كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
عن عروه بن الزبير أنه كان يثلم حائطه أيام الرطب فيدخل من يشاء ، وكان إذا دخله ردد هذه الآية حتى يخرج . ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمر إلى مشيئة الله أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال : { إن ترن أنا أقل } ف « أنا » فصل و { أقل } مفعول ثان { مالاً وولداً } نصب على التمييز { فعسى ربي أن يؤتيني } في الدنيا أو في الآخرة جنة { خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً } هو مصدر كالغفران بمعنى الحساب أي مقداراً وقع في حساب الله وهو الحكم بتخريبها . وعن الزجاج : عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداك . وقيل : هو جمع حسبانة وهو السهم القصير يعني الصواعق . { فتصبح صعيداً زلقاً } أرضاً بيضاء يزلق عليها زلقاً لملاستها . وزلقاً وغوراً كلاهما بالمصدر كقولهم « فلان زور وصوم » .
ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدر المؤمن فقال : { وأحيط بثمره } وهو عبارة عن إهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله : { إلا أن يحاط بكم } [ يوسف : 66 ] ، { فأصبح يقلب كفيه } أي يندم { على ما أنفق فيها } لأن النادم يفعل كذلك غالباً كما قد يعض أنامله . { وهي خاوية على عروشها } أي سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير . وقوله : { يا ليتني لم أشرك } تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد صنم ، ومن ذهب إلى أنه جعل كافراً لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة الأموال والأولاد فكأنه أثبت لله شريكاً في إعطاء العز والغنى ، أو أنه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساوياً لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك . وليس هذا الكلام منه ندماً على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعاً في دوام ذلك عليه ، فلهذا لم يصر ندمه مقبولاً ووصفه بعد ذلك بقوله : { ولم يكن له فئة } طائفة { ينصرونه من دون الله } لأنه وحده قادر على نصرة العباد . { وما كان منتصراً } ممتنعاً بقوته عن انتقام الله . ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل { هنالك } أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو { الولاية لله الحق } والولاية بالفتح النصرة والتولي ، وبالكسر السلطان والملك ، أو المراد في مثل تلك الحالة الشديدة يتوب إلى الله ويلتجىء إليه كل مضطر يعني أن قول الكافر { يا ليتني } إنما صدر عنه إلجاءً واضطراراً وجزعاً ومما دهاه من شؤم كفره ولولا ذلك لم يقلها .
وقيل : { هنالك } إِشارة إلى الآخرة كقوله { لمن الملك اليوم لله } [ غافر : 16 ] { عقباً } بضم القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط .
ثم ضرب مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال { واضرب لهم } الآية . وقد مر مثله في أوائل « يونس » { إنما مثل الحياة الدنيا كماء } ومعنى { فاختلط به } التف بسببه . وقيل : معناه روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبين . والهشيم ما تهشم وتحطم ، والذر والتطيير والإذهاب . تقول : ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذرواً وذرياً . { وكان الله على كل شيء مقتدراً } من تكونيه أوّلاً وتنميته وسطاً وإذهابه آخراً . ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أولاً في غاية الحسن والنضارة ، ثم تتزايد إلى أن تتكامل ، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء ، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به . وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال : { المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات } هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها { خير عند ربك ثواباً } أي تعلق ثواب وخير أملاً لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول . وقيل : هن الصلوات الخمس . وقيل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . ففي التسبيح تنزيه له عن كل مالاً ينبغي ، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي ، وفي التهليل اعتراف بأنه لا شيء في الإمكان متصفاً بالوصفين إلا هو ، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه أجلّ من أن يعظم . وقيل : الطيب من القول . والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده قاله قتادة .
التأويل : { واتل } على نفسك { وما أوحي إليك من كتاب } كتبه { ربك } في الأزل { لا مبدل لكلماته } إلى الأبد مع الدين { يدعون ربهم } وهم القلب والسر والروح والخفى في غداة الأزل إلى عشي الأبد فإنهم مجبولون على طاعة الله كما أن النفس جبلت على طاعة الهوى وطلب الدنيا . { ولا تعد } عينا همتك { عنهم } فإنك إن لم تراقب أحوالهم تصرف فيهم النفس الأمارة { ولا تطع من أغفلنا } يعني : النفس ناراً هي نار القهر والغضب { أحاط بهم سرادقها } يعني سرادق العزة { بماء كالمهل } كل ما هو لأهل اللطف أسباب لسهولة العيش وفراغ البال فإنه سبحانه جعل لأهل القهر سبباً لصعوبة الأمر وشدة التعلق حتى شوت الوجوه أي أحرقت مواد التفاتهم إلى عالم الأرواح ، وفسدت استعداداتهم فبقوا في أسفل سافلين الطبيعة { يحلون فيها من أساور } والتحلية بالأساور إشارة إلى ظهور آثار الملكات عليهم وقوله : { من ذهب } رمز إلى أنها ملكات مستحسنة معتدلة راسخة { يلبسون ثياباً } فيه أن أنوار العبادات تلوح عليهم وتشتمل بهم . وقوله : { خضراً } إشارة إلى أنها أنوار غير قاهرة و { من سندس } إشارة إلى ما لطف من الرياضات { واستبرق } إلى ما شق منها { متكئين فيها على الأرائك } لأنهم فرغوا بها وكلفوا وقضوا ما عليهم من المجاهدات وبقي ما لهم من المشاهدات { مثلاً رجلين } هما النفس الكافرة والقلب المؤمن .
{ جعلنا لأحدهما } وهو النفس { جنتين } هما الهوى والدنيا { من أعناب } الشهوات { وحففناهما بنخل } حب الرياسة { وجعلنا بينهما زرعاً } من التمتعات البهيمية { وفجرنا خلالهما نهراً } من القوى البشرية والحواس . { وكان له ثمر } من أنواع الشهوات { وهو يحاوره } يجاذب النفس والقلب { أنا أكثر منك مالاً } أي ميلاً { وأعز نفراً } من أوصاف المذمومات { وهو ظالم لنفسه } في الاستمتاع بجنة الدنيا على وفق الهوى { لأجدن خيراً منها } لأنه غر بالله وكرمه فلا جرم يقال له ما غرك بربك الكريم ، هلا قلت { ما شاء الله } أي أتصرف في جنة الدنيا كما شاء الله { على ما أنفق فيها } من العمر وحسن الاستعداد { كما أنزلناه } هو الروح العلوي الذي نزل إلى أرض الجسد { فاختلط } الروح بالأخلاق الذميمة { فأصبح هشيماً } تلاشت منه نداوة الأخلاق الروحانية { تذروه } رياح الأهوية المختلفة فيكون حاله خلاف روح أدركته العناية الأزلية فبعث إليه دهقان من أهل الكمال فرباه بماء العلم والعمل حتى يصير شجرة طيبة . { والباقيات الصالحات } أي ما فني منك وبقي بربك والله أعلم بالصواب .
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
القراآت : { تسير الجبال } على بناء الفعل للمفعول ورفع الجبال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو . الآخرون على بناء الفعل للفاعل ونصب الجبال . ما أشهدناهم يزيد . الآخرون { ما أشهدتهم } { وما كنت } على الخطاب روى ابن وردان عن يزيد . الباقون على التكلم { ويوم نقول } بالنون : حمزة الباقون على الغيبة { قبلاً } بضمتين : عاصم وحمزة والكسائي . الباقون بكسر القاف وفتح الباء . { لمهلكهم } بفتح الميم وكسر اللام : حفص { لمهلكهم } بفتحهما ، يحيى وحموالمفضل . الباقون بضم الميم وفتح اللام .
الوقوف : { بارزة } لا لأن التقدير وقد حشرناهم قبل ذلك { أحداً } 5 ج للآية مع العطف { صفاً } ط للعدول والحذف أي يقال لهم لقد جئتمونا { أول مرة } ز لأن « بل » قد يبتدأ به مع أن الكلام متحد { موعداً } 5 { أحصاها } ج لاستئناف الواو بعد تمام الاستفهام مع احتمال الحال بإضمار « قد » { حاضراً } 5 ط { أحداً } 5 { إلا إبليس } ط { أمر ربه } ط { عدواً } ط { بدلاً } 5 أنفسهم ص { عضداً } 5 { موبقاً } 5 { مصرفاً } 5 { مثل } ط { جدلاً } 5 { قبلاً } 5 { ومنذرين } ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { هزواً } 5 { يداه } ط { وقراً } ، ط لاختلاف الجملتين مع ابتداء الشرط { أبداً } 5 { الرحمة } ط { العذاب } ط { موئلاً } 5 { موعداً } .
التفسير : لما بين خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وأهواله ، وفيه رد على أغنياء المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء المسلمين والتقدير : واذكر يوم كذا عطفاً على وأضرب . ويجوز أن ينتصب بالقول المضمر قبل { ولقد جئتمونا } وفاعل التسيير هو الله تعالى إلا أنه سمي على إحدى القراءتين ولم يسم في الأخرى ، فتسييرها إما إلى العدم لقوله : { ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً } [ طه : 105 ] ، { وبست الجبال بساً ، فكانت هباء منبثاً } [ الواقعة : 5 ، 6 ] وإما إلى موضع لا يعلمه إلا الله { وترى الأرض بارزة } لأنه لا يبقى على وجهها شيء يسترها من العمارات ولا من الجبال والأشجار ، وإما لأنها أبرزت ما في بطنها من الأموات لقوله : { وألقت ما فيها وتخلت } [ الانشقاق : 4 ] فيكون الإسناد مجازياً أي بارزاً ما في جوفها { وحشرناهم } الضمير للخلائق المعلوم حكماً { فلم نغادر منهم أحداً } من الأوّلين والآخرين . يقال : غادره وأغدره إذا تركه والترك غير لائق ومنه الغدر ترك الوفاء . والغدير ما غادره السيل لأن اللائق بحال السيل أن يذهب بالماء كله . ولا يخفى أن اللائق بحال رب العزة أن لا يترك أحداً من خلقه غير محشور وإلا كان قدحاً في عمله وحكمته وقدرته . قالت المشبهة : في قوله : { وعرضوا على ربك } دليل على أنه سبحانه في مكان يمكن أن يعرض عليه أهل القيامة وكذلك في قوله : { لقد جئتمونا } وأجيب بأنه تعالى شبه وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم بالعرض عليه وبالمجيء إلى حكمه كما يعرض الجند على السلطان .
