كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وقد يفضي الأمر إلى الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه ، أو لم توجد له ظئر ، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار . { حولين } أي عامين ، والتركيب يدور على الانقلاب . فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني ، و { كاملين } توكيد كقوله { تلك عشرة كاملة } [ البقرة : 196 ] فقد يقال : أقمت عند فلان حولين . وإنما أقام حولاً وبعض الآخر . وليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب لقوله تعالى بعد ذلك { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الإرضاع ، أو اللام متعلقة بيرضعن كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه . ثم المقصود من ذكر التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاعة ، فإن أراد أحدهما أن يفطمه قبل الحولين ولم يرض الآخر لم يكن له ذلك . أما إذا اجتمعا على أن يفطما قبل تمام الحولين فلهما ذلك . وأيضاً فللرضاع حكم خاص في الشريعة وهو قوله صلى الله عليه وسلم « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » فيعلم من التحديد أن الإرضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري . وعن أبي حنيفة أن مدة الرضاع ثلاثون شهراً . وقرئ { أن يتم الرضاعة } برفع الفعل تشبيهاً لأن بما لتآخيهما في التأويل أي في المصدر لأن كلمة « ما » ستارة تقع مصدرية فلا تنصب . وقرئ { الرضاعة } بكسر الراء .
{ وعلى المولود له } وعلى الذي يولد له وهو الوالد وله في عمل الرفع على الفاعلية لما عليهم في المغضوب عليهم . وإنما قيل : { المولود له } دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدت لهم ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات . وفيه تنبيه على أن الولد إنما يلحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه ما قال صلى الله عليه وسلم : « الولد للفراش » وفيه أن نفع الأولاد عائد إلى الآباء فيجب عليهم رعاية مصالحه كما قيل : كله لك فكله عليك . فعليهم رزقهن وكسوتهن إذا أرضعه ولدهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم تكن هذه المعاني مقصودة وذلك قوله { واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جاز عن والده شيئاً } [ لقمان : 33 ] { بالمعروف } تفسيره ما يتلوه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضار .
وأيضاً المعروف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد ، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف ، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة ، إذ لو كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها ضرر من الجوع والعري ، ويتعدى ذلك الضرر إلى الولد . وفي الآية دليل على أن حق الأم أكثر من حق الأب لأنه ليس بين الأم والطفل واسطة ، وبين الأب وبينه واسطة ، فإنه يستأجر المرأة على الإرضاع والحضانة بالنفقة والكسوة .
والتكليف : الإلزام . قيل : أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه . فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره . وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره . والوسع ما يسع الإنسان ولا يعجز عنه ولهذا قيل : الوسع فوق الطاقة . من قرأ { لا تضار } بالرفع فعلى الإخبار في معنى النهي ، ويحتمل البناء للفاعل والمفعول على أن الأصل تضار بكسر الراء ، أو تضار بفتحها . ومن قرأ بالفتح فعلى النهي صريحاً ، ويحتمل البناءين أيضاً . وتبيين ذلك أنه قرئ { لا تضارر } و { لا تضارر } بالجزم وكسر الراء الأولى وفتحها . ومعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الزرق والكسوة وأن تشغل قلبه بسبب التفريط في شأن الولد ، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي : اطلب له ظئراً ونحو ذلك { ولا يضار مولودٌ له } امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من الرزق والكسوة ، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه ، أو يكرهها على الإرضاع . وهكذا إذا كان مبنياً للمفعول كان نهياً عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج ، وعن أن يلحق الضرر بالزوج من قبلها بسبب الولد . ويحتمل أن يكون تضار بمعنى تضر ، والباء من صلته أي لا تضر والدة بولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده أو تفرّط فيما ينبغي له ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها ، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يفرط في شأنها فتقصر هي في حق الولد . وإنما قيل : { بولدها } و { بولده } لأن المرأة لما نهيت عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وأنه ليس بأجنبي منها فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد .
قوله سبحانه { وعلى الوارث مثل ذلك } للعلماء فيه أقوال من حيث إنه تقدم ذكر الوالد والولد والوالدة واحتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى كل واحد من هؤلاء . فعن ابن عباس أن المراد وارث الأب ، وقوله { وعلى الوارث } عطف على قوله { وعلى المولود له رزقهن } وما بينهما تفسير للمعروف . فالمعنى وعلى وارث المولود مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة أي إن مات المولود ألزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور من العدل وتجنب الضرار .
وقيل : المراد وارث الولد الذي لو مات الصبي ورثه ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب ، وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي . ثم اختلفوا في أنه أيّ وارث هو؟ فقيل : العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم . وقيل : هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، عن قتادة وابن أبي ليلى . وقيل : وعلى الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى عن أبي حنيفة وأصحابه . وعند الشافعي لا نفقة فيما عدا الولاد أي الأب والابن . وقيل : المراد من الوارث هو الصبي نفسه فإنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال ، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه . وقيل : المراد من الوارث الباقي من الأبوين كما في الدعاء المروي « واجعله الوارث منا » أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة { فإن أرادا فصالاً } أي فطاماً وليس من باب المفاعلة وإنما هو ثلاثي على « فعال » كالعثار والإباق . وذلك أن الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات . وعن أبي مسلم أنه يحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأم إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ، ولم يرجع ضرر إلى الولد وليكن الفصال صادراً { عن تراضٍ منهما وتشاور } مع أرباب التجارب وأصحاب الرأي { فلا جناح عليهما } في ذلك زادا على الحولين لضعف في تركيب الصبي ، أو نقصاً . وهذه أيضاً توسعة بعد التحديد وذلك أن الأم قد تمل من الإرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل إعطاء الأجرة على الإرضاع فيطلب الفطام دفعاً لذلك لكنهما قد يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس فلهذا اعتبرت المشاورة مع غيرهما ، وحينئذٍ يبعد موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد ، وإن اتفقوا على الفطام قبل الحولين وهذا غاية العناية من الرب بحال الطفل الضعيف ، ومع اجتماع الشروط لم يصرح بالإذن بل رفع الحرج فقط . ولما بيّن حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بيّن أنه يجوز العدول في هذا الباب عنها إلى غيرها فقال : { وإن أردتم أن تسترضعوا } أي المراضع أولادكم { فلا جناح عليكم } يقال : أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي بزيادة السين مفعولاً ثانياً كما تقول : أنجا لحاجة واستنجته إياها . فحذف أحد المفعولين للعلم به . وعن الواحدي : التقدير أن تسترضعوا لأولادكم فحذف اللام للعلم به مثل { وإذا كالوهم أو وزنوهم } أي كالوا لهم أو وزنوا لهم . ومن موانع الإرضاع للأم ما إذا تزوجت بزوجٍ آخر ، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الإرضاع . ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الإرضاع ليتزوج بها زوج آخر .
ومنها أن تأبى المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق . ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها . فعند أحد هذه الأمور إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها ، فإن لم نجد مرضعة أخرى أو وجدنا ولكن لا يقبل الطفل لبنها فالإرضاع واجب على الأم . { إذا سلمتم } إلى المراضع { ما آتيتم } ما آتيتموه المرأة أي ما أردتم إيتاءه مثل { إذا قمتم إلى الصلاة } قرأ { ما أتيتم } بالقصر فهو من أتى إليه إحساناً إذا فعله كقوله تعالى { إنه كان وعده مأتياً } أي مفعولاً . وروى شيبّان عن عاصم { ما أوتيتم } أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، وليس التسليم شرطاً للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى . وفيه حث على أن الذي يعطي المرضعة يجب أن يكون يداً بيد حتى يكون أهنأ وأطيب لنفسها لتحتاط في شأن الصبي ، ولهذا قيد التسليم بأن يكون بالمعروف وهو أن يكونوا حينئذٍ مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن قطعاً لمعاذيرهن . ثم أكد الجميع بأن ختم الآية بنوع من التحذير فقال : { واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير } .
الحكم الثالث عشر : عدة الوفاة { والذين يتوفون } ومعناه يموتون ويقبضون قال : { الله يتوفى الأنفس حين موتها } [ الزمر : 42 ] وأصل التوفي أخذ الشيء كاملاً وافياً . ويبنى للمفعول ومعناه ما قلنا ، وللفاعل ومعناه استوفى أجله ورزقه وعليه قراءة علي رضي الله عنه { يتوفون } بفتح الياء . والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفي - بكسر الفاء -؟ فقال : الله . وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو . فلعل السبب فيه أن ذلك الشخص لم يكن بليغاً وهذا المعنى من مستعملات البلغاء فلهذا لم يعتد بقوله ، وحمله على متعارف الأوساط { ويذرون } يتركون ولا يستعمل منه الماضي والمصدر استغناء عنهما بتصاريف ترك . والأزواج ههنا النساء { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر } مثل قوله { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] وقد مر . { وعشراً } أي يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام . وإنما قيل : { عشراً } ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها . قال في الكشاف : ولا نراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام . وقيل في سبب التغليب : إن مبدأ الشهر من الليل ، والأوائل أقوى من الثواني . وأيضاً هذه الأيام أيام الحزن ، وأيام المكروه خليقة أن تسمى ليالي استعارة ، أو المراد عشر مدد كل منها يوم بليلته . وذهب الأوزاعي والأصم إلى ظاهر الآية وأنها إذا انقضت لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة .
قلت : ولعل هذا من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد الركعات ونصب الزكوات ، وإنما الله ورسوله أعلم بذلك . وهذه العدة واجبة على كل امرأة مات زوجها إلا إذا كانت أمة فإن عدتها نصف عدة الحرة عند أكثر الفقهاء . وعن الأصم أن عدتها عدة الحرائر تمسكاً بظاهر عموم الآية ، وقياساً على وضع الحمل وإلا إذا كانت المرأة حاملاً فإنها إذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة لقوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [ الطلاق : 4 ] .
ولو زعم قائل أن ذلك في الطلاق فليعول على قصة سبيعة الأسلمية ، ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : « حللت فانكحي من شئت » . وعن علي رضي الله عنه أنها تتربص أبعد الأجلين . ولا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها والمدخول بها وغيرها . وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول . ورد بعموم الآية ، ولهذا أيضاً لم يفرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادتها أو لا تراه خلافاً لمالك فإنه قال : لا تنقضي عدتها حتى ترعادتها من الحيض في تلك الأيام مثل التي كانت عادتها . فإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة يكفيها حيضة واحدة ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا يكفيها الشهور ، ثم مذهب الشافعي أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة ، كما أن ذات الأقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط وتعتبر المدة بالهلال ما أمكن ، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي والباقي أكثر من عشرة أيام فتعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر بعده بالأهلة وتكمل ذلك الباقي ثلاثين وتضم إليها عشرة أيام ، فإذا انتهت من اليوم الأخير إلى الوقت الذي مات فيه الزوج فقد انقضت العدة ، وإن كان الباقي دون عشرة أيام فتعده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس ، وإن كان الباقي عشرة أيام فتعتد بها وبأربعة أشهر بالأهلة بعدها ، وإن انطبق الموت على أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر بالأهلة وبعشرة أيام من الشهر الخامس . واختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة؟ فعن بعضهم - ويوافقه جديد قول الشافعي - أنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه » وأيضاً فالنكاح معلوم بيقين فلا يزال إلا بيقين .
وقال الأكثرون : السبب هو الموت . فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ، والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها تكفي في انقضاء عدتها هذه المدة . ثم المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح بالإجماع ، والامتناع عن الخروج من المنزل إلا عند الضرورة والحاجة والإحداد ويعني به ترك التزين بثياب الزينة وترك التحلي والتطيب والتدهن والاكتحال بالإثمد ، ويحرم عليها أن تخضب بالحناء ونحو ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه . ولا منع منه فيما تحت الثياب ولا منع من التزين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت ومن التنظيف بغسل الرأس والامتشاط وقلم الأظفار والاستحداد ودخول الحمام وإزالة الأوساخ . والعدة تنقضي إن تركت الإحداد ولكنّها تعصي لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً » وعن الحسن والشعبي أنه غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه لكنه صلى الله عليه وسلم قال : « المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلى ولا تختضب ولا تكتحل » والممشقة المصبوغة بالمشق وهو الطين الأحمر . وقد يحتج بقوله { والذين يتوفون منكم } من قال : الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع وإلا لم يخص الخطاب في { منكم } بالمؤمنين . والجواب إنما خصوا بالخطاب لأنهم هم العاملون بذلك كقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } [ النازعات : 45 ] مع أنه منذر للكل { ليكون للعالمين نذيراً } [ الفرقان : 1 ] { فإذا بلغن أجلهن } إذا انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد ، أو أيها الحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إذا تزوجن في مدة العدة وجب على كل أحد منعهن عن ذلك ، فإن عجز استعان بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة الأمن من اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول . وقيل : معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالتزين والتطيب ونحوهما مما تنفرد المرأة بفعله ، وفيه دليل على وجوب الإحداد بالمعروف بالوجه الذي يحسن عقلاً وشرعاً . وقد يحمل أصحاب أبي حنيفة الفعل ههنا على التزويج فيستدلونه به على جواز النكاح بلا ولي . بعد تسليم أن المراد من الفعل هو التزويج أن الفعل قد يسند إلى المسبب مثل « بنى الأمير داراً » وقد تقدم في قوله { أن ينكحن أزواجهن } [ البقرة : 232 ] ثم ختم الآية بالتهديد المشتمل على الوعيد فقال : { والله بما يعملون خبير } .
الحكم الرابع عشر : خطبة النساء وذلك قوله سبحانه { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } والتعريض ضد التصريح ومعناه أن تضمر كلامك كي يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير المقصود إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح ، ولهذا قد يقال : إنه سوق الكلام لموصوف غير مذكور كما يقول المحتاج : جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم .
ومنه قول الشاعر :
وحسبك بالتسليم مني تقاضياً ... وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ولهذا قيل : « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب » وهو قسم من أقسام الكناية . والخطبة أصلها من الخطب وهو الأمر والشأن خطب فلان فلانة أي سألها أمراً وشأناً في نفسها . وكذا في الخطبة والخطاب فإن في كل منهما شأناً . ثم النساء على ثلاثة أقسام : أحدها : أن تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيب إليه ، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم « لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه » فإن وجد صريح الإباء أو لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد فالأصح أنه يجوز خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا خلافاً لمالك . وثانيها : ما لا يجوز خطبتها تعريضاً ولا تصريحاً وهي منكوحة الغير ، لأن خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها ، ولامتناع المرأة عن أداء حقوق الزوج إذا وجدت راغباً فيها ، وكذا الرجعية فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان . وثالثها : ما يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة ، أو عن طلقات ثلاث ، أو عن طلقة بائنة كالمختلعة ، أو عن فسخ . وسبب ا لتحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء العدة بالأقراء مسارعة إلى مكافاة الزوج . وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقيب آية عدة المتوفى عنها زوجها ، ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه ، ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فالغالب أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها إلى الكذب . قال الشافعي : والتعريض كثير كقوله « رب راغب فيك » أو « من يجد مثلك » أو « لست بأيم » و « إذا حللت فأعلميني » . وعد آخرون من ألفاظ التعريض أو يقول لها : « إنك لجميلة » أو « صالحة » و « من غرضي أن أتزوج » و « عسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة » ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه . والتصريح أن يقول : إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك . وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال : قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام .
فقالت : غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال : إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله . قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده . فما كانت تلك خطبة { أو أكننتم في أنفسكم } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم ، لا معرّضين ولا مصرحين . أباح التعريض في الحال أولاً ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة ، ثم ذكر الوجه الذي لأجله أباح التعريض فقال : { علم الله أنكم ستذكرونهن } لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لم يكد المرء يصبر عن النطق بما ينبئ عن ذلك فأسقط الله تعالى عنه الحرج . ثم قال : { ولكن } أي فاذكروهن ولكن { لا تواعدوهن سراً } والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه مما يسر . ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا . والمعنى لا تواعدوهن مواعدة سرية إلا مواعدة الإحسان إليها والاهتمام بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء مؤكداً لذلك التعريض . فالمواعدة المنهي عنها إما أن تكون المواعدة في السر بالنكاح فيكون منعاً من التصريح ، وإما المواعدة بذكر الجماع كقوله : إن نكحتك آنك الأربعة والخمسة . وعن ابن عباس أو كقوله : دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك . عن الحسن أو يكون ذلك نهياً عن مسارة الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة ، أو نهياً أن يواعدها أن لا تتزوج بأحد سواه . ويحتمل أن يكون السر صفة للموعود به أي لا تواعدوهن بشيء يوصف بكونه سراً إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وهو التعريض . وعن ابن عباس هو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره { ولا تعزموا عقدة النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه . والعزم عقد القلب على فعل من الأفعال معناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح ، أو لا تعزموا عقدة النكاح أن تعقدوها ، وإذا نهى عن العزم فعن نفس الفعل أولى . وقيل : معنى العزم القطع أي لا تحققوا ذلك ولا توجبوه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم « لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل » وروي « لم يبيت الصيام » وقيل : لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح مثل عزمت عليك أن تفعل كذا . وأصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقوداً تشبيهاً بالحبل الموثق بالعقد { حتى يبلغ الكتاب أجله } المراد منه المكتوب أي تبلغ العدة المفروضة آخرها وانقضت ، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الفرض أي حتى يبلغ هذا التكليف نهايته .
وباقي الآية بيان موجبي الخوف والرجاء كما تقدم .
الحكم الخامس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وقبل فرض المهر وذلك قوله عز من قائل { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } واعلم أن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال ، وذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور . فإن كان مذكوراً فإن حصل الدخول استقر كله وعدتها ثلاثة قروء كما سبق ، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق كما يجيء في الآية التالية ، وإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فحكمها في هذه الآية وهو أن لا مهر لها ويجب لها المتعة ، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل قياساً على الموطوءة بالشبهة ، بل أولى لوجود النكاح الصحيح . وقد يستنبط حكمها من قوله تعالى { فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } [ النساء : 24 ] ويحتمل أن يقال : هذه الآية تدل على أنه لا مهر للتي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها ، فيعرف من ذلك وجود المهر للممسوسة غير المفروض لها وللمفروض لها غير الممسوسة . وقد سلف حكم الممسوسة المفروض لها فتبين اشتمال القرآن على أحكام جميع الأقسام . فإن قيل : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح على المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك ، فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس . قلنا : لعل الآية وردت لبيان إباحة الطلاق على الإطلاق ، وهذا الإطلاق لا يصح إلا قبل المسيس إذ بعده يحتاج إلى أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، أو لعل « ما » بمعنى « التي » لا للمدة . والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن . ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهن ، أو المراد من الجناح في الآية لزوم المهر أي لا مهر عليكم ولا تبعة في تطليقهن ، فإن الجناح في اللغة الثقل يقال : جنحت السفينة إذا مالت بثقلها . ومما يؤكد ذلك أنه نفي الجناح ممدوداً إلى غاية هي إما المسيس أو الفرض . والجناح الذي ثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فحصل القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر . وأيضاً إن تطليق النساء قبل المسيس إما أن يكون قبل تقدير المهر أو بعده . وفي القسم الثاني أوجب نصف المفروض كما يجيء فيجب أن يكون المنفي في القسم الأول مقابل المثبت في الثاني . واتفقوا على أن المراد بالمسيس أو المماسة في الآية الجماع ، ولا يخفى حسن موقع هذه الكناية ، وفيه تأديب للعباد في اختيار أحسن الألفاظ للتخاطب والتفاهم . والفرض في اللغة التقدير أي تقدروا مقدراً من المهر .
ومعنى « أو » ههنا أن رفع الجناح منوط بعدم المسيس ، أو بعدم الفرض على سبيل منع الخلوة فقط ، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم . وقيل : إنها بمعنى الواو . وقيل : بمعنى « إلا أن » وقيل : بمعنى « حتى » والكل تعسف . ثم إنه تعالى لما بيّن أنها لا مهر لها قبل المسيس والتسمية ، ذكر أن لها المتعة فقال : { ومتعوهن } فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة نظراً إلى الأمر ، وأنه للوجوب ظاهراً وهو قول شريح والشعبي والزهري . وعن مالك : ويروى عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة لأنه تعالى قال في آخر الآية : { حقاً على المحسنين } فجعلها من باب الإحسان . ورد بأن لفظ « على » منبئ عن الوجوب . وكذا قوله { حقاً } وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً منقضياً ولهذا قيل : الدنيا متاع . ويسمى التلذذ تمتعاً لانقطاعه بسرعة . { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } أوسع الرجل إذا كان في سعة من ماله ، وأقتر ضده من القترة وهي الغبار ، فكأنه التصق بالأرض لضيق ذات يده . وقدره أي قدراً مكانه وطاقته فحذف المضاف ، أو قدره مقداره الذي يطيقه لأن ما يطيقه هو الذي يختص به . والقدر والقدر لغتان في جميع معانيهما ، وفي الآية دليل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبيّن أن الموسع يخالف المقتر . قال الشافعي : المستحب على الموسع خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً ، وعلى المقتر مقنعة . وعن ابن عباس أنه قال : أكثر المتعة خادم ، وأقلها مقنعة ، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة ، والنظر في اليسار والإعسار إلى العادة . وقال أبو حنيفة : المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، لأن حال المرأة التي سمي لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها . ثم لما لم يجب زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فهذه أولى . { متاعاً } تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الدين والمروءة ، وعلى قدر حال الزوج في الغنى والفقر ، وعلى ما يليق بالزوجة بحسب الشرف والوضاعة حق ذلك { حقاً على المحسنين } لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان ، أو من أراد أن يكون محسناً فهذا شأنه وطريقته ، أو على المحسنين إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى .
الحكم السادس عشر : حكم المطلقة قبل الدخول وبعد فرض المهر وذلك قوله سبحانه { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } الآية . واعلم أن مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر . وقال أبو حنيفة : الخلوة الصحيحة تقرر المهر وهي أن لا يكون هناك مانع حسي أو شرعي . فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً .
والشرعي كالحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق فرضاً كان أو نفلاً . وقوله { وقد فرضتم } في موضع الحال . ومعنى قوله { فنصف ما فرضتم } فعليكم نصف ذلك ، أو فنصف ما فرضتم ساقط أو ثابت { لا أن يعفون } أي المطلقات على أزواجهن فتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً؟ والفرق بين قولك « النساء يعفون » وبين « الرجال يعفون » هو أن الواو في الأول لام الفعل والنون ضمير جماعة النساء ولم يحذف منه شيء ، وإنما وزنه يفعلن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل ، والواو في الثاني ضمير جماعة الذكور واللام محذوف ووزنه « يعفون » والنون علامة الرفع ، فقوله { أو يعفو } عطف على محل { أن يعفون } والذي بيده عقدة النكاح الولي وهو قول الشافعي ، ويروى عن الحسن ومجاهد وعلقمة . وقيل : الزوج وهو مذهب أبي حنيفة ويروى عن علي وسعيد بن المسيب . وكثير من الصحابة والتابعين قالوا : ليس للولي أن يهب مهر مولاته صغيرة كانت أو كبيرة . وأيضاً الذي بيد الولي هو عقدة النكاح ، فإذا عقد حصلت العقدة أي المعقودة كالأكلة واللقمة ، ثم هذه العقدة بيد الزوج لا الولي وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال : أنا أحق بالعفو . حجة الأولين أن الصادر عن الزوج هو أن يعطها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفواً اللهم إلا أن يقال : كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها . أو يقال : سماه عفواً على طريقة المشاكلة ، أو لأن العفو والتسهيل . فعفو الرجل هو أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة . حجة أخرى لو كان المراد به الزوج وقد قال أولاً : { وإن طلقتموهن } ناسب أن يقال : { إلا أن يعفون } أو تعفو على سبيل الخطاب أيضاً ، وأجيب بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة هو التنبيه على المعنى الذي لأجله يرغب في العفو . والمعنى إلا أن يعفون أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق ، وإن فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها . ثم قال الشافعي : إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي ، فهم منه أن النكاح لا ينعقد بدون الولي ، وذلك للحصر المستفاد من تقديم { بيده } على { عقدة النكاح } فتبين أنه ليس في يد المرأة من ذلك شيء { وأن تعفوا أقرب للتقوى } قيل : اللام بمعنى « إلى » والتقدير : العفو أقرب إلى التقوى . والخطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أنه غلب الذكور لأصالتهم وكمالهم ، وإنما كان عفواً لبعض عن البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقرباً إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد ، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه { ولا تنسوا الفضل } لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم ، وليس نهياً عن النسيان فإن ذلك غير مقدور ، بل المراد منه الترك .
وذلك أن الرجل إذا تزوج المرأة فقد يتعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه . وأيضاً إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرها من غير أن يكون قد انتفع بها صار ذلك سبباً لتأذيه منها ، فلا جرم ندب الله تعالى كلاً منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتنصيف . عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوجها . فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كملاً فقيل له : لم تزوجتها؟ فقال : عرضها علي فكرهت رده . قيل : فلم بعثت بالصداق؟ قال : فأين الفضل؟ ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى الوعد والوعيد على العادة المعلومة فقال : { إن الله بما تعملون بصير } .
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
القراآت : { وصية } بالنصب : أبو عمر وابن عامر وحمزة وحفص ويعقوب غير روبس . الباقون بالرفع .
الوقوف : { قانتين } 5 { أو ركباناً } ج لأن « إذا » في معنى الشرط مع فاء التعقيب { تعلمون } 5 { أزواجاً } ج لانقطاع النظم ومكان الحذف لأن التقدير فعليهم وصية أو فليوصوا وصية ، والوصل أجوز لاتصال المعنى فإن وصية أو وصية قام مقام خبر المبتدأ . { إخراج } ج { من معروف } ط { حكيم } 5 { بالمعروف } ط { المتقين } 5 { تعقلون } .
التفسير : الحكم السابع عشر : الصلاة ، وذلك أنه سبحانه لما بين للمكلفين ما بين من معالم الدين وشعائر اليقين أعقبها بذكر الصلاة التي تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى وزوال التمرد وحصول الانقياد لأوامره والانتهاء عن مناهيه تحصيلاً لسعادة الطرفين وتكميلاً لمصالح الدارين . وقد أجمع المسلمون على أن الصلوات المكتوبة خمس ، وفي الآية إشارة إلى ذلك لأن الصلوات جمع فأقلها ثلاث ، والصلاة الوسطى تدل على شيء زائد والإلزام التكرار ، وذلك الزائد لو كان الرابع لم يكن للمجموع وسطى فلا أقل من خمسة . والمراد بمحافظتها رعاية جميع شرائطها من طهارة البدن والثوب والمكان ، ومن ستر العورة واستقبال القبلة والإتيان بأركانها وأبعاضها وهيآتها والاحتراز عن مفسداتها من أعمال القلب وأعمال اللسان والجوارح . ومعنى المفاعلة في المحافظة إما لأنها بين العبد والرب كأنه قيل : احفظ الصلاة يحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة كقوله { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] وفي الحديث « احفظ الله يحفظك » وإما لأنها بين المصلي والصلاة فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن المناهي { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] وحفظته عن الفتن والمحن { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] وكيف لا وفي الصلاة القراءة والقرآن شافع مشفع . في الخبر « تجيء البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان فتشهدان وتشفعان » و « إن سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه » .
وفي الصلاة الوسطى سبعة أقوال : الأول : أنه تعالى أمرنا بالمحافظة على الصلاة الوسطى ولم يبين لنا أنها أي الصلوات . وما يروى من أخبار الآحاد لا معوّل عليها فيجب أن تؤدى كلها على نعت الكمال والتمام ، ولعل هذا هو الحكمة في إبهامها ، ولمثل ذلك أخفى الله تعالى ليلة القدر في ليالي رمضان ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، واسمه الأعظم في أسمائه ، ووقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفاً عازاماً على التوبة في كل الأوقات ، وهذا القول اختاره جمع من العلماء ، عن محمد بن سيرين أن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات كلها تصبها . وعن الربيع : أرأيت لو علمتها بعينها أكنت محافظاً عليها ومضيعاً سائرهن؟ قال السائل : لا .
قال الربيع : فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الصلاة الوسطى . القول الثاني : أن الوسطى مجموع الصلوات الخمس ، فإن الإيمان بضع وسبعون درجة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطرق . والصلوات المكتوبات واسطة بين الطرفين . القول الثالث : أنها صلاة الصبح وهو قول علي وعمر وابن عباس وابن عمر وجابر وأبي أمامة . ومن التابعين قول طاوس وعطاء وعكرمة ومجاهد وهو مذهب الشافعي قالوا : إن هذه الصلاة تصلى في الغلس فبعضها في ظلمة الليل وآخرها في ضوء النهار . وأيضاً إن في النهار صلاتين : الظهر والعصر ، وفي الليل صلاتين : المغرب والعشاء ، والصبح متوسط بينهما . وأيضاً الظهر والعصر يجمعان في السفر وكذا المغرب والعشاء والفجر منفرد بينهما . قال القفال : وتحقيق هذا يرجع إلى ما يقوله الناس : فلان متوسط إذا لم يمل إلى أحد الخصمين وكان منفرداً بنفسه عنهما . وقد أقسم الله تعالى بها في قوله { والفجر وليالٍ عشر } [ الفجر : 1 ، 2 ] وأيضاً قال تعالى : { وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً } [ الإسراء : 28 ] واتفقوا على أن المراد منه صلاة الفجر فخصها في تلك الآية بالذكر للتأكيد وخص الصلاة الوسطى في هذه الآية بالذكر للتأكيد ، فيغلب على الظن أنهما واحد . وأيضاً قرن هذه الصلاة بذكر القنوت في قوله { وقوموا لله قانتين } وليس في المفروضة صلاة صبح فيها القنوت إلا الصبح . وأيضاً لا شك أنه تعالى أفردها بالذكر لأجل التأكيد والصبح أحوج الصلوات إلى ذلك ، ففيه ترك النوم اللذيذ واستعمال الماء البارد والخروج إلى المسجد في الوقت الموحش . وأيضاً الإفراد بالذكر ينبئ عن الفضل ، ولا ريب في فضيلة صلاة الصبح ولهذا جاء { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] وروي أن التكبيرة الأولى منها في الجماعة خير من الدنيا وما فيها . وخصت بالأذان مرتين : أولاهما قبل الوقت إيقاظاً للناس حتى لا تفوتهم ألبتة ، وخص أذانها بالتثويب وهو أن يقول بعد الجيعلتين : الصلاة خير من النوم . وإن الانسان إذا قام من منامه فكأنه صار موجوداً بعد العدم ، وعند ذلك يزول عن الخلائق ظلمة الليل وظلمة النوم والغفلة وظلمة الفجر والحيرة ، ويملأ العالم نوراً والأبدان حياة وعقلاً وقوةً وفهماً . فهذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية وإظهار الخضوع والاستكانة لفاطر السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور . وعن علي عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى فقال : كنا نرى أنها الفجر . وعن ابن عباس أنه صلى الصبح ثم قال : هذه هي الصلاة الوسطى . القول الرابع : أنها صلاة الظهر ويروى عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، لأن الظهر كان شاقاً عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى . وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان فقال صلى الله عليه وسلم :
« لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم » فنزلت هذه الآية . وأيضاً ليس في المكتوبات صلاة وقعت وسط الليل والنهار إلا هذه ، وإنها صلاة بين صلاتين نهاريتين : الفجر والعصر وأنها صلاة بين البردين : برد الغداة وبرد العشي ، وإن أول إمامة جبرائيل كان في صلاة الظهر كما ورد في الأحاديث الصحاح ، وإن صلاة الجمعة مع ما ورد في فضلها تنوب عن الظهر لا عن غيرها . وعن عائشة أنها كانت تقرأ { والصلاة الوسطى وصلاة العصر } وكانت تقول : سمعت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . فيغلب على الظن أن المعطوف عليه العصر هو الظهر الذي قبله . وروي أن قوماً كانوا عند زيد بن ثابت فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى فقال : هي صلاة الظهر ، كانت تقام في الهاجرة . القول الخامس : أنها صلاة العصر ويروى عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ، ومن الفقهاء النخعي وقتادة والضحاك وهو مروي عن أبي حنيفة أيضاً لما ورد من التأكيد فيه كقوله صلى الله عليه وسلم « من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله » وقد أقسم الله بها في قوله { والعصر إن الإنسان لفي خسر } [ العصر : 1 ، 2 ] ولما يحتاج في معرفة وقتها إلى تأمل أكثر من حال الظهر . فالمغرب يعرف بغروب جرم الشمس ، والعشاء يعرف بغروب الشفق ، والفجر بطلوع الصبح الصادق ، والظهر بدلوك الشمس عن دائرة نصف النهار ، ولما في وقتها من اشتغال الناس بحوائجهم . وعن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق : « شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً » رواه البخاري وملسم وسائر الأئمة . وهو عظيم الموقع في المسألة . وفي صحيح مسلم « شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب . وعن حفصة أنها قالت لمن كتب لها المصحف : إذا بلغت هذه الآية فلا تكتبها حتى أملي عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فأملت عليه { والصلاة الوسطى صلاة العصر } . القول السادس : أنها صلاة المغرب . عن قبيصة بن ذؤيب لأنها بين بياض النهار وسواد الليل ، ولأنها وسط في الطول والقصر . القول السابع : أنها صلاة العشاء لأنها متوسطة بين صلاتين لا تقصران : المغرب والصبح . ولما ورد في فضلها عن عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم « من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة »
وقال أهل التحقيق : القلب هو الذي في وسط الإنسان بل هو واسطة بين الروح والجسد فكأنه قيل : حافظوا على صورة الصلوات بشرائطها ، وحافظوا على معاني الصلوات وحقائقها بدوام شهود القلب للرب في الصلاة وبعدها . ثم إن الشافعي احتج بالآية على أن الوتر ليس بواجب وإلا كانت الصلوات ستاً فلم يبق لها وسطى . وهذا إنما يتم لو كان المراد الوسطى في العدد ، لكنه يحتمل أن يكون الوسطى في الفضيلة من قوله { وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً } [ البقرة : 143 ] أو الوسطى في الزمان وهو الظهر ، أو الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات فيتوسط بين الاثنتين والأربع ، أو الوسطى في الصفة كصلاة الصبح يتوسط بين صفتي الظلام والضياء { وقوموا لله قانتين } عن ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر لقوله تعالى { أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً } [ الزمر : 9 ] ولأن قوله { حافظوا على الصلوات } أمر بما في الصلاة من الفعل فيكون القنوت عبارة عن كل ما في الصلاة من الذكر . وعن الحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل : قانتين أي مطيعين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « كل قنوت في القرآن فهو الطاعة » { ومن يقنت منكن لله ورسوله } [ الأحزاب : 31 ] { فالصالحات قانتات } [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها . وفيه زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما لا يجزى وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ، ولو كان كما قالوا وجب أن لا يصلي أصلاً لأنه تعالى كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا فكذلك لا يحتاج إلى القليل ، وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر الرسل والسلف الصالح فأطالوا وخشعوا واستكانوا وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال وقيل : قانتين ساكتين . عن زيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود كنا نتكلم في الصلاة يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه حتى نزلت { وقوموا لله قانتين } فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام . وعن مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع وخفض الجناح وسكون الأطراف ، وكان أحدهم إذا صلى خاف ربه فلا يلتفت ، ولا يقلب الحصى ، ولا يبعث بشيء من جسده . ولا فحذف المفعول به للعلم به أو فإن حصل لكم خوف أو كنتم على حالة الخوف على أنه متروك المفعول { فرجالاً أو ركباناً } أي فصلوا راجلين أو راكبين . وقيل : المعنى فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالاً أو ركباناً . وعلى هذا فالآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام و الركوع والسجود . ورجالاً جمع راجل كقيام جمع قائم وتجار جمع تاجر ، أو جمع رجل يقال : رجل رجل أي راجل .
والركبان جمع راكب كفارس وفرسان . ولا يقال راكب إلا لمن كان على إبل ، فإن كان على فرس فإنما يقال له : فارس . لكن المراد في الآية أعم ، وتخصيص اللفظ بالركبان لأنه الغالب فيهم . واعلم أن صلاة الخوف ، إما أن تكون في غير حال القتال وسوف يجيء بيانها في سورة النساء إن شاء الله تعالى ، وإما أن تكون عند التحام القتال وهو المراد بهذه الآية . ومذهب الشافعي أنهم يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة ، ويقتصرون من الركوع والسجود على الإيماء إلا أنهم يجعلون السجود أخفض من الركوع ، ويحترزون عن الصيحان ، أنَّه لا ضرورة إليه بل الشجاع الساكت أهيب . وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر لأنه صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة يوم الخندق . وأجيب بأن الآية ناسخة لذلك الفعل . ويدخل في الخوف المفيد لهذه الرخصة الخوف في القتال الواجب كالقتال مع الكفار أو مع أهل البغي ، وفي القتال المباح كالدفاع عن النفس ، أو عن حيوان محترم ، أو عن المال . أما القتال المحظور فإنه لا يجوز فيه صلاة الخوف لأن الرخص لا تناط بالمعاصي والخوف الحاصل لا في القتال كالهارب من الحرق والغرق والسبع ، وكذا المطالب إذا كان معسراً خائفاً من الحبس عاجزاً عن بينة الإعسار يرخص أيضاً في هذه الصلاة لأن قوله { فإن خفتم } مطلق يتناول الكل { فإذا أمنتم } فإذا زال خوفكم { فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون } من صلاة الأمن بقوله { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى } كما بينه بشروطه وأركانه . والصلاة قد تسمى ذكراً { فاسعوا إلى ذكر الله } وقيل : فاذكروا الله أي فاشكروا الله لأجل إنعامه عليكم بالأمن . وقيل : فاشكروه على الأمن واذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علمكم من الشرائع على لسان نبيه . وكيف تصلون في حال الخوف وفي حال الأمن . و « ما » في { كما علمكم } إما مصدرية أو كافة .
الحكم الثامن عشر : عدة الوفاة بوجه آخر { والذين يتوفون منكم } الآية . من قرأ { وصية } بالرفع ف { وصية } مبتدأ وخبره { لأزواجهم } وجاز وقوع النكرة مبتدأ لتخصيصه بما تخصص منهم وصية ، أو وصية الذين يتوفون وصية ، أو الذين يتوفون أهل وصية إلى الحول ، وكل هذه الوجوه جائز حسن . ومن قرأ بالنصب فعلى تقدير فليوصوا وصية أو يوصون وصية مثل « أنت سير البريد » أي أنت تسير سير البريد أو ألزم الذين يتوفون منكم وصية متاعاً نصب على المصدر على معنى فليوصوا لهن وصية وليمتعوهن متاعاً . والتقدير : جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبله من الكلام يدل عليه ، أو نصب على الحال ، أو نصب بالوصية و { غير إخراج } نصب على المصدر المؤكد كقولك « هذا القول غير ما تقول » أو بدل من { متاعاً } أو حال من الأزواج أي غير مخرجات .
