل والغنم والعبيد والمتاع الواحدة أثاثة . قال ابن عباس : أراد طنافس وبسطاً وثياباً وكسوة .
وقال الخليل : أصله من أن النبات والشعر يئث إذا كثر . قيل : إنه تعالى عطف قوله : { ومتاعاً } على { أثاثاً } فوجب أن يتغايرا فما الفرق؟ وأجيب بأن الأثاث ما يكتسي به المرء ويستعمله من الغطاء والوطاء . والمتاع ما يفرش في المنازل ويتزين به . قلت : لا يبعد أن يراد بالأثاث والمتاع ما هو الجامع بين الوصفين كونه أثاثاً وكونه مما يتمتع به { إلى حين } أي إلى أن تقضوا أوطاركم منه أو إلى أن تبلى وتفنى أو إلى الموت أو إلى القيامة .
ثم إن المسافر قد لا يكون له خيام وأبنية يستظل بها لفقر أو لعارض آخر فيحتاج إلى أن يستظل بشجر أو جدار أو غمام ونحوها فذلك قال : { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } وقد يحتاج المسافر إلى حصن يأوي إليه في نزوله وإلى ما يدفع به عن نفسه آفات الحر والبرد وسائر المكاره وكذا المقيم فلذلك منّ بقوله : { وجعل لكم من الجبال أكناناً } هي جمع « كن » وهو ما يستكن به ويتوقى بسببه الأمطار كالبيوت المنحوته في الجبال وكالغيران والكهوف { وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر } وهي القمصان والثياب من الصوف والقطن والكتان وغيرها . وإنما لم يذكر البرد لأن الوقاية من الحر أهم عندهم لغلبة الحرارة في بلادهم على أن ذكر أحد الضدين يغني في الأغلب عن ذكر الآخرة لتلازمهما في الخطور بالبال غالباً بشهادة الوجدان . قال الزجاج : كل ما لبسته فهو سربال فعلى هذا يشمل الرقيق والكثيف والساذج والمحشوّ من الثياب { وسرابيل تقيكم بأسكم } كالدروع والجواشن { كذلك يتم نعمته } أي مثل ما خلق هذه الأشياء لكم وأنعم بها عليكم فإنه يتم نعم الدين والدنيا { لعلكم تسلمون } قال ابن عباس : لعلكم يا أهل مكة تخلصون لله الربوبية وتعلمون أنه لا يقدر على هذه الإنعامات سواه . وعنه أنه قرأ بفتح التاء واللام من السلامة أي تسلم قلوبكم من الشرك ، أو تشكرون فتسلمون من العذاب . وقيل : تسلمون من الجرح بلبس الدروع { فان تولوا } فقد تمهد عذرك { فإنما عليك البلاغ المبين } وليس إليك الهداية . ثم ذمهم بأنهم { يعرفون نعمة الله } التي عددناها حيث يعترفون بها وبأنها من عند الله { ثم ينكرونها } بعبادة غير من أنعم بها وبقولهم هي من الله ولكنها بشفاعة آلهتنا . ومعنى « ثم » تبعيد رتبة الإنكار عن العرفان : وقيل : إنكارها قولهم ورثناها من آبائنا أو وصل إلينا بتربية فلان ، أو أنهم لا يستعملونها في طلب رضوان الله . وقيل : نعمة الله نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفونه ثم ينكرون نبوّته عناداً . وإنما قال : { وأكثرهم الكافرون } لأنه استعمل الأكثر مقام الكل أو أراد البالغين العقلاء منهم دون الأطفال والمجانين ، أو أراد كفر الجحود ولم يكن كفر كلهم كذلك بل كان فيهم من كفر للجهل بصدق الرسول ، أو لأنه لم تقم الحجة عليه بعد هذا ما قاله المفسرون .
قلت : ويحتمل أن يراد بالكافرين المصرين الثابتين على كفرهم وقد علم الله أن في مطلق الكفرة من يؤمن فلهذا استثناهم والله تعالى أعلم .
التأويل : فضل الأرواح على القلوب في رزق المكاشفات والمشاهدات بعد الفناء والرد إلى البقاء ، وفضل القلوب على النفوس في رزق الزهد والورع والتقوى والصدق واليقين والإيمان والتوكل والتسليم والرضا ، وفضل النفوس على الأبدان في رزق التزكية والتخلية والتحلية ، وفضل أبدان المؤمنين على أبدان الكافرين بحمل أعباء الشريعة . فما الأرواح برادّي رزقهم على القلوب ، ولا القلوب على النفوس ، ولا النفوس على الأبدان . أفبنعمة الله التي أنعم بها على أوليائه تجحدون يا منكري هذا الحديث { والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً } يعني ازدواج الأرواح والأشباح { وجعل لكم من أزواجكم بنين } وهم القلوب { وحفدة } وهن النفوس { أفبالباطل } وهو الزخارف والوساوس { يؤمنون وبنعمة الله } التي أنعم بها على أرباب القلوب { يكفرون } ويعبدون من دون الله كالدنيا والهوى { ما لا يملك لهم زرقاً } من سموات القلوب وأرض النفوس شيئاً من الكمالات التي أودع الله فيهن ، ولا يستخرج منها إلا بعبادة الله ولا يستطعيون استخراجها بعبادة غير الله { فلا تضربوا لله الأمثال } بأن تريدوا أن تصلوا إلى المقاصد بغير طريق الله { ضرب الله مثلاً عبداً ممولكاً } للهوى وللدنيا { ومن رزقناه } ولاية كاملة يتصرف بها في بواطن المستعدين وظواهرهم . { بل أكثرهم لا يعلمون } أولياء الله لأنهم تحت قباب الله لا يعرفهم غيره . { أحدهما أبكم } هو النفس الحيوانية التي لا تقدر على شيء من العلم والعقل والإيمان وهو ثقل على مولى الروح المسمى بالنفس الناطقة . { لا يأت بخير } لأنها أمارة بالسوء { ولله غيب } سموات الأرواح النفوس لا يقف على خاصيتهما غيره ، ولو وكل كلاً منهما إلى طبعها لم ترجع إلى ربها ، ورجوعها يكون بالإماتة والإحياء ويميتها عن أوصافها ويحييها بصفاته وهو المراد بأمر الساعة لأن الإماتة بتجلي صفات الجلال والإحياء بتجلي صفات الجمال ، وإذا تجلى الله لعبد لم يبق له زمان ولا مكان فلذلك قال : { أو هو أقرب } وحنيئذ يكون فانياً عن وجوده باقياً ببقائه { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } من أمور الدنيا والآخرة ولا مما كانت أرواحكم تعلم في عالم الأرواح ولا مما كانت تعلم ذراتكم من فهم خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] وجواب { بلى } [ الأعراف : 172 ] وجعل لأجسادكم السمع والأبصار والأفئدة كما للحيوانات ولأرواحكم كما للملائكة . ولأسراركم سمعاً يسمع به من الله وبصراً يبصر به الله وفؤاداً يعرف به الله . وبوجه آخر : { والله أخرجكم من العدم وهو الأم الحقيقي ، لا تعلمون شيئاً قبل أن يعلمكم الله سبحانه أسماء كل شيء ، فتجلى لكم بربوبيته فبنور سمعه أعطاكم سمعاً تسمعون به خطاب ألست بربكم ، وبنور بصره أعطاكم بصراً تبصرون به جماله ، وبنور علمه أعطاكم فؤاداً تعرفون به كماله ، وبنور كلامه أعطاكم لساناً .