وانتصب { صفاً } على الحال أي مصطفين ظاهرين ترى جماعاتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحداً . والصف إما واحد وإما جمع كقوله { يخرجكم طفلاً } [ غافر : 67 ] أي أطفالاً . وقيل : صفاً أي قياماً وبه فسر قوله : { فاذكروا اسم الله عليها صواف } [ الحج : 36 ] . وقال القفال : يشبه أن يكون الصف راجعاً إلى الظهور والبروز ومنه الصفصف للصحراء وهذا قريب من الأول . وقد مر في « الأنعام » أن وجه التشبيه في قوله { خلقناكم } أنم يبعثون عراة لا شيء معهم ، أو المراد بعثناكم كما أنشأناكم وزعمهم أن لن يجعل الله لهم موعداً . أي وقتاً لإنجاز ما وعدوا على ألسنة الأنبياء إما أن يكون حقيقة وإما لأن أفعالهم تشبه فعل من يزعم ذلك . { ووضع الكتاب } أي جنسه وهو صحف الأعمال . والوضع إما حسي وهو أن يوضع كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال ، وإما عقلي ومعناه النشر والاعتبار . { فترى المجرمين مشفقين } خائفين مما في الكتاب لأن الخائن خائف خوف العقاب وخوف الافتضاح . ومعنى النداء في { يا ويلتنا } قد مر في « المائدة » في { يا ويلتي أعجزت } [ الآية : 31 ] وقوله : { صغيرة ولا كبيرة } صفتان للهيئة أو المعصية أو الفعلة وهي عبارة عن الإحاطة وضبط كل ما صدر عنهم ، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار ، فإذا حصر الصنفين فقد حصر الكل . وعن الفضيل : ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر . قلت : وذلك أن تلك الصغائر هي التي جرأتهم على الكبائر . وعن ابن عباس : الصغير التبسم والكبيرة القهقهة . وعن سعيد بن جبير : الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا . وجوّز في الكشاف أن يريد ما كان عندهم صغائر وكبائر . وتمام البحث في المسألة أسلفناه في أوائل سورة النساء في تفسير قوله : { أن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [ النساء : 31 ] فتذكر { ووجدوا ما عملوا حاضراً } في الصحف مثبتاً فيها أو وجدوا أجزاء ما عملوا ظاهراً على صفحات أحوالهم { ولا يظلم ربك أحداً } استدل الجبائي به على بطلان مذهب الأشاعرة في أن الأطفار يجوز أن تعذب بذنوب آبائهم فإن ذلك ظلم . والجواب أن الظلم إنما يتصوّر في حق من تصرف في غير ملكه قالوا : لو ثبت أن له بحكم المالكية أن يفعل ما يشاء من غير اعتراض عليه لم يكن لهذا الإخبار فائدة . وأجيب بأن تلك القضية بعد الدلائل العقلية علمت من مثل هذه الآية . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة : يوسف وأيوب وسليمان يدعو المملوك فيقول له : ما شغلك عني؟ فيقول جعلتني عبد الآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف فيقول : كان هذا عبداً مثلك ثم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار . ثم يدعى بالمبتلى فإذا قال : أشغلتني بالبلاء دعا بأيوب فيقول : قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي ويؤمر به إلى النار ، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع آتاه الله من الغنى والسعة فيقول : ماذا عملت فيما آتيتك فيقول : شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان فيقول : هذا عبدي سليمان آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك فيؤمر به إلى النار »
ثم إنه سبحانه عاد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه . قال جار الله : قوله : { كان من الجن } كلام متسأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلاً قال : ما له لم يسجد فقيل : { كان من الجن ففسق } والفاء للتسبيب أي كونه من الجن سبب في فسقه ولو كان ملكاً لم يفسق لثبوت عصمة الملائكة . وقال آخرون : اشتقاق الجن من الاستتار عن العيون فيشمل الملائكة والنوع المسمى بالجن . ثم من لم يوجب عصمة الملك فظاهر ، ومن أوجب قال : « كان » بمعنى « صار » أي مسخ عن حقيقة الملائكة إلى حقيقة الجن ، وقد سلف هذا البحث بتمامه في أول سوة البقرة . ومعنى { فسق عن أمر ربه } خرج عن طاعته . وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ولولا ذلك الأمر الشاق لما حصل ذلك الفسق فلهذا حسن أن يقال : { فسق عن أمر ربه } . وقال قطرب : هو على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره . ثم عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر . والمعاصي وخالق أمر الله فقال : { أفتتخذونه } كأنه قيل أعقيب ما وجد منه من إلا باء والفسق تتخذونه { وذريته أولياء من دوني } وتستبدلونهم بي وقصة آدم وإبليس سمعها قريش من أهل الكتاب وعرفوا صحتها فلذلك صح الاحتجاج بها عليهم وإن لم يعتقدوا كون محمد صلى الله عليه وسلم نبياً { بئس للظالمين بدلاً } أي بئس البدل من الله . إبليس لمن استبدل به فأطاعه بدل طاعته . قال الجبائي . في الآية دلالة على أنه لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد وإلا لم يصح هذا الذم والتوبيخ ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . قال أهل التحقيق : إن الداعي لكفار قريش إلى ترك دين محمد صلى الله عليه وسلم هو النخوة والعجب والترفع والتبكر ، وهذا شأن إبليس ومن تابعه . فكل غرضه من العلم أو العمل الفخر على الأقران والترفع على أبناء الزمان فإنه مقتدٍ بإبليس وذريته وهذا مقام صعب نسأل الله الخلاص منه . ثم دل على فساد عقيدة أهل الشرك وبطلان طريقتهم بقوله : { ما أشهدتهم } فالأكثرون على أن الضمير للشركاء والمراد أنهم لو كانوا شركاء لي في خلق السموات والأرض وفي خلق أنفسهم يعني لو كان بعضهم شاهدين خلق بعض مشاركين لي فيه كقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } لأمكن أن يكونوا شركاء لي في العبادة لكن الملزوم المساوي منتف فاللازم مثله يؤيد هذا التفسير قوله : { وما كنت متخذ المضلين } أي متخذهم { عضداً } أعواناً فوضع المضلين موضع الضمير نعياً عليهم بالإضلال .
وقيل : الضمير للمشركين الذي التمسوا طرد فقراء المؤمنين ، والمراد أنهم ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والآخرة ، بل هم قوم كسائر الخلق نظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له : لست سلطان البلد ولا مدبر المملكة حتى تقبل منك كل اقتراحاتك . وقيل : أراد أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل من أحوال السعادة وضدّها لأنهم لم يكونوا شاهدين خلق العالم ، فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله وبشرفهم ورفعتهم عند الخلق وبأضداد هذه الأحوال للفقراء . ومن قرأ { وما كنت } بفتح التاء فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمعنى وما صح لك الاعتضاد بهم وما ينبغي لك أن تغترّ بهم ، ثم عاد إلى تهويلهم بأحوال يوم القيامة وأضاف الشركاء إلى نفسه على معتقدهم توبيخاً لهم وفحوى الكلام : اذكر يا محمد أحوالهم وأحوال آلهتهم يوم القيامة إذ { يقول } الله لهم { نادوا } أي ادعوا من زعمتم أنهم { شركائي } فأهلتموهم للعبادة . قال المفسرون : أراد الجن { فدعوهم } لم يذكر في هذه الآية أنهم كيف دعوا تلك الشركاء ولعل المراد بما في الآية الأخرى { إنا كنا لكم تبعاً فهل أنتم مغنون عنا } [ إبراهيم : 21 ] { فلم يستجيبوا لهم } ولم يدفعوا عنهم ضرراً { وجعلنا بينهم موبقاً } عن الحسن { موبقاً } عداوة والمعنى عداوة هي في شدتها الهلاك كقولهم « لا يكن حبك كلفاً ولا بغضك تلفا » . وقال الفراء : البين الوصل والمراد جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكاً يوم القيامة . وفي الكشاف : الموبق المهلك وهو مصدر كالمورد أي جعلنا بينهم وادياً من أودية جهنم مشتركاً هو مكان الهلاك والعذاب الشديد يهلكون فيه جميعاً . وجوز أن يريد بالشركاء الملائكة وعزيراً وعيسى ومريم . وبالموبق البرزخ أي وجعلنا بينهم أمداً بعيداً يهلك فيه السائرون لفرط بعده لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان . قوله : { فظنوا } قيل : علموا وأيقنوا : والأقرب أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيغلب على ظنونهم أنهم مخالطوها واقعون فيها في تلك الساعة من غير تأخير ولا مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها نظيره { إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً } [ الفرقان : 12 ] { ولم يجدوا عنها مصرفاً } أي معدلاً إلى غيرها لأن الملائكة يسوقونهم إليها آخر الأمر . ولما ذكر أن الكفرة افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم ومتصرفاتهم وأجاب عن شبههم وأقوالهم الفاسدة وضرب الأمثال النافعة وحكى أهوال الآخرة قال : { ولقد صرفنا } وقد مر تفسيره في السورة المتقدمة .
وحين لم يترك الكفار جدالهم وكانوا أبداً يتعللون بالأعذار الواهية ختم الآية بقوله : { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } يعني أن الأشياء التي يتأتى منها الجدل ان فصلتها واحداً بعد واحد فإن الإنسان أكثرها خصومة فقوله : { أكثر شيء } كقوله { أول مرة } وقد مر في « الأنعام » . وكثرة جدل الإنسان لسعة مضطربه فيما بين أوج الملكية إلى حضيض البهيمية ، فليس له في جانبي التصاعد والتسافل مقام معلوم . قال أهل البرهان : قوله تعالى في سورة « بني إسرائيل » : { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى } [ الاسراء : 94 ] وقال في هذه السورة بزيادة { ويستغفروا ربهم } لأن المعنى هناك ما منعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم إلا قولهم : « أبعث الله بشراً رسولاً ، هلا بعث ملكاً » وجهلوا أن التجانس يورث التوانس . ومعناه في هذا الموضع ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا الإتيان بسنة الأوّلين وانتظار ذلك . وعن الزجاج : إلا طلب سنتهم وهو قولهم « إن كان هذا هو الحق » وزاد في هذه السورة { ويستغفروا ربهم } لأن قوم نوح أمروا بالاستغفار { استغفروا ربكم إنه كان غفاراً } [ نوح : 10 ] وكذا قوم هود { ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه } [ هود : 52 ] وقوم صالح { فاسغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب } [ هود : 62 ] وقوم شعيب { واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود } [ هود : 90 ] فلما خوفهم سنة الأوّلين أجرى المخاطبين مجراهم . والحاصل أنهم لا يقدمون على الإيمان والاستغفار إلا عند نزول عذاب الاستئصال أو عند تواصل أصناف البلاء عياناً . ومن قرأ بضمتين أراد أنواعاً جمع قبيل . قالت المعتزلة : في الآية دلالة على أنه لا مانع من الإيمان أصلاً . وقالت الأشاعرة : العلم بأنه لا يؤمن والداعي الذي يخلقه الله في الكافر يمنعانه ، فالمراد فقدان الموانع المحسوسة . ثم بين أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعاً وبين أن مع هذه الأحوال { يجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا } ويزيلوا ويبطلوا { به الحق } من إدحاض القدم وهو إزلاقها { واتخذوا آياتي وما أنذروا } أي الذي أنذروا من العقاب أو إنذارهم { هزواً } موضع استهزاء . قال جار الله : جدالهم قولهم للرسل { ما أنتم إلا بشر مثلنا } [ يس : 15 ] { ولو شاء الله لأنزل ملائكة } [ المؤمنون : 24 ] وما أشبه ذلك . قال أهل العرفان : قوله : { ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه } أي بالقرآن بدليل قوله : { أن يفقهوه } وبتذكير الضمير . { فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه } من الكفر والمعاصي فلم يتفكروا في عاقبتها ولم يتدبروا في جزائها متمسك القدرية . وإنما قال في السجدة { ثم أعرض عنها }
[ الآية : 22 ] لأن ما في هذه السورة في الكفار الأحياء الذين إيمانهم متوقع بعد ، أي ذكروا فأعرضوا عقب ذلك . وما في السجدة في الكفار الأموات بدليل قوله : { ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم } [ السجدة : 12 ] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزماناً بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم . وقوله { إنا جعلنا } وقد مر تفسيره في « الأنعام » إلى قوله : { فلن يهتدوا إذا أبداً } متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلاً لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله ، ولعله أراد بذلك إظهار مغفرته . ورحمته على عباده كما قال : { وربك الغفور ذو الرحمة } قال المفسرون الضمير في قوله : { لو يؤاخذهم } لأهل مكة الذين أفرطوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . والموعد يوم بدر . وأقول : لا يبعد أن يكون الضمير للناس في قوله : { ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس } والموعد القيامة ، والموئل الملجأ يقال وأل إذا نجا ، ووأل إليه إذا لجأ إليه . قال الإمام فخر الدين الرازي : إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار ، والرحمة إيصال النفع ، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول ، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال . أقول : هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضاً لا يخلو عن مبالغة ، وكثيراً ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين . وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي أيضاً نظر ، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك . ثم أشار إلى قرى الأولين اعتباراً لغيرهم فقال : { وتلك القرى } فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم ، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى { أهلكناهم } ويجوز أن يكون { تلك القرى } منصوباً بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير . { وجعلنا } لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكم { موعداً } وعداً أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا لأهل مكة يوم بدر ، والمراد أنا عجلنا هلاكهم ومع ذلك لم ندع أن نضرب له وقتاً يمكنهم التوبة قبل ذلك .
التأويل : { ويوم نسير الجبال } وهي الأبدان الجامدة عن السلوك ، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق ، وحشرنا جميع القوى البشرية { وعرضوا على ربك صفاً } لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها ، فالروح في صف الأرواح ، والقلب في صف القلوب ، وكذا النفس وقواها . { ولقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة } على هيئة الفطرة ، وقيل الأنبياء في صف ، والأولياء في صف ، والمؤمنون في صف ، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير { لا يغادر صغيرة } هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات .
{ ولا كبيرة } هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة { ما أشهدتهم } لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ الكهف : 53 ] { ورأى المجرمون النار } رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي ، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها { ولم يجدوا عنها مصرفاً } كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون { وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً } فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع ، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه { وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم } أسباب الهداية { ويستغفروا ربهم } إن كانوا مذنبين { إلا أن تأتيهم سنة الأولين } من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية كقوله في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم « والله لولا الله ما اهتدينا » { أو ما يأتيهم العذاب قبلاً } كقوله : « أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » والله أعلم . ( م ) .
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
القراآت : { أنسانيه } بضم الهاء حفص والمفضل ، وقرأ عليّ بالإمالة مع كسر الهاء : { نبغي } بالياء في الحالين : ابن كثير وسهل ويعقوب ، وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل . الباقون بحذف الياء في الحالين اتباعاً لخط المصحف . { رشداً } بفتحتين : أبو عمرو ويعقوب . بضمتين : ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . الباقون { رشداً } بضم الراء وسكون الشين . { معي } بفتح الياء : حفص { ستجدني إن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع { فلا تسألني } بنون التأكيد الثقيلة وإثبات الياء : أبو جعفر ونافع وابن عامر . بحذف الياء : ابن مجاهد عن ابن ذكوان والأحسن إثباتها لأنه شاذ عن أهل الشام . الآخرون بنون الوقاية وحذف الياء . { ليغرق أهلها } بياء الغيبة وفتحها مع فتح الراء ورفع الأهل : حمزة وعلي وخلق . الباقون بتاء الخطاب مضمومة وكسر الراء من الإغراق وبنصب الأهل { زاكية } على « فاعله » : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب . الآخرون { زكية } على « فعيلة » { نكراً } بضمتين حيث كان : أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وبان ذكوان وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد { فلا تصحبني } من الصحبة : روح وزيد . الآخرون من المصاحبة . { من لدني } خفيفاً : أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد والمفضل . { يضيفوهما } من الإضافة : المفضل { لتخذت } من التخذ مدغماً : أبو عمرو وسهل ويعقوب ، وقرأ ابن كثير بالإظهار . الباقون : { لاتخذت } من الاتخاذ . وقرأ حفص والمفضل والأعشى والبرجمي مظهراً { يبدلهما } من التبديل وكذلك في سورة التحريم ونون والقلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو . الآخرون من الإبدال { رحماً } بضمتين : ابن عامر ويزيد وعباس وسهل ويعقوب . الباقون بسكون الحاء .
