كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في « الأنعام » و « الحج » . ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلاً { والأرض جميعاً قبضته } قال جار الله : الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز . وكذلك حكم ما يروى عن عبد الله بن مسعود أن رجلاً من أهل الكتاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا أبا القاسم ، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع ، والأرضين على أصبع ، والجبال على أصبع ، والشجر على أصبع ، والثرى على أصبع ، وسائر الخلق على أصبع ، ثم يهزهن فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجباً مما قال وأنزل الله الآية تصديقاً له . وقال جار الله : وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك ، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة ، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه ، ثم ذكر كلاماً آخر طويلاً . واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا . وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء . وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل . ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما ، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صوتاً للنص عن التعطيل . ولا تأويل إلا أن يقال : المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال : فلان في قبضة فلان . وقال تعالى { وما ملكت أيمانهم } [ الأحزاب : 50 ] ويقال : هذه الدار في يد فلان ويمينه ، وفلان صاحب اليد . وأنا أقول : هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي ، والذي ذكره جار الله طريق بياني ، وأنهم يحيلون كثيراً من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما . ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر .
ولنرجع إلى الآية . قوله { والأرض } قالوا : المراد بها الأرضون لوجهين : أحدهما قوله { جميعا } فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله { كل الطعام } [ آل عمران : 93 ] وقوله { والنخل باسقات } [ ق : 10 ] والثاني قوله { والسموات } ولقائل أن يقول : كل ما هو ذو أجزاء حساً أو حكماً فإنه يصح تأكيده بالجميع . وعطف السموات على الأرض في القرآن كثير . نعم قيل : إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد . والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعاً مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته . وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] { والسموات مطويات بيمينه } كقوله { يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب } [ الأنبياء : 104 ] وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك . وقيل : معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة . وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه ، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسموات وتبديلها . وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة ، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله { سبحانه وتعالى عما يشركون } ثم ذكر سائر أهوال القيامة وأحوالها بقوله { ونفخ في الصور فصعق } الظاهر أن نفخ الصور مرتان ، وبعضهم روى أنه ثلاث نفخات الأولى للفزع كما جاء في « النمل » ، والثانية للموت وهو معنى الصعق ، والثالثة للإعادة . والأظهر أن الفزع يتقدم الصعق فلا يلزم منه إثبات نفختين ، وقد مر في « النمل » تفسير باقي الآية . قال جار الله : تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة { ثم نفخ فيه أخرى } وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان . ومعنى { ينظرون } يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب ، أو ينظرون ماذا يفعل بهم . ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود تحيراً . ثم وصف أرض القيامة بقوله { وأشرقت الأرض بنور ربها } الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه . وقد مر شرح هذا النور في تفسير قوله { الله نور السموات والأرض } [ الآية : 35 ] وفي غيره من المواضع . وقال علماء البيان : افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم . ويقال للملك العادل : أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك ، وفي ضدّه أظلمت الدنيا بجوره . وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله في ذلك اليوم للأرض نوراً مخصوصاً . وقيل : أراد أرض الجنة .
ثم إن أهل البيان أكدوا قولهم بأنه أتبعه قوله { ووضع الكتاب } إلى آخره . وكل ذلك من الأمور الدالة على غاية العدل . والمراد بالكتاب إما اللوح المحفوظ يقابل به صحف الأعمال أو الصحف نفسها ولكنه اكتفى باسم الجنس .
{ وجيء بالنبيين } ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة ويجيب قومهم بما يجيبون . والمراد بالشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار ومن الجوارح والمكان والزمان أيضاً . وقيل : هم الذين قتلوا في سبيل الله ولعله ليس في تخصيصهم بالذكر فائدة . وحين بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الخصومات ذكر أنه يوصل أهل النار ، وختم السورة بذكر أهل الجنة فقال : { وسيق } وهو على عادة إخبار الله تعالى . والزمر الأفواج المتفرقة واحدها زمرة وكذلك في صفة أهل الجنة ، وذلك أنه يحشر أمة بعد أمة مع إمامها إلى الجنة أو النار ، أو بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب على اختلاف المراتب والطبقات ، فلا ريب أن الناس محقين أو مبطلين فرق ذاهبون في طرق شتى جماعة جماعة . والخزنة جمع خازن ، والمراد بكلمة العذاب قوله { لأملأن جهنم } [ السجدة : 13 ] أو علم الله السابق وكان القياس التكلم إلا أنه عدل إلى الظاهر فقيل على الكافرين ليعلم سبب العذاب .
سؤال السوق في الكفار له وجه لأنهم أهل الطرد والعنف فما وجهه في أهل الجنة؟ الجواب من وجوه : قال جار الله : المضاف هنا محذوف أي وسيق مراكب الذين اتقوا لأنهم لا يذهبون إلا راكبين كالوافدين على ملوك الدنيا ، وحثها إسراع لهم إلى دار الكرامة والرضوان : وقيل : طباق . وقيل : أكثر أهل الجنة البله فيحتاجون إلى السوق لأنهم لا يعرفون ما فيه صلاحهم . وقيل : إنهم يقولون لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي فيتأخرون لهذا السبب وحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة . وقال أهل العرفان : المتقون قد عبدوا الله لله لا للجنة فيصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة ، فلا جرم يفتقرون إلى السوق . وقال الحكيم : كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختياره شاء أم أبى إلى ما يضاهيه حاله فذاك معنى السوق .
سؤال آخر : لم قيل في صفة أهل النار { فتحت أبوابها } من غير واو وفي صفة أهل الجنة { وفتحت أبوابها } بالواو؟ والجواب البحث عن مثل هذه الواو قد يقال له واو الثمانية قد مر في قوله { التائبون العابدون } [ التوبة : 112 ] وفي سورة الكهف إلا أن الذي اختص بالمقام هو أن بعضهم قالوا : إن أبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها ، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله { جنات عدن مفتحة لهم الأبواب } [ ص : 50 ] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل : حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها ، وعلى هذا فجواب { حتى إذا } محذوف وحق موقعه ما بعد { خالدين } أي كان ما كان من أصناف الكرامات والسعادات . وقيل : حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي مع فتح أبوابها . وقيل : لأهل التأويل أن يقولوا : إن أبواب الجنة وهي أسباب حصول الكمالات مفتوحة بمعنى أنها غير ممنوع عنها بل مندوب إليها مرغب فيها ، وأبواب جهنم مغلقة بمعنى أن أسبابها ممنوع عنها على لسان الشرع والعقل جميعاً .
ومعنى تسليم الخزنة الإكرام والتهنئة بأنهم سلموا من أحوال الدنيا وأهوال القيامة . ومعنى { طبتم } قيل : إخبارهم عن كونهم طيبين في الدنيا بالأفعال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، أو طبتم نفساً بما نلتم من الجنة ونعيمها . وقيل : إن أهل الجنة إذا انتهوا إلى بابها وجدوا عنده عينين تجريان من ساق شجرة فيتطهرون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلن تتغير أبشارهم بعدها أبداً ، ويشربون من الأخرى فيذهب ما في بطونهم من أذى وقذى فيقول لهم الخزنة : طبتم . وقال جار الله : أرادوا طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا ، ولهذا عقبه بقوله { فادخلوها خالدين } ليعلم أن الطهارة عن المعاصي هي السبب في دخول الجنة والخلود فيها لأنها دار طهرها الله من دنس فلا يدخلها إلا من هو موصوف بصفتها رزقنا الله تعالى بعميم فضله وحسن توفيقه نسبة توجب ذلك . ثم حكى قول المتقين في الجنة فقال { وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده } أي الوعد بدخول الجنة { وأورثنا الأرض } أرض الجنة عبر عن التمليك بالإيراث وقد مرّ مراراً { نتبوّأ منها حيث نشاء } لأن لكل متق جنة توصف سعة فيتبوّأ من جنته كما يريد من غير منازع . وقال حكماء الإسلام : الجنات الجسمانية كذلك ، أما الروحانية فلا مانع فيها من المشاركة وأن يحصل لغيره ما يحصل لبعض الأشخاص . ثم وصف مآب الملائكة المقربين بعد بعثهم فقال { وترى } أيها الرائي أو النبي { الملائكة حافين } محدّقين وهو نصب على الحال . قال الفراء : لا واحد له لأنه لا بد فيه من الجمعية . وأقول : لعله عني من حيث الاستعمال . وقيل : الحاف بالشيء الملازم له . وقوله { من حول العرش } « من » زائدة أو ابتدائية أي مبتدأ خوفهم من هناك إلى حيث شاء الله أو متصل بالرؤية { يسبحون بحمد ربهم } تلذذاً لا تعبداً . وكان جوانب العرش دار ثواب الملائكة وإنها ملاصقة لجوانب الجنة . والضمير في قوله { وقضي بينهم } للعباد كلهم لقرائن ذكر القيامة فإن إدخال بعضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون الإقضاء بينهم بالحق والعدل . وقيل : بين الأنبياء وأممهم . وقيل : تكرار لقوله { وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق } وقيل : هو حال وقد مقدرة معه أي يسبحون بحمد ربهم وقد قضى بينهم يعني بين الملائكة على أن ثوابهم ليس على سنن واحد . ويحتمل عندي أن يعود الضمير إلى البشر والملائكة جميعاً ، والقضاء بينهم هو إنزال البشر مقامهم من الجنة أو النار ، وإنزال الملائكة حول العرش . ثم ختم السورة بقوله { وقيل الحمد لله } والقائل المقضي بينهم وهم جميع العباد كقوله { وآخر دعواهم أن الحمد لله } [ يونس : 10 ] أ جميع الملائكة حمدوا الله على إنزال كلّ منزلته .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
القراآت : { حم } وما بعده بالإمالة : حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعاً لا اختلافاً لمعان مذكورة في « ص » . { كلمات ربك } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر { لتنذر } بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح ، وقد تؤنث ، أو على خطاب الرسول : يعقوب غير رويس { التلاقي } بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل . { والذين تدعون } على الخطاب : نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان { أشد منكم } ابن عامر . الباقون { منهم } .
الوقوف : { حم } ط كوفي { العليم } 5 لا { الطول } ط { إلا هو } ط { المصير } 5 { البلاد } 5 { من بعدهم } ص لعطف الجملتين المتفقتين { فأخذتهم } ط للابتداء بالتهديد { عقاب } 5 { النار } م لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار { آمنوا } ج لحق القول المحذوف { الجحيم } 5 { وذرياتهم } ط { الحكيم } 5 وقد يوصل للعطف { السيئات } ط { رحمته } ط { العظيم } 5 { فتكفرون } 5 { سبيل } 5 { كفرتم } ج للابتداء بالشرط مع العطف { تؤمنوا } ط { الكبير } 5 { رزقاً } ط { ينيب } 5 { الكافرون } 5 { ذو العرش } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { التلاق } 5 لا { بارزون } ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف { شيء } ط { اليوم } ط فصلاً بين السؤال والجواب { القهار } 5 { كسبت } ط { اليوم } ط { الحساب } 5 { كاظمين } ط { يطاع } 5 ط { الصدور } 5 { بالحق } ط { بشيء } ط { البصير } 5 { من قبلهم } ط { واق } 5 { فأخذهم الله } ط { العقاب } 5 .
التفسير : { حم } اسم الله الأعظم . وقيل : { حم } ما هو كائن أي قدّر . وروي أن أعرابياً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما حم؟ فقال : أسماء وفواتح سور . وقد تقدم القول في حواميم في مقدمات الكتاب وفي أول « البقرة » . ومن جملة تلك التقادير أن يقال : السورة المسماة بحم . { تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } وقد مر نظيره في أول « الزمر » . ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد فقال { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول } قالت المعتزلة : معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بالتوبة إن كان كبيراً ، أو طاعة أعظم منه ثواباً إن كان صغيراً . وقال الأشعري : إنه قد يعفو عن الكبائر بدون التوبة لئلا يلزم التكرار بقوله { قابل التوب } وليفيد المدح المطلق ويؤيده إدخال الواو بين هذين الوصفين فقط كأنه قيل : الجامع بين المغفرة إن كانت بدون توبة وبين القبول إن كانت بتوبة فقد جمع للمذنب بين رحمتين بحسب الحالتين . وقيل : غافر الذنب الصغير وقابل التوب عن الكبير ، أو غافر الذنب بإسقاط العقاب وقابل التوب بإيجاب الثواب .
ثم إن قبول التوبة واجب على الله أم لا؟ فيه بحث أيضاً للفريقين . فالمعتزلة أوجبوه ، والأشعري يقول : إنه على سبيل التفضيل وإلا لم بتمدّح به . والظاهر أن التوب مصدر . وقيل : جمع توبة أي ما ذنب تاب منه العبد إلا قبل توبته . وقد ذكر أهل الإعراب ههنا سؤالاً وهو أن غافر الذنب وقابل التوب يمكن بوجيههما بأنهما معرفتان كما سبق في { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] وهو أنهما بمعنى الماضي أو الاستمرار فيصح وقوعهما صفتين لله إلا أن قوله { شديد العقاب } لا يمكن فيه هذا الوجه لأنه في معنى شديد عقابه . فإن قلنا إنه صفة لزم وقوع النكرة صفة للمعرفة ، وإن قلنا إنه بدل لزم نبوّ ظاهر للزوم بدل واحد فيما بين صفات كثيرة . وأجيب على تقدير أن لا يكون الكل أبدالاً بأن الألف واللام من شديد محذوف لمناسبة ما قبله مع الأمن من اللبس ومن جهالة الموصوف ، أو تعمد تنكيره من بين الصفات للإبهام والدلالة على فرط الشدة . وجوزوا أن تكون هذه النكتة سبباً لجعله بدلاً من بين سائر أخواته . وهذا ما قاله صاحب الكشاف . وعندي أنه لا مانع من جعل { شديد العقاب } أيضاً للاستمرار والدوام حتى يصير إضافة حقيقية . قوله { ذي الطول } أي ذي الفضل بسبب ترك العقاب وقد مر في قوله { ومن لم يستطع منكم طولاً } [ النساء : 25 ] وإنما أورد هذا الوصف بعد وصفه نفسه بشدة العقاب ليعلم أن خاتمة أمره مبنية على التفضل كما أن فاتحته مبنية على الغفران وقبول التوبة وقد تقع عقوبة في الوسط أعاذنا الله منها ، إلا أنه لا يبقى مؤمن في النار خالداً ببركة قوله لا إله إلا الله وهو المبدأ وسبب علمه أنه إليه المصير وهو المعاد . وفيه أن من آمن بالمبدأ والمعاد فإن أخل في الوسط ببعض التكاليف كان مرجواً أن يغفر الله له ويقبل توبته . ثم بين أحوال من لا يقبل هذه التقريرات ولا يخضع لها فقال { ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا } والجدال في آياته نسبتها إلى الشعر تارة وإلى السحر أخرى إلى غير ذلك من المطاعن وفضول الكلام . فأما البحث عنها لاستنباط حقائقها والوقوف على دقائقها وحل مشكلاتها فنوع من الجهاد في سبيل الله ، ولمكان الفرق بين هذين الجدالين قال صلى الله عليه وسلم « إن جدالاً في القرآن كفر » فنكر الجدال ليشمل أحد نوعيه فقط وهو الجدال بالباطل كما يجيء في قوله { وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق } ثم عقب الكلام بقوله { فلا يغررك } ليعلم أن جدالهم الصادر عن البطر والأشر والجاه والخدم لا اعتبار به وكذا { تقلبهم في البلاد } للتجارات والمكاسب فإن قريشاً كانت أصحاب أموال متجرين إلى الشام واليمن مترفين بأموالهم مستكبرين عن قبول الحق لذلك .
ثم مثل حالهم بحال الأمم السالفة الذين تحزبوا على الرسل وكادوا يقتلونهم فأهلكهم الله ودمرهم ونجى الرسل . ثم بين بقوله { وكذلك حقت } أنهم في الآخرة أيضاً معذبون . وقوله { أنهم أصحاب النار } بدل من { كلمة ربك } أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم في الآخرة من أصحاب النار . وجوّز جار الله أن يكون { أنهم } في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل . وقوله { الذين كفروا } قريش أي كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء لأن العلة الجامعة وهي أنهم أصحاب النار واحدة في الفريقين . ومن قرأ { كلمات } على الجمع أراد بها علم الله السابق أو معلوماته التي لا نهاية لها ، أو الآيات الواردة في وعيد الكفار .
وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش ، والحافون حوله يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل : إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزناً فإن الأشراف يحابونهم . روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يعرفون طرفهم . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقاً من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور » وروي أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلاً لهم على سائر الملائكة . وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام ، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية } [ الحاقّة : 17 ] أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله . أما الذين حول العرش فقيل : سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر . وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب الكشاف . سؤال : ما فائدة قوله { ويؤمنون به } ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه . وأيضاً فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب ، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال .
واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال : لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخراً وشرفاً . وأنا أقول : لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن . وإن شئت فتأمل قوله تعالى { الذين يؤمنون بالغيب } فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله { بالغيب } فائدة . على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلهاً ، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوباً عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة؟ وقال بعضهم في الجواب : أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة . وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له ، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ . قلت : لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه وارداً على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما ، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما . قال جار الله : وقد روعي التناسب في قوله { ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا } كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم ، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولا سيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي ، والروحاني إلى العنصري . احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا : لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم « ابدأ بنفسك » أن يستغفروا أوّلاً لأنفسهم قال الله تعالى { واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } [ محمد : 19 ] { وقال نوح رب اغفر لي ولوالديّ ولمن دخل بيتي مؤمناً } [ نوح : 28 ] قلت : لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية ، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد . لو سلم أن قوله { للذين آمنوا } عام أن يكون المستغفر له عاصياً على أنه قد خص الاستغفار في قوله { فاغفر للذين تابوا } وهذا فيه بحث يجيء . وفي قولهم { ربنا وسعت كل شيء رحمة } ولو بإعطاء الوجود { وعلماً } وقد مر في « الأنعام » إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدماً على الدعاء . وفي لفظ { ربنا } خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر « آل عمران » كأن الداعي يقول : كنت نفياً صرفاً وعدماً محض فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعاً إليك ، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقاً وصفاء .
وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا : ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين . قالت علماء المعتزلة : الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون ، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة ، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق . وقال علماء السنة : إن مراد الملائكة { فاغفر للذين تابوا } عن الكفر { واتبعوا سبيلك } الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب ، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفاراً . قال أهل التحقيق : هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] أما قوله { وقهم عذاب الجحيم } فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية .
وحين طلبوا لأجلهم إسقاط العذاب ضمناً وصريحاً طلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم { ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم } قال علماء السنة : كل أهل الإيمان موعودون بالجنة وإن كانوا من أهل الكبائر غاية ذلك أنهم يعذبون بالنار مدّة إن لم يكن عفواً وشفاعة ثم يخرجون إلى الجنة . قال الفراء والزجاج : قوله { ومن صلح } يجوز أن يكون معطوفاً على الضمير في { وأدخلهم } فيكون دعاء من الملائكة بإدخال هؤلاء الأصناف الجنة تكميلاً لأنس الأولين وتتميماً لابتهاجهم وإشفاقاً على هؤلاء أيضاً . ويجوز أن يكون عطفاً على الضمير في { وعدتهم } لأنه تعالى قال في سورة الرعد { أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } [ الآية : 23 ] وعلى هذا لا يشمل دعاء الملائكة هؤلاء الأصناف اللهم إلا ضمناً . قال أهل السنة : المراد بمن صلح أهل الإيمان منهم وإن كانوا ذوي كبائر . ثم ختم الآية بقوله { إنك أنت العزيز الحكيم } لأنه إن لم يكن غالباً على الكل لم يصح منه وقوع المطلوب كما يراد ، وإن لم يكن حكيماً أمكن منه وضع الشيء في غير موضعه . ثم قالوا { وقهم السيئات } فقيل : يعني العقوبات أو عذاب السيئات على حذف المضاف . واعترض بأنهم قالوا مرة وقهم عذاب الجحيم فيلزم التكرار . وأجيب بأن الأوّل دعاء للأصول وهذه لفروعهم وهم الأصناف الثلاثة ، أو الأول مخصوص بعذاب النار وهذا شامل لعذاب الموقف وعذاب الحساب وعذاب السؤال ، أو المراد بالسيئات العقائد الفاسدة والأعمال الضارة ، وعلى هذا يكون { يومئذ } في قوله { ومن تق السيئات يومئذ } إشاة إلى الدنيا .
وقوله { فقد رحمته } يجوز أن يكون في الدنيا وفي الآخرة . قال في الكشاف : السيئات هي الصغائر والكبائر المتوب عنها ، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة . ثم إنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفرة المجالدين في آياته وأنهم سيعترفون يوم القيامة بما كانوا ينكرونه في الدنيا من البعث ، وذلك إذا عاينوا النشأة وتذكروا النشأة الأولى فقال { إن الذين كفروا ينادون } أي يوم القيامة . وفي الآية حذف وفيها تقديم وتأخير . أما الحذف فالتقدير لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم ، فاستغنى بذكرها مرة . وأما التقديم والتأخير فهو أن قوله { إذ تدعون } منصوب بالمقت الأول . وفي المقت وجوه : الأول كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون ، وذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم في النار إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهّن وفيه توبيخ . ولا ريب أن سخط الله وبغضه الشديد لا نسبة له إلى سخط غيره ولهذا أوردهم النار . الثاني عن الحسن : لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا بلسان خزنة جهنم لمقت الله وهو قريب من الأول . الثالث قال محمد بن كعب : إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله { وما كان لي عليكم من سلطان } إلى قوله { ولوموا أنفسكم } [ إبراهيم : 22 ] وفي هذه الحالة مقتوا أنفسهم . فلعل المعنى . لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ومن لعنه إياه . وأما قول الكفرة في الجواب { ربنا أمتنا اثنتين } أي إماتتين اثنتين { وأحييتنا } إحياءتين { اثنتين } فللعلماء في تعيين كل من الاثنتين خلاف . أما في الكشاف فذهب إلى أن الإماتتين إحداهما خلقهم أوّلاً أمواتاً ثم نطفة ثم علقة الخ كما في الآية الأخرى { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً } [ البقرة : 28 ] ونسب هذا القول إلى ابن عباس ووجهه بأنه كقولك للحفار : ضيق فم الركية ووسع أسفلها وليس ثم نقل من كبر إلى صغر أو بالعكس ، وإنما أردت الإنشاء على هذه الصفة . والسبب في صحته أن كلا النعتين جائز على المصنوع الواحد وللصانع أن يختار أحدهما . قلت : ومما يؤيد قوله أنه بدأ بالإماتة وإلا كان الأظهر أن يبدأ بالإحياء . قال : والإماتة الثانية هي التي في الدنيا والإحياءة الأولى هي التي في الدنيا ، والثانية هي التي بعد البعث . وأورد على هذا القول أنه يلزم أن لا تكون الإحياءة في القبر والإماتة فيه مذكورتين في القرآن بل تكونان منفيتين مع ورودهما في الحديث . أجاب بعضهم بأن حياة القبر والإماتة ممنوعة لأنه تعالى لم يذكرها ، والأحاديث الواردة فيها آحاد ، ولأن الذي افترسه السبع لو أعيد حياً لزم نقصان شيء من السبع وليس بمحسوس ، ولأن الذي مات لو تركناه ظاهراً بحيث يراه كل أحد لم يحس منه حياة وتجويز ذلك مع عدم الرؤية سفسطة وفتح لباب الجهالات .
وزيف هذا الجواب أهل الاعتبار بأن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدمه ، والأحاديث في ذلك الباب صحيحة مقبولة . وإذا كان الإنسان جوهراً نورانياً مشرقاً مدبراً للبدن في كل طور على حد معلوم كما ورد في الشريعة الحقة زالت سائر الإشكالات ، ولا يلزم قياس ما بعد الموت على ما قبله وللشرع في إخفاء هذه الأمور عن نظر المكلفين حكم ظاهرة حققناها لك مرات . وقال بعضهم : في الجواب هذا كلام الكفار فلا يكون حجة . وضعف بأنه لو لم يكن صادقاً لأنكر الله عليهم . وقيل : إن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة : الموتة الأولى ، والحياة في القبر ، والموتة الثانية ، والحياة في القيامة . فأما الحياة في الدنيا فإنها وقت ترفههم وتنعمهم فلهذا السبب لم يذكروها . وقيل : أهملوا ذكر حياة القبر لقصر مدتها أو لأنهم لم يموتوا بعد ذلك بل يبقون أحياء في الشقاوة حتى اتصل بها حياة القيامة وكانوا من جملة المستثنين في قوله { فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } [ الزمر : 68 ] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال متكلفة ولا سيما الأخير فإن قوله { الذين كفروا } عام . ولو فرض أنه مخصوص بكفار معهودين فتخصيصهم بالحياة في القبر حتى يكونوا من المستثنين بعيد جداً . وقد يدور في الخلد أن هذا النداء يحتمل أن يكون في القبر ، وعلى هذا لا يبقى إشكال لأن الإماتة والإحياء التي بعد ذلك تخرج من غير تكلف وثبت سؤال القبر كما جاء في الحديث والله تعالى أعلم بمراده . وقوله { فهل إلى خروج من سبيل } أي إلى نوع من الخروج والرد من القبر إلى الدنيا خروج سريع أو بطيء من سبيل قط أم اليأس الكلي واقع ، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط . وكان الجواب الصريح أن يقال : لا أو نعم إلا أنه سبحانه رمز إلى عدم الخروج بقوله { ذلكم } أي ذلكم اليأس وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم في وقت التمكن من التوحيد أو ان التكليف { فالحكم لله العلي الكبير } حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وكما يناسب عظمته وكبرياءه . قيل : إن تحكيم الحرورية وهو قولهم « لا حكم إلا لله » مأخوذ من هذه الآية . ثم أراد أن يذكر طرفاً من دلائل وحدانيته وكماله فقال { هو الذي يريكم آياته } من الريح والسحاب والرعد والبرق { وينزل لكم من السماء } ماء هو سبب الرزق { وما يتذكر إلا من ينيب } أي ما يعتبر إلا الذي أناب إلى الله وأعرض عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات . ثم قال للمنيبين { فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون } قال جار الله : قوله { رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح } ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله { الذي يريكم } أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفاً وتنكيراً أوسطها معرفة .
ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع ، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة ، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب . أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة . وأما على الثاني فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه ، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود .
واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس ، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين ، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات . أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله { ذو العرش } إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام ، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله { يلقي الروح } أي الوحي { من أمره } أي من عالم أمره { على من يشاء من عباده } وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل . وقيل من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله { لينذر يوم التلاق } ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه ، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل { ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلاً } [ الفرقان : 25 ] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله . وقال ميمون بن مهران : يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم ، فربما ظلم رجل رجلاً وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا . وقوله { يوم هم بارزون } بدل من الأول . ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله { وبرزوا لله الواحد القهار } [ الآية : 48 ] وقوله { لا يخفى على الله منهم شيء } تأكيد لذلك وهذا ، وإن كان عاماً في جميع الأحوال وشاملاً للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال { ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون } فهو نظير قوله { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } ولا ريب أن الكلام مشتمل على جواب وسؤال وليس في لفظ الآية ما يدل على تعيين السائل ولا المجيب . فقال جم من المفسرين ومن أرباب القلوب : إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض يقول الرب تعالى : لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد .
فهو سبحانه يجيب عن نفسه فيقول : لله الواحد القهار . وأما الذين ألغوا صرف المعقول من أهل الأصول فقد أنكروا هذا القول إنكاراً شديداً لأنه تعالى بين أن هذا النداء في يوم التلاقي والبروز يوم تجزى كل نفس بما كسبت ، وكل هذا ينافي في كون الخلق هالكين وقتئذ ، ولأن التكلم من غير سامع ولا مجيب عبث إلا أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء لكن المفروض فناء كل المخلوقين ، فأما أن يكون حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به وذلك أن ينادي مناد فيقول : لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار ، يقوله المؤمن تلذذاً والكافر هواناً وتحسراً على أن فاتتهم هذه المعرفة في الدنيا فإن الملك كان له من الأزل إلى الأبد . وفائدة تخصيص هذا النداء يوم القيامة كما عرفت في { مالك يوم الدين } [ الفاتحة : 3 ] يحكى أن نصر بن أحمد لما دخل نيسابور وضع التاج على رأسه ودخل عليه الناس فخطر بباله شيء فقال : هل فيكم من يقرأ آية؟ فقرأ رجل روّاس { رفيع الدرجات ذو العرش } فلما بلغ قوله { لمن الملك اليوم } نزل الأمير عن سريره ورفع التاج عن رأسه وسجد لله تعالى وقال : لك الملك لا لي . فلما توفي الروّاس رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال : غفر لي وقال لي إنك عظمت ملكي في عين عبدي فلان يوم قرأت تلك الآية فغفرت لك وله . ومما يدل على تفرده سبحانه قوله { لله الواحد القهار } فإن كل واحد من الأسماء الثلاثة ينبىء عن غاية الجلال والعظمة كما مر مراراً ، وباقي الآية أيضاً مما سلف تفسيره مرات . ثم وصف يوم القيامة بأنواع أخر من الصفات الهائلة فقال { وأنذرهم يوم الآزفة } وهي فاعلة من أزف الأمر أزوفاً إذا دنا ، ولا ريب أن القيامة قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن كل ما هو كائن فهو قريب . قال جار الله : يجوز أن يريد بيوم الآزفة وقت لحظة الآزفة وهي مشارفتهم دخول النار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا . وقال أبو مسلم : يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل لأنه تعالى ذكر يوم القيامة في قوله { يوم التلاق يوم هم بارزون } فناسب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم ، ولأنه تعالى وصف يوم الموت بنحو هذه الصفة في مواضع أخر قال { فلولا إذا بلغت الحلقوم } [ الواقعة : 83 ] { كلا إذا بلغت التراقي } [ القيامة : 26 ] ولا ريب أن الرجل عند معاينة أمارات الموت يعظم خوفه ، فلو جعلنا كون القلوب لدى الحناجر كناية عن شدّة الخوف جاز ، ولو حملناه على ظاهره فلا بأس .