والمعنى أن حق الذين يتوفون منكم عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يحتضروا بأن تمتع أزواجهم بعده حولاً كاملاً أي ينفق عليهن من تركته ولا يخرجن من مساكنهن . وأكثر المفسرين على أن ذلك كان في أول الإسلام ثم نسخت المدة بقوله { أربعة أشهر وعشراً } [ البقرة : 234 ] أو نسخ ما زاد منه على هذا المقدار بالإرث الذي هو الربع والثمن لقوله صلى الله عليه وسلم « ألا لا وصية لوارث » وعن علي عليه السلام وابن عمر أن لها النفقة وإن كانت حائلاً . وأما السكنى فعند أبي حنيفة وأصحابه لا سكنى لهن وهو قول علي وابن عباس وعائشة ، واختاره المزني قياساً على النفقة في مقابلة التمكين ولا تمكين . وأما السكنى فلتحصين الماء وهو موجود ، وعند الشافعي لهن ذلك على الأظهر وهو قول عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وأم سلمة ، ووافقه مالك والثوري وأحمد . وبناء الخلاف على خبر فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي ما أنزلني بمنزل يملكه فقال : نعم . فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد أو في الحجرة دعاني فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . فحمل بعضهم الأمر الثاني على النسخ وآخرون على الاستحباب . وعن مجاهد أنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً وإن اختارت السكنى في داره والأخذ من ماله وتركته فعدتها الحول . قال : وإنما نزلنا الآية على هذين التقديرين لتكون كل واحدة منهما معمولاً بها . وعن أبي مسلم : إنكم تضيفون الوصية إلى حكم الله تعالى فيلزمكم القول بالنسخ ، ونحن نضيف الحكم إلى الزوج حتى يصير معنى الآية : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وقد وصوا وصية لأزواجهم بالنفقة والسكنى حولاً . فهذا المجموع شرط وجوابه فإن خرجن - أي قبل ذلك - وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى { فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف } أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة . والسبب فيه أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً ، وكانوا يوجبون على المرأة الاعتداد بالحول ، فبيّن الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب . ويؤكده ما روت زينب بنت أبي سلمة قالت : سمعت أمي أم سلمة تقول : « جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » لا مرتين أو ثلاثاً كل ذلك يقول : لا . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول « .
قال حميد : فقلت لزينب : وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً أي بيتاً صغيراً ، ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيباً حتى يمر بها سنة ، ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طائر فتقتض به . قال مالك : أي تمسح به جلدها فقلما تقتض بشيء إلا مات ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تراجع بعد بما شاءت من طيب أو غيره ، فلا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين والإقدام على النكاح . ومن قطع نفقتهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول ومن ترك منعهن من الخروج لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها . وإنما قال ههنا { من معروف } منكراً لأن المراد بوجه من الوجوه التي لهن أن يأتينه . وأما في الآية السابقة فإنه أراد بالوجه المعروف من الشرع . ويمكن أن يقال : إن تلك الآية متأخرة في النزول عن هذه بإجماع المفسرين فلهذا نكر أولاً ، ثم عرف لأن النكرة إذا تكررت صارت معرفة قال سبحانه : { كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول } [ المزمل : 16 ] .
الحكم التاسع عشر : { وللمطلقات متاع } عم المطلقات بإيجاب المتعة لهن بعد ما أوجبها لواحدة منهن وهي المذكورة في الحكم الخامس عشر . وروي أنها لما نزلت { ومتعوهن } إلى قوله { متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين } قال رجل من المسلمين : إن أحسنت فعلت فإن لم أرد ذلك لم أفعل فنزلت هذه الآية أي حقاً على من كان متقياً عن الكفر والمعاصي واعلم أن المطلقات قسمان : مطلقة قبل الدخول فلها المتعة إن لم يفرض لها مهر كما مر في الحكم الخامس عشر ، وإن فرض لها مهر فلا متعة لها وحسبها نصف المهر لأنه تعالى اقتصر على ذلك ولم يذكر المتعة فهي مستثناة من عموم هذه الآية . ومطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أم لم يفرض . واختلفوا في استحقاقها المتعة . فالقديم من قول الشافعي وبه قال ابو حنيفة ، لا متعة لها لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض وقبل الدخول . وفي الجديد لها المتعة وهو قول علي وابنه الحسن وابن عمر لعموم الآية ، ولقوله تعالى { فتعالين أمتعكن } [ الأحزاب : 28 ] وكان ذلك في حق نساء دخل بهن النبي . وليست كالمطلقة المذكورة لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة عوض ، وهذه استحقت الصداق في مقابلة استباحة البضع فيجب لها المتعة للإيحاش . وعن سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري أنها واجبة لكل مطلقة تمسكاً بظاهر عموم الآية . وقيل : المراد بهذا المتعة النفقة في العدة بدليل { متاعاً إلى الحول } والله أعلم .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
القراآت : { فيضاعفه } بالألف والنصب : عاصم غير المفضل وسهل « فيضعفه » بالتشديد والنصب : ابن عامر ويعقوب غير روح . فيضعفه بالتشديد والرفع : ابن كثير ويزيد وروح . الباقون فيضاعفه بالألف والرفع وكذلك في سورة الحديد { ويبصط } بالصاد : ابن كثير وأبو جعفر ونافع غير الخزاعي عن ابن فليح ، وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل ، وسهل وعاصم وابن ذكوان وغير ابن مجاهد والنقاش وشجاع وعلي الحلواني من قالون مخير . الباقون بالسين .
الوقوف : { الموت } ص { أحياهم } ط { لا يشكرون } 5 { عليم } 5 { كثيرة } ط { ويبسط } ص { ترجعون } 5 .
التفسير : قد جرت عادته سبحانه أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص اعتباراً للسامعين ليحملهم ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ومزيد الخضوع والانقياد فقال : { ألم تر } وفيه تقرير لمن سمع بقصتهم ووقف على أخبار الأولين وتعجيب من حالهم . ويجوز أن يخاطب به من لم ير ولم يسمع لأن هذا الكلام جرى مجرى المثل في معنى التعجب ، أو تكون الرؤية بمعنى العلم والمعنى : ألم ينته علمك ولهذا عدي بإلى . وعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ، ويجوز أن يقال : كان العلم بها سابقاً على نزول هذه الآية ، ثم إنه تعالى أنزل الآية على وفق ذلك . روي أن أهل داوردان - قرية قبل واسط - وقع فيهم الطاعون فخرجوا هاربين فأماتهم الله ثم أحياهم ليعتبروا ويعلموا أنه لا مفر من حكم الله وقضائه . ويروى أن حزقيل النبي الذي يقال له : ذو الكفل مر عليهم بعد زمان طويل وقد عريت عظامهم وتفرقت أوصالهم ، فتعجب مما رأى فأوحى إليه : أتريد أن أريك كيف أحيهم؟ فقال : نعم فقيل له : ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي . فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام . ثم أوحى الله إليه : نادها إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً فصارت لحماً ودماً . ثم نادها إن الله يأمرك أن تقومي فقامت . فلما أحياهم كانوا يقولون : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت . ثم رجعوا إلى قومهم بعد حياتهم ، وكانت تظهر أمارات الموت في وجوههم إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم . وعن ابن عباس أن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال فخافوا القتال فهربوا وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء ، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء . فأماتهم الله بأسرهم وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا . وبلغ بني إسرائيل موتهم فخرجوا لدفنهم فعجزوا من كثرتهم فحظروا عليهم الحظائر وأحياهم الله تعالى بعد الثمانية ، فبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم وقيل : إن حزقيل النبي ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا فأرسل الله تعالى عليهم الموت ، فلما كثر فيهم الموت خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى حزقيل ذلك قال : اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يخرجون عن قبضتك .
فأرسل الله عليهم الموت فلما رآه عليه السلام ضاق قلبه فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى . أما قوله سبحانه { وهم ألوف حذر الموت } ففيه دليل على الألوف الكثيرة ولكنهم اختلفوا . فقيل : عشرة آلاف ، وقيل : ثلاثون ، وقيل : سبعون . وعن بعضهم أن الألوف جمع آلف كقعود جمع قاعد أي خرجوا وهم مؤتلفو القلوب ، وزيف بأن ورود الموت عليهم وفيهم كثرة يفيد مزيد اعتبار بحالهم بخلافهم لو كانوا نفراً يسيراً . فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة فكوروده على قوم بينهم اختلاف كثير في أن وجه الاعتبار لا يتغير ، وقد يوجه بأن المراد إلفهم بالدنيا ومحبتهم لها فأهلكوا ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه عن الفوت . و { حذر الموت } مفعول لأجله . { فقال لهم الله موتوا } معناه فأماتهم وجيء بهذه العبارة للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد ، وأنها خارجة عن العادة ولا أمر ولا قول كما مر في قوله { سبحانه إذا قضى أمر فإنما يقول له كن فيكون } [ مريم : 35 ] ويدل عليه قوله { ثم أحياهم } وإذا صح الإحياء بلا قول فكذا الإماتة . ويحتمل أنه تعالى أمر الرسول بأن يقول لهم موتوا . والظاهر أنهم لم يكونوا رأوا عند الموت من الأهوال والأحوال ما تصير بها معارفهم ضرورية ويمنع من صحة التكليف بعد الإحياء كما في الآخرة . وقال قتادة : إنما أحياهم ليستوفوا بقية آجالهم . { إن الله لذو فضلٍ على الناس } تفضل عليهم بأن خرجوا من الدنيا على المعصية فأعادهم إلى الدنيا ومكنهم من التوبة والتلافي ، وتفضل على منكري المعاد باقتصاص خبرهم ليستبصروا ويعتبروا ، وذلك أن تركب الأجزاء على الشكل المخصوص ممكن وإلا لما وجد أولاً ، وإذا كان ممكناً في نفسه ، وقد أخبر الصادق بوجوده وجب القطع به . وفي القصة تشجيع للمسلمين على الجهاد والتعرض للشهادة ، وأن الموت إذا لم ينفع منه الفرار فأولى أن يكون في سبيل الله ، ولهذا أتبعت بقوله { وقاتلوا في سبيل الله } ثم إن كان هذا الأمر خطاباً للذين أحياهم على ما قال الضحاك أحياهم ثم أمرهم بأن يذهبوا إلى الجهاد ، فلا بد من إضمار تقديره ، وقيل لهم : قاتلوا . وإن كان استئناف خطاب للحاضرين على ما هو اختيار الجمهور من المفسرين فلا إضمار ، وفيه ترغيب وإرهاب كيلا ينكص على عقبيه محب للحياة بسبب خوف الموت فإن الحذر لا يغني عن القدر . { واعلموا أن الله سميع عليم } يسمع ما يقوله القاعدون والمجاهدون ويعلم ما يضمرونه وهو من وراء الجزاء .
ولما أمر المكلفين بالقتال في سبيل الله أردف ذلك بقوله { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً } أي في باب الجهاد ، كأنه ندب العاجز عن الجهاد أن ينفق على الفقير القادر على الجهاد ، وأمر القادر على الجهاد أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد . و « ذا » في { من ذا } إما زائدة و « من » استفهام في موضع الرفع ، و « الذي » مع صلتها خبره أو موصولة و « الذي » بدلها أو اسم إشارة خبر « من » و « الذي » نعت له ، أو بدل منه . قال أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون « من » و « ذا » بمنزلة اسم واحد كما كانت « ماذا » لأن « ما » أشد إبهاماً من « من » إذا كانت « من » لمن يعقل . وقد بني الكلام على طريقة الاستفهام لأن ذلك أدخل في الترغيب والحث على الفعل من ظاهر الأمر . وقيل : إن هذا الكلام مبتدأ لا تعلق له بما قبله ، وإنما ورد مستأنفاً في الإنفاق إما على الإطلاق وهو الأليق بعموم لفظ القرض ، وإما الواجب منه لأن قوله { وإليه ترجعون } كالزجر . وهو إنما يليق بالواجب ، وأما غير الواجب لأن القرض بالتبرع أشبه وهذا قول الأصم . وقد يروى عن بعض أصحاب ابن مسعود أن المراد من هذا القرض هو قول الرجل « سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر » . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « من لم يكن عنده ما يتصدق به فليلعن اليهود فإنه له صدقة » ويشبه أن يكون الفقير الذي لا يملك شيئاً إذا كان في قلبه أنه إذا قدر أنفق وأعطى ، قامت تلك النية مقام الإنفاق . وعن الزجاج أن لفظ القرض حقيقة في كل ما يفعل ليجازى عليه . وأصل القرض القطع ومنه المقراض والانقراض لانقطاع الأثر ، ومن أقرض فكأنما قطع له من ماله أو عمله قطعة يجازى عليها . وقيل : إن لفظ القرض في الآية مجاز ، فإن القرض إنما يأخذه من يحتاج إليه لفقره وذلك في حق الله محال ، ولأن البدل في القرض المعتاد لا يكون إلا بالمثل وهنا يضاعف ، ولأن المال الذي يأخذه المستقرض لا يكون ملكاً له وههنا المال المأخوذ ملك الله . ثم مع حصول هذه الفروق سماه الله تعالى قرضاً تنبيهاً على أن ذلك لا يضيع عند الله . فكما أن القرض يجب أداؤه ولا يجوز الإخلال به فكذا الثواب المستحق على هذا الإنفاق واصل إلى المكلف لا محالة . وقوله { قرضاً حسناً } يحتمل كونه اسم مصدر وكونه مصدراً بمعنى الإقراض .
ومعنى كونه حسناً حلالاً خالصاً لا يختلط به الحرام ولا يشوبه منٌ ولا أذى ولا يفعله رياء وسمعة ، وإنما يفعله خالصاً لوجه الله تعالى .
و { أضعافاً } نصب على الحال أو على المفعول الثاني إن ضمن ضاعف معنى صير ، ويجوز أن يكون مصدراً لأن الضعف وإن كان اسماً إلا أنه قد يقع موقع المصدر كالعطاء فإنه اسم للمعطى ، وقد يستعمل بمعنى الإعطاء قال القطامي :
أكفراً بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا؟
وإنما جاز جمع المصدر بحسب اختلاف أنواع الجزاء لاختلاف الإقراض في المقدار والإخلاص وغير ذلك . والضعف المثل ، والتضعيف والأضعاف والمضاعفة كلها الزيادة على أصل الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر . قيل : الواحد بسبعمائة . وعن السدي أن هذا التضعيف لا يعلم أحدكم هو وما هو ، وإنما أبهمه الله تعالى لأن ذكر المبهم في باب الترغيب أقوى من ذكر المحدود { والله يقبض ويبسط } يقتر على عباده ويوسع فلا تبخلوا عليه بما وسع عليكم لا يبدلكم الضيقة بالسعة . وأيضاً من كتب له الفقر فليس له إلا ذلك سواء أنفق أو لم ينفق ، ومن كتب له الغنى فليس له إلا ذلك . فعلى التقديرين يكون إنفاق المال في سبيل الله أولى . وإذا علم المكلف أن القبض والبسط بالله انقطع نظره عن مال الدنيا وبقي اعتماده على الله ، فحينئذٍ يسهل عليه الإنفاق في مرضاة الله . ويحتمل أن يكون المعنى : والله يقبض بعض القلوب حتى لا يقدم على هذه الطاعة ، ويبسط بعضها حتى يسهل عليه البذل وصرف المال . { وإليه ترجعون } فيجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال الخير و الله ولي التوفيق وإليه انتهاء الطريق .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
القراآت : { عسيتم } بكسر السين حيث كان نافع . الباقون بالفتح . وزاده بالإمالة : حمزة ونصير وابن مجاهد والنقاش عن ابن عباس وذكوان . { بصطه } بالصاد : أبو نشيط والشموني غير النقاد ، وكذلك { بباصط } [ المائدة : 28 ] { ويبصط الرزق } [ الرعد : 26 ] { ولا تبصطها كل البصط } [ الإسراء : 29 ] { فما اصطاعوا } [ الكهف : 97 ] وما أشبه ذلك { مني إلا } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الباقون بالسكون . { غرفة } بفتح العين : ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الباقون بالضم { هو والذين } بالإدغام روى ابن مهران ومحمد العطار عن أبي شعيب وشجاع وكذلك ما أشبهها { فئة ومئة } وبابهما غير مهموزتين : يزيد وشموني وحمزة في الوقف { دفاع الله } وكذلك في سورة الحج : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب . الباقون { دفع الله } .
الوقوف : { من بعد موسى } م لأنه لو وصل صار « إذ » ظرفاً لقوله « ألم تر » وهو محال { في سبيل الله } ط { ألا تقاتلوا } ط { وأبنائنا } ط { تعظيماً } لابتداء أمر معظم { منهم } ط { بالظالمين } 5 { ملكاً } ط { من المال } ط { والجسم } ط { من يشاء } ط { عليم } 5 { الملائكة } ط { مؤمنين } 5 { بالجنود } لا لأن « قال » جواب لما { بنهر } ج للابتداء بالشرط مع الفاء { فليس مني } ج للابتداء بشرط آخر اتحاد المقصود { بيده } ج لعطف المختلفين { منهم } ط تعظيماً لابتداء أمر معظم { معه } ( لا ) لأن « قالوا » جواب لما { وجنوده } ط { ملاقو الله } ( لا ) لأن ما بعده مفعول « قال » { بإذن الله } ط { الصابرين } 5 { الكافرين } 5 ط لأن ما قبله دعاء وما بعده خبر ماضٍ يتصل بكلام طويل بعده ولا وقف على « بإذن الله » لاتصال اللفظ واتساق المعنى فإن الهزيمة كانت من قتل داود جالوت { مما يشاء } ط { العالمين } 5 .
التفسير : القصة الثانية قصة طالوت ، والملأ اسم جماعة من الناس كالقوم والرهط لأنهم يملؤن العيون هيبةً ، أو لأنهم ملأى بالأحلام والآراء الصائبة وجمعه أملاء . قال : وقال لها الأملاء من كل معشر . وخير أقاويل الرجال سديدها . قال الزجاج : الملأ الرؤساء سموا بذلك لأنهم ملؤا بما يحتج إليه من كفايات الأمور وتدبيرها من قولهم « ملؤ الرجل ملاءة فهو ملؤ » إذا كان مطيقاً له ، لأنهم يتمالؤن أي يتظاهرون ويتساندون . والغرض من إيراد هذه القصة عقيب آية القتال ، ترغيب المكلفين على الجهاد وأن لا يكونوا كمن أمروا بالقتال فخالفوا وظلموا { إذ قالوا لنبيٍ لهم } لم يحصل العلم بذلك النبي وبأولئك الملأ من الخبر المتواتر ، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن . لكن المقصود وهو الحث على الجهاد حاصل . منهم من قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم هو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف لقوله تعالى { من بعد موسى } ولكنه لا يلزم منه حصوله من بعده على الاتصال .
والأكثرون على أنه أشمويل واسمه بالعربية إسماعيل . وعن السدي هو شمعون سمته أمه بذلك لأنها دعت الله أن يرزقها إياه فسمع دعاءها فسمته شمعون . والسين تصير شيناً بالعبرانية وهو من ولد لاوى بن يعقوب . { ابعث لنا ملكاً } أنهض للقتال معنا أميراً نصدر في تدبير الحرب عن رأيه وتنتظم به كلمتنا . وكان قوام بين إسرائيل بملك يجتمعون عليه يجاهد الأعداء ويجري الأحكام ، ونبي يطيعه الملك ويقيم أمر دينهم ويأتيهم بالخبر من ربهم { نقاتل في سبيل الله } بالنون والجزم على الجواب وهي القراءة المشهورة . وقرئ بالنون والرفع على أنه حال أي ابعث لنا ملكاً مقدرين القتال ، أو استئناف كأنه قال لهم . ما تصنعون بالملك؟ فقالوا : نقاتل . وقرئ « يقاتل » بالياء والجزم على الجواب ، وبالرفع على أنه صفة ل { ملكاً } و { هل عسيتم } خبره { أن لا تقاتلوا } والشرط فاصل بينهما ، وجواب الشرط محذوف يدل عليه المذكور أي إن كتب عليكم القتال فهل يتوقع منكم الجبن والخور؟ وأراد بالاستفهام التقرير وتثبيت أن المتوقع كائن وأنه صائب في توقعه { وما لنا ألا نقاتل } قال المبرد : « ما » نافية أي ليس لنا ترك القتال . والأكثرون على أنه للاستفهام ، وأورد عليه أنه خلاف المشهور فإنه لا يقال : ما لك أن لا تفعل كذا ، وإنما يقال : مالك لا تفعل . فعن الأخفش أن « أن » زائدة أي ما لنا لا نقاتل . ورد بأن الزيادة خلاف الأصل ولا سيما في كلام رب العزة . وعن الفراء أن الكلام محمول على المعنى لأن قولك « ما لك لا تقاتل » معناه ما منعك أن تقاتل ، فلما ذهب إلى معنى المنع حسن إدخال « أن » فيه . وعن الكسائي : واستحسنه الفارسي أن التقدير أيّ شيء لنا وأيّ داع أو غرض في ترك القتال فسقطت كلمة « في » على القياس { وقد أخرجنا } أي وحالنا أنا أخرجنا من ديارنا بالسبي والقهر على نواحيها ، ومن بلغ منه العدو هذا المبلغ فالظاهر منه الاجتهاد في قمع عدوّه . روي أن قوم جالوت كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر وفلسطين ، فأسروا من أبناء ملوكهم أربعمائة وأربعين . وههنا محذوف التقدير : فسأل الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال . { فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم } وهم الذين عبروا النهر وسيأتي ذكرهم وأنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر علىعدد أهل بدر . { والله عليم بالظالمين } وعيد لهم ولكل مكلف في الإسلام على القعود عن القتال . وأي وعيد أبلغ من أن وضع الظالمين موضع الضمير العائد إليهم .
قوله سبحانه { وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } طالوت اسم أعجميّ كجالوت وداود ، امتنع من الصرف للعلمية والعجمة المعتبرة .
وقد يمكن تكلف اشتقاقه من الطول لما يجيء من وصفه بالبسطة في الجسم ، وقد يوافق العبراني العربي . و { ملكاً } نصب على الحال ، أو التمييز ، أو مفعول ثانٍ على أن بعث بمعنى صير . وفي الآية تقرير لتوليهم وتأكيد لذلك ، فإن أولى ما تولوا هو إنكارهم أمر النبي المبعوث إليهم بالتماسهم وذلك أنهم { قالوا أنى يكون } كيف ومن أين يصح ويصلح { له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعةً من المال } الواو الولى للحال ، والثانية للعطف . فانتظمت الجملتان في سلك الحالية . استبعدوا تملكه من وجهين : الأول : أن النبوة كانت في سبط لاوى بن يعقوب ومنه موسى وهارون ، والملك كان في سبط يهوذا ومنه داود وسليمان ، وأن طالوت ما كان من أحد هذين السبطين بل كان من ولد بنيامين . الثاني : أنه كان فقيراً ولا بد للملك من مال يعتضد به . فعن وهب أنه كان دباغاً . وعن السدي أنه كان مكارياً . وقال الآخرون : كان سقاء فأزيلت شبهتهم بوجوه : الأول : { قال إنّ الله اصطفاه عليكم } اختاره دونكم واستخلصه من بينكم وأمره عليكم ، ولا اعتراض لأحد على حكم الله . وروي أن نبيهم دعا الله حين طلبوا منه ملكاً فأُتي بعصا يقاس بها من يملك عليهم فلم يساوها إلا طالوت . الثاني : { وزاده بسطة في العلم والجسم } طعنوا فيه بنقصان الجاه والمال فقابلهما الله تعالى بوصفين العلم والقدرة وأنهما أشد مناسبة لاستحقاق الملك من النسب والمال ، لأن العلم والقدرة من باب الكمالات الحقيقية دونهما وبالعلم والقدرة يتوسل إلى الجاه والمال ولا ينعكس ، والعلم والقدرة من الكمالات الحاصلة لحق الإنسان ، والمال والجاه أمران منفصلان عن ذات الإنسان وأنهما لا يمكن سلبهما عن ذات الإنسان بخلافهما . وإن العالم بأمر الحروب ذا القوة والبطش يكون الانتفاع به في مصالح البلاد والعباد أتم من النسيب الغني إذا لم يكن له علم يضبط المصالح وقدرة على دفع الأعداء . والظاهر أن المراد بالبسط في العلم هو حذقه فيما طلبوه لأجله من أمر الحرب ، ويجوز أن يكون عالماً في الديانات وبغيرها . وذلك أن الملك ينبغي أن يكون عالماً وإلا كان مزدري غير منتفع به ، وأن يكون جسيماً يملأ العين مهابة وحشمة . والبسطة السعة والامتداد وطول القامة . روي أنه كان يفوق الناس برأسه ومنكبيه . وقيل : المراد منه الجمال وكان أجمل بني إسرائيل . والأظهر أن يراد بها القوة لأنها المنتفع بها في دفع الأعداء لا الطول والجمال . الوجه الثالث : { والله يوتي ملكه من يشاء } فالملك له والعبيد له والمالك إذا تصرف في ملك نفسه فلا اعتراض لأحد عليه . الوجه الرابع : { والله واسع عليم } فإذا فوض الملك إليه فإن علم أن الملك لا يتمشى إلا بالمال فتح عليه باب الرزق ويوسع عليه .
قوله عز من قائل { وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } الآية . اعلم أن ظاهر قوله تعالى { إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً } يدل على أنهم كانوا معترفين بنبوة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم . ثم إنه لما قال : { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } كان هذا دليلاً قاطعاً على أنه ملك ، لكنه تعالى لكمال رأفته بالمكلفين ضم إلى ذلك الدليل دليلاً آخر دل على صدق النبي ، وإكثار الدلائل من الله تعالى جائز . ولهذا كثرت معجزات محمد صلى الله عليه وسلم ومعجزات موسى وعيسى عليهما السلام . ثم إن مجيء التابوت لا بد أن يقع على وجه يكون خارقاً للعادة حتى يصح أن يكون معجزة وآية من عند الله دالة على صدق تلك الدعوى . فقيل : إن الله تعالى أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده فتوارثوه إلى أن وصل إلى يعقوب ، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل فكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلم وحكم بينهم ، وإذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به على عدوهم ، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر وهم يقاتلون العدو فإذا سمعوا من التابوت صيحة استيقنوا النصر ، فلما عصوا وفسدوا سلط الله عليهم العمالقة فغلبوهم على التابوت وسلبوه ، فلما سألوا نبيهم البينة على ملك طالوت قال ذلك النبي : إن آية ملكه أنكم تجدون التابوت في داره . وكان الكفار الذين سلبوا التابوت قد جعلوه في موضع البول والغائط ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم في ذلك الوقت فسلط الله على أولئك الكفار البلاء حتى إن كل من بال عنده أو تغوط ابتلاه الله بالبواسير ، فعلم الكفار أن ذلك لأجل استخفافهم بالتابوت فأخرجوه ووضعوه على ثورين ، فأقبل الثوران يسيران ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما حتى أتوا منزل طالوت . فعلى هذا إتيان التابوت مجاز لأنه أتى به ولم يأت هو بنفسه . وقيل : إنه صندوق من خشب كان موسى يضع التوراة فيه و كانوا يعرفونه ، ثم إن الله تعالى رفعه بعد ما قبض موسى عليه السلام لسخطه على بني إسرائيل . ثم قال نبي ذلك القوم : إن آية ملك طالوت أن يأتيكم التابوت من السماء ، فنزل من السماء والملائكة كانوا يحفظونه والقوم ينظرون حتى نزل عند طالوت وهذا قول ابن عباس . وعلى هذا الإتيان حقيقة ، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين جميعاً لأن من حفظ شيئاً في الطريق جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء . أما شكل التابوت فقيل : كان من خشب الشمشار مموهاً بالذهب نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين . وقرأ أبي وزيد بن ثابت { التابوه } بالهاء وهي لغة الأنصار . وأما وزن التابوت فلا يخلو إما أن يكون « فعلوتا » أو « فاعولا » لا سبيل إلى الثاني لقلة باب سلس وقلق ولأنه تركيب غير معروف فهو « فعلوت » من التوب أي الرجوع لأنه ظرف ، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه وصاحبه يرجع إليه فيما يحتاج إليه من مودعاته .
والظاهر أن مجيء التابوت كان معجزة لنبي ذلك الزمان ، ومع كونه معجزة له كان آية قاطعة في ثبوت ملك طالوت ، وقيل : إن طالوت كان نبياً وإتيان التابوت معجزته لأنه كان مقروناً بالتحدي . والجواب أن التحدي كان من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته { فيه سكينةٌ } هي « فعيلة » من السكون ضد الحركة ومعناه الوقار ، ومصدر وقع موقع الاسم كالعزيمة . وأما البقية فبمعنى الباقية . يقال : بقي من الشيء بقية . والمراد بالسكينة والبقية إما أن يكون شيئاً حاصلاً في التابوت أولاً ، والثاني قول الأصم وعلى هذا فمعناه أنه متى جاءهم التابوت من السماء وشاهدوا تلك الحالة اطمأنت نفوسهم وأقروا له بالملك وانتظم أمر ما بقي من دين موسى وهارون ومن شريعتهما فهذا كقوله صلى الله عليه وسلم « في النفس المؤمنة مائة من الإبل » أي بسببها . وعلى الأول أقوال فعن أبي مسلم : كان في التابوت بشارات من كتب الله المنزلة على موسى وهارون ومن بعدهما من الأنبياء عليهم السلام بأن الله تعالى ينصر طالوت وجنوده فيزول خوف العدو عنهم . وعن ابن عباس : هي صورة من زبرجد وياقوت لها رأس كرأس الهر ، وذنب كذنبه ، وجناحان فيزف التابوت نحو العدو وهم يمضون معه ، فإذا استقر ثبتوا وسكنوا ونزل النصر . وعن علي رضي الله عنه : كان لها وجه كوجه الإنسان ، وفيها ريح هفافة أي طيبة . وأما البقية فهي رضاض الألواح وعصا موسى وثيابه وشيء من التوراة وقفيز من المنّ الذي أنزل عليهم . قال بعض العلماء : إنما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون لأن ذلك التابوت قد تداولته القرون بعدهما إلى وقت طالوت . وفي التابوت أشياء توارثها العلماء من أتباع موسى وهارون فيكون الآل هم الأتباع . قال تعالى : { أدخلوا آل فرعون } [ غافر : 46 ] { وإذ نجيناكم من آل فرعون } [ البقرة : 49 ] ويجوز أن يراد مما تركه موسى وهارون والآل مقحم لتفخيم شأنهما كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي موسى الأشعري « لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود » وأراد به داود نفسه إذ لم يكن لأحد من آل داود من الصوت الحسن ما كان لداود { إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين } بدلالة المعجزة على صدق المدعي وههنا محذوف والتقدير : فأتاهم التابوت فأذعنوا لطالوت وأجابوا إلى المسير تحت رايته . { فلما فصل طالوت بالجنود } أصله فصل نفسه ثم كثر حذف المفعول حتى صار في حكم غير المتعدي والمعنى : انفصل عن بلده مع الجنود . والجند الأعوان والأنصار وكل صنف من الخلق جند قال صلى الله عليه وسلم :
« الأرواح جنود مجندة » روي أن طالوت قال لقومه : لا ينبغي أن يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه ، ولا تاجر مشتغل بالتجارة ، ولا متزوج بامرأة لم يبن فيها . ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ . فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفاً ، وكان الوقت قيظاً وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهراً . فقال نبيهم : على قول ، أو طالوت على الأظهر ، وذلك إما بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم أو بالوحي إن كان نبياً { إن الله مبتليكم بنهرٍ } بما اقترحتموه من النهر . قيل في حكمة هذا ابتلاء : إنه لما كان من عادة بني إسرائيل مخالفة الأنبياء والملوك مع ظهور الآيات الباهرة ، أظهر الله علامة قبل لقاء العدو يتميز بها الصابر على الحرب من غير الصابر ، لأن الرجوع قبل لقاء العدو لا يؤثر كتأثيره حال لقاء العدو . عن ابن عباس والسدي أنه نهر فلسطين ، وعن قتادة والربيع أنه نهر بين الأردن وفلسطين . ونهر بتحريك الهاء وتسكينها لغتان و { مبتليكم } أي ممتحنكم . ولما كان الابتلاء من الناس إنما يكون بظهور الشيء ، وثبت أن الله لا يثيب ولا يعاقب على علمه إنما يظهر ذلك بظهور الأفعال من الناس وذلك لا يحصل إلا بالتكليف ، لا جرم سمى التكليف ابتلاء . { فمن شرب منه فليس مني } هو كالزجر أي ليس بمتصل بي ولا بمتحد معي من قولهم « فلان مني » يريد أنه كأنه بعضه لاختلاطهما واتحادهما ، أو ليس من أهل ديني وطاعتي ومن حزبي وأشياعي { ومن لم يطعمه } ومن لم يذقه من طعم الشيء إذا ذاقه . ومنه طعم الشيء لمذاقه . واعلم أن الفقهاء اختلفوا في أن من حلف أن لا يشرب من هذا النهر كيف يحنث؟ فقال أبو حنيفة : لا يحنث إلا إذا كرع في النهر . حتى لو اغترف بالكوز ماء من ذلك النهر وشربه لا يحنث لأن الشرب من الشيء هو أن يكون ابتداء شربك متصلاً بذلك الشيء . وقال الباقون : بل إذا اغترف الماء بالكوز من ذلك النهر وشربه يحنث لأن هذا وإن كان مجازاً إلا أنه مجاز مشهور ، فلما كان من المحتمل في اللفظ الأول أن يكون النهي مقصوراً على الشرب من النهر حتى لو أخذه بالكوز وشربه لا يكون داخلاً تحت النهي . ذكر في اللفظ الثاني ما يزيل هذا الإبهام فقال : { ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفةً بيده } استثناء من قوله { فمن شرب منه فليس مني } ليصح النظم وإنما فصل قوله { ومن لم يطعمه } بين المستثنى والمستثنى منه للعناية . ومعنى الاستثناء الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع . والغرفة بالفتح بمعنى المصدر ، وبالضم بمعنى المغروف ملء الكف .
عن ابن عباس : كانت الغرفة يشرب منها هو ودوابه وخدمه ، ويحتمل منها . ولعل ذلك من معجزات نبي ذلك الزمان كما يروى عن نبينا صلى الله عليه وسلم من إرواء الخلق العظيم من الماء القليل ، ويحتمل أنه كان مأذوناً أن يأخذ من الماء ما شاء مرة واحدة بقربة أو جرة بحيث كان المأخوذ في المرة الواحدة يكفيه ولدوابه ولخدمه ولأن يحمله مع نفسه إلا أن قوله { بيده } لا يجاوب هذا الاحتمال { فشربوا منه } كرعوا فيه { إلا قليلاً منهم } وقرأ أبي والأعمش { إلا قليلٌ منهم } وهذا من باب الميل إلى المعنى والإعراض عن اللفظ جانباً كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم . فبهذا تميز الموافق عن المنافق والصديق عن الزنديق . يروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد وقع أكثرهم في النهر وأكثروا الشرب فاسودت شفاههم وغلبهم العطش وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى فلم يزيدوا على الاغتراف فقوي قلبهم وصح أيمانهم وعبروا النهر سالمين . والمشهور أنهم كانوا على عدد أهل بدر لما روي أن النبي قال لأصحابه يوم بدر : أنتم اليوم على عدد أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن . قال البراء بن عازب : وكنا يومئذٍ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً . وقيل : إنهم كانوا أربعة آلاف . ولا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاعه ، وإنما الخلاف في أنهم رجعوا قبل عبور النهر أو بعده ، والحق أنه ما عبر معه إلا المطيعون لقوله تعالى { فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه } ولقوله : { فليس مني } أي ليس من أصحابي في سفري ، ولأن المقصود من الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي ، وإذا تميزا فالظاهر أنه لم يأذن للعاصين ، وصرفهم عن نفسه قبل أن يرتدوا عند لقاء العدو ، وقيل : إنه استصحب كل جنوده لأنهم قالوا : لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده . ومعلوم أن هذا الكلام لا يليق بالمؤمن المنقاد لأمر ربه ، بل لا يصدر إلا عن المنافق أو الفاسق . والجواب لعل طالوت والمؤمنين لما جاوزوا النهر ورأوا القوم تخلفوا وما جاوزوه ، سألوهم عن سبب التخلف فذكروا ذلك ، وما كان النهر في العظم بحيث يمنع المكالمة ، أو المراد بالمجاوزة قرب حصول المجاوزة ، أو المؤمنون الذين عبروا النهر كانوا فريقين : منهم من يكره الموت ويغلب الخوف والجزع على طبعه وهم الذين قالوا : لا طاقة لنا ، ومنهم من كان شجاعاً قوي القلب وهم الذين أجابوا بقولهم { كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة } أو أنهم لما شاهدوا قلة عسكرهم قال بعضهم : لا طاقة لنا اليوم . فلا بد أن نوطن أنفسنا للقتل .
وقال الآخرون : بل نرجو من الله الفتح والظفر . فكأن غرض الأولين الترغيب في الشهادة والفوز بالجنة ، وغرض الآخرين التحريض على رجاء الفتح والظفر ، وكلا الغرضين محمود . والطاقة اسم بمنزلة الإطاقة . يقال : أطقت الشيء إطاقة وطاقة ومثلها أطاع إطاعة والاسم الطاعة وأغار إغارة والاسم الغارة ، وأجاب يجيب إجابة والاسم الجابة . وفي المثل « أساء سمعاً فأساء جابة » أي جواباً ومعنى قوله { يظنون أنهم ملاقوا الله } يغلب على ظنونهم أنهم لا يتخلصون من الموت . عن قتادة : أو يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله بسبب هذه الطاعة ، وذلك أن أحداً لا يعلم عاقبة أمره ، وعن أبي مسلم : أوَتظنون أنهم ملاقو طاعة الله من غير رياء وسمعة وبنية خالصة ، أو أنهم عرفوا مما في التابوت من الكتب الإلهية يقين النصر والظفر إلا أن حصول ذلك في المرة الأولى ما كان إلا على سبيل الظن ، أو المراد بقوله { يظنون } يعلمون ويوقنون لما بين اليقين والظن من المشابهة في تأكد الاعتقاد ، والفئة الجماعة لأن بعضهم قد فاء إلى بعض فصاروا جماعة ، وقال الزجاج : هي من قولهم « فأوت رأسه بالسيف » وفأيت أي قطعت كأن الفئة قطعة من الناس . والمراد تقوية قلوب الذين قالوا : لا طاقة لنا إذ العبرة بالتأييد الإلهي والنصرة الإلهية ، فإذا جاءت الدولة فلا مضرة في القلة والذلة ، وإذا جاءت المحنة فلا منفعة في كثرة العدد والعدة ، ومحل « كم » رفع بالابتداء و { غلبت } الجملة خبره ، { بإذن الله } بتيسيره وتسهيله . { والله مع الصابرين } بالمعونة و التأييد يحتمل أن يكون من قوله تعالى وأن يكون من قول الذين يظنون .
قوله سبحانه { ولما برزوا لجالوت وجنوده } الآية البراز الأرض الفضاء ومنه البروز والمبارزة في الحرب كأن كل واحد منهما حصل بحيث يرى صاحبه . واعلم أن العلماء والأقوياء من عسكر طالوت لما قرروا مع ضعفائهم وعوامهم أن الغلبة لا تتعلق بكثرة العدد وأن النصر والظفر بإعانة الله اشتغلوا بالدعاء و { قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً } وهكذا كان يفعل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما روي في قصة بدر أنه كان يصلي ويستنجز من الله وعده ، وكان متى لقي عدواً قال : « اللهم إني أعوذ بك من شرورهم وأجعلك في نحورهم ، اللهم بك أصول وبك أجول » . والإفراغ إخلاء الإناء مما فيه ، وإنما يخلو بصب كل ما فيه فيفيد المبالغة . أي صب علينا أتم صبر وأبلغه وهذا هو الركن الأعظم في المحاربة ، فإنه إن كان جباناً لم يجد بطائل . ثم إن الشجاع مع ذلك يحتاج إلى الآلات والعدد والاتفاقات الحسنة حتى يمكنه أن يقف ويثبت ولا يصير ملجأ إلى الفرار ، فاقترحوها بقولهم { وثبت أقدامنا } ثم إنه مع كل هذه الأشياء يفتقر إلى أن تزيد قوته على قوة عدوه حتى يغلبهم وهو المراد بقولهم { وانصرنا على القوم الكافرين } فلا جرم استجاب الله دعاءهم { فهزموهم } كسروهم { بإذن الله } بتوفيقه وإعانته { وقتل داود جالوت } عن ابن عباس أن داود كان راعياً ومعه سبعة إخوة مع طالوت ، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم أيشا أرسل ابنه داود - وكان صغيراً - إليهم ليأتيه بخبرهم ، فأتاهم وهم في المصاف ، وبرز جالوت الجبار وكان من قوم عاد وكانت بيضته فيها ثلثمائة رطل من الحديد ، فلم يخرج إليه أحد فقال : يا بني إسرائيل ، لو كنتم على الحق لبارزني بعضكم .