الوقوف : { حقباً } 5 { سرباً } 5 { غداءنا } ز لانقطاع النظم مع صدق اتصال المعنى { نصباً } 5 { الحوت } ز لتمام استفهام التعجب مع اتحاد الكلام وكون الواو حالاً { أن أذكره } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال في البحر وقفة . قيل : عليه تم كلام يوشع ثم ابتدأ موسى فقال عجباً أي أعجب لذلك عجباً والوصل أجوز أي سبيلاً عجباً أو اتخاذاً { عجباً } 5 { نبغ } قف قد قيل : لتمام قول أحدهما وابتداء فعلهما والوجه الوصل لعطف اللفظ وسرعة الرجوع على الفور { قصصاً } 5 لا لاتصال النظم واتحاد الحال { علماً } 5 { رشداً } 5 { صبراً } 5 { خبراً } 5 { أمراً } 5 { ذكراً } 5 { فانطلقا } وقفة لأن حتى إذا للابتداء { حرقها } ط { أهلها } ج لانقطاع النظم واتحاد القائل { إمراً } 5 { صبراً } 5 { عسراً } 5 { فانطلقا } وقفة لما مر { فقتله } لا لأن « قال » جواب « إذا » { لغير نفس } ط للفصل بين الاستخبار والإخبار { نكراً } 5 { صبراً } 5 { فلا تصاحبني } ج لاختلاف الجملتين { عذراً } 5 { فانطلقا } وقفة { فأقامه } ط { أجراً } 5 { وبينك } ج { صبراً } 5 { غصباً } 5 { وكفراً } ، ج للعطف مع الآية { رحماً } 5 { صالحاً } ج لما قلنا { من ربك } ج { عن أمري } ط { صبراً } ، لانقطاع القصة .
التفسير : هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة ، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا : إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا ، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي لا يلزم أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار . وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار ، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر . وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوارة والمعجزات . وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس : إن نوفاً ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبياً قبل موسى بن عمران . فقال ابن عباس : كذب عدو الله . واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران ، فلو كان المراد ههنا شخصاً آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور . حجة الأقلين - وإليه ذهب جمهور اليهود - أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها ، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة . وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها . أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون ، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : هو أخو يوشع وكان مصاحباً لموسى في السفر . وعن الحسن : إنه أراد عبده ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي » قال أهل السير : إن موسى لما ظهر على مصر مع نبي إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط ، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيباً فذكر نعمة الله فقال : إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له : قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم؟ قال : أنا . فعتب الله حين لم يردّ العلم إلى الله ، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر ، وكان الخضر عليه السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر .
وبقي إلى أيام موسى .
ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني . قال : فأيّ عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى . قال : فأي عبادك أعلم؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى . فقال : إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه . قال : أعلم منك الخضر . قال : فأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة . قال : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ حوتاً في مكتل فحيث فقدته فهو هناك . فقال لفتاه : إذا فقدت الحوت فأخبرني ، فذهبا يمشيان فرقد موسى عليه السلام فاضطرب الحوت ووقع في البحر ، فلما جاء وقت الغداء طلب موسى الحوت فأخبره فتاه بوقوعه في البحر فأتيا الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى عليه السلام فقال : وأنى بأرضنا السلام فعرفه نفسه فقال : يا موسى أنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت ، وأنت على علم علمكه الله لا أعلمه أنا . فلما ركبا السفينة جاء عصفور فوقع في حرفها فنقر في الماء فقال الخضر : ما ينقص علمي وعلمك من علم الله مقدار ما أخذ هذا العصفور من البحر . قلت : وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه ، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلاً .
ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله : { لا أبرح } بمعنى لا أزال ، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله : { حتى أبلغ } غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية . فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن { حتى أبلغ } هو الخبر ، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه - وهو ياء المتكلم - مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضاً أن يكون لا أبرح ، بمعنى لا أزول من برح المكان ، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ { مجمع البحرين } يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله : { الفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس } [ الآية : 164 ] . وقيل : أراد طنجة ، وقيل أفريقية . ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم ، وهذا مغ غرابته مستبشع جداً لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه السلام فكيف يصح أن يقول : { حتى أبلغ مجمع البحرين } إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكاناً يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا { أو أمضي حقباً } أسير زماناً طويلاً . قال جار الله : الحقب بالضم ثمانون سنة . ويقال : أكثر من ذلك . وقيل : إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى : لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحراً واحداً أو أمضي دهراً طويلاً حتى أجد هذا العالم ، وهذا إخبار من موسى عليه السلام بأنه وطن تحمل التعب الشديد إلى أن يلقاه ، وفيه تنبيه على شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر ، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال .
{ فلما بلغا مجمع بينهما } قال جمهور المفسرين : الضمير للبحرين أي تحقق ما موسى وبلغ المكان الذي وعد فيه لقاء الخضر . ولا بد للبين من فائدة ، ولعل المراد حيث يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولاً . والإضافة بمعنى « في » أي مجمعاً في وسط البحرين فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين ، والبيان والإيضاح بكلام علام الغيوب تعالى أولى منه بكلام موسى ، أو البين بمعنى الافتراق أي البحران المفترقان يجتمعان هناك . ويحتمل على هذا أن يعود الضمير إلى موسى والخضر أي وصلا إلى الموضع الذي وعد اجتماع شملهما هناك ، أو البين بمعنى الوصل لأنه من الأضداد فيفيد مزيد التأكيد كقولهم « جد جده » . وهذه الوجوه مما لم أجدها في التفاسير ، فإن كان صواباً فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان { نسيا حوتهما } لأنه تعالى جعل انقلاب الحوت حياً علامة على مسكن الخضر قيل : إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملوحة فطفرت وسارت . وقيل : إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب إلى الماء . وقيل : انفجرت هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر . ونسيان الحوت للذهول عن الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب ، والسبب في هذا الذهول مع أن هذه الحالة كانت أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها ، هو أن يوشع كان قد تعود مشاهدة المعجزات الباهرة فلم يبق لحياة السمكة ولقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وقع عنده .
وقيل : إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الذي يشبه الضروري تنبيهاً لموسى عليه السلام ، على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على قلوب عباده . وانتصاب قوله : { سرباً } على أنه مفعول ثانٍ لاتخذ أي اتخذ سبيله سبيلاً سرياً وهو بيت في الأرض ، وذلك أن الله تعالى أمسك إجراء الماء عن الحوت وجعله كالكوة حتى سرى الحوت فيه معجزة لموسى عليه السلام وللخضر . وقيل : السرب هو الذهاب والتقدير سرب في البحر سرباً إلا أنه أقيم قوله : { واتخذ سبيله } مقام « سرب » { فلما جاوزا } أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الصخرة { قال موسى لفتاه آتنا غداءنا } وهو ما يؤكل بالغداة { لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً } تعباً وجوعاً .
قال المفسرون : قوله { من سفرنا هذا } إشارة إلى سيرهما وراء الصخرة ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك . قال الفتى متعجباً { أرأيت } ومفعوله محذوف لدلالة قوله : { فإني نسيت الحوت } عليه كأنه قال : أرأيت ما دهاني ووقع لي . { إذ أوينا إلى الصخرة } قيل : هي الصخرة التي دون نهر الزيت { فإني نسيت الحوت } عليها ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال : { وما أنسانيه إلا الشيطان } و { أن أذكره } بدل الاشتمال من الهاء { في أنسانيه } أي وما أنساني ذكره قال الكعبي : لو كان النسيان بخلق الله وإرادته لكان إسناد ذلك إلى الله تعالى أولى من إسناده إلى الشيطان إذ ليس له في وجوده سعي ولا أثر . قال القاضي : المراد بإنساء الشيطان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر ، لأن ذلك لا يصلح أن يكون إلا من قبل الله تعالى .
قال أهل البرهان : لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلاً فاتخذ بالفاء ، ولما حيل بينهما ثانياً بجملة معترضة هي قوله : { وما أنسانيه } زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال : { واتخذ سبيله } بالواو . وانتصاب { عجباً } كما مر في { سرباً } . قال صلى الله عليه وسلم : « كان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً » { قال } موسى { ذلك } يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر { ما كان ينبغي } أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب { فارتدا على آثارهما } فرجعا على طريقهما المسلوك { قصصاً } مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعاً ، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين { فوجدا عبداً من عبادنا } الأكثرون على أن ذك العبد كان نبياً لأنه تعالى وصفه بقوله : { آتيناه رحمة من عندنا } والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله : { أهم يقسمون رحمة ربك } [ الزخرف : 32 ] وقوله : { وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك } [ القصص : 86 ] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا : وصفه بقوله : { وعلمناه من لدنا علماً } والعلم المختص به تعالى هو الوحي والإخبار بالغيوب . وأيضاً آخر القصة { وما فعلته عن أمري } أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي . وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال : السلام عليك . فقال : وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل . فقال : من عرّفك هذا؟ قال : الذي بعثك إلي . والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية . والتحقيق فيه إذا ضعفت القوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية على جواهر العقل ، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت . والأكثرون أيضاً على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفاً إلا اخضر ذلك الموقف .
وقال الجبائي : روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل . فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعث بعده ، وبتقدير كونه معاصراً له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال : { وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً } وأن موسى أظهر التواضع له حين قال { ولا أعصي لك أمراً } مع أنه كان مبعوثاً إلى كافة بني إسرائيل ، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي . وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل لم يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل { وأني فضلتكم على العالمين } [ البقرة : 47 ] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها .
قال العلماء : إن موسى راعى مع الخضر في قوله : { هل أتبعك } أنواعاً من الأدب منها : أنه جعل نفسه تبعاً له مطلقاً ، وفيه أن المتعلم يجب عليه الخدمة وتسليم النفس والإتيان بمثل أفعال الأستاذ وأقواله على جهة التبعية لا الاستقلال ، فإن المتابعة هي الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلاً لذلك الغير ، ولهذا لسنا متبعين لليهود في قولنا « لا إله إلا الله » لأنا نقول كلمة التوحيد لأجل أنهم قالوها بل لقيام الدليل على قولها ، ولكنا متابعون في الصلوات الخمس للنبي صلى الله عليه وسلم لأنا نأتي بها لأجل أنه أتى بها . ومنها أنه استأذن في إثبات هذه التبعية . ومنها أنه قال : { على أن تعلمني مما علمت } وفيه إقرار على أستاذه بالعلم ، وفيه أنه لم يطلب منه إلا بعض علمه ولم يطلب . منه أن يجعله مساوياً له في العلم كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزءاً من أجزاء ماله لأكله ، وفيه اعتراف بأن ذلك العلم علمه الله تعالى وإلا سمي فاعله ، وفيه إشعار بأن إنعامه عليه في هذا التعليم شبيه بإنعام الله عليه فيه ومن هنا قيل : أن عبد من علمني حرفاً . ومنها أن الخضر عرف أنه نبي صاحب المعجزات المشهورة ، ثم إنه مع هذه المناصب العلية والمراتب السنية لم يطلب منه المال والجاه وإنما طلب التعليم فقال : { على أن تعلمني } فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم ، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله . وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ، فكان حرصه على زيادتها أوفر . ومنها أنه قال { رشداً } وهو يصلح أن يكون مفعولاً ل { تعلمني } و { علمت } أي علماً ذا رشد أرشد به في ديني ، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال .
ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال : { لن تستطيع معي صبراً } نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أموراً هي في الظاهر منكرة ، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعاً قلما يتمالك أن يصبر عليها . و { خبراً } تمييز أي لم يحط به . خبرك ، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة . استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة عل الصبر حاصلة قبل الصبر ، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذباً . وكذا قوله : { وكيف تصبر } لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر ألبتة . أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه . يقال في العرف : إن فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا { قال } له موسى { ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصى } أي ستجدني غير عاص { لك أمراً } ويجوز أن يكون قوله : { ولا أعصي } جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي . قال أهل السنة . في قوله : { إن شاء الله } بطريق الشك والصبر مأمور به دليل على أنه تعالى قد لا يريد من العبد ما أوجبه عليه . قالت المعتزلة . إنما ذكره بطريق الأدب . وأجيب بأن هذا الأدب إن صح معناه فقد ثبت المطلوب ، وإن فسد فأيّ أدب في ذكر الكلام الباطل .