وقوله { كاظمين } أي مكروبين . والكاظم الساكت حال امتلائه غماً وغيظاً قال عز من قائل { والكاظمين الغيظ } [ آل عمران : 134 ] وانتصابه على أنه حال عن أصحاب القلوب كأنه قيل : إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها ، أو عن القلوب . وجمع جمع السلامة بناء على أن الكظم من أفعال العقلاء كقوله { فظلت أعناقهم لها خاضعين } [ الشعراء : 4 ] أو عن ضمير المفعول في { وأنذرهم } أي وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم فيكون حالاً مقدّرة . وفي قوله { ما للظالمين من حميم ولا شفيع } بحث بين الأشاعرة والمعتزلة حيث حمله الأوّلون على أهل الشرك ، والآخرون على معنى أعم حتى يشمل أصحاب الكبائر . وقد مرّ مراراً ولا سيما في قوله { وما للظالمين من أنصار } [ آل عمران : 192 ] ومعنى قوله { يطاع } يجاب أي لا شفاعة ولا إجابة كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... وذلك أنه لا يشفع أحد في ذلك اليوم إلا بإذن الله ، فإن أذن له أجيب وإلا فلا يوجد شيء من الأمرين . والفائدة في ذكر هذه الصفة أن يعلم أن الغرض من الشفيع منتفٍ في حقهم وإن فرض شفيع على ما يزعم أهل الشرك من أن الأصنام يشفعون لهم . وقوله { يعلم خائنة الأعين } خبر آخر لقوله { هو الذي يريكم آياته } إلا أنه فصل بالتعليل وهو قوله { لينذر } وذكر وصف القيامة استطراداً ، قال جار الله : هي صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية ، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب . قال : ولا يحسن أن تكون الخائنة صفة للأعين مضافة إليها نحو « جرد قطيفة » أي يعلم العين الخائنة لأن قوله { وما تخفي الصدور } لا يساعد عليه . قلت : يعني أن عطف العرض على الجوهر والمعنى على العين غير مناسب . وقيل : هي قول الإنسان رأيت ولم ير وما رأيت ورأى . ومضمرات الصدرو أي القلوب فيها لأنها فيها . قيل : هي ما يستره الإنسان من أمانة وخيانة . وقيل : الوسوسة . وقال ابن عباس : ما تخفي الصدور بعد النظر إليها أيزني بها أم لا . أقول : والحاصل أنه تعالى أراد أن يصف نفسه بكمال العلم فإن المجازاة تتوقف على ذلك . ففي قوله { يعلم خائنة الأعين } إشارة إلى أنه عالم بجميع أفعال الجوارح ، وفي قوله { وما تخفي الصدور } دلالة على أنه عالم بجميع أفعال القلوب . وإذا علمت هذه الصفة وقد عرفت من الأصناف السابقة كمال قدرته واستغنائه لم يبق شك في حقيّة قضائه فلذلك قال { والله يقضى بالحق } ثم وبخهم على عبادة من لا قضاء له ولا سمع ولا بصر بقوله { والذين يدعون } الخ . ثم وعظهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة وقد مر نظير الآية في مواضع . وإنما قال في هذه السورة { ذلك بأنهم كانت } وفي « التغابن »
{ ذلك بأنه كانت } [ الآية : 6 ] موافقة لضمير الفصل في قوله { كانوا هم أشد } .
التأويل : الحاء والميم حرفان من وسط اسم الرحمن ومن وسط اسم محمد ففي ذلك إشارة إلى سر بينه وبين حبيبه صلى الله عليه وسلم لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل { غافر الذنب } للظالم { وقابل التوب } للمقتصد { شديد العقاب } للكافر { ذي الطول } للسابق { وقهم عذاب الجحيم } أي عن موجباتها كالرياء واتباع الهوى { لمقت الله } إياكم حين حكم عليكم بالبعد والحرمان { أكبر من مقتكم أنفسكم } لو كنتم تمقتونها في الدنيا فإنها أعدى عدوّكم . ومقتها منعها من هواها ، ولا ريب أن عذاب البعد الأبديّ أشدّ من رياضة أيام معدودة قلائل . { ذو العرش } عرش القلوب استوى عليها بجميع الصفات وهم العلماء بالله المستغرقون في بحر معرفته .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
القراآت : { ذروني } بفتح الياء : ابن كثير { إني أخاف } بفتح الياء : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . أو بصيغة الترديد : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب . الباقون : بواو العطف . { يظهر } بضم الياء وكسر الهاء من الإظهار الفساد بالنصب : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل وحفص . الآخرون : بفتحهما ورفع الفساد { عذت } مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وإسماعيل وهشام { التنادي } بالياء في الحالين : ابن كثير ويعقوب وافق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل { قلب متكبر } بالتنوين فيهما على الوصف : أبو عمرو وقتيبة وابن ذكوان . الباقون : على الإضافة . { لعلي أبلغ الأسباب } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { فأطلع } بالنصب : حفص . { اتبعوني } بالياء في الحالين : سهل وابن كثير ويعقوب وافق أبو عمرو ويزيد والأصفهاني عن ورش وإسماعيل وأبو نشيط عن قالون في الوصل . { مالي } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع { أمري إلى الله } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { تقوم } بتاء التأنيث : الرازي عن هشام { أدخلوا } من الإدخال : أبو جعفر ونافع ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص . وعلى هذه القراءة الخطاب للزبانية . وانتصب { آل } و { أشدّ } على أنهما مفعول بهما . وعلى القراءة الأخرى هو لآل فرعون ، وانتصب { آل } على النداء لا على أنه مفعول به .
الوقوف : { مبين } 5 لا { كذاب } 5 { نساءهم } ط { ضلال } 5 { رّبه } ج لاحتمال اللام { مؤمن } قف قد قيل : بناء على أن الجار يتعلق بالفعل بعده والوصل أصح أنه كان من القبط ، ولو فرض أنه لم يكن منهم فالجملة وصف له { من ربكم } ج لانتهاء الاستفهام إلى الابتداء بالشرط { كذبه } ج للعطف والشرط { بعدكم } ط { كذاب } 5 { في الأرض } ز لابتداء الاستفهام والوجه الوصل لأن المقصود الوعظ به { جاءنا } ط { الرشاد } 5 { الأحزاب } 5 لا لأن ما بعده بدل { بعدهم } ط { للعباد } 5 { التناد } 5 ط لأجل البدل { مدبرين } ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً { من عاصم } ج لاحتمال كون ما بعده ابتداء إخبار من الله سبحانه وكونه من كلام المؤمن { من هاد } 5 { جاءكم به } ط { رسولاً } ط { مرتاب } 5 ج لاحتمال البدل فإن « من » في معنى الجمع أو الاستئناف أي هم الذين أو أعني أنهم { آمنوا } ط { جبار } 5 { الأسباب } 5 لا { كاذباً } ط { السبيل } ط { تباب } 5 { الرشاد } ج لأن النداء يبدأ به مع أنه تكرار للأول { متاع } ز للفصل بين تنافي الدارين مع اتفاق الجملتين { القرار } 5 { مثلها } ج لعطف جملتي الشرط { حساب } 5 { النار } 5 ج لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ولاحتمال ابتداء استفهام آخر { الغفار } 5 { النار } 5 { لكم } ط { إلى الله } ط { بالعباد } 5 { العذاب } 5 ج لاحتمال البدل والابتداء { وعشياً } ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف { الساعة } قف لحق القول المحذوف أي يقال لهم أو للزبانية { لعذاب } 5 { من النار } 5 { العباد } 5 { من العذاب } 5 { بالبينات } ط { بلى } ط { فادعوا } ج لاحتمال أن ما بعده من قول الخزنة أو ابتداء إخبار من الله تعال { ضلال } 5 .
التفسير : لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية ، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة توبيخ وتذكير لهم . وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها ، فلا جرم أوردها ههنا مع فوائد زائدة على ما في المواضع الأخر منها : ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه . ولأن القصة قد تكررت مراراً فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام . قوله { بالحق } أي بالمعجزات الظاهرة . وقوله { اقتلوا } يريد به إعادة القتل كما مر في « الأعراف » في قوله { سنقتل أبناءهم } [ الآية : 127 ] قوله { إلا في ضلال } أي في ضياع واضمحلال . فإن كان اللام في { الكافرين } للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار ، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم وإستيلاء موسى وقومه على ديارهم . قوله { ذروني أقتل موسى } ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات : الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون . الثاني قال الحسن : إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك ، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا : إنه كان محقاً وعجزوا عن جوابه فقتله . الثالث : لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة . قال جار الله : إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالاً سفاكاً للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحسن بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال { إني أخاف أن يبدّل } الآية . ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك . قال : وقوله { وليدع ربّه } شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه . وقال غيره : هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه . ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في « الأعراف » في قوله { ويذرك وآلهتك } [ الآية : 127 ] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء ، أراد أن يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعاً ، أو أحد الأمرين على القراءتين .
ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله . وفي تصدير الجملة بأن دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات . وفي قوله { بربي } إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني . وفي قوله { وربكم } احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره { ألم نربك فينا وليدا } [ الشعراء : 18 ] وفيه بعث لقوم موسى على أن يقتدوا به في الاستعاذة فإن اجتماع النفوس له تأثير قوي . وفي قوله { من كل متكبر } أي متكبر عن قبول الحق على سبيل العموم فائدتان : إحداهما شمول الدعاء فيدخل فيه فرعون بالتبعية . والثانية أن فرعون رباه في الصغر فلعله راعى حسن الأدب في عدم تعيينه . وأما وصف المتكبر بقوله { لا يؤمن بيوم الحساب } فلأن الموجب لإيذاء الناس أمران : أحدهما قسوة القلب . والثاني عدم اعتقاد بالجزاء والحساب . ولا ريب أنه إذا اجتمع الأمران كان الخطب أفظع لاجتماع المقتضى وارتفاع المانع . ثم شرع في قصة مؤمن آل فرعون . والأصح أنه كان قبطياً ابن عم لفرعون آمن بموسى سراً واسمه سمعان أبو حبيب أو خربيل . وقيل : كان إسرائيلياً . وزيف بأن المؤمنين من بني إسرائيل لو يعتلوا ولم يعزوا لقوله { اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه } فما الوجه في تخصيصه؟ ولقائل أن يقول : الوجه تخصيصه بالوعظ والنصيحة إلا أن قوله : { فمن ينصرنا من بأس الله } وقوله { يا قوم } على رأس كل نصيحة يغلب على الظن أن يتنصح لقومه . ومعنى { أن يقول } لأجل قوله أو وقت أن يقول كأنه قال منكراً عليهم أترتكبون الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة أي نفس كانت لأجل كلمة حقة وهي قوله { ربى الله } والدليل على حقيتها إظهار الخوارق والمعجزات . وفي قوله { من ربكم } استدراج لهم إلى الاعتراف بالله . ثم احتج عليهم بالتقسيم العقلي أنه لا يخلو من أن يكون كاذباً أو صادقاً . على الأول يعود وبال كذبه عليه ، وعلى الثاني أصابكم ما يتوعدكم به من العقاب . واعترض على الشق الأوّل بأن الكاذب يجب دفع شره بإمالته إلى الحق أو بقتله ، ولهذا أجمع العلماء على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى دينه يجب قتله . وعلى الشق الثاني بأنه أوعدهم بأشياء والنبي صادق في مقالته لا محالة فلم قال { يصبكم بعض الذي يعدكم } ولم يقل « كل الذي »؟ والجواب عن الأوّل أنه إنما ردّد بين الأمرين بناء على أن أمره مشكوك فيما بينهم ، والزمان زمان الفترة والحيرة ، فأين هذا من زماننا الذي وضح الحق فيه وضوح الفجر الصادق بل ظهور الشمس في ضحوة النهار؟ وعن الثاني أنه من كلام المنصف كأنه قال : إن لم يصبكم كل ما أوعد فلا أقل من أن يصيبكم بعضه ، أو أراد عذاب الدنيا وكان موسى أوعدهم عذاب الدنيا والآخرة جميعاً .
وعن أبي عبيدة : أن البعض ههنا بمعنى الكل وأنشد قول لبيد :
ترّاك أمكنه إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وخطأه جار الله وكثير من أهل العربية وقالوا : إنه أراد ببعض النفوس فقط . ثم أكد حقية أمر موسى بقوله { إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب } وقد هداه الله إلى المعجزات الباهرة فهو إذن ليس بمتجاوز عن حدّ الاعتدال ولا بكذاب . وقيل : إنه كلام مستأنف من الله عز وجل ، وفيه تعريض بأن فرعون مسرف في عزمه على قاتل موسى كذاب في ادّعاء الإلهية فلا يهديه الله إلى شيء من خيرات الدارين ويزيل ملكه ويدفع شره ، وقد يلوح من هذه النصيحة وما يتلوها من المواعظ أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه إلى أن قصدوا قتل موسى وعند ذلك أظهر الإيمان وترك التقية مجاهداً في سبيل الله بلسانه . ثم ذكرهم نعمة الله عليهم وخوّفهم زوالها بقوله { يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض } أي غالبين على أرض مصر ومن فيها من بني إسرائيل والقبط { فمن ينصرنا من بأس الله } من يخلصنا من عذابه { إن جاءنا } وذلك لشؤم تكذيب نبيه { قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى } أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قبله { وما أهديكم } بهذا الرأي { إلا سبيل الرشاد } وصلاح الدين والدنيا ، أو ما أعلمكم من الصواب ولا أسر خلاف ما أظهر . قال جار الله : وقد كذب فقد كان مستشعراً للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد . وحكى أبو الليث أن الرشاد اسم من أسماء أصنامه . قوله { مثل دأب } قال جار الله صاحب الكشاف : لا بد من حذف مضاف أي مثل جزاء دأبهم وهو عادتهم المستمرة في الكفر والتكذيب . ثم قال : إنه عطف بيان للأوّل لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح . ولو قلت أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بين لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أوّل المضافات . قلت : لا بأس من جعله بدلاً كما مرّ . وقوله { وما الله يريد ظلماً للعباد } أبلغ من قوله { وما ربك بظلام للعبيد } [ فصلت : 46 ] لأن نفي الإرادة آكد من نفي الفعل ولتنكير الظلم في سياق النفي . وفيه أن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً . وقيل : معناه أنه لا يريد لهم أن يظلموا فدمرهم لكونهم ظالمين . وحين خوّفهم عذاب الدنيا خوّفهم عذاب الآخرة أيضاً فقال { ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد } أما اليوم فيمكن انتصابه على الظرفية كأنه أخبر عن خوفه في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب ، والأولى أن يكون مفعولاً به أي أحذركم عذاب ذلك اليوم .
وفي تسمية يوم القيامة يوم التناد وجوه منها : أن أهل الجنة ينادون أهل النار وبالعكس كما مر في سورة الأعراف . ومنها أنه من قوله { يوم ندعو كل أناس بإمامهم } [ الإسراء : 71 ] ومنها أن بعض الظالمين ينادي بعضاً بالويل والثبور قائلين يا ويلنا . ومنها أنهم ينادون إلى المحشر . ومنها أنه ينادي المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر يا ليتني لم أوت كتابيه . ومنها أنه يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادي في أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنة فرحاً على فرح ، وأهل النار حزناً على حزن . وقال أبو علي الفارسي : التناد مخفف من التنادّ مشدداً وأصله من ندّ إذا هرب نظيره { يوم يفر المرء من أخيه وأمه } [ عبس : 34 ] الخ . ويؤيده قراءة ابن عباس مشدداً وتفسيره بأنهم يندون كما تند الإبل . وقوله بعد ذلك { يوم تولوّون مدبرين } أنهم إذا سمعوا زفير النار ندّوا هاربين فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفاً فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه . وقال قتادة : معنى تولون مدبرين انصرافهم عن موقف الحساب إلى النار . ثم أكد التهديد بقوله { ما لكم من الله } الآية . ثم ذكر مثالاً لمن لا يهديه الله بعد إضلاله وهو قوله { ولقد جاءكم يوسف } وفيه أقوال ثلاثة أحدها : أنه يوسف بن يعقوب ، وفرعون موسى هو فرعون يوسف ، والبينات إشارة إلى ما روي أنه مات لفرعون فرس قيمته ألوف فدعا يوسف فأحياه الله . وأيضاً كسفت الشمس فدعا يوسف فكشفها الله ، ومعجزاته في باب تعبير الرؤيا مشهورة ، فآمن فرعون ثم عاد إلى الكفر بعدما مات يوسف . والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب ، أقام فيهم عشرين سنة قاله ابن عباس . والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف إليهم رسولاً من الجن اسمه يوسف وأورده أقضى القضاة أيضاً وفيه بعد . قال المفسرون في قوله { لن يبعث الله من بعده رسولاً } ليس إشارة إلى أنهم صدّقوا يوسف لقوله { فما زلتم في شك } وإنما الغرض بيان أن تكذيبهم لموسى مضموم إلى تكذيب يوسف ولهذا ختم الآية بقوله { كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب } قلت : هذا إنما يصح إذا لم يكن فرعون يوسف قد آمن به لكنه مرويّ كما قلنا اللهم إلا أن يقال : لولا شكه في أمره لما كفر بعد موته قال جار الله : فاعل كبر ضمير عائد إلى من هو مسرف لأنه موحد اللفظ وإن كان مجموع المعنى . وجوّز أن يكون { الذين يجادلون } مبتدأ على تقدير حذف المضاف أي جدال الذين يجادلون كبر . وجوّز آخرون أن يكون التقدير الذين يجادلون كبر جدالهم على حذف الفاعل للقرينة .
وفي قوله { وعند الذين آمنوا } إشارة إلى أن شهادة المؤمنين عند الله بمكان حتى قرنها إلى شهادة نفسه . والمقصود التعجب والاستعظام لجدالهم وخروجه عن حدّ أشكاله من الكبائر ، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه مركزهما ومنبعهما ، أو باعتبار صاحبه . ومن قرأ بالإضافة فظاهر إلا أنه قيل : فيه قلب والأصل على قلب كل متكبر كما يقال : فلان يصوم كل يوم جمعة أي يوم كل جمعة . ثم أخبر الله سبحانه عن بناء فرعون ليطلع على السماء وقد تقدّم ذكره في سورة القصص . قال أهل اللغة : الصرح مشتق من التصريح الإظهار ، وأسباب السموات طرقها كما مر في أوّل « ص » ف { ليرتقوا في الأسباب } [ الآية : 10 ] فائدة بناء الكلام على الإبدال هي فائدة الإجمال ثم التفصيل والإبهام ثم التوضيح من تشويق السامع وغيره . من قرأ { فأطلّع } بالرفع فعلى العطف أي لعلي أبلغ فأطلع . ومن قرأ بالنصب فعلى تشبيه الترجي بالتمني . والتباب الخسران والهلاك كما مر في قوله { وما زادوهم غير تتبيب } [ هود : 101 ] استدل كثير من المشبهة بالآية على أن الله في السماء قالوا : إن بديهة فرعون قد شهدت بأنه في ذلك الصوب وأنه سمع من موسى أنه يصف الله بذلك وإلا لما رام بناء الصرح . والجواب أن بديهة فرعون لا حجة فيها ، وسماعه ذلك من موسى ممنوع . وقد يطعن بعض اليهود بل كلهم في الآية بأن تواريخ بني إسرائيل تدل على أن هامان لم يكن موجوداً في زمان موسى وفرعون وإنما ولد بعدهما بزمان طويل ، ولو كان مثل هذا الشخص موجوداً في عصرهما لنقل لتوفرت الدواعي عن نقله . والجواب أن الطعن بتاريخ اليهود المنقطع الوسط لكثرة زمان الفترة أولى من الطعن في القرآن المعجز المتواتر أولاً ووسطاً وآخراً .
ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المؤمن وأنه أجمل النصيحة أوّلاً بقوله { اتبعون أهدكم } ثم استأنف مفصلاً قائلاً { إنما هذه الحياة الدنيا متاع } يتمتع به أياماً قلائل ثم يترك عند الموت إن لم يزل نعيمها قبل ذلك { وإن الآخرة هي دار القرار } المنزل الذي يستقر فيه . ثم بين أنه كيف تحصل المجازاة في الآخرة وفيه إشارة إلى أن جانب الرحمة أرجح . ومعنى الرزق بغير حساب أنه لا نهاية لذلك الثواب ، أو أنه يعطى بعد الجزاء شيئاً زائداً على سبيل التفضل غير مندرج تحت الحساب . ثم صرح بأنهم يدعونه إلى النار وهو يدعوهم إلى الخلاص عنها وفسر هذه الجملة بقوله { تدعونني لأكفر بالله } الآية . ليعلم أن الشرك بالله أعظم موجبات النار والتوحيد ضدّه . وفي قوله { ما لي أدعوكم } من غير أن يقول « ما لكم » مع أن الإنكار يتوجه في الحقيقة إلى دعائهم لا إلى المجموع ولا إلى دعائه سلوك لطريق الإنصاف .
ووجه تخصيص العزيز الغفار بالمقام أنه غالب على من أشرك به غفور لمن تاب عن كفره . قوله { لا جرم } لا ردّ لكلامهم ، وجرم بمعنى كسب أو وجب أو لا بد وقد سبق في « هود » و « النحل » . ومعنى { ليس له دعوة } أنه لا يقدر في الدنيا على أن يدعو الناس إلى نفسه لأنه جماد ، ولا في الآخرة لأنه إذا أنطقه الله فيها تبرأ من عابديه . ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ليس له استجابة دعوة كقوله { والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء } [ الرعد : 14 ] عن قتادة : المسرفين هم المشركون . ومجاهد : السفاكون للدماء بغير حلها . وقيل : الذين غلب شرهم خيرهم . وقيل : الذين جاوزوا في المعصية حدّ الاعتدال كما بالدوام والإصرار وكيفا بالشناعة وخلع العذار { فستذكرون } أي في الدنيا عند حلول العذاب أو في الآخرة عند دخول النار { وأفوّض أمري إلى الله } قاله لأنهم توعدوه . وفيه وفي قوله { فوقاه الله } دليل واضح على أنه أظهر الإيمان وقت هذه النصائح . قال مقاتل : لما تمم هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه . قوله { وحاق بآل فرعون } معناه أنه رجع وبال مكرهم عليهم فأغرقوا ثم أدخلوا ناراً . ولا يلزم منه أن يكونوا قد هموا بإيصال مثل هذا السوء إليه ، ولئن سلّم أن الجزاء يلزم فيه المماثلة لعل فرعون قد همّ بإغراقه أو بإحراقه كما فعل نمرود . قوله { يعرضون عليها } أي يحرقون بها . يقال : عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به . وقوله { غدوّاً وعشياً } إما للدوام كما مر في صفة أهل الجنة { ولهم رزقهم فيها بكرة وعشياً } [ مريم : 62 ] وإما لأنه اكتفى في القبر بإيصال العذاب إليهم في هذين الوقتين . وفي سائر الأوقات إما أن يبقى أثر ذلك وألمه عليهم ، وإما أن يكون فترة وإما أن يعذبوا بنوع آخر من العذاب الله أعلم بحالهم . وفي الآية دلالة ظاهرة على إثبات عذاب القبر لأن تعذيب يوم القيامة يجيء في قوله { ويوم تقوم الساعة } قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد بعرض النار عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن سماع الحق مرّ طعمه؟ قلنا : عدول عن الظاهر من غير دليل . ولما انجز الكلام إلى شرح أحوال أهل النار عقبة بذكر المناظرات التي تجري فيها بين الرؤساء والأتباع والمعنى : اذكر يا محمد وقت تحاجهم وقد مر نظير ذلك مراراً . وفي قولهم { إن الله قد حكم بين العباد } أي قضى لكل فريق بما يستحقه إشارة إلى الإقناط الكليّ ، ولهذا رجعوا عن محاجة المتبوعين إلى الالتماس من خزنة النار أن يدعوا الله بتخفيف العذاب عنهم زماناً . قال المفسرون : إنما لم يقل لخزنتها لأن جهنم اسم قعر الناس فكأن لخزنتها قرباً من الله وهم أعظم درجة من سائر الخزنة فلذلك خصوهم بالخطاب . أما قول الخزنة لهم { فادعوا } ودعاء الكافر لا يسمع؛ فالمراد به التوبيخ والتنبيه على اليأس كأنهم قالوا : الشفاعة مشروطة بشيئين : كون المشفوع له مؤمناً والشافع مأذوناً له فيها ، والأمر إن ههنا مفقودان على أن الحجة قد لزمتهم والبينة ألجأتهم . ثم أكدوا ذلك بقولهم { وما دعاء الكافرين إلا في ضلال } أي لا أثر له ألبتة .
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
القراآت : { لا ينفع } على التذكير : نافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم { تتذكرون } بتاء الخطاب : عاصم وحمزة وعلي وخلف . { ادعوني أستجب } بفتح الياء : ابن كثير . { سيدخلون } من الإدخال مجهولاً : ابن كثير ويزيد وعباس ورويس وحماد وأبو بكر غير الشموني { شيوخاً } بكسر الشين : ابن كثير وابن عامر وحمزة وعلي وهبيرة والأعشى ويحيى وحماد .
الوقوف { الأشهاد } 5 لا لأن { يوم } يدل من الأول { الدار } 5 { الكتاب } 5 لا { الألباب } 5 { والأبكار } 5 { أتاهم } لا لأن ما بعده خبر « إن » { ما هم ببالغيه } ج لاختلاف الجملتين { بالله } ط { البصير } 5 { لا يعلمون } 5 { ولا المسيء } ط { يتذكرون } 5 { لا يؤمنون } 5 { أستجب لكم } ط { داخرين } 5 { مبصراً } ط { لا يشكرون } 5 { شيء } لا لئلا يوهم أن ما بعده صفة شيء وخطؤه ظاهر { إلا هو } ز لابتداء الاستفهام ورجحان الوصل لفاء التعقيب ولتمام مقصود الكلام { يؤفكون } 5 { يجحدون } 5 { الطيبات } ط { العالمين } 5 { الدين } 5 { العالمين } 5 { شيوخاً } ج لاختلاف الجملتين { تعقلون } 5 { ويميت } ج لأجل الفاء مع الشرط { فيكون } 5 { في آيات الله } ط لانتهاء الاستفهام وابتداء آخر { يصرفون } 5 ج لاحتمال كون { الذين } بدلاً من الضمير في { يصرفون } { رسلنا } قف إن لم تقف على { يصرفون } { يعلمون } 5 لا لتعلق الظرف { والسلاسل } ط لأن ما بعده مستأنف . وقيل : { والسلاسل } مبتدأ والعائد محذوف أي والسلاسل يجرون بها في الحميم { يسجرون } 5 ج للآية مع العطف { من دون الله } ط { شيئاً } ط { الكافرين } 5 { تمرحون } 5 { خالدين فيها } ج { المتكبرين } 5 { حق } 5 { للشرط } مع الفاء { يرجعون } 5 { نقصص عليك } ط { بإذن الله } ج { المبطلون } 5 { تأكلون } 5 ز للآية مع العطف وشدّة اتصال المعنى { تحملون } 5 ط لأن ما بعده مستأنف ولا وجه للعطف . { تنكرون } 5 { من قبلهم } ط للفصل بين الاستخبار والأخبار { يكسبون } 5 { يستهزؤن } 5 { مشركين } 5 { بأسنا } الثاني ط { في عباده } ج لأن الفعل المعطوف عليه مضمر وهو سن { الكافرون } 5 .
التفسير : هذا من تمام قصة موسى وعود إلى مقام انجر الكلام منه وذلك أنه لما قيل { فوقاه الله } وكان المؤمن من أمة موسى علم منه ومما سلف مراراً أن موسى وسائر قومه قد نجوا وغلبوا على فرعون وقومه فلا جرم صرح بذلك فقال { إنا لننصر رسلنا } الآية . ونصرتهم في الدنيا بإظهار كلمة الحق وحصول الذكر الجميل واقتداء الناس بسيرتهم إلى مدة ما شاء الله ، وقد ينصرون بعد موتهم كما أن يحيى بن زكريا لما قتل قتل به سبعون ألفاً . وأما نصرهم في الآخرة فمن رفع الدرجات والتعظيم على رؤوس الأشهاد من الحفظة والأنبياء والمؤمنين وقد مر باقي تفسير الأشهاد في أوائل « هود » .
ثم بين أن يوم القيامة لا اعتذار فيه لأهل الظلم والغواية وإن فرض اعتذار فلا يقبل وسوء الدار عذاب الآخرة . ثم أخبر عن إعطاء موسى التوراة وإيراثها قومه بعده . والمراد بكون الكتاب هدى أنه دليل في نفسه ، وبكونه ذكرى أن يكون مذكراً للشيء المنسيّ . وحين فرغ من قصة موسى وما تعلق بها خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم مسلياً له بقوله { فاصبر إن وعد الله } بالنصر وإعلاء كلمة الحق { حق } كما قص عليك من حال موسى وغيره . ثم أمره باستغفاره لذنبه وقد سبق البحث في مثله مراراً . والعشيّ والإبكار صلاتا العصر والفجر أو المراد الدوام . قوله { إن الذين يجادلون } عود إلى ما انجر الكلام إليه من أول السورة إلى ههنا . وفيه بيان السبب الباعث لكفار قريش على هذا الجدال وهو الكبر والحسد وحب الرياسة ، وأن يكون الناس تحت تصرفهم وتسخيرهم لا أن يكونوا تحت تصرف غيرهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن تكون الأمة تحت أمره ونهيه وذلك تخيل فاسد لأن الغلبة لدين الإسلام ولهذا قال { ما هم ببالغيه } ثم أمره أن يستعيذ في دفع شرورهم بالله السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم فيجازيهم على حسب ذلك . ثم إنهم كانوا أكثر ما يجادلون في أمر البعث فاحتج الله تعالى عليهم بقوله { لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس } ومن قدر على الأصعب في نظر المخالف وقياسه كان على الأسهل أقدر ، فظاهر أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان بل لمجرد الحسد والكبير بل لا يعرفون ما البرهان وكيف طريق النظر والاستدلال ولهذا قال { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
ثم نبه على الفرق بين الجدال المستند على العناد والتقليد وبين الجدال المستند إلى الحجة والدليل قائلاً { وما يستوي الأعمى والبصير } وحين بين التفاوت بين الجاهل والعالم أراد أن يبين التفاوت بين المحسن والمسيء ثم قال { قليلاً ما تتذكرون } وفيه مزيد توبيخ وتقريع ، وفيه أن هذا التفاوت مما يعثر عليه المكلف بأدنى تأمل لو لم يكن معانداً مصراً . ثم صرح بوجود القيامة قائلاً { إن الساعة لآتية } أدخل اللام في الخبر بخلاف ما في « طه » لأن المخاطبين ههنا شاكون بخلاف المخاطب هناك وهو موسى ، وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها . ومعنى { لا يؤمنون } لا يصدّقون بالبعث . ثم إنه كان من المعلوم أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بالطاعة فلا جرم أشار إليها بقوله { وقال ربكم ادعونى أستجب لكم } أكثر المفسرين على أن الدعاء ههنا بمعنى العبادة ، والاستجابة بمعنى الإنابة بقوله سبحانه { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله
{ إن يدعون من دونه إلا إناثاً } [ النساء : 117 ] روى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الدعاء العبادة » وقرأ هذه الآية . وجوّز آخرون أن يكون الدعاء والاستجابة على ظاهرهما ، ويراد بعبادتي دعائي لأن الدعاء باب من العبادة يصدّقه قول ابن عباس : أفضل العبادة الدعاء . وقد مرّ تحقيق الدعاء في سورة البقرة في قوله { أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ الآية : 186 ] وقد فسره ابن عباس بمعنى آخر قال : وحدوني أغفر لكم . وفي الدعاء . قال جار الله : وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد . ومعنى { داخرين } صاغرين . وقال أهل التحقيق : كل من دعا الله وفي قلبه مثقال ذرة من المال والجاه وغير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي ولهذا قد لا يستجاب لأنه اعتمد على غير الله . وفيه بشارة هي أن دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجاباً ألبتة لانقطاع تعلقه وقتئذ عما سوى الله . ثم إنه تعالى ذكر نعمته على الخلائق بوجود الليل والنهار وقد مر نظير الآية مراراً ولا سيما في أواخر « يونس » وأواسط « البقرة » . وكرر ذكر الناس نعياً عليهم وتخصيصاً لكفران النعمة بهم من بين سائر المخلوقات . وأما وجه النظم فكأنه يقول : إني أنعمت عليك بهذه النعم الجليلة قبل السؤال فكيف لا أنعم عليك بما هو أقل منه بعد السؤال؟ ففي تحريض على الدعاء . وأيضاً الاشتغال بالدعاء مسبوق بمعرفة المدعوّ فلذلك ذكر في عدّة آيات دلائل باهرة من الآفاق والأنفس على وحدانيته واتصافه بنعوت الكمال . قوله { ذلكم الله } إلى قوله { إلا هو } قد مر في « الأنعام » . قوله { كذلك يؤفك } أي كل من حجد بآيات الله ولم يكن طالباً للحق فإنه مصروف عن الحق كما صرفوا . قوله { فأحسن صوركم } كقوله { ولقد كرمنا بني آدم } [ الإسراء : 70 ] { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } [ التين : 4 ] قوله { الحمد لله ربّ العالمين } إما استئناف مدح من الله تعالى لنفسه ، وإما بتقدير القول أي فادعوه مخلصين قائلين الحمد لله . قوله { لما جاءني البينات } شامل لأدلة العقل والنقل جميعاً . قوله { ثم لتبلغوا أشدكم } متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا . وأما قوله { ولتبلغوا أجلاً مسمى } فمتعلق بفعل آخر تقديره ونفعل ذلك لتبلغوا أجلاً مسمى هو الموت أو القيامة ، ورجاء منكم أن تعقلوا ما في ذلك من العبر .