تجيبونه بقولكم « بلى » { لعلكم تشكرون } فلا تسمعون بهذا السمع إلا كلامه ، ولا تبصرون بهذا البصر إلا جماله ، ولا تحبون بهذا الفؤاد إلا ذاته ، ولا تكلمون بهذا الكلام إلى معه { ألم يروا إلى } طير الأرواح { مسخرات في جوّ } سماء القلوب { ما يمسكهن } في سفل الأجساد { إلا الله } بحكمته فلذلك قال : { والله جعل لكم } أيها الأرواح { من بيوتكم } وهي الأجساد { سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام } التي هي أجساد اشتركت فيها سائر الحيوانات { بيوتاً } تستخف أرواحكم إياها وهي النفوس الحيوانية ، وقواها وقت السير إلى الله والوقفة للاستراحة والتربية { ومن أصوافها } هي الصفات الحيوانية والحواس والقوى { أثاثاً } آلات للسير { ومتعاً } ينتفع بها { إلى حين } الوصول والوصال . { والله جعل لكم مما خلق ظلالاً } أي جعل عالم الخلق ظل عالم الأمر تستظل أيها الأرواح به عند طلوع شمس التجلي وإلا لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره . و { وجعل لكم من } جبال القلوب ما يكن به الأرواح ، وجعل لأرواحكم سرابيل من الصفات البشرية تقيكم حر نار المحبة ، وسرابيل من الصفات الروحانية تقيكم من سهام الوساوس والهواجس كذلك يحفظكم من الآفات من الصفات بالكرامات حتى يتم نعمة الوصول عليكم وتسلموا من قطع الطريق { يعرفون نعمة الله } بتعريفك { وأكثرهم الكافرون } بك وبنعمة الله إظهاراً للقهر والله أعلم .
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
القراآت : { ولنجزين } بالنون : ابن كثير وعاصم ويزيد وعباس والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون بالياء . { قرأت القرآن } مثل { أنشأنا } .
الوقوف : { يستعتبون } 5 { ولا هم ينظرون } 5 { من دونك } ج لاختلاف الجملتين مع الفاء { لكاذبون } 5 ج للعطف مع أنه رأس آية { يفترون } 5 { يفسدون } 5 { على هؤلاء } ط لواو الاستئناف { للمسلمين } 5 { والبغي } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { تذكرون } 5 ط { كفيلاً } 5 ط { تفعلون } 5 { أنكاثاً } ط بناء على أن التقدير أتتخذون { من أمة } ط { به } ط { تختلفون } 5 { ويهدي من يشاء } ط { تعملون } 5 { عن سبيل الله } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { عظيم } 5 { قليلاً } ط { تعلمون } 5 { باق } ط { يعلمون } 5 { طيبة } ج للعدول عن الوحدان إلى الجمع مع أنهما ضميراً من { يعملون } 5 { الرحيم } 5 { يتوكلون } 5 { مشركون } 5 .
التفسير : لما بين من حال القوم أنهم عرفوا نعمة الله ثم أنكروها وأن أكثرهم كافرون أتبعه أصناف وعيد يوم القيامة والتقدير { و } اذكر { يوم نبعث من كل أمة شهيداً } أو يوم وقعوا فيما وقعوا فيه . وشهيد كل أمة نبيها يشهد لهم وعليهم بالإيمان والتصديق والكفر والتكذيب { ثم لا يؤذن للذين كفروا } أي في الاعتذار إذ لا حجة لهم ولا عذر ، أو في كثرة الكلام ، أو في الرجوع إلى دار الدنيا ، أو إلى التكليف ليظهر لهم كونهم آيسين من رحمة الله تعالى ، أو المراد أن يسكت أهل الجمع كلهم حتى يشهد الشهود . { ولا هم يستعتبون } لأن العتاب إنما بطلب لأجل العود إلى الرضا ، فإذا كان على عزم السخط فلا فائدة في العتاب فلهذا قيل :
إذا ذهب العتاب فليس ود ... ويبقى الود ما بقي العتاب
وقال في الكشاف : أي لا يقال لهم أرضوا ربكم لأن الآخرة ليست بدار عمل . ومعنى « ثم » أن المنع من الكلام أصعب من شهادة الأنبياء عليهم . { وإذا رأى الذين ظلموا } وهم المشركون { العذاب } بعينهم وثقل عليهم { فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون } ليتوبوا فإن التوبة هناك غير موجودة أو غير مقبولة وفيه أنت عذابهم خالص عن النفع دائم كما يقوله المتكلمون . { وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم } وهي الأصنام أو الشياطين الذين دعوا الكفار إلى الكفر وكانوا قرناءهم في الغي . قاله الحسن . { قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا } أي نعبدهم من دونك . قال أبو مسلم الأصبهاني : مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على تلك الأصنام ظناً منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله أو ينقص منه ، وزيفه القاضي بأن الكفار يعلمون في الآخرة علماً ضرورياً أن العذاب ينزل بهم ولا نصرة ولا شفاعة فما الفائدة في هذا القول؟ والإنصاف أن الغريق يتعلق بكل شيء والمبهوت قد يقول ما لا فائدة فيه ، على أن العلم الضروري الذي ادعاه القاضي ممنوع .
وقيل : إن المشركين يقولون هذا الكلام تعجباً من حضور تلك الأصنام مع أنه لا ذنب لها واعترافاً بأنهم كانوا خاطئين في عبادتها . { فألقوا إليهم القول } أي قال الأصنام أو الشياطين للكفار { إنكم لكاذبون } فإن قيل : إن المشركين أشاروا إلى الأصنام أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم من دونك وقد كانوا صادقين في ذلك فكيف كذبتهم الأصنام؟ فالجواب أن المراد من قولهم : { هؤلاء شركاؤنا } هؤلاء شركاء الله في المعبودية فكذبتهم الأصنام في إثبات هذه الشركة وفي قولهم إنها تستحق العبادة . قال جار الله : إن أراد بالشركاء الشياطين جاز أن يكونوا كاذبين في قوله : { إنكم لكاذبون } كما يقول الشيطان { إني كفرت بما أشركتموني من قبل } [ إبراهيم : 22 ] . { وألقوا إلى الله يومئذ السلم } عن الكلبي : استسلم العابد والمعبود وأقروا لله الربوبية والبراءة من الشركاء والأنداد . وقال آخرون : الضمير اللذين ظلموا . وإلقاء السلم والاستسلام لأمر الله بعد الإباء في الدنيا { وضل } أي غاب { عنهم ما كانوا يفترون } من أن لله شريكاً أو أن آلهتهم تشفع لهم حين كذبوهم وتبرأوا منهم .
{ الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله } قيل : معناه الصد عن المسجد الحرام والأصح العموم { زدناهم عذاباً } لأجل الإضلال . { فوق العذاب } الذي استحقوه للضلال . وأيضاً عذاب الاستنان « من سن سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها » . ومن المفسرين من فصل تلك الزيادة؛ فعن ابن عباس : هي خمسة أنهار من نار تسيل من تحت العرش يعذبون بها ، ثلاثة على مقدار الليل واثنان على مقدار النهار . وقيل : حيات أمثال البخت وعقارب أشباه البغال أنيابها كالنخل الطوال تلسع إحداهن اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفاً . وقيل : يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة برده إلى النار . ثم علل زيادة عذابهم بكونهم مفسدين أمور الناس بالصد والإضلال فيعلم منه أن من دعا إلى الدين القويم باليد واللسان فإنه يزيده الله تعالى أجراً على أجر . ثم أعاد حكاية بعث الشهداء لما نيط بها من زيادة فائدتين : إحداهما كون الشهداء من أنفسهم لأن كل نبي فهو من جنس أمته ، والأخرى أن الشيهد يكون وقتئذ في الأمة لا مفارقاً إياهم . وفسر الأصم الشهيد في هذه الآية بأنه تعالى ينطق عشرة من أعضاء الإنسان حتى تشهد عليه وهن : الأذنان والعينان والرجلان واليدان والجلد واللسان . ولهذا ذكر لفظة « في » ووصف الشيهد بكونه من أنفسهم . ثم شرف نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله : { وجئنا بك شهيداً على هؤلاء } أي على أمتك . . ولا ريب أن في تخصيصه بعد التعميم دلالة على فضله نظيره قوله في سورة النساء : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً }
[ النساء : 41 ] قال الإمام فخر الدين الرازي . الأمة عبارة عن القرن والجماعة فيعلم من الآية أنه لا بد في كل عصر من أقوام تقوم الحجة بقولهم ويكونون شهداء على غيرهم وهم أهل الحل والعقد فيكون إجماعهم حجة . ولقائل أن يقول : الأمة في الآية هي الجماعة الذين بعث النبي إليهم وإلى من سيوجد منهم إلى آخر زمان دينه ، فيكون نبي تلك الأمة وحده شهيداً عليهم . ولا دلالة للآية إلا على هذا القدر فمن أين حل لك أن إجماع أهل الحل والعقد في كل عصر حجة؟ ثم بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا فيه فلا حجة لهم ولا معذرة فقال : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } أي بياناً له والتاء للمبالغة ونظيره من المصادر « التلقاء » ولم يأت غيرهما وقد مر في « الأعراف » . قال الفقهاء . إنما كان القرآن بيان جميع الأحكام لأن الأحكام المستنبطة من السنة والإجماع والقياس والاجتهاد كلها تستند إلى الكتاب حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته ، وورد فيه : { ويتبع غير سبيل المؤمنين } [ النساء : 115 ] وجاء { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] .