فقال داود لإخوته : أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوه . فذهب إلى ناحية من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت وهو يحرّض الناس فقال له داود : ما تصنعون لمن يقتل هذا؟ فقال طالوت : أنكحه ابنتي وأعطيه نصف مملكتي . فقال داود : فأنا خارج إليه . وكانت عادته أنه يقاتل بالمقلاع الذئب والأسد في المرعى وكان طالوت عارفاً جلادته فلما هم داود بأن يخرج إلى جالوت مر بثلاثة أحجار فقلن : يا داود خذنا معك ففينا ميتة جالوت . ثم لما خرج إلى جالوت رماه فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه وقتل بعده ناساً كثيراً . قيل : فحسده طالوت ولم يف له وعده ثم ندم على صنيعه فذهب يطلبه إلى أن قتل . { وآتاه الله الملك } في مشارق الأرض المقدسة ومغاربها { والحكمة } أي النبوّة لأن الحكمة وضع الأمور موضعها على الوجه الأصوب والنحو الأصلح . وكمال هذا المعنى إنما يحصل بالنبوة ، والمشهور من أحوال بني إسرائيل ، أن الله تعالى كان يبعث إليهم نبياً وعليهم ملكاً كان ذلك الملك ينفذ أمور ذلك النبي ، وكان نبي ذلك الزمان أشمويل وملكه طالوت ، فلما توفي أشمويل أعطى الله دود النبوّة ، ولما توفي طالوت أعطى الله الملك إياه أيضاً ، ولم يجتمع الملك والنبوّة على أحد من بني إسرائيل قبله . ويروى أن بين قتله جالوت وبين ما أعطاه الله الملك والحكمة سبع سنين . قال بعضهم : هذا الإتيان جبراً له على ما فعل من الطاعة وبذل النفس في سبيل الله ، ولا ممتنع في جعل النبوّة جزاء على بعض الطاعات كما قال تعالى : { ولقد اخترناهم على علم على العالمين } [ الدخان : 32 ] وقال : { الله أعلم حيث يجعل رسالته } [ الأنعام : 124 ] ولهذا ذكر بعده حديث الهزيمة والقتل . وترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية لا سيما وقد نطقت الأحجار معه ، وقد قهر العدو العظيم المهيب بالآلة الحقيرة . وقال آخرون : إن النبوّة لا يجوز جعلها جزاء على الأعمال ولكنها محض عناية الله تعالى ببعض عبيده كما قال : { الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس } [ الحج : 75 ] فإن قيل : لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات ، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي .
{ وعلمه مما يشاء } قيل : هو صنعة الدروع لقوله { وعلمناه صنعة لبوس لكم } [ الأنبياء : 80 ] وقيل : منطق الطير { علمنا منطق الطير } [ النمل : 16 ] وقيل : ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة . وقيل : علم الدين والقضاء { وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب } [ ص : 20 ] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبياً أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم { وقل ربي زدني علماً } [ طه : 114 ] { ولولا دفع الله } معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمع جماحاً وكتب كتاباً وقام قياماً ، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه ، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله { إن الذين يحادّون الله ورسوله } [ المجادلة : 20 ] .
واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس ، والمدفوع به وهو البعض الآخر . وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي ، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن . فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « الملك والدين توأمان » « الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع » وعلى هذا فمعنى قوله { لفسدت الأرض } أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران . وقيل : المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار . ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين . وقيل : المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله ، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد ، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين » ثم تلا هذه الآية { ولكنّ الله ذو فضلٍ على العالمين } بسبب ذلك الدفاع . وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله .
التأويل : فقوله { ألم تر إلى الملأ } أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا ، عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان ، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان ، وهذا حال أكثر مدّعي الإسلام والإيمان والذين يزعمون نصلي ونصوم ونحج ونزكي لله وفي الله باللسان دون صدق الجنان ، وسيظهر ما كان لله وما كان للهوى في كفتي الميزان { فلما كتب عليهم القتال } تبين الأبطال من البطال { فتولوا إلا قليلاً منهم } وأن أهل الحق أعز من العنقاء وأعوز من الكيمياء .
تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
تعيرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنما لم ينل المدعون مقصودهم لأنه لم تخلص لله قصودهم ولو أنهم قالوا : { وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله } وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وأنه سيدنا ومولانا فلعل الله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم كما قال قوم من السعداء في أثناء البكاء والصعداء { وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين } { المائدة : 84 ] فلا جرم أثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين . { إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً } فيه إشارة إلى أن الحكم الإلهية حلت وتجلت في جلباب تعاليها عن إدراك العقول البشرية كنه معنى من معانيها ، ولهذا . قالوا : { أنى يكون له الملك علينا } وليس هذا بأعجب من قول المقرّبين المؤيدين بالأنوار القدسية { أتجعل فيها من يفسد فيها } [ البقرة : 30 ] واستحقاراً لشأن آدم واحتجاباً بحجب الأنانية والنحنية ، فلما تكبر بنو إسرائيل وقالوا : { نحن أحق بالملك } وضعهم الله وحرموا الملك ، ولما تواضع طالوت لله وقال : كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل ، رفعه الله وأعطاه الملك . ولما تفوقت الملائكة وترفعوا بقولهم { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] أمرهم بالسجود لآدم ، ولما عرضت الخلافة على آدم فتواضع لله وقال : ما للتراب ورب الأرباب أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة { إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } فيه إشارة إلى أن آية خلافة العبد أن يظفر بتابوت قلب { فيه سكينة } من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] { بقية مما ترك آل موسى } هو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي الثعبان الذي إذا فغر فاه تلقف عظيم سحر سحرة صفات فرعون النفس . وإن تابوتهم الذي فيه سكينتهم كان يتداوله أيدي الحدثان ، وتابوت قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، وإن كان في تابوتهم بعض التوراة ففي تابوت قلب المؤمن جميع القرآن ، وإن كان في تابوتهم صور الأنبياء ففي تابوت المؤمن رب الأرض والسماء كما قال : « لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن » فإذا حصل لطالوت الروح الإنساني تابوت القلب الرباني سلم له ملك الخلافة ، وإنقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلا يركن إلى الدنيا و يتجهز لقتال جالوت النفس الأمارة { إن الله مبتليكم بنهرٍ } هو نهر الدنيا وما زين للخلق فيها
{ زين للناس حب الشهوات } [ آل عمران : 14 ] ليظهر المحسن من المسيء ويميز الخبيث من الطيب { إلا من اغترف غرفة بيده } قنع من متاع الدنيا بما لا بد له منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار ، وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً » أي ما يمسك رمقهم { لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده } لأن من شرب من نهر الدنيا ماء شهواتها ولذاتها وتجاوز عن حد الضرورة فيها لا يطيق قتال جالوت النفس وجنود صفاتها وعسكر هواها ، لأنه صار معلولاً مريض القلب فبقي على شط نهر الدنيا { رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها } [ يونس : 7 ] { ولما برزوا لجالوت وجنوده } فيه إشارة إلى أن المجاهد في الجهاد الأكبر لا يقوم بحوله وقوته لقتال النفس إلا إذا رجع إلى ربه مستعيناً به مستغنياً عن غيره قائلاً { ربنا أفرغ علينا صبراً } على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى والإعراض عن زينة الدنيا { وثبت أقدامنا } على التسليم في الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام القضاء في السراء والضراء { وانصرنا على القوم الكافرين } وهم أعداؤنا في الدين عموماً ، والنفس الأمارة وصفاتها التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصاً { فهزموهم بإذن الله } بنصرته وقوته { وقتل داود } القلب { جالوت } النفس الخ . وأخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صار الثلاثة حجراً واحداً وهو الالتفات إلى غير المولى ، فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فرمى به جالوت النفس ، فسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها ، وخالط دماغها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من روائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها ، وهزم الله باقي جيشها وهي الشياطين وأحزابها ، وآتاه الله ملك الخلافة وحكمه الإلهامات الربانية ، وعلمه مما يشاء من حقائق القرآن وإشاراته { ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض } يعني أرباب الطلب بالمشايخ البالغين الواصلين الهادين المهتدين كما قال { ولكل قوم هاد } [ الرعد : 7 ] لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن التقويم عن استيلاء جالوت النفس بتبديل أخلاقها وتكدير صفائها { ولكن الله ذو فضلٍ على العالمين } فمن كمال فضله ورحمته حرك سلسلة طلب الطالبين وألهم أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين ، ووفقهم للتمسك بذيول تربيتهم ووقفهم على التشبث بأهداب سيرهم ، وثبتهم على الرياضات في حال تزكيتهم كما قال : { ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحد أبداً ولكن الله يزكي من يشاء } [ النور : 21 ] .
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
القراآت : { لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعة } بالفتح غير منون : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير؛ الباقون : بالرفع والتنوين . وكذلك في سورة إبراهيم : { لا بيع فيه ولا خلال } [ الآية : 31 ] وكذلك في سورة الطور : { لا لغو فيها ولا تأثيم } [ الآية : 23 ] .
الوقوف : بالحق ط للابتداء ، بأن المرسلين 5 على بعض م؛ لأنه لو وصل صار الجار والمجرور صفة لبعض فينصرف بيان تفضيل الرسل إلى بعض ، فيكون موسى عليه السلام من هذا البعض المفضَّل عليه غيره لا من البعض المفضَّل على غيره بالتكليم . درجات ط للعدول ، القدس ط ، من كفر ط ، ما يريد ، ولا شفاعة ط ، الظالمون 5 .
التفسير : { تلك } القصص المذكورة من حديث الألوف وإماتتهم ثم إحيائهم ، ومن تمليك طالوت وظهور الآية التى هى إتيان التابوت ، وغلبة الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير؛ { آيات الله } الباهرة الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته؛ { نتلوها عليك } بتلاوة جبرائيل وفيه تشريف عظيم لجبرائيل كقوله : { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] { بالحق } باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت ، ولأن في تلاوتها حكمة شريفة وهي اعتبار المكلفين من أمتك ليحتملوا شدائد الجهاد كما احتملها الأمم السالفة ، ولأنها تدل على نبوّتك من قبل أنها أخبار بالغيب لما فيها من الفصاحة والبلاغة . ثم أكّد ذلك بقوله : { وإنك لمن المرسلين } حيث تخبر بها من غير أن تعرف بقراءة ودراسة ، وفيه أيضاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فيما يراه من الكفار وأهل النفاق من الخلاف والشقاق كما رآه الرسل قبله ، فالمصيبة إذا عمت طابت . ولمثل هذا كرر فقال : { تلك الرسل } أي الذين تعرفهم وأنت من جملتهم { فضلنا بعضهم على بعض منهم من } فضله الله بأن كمله الله من غير سفير وهو موسى عليه السلام { ورفع بعضهم درجات } قيل إن { درجات } نصب بنزع الخافض ، وقيل رفع لبعضهم كقوله : { ورفعناه مكاناً علياً } [ مريم : 57 ] أي له ، وقيل حال من بعضهم أي ذا درجات ، وقيل مصدر في موضع الحال ، وقيل انتصابه على المصدر لأن الدرجة بمعنى الرفعة فكأنه قال : ورفعنا بعضهم رفعات . وأيَّد عيسى بروح القدس ومع ذلك قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك بعد مشاهدة المعجزات وأنت رسول مثلهم ، فلا تحزن على ما ترى من قومك ولو شاء الله لم يختلف أمم أولئك ، ولكن ما قضاه الله فهو كائن وما قدره فهو واقع .
واعلم أن الأمة أجمعت على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، وعلى أن محمداً أفضل الكل لوجوه منها قوله تعالى : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] ومنها قوله : { ورفعنا لك ذكرك } [ الشرح : 4 ] قرن ذكره بذكر محمد صلى الله عليه وسلم في كلمة الشهادة وفي الأذان وفي التشهد ، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء؛ ومنها أنه قرن طاعته بطاعته :
{ من يطع الرسول فقد أطاع الله } [ النساء : 80 ] وبيعته ببيعته { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [ الفتح : 10 ] وعزته بعزته : { ولله العزة ولرسوله } [ المنافقون : 8 ] ورضاه برضاه { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [ التوبة : 62 ] وأجابته بإجابته { يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول } [ الأنفال : 24 ] ومحبته بمحبته : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله } [ آل عمران : 31 ] . ومنها أن معجزاته أكثر وقد ترتقي إلى ألف من جملتها القرآن ، بل القرآن يشتمل على ألفي معجزة وأزيد ، لأن التحدي وقع بأقصر سورة هي الكوثر وإنها ثلاث آيات ، وكل ثلاث آيات من القرآن تصلح للتحدي فيكون معجزاً برأسه . ومنها أن معجزته ، وهي القرآن ، باقية على وجه الدهر ومعجزاتهم قد انقضت وانقرضت مع أن معجزته من جنس ما لا يبقى زمانين وهي الأصوات والحروف ومعجزاتهم من جنس ما يبقى مدة طويلة . ومنها أنه اجتمع فيه من الخصال الجميلة والخلال المرضية ما كان متفرقاً فيهم وإليه الإشارة بقوله : { أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده } [ الأنعام : 90 ] أي أطلعناك على أحوالهم وسيرهم فاختر أنت منها أجودها وأحسنها ، فإنه لا يجوز أن يكون مأموراً بالاقتداء بهم في أصول الدين لأنه تقليد ، ولا في الفروع فإن شرعه ناسخ الشرائع ، فإذن المراد محاسن الأخلاق . ومنها أنه بعث إلى الخلق كافة وكان يتحمَّل أعباء الرسالة أكثر فيكون ثوابه أزيد . ومنها أن هذا الدين أفضل وإلا لم ينسخ به سائر الأديان فيكون شارعه أفضل ، ومنها أن أُمَّته أفضل : { كنتم خير أمة أخرجت للناس } [ آل عمران : 110 ] وإذا كان التابع أفضل فالمتبوع أفضل . ومنها أن أمته أكثر لكونه مبعوثاً إلى الجن والإنس ، ولا يخفى أن لكثرة التابعين أثراً قوياً في علو شأن المتبوع . ومنها أن كل نبيٍّ نودي في القرآن فقد نودي باسمه .
{ يا آدم اسكن } [ البقرة : 35 ] ، { يا موسى إني أنا الله } [ القصص : 30 ] ، { وناديناه أن يا إبراهيم } [ الصافات : 14 ] ، { يا عيسى إني متوفِّيك } [ آل عمران : 55 ] . وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه نودي بقوله : { يا أيها النبي } [ الأنفال : 64 وغيرها كثير ] { يا أيها الرسول } [ المائدة : 41 ، 67 ] ، بل أقسم بحياته ، { لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } [ الحجر : 72 ] .
وأما الأحاديث في هذا الباب؛ فعن ابن عباس قال : « جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتذاكرون وهم ينتظرون خروجه . قال : فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم فقال بعضهم لبعض : عجباً إن الله تبارك وتعالى اتخذ من خلقه خليلاً واتخذ إبراهيم خليلاً . وقال آخر : ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليماً . وقال آخر : ماذا بأعجب من جَعْل عيسى كلمة الله وروحه . وقال آخر : ماذا بأعجب من آدم اصطفاه الله عليهم وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته . فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه وقال : » قد سمعت كلامكم وعجبكم أن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وأن موسى نجيّ الله وهو كذلك ، وأن عيسى روح الله وكلمته وهو كذلك ، وأن آدم اصطفاه الله وهو كذلك . ألا وأنا حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين على الله ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول شفيع يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول من يحرّك حلق الجنة فيفتح الله لي فيُدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر « »
وفي الصحيحين عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : كان كل نبي يُبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود ، وأحِلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجُعلت لي الأرض طيبة وطهوراً ومسجداً فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان ، ونُصرت بالرعب على العدو بين يدي مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة » وروى البيهقي في كتابه في فضائل الصحابة « ظهر علي بن أبي طالب من البعيد فقال النبي صلى الله عليه وسلم » هذا سيد العرب « فقالت عائشة : ألست سيد العرب؟ فقال : » أنا سيد العالمين وهو سيد العرب « » ومما يؤكّد هذه المعاني ما ركز في العقول أن ذخائر كل ملك ينبغي أن تكون على مقدار من تحت تملكه فأمير المدينة يحتاج إلى عدة أكثر من عدة ريئس القرية . ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعمّ من نبوة سائر الأنبياء فإنه مبعوث إلى الثقلين كافة ، فلا جرم أُعطي من كنوز العلم والحكمة وذخائز المعارف والحقائق ، ومن جوامع الكلم وبدائع الحكم ومحاسن العادات ومكارم الأخلاق ما لم يؤت نبي قبله ولن يؤتى أحد بعده .
هذا وقد طعن فيه بعض الملحدة بأن معجزات سائر الأنبياء كانت أعظم من معجزاته؛ فآدم جُعل مسجود الملائكة ، وإبراهيم ألقي في النار فانقلبت روحاً وريحاناً ، وأُوتي موسى العصا واليد البيضاء ، وداود لان الحديدُ في يده ، وسليمان أُعطي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وكان الجن والإنس والطير مُسَخرين له ، وقد اعترف محمد بفضلهم حتى قال : « لا تفضلوني على يونس بن متى » وقال : « لا تخيروا بين الأنيباء » وقال « لا ينبغي لأحد أن يكون خيراً من يحيى بن زكريا » وذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولم يهم بها . والجواب أن كون آدم مسجوداً للملائكة لا يوجب كونه أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم : « آدم ومَنْ دونه تحت لوائي يوم القيامة » وقوله : « كنت نبياً وآدم بين الماء والطين » ونُقل أن جبريل عليه السلام أخذ ركاب محمد صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج وهذا أعظم من السجود ، وأنه تعالى يصلي بنفسه على محمد إلى يوم القيامة ، وسجود الملائكة لآدم ما كان إلا مرَّة واحدة على أن ذلك السجود أيضاً إنما كان لأجل نور محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان في جبهته ، وأن أول الفكر آخر العمل ولهذا قال : « لولاك لولاك لما خلقت الأفلاك » ومَنْ تأمَّل كتب دلائل النبوة وجد في مقابلة كل معجزة كان لنبي قبله معجزة أفضل منها لمحمد صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : « لا تفضلوني . . . ولا تخيروا » ، فنوع من التواضع وسلوك طريق الأدب . وأيضاً التمييز بين الشخصين إنما يمكن بعد الإحاطة بفضائلهما جميعاً وذلك مرتبة لا تليق بكل أحد ، فورد النهي عنه حتى لا يؤدي إلى محذور . والحاصل أن التوفيق بين قوله « لا تفضلوني » وبين ما مرّ من الأحاديث أن كلاً منهما ورد في مقام آخر ولغرض آخر ، فحيث رآهم يزدرون بشأنه ويتعجبون من الأنبياء السالفة منعهم عن ذلك ، وقال : « أنا أكرم الأولين والآخرين وأنا سيد العالمين » وحيث رآهم يزدرون بشأن بعض الأنبياء زجرهم عن ذلك وقال : « لا تفضلوني »؛ على أنه لا يلزم من النهي عن شيء عدم مطابقة ذلك الشيء ، للواقع فقد يكون الشيء حقاً في الواقع وينهى عن الاشتغال به لكونه غير مهم بالنسبة إلى المكلف ، فالمراد بهذا الأمر : لا تشتغلوا بتفضيلي فإنه لا يهمّكم ، وإنما المهم لكم أن تعرفوا حقية جميع الأنبياء وتؤمنوا بهم .
ولنرجع إلى ما كنا فيه فقوله : { من كلم الله } التقدير : من كلمه ، فحذف العائد وقرىء كلم الله بالنصب وليس بقوي؛ فإن كلّ مصلٍّ فإنه يكلم الله قال صلى الله عليه وسلم « المصلي يناجي ربه » وإنما الشرف في أن يكلمه الله قال الأشعري : المسموع هو الكلام القديم الأزلي ولا يستبعد سماع ما ليس بحرف ولا صوت ، كما لا يمتنع رؤية ما ليس بمكيف ولا في جهة . وقالت المعتزلة : سماع ما ليس بحرف ولا صوت محال . واتفقوا على أن موسى قد كلمه الله واختُلف في أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج هل كلمه الله أم لا؛ منهم مَنْ قال نعم بدليل قوله : { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] وأورد ههنا أن التكليم لا يدل على فضل ومنقبة ، فقد كلم الله إبليس حيث قال : { أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين } [ الأعراف : 14 ، 15 ] الآيات ، وأجيب بأن قصة إبليس ليس فيها ما يدل على أنه تعالى كلّمة من غير واسطة ، فلعلّ الواسطة كانت موجودة ، قلت : هذا خلاف الظاهر والحق أن المكالمة قسمان : مكالمة الرضا وهي الموجبة للتشريف كمكالمة موسى ، ومكالمة الغضب وهي الموجبة للعن كما في حق إبليس :
{ وأن عليك اللعنة إلى يوم الدين } [ ص : 78 ] وكما في أهل النار : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } [ المؤمنون : 108 ] .
أما قوله : { ورفع بعضهم درجات } فقيل : المراد بيان أن الرسل مراتبهم متفاوتة فاتخذ إبراهيم خليلاً ، وأعطى داود الملك والنبوة ، وسخر لسليمان الجن والإنس والطير والريح . وخصّ يحيى بالعفة والطهارة وعدم الحاجة إلى النسوان ، وخصّ محمداً صلى الله عليه وسلم بالبعث إلى الثقلين وكونه خاتم النبيين إلى سائر خصائصه . هذا إذا حملنا الدرجات على المناصب والمراتب . أما إذا حملناها على المعجزات ففيه أيضاً وجه؛ وذلك أن كل واحد من الأنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزة لائقاً بزمانه؛ فمعجزات موسى من قلب العصا حية ومن اليد البيضاء وفلق البحر كانت شبيهة بما عليه أهل زمانه من السحر ، ومعجزات عيسى من إبراء الأكمه والأبرص تناسب للطب لأن كل ذلك غالب على قومه ، ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم وهي القرآن تضاهي ما عليه الناس وقتئذٍ من الفصاحة والبلاغة وإنشاء الخطب وقرض الشعر . وبالجملة فالمعجزات متفاوتة بالقلة والكثرة ، وبالبقاء وعدم البقاء ، وبالقوة وعدم القوة . وفيه وجه ثالث وهو أن يكون المراد بتفاوت الدرجات يتعلق بالدنيا وهو كثرة الأُمة والصحابة وقوة الدولة . وإذا تأملت الوجوه الثلاثة علمت أنّ محمداً صلى الله عليه وسلم كان مستجمعاً للكل؛ فمنصبه أعلى ، ومعجزته أقوى وأبقى ، وقومه أكثر ، ودولته أعظم وأوفر ، وقيل : المراد بهذه الآية محمد صلى الله عليه وسلم لأنه هو المفضَّل على الكل . وإنما قال : { ورفع بعضهم درجات } على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل عظيماً فيقال له : من فعل هذا؟ فيقول : أحدكم أو بعضكم ، ويريد به نفسه ، ويكون ذلك أفخم من التصريح به . وسئل الحطيئة عن أشعر الناس فذكر زهيراً والنابغة ثم قال : ولو شئت لذكرت الثالث ، أراد نفسه . ولو قال : ولو شئت لذكرت نفسي ، لم يبق فيه فخامة . وليس قوله { ورفع بعضهم درجات } تكراراً لقوله { فضلنا بعضهم على بعض } لأن المفهوم من قوله { فضلنا } هو وجود نفس الفضل . والمفهوم من قوله { ورفع بعضهم درجات } هوالتفاوت بالدرجات الكثيرة .
{ وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس } قد سبق تفسيره ، وإنما عدل عن الغيبة إلى الحكاية لأن الضمير في قوله { وآتينا } للتعظيم وتعظيم المؤتى يدل على عظمة الإيتاء ، وأما قوله { كلم الله } فأهيب من قوله { كلمنا } فلهذا اختير الغيبة . وسبب تخصيص موسى وعيسى بالذكر هو أن أمتهما موجودون حاضرون ، فنبَّه على أن هذين الرسولين مع علو درجتهما وتبيُّن معجزاتهما ، لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما بل نازعوا وخالفوا ، وعن الواجب عليهم في طاعتهما أعرضوا ثم إن الرسل بعد مجيء البينات ووضوح الدلائل اختلف أقوامهم فمنهم مَنْ آمن ومنهم مَنْ كفر ، وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا وتحاربوا ، فلهذا قال تعالى : { ولو شاء الله } أي أن لا يقتتلوا ما اقتتل الذين من بعدهم لاختلافهم في الدين وتكفير بعضهم بعضاً ولكن اختلفوا فمنهم من آمن لالتزامه دين الأنبياء ، ومنهم من كفر بإعراضه عنه ولو شاء الله ما اقتتلوا .
كرر الكلام تكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ، ولكن الله يفعل ما يريد . وفي الآية دلالة على صحة مسألة خلق الأعمال ، ومسألة إرادة الكائنات ، وأن الكل بقضاء الله وقدره ، لأن الدواعي تستند لا محالة إلى داعية يخلقها الله عز وجل في العبد ، والمعتزلة يقيدون المطلق في الآيتين فيقولون المراد ولو شاء الله مشيئة الجاء وقسر كما يقال لو شاء الإمام لم يعبد المجوس النار في مملكته ولم يشرب النصارى الخمر ويقولون المراد يفعل ما يريد من أفعال نفسه . ثم إنه تعالى لما أمر بالقتال فيما سبق بقوله { وقاتلوا في سبيل } [ البقرة : 190 ] وأعقبه بقوله { منْ ذا الذي يقرض الله } [ الحديد : 11 ] ، والغرض منه الإنفاق في الجهاد ، ثم أكّد الأمر بالقتال وذكر فيه قصة طالوت ، أعقبه تارة أخرى الأمر بالإنفاق في الجهاد بقوله { يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم } وعن الحسن أنه مختص بالزكاة لأن قوله { من قبل أن يأتي يوم } كالوعيد وأنه لا يتوجه إلا على الواجب ، والأكثرون على أنه عام يتناول الواجب والمندوب . وليس في الآية وعيد وإنما الغرض أن يعلم أن منافع الآخرة لا تكتسب إلا في الدنيا ، وأن الإنسان يجيء وحده وما معه إلا ما قدم من أعماله .
ومعنى قوله { لا بيع } أنه لا تجارة فيه فيكتسب ما يفتدى به من العذاب ، أو يكتسب مالاً حتى ينفق منه ، { ولا خلة } لا مودة ، لأن كلّ أحد يكون مشغولاً بنفسه لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه ، أو لأن الخوف الشديد غالب على كل أحد يوم تذهل كل مرضعة عما أَرضعت . ثم إنه لما نفى الخلة والشفاعة مطلقاً ذكر عقيبة قوله { الكافرون هم الظالمون } ليدلّ على أن ذلك النفي مختص بالكافرين وعلى هذا فتصير الآية دالة على ثبوت الشفاعة في حق الفسَّاق . نقل عن عطاء بن يسار أنه كان يقول : الحمد لله الذي قال والكافرون هم الظالمون ، ولم يقل والظالمون هم الكافرون . وقيل أراد والتاركون الزكاة هم الظالمون ، لأنهم تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم ، فقال { والكافرون } للتغليظ كقوله { ومن كفر فإن الله غني عن العالمين } [ آل عمران : 97 ] أي ومن لم يحج . وقيل المراد . إن الكافرين إذا دخلوا النار فالله لم يظلمهم بذلك ، بل هم الذين ظلموا أنفسهم باختيار الكفر والفسق . فهو كقوله { ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً } [ الكهف : 49 ] وقيل « الكافرون » هم الذين وضعوا الأمور في غير مواضعها لتوقعهم الشفاعة من الأصنام ، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله . وقيل المعنى والكافرون هم التاركون الإنفاق في سبيل الله من قوله
{ آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا } [ الكهف : 33 ] وأما المسلم فإنه ينفق في سبيل الله قل أم كثر . وفائدة الفصل أنهم الكاملون في الظلم البالغون فيه المبلغ العظيم .
التأويل : { تلك آيات الله } أسراره وأنواره ورموزه وإشاراته { نتلوها عليك بالحق } نجلوها عليك بالحقيقة كما هي { وإنك لمن المرسلين } الذين عبروا هذه المقامات وشاهدوا تلك الأحوال والكرامات ، وصح لهم صفاء الأوقات ولذة المناجاة في الخلوات ، ثم فطموا عن ألبان تلك اللذات في حجر القربات ، وأرسلوا إلى أهل الغدر والغفلات وعبدة طواغيت الهوى وأصنام الشهوات ، ليدعوهم من دار الغرور إلى دار السرور ويخرجونهم من الظلمات إلى النور ، ولكنهم ما صاحبوك في الجلوات فإنهم بقوا في السموات وأنت عبرت المكونات { فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 9 ، 10 ] فوصلت من العبدية إلى العندية ، ثم فطمت عن رضاع لي مع الله وقت ، وابتليت بسفارة جبريل ، ثم لقيت من القوم ما لقيت ، فحق لك أن تقول : « ما أوذي نبي مثل أوذيت » لأن غيرك ما سقي من شرب ما سقيت فما أوذي بفطام مثل ما أوذيت .
{ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } إشارة إلى أن التفاضل في الدين والدنيا بين العباد ليس بسعيهم ومناهم وإنما هو بتفضيل الله إياهم ، فلكلّ من أهل الفضل أنوار ، ولأنوارهم آثار على قدر استعلاء أضواء أنوارهم لا على قدر سعيهم واختيارهم . وهذا التفاوت صارد من تلك الأقسام حين جرت به الأقلام ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رشّ عليهم من نوره فمن أصابه من ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل وغوى » ثم إن الفضل فضلان : عام يمتاز به عن المردودين { إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون } [ الأنبياء : 101 ] ؛ وخاص يمتاز به عن المقبولين كما ثبت لسيد المرسلين . والتفاوت في الأنوار على قدر التفاوت في الظلمات المخلوقة المستعدة لقبول النور في بدر الخلقة لا في حقيقة النور ، فإنه موصوف بالوحدة ، ولهذا ورد بلفظ الوحدان في قوله { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] { ويخرجهم من الظلمات إلى النور } [ المائدة : 16 ] . والرفعة في الدرجات في قدر قوة الاستعلاء ، كما قال : { والذين أوتوا العلم درجات } [ المجادلة : 11 ] فالعلم هو الضوء من نور الوحدانية؛ فكلما ازداد العلم ازدادت الدرجة ، وعلى قدر غلبات أنوار التوحيد على ظلمات الوجود كانت مراتب الأنبياء بعضها فوق بعض . فقد يبقى بعضهم في مكان من أماكن السموات ، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه رأى آدم ليلة المعراج في السماء الدنيا ، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في السماء الثالثة ، وإدريس في السماء الرابعة ، وهارون في السماء الخامسة ، وموسى في السماء السادسة ، وإبراهيم عليه السلام في السماء السابعة ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما بقي في مكان بل رفع به إلى سدرة المنتهى ثم إلى قاب قوسين أو أدنى ، لأنه كان فانياً بالكلية عن ظلمة وجوده باقياً بنور شهود ربه ، ولهذا سماه الله نوراً
{ قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [ المائدة : 15 ] : ثم لما أخبر عن فضيلة الخواص بأنها كانت بسبب تفضيله إياهم ، أخبر عن اختلاف العوام وافتراقهم أنه كان بمشيئته لا بمشيئتهم فقال : { ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم } ثم أخبر عن إحراز الفضل أنه في الإنفاق والبذل فخاطب أهل الإيمان أي : إن كان إيمانكم بالبعث والنشور والثواب والعقاب والجنة والنار حقّاً فتصدقوا من كل ما رزقناكم من المال والجاه والقوة والقدرة والعلم والمعرفة وغيرها في مصارفها العامة والخاصة ، أنفقوا ملكنا ومالنا في صلاح أنفسكم واغتنموا مساعدة الإمكان في تقديم الإحسان مع الإخوان ، { من قبل أن يأتي يوم } لا يشترى فيه ما يباع من الأموال والأنفس في سوق { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] ولا ينفعه خلة خليل دنيوي ، لأن { الأخلاَّء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين } [ الزخرف : 67 ] { ولا شفاعة } لأنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى ، { والكافرون هم الظالمون } لأنفسهم لأنا أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب وأمرناهم بالإنفاق ووعدناهم الثواب وحذرناهم العقاب وقد أعذر من أنذر . والله المستعان .
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
القراآت : تعرف ممَّا مرَّ .
الوقوف : { إلا هو } ج ، لأن قوله : { الحي القيوم } يصلح بدلاً عن الضمير وخبر ضمير آخر محذوف { القيوم } ج لاختلاف الجملتين ، { ولا نوم } ط ، { وما في الأرض } ط لابتداء الاستفهام . { بإذنه } ط لانتهاء الاستفهام . { وما خلفهم } ج للفرق بين الأخبار عن علمه الكامل مطلقاً وإثبات علم الخلق المقدر لمشيئته مبتدأ بالنفي . { بما شاء } ج لاختلاف الجملتين . { حفظهما } ج { العظيم } ه . { الغي } ج ، لأن من للشرط مع فاء التعقيب . { الوثقى } ط قد قيل للاستئناف بالنفي والوجه الوصل على جعل الجملة حالاً للعروة أي : استمسك بها غير منفصمة { لها } ط . { عليم } ه . { آمنوا } لا ، لأن { يخرجهم } حال والعامل معنى الفعل في { ولي } تقديره : الله يليهم مخرجاً لهم أو مخرجين { إلى النور } ط للفصل بين الفريقين : { الطاغوت } لا ، لأن { يخرجونهم } حال . إلى الظلمات ط . { النار } ج . { خالدون } ه . التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام ، وعلم القصص بعضها ببعض . والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضاً رحمة شاملة ولطف كامل؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه . وإذ قد تقدَّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد .
فقال { الله لا إله إلا هو الحى القيوم } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال « ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة » وعن عليّ رضي الله عنه : « سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره والأبيات حوله » وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم من آية الكرسي؟ . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يا علي سيد البشر آدم عليه السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي » وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلتُ ثم جئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول :
« يا حي يا قيوم » لا يزيد على ذلك . ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك . فلا أزال أذهب وارجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له .
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعالٍ عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات . ولنشتغل بالتفسير .
أما لفظ « الله » فقد مرَّ تفسيره في أول الكتاب . وأما قوله { لا إله إلاَّ هو } فقد سبق تفسيره في قوله { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } وأما { الحي القيوم } فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، لا أنا نزيد ههنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله « الحي القيوم » . ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذٍ في السجود . وأما الدليل العقلي فإن « الحي » قبل هو الذي يصلح أن يعلم ويقدر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك . ونحن نقول إن « الحي » في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملاً في جنسه فإنه يسمَّى حيًّا . ومن ههنا يصحُّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض . فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضيرة . ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة . فالمفهوم من « الحي » هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته . وأما « القيوم » فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره . والثاني أنَّ غيره يفتقر في قوامه إليه ، وبهذا الثاني يزيد على مفهوم « الحي » . ومن هذين الأصلين يتشعَّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوماً؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيُّن فيكون كلّ منهما مركّباً من جزأين فلا يكون قيوماً ولا حيَّا ، فإن كلّ مركّب مفتقِرٌ وكل مفتقِرٍ ممكنٌ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزاً لأن كلَّ متّحيزٍ منقسمٌ ، قد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يُشار إليها ، وإلا كان متحيزاً؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذلك؛ ومنها أنه عالم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيًّا قيوماً كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجبُ العلم بالمعلول فيكون عالماً بما سواه .
ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر . « والحي » أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله « حيو » بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً ، جعلنا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو . « والقيوم » مبالغة قائم ، وأصله « قيووم » على « فيعول » ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة . ولو كان « قوّوما » على « فعول » لقيل « قووم » ، وعن عمر أنه قرأ « الحي القيام » . وقرىء « القيم » ثم لما بين أنه « حي قيوم » أكد ذلك بقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمَّى النعاس ، أي : لا يأخده نعاس ، فضلاً أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولاً ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولاً ضمناً ثم ثانياً صريحاً . ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم ، والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل أمر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لوسنان نائم . ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم . وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجباً بجميع صفاته ، فلا يكون حيًّا ولا قيوماً وهذا خلف . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قاروتين مملؤتين ماء في كل يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ . فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا .
وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السموات والأرضين . وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على « الحي القيوم » والتجويز شك ، والشك في مثله كفر . ثم لما بيَّن كونه « قيوماً » وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكماً وهو قوله { له ما في السموات وما في الأرض } لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكاً له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جارياً في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام : { هؤلاء شفعاؤنا عند الله } [ يونس : 18 ] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجهٍ من الوجوه إلا بأمره كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه . فأشار إلى الأول بقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ، وإلى الثاني بقوله { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يَكون بعدهم والضمير في السموات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول { مَنْ ذا } من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء . عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة؛ وعن الضحاك والكلبي : { ما بين أيديهم } : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، « وما خلفهم » الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم . وعن ابن عباس : { يعلم ما بين أيديهم } من السماء إلى الأرض ، « وما خلفهم » يريد ما في السموات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك ، والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] ويحتمل أن يراد : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } [ الجن : 26 ] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئاً إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى .
ثم إنه لما بين كماله ملكه وحكمه في السموات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السموات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال { وسع كرسيه السموات والأرض } يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به .
قال صلى الله عليه وسلم : « لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا اتباعي » أي : لم يحتمل غير ذلك . وأما « الكرسي » فأصله من التركيب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته ، وللمفسرين في معناه ههنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السموات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه . وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا . وعن السدي أنه تحت الأرض . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشيبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى . وههنا أسرارا لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبداً من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره . وقيل : المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمِّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه؛ فإن الملك مكانه الكرسي . وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه . ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض . وقيل : المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد . واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم . وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك . وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين . وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ووصف عرشه فقال : { وكان عرشه على الماء } [ هود : 71 ] ثم قال { وترى الملائكة حافين من حول العرش } [ الزمر : 75 ] ثم قال { ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية } [ الحاقة : 17 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً . ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي { ولا يؤده } لا يثقله ولا يشق عليه؛ { حفظهما } حفظ السموات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة .
ثم بيَّن أنه مع كونه مقوِّماً للممكنات مقيماً للأرضين والسموات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : { وهو العلي العظيم } والمراد منهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة . وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان .
وقوله سبحانه : { لا إكراه في الدين } الآية : لما بيَّن دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً للأعذار ذكر بعد ذلك . أنه لم يبق للكافر علة في إقامته على الكفر إلا أن يقسر على الإيمان ويجبر عليه؛ وذلك لا يجوز في دار الدنيا التي هي مقام الابتلاء والاختبار ، وينافيه الإكراه والإجبار . ومما يؤكد ذلك قوله : { قد تبين الرشد من الغي } يقال بَانَ الشيء واستبان وتبيَّن وبيّن أيضا إذا وضح وظهر ومنه المثل : قد تبين الصبح لذي عينين . والرشد إصابة الخير ، والغي نقيضه . أي : تميز الحق من الباطل ، والإيمان الكفر ، والهدى من الضلال ، بكثرة الحجج والبيانت ووفور الدلائل والآيات . { فمن يكفر بالطاغوت } قال النحويون : وزنه « فعلوت » نحو جبروت وأصله من « طغى » ، إلا أن لام الفعل قلبت إلى موضع العين ثم صيرت ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها . وذكر الفارسي أنه مصدر كالرغبوت والرهبوت ، والدليل على ذلك أنه يفرد في موضع الجمع كما يقال : هم رضا وعدل . ولهذا قال تعالى : { أولياؤهم الطاغوت } [ البقرة : 257 ] والأصل فيه التذكير . قال تعالى : { يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به } [ النساء : 60 ] فأما قوله تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } [ الزمر : 17 ] فالتأنيث لإرادة الآلهة . وأما معنى « الطاغوت » فعن عمر ومجاهد وقتادة : هو الشيطان . وعن سعيد بن جبير : الكاهن . وقال أبو العالية : الساحر . وعن بعضهم : الأصنام . وقيل : مردة الجن والإنس وكل ما يطغى ، وإنما جعلت هذه الأشياء أسباباً للطغيان لحصول الطغيان عند الاتصال بها كقوله { رب إنهن أضللن كثيراً من الناس } [ إبراهيم : 36 ] ويعلم من قوله { فمن يكفر بالطاغوت } ثم من قوله : { ومن يؤمن بالله } ، أن الكافر لا بد أن يتوب أوّلاً ، ثم يؤمن بعد ذلك ، { فقد استمسك بالعروة الوثقى } استمسك وتمسك بمعنى ، والعروة واحدة عرى : الدلو والكوز ونحوهما مما يتعلق به . والوثقى تأنيث الأوثق ، وهذا من باب استعارة المحسوس للمعقول ، لأن الإسلام أقوى ما يتشبث به للنجاة فمثل المعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس وهو الحبل الوثيق المحكم حتى يتصور السامع كأنه ينظر إليه بعينه فتزول شبهته بالكلية . والفصم كسر الشيء من غير أن يبيّن فصَمْتُه فانفصم . والمقصود من قوله { لا انفصام لها } هو المبالغة لأنه إذا لم يكن لها انفصام ، فأن لا يكون لها انقطاع أولى قيل إن الموصول ههنا محذوف أي التي لا انفصام لها كقوله { وما منا إلا له مقام معلوم } [ الصافات : 164 ] أي مَن له . وقيل : معنى قوله { لا إكراه في الدين } لا تكرهوا في الدين على أنه إخبار في معنى النهي والإكراه إلزام الغير فعلاً لا يرى فيه خيراً يحمله عليه .
ثم قال بعضهم : إنه منسوخ بقوله { جاهد الكفار والمنافقين } [ التحريم : 9 ] وقال بعضهم : هو في أهل الكتاب خاصة ، لأنهم إذا قبلوا الجزية سقط القتل عنهم وحُكْم المجوس حُكْمهم . وأما الكفار الذين تهوّدوا أو تنصروا فقيل إنهم لا يقرُّون على ذلك ويكرهون على الإسلام . وقيل يقرُّون على ما انتقلوا إليه ولا يكرهون . روي أنه كان لأنصاريٍّ من بني سالم بن عوق ابنان فتنصَّرا قبل أن يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما وقال : والله لا أدعكما حتى تسلما . فأبيا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فقال الأنصاري : يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر فنزلت فخلاهما . وقيل معنى قوله { لا إكراه } أي : لا تقولوا لمن دخل في الدين بعد الحرب أنه دخل مكرهاً لأنه إذا رضي بعد الحرب وصحَّ إسْلامه فليس بمكره ، ومعناه لا تنسبوه إلى الإكراه فيكون كقوله { ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً } [ النساء : 94 ] .
{ والله سميع عليم } يسمع قول من يتكلم بالشهادة وقول من يتكلم بالكفر ، يعلم ما في قلب المؤمن من الاعتقاد الطيب وما في قلب الكافر من العقد الخبيث . وعن عطاء عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إسلام أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة وكان يسأل الله ذلك سراً وعلانية فقيل له : والله سميع لدعائك يا محمد عليم بحرصك واجتهادك .
قوله سبحانه : { الله ولي الذين آمنوا } أي متولي أمورهم وكافل مصالحهم « فعيل » بمعنى « فاعل » والتركيب يدل على القرب ، فالمحب ولي لأنه يقرب منك بالمحبة والنصرة ، ومنه الوالي لأنه يلي القوم بالتدبير ، وفيه دليل على أن ألطاف الله تعالى في حق المؤمنين وفيما يتعلق بالدين أكثر من ألطافه في حق الكافر ، وذلك أنه يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الكفر إلى الإيمان ومن الضلال إلى الهدى ومن الشك إلى اليقين . والإخراج يشمل الكافر إذا آمن والمؤمن الأصلي ، ولا يبعد أن يقال يخرجهم إلى النور من الظلمات ، وإن لم يكونوا في الظلمة ألبتة؛ فإن العبد لو خلا عن توفيق الله تعالى لحظة لوقع في ظلمات الجهالات والضلالات فصار توفيقه تعالى سبباً لدفع تلك الظلمات عنه ، وبين الدفع والرفع تشابه ، ومثله قوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } [ آل عمران : 103 ] ومعلوم أنهم ما كانوا قط في النار . « ويروى أنه صلى الله عليه وسلم سمع إنساناً قال : أشهد أن لا إله إلا الله فقال : » على الفطرة « فلما قال : أشهد أن محمداً رسول الله قال : » خرج من النار « »
ومن المعلوم أنه ما كان فيها . قال الواحدي : كل ما في القرآن من الظلمات والنور فإنه تعالى أراد بهما الكفر والإيمان إلا قوله في أول الأنعام { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] فإنه عنى به الليل والنهار . قال : وإنما جعل الكفر ظلمة لأنه كالظلمة في المنع من الإدراك ، وجعل الإيمان نوراً لأنه كالسبب في حصول الإدراك .
قلت : قد مر أن الإيمان والعلم وجميع الكمالات النفسانية والمعارف اليقينية أنوار تزداد النَفس بها نورية وإشراقاً فلا حاجة إلى هذا التكلف . { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } مصدر ، ولهذا وحد في موضع الجمع { يخرجونهم من النور إلى الظلمات } وإنما وحد النور وجمع الظلمة لأن الحق وما يرجع إليه طريقه واحد وهو أيضا في نفسه واحد ، وأما الباطل فلا حصر له ولا لطرقه . كما أن الخط المستقيم الواصل بين النقطتين واحد ، والمنحنية غير محدود . وإسناد الإضلال إلى الطاغوت ، وهو كل من ينسب إلى الطغيان ، كالمجاز فإن الحوادث بأسرها تستند إلى المبدأ الأول بالحقيقة وتنتهي إلى قضائه وقدره كما سبق تحقيقه مراراً . { أولئك } الكفار أو هم مع من يطيعهم من الوسائط والوسائل { أصحاب النار } فيكون زجراً للكل ووعيداً لهم أعاذنا الله من ذلك .
التأويل : { الحي القيوم } : أشير بهما إلى الاسم الأعظم لأن اسمه « الحي » مشتمل على جميع أسمائه وصفاته . فإن من لوازم الحي أن يكون قادراً عالماً سميعاً بصيراً متكلماً مريداً باقياً إلى غير ذلك من نعوت الكمال ، واسمه « القيوم » دالّ على افتقار كل المخلوقات إليه؛ فإذا تجلى الله للعبد بهاتين الصفتين ، انكشف للعبد عند تجلي صفته « الحي » معاني جميع أسمائه وصفاته؛ وعند تجلي صفته « القيوم » فناء جميع المخلوقات ، إذ كان قيامها بقيومية الحق لا بأنفسهم ، فلما جاء الحق وزهق الباطل فلا يرى في الوجود إلا « الحي القيوم » إذ سلب « الحي » جميع أسماء الله وسلب « القيوم » قيام الممكنات ، ففني التعدد وبقيت الوحدة . فيذكره عند شهود عظمة الواحدانية بلسان عيان الفردانية لا بلسان بيان الإنسانية ، فقد ذكره باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى؛ لأنه حينئذٍ ينطق بالله فيكون الحال كما جرى على لسانه . فأما الذاكر عند غيبته عن عظمة الوحدانية فبكل اسم دعاه لا يكون الاسم الأعظم بالنسبة إلى حال غيبته ، وعند شهود العظمة فبكل اسم دعاه يكون الاسم الأعظم . كما ئيل أبو يزيد عن الاسم الأعظم فقال : الاسم الأعظم ليس له حد محدود ولكن فرغ قلبك لوحدانيته فإذا كنت كذلك فاذكره بأي اسم شئت .
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } ، لأن النوم أخو الموت والموت ضد الحياة ، وهو الحي الحقيقي فلا يلحقه ضد الحياة . { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } هذا الاستثناء راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل : من ذا الذي يشفع عنده يوم القيامة إلا عبده محمد صلى الله عليه وسلم فإنه مأذون في الشفاعة موعود بها
{ وعسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً } [ الإسراء : 79 ] .
{ ويعلم } محمد صلى الله عليه وسلم { ما بين أيديهم } من أوليات الأمور قبل خلق الخلائق ، كقوله صلى الله عليه وسلم « أول ما خلق نوري ، أول ما خلق الله العقل أن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام » { وما خلفهم } من أحوال القيامة وفزع الخلق وغضب الرب وطلب الشفاعة من الأنبياء وقولهم نفسي نفسي ورجوعهم إليه بالاضطرار ، { ولا يحيطون بشيء من علمه } وإنما هو شاهد على أحوالهم وسيرهم ومعاملاتهم وقصصهم { وكلا نقص عليك من أنباء الرسل } [ هود : 120 ] ويعلم أمور أخرتهم وأحوال أهل الجنة والنار ، وهم لا يعلمون شيئاً من ذلك { إلا بما شاء } أن يخبرهم عنه { وسع كرسيه السموات والأرض } : مثال العرش في عالم الإنسان قلبه؛ ومثال الكرسي : سره . وسوف يجيء تمام التحقيق إن شاء الله تعالى في قوله { الرحمن علىلعرش استوى } [ طه : 9 ] وإن العرش مع عظمته كحلقة ملقاة بين السماء والأرض بالنسبة إلى سعة قلب المؤمن . { ولا يؤده حفظهما } لا يثقل الروح الإنساني حفظ أسرار السموات والأرض ، { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] ولما أظهر لمخلوقاته من العرش والكرسي ولقلب المؤمن وسره علواً في المرتبة وعظمة في الخلقة ظهاراً لكمال القدرة والحكمة ، تردَّى برداء الكبرياء واتّزر بإزار العظمة والبهاء وهو أولى بالمدح والثناء فقال : { وهو العلي العظيم } فمن علا في الآخرة والأولى فبإعلائه ، ومن عظم فبتعظيمه . ثم أخبر عن عزة الدين لأرباب اليقين بقوله { لا إكراه في الدين } كما قال صلى الله عليه وسلم : « ليس الدين بالتمني » مع أن التمني نوع من الاختيار فكيف يحصل بالإكراه هو الإجبار ، فإن الدين هو الاستسلام لأوامر الشرع ظاهراً والتسليم لأحكام الحقِّ باطناً من غير حرج وضيق عطن .
ثم شرع في مزيد شرح لحقيقة الدين بقوله { فمن يكفر بالطاغوت } يتبرأ منه؛ فطاغوت العوام الأصنام ، وطاغوت الخواص هو النفس ، وطاغوت خواص الخواص ما سوى الله . وإيمان العوام إقرار باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان ، وإيمان الخواص عزوب النفس عن الدنيا وسلوك طريق العقبى . وشهود القلب مع المولى . وإيمان خواص الخواص ملازمة الظاهر والباطن في طاعة الله ، وإنابة القلب إلى الفناء في الله ، وإخلاء السر للبقاء بالله ، وهذا هو السكر الموجب للشكر . ولهذا قال موسى بعد إفاقته عن سكر سطوات شراب التجلي { تبت إليك } [ الأحقاف : 15 ] أي عن هذه الإفاقة ، فكان مخصوصاً عن عالمي زمانه بالإيمان العياني وشريكاً مع القوم بالإيمان البياني كما البياني كما قيل :
لي سكرتان وللندمان واحدة ... شيء خصصت به من بينهم وحدي
ثم العروة الوثقى التي استمسك بها المؤمن لا يمكن أن تكون من المحدثات المخلوقات لقوله
{ كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] ولا تكون أيضا من بطشك وإلا كانت منفصمة ، بل تكون من بطشه { إن بطش ربك لشديد } [ البروج : 12 ] ولكل مؤمن عروة مناسبة لمقامه في الإيمان؛ فهي للعوام توفيق الطاعة ، وللخواص مزيد العناية بالمحبة { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] ولخواص الخواص الجذبة الإلهية التي تفنيه عن ظلمات الغيرية وتبقيه بنور الربوبية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين » وأعمالهما فانية من عالم الحدوث ، وجذبة الحق باقية من عالم القدم لا يجوز عليها الانفصام ، فالمجذوب لا يخلص منها أبد الآبدين .
ثم أخبر عن تصرفات جذباته فقال : { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } يخرج العوام من ظلمات الكفر والضلالة إلى نور الإيمان والهداية ، والخواص من ظلمات الصفات النفسانية والجسمانية إلى نور الروحانية والربانية ، وخواص الخواص من ظلمات الحدوث والفناء إلى نور الشهود والبقاء . { والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت } : ذكر الطاغوت بلفظ الوحدان ، والأولياء بلفظ الجمع ، ليعلم أن الولاء والمحبة من قبل الكفار أي هم أولياء الطاغوت كقوله { أنداداً يحبونهم كحب الله } [ البقرة : 165 ] ؛ فإن الطاغوت لو فسر بالأصنام فهي بمعزل عن الولاية وإن فسر بالشيطان أو النفس؛ فهم الأعداء لا الأولياء يخرجونهم من نور الروحانية وصفاء الفطرة إلى ظلمات الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية ، ظلمات بعضها فوق بعض ، دركات بعضها تحت بعض { أولئك } أي أرواح الكفار مع النفس والشيطان والأصنام أصحاب النار ، لأن الأرواح ، وإن لم تكن من جنسهم ولكن من تشبه بقوم فهو منهم . والله المستعان .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
القراآت : { ربِّي الذي } مرسلة الياء : حمزة . الباقون بالفتح . { أنا أحيى } بالمد : أبو جعفر ونافع ، وكذلك ما أشبهها من المفتوحة والمضمومة ، وزاد أو نشيط بالمد في المكسورة في قوله تعالى { إن أنا إلا نذير } [ الأعراف : 188 ] وأشباه ذلك { مائة } وبابه مثل « فئة » وقد مر . { لبث } وبابه بالأظهار : ابن كثير ونافع وخلف وسهل ويعقوب { لم يتسنه } في الوصل والوقف بالهاء : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب ، لأن الهاء للسكت وهاء السكت تزاد للوقف . الباقون : بالهاء الساكنة في الحالين ، والهاء إما أصلية مجزومة بلم ، أو هاء سكت . وأجروا الوصل مجرى الوقف . { إلى حمارك } كمثل الحمار بالإمالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون ، وحمدويه والنجاري عن ورش ، وابن ذكوان وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي بن شنبوذ عن أهل مكة . { ننشرها } بالراء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع . الباقون بالزاي . { قال أعلم } موصولاً والابتداء بكسر الهمزة على الأمر : حمزة وعلي . الباقون : مقطوعاً والميم مضمومة على الإخبار { فصرهن } بكسر الصاد : يزيد وحمزة وخلف ورويس والمفضَّل ، { جزءاً } بتشديد الزاي : يزيد ووجهه أنه خفف بطرح همزته ثم شدد كما يشدد في الوقف إجراء للوصل مجرى الوقف . وقرأ أبو بكر وحماد « جزءاً » مثقلاً مهموزاً . الباقون : ساكنة الزاي مهموزة .
الوقوف : { الملك } م لأن إذ ليس بظرف لإيتاء الملك . { ويميت } ( لا ) لأن { قال } عامل ، إذ { وأميت } ط ، { كفر } ط ، { الظالمين } لا ، للعطف بأو التعجب . { عروشها } ج لأن ما بعده من تتمة كلام قبله من غير عطف . { موتها } ج لتمام المقول مع العطف بفاء الجواب والجزاء { بعثه } ط . { كم لبثت } ط . { يوم } ط . { لم يتسنه } ج وإن اتفقت الجملتان لوقوع الحال المعترض بينهما ، ومن وصل حسن له الوقف على { حمارك } بإضمار ما يعطف عليه قوله { ولنجعلك } أي لتستيقن ولنجعلك ، ومن جعل الواو مقحمة لم يقف . { لحما } ط لتمام البيان { له } ( لا ) لأن { قال } جواب لما . { قدير } ه { الموتى } ط { تؤمن } ط . { قلبي } ط . { سعياً } ط ، لاعتراض جواب الأمر { حكيم } .
التفسير : إنه سبحانه ذكر ههنا قصصاً ثلاثاً؛ أولاها في إثبات العلم بالصانع والباقيتان في إثبات البعث والنشور . فالقصة الأولى مناظرة إبراهيم ملك زمانه ، عن مجاهد أنه نمرود بن كنعان وهو أول من تجبر وادّعى الربوبية والمحاجة المغالبة بالحجة . والضمير في « ربه » لإبراهيم ، ويحتمل أن يكون ل « نمرود » ، والهاء في « أن آتاه » قيل لإبراهيم لأنه أقرب في الذكر ، ولأنه لا يجوز أن يؤتى الكافر الملك والتسليط ، ولأنه يناسب قوله { فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً } [ النساء : 54 ] . وقال جمهور المفسرين : الضمير لذلك الشخص الذي حاج إبراهيم ، ولا يبعد أن يعطي الله الكافر بسطةً وسعةً في الدنيا .
ومعنى أن آتاه لله أي لأن أتاه الله الملك فأبطره وأورثه الكبر والعتو أو جعل محاجته في ربه شكراً له كقولك « عاداني فلان لأني أحسنت إليه » تريد أنه عكس ما كان يجب عليه من الموالاة لأجل الإحسان ، ويجوز أن يكون المعنى : حاج وقت أن آتاه . وعن مقاتل أن هذه المحاجة كانت حين ما كسر إبراهيم الأصنام وسجنه نمرود ثم أخرجه من السجن ليحرقه فقال : من ربك الذي تدعو إليه؟ فقال : ربي الذي يحيي ويميت . وهذا دليل في غاية الصحة لأن الخلق عاجزون عن الإحياء والإماتة فلا بد أن يستند إلى مؤثر قادر مختار خبير بأجزاء الحيوان وأشكاله ، بصير بأعضائه وأحواله ، ولأمر ما ذكره الله تعالى في مواضع من كتابه فقال { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } [ المؤمنون : 12 ] { وهو الذي خلقكم من تراب } [ غافر : 67 ] { ألم نخلقكم من ماء مهين } [ المرسلات : 20 ] ويروى أن الكافر دعا حينئذٍ شخصين فاستبقى أحدهما وقتل الآخر وقال : أنا أيضاً أحيي وأميت . ثم للناس في هذا المقام طريقان : الأول وعليه أكثر المفسرين أن إبراهيم عليه السلام لما رأى من نمرود أنه ألقى تلك الشبهة عدل عن ذلك إلى دليل آخر ومثال آخر أوضح من الأول فقال { إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } قالوا : وفي هذا دليل على جواز الانتقال للمجادل من حجة إلى حجة . وأورد عليه أن الشبهة إذا وقعت في الأسماع وجب على المحق القادر على ذكر الجواب أن يذكر الجواب في الحال إزالة لذلك الجهل واللبس . ولما طعن الملك الكافر في الدليل الأول أو في المثال الأول بتلك الشبهة كان الاشتغال بإزالة ذلك واجباً مضيقاً فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب مع أن فيه إيهام أن كلامه الأول كان ضعيفاً؟ ولئن سلمنا أن الانتقال من دليل إلى دليل حسن لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح . لكن الاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصانع أظهر وأقوى من الاستدلال بطلوع الشمس ، فإن جنس الحياة لا قدرة للخلق عليه ، وأما جنس تحريك الأجسام فللخلق قدرة عليه . وأيضاً دلالة الإحياء والإماتة على الحاجة إلى المؤثر القادر لكونهما من المتبدلات أقوى من دلالة طلوع الشمس لكون حركة الأفلاك على نهج واحد . وأيضاً إن نمرود لما لم يستحي من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله بالقتل والتخلية ، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشمس أن يقول بل طلوع الشمس من المشرق مني ، فإن كان لك إله فقل له حتى يطلعها من المغرب . وعند ذلك التزم المحققون من المفسرين ذلك وقالوا : إنه لو أورد هذا السؤال لكان من الواجب أن يطلع الشمس من مغربها ، ومن المعلوم أن الاشتغال بإظهار فساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثير من التزام طلوع الشمس من المغرب ، فما الذي حمل إبراهيم على ترك الجواب عن ذلك السؤال الركيك ، والتزم الانقطاع ، واعترف بالحاجة إلى الانتقال ، وتمسك بدليل لا يمكن تمشيته إلا بالتزام اطلاع الشمس من المغرب؟ ولما كانت هذه الأعتراضات واردة على الطريق الأول عدل بعض المحققين إلى طريق آخر وقالوا : إن إبراهيم عليه السلام لما احتج بالإحياء والإماتة قال المنكر : أتدعي الإحياء والإماتة من الله ابتداء أم بواسطة الأسباب الأرضية والسماوية؟ أما الأول فلا سبيل إليه ، وأما الثاني فنظيره أو ما يقرب منه حاصل للبشر .
فإن الجماع يفضي إلى الولد بتوسط الأسباب ، وتناول السم يفضي إلى الموت ، فأجاب إبراهيم عليه السلام بناء على معتقدهم ، وكانوا أصحاب تنجيم - بأن الإحياء والإماتة وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك ، لكن الحركات والاتصالات لا بد لها من فاعل ومدبر ، وليس ذلك هو البشر فإنه لا قدرة لهم على الفلكيات ، فهي إذن بتحريك رب الأرض والسموات . قلت : وفيه أيضاً طريق آخر نذكره في التأويلات إن شاء الله تعالى . { فبهت الذي كفر } يقال : بهت الرجل بالكسر إذا دهش وتحير ، وبهت بالضم مثله . وقد قرىء بهما وأفصح منهما القراءة المشهورة فبهت على البناء للمفعول لأنه يقال : رجل مبهوت ولا يقال باهت ولا بهيت قاله الكسائي . { والله لا يهدي القوم الظالمين } فلهذا لم ينفعه الدليل وإن بلغ في الظهور إلى حيث صار المبطل مبهوتاً محجوجاً ، فيعلم منه أن الكل بقضاء الله وقدره وبمشيئته وإرادته .
القصة الثانية قوله سبحانه { أو كالذي مر على قرية } ذهب الكسائي والفراء والفارسي وأكثر النحويين إلى أنه معطوف على المعنى ، والتقدير : أرأيت كالذي حاج إبراهيم أو كالذي مر ، ونظيره من القرآن { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله } [ المؤمنون : 84 ، 85 ] ثم قال { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله } [ المؤمنون : 186 ، 187 ] فهذا عطف على المعنى كأنه قيل : لمن السموات؟ فقيل : لله . ومثله قول الشاعر :
فلسنا بالجبال ولا الحديدا ... وعن الأخفش : أن الكاف زائدة والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم ، أو إلى الذي مر . وعن المبرد : أنا نضمر الفعل في الثاني والتقدير : ألم تر إلى الذي حاج إلى إبراهيم أو ألم تر إلى مثل الذي مر . واختلف في المار بالقرية فعن مجاهد وعليه أكثر المفسرين من المعتزلة أن المار كان رجلاً كافراً . شاكاً في البعث لأن قوله { أنى يحيي } استبعاد وإنه لا يليق بالمؤمن ، ولأنه تعالى قال في حقه { فلما تبين له } وفيه دليل على أن ذلك التبين لم يكن حاصلاً قبل ذلك . وكذا قوله { أعلم أن الله على كل شيء قدير } وذهب سائر المفسرين إلى أنه كان مسلماً ثم قال قتادة وعكرمة والضحاك والسدي : هو عزير ، وقال عطاء عن ابن عباس هو أرميا .
ثم من هؤلاء من قال : إن أرميا هو الخضر عليه السلام وهو رجل من سبط هارون بن عمران وهذا قول محمد بن إسحق . وقال وهب بن منبه : إن أرميا هو النبي الذي بعثه الله عند ما خرب بختنصر بيت المقدس وأحرق التوراة . وقيل : هو عزير على ما يجيء . حجة هؤلاء أن قوله { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } يدل على أنه كان عالماً بالله ، وبأنه تعالى يصح منه الإحياء في الجملة ، والاستبعاد إنما هو في القرية المخصوصة . وأيضاً قد شرفه الله تعالى بالتكلم في قوله { قال كما لبثت } وفي قوله { وانظر } { ولنجعلك } وفي نفس قصته من الإعادة وغيرها إكرام له أيضاً . روي عن ابن عباس أن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير - ومنهم عزير وكان من علمائهم - فجاء بهم إلى بابل . فدخل عزير تلك القرية ونزل تحت ظل شجرة وربط حماره وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً ، فعجب من ذلك وقال { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } أي من أين يتوقع عمارتها؟ لا على سبيل الشك في القدرة ، بل بسبب اطراد العادة في أن مثل ذلك الموضع الخراب قلما يصيره الله معموراً . وكانت الأشجار مثمرة فتناول منها التين والعنب وشرب من عصير العنب ، ونام فأماته الله في منامه مائة عام وهو شاب ، ثم أعمى عنه في موته أبصار الإنس والطير والسباع ، ثم أحياه بعد المائة ونودي من السماء يا عزير { كم لبثت؟ قال : لبثت يوماً أو بعض يوم . قال : بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك } من التين والعنب { وشرابك } من العصير لم يتغير . فنظر فإذا التين والعنب كما شاهد . ثم قال { وانظر إلى حمارك } فنظر فإذا عظام بيض تلوح وقد تفرقت أوصاله . فسمع صوتاً : أيتها العظام البالية إني جاعل فيك روحاً فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعض ثم التصق كل عضو بما يليق به ، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه ، ثم جاء الرأس إلى مكانه ، ثم العصب ، ثم العروق ، ثم انبسط اللحم عليه ، ثم انبسط الجلد عليه ، ثم خرجت الشعور من الجلد ، ثم نفخ فيه الروح ، فإذا هو قائم ينهق ، فخر عزير ساجداً فقال { أعلم أن الله على كل شيء قدير } ثم إنه دخل بيت المقدس فقال القوم : حدثنا آباؤنا أن عزير بن شرحيا مات ببابل ، وقد كان يختنصر قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة وكان فيهم عزير . والقوم ما عرفوا أنه يقرأ التوراة ، فلما أتاهم بعد مائة عام جدد لهم التوراة وأملاها عليهم عن ظهر قلبه لم يخرم منها حرفاً . وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورضت بما أملاه فما اختلفا في حرف ، فعند ذلك قالوا : عزير ابن الله .
وعن وهب وقتادة وعكرمة والربيع أن القرية إيليا وهو بيت المقدس . وقال ابن زيد : هي القرية التي خرجت منها الألوف حذر الموت . ومعنى قوله { خاوية على عروشها } ساقطة على سقوفها من خوى النجم إذا سقط . والعروش الأبنية ، والسقوف من الخشب ، كان حيطانها قائمة وقد تهدمت سقوفها ثم انقعرت الحيطان من قواعدها فتساقطت على السقوف المتهدمة ، وهذا من أحسن ما يوصف به خراب المنازل . ويحتمل أن يكون من خوى المنزل إذا خلا عن أهله ، وخوى بطن الحامل . « وعلى » بمعنى « عن » أي خاوية عن عروشها ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع بقاء عروشها وسلامتها . قال في الكشاف : ويجوز أن يكون { على عروشها } خبراً بعد خبر كأنه قيل : هي خالية وهي على عروشها أي هي قائمة مظلة على عروشها على معنى أن السقوف سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان ، وبقيت الحيطان بحالها فيه مشرفة على السقوف الساقطة ، ويجوز أن يراد أن القرية خاوية مع كون أشجارها معروشة ، وكان التعجب من ذلك أكثر لأن الغالب من القرية الخالية أن يبطل ما فياه من عروش الفواكه { فأماته الله مائة عام } لأن الإحياء بعد مدة طويلة أغرب فيكون أدخل في كونه آية { ثم بعثه } أي أحياه كما كان أوّلاً عاقلاً فهماً مستعداً للنظر والاستدلال في المعارف الإلهية ، ولو قال أحياه لم تحصل هذه الفوائد . { قال كم لبثت } أي كم مدة؟ فخذف المميز . والحكمة في السؤال هو التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق وإلا فمن المعلوم أن الميت لا يمكنه بعد أن صار حياً أن يعلم أن مدة موته طويلة أو قصيرة { قال } بناء على الظن لا بطريق الكذب { لبثت يوماً أو بعض يوم } روي أنه مات ضحى وبعث بعد مائة سنة قبل غروب الشمس . فقال قبل النظر إلى الشمس : يوماً . ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال : أو بعض يوم . والظاهر أنه علم أن ذلك اللبث كان سبب الموت بأمارات شاهدها في نفسه وفي حماره { لم يتسنه } لم يتغير . وأصله من السنة أي لم يأت عليه السنون لأن مرّ السنين إذا لم يغيره فكأنها لم تأت عليه . وعلى هذا فالهاء إما للسكت بناء على أن أصل سنة سنوة بدليل سنوات في الجمع وسنية في التحقير ، وقولهم « سانيت الرجل مساناة » إذا عامله سنة . وإما أصلية على أن نقصان سنة هو الهاء بدليل سنيهة في التصغير ، وقولهم « أجرت الدار مسانهة » . وقيل : أصله لم يتسنن إما من السن وهو التغير قال تعالى { من حمإ مسنون } [ الحجر : 26 ] أي متغير منتن . وإما من السنة أيضاً بناء على ما نقل الواحدي من أن أصل سنة يجوز أن يكون سننة بدليل سنينة في تحقيرها وإن كان قليلاً .
وعلى التقديرين أبدلت النون الأخيرة ياء مثل تقضي الباري في تقضض . ثم حذفت الياء للجزم وزيدت هاء السكت في الوقف . وعن أبي علي الفارسي أن السن هو الصب فقوله « لم يتسن » أي الشراب بقي بحاله لم ينصب . فعلى هذا يكون قوله { لم يتسنه } عائداً إلى الشراب وحده ، ويوافقه قراءةٍ ابن مسعود { فانظر إلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن } وأما على سائر الأقوال فيكون عدم التغير صالحاً لأن يعود إلى الطعام وإلى الشراب جميعاً . فإن قيل : إنه تعالى لما قال { بل لبثت مائة عام } كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك ، ولكن قوله { فانظر } يدل ظاهراً على ما قاله من أنه لبث يوماً أو بعض يوم . فالجواب أن الشبهة كلما كانت أقوى كان الاشتياق إلى الدليل الكاشف عنها أشد ولهذا قيل : { وانظر إلى حمارك } فرآه عظاماً نخرة فعظم تعجبه حيث رأى ما يسرع إليه التغير وهو الطعام والشراب باقياً ، وما يمكن أن يبقى زماناً طويلاً وهو الحمار غير باقٍ فعرف طول مدة لبثه بأن شاهد عظام حماره رميماً . وهذا بالحقيقة لا يدل بذاته لأن القادر على إحياء الحيوان قادر على إماتته وجعل عظامه نخرة في الحال ، ولكن انقلاب عظام الحمار إلى حالة الحياة كانت معجزة دالة على صدق ما سمع من قوله { بل لبثت مائة عام } . { ولنجعلك آية } قال الضحاك : معناه أنه جعله دليلاً على صحة البعث . وقال غيره : كان آية { للناس } لأن الله تعالى بعثه شاباً أسود الرأس ، وبنو بنيه شيوخ بيض اللحى والمفارق . وقيل : إنه كان يقرأ التوراة عن ظهر قلبه فذلك كونه آية . وقيل : إن حماره لم يمت . والمراد وانظر إلى حمارك سالماً في مكانه كما ربطته وذلك من أعظم الأيات أن يعيشه مائة عام من غير علف ولا ماء كما حفظ طعامه وشرابه من التغير ، وأما فائدة الواو في قوله { ولنجعلك آية للناس } فقد قال الفراء : فإنما دخلت لنية فعل بعدها مضمر ، لأنه لو قال وانظر إلى حمارك لنجعلك آية ، كان النظر إلى الحمار شرطاً وجعله آية جزاء ، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام . بل المعنى : ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء . ومثله في القرآن كثير { وكذلك نصرف الآيات وليقولوا درست ولنبينه لقوم يعلمون } [ الأنعام : 105 ] { وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين } [ الأنعام : 75 ] { وانظر إلى العظام كيف ننشرها } بالراء المهملة أي كيف نحييها . وقرىء { كيف ننشرها } من نشر الله الموتى بمعنى أنشرهم . ويحتمل أن يكون من النشر ضد الطي فإن الحياة تكون بالانبساط . وقد وصف الله العظام بالإحياء في قوله { من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة }
[ يس : 79 ] ومن قرأ بالزاء فمعناه نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب . والنشز ما ارتفع من الأرض ومنه نشوز المرأة لأنها ترتفع عن حد رضا الزوج . « وكيف » في موضع الحال من العظام والعامل فيه « ننشرها » لا « انظر » لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله . ثم أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام عظام حماره ، وأن اللام فيه بدل من الكناية . وعن قتادة والربيع وابن زيد : أن العظام عظام هذا الرجل نفسه . قالوا : إنه تعالى أحيا رأسه وعينيه وكانت بقية بدنه عظاماً نخرة وكان ينظر إلى أجزاء عظام نفسه فرآها تجتمع وينضم البعض إلى البعض وكان يرى حماره واقفاً كما ربطه ، وزيف بأن قوله { لبثت يوماً أو بعض يوم } إنما يليق بمن لا يرى في نفسه أثر التغير لا بمن شاهد أجزاء بدنه متفرقة وعظامه رميمة . وأيضاً قوله { ثم بعثه } يدل على أن المبعوث هو تلك الجملة التي أماتها ، وقيل : هي عظام الموتى الذين تعجب من إحيائهم ، وفاعل تبين مضمر تقديره { فلما تبين له } أن الله على كل شيء قدير { قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } فحذف الأول لدلالة الثاني عليه كما في قوله « ضربني وضربت زيداً » أو التقدير : فلما تبين له ما أشكل عليه من أمر الإماتة والإحياء قال أعلم . وتأويله إني قد علمت مشاهدة ما كنت أعلمه قبل ذلك استدلالاً . ومن قرأ { اعلم } على لفظ الأمر فمعناه أنه عند التبين أمر نفسه بذلك . والله تعالى أمره بذلك كما في آخر قصة إبراهيم { واعلم أن الله عزيز حكيم } قال القاضي : القراءة الأولى أولى لأن الأمر بالشيء إنما يحسن عند عدم المأمور به ، وههنا العلم حاصل بدليل قوله { فلما تبين له } فلا يحسن الأمر بتحصيل العلم بعد ذلك . أما الإخبار عن أنه حصل فجائز . قلت : ليس هذا من باب الأمر بتحصيل الحاصل ، وإنما الأمر فيه عائد إلى شيء آخر غير حاصل وهو عدم التعجب من إيجاد سائر الممكنات البعيدة ، فإن من قدر على إيجاد أمر مستبعد الحصول كان قادراً على نظائره من الغرائب والعجائب لا محالة ، ولهذا أوردت القضية كلية . نعم لو قيل : اعلم أن الله قادر على إحياء الموتى لأشبه أن يكون أمراً بتحصيل الحاصل ، على أن ذلك أيضاً ممنوع فإن الأمر حينئذٍ يعود إلى شيء آخر غير حاصل هو عدم الشك فيما يستأنف من الزمان أي لتكن هذه الآية على ذكر منك كيلا يعترض لك شك فيما بعد ، وذلك كقولك للمتحرك « تحرك » أي واظب على الحركة ولا تفتر . وليت شعري كيف يطعن بعض العلماء في بعض القراآت السبع مع ثبوت التواتر وكونها كلها كلام الحكيم العليم تقدس وتعالى؟
القصة الثالثة قوله عم طوله { وإذ قال إبراهيم } التقدير : واذكر وقت قول إبراهيم .
وقيل : معطوف على قوله { إلى الذي } أي ألم تر إلى وقت قول إبراهيم . وههنا دقيقة وهي أنه لم يسم عزيراً في قصته بل قال { أو كالذي مرّ على قرية } وههنا سمى إبراهيم لأن عزيراً لم يحفظ الأدب بل قال ابتداء { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } وإبراهيم أثنى على الله أولاً بقوله { رب أرني } وأيضاً إن عزيراً استبعد الإحياء فأرى ذلك في نفسه ، وإبراهيم التمس ودعا بقول { أرني } فأرى ذلك في غيره . ومعنى أرني بصرني . وذكروا في سبب سؤال إبراهيم وجوهاً . الأول قال الحسن والضحاك وقتادة وعطاء وابن جريج : إنه رأى جيفة مطروحة على شط النهر ، فإذا مد البحر أكل منها دواب البحر ، وإذا جزر البحر جاءت السباع فأكلت ، فإذا أكل السباع جاءت الطيور فأكلت وطارت ، فقال إبراهيم : رب أرني كيف تجمع أجزاء هذا الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر . فقيل : أو لم تؤمن؟ قال : بلى . ولكن المطلوب بالسؤال أن يصير العلم الاستدلالي ضرورياً . الثاني : قال محمد بن إسحق والقاضي : إنه في مناظرته مع نمرود لما قال ربي الذي يحيي ويميت قال الكافر أنا أحيي وأميت فأطلق محبوساً وقتل آخر فقال إبراهيم : ليس هذا بإحياء وإماتة وعند ذلك قال { رب أرني كيف تحيي الموتى } لتنكشف هذه المسألة عند نمرود وأتباعه ، ويزول الإنكار عن قلوبهم . وري أن نمرود قال له : قل لربك يحيي وإلا قتلتك ، فسأل الله ذلك ، وقوله { ليطمئن قلبي } أي بنجاتي من القتل ، أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي وبرهاني ، وأن عدولي إلى غيرها كان بسبب جهل المستمع . الثالث : عن ابن عباس وسعيد بن جبير والسدي أن الله تعالى أوحى إليه أني أتخذ بشراً خليلاً ، فاستعظم ذلك إبراهيم عليه السلام وقال : إلهي ، ما علامة ذلك؟ فقال : علامته أنه يحيي الميت بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم عليه السلام في درجات العبودية وأداء الرسالة خطر بباله أني لعلي أكون ذلك الخليل . فسأل الله إحياء الموتى فقال الله : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي على أني خليل لك . الرابع : لا يبعد أن يقال : إنه لما جاء الملك إلى ابراهيم وأخبره بأن الله بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة ليطمئن قلبه على أن الآتي ملك كريم لا شيطان رجيم . الخامس : لعله طالع في الصحف المنزلة عليه أن الله تعالى يحيي الموتى بدعاء عيسى ، فطلب ذلك ليطمئن قلبه أنه ليس أقل منزلة عند الله من عيسى وأنه من أولاده . السادس : أمر بذبح الولد فسارع إلى ذلك فقال : إلهي ، أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح فامتثلت فشرفني بأن تجعل بدعائي فاقد الروح ذا روح .