وحيث انجر الكلام إلى ذكر الأجل وصف نفسه بأن الإحياء والإماتة منه ، ثم أشار بقوله { فإذا قضى } الخ إلى نفاذ قدرته في الكائنات من غير افتقار في شيء مّا إلى آلة وعدّة . وأشار إلى أن الإحياء والإماتة ليسا من الأشياء التدريجية ولكنهما من الأمور الدفعية المتوقفة على أمر كن فقط ، وذلك أن الحياة تحصل بتعلق النفس الناطقة بالبدن ، والموت يحدث من قطع ذلك التعلق ، وكل من الأمرين يحصل في آن واحد .
ويمكن أن يكون فيه إشارة إلى خلق الإنسان الأوّل وهو آدم كقوله { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ثم عاد إلى ذم المجادلين وذكر وعيدهم قائلا { ألم تر } الآية والكتاب القرآن . وما أرسل به الرسل سائر الكتب . وقوله { فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم } ليس كقول القائل : سوف أصوم أمس . بناء على أن سوف للاستقبال وإذ للمضي ، لأن « إذ » ههنا بمعنى « إذا » إلا أنه ورد على عادة أخبار الله نحو { وسيق } [ الزمر : 73 ] { ونادى } [ الأعراف : 48 ] وقال المبرد : إذ صارت زماناً قبل سوف لأن العلم وقع منهم بعد ثبوت الأغلال . والمعنى علموا من الأغلال الذي كانوا أو عدوه من بعد أن حق بالوجود . ومعنى { يسجرون } قال جار الله : هو من سجر التنور إذا ملأه بالوقود ، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بها مملوءة أجوافهم منها . والحاصل أنهم يعذبون مرة بالماء الشديد الحرارة ومرة بالنار . وقال مقاتل : في الحميم يعني في حر النار { ثم قيل لهم } على سبيل التوبيخ { أينما كنتم } « ما » موصولة مبتدأ و « أين » خبرها . ومعنى { ضلّوا } غابوا وضاعوا ولم يصل إلينا ما كنا نرجوه من النفع والشفاعة ، وأكدوا هذا المعنى بقوله { بل لم نكن ندعوا من قبل شيئاً } يعتدّ به كما تقول : حسبت أن فلاناً شيء فإذا هو ليس بشيء أي ليس عنده خير . ومن جوّز الكذب على الكفار لم يحتج إلى هذا التأويل وقال : إنهم أنكروا عبادة الأصنام . ثم قال { كذلك يضل الله الكافرين } قالت الأشاعرة : أي عن الحجة والإيمان . وقالت المعتزلة : عن طريق الجنة بالخذلان . وقال في الكشاف : أي مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر . واعترض عليه بأنهم مقرونون بآلهتهم في النار لقوله { إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الأنبياء : 98 ] والجواب أن كون الجميع في النار لا ينافي غيبة أحدهما عن الآخر . وأجاب في الكشاف باختلاف الزمان وبتفسير الضلال بعدم النفع . { ذلكم } العذاب بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح أي النشاط { بغير الحق } وهو الشرك وعبادة الصنم . ويجوز أن يكون القول محذوفاً أي يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكل طائفة مقدّرين الخلود فيها { فبئس مثوى المتكبرين } يعني الذين مر ذكرهم في قولهم { إن في صدوركم إلاّ كبر } والمخصوص بالذم محذوف وهو مثواكم أو جهنم . قال جار الله : إنما لم يقل « فبئس مدخل المتكبرين » حتى يكون مناسباً لقوله { ادخلوا } كقولك : زر بيت الله فنعم المزار . لأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء . وحين زيف طريقة المجادلين مرة بعد مرة أمر رسوله بالصبر على إيذائهم وإيحاشهم إلى إنجاز الوعد بالنصرة قال { فإما نرينّك بعض الذي نعدهم } من عذاب الدنيا فذاك { أو نتوفينك فإلينا يرجعون } هذا التقدير ذكره جار الله ، وقد مر في « يونس » مثله .
وأقول : لا بأس أن يعطف قوله { أو نتوفينك } على { نرينك } ويكون الرجوع إلى الله جزاء لهما جميعاً ومعناه : إنا نجازيهم على أعمالهم يوم القيامة سواء عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا . ثم سلاه بحال الأنبياء السابقة ليقتدي بهم في الصبر والتماسك فقال { ولقد أرسلنا } الآية . ذهب بعض المفسرين إلى أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً . وقيل : ثمانية آلاف ، نصف ذلك من بني إسرائيل والباقي من سائر الناس . ولعل الأصح أن عددهم لا يعلمه إلا الله لقوله تعالى { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } [ إبراهيم : 9 ] لكن الإيمان بالجميع واجب . عن علي رضي الله عنه . بعث الله نبياً أسود لم يقص علينا قصته . ثم إن قريشاً كانوا يقترحون آيات تعنتاً كما مر في أواخر « سبحان » وأول « الفرقان » وغيرهما فلا جرم قال الله تعالى { وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله } بعذاب الدنيا أو بالقيامة . وقال ابن بحر : أمر الله الآية التي اقترحوها وذلك أنه يقع الاضطرار عندها { وخسر هنالك } أي في ذلك الوقت استعير المكان للزمان { المبطلون } وهم أهل الأديان الباطلة . ثم عاد إلى نوع آخر من دلائل التوحيد قائلاً { الله الذي جعل لكم الأنعام لتركبوا } قال جار الله : ظاهر النظم يقتضي إدخال لام الغرض في القرائن الأربع أو خلو الكل عنها فيقال : لتركبوا ولتأكلوا ولتصلوا إلى منافع ولتبلغوا . أو يقال : منها تركبون ومنها تأكلون وتصلون وتبلغون إلا أنه ورد على ما ورد لأن الركوب قد يجب كما في الحج والغزو ، وكذلك السفر من بلد إلى بلد لهجرة أو طلب علم لا أقل من الندب فصح أن يكونا غرضين . وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا تتعلق به إرادته كثير تعلق شرعاً . وإنما قال { على الفلك } ولم يقل « وفي الفلك » مع صحته إذ هي كالوعاء إزدواجاً لقوله { وعليها } [ المؤمنون : 22 ] والحمل محمول على الظاهر . وقيل : هو من قول العرب : حملت فلاناً على الفرس إذا وهب له فرساً . ثم وبخهم بقوله { ويريكم آياته فأيّ آيات الله تنكرون } .
ثم حرضهم وزاد توبيخهم بقوله { أفلم يسيروا } الآية . وقد سبق . وقوله { فما أغنى عنهم } « ما » نافية أو استفهامية ومحلها النصب . وقوله { ما كانوا } مصدرية أو موصولة أي كسبهم أو الذي كسبوا . قوله { فرحوا } لا يخلو إما أن يكون الضمير عائداً إلى الكفار أو إلى الرسل .
وعلى الأول فيه وجوه منها : أنه تهكم بعلمهم الذي يزعمون كقولهم { وما أظن الساعة قائمة } [ الكهف : 36 ] { أئذا كنا تراباً وعظاماً أئنا لفي خلق جديد } [ ق : 4 ] ومنها أنه أراد بذلك شبهات الدهرية وبعض الفلاسفة كقولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وحقروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم كما يحكى عن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له : لو هاجرت إليه؟ فقال : نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا . ويروى أن جالينوس قال لعيسى عليه السلام : بعثت لغيرنا . ومنها أن يراد علمهم بظاهر المعاش كقوله { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } [ الروم : 7 ] وذلك مبلغهم من العلم فرحوا به وأعرضوا عن علم الديانات . وعلى الثاني يكون معناه أن الرسل لما رأوا جهل قومهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم . ووجه آخر وهو أن يكون ضمير { فرحوا } للكفار وضمير { عندهم } للرسل أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء . ثم بين أن إيمان البأس وهو حالة عيان العذاب أو أمارات نزول سلطان الموت غير نافع وقد مر مراراً . ومعنى { فلم يك ينفعهم } لم يصح ولم يستقم لأن الإلجاء ينافي التكليف . وترادف الفاءات في قوله { فما أغني } { فلما جاءتهم } { فلما رأوا } { فلم يك } لترتيب الأخبار ولتعاقب المعاني من غير تراخٍ . وقال جار الله : فما أغنى نتيجة قوله { كانوا أكثر منهم } وقوله { فلما جاءتهم } جار مجرى البيان والتفسير لقوله { فلما أغنى } وقوله { فلما رأوا بأسنا } تابع لقوله { فلما جاءتهم } كأنه قال : فكفروا كقولك : رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء . وقوله { فلما رأوا بأسنا } آمنوا وكذلك { فلم يك } تابع لإيمانهم بعد البأس . قال أهل البرهان : وإنما قال ههنا { وخسر هنالك الكافرون } وفيما قبل { المبطلون } لأنه قال هناك { قضى بالحق } ونقيض الحق الباطل ، وههنا ذكر أن إيمان البأس غير مجد ونقيضه الكفر والله أعلم .
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
القراآت : { سواء } بالرفع : يزيد . وقرأ يعقوب بالجر . الباقون : بالنصب { نحسات } بسكون الحاء : ابن كثير وأبو عمرو ونافع وسهل ويعقوب { وأما ثمود } بالنصب : المفضل { نحشر } بالنون { أعداء } بالنصب : نافع ويعقوب . الآخرون : بالياء مجهولاً { أعداء } مرفوعاً .
الوقوف : { حم } كوفي { الرحيم } 5 ج لأن قوله { كتاب } يصلح أن يكون بدلاً من { تنزيل } وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب . ويجوز أن يكون { تنزيل } هو مع وصفه مبتدأ { وكتاب } خبره { يعلمون } 5 ج لأن { وبشيراً } صفة أخرى ل { قرآناً } { ونذيراً } 5 ج لاختلاف الجملتين { لا يسمعون } 5 { عاملون } 5 { واستغفروه } ج { للمشركين } 5 لا { كافرون } 5 { ممنون } 5 { وأنداداً } ط { العالمين } 5 لا للآية مع العطف { أيام } ط لمن نصب { سواء } أو رفع ومن خفض لم يقف { للسائلين } 5 { كرهاً } ط { طائعين } 5 { أمرها } ج للعدول { بمصابيح } ج لحق المحذوف أي وحفظناها حفظاً ولعل الوصل أولى لما يجيء { وحفظاً } 5 { العليم } 5 { وثمود } 5 بناء على أن « إذ » يتعلق بمحذوف هو اذكر أو بمعنى الفعل في الصاعقة أي يصعقون إذ ذاك ، ولا يجوز أن يتعلق ب { أنذرتكم } { إلا الله } ط { كافرون } 5 { منا قوّة } ط { منهم قوّة } ط للفصل بين الإخبار والاستخبار { يجحدون } 5 { الدنيا } ج { لا ينصرون } 5 { يكسبون } 5 { يتقون } 5 { يوزعون } 5 { يعملون } 5 { علينا } ط { ترجعون } 5 { تعملون } 5 { الخاسرين } 5 { مثوى لهم } ط { المعتبين } 5 .
التفسير : { حم } قال بعضهم : الحاء من الحكمة ، والميم من المنة أي منّ على عباده بتنزيل الحكمة من الرحمن في الأزل ، الرحيم في الأبد وهي { كتاب فصلت آياته } أي ميزت أمثالاً ومواعظ وأحكاماً وقصصاً إلى غير ذلك . وقد مر في أوّل « هود » . وانتصب { قرآناً } على المدح والاختصاص أو على الحال الموطئة { لقوم يعلمون } أي لقوم عرب يفهمون معانيه يعني بالأصالة وللباقين بعدهم ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فالدعوة تحصل أوّلاً لهم . والأظهر عندي أنه كقوله { هدى للمتقين } [ البقرة : 2 ] وذلك أنه لا ينتفع بالقرآن إلا أهل العلم به . قال أهل السنة : الصفات المذكورة ههنا للقرآن توجب شدة الاهتمام بمعرفته . والوقوف على معانيه بيانه أن كونه نازلاً من الرحمن الرحيم دليل على أن تنزيله رحمة للعالمين ، وفيه شفاء لأمراض القلوب ، وكونه كتاباً . والتركيب يدور على الجمع كما سبق في أول الكتاب يدل على أن فيه علوم الأوّلين والآخرين . وقوله { فصلت آياته } دليل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه { قرآناً عربياً } ولغة العرب أفصح اللغات مما يوجب أن تتوفر عليه الرغبات ولا سيما للعرب ومن داناهم . وكونه { بشيراً ونذيراً } يدل على أن الاحتياج إليه من أهم المهمات لأنه سعي في معرفة ما يوصل إلى الثواب الأبديّ ، ويخلص من العقاب السرمدي .
فإذا علم المخاطبون هذه الفوائد ثم أعرض أكثرهم عن القرآن ولم يسمعوه سماع قبول دل ذلك على أن المهديّ من هداه الله ومن يضلله فلا هادي له . ثم أكد بيان إعراضهم بقوله { وقالوا قلوبنا في أكنة } ولا يخفى أنه سبحانه ذكر هذا في معرض الذم فوجه الجمع بينه وبين قوله { وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً } [ الأنعام : 25 ] هو أن الذم إنما يتوجه على اعتقادهم أنهم إذا كانوا كذلك لم يجز تكليفهم ولا خطابهم بالأمر والنهي ، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء . قال جار الله : فائدة « من » في قوله { ومن بيننا وبينك حجاب } دون أن يقول « وبيننا » هو أن العبارة الثانية تدل على مطلق الحجاب ، ولكن العبارة الواردة في القرآن تفيد أن المسافة التي بينهم وبين رسول الله مملوءة من الحجاب لا فراغ فيها كأنه قيل : إن الحجاب ابتدأ منا ومنك . ثم حكى عنهم ما قالوا على سبيل التهديد أو التحلية { فاعمل } أي على دينك أو في إبطال ديننا { إننا عاملون } على ديننا أو في إبطال أمرك . ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم بقوله { إنما أنا بشر مثلكم } وتوجيه النظم إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبراً فإني بشر مثلكم ولا امتياز إلا أني أوحي إليّ بالتوحيد والأمر به ، فعليّ البلاغ وحده . ثم إن قبلتم قولي أثابكم الله وإلا عاقبكم . قال في الكشاف : أراد إن نبوّتي صحت بالوحي وإذا صحت وجب اتباعي ومن جملة ذلك القول بالتوحيد . ثم بين أن خلاصة الوحي ترجع إلى أمرين : الاستقامة والإقامة على التوحيد المتوجهين إلى الله والاستغفار من تقصير قد يقع في الطاعة . ثم هددّ أهل الشرك بقوله { وويل للمشركين } وقرن منع الزكاة بالكفر بالله أوّلاً وبالآخرة ثانياً ، لأن المال شقيق الروح ، وبه وببذله في سبيل الله يعرف الموافق من المنافق ، ففيه بعث شديد لأهل الإيمان على أداء الزكاة ، وفيه أن الشفقة على خلق الله قرينة التعظيم لأمر الله . وقيل : كانت قريش يطعمون الحاج ولا يطعمون المؤمنين فنزلت قاله الفراء . وقيل : أراد بالزكاة ههنا الإيمان لأنه يزكي النفس من دون الشرك . ثم ذكر جزاء المطيعين وهو ظاهر . والممنون المقطوع . وقيل : هو من المنة . قال جمع من المفسرين : نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون .
لما حكى بعض قبائح المشركين وسائر الكفرة أراد أن يورد دليلاً على التوحيد فأمر رسوله أن يوبخهم بقوله { أئنكم لتكفرون بالذي } سمعتم ممن تصدّقونهم من أهل الكتاب غيركم أنه { خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً } عمم الكفر أوّلاً ثم خصص بنوع الشرك { وجعل فيها رواسي } ومعنى { من فوقها } أي بالنسبة إلى سكان المعمورة تذكيراً لنعمة فوق نعمة فإن الجبال منافعها أكثر من أن تحصى يعرف بعضها أهلها ولعلنا قد عددنا في أوّل « البقرة » طرفاً منها .
{ وبارك فيها } بوضع الخيرات الكثيرة فيها . قال ابن عباس : يريد شق الأنهار وخلق الجبال والأشجار والحيوانات وكل ما يحتاج إليه { وقدّر فيها أقواتها } عن مجاهد : يعني المطر فإنه بمنزلة الغذاء للأرض به حياتها . وعن محمد بن كعب : أراد أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم . وقيل : لا حاجة إلى الإضمار فإن الإضافة تحسن لأدنى ملابسة أي وقدر فيها أقواتها التي يختص حدوثها بها { في أربعة أيام } يعني مع اليومين الأوّلين فيكون إيجاد نفس الأرض في يومين وإيجاد هذه الأشياء في يومين آخرين والمجموع أربعة أيام وخلق السماء في تتمة ستة فتكون هذه الآية موافقة لسائر الآيات ، وقد سبق هذا المعنى في أوّل سورة البقرة . من قرأ { سواء } بالرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سواء . ثم إن كان الضمير للأربعة فمعناه أن تلك الأيام مستوية في الطول والقصر كأيام خط الاستواء ، أو هي تامة غير ناقصة بشيء فقد يطلق لفظ الكل على الأكثر ، وهذه إحدى فوائد العدول عن العبارة الصريحة وهي أن لو قال في يومين آخرين . وقال بعضهم : من فوائده أنه لا يجوز عطف قوله { وجعل } على { خلق } لأن قوله { وتجعلون } معطوف على { لتكفرون } ولا يجوز أن يحال بين صلة الموصول وما يعطف عليه بأجنبي لا يقال : جاءني الذي يكتب وجلس يقرأ فلا بدّ من إضمار فعل مثل الأول فتقدير الكلام : ذلك أن رب العالمين خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام ، وهو كلام لا يرد عليه سؤال أصلاً . ومن قرأ بالجر فعلى وصف الأربعة بالاستواء والمعنى كما مر . ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي استوت استواء . ثم إن كان الضمير للأربعة فالمعنى كما قلنا ، وإن كان للأقوات . وكذا في قراءة الرفع احتمل أن يكون { للسائلين } متعلقاً به أي الأقوات والأرزاق سواء لمن سأل ولمن لم يسأل لما روى عن ابن عباس قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا رديفه يقول : خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة ، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ولمن لم يسأل ، وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق ، ومن سأل فهو جهل منه . واحتمل أن يكون قوله { للسائلين } متعلقاً بقوله { وقدّر } أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها وهم في الاحتياج سواء . وقيل : إنه متعلق بمحذوف كأنه قيل : هذا الحصر والبيان لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها ، لأن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك .
قوله { ثم استوى إلى السماء } أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء ، وقد مر في أول « البقرة » . قوله { وهي دخان } ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان ، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض ، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات . وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور ، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمساً وقمراً وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان ، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور . واعلم أن ظاهر قوله { ثم استوى } يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر . وفي الآثار ، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى { إن يسرق فقد } [ يوسف : 77 ] أي إن يكن يسرق . وزيف بأن الجمع بين « ثم » الدال على التأخر وبين إضمار « كان » الدال على التقدم جمع بين النقيضين . ويمكن أن يجاب بأن « ثم » ههنا لترتيب الأخبار . وقال الإمام فخر الدين الرازي : المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله { خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] فإن إيجاد الموجود محال . فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا . قلت : لو لم يكن قوله تعالى { وجعل فيها رواسي من فوقها } إلى قوله { أربعة أيام } لكان هذا التأويل له وجه . وقال بعض الصوفية : خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد ، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها ، وبارك فيها بالحواس الخمسة ، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي ، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطواراً سبعة كقوله { وقد خلقكم أطواراً } [ نوح : 15 ] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] ثم الحكمة « ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه » ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام الرباني . قوله { فقال لها وللأرض ائتيا } الآية .
للمفسرين فيه قولان : الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال { طائعين } على لفظ جمع المذكر السالم ، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء . ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع . ومن هؤلاء من قال : نطق من الأرض موضع الكعبة ، ومن السماء ما بحذائها ، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض . وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا : معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم ، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا : جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك . ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال : أتى عمله مرضياً . ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قراراً والسماء سقفاً لها . وقوله { طوعاً أو كرهاً } إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده : لتفعلن هذا شئت أو أبيت ، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين . والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة ، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم ، وأن يكون المراد ما تقدم . وقال بعضهم : الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف . وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره . قلت : لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما . قوله { فقضاهن } قضاء الشيء إتمامه والفراغ منه مع الإتقان . والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سموات سبع . وانتصب { سبع سموات } على الحال . وإما مبهم مميز بما بعده . يروى أنه خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين ، وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء ، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة ، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة ، فخلق فيها آدم وأسكنه الجنة وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة . { وأوحى في كل سماء أمرها } أي أمر أهلها من العبادة والتكليف الخاص بكل منهم ، فبعضهم وقوف وبعضهم ركوع وبعضهم سجود ، وعلى هذا احتمل أن يكون خلق الملائكة مع السموات وقبلها . وقيل : الإيحاء ههنا التكوين والإيجاد وأمرها شأنها وما يصلحها { وزينا السماء الدنيا بمصابيح } أي بالنيرات المضيئة كالمصباح { وحفظناها } حفظاً من الشياطين المسترقة للسمع كما مرّ مراراً . وجوّز جار الله أن يكون { حفظاً } مفعولاً له على المعنى كأنه قال : وخلقنا المصابيح زينة { وحفظاً ذلك تقدير العزيز العليم } فلكمال عزته قدر على خلق ما خلق ولشمول علمه دبر ما دبر .
ثم قال لنبيه عليه السلام { فإن أعرضوا } عن التوحيد بعد هذا البيان الباهر والبرهان القاهر { فقل أنذرتكم صاعقة } لأن الإصرار على الجهل بعد وضوح الحق عناد ، ولا علاج للمعاند سوى التأديب بما يناسبه .
يروى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش : قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلاً عالماً بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره . فقال عتبة بن ربيعة : أنا ذاك . فأتاه وقال : أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا . وعرض عليه الرياسة والنساء والأموال إن ترك ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { بسم الله الرحمن الرحيم } إلى قوله { مثل صاعقة عاد وثمود } فهال عتبة بذاك وناشده بالرحم ورجع ولم يأت قريشاً . فلما احتبس عنهم قالوا : ما نرى عتبة إلا قد صبأ . فانطلقوا إليه فقال : والله لقد كلمته فأجابني بشيء ، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ولما بلغ { صاعقة عاد وثمود } ناشدته بالرحم أن يكف . ولقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب . فإن قيل : كيف يصح هذا الإنذار وقد أخبر الله سبحانه في قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] وإن هذه الأمة آمنون من العذاب؟ قلنا : الأنفال مدنية وهذه مكية . قوله { إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم } قيل : الضميران عائدان إلى الرسل أي جاءهم رسل بعد الرسل . وقيل : من بين أيديهم أي حذروهم الدنيا { ومن خلفهم } الآخرة . وقيل : من بين أيديهم الذين عاينوهم ، ومن خلفهم الذين وصل إليهم خبرهم وكتبهم . وحقيقة بين يديه أن يستعمل للشيء الحاضر ، ومجازه أن يستعمل للشيء الماضي بزمان قريب . وقال بعض المحققين : معناه أتاهم الرسل من كل جهة وأعملوا في إرشادهم كل حيلة { أن لا تعبدوا } ويجوز أن تكون « أن » مفسرة أو مخففة وضمير الشأن مقدر . والفاء في قوله { فإنا } للجزاء كأنه قيل : فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فانا لا نؤمن بكم . وقولهم { ربنا } وكذا بما أرسلتم أي على زعمكم ، أو أرادوا التهكم . ثم فصل حال كل فريق قائلاً { فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق } وهذا إخلال بالشفقة على الخلق { وقالوا من أشد منا قوّة } وهذا إخلال بالتعظيم لأمر الله ولهذا وبخهم بقوله { أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشدّ منهم قوة } لأن الفاعل والعلة أقوى من القابل والمعلول ، والقوة في الإنسان نتيجة صحة البنية والاعتدال وحقيقتها زيادة القدرة فلذلك جاز أن يقال : الله أقوى منهم كما صح أن يقال : الله أقدر ، الله أكبر . وإن كان لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي . وقوله { وكانوا بآياتنا يجحدون } معطوف على قوله { فاستكبروا } وقالوا : إن التوبيخ المذكور وقع اعتراضاً في البين .
ثم أخبر عن إهلاكهم والصرصر الريح الباردة الشديدة ضوعفت من الصر بالكسر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض ، أو من صرير الباب . والتركيب يدور على الضم والجمع . عن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي ومع ذلك أهلكت الكل . والأيام النحسات هي التي فسرها الله سبحانه في الحاقة { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام } [ الآية : 7 ] والنحس بالسكون ضد السعد وهو إما مخفف نحس بالكسر أو هو أصل في نفسه كضخم ، أو وصف لمصدر . واستدل به بعض الأحكاميين على أن بعض الأيام يصح وصفه بالسعادة وبعضها بضدها . وأجاب بعض المتكلمين بأن المراد بالنحوسة كونها ذات غبار وتراب وبرد . والإنصاف أنه تكلف خارج عن قانون اللغة . والإضافة في قوله { عذاب الخزي } كهي في قولك : رجل صدق . وقوله { ولعذاب الآخرة أخزى } من الإسناد المجازي فإن الذل والهوان لصاحبه . قوله { وأما ثمود } مرتفع على الابتداء . قوله { فهديناهم } خبره قال سيبويه : هذا أفصح لأن أما من مظان وقوع المبتدأ بعده . وقرىء بالنصب إضماراً على شريطة التفسير . واتفقوا على أن المراد بالهداية ههنا الدلالة المجردة لقوله بعده { فاستحبوا العمى } يعني عمى البصيرة وهي الضلالة { على الهدى } إلا أن المعتزلة تأوّلوه بأنه إنما شاع استعماله في الدلالة المجردة لأنه مكنهم وأزاح علتهم فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها . على أن المراد المعقولة ونقيضها ، وقد مر هذا البحث في أول « البقرة » في قوله { هدى للمتقين } [ الآية : 2 ] وصاعقة العذاب داهيته وقارعته ، والهون مصدر بمعنى الهوان وصف به العذاب مبالغة ، أو أبدله منه وكسبهم شركهم وتكذيبهم صالحاً وعقرهم الناقة . ثم بين أحوال الذين آمنوا واتقوا المعاصي بقوله { ونجينا } الآية . وحين بين عقوبتهم في الدنيا أخبر عن عذابهم وعذاب أمثالهم في الآخرة فقال { ويوم يحشر } الآية . والعامل فيه « اذكر » محذوفاً ، أو هو ظرف لما يدل عليه { يوزعون } كأنه قيل : يمنعون يوم يحشر فيحبس أوائلهم حتى يلحق بهم أواخرهم . قال جار الله : هو عبارة عن كثرة أهل النار . قلت : وذلك لأن الإيزاع لا يحتاج إليه إلا عند كثرة العدد كما مر في « النحل » . وما الإبهامية في قوله { حتى إذا ما جاؤها } تفيد التأكيد . وهو أن عند وقت مجيئهم لا بد أن تحصل هذه الشهادة وشهادة الجلود بملامسة ما هو محرم . وعن ابن عباس : المراد شهادة الفروج فيكون كناية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « أوّل ما يتكلم من الآدميّ فخذه وكفه » وفيه وعيد شديد في فعل الزنا لأن مقدمته تحصل بالكف ونهايته تكون بمساعدة الفخذ . قوله { أنطق كل شيء } من العمومات المخصوصة أي ممن يصح النطق منه . والمراد أن القادر على خلقكم وإنطاقكم في المرة الأولى في الدنيا ، ثم خلقكم وإنطاقكم مرة أخرى ، وثالثة في القبر وفي القيامة ، كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟ وقد مر تمام البحث في « يس » .
عن ابن مسعود قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال آخر : إذا رفعنا أصواتنا يسمع وإلا لم يسمع . وقال الآخر : إن كان يسمع إذا رفعنا أصواتنا يسمع إذا خفضنا . فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل { وما كنتم تستترون } الآية . وذلك أنهم كانوا يستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب القبائح فقيل لهم : ما كان استتاركم ذلك خفية أن تشهد عليكم جوارحكم هذه ، لأن ذلك غير ممكن فإنها متصلة بكم وهي أعوانكم ومع ذلك لم يكن استتاركم في اعتقادكم أنها تشهد عليكم ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيراً مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم . وفيه ردّ على بعض الجهلة الذين يستخفون من الناس ولا يمكنهم الاستخفاء من الله ، وفيه تنبيه على أن المؤمن يجب عليه أن يكون في أوقات خلواته أهيب لربه وأوفر احتشاماً ومراقبة . ثم أخبر { فإن يصبروا فالنار مثوى لهم } ولا ينتج الصبر لهم فرجاً وخلاصاً { وإن يستعتبوا } يطلبوا من الله الرضا عنهم { فما هم من المعتبين } أي من المرضيين . والمراد أنهم باقون في مكروههم أبداً ، سكتوا أو نطقوا . قال الضعيف مؤلف الكتاب : إذا كان هذا وعيد من ظن أنه يمكن إخفاء بعض الأعمال من الله بالأستار والحجب فما ظنكم بوعيد من جزم أنه سبحانه غير عالم بالجزئيات نعوذ بالله من هذا الاعتقاد والله أعلم .
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم القراآت : { ربنا أرنا } بسكون الراء : ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ورويس أبو عمرو بالاختلاس . الآخرون : بكسر الراء . { اللذين } بتشديد النون : ابن كثير . { يلحدون } بفتح الياء والحاء : حمزة . الباقون : بضم الياء وكسر الحاء { أعجمي } بهمزة واحدة : هشام . وقرأ بتحقيق الهمزتين : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص إلا الخزاز . الباقون : بالمد { ثمرات } على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل . { شركاي } مثل { من وراي } على وزن { عصاي } قد مر في سورة مريم { إلى ربي } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { ونأى بجانب } وقد مر في السورة { سبحان الذي أسرى } .