وقال آخرون : إن علم أصول الدين كلها في القرآن . وأما علم الفروع فالأصل براءة الذمة إلا ما ورد به نص القرآن فإذن القرآن وافٍ ببيان جميع الأحكام ، والقياس ضائع ولعل التبيان إنما هو للعلماء خاصة ، والهدى لجميع الخلق في أوّل أحوالهم ، والرحمة في وسطها وهو مدة العمر بعد الإسلام ، والبشرى في أوان الأجل كما قال سبحانه : { إن الذين قالوا ربنا الله } [ فصلت : 30 ] إلى قوله : { وأبشروا } [ فصلت : 30 ] والله أعلم بمراده .
وِلما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقاً لذلك فقال : { أن الله يأمر } الآية ، عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أوّلاً إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتقرر الإسلام في قلبي . فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ثم خفضه عن يمينه ثم عاد لمثل ذلك فسألته فقال : بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه السلام نزل عن يميني فقال : يا محمد { إن الله يأمر بالعدل } الآية . قال عثمان : فمن وقته استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم . وعن ابن مسعود : هي أجمع آية في القرآن . وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية ، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها . قال المفسرون : العدل هو أداء الفرائض . وعن ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله { والإحسان } هو الإتيان بالمندوبات والمستحسنات شرعاً وعرفاً وأقربها صلة الرحم بالمال فلذلك أفردها بالذكر بقوله : { وإيتاء ذي القربى } والفحشاء هي الأمور المتزايدة في القبح فلذلك أفردها بالذكر وهي الكبائر .
وقد يخص بالزنا أو بالبخل والمنكر ما تنكره العقول ولا يعرف في شريعة ولا سنة والبغي هو الاستطالة . قال جار الله : حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها . واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ولنذكر له أمثلة : أما في الاعتقادات فالقول بنفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد تشريك وتعجيز ، والعدل هو قول : « لا إله إلا الله » . كما نقل عن ابن عباس ، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب . ثم إن الأشعري يقول : القول بنفي الصفات عنه سبحانه تعطيل ، والقول بإثبات المكان والأعضاء تشبيه ، والعدل إثبات صفات الكمال من الحياة والعلم والقدرة والارادة والسمع والبصر والكلام ونفي غيرها . وبوجه آخر . نفي الصفات تعطيل ، وإثبات الصفات الحادثة تشبيه ، العدل إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة . وأيضاً القول بأن العبد لا قدرة له أصلاً جبر محض ، والقول بأنه مستقل في التصرف قدر محض وتفويض ، والعدل أمر بين الأمرين وهو أن العبد يفعل الأفعال ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه . وأيضاً القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان . والمعتزلي يقول : العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مراراً . وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوماً من نفاة التكليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي . وقال : قوم من الهند وطائفة من المانوية : يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ويبالغ في تعذيب نفسه ، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج ، والأولى بالمرء أن يختصي فهذان الطريقان مذمومان والوسط هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لأن التشديد غالب في دين موسى فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ويحرم مخالطة الحائض ، والتساهل في دين عيسى غالب فلا قصاص على القاتل ولا يحرم وطء الحائض ، والعدل ما حكم به شرعنا من جواز العفو وأخذ الدية وحرمة وطاء الحائض دون مخالطتها ، ولذلك قال : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ، وقال : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } [ الفرقان : 67 ] ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قيل له : { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى }
[ طه : 1 ] ولما أخذ قوم في المساهلة نزل : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] والمراد رعاية الوسط في كل الأمور وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء : الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس فإذا قطعت تلك الجلدة بقي رأسه عارياً فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها فيضعف حسه ويقل شعوره فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه . فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم ، والوسط العدل هو الختان . هذا ما قيل . وعندي أن الحكمة في الختان بعد التعبد هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل . ومن الكلمات المشهورة قولهم : « بالعدل قامت السموات والأرضون » . ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية لا ستولى الغالب على المغلوب وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحتراق كل ما في هذا العالم ، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ومراتب سرعتها وإبطائها فإن كلاً منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه . فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل .
وأما الإحسان فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ومن هنا قال : « الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه » فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال فلا جرم أفرد بالذكر كما مر . ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعاً : الشهوية البهيمية والغضبية السبعية والوهمية الشيطانية والعقلية الملكية . وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب لأنها من نتائج الأرواح القدسية ، وأما الثلاث الأول فتحتاج إلى التأديب والتهذيب بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة . والنهي عن الفحشاء عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة ، والنهي عن المنكر عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق ، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية كالاستعلاء على الناس والترفع وحب الرياسة والتقدم ممن ليس أهلاً لذلك ، واخس هذه المراتب عند العقلاء القوة الشهوانية ، وأوسطها الغضبية ، وأعلاها الوهمية فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي ، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية لا جرم ختمها بقوله : { يعظكم لعلكم تذكرون } لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة . قال الكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً .
واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد - والتذكر من فعل الله بالاتفاق لا من فعل العبد - أن يطلب الله منه التذكر فإن طلب ما ليس في وسعه محال . فمعنى { لعلكم تذكرون } إرادة أن تكونوا على حالة التذكر لا إرادة أن تحصلوا التذكر .
ثم خص من جملة المأمورات الوفاء بالعهد فقال : { وأوفوا بعهد الله } خصصه جار الله بالبيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] . وقال الأصم : المراد منه الجهاد وما فرض الله في الأموال من حق الشرائع . وقيل : هو اليمين والأصح العموم وهو كل عهد يلتزمه الإنسان باختياره بدليل قوله : { إذا عاهدتم } وقوله من قال : العهد هو اليمين يلزم منه أن يكون قوله سبحانه : { ولا تنقضوا الأَيمان بعد توكيدها } أي بعد توثيقها باسم الله تكراراً . وأكد ووكد لغتان فصيحتان . قال الزجاج : الأصل الواو والهمزة بدل . وفي الآية دلالة على الفرق بين الأيمان المؤكدة وبين لغو اليمين كقولهم « لا والله » و « بلى والله » . وأيضاً الآية من العمومات التي دخلها التخصيص لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فيأت بالذي هو خير ثم ليكفر » وقد مر بحث الأيمان في « البقرة » وفي « المائدة » في قوله : { لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } [ الآية : 225 ] الآية . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } أي شاهداً ورقيباً لأن الكفيل مراع لحال المكفول به . { إن الله يعلم ما تفعلون } فيجازيكم بحسب ذلك خيراً وشراً . وفيهترغيب وترهيب . ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض بقوله : { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة } أي من بعد قوّة الغزل بإمرارها وفتلها . قال الزجاج : انتصب { أنكاثاً } على المصدر لأن معنى نقضت نكثت . وزيف بأن { أنكاثاً } ليس مصدراً وإنما هو جمع نكث بكسر النون وهو ما ينكث فتله . وقال الواحدي : هو مفعول ثان كما تقول كسره أقطاعاً وفرقه أجزاء أي جعله أقطاعاً وأجزاء فكذا ههنا أي جعلت غزلها أنكاثاً . قلت : ويحتمل أن يكون حالاً مؤكدة . قال ابن قتيبة : هذه الآية متصلة بما قبلها والتقدير : وأوفوا بعهد الله ولا تنقضوا الأيمان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته ثم جعلته أنكاثاً . فعلى هذا المشبه به امرأة غير معينة ، ولا حاجة في التشبيه إلى أن يكون للمشبه به وجود في الخارج . وقيل : المراد امرأة معينة من قريش ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء ، اتخذت مغزلاً قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وهي الحديدة في رأس المغزل وفلكة عظيمة على قدرها ، وكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن .
قال جار الله : { تتخذون } حال و { دخلاً } مفعول ثان لتتخذ أي لا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلاً بينكم أي مفسدة ودغلاً . وقال الواحدي : أي غشاً وخيانة . وقال الجوهري : أي مكراً وخديعة . وقال غيره : الدخل ما أدخل في الشيء على فساد . وقوله : { أن تكون } أي لأن تكون { أمة } يعني جماعة قريش هي أربى أزيد وأوفر عدداً ومالاً { من أمة } هي جماعة المؤمنين . قال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء ثم يجدون من كان أعز منهم وأشرف فينقضون حلف الأولين ويحالفون الذين هم أعز وأمنع . { إنما يبلوكم الله به } أي بما يأمركم وينهاكم . وقد تقدم ذكر الأمر والنهي . وقال جار الله : الضمير لقوله : { أن تكون } لأنه في معنى المصدر أي يختبركم بكونهم أربى لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء مع قلة المؤمنين وفقرهم أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم .
ثم حذرهم من مخالفة ملة الإسلام وأنذرهم بقوله : { وليبينن لكم يوم القيامة } بإظهار الدرجات والكرامات للأولياء وتعيين الدركات والبليات للأشقياء . { ما كنتم فيه تختلفون } حيث تدعون أنكم على الحق والمؤمنون على الباطل فتنقضون عهودهم . ثم بين أنه سبحانه قادر على أن يجمع المؤمنين والكافرين على الوفاء وسائر أبواب الإيمان ولكنه بحكم الإلهية { يضل من يشاء ويهدي من يشاء } والمعتزلة حملوا المشيئة على مشيئة الإلجاء بدليل قوله : { ولتسئلن عما كنتم تعملون } ولو كانت أعمال العباد بخلق الله تعالى لكان سؤالهم عبثاً . أجابت الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل . روى الواحدي أن عزيراً قال : يا رب خلقت الخلق فتضل من تشاء وتهدي من تشاء . فقال : يا عزير أعرض عن هذا فأعاده ثانياً فقال : أعرض عن هذا وإلا محوت اسمك من النبوّة . قال المفسرون : لما نهاهم عن نقض مطلق الأيمان أراد أن ينهاهم عن نقض أيمان مخصوصة أقدموا عليها وهو نقض بيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والدليل على هذا التخصيص قوله : { فتزلَّ قدم بعد ثبوتها } لأن هذا الوعيد لا يليق بنقض عهد قبيله وإنما يليق بنقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم . قال جار الله : وحدت القدم ونكرت لاستعظام أن تزل قدم واحدة عن طريق الحق بعد أن ثبتت عليه فكيف بأقدام كثيرة . وهذا مثل يضرب لمن وقع في بلاء بعد عافية ، ولا ريب أن من نقض عهد الإسلام وزلت قدمه عن محجة الدين القويم فقد سقط من الدرجات العالية إلى الدركات الهاوية بيانه قوله : { وتذوقوا السوء } في الدنيا { بما صددتم } بصدودكم أو بصدكم غيركم { عن سبيل الله } لأن المرتد قد يقتدي به غيره . { ولكم عذاب عظيم } في الآخرة . ويحتمل أن يراد أن ذلك السوء الذي تذوقونه هو عذاب عظيم . قال جار الله : كان قوم أسلموا بمكة ثم زين لهم الشيطان نقض البيعة لكونهم مستضعفين هناك فأوعدهم الله على ذلك ، ثم نهاهم عن الميل إلى ما كان يعدهم قريش من عرض الدنيا إن رجعوا عن الإسلام فقال : { ولا تشتروا } الآية .
ثم ذكر دليلاً قاطعاً على أن ما عند الله خير فقال : { ما عندكم ينفد وما عند الله } من خزائن رحمته { باق } وفيه دليل على أن نعيم الجنة باقٍ لأهلها لا ينقطع . وقال جهم بن صفوان : إنه منقطع والآية حجة عليه { ولنجزين الذين صبروا } على ما التزموه من شرائع الإسلام { أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } أي بالواجبات والمندوبات لا بالمباحات فإنه لا ثواب على فعلها ولا عقاب ، أو نجزيهم بجزاء أشرف وأوفر من عملهم كقوله : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } [ الأنعام : 160 ] . ثم عمم الوعد على أي عمل صالح كان فقال : { من عمل صالحاً } ولا كلام في عمومه إلا أنه زاد قوله : { من ذكر أو أنثى } تأكيداً وإزالة لوهم التخصيص ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم .
ثم جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصالح منتجاً للثواب حيث قال : { وهو مؤمن } فاستدل به على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح فإن شرط الشيء مغاير لذلك الشيء . واختلف في الحياة الطيبة فقيل : هي في الجنة . عن الحسن وسعيد بن جبير وقتادة ، لأن الإنسان في الدنيا لا يخلو من مشقة وأذية ومكروه لقوله تعالى : { يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه } [ الانشقاق : 6 ] بيّن أن هذا الكدح - وهو التعب في العمل - باقٍ إلى أن يصل إلى ربه ، وأما بعد ذلك فحياة بلا موت وغنى بلا فقر وصحة بلا مرض وملك بلا زوال وسعادة بلا انتقال . وقال السدي : إن هذه الحياة في القبر . والأكثرون على أنها في الدنيا لقوله بعد ذلك { ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كان يعملون } وعلى هذا فما سبب طيب الحياة قيل : هو الرزق الحلال . وقيل : عبادة الله مع أكل الحلال . وقيل : القناعة أو رزق يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو : « اللَّهم اجعل رزق آل محمد كفافاً » قال المحققون : وهذا هو المختار لأن المؤمن الذي صلح عمله إن كان موسراً فذاك ، وإن كان معسراً فمعه من القنوع والعفة والرضا بالقضاء ما يطيب عيشه . لأنه الكافر والفاجر فإن الحرص لا يدعه أن يتهنأ بعيشه أبداً ويعظم أسفه على ما يفوته لأنه عانق الدنيا معانقة العاشق لمعشوقه ، بخلاف المؤمن المنشرح قلبه بنور المعرفة والجمال فإنه قلما ينزع لحب الدنيا مالها وجاهها ويستوي عنده وجودها وفقدها وخيرها وشرها ونفعها وضرها . وبركة الصلاح والقنوع مما لا ينكرها عاقل اللَّهم اجعلنا من أهلها . ثم إن ظاهر الآية يقتضي أن العلم الصالح إنما يفيد الأثر المخصوص بشرط الإيمان وظاهر قوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره }
[ الزلزلة : 7 ] يدل على أن العمل الخير مطلقاً يفيد أثراً مطلقاً فلا منافاة بينهما . ثم ذكر الاستعاذة التي هي من جملة الأعمال الصالحة وبها تخلص الأعمال عن الوساوس فقال : { وإذا قرأت القرآن } أي أردت قراءته إطلاقاً لاسم المسبب على السبب . وقد مر بحث الاستعاذة مستوفى في أول هذا الكتاب . { إنه ليس له سلطان } تسلط وولاية { على الذين آمنوا على ربهم يتوكلون } وهذا معنى الاستعاذة . فإن معناها بالحقيقة راجع إلى التبري عما سوى الله والتوجه بالكلية إليه والاعتماد في جميع الأمور عليه . { إنما سلطانه على الذين يتولونه } عن ابن عباس : أي يطيعونه . يقال : توليته أي أطعته . وتوليت عنه أي أعرضت عنه . أما الضمير الواحد في قوله : { والذين هم به مشركون } فقيل : راجع إلى الرب . وقيل : إلى الشيطان أي بسببه .