قالت الأصوليون : في قوله : { ولا أعصي لك أمراً } دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب ، لأن تارك الأمر عاص . بهذه الآية ، والعاصي يستحق العقاب لقوله : { ومن يعصى الله ورسوله فإن له نار جهنم } [ الجن : 23 ] قال المحققون : في قوله الخضر تغليظ وتجهيل ، وفي قول موسى تحمل وتواضع ، فدل ذلك على أن المعلم إن رأى التغليظ على المتعلم فيما يعتقده نفعاً وإرشاداً إلى الخير ، فالواجب عليه ذكره وعلى المتعلم أن يتلقاه بالبشر والطلاقة . ثم قال : { فإن اتبعتني فلا تسألني } شرط على موسى عليه السلام في اتباعه أن لا يسأل عما خفي عليه وجه صحته حتى يكون الخضر هو المبتدىء بتعليمه إياه بإخباره عن وجه الحكمة فيه { فانطلقا } على ساحل البحر يطلبان السفينة ، فما ركباها يروى أن أهلها قالوا : هما من اللصوص وأمروهما بالخروج فمنعهم صاحب السفينة وقال : أرى وجوه الأنبياء . وقيل : عرفوا الخضر فحملوهم بلا أجرة ، فلما حصلوا في اللجة أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء . وقيل : خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول : { أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً } أتيت شيئاً عظيماً . يقال : أمر الأمر إذا عظم . ويقال في الشيء العجيب الذي يعرف له شبيه إنه أمر إمر . احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام اعترض على الخضر بعد توكيد العهود والمواثيق وذلك ذنب .
وأجيب بأنه لم يقل ذلك اعتراضاً وتوبيخاً ولكنه أحب أن يقف على حكمة ذلك الأمر الخارج عن العبادة ، أو أنه خالف الشرط بناء على النسيان ولهذا { قال لا تؤاخذني بما نسيت } ولا مؤاخذة على الناسي . و « ما » موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي بالذي نسيت وبشيء نسيته وبنسياني . وجوز في الكشاف أن لا يكون ناسياً في الحقيقة ولكنه أوهم بقوله : { لا تؤاخذني بما نسيت } أنه قد نسي لبسط عذره في الاعتراض على المعلم وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض . وجوز أيضاً أن يكون النسيان بمعنى الترك أي بما تركت من وصيتك أول مرة { ولا ترهقني } ولا تغشني { من أمري عسراً } وأراد بأمره أمر المتابعة أي يسر عليّ متابعتك بالإغضاء وترك المناقشة .
وإنما قال في هذه القصة { خرقها } بغير « فاء » لأنه جعله جزاء للشرط ، وفي قصة الغلام جعل { فقتله } من جملة الشرط معطوفاً عليه بفاء التعقيب ، لأن القتل يعقب لقاء الغلام ولفظ الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير ومنه قولهم « رأي الشيخ خير من مشهد الغلام » وأصله من الاغتلام وهو شدة الشبق . وليس في القرآن أنهما كيف لقياه ، وهل كان يلعب مع جمع من الغلمان ، أو كان منفرداً ، وهل كان مسلماً أو كان كافراً ، وهل كان بالغاً أو كان صغيراً واسم الغلام بالصغير أليق ، إلا أن { بغير نفس } بالبالغ لأن الصبي لا يقتل قصاصاً . وعن ابن عباس أن نجدة الحروري الخارجي كتب إليه كيف جاز قتله وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل . قال الكسائي : الزاكية والزكية لغتان ومعناهما الطاهرة . وقال أبو عمرو : الزاكية التي لم تذنب ، والزكية التي أذنبت ثم تابت . ويجوز أن يكون وصفها بالزكاء لأنه لم يرها أذنبت فهي طاهرة عنده . قيل : النكر أقل من الأمر لأن قتل نفس واحدة أهو من إغراق أهل السفينة . وقيل : النكر أشد لأن ذلك كان خرقاً تداركه بالسد وهذا لا سبيل إلى تداركه . وأيضاً الأمر العجيب والعجب يستعمل في الخير والشر . والنكر ما تنكره العقول فهو شر ، وظاهر الآية يدل على أن موسى استبعد أن تقتل النفس إلا بالنفس وليس كذلك لأنه قد يحل القتل بسائر الأسباب ، ولعله اعتبر السبب الأغلب والأقوى واختلفوا في كيفية قتله فقيل : فتل عنقه . وقيل : ضرب برأسه الحائط . وعن سعيد بن جبير : أضجعه ثم ذبحه بالسكين . ثم إنه سبحانه حكى عن الخضر أنه ما زاد على أن أذكره ما عاهد عليه فقال : { ألم أقل لك } وإنما زاد ههنا لك لأن الإنكار أكثر وموجب العتاب أقوى .
وقيل : أكد التقرير الثاني بقوله { لك } كما تقول لمن توبخه لك أقول وإياك أعني . وقيل : بين في الثاني المقول له لما لم يبين في الأول فعند هذا { قال } موسى { إن سألتك عن شيء بعدها } بعد هذه الكرة أو المسألة { لا تصاحبني } نهاه عن المصاحبة حينئذ مع حرصه على التعلم لظهور عذره كما قال : { قد بلغت من لدني عذراً } وهذا كلام نادم شديد الندامة جره المقال ، واضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله أخي كموسى استحيا فقال ذلك » { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } هي أنطاكية : وقيل : الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء .
{ استطعما أهلها } وكان حق الإيجاز أن يقال : « استطعماهم » فوضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله :
ليت الغراب غداة ينعب بيننا ... كان الغراب مقطع الأوداج
وأيضاً لعله كره اجتماع الضميرين المتصلين في مثل هذا اللفظ لما فيه من الكلفة والبشاعة والاستطالة { فأبوا أن يضيفوهما } يقال : أضافه وضيفه إذا أنزله وجعله ضيفه ، والتركيب يدور على الميل من ضاف السهم عن الغرض والضيف يميل إلى المضيف . عن النبي صلى الله عليه وسلم : « كانوا أهل قرية لئاماً . » قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدما عليه . وأيضاً الضيافة من المندوبات وترك المندوب غير منكر ، فكيف جاز لموسى أن يغضب عليهم حتى ترك عهد صاحبه . وقال : { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته . ولقائل أن يقول : لو كان قد بلغ الجوع إلى حدّ الهلاك لم يقو على إصلاح الجدار . ولمجيب أن يقول : إنه أقام الجدار معجزة فقد يروى أنه مسحه بيده فقام واستوى . وقيل : أقامه بعمود عمده به . وقيل : نقضه وبناه . وروي أنه كان ارتفاع الجدار مائة ذراع . قال أهل الاعتبار : شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حق . ويحكى أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمل الذهب فقالوا : يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاء أي « فأتوا أن يضيفوهما » فامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك . قوله : { يريد أن ينقض } معناه يسرع سقوطه من انقض الطائر إذا هوى في طيرانه . يقال : قضضته فانقض ، ويحتمل أن يكون « افعل » من النقض كاحمرّ من الحمرة ، فالنون تكون أصلية وإحدى الضادين مكررة زائدة عكس الأول . واستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة تشبيهاً للجماد بالأحياء نظيره { ولما سكت عن موسى الغضب } [ الأعراف : 154 ] { قالتا أتينا طائعين }
[ فصلت : 11 ] . ولما أقام الخضر الجدار ورأى موسى من الحرمان ومسيس الحاجة { قال } لصاحبه { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } لطلبت على عملك جعلاً حتى نستدفع به الضرورة . واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ على الأصح { قال } الخضر مشيراً إلى الفراق المتصور في قوله : { فلا تصاحبني } أو مشيراً إلى السؤال والاعتراض { هذا فراق بيني } الإضافة بمعنى في أي فراق أو سبب فراق في بيني { وبينك } وحكى القفال أن البين ههنا بمعنى الوصل .
ثم شرع في تقرير الحكم التي تضمنتها أفعاله وتلك الحكم تشترك في أصل واحد هو أنه أذا تعارض الضرر إن وجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فقال : { أما السفينة فكانت لمساكين } قيل : كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة { يعملون في البحر } وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين { وكان وراءهم ملك } وهو مسمى بجلندي والوراء ههنا بمعنى الأمام وقد مر في قوله : { ومن ورائه عذاب غليظ } [ إبراهيم : 17 ] وقيل : أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع وما كان عندهم خبرة { يأخذ كل سفينة } أي غير معيبة { غصباً } ولا يخفى أن الضرر الحاصل من التخريق أهون من فوات السفينة بالكلية والتخريق ، وإن كان تصرفاً في ملك الغير إلا أنه إذا تضمن نفعاً زائداً لم يكن به بأس . ولعل مثل هذا التصرف كان جائزاً في تلك الشريعة ، أو لعله كان من مخصوصات النبي صلى الله عليه وسلم . قال جار الله . قوله : { فأردت أن أعيبها } مسبب عن خوف الغصب عليها وكان حقه أن يتأخر عن السبب ولكنه قدم للعناية أي تتعجب من هذا وهو مرادي وأنا مأمور به . وأيضاً خوف الغصب ليس هو السبب وحده ، ولكن مع كون السفينة للمساكين فتوسط إرادة العيب بين المسكنة والغصب كتوسط الظن بين المبتدأ والخبر في قولك « زيد ظني مقيم » في أنه يتعلق بالطرفين { وأما الغلام } فقد قيل : إنه كان بالغاً قاطع الطريق يقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه مضطرين إلى التعصب له والذب عنه فكانا يقعان في الفسق لذلك واحتمل أن يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد كما قال : { فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً } . يقال : رهقة أي غشيه وأرهقه إياه . وقيل : إنه كان صبياً إلا أنه تعالى علم من حاله أنه لو صار بالغاً صدرت عنه هذه المفاسد ، فأعلم الخضر بحاله وأمره بقتله لئلا يرتد الأبوان بسببه ومثل هذا لا يجوز إلا إذا تأكد الظن بالوحي . وقيل : أراد فخفنا أن يغشى الوالدين طغياناً عليهما وكفراً بنعمتهما بعقوقه ، أو خفنا أن يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر . وجوزوا أن يكون قوله : { فخشينا } من كلام الله تعالى أي كرهنا كراهة من خاف سوء عاقبة أمر فغيره .
والزكاة الطهارة والنقاء من الذنوب وكأنه بإزاء قول موسى نفساً زاكية . والرحم الرحمة والعطف بمعنى الإشفاق على الأبوين . يروى أنهما ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت نبياً هدى الله على يديه أمة من الأمم . ويروى أنها ولدت سبعين نبياً . وقيل : أبدلهما ابناً مؤمناً . وقيل : اسم الغلام المقتول الحيسون وفي نسخة الحسين .
{ وأما الجدار فكان لغلامين } . قيل : اسمهما أصرم وصريم . وقوله : { في المدينة } بعد قوله : { أتيا أهل قرية } فيه دلالة على أن القرية لا تنافي المدينة ومعنى الاجتماع والإقامة مراعى فيهما . أما الكنز فقيل : هو المال لقوله : { ويستخرجا } ولأن المفهوم منه عند إطلاقه هو المال . وقيل : صحف فيها علم لقوله : { وكان أبوهما صالحاً } ودفن المال لا يليق بأهل الصلاح . وعورض بقول قتادة : أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا . وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا . وجمع بعضهم بين الأمرين فقال : كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . وفي قوله : { وكان أبوهما صالحاً } دلالة على أن صلاح الآباء يفيد العناية بأحوال الأبناء . عن جعفر بن محمد رضي الله عنه : كان بين الغلامين وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء ، وذكر من صلاح أبيهما ان الناس كانوا يضعون الودائع عنده فيردها إليهم سالمة . قالت العلماء : الأشبه أن اليتيمين كانا جاهلين بحال الكنز ووصيهما كان عالماً به إلا أنه غائب وق أشرف الجدار على السقوط و { رحمة من ربك } مصدر منصوب بأراد لأنه في معنى رحمهما أو مفعول له { وما فعلته عن أمري } أي اجتهادي ورأيي وإنما فعلته بأمر الله . سؤال : لم قال في الأول : { فأردت أن أعيبها } وفي الثاني : { فأردنا } وفي الثالث { فأراد ربك } ؟ الجواب : لأن الأول إفساد في الظاهر فأسنده إلى نفسه ، وفي الثالث إنعام محض فأسنده إلى الله سبحانه ، وفي الثاني إفساد من حيث القتل وإنعام من حيث التدبيل فجمع بين الأمرين . ويمكن أن يقال : إن القتل كان منه ولكن إزهاق الروح كان من الله ، ويحتمل أن يقال : الوحدة في الأول على الأصل ، والجمع في الثاني تنبيه على أنه من العلماء بالمؤيدين بالعلوم الدينية ، والإسناد إلى الله بالآخرة إشارة إلى أنه لا إرادة إلا إرادة الله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله { ذلك } الذي ذكر من أسرار تلك الوقائع { تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } أي يرجع المقصود من تلك الأفاعيل إلى ما قررنا ، وأصل تسطع تستطيع كما في قوله : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع } إلا أن التاء حذفت لأجل التخفيف . وهذا شاذ من جهة القياس ولكنه ليس بشاذ في الاستعمال .