الوقوف : { والإنس } ج للابتداء بأن مع احتمال كونه جواب القسم في حق { خاسرين } 5 { تغلبون } 5 { يعملون } 5 { النار } ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً وحالاً أي كائناً لهم فيها { دار الخلد } ج { يجحدون } 5 { الأسفلين } 5 { توعدون } 5 { وفي الآخرة } ج لانقطاع النظم بتقدير الجار مع اتحاد المقول { تدعون } 5 ط لحق المحذوف أي أصبتم أو وجدتم نزلاً { رحيم } 5 { المسلمين } 5 { السيئة } ط { حميم } 5 { صبروا } ج لاتفاق الجملتين مع تكرارها للتوكيد { عظيم } 5 { بالله } ط { العليم } 5 { والقمر } ط { تعبدون } 5 { يسأمون } 5 سجدة { اهتزت وربت } ط { الموتى } ط { قدير } 5 { علينا } ط { القيامة } ط { شئتم } 5 لا ليكون ما بعده دالاً على أنه أمر تهديد { بصير } 5 { لما جاءهم } ج لأن خبر أن محذوف فيتقدر ههنا أو بعد قوله { من خلفه } كما يجيء { عزيز } 5 لا لاتصال الصفة { من خلفه } ط { حميد } 5 { من قبلك } ط { أليم } 5 { وآياته } ط { وعربي } ط { وشفاء } ط { عمى } ط { بعيد } 5 { فيه } ط { بينهم } ط { مريب } 5 { فعليها } ط { للعبيد } 5 { الساعة } ط { بعلمه } ط ج { شركائي } لا لأن { قالوا } عامل { يوم } { آنذاك } لا لأنه في معنى القول وقع على الجملة بعده { من شهيد } 5 ج للآية مع العطف { محيص } 5 { الخير } ز لاختلاف الجملتين إلا أن مقصود الكلام يتم بهما { قنوط } 5 { هذا لي } لا تحرز إعمالاً يقوله مسلم قائمة كذلك { للحسنى } 5 ج لابتداء الأمر بالتوكيد مع فاء التعقيب { عملوا } إمهالاً للتذكر في الحالتين مع اتفاق الجملتين { غليظ } 5 { بجانبه } ج فصلاً بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين { عريض } 5 { بعيد } 5 { الحق } ط { شهيد } 5 { ربهم } ج { محيط } 5 .
التفسير : لما ذكر وعيد الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر . ومعنى { قيضنا } سببنا لهم من حيث لا يحتسبون أو قدرنا أو سلطنا وأصله من القيض وهو البدل ، والمقايضة المعاوضة كأن القرينين يصلح كل منهما أن يقوم مقام الآخر .
والقرناء إخوانهم من الشياطين جمع قرين { فزينوا لهم ما بين أيديهم } وهو الدنيا وما فيها من الشهوات { وما خلفهم } وهو الآخرة بأن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وقيل : ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها ، وما خلفهم ما عزموا على فعله وزينوا لهم فعل مفسدي زمانهم والذين تقدم عصرهم . والآية على مذهب الأشاعرة واضحة . وقالت المعتزلة : معناها أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين . ومعنى { في أمم } كائنين في جملة أمم وقد مر في أوائل الأعراف كانوا يقولون إذا سمعتم القرآن من محمد فارفعوا أصواتكم باللغو وهو الساقط من الكلام فنزلت { وقال الذين كفروا } الآية . يقال : لغى بكسر الغين يلغى بالفتح ، ولغا يلغو فلهذا قرىء بالضم أيضاً ، والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظاً ومعنى ، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف حكم بأنه واجب القبول فدبروا هذا التدبير الفاسد وهو قول بعضهم لبعض { لا تسمعوا لهذا القرآن } إذا قرىء وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالمكاء والهذيان والرجز { لعلكم تغلبون } القارىء على قراءته فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد . وحين حكى حيلتهم ذكر وعيدهم بقوله { فلنذيقن } الآية . والمضاف في قوله { أسوأ } محذوف أي جزاء أسوأ الذي ولذلك أشار اليه بقوله { ذلك جزاء أعداء الله } وقوله { النار } بدل من الجزاء أو خبر مبتدأ مضمر . و { دار الخلد } موضع المقام . قال الزجاج : هو كما يقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها وقد وضع قوله { بما كانوا بآياتنا يجحدون } موضع أن لو قال بما كانوا يلغون إقامة للسبب مقام المسبب ثم حكى عنهم ما سيقولون في النار وهو قولهم { ربنا أرنا } أي أبصرنا { اللذين أضلانا من الجن والإنس } وذلك أن الشياطين ضربان : جني وإنسي ، وقد ورد في القرآن كثيراً ، وقيل : هما إبليس الذي سن الكفر ، وقابيل الذي سن القتل . ومن قرأ بسكون الراء فلثقل الكسرة . وقد يقال : معناه إذ ذاك أعطناه . وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه ، وإذا قلت بالسكون فهو بمعنى الإعطاء ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء وأصله الإحضار . { نجعلهما تحت أقدامنا } أي نطأهما إذلالاً وإهانة { ليكونا من الأسفلين } الأذلين وقيل : في الدرك الأسفل . وتأوله بعض حكماء الإسلام بأنهما الشهوة والغضب المشار إليهما في قوله { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] كأنهم سألوا توفيق أن يجعلوا القرينين تحت قدم النفس الناطقة .
وحين أطنب في الوعيد أردفه بالوعد على العادة المستمرة فقوله { ربنا الله } إشارة إلى العلوم النظرية التي هذه المسألة رأسها وأصلها . وقوله { ثم استقاموا } إشارة إلى الحكمة العملية وجملتها الاستقامة على الوسط دون الميل إلى أحد شقي الإفراط والتفريط كما سبق تقرير ذلك في تفسير قوله
{ اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 5 ] ومعنى « ثم » تراخي الاستقامة في الرتبة عن الإقرار ، وفيه أن حصول العلوم النظرية بدون القسم العملي كشجرة بلا ثمرة . وقال أهل العرفان : قالوا ربنا الله يوم الميثاق في عالم الأرواح ، ثم استقاموا على ذلك في عالم الأشباح . وعن أبي بكر الصديق : معناه لم يلتفتوا إلى إله غيره . { تتنزل عليهم الملائكة } عند الموت أو عنده وفي القبر وفي القيامة . و « أن » مفسرة أو مخففة . ولقد فسرنا الخوف والحزن مراراً والإبشار لازم . قال الجوهري : يقال بشرته بمولود فأبشر إبشاراً . وقوله { ألا تخافوا ولا تحزنوا } إشارة إلى رفع المضار في المآل وفي الحال . وقوله { وأبشروا } إخبار عن حصول المنافع . وقوله { نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا } يقابل قوله { وقضينا لهم قرناء } فللملائكة تأثيرات في الأرواح بالإلهامات الحسنة والخواطر الشريفة كما للشياطين تأثيرات بإلقاء الوساوس والهواجس ، وقد تقدم في أول الكتاب في تفسير الاستعاذة . وإذا كانت هذه الولاية ثابتة في الدنيا بحكم المناسبة النورية كانت بعد الموت أقوى وأظهر لزوال العلائق الجسمانية . وقيل : في الحياة الدنيا بالاستغفار . { وفي الآخرة } بالشفاعة . وقيل : كنا نحفظكم في الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة { ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم } يعني الحظوظ الجسمانية { ولكم فيها ما تدعون } أي تمنون من المواهب الروحانية ، وقد مر في « يس » سائر الوجوه . والنزل ما يهيأ للضيف وقد مر . وفي ذكر الغفور الرحيم ههنا مناسبة لا تخفى . قال أهل النظم إن القوم لما أتوا بأنواع السفاهة والإيذاء كقولهم { قلوبنا غلف } [ البقرة : 88 ] { لا تسمعوا لهذا القرآن } حرض سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على مواظبة التبليغ والدعوة واحتمال أعباء الرسالة والتزام السيرة الفاضلة إظهار المزيتة على الجهال وتحصيلاً للغرض بالرفق واللطف ما أمكن فقال { ومن أحسن قولاً } ووجه آخر في النظم وهو أنه لما مدح الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وذكر جزاءهم وهم أهل الكمال ، أراد أن يبين حال المشتغلين بتكميل الناقصين . زعم بعض المفسرين أن المراد بهذا الدعاء الأذان ، والعمل الصالح الصلاة بين الأذان والإقامة ، ورفعوه إلى عائشة . والأصح أنه عام لجميع الأئمة والدعاة إلى طاعة الله وتوحيده ، ولا ريب أن مصطفاهم ومقتداهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وبعده العلماء بالله وهم الحكماء المتألهون ، وبعدهم العلماء بصفات الله وهم الأصوليون ، ثم العلماء بأحكام الله وهم الفقهاء ، ثم الملوك العادلون الذين يدعون إلى الله بالسيف والسبب . وفي الاستفهام الإنكاري دلالة على أنه لا قول أحسن من الدعاء إلى الله فمن زعم أنه الأذان ذهب إلى أنه واجب وإلا لكان الواجب أحسن منه .
ونوقض بأنا نعلم بالدلائل اليقينية أن الدعوة إلى الدين القويم بالحجة أو السيف أحسن من الأذان فلا يدخل الأذان تحت الآية . قال جار الله : ليس معنى قوله { وقال إنني من المسلمين } أنه تكلم بهذا الكلام ، ولكن المراد أنه جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده كما تقول : هذا قول أبي حنيفة . وقال آخرون : أراد به التلفظ به تفاخراً بالإسلام وتمدحاً . وزعموا أن فيه إبطال قول من جوز : أنا مسلم إن شاء الله . فإنه لو كان ذلك معتبراً لورد في الآية كذلك ولا يخفى ضعفه ، فإن التجويز غير الإيجاب . ثم صبر رسوله صلى الله عليه وسلم على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء أي الدين بل في مطلق أمور التمدن فقال { ولا تستوي الحسنة ولا السيئة } « لا » زائدة لتأكيد نفي الاستواء ، والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة قط ومثالهما الإيمان والشرك والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف ثم إن سائلاً كأنه سأل : فكيف نصنع؟ فأجيب { ادفع بالتي هي أحسن } فإن الحسنة أحسن من السيئة كما يقال : الصيف أحر من الشتاء وذهب صاحب الكشاف إلى أن « لا » غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة . مثاله : رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إسائته . قال : ومن جعل « لا » مزيدة فالقياس على تفسيره أن يقال : ادفع بالتي هي حسنة . ولكنه وضع أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها . قال العارفون : الحسنة التوجه إلى الله بصدق الطلب ، والسيئة الالتفات إلى غيره . { فإذا الذي } إذا فعلت ذلك انقلب عدوك ولياً مصافياً . قال مقاتل : نزلت في أبي سفيان وكان مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يتحاب بعد ذلك لما رأى من لطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطفه . ثم مدح هذه السيرة وأهلها بقوله { وما يلقاها إلا الذين صبروا } أي لا يعمل بها إلا كل صبار على تجرع المكاره . { وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم } من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا يتأثر من الواردات الخارجية ، وقد يفسر الحظ العظيم بالثواب الجزيل . وعن الحسن : ما عظم حفظ دون الجنة . ثم ذكر طريقاً آخر في دفع الغضب والانتقام قائلاً { وإما ينزغنك } وقد مر في آخر الأعراف . والمعنى إن صرفك الشيطان عما أمرت به فاستعذ بالله من شره وإنما قال ههنا { إنه هو السميع العليم } بالفصل وتعريف الخبر ليكون مناسباً لما تقدّمه من قوله { وما يلقاها } مؤكداً بالتكرار وبالنفي والإثبات ولم يكن هذا المقتضى في الأعراف فجاء على أصل الاسم معرفة والخبر نكرة .
وحين ذكر أن أحسن الأقوال هو الدعوة إلى الله بين الدلائل على وجوده فقال { ومن آياته } الخ . والضمير في { خلقهن } للآيات أو الليل وما عطف عليه . ولم يغلب المذكر لأن ذلك قياس مع العقلاء . وفي قوله { إن كنتم إياه تعبدون } تزييف لطريقة الصابئين وسائر عبدة الكواكب جهلاً منهم وزعماً أنها الواسطة بين الخلق والإله ، فنهوا عن هذا التوسيط لأن ذلك مظنة العبادة المستقلة لرفعة شأنها وارتفاع مكانها ، وهذا بخلاف التوجه في الصلاة إلى القبلة فإن الحجر قلما يظن به أنه معبود بالحق والجزم حاصل بأنه لتوحيد متوجهات المصلين عند صلاتهم مع أن للبيت شرفاً ظاهراً في نفسه { فإن استكبروا } عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر { فالذين عند ربك } عندية بالشرف والرتبة وهم الملائكة المقربون { يسبحون له بالليل والنهار } أي على الدوام والاستمرار { وهم لا يسأمون } من السآمة والملالة . والحاصل أنهم إن يمتثلوا ما أمروا به ونهوا عنه وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن ربك لا يعدم عابداً مخلصاً .
ولما فرغ من تقرير الآيات السماوية شرع في الدلائل الأرضية فقال { ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } وأصل الخشوع التذلل فاستعير للأرض التي لا خضرة بها ولا نفع كما وصفها بالهمود وقد مرّ في سورة الحج ، وذلك أنها إذا اهتزت وربت أي انتفخت حين يهم النبت بالخروج منها كانت بمنزلة المختال في زيه وهي قبل ذلك كالفقير الكاسف البال المتلبس بثوب أطمار . وبعد تقرير الدلائل الباهرة ذكر وعيد الملحدين في آياته المنحرفين عن الجادة والوعيد قوله { لا يخفون علينا } وكفى به وعيداً . ثم أكده بالاستفهام على سبيل التقرير وهو قوله { أفمن يلقى } الخ . وقوله { يوم القيامة } ظرف لآمنا أو ليأتي . ثم هددهم بقوله { اعملوا ما شئتم } الخ . ثم أبدل من قوله { إن الذين كفروا بالذكر } أي القرآن لأنهم بكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا معانيه ، وعلى هذا فالخبر هو ما تقدم من قوله { لا يخفون } وإنه كلام مستأنف . وعلى هذا فاختلفوا في خبر « إن » . فالأكثرون على أنه { أولئك ينادون } وما بينهما اعتراض من تتمة الذكر . وقيل : خبره ما يقال إذ التقدير ما يقولون لك . وقيل : هو محذوف . ثم اختلفوا فقال قوم : إن الذين كفروا بالذكر كفروا لما جاءهم . وقال آخرون : هلكوا أو يجازون بكفرهم ونحو ذلك ، وهذا يمكن تقديره بعد قوله { لما جاءهم } وبعد قوله { من خلفه } وبعد قوله { حميد } والعزيز معناه الغالب القاهر بقوة حجته على ما سواه من الكتب ، والمراد أنه عديم النظير لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته . ثم أكد هذا الوصف بقوله { لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه } قال جار الله : وهو تمثيل أي لا يتطرق البطلان إليه بجهة من الجهات فلا ينقص منه شيء ولا يزاد عليه شيء .
وقيل : أراد أنه لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ولن يجيء بعده ما يخالفه . وقد يحتج أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النسخ في القرآن زعماً منه أن النسخ نوع من البطلان ، ولا يخفى ضعفه فإن بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته . { تنزيل } أي هو منزل { من } إله { حكيم } في جميع أفعاله { حميد } إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه . ثم سلى نبيه عليه السلام بقوله { ما يقال لك } وفيه وجهان : أحدهما ما يقول لك كفار قريش إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من المطاعن فيهم وفي كتبهم . { إن ربك لذو مغفرة } للمحقين { وذو عقاب أليم } للمبطلين ، ففوض الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به من الدعاء إلى دينه . وثانيهما ما يقول لك الله إلا مثل ما قال لغيرك من الرسل من الصبر على سفاهة الأقوام وإيذائهم . ويجوز أن يكون المقول هو قوله { إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب } فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخشاه أهل عصيانه . كانوا يقولون : لولا أنزل القرآن بلغة العجم تعنتاً منهم فأجابهم الله بقوله { ولو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا } معترضين منكرين { لولا فصلت آياته } أي بينت بلسان نفهمه . أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟ وإنما جاز هذا التقدير الثاني مع أن المرسل إليهم كثيرون وهم غير أمة العرب ، لأن الغرض بيان تنافر حالتي القرآن ، والذين أنزل القرآن إليهم من العجمية والعربية لا بيان أنهم جمع أو واحد كما تقول : وقد رأيت لباساً طويلاً على امرأة قصيرة اللباس طويل واللابس قصير . ولو قلت : واللابسة قصيرة جئت بما هو أفضل . ومن قرأ بغير همزة الاستفهام فعلى حذفها أو على الإخبار بأن القران أعجمي والرسول أو المرسل إليه عربي ، والغرض أنهم لعنادهم لا ينفكون عن المراء والاعتراض سواء كان القرآن عربياً أو أعجمياً . وفيه إفحام لهم وجواب عن قولهم { قلوبنا في أكنة } فإن القرآن إذا كان بلغتهم وهم فصحاء وبلغاء فكيف لا يفهمونه إلا إذا كان هناك مانع إلهي ولذلك قال { قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء } لداء الجهل { والذين } أي وللذين { لا يؤمنون في آذانهم وقر } وهذا التقدير عند من يجوز العطف على عاملين ، ومن لم يجوز زعم أن الرابط محذوف تقديره : والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر أو في آذانهم منه . وقرأ والذين لا يؤمنون به الخ . والحاصل أنهم لعدم انتفاعهم بالقرآن كأنهم صم عمي . ثم أكد هذا المعنى بقوله { أولئك ينادون من مكان بعيد } فلهذا لا يسمعون النداء أي مثلهم كمثل الشخص الذي ينادي من بعد فلا يسمع ، وإن سمع لم يفهم .
ثم شبه حال القرآن بحال الكتب المتقدمة في أنها اختلف فيها كما اختلف فيه إلا أنه خص كتاب موسى بالذكر لكثرة أحكامه وعجيب قصته . والكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وتأخر العذاب والقضاء بين المصدقين والمكذبين إلى وقتئذ . ثم ذكر أن جزاء كل أحد يختص به سواء كان له أو عليه وأن الله لا يظلم أحداً ثم كان لسائل أن يسأل : متى القيامة التي يتعلق بها الجزاء فقال { إليه } لا إلى غيره { يرد علم الساعة } أي إذا سأل عنها . قيل : لا يعلمها إلا هو . ثم عمم بعد هذا التخصيص وذكر مثالين يعرف منهما أن علم جميع الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا له سبحانه . والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة . ثم ذكر من أحوال القيامة طرفاً آخر فقال { ويوم يناديهم أين شركائي } وهو نداء تهكم أو توبيخ كما مر مراراً { قالوا آذناك } قال ابن عباس : أي أسمعناك من أذن بالكسر أذناً بالفتح إذا استمع . وقال الكلبي : أعملناك قال الإمام فخر الدين الرازي : هو بعيد لأن أهل القيامة يعلمون أنه تعالى يعلم الأشياء علماً واجباً ، فالإعلام في حقه محال . قلت : لو أريد أظهرنا معلومك أين الاستبعاد؟ والمعنى ظهر وحصل في الواقع من جهة قولنا ما كان ثابتاً في علمك القديم أنا سنقوله كقوله { ولما يعلم الله الذين جاهدوا } [ آل عمران : 142 ] أي لم يحصل بعد معلومه في الواقع وقد مر . وقولهم { آذناك } ماض في معنى المستقبل على عادة القرآن أو إنشاء للإيذان أو إخبار عما قيل لهم قبل ذلك فإنه يمكن أن يعاد عليهم هذا الاستفهام مرات لمزيد التوبيخ . ومعنى { ما منا من شهيد } ليس منا من يشهد اليوم بأنهم شركاؤك لأنا عرفنا عياناً أنه لا شريك لك . أو هو كلام الشركاء أحياها الله وأنطقها فتبرأ مما أضيف إليها من الشركة . ومعنى الضلال على هذا التفسير عدم النفع ، ويجوز أن يراد ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا . ومعنى { يدعون } يعبدون . والظن بمعنى اليقين ، والمحيص المهرب . وحين بين أن الكفار تبرؤا في الآخرة من شركائهم بعد أن كانوا مصرين في الدنيا على عبادتهم ، بين أن الكافر تبدله في حالاته كلي أو أكثري . ففي حالة الإقبال لا يسأم من طلب الجاه والمال ، في حالة الإدبار يصير في غاية اليأس والانكسار ، وإن عاودته النعمة بعد يأسه فلا بد أن يقول هذا إنما وجدته باستحقاق لي وهذا لا يزول عني ويبقى علي وعلى عقبي وأنكر البعث ، وعلى فرض وجوده زعم بل جزم أن له عند الله الحالة الحسنى قائساً أمر الآخرة على أمر الدنيا ، ونظير الآية ما سبق في سورة الكهف { ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً } [ الآية : 36 ] فلا جرم خيب الله أمله وعكس ما تصوره بقوله { فلننبئن } وحين حكى قول الكافر أخبر عن أفعاله بقوله { وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه } أي تعظم وتجبر .
وقد سلف في « سبحان » . واستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه ، وقد يستعار الطول لكثرة الدعاء ودوامه أيضاً وإن لم يكن الشيء ذا جزم كما استعير الغلظ لشدة العذاب . فإن قيل : كيف قال أولاً { فيؤس قنوط } ثم قال { فذو دعاء عريض } ؟ قلنا : أراد أنه يؤس بالقلب دعاء باللسان ، أو قنوط من الصنم دعاء الله ، أو الأول في قوم والثاني في آخرين .
ولما ذكر مرات في السورة مبالغة الكفار في العداوة والنفرة من اتباع الرسول والقرآن أرشدهم إلى طريق أحوط مما فيه فقال { قل أرأيتم } الآية . وتقريره أنكم كما سمعتم القرآن أعرضتم عنه ثم كفرتم به حتى قلتم { قلوبنا في أكنة } [ فصلت : 5 ] { لا تسمعوا لهذا القرآن } ومن المعلوم أن هذا ليس ببديهي فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحاً وحينئذ يلزم أن يكون بعدم قبوله العقاب الأبدي . وقوله { ممن هو في شقاق بعيد } من وضع الظاهر مقام المضمر وهو منكم بياناً لبعد شوطهم في الشقاق والخلاف قاله في الكشاف . وأقول : جواب الشرط بالحقيقة محذوف وهو قوله مثلاً فمن أضل منكم . وإنما قال في الأحقاف { وكفرتم } [ الآية : 10 ] بالواو لأن معناه في السورة كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر الكفر فحسن دخول « ثم » مع أنها تفيد التراخي في الرتبة ، وهناك عطف عليه قوله { وشهد شاهد } فلم يحسن إلا الواو . ثم بين أن الإسلام يعلو ولا يعلى وأن الغلبة والنصرة تكون لذويه فقال { سنريهم آياتنا في الآفاق } وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة . { وفي أنفسهم } وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم { حتى يتبين لهم أنه } أي محمداً أو القرآن أو الدين { الحق } ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقاً دل على صدق المخبر بل إعجازه . وواحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء . وعند المحققين الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب والظلم والأنوار والعناصر والمواليد سواه . ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها ، وإنما يوقف عليها حيناً بعد حين . وقد أكثر الله تعالى من تقدير تلك الدلائل في القرآن ، بعضها في السور المكيات وكثير منها في المدنيات ، والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه السفلي كقوله { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } [ الذاريات : 21 ] وفي قوله { سنريهم } دلالة على أن رؤية الأدلة إنما تكون بإراءة الله . قال جار الله : معنى قوله { أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } هو أن هذه الآيات الموعودة تكفيهم دلالة على أن القرآن منزل من عالم الغيب المطلع على كل شيء .
وقال حكماء الإسلام : أراد بقوله { أو لم يكف } توبيخ من ليس له رتبة الاستدلال بنفس الوجود على واجب الوجود ، فإن هذا هو طريقة الصديقين ، وأما غيرهم فإنهم يستدلون بالممكن على الواجب فيفتقرون إلى النظر في الآفاق . قال أهل المعرفة : النظر في الآفاق لأجل العوام والأنفس للخواص وقوله { أو لم يكف } لخواص الخواص . وقيل : أولم يكف الإنسان من الزاجر والرادع عن المعاصي كون الله شهيداً عليهم . وقيل : أراد أنه لا يخلف ما وعد لاطلاعه على الأشياء كلها . ثم ختم السورة بتوبيخ الشاكين في أمر البعث وبالنعي عليهم وأوعدهم بأنه عالم بكل شيء فيجازي كلاً على حسب ما يستحقه والله أعلم .
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
القراآت : { يوحي } على البناء للمفعول : ابن كثير وعباس { يكاد } بالياء التحتانية : نافع وعلي { تنفطرن } بالنون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد والمفضل { إبراهام } كنظائره . { يبشر الله } مخففاً من البشارة : ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي .
الوقوف : { حم عسق } كوفي { من قبلك } ط لمن قرأ { يوحى } مجهولاً كأنه قيل : من الموحي فقال الله أي هو الله { الحكيم } 5 { في الأرض } ط { العظيم } 5 { لمن في الأرض } ط { الرحيم } 5 { عليهم } ز والوصل أوجه لأن نفي ما بعده تقرير لإثبات ما قبله { بوكيل } 5 { لا ريب فيه } ط { السعير } 5 { رحمته } ط { نصير } 5 { أولياء } ج للفصل بين الاستخبار والأخبار مع دخول الفاء { الموتى } ط فصلاً بين المقدور المخصوص وبين القدرة على العموم مع اتفاق الجملتين { قدير } 5 { إلى الله } ط { أنيب } 5 { والأرض } ط { أزواجاً } الثاني ط لأن ضمير { فيه } يحتمل أن يعود إلى الازدواج الذي في مدلول الأزواج أو إلى التدبير وإن لم يسبق ذكره { فيه } ط { شيء } ج لعطف الجملتين المختلفتين { البصير } 5 { والأرض } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال والعامل معنى الفعل في له أو في الملك . { ويقدر } ط { عليم } 5 { فيه } ط { إليه } ط { ينيب } 5 { بينهم } ط كذلك ما بعده ط { مريب } 5 { فادع } ج { كما أمرت } ج { أهواءهم } ج { كتاب } ج كل ذلك للترتيل في القراءة وإن اتفقت الجملتان { بينكم } ط { وربكم } ط { أعمالكم } ط { وبينكم } ط { بيننا } ج { المصير } 5 { شديد } 5 { والميزان } ط { قريب } 5 { بها } ج لعطف الجملتين المختلفتين { منها } ج للعطف أو الحال { الحق } ط { بعيد } 5 { من يشاء } ج لاحتمال عطف وهو على جملة قوله { الله لطيف } وهما متفقتان { العزيز } 5 { في حرثه } ج لعطف جملتي الشرط { نصيب } 5 { به الله } ط { بينهم } ط { أليم } 5 { بهم } ط { الجنات } ط لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { ربهم } ط { الكبير } 5 { الصالحات } ط { في القربى } ط { حسناً } ط { شكور } 5 .
التفسير : الكلام في { حم } كما سبق وأما { عسق } فقد قيل : إنه مع { حم } اسم للسورة . وقيل : رموز إلى فتن كان عليّ يعرفها . وقيل : الحاء حكم الله ، والميم ملكه ، والعين علمه ، والسين سناؤه ، والقاف قدرته . وقيل : الحاء حرب علي ومعاوية ، والميم ولاية المروانية ، والعين ولاية العباسية ، والسين ولاية السفيانية ، والقاف قدرة المهدي . وهذه الأقاويل مما لا معول عليها . وقال أهل التصوف : حاء حبه ، وميم محبوبية محمد ، وعين عشقه ، وقاف قربه إلى سيده . أقسم أنه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله أنه محبوبه في الأزل وبتبعيته خلق الكائنات . والأولى تفويض علمها إلى الله كسائر الفواتح .
وإنما فصل { حم } من { عسق } حتى عدا آيتين خلاف { كهيعص } [ مريم : 1 ] لتقدم { حم } قبله واستقلالها بنفسها ، ولأن جميعها ذكر الكتاب بعدها صريحاً إلا هذه فإنها دلت عليه دلالة التضمن بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب . روي عن ابن عباس أنه لا نبي صاحب كتاب إلا أوحى الله إليه { حم عسق } والله أعلم بصحة هذه الرواية . والأظهر أن يقال : مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك وإلى الأنبياء قبلك . والمراد المماثلة في أصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة كقوله { إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى } [ الأعلى : 18 ، 19 ] وفي ورود لفظ { يوحى } مستقبلاً لا ماضياً إشارة إلى أن إيحاء مثله عادته . ثم بين سعة ملكه وأخبر عن غاية جلاله بقوله { له ما في السموات } الخ . ثم أخبر عن فظاعة ما ارتكبه أهل الشرك فقال { تكاد السموات يتفطرن } وقد سبق في آخر سورة مريم . ومعنى { من فوقهن } أن الانفطار يبتدىء من أعلى السموات أو ما فوقها من العرش والكرسي إلى أن ينتهي إلى السفلي ، وفي الابتداء من جهة الفوق زيادة تفظيع وتهويل . قال جار الله : كأنه قيل يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن . وقيل : معناه من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها وفيه ضعف لأنه كقول القائل : السماء فوقنا . وقيل : الضمير للأرض وقد تقدم ذكرها أي من فوق الأرضين وروى عكرمة عن ابن عباس : يتفطرن من ثقل الرحمن . فإن صحت الرواية كان في الظاهر دليل المجسمة . ولأهل السنة أن يتأولوا الثقل بالهيبة والجلال أو يقدروا مضافاً محذوفاً أي من ثقل ملائكة الرحمن كقوله صلى الله عليه وسلم « أطت السماء أطأ وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد . » ثم انتقل من وصف الجسمانيات إلى ذكر الروحانيات ، وأنهم بالوجه الذي لهم إلى عالم الأرواح يسبحون بالوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام يستغفرون فقال { والملائكة } قيل : هو عام . وقيل : حملة العرش كما مر في أول سورة المؤمن إلا أنه عمم ههنا فقال { لمن في الأرض } أي يطلبون أن لا يعاجل الله أهل الأرض بالعذاب طمعاً في توبة الكفار والفساق منهم . وقيل : هو مخصوص بما مر أي يستغفرون للمؤمنين منهم . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن المشركين إنما يحاسبهم الله وما عليك إلا البلاغ . قوله { وكذلك أوحينا } قال ابن بحر : هو الكلام الأول أعيد لما اعترض بين الكلامين ما اعترض . وقال جار الله : الكاف مفعول به لأوحينا ، { وذلك } إشارة إلى المذكور قبله من أن الله هو عليهم الرقيب وما أنت عليهم برقيب . وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه في مواضع .
{ وقرآناً عربياً } حال . والمعنى مثل ذلك المذكور أوحينا إليك وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه ليفهم معناه ولا يتجاوز حد الإنذار . ويجوز أن يكون { ذلك } إشارة إلى الإيحاء أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك وأوحينا إليك ، فيجوز أن تكون المماثلة بالحروف المفردة وأن تكون بأصول الدين كما مر . قال أهل اللغة : يقال أنذرته كذا وبكذا . فمن الاستعمال الثاني قوله { لتنذر أم القرى } أي أهل مكة على حذف المضاف ، والمفعول الثاني وهو القرآن محذوف . ومن الاستعمال الأول قوله { وتنذر يوم الجمع } والمفعول الأول محذوف وتنذر الناس يوماً تجمع فيه الخلائق أو يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو بين كل عامل وعمله . قلت : ومن الجائز أن يكون الكل من الاستعمال الأول ولا حذف إلا ان قوله { وتنذر } يكون مكرراً للمبالغة والتقدير الأصلي : لتنذر أم القرى يوم الجمع . وقد مر في القصص في قوله { حتى يبعث في أمها } [ الآية : 59 ] أن مكة لم سميت أم القرى . وقوله { ومن حولها } يحتمل عموم أطراف الأرض لأن مكة في وسطها ، ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله { وما أرسلناك إلا كافة للناس } [ سبأ : 28 ] وقوله { لا ريب فيه } اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة . وقوله { فريق } مبتدأ محذوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا ، أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع .
ثم بين بقوله { ولو شاء الله } الخ . أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق بمشيئته وإرادته . وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر ، وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء ، وقد مر نظائره مراراً . والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم . وقيل : أن يكونوا أهل ضلالة قياساً على قوله { ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } [ الزخرف : 33 ] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلاً { أم اتخذوا من دونه أولياء } إن أرادوا أولياء بحق { فالله هو الولي } الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه { يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير } وهو الحقيق بأن يتخذ ولياً . وحين منع الرسول صلى الله عليه وسلم من التحزن على من كفر أراد أن يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال { وما اختلفتم } والتقدير : قل يا محمد كذا بدليل قوله { ذلكم الله ربي } الآية . والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين . وقيل : وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول } [ النساء : 59 ] وقيل : وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة .
وقيل : ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا : الله أعلم كمعرفة الروح وغيره . قال في الكشاف : ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم . قلت : إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده . وقوله { وما اختلفتم } شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل { يا أيها الناس } ومثل { أقيموا الصلاة } والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه ، وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد . فإن قيل : المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد . قلنا : إذا كان القياس مأموراً به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيباً ، كانت المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال « اختلاف أمتي رحمة » ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيداً لصحة أحكامه فقال { فاطر السموات والأرض } وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف . ومعنى { ومن الأنعام أزواجاً } أنه خلق للأنعام أيضاً من أنفسها أزواجاً { يذرؤكم فيه } يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجاً حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل . والضمير في { يذرؤكم } راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين ، وذلك أن فيه تغليبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة ، وتغليب العقلاء على غيرهم . وعلة الأول الخطاب ، وعلة الثاني العقل . وإنما قال { يذرؤكم فيه } ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعاً ومعدناً للتكثير كقوله { ولكم في القصاص حياة } [ البقرة : 179 ] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى { ليس كمثله شيء } نفي المثلية عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب ، ولعل هذا التقرير مختص بنا . قال في الكشاف : إنه من باب الكناية كقولهم : مثلك لا يبخل . يعنون أنت لا تبخل . وكذا ههنا يريد ليس كالله شيء . وجوز أن يكون تكرير حرف التشبيه للتأكيد . وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمانية . قوله { له مقاليد السموات والأرض } أي له مفاتيح خزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضاً . وحين عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله { كذلك يوحى إليك } إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال { شرع لكم } أي أوجب وبين لأجلكم { من الدين ما وصى به نوحاً } وهو أقدم الأديان بعد الطوفان { والذي أوحينا إليك } وهو ختمها { وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى } وهي الملل المعتبرة المتوسطة .
ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله { أن أقيموا الدين } الحنيفي ومحله نصب بدلاً من مفعول { شرع } أو رفع على الاستئناف كأنه قيل : وما ذلك المشروع؟ فقيل : هو إقامة الدين . يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله { لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكلم في { أوحينا } والخطاب في { إليك } تفخيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم .
ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله { كبر على المشركين } أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأ من عبادة غير الله . ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه . يقال : اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه ، والتركيب يدل على الجمع والضم ، ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين . ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال { وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } ببعث محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته كقوله في آل عمران { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعدما جاءهم العلم بغياً بينهم } [ الآية : 19 ] وقيل : وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به . قال أهل البرهان : لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله { إلا من بعدما جاءهم العلم } حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله { إلى أجل مسمى } ليكون محدوداً من الطرفين . وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية { وإن الذين أورثوا الكتاب } هم العرب ورثوا القرآن من بعدما أورث أهل الكتابين كتابهم أو هم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : جاءهم أسباب العلم فلم ينظروا فيها لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين { فلذلك } أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم { فادع } إلى الملة الحنيفية . وقيل : اللام بمعنى « إلى » والإشارة إلى القرآن { وأستقم } عليها كما أمرت { ولا تتبع أهواءهم } المختلفة { وقل آمنت بما أنزل الله من } أي { كتاب } كان { وأمرت لأعدل بينكم } أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفسي ونفس غيري . ثم أشار إلى ما هو أصل في الدين فقال { الله ربنا وربكم لنا } جزاء { أعمالنا ولكم } جزاء { أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم } وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف . وقيل : إنه منسوخ بآية القتال وقوله { الله يجمع بيننا } إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم .
ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله { من بعدما استجيب له } أي من بعدما استجاب له الناس وقبلوا دينه ، أو بعدما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر { حجتهم داحضة } أي باطلة زائلة { عند ربهم } وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون : كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا . وأيضاً أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم مختلف فيها . والجواب أن نبوّة موسى إنما صحت بالمعجزة فإن كانت المعجزة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد صلى الله عليه وسلم كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضاً . ثم حث على سلوك طريقة العدل حذراً من عقاب يوم القيامة فقال { الله الذي أنزل الكتاب } أي جنسه متلبساً بالغرض الصحيح { والميزان } أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان . وقيل : هو العقل . وقيل : الميزان نفسه وذلك في زمن نوح . وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بالكتاب { وما يدريك } يا محمد أو أيها المكلف { لعل الساعة } أي مجيئها { قريب } أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه ، أو أراد شيء قريب . ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف . ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه . ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال { يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها } يقولون على سبيل السخرية : متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال . ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإجلالاً له أو حذراً من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجاً بالرجاء ، وقد مر تحقيقه مراراً . ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر البعث بقوله { ألا إن الذين يمارون } وأصله من المرية الشك { لفي ضلال بعيد } عن الصواب لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه ، ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة . ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال { الله لطيف بعباده } عمم البر ثم خصص بقوله { يرزق من يشاء } يعني الزائد على مقدار الضرورة ، فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحداً منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله { أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 50 ] وقيل : معنى لطيف يرزقهم من حيث لا يعلمون ، أو يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا .
وقد مر معناه في الأنعام بوجه آخر في قوله { وهو اللطيف الخبير } [ الآية : 103 ] وأما قوله { القوي العزيز } ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره . وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله { من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه } سماه حرثاً تشبيهاً للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافاً مضاعفة بالزارع الذي يلقي البذر في الأرض طلباً للزيادة والنماء ، ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافاً مضاعفة ، وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال { نؤته منها } أي بعض ذلك { وما له في الآخرة من نصيب } قط وفي زيادة لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئاً من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق . عن النبي صلى الله عليه وسلم « من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له ، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة » هذا لفظه أو لفظ هذا معناه . وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا . وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة . قال بعض أصحاب الشافعي : إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله ، والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية ، وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله { أم لهم شركاء } وهي المنقطعة عند بعضهم . وقال آخرون : هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم من الدين أم لهم آلهة . { شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله } أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله { أتنبؤن الله بما لا يعلم } [ يونس : 18 ] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله { ولولا كلمة الفصل } أي القضاء السابق بتأخير الجزاء { لقضي بينهم } والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء { ترى الظالمين } في القيامة { مشفقين } خائفين { مما كسبوا } من الجرائم { وهو } أي وبال ذلك { واقع بهم } واصل إليهم لا محالة { والذين آمنوا وعلموا الصالحات في روضات الجنات } أي منتزهاتها . قالت الأشاعرة : فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا بالذي آمن ولم يعمل صالحاً وهو الفاسق . ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات .
ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا . والفضل الكبير قد تقدم في « فاطر » . { ذلك } المذكور أو الثواب أو التبشير هو { الذي يبشر الله } به { عباده } ثم حذف الجار ، ثم الراجع إلى الموصول ، ثم أمر رسوله بأن يقول { لا أسألكم عليه } على هذا التبليغ { أجراً إلا المودة } الكائنة { في القربى } جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ولهذا لم يقل « مودة القربى » أو « المودة للقربى » وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم . فإن قيل : استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في « الشعراء » . وقد جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أيضاً { قل ما سألتكم من أجر فهو لكم } [ سبأ : 47 ] { وقل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين } [ ص : 86 ] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة . وأيضاً أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة . قلنا : إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه ، وأما الآخرون فمنهم من قال : الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى لا أطلب منكم أجراً ، إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل { والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل } [ الرعد : 21 ] ومنهم من قال : الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجراً ألبتة ، ولكن أذكركم المودة في القربى ، وفي تفسير { المودة في القربى } أربعة أقوال : الأول قال الشعبي : أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فأجاب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله : قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ . القول الثاني : روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار : إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم ، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا . ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم .
القول الثالث : عن الحسن : إلا أن توددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح . الرابع : عن سعيد بن جبير : لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك؟ فقال : علي وفاطمة وابناهما . ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام ، ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس فيه فقال : أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه صلى الله عليه وسلم « حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة » وكان يقول « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب علياً والحسن والحسين ، وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله { فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] وكفى شرفاً لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة . قال بعض المذكرين : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال « مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق » وعنه صلى الله عليه وسلم « أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم » فنحن نركب سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة . ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله { ومن يقترف حسنة } أي يكتسب طاعة ، قال بعض أهل اللغة : الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره ههنا للخير . عن السدي أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم ، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصداً أولياً لذكرها عقيبها . ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها { إن الله غفور } لمن أذنب { شكور } لمن أطاع الله والله أعلم .
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
القراآت : { ما تفعلون } على الخطاب : حمزة وعلي وحفص { ينزل الغيث } بالتشديد : أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم { ينزل } بالتخفيف : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب { بما كسبت } بدون فاء الجزاء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . الباقون { فبما كسبت } بالفاء { الجواري } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل . وقرأ قتيبة ونصير وأبو عمرو بالإمالة { الرياح } نافع . على الجمع : أبو جعفر ونافع . { ويعلم الذين } بالرفع : ابن عامر وأبو جعفر ونافع . الباقون : بالنصب { كبير الإثم } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف . { أو يرسل } بالرفع { فيوحى } بالإسكان : نافع وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الآخرون : بالنصب فيهما .
الوقوف : { كذباً } ج للشرط مع فاء التعقيب { قلبك } ط لأن ما بعده مستأنف { بكلماته } ط { الصدور } ه { تفعلون } ه لا { فضله } ط { شديد } ه { يشاء } ط { بصير } ه { رحمته } ط { الحميد } ه { دابة } ط { قدير } ه { كثير } ه { في الأرض } ط { ولا نصير } ه { كالأعلام } ه ط { على ظهره } ط { شكور } ه لا { كثير } ه لا لمن رفع { ويعلم } ومن نصب فوقفه مجوز { آياتنا } ط { محيص } ه { الدنيا } ج لعطف جملتي الشرط ، ويحتمل أن يكون الوقف مطلقاً بناء على أن الثانية أخبار مستأنف { يتوكلون } ه ط { يغفرون } ه ج { الصلاة } ص لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد المقول { بينهم } ص لذلك { ينفقون } ه ج { ينتصرون } ه { مثلها } ج { على الله } ط { الظالمين } ه { سبيل } ه ط { الحق } ط { أليم } ه { الأمور } ه { بعده } ط { من سبيل } ه ج للآية مع العطف { خفي } ط { القيامة } ط { مقيم } ه { من دون الله } ط { سبيل } ط { من الله } ط { نكير } ه { حفيظاً } ط { البلاغ } ط { بها } ج { كفور } ه { والأرض } ط { ما يشاء } ط { الذكور } ه لا { وإناثاً } ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف أي وهو يجعل { عقيماً } ه { قدير } ه { ما يشاء } ط { حكيم } ه { أمرنا } ط { عبادنا } ط { مستقيم } ه { وما في الأرض } ط { الأمور } ه .
التفسير : لما ذكر في أول السورة أن هذا القرآن إنما حصل بوحي الله وانجر الكلام إلى ههنا حكى شبهة القوم وهي زعمهم أنه مفترى وليس بوحي فقال { أم يقولون افترى } قال جار الله : « أم » منقطعة ، ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل : أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى أعظم أنواع الفرية وهو الافتراء على الله ، ثم أجابهم بقوله { فإن يشاء الله يختم على قلبك } أي يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم . والغرض المبالغة في استبعاد الافتراء من مثله والتعريض بأن من ينسبه إلى الافتراء فهو مختوم على قلبه .
وقيل : لأنساك ما أتاك من القرآن ولكنه لم يشأ فأثبته فيه ، وقيل : لأماتك فإن قلب الميت كالمختوم عليه ومثله { لقطعنا منه الوتين } [ الحاقة : 46 ] قاله قتادة . وقال مجاهد ومقاتل : يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يدخل قلبك حزن مما قالوه . ثم استأنف فقال { ويمح الله الباطل } أي من عادته ذلك فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم مبطلاً لفضحه وكشف عن باطله ، وحذف الواو من الخط لا للجزم كما في قوله { ويدع الإنسان } [ الإسراء : 11 ] { سندع الزبانية } [ العلق : 18 ] وفي تفسير الجبائي أن الواو حذف للجزم ، والمعنى إن افتريت ختم على قلبك ومحا الباطل المفترى ، فالاستئناف على هذا من قوله { ويحق الحق بكلماته } [ يونس : 82 ] أي يثبت ما هو الحق في نفسه بوحيه أو بقضائه . ويجوز أن يكون وعداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ويظهر الحق الذي أنت عليه وهو القرآن بحكمه السابق وبعلمه القديم { إنه عليم بذات الصدور } فيجازي المبطل والمحق على حسب حاليهما وحين وبخهم على البهت والتكذيب ندبهم إلى التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء والآية واضحة مما سلف تارات ولا سيما في أوائل البقرة في توبة آدم . أما الضمير في قوله { ويستجيب } فعائد إلى الله سبحانه وأصله ويستجيب لهم فحذف الجار ، والمراد أنه إذا دعوه استجاب لهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم تفضلاً . وقيل : لا ضمير فيه وإنما الظاهر بعده فاعله . قال سعيد بن جبير : أراد أن المؤمنين يجيبونه إذا دعاهم . وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قيل : ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال : لأنه دعاكم فلو تجيبوه وقرأ { والله يدعو إلى دار السلام ويستجيب الذين آمنوا } [ يونس : 25 ] وحيث وعد الاستجابة للمؤمنين كان لسائل أن يقول : إنا نرى المؤمن في شدة وبلية وفقر ثم إنه يدعو الله فلا يشاهد أثر الإجابة فلا جرم قال { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض } أي ظلم بعضهم بعضاً وعصوا الله . وهذه ليست بقضية كلية دائمة ولكنها أكثرية ، فإن المال معين قوي على تحصيل المطالب ودفع ما لا يلائم النفس ، وإذا كانت الآلة موجودة وداعية الشر في طبع الإنسان مجبولة فقلما لا يقع مقتضاه في الخارج وأيضاً إن أكثر الناس إنما يخدم مثله ويتسخره طمعاً في ماله أو جاهه التابع للمال غالباً ، فهو تساويا في المال استنكف كل منهما من الانقياد لصاحبه فارتفعت رابطة التعاون وانقطعت سلسلة التمدن ، وقيل : إن الآية نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وأغار بعضهم على بعض ولبعضهم شعر
قوم إذا نبت الربيع بأرضهم ... نبتت عداوتهم مع البقل
وقال محمد بن جرير : نزلت في أصحاب الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى .
وقوله { بقدر } أي على قدر المصلحة ووفق حال الشخص كقوله { وما ننزله إلا بقدر معلوم } [ الحجر : 21 ] وحي بين أن حكمته اقتضت عدم توسيع الرزق على كل الخلق أراد أن يبين أنه لا يترك ما يحتاجون إليه وإن بلغ أمرهم إلى حد اليأس والقنوط فقال { وهو الذي ينزل الغيث } الآية . ونشر الرحمة عموم المطر الأرض أو هي عامة في كل رحمة سوى المطر { وهو الولي } الذي يتولى أمور عباده { الحميد } على كل ما يفعله . ولا ريب أن هذه من جملة دلائل القدرة فلذلك عطف عليها قوله { ومن آياته خلق السموات والأرض } ومحل قوله { وما بث } إما مجرور عطفاً على السموات أو مرفوع عطفاً على خلق . وإنما قال { فيهما من دابة } مع أن الدواب في الأرض وحدها لأن الشيء قد ينسب إلى جميع المذكور وإن كان متلبساً ببعضه كما يقال : « بنو فلان فعلوا كذا » ولعله قد فعله واحد منهم فقط . ويجوز أن يكون للملائكة مع الطيران مشى فيتصفوا بالدبيب كالإنسان ، أو يكون في السموات أنواع أخر من الخلائق يدبون كما يدب الحيوان في الأرض . { وهو على جمعهم } أي إحيائهم بعد الموت { إذا يشاء قدير } وإذا يدخل على الماضي ومعنى الاستقبال في { يشاء } يعود إلى تعلق المشيئة لا إلى نفس المشيئة القديمة . ثم بين حال المكلفين وأن ما يصيبهم من ألم ومكروه وبلاء فهو عقوبة للمعاصي التي اكتسبوها ، وأن الله يعفو عن كثير من الذنوب أو الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة رحمة أو استدراجاً . قال الحسن : أراد إقامة الحدود على المعاصي وأنه لم يجعل لبعض الذنوب حداً . وقيل : إن هذه في يوم القيامة فإن الدنيا دار تكليف لا دار جزاء . ولقائل أن يقول : كون الجزاء الأوفى على الإثم مخصوصاً بالقيامة لا ينافي وصول بعض الجزاء إلى المكلف في الدنيا ، ولهذا قال علي رضي الله عنه : هذه أرجى آية للمؤمنين في كتاب الله . وذلك أنه تعالى قسم ذنوب المؤمنين صنفين : صنف يكفره عنهم بالمصائب ، وصنف يعفو وهو كريم لا يرجع في عفوه ، نعم لو عكست القضية وقيل ما كسبت أيديكم فإنه يصيبكم به ألم وعذاب في الدنيا لكان هذا منافياً لكون الجزاء في الآخرة ولحصول العفو أيضاً . روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال : ما عفا الله عنه . فهو أعز وأكرم من أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد عليه العذاب في الآخرة . قال أهل التناسخ : لولا أن الأطفال والبهائم لهم حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة ما كانوا ليتألموا فإنهم لا ذنوب لهم الآن . وأجيب بالتزام أنهم لا يتألمون من المصائب والآلام وفيه بعد ، وبأن الخطاب في الآية لذوي العقول البالغين ، وبأنها في البالغين عقوبة أو زيادة درجة ، وفي الأطفال مثوبة لهم أو لوالديهم .
ثم خاطب المشركين بقوله { وما أنتم بمعجزين } الآية ثم ذكر دليلاً آخر قائلاً { ومن آياته الجواري } أي السفن الجواري { في البحر كالأعلام } أي كالجبال في العظم . ولا شك أن جريانها بواسطة هبوب الرياح فلذلك قال { إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره } أي فيصرن واقفة على ظهر ماء البحر { إن في ذلك لآيات لكل صبار } على البلاء { شكور } على الآلاء أو صبار في السفينة شكور إذا خرج منها { أو } أن يشأ { يوبقهن } أي يهلك السفينة بما فيها بالغرق أو الكسر لعصوف الريح وغيره { بما كسبوا } من كفران نعم الله وعصيانه { ويعف عن كثير } من الذنوب فلا يجازي عليها في الدنيا ولا في الآخرة . والحاصل أنه إن يشأ يسكن الريح فتبقى الجواري واقفة على متن البحر ، أو أن يشأ يهلك ناساً وينج ناساً على طريق العفو عنهم . من رفع { ويعلم } فعلى الاستئناف ، ومن نصب فللعطف على تعليل محذوف أي لينتقم منهم ويعلم قاله في الكشاف . وقال الكوفيون ومنهم الزجاج : النصب بإضمار « أن » لأن قبلها جزاء . تقول : ما تصنع أصنع وأكرمك . ووجهه أن هذا في تأويل المصدر المعطوف على مصدر أصنع مقدراً . ثم استأنف قوله { ما لهم من محيص } أي لا مهرب للمجادلين عن عقابه . ثم رغب المكلفين عن الدنيا وفي الدنيا وفي الآخرة وقد مر نظيره في القصص إلا أنه ذكر ههنا أن هذه الخيرية تحصل للموصوفين بصفات إحداها الإيمان ، والثانية التوكل على الرب ، والثالثة الاجتناب عن الكبائر والفواحش كقوله { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ النساء : 31 ] { إنما حرم ربي الفواحش } [ الأعراف : 33 ] ومن قرأ { كبير } على التوحيد فللجنس ، وفسره ابن عباس بالشرك ، الرابعة الغفران عند الغضب « وهم » تأكيد للضمير أو مبتدأ ما بعده خبره . قال بعض العلماء : يحتمل أن يراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع والعقائد الفاسدة وهي من فساد القوة العقلية ، وبالفواحش فساد القوة الشهوية ، وبالأخيرة ما يتعلق بالقوة الغضبية . قال المفسرون : نزل قوله { والذين استجابوا لربهم } في الأنصار دعاهم الله ورسوله إلى التوحيد فأطاعوا ورضوا بقضائه وواظبوا على الصلوات الخمس ، وكانوا قبل الإسلام متشاورين في كل أمر دهمهم غير منفردين برأي ، والشورى مصدر كالفتيا ، والمضاف محذوف أي ذو التشاور . وليس بين قوله { هم ينتصرون } أي ينتقمون وبين قوله { يغفرون } منافاة ، فإن هذه أخص من الأولى إذ البغي هو الذي يؤدي إلى الفساد ولا يصير عفوه سبباً لتسكين ثائرة الفتنة ولرجوع الجاني عن جنايته ، ويجوز أن يتوجه المدح في الانتصار إلى كون المظلوم بحيث يراعي حد الشرع ولا يتجاوزه حتى لو زاد عليه لم يكن منتصراً ولا يستحق المدح ، فهذه خمس صفات أخرى للراغبين في الدار الآخرة .
ثم بين أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال { وجزاء سيئة سيئة مثلها } حتى لو قال أخزاه الله لا يزيد في الجواب عليه شيئاً . وسمى الثاني سيئة ازدواجاً للكلام أو لأن السيئة هي التي يكرهها الإنسان طبعاً كالقصاص والقطع وسائر الحدود . وقد لا يمكن رعاية المماثلة كما في قتل الأنفس بنفس واحدة أو كقطع الأيدي بواحدة إذا تعاونوا على قطعها ذلك في الفقه . وإنما عرف ذلك بنص آخر أو بقياس جلي . ثم حث مع ذلك على العفو والصبر قائلاً { فمن عفى وأصلح } ما بينه وبين خصمه بالاغضاء والعفو { فأجره على الله } فإن الانتصار حسن في نفسه ولا سيما إذا كان فيه مصلحة دينية كزجر وارتداع إلا أن العفو أحسن لأنه لا يكاد يؤمن في الانتصار والتجاوز عن حد الاعتدال ولهذا حذر منه بقوله { إنه لا يحب الظالمين } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم فيقوم خلق فيقال لهم : ما أجركم على الله؟ فيقولون : نحن الذين عفونا عمن ظلمنا . فيقال لهم : ادخلوا الجنة بإذن الله » ثم كرر أن الانتصار لا يؤاخذ به ولا سبيل للوم إليه لئلا يظن أن وعد الأجر على العفو يقتضي قبح الانتصار في نفسه فقال { ولمن انتصر } الآية . وقوله { بعد ظلمه } من إضافة المصدر إلى المفعول والباقي واضح إلى قوله { الأمور } وإنما أدخل اللام في الخبر خلاف ما في لقمان لأن الصبر على المكروه الذي هو ظلم أشد من الصبر على الذي ليس بظلم ، وتكرير الحث على الصبر لمزيد التأكيد أيضاً ، ثم ذكر أن الإضلال والهداية التي هي نقيضه إنما تتعلق بمشيئته . والمعتزلة يتأولون الإضلال بالخذلان أو بالإضلال عن طريق الجنة . ثم حكى أن الكفار عند معاينة عذاب النار يتمنون الرجعة إلى الدنيا ، ثم عقبه بذكر حالهم حين يعرضون على النار . الخشوع بمعنى الهوان ولهذا علق بقوله { من الذل } وقد يعلق ب { ينظرون } أي لهذا السبب يبتدىء نظرهم من تحريك أجفانهم وهو ضعيف فإن الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ، وقد يفسر الطرف الخفي بمعنى البصيرة بناء على أن الكفار يحشرون عمياً فلا ينظرون إلا بقلوبهم والأكثرون أجابوا عنه فقالوا : لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عمياً ، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم . ثم حكى قول المؤمنين فيهم { ويوم القيامة } ظرف { لخسروا } كما في « الزمر » فيحتمل أن يكون قول المؤمنين فيه أو في الدنيا . وجوز في الكشاف أن يكون ظرفاً لقال . والنكير الإنكار أي ما لكم من مخلص ولا من قدرة أن تنكروا شيئاً مما دوّن في صحائف أعمالكم أو مالكم من ينكر علينا حتى يغير شيئاً من أحوالكم .
ثم سلى نبيه بقوله { فإن أعرضوا } ثم ذكر سبب إصرارهم على عقائدهم الفاسدة وهو الضعف الذي جبل عليه الإنسان من البطر عند الغنى ، والفراغ في زمن الصحة ، والأمن في زمن الكفران ، ونسيان نعم الله عند البلاء . وإنما جمع قوله { وإن تصبهم } لأن الإنسان جنس يشمل أهل الغفلة كلهم . وقوله { فإن الإنسان } من وضع الظاهر موضع الضمير وفائدته التسجيل على أن هذا الجنس من شأنه ذلك إلا إذا أدّب النفس وراضها . ثم بين كمال قدرته بقوله { لله ملك السموات والأرض } الآية . والمقصود أن الإنسان لا يغتر بما يملكه من الجاه والمال ولا يعتقد أنه حصل بجد أوجده فيعجب به ويعرض عن طاعة ربه . ثم ذكر من أقسام تصرفه في ملكه أنه يخص البعض من الحيوان بالأولاد الإناث ، والبعض بالذكور ، والبعض بالصنفين ، والبعض يجعله عديم الولد . وقدم ذكر الإناث تطييباً لقلوب آبائهن أو لأنهن مكروهات عند العرب فناسب أن يقرن اللفظ الدال عليهن باللفظ الدال على البلاء . أو لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء الإنسان فكان ذكر الإناث التي هي من جملة ما لا يشاء الإنسان أهم . وفيه نقل الإنسان من الغم إلى الفرح . ولا ريب أن هذا أولى من العكس . وفيه أن الإنسان إذا رضي بالأنثى فإذا أعطاه الذكر علم أنه فضل من الله . وفيه أن العجز كلما كان أتم كانت عناية الله بحاله أوفر . ثم أراد أن يتدارك تأخيرهم وهم أحقاء بالتقديم فعرف الذكور لأنه مع رعاية الفاصلة تنويه وتشهير كأنه قال : ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام . ثم قال { أو يزوجهم ذكراناً وإناثاً } فأعطى كلا الجنسين حقه . ونصبهما على الحال ، والضمير للأولاد أو على المفعولية ، والضمير لمن يشاء أي يجمع لهم كلا الصنفين سواء كانا متساويين في العدد أم لا . وقيل : معناه أن تلد أولاً غلاماً ثم جارية ثم غلاماً ثم جارية وهكذا قاله مجاهد . وقيل أن تلد ذكراً وأنثى في بطن واحد قاله ابن الحنفية : وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأنبياء ، وهب لشعيب ولوط أناثاً ، ولإبراهيم عليه السلام ذكوراً ، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ذكوراً وهم القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم ، وإناثاً هن فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم ، وجعل يحيى وعيسى عقيماً . والحق أن هذا التقسيم وإن كان مطابقاً لحال هؤلاء الأنبياء إلا أن في التخصيص ضيق عطن . وإن صحت الرواية عن ابن عباس فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب ، وحمل بعض أهل التأويل الإناث على أمور الدنيا والذكور على أمور الآخرة ، وتزويج الصنفين على الجامع بين الأمرين ، والعقيم على من لا دين له ولا دنيا ثم أكد كمال القدرة بقوله { وما كان لبشر } أي وما صح لأحد { أن يكلمه الله إلا } على أحد ثلاثة أنحاء : الأول الوحي وهو الإلهام أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده .
وعن مجاهد أن داود عليه السلام ألهمه الزبور فكتبه حفظاً . الثاني التكليم بلا واسطة ولكن من وراء حجاب . والمجسمة استدلوا به على أنه تعالى في جهة فإن الاحتجاب لا يصح إلا من ذي جهة ومكان ، وأجيب بأن هذا مثل لأنه إذا سمع الصوت ولا يرى الشخص كان بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب كما كلم موسى ويكلم الملائكة . وقيل : حجاب عن إدراك ذلك الكلام لا المتكلم . وقيل : حجاب لموضع الكلام . الثالث أن يرسل رسولاً كجبرائيل فيوحي الملك بإذن الله إلى النبي ما يشاؤه الله . والأقسام الثلاثة كلها من قبيل الوحي ولكنه سبحانه جعل الوحي في الآية خاصاً بالأول ، وتقدير الكلام : وما صح أن يكلم أحداً إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً أو إلا وحياً أو إسماعاً أو إرسالاً ، أو إلا أن يوحى أو يسمع أو يرسل . ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف بمعنى أو هو يرسل أو على الحال بمعنى مرسلاً عطفاً على { وحياً } بمعنى موحياً . وقيل : الوحي هو الوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة ، وإرسال الرسل إرسال الأنبياء إلى الأمم ، فإن الصحيح عند أهل الحق أن الشيطان لا يقدر على إلقاء الباطل في أثناء الوحي . وقد يقال : إن توجيه التكليف إلى العبد لا يتم إلا بثلاث مراتب من المعجزات ، وذلك أن التسلسل محال فلا بد من سماع الملك كلام الله بلا واسطة . فالملك يحتاج إلى معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله ، وإذا بلغ الملك ذلك الكلام إلى النبي فلا بد للنبي من مشاهدة معجزة تدل على صدقه ، وإذا بلغ الرسول لأمته فالأمر كذلك . وهذا الثالث مشهور متفق عليه ، وأما الأولان فعلهما يعرفان بنور الباطن ولا يفتقر إلى المعجزة لا في أول الأمر ولا كل مرة . قال أهل التصديق : إن الأقسام الثلاثة اجتمعت لنبينا صلى الله عليه وسلم ، لأنه في بدء الإسلام كان يرى الرؤيا الصادقة كفلق الصبح ، وسمع الكلام من وراء الحجاب ليلة المعراج ، وكان يأتيه جبرائيل إلى آخر عمره فلهذا قال عز من قائل { وكذلك أوحينا إليك } ويحتمل أن يراد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء أوحينا إليك يعني بالطريق الأكثري وهو القسم الثالث . ومعنى { روحاً من أمرنا } قرآنا من عندنا أو من عالم أمرنا كقوله { يلقى الروح من أمره } { غافر : 15 ] و { ما كنت تدري } في المهد أو قبل البلوغ أو قبل الوحي { ما الكتاب ولا الإيمان } يعني ما يتعلق بكمال الإيمان مما لا يكفي في معرفته مجرد العقل والنظر ويتوقف على النقل وإذن الشرع . وقيل : أراد أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن والضمير في { جعلناه } للقرآن أو الإيمان أولهما جميعاً . ووحد كقوله { وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها } [ الجمعة : 11 ] وهداية الله خاصة . وهداية النبي عامة وهي الدعوة ، وصراط الله دينه ، ومصير الكل إليه عبارة عن رجوعهم إلى حيث لا حكم لأحد سواه والله أعلم .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
القراآت : { في إم الكتاب } بكسر الهمزة : حمزة وعلي { إن كنتم } بالكسر : أبو جعفر ونافع وعلي وحمزة وخلف . الآخرون : بالفتح أي لأن كنتم { مهداً } : عاصم وحمزة وعلي وخلف وروح . الباقون { مهاد } { ميتاً } بالتشديد : يزيد . { يخرجون } من الخروج : حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان . الآخرون : من الإخراج { ينشأ } من باب التفعيل : حمزة وعلي وخلف وحفص . الباقون : بالتخفيف والياء مفتوحة والنون ساكنة { عباد الرحمن } جمع عبد أو عابد : أبو عمرو وعاصم وحمزة وعلي وخلف ، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر { عند الرحمن } بالنون كقوله { فالذين عند ربك } [ فصلت : 38 ] الآخرون : { عبيد الرحمن } { أو شهدوا } بقلب همزة الإشهاد واواً مضمومة : ورش وإسماعيل . وقرأ يزيد وقالون مثله ولكن بالمد . وقرأ المفضل بتحقيق الهمزتين . الباقون : بهمزة واحدة للاستفهام والشين مفتوحة { قال أولو } بالألف : ابن عامر وحفص والمفضل { جئناكم } يزيد .