التأويل : { ويوم نبعث } فيه إشارة إلى أن لأرواح الأنبياء إشرافاً على أممهم في حال حياتهم وبعد وفاتهم ، وفيه أن الدينا مزرعة الآخرة فلا يقبل في القيامة اعتذار { وإذا رأى الذين ظلموا } أي وضعوا الكفر وأعمال الطبيعة موضع الإيمان وأعمال الشريعة { فلا يخفف } عن أرواحهم أثقال الأخلاق المذمية { ولا هم ينظرون } لتبديل مذمومها بمحمودها { وإذا رأى الذين أشركوا } وهم عبدة الدنيا والهوى { إنكم لكاذبون } في أنا دعوناكم إلى عبادتنا فإنا كنا مشغولين بتسبيح الله سبحانه وطاعته { وصدوا عن سبيل الله } منعوا الأرواح والقلوب عن طلب الله { زدناهم } عذاب الحرمان عن الكمال فوق خسران النسيان بإفساد الاستعداد الفطري . { وجئنا بك شهيداً } لأن روحه شاهد على جميع الأرواح والقلوب والنفوس لقوله : « أول ما خلق الله روحي » { تبياناً لكل شيء } يحتاج إليه السالك في أثناء سلوكه { إن الله يأمر بالعدل } وهو وضع الآلات وأسباب تحصيل الكمال في مواضعها بحيث يؤدي إلى مقام الوصال والكمال { والإحسان } وهو أن تحسن إلى الخلق بما أعطاك الله كقوله : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص : 77 ] . وفي قوله : { وإيتاء ذي القربى } إشارة إلى أن من جملة العدالة رعاية حال الأقرب فالأقرب . فيبدأ بتكميل نفسه ثم بما هو أقرب إليه قرباً معنوياً لا صورياً { وينهى عن الفحشاء } وهو صرف ما آتاه الله في غير مصرفها { والمنكر } وهو ضد المعروف وهو أن لا يحسن إلى غيره { والبغي } وهو أن لا يراعي الترتيب المذكور في باب الإرشاد والتكميل . { وأوفوا بعهد الله } يوم الميثاق . { وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً } بجزاء وفائكم { ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها } فيه إشارة إلى حال المريد المرتد { أن تكون أمة } هي أهل الدنيا في الدنيا أعلى حالاً من أمتهم أهل الآخرة . { ولا تتخذا أيمانكم } عهودكم مع المشايخ شبكة تصطادون بها الدنيا . وقبول الخلق فتزل أقدامكم عن صراط الطلب { من ذكر أو أنثى } هما القلب والنفس . والعمل الصالح من النفس استعمال الشريعة والطريقة ، ومن القلب التوجه إلى الله بالكلية ، والحياة الطيبة للنفس أن تصير مطمئنة مستعدة لقبول فيض
{ ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] وللقلب أن يصير فانياً عن أنانيته باقياً بشهود الحق وجماله ، وحينئذ يطيب عن دنس الاثنينية ولوث الحدوث . { فاستعذ بالله } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وآله ظاهراً وبالحقيقة هو لأمته ، لأن شيطانه أسلم على يده فلم يحتج إلا الاستعاذة من شياطنه بل هو وخواص أمته كقوله : { إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا } [ النحل : 99 ] وفيه أن الشيطان ليس له تسلط على أولياء الله إلا بالوسوسة ، وفيها صلاح المؤمن فإن إبريز إخلاص قلبه لا يتخلص عن غش صفات نفسه إلا بنار الوسوسة ، لأن المؤمن يطلع على بقايا صفات نفسه . بما تكون الوسوسة من جنسه فيزيد في الرياضة وملازمة الذكر حتى تنمحي تلك البقايا والله تعالى أعلم بالصواب .
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
القراآت : { بما ينزل } من الإنزال . ابن كثير وأبو عمرو { يلحدون } بفتح الياء والحاء : حمزة وعلي وخلف . { فتنوا } مبنياً للفاعل : ابن عامر . { والخوف } بالنصب : عباس { إبراهام } هشام وما بعده والأخفش عن ابن ذكوان . { في ضيق } بالكسر : ابن كثير وكذلك في « النمل » . الآخرون بالفتح .
الوقوف : { مكان آية } لا لأن جواب « إذا » هو « قالوا » وقوله : { والله أعلم بما ينزل } جملة معترضة { مفتر } ط { لا يعلمون } 5 { للمسلمين } 5 { بشر } ط { مبين } 5 { بآيات الله } لا لأن ما بعده خبر « إن » { أليم } 5 { بآيات الله } ج لاختلاف الجملتين مع العطف { الكاذبون } 5 { غضب من الله } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى . { عظيم } 5 { على الآخرة } لا للعطف { الكافرين } 5 { وأبصارهم } ط لاختلاف الجملتين { الغافلون } 5 { الخاسرون } 5 { وصبروا } لا لأن « إن » الثانية تكرار الأولى لطول الكلام بصلته وخبرهما واحد { رحيم } 5 { لا يظلمون } 5 { يصنعون } 5 { ظالمون } 5 { طيباً } ص لعطف المتفقتين { تعبدون } 5 { لغير الله به } ج { رحيم } 5 { على الله الكذب } ط { لا يفلحون } ط ، 5 { قليل } ص لعطف المتفقتين ولا سيما إذا قدر لهم متاع { أليم } 5 { من قبل } ج لابتداء النفي مع العطف { يظلمون } 5 { وأصلحوا } لا لما مر { رحيم } 5 { حنيفاً } ط { من المشركين } 5 لا لأن { شاكر } وصف آخر أو بدل من { حنيفاً } { لا نعمة } ط { مستقيم } 5 { حسنة } ط { الصالحين } ط 5 لأن « ثم » لترتيب الأخبار { حنيفاً } ط 5 { المشركين } ط 5 { اختلفوا فيه } ط { يختلفون } 5 { أحسن } ط { بالمهتدين } 5 { عوقبتم به } ط { للصابرين } 5 { يمكرون } 5 { محسنون } 5 .
التفسير : هذا شروع في حكاية شبهات منكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كان إذا أنزلت آية فيها شدة ثم نزلت آية ألين منها قالت كفار قريش : إن محمداً يسخر من أصحابه يأمره اليوم بأمر وينهاهم عنه غداً وإنه لا يقول هذه الأشياء إلا من عند نفسه فنزل : { وإذا بدلنا } ومعنى التبديل رفع الشيء مع وضع غيره مكانه ، وتبديل الآية رفعها بآية أخرى غيرها وهو نسخها بآية سواها . { والله أعلم بما ينزل } شيئاً فشيئاً على حسب المصالح مغلظاً ثم مخففاً أو بالعكس { بل أكثرهم لا يعلمون } فوائد النسخ والتبديل . قال أبو مسلم : أراد تبديل آية مكان آية في الكتب المتقدمة مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة . وسائر العلماء أطبقوا على أن المراد بهذا التبديل النسخ . ونقل عن الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة لأنه تعالى أخبر بتبديل مكان الآية .
وضعف بأنه لا يلزم من وجود التبديل بالآية نفي التبديل بغيرها كالسنة المتواترة إذ لا دلالة في الآية على الحصر ، وقد مر مباحث النسخ مفصلة مستوفاة في سورة البقرة . { قل نزله } أي القرآن { روح القدس } هو جبرائيل والإضافة للمبالغة مثل « حاتم الجود » . والمراد الروح المقدس المطهر عن دنس المأثم { من ربك } صلة نزله أي ابتداء تنزيله من عنده . وقوله : { بالحق } حال أي متلبساً بالحكمة والصواب . { ليثبت الذين آمنوا } كقوله : { وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً } [ الأنفال : 2 ] فيقول كل من الناسخ والمنسوخ من عند ربنا وكل منهما في وقته خير وصلاح لأن الذي نزله حكيم لا يفعل إلا ما هو خير في أوانه وصواب بالنسبة إلى المكلف حين ما يكلف به . { وهدى وبشرى } معطوفان على محل { ليثبت } أي تثبيتاً لهم وإرشاداً وبشارة ، وفيه تعريض بحصول أضداد هذه الخصال لغيرهم . ثم حكى شبهة أخرى عنهم . كانوا يقولون : إن محمداً يستفيد القصص والأخبار من إنسان آخر ويتعلمها منه . واختلف في ذلك البشر فقيل كان غلاماً لحويطب بن عبد العزى قد أسلم وحسن إسلامه اسمه عائش ويعيش وكان صاحب كتب . وقيل : هو جبر غلام رومي كان لعامر بن الحضرمي . وقيل : عبدان جبر ويسار كانا يصنعان السيوف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر وقف عليهما يسمع ما يقرآن فقالوا يعلمانه . وقيل : هو سلمان الفارسي . ثم أجاب عن شبهتهم فقال مستأنفاً { لسان الذي } واللسان اللغة والمعنى لسان الرجل الذي { يلحدون } يميلون قولهم عن الاستقامة { إليه } لسان { أعجمي } غير بيّن { وهذا } القرآن { لسان عربي مبين } ذو بيان وفصاحة وقد مر في آخر « الأعراف » أن تركيب الإلحاد يدل على الإمالة ومنه الملحد لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلها . قال أبو الفتح الموصلي : تركيب ع ج م يدل على الإبهام والخفاء ضد البيان والإفصاح ، ومنه « عجم الزبيب » لاستتاره وخفاته ، والعجماء البهيمة ، وصلاة الظهر والعصر عجماوان لأن القراءة فيهما سرية ، وأعجمت الكتاب أي أزلت عجمته . ثم إن العرب تسمي كل من لا يعرف لسانهم ولا يتكلم بلغتهم أعجمياً وقالوا : زياد الأعجم لأنه كان في لسانه عجمة مع أنه كان عربياً . وحاصل الجواب هبوا أن محمداً يتعلم المعاني من ذلك الرجل إلا أنه لا يقدح في المقصود لأن القرآن بفصاحته اللفظية أيضاً معجز . ولما ذكر جوابهم وبخهم وهددهم بقوله : { إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم الله } يعني أن سبب عدم إيمانهم هو أن الله لا يهديهم كقوله : { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] . وفسره الإمام فخر الدين بأن الله لا يهديهم إلى طريق الجنة بل يسوقهم إلى النار . وهذا التفسير يناسب أصول المعتزلة فلا أدري كيف مال إليه .