السابع : أراد أن يخصصه الله بهذا التشريف في الدنيا بأن جميع الخلائق يشاهدون الحشر في الآخرة . الثامن : لعل إبراهيم لم يقصد إحياء الموتى بل قصد سماع الكلام بلا واسطة . وأما أن إبراهيم عليه السلام كان شاكاً في المعاد فلا ينبغي أن يعتقد فيه ، ومن كفر النبي المعصوم فهو بالكفر أولى وكيف يظن ذلك بإبراهيم عليه السلام وقوله { بلى } اعتراف بالإيمان ، وقوله { ليطمئن قلبي } كلام عارف طالب لمزيد اليقين . والشك في قدرة الله يوجب الشك في نبوّة نفسه ، والذي جاء في الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم « نحن أحق بالشك من إبراهيم » فذلك أنه « لما نزلت هذه الآية قال بعض من سمعها : شك إبراهيم ولم يشك نبينا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تواضعاً منه وتقديماً لإبراهيم على نفسه » نحن أحق بالشك منه « » والمعنى أننا لم نشك ونحن دونه ، فكيف يشك هو؟ والاستفهام في قوله { أولم تؤمن } للتقرير كقوله : ألستم خير من ركب المطايا؟ وأيضاً المقصود من هذا السؤال أن يجيب بما أجاب به ليعلم السامعون أنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمناً بذلك عارفاً به ، وأن المقصود من هذا السؤال شيء آخر . واللام في قوله { ليطمئن } تتعلق بمحذوف أي ولكن سألت ليزيد قلبي سكوناً وطمأنينة بمضامة علم الضرورة علم الاستدلال . وقد تعرض الخواطر للمستدل بخلاف المعاين ، هذا إذا قلنا : المطلوب حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء ، أما إذا قلنا : إن الغرض شيء آخر فلا إشكال { فخذ أربعة من الطير } عن ابن عباس : هنّ طاوس ونسر وغراب وديك . وفي قول مجاهد وابن زيد : حمامة بدل النسر { فصرهن إليك } بضم الصاد وكسرها من صاره يصوره ويصيره أي أملهن وضمهن إليك . وقال الأخفش : يعني وجههنّ إليك . وفائدة أمره بضمها إلى نفسه بعد أخذها أن يتأملها ويعرف أشكالها وهيئتها وحلاها كيلا تلتبس بعد الإحياء ، ولا يتوهم أنها غير تلك . وفي الآية حذف كأنه قبل أملهن وقطعهن { ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً } وقيل : معنى صرهن قطعهن فلا اضمار . روي أنه أمر بذبحها ونتف ريشها وأن يقطعها ويفرق أجزاءها ويخلط ريشها ودماءها ولحومها وأن يمسك رؤوسها ، ثم أمر أن يجعل أجزاءها على الجبال التي بحضرته وفي أرضه على كل جبل ربعاً من كل طائر ، ثم يصيح بها تعالين بإذن الله . فجعل كل جزء يطير إلى الآخر حتى صارت جثثاً ، ثم أقبلن فانضممن إلى رؤوسهن كل جثة إلى رأسها . وأنكر أبو مسلم هذه القصة وقال : إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الموتى من الله أراه الله تعالى مثالاً قرب به الأمر عليه . والمراد ب { صرهن إليك } الإمالة والتمرين على الإجابة أي قعود الطيور الأربعة بحيث إذا دعوتها أجابتك حال الحياة ، والغرض منه ذكر مثال محسوس لعود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة ، ويؤكده قوله { ثم ادعهن } أي الطيور لا الأجزاء { يأتينك سعياً } وزيف قول أبي مسلم بأنه خلاف إجماع المفسرين ، وبأن ما ذكره غير مختص بإبراهيم فلا يلزم له مزية .
وأيضاً إن ظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ما سأل ، وعلى قوله لا تكون الإجابة حاصلة . ولأن قوله { على كل جبل منهنَّ جزءاً } دليل ظاهر على تجزئة الطيور وحمل الجزء على أحد الطيور الأربعة بعيد ، ثم ظاهر قوله { على كل جبل } جميع جبال الدنيا . فذهب مجاهد والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان كأنه قيل : فرقها على كل جبل يمكنك التفرقة عليه . وقال ابن عباس والحسن وقتادة والربيع : أربعة جبال على حسب الطيور الأربعة والجهات الأربع . وقال السدي وابن جريج : المراد كل جبل كان يشاهده إبراهيم وكانت سبعة . أما قوله { ثم ادعهنّ يأتينك سعياً } فقيل : عدواً ومشياً على أرجلهنّ لأن ذلك أبلغ في الحجة ، وقيل : طيراناً . ورد بأنه لا يقال للطير إذا طار سعى . وأجيب بأن السعي هو الاشتداد في الحركة مشياً كانت أو طيراناً ، واحتج الأصحاب بالآية على أن البنية ليست شرطاً على صحة الحياة لأنه تعالى جعل كل واحد من تلك الأجزاء والأبعاض حياً قادراً على السعي والعدو . قال القاضي : دلت الآية على أنه لا بد من البينة من حيث إنه أوجب التقطيع بطلان حياتها ، والجواب أن حصول المقارنة لا يدل على وجوب المقارنة ، أما الانفكاك عنه في بعض الأحوال فيدل على المقارنة حيث حصلت ما كانت واجبة ، ولما دلت الآية على حصول فهم النداء لتلك الأجزاء حال تفرقها كان دليلاً قاطعاً على أن البنية ليست شرطاً للحياة . { واعلم أن الله عزيز } غالب على جميع الممكنات { حكيم } عالم بعواقب الأمور وغايات الأشياء .
التأويل : إن الله تعالى لما أعطى نمرود ملكاً ما أعطى أحداً قبله ادّعى الربوبية وما ادّعاها أحد قبله . وسبب ذلك أن الإنسان لحسن استعداده للطلب وغاية لطافته في الجوهر دائم الحركة في طلب الكمال لا يتوقف لحظة إلا لمانع ، ولكنه جبل ظلوماً جهولاً ، فمتى وكل إلى نفسه مال إلى عالم الحس ، موافقاً لسيره الطبيعي لأنه خلق من تراب وطبعه الميل إلى السفل فيرى الكمال في جمع المال ثم طلب الجاه فيصرف المال فيه ثم في الحكم والتسلط . فإذا ملك السفليات بأسرها وقهر ملوك الأرض أراد أن ينازع ملك الملوك وجبار الجبابرة فيقول : أنا أحيي وأميت ، وليس للعالم رب إلا أنا جهلاً بالكمال وذلك عند فساد جوهره وبطلان استعداده ، كما أنه إذا صلح جوهره بحسن تربية النبي صلى الله عليه وسلم أو من ينوب منابه - وهو الشيخ - قال : ليس في الوجود سوى الله .
وهذا هو حقيقة { فاعلم أن لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] يعني كن فانياً عن وجودك بالكلية ، واستغفر لذنب حسبان وجود غير وجوده فافهم جداً وإن لم تكن مجداً ، فإن المجد من يدق بمطرقة « لا إله إلا الله » دماغ نمرود النفس إلى أن يؤمن بالله ويكفر بطاغوت وجوده كل ما سوى الله . { قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب } اعتراض على قول الكافر أنا أحيي وأميت ، والمراد أن إرسال النفس الناطق لتدبير البدن اطلاع شمس الحياة من أفق البدن ، فإن كنت صادقاً في دعواك أن هذا يتأتى منك فأمسكها عندك وهو الإتيان بالشمس من مغربها ، وأنه آية القيامة من مات فقد قامت قيامته . { فبهت الذي كفر } لأنه إن أمكنه أن يدعي الإحياء بمعنى الإبقاء وهو اطلاع الشمس من المشرق ، فلن يمكنه أن يدعي الإماتة بمعنى قبض الروح من غير آلة القتل وهو الإتيان بالشمس من المغرب ، فهذه طريقة لا يرد عليها شيء من الاعتراضات المذكورة في التفسير . ثم أخبر عن إظهار قدرته في إحياء الموتى بعد انقطاع المدعي في حجته عقيب الدعوى بقوله تعالى { أو كالذي مر على قرية } وذلك أن قوماً أنكروا حشر الأجساد بعد اعترافهم بحشر الأرواح ، وزعموا أن الأرواح إذا خرجت من سجن الأشباح وتقوت بالعلوم الكلية التي استفادتها من عالم الحس فما حاجتها أن ترجع إلى السجن والقيد ، كما أن الصبي إذا استفاد العلوم في المكتب وكبر قدره وعظم وقعه لم يحتج إلى أن يرجع إلى المكتب وحال صباه ، فهو سبحانه لكمال فضله ورأفته دفع هذه التسويلات النفسية ورفع هذه الشبهات الفلسفية بأن أمات عزيراً مائة سنة وحماره معه ثم أحياهما جميعاً ليعلم أن الله تعالى مهما أحيا عزير الروح أحيا معه حمار الجسد ، وكما أن عزير الروح يكون عند الملك الجبار يكون حمار الجسد في جنات تجري من تحتها الأنهار . فلعزير الروح مشرب من كؤوس تجلي صفات الجلال والجمال { وسقاهم ربهم شراباً طهوراً } [ الدهر : 21 ] « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » ولحمار الجسد مرتع من الرياض ومشرب من الحياض { فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } [ الزخرف : 71 ] و { قد علم كل أناس مشربهم } [ البقرة : 60 ] .
شربنا وأهرقنا على الأرض قسطها ... وللأرض من كأس الكرام نصيب
ثم أكد حديث الحشر بقصة عن خليله صلى الله عليه وسلم وذلك قوله { رب أرني كيف تحيي الموتى } فيفوح منه رائحة قول موسى { رب أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] إلا أن موسى لم يحفظ الأدب في الطلب فما رأى غير النصب والتعب ، وأدب بتأديب الخاطىء الجاني ، وعرك بتعريك { لن تراني } وذلك أنه كان صاحب شرب وكان الخليل صاحب ري ، وصاحب الشرب سكران ، وصاحب الري صاح .
شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفذ الشراب وما رويت
فلسكر موسى كان يبسط تارة مع الحق بقوله { رب أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] ويعربد أخرى بقوله { إن هي إلا فتنتك } [ الأعراف : 155 ] ومن كمال صحو الخليل ما زل قدمه في أدب من اداب العبودية في الحضور والغيبة فلا جرم أكرم اليوم بكرامة الشيبة « إن أول ما شاب شيبة إبراهيم » ويحترم غداً بالكسوة « إن أول من يكسى إبراهيم » ولما ابتلي في ماله فبذل للضيفان وابتلي في ولده فأسلم وتله للجبين وابتلي بنفسه فاستسلم لمنجنيق ابن كنعان ، وابتلي بجبرائيل فقال : أما إليك فلا . لا جرم أكرمه الله بالإمامة { إني جاعلك للناس إماماً } [ البقرة : 124 ] ومن إمامته أنه كان أول من دق باب طلب الحق وقال { هذا ربي } [ الأنعام : 76 ] وأول من سلك طريق الحق وقال { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 69 ] وأول من نطق بالمحبة وقال { لا أحب الآفلين } [ الأنعام : 76 ] وأول من أظهر الشوق وقال { لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين } [ الأنعام : 78 ] وأول من أظهر العداوة مع غير المحبوب { فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] وأول من اشتاق فسأل الرؤية وقال { رب أرني } ولا تظن أن اشتياقه إلى الرب إنما كان وقت سؤاله .
ولست حديث العهد شوقاً ولوعة ... حديث هواكم في حشاي قديم
ولكنه من حفظ آداب الإجلال كان لا يفتح على نفسه باب السؤال ، ويقول حسبي من سؤالي علمه بحالي إلى أن ساقه التقدير إلى حسن التدبير . وسأله نمرود من ربك؟ فأجرى الحق على لسانه من فضله وإحسانه { ربي الذي يحيي ويميت } فقال نمرود : هل رأيت منه ما تقول؟ فوجد الخليل فرصة للمأمول فأدرج في السؤال السول فأخفى سره وهو أدنى في علينه وهو { كيف تحيي الموتى } وهو يعلم أنه يعلم السر وأخفى . فأول باب فتح عليه من مقصوده أن أسمعه من كلامه بفضله وجوده . و { قال أولم تؤمن } فكان في هذه الكلمة من إعجاز القرآن ثلاثة معان مضمرة : أو لم تؤمن وقت ما آمنت عند نمرود بأني أحيي وأميت فما كان إيمانك حقيقاً؟ أو لم تؤمن لميعاد رؤيتي في الجنة فأريك ثمة؟ أو لم تؤمن بما طلبت من الإحياء؟ مضمراً في كل منها الإثبات في لفظة النفي . فأجاب الخليل عن الاستفهامات الثلاثة ببلى سراً بسر أي بلى آمنت . وكان إيماناً حقيقياً ولكن ما كان مقصودي الإيمان والإيقان فإنه حاصل ، ولا إحياء الموتى فإني فارغ من الموتى وإحيائهم ، ولكني سألت ليطمئن قلبي بما تريد ، أو بلى آمنت بميعاد رؤيتك في الجنة ولكن ليطمئن قلبي برؤيتك ، فإنه كلما ازداد اليقين ازداد الشوق فاضطراب قلبي من غاية يقيني ، أو بلى آمنت بقدرتك على الإحياء ولكن ما سألتك عن الإحياء وإنما سألتك عن كيفية الإحياء ، ففي ضمن ذلك يحصل مقصودي كما أن من له معشوق خياط وهو يريد مشاهدة معشوقه ويحتشم أن يقول : أرني وجهك لأنظر إليك .
لأنه يعلم أن الدلال فرين الجمال ، وأن العزة والحسن توأمان : وفي مذهب الملاح الطلب رد والسبيل سد فيقول : أرني كيف تخيط الثياب؟ فكل صانع فاخر في صنعته يريد أن يرى جودة عمله فيحضر المعشوق عنده بلا حجاب وهو يخيط الثوب فيقول : انظر إليّ كيف أخيطه؟ فالعاشق ينظر بعلة الصنع إلى الصانع ويحظى منه بلا مانع ودافع ويطمئن قلبه بذلك . فالخليل لما اعتذر عن الجليل من اضطراب قلبه واضطرار حاله وتضرع بين يدي مولاه ، وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه حقق رجاءه وقال { خذ أربعة من الطير } الآية . والمراد أنك محجوب بك عني فبحجاب صفاتك عن صفاتي محجوب ، وبحجاب ذاتك عن ذاتي ممنوع ، فمهما تموت عن صفاتك تحيا بصفاتي ، فإذا فنيت عن ذاتك بقيت ببقاء ذاتي { فخذ أربعة من الطير } وهي الصفات الأربع التي تولدت من العناصر الأربعة التي خمرت طينة الإنسان منها فتولدت من ازدواج كل عنصر مع قرينه صفتان : فمن التراب وقرينها وهو الماء تولد الحرص والبخل وهما قرينان يوجدان معاً ، ومن الناء وقرينها وهو الهواء تولد الغضب والشهوة ، ولكل واحد من هذه الصفات زوج خلق منها ليسكن إليها . فالحرص زوجه الحسد ، والبخل زوجه الحقد ، والغضب زوجه الكبر ، وليس للشهوة اختصاص بزوج معين بل هي كالمعشوقة بين الصفات فتعلق بها كل صفة ، فهن الأبواب السبعة للدركات السبع من جهنم { لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم } [ الحجر : 44 ] يعني من الخلق . فمن كان الغالب عليه صفة منها دخل النار من ذلك الباب ، فأمر الله تعالى خليله بذبح هذه الصفات وهي الطيور الأربعة ، طاوس البخل فلو لم يزين المال في نظر البخيل ما بخل به ، وغراب الحرص وبكوره من حرصه ، وديك الشهوة ، ونسر الغضب لترفعه في الطيران وهذه صفة المغضب . فلما ذبح الخليل بسكين الصدق هذه الطيور وانقطعت منه متولداتها ما بقي له باب يدخل به النار فصارت النار عليه لما ألقي فيها برداً وسلاماً . والمبالغة في تقطيعها ونتف ريشها وخلط أجزائها إشارة إلى محو آثار الصفات المذكورة وهدم قواعدها علي يدي إبراهيم الروح بأمر الشرع { ثم اجعل على كل جبل } هي الجبال الأربعة التي جبل الإنسان عليها : النفس النامية وهي النباتية ، والأرواح الثلاثة الحيواني والطبيعي والإنسان الملكي . فهذه الجبال كالأشجار والزروع ، وأجزاء الطيور كالتراب المخلوط بالزبل يجعل على الزروع فيتقوى كل واحد من هؤلاء بقوّة واحد من أولئك ، ويتربى بتربيتها ويتصرف فيها الروح الإنساني فيحييها بنور هو من خصائص أرواح الإنسان ، فتكون تلك الصفات ميتة عن أوصافها حية باخلاق الروحانيات . هذا لخواص الخلق الذي الغالب على أحوالهم الروح ، وأما خواص الخواص ومن أدركته العناية كالخليل ، فالله تعالى بعد خمود هذه الصفات يتجلى له بصفته المحيي فيحيي هذه الصفات الفانية عن أوصافها بنور صفته المحيية فيكون العبد في تلك الحالة حياً بحياته محيياً بصفاته كما قال
« لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت له سمعاً وبصراً ولساناً ويداً فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق وبي يبطش » كما أن أمياً يقول لكاتب : أرني كيف تكتب . فيجعل الكاتب قلمه في يد الأمي ويأخذ يده بيده ويكتب فتظهر الكتابة من يدي الأمي على الصحيفة ، ففي تلك الحالة يظن الأمي أنه صار كاتباً فيقول أنا الكاتب كقوله :
عجبت منك ومني ... أفنيتني بك عني
أدنيتني منك حتى ... ظننت أنك أني
فإذا رفع الكاتب يده عن يد الأمي فيعلم الأمي أنه أمي والكاتب هو الكاتب فيستغفر عن ذنب حسبانه أنه هو الكاتب وإليه الإشارة بقوله { واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] أي ذنب حسبان أنك كاتب وأنت نبي أمي عربي ما وصلت إلى ما وصلت إلا بفضلنا { وكان فضل الله عليك عظيماً } [ النساء : 113 ] ثم إن الله تعالى إن تجلى لخليله بصفة واحدة وهي صفة المحيي ليريه آية من آياته وهي كيفية الإحياء ، فقد تجلى لحبيبه بجميع صفاته ليلة المعراج كما قال { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 18 ] والخليل طلب الرؤية لنفسه { رب أرني } والحبيب طلبها له ولأمته « أرنا الأشياء كما هي » وذلك لعلو مرتبته وهمته ورفعته وكمال معرفته ، فلعلو همته قال : أرنا . ولرفعة مرتبته قال : الأشياء كما هي ، فإن فيه مع رعاية الأدب إخفاء المقصود . فكان قول الخليل بالنسبة إلى هذا تصريحاً وإن كان بالنسبة إلى قول الكليم تعريضاً . وفيه أيضاً طلب كمال الرؤية بجميع الصفات فإن جميعها داخلة في الأشياء ، ولكمال معرفته طلب رؤية الماهية فقال « كما هي » وهذا هو الملك الحقيقي الذي لا يكتنه كنهه . ثم قيل للخليل { واعلم أن الله عزيز } أعز من أن يعرف كنه صفاته { حكيم } لا يطلع على أسراره إلا من يليق بذلك من مخلوقاته .
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
القراآت : { أنبتت سبع } وبابه بالإدغام : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل . { يضعف } وبابه : ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب . الباقون { يضاعف } { رياء الناس } غير مهموز حيث كان يزيد والشموني والخزاعي عن ابن فليح وحمزة في الوقف . الباقون بالهمزة . { الكافرين } بالإمالة : أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه ورويس عن يعقوب ، وكذلك ما كان محله النصب من الإعراب كل القرآن { بربوة } بفتح الراء حيث كان ابن عامر وعاصم . الباقون بضمها { أكلها } وبابه ساكنة الكاف : ابن كثير ونافع وافق أبو عمرو فيما اتصلت بالهاء والألف { بما يعملون بصير } بالياء التحتانية : أبو عون عن قنبل . الباقون بالتاء للخطاب .
الوقوف : { مائة حبة } ط ، { لمن يشاء } ط ، { عليم } ه ، { عند ربهم } ج لعطف المختلفتين ، { يحزنون } ه ، { أذى } ط { حليم } ه ، { والأذى } ( لا ) لتعلق كاف التشبيه أي إبطالاً مثل إبطال الذي ، { الآخر } ط ، { صلدا } ط ، { كسبوا } ط ، { الكافرين } ه ، { ضعفين } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب واتحاد الكلام ، { فطل } ط ، { بصير } ه ، { الأنهار } ( لا ) لأن ما بعده صفة لجنة أيضاً ، { الثمرات } ( لا ) لأن الواو وللحال ، { ضعفاء } ص والوصل أولى والوقف على { فاحترقت } ط لتناهي مقصود الاستفهام والمعنى : أيحب أحدكم احتراق جنة صفتها كذا في حال كذا؟ { تتفكرون } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر من أصول المبدأ والمعاد ما اقتضاه المقام أتبعه ببيان التكاليف والأحكام . قال القاضي في كيفية النظم : إنه تعالى لما أجمل في قوله { من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [ البقرة : 245 ] ، فصّل بعد ذلك بهذه الآية تلك الأضعاف ، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته على الإحياء والإماتة لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب بعد الحشر لكان التكليف بالإنفاق وسائر الطاعات عبثاً كأنه قال : قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمي عليك بالإحياء والإقدار ، وقد علمت قدرتي على المجازاة ، فليكن علمك بهذه الأصول داعياً إلى إنفاق الأموال فإنه يجازي القليل بالكثير ، ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً وهو من الواحد إلى سبعمائة . وعن الأصم أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد ما احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته . وقيل : إنه تعالى لما بين أنه وليّ المؤمنين ، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت ، بيّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت . قلت : لما بين صحة المعاد ولا بد له من زاد ولا يمكن التزود من الأموال التي يمتلكها العباد بالإنفاق ، أتبعه أحكامه فقال { مثل الذين } ولا بد من إضمار ليصح التشبيه أي مثل صدقاتهم كمثل حبة أو مثلهم باذر حبة .
وسبيل الله دينه . فقيل الجهاد ، وقيل جميع أبواب الخير . والمنبت هو الله ، ولكن الحبة لما كنت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء . ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب لكل واحد سنبلة . وهذا التمثيل تصوير للأضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد ، على أنه قد يوجد في الجاورس والذرة وغيرهما مثل ذلك . وسبع سنابل مثل ثلاثة قروء في إقامة جمع الكثرة مقام القلة . { والله يضاعف } أي تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين في الإخلاص ، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافها لمن يستحق ذلك في مشيئته . { والله واسع } كامل القدرة على المجازاة لأن فيضه غير متناه { عليم } بمقادير الإنفاقات وبمواقعها ومصارفها بإخلاص صاحبها ، وإذا كان الأمر كذلك فلن يضيع عمل عامل له عنده . ثم لما عظم أمر الإنفاق أردف ببيان الأمور التي يجب رعايتها حتى يبقى ذلك الثواب منها : ترك المن والأذى ، والمنّ قد يراد به الإنعام قال تعالى { ولا تمنن تستكثر } [ المدثر : 6 ] وقد يراد به إظهار الاصطناع وهو مذموم ولهذا قيل : صنوان من منح سائله ومنّ ومنع نائله وضنّ . وذلك لما فيه من انكسار قلب الفقير ، ومن تنفير ذوي الحاجة عن صدقته ، ومن عدم الاعتراف بأن النعمة نعمة الله والعباد عباده ، وأن المعطي هو الله . وإذا كان العبد في هذه الدرجة كان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقية ، وكان في درجة البهائم التي لا يترقى نظرهن من المسحوس إلى المعقول ، ومن الآثار إلى المؤثرات . وأما الأذى فمهم من حمله على أذى المؤمنين على الإطلاق ، والمحققون خصصوه بما تقدم ذكره وهو أن يتطاول على الفقير بما أدل إليه ويقول له : ألست إلا مبرماً وما أنت إلا ثقيل ، وباعد الله ما بيني وبينك . ومعنى « ثم » تراخي الرتبة وإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى ، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق بل ترك كل منهما لأنهما نكرتان في سياق النفي { لهم أجرهم } وقال فيما يجيء { فلهم أجرهم } [ البقرة : 274 ] لأن الموصول ههنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة ، وفرق معنوي وهو أن الفاء دلالة على أن الإنفاق سبب استحقاق الأجر وطرحها عارٍ عن تلك الدلالة . ثم إنه ذكر هنالك الإنفاق منهم على سبيل المواظبة والاستمرار فكان التأكيد بما يوجب الربط بينهما ما هنالك أنسب . { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي لا يخافون فوات ثواب الإنفاق . ولا يحزنون بالفوات كقوله { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } [ طه : 112 ] والمراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ولا يحزنهم الفزع الأكبر . ويعلم من قوله { في سبيل الله } أن قوله { لهم أجرهم } مشروط بأن لا يوجد منهم الكفر ، ويعلم من قوله { ثم لا يتبعون } أن المن والأذى من قبيل الكبائر حيث يخرجان هذه الطاعة العظيمة عن الاعتداد بها .
احتجت المعتزلة بالآية من وجهين : الأول أن العمل يوجب الأجر لقوله { لهم أجرهم } وأجيب بأن ذلك بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل . الثاني أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وإلا لم يكن المن والأذى مبطلين ثواب الإنفاق ، وأجيب بأن الإنفاق على تقدير المن والأذى لا ثواب له أصلاً ، فكيف يتصور رفع ما لم يوجد؟ { قول معروف } تقبله القلوب ولا تنكره وذلك أن يرد السائل بطريق أحسن وعدة حسنة { ومغفرة } عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول لأنه إذا رد بغير مقصوده فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل أو عفو من جهة السائل بأن يعذر المسؤول إذا رده رداً جميلاً { خير من صدقة يتبعها أذى } لأنه إذا أتبع الإيذاء الإعطاء فقد جمع بين الإنفاع والإضرار ، وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر . وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إيصال السرور إلى قلب المؤمن ولا إضرار ، فكان الأولى { ومن الناس } الناس من خصص الآية بالتطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل فيه . ورد بأن الواجب قد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير { والله غني } عن صدقة كل منفق ، فما وجه المن؟ { حليم } عن معاجلته بالعقوبة إذا مَنّ ، ولا يخفى ما فيه من الوعيد . ثم إنه تعالى ضرب لكل واحد من المؤذي وغير المؤذي مثلاً فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } وعن ابن عباس : بالمن على الله والأذى للفقير ، { كالذي } أي كإبطال المنافق الذي { ينفق ماله رئاء الناس } وهو أن يرائي بعمله غيره ولا يريد رضا الله وثواب الآخرة ، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين للذي ينفق ، فمثله الضمير إما أن يكون عائداً إلى المنافق على أنه تعالى شبه المانّ بالمرائي المنافق ، ثم شبه المنافق بالحجر . وإما أن يعود إلى المانَّ المؤذى على أنه شبهه بالمنافق ثم شبهه بالحجر . والصفوان الحجر الأملس ، الوابل المطر العظيم القطر ، والصلد الأجرد النقي ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق . وهذا المثل ضربه الله لعمل المانِّ المؤذي ولعمل المنافق ، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان ، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ولم يؤت بها على وجه يستحق الثواب كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب . وأما المعتزلة فقالوا : إن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب ، ثم إن المنَّ والأذى أزالا ذلك الأجر بناء على مذهبهم من الإحباط والتكفير .
فعلى مذهبنا : العمل الظاهر كالتراب ، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل . وعلى قولهم : المن والأذى كالوابل ، وعن القفال : ان عمل المانِّ مشبه بما إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل ، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودع بذره خالياً لا شيء فيه . ألا ترى أنه ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ وعلى هذا فقوله { لا يقدرون على شيء } الضمير فيه عائد إلى معلوم غير مذكور ، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي فرض على الصفوان لأنه خرج عن الانتفاع به ، فكذا المانُّ والمؤذي والمنافق لا ينتفع واحد منهم بعمله يوم القيامة ، وناهيك بكون المانِّ والمنافق ملزوزين في قرن شناعة شأن المن والأذى ، وقيل : الضمير عائد إلى الذي إما لأن « من » و « الذي » متعاقبان فكأنه قيل : كمّن ينفق ، وإما لأن المراد المراد الفريق الذي ، وإما لأنه أشير بالذي إلى الجنس والجنس في حكم العام . وقيل : المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فإنكم إن فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم ، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة كقوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [ يونس : 22 ] . { والله لا يهدي القوم الكافرين } معناه - على قولنا - سلب الإيمان عنهم ، وعلى قول المعتزلة أنه يضلهم عن الثواب وطريق الجنة لسوء اختيارهم { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } طلباً لمرضاته { وتثبيتاً من أنفسهم } قيل : أي يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها من المن والأذى . وقيل : تثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه ، ويعضده قراءة مجاهد { وتبييناً } من البيان . وقيل : إن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالرياضة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال ، فإذا بذل ماله وروحه معاً فقد ثبت نفسه كلها { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [ الصف : 11 ] وإذا بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه ، فعلى هذا « من » للتبعيض ذكره في الكشاف ، قال الزجاج : تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم جازمين بأن الله تعالى لا يضيع ثوابهم ف « من » على هذا للابتداء ، وجزمهم بالثواب هو المراد بالتثبيت . وعن الحسن ومجاهد وعطاء : المراد أنهم يثبتون أنفسهم تثبيتاً في طلب المستحق وصرف المال في وجهه . قال الحسن : كان الرجل إذا هَمَّ بصدقة يتثبت فإن كان لله أمضى وإن خالطه شك أمسك . وقيل : إنه إذا أنفق لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وحظ من حظوظها فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه فذلك الاستقرار هو التثبيت . ويحتمل أن يكو ن المراد به حصول ملكة الإنفاق بحيث يحصل عنه بطريق الاطراد والاعتياد لا بطريق البخت والاتفاق ، فإن الأخلاق ما لم تصر ملكات لصاحبها لم تكد يظهر على جوهر النفس صفاؤها ونوريتها .
والمعنى أن مثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله كمثل جنة وهي البستان . وقرىء { كمثل جنة بربوة } بمكان مرتفع من ربا الشيء يربو إذا زاد وارتفع ، ومنه الربو لزيادة التنفس ، والربا في المال . قيل : وإنما خص المكان المرتفع لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً . واعترض عليه بأن المكان المرتفع لا يحسن ريعه لبعده عن الماء وربما تضربه الرياح كما أن الوهاد لكونها مصب المياه قلما يحسن ريعها ، فإذن البستان لا يصلح له إلا الأرض المستوية ، فالمراد بالربوة أرض طيبة حرة تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر ، فإنها إذا كانت على هذه الصفة كثر دخلها وكمل شجرها كقوله تعالى { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } [ الحج : 5 ] ومما يؤكد ما ذكرنا أن هذا المثل ، في مقابلة المثل الأول ، فكما أن الصفوان لا يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فينبغي أن تكون هذه الأرض بحيث تربو وتنمو { فآتت أكلها } أي ثمرتها وما يؤكل منها { ضعفين } مثلي ما كان يعهد منها . وقيل : مثلي ما يكون في غيرها { فإن لم يصبها وابل فطل } مطر صغير القطر يصيبها ولا ينتقص شيء من ثمرها لكرم منبتها ، أو المراد أنها على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر قل أم كثر ، وكذلك من أخرج صدقة لوجه الله لا يضيع كسبه وفّر أم نزر . ويحتمل أن يمثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة ، ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل ، وكما أن الكل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم تزيد في زلفاهم وحسن حالهم { والله بما تعملون } من وجوه الإنفاق وكيفيتها والأمور الباعثة عليها { بصير } فيجازي بحسب النيات وخلوص الطويات . ثم إنه سبحانه رغب في الإنفاق المعتبر الجامع لشرائطه وحذر عن ضده بأن ضرب مثالاً آخر فقال { أيود أحدكم } والهمزة للإنكار البالغ أي لن يود . قرىء { له جنات } وقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف الأول : كونها من نخيل وأعناب كأن الجنة إنما تكوّنت منهما لكثرتهما فيها . الثاني : تجري من تحتها الأنهار ، ولا شك أن ذلك يزيد في رونقها وبهائها . والثالث : فيها من كل الثمرات ، وإنما خص النخيل والأعناب أولاً بالذكر لأنهما أكرم الشجر أو أكثرها منافع . قال في الشكاف : ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيهما كقوله { وكان له ثمر } [ الكهف : 34 ] بعد قوله { جنتين من أعناب وحففناهما بنخل } [ الكهف : 32 ] . ثم شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال { وأصابه الكبر } أي والحال أنه قد أصابه الكبر . وقال الفراء : إنه معطوف على { يود } واستقام نظر المعنى لأنه يقال : وددت أن يكون كذا ، ووددت لو كان كذا ، فكأنه قيل : أيود أحدكم لو كانت له جنة واصابه الكبر وله ذرية ضعفاء .
وقرىء { ضعاف } أي صبيان وأطفال { فأصابها إعصار } ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود { فيه نار فاحترقت } أي الجنة ولا يخفى أن هذه المثل في المقصود أبلغ الأمثال ، فإن الإنسان إذا كان له جنة في غاية الكمال ، وكان هو في نهاية الاحتياج إلى المال - وذلك أوان الكبر مع وجود الأولاد الأطفال - فإذا أصبح وشاهد تلك الجنة محترقة بالصاعقة ، فكم يكون في قلبه من الحسرة وفي عينه من الحيرة؟ فكذا الإنفاق نظير الجنة المذكورة وزمان الاحتياج يوم القيامة ، فإذا أتبع الإنفاق النفاق أو المن والأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة ويورثه الخيبة والندامة .
التأويل : { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } فلهم الجنة ، والذين ينفقون أرواحهم وقلوبهم في سبيل الله فلهم الله ، ومن أعطى تمرة إلى فقير يأخذها الله بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم فلوة أو فصيلة حتى تكون أعظم من الجبل . فمن أعطى قلبه إلى الله فهو يربيه بين أصبعي جلاله حتى يصير أعظم من العرش بما فيه ، وإن قوماً بذلوا المال لله ، وقوماً بذلوا الحال بإيثار صفاء الأوقات وفتوحات الخلوات على طلاب الحق وأرباب الصدق للقيام بأمورهم في تشفي ما في صدورهم { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] فبذلوا ليحصلوا ، وحصلوا لينفصلوا ، وانفصلوا ليتصلوا ، واتصلوا ليصلوا الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله في طلبه لا في طلب غيره من الثناء والجزاء { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [ الدهر : 9 ] { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا } على الله بأن يقول : عملت هذا العمل لأجلك ووجب لي عليك الأجر { ولا أذى } بأن يطلب من الله غير الله . رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام فقال له : كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني { لهم أجرهم عند ربهم } ينزلهم في مرتبة العندية { عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] لا عند الجنة ولا عند النار . { قول معروف } يصدر عن العارف بالله في طلب المعروف { ومغفرة } له وأن لم يكن عنده ما يتصدق { خير } له عند ربه { من صدقة يتبعها } من الجهل { أذى } طلب غير الحق من الحق { والله غني } عن غيره { حليم } لا يعجل بالعقوبة على من يختار في الطلب غيره ، ولولا حلمه فما للتراب ورب الأرباب { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فالمعاملات إذا كانت مشوبة بالأغراض ففيها نوع من الإعراض ، ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [ يونس : 32 ] . ولو كان قصدك في الصدقة طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منته حيث صار سبب وصولك إلى الحق ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم
« لولا الفقراء لهلك الأغنياء » أي لم يجدوا سبيلاً إلى الحق . وفسر بعضهم اليد العليا بيد الفقير ، واليد السفلى بيد الغني . لأن الفقير يأخذ منه الدنيا ويعطيه الآخرة { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } لأنه لو كان مؤمناً بالله لكان ينفق لله ، ولو كان يؤمن بالآخرة لأنفق للآخرة لا للناس فمثل المرائي { كمثل صفوان عليه تراب } هو عمله { فأصابه وابل } وهو وابل الرد . « أنا أغنى الأغنياء عن الشرك » { فتركه صلداً } مفلساً خائباً . { لا يقدرون عل شيء مما كسبوا } ليتوسلوا به إلى الله . { والله لا يهدي القوم الكافرين } بنعمة طلب شهود جماله فحرموا عن دولة وصاله . { وتثبيتاً من أنفسهم } وتخليصاً لنياتهم في طلب الحق ومرضاته من خطوط أنفسهم { كمثل جنة } هي قلب المخلص { بربوة } في رتبة عالية عند الحق { أصابها وابل } الواردت الربانية { فإن لم يصبها وابل فطل } الإلهامات { فآتت أكلها ضعفين } ضعف من نعيم الجنة وضعف من دولة الوصال وشهود ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فإن الله تعالى كما يعطي أهل الآخرة نصيباً من الدنيا بالتبعية ولا يعطي أهل الدنيا نصيباً من الآخرة ، فكذلك يعطي أهل الله نصيباً من الآخرة بالتبعية ولا يعطي أهل الآخرة ما لأهل الله من القربة { والله بما تعملون بصير } كيف تعملون ولماذا تعملون لابتغاء المرضاة أو لاستيفاء اللذات واستبقاء الحياة . ثم ضرب مثلاً لروح الإنسان وقلبه بجنةٍ له فيها من كل الثمرات إذا خلق في أحسن تقويم ، مستعداً لجميع الكرامات ، مشرفاً بعلم السمات ، منوراً بأنوار العقل والحواس السليمات ، متوحداً بحمل الأمانة ، متفرداً برتبة الخلافة . جنة هي منظور نظر العناية تجري من تحتها أنهار الهداية ، وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية ، { وله ذرية ضعفاء } من متولدات القوى البشرية في غاية الافتقار إلى التربية بأغذية ثمراتها { فأصابها إعصار } من أعمال البر { فيه نار } من الرياء والنفاق { فاحترقت } جنة الروحانية بنار صفات البشرية وتبدلت الأخلاق الروحية بالنفسية ، والملكية بالشيطانية { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلك تتفكرون } في إحسانه معكم بإيتاء الاستعداد الفطري ، فلا تبطلوه بقبيح فعالكم ، ولا تضيعوا أعماركم في طلب آمالكم ، وتستعدوا للموت قبل حلول آجالكم والله المستعان وهو حسبي .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
القراآت : { ولا تيمموا } بتشديد التاء ومد الألف : البزي وابن فليح الباقون على الأصل { ومن يؤت الحكمة } بكسر التاء : يعقوب أي من يؤتيه الله . الباقون بالفتح { فنعما هي } ساكنة العين : أبو عمرو والمفضل ويحيى وأبو جعفر ونافع غير ورش { فنعما هي } بفتح النون وكسر العين : ابن عامر وعلي وحمزة وخلف والخراز ، الباقون { فنعما هي } بكسر النون والعين والميم مشددة في القراآت ، { ونكفر } بالنون والراء ساكنة : أبو جعفر ونافع وحمزة وخلف وعلي { ويكفر } بالياء والراء مرفوعة : ابن عامر وحفص والمفضل . الباقون { ونكفر } بالنون ورفع الراء { يحسبهم } وبابه بفتح السين : ابن عامر ويزيد وحمزة وعاصم غير الأعشى وهبيرة . { بسيماهم } بالإمالة : حمزة وعلي وابن شاذان عن خلاد مخيراً . وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة ، وكذلك كل كلمة على ميزان « فعلى » .
الوقوف : { من الأرض } « ز » لعطف المتفقتين { تغمضوا فيه } ( ط ) ، { حميد } ه ، { الفحشاء } ج ، وإن اتفقت الجملتان ولكن للفصل بين تخويف الشيطان الكذاب ووعد الله الحق الصادق ، { فضلاً } ط ، { عليم } ه ، وقد يوصل على جعل ما بعده صفة ، { من يشاء } ج لابتداء الشرط مع العطف . ومن قرأ { ومن يؤت الحكمة } بالكسر فالوصل أجوز . { كثيراً } ط ، { الألباب } ه ، { يعلمه } ط ، { أنصار } ه ، { فنعما هي } ج ، { خير لكم } ط ، لمن قرأ { ونكفر } مرفوعاً بالنون أو الياء على الاستئناف . ومن جزم بالعطف على موضع فهو خير لكم لم يقف { سيئاتكم } ط ، { خبير } ه ، { من يشاء } ط لابتداء الشرط { فلأنفسكم } ط لابتداء النفي ، { وجه الله } ط ، { لا يظلمون } ه ، { في الأرض } ز لأن { يحسبهم } وإن صلحت حالاً بعد حال نظماً ، ولكن لا يليق بحال من أحصر . { التعفف } ز لأن { تعرفهم } تصلح استئنافاً والحال أوجه أي يحسبهم الجاهل أغنياء وأنت تعرفهم بحقيقة ما في بطونهم من الضر وهم لا يسألون الناس على إلحاف . وقد يجعل { لا يسألون } استئنافاً فيجوز الوقف على { سيماهم } { إلحافاً } ط ، { عليم } ه ، { عند ربهم } ج { يحزنون } ه .