الوقوف : { حم } ه كوفي { المبين } ه لا ومن لم يقف على { حم } وقف على { المبين } لأن القسم متعلق بما قبله وهو هذه { حم } { تعقلون } ه ج { حكيم } ه ط { مسرفين } ه { الأولين } ه { يستهزؤن } ه { الأولين } ه { العليم } ه لا بناء على أن ما بعده وصف ولو كان نصباً أو رفعاً على المدح فالوقف { تهتدون } ه { بقدر } ج للالتفات مع الفاء { ميتاً } ج لانقطاع النظم مع تعلق التشبيه { تخرجون } ه { تركبون } ه لا { مقرنين } ه لا لأن ما بعده من تمام المقول { لمنقلبون } ه { جزءاً } ط { مبين } ه ط { بالبنين } ه { كظيم } ه { مبين } ه { إناثاً } ط { خلقهم } ط { ويسئلون } ه { ما عبدناهم } ط { يحرصون } ه ط { مستمسكون } ه { مهتدون } ه { مقتدون } ه { آباءكم } ط { كافرون } ه { المكذبين } ه { تعبدون } ه لا { سيهدين } ه { يرجعون } ه { مبين } ه { كافرون } ه .
التفسير : أقسم بجنس الكتاب أو بالقرآن الظاهر الإعجاز أو المفصح عن كل حكم يحتاج المكلف إليه أنه جعل القرآن بلغة العرب ليعقلوه . وفي نسبة الجعل إلى نفسه إشارة إلى أنه ليس بمفترى كما زعمه الكفرة . وقيل : أراد ورب الكتاب وقيل : الكتاب اللوح المحفوظ . وقال ابن بحر : هو الخط أقسم به تعظيماً لنعمته فيه ، وقال ابن عيسى : البيان ما يظهر به المعنى للنفس عند الإدراك بالبصر والسمع وذلك على خمسة أوجه : لفظ وخط وإشارة وعقد وهيئة ، كالأعراض وتكليح الوجه . وأم الكتاب بكسر الهمزة وبضمها اللوح المحفوظ لأنه أصل كل كتاب والتقدير : وإنه لعلي حكيم في أم الكتاب لدينا . والعلو علو الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك والحكيم المشتمل على الحكمة . ثم أنكر على مشركي قريش بقوله { أفنضرب } قال جار الله : أراد أنهملكم فنضرب { عنكم الذكر } يقال : ضرب عنه الذكر إذا أمسك عنه وأعرض عن ذكره من ضرب في الأرض .
إذا أبعد و { صفحاً } مصدر من غير لفظ الفعل والأصل فيه أن تولي الشيء صفحة عنقك ، وجوز جار الله أن يكون بمعنى جانباً من قولهم : « نظر إليه بصفح وجهه » فينتصب على الظرف ويكون الذكر بمعنى الوعظ والقرآن والفحوى أفننحيه عنكم . وقيل : ضرب الذكر رفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن من بين أظهركم إشراككم مع علمنا بأنه سيأتي من يقبله ويعمل به . قال السدي : أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم وهو قريب من الأول . وقيل : الذكر هو أن يذكروا بالعقاب ولا يخلوا من مناسبة لقوله { فأهلكنا أشد منهم بطشاً } ومن قرأ { إن كنتم } بالكسر فكقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفني حقي . يخيل في كلامه أن تفريطه في الخروج عن عهدة الأجر فعل من يشذ في الاستحقاق مع تحققه في الخارج . ثم سلى نبيه بقوله { وكم أرسلنا } الآيتين . قوله { أشد منهم } قيل : « من » زائدة والمراد أشدهم { بطشاً } كعاد وثمود وقيل : الضمير لقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصله أشد منكم إلا أنه ورد على طريقة الالتفات كقوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس : 22 ] قوله { ومضى مثل الأولين } أي سلف ذكرهم وقصتهم العجيبة في القرآن غير مرة ويحتمل أن يكون معناه كقوله { وقد خلت سنة الأولين } [ الحجر : 13 ] ثم بين بقوله { ولئن سألتهم } أن كفرهم كفر عناد ولجاج لأنهم يعرفون الله ثم ينكرون رسوله وكتابه وقدرته على البعث . وهذه الأوصاف من كلام الله لا من قول الكفار بدليل قوله { لكم } ولم يقل « لنا » ولقوله { فأنشرنا } والمراد لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وقد مر في « طه » مثله . وقوله { تهتدون } أي في الأسفار أو إلى الإيمان بالنظر والاعتبار . وقوله { بقدر } أي بمقدار الحاجة لا مخرباً مغرقاً كما في الطوفان . وقوله { ميتاً } تذكيره بتأويل المكان . والأزواج الأصناف وقد مر في قوله { سبحان الذي خلق الأزواج } [ يس : 36 ] والعائد إلى ما في قوله { ما تركبون } محذوف فلك أن تقدره مؤنثاً أو مذكراً باعتبارين . قال في الكشاف : يقال : ركبت الأنعام وركبت في الفلك إلا أنه غلب المتعدي بغير واسطة على المتعدي بواسطة . قلت : يجوز أن يكون كقوله « ويوم شهدناه » والضمير في ظهوره عائد إلى ما . والاستواء في الآية بمعنى التمكن والاستقرار وذكر النعمة بالقلب ويحتمل كونه باللسان وهو تقديم الحمد لله . يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال : الحمد لله على كل حال { سبحان الذي سخر لنا هذا } إلى قوله { لمنقلبون } وكبر ثلاثاً وهلل ثلاثاً . وإذا ركب في السفينة قال { بسم الله مجريها ومرساها أن ربي لغفور رحيم } [ هود : 41 ] ومعنى { مقرنين } مطيقين أو ضابطين مع صعوبة خلقه وخلقه .
وقيل : لا يطيق أن يقرن بعضها ببعض حتى يسيرها إلى حيث يريد { وإنا إلى ربنا لمنقلبون } أي في آخر عمرنا كأنه يتذكر ركوب الجنازة أو عثور الدابة أو انكسار السفينة فليستعد للقاء الله عز وجل بخلاف من يركب الخيول والزوارق لأجل التنزه والاشتغال بالملاهي والمناهي فيكون غافلاً عن المبدأ والمعاد . عن بعضهم أنه أدخل في البحر ههنا خلاف ما في « الشعراء » لأن ركوب الدابة أو السفينة أو الجنازة عام لكل أحد . وما في « الشعراء » خاص بالسحرة .
ثم عاد إلى ما انجر الكلام منه وهو قوله { ولئن سألتهم } والمقصود التنبيه على سخافة عقولهم وقلة محصولهم فإنهم مع الإقرار بأن خالق السموات والأرض هو الله جعلوا له من عباده جزءاً أي أثبتوا له ولداً ، وذلك أن ولد الرجل جزء منه . قال صلى الله عليه وسل : « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها » وفي قوله { من عباده } إشارة إلى أن ما عداه ممكن الوجود فإن الولد متأخر في الوجود عن الأب والمتأخر عن الواجب ممكن ، والممكن مفتقر إلى الواجب في الوجود والبقاء والذات والصفات . وقيل : هو إنكار على مثبتي الشركاء لأنهم جعلوا بعض العبادة لغير الله ، وفيه نوع تكلف . والكفور البليغ الكفران لأنه يجحد ربه وخالقه ولا يجتهد في تنزيهه وتقديسه . وحين وبخهم على إثبات الولد زاد في توبيخهم وتجهيلهم والتعجيب من حالهم حيث جعلوا ذلك الولد بنتاً مع أنها مكروهة عندهم فقال { أم اتخذ مما يخلق } وفائدة تنكير { بنات } وتعريف البنين كما مر في آخر السورة المتقدمة في تنكير { إناثاً } وتعريف { الذكور } [ الشورى : 49 ] وقوله { بما ضرب للرحمن مثلاً } أي بالجنس الذي جعله شبهاً لله لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد ، والمراد أنه إذا بشر بالأنثى كما سبق في « النحل » اغتم ويسود وجهه وملىء غيظاً وكرباً . ثم زاد في الإنكار بتعديد طرف من نقصان الإناث قائلاً { أو من ينشأ } والتقدير أهو كضده . قال جار الله : تقديره أو يجعل للرحمن من الولد من له هذه الصفة الدنيئة الذميمة وهي أنه يربى أو يتربى في الزينة والنعومة ، وهو إذا احتاج إلى المخاصمة لا يبين ولا يعرب عما في ضميره لعجزه عن البيان ولقلة عقله . قالت العقلاء : قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تعرب عن حجتها إلا نطقت بما هو حجة عليها . وفيه أن النشء في الزينة والإمعان في التنعم من خصائص ربات الحجال لا من خواص الرجال . وإنما ينبغي أن يكون تلبسهم بلباس التقوى وتزينهم باستعداد الزاد للدار الأخرى . ثم خصص أن البنات التي نسبن إليه تعالى من أي جنس من بعدما عمم في قوله { مما يخلق } فقال { وجعلوا } أي سموا { الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً } وفي إثبات العبودية لهم نفي الجزئية عنهم كما مر آنفاً .
وقوله { أشهدوا خلقهم } كقوله { ما أشهدتم خلق السموات والأرض } [ الكهف : 51 ] وفيه تهكم بهم لأنه لم يدل على ذلك عقل ولا نقل صحيح فلم يبق إلا الإخبار عن المشاهدة يعني مشاهدتهم خلق الله إياهم أو مشاهدة صور الملائكة . ثم أوعدهم بقوله { ستكتب شهادتهم } على أنوثية الملائكة { ويسئلون } ثم حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم { قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } أي الملائكة والأصنام نظير ما مر في آخر الأنعام { سيقول الذين أشركوا } [ الآية : 148 ] واستدلال المعتزلة به ظاهر لأنه ذمهم بقوله { ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون } أجاب الزجاج عنه بأن قوله { ما لهم بذلك من علم } عائد إلى قولهم الملائكة بنات الله ، والمراد لو شاء الرحمن ما أمرنا بعبادتهم كقولهم { والله أمرنا بهم } [ الأعراف : 28 ] فلهذا أنكر الله عليهم قاله الواحدي في بسيطه . وقيل : قالوها استهزاء ، وزيفه جار الله بأنه لا يتمشى في أقوالهم المتقدمة وإلا كانوا صادقين مؤمنين . وجعل هذا الأخير وحده مقولاً على وجه الهزء دون ما قبله تعويج لكتاب الله . وتمام البحث بين الفريقين مذكور في « الأنعام » وإنما قال في الجاثية { إن هم إلا يظنون } لأن هذا كذب محض وهناك خلطوا الصدق بالكذب ، صدقوا في قولهم { نموت ونحيى } وكذبوا في قولهم { وما يهلكنا إلا الدهر } [ الجاثية : 24 ] وكانوا شاكين في أمر البعث ، ثم زاد في الإنكار عليهم بقوله { أم آتيناهم كتاباً من قبله } أي من قبل القرآن أو الرسول { فهم به مستمسكون } ثم أضرب عن ذلك وأخبر أنه لا مستند لهم في عقائدهم وأقوالهم الفاسدة الا التقليد . والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي تقصد . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هذا دأب أسلافهم وداء قديم في جهال بني آدم . وإنما قال أولاً { مهتدون } وبعده { مقتدون } لأن العرب كانوا يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون الاهتداء ، ولعل الأمم قبلهم لم يزعموا إلا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء . ثم أخبر أن النذير { قال } أو أمر النذير أو محمداً أن يقول { أو لو جئتكم } أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم فاصروا على التكذيب ولم يقبلوا فانتقم الله منهم .
ثم بين بقصة إبراهيم عليه السلام أن القول بالتقليد يوجب المنع من التقليد ، وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان أشرف آباء العرب وأنه ترك دين الآباء لأجل الدليل ، فلو كانوا مقلدين لآبائهم وجب أن يتبعوه في الاعتماد على الدليل لا على مجرد التقليد . والبراء بالفتح مصدر أي ذو براء . وقوله { إلا الذي فطرني } قيل : متصل ، وكان فيهم من يعبد الله مع الأصنام . وقيل : منقطع بمعنى لكن ، ويحتمل أن يكون مجروراً بدلاً من ما أي إلا من الذي وجوز في الكشاف أن تكون « إلا » صفة بمعنى غير و « ما » موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني { فإنه سيهدين } أي يثبتني على الهداية أو يرشدني إلى طريق الجنة ، ولا ريب أن قوله { إنني براء مما تعبدون } بمنزلة لا إله وقوله { إلا الذي فطرني } بمثابة « إلا الله » وهي كلمة التوحيد فلذلك أنّث الضمير في قوله { وجعلها } أي وجعل إبراهيم أو الله { كلمة } التوحيد { باقية في عقبه } فلا يزال في ذريته من يوحد الله عز وجل ويدعو إلى توحيده نظيره
{ ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب } [ البقرة : 132 ] { لعلهم } أي لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد أو عن الشرك بدعاء الموحدين منهم . ثم أضرب عن رجاء الرجوع منهم إلى أن تمتيعهم بالعمر وسعة الرزق صار سبباً لعظم كفرهم وشدة عنادهم . قال جار الله : أراد بل اشتغلوا عن التوحيد { حتى جاءهم الحق } وهو القرآن { ورسول مبين } الرسالة واضحها فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها من غفلتهم لاقتضائها التنبيه . ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق قائلاً { ولما جاءهم الحق } جاؤا بما هو شر من غفلتهم وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ومكابرة الرسول وإنكار القرآن والله أعلم .
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
القراآت : { سقفاً } بالفتح فالسكون : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد . الباقون : بضمتين على الجمع كرهن ورهن . قال أبو عبيدة : لا ثالث لهما ( لما ) بالتشديد : عاصم وحمزة بمعنى إلا ف { إن } نافية . الآخرون : بالتخفيف ف « إن » مخففة واللام فارقة كما مر في آخر هود { يقيض } على الغيبة والضمير للرحمن : يعقوب وحماد . الآخرون : بالنون { جاءنا } على الوحدة والضمير للعاشي : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ويعقوب . الباقون : بألف التثنية والضمير للعاشي والقرين { أنكم في العذاب } بالكسر : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان { أيه الساحر } بضم الهاء مثل { أيه المؤمنون } وقد مر في « النور » { تحتي } بفتح الياء : أبو عمرو وابن كثير ونافع وأبو جعفر { أسورة } كأجربة : حفص وسهل ويعقوب . الآخرون { أساورة } كأشاعرة وهو جمع أسوار بمعنى السوار . وأصله أساوير . إلا أنه عوض من الياء هاء في آخره { سلفاً } بضمتين : حمزة وعلي وهو جمع سليف . الباقون : بفتحتين جمع سالف كخادم وخدم .
الوقوف : { عظيم } ه { رحمت ربك } ط { سخرياً } ط { يجمعون } ه { يظهرون } ه لا { يتكئون } ه لا { وزخرفاً } ط { الدنيا } للمتقين ه { قرين } ه { مهتدون } ه { القرين } ه { مشتركون } ه { مبين } ه { منتقمون } ه لا { مقتدرون } ه { إليك } ط لاحتمال التعليل { مستقيم } ه { ولقومك } ج للتعليق مع سين التهديد { تسئلون } ه { يعبدون } ه { العالمين } ه { يضحكون } ه { من أختها } ز لنوع عدول { يرجعون } ه { لمهتدون } ه { ينكثون } ه { تحتي } ج للاستفهام مع اتحاد الكلام { تبصرون } ه لأن « أم » منقطعة { مقترنين } ه { فأطاعوه } ط { فاسقين } ه { أجميعن } ه { للآخرين } ه .
التفسير : هذه حكاية شبهة لكفار قريش ، وذلك أنهم ظنوا أن الفضيلة في المال والجاه الدنيوي فقالوا { لولا نزل هذا القرآن } وفي الإشارة ههنا نوع استخفاف منهم لكتاب الله { على رجل من القريتين } أي من إحداهما يعنون مكة أو الطائف . قال المفسرون : الذي بمكة هو الوليد بن المغيرة ، والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي . ومنهم من قال غير ذلك . وأرادوا بعظم الرجل رياسته وتقدمه في الدنيا فألزمهم الله تعالى بأجوبة أوّلها قوله على سبيل الإنكار { أهم يقسمون رحمة ربك } أي النبوّة فيضعوها حيث شاؤا { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً } أي خدماً وتابعاً ومملوكاً . واللام لام العاقبة فإن الإنسان خلق مدنياً بالطبع . وقالت المعتزلة : للغرض وإذا كانت المعايش الدنيوية مع حقارتها وخساستها مفوّضة إلى تدبير الله وتسخيره وتقديره دون أحد من خلقه ، فالأمور الدينية والمناصب الحقيقية الأخروية أولى بذلك . وقيل : الرحمة الرزق . ومعنى الآية إنكار أن الرزق منهم فيكف تكون النبوّة منهم؟ واستدلال السني بالآية ظاهر في أن كل الأرزاق من الله حلالاً كانت أو حراماً .
وقالت المعتزلة : الله تعالى قاسم ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوءتنا ولهم . والجواب أنه كما قسم الرزق عن الجهة التي بها يصل الرزق إليه فكل بقدره . وثانيها قوله { وحمة ربك خير مما يجمعون } لأن الدنيا منقضية فانية ودين الله وما يتبعه من السعادات باقٍ لا يزول ، فكيف يجعل العاقل ما هو الأخس أفضل مما هو الأشرف؟ وثالثها قوله { ولولا } كراهة { أن يكون الناس أمة واحدة } مجتمعين على الكفر { لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم } هو بدل اشتمال وقيل : هما كقولك : وهبت له ثوباً لقميصه في أن اللام للغرض . والمعارج المصاعد أو المراقي جمع معرج كمخلب { عليها } أي على المعارج { يظهرون } يعلون السطوح . والزخرف الزينة أي جعلنا لهم زينة عظيمة في كل باب . وقيل : الذهب أي جعلنا لهم مع ذلك ذهباً كثيراً . أو وجه آخر على هذا التفسير وهو أن يكون معطوفاً على قوله { من فضة } إلا أنه نصب بنزع الخافض أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب . والحاصل أنه سبحانه إن وسع على الكافرين كل التوسعة أطبق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها مع حقارة الدنيا عند الله تعالى ، وفي معناه قول نبينا صلى الله عليه وسلم : « لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء » وإنما لم يوسع على المسلمين كلهم لتكون رغبة الناس في الإسلام لمحض الإخلاص لا لأجل الدنيا . ثم بشر المؤمنين بقوله { وإن كل ذلك } إلى آخره . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أن اللطف من الله تعالى واجب ، وفيه أنه تعالى لما لم يفعل بالناس التوسعة لئلا يجتمعوا على الكفر ، فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى . والجواب أن وقوع كل الناس في طريق القهر محذور ، وأما وقوع البعض فضروري كما مر في أول البقرة ، فشتان بين الممتنع الوجود والضروري الوجود فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟ ثم بين أن مادة كل الآفات وأصل جميع البليات هو السكون إلى الدنيا والركون إلى أهلها فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر ويصير بالتدريج كالعشى ثم كالعمى فقال { ومن يعش عن ذكر الرحمن } أي عن القرآن أي يعرف أنه الحق ولكنه يتجاهل . قال جار الله : قرىء بفتح الشين أيضاً . والفرق أنه إذا حصلت آفة في بصره يقال عشي بالكسر أي عمى يعشى بالفتح ، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا أي تعامى . وفيه معنى الإعراض فلهذا عدي ب « عن » ومعنى { نقيض } نقدر كما مر في « حم السجدة » { وإنهم } أي الشياطين { ليصدونهم } أي العشي عن دين الله { ويحسبون } أي الكفار أن الشياطين والكافرين { مهتدون } وإنما جمع الضميرين لأن { من } عام و { شيطاناً } تابع له .
ولا شك أن هذا القرين ملازم له في الآخرة لقوله { حتى إذا جاءنا } الآية وأما في الدنيا فمحتمل بل لازم لقوله صلى الله عليه وسلم : « كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون » ويروى أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده ولم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول { يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين } أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب كالقمرين . وقيل : المغرب أيضاً مشرق بالنسبة إلى الحركة الثانية وهذا قول أهل السنة . وقيل : مشرق الصيف ومشرق الشتاء وفيه ضعف لأنه لا يفيد مبالغة ، فبين الله تعالى أن ذلك التمني لا ينفعهم وعلله بقوله { أنكم } من قرأ بالكسر فظاهر ، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف اللام أي لن ينفعكم تمنيكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر ، ويحتمل أن يكون أن في قراءة الفتح فاعل ينفع أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب . وإن قيل : المصيبة إذا عمت طابت وذلك أن كل أحد مشغول في ذلك اليوم عن حال غيره بحال نفسه . { وإذ } بدل من اليوم ومعناه إذ ظلمكم تبين ووضح لكل أحد .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يتحزن على فقد الإيمان منهم فسلاه بقوله { أفأنت } إلى آخره . وقوله { فأما نذهبن بك } أراد به قبض روحه كقوله في « يونس » وفي « المؤمن » { فأما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك } [ الآية : 77 ] الانتقام إما في الآخرة وهو قول الجمهور أو في الدنيا . عن جابر أنه قال : لما نزلت { فإنا منهم منتقمون } قال النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أورده في تفسير اللباب . وقيل : فأما نذهبن بك من مكة فإنا منهم منتقمون يوم بدر . والحاصل أنه تعالى توعد الكفار بعذاب الدنيا والآخرة جميعاً . ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم سواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرناه إلى الآخرة فكن متمسكاً بما أوحينا إليك فإنه الدين الذي لا عوج له ، وإنه لشرف لك ولقومك أي لجميع أمتك أو لقريش وسوف تسألون هل أديتم شكر هذه النعمة أم لا . قال أهل التحقيق : في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان خلاف الحياة المستعارة فإن أثرها لا يجاوز مسكن الحي . قلت : الذكر الجميل جميل ولكن الذكر الحاصل من القرآن أجمل رزقنا الله طرفاً من ذلك بعميم فضله . ثم إن السبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم إنكاره لأصنامهم ، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذه الدعوة وهذا الإنكار ولكنه دين أطبق كل الأنبياء على الدعاء إليه ، وفي الآية أقوال : أحدها أن المضاف محذوف تقديره واسأل يا محمد أمم من أرسلنا .
وقال القفال : المحذوف صلة التقدير واسأل من أرسلنا إليهم من قبلك رسولاً من رسلنا . والمراد أهل الكتابين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في كثير من أمورهم نظيره { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك } [ يونس : 94 ] ثانيها أن حقيقة السؤال ههنا ممتنعة ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم . وثالثها أن التقدير : واسأل جبرائيل عمن أرسلنا . ورابعها أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة المعراج في السماء أو في بيت المقدس فأمهم . وقيل له صلى الله عليه وسلم : سلهم . فلم يسأل . وقد قال صلى الله عليه وسلم : « إني لا أشك في ذلك » قاله ابن عباس . وعن ابن مسعود « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتاني ملك فقال : يا محمد سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علام بعثوا؟ قال : قلت علام بعثوا؟ قال : على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه » رواه الثعلبي . ولكنه لا يطابق قوله سبحانه { أجعلنا } الآية . وجوز بعضهم أن يكون { من } مبتدأ والاستفهامية خبره والعائد محذوف أي على ألسنتهم ، ومعنى الجعل التسمية والحكم . واعلم أن كفار قريش إنما طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة كونه فقيراً خاملاً وكان فرعون اللعين قد طعن في موسى بمثل ذلك حيث قال { أليس لي ملك مصر } إلى قوله { مهين } [ الزخرف : 52 ] فلا جرم أورد قصة موسى ههنا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم قوله { فلما جاءهم } معطوف على محذوف تقديره فقال إني رسول رب العالمين . فطالبوه إقامة البينة على دعواه فلما جاءهم إلى آخره . قال جار الله : فعل المفاجأة مع إذا مقدر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل : فلما جاءهم بآياتنا فاجأ وقت ضحكهم استهزاء أو سخرية . قوله : { وما نريهم } حكاية حال ماضية . وفي قوله { هي أكبر من أختها } وجهان : أحدهما أن كلاً منها مثل شبيهتها التي تقدمت ، وكل من رأى واحدة منها حكم بأنها حكم كبراها لتكافؤ كل منها في الكبر . وإذا كان هذا الحكم صادقاً على كل منها فكلها كبار كما قال الحماسي : من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم . مثل النجوم التي يسري بها الساري وثانيها أن يقال : إن الآية الأولى كبيرة والتي تليها أكبر من الأولى ، والثالثة أكبر من الثانية ، وكذلك ما بعدها . هذا القدر مستفاد من الآية ، وأما تفصيل هذا التفضيل فلعله لا يطلع عليه إلا خالقها ومظهرها . { وأخذناهم بالعذاب } السنين ونقص من الثمرات إلى سائر ما ابتلوا به . قالت المعتزلة : { لعلهم يرجعون } أي إرادة أن يرجعوا فورد عليهم أنه لو أراد رجوعهم لكان .
وأجابوا بأنه لو أراد قسراً لكان ولكنه أراد مختاراً ، وزيف بأنه لو أراد أن يقع طريق الاختيار لزم أن يقع أيضاً مختاراً . أما الفرق فالصواب أن يقال : « لعل » للترجي ولكن بالنسبة إلى المكلف كما مر مراراً { وقالوا يا أيه الساحر } أي العالم الماهر ولم يكن السحر عندهم ذماً بل كانوا يستعظمونه ولهذا قالوا { إننا لمهتدون } وقيل : كانوا بعد على كفرهم فلهذا سموه ساحراً . وقولهم { إننا لمهتدون } وعد منوي إخلافه . وقولهم { ادع لنا ربك بما عهد عندك } أي بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة وقد مر في « الأعراف » { ونادى فرعون } أي أمر بالنداء { في } مجامع { قومه } أو رفع صوته بذلك فيما بين خواصه فانتشر في غيرهم . والأنهار أنهار النيل . قال المفسرون : كانت ثلثمائة وستين نهراً ومعظمها أربعة : نهر الملك ونهر طالوت ونهر دمياط ونهر منفيس . كانت تجري تحت قصره وقيل : تحت سريره لارتفاعه . وقيل : بين يدي في جناتي وبساتيني . وعن عبد الله ابن المبارك الدينوري في تفسيره : أنه أراد بالأنهار الجياد من الخيل وهو موافق لما جاء في الحديث في فرس أبي طلحة « وإن وجدناه لبحراً » وقال الضحاك : معناه وهذه القواد والجبابرة تحت لوائي . قال النحويون : إما أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر و { تجري } نصب على الحال ، أو الواو للحال وما بعده جملة محلها نصب . وفي « أم » أقوال منها قول سيبويه إنها متصلة تقديره أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله { أنا خير } موضع { تبصرون } لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء ، فهذا من إنزال السبب منزلة المسبب لأن الإبصار سبب لهذا القول بزعمه . ومنها أنها منقطعة لأنه عدد عليهم أسباب الفضل ثم أضرب عن ذلك ثانياً . أثبت عندكم أني خير . ومنها أن التقدير أفلا تبصرون أني خير أم أبصرتم ثم استأنف فقال أنا خير ، والمهين من المهانة أي الحقارة والضعف أراد أنه فقير ولا عدد معه ولا عدد { ولا يكاد يبين } الكلام لأن عقدته لم تزل بالكلية كما شرحنا في « طه » . وإلقاء الأسورة عليه عبارة عن تفويض مقاليد الملك إليه ، كانوا إذا أرادوا تشريف الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب وغيره أي ليس معه آلات الملك والسياسة ، أو ليس معه حلية وزي حسن كما أن الملوك يشهرون رسلهم بالخلع والمكرمات وبأشخاص يتبعونهم فلذلك قالوا { أو جاء معه الملائكة مقترنين } به أو يقترن بعضهم ببعض { فاستخف قومه } أي حملهم على أن يخفوا له في الطاعة أو استخف عقولهم واستجهلهم { فأطاعوه } وهذه من عادة اللئام كما قيل : العبد لا يردعه إلا العصا :
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ... ومعنى { آسفونا } أغضبونا وأغضبوا رسلنا { فجعلناهم سلفاً } أي متقدمين وعبرة للمتأخرين ليعتبروا من حالهم فلا يقدموا على مثل أفعالهم وإليه المآب .
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
القراآت : { يا عبادي } بالياء في الحالين : أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو . وقرأ حماد وأبو بكر بفتح الياء . الباقون بغير ياء في الحالين { تشتهيه } بهاء الضمير : ونافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص . الآخرون : بحذفها { وإليه يرجعون } بياء الغيبة : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بتاء الخطاب . { وقيله } بالكسرة : حمزة وعاصم غير المفضل . الآخرون : بالنصب . { تعلمون } على الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الوقوف : { يصدون } ه { أم هو } ط { جدلاً } ط { خصمون } ه { إسرائيل } ه ط { يخلفون } ه { واتبعون } ط { مستقيم } ه { الشيطان } ج للابتداء بان مع اتصال المعنى { مبين } ه { فيه } ج لعطف الجملتين مع الفاء { وأطيعون } ه { فاعبدوه } ط { مستقيم } ه { من بينهم } ج للابتداء مع الفاء { أليم } ه { لا يشعرون } ه { المتقين } ه { تحزنون } ه ج لاحتمال كون ما بعده وصفاً { مسلمين } ه ج لاحتمال أن يكون { الذين } إلى آخر الآية مبتدأ وقوله { ادخلوا } إلى آخره خبراً ، والقول محذوف لا محالة { تحبرون } ه { وأكواب } ج { الأعين } ج للعدول مع العطف { خالدون } ه { تعملون } ه { تأكلون } ه { خالدون } ه ج لإحتمال ما بعده صفة أو حالاً له لا مستأنفاً { مبلسون } ه ج لاحتمال أن يكون ما بعده مستأنفاً أو حالاً { الظالمين } ه { ربك } ط { ماكثون } ه ج { كارهون } ه { مبرمون } ه ج لأن « أم » يصلح جواب الأولى ويصلح استفهاماً آخر { ونجواهم } ط { يكتبون } ه { العابدين } ه { يصفون } ه { يوعدون } ه { وفي الأرض إله } ط { العليم } ه { بينهما } ج { الساعة } ج { ترجعون } ه { يعلمون } ه { يؤفكون } ه ج فالوقف بناء على قراءة النصب ، والوصل بناء على قراءة الجر وسيأتي تمام البحث عن إعرابها { لا يؤمنون } ه لئلا يوهم أن ما بعده من قيل الرسول { سلام } ط للابتداء بالتهديد . قال السجاوندي : من قرأ { تعلمون } على الخطاب فوقفه لازم لئلا يصير التهديد داخلاً في الأمر بقوله { قل } قلت : لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم .
التفسير : هذا نوع آخر من قبائح أقوال كفرة قريش . وفي تفسير المثل وجوه للمفسرين : أحدها أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا : إذا جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بنات الله . وانتصب { مثلاً } على أنه مفعول ثانٍ لضرب أي جعل مثلا فالضارب للمثل كافرو { إذا قومك } أي المؤمنون { منه } أي من المثل أو ضربه { يصدون } أي يجزعون ويضجون { وقالوا } أي الكفار أهذا خير أم هو يعنون الملائكة خير من عيسى . وثانيها ما مر في آخر الأنبياء أنه حين نزل { أنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم } [ الآية : 98 ] قال ابن الزبعري للنبي صلى الله عليه وسلم : قد علمت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وعزيراً ، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم .
فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج القوم وضحكوا وصيحوا فأنزل الله تعالى قوله { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى } [ الأنبياء : 101 ] ونزلت هذه الآية أيضاً . والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى ابن مريم مثلاً إذا قومك قريش من هذا المثل يصدون بالكسر والضم أي يرتفع لهم جلبة وصياح فرحاً وسروراً بما رأوا من سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العادة قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الآخر الفرح . { وقالوا آلهتنا } وهي الأصنام { خير أم } عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا أهون . وقيل : من قرأ بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يمنعون عن الحق . وثالثها أنه صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح إلهاً وأن مثله عند الله كمثل آدم ، قال كفار مكة : إن محمداً يريد أن نتخذه إلهاً كما اتخذ النصارى المسيح إلهاً وضجروا وضجوا وقالوا : آلهتنا خير أم هو يعنون محمداً ، وغرضهم أن آلهتهم خير لأنها مما عبدها آباؤهم وأطبقوا عليها فأبطل الله تعالى كلامهم بقوله { ما ضربوه لك إلا جدلاً } أي لم يضربوا هذا المثل لأجلك إلا للجدال والغلبة دون البحث عن الحق { بل هم قوم } من عادتهم الخصومة واللدد . ثم قرر أمر عيسى عليه السلام بقوله { إن هو إلا عبد أنعمنا عليه } بأن خلقناه من غير أب وصيرناه عبرة وحاله عجيبة { ولو نشاء لجعلنا منكم } أي بدلاً منكم { ملائكة في الأرض يخلفون } يقومون مقامكم . وقيل : أراد لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم . والغرض بيان كمال القدرة وأن كون الملائكة في السموات لا يوجب لهم الإلهية ولا نسباً من الله . ثم بين مآل حال عيسى عليه السلام بقوله { وأنه } يعني عيسى { لعلم للساعة } لعلامة من علامات القيامة كما جاء في الحديث « أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي وأنه أول نازل يكسر الصليب ويقتل الخنزير ويقاتل الناس على الإسلام » وقيل : إذا نزل عيسى رفع التكليف . وقيل : أن عيسى كان يحيي الموتى فعلم بالساعة والبعث . وقيل : الضمير في { وإنه } للقرآن أي القرآن يعلم منه وفيه ثبوت الساعة { فلا تمترن بها } فلا تشكن فيها { واتبعوني } هذه حكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم ، أو المراد واتبعوا رسولي وشرعي والباقي واضح إلى قوله { هل ينظرون } وقد مر في آل عمران وفي « مريم » . وقوله { أن تأتيهم } بدل من الساعة و { الأخلاء } جمع خليل و { يومئذ } ظرف { عدو } وهو كقوله { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا }
[ البقرة : 166 ] ولكن خلة المتقين ثابتة لأن المحبة في الله لا تزول . ومعنى { تحبرون } تسرون والحبور السرور ، والصحاف جمع صحفة وهي القصعة فيها طعام ، والأكواب جمع كوب وهو الإبريق لا عروة له . وقد يدور في الخلد أن العروة للكوز أمر زائد على مصلحة الشرب وإنما هو لدفع حاجة كتعليق وتعلق وأهل الجنة فيها براء من أمثال ذلك فلهذا كانت أكوازها أكواباً والله أعلم بأسراره . { وفيها } أي في الجنة . قال القفال : جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على تفصيله لم يخرجوا عنه . ثم يقال لهم { وأنتم فيها خالدون } إلى آخره . ثم وصف حال أهل الجرائم من الكفار أو منهم ومن الفساق على اختلاف بين السني والمتعزلي . ومعنى { لا يفتر } لا يخفف من الفتور ومبلسون آيسون ساكتون تحيراً ودهشاً . ولما أيسوا من فتور العذاب { نادوا يا مالك } وهو اسم خازن النار { ليقض علينا ربك } أي ليمتنا كقوله { فقضى عليه } [ القصص : 15 ] قال مالك : بعد أربعين عاماً أو بعد مائة أو ألف أو قال الله بدليل قوله { ولقد جئناكم } فإنه ظاهر من كلام الله وإن كان يحتمل أن يكون قول الملائكة . قال أهل التحقيق : سمى خازن النار مالكاً لأن الملك علقة والتعلق من أسباب دخول النار كما سمى خازن الجنة رضواناً لأن الرضا بحكم الله سبب كل راحة وسعادة وصلاح وفلاح . ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال { أم أبرموا أمراً } والإبرام والإحكام والمعنى أنهم كلما أحكموا أمراً في المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنا نحكم أمراً في مجازاتهم . وقال قتادة : أجمعوا على التكذيب وأجمعنا على التعذيب ، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة وأطبقوا على الاغتيال بمحمد صلى الله عليه وسلم وتناجوا في ذلك فكف عنه شرهم وأوعدهم عليه بأنه يعلم سرهم وهو ما حدّث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خالٍ . ونجواهم وهي ما تكلموا به فيما بينهم على سبيل الخفية أيضاً .
ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه ، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك : إن كانت الخمسة زوجاً فهي منقسمة بمتساويين . وهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وبيان الملازمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه ، فلو كان المقدم حاصلاً في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصاً فيما يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه ، لكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام ، واضح الإفحام ، قريب من الأفهام ، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام .
وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوهاً متكلفة منها : إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله . ومنها إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد . يقال : عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه . ومنها جعل « إن » نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك ، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته ، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة . ثم مدح ذاته بقوله { وهو الذي في السماء إله } أي معبود كما مر في قوله { وهو الله في السموات وفي الأرض } [ الأنعام : 3 ] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام . ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم . وقوله { إلا من شهد } استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة ، ويجوز أن يكون متصلاً لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيراً . وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعاً له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء { وهم يعلمون } دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر . ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلاً { ولئن سألتهم } والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أنداداً . وقيل : الضمير في { سألتهم } للمعبودين . من قرأ { وقيله } بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على { سرهم ونجواهم } أو المراد وقال قيله أي قوله ، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بالكناية في قوله { قل إن كان } وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى ، وفيه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم . ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق .
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
القراآت : { رب السموات } بالجر على البدل { من ربك } : عاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالرفع { أني آتيكم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { ترجموني } { فاعتزلوني } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل { لي } بالفتح : ورش { فكهين } بغير الألف : يزيد { يغلي } على التذكير والضمير للطعام : ابن كثير وحفص والمفضل ورويس وابن مجاهد عن ابن ذكوان . الباقون : بتاء التأنيث والضمير للشجرة { فاعتلوه } بضم التاء : ابن كثير ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب . الآخرون : بالكسر { ذق أنك } بفتح الهمزة على حذف لام التعليل . { في مقام } بضم الميم من الإقامة : أبو جعفر ونافع وابن عامر .
الوقوف : { حم } كوفي ه { المبين } ه لا ومن لم يقف على { حم } وقف على { المبين } { منذرين } ه { حكيم } ه ط بناء على أن التقدير أمرنا أمراً { من عندنا } ط { مرسلين } ه ج لاحتمال أن { رحمة } مفعول له أو به أو التقدير رحمنا رحمة { من ربك } ط { العليم } ه لا لمن خفض { رب } { بينهما } ط { موقنين } ه { ويميت } ط { الأولين } ه { يلعبون } ه { مبين } ه ط { الناس } ط { أليم } ه { مؤمنون } ه { مبين } ه لا للعطف { مجنون } ه لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار { عائدون } ه م لئلا يظن أن ما بعده ظرف للعود { الكبرى } ج لاحتمال التعليل { منتقمون } ه { كريم } ه لا { عباد الله } ط { أمين } ه { على الله } ج { مبين } ه ج { ترجمون } ه { فاعتزلون } ه { مجرمون } ه { متبعون } ه لا { رهوا } ط { مغرقون } ه { وعيون } ه لا { كريم } ه لا { فاكهين } ه لا لأن المعنى تركوها مهيأة كما كانت { آخرين } ه { منظرين } ه { المهين } ه لا { من فرعون } ط { المفسرين } ه { العالمين } ه ج { مبين } ه { ليقولون } ه لا { بمنشرين } ه { صادقين } ه { تبع } لا للعطف { من قبلهم } ط لتناهي الاستفهام إلى ابتداء الأخبار { أهلكناهم } ج لأن التعليل أوضح { مجرمين } ه { لاعبين } ه { لا يعلمون } ه { أجمعين } ه لا لأن ما بعده بدل { ولا هم ينصرون } ه لا { رحم الله } ط { الرحيم } ه { الأثيم } ه ج لاحتمال أن يكون { كالمهل } خبراً بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف { في البطون } لا { الحميم } ه { الجحيم } ه { الحميم } ه ط لأن التقدير قولوا أو يقال له ذق { الكريم } ه { تمترون } ه { أمين } ه لا { وعيون } ه ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { متقابلين } ه ج لاحتمال أن يراد كما ذكرنا من حالهم قبل أو يكون التقدير الأمر كذلك { عين } ه ج لئلا يوهم أن ما بعده صفة للحور { آمنين } ه لا لأن ما بعده صفة فإن الأمن لا يتم إلا به { الأولى } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً بإضمار قد { الجحيم } ه لا لأن { فضلاً } مفعول به { من ربك } ط { العظيم } ه { يتذكرون } ه { مرتقبون } ه .
التفسير : أقسم بالقرآن { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب وإنما أنزل في هذه الليلة خصوصاً لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية ، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة فالجملتان - أعني قوله { إنا كنا منذرين فيها يفرق على أمر حكيم } كالتفسير لجواب القسم قال صاحب النظم : ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه فجواب القسم { إنا كنا منذرين } وقوله { إنا أنزلناه } اعتراض . والجمهور على الأول ولا بأس لأن المعنى إنا أنزلنا القرآن على محمد ولم يتقوله ، ويحتمل أن القسم وقع على إنزاله في ليلة مباركة . وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر لقوله { إنا أنزلناه في ليلة القدر } [ القدر : 1 ] وليلة القدر عند الأكثرين من رمضان . ونقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، والتوراة لست ليال منه ، والزبور لاثنتي عشرة مضت ، والإنجيل لثمان عشرة منه ، والفرقان لأربع وعشرين مضت ، والليلة المباركة هي ليلة القدر . وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان . وما رأيت لهم دليلاً يعوَّل عليه . قالوا : وتسمى ليلة البراءة أيضاً وليلة الصك لأن الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة من النار في هذه الليلة . وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشراً يدفعون عنه مكايد الشيطان . » وقال « إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب » وقال : « إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو ساخر أو مدمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا » ومما أعطى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها ، ثم سأل ليلة الرابع عشر منها فأعطى الثلثين ، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير . ومن عادة الله عز وجل في هذه الليلة أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة . وبعضهم أراد أن يجمع بين القولين فقال : ابتدىء بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر . والمباركة الكثيرة الخير ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة . ومعنى { يفرق } يفصل ويكتب { كل أمر } هو ضد النهي أو كل أمر له شأن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى العام القابل ، فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ، ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسوف إلى جبرائيل ، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت .
وقيل : يعطي كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته . وفي انتصاب { أمراً } وجوه : إما أن يكون حالاً من { أمر حكيم } لأنه قريب من المعرفة أو من الهاء في { أنزلناه } أو من الفاعل أي آمرين ، أو على المصدر لأمر ، أو على الاختصاص لأن كونه من عند الله يوجبه مزيد شرف وفخامة ، أو يكون مصدراً من غير لفظ الفعل وهو { يفرق } لأنه إذا حكم بالشيء وفصله وكتبه فقد أوجبه وأمر به قوله { إنا كنا مرسلين } يجوز أن يكون بدلاً من قوله تعالى { إنا كنا منذرين } أي أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة ، ويحتمل كونه تعليلاً ليفرق ، أو لقوله { أمراً من عندنا } وقوله { من ربك } وضع للظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة . ثم حقق ربوبيته بقوله { إنه هو السميع العليم } إلى قوله الأولين . ومعنى الشرط في قوله { إن كنتم موقنين } نظير ما هو في أول الشعراء وذلك أنهم كانوا مقرين بأنه رب السموات والأرض . قيل لهم : إن كنتم على بصيرة وإيقان من ذلك فلا تشكوا فيه ، أو إن كنتم موقنين بشيء فأيقنوا بما أخبرتكم ، أو إن كنتم تريدون اليقين فاعلموا ذلك . وقيل : إن نافية ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله { بل هم في شك يلعبون } في الدنيا أو يستهزؤون بنا فلا جرم أوعدهم بقوله { فارتقب } و { يوم } مفعول به أي انتظره . والأكثرون على أن هذا الدخان من أمارات القيامة فإن الدنيا ستصير كبيت لاخصاص له مملوء دخاناً يدخل في أنوف الكفار وآذانهم فيكونون كالسكارى ، ويصيب المؤمن فيه كالزكام فيبقى ذلك أربعين . وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال « أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر » أبين بكسر الهمزة وفتحها اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها . وقيل : الدخان يكون في القيامة إذا خرجوا من قبورهم يحيط بالخلائق ويغشاهم . وقيل : الدخان الشر والفتنة . وعن ابن مسعود : خمس قد مضت الروم والدخان والقمر والبطشة واللزام . وذلك أن قريشاً لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني ويوسف . فأصابهم اللزام وهو القحط حتى أكلوا الجيف ، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان فيسمع كلام صاحبه ولا يراه من الدخان . فمشى إليه صلى الله عليه وسلم أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم ، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا .
فلما كشف عنهم من الدخان رجعوا إلى شركهم وذلك قوله { هذا عذاب } أي قائلين هذا إلى آخره .
ثم استبعد منهم الاتعاظ بقوله { أنى لهم الذكرى وقد جاءهم } ما هو أعظم من كشف الدخان وهو القرآن المعجز وغيره فلم يتذكروا { وتولوا عنه } واتهموه صلى الله عليه وسلم بأنه إنما يعلمهن بشر ونسبوه إلى الجنون . ومعنى « ثم » تبعيد الحالتين . ثم بين أنهم يعودون إلى الكفر عقيب كشف العذاب عنهم زماناً قليلاً . واعلم أن ارتدادهم إلى الكفر أمر ممكن سواء يجعل الدخان من أمارات القيامة أو يقال إنه قد مضى . والبطشة الكبرى القيامة أو يوم بدر على التفسيرين . و { يوم } ظرف لما دل عليه منتقمون فإن ما بعد « أن » لا يعمل فيما قبله . وقيل : بدل من { يوم تأتي السماء } ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة موسى . ومعنى { فتنا } امتحنا وقد وصفه بالكرم لأنه كان حبيباً في قومه أو بكرم خلقه ، أو المراد أنه لم يخاشنهم في التبليغ كما قال { فقولا له قولاً ليناً } [ طه : 44 ] « وأن » مفسرة لأن مجيء الرسول يتضمن القول ، أو مخففة من الثقيلة ، أو مصدرية والياء محذوف . و { عباد الله } مفعول به لقوله { أرسل معنا بني إسرائيل } [ طه : 47 ] أو منادى والمعنى أدوا إليَّ يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان والطاعة . والقصة مذكورة في « الشعراء » وغيرها و { وأن ترجمون } أن تقتلون أو تشتمون بالنسبة إلى الكذب والسحر { وإن لم تؤمنوا لي } أي لم تصدقوني فقارقوني وكونوا بمعزل عني لا عليّ ولا لي { فدعا ربه } شاكياً { أن هؤلاء قوم مجرمون } مصرون على الكفر { فأسر } أي فأجبنا دعاءه وقلنا له أسر وكان من دعائه اللهم عجل لهم ما يستحقونه بإجرامهم . ويحتمل أن يكون الدعاء وهو ما في « يونس » { ربنا اطمس على أموالهم } [ الآية : 88 ] وفي { رهواً } وجهان : أحدهما ساكناً أي لا تضربه . ثانياً واتركه على هيئته من انتصاب الماء وكون الطريق يبساً . وذلك أن موسى أراد أن يضربه ثانياً حتى ينطبق ويزول الانفلاق خوفاً من أن يدركهم قوم فرعون ، والله تعالى أراد أن يدخل القبط البحر ثم يطبقه عليهم ، وثانيهما أن الرهو الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحاً منفرجاً على حاله . والنعمة بفتح النون التنعم والباقي مذكور في « الشعراء » . وقوله { فما بكت } كان إذا مات الرجل الخطير قالوا في تعظيم مصيبته بكت عليه السماء والأرض وأظلمت الدنيا ، ومنه الحديث « وما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء » وفيه تمثيل وتخييل وتهكم بهم أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك ، فأخبر ما كانوا في هذا الحد بل كانوا أنهم دون ذلك .
وجوز كثير من المفسرين أن يكون البكاء حقيقة وجعلوا الخسوف والكسوف والحمرة التي تحدث في السماء وهبوب الرياح العاصفة من ذلك . قال الواحدى في البسيط : روي أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية » ثم إن هؤلاء الكفار لم يكن لهم عمل صالح يصعد إلى السماء فلا جرم لم تبك عليهم . وعن الحسن : أراد أهل السماء والأرض أي ما بكت عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين { وما كانوا إذا منظرين } أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا . قوله { من فرعون } بدل من العذاب بل جعل في نفسه عذاباً مهيناً لشدة شكيمته وفرط عتوه . وقيل : المضاف محذوف أي من عذابه . وقيل : تقديره المهين الصادر من فرعون ، وفي قراءة ابن عباس { من فرعون } على الاستفهام أي ما ظنكم بعذاب من تعرفونه أنه عال قاهر عات مجاوز حد الاعتدال . ثم ثنى على بني إسرائيل بقوله { ولقد اخترناهم } بإيتاء الملك والنبوة { على علم } منا باستحقاقهم ذلك وقيامهم بالشكر عليه على عالمي زمانهم . ولا ريب أن هذا قبل التحريف . وقيل : أي على علم منا بأنه يبدو منهم بوادر وتفريطات والبلاء النعمة أو المحنة ، والآيات هي التسع وغيرها .
ثم عاد إلى ما انجر الكلام فيه وهو قوله { بل هم في شك يلعبون } فقال { إن هؤلاء } يعني كفار قريش { ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى } قال المفسرون : يؤل إلى ما حكى عنهم في موضع آخر { إن هي إلا حياتنا الدنيا } [ المؤمنون : 37 ] وذلك أن النزاع إنما وقع في موتة تعقبها حياة فأنكروا أن تكون موتة بهذا الوصف إلا الموتة الأولى وهو حال كونهم نطفاً . ويحتمل أن يراد إن هي أي الصفة أو النهاية أو الحالة أو العاقبة إلا الموتة الأولى ، وليست إثباتاً لموتة ثانية إنما هو كقولك : حج فلان الحجة الأولى ، ومات { وما نحن بمنشرين } أنشر الله الموتى أحياهم { فأتوا } أيها النبي والذين آمنوا معه { بآبائنا إن كنتم صادقين } يروى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم إحياء الموتى فينشر كبيرهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة البعث ، فلم يجبهم الله تعالى إلى ذلك ولكنه أوعدهم بقوله { أهم خير أم قوم تبع } أي ليسوا بخير منهم في العدد والعز والمنعة . ابن عباس : تبع نبي . أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم « لا أدري تبع نبياً كان أم غير نبي »
رواه الثعلبي عن عائشة كان رجلاً صالحاً ذم الله قومه ولم يذمه . وإنما خصهم بالذكر لقربهم من العرب زماناً ومكاناً . وعن سعيد بن جبير كسا البيت . وقال قتادة : كان من حمير سار فبنى الحيرة وسمرقند . وقال أبو عبيدة : هم ملوك اليمن يسمى كل واحد منهم تبعاً لكثرة تبعه ، أو لأنه يتبع صاحبه وهو بمنزلة الخليفة للمسلمين ، وكسرى للفرس ، وقيصر للروم ، وجمعه تبابعة ، وكان يكتب إذا كتب بسم الذي ملك براً وبحراً . ثم برهن على صحة البعث بقوله { وما خلقنا } إلى آخره ، وقد مر في « الأنبياء » وفي « ص » نظيره . وإنما جمع السموات ههنا لموافقة قوله في أول السورة { رب السموات } وسمى يوم القيامة يوم الفصل لأنه يفصل بين عباده في الحكم والقضاء ، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار ، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون وللكافرين بينهم وبين وما يشتهونه فيفصل بين الوالد وولده والرجل وزوجته والمرء وخليله . والمولى في الآية يحتمل الولي والناصر والمعين وابن العم ، والمراد أن أحداً منهم بأي معنى فرض لا يتوقع منه النصرة . والضمير في { لا ينصرون } للمولى الثاني لأنه جمع في المعنى لعمومه وشياعه . وقوله { إلا من رحم الله } في محل الرفع على البدل أو في محل النصب على الاستثناء { إنه هو العزيز } الغالب على من عصى { الرحيم } لمن أطاع . ثم أراد أن يختم السورة بوعيد الفجار ووعد الأبرار فقال { إن شجرت الزقوم } وقد مر تفسيرها في الصافات . و { الأثيم } مبالغة الآثم ولهذا يمكن أن يقال : إنه مخصوص بالكافر . والمهمل دردي الزيت وقد مر في « الكهف » . ولعل وجه التشبيه هو بشاعة الطعم كما أن الوجه في قوله { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } [ الصافات : 65 ] هو كراهة المنظر ثم وصفه بشدة الحرارة قائلاً { يغلي } إلى آخره . ثم أخبر أنه سبحانه يقول للزبانية { خذوه } أي خذوا الأثيم { فاعتلوه } جروه بعنف وغلظة كأن يؤخذ بتلبيبه فيجر إلى وسط النار . ومنه العتل للجافي الغليظ . وقوله { من عذاب الحميم } دون أن يقول « من الحميم » تهويل سلوك لطريق الاستعارة لأنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته . يروي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أمنع مني فوالله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي « شيئاً » فنزلت الآية . أي يقال له ذق لأنك أنت العزيز الكريم عند نفسك وفيه من التهكم ما فيه { إن هذا } العذاب { ما كنتم به تمترون } تشكون . ثم شرع في وعد الأبرار والمقام الأمين ذو الأمن ، أو أصله من الأمانة لأن المكان المخيف كأنما يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره .
وقوله { وزوجناهم } اختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزوج أم لا . والأكثرون على نفيه ، وأن المراد قرناهم بهن . وقيل : زوجته امرأة وزوجته بامرأة لغتان . وهكذا اختلفوا في الحور . فعن الحسن : هن عجائزكم ينشئهن الله خلقاً آخر . وقال أبو هريرة : لسن من نساء الدنيا . { يدعون } أي يحكمون ويأمرون في الجنة بإحضار ما يشتهون من الفواكه في أي وقت ومكان { آمنين } من التخم والتبعات ، ثم أخبر عن خلودهم بقوله { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } قال جار الله : هو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل : إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها . وقيل : الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها . وقال أهل التحقيق : إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله وبمحبته . فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة . وفي الآخرة أيضاً في الجنة فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى . ثم ختم الكلام بفذلكته والمعنى ذكرناهم بالكتاب المبين فأسهلناه حيث أنزلناه بلغتك إرادة تذكرهم فانتظر ما يحل فإنهم يتربصون بك الدوائر .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
القراآت : { وفي خلقكم } مدغماً : عباس . { آيات } بالنصب في الموضعين : حمزة وعلي ويعقوب { الريح } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف { يؤمنون } على الغيبة : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص { أليم } مذكور في « سبأ » { لنجزي } بالنون : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف { ليجزي } بالياء مبنياً للمفعول { قوم } بالرفع : يزيد . الباقون : مبنياً للفاعل { قوماً } سواء بالنصب : حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد { غشوة } بفتح الغين وسكون الشين من غير ألف : حمزة وعلي وخلف 3 { كل أمة تدعي } بالنصب على الإبدال من الأول : يعقوب { الساعة } بالنصب : حمزة { لا يخرجون } من الخروج حمزة وعلي وخلف .
الوقوف : { حم } كوفي ه { الحكيم } ه { للمؤمنين } ه ط ومن نصب ، { آيات } لم يقف لأنها عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين { يوقنون } ه لا للعطف على { عاملين } كما يجيء { يعقلون } ه { بالحق } ج للاستفهام مع الفاء { يؤمنون } ه { أثيم } ه { يسمعها } ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب { أليم } ه { هزواً } ط { مهين } ه ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف { عذاب جهنم } ج لعطف المختلفين { أولياء } ج لذلك { عظيم } ه { هدى } ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف { أليم } ه { تشكرون } ه ج للآية مع العطف { منه } ط { يتفكرون } ج { يكسبون } ه { فلنفسه } ج { فعليها } ز لأن « ثم » لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة { ترجعون } ه { العالمين } ه ج للآية والعطف { من الأمر } ج لعطف المختلفتين { بينهم } ط { يختلفون } ه { لا يعلمون } ه { شيئاً } ج { بعض } ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين { المتقين } ه { يوقنون } ه { الصالحات } قف ومن نصب { سواء } لم يقف . { ومماتهم } ط { يحكمون } ه { لا يظلمون } ه { غشاوة } ط { من بعد الله } ط { تذكرون } ه { الدهر } ج لاحتمال الواو الحال { من علم } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { يظنون } ه { صادقين } ه { لا يعلمون } ه { والأرض } ط { المبطلون } ه { جاثية } قف لمن قرأ { كل } بالرفع { كتابها } ط { تعملون } ه { بالحق } ه ط { تعملون } ه { في رحمته } ط { المبين } ه { مجرمين } ه { ما الساعة } لا تحرزاً عن الابتداء بقول الكفار { بمستيقنين } ه { يستهزؤون } ه { ناصرين } ه { الدنيا } ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة { يستعتبون } ه { العالمين } ه { والأرض } ص لعطف الجملتين المتفقتين { الحكيم } ه .
التفسير : إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول « المؤمن » وتفسيره وقوله { إن في السموات } إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمس والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها ، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيصهما .
استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين . مختلفين وهما في قراءة النصب « أن » وفي أقيمت الواو مقامها فعملت الجر في اختلاف الليل ، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي . وخرج لسيبويه في جوابه وجهان : أحدهما أن قوله { آيات } تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول : إن في الدار زيداً وفي الحجرة زيداً والمسجد زيداً ، وأنت تريد أن في الدار زيداً والحجرة والمسجد . والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه ، ويحتمل أن ينتصب { آيات } على الاختصاص . ويرتفع بإضمار هي . وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مراراً ولا سيما في أواسط « البقرة » ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولاً ثم قال { لقوم يوقنون } ثم { يعقلون } فما سبب هذا الترتيب؟ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله : أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل ، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين ، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل ، وقال جار الله : معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا ، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال . وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض ، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس ، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً ، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم . وأقول : الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان : نفسية وخارجية . فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه ، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية . فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق ، وأما الآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر ، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود . { تلك } مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة و { نتلوها } في محل الحال . وقوله { بعد الله وآياته } كقولهم : أعجبني زيد وكرمه . وأصله بعد آيات الله . والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه . وقيل : معناه القرآن آخر كتب الله ، ومحمد آخر رسله . فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب بعده ولا نبي . ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان . قوله { وإذا علم } أي شعر وأحس بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء ، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمله على الوجه الموجب للطعن كافتراض ابن الزبعري في قوله
{ إنكم وما تعبدون من دون الله } [ الأنبياء : 98 ] وإنما أنّث الضمير في قوله { اتخذها } لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزواً ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه . قوله { من ورائهم جهنم } كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر ، وقد مر في سورة إبراهيم عليه السلام { هذا هدى } أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد . ثم ذكر دليلاً آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مراراً . وقوله { ولتبتغوا } أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري . ثم عمم بعد التخصيص وقوله { منه } في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه ، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه . عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر - يقال لها المريسيع - فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له : ما حبسك؟ قال : غلام عمر قعد على رأس البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه . فقال عبد الله : ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل : سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى { قل للذين آمنوا } يعني عمر { يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم ، والمراد الصفح والإعراض . عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس : لما نزلت { من ذا الذي يقرض الله } [ البقرة : 245 ] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء : احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه ، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه . وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين ، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية ، وإنما أنكر { قوماً } مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل : لنجزي قوماً كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء { بما كانوا يكسبون } من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه ، وقيل : القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق . ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله { من عمل صالحاً } الآية .
ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين . وقال ابن عباس : يريد أنه تبين لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب .
وقيل : هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } فيه احتمالان : أحدهما علموا ثم عاندوا ، والثاني جاءهم أسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسداً . { ثم جعلناك على شريعة } أي منهاج وطريقة { من الأمر } أمر الدين وقيل : من الأمر الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا . قال الكلبي : إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله { ولا تتبع } إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك . ثم أشار بعد النهي عن اتباع أهوائهم بقوله { ولا تتبع } أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة ، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه . ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته { هذا } القرآن . وقيل : ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشاراً إليه أولى لقوله { بصائر من ربكم } إلى آخره . وقد مر في آخر « الأعراف » مثله . ثم بين الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلاً { أم حسب } قال جار الله : « أم » منقطعة والآية نظيرة ما سلف في « ص » { أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين } [ الآية : 28 ] والاجتراح الاكتساب . من قرأ { سواء } بالنصب فمعناه مستوياً والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل من ثاني مفعولي { نجعل } وهو الكاف . من قرأ بالرفع بخبر { ومحياهم } مبتدأ والجملة بدل أيضاً لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً . والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتاً ، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة ، ومات هؤلاء على الضد . وقيل : معناه إنكار أن يستويا في الممات كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق ، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن . فالفرق المتقضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة . وقيل : إنه كلام مستأنف ، والمراد أن كلاً من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه لقوله صلى الله عليه وسلم : « كما تعيشون تموتون » وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله { وخلق الله } الآية . قال جار الله : { ولتجزى } معطوف على { بالحق } لأنه في معنى التعليل أي للعدل ، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء . ويجوز أن يكون المعلل محذوفاً وهو فعلنا ونحوه . والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فكيف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة .
ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلاً { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان { وأضله الله على علم } بحالة أنه من أهل الخذلان والقهر ، أو على علم الضلال في سابق القضاء ، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها . وقيل : أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم { فمن يهديه من بعد } إضلال { الله } قال بعض العلماء : قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في « البقرة » لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة ، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة ، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه . ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس ، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن ، فورد ما في كل سورة على ترتيبه . ثم ذكر من أسباب الضلال سبباً آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة لا هذه . وليس قولهم الدنيا تسلماً لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم { نموت ونحيى } فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب . وقيل : يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء ، أو يموت بعض ، ويحيا بعض ، أو أرادوا بكونهم أمواتاً حال كونهم نطفاً ، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر . ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين { وما يهلكنا إلا الدهر } اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب . ولا حاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادىء فأجاب الله عن شبهتهم بقوله { وما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظناً تخميناً واستبعاداً فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم ، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مراراً وأطوراً . وليس قولهم { ائتوا بآبائنا } من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس ، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع ... وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال { قل الله يحييكم } إلى آخره . ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجري على الكفار فيه فقال { ويوم تقوم الساعة } العامل فيه يخسر وقوله { يومئذ } بدل من { يوم } وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف . قال ابن عباس : الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها . وقيل : باركة جلسة المدعي عند الحاكم .