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله أخي موسى لو لبيث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب »
التأويل : { وإذ قال موسى لفتاه } فيه أن المسافر لا بد له في الطريق من الرفيق ، وفيه أن من شرطهما أن يكون أحدهما أميراً والآخر مأموراً ، وأن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده حتى يكون على بصيرة من صحبته ، وأن لا يسأم من متاعب السفر حتى يظفر بمقصوده ، وأن تكون نيته طلب شيخ يقتدي به فإن طلب الشيخ في الحقيقة هو طلب الحق . ومجمع البحرين هو مجمع ولاية الشيخ وولاية المريد وعنده عين الحياة الحقيقية ، فإذا وقعت قطرة منها على حوت قلب المريد حيي واتخذ سبيله في بحر الولاية سربا . { فلما جاوزا } فيه إشارة إلى أن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة أصاب قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن صحبة الشيخ ظاناً أن مقصوده يحصل من غير وساطة الشيخ . هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد إلا إن أدركته العناية الأزلية ورد إليه صدق الإرادة فيقول : الرفيق التوفيق . { آتنا غداءنا } وهو همة الشيخ وبركة صحبته { لقد لقينا في سفرنا هذا } الذي جاوزنا صحبة الشيخ { نصباً } فقال رفيقه { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة } صخرة النفس وتسويلها { فإني نسيت } حوت القلب { قال ذلك ما كنا نبغي من حوت القلب الميت المملح بملح حب الدنيا وزينتها أن يتخذ سبيله في بحر ولاية شيخ كامل { فوجدا عبداً من عبادنا } حراً من رق غيرنا . وفي قوله : { وعلمناه من لدنّا علماً } إشارة إلى أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها ، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وإنما يحصل بتصفية النفس وتجريد القلب عن العلائق الجسمانية ، وقد ذهب موسى إلى تعلم العلم فكان من الواجب على الخضر أن يظهر له علماً يمكن تعلمه ، فبين علم الخضر وبين مقصد موسى تباين وتنافٍ فلهذا قال الخضر : { إنك لن تستطيع معي صبراً } وفي إظهار المسائل الثلاثة إشارة إلى ما قلنا من أن العلم الظاهر يباين العلم اللدني وليس من التعليم والتعلم في شيء ، وإذا تأمل العاقل السالك في قول موسى : { هل أتبعك } الخ في قول الخضر . { فإن اتبعتني فلا تسألني } الخ . وجد أصول الشرائط التي شرطها الصوفية للمريد وللشيخ مودعة فيها ، وفي تفصيلها طول وقد أشرنا في التفسير إلى طرف منها ، ومن أراد الكل فعليه بمطالعة كتاب « آداب المريدين » للشيخ المحقق أبي النجيب السهروردي تغمده الله بغفرانه { حتى إذا ركبا في السفينة } هي سفينة الشريعة { خرقها } بهدم الناموس في الظاهر مع صلاح الحال في الباطن وفيما بينه وبين علام الغيوب ، ومثل هذا قد يفعله كثير من المحققين طرداً للعوام وحذراً من التباهي والعجب { أخرقتها لتغرق أهلها } في أودية الضلال إذا اقتدوا بك { حتى إذا لقيا غلاماً } هو النفس الأمارة { فقتله } بسكين الرياضة وسيف المجاهدة { حتى إذا أتيا أهل قرية } هي الجسد وهم القوى الإنسانية من الحواس وغيرها { استطعما أهلها } بطلب أفاعليها التي تختص بها { فأبوا أن يضيفوهما } بإعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها { فوجدا فيها جداراً } هو التعلق الحائل بين النفس الناطقة وبين عالم المجردات { يريد أن ينقض } بقطع العلاقة { فأقامه } بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس كما قيل : نفسك مطيتك فارفق بها .
{ لو شئت لاتخذت عليه أجراً } ثواباً جزيلاً أي لو شئت لصبرت على شدة الرياضة إلى إفاضة الأنوار ونيل الكشوف . { أما السفينة فكانت لمساكين } هم العوام الذين { يعملون في } بحر الدنيا وليس لهم في بر عالم الربوبية سير وسلوك حتى يصلوا إلى ملوك تحت أطمار { فأردت أن أعيبها } في الظاهر لتسلطهم بالإخلاص في البواطن { وكان وراءهم ملك } هو الشيطان { يأخذ كل سفينة } عبادة { غصباً } لأن كل عبادة تخلو عن الانكسار والذل والخشوع فإنها للشيطان لا للرحمن { وأما الغلام فكان أبواه } وهما القلب والروح { مؤمنين فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة } هو النفس المطمئنة { وأقرب رحماً } أي نسبة إلى الأبوين . { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين } هما النفس المطمئنة والملهمة { وكان تحته كنز لهما } هو حصول الكمالات النظرية والعملية { وكان أبوهما } وهو العقل المفارق { صالحاً } كاملاً بالفعل فلهذا ادخر لأجلهما ما ادخر { فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما } بتربية الشيخ وإرشاده على سبيل الرفق والمداراة { ويستخرجا } ما كان كامناً فيهما .
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
القراآت : { فأتبع } { ثم أتبع } مقطوعة : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون بالتشديد موصولة . { حامية } الألف من غيرهم : ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص . الباقون { حمئة } بالهمزة من غير ألف { جزاء الحسنى } بالنصب منوناً . يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الآخرون { جزاء الحسنى } بالرفع والإضافة . { السدين } بفتح السين : ابن كثير ، أبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل . الآخرون بضمها . { يفقهون } بضم الياء وكسر القاف : حمزة وعلي وخلف . الباقون بفتحهما { يأجوج ومأجوج } حيث كان مهموزاً : عاصم غير الشموني { فهل نجعل } وبابه بإدغام اللام في النون : علي وهشام { خراجاً } بالألف : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون { خرجا } بسكون الراء . { سداً } بفتح السين : ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم . والباقون بضمها { مكننى } : ابن كثير : الباقون بإدغام النون في النون { ردماً ائتوني } يحيى وحماد والابتداء بكسر الألف { الصدفين } بضم الصاد والدال : ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب المفضل مخير ، أبو بكر وحماد بضم الصاد وإسكان الدال . الآخرون بفتح الصاد والدال . { قال ائتوني } والابتداء بكسر الألف : يحيى وحماد وحمزة { فما اسطاعوا } بالإدغام : حمزة غير حماد وخلاد ، وقرأ أبو نشيط والشموني { فما اصطاعوا } بالصاد وهو الصحيح من نقل ابن مهران . { دكاء } بالمد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل والخزاز عن هبيرة { أفحسب الذين } بسكون السين ورفع الباء : يزيد ويعقوب والأعشى في اختياره { دوني أولياء } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { أن ينفد } بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان .
الوقوف : { القرنين } ط { ذكراً } 5 ط { سبباً } لا { سبباً } 5 { قولاً } 5 ط { حسناً } 5 { نكراً } 5 { الحسنى } ج لاختلاف الجملتين { يسراً } 5 ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { سبباً } 5 { ستراً } 5 { كذلك } ط أي كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس . وقيل : يبتدأ بكذلك أي ذلك كذلك أو الأمر كذلك . وقيل : أي أحطنا بما لديه من العدد والعدد كذلك أي كعلمنا بقوم سبق ذكرهم { خبراً } 5 { ثم أتبع سبباً } 5 { قوماً } لا { قولاً } 5 { سدّاً } 5 { ردماً } 5 { الحديد } ط { انفخوا } ط { ناراً } لا لأن « قال » جواب « إذا » { قطراً } 5 ط لأن ما بعده ابتداء إخبار { نقبا } 5 { من ربي } ج لعطف الجملتين المختلفتين { دكاء } ج لذلك { حقاً } 5 ط لانقطاع القصة { جمعاً } 5 لا للعطف { عرضاً } 5 لا { سمعاً } 5 { أوليا } ط { نزلاً } 5 { أعمالاً } 5 ط للفصل بين الاستخبار والإخبار لأن التقدير هم الذين ، ويجوز أن يكون نصباً على الذم أو جراً على البدل { صنعاً } 5 { وزناً } 5 { هزواً } 5 { نزلاً } 5 { حولاً } 5 { مدداً } 5 { واحد } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب { أحداً } 5 .
التفسير : ولما أجاب عن سؤالين من أسئلة اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى ، شرع في السؤال الثالث والجواب عنه . وأصح الأقوال أن ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس الرومي الذي ملك الدنيا بأسرها ، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه عادة . يحكى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه ، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر ، ثم توجه نحو داراً ابن دارا وهزمه إلى أن قتله فاستولى على ممالك الفرس ، ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة ، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها . وقال الإمام فخر الدين الرازي : لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها ، وثبت من علم التاريخ أن من هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر . قال : وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطا طاليس وكان على مذهبه . فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وصدق ذلك وذلك مما لا سبيل إليه . قلت : ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر . والسبب في تسميته بذي القرنين أنه بلغ قرني الشمس أي مطلعهما ومغربها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها . وقيل : كان له قرنان ضفيرتان . وقيل : انقرض في وقته قرنان من الناس . وقيل : كان لتاجه قرنان . وعن وهب أنه سمي بذلك لأنه ملك الروم وفارس . ويروى الروم والترك . وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس . وقيل : كان على رأسه ما يشبه القرنين . وقيل : لشجاعته كما سمى الشجاع كبشاً كأنه ينطح أقرانه . وقيل : رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس أي بقرنيها . وزعم الفرس أن دارا الأكبر تزوّج بابنة فيلقوس ، فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها إلى أبيها وكانت قد حملت بالإسكندر فولدت الإسكندر وبقي عند فيلقوس وأظهر أنه ابنه وهو في الحقيقة دارا الأكبر . وقال أبو الريحان : إنه من ملوك حمير والدليل عليه أن الأذواء كانوا من اليمن كذي يزن وغيره . ويروى أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة : ذو القرنين وسليمان - وهما مؤمنان - ونمرود وبختنصر - وهما كافران - واختلفوا فيه فقيل : كان عبداً صالحاً ملكه الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة ، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه .
وعن علي رضي الله عنه : سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وأحب الله وأحبه . وسأله ابن الكواء وكان من أصحابه ما ذو القرنين أملك أم نبي؟ فقال : ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبداً صالحاً ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله أي في جهاده فمات ، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله يعني نفسه . قالوا : وكان ذو القرنين يدعو الناس إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله . وقيل : كان نبياً لقوله تعالى : { إنا مكنا له في الأرض } والتمكين المعتد به هو النبوة ، ولقوله { وآتيناه من كل شيء سبباً } وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوّة ، ولقوله : { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب } وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي . وقيل : كان ملكاً من الملائكة عن عمر أنه سمع رجلاً يقول : يا ذا القرنين : فقال : اللَّهم غفراً أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة .
قوله : { سأتلوا عليكم } أي سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى وأنزل فيه وحياً . والخطاب في { عليكم } للسائلين وهم اليهود أو قريش كأبي جهل وأضرابه { وآتيناه من كل شيء سبباً } طريقاً موصلاً إليه . والسبب في اللغة هو الحبل والمراد ههنا كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة ، وذلك أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سبباً وصله إليه ، وكذلك أراد المشرق فاتبع سبباً موصلاً إليه ، وأراد بلوغ السدين فأتبع سبباً أدى إليه . ثم إنه سبحانه شرع في نعت مسيره إلى المغرب قائلاً { فأتبع سبباً } أي سلك طريقاً أفضى به إلى سفر المغرب ، ومن قرأ بقطع الهمزة فمعناه اتبع نفسه سبباً { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حامية } أي حارة ، ومن قرأ بحذف الألف مهموزاً فمعناه ذات حمأة أي طين أسود ، ولا تنافي بين القراءتين : فمن الجائز أن تكون العين جامعة للوصفين . « عن أبي ذر قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال : أتدري يا أبا ذر من أين تغرب هذه؟ قلت : الله ورسوله أعلم : قال : فإنها تغرب في عين حامية . » فقال حكماء الإسلام : قد ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كروية في وسط العالم ، وأن السماء محيطة بها من جميع الجوانب ، وأن الشمس في فلكها تدور بدوران الفلك . وأيضاً قد وضح أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض بمائة وست وستين مرة تقريباً ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ فتأويل الآية أن الشمس تشاهد هناك أعني في طرف العمارة كأنها تغيب وراء البحر الغربي في الماء كا أن راكب البحر يرى الشمس تغيب في الماء لأنه لا يرى الساحل ولهذا قال : { وجدها تغرب } ولم يخبر أنها تغرب في عين ، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية ، وأيضاً حمئة لكثرة ما في البحار من الطين الأسود .