التفسير : لما رغب في الإنفاق وذكر أن منه ما يتبعه المن والأذى ، ومنه ما لا يتبعه ذلك ، وشرح ما يتعلق بكل من القسمين وضرب لكل واحد مثلاً ، ذكر بعد ذلك أن المال الذي أمر بإنفاقه في سبيل الله كيف يجب أن يكون فقال { أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا } أي من طيبات ما أخرجنا ، فحذف لدلالة الأول عليه . عن الحسن : أن المراد من هذا الإنفاق الفرض بناء على أن ظاهر الأمر للوجوب ، والإنفاق الواجب ليس إلا الزكاة وسائر النفقات الواجبة ، وقيل : التطوع لما روي عن علي والحسن ومجاهد أن بعض الناس كانوا يتصدقون بشرار ثمارهم ورذالة أموالهم فأنزل الله هذه الآية .
عن ابن عباس : « جاء رجل ذات يوم بعذق حشف فوضعه في الصدقة لأهل الصفة على حبل بين أسطوانيتن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : بئسما صنع صاحب هذا » فنزلت . وقيل : يشمل الفرض والنفل ، لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على الترك فقط ، ويتفرع على قول الوجوب وجوب الزكاة في كل مال يكسبه الإنسان ، فيشمل زكاة التجارة وزكاة الذهب والفضة وزكاة النعم وزكاة كل ما ينبت من الأرض ، إلا أن العلماء خصصوها بالأقوات لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « الصدقة في أربعة : في التمر والزبيب والحنطة والشعير وليس فيما سواها صدقة » فهذا الخبر ينفي الزكاة في غير الأربعة ، لكن ثبت أخذ الزكاة من الذرة وغيرها بأمر صلى الله عليه وسلم فعلم وجوب الزكاة في الأقوات دون غيرها . ولا يكفي في وجوب الزكاة كون الشيء مقتاتاً على الإطلاق ، بل المعتبر حالة الاختيار لا وقت الضرورة ومثله الشافعي بالقت وحب الحنظل وسائر البذور البرية ، وشبهها ببقرة الوحش لا زكاة فيها لأن الناس لا يتعهدونها . وأيضاً لا تجب الزكاة في القوت ما لم يبلغ خمسة أوسق وبه قال مالك وأحمد لرواية أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ليس فيما دون خمسَة أوسق صدقة » وقال أبو حنيفة : يجب العشر في القليل والكثير استدلالاً بعموم الآية . وتفصيل الكلام في الأموال الزكوية وكيفية إخراجها ونصاب كل منها مشهور مذكور في الفروع ، فلذلك ولطولها لم نشرع فيها . وما المراد بالطيب في الآية؟ قيل : الجيد فيكون المراد بالخبيث الرديء لما مر في سبب النزول أنهم كانوا يتصدقون برذالة أموالهم فنهوا عن ذلك ، ولأن المحرم لا يجوز أخذه بالإغماض وبغيره ، والآية دلت على جواز أخذ الخبيث بالإغماض ، وعن ابن مسعود ومجاهد : أن الطيب هو الحلال والخبيث هو الحرام ، والمراد من الإغماض هو المسامحة وترك الاستقصاء . والمعنى ولستم بآخذيه وأنتم تعلمون أنه محرم إلا أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام ولا تبالوا من أي وجه أخذتم المال من حلاله أو من حرامه ، ويحتمل أن يراد ما يكون طيباً من جميع الوجوه فيكون طيباً بمعنى الحلال وبمعنى الجودة أيضاً ، لأن الاستطابة قد تكون شرعاً وقد تكون عقلاً . واعلم أن المال الزكوي إن كان كله شريفاً وجب أن يكون المأخوذ منه كذلك ، وإن كان الكل خسيساً فلا يكلف صاحبه فوق طاقته ولا يكون خلافاً للآية لأن المأخوذ في هذه الحال لا يكون خبيثاً من ذلك المال وإنما الكلام فيما لو كان في المال جيد ورديء فحينئذٍ يقال للإنسان لا تجعل الزكاة من رديء مالك ، ولا تكلف أيضاً جيده لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن :
« اعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم وإياك وكرائم أموالهم » بل الواجب حينئذٍ هو الوسط . ثم إن قلنا : المراد من الإنفاق في الآية التطوع أو هو والفرض جميعاً ، فالمعنى أن الله تعالى ندبهم إلى أن يتقربوا إليه بأفضل ما يملكونه قضاء لحقوق التعظيم والإخلاص ، ومعنى { لا تيمموا الخبيث } لا تقصدوه . يقال : تيممته وتأممته كله بمعنى قصدته . ومحل { تنفقون } نصب على الحال ، وقدم { منه } عليه ليعلم أن المنهي عنه هو تخصيص الخبيث بالإنفاق منه أي إذا كان في المال طيب وخبيث . ويحتمل أن يتم الكلام عند قوله : { ولا تيمموا الخبيث } ثم ابتدأ مستفهماً بطريق الإنكار فقال : { منه تنفقون } وحالكم أنكم لا تأخذونه في حقوقكم إلا بالإغماض وهو غض البصر وإطباق جفن على جفن وأصله من الغموض وهو الخفاء . يقال للبائع : أًغْمِضْ أي لا تستقص كأنك لا تبصر . وأصله أن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه كيلا يرى ذلك ، فكثر حتى جعل كل مساهلة إغماضاً أي لو أهدي لكم مثل هذه الأشياء أخذتموها إلا على استحياء وإغماض ، فكيف ترضون لي ما لا ترضونه لأنفسكم؟ ويحتمل أن يراد إلا إذا أغمضتم بصر البائع أي كلفتموه الحط من الثمن . عن الحسن : لو وجدتموه في السوق يباع ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه . { واعلموا أن الله غني } عن صدقاتكم { حميد } محمود على ما أنعم من البيان والتكليف بما تحوزون به النعيم الأبدي ، أو حامد شاكر على إنفاقكم كقوله : { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 19 ] ثم إن الله تعالى لما رغب في أجود ما يملكه الإنسان أن ينفق ، حذر عن وسوسة الشيطان فقال : { الشيطان يعدكم الفقر } أما الشيطان فيشمل إبليس وجنوده وشياطين الإنس والنفس الأمارة بالسوء . والوعد يستعمل في الخير والشر . قال تعالى : { النار وعدها الله الذين كفروا } [ الحج : 72 ] ويمكن أن يكون استعماله في الشر محمولاً على التهكم مثل { فبشرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] وأصل الفقر في اللغة كسر الفقار وقرىء الفقر بضمتين ، والفقر بفتحتين . { ويأمركم بالفحشاء } يغريكم على البخل ومنع الصدقات إغراء الآمر للمأمور . والفاحش عند العرب البخيل . والتحقيق أن لكل خلق طرفين ووسطاً ، فالطرف الكامل للإنفاق هو أن يبذل كل ماله في سبيل الله ، والطرف الأفحش أن لا ينفق شيئاً لا الجيد ولا الرديء ، والوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء . فالشيطان إذا أراد نقله من الأفضل إلى الأفحش ، فمن خفي حيلته أن يجره إلى الوسط وهو وعده بالفقر ، ثم إلى الطرف وهو أمره بالفحشاء . وذلك أن البخل صفة مذمومة عند كل أحد فلا يمكنه أن يجره ابتداء إليها إلا بتقديم مقدمة هي التخويف بالفقر إذا أنفق الجيد من ماله ، فإذا أطاعه زاد فيمنعه من الإنفاق بالكلية .
وربما تدرج إلى أن يمنع الحقوق الواجبة فلا يؤدي الزكاة ولا يصل الرحم ولا يرد الوديعة ، فإذا صار هكذا ذهب وقع الذنوب عن قلبه ويتسع الخرق فيقدم على المعاصي كلها . ثم لما ذكر درجات وسوسة الشيطان أردفها بذكر إلهامات الرحمن فقال : { والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً } فالمغفرة إشارة إلى منافع الآخرة والفضل إشارة إلى ما يحصل في الدنيا من الخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الملك ينادي كل ليلة : اللهم أعط منفقاً خلفاً وممسكاً تلفا » فالشيطان يعدكم الفقر في غد الدنيا ، والرحمن يعدكم المغفرة في غد العقبى ، ووعد الرحمن بالقبول أولى لأن الوصول إلى غد الدنيا مشكوك فيه ، وغد العقبى مقطوع به . وعلى تقدير وجدان غد الدنيا فقد لا يبقى المال بآفة أخرى ، وعند وجدان العقبى لا بد من حصول المغفرة فإن الله تعالى لا يخلف الميعاد . ولو فرض بقاء المال فقد لا يتمكن صاحبه من الانتفاع به لخوف أو مرض أومهم بخلاف الانتفاع بما في الآخرة فإنه لا مانع منه . وبتقدير التمكن من الانتفاع بالمال فإن ذلك ينقطع ويزول بخلاف الموعود في الآخرة فإنه باق لا يزول . وأيضاً لذات الدنيا مشوبة بالآلام والمضار ألبتة ، فلا لذة إلا وفيها ألم من وجوه كثيرة بخلاف لذات الآخرة فإنه لا نغص فيها ولا نقص . والمراد بالمغفرة تكفير الذنوب ، والتنكير فيه للدلالة على الكمال والتعظيم لا سيما وقد قرن به لفظة « منه » فإن غاية كرمه ونهاية جوده مما يعجز عن إدراكها عقول الخلائق . ويحتمل أن يكون نوعاً من المغفرة وهو المشار إليه في آية أخرى { فأولئك يبدل الله سيآتهم حسنات } [ الفرقان : 70 ] أو أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب إخوانه المؤمنين . وأما الفضل فيحتمل أن يراد به الفضيلة الحاصلة للنفس وهي ملكة الجود والسخاء ، وذلك أن المال فضيلة خارجية وعدمه نقصان خارجي ، وملكة الجود فضيلة نفسانية وملكة البخل رذيلة نفسانية ، فمتى لم يحصل الإنفاق حصل الكمال الخارجي والنقصان الداخلي ، وإذا حصل الإنفاق وجد الكمال الداخلي والنقصان الخارجي ، فيكون الإنفاق أولى وأفضل . وأيضاً متى حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بنعيم الدنيا والتهالك في طلبها فاستنارت بالأنوار القدسية وهذا هو الفضل . وأيضاً مهما عرف من الإنسان أنه منفق كانت الهمم معقودة على أن يفتح الله عليه أبواب الرزق ولمثل ذلك من التأثير ما لا يخفى { والله واسع } كامل العطاء كافل للخلف قادر على إنجاز ما وعد { عليم } بحال من نفق ثقة بوعده وبحال من لم ينفق طاعة للشيطان . ثم نبه على الأمرالذي لأجله يحصل ترجيح وعد الرحمن على وعد الشيطان وهو الحكمة والعقل ، فإن وعد الشيطان إنما ترجحه الشهوة والنفس . عن مقاتل : إن تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه : أحدها : مواعظ القرآن
{ وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به } [ البقرة : 231 ] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم { وآتيناه الحكم صبياً } [ مريم : 12 ] { ولقد آتينا لقمان الحكمة } [ لقمان : 12 ] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة { وآتاه الله الملك والحكمة } [ البقرة : 251 ] ورابعها القرآن بما فيه من الأسرار { يؤتي الحكمة من يشاء } وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم . فتأمل يا مسكين شرف العلم فإن الله تعالى سماه الخير الكثير { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } والتنكير للتعظيم . وسمى الدنيا بأسرها قليلاً { قل متاع الدنيا قليل } وذلك أن الدنيا متناهية العدد ، متناهية المقدار ، متناهية المدة والعلوم ، لا نهاية لمراتبها وعددها ومدة بقائها والسعادات الحاصلة منها . واعلم أن كمال الإنسان في شيئين : أن يعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به . فمرجع الأول إلى العلم والإدراك المطلق ، ومرجع الثاني إلى فعل العدل والصواب ، ولذلك سأل إبراهيم صلى الله عليه وسلم { رب هب لي حكماً } [ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة النظرية ، { وألحقني بالصالحين } [ الشعراء : 83 ] وهو الحكمة العملية . ونودي موسى عليه السلام { إنى أنا الله لا إله إلا أنا } وهو الحكمة النظرية ثم قال : { فاعبدني } [ طه : 14 ] وهو العملية . وحكي عن عيسى عليه السلام أنه { قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً وجعلني مباركاً أينما كنت } [ مريم : 30 ، 31 ] وكلها النظرية { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً وبراً بوالدتي ولم يجعلني جباراً شقياً } [ مريم : 31 ، 32 ] وجميعها العملية . وقال في حق محمد صلى الله عليه وسلم : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } [ محمد : 19 ] وهو النظرية ثم قال { واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] وهو العملية . وقال في حق جميع الأنبياء { ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا } [ النحل : 2 ] وأنه الحكمة العلمية ثم قال { فاتقون } [ النحل : 2 ] وهو الحكمة العملية . فعلم من هذه الآيات وأمثالها أن كمال حال الإنسان في هاتين القوتين . والحكمة فعلة من الحكم كالنحلة من النحل . ورجل حكيم إذا كان ذا حجا ولب وإصابة رأي ، فعيل بمعنى فاعل ويجيء بمعنى مفعول { فيه يفرق كل أمر حكيم } [ الدخان : 4 ] أي محكم . وفي الآية دليل على أن جميع العلوم النظرية والأخلاق المرضية إنما هي بإيتاء الله تعالى . والذين حملوا الإيتاء على التوفيق والإعانة كالمعتزلة ما زادوا إلا أن وسعوا الدائرة إذ لا بد من الانتهاء إليه أية سلكوا { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين إذا حصل لهم الحكم والمعارف لم يقفوا عند المسببات ، فلم ينسبوا هذه الأحوال إلى أنفسهم بل يرقون إلى أسبابها حتى يصلوا إلى السبب الأول . وأما المعتزلة فإنهم لما فسروا الحكمة بقوة الفهم ووضع الدلائل قالوا : هذه الحكمة لا تفيد بنفسها وإنما ينتفع بها المرء إذا تدبر وتذكر فعرف ماله وما عليه ، وعند ذلك يقدم أو يحجم . ثم إنه تعالى نبه على أنه عالم بما في قلب العبد من نية الإخلاص أو الرياء ، وأنه يعلم القدر المستحق من الثواب والعقاب على تلك الدواعي والنيات فلا يهمل شيئاً منها فقال { وما أنفقتم من نفقة } لله أو للشيطان { أو نذرتم من نذر } في طاعة الله أو معصيته { فإن الله يعلمه } وتذكير الضمير إما لأنه عائد إلى « ما » وإما لأنه عائد إلى الأخير كقوله :
{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً } [ النساء : 112 ] وهذا قول الأخفش ، والنذر ما يلتزمه الإنسان بإيجابه على نفسه وأصله من الخوف كأنه يعقد على نفسه خوف التقصير في الأمر المهم عنده ومنه الإنذار إبلاغ مع تخويف . واعلم أن النذر قسمان : نذر اللحاج والغضب ونذر التبرر . أما الأول فهو أن يمنع نفسه من الفعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو الترك كقوله « إن كلمت فلاناً أو أكلت كذا أو دخلت الدار أو لم أخرج من البلد فللَّه علي صوم شهر أو صلاة أو حج أو إعتاق رقبة » ثم إنه إذا كلمه أو أكل أو دخل أو لم يخرج فللعماء ثلاثة أقوال : أحدها يلزمه الوفاء بما التزم ، والثاني : وهو الأصح أن عليه كفارة يمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم : « كفارة النذر كفارة اليمين » ، والثالث : التخيير بين الوفاء وبين الكفارة . وأما نذر التبرر فنوعان : نذر المجازاة وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع نقمة مثل « إن شفى الله مريضي أو رزقني ولدا فللَّه علي أن أعتق رقبة أو أصوم أو أصلي كذا » فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نذر أن يطيع الله فليطعه » ونذر التنجيز وهو أن يلتزم ابتداء غير معلق على شيء كقوله « لله علي أن أصوم أو أصلي أو أعتق » فالأصح أنه يصح ويلزم الوفاء به لمطلق الخبر . وما يفرض التزامه بالنذر إما المعاصي وإما الطاعات وإما المباحات . فالمعاصي كشرب الخمر والزنا ونذر المرأة صوم أيام الحيض ونذر قراءة القرآن في حال الجنابة لا يصح التزامها بالنذر لأنه لا نذر في معصية الله تعالى ، ومن هذا القبيل نذر ذبح الولد أو ذبح نفسه . وإذا لم ينعقد نذر فعل المعصية فعليه أن يمتنع منه ولا يلزمه كفارة يمين ، وما روي من أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين » محمول على نذر اللجاج ، وأما الطاعات فالواجبات ابتداء بالشرع كالصلوات الخمس وصوم رمضان لا معنى لالتزامها بالنذر معلقاً أو غير معلق ، وكذا لو نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني ، وإذا خالف ما ذكره فلا يلزمه الكفارة على الأصح ، وأما غير الواجبات فالعبادات المقصودة وهي التي وضعت للتقرب بها وعرف من الشارع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة فتلزم بالنذر وذلك كالصوم والصلاة والزكاة والصدقة والحج والاعتكاف والإعتاق وكذا فروض الكفايات التي يحتاج فيها إلى معاناة تعب وبذل مال كالجهاد وتجهيز الموتى ، ذكره إمام الحرمين - وفي الصلاة على الجنازة والأمر بالمعروف ، وما ليس فيه بذل مال وكثير مشقة الأظهر اللزوم أيضا ، وكما يلزم أصل العبادات بالنذر يلزم رعاية الصفة المشروطة فيها إذا كانت من المحبوبات كالصلاة بشرط طول القراءة أو الركوع أو السجود أو الحج بشرط المشي إذا جعلناه أفضل من الركوب وهو الأصح ولو أفرد الصفة بالالتزام .
والأصل واجب كتطويل الركوع والسجود أو القراءة في الفرائض ، فالأشبة اللزوم لأنها عبادات مندوب إليها . وأما الأعمال والأخلاق المستحسنة كعيادة المريض وزيارة القادم وإفشاء السلام على المسلمين فالأظهر لزومها أيضاً بالنذر ، وكذا تجديد الوضوء لأن كلها مما يتقرب بها إلى الله سبحانه ، وقد رغب الشارع فيها . وأما المباحات التي لم يرد فيها ترغيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعلها أو تركها لم ينعقد نذره ، « روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس فسأل عنه فقالوا : نذر أن لا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال صلى الله عليه وسلم : مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه » ولو قال : « لله عليّ نذر » من غير تسمية لزمه كفارة يمين لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نذر نذراً وسمى فعليه ما سمى ، ومن نذر نذراً ولم يسم فعليه كفارة يمين » { وما للظالمين } الذين يمنعون الصدقات ، أو ينفقون أموالهم في المعاصي ، أو للرياء ، أو لا يوفون بالنذور ، أو ينذرون في المعاصي { من أنصار } ممن ينصرهم من الله ويمنعهم من عقابه . والأنصار جمع ناصر كأصحاب في صاحب ، أو جمعٍ نصير كأشراف في شريف . وقد يتمسك المعتزلة بهذا في نفي الشفاعة لأهل الكبائر ، فإن الشفيع ناصر . ورد بأن الشفيع في العرف لا يسمى ناصراً وإلا كان قوله { ولا هم ينصرون } [ البقرة : 48 ] بعد قوله : { ولا يقبل منها شفاعة } [ البقرة : 48 ] تكراراً . وأيضاً إن هذا الدليل النافي عام في حق كل الظالمين وفي كل الأوقات ، والدليل المثبت للشفاعة خاص في حق البعض وفي بعض الأوقات والخاص مقدم على العام . وأيضا اللفظ لا يكون قاطعاً في الاستغراق بل ظاهراً على سبيل الظن القوي فصار الدليل ظنياً والمسألة ليست ظنية فكان التمسك بها ساقطاً . سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدقة السر أفضل أم صدقة العلانية فنزلت : { إن تبدوا الصدقات } والتركيب موضوع للصحة والكمال ومنه « فلان صادق المودة » و « هذا خل صادق الحموضة » و « صدق فلان في خبر » إذا أخبر على وجه الصحة والكمال ، ومنه « الصداق » لأن عقد الصداق به يتم ويكمل ، والزكاة صدقة لأن المال بها يصح ويبقى وبها يستدل على صدق العبد وكماله في إيمانه ، { فنعما هي } من قرأ بسكون العين فمحمول على أنه أوقع على العين حركة خفيفة على سبيل الاختلاس وإلا لزم التقاء الساكنين على غير حدة ، ومثله ما يروى في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمرو بن العاص :
« نعم المال الصالح للرجل الصالح » بسكون العين . ومن قرأ بكسر النون والعين فلتحصيل المشاكلة ، ومن قرأ بفتح النون وكسر العين فعلى الأصل . قال طرفة :
نعم الساعون في الأمر المبر ... قال سبيويه : « ما » في تأويل الشيء أي نعم الشيء هي . وقال أبو علي : الجيد في مثله أن يقال : « ما » في تأويل شيء لأن « ما » ههنا نكرة إذ لو كانت معرفة بقيت بلا صلة . فإن « هي » مخصوصة بالمدح . فالتقدير : نعم شيئاً إبداء الصدقات . فحذف المضاف للدلالة ، أو نعم شيئاً تلك الصدقات ، أو تلك الخصلة وهي الإبداء . قال الأكثرون : المراد بها صدقة التطوع لقوله تعالى : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } والإخفاء في صدقة التطوع أفضل كما أن الإظهار في الزكاة أفضل أما الأول فلأن ذلك أشق على النفس فيكون أكثر ثواباً ، ولأنه أبعد عن الرياء والسمعة قال صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان » والمتحدث بصدقته لا شك أنه يطلب السمعة ، والمعطي في ملأ من الناس يطلب الرياء ، وقد بالغ قوم في الإخفاء واجتهدوا أن لا يعرفهم الآخذ ، فبعضهم كان يلقي الصدقة في يد الأعمى ، وبعضهم يلقيها في طريق الفقير أو في موضع جلوسه بحيث يراها ولا يرى المعطي ، وبعض يشدها في ثوب الفقير وهو نائم ، وبعض يوصل إلى الفقير على يد غيره ، وقال صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر » وقال أيضاً : « إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله سراً ، فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية ، فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب في الرياء » وقال صلى الله عليه وسلم : « صدقة السر تطفىء غضب الرب » وأيضاً في الإظهار هتك ستر الفقير وإخراجه من حيز التعفف ، وربما أنكر الناس على الفقير أخذ تلك الصدقة لظن الاستغناء به فيقع الفقير في المذمة والناس في الغيبة ، ولأن في الإظهار إذلالاً للآخذ وإهانة له ، وإذلال مؤمن غير جائزة ولأن الصدقة كالهدية ، وقال صلى الله عليه وسلم : « من أهدي إليه هدية وعنده قوم فهم شركاء فيها » وربما لا يدفع الفقير إليهم شيئاً فيقع في حيز اللوم والتعنيف .
نعم لو علم أنه إذا أظهرها اقتدى غيره به لم يبعد والحالة هذه أن يكون الإظهار أفضل . وروى ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال : « السر أفضل من العلانية والعلانية أفضل لمن أراد الاقتداء » واعلم أن الإنسان إذا أتى بعمل وهو يخفيه عن الخلق وفي نفسه شهوة أن يرى الخلق منه ذلك وهو يدفع تلك الشهوة ، فههنا الشيطان يردد عليه ذكر رؤية الخلق والقلب ينكره . فهذا الإنسان في محاربة الشيطان فيكون إخفاؤه يفضل علانيته سبعين ضعفاً كما روي عن ابن عباس : صدقات السر في التطوع تفضل علانيتها سبعين ضعفاً . ثم إن الله تعالى عباداً راضوا أنفسهم حتى من الله عليهم بأنوار هدايته ، وذهبت عنهم وساوس النفس لأن الشهوات قد ماتت منهم ووقعت قلوبهم في بحار عظمة الله فلم يحتاجوا إلى المجاهدة . فإذا أعلنوا بالعمل أرادوا أن يقتدي بهم غيرهم ، فهم كاملون في أنفسهم ويسعون في تكميل غيرهم كما قال تعالى : { وممن خلقنا أمة يهدون بالحق } [ الأعراف : 181 ] { واجعلنا للمتقين إماماً } [ الفرقان : 74 ] فهؤلاء أئمة الهدى وأعلام الدين وسادة الخلق بهم يقتدى في الذهاب إلى الله . وأما أن الإظهار في إعطاء الزكاة أفضل فلأن الله أمر الأئمة بتوجيه السعادة لطلب الزكوات ، وفي دفعها إلى السعاة إظهارها ، ولأنه ينفي التهمة ولهذا روي أنه صلى الله عليه وسلم كان أكثر صلاته في البيت إلا المكتوبة . وعن ابن عباس : صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها بخمسة وعشرين ضعفاً . هذا إذا كان المزكي ممن لا يخفى يساره ، فإن لم يعرف باليسار كان الإخفاء له أفضل ولا سيما إذا خاف الظلمة أن يطمعوا في ماله . وعن بعضهم أن معنى قوله { خير لكم } أنه في نفسه خير من الخيرات كما يقال الثريد خير من الأطعمة . وإنما قيل { وتؤتوها الفقراء } لأن المقصود من بعث المتصدق أن يتحرى موضع الصدقة فيصير عالماً بالفقراء مميزاً لهم عن غيرهم ، فإذا تقدم منه هذا الاستظهار ثم أخفاها حصلت الفضيلة فلهذا شرط في الإخفاء أن يحصل معه إيتاء الفقراء . وأما في الإبداء فقلما يخفى حال الفقير فلهذا لم يصرح بالشرط . { ونكفر عنكم } من قرأ بالنون مرفوعاً فهو عطف على محل ما بعد الفاء ، لأن الأصل في الشرط والجزاء أن يكونا فعلين . فإذا وقع الجزاء فعلاً مضارعاً مع الفاء كان خبر مبتدأ محذوف . فقوله : { فهو } في تأويل . فيكون خيراً لكم { ونكفر } بالرفع عطف عليه ، ويحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي ونحن نكفر ، وأن يكون جملة من فعل وفاعل مستأنفة . ومن قرأ مجزوماً فهو عطف على محل الفاء وما بعده لأنه جواب الشرط كأنه قيل : وإن تخفوها تكن أعظم أجراً . وأما من قرأ { ويكفر } بياء الغيبة مرفوعاً فالإعراب كما مر في النون والضمير لله أو للإخفاء .
وقرىء { وتكفر } بالتاء مرفوعاً ومجزوماً والضمير للصدقات ، وقرأ الحسن بالياء والنصب بإضمار « إن » ومعناه : وإن تخفوها تكن خيراً لكم وأن يكفر عنكم خير لكم . والتكفير في اللغة الستر والتغطية ومنه « كفر عن يمينه » أي ستر ذنب الحنث . وقوله : { من سيئاتكم } يحتمل أن يكون « من » للتبعيض لأن السيئات كلها لا تكفر وإنما يكفر بعضها ، ثم أبهم الكلام في ذلك البعض لأن بيانه كالإغراء على ارتكابها ، وأحسن أحوال العبد أن يكون بين الخوف والرجاء . ويحتمل أن يكون للتعليل أي من أجل سيئاتكم كما لو قلت : ضربتك من سوء خلقك أي من أجل ذلك . وقيل : إنها زائدة . { والله بما تعملون خبير } كأنه ندب بهذا الكلام إلى الإخفاء الذي هو أبعد من الرياء .
عن الكلبي أنه قال : اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة القضاء وكانت معه أسماء بنت أبي بكر ، فجاءتها أمها قتيلة وجدتها فسألتاها وهما مشركتان فقالت : لا أعطيكما شيئاً حتى أستأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنكما لستما على ديني . فاستأمرته في ذلك فأنزل الله تعالى : { ليس عليك هداهم } فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها أن تتصدق عليهما فأعطتهما ووصلتهما . قال الكلبي : ولها وجه آخر ، وذلك أن ناساً من المسلمين كانت لهم قرابة وأصهار ورضاع في اليهود ، وكانوا ينفعونهم قبل أن يسلموا . فلما أسلموا كرهوا أن ينفعوهم وراودوهم أن يسلموا واستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فأعطوهم بعد نزولها . وعن سعيد بن جبير قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تصدقوا إلا على أهل دينكم « فأنزل الله { ليس عليك هداهم } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » تصدقوا على أهل الأديان « » وعن بعض العلماء : لو كان شر خلق الله لكان لك ثواب نفقتك . والعلماء أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير المسلم فتكون الآية مخصوصة بالتطوع . وجوز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة وأباه غيره ، ومعنى الآية ليس عليك هدى من خالفك حتى تمنعهم الصدقة لأجل أن يدخلوا في الإسلام فتصدق عليهم لوجه الله ولا توقف ذلك على إسلامهم ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان شديد الحرص على إيمانهم فأعلمهم الله تعالى أنه بعث بشيراً ونذيراً ودعاياً إلى الله ومبيناً للدلائل فأما كونهم مهتدين فليس ذلك منك ولا بك . فالهدى ههنا بمعنى الاهتداء ، فسواء اهتدوا أو لم يهتدوا فلا تقطع معونتك وبرك وصدقتك عنهم . وفيه وجه آخر ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء بواسطة توقيف الصدقة على إيمانهم ، فإن مثل هذا الإيمان لا ينتفعون به ، بل الإيمان المطلوب منهم هو الإيمان طوعاً واختياراً { ولكن الله يهدي من يشاء } إثبات للهداية التي نفاها أولاً .
لكن المنفي أولاً هو الهداية أي الاهتداء على سبيل الاختيار فكذا الثاني . ومنه يعلم أن الاهتداء الاختياري واقع بتقدير الله تعالى وتخليقه وتكوينه وهذا التفسير هو المناسب لسبب النزول . وفي الكشاف : أن المعنى لا يجب عليك أن تجعلهم مهديين إلى الانتهاء عما نهوا عنه من المن والأذى والإنفاق من الخبيث وغير ذلك ، وما عليك إلا أن تبلغهم النواهي فحسب { ولكن الله يهدي من يشاء } يلطف بمن يعلم أن اللطف ينفع فيه فينتهي عما نهى عنه . ثم ظاهر قوله : { ليس عليك هداهم } إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم ولكن المراد به هو وأمته ، لأن ما قبله عام { إن تبدوا الصدقات } وما بعده عام { وما تنفقوا من خير } من مال { فلأنفسكم } ثوابه فليس يضركم كفرهم أو فلا تمنوا به على الناس ولا تؤذوهم بالتطاول عليهم { وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله } أي لستم في صدقتكم على أقاربكم المشركون تقصدون إلا وجه الله من صلة رحم أو سد خلة مضطر ، قد علم الله هذا من قلوبكم . وقيل : خبر في معنى نهي أي لا تنفقوا إلا لله ، وقيل : معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم المفيد للمدح حتى تبتغوا وجه الله ، وقيل : ليست نفقتكم إلا لطلب ما عند الله فما بالكم تمنون بها وتنفقون الخبيث الذي لا يوجه مثله إلى الله؟ وفائدة إقحام الوجه أنك إذا قلت فعلته لوجه زيد كان أشرف من قولك فعلته له ، لأن وجه الشيء أشرف ما فيه ، ثم كثر حتى عبر به عن الشرف مطلقاً . وأيضاً قول القائل : « فعلت هذا الفعل له » احتمل الشركة وأن يكون قد فعله لأجله ولغيره ، أما إذا قال « فعلت لوجهه » فلا يحتمل الشركة عرفاً { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } جزاؤه في الآخرة أضعافاً مضاعفة ، وإنما حسن قوله { إليكم } مع التوفية لأنها تضمنت معنى التأدية { وأنتم لا تظلمون } لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئاً .
ثم لما بيّن أنه يجوز صرف الصدقة إلى أي فقير كان ، أراد أن يبين أن اشد الناس استحقاقاً من هو فقال { للفقراء } أي ذلك الإنفاق لهؤلاء الفقراء كما لو تقدم ذكر رجل فتقول : عاقل لبيب أي ذلك الذي مر وصفه عاقل لبيب ، وقيل : اعمدوا للفقراء أو أجلوا ما تنفقون للفقراء ، أو المراد صدقاتكم للفقراء . قيل : نزلت في فقراء المهاجرين وكانوا نحو أربعمائة رجل وهم أصحاب الصفة ، لم يكن لهم سكن ولا عشائر بالمدينة ، كانوا ملازمين للمسجد يتعلمون القرآن ويصومون ويخرجون في كل غزوة ، فمن كان عنده فضل أتاهم به إذا أمسى . وعن ابن عباس : « وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً على أصحاب الصفة فرأى فقرهم وجهدهم وطيب قلوبهم فقال : أبشروا يا أصحاب الصفة فمن بقي من أمتي على النعت الذي أنتم عليه راضياً بما فيه فإنه من رفقائي » «
ثم إنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفات : الأولى قوله { الذين أحصروا في سبيل الله } أي حصروا أنفسهم ووقفوا على الجهاد في سبيل الله لأن سبيل الله مختص بالجهاد في عرف القرآن ، ولأن وجوب الجهاد في ذلك الزمان كان آكد فكانت الحاجة إلى من يحبس نفسه للمجاهدة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد ، فموضع الصدق فيهم يكون أوقع سداً لخلتهم وتقوية لقلوبهم وإعلاء لمعالم الدين . وعن سعيد بن المسيب واختاره الكسائي ، أن هؤلاء قوم أصابتهم جراحات في الغزوات فأحصرهم المرض والزمانة ، وعن ابن عباس : هؤلاء قوم من المهاجرين حبسهم الفقر عن الجهاد فعذرهم الله . الثانية { لا يستطعيون ضرباً في الأرض } أي سيراً فيها وذلك إما لاشتغالهم بالعبادة أو بالجهاد فلا يفرغون للكسب والتجارة ، وإما لأن خوفهم من الأعداء يمنعهم من السفر ، وإما لأن مرضهم وعجزهم يمنعهم منه . الثالثة { يحسبهم } يظنهم { الجاهل } بحالهم ومن لم يخبر أمرهم { أغنياء من التعفف } من أجل تركهم المسألة وإظهارهم التجمل تكلفاً منهم . والتعفف إظهاء العفة وهي ترك الشيء والكف عنه . الرابعة { تعرفهم } أي أنت يا محمد أو كل راء { بسيماهم } والسيما والسيمياء العلامة التي يعرف بها الشيء من السمة العلامة فوزنه « عفلى » قال مجاهد : سيماهم التخشع والتواضع . الربيع والسدي : أثر الجهد من الجوع والفقر . الضحاك : صفرة ألوانهم من الجوع . أبو زيد : رثاثة ثيابهم . وقيل : المهابة في العيون . وقيل : آثار الفكر . روي أنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الفكر . الخامسة { لا يسألون الناس إلحافاً } أي إلحاحاً وهو اللزوم وأن لا يفارق إلا بشيء يعطى له . والتركيب يدل على الستر كأنه لزم المسؤول لزوم الساتر للمستور . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله يحب الحي الحليم المتعفف ويبغض البذيء السآل الملحف » قيل : معنى الآية أنهم إن سألوا سألوا بتلطف ولم يلحفوا ، وأورد عليه أنه ينافي التعفف الذي وصفوا به قبل . فالوجه أن يراد نفي السؤال والإلحاف جميعاً كقوله : « ولا ترى الضب بها يتجحر » أي لا ضب ولا انجحار ليكون موافقاً لوصفهم بالتعفف . وفائدة الكلام التنبيه على سوء طريقة الملحف كما إذا حضر عندك رجلان أحدهما عاقل وقور والآخر طياش خفيف وأردت أن تمدح أحدهما وتذم الآخر قلت : فلان رجل عاقل وقور قليل الكلام ليس بخواض ولا مهذار . لم يكن غرضك من قولك « ليس خواض ولا مهذار » وصفه بذلك لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عنه ، بل غرضك التنبيه على سوء طريقة الثاني . وقيل : معناه لا يتركون السؤال إلا بإلحاح شديد منهم على أنفسهم لشدة حاجتهم كقوله :
ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني
وقيل : إن عدم السؤال بطريق الإلحاف يتضمن نفي السؤال عنهم رأساً لأن كل سائل فلا بد أن يلح في بعض الأوقات كأنه يقول : إذا أرقت ماء وجهي فلا أرجع بغير مقصود . وقيل : لعل الساكت عن السؤال يطهر من نفسه أمارات الحاجة فيكون في حال سكوته أنطق ما يكون فترق القلوب له ، فالمراد أنهم وإن سكتوا عن السؤال لكنهم لا يضمون إلى ذلك السؤال من رثاثة الحال وآثار الانكسار ما يقوم مقام السؤال فإن ذلك نوع إلحاف ، بل يتجملون للخلق بحيث لا يطلع على سرهم غير الخالق . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يفتح أحد باب مسألةٍ إلا فتح الله عليه باب فقر ومن يستغن يغنه الله ومن استعف يعفه الله » « لأن يأخذ أحدكم حبلاً يحتطب به فيبيعه بمد من تمر خير له من أن يسأل الناس » { وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم } فيه أن ثواب هذا الإنفاق الذي هو أعظم المصارف لا يكتنه كنهه فلذلك وكل إلى علم الله تعالى بخلاف الآية المتقدمة فإنه لما رغب في التصدق على أهل الأديان قال في آخره { وما تنفقوا من خير يوف إليكم } كما لو قال السلطان لعبده الذي حسن عنده موقع خدمته : إني بحسن خدمتك عالم ولحقك عارف . كان أبلغ مما لو قال : إن أجرك واصل إليك . ثم أرشد في خاتمة الآيات إلى أكمل وجوه الإنفاقات بقوله : { الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار } الآية . وذلك أن الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة يكون ذلك منهم دليلاً على الحرص البالغ والاهتمام التام كلما نزلت بهم حاجة محتاج عجلوا قضاءها ولم يؤخروه متعللين بوقت وحال . والباء بمعنى « في » أي في الليل والنهار و { سراً وعلانية } منصوبان على الظرفية أيضاً أي في أوقات السر والعلن ، أو على وصف المصدر أي إنفاقاً سراً وعلانية ، أو على الحال لكونه بياناً عن كيفية الإنفاق ، وقيل : لما نزل { للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله } بعث عبد الرحمن بن عوف بدنانير إلى أصحاب الصفة وبعث عليّ بوسق من تمر ليلاً فنزلت الآية . وفي تقديم ذكر الليل وتقديم السر على العلانية دليل على أن صدقة علي رضي الله عنه كانت أكمل . وعن ابن عباس : « ما كان علي رضي الله عنه يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم نهاراً وبدرهم ليلاً وبدرهم سراً وبدرهم علانية فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما حملك على هذا؟ فقال : أن استوجب ما وعد لي ربي . فقال : ذلك لك » ونزلت الآية . وقيل : نزلت في أبي بكر حين تصدق بأربعين ألف دينار ، عشرة بالليل ، وعشرة بالنهار ، وعشرة في السر ، وعشرة في العلانية .