ثم لما بين أنهم ليسوا مظاهر اللطف وكان قد بنى الأمر في جوابهم على تسليم ما ادعى الخصم من أنه يتعلم من ذلك البشر ، أراد أن يبين أن الذي قالوا غير صحيح ولا صادق في نفس الأمر فقال : { إنما يفتري الكذب } وفيه أيضاً رد لقولهم { إنما أنت مفتر } الافتراء { وأولئك } إشارة إلى قريش أو إلى الذين لا يؤمنون أي هم الذين لا يؤمنون فهم الكاذبون أي هم الكاذبون على الحقيقة الكاملون في الكذب ، لأن تكذيب آيات الله أعظم الكذب ، أو هم الذين من شأنهم الكذب وذلك هجيراهم لا يحجبهم عنه مروءة ولا دين ، أو أولئك هم الكاذبون في قولهم : { إنما أنت مفتر } [ النحل : 101 ] ومما يدل على كذبهم عقلاً أنهم أعداء له وكلام العدا ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتهم . وأيضاً إن أمر التعليم والتعلم لا يتم في مجلس واحد ولكنه يحتاج إلى أزمنة متمادية ، ولو كان كذلك لاشتهر وانتشر . وأيضاً إن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة ، والمعلم يجب أن يكون أعلى حالاً من المتعلم . فلو كان مثل هذا العالم الذي يتعلم منه مثل النبي صلى الله عليه وسلم موجوداً في ذلك العصر لم يخف حاله ومال الناس إليه دون النبي . قال بعض علماء المعاني : عطف الجملة الاسمية التي هي قوله : { وأولئك هم الكاذبون } على ما قبلها وهي فعلية ، دالة على أن من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر تنبيهاً على أن صفة الكفر فيهم ثابتة راسخة كما تقول : كذبت وأنت كاذب . زيادة في الوصف بالكذب على سبيل الاستمرار والاعتياد . ولا افتراء أعظم من إنكار الإلهية والنبوة . روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : هل يكذب المؤمن؟ قال : لا . وقرأ هذه الآية . ثم إنه سبحانه من كمال عنايته أراد أن يفرق بين الكفر اللساني وحده وبين اللساني المنضم إليه القلبي فقال : { من كفر بالله } اختلف العلماء في إعرابه؛ فالأكثرون على أنه بدل إما من { الذين لا يؤمنون بآيات الله } وما بينهما اعتراض والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر . واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء ، ثم قال : { ولكن من شرح بالكفر صدراً } أي طاب منه نفساً واعتقده { فعليهم غضب } وإما من المبتدأ الذي هو { أولئك } أو من الخبر الذي هو { الكاذبون } . وقيل : منصوب على الذم أي أخص وأعني من كفر . وجوّز بعضهم أن تكون « من » شرطية والجواب محذوف لأن جواب من شرح دال عليه كأنه قيل : من كفر فعليه غضب إلا من أكره ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب . وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما مثله يظهر من الكافر طوعاً فلهذه المشاكلة صح الاستثناء .
قال ابن عباس : نزلت في عمار بن ياسر ، وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسراً وأمه سمية وصهيباً وبلالاً وخباباً وسالماً فعذوبهم . فأما سمية فإنها ربطت بين بعيرين ووجيء قبلها بحربة وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال وقتلت وقتل زوجها ياسر وهما أول قتيلين في الإسلام . وأما عمار فإنه أعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرهاً فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عماراً كفر فقال : كلا إن عماراً ملىء إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه . فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال صلى الله عليه وسلم : « إن عادوا لك فعد لهم بما قلت . » فمن هنا حكم العلماء بأن الإكراه يجوّز التلفظ بكلمة الكفر . وحدّ الإكراه أن يعذبه بعذاب لا طاقة له به كالتخويف بالقتل والضرب الشديد وسائر الإيلامات القوية . وأجمعوا على أن قلبه عند ذلك يجب أن يكون متبرئاً عن الرضا بالكفر وأن يقتصر على التعريض ما أمكن مثل أن يقول : إن محمداً كذاب يعني عند الكفار . أو يعني به محمداً آخر ، أو يذكره على نية الاستفهام بمعنى الإنكار . وإذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النية أو لأنه لما عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النية كان ملوماً وعفو الله متوقع . ولو ضيق المكره عليه حتى صرح بالكفر من غير تورية وطلب منه أن يقول لا أريد بقلبي سوى ما أذكره بلساني فههنا يتعين إما الكذب وإما توريط النفس للعذاب . فمن الناس من قال : يباح له الكذب حينئذ . ومنهم من قال : ليس له ذلك . واختاره القاضي لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً فوجب أن يقبح على كل حال . ولو خرج الكذب عن القبح لرعاية بعض المصالح لم يمتنع أن يفعل الله الكذب لمصلحة ما فلا يبقى وثوق بوعده وبوعيده . وللإكره مراتب منها : أن يجب الفعل المكره عليه كما لو أكرهه على شرب الخمر وأكل الميتة لما فيه من صون النفس مع عدم إضرار بالغير ولا إهانة لحق الله . ومنها أن يصير الفعل مباحاً لا واجباً كما لو أكره على التلفظ بكلمة الكفر لما روي أن بلالاً صبر على العذاب وكان يقول : أحد أحد حتى ملوه وتركوه ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم بئسما فعلت بل عظمه ، ولأن في ترك التقية والصبر على القتل أو التعذيب إعزازاً للإسلام . ومنها أنه لا يجب ولا يباح بل يحرم كما إذا أكره على قتل إنسان أو على قطع عضو من أعضائه فههنا يبقى الفعل على الحرمة الأصلية . وحينئذ لو قتل فللعلماء قولان : أحدهما لا يلزم القصاص وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه لأنه قتل دفعاً عن نفسه فأشبه قتل الصائل ، ولأنه كالآلة للمكره ولذلك وجب القصاص على المكره وثانيهما - وبه قال أحمد والشافعي في أصح قوليه - أن عليه القصاص لأنه قتله عدواناً لاستبقاء نفسه فصار كما لو قتل المضطر إنساناً فأكله .
ومن الأفعال ما لا يمكن الإكراه عليه وهو الزنا لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد وذلك يمنع من انتشار الآلة ، فلو دخل الزنا في الوجود علم أنه وقع بالاختيار لا بالإكراه . والأصح أن الإكراه فيه متصوّر ، وأن الحد يسقط حينئذ ، وعن أبي حنيفة أنه إن أكرهه السلطان لم يجب الحد ، وإن أكرهه بعض الرعية وجب .