أما قوله { ووجد عندها قوماً } فالضمير إما للشمس وإما للعين ، وذلك أن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان ذلك الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس . قال ابن جريج : هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجوب الشمس حين تجب ، كانوا كفرة بالله فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسناً وهو تركهم أحياء فاختار الدعوة والاجتهاد فقال { أما من ظلم } بالإصرار على الشرك { فسوف نعذبه } بالقتل في الدنيا { ثم يرد إلى ربه } في الآخرة { فيعذبه عذاباً نكراً } منكراً فظيعاً .
روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب النكر ، ومن آمن أعطاه وكساه وفيه نظر ، لأن العذاب النكر بعد أن يرد إلى ربه لا يمكن أن يكون من فعل ذي القرنين . ومن قرأ { جزاء } بالنصب أراد فله الفعلة { الحسنى } جزاء ، ومن قرأ بالرفع أراد فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كل الشهادة ، أو فله أن يجازى المثوبة الحسنى { وسنقول له من أمرنا } أي مما نأمر به الناس من الزكاة والخراج وغير ذلك { يسراً } أي قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق . ثم حكى سفره إلى أقصى الشرق قائلاً { ثم أتبع سبباً } أي هيأ أسباباً بسفر المشرق { حتى إذا بلغ مطلع الشمس } أي مكان طلوعها { وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً } عن كعب أن الستر هو الأبنية وذلك أن أرضهم لا تمسكها فليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع شعاع الشمس وتدفع حره عنهم ، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم ، وإذا غربت اشتغلوا بتحصيل المعاش ، فحالهم بالضد من أحوال سائر الخلق . وعن مجاهد أن الستر الثياب وأنهم عراة كالزنج ، وحال كل من سكن في البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك . حكى صاحب الكشاف عن بعضهم أنه قال : خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة . فبلغتهم فإذا أجدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى . وحين قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصة فغشى عليّ ثم أفقت ، فلما طلعت الشمس إذ هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سرباً لهم . فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم . وللمفسرين في متعلق قوله : { كذلك } وجوه أحدها : كذلك أمر ذي القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به .
الثاني : لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية أو الثياب . الثالث : بلغ مطلع الشمس مثل الذي بلغ من مغربها . الرابع : تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين ، وقد سبق بعض هذه الوجوه في الوقوف .
ثم حكى سفره إلى ناحية القطب الشمالي بعد تهيئة أسبابه قائلاً { ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين } قيل : السد إذا كان بخلق الله فهو بضم السين حتى يكون بمعنى « مفعول » أي هو مما فعله الله وخلقه ، وإذا كان ممن عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً قاله أبو عبيدة وابن الأنباري . وانتصب { بين } على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله : { لقد تقطع بينكم } [ الأنعام : 94 ] قال الإمام فخر الدين الرازي : الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال . فقيل جبلان بين أرمينية وأذربيجان ، وقيل في منقطع أرض الترك . وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً من ناحية الخزر ، فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع . وقيل : إن الواثق رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ووصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشددة بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل ، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند ، قال أبو الريحان البيرني : ومقتضى هذا الخبر أن هذا الموضع في الربع الغربي الشمالي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال ، ولما بلغ الإسكندر ما بين الجبلين اللذين سد ما بينهما { وجد من دونهما } أي من ورائهما متجاوزاً عنهما قريباً { قوماً لا يكادون يفقهون } بأنفسهم أو يفقهون غيرهم قولهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم . سؤال : كيف فهم منهم ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض الخ؟ وأجيب بأن « كاد » إثبات أو لعله فهم ما في ضميرهم بالقرائن والإشارات ، أو بوحي وإلهام . وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف . وقيل : مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول ، وتأجج النار إذا تلهبت ومن أجج الريق أو موج البحر ، سمو بذلك لشدتهم وسرعة حركتهم ، وهما من ولد يافث . وقيل : يأجوج من الترك ، ومأجوج من الجيل والديلم . ومن الناس من وصفهم بصغر الجثة وقصر القامة حتى الشبر ، ومنهم من وصفهم بطول القامة وكبر الجثة وأثبت لهم مخالب وأضراساً كأضراس السباع . أما إفسادهم في الأرض فقيل : كانوا يقتلون الناس . وقيل : يأكلون لحومهم . وقيل : يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا احتملوه { فهل نجعل لك خرجاً } وخراجاً أي جعلاً نخرجه من أموالنا ونظيرهما النول والنوال .
وقيل : الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله ، والخراج ما يجبيه السلطان من البلد كل سنة . وقال قطرب : الخرج الجزية والخراج في الأرض { قال } ذو القرنين { ما ملكني فيه ربي } أي جعلني فيه مكيناً ذا مكانة من المال واليسار { خير } مما تبذلون لي من الخراج نظيره قول سليمان { فما آتاني الله خير مما آتاكم } [ النمل : 36 ] { فأعينوني بقوة } بآلات ورجال وصناع . وقيل : بمال أصرفه في هذا المهم ولا آخذه لنفسي والردم أكبر من السد من قولهم « ثوب مردم رقاع فوق رقاع » وزبر الحديد قطعه .
قال الخليل : الزبرة من الحديد القطعة الضخمة . من قرأ { آتوني } بالمد فظاهر ، ومن قرأ { ائتوني } من الإتيان فعلى حذف باء التعدية والنصب بنزع الخافض . ثم ههنا إضمار أي فأتوه بها فوضع بعضها فوق بعض . { حتى إذ ساوى بين الصدفين } وهما على القراآت جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان { أفرغ عليه قطراً } أصب عليه النحاس المذاب { وقطراً } منصوب بأفرغ والتقدير : آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه . وهذا محمل ما يستدل به البصريون في أن المختار عند تنازع الفعلين هو إعمال الثاني إذ لو عمل الأول لقال أفرغه عليه . يحكى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلاً صلداً . وقيل : بعد ما بين السدين مائة فرسخ . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أخبره به فقال : كيف رأيته؟ قال : كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء . قال : قد والله رأيته . قال العلماء : هذا معجز من ذي القرنين صرف تأثير تلك الزبر الكثيرة إذا صارت كالنار لم يقدر الآدمي على القرب منه ، وكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين . { فما اسطاعوا أن يظهروه } أي يعلوه لارتفاعه وملاسته { وما استطاعوا له نقباً } لصلابته وثخانته لما تكرر لفظ الاستطاعة مراراً ، حذف منها التاء تخفيفاً في الموضعين وأعاد ذكرها بالآخرة تنبيهاً على الأصل ورجوعاً إلى البداية . ثم { قال } ذو القرنين { هذا } السد أو هذا الإقرار والتمكين نعمة من الله عز وجل ورحمة على عباده { فإذا جاء } أي دنا مجيء القيامة { جعله دكاً } مدكوكاً مبسوطاً مستوي بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك . ومن قرأ { دكاء } بالمد فعلى الوصف أي جعله أرضاً مستوية { وكان وعد ربي حقاً } وهذا آخر حكاية ذي القرنين .
ثم شرع سبحانه في بقية أخبارهم فقال { وتركنا بعضهم يومئذ يموجون } أي حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد .
ويروى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة وبيت المقدس . ثم يبعث الله نغفاً وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فيدخل آذانهم فيموتون . وقيل : أراد أن قوم السد لما منعوا من الخروج ماج بعضهم في بعض خلفه . وقيل : الضمير للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا الخلق يضطربون ويختلط إنسهم وجنهم حيارى . ونفخ الصور من آيات القيامة وسيجيء وصفه . ومعنى عرض جهنم إبرازها وكشفها للذين عموا عنها في الدنيا ، وفي ذلك نوع من العقاب للكفار لما يتداخلهم من الغم والفزع { عن ذكري } أي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن وتأمل معانيه . وصفهم بالعمى عن الدلائل والآثار فأراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال { وكانوا لا يستطيعون سمعاً } وهو أبلغ من أن لو قال « وكانوا صماً » لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به ، وهؤلاء زالت عنهم الاستطاعة بالكلية . احتجت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة مع الفعل لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا . وأجيب بأن المراد من نفي الاستطاعة النفرة والاستثقال . ثم أنفذ في التوبيخ والوعيد قائلاً { أفحسب الذين كفروا } والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله؟ وفيه إضمار تقديره أفحسبوا اتخاذ عبادي أولياء نافعاً . والعباد إما عيسى والملائكة ، وإما الشياطين الذين يطيعونهم ، وإما الأصنام أقوال . ومن قرأ بسكون السين فمعناه أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر ، أو على أنه مثل « أقائم الزيدان » يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا . قال الزجاج : النزل المأوى والمنزل . وقيل : إنه الذي يعدّ للضيف فيكون تهكماً به نحو { فبشرهم بعذاب } [ آل عمران : 21 ] أما الذين ضل سعيهم أي ضاع وبطل فعن علي رضي الله عنه أنهم الرهبان كقوله : { عاملة ناصبة } [ الغاشية : 3 ] وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن منهم أهل حروراء . وعن مجاهد : أهل الكتاب . والتحقيق أنه يندرج فيه كل ما يأتي بعمل خير لا يبتني على إيمان وإخلاص . وعن أبي سعيد الخدري : يأتي الناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة ، فإذا وزنوها لم تزن شيئاً وذلك قوله : { فلا تقيم لهم يوم القيامة وزناً } قال القاضي : إن من غلبت معاصية طاعاته صار ما فعله من الطاعة كأن لم يكن فلا يدخل في الوزن شيء من طاعاته ، وهذا مبني على الإحباط والتكفير .
وفي قوله : { فحبطت أعمالهم } إشارة إلى ذلك ، أو المراد فنزدري بهم ولا يكون له عندنا وزن ومقدار .
وقيل : لا يقام لهم ميزان لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين { ذلك } الذي ذكرناه من أنواع الوعيد { جزاؤهم } وقوله { جهنم } عطف للجزاء . والسبب فيه أنهم ضموا إلى الكفر بالله اتخاذ آيات الله واتخاذ كل رسله هزؤاً وتكذيباً ، ويجوز أن يكون كل من الأمرين سبباً مستقلاً للتعذيب ، ثم أردف الوعيد بالوعد على عادته . عن قتادة : الفردوس أوسط الجنة وأفضلها . وعن كعب : ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر . وعن مجاهد : الفردوس هو البستان بالرومية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة ، وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة » قال أهل السنة : جعل جنات الفردوس نزلاً فالإكرام التام يكون وراء ذلك وليس إلا الرؤية ونظيره أنه جعل جهنم بأسرها نزلاً فما وراءها هو العذاب الحقيقي وهو عذاب الحجاب { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } [ المطففين : 15 ] والحول والتحول وفيه أنه لا مزيد على نعيم الفردوس حتى تنازعهم أنفسهم إلى تلك الزيادة ، ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود أي لا تحوّل فيطلب كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... ولما ذكر أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص سئل عنها . نبه على كمال حال القرآن . والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر والزيت للدواة والسراج ، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وفرض أن جنس البحر مداد لهما لنفد البحر قبل نفاد الكلمات ولو جئنا بمثل البحر مدداً لنفد أيضاً وهو تمييز من مثله كقولك « على التمرة مثلها زبداً » . والمدد والمداد واحد . يروى أن حيي بن أخطب قال : في كتابكم { ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً } [ البقرة : 269 ] ثم تقرأون { وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً } [ الإسراء : 85 ] فنزلت هذه الآية . يعنى أن ذلك خير كثيرة ولكنه قطرة من بحر كلمات الله . قالت الأشاعرة : إن كلام الله تعالى واحد . واعترض عليهم بهذه الآية فإنها صريحة في إثبات كلمات كثيرة لله تعالى . وأجيب بأن المراد من الكلمات متعلقات علم الله تعالى . وزعم الجبائي أن قوله : { قبل أن تنفد كلمات ربي } يدل على أن كلمات الله قد تنفد بالجملة وما ثبت عدمه امتنع قدمه . وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على تعلقات تلك الصفة الأزلية . قلت : الإنصاف أن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر ولا على عدم نفاده ، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا يضبطها عقول البشر . أما أنها متناهية أو غير متناهية فلا دليل في الآية على أحد النقيضين ، ولكن الحق في نفس الأمر أن كلمات الله لا تتناهى لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية بالبرهان ، ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسلك سبيل التواضع وهو أن حاله مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية إلا أنه امتاز بنعت الإيحاء إليه وكفى به بوناً ومباينة .
ثم بين أن الموحى هو { إنما إلهكم إله واحد } .