وقيل : في علف الخيل وارتباطها في سبيل الله . وكان أبو هريرة إذا مر بفرس سمين قرأ هذه الآية والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
التأويل : { أنفقوا من طيبات ما كسبتم } فيه صلاح المتصدق من وجوه : أحدها لو فسر الطيب بالحلال فليقبل الله منه ، ولو فسر بالجودة فليجز به بقدر جودته . وثانيها ليثاب على التعظيم لأمر الله . وثالثها ليثاب على الشفقة على خلق الله . ورابعها ليثاب على الإيثار { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] وخامسها ليستحق البر { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } [ آل عمران : 92 ] . وسادسها ليثاب على زيادة الإيمان وأن المتصدق في صدقته كالزارع في زراعته . فكما أن الزارع كلما ازداد إيقانه بحصول الثمرة اجتهد في جودة البذر فكذا المتصدق كلما ازداد إيمانه بالبعث والجزاء زاد في جودة صدقته لتحققه { إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها } [ النساء : 40 ] وقدم ذكر الكسب على ذكر المخرج من الأرض لقوله صلى الله عليه وسلم « إن أطيب ما يأكل الرجل من كسب يده » وفي الآية معنى آخر لطيف { انفقوا من طيبات ما كسبتم } من تزكية النفوس وتصفية القلوب { ومما أخرجنا لكم } من أرض طينتكم من تحلية سرائركم بمكارم الأخلاق ، ولتكن النفقة طيبة من خباثة الشبهات طيباً إنفاقها من خباثة الأغراض الدنيوية والأخروية ، طيباً منفقهاً من خباثة الالتفات والنظر في الإنفاق إلى غير الله ، فإذا كانت النفقة طيبة في نفسها فلله قبول طيب من الوسائط فيأخذها بيده ويربيها قبل أن تقع في يد الفقير ، وإذا كانت اليد طيبة في إنفاقها فلله قبول طيب فإنها أبلغ عند الله من عملها ، وإذا كان القلب المنفق طيباً عن الالتفات إلى غير الله فلله قبول طيب عن الأغيار بين أصبعين من أصابع الرحمن ، وهذا تحقيق قوله صلى الله عليه وسلم « إن الله طيب ولا يقبل إلا الطيب » ولستم بآخذي هذا الخبيث لا في أصل الفطرة ولا في عهد الخلقة لأنكم خلقتم من أصل طيب وطينة طيبة . فالروح من أطيب الأطايب لأنه أقرب الأقربين إلى حضرة رب العالمين ، والجسد من التراب الطيب { فتيمموا صعيداً طيباً } [ النساء : 43 ] ثم أحياكم بالإيمان { فلنحيينه حياة طيبة } [ النحل : 97 ] ثم يرزقكم من الطيبات { كلوا من طيبات ما رزقناكم } [ البقرة : 57 ] فليس منكم شيء خبيث في الظاهر والباطن { إلا أن تغمضوا فيه } فتقبلوه تكلفاً وقسراً « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه » فلما لم تكن الخباثة ذاتية للإنسان بل كانت طارئة عليه عارية لديه أنزل الله تعالى كلمة طيبة هي « لا إله إلا الله » ليطيب بالمواظبة عليها أخلاقهم ويستحقوا يوم القيامة أن يقال لهم { سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين }
[ الزمر : 73 ] { واعلموا أن الله غني } فمن كمال غناه أراد أن يغنيكم بثواب الإنفاق { حميد } على ما أنعم بهذا التكليف ليتوسل به إلى الكمال الأبدي . { الشيطان يعدكم الفقر } ظاهراً فهو يأمركم بالفحشاء باطناً لأنها اسم جامع لكل سوء فيتضمن البخل والحرص واليأس من الحق والشك في مواعيد الحق بالخلف والتضعيف وسوء الظن بالله وترك التوكل عليه ونسيان فضله وتعلق القلب بغيره ومتابعة الشهوات وترك العفة والقناعة والتمسك بحب الدنيا وهو رأس كل خطيئة وبذر كل بلية . فمن فتح على نفسه باب وسوسة فسوف يبتلى بهذه الآفات وأضعافها ، ومن فتح على نفسه باب عدة الحق أفاض عليه سجال غفرانه وبحار فضله وإحسانه . فالمغفرة تكفير الذنوب والآثام ، والفضل ما لا تدركه الأوهام { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] فمن ذلك أن يفتح على قلبه باب حكمته عاجلاً كما قال { يؤتي الحكمة من يشاء } وليست الحكمة مما يحصل بمجرد التكرار كما ظنه أهل الإنكار والذين لم يفرقوا بين المعقولات وبين الأسرار والحكم الإلهيات . فالمعقولات ما تكتسب بالبرهان وهي مشتركة بين أهل الأديان ، والأسرار الإلهية مواهب الحق لا ترد إلا على قلوب الأنبياء والأولياء { نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء } [ النور : 35 ] { وما يذكر إلا أولوا الألباب } الذين لم يقفوا عند القشور وارتقوا إلى لب عالم النور . ثم أخبر عن توفية الأجور للمنفق في المفروض والمنذور { وما للظالمين } الذين وضعوا الشيء في غير موضعه فبدلوا بالإنفاق النفاق وبالإخلاص الرياء { من أنصار } ولا ناصر بالحقيقة إلا الله ، ومن أذن له الله إبداء الصدقات ضد إخفائها ، وإخفاؤها تخليتها عن شوب الحظوظ وإليه الإشارة في قوله صلى الله عليه وسلم : « سبعة يظلهم الله في ظله » ثم قال : « ورجل تصدق بيمينه فأخفاها عن شماله » أي عن حظوظ نفسه لتكون خالصة لوجه الله . فصاحبها يكون في ظل الله قال صلى الله عليه وسلم : « إن المرء يكون في ظل صدقته يوم القيامة » أي إن كانت صدقته لله كان في ظل الله ، وإن كانت للجنة كان في ظل الجنة ، وإن كانت للهوى كان في ظل الهاوية . فمعنى قوله : { إن تبدو الصدقات } أي تظهروها لطمع ثواب الجنة فإن طمع الصواب شوب حظ { فنعما هي } فإنها مرتبة الأبرار { إن الأبرار لفي نعيم } [ الانفطار : 13 ] { وإن تخفوها } عن كل حظ ونصيب { وتؤتوها الفقراء } الذين تعطونها إياهم لوجه الله لا لحظ النفس { فهو خير لكم } لأن جزاءها لقاء الله . ثم أخبر عن الهداية وأن ليس لأحد عليها الولاية وأن الله فيها ولي الكفاية ، يا محمد لك المقام المحمود واللواء المعقود ولك الوسيلة وعلى الأنبياء الفضيلة ، وأنت سيد الأولين والآخرين وأنت أكرم الخلائق على رب العالمين ولكن { ليس عليك هداهم } ولكن الهداية من خصائص شأننا ولوائح برهاننا ، أنت تدعوهم ونحن نهديهم .
ثم نبه على أن أفضل وجوه الإنفاق هو الفقير الذي أحصرته المحبة في الله عن طلب المعاش لا الذي أحصره الفقر والعجز عن طلب الكفاف ، أخذ عليه سلطان الحقيقة كل طريق فلا له في المشرق مذهب ولا له في المغرب مضرب ، ولا منه إلى غيره مهرب .
كأن فجاج الأرض ضاقت برحبها ... عليه فما تزداد طولاً ولا عرضاً
{ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف } لأنهم مستورون تحت قباب الغيرة محجوبون عن معرفة أهل الغيرية « أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غير ي يا محمد » { تعرفهم بسيماهم } لأنك لست بك فلست غيري ، ما رأيت إذ رأيت ولكن الله رأى { وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى } [ الأنفال : 17 ] وإن سيماهم لا يرى بالبصر الإنساني بل يرى من نور رباني ، فمن سيماهم في الظاهر من ظهور آثار أحوال الباطن أنهم { لا يسألون الناس إلحافاً } لا بقليل ولا بكثير . لأن اثار أنوار غنى قلوبهم انعكست على ظواهرهم فتنورت بالتفف نفوسهم ، واضمحلت ظلمة فقرهم وفاقتهم { وما تنفقوا من خير } من المال أو الجاه أو خدمة بالنفس أو إكرام أو إرادة حتى السلام على هؤلاء السادة استحقاقاً وإجلالاً لا استخفافاً وإذلالاً { فإن الله به عليم } ومن سيماهم في الظاهر أنهم إذا وجدوا مالاً لم يبيعوا عزة الفقر به بل ينفقون أموالهم بالليل والنهار سراً وعلانية { فلهم أجرهم عند ربهم } عند مليك مقتدر { ولا هم يحزنون } في الدنيا على ما يفوتهم لأنهم تركوها لله وهو لهم خلف عن كل تلف ، ولا في الآخرة { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور } [ فاطر : 34 ] .
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
القراآت : { الربا } حيث كان بالإمالة : حمزة وعلي وخلف . وهذا إذا كان معرّفاً ولا يميلون المنكر في الوصل لأجل التنوين كقوله : { وما آتيتم من ربا } [ الروم : 39 ] ويميلون في الوقف لزوال التنوين { فأذنوا } ممدودة مكسورة الذال : حمزة وحماد وأبو بكر غير ابن غالب والبرجمي حمزة يقف بغير همزة أي بالتليين . الباقون فأذنوا بسكون الهمزة وفتح الذال { لا تظلمون ولا تظلمون } الأول مبني للمفعول والثاني للفاعل المفضل . الباقون بالعكس { ميسره } بضم السين : نافع { ميسرة } بضم السين وإثبات التاء : زيد عن يعقوب ، الباقون بفتح السين وعدم التاء . { وأن تصدقوا } خفيفاً بحذف إحدى التاءين : عاصم . الباقون بتشديد الصاد لإدغام تاء التفعل في الصاد . { ترجعون } بفتح التاء وكسر الجيم : أبو عمرو ويعقوب عباس مخير . الباقون مبنياً للمفعول .
الوقوف : { من المس } ط ، { مثل الربا } م كيلا يظن أن ما بعده من قولهم وإن أمكن جعل { وأحل } حالاً بإضمار « قد » { وحرم الربا } ط لابتداء الشرط واستئناف المعنى ، { ما سلف } ط لتناهي الجزاء ، { إلى الله } ج ، { النار } ج ، { خالدون } ه ، { الصدقات } ط ، { أثيم } ه { عند ربهم } ج ، { يحزنون } ه ، { مؤمنين } ه ، { ورسوله } ج ، { أموالكم } ج لأن ما بعده مستأنف أو حال عاملة معنىلفعل في لام التمليك ، { ولا تظلمون } ه ، { ميسرة } ط ، { تعلمون } ه ، { لا يظلمون } ه .
التفسير : الحكم الثاني من الأحكام الشرعية المذكورة في هذا الموضع حكم الربا . وذلك أنَّ بين الصدقة وبين الربا مناسبة التضاد ، فإن الصدقة تنقيص مأمور بها ، والربا زيادة منهي عنها . وأيضاً لما أمر بالإنفاق من طيبات المكاسب وجب أن يردف بالكسب الحرام وهو الربا ، والحلال وهو البيع ما يناسب من الدين والرهن وغيرهما فقال { الذين يأكلون الربا } أما الأكل فيعم جميع التصرفات إلا أنه عبر عن الشيء بمعظم مقاصده وكيف لا وقد « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه والمحلل له » وأيضاً نفس الربا لا يمكن أن يؤكل ولكن يصرف إلى المأكول فيؤكل ، فالمراد التصرف فيه . والربا في اللغة الزيادة من ربا يربو ، ومن أمالها فلمكان كسرة الراء . وهو في المصاحف مكتوب بالواو وأنت مخير في كتابتها بالألف والواو . وفي الكشاف : كتبت بالواو على لغة من يفخم كما كتبت الصلاة والزكاة . وزيدت الألف بعدها تشبيهاً بواو الجمع . ثم الربا قسمان : ربا النسيئة وربا الفضل . أما الأول فهو الذي كانوا يتعارفونه في الجاهلية ، كانوا يدفعون المال مدة على أن يأخذوا كل شهر قدراً معيناً ، ثم إذا حل الدين طالب المديون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحق والأجل . وأما ربا الفضل فأن يباع مَنٌّ من الحنطة بمنوين مثلاً .
والمروي عن ابن عباس أنه كان لا يحرم إلا القسم الأول وكان يقول : لا ربا إلا في النسيئة . ويجوّز ربا النقد فقال له أبو سعيد الخدري : أشهدت ما لم نشهد أسمعت ما لم نسمع؟ فروى له الحديث المشهور في هذا الباب . وله روايات منها . « الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلاً بمثل يداً بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى الآخذ والمعطى فيه سواء » ثم قال أبو سعيد : لا أرني وإياك في ظل بيت ما دمت على هذا . فيروى أنه رجع عنه . قال محمد بن سيرين : كنا في بيت معنا عكرمة فقال رجل : يا عكرمة ، أما تذكر ونحن في بيت فلان ومعنا ابن عباس؟ فقال : إنما كنت استحللت الصرف برأيي ثم بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمه فاشهدوا أني قد حرمته وبرئت إلى الله منه . حجة ابن عباس أن قوله تعالى : { وأحل الله البيع } يتناول بيع الدرهم بالدرهمين نقداً . وقوله : { وحرم الربا } لا يتناوله لأن كل زيادة ليست محرمة فوجب أن تبقى على الحل ولا يخرج إلا العقد المخصوص الذي كان يسمى فيما بينهم ربا وهو ربا النسيئة . وقد تأكد هذا الرأي بما روى أسامة ين زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الربا في النسيئة » وفي رواية « لا ربا فيما كان يداً بيد » وذكر أبو المنهال أنه سأل البراء بن عازب وزيد بن أرقم فقالا : كنا تاجرين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصرف فقال : إن كان يداً بيد فلا بأس ، وإن كان نسيئة فلا يصح . وأما جمهور المجتهدين فقد اتفقوا على حرمة الربا في القسمين . أما النسيئة فبالقرآن ، وأما النقد فبالخبر ، ثم إن الخبر دل على حرمة ربا النقد في الأشياء الستة : النقدان والمطعومات الأربعة . ولا شك أن الربا إنما ثبت فيها لمعنى ، فإذا عرف ذلك المعنى ألحق بها ما يشاركها فيه . أما الأشياء الأربعة فللشافعي في علة الربا فيها قولان : الجديد أن العلة الطعم لما روي عن معمر بن عبد الله قال : كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « الطعام بالطعام مثل بمثل » علق الحكم باسمي الطعام ، والحكم المعلق بالاسم المشتق معلل بما منه الاشتقاق كالقطع المعلق باسم السارق ، والجلد المعلق باسم الزاني . والقديم أن العلة فيها الطعم مع الكيل أو الوزن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « الذهب بالذهب وزناً بوزن والبر بالبر كيلاً بكيل » فعلى هذا يثبت الربا في كل مطعوم مكيل أو موزون دون ما ليس بمكيل ولا موزون كالسفرجل والرمان والبيض والجوز .
وقال مالك : العلة الاقتيات ، فكل ما هو قوت أو يستصلح به القوت كالملح يجري فيه الربا . وعند أبي حنيفة العلة الكيل حتى ثبت الربا في الجص والنورة . وعن أحمد رواية كأبي حنيفة والأخرى كالجديد . وأما النقدان فعن بعض الأصحاب أن العلة فيهما لعينهما لا لعلة . والمشهور أن العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة فيشمل التبر والمضروب والحلي والأواني المتخذة منها ، ولا يتعدى الحكم إلى الفلوس على الأصح وإن راجت رواج الذهب والفضة لانتفاء العلة . وقال أحمد وأبو حنيفة : العلة فيهما الوزن فيتعدى الحكم إلى كل موزون كالحديد والرصاص . فهذا ضبط المذاهب وتفاريعها إلى الفقه . وأما السبب في تحريم الربا فهو أن من يبيع الدرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئة يحصل له زيادة درهم من غير عوض ، وأخذ مال المسلم من غير عوض محرم لقوله صلى الله عليه وسلم : « حرمة مال المسلم كحرمة دمه » وإبقاء رأس المال في يده مدة مديدة وتمكينه من أن يتجر فيه وينتفع به أمر موهوم فقد يحصل وقد لا يحصل ، وأخذ الدرهم الزائد متيقن وتفويت المتيقن لأجل الموهوم لا يخلو من ضرر . وقيل : سبب تحريمه أنه يمنع الناس من الاشتغال بالمكاسب ، لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقداً أو نسيئة أعرض عن وجوه المكاسب فيختل نظام العالم . وقيل : لما يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض ، ولأنه تمكين للغني من أن يأخذ مالاً زائداً من الفقير . وقيل : إن حرمة الربا قد ثبتت بالنص ولا يجب أن تكون حكمة كل تكليف معلومة لنا . { لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } التخبط الضرب على غير استواء ومنه خبط العشواء وتخبط الشيطان . قيل : من زعمات العرب يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع فورد على ما كانوا يعتقدون . والمس الجنون رجل ممسوس أي مسه الجني فاختلط عقله ، وكذلك جن الرجل ضربته الجن وهذا أيضا من زعماتهم . وقيل : من عادة الناس إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان كما في قوله تعالى : { طلعها كأنه رؤوس الشياطين } [ الصافات : 65 ] فورد القرآن على ذلك . وقيل : إن الشيطان يمسه بالوسوسة المؤذية التي يحدث عندها الفزع فيصرع كما يصرع الجبان في الموضع الخالي ، ولهذا لا يوجد هذا الخبط في العقلاء وأرباب الحزم واللب . وأكثر المسلمين على أن الشيطان لا يبعد أن يكون قوياً على الصرع والقتل والإيذاء بتقدير الله تعالى . وللمفسرين في الآية أقوال : أحدها أن آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً تلك سيماهم يعرفون بها عند أهل الموقف . وقوله : { من المس } يتعلق ب { لا يقومون } أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع . أو يتعلق ب { يقوم } أي كما يقوم المصروع من جنونه ، وقال ابن قتيبة : يريد إذا بعث الناس من قبورهم خرجوا مسرعين إلا أكلة الربا فإنهم ينهضون ويسقطون كالمصروعين لأنهم أكلوا الربا فأرباه الله في بطونهم فأثقلهم .
وقيل : إنه مأخوذ من قوله تعالى : { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا } [ الأعراف : 201 ] وذلك أن الشيطان يدعوه إلى الهوى ، والملك يجره إلى التقوى ، فيقع هناك حركات مضطربة وأفعال مختلفة وهو الخبط ، فإذا مات آكل الربا على ذلك أورثه الخبط في الآخرة وأوقعه في ذلك الحجاب بينه وبين الله تعالى . { ذلك } العقاب بسبب قولهم { إنما البيع مثل الربا } وذلك أنه قد بلغ من اعتقادهم في حل الربا أنهم جعلوه أصلاً وقانوناً في الحل حتى شبهوا به البيع وإلا كان حق النظم في الظاهر أن يعكس فيقال : إنما الربا مثل البيع . لأن الكلام في الربا لا في البيع ، ومن حق القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق ، ثم إنهم كانوا يعولون في تحليل الربا على هذه الشبهة وهي أن من اشترى ثوباً بعشرة ثم باعه بأحد عشر نقداً أو نسيئة فهذا حلال ، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر لا فرق بين الصورتين إذا حصل التراضي من الجانبين ، والبياعات إنما شرعت لدفع الحاجات . ولعل الإنسان يكون صفر اليد في الحال وسيحصل له أموال كثيرة في المآل فإعطاؤه الزيادة عند وجدان المال أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال . فأجاب الله تعالى عنها بحرف واحد وهو قوله : { وأحل الله البيع وحرم الربا } وحاصلة إنكار التسوية وأن النصر لا يعارض بالقياس فإن ذلك من عمل إبليس ، أمره الله تعالى بالسجود فعارض النص بالقياس وقال أنا خير منه . ثم ظاهر الآية يدل على أن الوعيد إنما لحقهم باستحلالهم الربا دون الإقدام على أكله مع اعتقاد التحريم ، وعلى هذا التقدير لا يثبت بهذه الآية كون أكل الربا من الكبائر ، ويجب تأويل مقدمة الآية بأن المراد من أكلهم الربا استطابته واستحلاله كما يقال : فلان يأكل مال الله قضماً وهضماً . أي يستحل التصرف فيه إلا أن جمهور المفسرين حملوا الآية على وعيد من يتصرف في مال الربا لا على وعيد من يستحل هذا العقد . قيل : ويحتمل أن يكون قوله { وأحل الله البيع وحرم الربا } من تمام كلام الكفار على سبيل الاستبعاد . وأكثر المفسرين على خلافه لأن جعله من كلام الكفار لا يتم إلا بإضمار هو أن يحمل ذلك على الاستفهام بطريق الإنكار ، أو على الرواية عن قول المسلمين والإضمار خلاف الأصل . وأيضاً لو كان من تمام كلامهم فلم يكشف الله تعالى عن فساد شبهتهم ، فلم يكن قوله بعد ذلك { فمن جاءه موعظة من ربه } لائقاً بالمقام وأيضاً المسلمون لم يزالوا متمسكين في البيع بهذه الآية ، ولولا أنهم علموا أن ذلك كلام الله لا كلام الكفار لم يصح منهم الاستدلال بها .
وههنا بحث للشافعي وهو أن الآية من المجملات التي لا يجوز التمسك بها بناء على أن الاسم المفرد باللام لا يفيد العموم وليس فيه إلا تعريف الماهية فيكفي في العمل به ثبوت صورة واحدة . ولو سلم إفادة العموم فلا شك أن إفادته مما لو قيل : وأحل الله البياعات : بلفظ الجمع . ومع ذلك فقد تطرق إليه تخصيصات خارجة عن الحصر والضبط ، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله لأنه قريب من الكذب . نعم إطلاق اللفظ المستغرق على الأغلب عرف مشهور ، وأيضاً روي أن عمر قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدنيا وما سألناه عن الربا . ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم لم يقل ذلك . وأيضاً قوله { وأحل الله البيع } يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً ، وقوله : { وحرم الربا } يقتضي أن يكون كل رباً حراماً . لأن الربا هو الزيادة ولا بيع إلا ويقصد به الزيادة ، وإذا تعارضا وتساقطا ووجب الرجوع إلي بيان النبي صلى الله عليه وسلم . { فمن جاءه موعظة } فمن بلغه وعظ { من ربه فانتهى } امتنع من استحلال الربا وتبع النهي { فله ما سلف } فلا يؤاخذ بما مضى منه لأنه أخذ قبل نزول التحريم كقوله { إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } [ الأنفال : 38 ] عن الزجاج : والتنوين في { موعظة } للتعظيم أو للتقليل أي موعظة بليغة أو شيء من المواعظ . وقيل : النهي المتأخر كيف يؤثر في الفعل المتقدم حتى يكون ما سلف ذنباً؟ فالمراد له ما أكل من الربا وليس عليه رد ما سلف . عن السدي : والسلوف التقدم ومنه الأمم السالفة ، وسلافة الخمر صفوتها لأنه أول ما يخرج من عصيرها ، { وأمره إلى الله } لأنه إن انتهى عن أكل الربا كما انتهى عن استحلاله فهو المقر بدين الله العامل بتكليفه فيستحق المدح والثواب ، وإن انتهى عن الاستحلال دون الأكل فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له لقوله : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] { ومن عاد } إلى استحلال الربا وأنه مثل البيع { فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } لأنه كفر باستحلال ما هو محرم إجماعاً . وأما القائلون بتخليد الفساق فيقولون : ومن عاد إلى أكل الربا . ثم إنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا وكان قد بالغ في الآي السالفة في الحث على الصدقات ، ذكر ما يجري مجرى الداعي إلى ترك الربا وفعل الصدقة فقال { يمحق الله الربا ويربي الصدقات } والمحق نقص الشيء حالاً بعد حال ومنه « محاق القمر » وكل من محق الربا وإرباء الصدقات إما في الدنيا وإما في الآخرة . وذلك أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أن تؤل عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن ماله .
عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الربا وإن كثر إلى قل » وذلك لدعاء الناس عليه وبغضهم إياه لسقوط عدالته وشهرته بالفسق والعدوان ، وربما يطمع الظلمة في ماله ظناً منهم من أن المال في الحقيقة ليس له . وعن ابن عباس في تفسير هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهاداً ولا حجاً ولا صلة . ثم إن مال الربا لا يبقى عند الموت وتبقى التبعة عليه . وقد ثبت في الحديث « أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام » هذا حال الغني من الحلال فكيف حال الغني من الحرام المقطوع بحرمته؟ قال القفال : نظير قوله { يمحق الله الربا } المثل الذي ضربه فيما تقدم { كمثل صفوان عليه تراب } [ البقرة : 264 ] ونظير قوله : { ويربي الصدقات } المثل الآخر { كمثل جنة بربوة } [ البقرة : 265 ] . { كمثل حبة أنبتت سبع سنابل } [ البقرة : 261 ] عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة لتصير مثل أحد » وأيضاً المتصدق يزداد كل يوم جاهه وذكره الجميل وتميل القلوب إليه وتنقطع الأطماع عنه متى اشتهر منه أنه متشمر لإصلاح مهمات الضعفاء وسد خلة الفقراء ، فتبين أن الربا وإن كان زيادة في المال إلا أنه نقصان في المآل ، والصدقة وإن كانت نقصاناً في الحال إلا أنها زيادة في الاستقبال . فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الحس والطبع ويعوّل على ما ندب إليه العقل والشرع { والله لا يحب كل كفار أثيم } الكفار فعال من الكفر ومعناه المقيم على ذلك ، والصيغة للمزاولة ك « تمار وقوال » والأثيم « فعيل » بمعنى « فاعل » وهو أيضا للمبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام ، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحداً . ووجه آخر وهو أن يكون الكفار عائداً إلى المستحل ، والأثيم إلى الآكل مع اعتقاد التحريم . ويحتمل أن يعود كلاهما إلى أكل الربا ويكون تغليظاًَ في أمر الربا وإيذاناً بأنه من فعل الكفرة لا من فعل المسلمين . وفي الآية دلالة على أنه تعالى سبقت رحمته غضبه . بيانه أنه لم ينف المحبة إلا عن الجامع بين الإصرار على الكفر وبين المواظبة على سائر الآثام كالربا . فإن استحلاله كفر وهو في نفسه إثم مذموم في جميع الأديان ، لأنه سلب مال المحتاج بنوع من الإكراه والإلجاء ، فتبقى الآية ساكنة عمن جمع بين الأمرين لا على سبيل الإصرار والمواظبة وعن الذي لم يجمع بينهما . نعم قد عرف بدليل آخر أن الكفار الذي لم يواظب على سائر الآثام لا يستأهل محبة الله تعالى وذلك لا ينافي السكوت عن حكمه ههنا والله أعلم .
ثم ذكر الترغيب عقيب الترهيب على عادته من ذكر الوعد مع الوعيد فقال { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية . فاحتج به من قال العمل الصالح خارج عن مسمى الإيمان كما مر . وأجيب بأنه قال في الآية : { وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة } مع أن الصلاة والزكاة من الأعمال الصالحة . ورد بأن الأصل حمل كل لفظ على فائدة جديدة ترك العمل به عند التعذر فيبقى في غيره على الأصل { لهم أجرهم عند ربهم } لم يقل « على ربهم » لأن الأول يجري مجرى ما إذا باع بالنقد وذلك النقد حاضر متى شاء البائع أخذه ، والثاني جارٍ مجرى البيع في الذمة نسيئة ، ولا شك أن الأول أفضل { ولا خوف عليهم } عن ابن عباس : أي فيما يستقبلهم من أحوال القيامة { ولا هم يحزنون } بسبب ما تركوه في الدنيا ، فإن المنتقل من حال إلى حال أخرى فوقها ربما يتحسر على بعض ما فاته من الأحوال السالفة وإن كان مغتبطاً بالثانية لأجل إلف وعادة ، فبيّن تعالى أن هذا القدر من الندامة لا يلحق أهل الثواب والكرامة . وقال الأصم : لا خوف عليهم من عذاب يومئذٍ ولا هم يحزنون بسبب أنهم فاتهم النعيم الزائد الذي حصل لغيرهم من السعداء لأنه لا منافسة في الآخرة ، وأيضاً إنهم لا يحزنون بسبب إنه لم يصدر منا طاعة أزيد مما صدر حتى صرنا بها مستحقين بثواب أزيد مما وجدناه لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة . وههنا سؤال وهو أن المرأة إذا بلغت عارفة بالله ، ولما بلغت حاضت . وعند انقطاع حيضها ماتت . أو الرجل بلغ عارفاً بالله ، وقبل أن تجب عليه الصلاة والزكاة مات . فهما بالاتفاق من أهل الثواب مع خلوهما عن الأعمال ، فكيف وقف الله ههنا حصول الأجر على حصول الأعمال؟ والجواب أن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها ، وقد دلت الآية على أن كل مؤمن عمل صالحاً فله الأجر فلا يلزم العكس الكلي ثم إنه تعالى لما بيَّن أن من انتهى عن الربا فله ما سلف كان يجوز أن يظن أنه لا فرق بين المقبوض منه وبين الباقي في ذمة القوم فقال { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا } فبين أنه يحرم أخذ ما بقي من الربا في ذمتهم . فإن قيل : كيف قال { يا أيها الذين آمنوا } ثم قال في آخره { إن كنتم مؤمنين } ؟ فالجواب أن هذا كما يقال : إن كنت أخي فأكرمني . معناه أن من كان أخاً أكرم أخاه . ومعناه إذ كنتم مؤمنين أو إن كنتم تريدون استدامة الحكم لكم بالإيمان ، أو يا أيها الذين آمنوا بلسانكم ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم .
قال القاضي : وفيه دلالة على أن الإيمان لا يتكامل إذا أصر الإنسان على كبيرة ، وإنما يصير مؤمناً بالإطلاق متى تجنب كل الكبائر . وأجيب بأن المراد إن كنتم عاملين بمقتضى الإيمان . وهذا بناء على أن العمل الصالح غير داخل في مسمى الإيمان ، وإنما شدد الله في ذلك لأن المنتظر لحلول الأجل إذا حضر الوقت وطن نفسه على أن تلك الزيادة قد حصلت له ففطامه عنها يكون شديداً عليه فقال { اتقوا الله } واتقاؤه إنما يكون باتقاء ما نهى عنه . وهذه الآية أصل كبير في أحكام الكفار . إذا أسلموا ، فإن ما مضى في الكفر يبقى ولا ينقض ولا يفسخ ، وما لم يوجد منه في حال الكفر فحكمه محمول على الإسلام ، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم ولا يجوز في الإسلام فهو عفو لا يتعقب وإن كان النكاح وقع على مهر حرام فقبضته المرأة فقد مضى ، وإن كانت لم تقبضه فلها مهر مثلها دون ما سمى وهذا مذهب الشافعي . وأما سبب نزول الآية فعن ابن عباس : بلغنا - والله أعلم - أنها نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف وفي بني المغيرة بني مخزوم . كانت بنو المغيرة يربون لثقيف ، فلما أظهر الله ورسوله على مكة وضع يومئذ الربا كله فأتى بنو عمرو بن عمير وبنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد وهو على مكة فقال بنو المغيرة : ما جعلنا أشقى الناس بالربا أوضع عن الناس غيرنا . فقال بنو عمر : وصولحنا على أن لنا ربنا ، فكتب عتاب في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية والتي بعدها { فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } فعرف بنو عمرو أن لا يدان لهم بحرب من الله ورسوله . وقال عطاء وعكرمة : نزلت في العباس بن عبد المطلب وعثمان بن عفان وكانا قد أسلفا في التمر ، فلما حضر الجداد قال لهما صاحب التمر : لا يبقى لي ما يكفي عيالي إن أنتما أخذتما حقكما كله . فهل لكما أن تأخذا النصف وتؤخرا النصف وأضعف لكما؟ ففعلا . فلما جاء الأجل طلبا الزيادة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهما ونزلت الآية فسمعا وأطاعا وأخذ رؤوس أموالهما . وقال السدي : « نزلت في العباس وخالد بن الوليد وكانا شريكين في الجاهلية يسلفان في الربا ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ألا إن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب « » { فإن لم تفعلوا فأذنوا } قيل : خطاب مع الكفار المستحلين للربا . ومعنى قوله : { إن كنتم مؤمنين } معترفين بتحريم الربا { فإن لم تفعلوا } أي فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه { فأذنوا } ومن ذهب إلى هذا القول قال : فيه دليل على أن من كفر بشريعة واحدة من شرائع الإسلام فهو خارج عن الملة كما لو كفر بجميع شرائعه ، وعلى هذا يكون مالهم فيئاً للمسلمين .
وقيل : خطاب مع المؤمنين المصرين على معاملة الربا لأنه خطاب مع قوم تقدم ذكرهم وما هم إلا المخاطبون بقوله : { يا أيها الذين آمنوا } ومعنى قوله : { فأذنوا } عند من جعله من الإيذان أعلموا من لم ينته عن الربا بحرب من الله ، فالمفعول محذوف . وإذا أمروا بإعلام غيرهم فهم أيضا قد علموا ذلك ، لكن ليس في علمهم دلالة علي إعلام غيرهم . فهذه القراءة في الإبلاغ آكد ممن قرأ { فأذنوا } من أذن بالشيء إذا أعلم به أي كونوا على إذن وعلم . فإن قيل : كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟ قلنا : هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر « من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة » وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من لم يدع المخابرة فليأذن بحرب من الله ورسوله » وقد جعل كثير من المفسرين والفقهاء قوله { إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله } [ المائدة : 33 ] أصلاً في قطاع الطريق من المسلمين . فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب الله وسنة رسوله . ثم التفضيل فيه أن المصر على عمل الربا إن كان شخصاً قدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى عليه حكم الله من التعزير والحبس إلى أن تظهر منه التوبة ، وإن كان له عسكر وشوكة حاربه الإمام كما يحارب الفئة الباغية ، وكما حارب أبو بكر مانعي الزكاة . وكذا القول لو أجمعوا على ترك الأذان وترك دفن الموتى فإنه يفعل بهم ما ذكرناه { وإن تبتم } من استحلال الربا أو عن معاملة { فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون } الغريم يطلب زيادة على رأس المال { ولا تظلمون } أنتم بنقصان رأس المال . { وإن كان ذو عسرة } إن وقع غريم من غرمائكم ذو إعسار على أن « كان » هي التي تسمى تامة بمعنى وجد الشيء وحدث في نفسه لا بمعنى وجد موصوفاً بشيء فإنها حينئذٍ تكون ناقصة تحتاج إلى الخبر . وقرأ عثمان { ذا عسرة } بمعنى وإن كان الغريم أو المستربي ذا عسرة . والقراءة المشهورة أولى كيلا تكون النظرة مقصورة على الغريم المستربي بل تعمه وغيره من أرباب العسرة وهي اسم من الإعسار وهو تعذر الموجود من المال . والنظرة التأخير والإمهال وفي الآية حذف والتقدير : فالحكم أو فالأمر نظرة . وقرىء { فنظرة } بسكون الظاء ، وقرأ عطاء { فناظره } على الأمر أي سامحه بالإنظار وناظره أي صاحب الحق ناظره أي منتظره ، أو ذو نظرته مثل مكان عاشب أي ذو عشب . والميسرة اليسار ضد الإعسار .
وقرىء بضم السين كمقبرة ومقبرة . ومن قرأ بالإضافة إلى الضمير فقد حذف التاء كقوله : { وأقام الصلاة } واختلفوا في أن حكم الإنظار مختص بالربا أو عام في الكل؟ فعن ابن عباس وشريح والضحاك والسدي وإبراهيم : الآية في الربا . قال الكلبي : قال بنو عمرو لبني المغيرة : هاتوا رؤوس أموالنا ولكم الربا ندعه لكم . فقال بنو المغيرة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا أن يؤخروهم فنزلت { وإن كان ذو عسرة } وعن مجاهد وسائر المفسرين أنها عامة في كل دين ، ولهذا ورد « كان » تامة . ولو فرض أن سبب النزول خاص فلا بد من إلحاق سائر الصور به لأن العاجز عن أداء المال لا يجوز تكليفه به وهو قول أكثر الفقهاء كمالك وأبي حنيفة والشافعي . والإعسار في الشرع هو أن لا يجد في ملكه ما يؤديه بعينه ولا يكون له ما لو باعة لأمكن أداء الدين من ثمنه . فمن وجد داراً أو ثوباً لا يعد من ذوي العسرة إذا أمكنه بيعها وأداء ثمنها ، ولا يجوز له أن يحبس إلا قوت يومه لنفسه وعياله وما لا بد لهم من كسوة لصلاتهم ودفع الحر والبرد عنهم . وهل يلزمه أن يؤخر نفسه من صاحب الدين أو غيره؟ الأصح أنه لا يلزمه ، وكذا لو بذل له غيره ما يؤديه لا يلزمه القبول . فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجب عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يمكن إلا ذلك . وإذا علم الإنسان أن غريمه معسر حرام عليه حبسه وأن يطالبه بما له عليه ووجب الإنظار إلى وقت اليسار فأما إن كان غريمه في إعساره جاز أن يحبسه إلى ظهور الإعسار . وإذا ادعى الإعسار وكذبه الغريم فإن كان الدين الذي حصل لزمه حصل له عن عوض كالبيع أو القرض فلا بد له من إقامة شاهدين عدلين على أن ذلك العوض قد هلك ، فإن لم يكن عن عوض كإتلاف وضمان وصداق فالقول قوله وعلى الغريم البينة ، لأن الأصل هو الفقر ، { وأن تصدقوا } على المعسر بما عليه من الدين يدل على ذلك ذكر المعسر وذكر رأس المال { خير لكم } لحصول الثناء الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى { إن كنتم تعلمون } أن هذا التصدق خير لكم فتعملوا به جعل من لا يعمل به وإن علمه كأنه لا يعلمه ، أو تعلمون فضل التصدق على الإنظار والقبض بعده ، أو تعلمون أن ما يأمركم به ربكم أصلح لكم . وقيل : المراد بالتصدق الإنظار لقوله عليه السلام : « لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره إلا كان له بكل يوم صدقة » وزيف بأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية الأولى فلا بد من فائدة جديدة ولأن قوله { خير لكم } إنما يليق بالمندوب لا بالواجب . ثم إن المعاملين بالربا كانوا أصحاب شرف وجلالة وأعوان وتغلب على الناس ، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد فلا جرم وقع ختم أحكام الربا بقوله { واتقوا يوماً } والمراد اتقاء ما يحدث فيه من الشدائد والأهوال .