قال بعض الأصوليين : في قوله : { وقلبه مطمئن بالإيمان } دلالة على أن محل الإيمان هو القلب فهو إما الاعتقاد إن كان الإيمان معرفة ، وإما كلام النفس إن كان تصديقاً . وانتصاب { صدراً } على التمييز وأصله . ولكن من شرح بالكفر صدره . فعدل إلى النصب للمبالغة ولبناء الكلام على الإبهام ثم التفسير . قوله : { ذلك بأنهم } أي ذلك الارتداد بسبب أنهم رجحوا { الدنيا على الآخرة } ولأجل أنه تعالى ما هداهم إلى الإيمان ولم يعصمهم عن الكفر . وقال جار الله : ذلك الوعيد والغضب والعذاب بسبب استحقاقهم خذلان الله بكفرهم . وهذا البحث وكذا بحث الطبع والختم والخلاف في تفسيره بين الأشاعرة والمعتزلة قد مر في أول سورة البقرة وفي غيرها فلا حاجة إلى الإعادة . { وأولئك هم الغافلون } أي الكاملون في الغفلة إذ غفلوا عن تدبر العواقب { لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون } وقال في أوائل سورة هود { هم الأخسرون } [ الآية : 22 ] لأن أولئك صدوا عن سبيل الله وصدوا غيرهم فضلوا وأضلوا لذلك ضوعف لهم العذاب فهم الأخسرون ، وهؤلاء صدوا بأنفسهم فهم الخاسرون . ويمكن أن يقال : إن ما قبل الفواصل في تلك السورة لم يعتمد على ألف قبلها مثل « يبصرون » « يفترون » . وفي هذه السورة اعتمدت على الألف مثل « الكافرين » الكاذبون « فجاء في كل سورة على ما يناسبها . ولما ذكر حال من أكره أتبعه حال من هاجر من بعد ما فتن . قال جار الله : معنى { ثم إن ربك } تباعد حال هؤلاء من حال عمار وأصحابه . ومعنى { إن ربك لهم } أنه لهم لا عليهم فينصرهم ولا يخذلهم . ويحتمل أن يكون الجار متعلقاً بالخبر على نية التأخير . وتكرير » إن « لطول الكلام .
من قرأ { من بعد ما فتنوا } بفتح الفاء مبنياً للفال فوجهه أن فتن وافتتن بمعنى واحد والمراد أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقية فكأنهم فتنوا أنفسهم لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت بعد ، أو أراد أن أكابر المشركين الذين آذوا فقراء المسلمين لو تابوا وهاجروا وصبروا فإن الله يقبل توبتهم ، ومعنى » ثم « على هذا التفسير ظاهر .
ومن قرأ بضم الفاء مبنياً للمفعول فالمراد أن المستضعفين المعذبين الذين حملهم أقوياء المشركين على الردة والرجوع عن الإيمان إن هاجروا وجاهدوا وصبروا فإن الله يغفر لهم تكلمهم بكلمة الكفر . وقال الحسن : هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكة فعرضت لهم فتنة فارتدوا وشكوا في الرسول ثم أسلموا وهاجروا فنزلت الآية فيهم . فمعنى « ثم » تبعيد حالة الغفران والرحمة عن حالة الارتداد والشك في أمر الرسول إلا أنه سبحانه بكرمه يغفر لهم إذا تابوا . وقيل : نزلت في عبد الله بن أبي سرح ارتد ، فلما كان يوم الفتح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله فاستجار له عثمان فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنه أسلم وحسن إسلامه . وهذه الرواية إنما تصح لو جعلنا الآية مدنية . ومثله ما روي عن قتادة أنه لما أنزل الله أن أهل مكة لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا كتب بها أهل المدينة إلى أصحابهم من أهل مكة ، فلما جاءهم ذلك خرجوا فلحقهم المشركون فردوهم فنزلت : { ألم ، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } [ العنكبوت : 1-2 ] فكتبوا بها إليهم فتبايعوا بينهم على أن يخرجوا فإن لحق بهم المشركون من أهل مكة قاتلوهم حتى ينجوا أو يلحقوا بالله ، فأدركهم المشركون فقاتلوهم ، فمنهم من قتل ومنهم من نجا فأنزلت هذه الآية . والضمير في قوله : { من بعدها } يرجع إلى الأفعال المذكورة من الهجرة والجهاد والصبر . فالحاصل أن الآية إما نازلة فيمن عذب فلم يرتد ومع ذلك هاجر وجاهد ، وإما نازلة فيمن أظهر الكفر تقية فبين تعالى أن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكن كذلك ، وإما نازلة فيمن ارتد ثم تاب وقام بما يجب القيام به فوعده الله المغفرة والرحمة . قال الزجاج { يوم تأتي } منصوب بقوله : { رحيم } أو بإضمار « اذكر » أو « ذكرهم وأنذرهم » ومعنى الآية ظاهر إلا أن في قوله : { عن نفسها } إشكالاً من حيث إضافته النفس إلى ضمير النفس . وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الحي ، وبالنفس الثانية الذات فكأنه قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمه شأن غيره . ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها كقولهم { هؤلاء أضلونا } [ الأعراف : 38 ] { ما كنا مشركين } [ الأنعام : 23 ] ونحو ذلك . عن بعضهم : تزفر جهنم زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلا جثا لركبتيه يقول : يا رب نفسي حتى إن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك .
ثم أوعد الكفار بآفات الدنيا أيضاً فقال : { وضرب الله مثلاً قرية } يحتمل أن تكون مقدرة وأن تكون معينة موجودة إما مكة أو غيرها . وذهب كثير من المفسرين إلى أنها مكة والأقرب أنها غيرها لأن مثل مكة يكون غير مكة فضربها الله مثلاً لمكة إنذاراً من مثل عاقبتها .
قال العقلاء : ثلاثة ليس لها نهاية : الأمن والصحة والكفاية . فوصف الله تعالى تلك القرية بالأمن ثم بالاطمئنان إشارة إلى أن هواء ذلك البلد لاعتداله ملائم لأمزجة أهله حتى اطمأنوا واستقروا ولم يحوجوا إلى الانتقال طلباً للصحة . ثم قال : { يأتيها رزقها رغداً من كل مكان } دلالة على حصول الكفاف لهم بأيسر وجه . قال الكشاف : الأنعم جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع ، أو جمع نعم كبؤس وأبؤس . قلت : لعله حمله على ذلك طلب الضبط وإلا فلا حاجة إلى هذا التكلف . وكذا أطلق الأكثرون أن جمع « فعلة » يجيء على « أفعل » . قيل : إنما ذكر جمع القلة تنبيهاً بالأدنى على الأعلى ، يعني أن كفران النعمة القليلة يوجب العذاب فكيف بكفران النعم الكثيرة العظيمة . وهذا مثل لأهل مكة كانوا في الأمن والطمأنينة والخصب ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة - وهو محمد صلى الله عليه وسلم - فكفروا بها وبالغوا في إيذائه فسلط الله عليهم البلاء . عذبهم بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام والعلهز والفرو ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم . نقل أن ابن الراوندي قال لابن الأعرابي الأديب : هل يذاق اللباس؟ قال ابن الأعرابي : لا بأس أيها النسناس هب أن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان نبياً أما كان عربياً؟ كأنه طعن في الآية أن المناسب هو أن لو قيل : « فكساها الله لباس الجوع » أو « فأذاقها الله طعم الجوع » فردّ عليه ابن الأعرابي . والذي أجاب به علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة ، وذلك أنه استعار اللباس لما غشي الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس ، ثم ذكر الوصف ملائماً للمستعار له وهو الجوع والخوف ، لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره . فكانت الاستعارة مجردة . ولو قال : « فكساها » كانت مرشحة ، وقد سلف منا تقرير هذا الاصطلاح في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب . وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسناً من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحاً من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحاً . وقيل : إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرّف والاختبار فتقول : أناظر فلاناً فأذوق ما عنده .
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها ... وسيق إلينا عذبها وعذابها
فمعنى ذقت لباس الجوع والخوف على فلان تعرفت ما ظهر عليه من الضمور وشحوبة اللون وتغير الحال وكسوف البال . ففحوى الآية عرفها الله أثر لباس الجوع . وقيل : حمل اللباس على المماسة والتقدير فأذاقها الله مساس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
قال ابن عباس : يريد بفعلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من التكذيب والهم بقتله والإخراج من مكة . قال الفراء : كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله : { يصنعون } تنبيهاً على أن المراد في الحقيقة أهلها .