وفي تخصيص هذا الوحي بالذكر فائدة هي أن يستدل به على صدقه ، فإن من علامات صدق مدعي النبوة أن يدعو إلى التوحيد ، ثم أن يدعو إلى العمل الصالح المقترن بالإخلاص وذلك قوله : { فمن كان يرجو } أي يأمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه . واللقاء بمعنى الرؤية عند الأشاعرة وبمعنى لقاء الثواب أو العقاب عند المعتزلة { فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً } قال المفسرون : النهي عن الإشراك بالعبادة هو أن لا يرائي بعمله ولا يبتغي به إلا وجه ربه . « يروى أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال : إن الله لا يقبل ما شورك فيه » . وروي أنه قال : لك أجران أجر السر وأجر العلانية . قال العلماء : الرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة . والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدي به . قال في الكشاف : عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نوراً من قرنه إلى قدمه . ومن قرأها كلها كانت له نوراً من الأرض إلى السماء » وعنه صلى الله عليه وسلم : « من قرأ عند مضجعه { قل إنما أنا بشر مثلكم } كان له من مضجعه نوراً يتلألأ إلى مكة ، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نوراً يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ » .
التأويل : لما بين للإنسان كمالاً مكنوناً وكنزاً مدفوناً يمكن له تحصيله بالتربية والإرشاد ، أراد أن يبين أن الإنسان الكامل إنما هو مستحق الخلافة في الأرض وهو ذو القرنين الذي ملك الجانبين أعني جانب عالم الأرواح وجانب عالم الأشباح ، لأنه أوتي التمكين في الأرض وأتى أسباب كل شيء في عالم الوسائط والأسباب ، فبذلك يصير كاملاً في نفسه مكملاً لغيره . { فأتبع سبباً } من أسباب الوصول إلى عالم السفلي وهو مغرب شمس الروحي الإنساني { فوجدها تغرب في عين حمئة } هي عالم القوى والطبائع والأجساد { ووجدنا عندها قوماً } قم القوى البدنية والنفوس الأرضية { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذبهم } بالقتل بسكين الرياضة وسيف المجاهدة { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } هو الرفق والمداراة { قال أما من ظلم } بوضع خاصيته واستعمالها في غير موضعها { فسوف نعذبه } بقهره على خلاف ما هو مراده وهواه { ثم يرد إلى ربه } وهو الشيخ الكامل الذي يربيه { فيعذبه عذاباً نكراً } هو المنع عن مشتهياته ، أو يرد إلى الله تعالى فيعذبه بعذاب البعد والقطيعة .
{ وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى } هو مقام الوصول والوصال { وسنقول له من أمرنا يسراً } هو التخفيف والاستراحة بعد الفناء والمجاهدة { ثم أتبع } أسباب الوصول إلى عالم الأرواح وهو مطلع شمس النفس الناطقة الإنسانية { فوجدها تطلع على قوم } مجردين عن العلائق الجسمانية والعوائق الساترة الجسدانية { حتى إذا بلغ بين السدين } وهو عالم التعيش والتمدن والجولان في جو أسباب قوام البدن وقيامه على وجه الجسمانية إلى صلاح المعاد ونظامه { وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً } وهم العوام الذين قصارى أمرهم الجهل البسيط { إن يأجوج ومأجوج } القوى والطبائع البشرية { مفسدون في الأرض } البشرية باستعمال خواصها في غير ما خلقت هي لأجلها { فهل نجعل لك مخرجاً } هو ترك الوجود وبذلك الموجود . { فأعينوني بقوة } بهمة صارفة وعزيمة صادقة { آتوني زبر الحديد } ملكات راسخة وهيئات ثابتة أو قلوباً هن كالحديد في المضاء ، وكالجبال الراسيات في البقاء { حتى إذا ساوى } عرض ما بين طرفي العمر كما قيل من المهد إلى اللحد { قال انفخوا } بالمداومة على الأذكار والأوراد { حتى إذا جعله ناراً } بتأثير حرارة الطاعة والذكر في حديد القلب { قال آتوني أفرغ عليه قطراً } هو جوهر المحبة وكيمياء الإخلاص النافذ في سويدات القلوب بحيث لا ينفذ فيه كيد الشيطان ولا يعلوه ما سوى الرحمن الله حسبي .
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
القراآت : { كيهعص } بإمالة الهاء فقط : أبو عمرو { كهيعص } بإمالة الياء فقط : حمزة وخلف وقتيبة وابن ذكوان ، وقرأ عليّ غير قتيبة ويحيى ويحيى وحماد بإمالتهما . وقرأ أبو جعفر ونافع والخزاعي عن البزي وابن فليح بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب . الباقون بتفخيمها { صاد ذكر } مدغماً : أبو عمرو وحمزة وخلف وابن عامر وسهل { من ورائي } بفتح الياء مهموزاً : ابن كثر غير زمعة والخزاعي عن ا لبزي وقرأ زمعة عن ابن كثير والخزاعي عن البزي { من وراي } مثل { عصاي } { يرثني ويرث } بالجزم فيهما : أبو عمرو وعليّ . الباقون برفعهما { يبشرك } ثلاثياً وكذلك في آخر السورة : حمزة { عتباً } و { جثياً } و { صلياً } و { بكياً } بكسر الأوائل : حمزة وعلي وافق حفص إلا في { بكياً } الخزاز عن هبيرة { عتباً } الأولى بالكسر والثاني بالضم . { وقد خلقناك } حمزة وعلي . الآخرون { خلقتك } على التوحيد { إلى آية } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن شنبوذ عن أهل مكة .
الوقوف : { كهيعص } 5 كوفى { زكريا } 5 ح لجواز تعلق « إذ » ب { ذكر رحمة ربك } ولاحتمال انتصابه بأذكر محذوفاً . { خفياً } 5 { شقياً } ه { ولياء } لا { آل يعقوب } ق والوجوه الوصل لعطف الجملتين المتفقتين { يحيى } لا لأن ما بعده صفة غلام والاستئناف ليس بقوي . { سمياً } 5 { عتياً } 5 { كذلك } 5 بناء على أن التقدير الأمر كذلك { شيئاً } 5 { آية } ط { سوياً } 5 { وعشياً } 5 { بقوة } ط { صبياً } 5 لا للعطف أي آتيناه الحكم وحناناً منا عليه { وزكاة } ط { تقياً } 5 { عصياً } 5 { حياً } 5 .
التفسير : حروف المعجم في الوقف ثنائية وثلاثية ، وقد جرت عادة العرب بإمالة الثنائيات وبتفخيم الثلاثيات ، وفي الزاي اعتيد الأمران لأنه قد يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق بآخره ياء وقد لا يلحق فيصير ثنائياً ، ولا ريب أن التفخيم أصل والإمالة فرع عليه . فمن قرأ بإمالة الهاء والياء معاً فعلى العادة ، ومن قرأ بتفخيمهما جميعاً فعلى الأصل ومن قرأ بإمالة إحداهما فلرعاية الجانبين . وقد روى صاحب الكشاف عن الحسن أنه قرأ بضمهما فقيل : لأنه تصور أن عين الكلمة فيهما واو فنبه بالضم على أصلها . والبحث عن هذه الفواتح قد سلف في أول البقرة ، ومما يختص بهذا الموضع ما روي عن ابن عباس أن قوله { كهيعص } ثناء من الله تعالى على نفسه ، فالكاف كاف لأمور عباده ، والهاء هاد والعين عالم أو عزيز ، والصاد صادق . وعنه أيضاً أنه حمل الكاف على الكريم أو الكبير ، والياء على الكريم مرة وعلى الحكيم أخرى . وعن الربيع بن أنس أن الياء من مجير ، وهذا التفسير لا يخلو من تحكم إلا أن يسند إلى الوحي أو الإلهام ، وارتفع { ذكر رحمة } على الخبر أي هذا المتلو من القرآن ذكر رحمة { ربك } وانتصب { عبده } على أنه مفعول لذكر و { زكريا } عطف بيان ، وقرىء برفعهما على إضافة المصدر إلى المفعول ، وعن الكلبي أنه قرأ { ذكر } بلفظ الماضي مشدداً تارة و { رحمة } و { عبده } منصوبان على المفعولية ، والفاعل ضمير المتلو .
ومخففاً أخرى و { عبده } مرفوع على الفاعلية . وقرىء { ذكر } على الأمر وهي قراءة ابن معمر . وقيل : يحتمل على هذا أن تكون الرحمة عبارة عن زكريا لأن كل نبي رحمة لأمته ، ويجوز أن يكون رحمة لنبينا صل الله عليه وسلم ولأمته لأن طريقه في الإخلاص والابتهال يصلح لأن يقتدى به وكان ذكره رحمة لنا ولنبينا . وفي خفاء ندائه . وجوه منها : أن الإخفاء أبعد عن الرياء وأدخل في الخشية ولهذا فسره الحسن بأنه نداء لا رياء فيه . ومنها أنه أخفاه لئلا يلام على طلب الولد في غير وقته . ومنها أنه أسره من مواليه الذين خافهم . ومنها أنه خفت صوته لضعفه وهرمه كما جاء في صفة الشيخ « صوته خفات وسمعه تارات » ولعله أتى بأقصى ما يقدر عليه من الصوت ومع ذلك كان خفياً لنهاية كبره . ثم شرع في حكاية ندائه قائلاً : { قال رب إني وهن العظم مني } إلى قوله : { واجعله رب رضياً } قال علماء المعاني : في الآية لطائف وذلك أصل الكلام : يا ربي قد شخت فإن الشيخوخة مشتملة على ضعف البدن وشيب الرأس ، ثم ترك الإجمال إلى التفصيل لتوخي زيادة التقرير فصار ضعف بدني وشاب رأسي ، ثم في القرينة الأولى عدل من التصريح إلى الكناية التي هي أبلغ منه فصار وهنت عظامي فإن وهن عظام البدن لازم لضعفه ، ثم بنيت الكناية على المبتدأ لتقوي الحكم فحصل أنا وهنت عظام بدني ، ثم سلك طريق الإجمال والتفصيل لمزيد البيان فصار : إني وهنت العظام من بدني ، لأنك إذا قلت إني وهنت العظام أفاد أن عظاماً واهنة عندك ، فإذا قلت : « من بدني » فقد فصلت ، ثم ترك توسيط البدن لطلب مزيد اختصاص العظام ، ثم لطلب شمول العظام فرداً فرداً قصدت مرتبة ثانية وهي ترك جمع العظم إلى الإفراد لأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع فحصل { إني وهن العظم مني } فحصل أني وهنت العظام مني . وإذا حصل الوهن في هذا الجنس الذي هو أصلب الأعضاء وبه قوام البدن وقد يكون جنة لسائر الأعضاء الرئيسة كالقحف للدماغ والقص للقلب ففي الأعضاء الأخر أولى . وأما القرينة الأخرى فتركت الحقيقة فبها الاستعارة التي هي أبلغ فحصل اشتعل شيب رأسي . وبيان الاستعارة فيه أنه شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته ، وشبه انتشاره في الشعر وفشوّه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعال النار ، ثم أخرجه مخرج الاستعارة بالكتابة بأن حذف المشبه به وأداة التشبيه فصار اشتعل شيب الرأسي ، ويمكن تقرير الاستعارة بوجه آخر وهو أن يكون استعمل { اشتعل } بدل « انتشر » فتكون الاستعارة تبعية تصريحية وقرينتها ذكر الشيب ، ثم تركت هذه المرتبة إلى أبلغ منها وهي « اشتعل رأسي شيباً » .
وكونها أبلغ من وجهات منها : إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادته شمول الاشتعال الرأس كما لو قلت : « اشتعل بيتي ناراً » مكان « اشتعل النار في بيتي » . ومنها الإجمال والتفصيل الواقعان في طريق التمييز ، ومنها تنكير { شيباً } للتعظيم كما هو حق التمييز . ثم عدل إلى مرتبة أخرى هي « اشتعل الرأس مني شيباً » لتوخي مزيد التقرير بالإبهام ثم البيان على نحو { وهن العظم مني } ثم ترك لفظ « مني » ذكره في القرينة الأولى ففي ذلك إحالة تأدية المعنى على العقل دون اللفظ . وكم بين الحوالتين مع أن بناء الكلام على الاختصار حيث قال « رب » بحذف حرف النداء وياء المتكلم يناسب الاختصار في آخره . وإنما أطنب في هذا المقام لأن هذه الآية كالعلم فيما بين علماء المعاني .