وقيل : مستوفزاً لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله . والجثو للكفار خاصة . وقيل : عام بدليل قوله بعد ذلك { فأما الذين آمنوا } { وأما الذين كفروا } { تدعى إلى كتابها } يريد كتاب الحفظة ليقرؤه . وقال الجاحظ : إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا . ويقال : يا أهل التوراة يا أهل القرآن . { اليوم تجزون } بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله { هذا كتابنا } إلى قوله { إنا كنا نستنسخ } أي نأمر بالنسخ . وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عز وجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة ، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه ، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه . قوله { أفلم تكن } القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله { إن نظن إلا ظناً } قال أبو علي والأخفش : هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن ، فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظناً . وقال المازني : تقديره إن نظن نحن إلا ظناً منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون . وقال جار الله : أصله نظن ظناً ومعناه إثبات الظن فحسب . فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول : الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم ، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله { وما نحن بمستيقنين } وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم .
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
القراآت : { لتنذر } على الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب . الباقون : على الغيبة . والضمير للكتاب { إحساناً } : حمزة وعلي وخلف وعاصم . الباقون : { حسناً } { كرهاً } في الموضعين بالفتح : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وجبلة وهشام . الباقون : بالضم وفصله يعقوب . الآخرون { وفصاله } { أوزعني أن } بالفتح : إبن كثير غير القوّاس والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني { نتقبل } بالنون { أحسن } بالنصب { ونتجاوز } بالنون : حمزة وعلي وخلف وحفص . الآخرون بياء الغيبة مبنياً للمفعول في الفعلين { أحسن } بالرفع { أف } بالكسر والتنوين : أبو جعفر ونافع وحفص والمفضل . وقرأ ابن كثير بالفتح من غير تنوين . الباقون : بالكسر ولا تنوين { أتعدانني أن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وقرأ هشام مدغمة النون { وليوفيهم } بالياء : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم . الباقون : بالنون { أءذهبتم } بتحقيق الهمزتين : ابن ذكوان { آذهبتم } بالمدّ : ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وهشام . الباقون : بهمزة واحدة .
الوقوف : { حم } ه كوفي { الحكيم } ه { مسمى } ط { معرضون } ه { السموات } ه لانتهاء الاستفهام إلى الخطاب { صادقين } ه { غافلون } ه { كافرين } ه { مبين } ه لأن « أم » تتضمن استفهام إنكار { افتراه } ط { شيئاً } ط { فيه } ط { وبينكم } ط { الرحيم } ه { بكم } ط { مبين } 5 ط { واستكبرتم } ط { الظالمين } 5 { إليه } ط { قديم } 5 { ورحمة } ط { للمحسنين } ه { يحزنون } ه { فيها } ج لأن { جزاء } يصلح مفعولاً له ومفعول فعل محذوف أي يجزون جزاء { يعملون } ه { إحساناً } ط { ووضعته كرهاً } ط { شهراً } ط { سنة } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { ذرّيتي } ط للابتداء بإن مع اتحاد الكلام { المسلمين } ه { الجنة } ط لأن التقدير وعد لله وعداً صدقاً وهو مصدر مؤكد لأن قوله { نتقبل } في معنى الوعد { يوعدون } ه { الأوّلين } ه { والإنس } ط { خاسرين } ه { عملوا } ج لأن الواو تكون مقحمة ويتصل اللام بما قبله وقد يكون المعلل محذوفاً كأنه قيل : وليوفيهم أعمالهم قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم { لا يظلمون } ه ط لتقدير القول وهو العامل في يوم { بها } ج لابتداء التهديد مع الفاء { تفسقون } ه .
التفسير : إنما كرر تنزيل الكتاب لأنه بمنزلة عنوان الكتب ثم ذكر ما أنزل فقال { ما خلقنا } إلى قوله { وأجل مسمى } وقد مر في أوّل « الروم » أنه الوقت الذي عينه لإفناء الدنيا . وحين بين الدليل على وجود الإله ووقوع الحشر فرع عليه الردّ على عبدة الأوثان بقوله { قل أرأيتم } وقد مر في « فاطر » . والمراد أنهم لا يستحقون العبادة أصلاً لأنهم ما خلقوا شيئاً في هذا العالم لا في الأرض ولا في السماء ، ولم يدل وحي من الله على عبادتهم لأن هذا القرآن ناطق بالتوحيد وإبطال الشرك وما من كتاب قبله إلا هو ناطق بمثل ذلك .
فقوله { ائتوني } من باب إرخاء العنان وتوسيع المجال على الخصم أي إن كنتم في شك مما قلت فقد أمهلتكم حتى تأتوني بعد الاستقراء { بكتاب } فيه شيء من ذلك { أو أثارة من علم } قال الواحدي : كلام أهل اللغة في تفسير هذا الحرف يدور على ثلاثة أوجه : أحدها البقية من قولهم « سمنت الناقة على إثارة من شحم » أي على بقية شحم كانت بها من شحم ذاهب . والثاني أنه من الأثر بمعن الرواية . والثالث من الأثر بمعنى العلامة والمراد ما بقي أو روي عن أسلافهم ويعدّونه علماً . عن ابن عباس مرفوعاً أنه الخط . قال : كان نبي من الأنبياء يخط فمن صادف مثل خطه علم علمه . ثم زاد في تبكيتهم وتوبيخهم بقوله { ومن أضل } الآية . وبالجملة فالدليل الأوّل دل على نفي القدرة عنهم من كل الوجوه ، وهذا الدليل دل على نفي العلم عنهم من كل الوجوه ، فإذا انتفى العلم والقدرة عن الجسم لم يكن إلا جماداً وعبادة الجماد محض الضلال . وقوله { إلى يوم القيامة } تأبيد على عادة العرب ، ويحتمل أن يكون توقيتاً بدليل قوله { وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء } وهذا التبري والتخاطب نوع من الاستجابة . ثم قرر غاية عنادهم بقوله { وإذا تتلى } ثم عجب من حالهم بقوله { أم يقولون افتراه } الآية أي إن كذبت على الله كما زعمتم عاجلني بالعقوبة فلا تقدرون على دفع عذابه عني فأي فائدة لي في الافتراء . ثم فوّض أمرهم إلى الله قائلاً { هو أعلم بما تفيضون } أي تتدفعون فيه من القدح في الوحي ، وتسميته سحراً تارة وافتراء أخرى وفي قوله { وهو الغفور الرحيم } إشارة إلى أنهم لو رجعوا إلى الحق وتابوا عن الشرك قبل الله توبتهم ، وفيه إشعار بحلم الله عنهم مع عظم ما ارتكبوه . ثم أراد أن يزيل شبهتهم بنوع آخر من البيان فقال { قل ما كنت بدعاً } هو بمعنى البديع كالخف بمعنى الخفيف أي لست بأوّل رسول أرسله الله ولا جئتكم بأمر بديع لم يكن إلى مثله سابق . وفيه إن اقتراح الآيات الغريبة فيه غير موجه لأنه لا يتبع إلا الوحي وما هو إلا نذير وليس إليه أن يأتي بكل ما يقترح عليه ، وفيه أنه غير عالم بالمغيبات إلا بطريق الوحي فلا وجه لاستدعاء الغيوب عنه سواء تتعلق بأحوال الدنيا أو بأحوال الآخرة من الأحكام والتكاليف وما يؤل أمر المكلفين إليه ، وفيه أنه لا وجه لتعييره بالفقر وبأكل الطعام والمشي في الأسواق والرسل كلهم أو جلهم كانوا كذلك . قال ابن عباس في رواية الكلبي : لما أشتدّ البلاء على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر فقصها على أصحابه فاستبشروا بذلك ، ثم إنهم مكثوا برهة من الدهر لا يرون أثر ذلك فقالوا : يا رسول الله ما رأينا الذي قلت ومتى تهاجر؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله الآية .
وعنه في رواية أخرى أنه لما نزلت هذه الآية فرح المشركون والمنافقون واليهود وقالوا : كيف نتبع نبياً لا يدري ما يفعل به ولا بأمته ، فأنزل الله تعالى { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] إلى قوله { فوزاً عظيماً } [ الفتح : 5 ] فبين الله تعالى ما يفعل به وبأمته ونسخت هذه الآية . والأصح عند العلماء أنه لا حاجة إلى التزام النسخ ، فإن الدراية المفصلة غير حاصلة ، وعلى تقدير حصولها فإنه لم ينف إلا الدراية من قبل نفسه ، وما نفي الدراية من جهة الوحي . وقوله { ولا بكم } في حيز النفي ولا أدري ما يفعل بكم . و « ما » موصولة أو استفهامية ، ومحل الأولى نصب ، والثانية رفع .
ثم قرر أنه لا أظلم منهم فقال { قل أرأيتم } الآية . وقد مر نظيره في آخر « حم السجدة » إلا أنه زاد ههنا حديث الشاهد وفيه أقوال : أحدها أنه عبد الله بن سلام لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة نظر إلى وجهه وتأمله فتحقق أنه النبي المنتظر فآمن به . وعن سعد بن أبي وقاص : ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على الأرض إنه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلام وفيه نزل { وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله } على مثل القرآن . والمعنى وهو ما في التوراة من المعاني المطابقة للقرآن من التوحيد والمعاد . وعلى هذا فقوله { على مثله } يتعلق بشاهد أي ويشهد على صحة القرآن . ويجوز أن يعود الضمير في { مثله } إلى المذكور وهو كونه من عند الله ، فيكون الجار متعلقاً ب { شهد } قال جار الله : الواو الأخيرة عاطفة { لاستكبرتم } على { شهد } وأما الواو في { وشهد } فقد عطفت جملة قوله { وشهد } إلى آخره على جملة قوله { كان من عند الله وكفرتم به } والمعنى أخبروني إن اجتمع كون القرآن من عند الله مع كفركم به واجتمع شهادة أعلم بني إسرائيل على نزول مثله وإيمانه به مع استكباركم عنه ، ألستم أضل الناس وأظلمهم؟ يدل على هذا الجواب المحذوف قوله { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } قلت : هذا كلام حسن . ويجوز أن يكون قوله { واستكبرتم } معطوفاً على قوله { فآمن } . ويجوز أن يكون الواو في { وشهد } للحال بإضمار « قد » . قال : وقد جعل الإيمان في قوله { فآمن } مسبباً عن الشهادة لأنه لما علم أن مثله أنزل على موسى وأنصف من نفسه اعترف بصحته وآمن . القول الثاني ما ذكر الشعبي في جماعة أن السورة مكية وقد أسلم ابن سلام بالمدينة ، فالشاهد هو موسى وشهادته هو ما في التوراة من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وإيمانه تصديقه ذلك .
القول الثالث أن الشاهد ليس شخصياً معيناً وتقدير الكلام لو أن رجلاً منصفاً عارفاً بالتوراة أقر بذلك واعترف به ثم آمن بمحمد واستكبرتم أنتم ، ألم تكونوا ظالمين ضالين؟ والمقصود أنه ثبت بالمعجزات القاهرة أن هذا الكتاب هو من عند الله ، وثبت بشهادة الثقات أن التوراة مشتملة على البشارة بمقدم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ثبوت هذين الأمرين كيف يليق بالعاقل إنكار نبوته؟ ثم ذكر شبهة أخرى لهم وهي أنهم قالوا { للذين آمنوا } أي لأجلهم وفي حقهم { لو كان } ما أتى به محمد { خيراً ما سبقونا إليه } وقيل : اللام كما في قولك « قلت له » . وضعف بأنه لو كان كذلك لقيل ما سبقتمونا إليه . وأجيب بأنه وارد على طريقة الالتفات ، أو المراد أن الكفار لما سمعوا أن جماعة آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبوا جماعة من المؤمنين الحاضرين بأنه لو كان هذا الدين خيراً لما سبقنا إليه أولئك الغائبون . قال المفسرون : لما أسلمت جهينة ومزينة وأسلم وغفار قالت بنو عامر وغطفان وأسد وأشجع : لو كان ما دخل فيه هؤلاء من الدين خيراً ما سبقونا إليه ، ونحن أرفع منهم حالاً وأكثر مالاً وهؤلاء رعاة الغنم . وقيل : قاله أغنياء قريش للفقراء المؤمنين كعمار وصهيب وابن مسعود . وقيل : هم اليهود قالوه عند إسلام عبد الله بن سلام وأصحابه . والعامل في قوله { وإذ لم يهتدوا به } محذوف وهو ظهر عنادهم وذلك أن « إذ » للمضي ، والسين للاستقبال وبينهما تدافع . والإفك القديم كقولهم أساطير الأوّلين . وقيل : كذب ككذب عيسى عليه السلام قوله { ومن قبله كتاب موسى } خبر ومبتدأ وقوله { إماماً } أي قدوة يؤتم به في أصول شرائع الله ، نصب على الحال كقولك « في الدار زيد قائماً » . وقوله { لساناً عربياً } حال من ضمير الكتاب في { مصدّق } أي لما بين يديه وهو العامل فيه ويجوز أن يكون حالاً من { كتاب } لأنه موصوف والعامل معنى الإشارة . وجوز أن يكون مفعولاً { لصدّق } على حذف المضاف أي يصدّق ذا لسان عربي هو الرسول . قوله { وبشرى } معطوف على محل { لتنذر } لأنه مفعول له . وحين قرر دلائل التوحيد والنبوة وذكر شبه المنكرين مع أجوبتها ، أراد أن يذكر طريقة المحقين فقال { إن الذين قالوا } الآية . وقد مر في « حم السجدة » إلا أنه رفع واسطة الملائكة ههنا من البين . ثم إن أعظم أنواع الاستقامة كان هو الشفقة على خلق الله ولا سيما على الوالدين فلذلك قال { ووصينا } الآية . وقد مرّ في « الروم » و « لقمان » .
والكره بالضم ، والفتح المشقة أي ذات كره أو حملاً ذاكره . والفصل والفصال كالفطم والفطام بناء ومعنى ، والمقصود بيان مدّة الرضاع . ولما كان منتهياً بالفصال صح التعبير عن آخر الرضاع بالفصال ، والفائدة فيه الدلالة على الرضاع التام المنتهي بالفصال . وقد يستدل من هذه الآية ومن قوله { والوالدت يرضعن أولادهن حولين كاملين } [ البقرة : 233 ] أن مدة الحمل ستة أشهر . وعن عمر أن امرأة ولدت لستة أشهر فرفعت إليه فأمر برجمها ، فأخبر علياً رضى الله عنه بذلك فمنعه محتجاً بالآية فصدّقه عمر وقال : لولا عليّ لهلك عمر . قال جالينوس : إني كنت شديد الفحص عن مقادير أزمنة الحمل فرأيت امرأة ولدت في المائة والأربع والثمانين ليلة . وزعم أبو علي بن سينا أنه شاهد ذلك . وذكر أهل التجارب قاعدة كلية قالوا : إن لتكوّن الجنين زماناً مقدّراً ، فإذا تضاعف ذلك الزمان تحرك الجنين ، ثم إذا انضاف إلى المجموع مثلاه انفصل الجنين . وعلى هذا فلو تمت خلقة الجنين في ثلاثين يوماً فإذا أتى عليه مثل ذلك أي تصير مدة علوقه ستين تحرك ، فإذا انضاف إلى هذا المقدار مثلاه وهو مائة وعشرون وصار المبلغ مائة وثمانين انفصل ، ولو تمت خلقته في خمسة وثلاثين يوماً تحرك في سبعين وانفصل في مائتين وعشرة وهو سبعة أشهر ، ولو تمت خلقته في أربعين تحرك في ثمانين وانفصل في مائتين وأربعين وهو ثمانية أشهر ، وقلما يعيش هذا المولود إلا في بلاد معينة مثل مصر ، وقد مرّ هذا المعنى في هذا الكتاب . ولو تمت في خمسة وأربعين تحرك في تسعين وأنفصل في مائتين وسبعين وهي تسعة أشهر وهو الأكثر ، أما أكثر مدّة الحمل فليس يعرف له دليل من القرآن . وذكر أبو علي بن سينا في كتاب الحيوان من الشفاء في الفصل السادس من المقالة التاسعة ، أن امرأة ولدت بعد الرابع من سني الحمل ولداً قد نبتت أسنانه وعاش . وعن أرسطا طاليس أن زمان الولادة لكل الحيوان مضبوط سوى الإنسان . هذا وقد روى الواحدي في البسيط عن عكرمة أنه قال : إذا حملت تسعة أشهر أرضعته أحداً وعشرين شهراً . وعلى هذا قوله { حتى إذا بلغ أشدّه } أكثر المفسرين كما مر في آخر « الأنعام » وأوّل « يوسف » و « القصص » . على أن وقت الأشد هو زمان الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء وهو ثلاث وثلاثون سنة تقريباً ، وإن في الأربعين يتم الشباب وتأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتفاص ، والقوّة العقلية والنطقية في الاستكمال ، وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ومن جملة الكمال أنه حينئذ يقول { رب أوزعني } أي ألهمني ووفقني كما مر في « النمل » .
قال علماء المعاني : قوله { في ذرّيتي } كقوله « يجرح في عراقيبها نصلي » فكأنه سأل أن يجعل ذرّيته موقعاً للصلاح ومظنة له .
وقوله { أحسن ما عملوا } إما بمعنى الحسن أو المراد الواجب والندب دون المباح . وقوله { في أصحاب الجنة } في موضع الحال أي معدودين فيهم . عن ابن عباس وجم غفير من المفسرين أن الآية نزلت في أبي بكر الصدّيق ، وفيه أبيه أبي قحافة وأمه أم الخير ، وفي أولاده واستجابة دعائه فيهم ، ولم يكن أحد من الصحابة المهاجرين والأنصار أسلم هو ووالداه وبنوه وبناته غير أبي بكر . قالوا : ومما يؤيد هذا القول أنه سبحانه حكى عن ذلك الإنسان أنه قال بعد أربعين سنة رب أوزعني الخ . ومعلوم أنه ليس كل إنسان قد يقول هذا القول . والأظهر أن هذا عام لهذا الجنس ، وأن الإنسان قد يقول هذا القول ولا أقل من أن يكون وارداً على طريقة الإرشاد والتعليم . سلمنا ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . قوله { والذي قال } مبتدأ خبره { أولئك } والمراد بالذي جنس القائل فلذلك أورد الخبر مجموعاً . ويجوز أن يكون الخبر عاماً في القائل وفي أمثاله فيندرج فيه القائل . وقيل : تقديره واذكر الذي ومن القائل . عن الحسن وقتادة : هو الكافر العاق لوالديه المكذب بالبعث . وذهب السدّي إلى أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه وأنه كان يقول { لوالديه أف لكما } وهي كلمة تضجر وتبرم كما مر في « سبحان » و « الأنبياء » { أتعدانني أن أخرج } من القبر { وقد خلت القرون من قبلي } فلم يرجع أحدهم { وهما } يعني أبويه { يستغيثان الله } أي بالله فحذف الجار وأوصل الفعل والمراد يسألانه أن يوقفه للإيمان ويقولان له { ويلك آمن } بالله وبالبعث . والمراد بالدعاء عليه الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك . قال السدّي : فاستجاب الله دعوة أبي بكر فيه فأسلم وحسن إسلامه ولما أسلم نزل فيه { ولكل درجات مما عملوا } وأكثر المفسرين ينكرون هذا القول لأنه سبحانه قال فيه { أولئك الذين حق عليهم القول } كائنين { في أمم } إلى آخره . وأن عبد الرحمن لم يبق كافراً بل كان من سادات المسلمين . وروي عن عائشة إنكاره إيضاً . وذلك أنه حين كتب معاوية إلى مروان بن الحكم ابن أبي العاص بأن يبايع الناس ليزيد ، ردّ عليه عبد الرحمن وقال مروان : يا أيها الناس هو الذي قال الله فيه { والذي قال لوالديه } فسمعت عائشة فغضبت وقالت : والله ما هو به ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه . ثم ميز حال المؤمن من حال الكافر بقوله { ولكل } أي من الجنسين { درجات } من جزاء ما عملوا فغلب أهل الدرجات على أهل الدركات ، أو الدرجات هي المراتب متصاعدة أو متنازلة ، والباقي واضح مما مرّ . والاستكبار عن قبول الحق ذنب القلب ، والفسق عمل الجوارح ، والأوّل أولى بالتقديم لعظم موقعه .
وقد يحتج بالآية على أن الكفار مخاطبون بالفروع . قال مؤلف الكتاب : والأشياء الطيبة اللذيذة غير منهي عنها لقوله تعالى { قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق } [ الأعراف : 32 ] ولكن التقشف وترك التكلف دأب الصالحين لئلا يشتغل بغير المهم عن المهم ، ولأن ما عدا الضروري لا حصر له وقد يجر بعضه بعضاً إلى أن يقع المرء في حدّ البعد عن الله . وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصفة وهم يرقعون ثيابهم بالأدم ما يجدون لها رقاعاً فقال : « أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلة ويروح في أخرى ويغدى عليه بجفنة ويراح عليه بأخرى ويستر البيت كما تستر الكعبة؟ قالوا : نحن يومئذ خير . قال : بل أنتم اليوم خير . » وعن عمر لو شئت لكنت أطيبكم طعاماً وأحسنكم لباساً ولكنني أستبقي طيباتي لأن الله وصف قوماً فقال { أذهبتم طيباتكم } وعنه أن رجلاً دعاه إلى طعام فأكل ثم قدّم شيئاً حلوا فامتنع وقال : رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال { أذهبتم } الآية . فقال الرجل : اقرأ يا أمير المؤمنين ما قبلها { ويوم يعرض الذين كفروا } ولست منهم فأكل وسرّه ما سمع . والتحقيق أن المراد هو أنه ما كتب للكافر حظ من الطيبات إلا الذي أصابه في دنياه ، وليس في الآية إن كل من أصاب الطيبات في الدنيا فإنه لا يكون له منها حظ في الآخرة والله أعلم بالصواب .
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28) وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
القراآت : { إني أخاف } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف . { لا يرى } بالياء التحتانية مبنياً للمفعول { إلا مساكنهم } بالرفع : عاصم وحمزة وخلف وسهل ويعقوب . والباقون { لا ترى } على خطاب كل راء { مساكنهم } بالنصب { بل ضلوا } بإدغام اللام في الضاد : عليّ . { وإذا صرفنا } بإدغام الذال في الصاد وكذا ما يشبهه : أبو عمرو وعليّ وهشام وحمزة في رواية خلاد وابن سعدان وأبي عمرو { يقدر } فعلاً مضارعاً من القدرة : سهل ويعقوب .
الوقوف : { عاد } ط لأن « إذ » يتعلق بأذكر محذوفاً وهو مفعول به . هذا قول السجاوندي ، وعندي أن لا وقف . وقوله « إذ » بدل الاشتمال من { أخا عاد } . { إلا الله } ط { عظيم } ه { آلهتنا } ج لتناهي الاستفهام مع تقيب الفاء { الصادقين } ه { عند الله } ز لاختلاف الجملتين لفظاً ولكن التقدير وأنا أبلغكم { تجهلون } 5 { ممطرنا } ط لتقدير القول { به } ط لأن التقدير هذه ريح { أليم } ه لا لأن ما بعده صفة { مساكنهم } ط { المجرمين } ه { وأفئدة } ز لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى للفاء واتحاد الكلام { يستهزؤون } ه { يرجعون } ه { آلهة } ج لتمام الاستفهام { عنهم } ج لعطف الجملتين { يفترون } ه { القرآن } ج لكلمة المجازاة مع الفاء { أنصتوا } ج لذلك { منذرين } ه { مستقيم } ه { أليم } ه { أولياء } ط { مبين } ه { الموتى } ط { قدير } ه { النار } ط لتقدير القول { بالحق } ط { وربنا } ط { تكفرون } ه { لهم } ط { يوعدون } ه لا لأن ما بعده خبر « كأن » { نهار } ط { بلاغ } ج للاستفهام مع الفاء { الفاسقون } ه .
التفسير : إنه سبحانه بعد حكاية شبه المكذبين والأجوبة عنها ، وبعد إتمام ما انجر الكلام إليه ، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر قومه بقصة هود أعني أخا عاد لأنه واحد منهم . والأحقاف جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج ، ويقال له الشحر من بلاد اليمن . وقيل : بين عمان ومهرة . والنذر جمع نذير مصدر أو صفة . الواو في قوله { وقد خلت } إما أن تكون للحال والمعنى أنذرهم وهم عالمون بإنذار الرسل من قبل ومن بعده ، وإما أن يكون اعتراضاً والمعنى واذكروا وقت إنذار هود قومه { ألا تعبدوا إلا الله } وقد أنذر من تقدمه من الرسل ومن تأخر عنه مثل ذلك فأذكرهم قوله { لتأفكنا } أي لتصرفنا عن عبادة آلهتنا . قوله { إنما العلم عند الله } أي لا علم لي بالوقت الذي عينه الله لتعذيبكم فلا معنى لاستعجالكم ولهذا نسبهم إلى الجهالة ، وأيّ جهل أعظم من نسبة نبي الله إلى الكذب . ومن ترك طريقة الاحتياط ومن استعجال ما فيه هلاكهم ، والضمير في قوله { فلما رأوه } عائد إلى الموعود ، أو هو مبهم يوضحه قوله { عارض } أي سحاب عرض في نواحي السماء .
والإضافة في قوله { مستقبل أوديتهم } و { ممطر } لفظية ولهذا صح وقوعها صفة للنكرة . والتدمير الإهلاك والاستئصال . وفي قوله { بأمر ربها } إشارة إلى إبطال قول من زعم أن مثل هذه الآثار مستند إلى تأثيرات الكواكب بالاستقلال . ثم زاد في تخويف كفار مكة وذكر فضل عاد في القوة الجسمانية وفي الأسباب الخارجية عليهم فقال { ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه } قال المبرد : « ما » موصولة و « إن » نافية أي في الذي لم نمكنكم فيه . وقال ابن قتيبة : « إن » زائدة وهذا فيه ضعف لأن الأصل حمل الكلام على وجه لا يلزم منه زيادة في اللفظ ، ولأن المقصود فضل أولئك القوم على هؤلاء حتى يلزم المبالغة في التخويف ، وعند تساويهما يفوت هذا المقصود . وقيل : « إن » للشرط والجزاء مضمر أي في الذي إن مكناكم فيه كان بغيكم أكثر . وقوله { من شيء } أي شيئاً من الإغناء وهو القليل منه . وقوله { إذ كانوا } ظرف لما أغنى وفيه معنى التعليل كقولك « ضربته إذ أساء » قوله { من القرى } يريد من قريات عاد وثمود ولوط وغيرهم بالشام والحجاز واليمن ، وتصريف الآيات أي تكريرها . قيل : للعرب المخاطبين والأظهر أنه للماضين لقوله { لعلهم يرجعون } عن شركهم ، والأوّلون حملوه على الالتفات . ثم وبخهم بأن أصنامهم لم يقدروا على نصرتهم وشفاعتهم . فقوله { آلهة } مفعول ثانٍ { لا تخذوا } والمفعول الأول محذوف وهو الراجع إلى { الذين } و { قرباناً } حال أو مفعول له أي متقربين إلى الله ، أو لأجل القربة بزعمهم . والقربان مصدر أو اسم لما يتقرب به إلى الله عز وجل . ويجوز أن يكون { قرباناً } مفعولاً ثانياً و { آلهة } بدلاً أو بياناً . قوله { وذلك إفكهم } أي عدم نصرة آلهتهم وضلالهم عنهم وقت الحاجة محصول إفكهم وافترائهم ، أو عاقبة شركهم وثمرة كذبهم على الله .
وحين بّين أن الإنس من آمن وفيهم من كفر ، أراد أن يبين أن نوع الجن أيضاً كذلك . وفي كيفية الواقعة قولان : أحدهما عن سعيد بن جبير وعليه الجمهور : كانت الجن تسترق فلما رجموا قالوا : هذا إنما حدث في السماء لشيء حدث في الأرض . فذهبوا يطلبون السبب فوافوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة يصلي بأصحابه أو منفرداً . فمنهم من قال صلاة العشاء الآخرة ومنهم من قال صلاة الصبح ، فقرأ فيها سورة « اقرأ » فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب . وعلى هذا لم يكن ذلك بعلم منه صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه . والقول الثاني « أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال لأصحابه : إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجن فأيكم يتبعني؟ فأتبعه ابن مسعود ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعب الحجون وخط على ابن مسعود وقال : لا تبرح حتى آتيك . قال : فسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم علا بالقرآن أصواتهم . فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم سألته عن اللغط فقال : اختصموا إليّ في قتيل كان بينهم فقضيت فيهم . »
وفي رواية أخرى « عن ابن مسعود قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمعك ماء؟ قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر . فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ فقال : تمرة طيبة وماء طهور . » واختلفوا في عددهم : عن ابن عباس : كانوا تسعة من جن نصيبين أو نينوى . وقال عكرمة : كانوا عشرة من جزيرة الموصل ، وزر بن حبيش : كانوا تسعة ومنهم زوبعة . وقيل : اثني عشر ألفاً .
ولنرجع إلى التفسير . قوله { وإذ صرفنا } معطوف على قوله { أذكر أخا عاد إذ أنذر } ومعنى صرفنا أملناهم إليك ، والنفر ما دون العشرة ويجمع على أنفار . والضمير في { حضروه } للنبي صلى الله عليه وسلم أو القرآن { قالوا } أي قال بعضهم لبعض { أنصتوا } والإنصات السكوت لاستماع الكلام { فلما قضى } أي فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة . وإنما قالوا { أنزل من بعد موسى } لأنهم كانوا يهوداً أو لأنهم لم يسمعوا أمر عيسى قاله ابن عباس { أجيبوا داعي الله } عنوا رسول الله أو أنفسهم بناء على أنهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومهم ، ومنه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثاً إلى الجن أيضاً وهذا من جملة خصائصه . وحين عمموا الأمر بإجابة الداعي خصصوه بقولهم { وآمنوا به } لأن الإيمان أشرف أقسام التكاليف . و « من » في قوله { من ذنوبكم } للتبعيض فمن الذنوب ما لا يغفر بالإيمان كالمظالم وقد مر في « إبراهيم » . واختلفوا في أن الجن هل لهم ثواب أم لا؟ فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار بقوله { ويجركم من عذاب أليم } وهو قول أبي حنيفة . والصحيح أنهم في حكم بني آدم يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون . وقد جرت بين مالك وأبي حنيفة مناظرة في هذا الباب . قوله { فليس بمعجز } أي لا يفوته هارب . قوله { ولم يعي } يقال : عييت بالأمر إذا لم يعرف وجهه . قوله { بقادر } في محل الرفع لأنه خبر « أن » وإنما دخلت الباء لاشتمال الآية على النفي كأنه قيل : أليس الله بقادر؟ والمقصود تأكيد ما مر في أول السورة من دلائل البعث والنبوّة . ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله { فاصبر كما صبر أولوا العزم } وقوله { من الرسل } بيان لأن جميع الرسل أرباب عزم وجد في تبليغ ما أمروا بأدائه ، أو هو للتبعيض فنوح صبر على أذى قومه ، وإبراهيم على النار وذبح الولد ، وإسحق على الذبح ، ويعقوب على فراق الولد ، ويوسف على السجن ، وأيوب على الضر ، وموسى على سفاهة قومه وجهالاتهم ، وأما يونس فلم يصبر على دعاء القوم فذهب مغاضباً ، وقال الله تعالى في حق آدم { ولم نجد له عزماً } [ طه : 115 ] { ولا تستعجل لهم } أي لا تدع لكفار قريش بتعجيل العذاب فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر ، وإنهم يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا حتى ظنوا أنها ساعة من نهار { هذا } الذي وعظهم به كفاية في بابه وقد مر في آخر سورة « إبراهيم » عليه السلام .