واتقاء ذلك لا يمكن إلا باجتناب المعاصي وفعل الأوامر في الدنيا فهذا القول يتضمن الإتيان بجميع التكاليف . وانتصب { يوماً } على أنه مفعول به . والمعنى : تأهبوا بما تسلفون من العمل الصالح للقاء يوم { ترجعون فيه إلى الله } أي إلى ما أعد لكم من ثواب أو عقاب ، وإلى علمه وحفظه وذلك أن الإنسان له أحوال ثلاث على الترتيب : الأولى كونه جنيناً لا يملك تصرفاً فلا تصرف فيه إلا لله ، والثانية خروجه إلى فضاء وهنالك يرى للأبوين لغيرهما تصرف فيه ظاهر . الثالثة ما بعد الموت وهنالك لا يكون التصرف فيه ظاهراً وفي الحقيقة إلا لله تعالى فكأنه عاد إلى الحالة الأولى . وهذا معنى الرجوع إلى الله { ثم توفى كل نفس ما كسبت } أي جزاء ذلك أو المكتسب هو الجزاء كما يقال : كسب الرجل لما يحصله بتجارته . والمراد أن كل مكلف فإنه يصل إليه جزاء عمله بالتمام عند الرجوع إلى الله تعالى كقوله : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } [ الزلزلة : 7 ، 8 ] ثم كان لقائل أن يقول : كيف يليق بأكرم الأكرمين إيصال العذاب إلى عبيده الكفار والفساق فقال { وهم لا يظلمون } بل العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره وسهل طريق الاستدلال عليه وأمهل . هذا على أصول المعتزلة . وأما على أصول الأصحاب فهو إشارة إلى أنه تعالى ملك الملوك وخالق الخلائق ، والملك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلماً . عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بها جبريل وقال : ضعها على رأس المائتين والثمانين من البقرة ، وعاش صلى الله عليه وسلم بعدها أحداً وثمانين يوماً ، وقيل أحداً وعشرين ، وقيل سبعة أيام ، وقيل ثلاث ساعات ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
التأويل : أخبر عن حرص أهل الدنيا وهم أكلة الربا بعد ذكر قناعة أهل العقبى . فمثل آكل الربا كمثل من به جوع الكلب يأكل ولا يشبع حتى ينتفخ بطنه ويثقل عليه فلا يقوم إلا كما يقوم المصروع لأنه كلما أقام صرعه ثقل بطنه ، ومثله قوله عليه السلام : « إن هذا المال خضر حلو وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر فإنها أكلت حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم رتعت فمن أخذه بحقه ووضعه بحقه فنعم المعونة هو ومن أخذه بغير حقه كان كالذي يأكل ولا يشبع » وفي الحديث مثلان : أحدهما للمفرط في جمع الدنيا بحيث يفضي به إلى الهلاك في الدنيا والعقبى وأشار إليه بقوله :
« وإن مما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم » وذلك أن الربيع ينبت أحرار البقول فتستكثر منها الماشية لاستطابتها إياها حتى تنتفخ بطونها عند مجاوزتها حد الاعتدال فتنشق أمعاؤها فتهلك أو تقارب الهلاك . والمثل الآخر للمقتصد وذلك قوله « إلا آكلة الخضر » وذلك أن الخضر ليست من أحرار البقول وجيدها التي ينبتها الربيع بتوالي أمطاره ولكنها من كلإ الصيف التي ترعاها المواشي بعد هيج البقول ويبسها حيث لا تجد سواها ، فلا ترى الماشية تكثر منها وهو مثل التاجر الذي يكتسب المال بطريق البيع والشراء ويؤدي حقه وإن كان له حرص في الطلب والجمع . ولكن لما كان بأمر الشرع وطريق الحل ما أضربه { وأحل الله البيع وحرم الربا } يعني كيف يكون ما أزال نور الأمر ظلمته مثل ما زاد ظلمته ارتكاب المنهي؟ فمرتكب الربا في ظلمات ثلاث : ظلمة الحرص وظلمة الدنيا وظلمة المعصية . { وأمره إلى الله } يرزقه من حيث لا يحتسب { والله لا يحب كل كفار } بنعمة الشرع وأنواره { أثيم } عامل بالطبع مقيم في ظلمة إصراره . ثم أخبر عن العاملين بالشرع الخارجين عن الطبع الذين آمنوا إيمان التصديق بالتحقيق مقروناً بالتوفيق ، ثم خرجوا عن ظلمة اتباع الهوى بإقامة الصلاة وعالجوا ظلمة الركون إلى الدنيا بأنوار إيتاء الزكاة ، فجذبتهم العناية من حضيض العبدية إلى ذروة العندية { ولهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم } من الرجوع إلى ظلمات الطبيعة { ولا هم يحزنون } لفوات أنوار الشريعة . ثم أخبر عن أهل الإيمان المجازي فقال { يا أيها الذين آمنوا } باللسان { اتقوا الله } أي بالله كما جاء . « كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم » . أي جعلناه قدامنا . ومن شرط المؤمن الحقيقي اتقاؤه بالله في ترك الزيادات كما قال : « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » و { ذروا ما بقي من الربا } تركوا ما سوى الله في طلبه { إن كنتم مؤمنين } إيماناً حقيقياً . { فإن لم تفعلوا } لم تتركوا كل زيادة تمنعكم { فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ببعد منهما وبغض . { وإن تبتم } تركتم غيره { فلكم رؤوس أموالكم } وهي الكرامة التي فضلكم بها على كثير من خلقه وهي المحبة يحبهم ويحبونه { لا تظلمون } بوضع محبتي في غير موضعها من المخلوقات { ولا تظلمون } بوضع محبتكم في غير موضعها . { وإن كان ذو عسرة } لم يصل إليه ما أعد لأجله عاجلاً { فنظرة إلى ميسرة } وهو وقت وصوله إليه آجلاً { وأن تصدقوا } تبذلوا فينا ما تتمنون من صنوف برنا في الدنيا والعقبى على قدر همتكم { فهو خير لكم } لأنا نجازيكم على قدر مواهبنا { إن كنتم تعلمون } قدرها { ومن يتوكل على الله فهو حسبه }
« من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى السائلين » ثم إنه سبحانه كما جمع في القرآن خلاصة الكتب السماوية جمع في خاتمة الوحي خلاصة أي القرآن فقال : { واتقوا يوماً } الآية . وذلك أن فائدة جميع الكتب راجعة إلى معنيين : النجاة من الدركات السفلى وهي سبعة : الكفر والشرك والجهل والمعاصي والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس . والفوز بالدرجات العلى وهي ثمانية : المعرفة والتوحيد والعلم والطاعات والأخلاق المحمودة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته . فقوله { واتقوا } شامل لما يتعلق بالسعي الإنساني من هذه المعاني ، لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه ، فتقوى العام الخروج بسبب الإقامة بشرائط { جاهدوا فينا } [ العنكبوت : 69 ] عن الكفر بالمعرفة ، وعن الشرك بالتوحيد ، وعن الجهل بالعلم ، وعن المعاصي بالطاعات ، وعن الأخلاق المذمومة بالأخلاق المحمودة . ثم من ههنا تقوى الخاص تخرجهم جذبات { لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] من حجب أوصافهم إلى درجة تجلي صفات الحق فيستظلون بظل سدرة المنتهى { عندها جنة المأوى } [ النجم : 15 ] فينتفعون بمواهب { إذ يغشى السدرة ما يغشى } [ النجم : 16 ] ثم من ههنا تقوى خاص الخاص فتخرجه العناية بجذبات { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] من سدرة المنتهى الأوصاف إلى قاب قوسين نهاية حجاب النفس وبدية أنوار القدس . وهناك من عرف نفسه فقد عرف ربه وهو مقام أو أدنى ترجعون فيه إلى الله . لأن مبدأ وجودك النفخة ، وآخر حالك الجذبة ، وبها اصطفى آدم وكرم نبيه ولهذا لم يقل : ولقد كرمنا أولاد آدم ، لأن أهل الكرامة منهم من هو بوصف الرجال دون النساء . ثم وصف الرجال بقوله : { رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكرالله } [ النور : 37 ] فمن كان من النساء بهذا الوصف بهذا الوصف فهو من الرجال في المعنى ، ومن لم يكن من الرجال بهذا الوصف فهو من النساء في الحقيقة ، وفي هذا الرجوع وعد وبشارة للأولياء ، وويعد وإنذار للأعداء { ثم توفى كل نفس ما كسبت } فبقدر مراتبه في العبودية والتقوى يهتدي إلى مقامات القرب من المولى ، وبحسب فنائه عن حجاب نفسه يبقى ببقاء ذاته وهويته ، { وهم لا يظلمون } فإن دخول النور في البيت وخروج الظلمة منه إنما يكون على مقدار سعة فتح الروزنة وضيقة ولا تظلم الشمس عليه مثقال ذرة { فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى } [ النازعات : 37 ، 41 ] .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
القراآت : { أن يمل } هو بسكون الهاء : قتيبة والحلواني عن قالون . الباقون بالضم على الأصل { أن تضل } بكسر الهمزة على الشرط : حمزة والمفضل . الباقون بالفتح على أنها ناصبة { فتذكر } بالتشديد والرفع : حمزة وجبلة { فتذكر } بالرفع ، ومن الإذكار : أبو زيد عن المفضل { فتذكر } من الإذكار وبالنصب : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة . الباقون { فتذكر } بالتشديد والنصب . { تجارة حاضرة } بالنصب فيهما : عاصم . الباقون بالرفع فيهما . { فرهن } بضم الراء والهاء : ابن كثير وأبو عمرو . الباقون { فرهان } .
الوقوف : { فاكتبوه } ط ، للعدول . { بالعدل } ص ، لعطف المتفقين { فليكتب } ج { شيئا } ط . { بالعدل } ط ، { من رجالكم } ج للشرط مع فاء التعقيب { الأخرى } ط { دعوا } ط للعدول { أجله } ط { ألا تكتبوها } ط لابتداء الأمر . { تبايعتم } ص لعطف المتفقين { ولا شهيد } ط { بكم } ط { واتقوا الله } ط ه ، { ويعلمكم الله } ط { عليم } ه ، { مقبوضة } ط لابتداء شرط واستئناف معنى آخر { ربه } ط للعدول { الشهادة } ط { قلبه } ط { عليم } ه .
التفسير : الحكم الثالث المداينة . وسبب النظم أن الحكمي المتقدمين وهما الإنفاق وترك الربا كانا سببين لنقصان المال ، فأرشد الله تعالى في هذه الآية بكمال رأفته إلى كيفية حفظ المال الحلال وصونه عن التلف والبوار ورعاية وجوه الاحتياط ، فإن مصالح المعاش والمعاد متوقفة على ذلك ، ولهذه الدقيقة بالغ في الوصاية وأطنب . عن ابن عباس أن المراد به السلم وقال : لما حرم الربا أباح السلم وأنزل فيه أطول آية . ولهذا قال بعض العلماء : لا لذة ولا منفعة يتوصل إليها بالطريق الحرام إلا وجعل الله سبحانه وتعالى لتحصيل مثلها طريقاً حلالاً وسبيلاً مشروعاً . والتداين تفاعل من الدين . يقال : داينت الرجل إذا عاملته بدين معطياً أو آخذاً . والمراد إذا تعاملتم بما فيه دين . وذلك أن البياعات على أربعة أوجه : أحدها بيع العين بالعين وذلك ليس بمداينة البتة . والثاني بيع الدين بالدين وهو باطل فيبقى ههنا بيعان : بيع العين بالدين وهو ما إذا باع شيئاً بثمن مؤجل ، وبيع الدين بالعين وهو المسمى بالسلم وكلاهم داخلان تحت الآية . وأما القرض فلا يدخل فيه وإنه غير الدين لغة فإن الدين يجوز فيه الأجل ، والقرض لا يجوز فيه الأجل . والفائدة في قوله : { بدين } تخليصه من التداين بمعنى المجازاة ، أو التأكيد مثل { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] أو ليشمل أي دين كان صغيراً أو كبيراً سلماً أو غيره . وفي الكشاف : فائدته رجوع الضمير إليه في قوله : { فاكتبوه } إذ لو لم يذكر لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين فلم يكن النظم بذلك الحسن . ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال فإنه كالمطابقة ، ودلالة تداينتم على ذلك كالتضمن . وقيل : ليكون المعنى تدايناً يحصل فيه دين واحد فيخرج بيع الدين بالدين .
وإنما لم يقل كلما تداينتم ليكون نصاً في العموم لأن الكلية تفهم من بيان العلة في قوله : { ذلكم أقسط عند الله } فإن العلة قائمة في الكل فيكون الحكم حاصلاً في الكل ، أو نقول : العلة هي التداين والعلة لا ينفك عنها معلوها فتكون القضية كلية كما في قوله : { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } [ المائدة : 6 ] والأجل مدة الشيء ومنه أجل الإنسان لمدة عمره . وفائدة قوله { مسمى } أن يعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوماً كالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام . وأنه لو قال إلى الحصاد أو إلى قدوم الحاج لم يجز لعدم التسمية . ثم إنه تعالى أمر في المداينة بشيئين : الكتبة والاستشهاد ليكون كلا المتداينين أوثق وآمن من النسيان والتفاوت والتخالف في مقدار الدين وفي انقضاء الأجل وفي سائر ما تشارطا عليه . وهذا الأمر قيل للوجوب وهو مذهب عطاء وابن جريج والنخعي ، وجمهور المجتهدين على أنه للندب لإجماع المسلمين قديماً وحديثاً على البيع بالأثمان المؤجلة من غير كتبة ولا إشهاد ، ولأن في إيجابهما حرجاً وتضييقاً . وقيل : كانا واجبين فنسخا بقوله : { فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي اؤتمن أمانته } وهذا مذهب الحسن والشعبي والحكم بن عتيبة . أما المخاطب بقوله : { فاكتبوه } فليس كل أحد لوجود أميين كثيرين في الدنيا ، بل من له استئهال لكتبه ولهذا قال : { وليكتب بينكم كاتب } وليس ذلك أيضاً على الإطلاق ولكنه يجب أن يكون الكاتب متصفاً بالعدل فيكتب بحيث لا يزيد في الدين ولا ينقص عنه ولا يخص أحدهما بالاحتياط دون الآخر ، ويحترز عن الألفاظ المجملة التي يقع النزاع في المراد منها . وهذا بالحقيقة أمر للمتداينين بتخير الكاتب وأن لا يستكتبوا إلا فقيهاً أديباً ديناً . قال بعض الفقهاء : العدل أن يكون ما يكتبه متفقاً عليه بين المجتهدين ولا يكون بحيث يجد قاض من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله { ولا يأب كاتب } ولا يمتنع أحد من الكتاب وهو معنى التنكير في كاتب { أن يكتب } وقوله { كما علمه الله } إما أن يكون متعلقاً بما قبله فالتقدير : ولا يأب كاتب أن يكتب مثل ما علمه الله تعالى فيقع قوله بعد ذلك { فليكتب } تأكيداً للأول أي فليكتب تلك الكتابة التي علمه الله تعالى إياها أو بما بعده فيكون الأول نهياً عن الامتناع مطلقاً ، والثاني أمراً بالكتابة المقيدة والمطلق لا دلالة له على المقيد ، فلا يكون الثاني تأكيداً للأول وإنما يكون بياناً له . ثم النهي عن الامتناع عن الكتابة لكل كاتب إنما هو على سبيل الإرشاد والأولى تحصيلاً لحاجة المسلم وشكراً لما علمه الله من كتابة الوثائق فهو كقوله : { وأحسن كما أحسن الله إليك } [ القصص : 77 ] وقيل : إنه على سبيل الإيجاب ولكنه نسخ بقوله { ولا يضار كاتب ولا شهيد } . وعن الشعبي أنه فرض كفاية فإن لم يجد إلا كاتباً واحداً وجبت الكتابة عليه ، وإن وجد أشخاصاً فالواجب كتابة أحدهم .
وقيل : متعلق الإيجاب هو أن يكتب كما علمه الله يعني أنه بتقدير أن يكتب ، فالواجب أن يكتب كما علمه الله وأن لا يخل بشرط من الشروط كيلا يضيع مال المسلم بإهماله . واعلم أن الكتابة بعد حصول الكاتب العارف بشروط الصكوك والسجلات لا تتم إلا بإملاء من عليه الحق ليدخل في جملة إملائه اعترافه بمقدار الحق وصفته وأجله إلى غير ذلك ، فلهذا قال سبحانه { وليملل الذي عليه الحق } والإملال والإملاء لغتان : قال الفراء : أمللت عليه الكتاب لغة الحجاز وبني أسد ، وأمليت لغة بني تميم وقيس ، وقد نطق القرآن بهما . قال : { فهي تملى عليه بكرة وأصيلا } [ الفرقان : 5 ] .
{ وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئاً } أمر أن لهذا المملي الذي عليه الحق بأن يقر بتمام المال الذي عليه ولا ينقص منه شيئاً . والبخس النقص { فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً } محجوراً عليه لتبذيره وجهله بالتصرف وضعف عقله { أو ضعيفاً } صبياً أو شيخاً مختلاً { أو لا يستطيع أن يمل هو } أو غير مستطيع للإملاء بنفسه لعيّ به أو خرس { فليملل وليه بالعدل } والمراد بولي الذي عليه الحق الذي يلي أمره ويقوم بمصالحه من وصي إن كان سفيهاً أو صبياً ، أو وكيل إن كان غير مستطيع ، أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه . وفائدة توكيد المتصل بالمنفصل في قوله : { أن يمل هو } أنه غير مستطيع بنفسه ولكن بغيره وهو الذي يترجم عنه . وعن ابن عباس ومقاتل والربيع أن الضمير في { وليه } عائد إلى الدين أي الذي له الدين ليمل . قيل : وفيه بعد لأن قول المدعي كيف يقبل؟ ولو كان قوله معتبراً فأي حاجة إلى الكتابة والإشهاد؟ ثم المقصود من الكتابة هو الاستشهاد ليتمكن بالشهود من التوصل إلى تحصيل الحق إن جحد فلهذا قال تعالى : { واستشهدوا } أي أشهدوا . والإشهاد والاستشهاد بمعنى ، لأن معنى استشهدته سألته أن يشهد شهيدين أي شاهدين « فعيل » بمعنى « فاعل » . وإطلاق الشهيد على من سيكون شهيداً تنزيل لما يشارف منزلة الكائن . ومعنى قوله { من رجالكم } أي من رجال أهل ملتكم وهم المسلمون . وقيل يعني الأحرار ، وقيل من رجالكم الذين تعدّونهم للشهادة من أهل العدالة { فإن لم يكونا } أي الشهيدان رجلين { فرجل وامرأتان } أي فليكن أو فليشهد أو فالشاهد رجل وامرأتان أو فرجل وامرأتان يشهدون جميع هذه التقديرات جائز حسن ذكره علي بن عيسى { ممن ترضون من الشهداء } وفيه دليل على أنه ليس كل أحد صالحاً للشهادة . والفقهاء قالوا شرائط قبول الشهادة أن يكون حراً بالغاً عاقلاً مسلماً عدلاً عالماً بما يشهد به لا يجر بتلك الشهادة منفعة إلى نفسه ولا يدفع مضرة عنها ، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلط ولا بترك المروءة ولا يكون بينه وبين من يشهد عليه عداوة .
وعن علي عليه السلام : ولا يجوز شهادة العبد في شيء وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ، وذلك لأنه تعالى قال { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } والإجماع منعقد على أن العبد لا يجب عليه الذهاب بل يحرم عليه ذلك إذا لم يأذن له السيد ، فيعلم منه أن العبد لا يجوز أن يكون شاهداً . وعند شريح وابن سيرين وأحمد : تجوز شهادة العبد قالوا : لأن العقل والعدالة والدين لا يختلف بالحرية والرق . وعند أبي حنيفة يجوز شهادة الكفار بعضهم على بعض على اختلاف الملل { ان تضل } أن لا تهتدي إحداهما للشهادة بأن تنساها لغلبة البرد والرطوبة على أمزجتهن أو إحدى النفسين ، فإن الإنسان لا يخلو من النسيان { فتذكر إحداهما الأخرى } وانتصابه على أنه مفعول له أي إرادة أن تضل . قال في الكشاف : فإن قلت : كيف يكون ضلالها مراداً لله؟ قلت : لما كان الضلال سبباً للإذكار والإذكار مسبباً عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب منزلة الآخر لالتباسهما واتصالهما ، كانت إرادة الضلال المسبب عنه الإذكار إرادة للإذكار ، فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ونظيره قولهم « أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه » . وفي التفسير الكبير أن ههنا غرضين : أحدهما حصول الإشهاد وذلك لا يتأتى إلا بتذكير إحدى المرأتين . والثاني بيان تفضيل الرجل على المرأة حتى يبين أن إقامة المرأتين مقام الرجل الواحد هو العدل في القضية وذلك لا يتأتّى إلا بضلال إحدى المرأتين ، فلهذا صار كل من الغرضين صحيحاً ولا محذور . ومن قرأ بكسر « إن » على الشرط والجزاء فلا إشكال . وروي عن سفيان بن عيينة أنه قال { فتذكر إحداهما } معناه فتجعل إحداهما الأخرى ذكراً يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر ولا يخفى ما فيه من التعسف . واعلم أن الشهادة خبر قاطع ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « على مثل الشمس فاشهد أو فدع » وقد يقام الظن المؤكد فيه مقام اليقين ضرورة . وقول الشاهد الواحد لا يكفي للحكم به إلا في هلال رمضان كما مر ، ولا يحتاج إلى أزيد من اثنين إلا في الزنا لقوله تعالى : { ثم لم يأتوا بأربعة شهداء } [ النور : 4 ] وقال : { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } [ النساء : 15 ] ولا يعتبر فيه شهادة النساء . عن الزهري أنه قال مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود وغير هلال رمضان والزنا إما عقوبة أو غيرها . فإن كان عقوبة فلا يثبت إلا برجلين لما مر من حديث الزهري يستوي فيه حق الله تعالى كحد الشرب وقطع الطريق ، وحق العباد كالقصاص والقذف ، وأما غير العقوبات فما ليس بمالي .
ولا يقصد به المال إن كان مما يطلع عليه الرجال غالباً كالنكاح والرجعة والطلاق والعتاق والإسلام والردة والبلوغ والولاء وانقضاء العدة وجرح الشهود وتعديلهم والعفو عن القصاص ، فكل ذلك لا يثبت إلا برجلين أيضاً . وإن كان ممن يختص بمعرفته النساء غالباً فتقبل فيه شهادتهن على انفرادهن لما روي عن الزهري أنه قال : مضت السنة أن تجوز شهادة النساء في كل شيء لا يليه غيرهن وذلك كالولادة والبكارة والثيابة والرتق والقرن والحيض والرضاع وعيب المرأة من برص وغيره تحت الإزار ، ولا يثبت شيء من ذلك بأقل من أربع نسوة تنزيلاً لاثنتين منهن منزلة رجل . وما يثبت بهن يثبت برجل وامرأتين وبرجلين بالطريق الأولى . وأما ما هو مال أو يقصد به المال كالأعيان والديون والعقود المالية من البيع والإقالة والرد بالعيب والإجارة والوصية بالمال والحوالة والضمان والصلح والقرض ، فيثبت بشهادة رجل وامرأتين ثبوتها بشهادة رجلين ونص القرآن منزل على هذا القسم والذي قبله . وجوز الشافعي القضاء بالشاهد واليمين لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين وأنكره أبو حنيفة { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } « ما » زائدة مبهمة أي إذا دعوا فقيل : أي إلى أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها . وقيل : إلى تحمل الشهادة وهو قول قتادة واختاره القفال قال : كما أمر الكاتب أن لا يأبى الكتابة ، أمر الشاهد أن لا يأبى تحمل الشهادة وقيل : أمر بالتحمل إذا لم يوجد غيره . وحمله الزجاج على مجموع الأمرين : التحمل أولاً والأداء ثانياً . والقول الأول أصح لأنه أطلق عليهم لفظ الشهداء . والأصل في الإطلاق الحقيقة وتسميتهم قبل التحمل شهداء مجاز لا يعدل إليه إلا لضرورة . وأيضاً التحمل غير واجب على الكل بخلاف الأداء بعد التحمل . وأيضاً الأمر بالإشهاد يتضمن الأمر بتحمل الشهادة ، فكان صرف قوله { ولا يأب الشهداء } إلى الأمر بالأداء أولى ليفيد فائدة جديدة وهي أن الشاهد إن كان متعيناً وجب عليه أداء الشهادة ، وإن كان فيهم كثرة كان الأداء فرضاً على الكفاية . { ولا تسأموا } لا تضجروا ولا تملوا أن تكتبوه أي الدين أو الحق لتقدم ذكرهما على أي حال كان الحق صغيراً أو كبيراً مما جرت العادة بكتبته لا كالحبة والقيراط ، فإن القليل من المال ربما أفضى إلى نزاع كثير . وإنما نهى عن السآمة لأنها من الكسل والكسل صفة المنافق . وأيضا من كثرت مدايناته فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتاباً فربما مل كثرة الكتب فاقتضى المقام ترغيبه وإلهابه . ويجوز أن يكون الضمير للكتاب ، وأن تكتبوه مختصراً أو مشبعاً ، ولا يخلوا بكتابته إلى أجله إلى وقته الذي اتفقا على تسميته { ذلكم } الكتب أو ذلكم الذي أمرتكم به من الكتب والإشهاد { أقسط } أعدل { عند الله وأقوم للشهادة } أعون على إقامة الشهادة وهما إما من أقسط وأقام فيكون محمولاً على قولهم « أفلس من ابن المذلق » وإما من قويم وقاسط بمعنى ذو قسط على طريقة النسب وإلا فالقاسط الجائر .
ولا يصح ذلك المعنى ههنا يقال : قسط إذا جار ، وأقسط أي عدل { وأدنى ألا ترتابوا } أقرب من انتفاء الريب . رتب الله تعالى على الكتبة والإشهاد ثلاث فوائد :
الأولى : تتعلق بالدين لأنه إذا كان مكتوباً كان إلى اليقين أقرب وعن الجهل أبعد فيكون أعدل عند الله . والثانية تتعلق بالدنيا وهو كونه أبلغ في الاستقامة التي هي ضد الاعوجاج وأعون للحفظ والذكر .
والثالثة أنه يدفع الضرر عن نفسه بأن لا يضل في أمره ولا يتردد ، وعن غيره بأن لا ينسبه إلى الكذب والخيانة فلا يقع في الغيبة والجهالة . فما أحسن هذه الفوائد وما أدخلها في الضبط والترتيب { إلا أن تكون تجارة حاضرة } قيل : هو راجع إلى قوله { إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه } إن البيع بالدين قد يكون إلى أجل قريب وقد يكون إلى أجل بعيد ، فاستثنى عن المداينة ما يكون أجله قريباً . ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : { ولا تسأموا أن تكتبوه } وقد يقال : إنه استثناء منقطع والتقدير : لكنه إذا كانت التجارة حاضرة فليس عليكم جناح . فيكون كلاماً مستأنفاً على سبيل الإضراب عن الأول . والتجارة تصرف في المال لطلب الربح . فسواء كانت المبايعة بدين أو بعين فالتجارة حاضرة . فإذاً المراد بالتجارة ههنا ما يتجر فيه من الأبدال . ومعنى إدارتها بينهم تعاطيهم إياها يداً بيد . والمعنى إلا أن تتبايعوا بيعاً ناجزاً يداً بيد . ومن قرأ { تجارة } بالرفع فعلى « كان » التامة أو الناقصة والخبر { تديرونها } ومن قرأ بالنصب فالتقدير إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة كبيت الكتاب .
بني أسد هل تعلمون بلاءنا ... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي إذا كان اليوم يوماً . واليوم الأشنع هو الذي ارتفع شره وعلا . وذو كواكب أي شديد . ويقال في التهديد : لأرينك الكواكب ظهراً . وقال الزجاج : تقديره إلا أن تكون المداينة تجارة أي يكون ديناً قريب الأجل . { فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } ومعنى رفع الجناح عدم الضرر لا عدم الإثم إلا لزم أن تكون الكتابة المذكورة أولاً واجبة ، وقد أثبتنا خلاف ذلك . وإنما رخص تعالى في هذا النوع من التجارة لكثرة جريانها فيما بين الناس . فتكليفهم الكتابة والإشهاد في كل لحظة حرج عليهم مع أن خوف التجاحد في مثله قليل . { وأشهدوا إذا تبايعتم } هذا التبايع كأنه لما رفع عنهم الكتابة في التجارة الحاضرة ، كرر الأمر بالإشهاد ليعلم أن حكمه باق فيها لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته . ويحتمل أن يكون أمراً بالإشهاد مطلقاً ناجزاً كان التبايع أو كالئاً لأنه أحوط .
عن الحسن : إن شاء أشهد وإن شاء لم يشهد . وعن الضحاك : هي عزيمة من الله ولو على باقة بقل . { ولا يضار كاتب ولا شهيد } يحتمل أن يكون مبنياً للفاعل فيكون أصله لا يضارر بكسر الراء وبه قرأ عمر وعليه أكثر المفسرين والحسن وطاوس وقتادة ومعناه : نهى الكاتب أن يزيد أو ينقص والشاهدين أن يحرفا أو يتركا الإجابة إلى ما يطلب منهما ولهذا قال : { وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم } فإن التحريف في الكتابة والشهادة فسق وإثم . وعن ابن مسعود وعطاء ومجاهد أن التقدير لا يضارر بفتح الراء وبه قرأ ابن عباس ، وأنه نهي للمتداينين عن الضرار بالكاتب والشهيد كأن يعجلا عن مهم ويلزا ، أولا يعطى الكاتب حقه من الجعل ، أو يحمل الشهيد مؤنة مجيئة من بلد . { وإن تفعلوا } ما نهيتكم عنه من الضرار أو كل ما نهيتكم عنه من فعل معصية أو ترك طاعة ليكون عاماً { فإنه } فإن الضرار أو ارتكاب المنهي { فسوق بكم } خروج عن أمر الله وطاعته . ومعنى { بكم } أي ملتصق بكم . { واتقوا الله } في أوامره ونواهيه { ويعلمكم الله } ما فيه صلاح الدارين { والله بكل شيء } من مصالح عباد { عليم } .
واعلم أنه سبحانه جعل البياعات في هذا المقام على ثلاثة أقسام : بيع بكتاب وشهود ، وبيع برهان مقبوضة ، وبيع بالأمانة . ولما بين القسم الأول شرع في الثاني وقال { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة } واتفق الفقهاء على أن الارتهان لا يختص بالسفر ولا بحالة عدم وجدان الكاتب ، كيف وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رهن درعه في غير سفر ، ولكنه وردت الآية على الغالب ، فإن الغالب أن لا يوجد الكاتب في السفر ولا يوجد أدوات الكتابة ولهذا قال ابن عباس : أرأيت إن وجدت الكاتب ولم تجد الصحيفة والدواة وقرأ { ولم تجدوا كاتباً } ونظيره قوله { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } [ النساء : 101 ] وليس الخوف من شرط جواز القصر . وكان مجاهد والضحاك يذهبان إلى أن الرهن لا يجوز في غير السفر أخذاً بظاهر الآية ، ولا يعمل بقولهما اليوم . وأصل الرهن من الدوام . رهن الشيء إذا دام وثبت . ونعمة راهنة أي دائمة ثابة والرهن مصدر جعل اسماً وزال عنه عمل الفعل . فإذا قلت رهنت عنده رهناً لم يكن انتصابه انتصاب المصدر ولكن انتصاب المفعول به كما تقول : رهنت ثوباً . ولهذا جمع الأسماء . وله جمعان : رهن بضمتين كسقف في سقف ، ورهان مثل كباش في كبش . وقيل : إن أحدهما جمع الآخر . وفي الكلام حذف تقديره فرهن مقبوضة بدل من الشاهدين ، أو فعليه رهن ، أو فالوثيقة ، أو الذي يستوثق به رهن . ويعلم من قوله : { مقبوضة } أن الرهن لا بد في لزومه من القبض ، والمراد باللزوم أن لا يكون للراهن الرجوع عن الرهن ولا للمرتهن عن الارتهان .
وقبض المرهون المشاع إنما يحصل بقبض الكل وقبل القبض يصح الرهن ولكن لا يلزم . وأما صورة القبض فقبض العقار إنما يحصل بتخلية الراهن أو وكيله بينه وبين المرتهن أو وكيله وتمكينه منه بتسليم المفتاح فيما له مفتاح . وقبض المنقول يحصل بالنقل من موضعه إلى موضع لا يختص بالراهن كالشارع والمسجد وملك المرتهن ، وإن كان المنقول مقدراً فلا بد من التقدير أيضاً بوزن أو كيل أو ذرع . ولو نقل من بيت من دار الراهن إلى بيت آخر بإذنه ، أو وضعه الراهن بين يدي المرتهن إذا امتنع من قبضه ، حصل القبض . ثم إنه تعالى ذكر بيع الأمانة فقال { فإن أمن بعضكم بعضاً } فإن أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنه به وثقته بأنه لا يجحد الحق ولا ينكره { فليؤد الذي اؤتمن أمانته } فليكن المديون عند ظن الدائن به . وسمى الدين أمانة وإن كان مضموناً لائتمانه عليه بترك الارتهان منه والحاصل أنه مجاز مستعار . وذلك أنه لما اشترك هذا الدين مع الأمانة الشرعية في وصف وجود الأمانة اللغوية أطلق أحدهما على الآخر . والائتمان افتعال من الأمن { وليتق الله ربه } حتى لا يدور في خلده جحود واختيان . وفي الآية قول آخر وهو أنها خطاب للمرتهن بأن يؤدي الرهن عند استيفاء المال فإنها أمانة في يده . والصحيح هو الأول . ومن الناس من قال : هذه الآية ناسخة للآيات المتقدمة الدالة على وجوب الكتبة والإشهاد وأخذ الرهن . والحق أن تلك الأوامر محمولة على الإرشاد رعاية وجوه الاحتياط ، وهذه الآية محمولة على الرخصة . وعن ابن عباس أنه قال : في آية المداينة نسخ . ثم قال : { لا تكتموا الشهادة } وفيه وجوه :
الأول عن القفال : أنه تعالى لما أباح ترك الكتبة والإشهاد والرهن عند اعتقاد كون المديون أميناً ، ثم كان من الجائز أن يكون هذا الظن خطأ وأن يخرج المديون جاحداً للحق ، وكان من الممكن أن يكون بعض الناس مطلعاً على أحوالهم ، ندب الله ذلك الإنسان أن يشهد لصاحب الحق بحقه ، سواء عرف صاحب الحق تلك الشهادة أم لا ، وشدد فيه بأن جعله إثم القلب لو تركه . وعلى هذا يمكن أن يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : « خير الشهود من شهد قبل أن يستشهد » وقيل : المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة . وقيل : المراد بالكتمان الامتناع من أدائها عند الحاجة إلى إقامتها ، فإن في ذلك إبطال حق المسلم ، وحرمه مال المسلم كحرمة دمه ، فلهذا بالغ في الوعيد وقال { ومن يكتمها فإنه اثم قلبه } والآثم الفاجر ، والآثم مرتفع بأن و { قلبه } فاعله . ويجوز أن يكون { قلبه } مبتدأ و { آثم } خبره مقدماً عليه ، والجملة خبر « إن » .
وفائدة ذكر القلب والشخص بجملته آثم لا قلبه وحده ، هو أن أفعال الجوارح تابعة لأفعال القلوب ومتولدة مما يحدث في القلب من الدواعي والصوارف ، وإسناد الفعل إلى القلب الذي هو محل الاقتراف ومعدن الاكتساب أبلغ كما يقال عند التوكيد : هذا مما أبصرته عيني وسمعته أذني وعرفه قلبي ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن في جسد ابن آدم لمضغة إذا صلحت صلح بها سائر الجسد وإذا فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب » وزعم كثير من المتكلمين أن الفاعل والعارف والمأمور والمنهي هو القلب ، { والله بما تعملون عليم } فيه تحذير للكاتم وتهديد له . عن ابن عباس : أكبر الكبائر الإشراك بالله لقوله تعالى : { فقد حرم الله عليه الجنة } وشهادة الزور وكتمان الشهادة .
التأويل : إنه تعالى كما أمر العباد أن يكتبوا كتاب المبايعة فيما بينهم ويستشهدوا عليه العدول ، فقد كتب كتاب مبايعة جرت بينه وبين عباده في الميثاق { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } [ التوبة : 111 ] إلى قوله : { واستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } [ التوبة : 111 ] وأشهد الملائكة الكرام { وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين } [ الانفطار : 10 ، 11 ] وإنه تعالى كما أمركم أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيراً أو كبيراً أمرالملائكة أن يكتبوا معاملاتكم الصغيرة والكبيرة ، ثم عند خروجكم من الدنيا يجعلون ذلك في أعناقكم { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } [ الإسراء : 13 ] ثم نودي من سرادقات الجلال : يا قوي الظلم ضعيف الحال { اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً } [ الإسراء : 14 ] ثم إن الكتاب يكتبون عليه في صباحه ومسائه ، وما يكتبون إلا من إملائه وإنه بالقليل والكثير مما يملي يخاطب ، وبالنقير وبالقطمير على ما يميل عن الحق يعاتب ، فليحاسب نفسه قبل أن يحاسب ، فعليه أن يملي الحق للحق . فإن كان الذي عليه حق للحق سفيهاً جاهلاً بإملاء الحق للحق لاشتغاله بالباطل ، أو ضعيفاً عاجراً مغلوباً بغلبات نفسه ، أو لا يستطيع أن يمل هو لكونه ممنوعاً بالعواتق والعلائق لا قدرة له على إملاء ما ينفعه ولا يضره ، ولا قوة له في إنهاء ما لا يحزنه ويسره ، { فليملل وليه بالعدل } فإن لكل قوم ولياً يخرجهم من الأحزان إلى السرور ، ومن الأسجان إلى القصور ، ومن الأشجان إلى الحبور ، ومن العجز والفتور إلى القوة والحضور . { الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور } [ البقرة : 257 ] و { استشهدوا شهيدين } استصحبوا من أرباب القلوب اثنين من رجالكم الذين هم بالنسبة إليكم رجال وأنتم نساء { فإن لم يكونا رجلين } أرباب القلوب { فرجل } منهم { وامرأتان } أي رجلان من أهل الصلاح ليكونا بمثابة رجل من أهل الولاية في فائدة الصحبة { ممن ترضون من الشهداء } ممن يصلح أن يكون من شهداء الله كما قال : « أنتم شهداء الله في أرضه » { أن تضل إحداهما } عن جادة الاستقامة في بادية النفس المملوءة من شياطين الهوى { فتذكر إحداهما الأخرى } فالرفيق ثم الطريق .
واعلم أن أهل الدين طائفتان : الواقفون والسائرون . والمراد بالواقف من وقف في عالم الصورة ولم يفتح له باب إلى عالم المعنى كالفرخ المحبوس في قشر البيضة فيكون شربه من عالم المعاملات البدنية ولا سبيل له إلى عالم القلب ومعاملاته فهو محبوس في سجن الجسد وعليه موكلان من الكرام يكتبان عليه من أعماله الظاهرة بالنقير والقطمير { ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد } [ ق : 18 ] وأما السائر فلا يقف في محل ولا ينزل في منزل يسافر من عالم الصورة إلى عالم المعنى ، ومن مضيق الأجساد إلى متسع الأرواح وهم صنفان : سيار وطيار . فالسيار من يسير بقدمي الشرع والعقل على جادة الطريقة ، الطيار من يطير بجناحي العشق والهمة في فضاء الحقيقة وفي رجله جلجلة الشريعة . فالإشارة في قوله : { وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً } إلى السيار الذي تخلص من سجن الجسد وقيد الحواس وزحمة التوكيل ، فلم يوجد له كاتب يكتب عليه كما قال بعضهم : ما كتب عليّ صاحب الشمال منذ عشرين سنة ، وقال بعضهم : كاشف لي صاحب اليمين وقال لي : أمل علي شيئاً من معاملات قلبك لأكتبه فإني أريد أن أتقرب به إلى الله . قال : فقلت له : حسبك الفرائض . فالحبس والقيد والتوكيل لمن لم يؤد حق صاحب الحق أو يكون هارباً منه . فأما الذي آناء الليل وأطراف النهار يغدو ويروح في طلب غريمه وما يبرح في حريمه فلا يحتاج إلى التوكيل والتقييد ، فالذي هو موكل على الهارب يكون وكيلاً وحفيظ للطالب { له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله } [ الرعد : 11 ] وللسائرين رهان مقبوضة عند الله ، رهان وأية رهان ، قلوب ليس فيها غير الله قبض ، وأي قبض؟ مقبوضة بين أصبعين من أصابع الرحمن . أما الطيار الذي هو عاشق مفقود القلب ، مغلوب العقل ، مجذوب السر ، فلا يطالب بالرهن فإنه مبطوش ببطشه الشديد .
مستهام ضاق مذهبه ... في هوى من عز مطلبه
كل أمر في الهوى عجب ... وخلاصي منه أعجبه
وإنما يحتاج إلى الرهن المتهم بالخيانة لا المتعين للأمانة ، فلم يوجد في السموات والأرض ولا في الدنيا والآخرة أمين يؤتمن لتحمل أعباء أمانته إلا العاشق المسكين . لما نظر إليها كان فراش تلك الشمعة عشقها فطار فيها وأتى بحملها ، فلما حملها واستحسن منه ما تفرد به من أصحابه جاءت له من الحضرة ألقاب فنسب في البداية إلى الإفساد وسفك الدماء { أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } [ البقرة : 30 ] ولقب في النهاية بالظلم والجهل { إنه كان ظلوماً جهولاً } [ الأحزاب : 72 ] هذا أمر عجيب ونقش غريب ، من لم يطع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى المكانة والطاعة والأمانة مكين مطاع ثم أمين . ومن أطاع في حمل الأمانة وأتى نسب إلى الظلم والجهل والفساد والخيانة ، نعم إنما يكون ذلك لوجهين : أحدهما أن الذلة والمسكنة وقعت في قسم العاشق كما أن العزة والعظمة وقعت في طرف المعشوق بل جمال عزة المعشوق ، لا يظهر إلا في مرآه ذلة العاشق .