ولما ذكر المثل ذكر الممثل فقال : { ولقد جاءهم } يعني أهل مكة { رسول منهم } من أنفسهم يعرفونه بأصله ونسبه { فكذبوه فأخذهم العذاب وهم } متلبسون بالظلم . قال ابن عباس : يعني بالعذاب الجوع الذي كان بمكة . وقيل : القتل يوم بدر . وقيل : إن قول ابن عباس أولى . والمراد أن ذلك الجوع بسبب كفركم فاتركوا الكفر . { فكلوا مما رزقكم الله } من الغنائم . فأكل الغنائم مسبب عن ترك الكفر فلذلك وصله بالفاء . وقال الكلبي : إن رؤساء مكة كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جهدوا وقالوا : عاديت الرجال فما بال النساء والصبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الحمل فحمل الطعام إليهم فذلك قوله : { فكلوا } . ورجح قول ابن عباس بأنه تعالى قال بعد ذلك : { إنما حرم عليكم الميتة } فالمراد أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب - وهو الغنيمة - واتركوا الخبائث - وهو الميتة والدم - أو أنه سبحانه أعاد تحريم هذه الأشياء في « البقرة » وفي « المائدة » و « الأنعام » وفي هذه السورة قطعاً للأعذار وإزالة للشبهة ، ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة ، وفي النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال : { ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } قال الكسائي والزجاج « ما » مصدرية وانتصاب { الكذب } ب { لا تقولوا } أي ولا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم . وقوله : { هذا حلال وهذا حرام } بدل من الكذب ولك أن تنصب { الكذب } ب { تصف } وتجعل « ما » مصدرية أيضاً أي ولا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب . ومعناه لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجة ودليل . ويجوز أن تكون « ما » موصولة أي ولا تقولوا للذي تصف ألسنتكم الكذب فيه هذا حلال وهذا حرام ، فحذف لفظ فيه لكونه معلوماً . وقوله : { تصف ألسنتكم الكذب } من فصيح الكلام وبلغيه كأن ماهية الكذب مجهولة وكلامهم يكشف عن حقيقته نظيره قوله : « وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر » . واللام في قوله : { لتفتروا } لام العاقبة لا الغرض . والمقصود من ذكره بيان أنه كذب على الله فإن قوله : { لما تصف ألسنتكم الكذب } لم يكن فيه هذا البيان .
ثم أوعد المفترين بقوله : { إن الذين يفترون } الآية . وقوله : { متاع } قال الزجاج : أي متاعهم . وعن ابن عباس : أراد أن متاع كل الدنيا قليل . والمعنى أن منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية ، أو أن نعيم الدنيا كلها يزول عنهم عما قريب ويبقى العقاب الدائم الأليم .
ثم خص محرمات اليهود بالذكر فقال : { وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل } يعني في سورة الأنعام عند قوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } { الأنعام : 146 ] ثم قال : { وما ظلمناهم } كقوله هناك : { ذلك جزيناهم ببغيهم } [ الأنعام : 146 ] . ثم بين أن الافتراء على الله ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة . وقوله : { بجهالة } في موضع الحال أي عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه أو غير متأملين في وخامة عاقبته لغلبة الشهوة عليهم . { إن ربك من بعدها } من بعد تلك السيئة أو التوبة أو الجهالة . ولما بالغ في إبطال مذاهب المشركين وفي الجواب عن شبههم ومطاعنهم وكان إبراهيم صلى الله عليه وسلم رئيس الموحدين وقدوة أكابر النبيين ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة قائلاً : { إن إبراهيم كان أمة } أي هو وحده أمة من الأمم لكماله في جميع صفات الخير :
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
وعن مجاهد : كان مؤمناً وحده والناس كلهم كفار فلهذا قيل : إنه أمة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : يبعثه الله أمة وحده . وعن شهر بن حوشب : لم يكن زمن إلا وفيه أربعة عشر يدفع بهم الله عن أهل الأرض إلا زمن إبراهيم فإنه وحده . وقيل : أمة بمعنى مأموم أي يؤمه الناس ليأخذوا منه أفعال الخير أو بمعنى مؤتم به كقوله : { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] وقيل : إنه من باب إطلاق المسبب على السبب لأنه حصل لأمته الامتياز عمن سواهم { قانتاً لله } قائماً بما يأمره الله . وعن ابن عباس : مطيعاً لله { حنيفاً } مائلاً إلى ملة الإسلام ميلاً لا يزول عنه . وقال ابن عباس : المراد أنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج وضحى . { ولم يك من المشركين } قط لا في الصغر ولا في الكبر { شاكراً لأنعمه } وإن كانت قليلة فضلاً عن النعم الكثيرة . يروى أنه كان لا يتغدّى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخلا غداءه فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فخيلوا له أن بهم جذاماً فقال : الآن وجبت مؤاكلتكم شكراً لله على أنه عافاني وابتلاكم { اجتباه } اختصه واصطفاه للنبوّة { وهداه إلى صراط مستقيم } إلى ملة الإسلام { وآتيناه في الدنيا حسنة } عن قتادة : هي أن الله تعالى حببه إلى أهل الأديان كلها . وقيل : الأموال والأولاد . وقيل قول المصلي منا « كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم » . { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } في أعلى مقاماتهم من الجنة تحقيقاً لدعائه { وألحقني بالصالحين } [ يوسف : 101 ] .
قال في الكشاف : معنى « ثم » في قوله : { ثم أوحينا إليك } تبعيد هذا النعت من بين سائر النعوت التي أثنى الله بها على إبراهيم ، ليعلم أن أجل ما أوتي خليل الله اتباع نبينا ملته في الأصول من التوحيد والمعاد وغيرهما كاختيار يوم الجمعة للفراغ وترك العمل .
قال أهل النظم : كان لسائل أن يسأل : لم اختار اليهود السبت مع أن إبراهيم كان اختار الجمعة؟ فأجاب الله سبحانه بقوله : { إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه } فاختاره بعضهم للفراغ واختار بعضهم الجمعة . روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قال : أمرهم موسى بالجمعة وقال تفرغوا في كل سبعة أيام يوماً واحداً فأبوا أن يقبلوا ذلك وقالوا : لا نريد إلا اليوم الذي فرغ الله فيه من الخلق وهو يوم السبت . فجعل عليهم السبت وشدد عليهم . ثم جاءهم عيسى بالجمعة أيضاً فقالت النصارى : لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا فاتخذوا الأحد . وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله كتب يوم الجمعة على من كان قبلنا فاختلفوا فيه وهدانا الله له فالناس لنا تبع اليهود غداً والنصارى بعد غدٍ » وقال صاحب الكشاف : السبت مصدر سبت اليهود إذا عظمت سبتها . والمعنى { إنما جعل } وبال { السبت } وهو المسخ { على الذين اختلفوا فيه } واختلافهم فيه أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة ، وكان الواجب عليهم أن يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة . وضعف القول الأول بأن اليهود متفقون على تعيين يوم السبت للفراغة . ويمكن أن يقال : لعل فيهم من اختار الجمعة في قديم الدهر ثم وقع الاختلاف . سؤال : النصارى يقولون : إن يوم الأحد مبتدأ الخلق ، والتكوين على ما اتفق عليه أهل الملل أنه تعالى خلق العالم في ستة أيام أوّلها الأحد فجعله عيداً معقول . واليهود قالت : إن يوم السبت هو اليوم الذي قد فرغ الله فيه من الأعمال فنحن نوافق ربنا . فما وجه جعل الجمعة عيداً؟ والجواب بعد التعبد هو أن يوم الجمعة يوم التمام والكمال وذلك يوجب الفرح والسرور فجعله عيداً أولى . ثم أوعد اليهود بقوله : { وإن ربك ليحكم } الخ . ولما أمر محمداً باتباع إبراهيم صلى الله عليه وسلم بين وجه المتابعة فقال : { ادع إلى سبيل ربك } الآية . وفيه أن طريقة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الدعوة كانت هكذا . وتقرير ذلك أن الداعي إلى مذهب ونحلة لا بد أن يكون قوله مبنياً على حجة وهي إما أن تكون يقينية قطعية مبرأة من شائبة احتمال النقيض ، وإما أن تكون مفيدة للظن القوي والإقناع التام وإلا لم يكن ملتفتاً إليها في العلوم ، وقد يكون الجدال والخصام غالباً على المدعو فيحتاج حينئذ إلى إلزامه وإفحامه بدليل مركب من مقدمات مشهورة مسلمة عند الجمهور ، أو مقدمات مسلمة عند الخصم . فقوله : { بالحكمة } إشارة إلى استعمال الحجج القطعية المفيدة لليقين ، والمكالمة بهذا الطريق إنما تكون مع الطالبين البالغين في الاستعداد إلى درجة الكمال .