ثم إنه توسل إلى الله عز وجل بما سلف له معه من الاستجابة قائلاً { ولم أكن بدعائك رب شقياً } كما حكى أن محتاجاً قال لكريم : أنا الذي أحسنت إليّ وقت كذا فقال : مرحباً بمن توسل إلينا وقضى حاجته . تقول العرب : سعد فلان بحاجته إذا ظفر بها ، وشقي بها إذا خاب ولم ينلها . ومعنى { بدعائك } أي بدعائي إياك . واعلم أن زكريا عليه السلام قدم على السؤال أموراً ثلاثة : الأول كونه ضعيفاً ، والثاني أنه تعالى لم يرد دعاءه والثالث كون المطلوب بالدعاء سبباً للمنفعة في الدين وذلك قوله { وإني خفت الموالي } قال ابن عباس والحسن : أي الورثة . وعن مجاهد العصبة . وعن أبي صالح : الكلالة . وعن الأصم : بني العم وهم الذين يلونه في النسب . وعن أبي مسلم : المولى يراد به الناصر وابن العم والمالك والصاحب وهو ههنا من تقدم في ميراثة كالولد . والمختار أن المراد من الموالي الذين يخلفون بعده إما في السياسة أو في المال الذي كان له أو في القيام بأمر الدين ، وكان من عاداتهم أن كل من كان إلى صاحب الشرع أقرب كان متعيناً للحبورة . وقوله : { من ورائي } أي بعد موتي لا يتعلق ب { خفت } لأن الخوف بعد الموت محال ولكن بمحذوف أي الموالي الذين يخلفون من بعدي ، أو بمعنى الولاية في الموالي أي خفت ولايتهم وسوى خلافتهم بعدي ، فإن زكريا انضم له مع النبوّة الملك فخاف بعده على أحدهما أو عليهما . وسبب الخوف القرائن والأمارات التي ظهرت له من صفائح أحوالهم وأخلاقهم . وإنما قال : { خفت } بلفظ الماضي لأنه قصد به الإخبار عن تقادم الخوف ، ثم استغنى بدلالة الحال كمسألة الوارث وإظهار الحاجة عن الإخبار بوجود الخوف في الحال .
وقرىء { خفت الموالي } بتشديد الفاء . وعلى هذا فمعنى ورائي خلفي وبعدي أي قلوا وعجزوا عن أمر الدين والإقامة بوظائفه ، والظرف متعلق بالموالي ، أو معناه قدامي والظرف متعلق ب { خفت } أي درجوا ولم يبق من يعتضد به . ثم صرح بالمسألة قائلاً : { فهب لي } وأكده بقوله : { من لدنك } أي ولياً صادراً من عندك مضافاً إلى اختراعك بلا سبب لأني وامرأتي لا تصلح للولادة . من قرأ { يرثني ويرث } بالجزم فيهما فهو جواب الدعاء ، ومن قرأ برفعهما فالأكثرون ومنهم جار الله قالوا : إنه صفة . وقال صاحب المفتاح : الأولى حمله على الاستئناف كأنه قيل : لم تطلب الولد؟ فقال مجيباً : يرثني أي لأنه يرثني لئلا يلزم منه أنه لم يوهب من وصف لهلاك يحيى قبل زكريا . واعترض بأن حمله على الاستئناف يوجب الإخبار عما لم يقع ، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم . أمنع من كونه غير مستجاب الدعوة . وأجيب بأن عدم ترتب الغرض من طلب الولد لا يوجب الكذب . وأقول : الاعتراض باق لأن المعنى يؤل إلى قولنا « هب لي ولياً موصوفاً بالوراثة » أو بأن الغرض منه الوراثة ، أوهب لي ولياً أخبر عنه بأنه يرثني . وعلى التقادير يلزم عدم الاستجابة أو الكذب . والحق في الجواب هو ما سلف لنا في قصة زكريا من سورة آل عمران ، أن النبي لا يطلب في الدعاء إلا الأصلح حتى لو كان الأصلح غير ما طلبه فصرفه الله تعالى عنه كان المصروف إليه هو بالحقيقة مطلوبه . ويمكن أن يقال : لعل الوراثة قد تحققت من يحيى وإن قتل قبل زكريا ، وذلك بأن يكون قد تلقى منه كتاب أو شرع هو المقصود من وجود يحيى وبقى ذلك الكتاب أو الشرع معمولاً به بعد زكريا أيضاً إلى حين . وقد روى صاحب الكشاف ههنا قراآت شاذة لا فائدة كثيرة في تعدادها إلى قوله عن علي وجماعة وأرث من آل يعقوب أي يرثني به وارث ويسمى التجريد في علم البيان . فقيل : هو أن تجرد الكلام عن ذكر الأول حتى تقول « جاءني فلان فجاءني رجل » لا تريد به إلا الأول ، ولذلك تذكر اسمه في الجملة الثانية ، وتجرد الكلام عنه . وأقول : يشبه أن يكون معنى التجريد هو أنك تجرده عن جميع الأوصاف المنافية للرجولية . وكذا في الآية كأنه جرده عن منافيات الوارثية بأسرها .
واختلف المفسرون في أنه طلب ولداً يرثه أو طلب من يقوم مقامه ولداً كان أو غيره؟ والأول أظهر لقوله في آل عمران { رب هب لي من لدنك ذرية طيبة } [ آل عمران : 38 ] ولقوله في سورة الأنبياء { ربي لا تذرني فرداً } [ الأنبياء : 89 ] حجة المخالف أنه لما بشر بالولد استعظم وقال { أنى يكون لي غلام } ولو كان دعاؤه لأجل الولد ما استعظم ذلك .
والجواب ما مر في آل عمران . واختلفوا أيضاً في الوراثة فعن ابن عباس والحسن والضحاك : هي وراثة المال . وعنهم أيضاً أن المراد يرثني المال ويرث من آل يعقوب النبوّة أو بالعكس . وفي رواية أبي صالح أن المراد في الموضعين النبوّة . فلفظ الإرث مستعمل في المال { وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم } [ الأحزاب : 17 ] وفي العلم { وأورثنا بني إسرائيل الكتاب } [ غافر : 53 ] « العلماء ورثة الأنبياء » وحجة الأولين ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « رحم الله زكريا وما عليه من يرثه » فإن ظاهره يدل على أنه أراد بالوراثة المال . وكذا قوله صلى الله عليه وسلم « أنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة » ، وأيضاً العلم والنبوة كيف يحصل بالميراث ولو كان المراد إرث النبوّة إلى قوله : { واجعله رب رضياً } لأن النبي لا يكون إلا مرضياً . وأجيب بأنه إذا كان المعلوم من حال الابن أنه يصير نبياً بعده فيقوم بأمر الدين جاز أن يقال ورثه . والمراد يكون رضياً أن لا يوجد منه معصية ولا همّ بها كما جاء في حق يحيى ، وقج مر الحديث هناك . ولا يلزم من هذا أن يكون يحيى مفضلاً على غيره من الأنبياء كلهم فلعل لبعضهم فضائل أخر تختص به . احتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال ، وأجابت المعتزلة بأنه يفعل به ضروب الألطاف فيختار ما يصير مرضياً عنده ، وزيف بأن ارتكاب المجاز على خلاف الأصل ، وبأن فعل الألطاف واجب على الله فطلب ذلك بالدعاء والتضرع عبث . واعلم أن أكثر المفسرين على أن يعقوب المذكور في الآية هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم لأن زوجة زكريا كانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهودا بن بعقوب ، وأما زكريا فقد كان من ولد هرون أخي موسى وهرون وموسى ولد لاوى بن يعقوب بن إسحق ، وكانت النبوّة في سبط وهو إسرائيل عليه السلام . وزعم بعض المفسرين أن المراد هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان وهذا قول الكلبي ومقاتل . وعن مقاتل : أن بني ماثان كانوا رؤوس بني إسرائيل وملوكها .
قوله : { يا زكريا } الكثرون على أنه نداء من الله تعالى لقرينة التخاطب من قوله : { رب إني وهو العظم مني } إلى قوله : { رب أنى يكون لي غلام } ومنهم من قال : هو نداء الملك لقوله في آل عمران { فنادته الملائكة } [ الآية : 49 ] وجوز بعضهم الأمرين . واختلفوا في عدم السمي فقيل : أراد أن لم يسم أحد بيحيى قبله . وقيل : أراد أنه لا نظير له كقوله { هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] وذلك أنه سيداً وحصوراً ولم يعص ولم يهم بمعصية فكأنه جواب لقوله : { واجعله رب رضياً } وأيضاً سمي بيحيى قبل دخوله في الوجود ولد بين شيخ فان وعجوز عاقر فلا نظير له في هذه الخواص .
قال بعض العلماء : القول الأول أظهر لما في الثاني من العدول عن الظاهر ولا يصار إليه لضرورة كما في قوله : { فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سمياً } [ مريم : 65 ] لأنا نعلم أن مجرد كونه تعالى لا سميّ له لا يقتضي عبادته فنقول : السميّ هناك يراد به المثل والنظير . ويمكن أن يقال : إن التفرد بالاسم فيه ضرب من التعظيم فلا ضرورة في الآية أيضاً . قال جار الله : إنما قيل للمثل سميّ لأن كل متشاكلين يسمى كل منهما باسم المثل والشبيه والشكل والنظير ، فكل واحد منهما سمي . قلت : ويقرب هذا من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم . ولم سمي بيحيى؟ تكلفوا له وجوهاً . فعن ابن عباس لأنه تعالى أحيا عقر أمه . وعن قتادة لأنه تعالى أحيا قلبه بالإيمان والطاعة { أو من كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] { إذا دعاكم لما يحييكم } [ الأنفال : 24 ] . ولهذا كان من أول من آمن بعيسى . وقيل : لأنه استشهد والشهداء أحياء . وقيل : لأن الدين أحيى به لأن زكريا سأله لأجل الدين . قوله : { وقد بلغت من الكبر } قال جار الله : أي من أجل الكبر والطعن في السن العالية ف « من » للتعليل ، ويجوز أن تكون للابتداء أي بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى { عتياً } وهو اليبس والجساوة في المفاصل والعظام . يقال : عنا العود عتياً إذا غيره طول الزمان إلى حالة اليبس .
سؤال : إنه قال في آل عمران { وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } [ آل عمران : 40 ] فلم عكس الترتيب في هذه السورة؟ وأجيب بأن الواو لا تفيد الترتيب . قلت : إن ذاك ورد على الأصل وهو تقديم نقص نفسه وههنا راعى الفاصلة . { قال } الأمر { كذلك } تصديقاً له . ثم ابتدأ قائلاً { قال ربك } فمحل { كذلك } رفع ، ويحتمل أن يكون نصباً { قال } وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله : { هو } أي خلق الغلام { عليّ هين } ويحتمل أن يكون إشارة إلى قول زكريا { أنى يكون لي غلام } أي كيف تعطيني الغلام أبأن تجعلني وزوجتي شابين أو بأن تتركنا على الشيخوخة؟ فأجيب بقوله : { كذلك } أي نهب الولد لك مع بقائك وبقاء زوجتك على حالتكما . ولفظ الهين مجاز عن كمال القدرة وهو فيعل من هان الشيء يهون إذا لم يصعب ولم يمتنع عن المراد { ولم تك شيئاً } لأن المعدوم ليس بشيء أو شيئاً بعتد به كالنطفة ، أو كالجواهر التي لم تتألف بعد ، فيه نفس استبعاد زكريا ، لأن خلق الذات ثم تغييرها في أطوار الصفات ليس أهون من تبديل الصفات وهو أحداث القوة المولدة في زكريا وصاحبته بعد أن لم تكن { قال رب اجعل لي آية } قد مر تفسير الآية في أول عمران . قوله : { سوياً } قيل : إنه صفة لليالي أي تامة كاملة . والأكثرون على أنه صفة زكريا أي وأنت سليم الحواس مستوى الخلق ما بك خرس ولا عيّ { فخرج على قومه من المحراب } قيل : كان له موضع ينفرد فيه للصلاة والعبادة ثم ينتقل إلى قومه .
وقيل : كان موضعاً يصلي فيه هو وغيره إلا أنهم كانوا لا يدخلونه للصلاة إلا بإذنه . { فأوحى إليهم } عن مجاهد : أشار بدليل قوله في أول آل عمران { إلا رمزاً } وعن ابن عباس : كتب لهم على الأرض . و { أن } هي المفسرة و { سبحوا } أي صلوا أو على الظاهر وهو قول سبحان الله . عن أبي العالية أن البكرة صلاة الفجر والعشيّ صلاة العصر ، فلعلهم كانوا يصلون معه هاتين الصلاتين في محرابه ، وكان يخرج إليهم ويأذن لهم بلسانه ، فلما اعتقل لسانه خرج إليهم كعادته ففهمهم المقصود بالإشارة أو الكتابة . وههنا إضمار والمراد فبلغ يحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فقلنا له : { يا يحيى خذ الكتاب } أي التوراة لأنها المعهود حينئذ ، ويحتمل أن يكون كتاباً مختصاً به وإن كنا لا نعرفه الآن كقول عيسى { إني عبد الله آتاني الكتاب } [ مريم : 30 ] والمراد بالأخذ إما الأخذ من حيث الحس ، وإما الأخذ من حيث المعنى وهو القيام بمواجبه كما ينبغي وذلك بتحصيل ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمور به والإحجام عن المنهى عنه . ثم أكده بقوله : { بقوة } أي بجد وعزيمة . { وآتيناه الحكم } أي الحكمة . عن ابن عباس : هو فهم التوراة والفقه في الدين ولذلك لما دعاه الصبيان إلى اللعب وهو صبي قال : ما للعب خلقت . وعن معمر : العقل . وقيل : النبوة . وكل هذه الأوصاف على الأقول من الخوارق كما حق عيسى فلا استبعاد إلا من حيث العادة . والحنان أصله توقان النفس ، ثم استعمل في الرحمة وهو المراد ههنا . وما قيل إنه يحتمل أن يراد حناناً منا على زكريا أو على أمة يحيى لا يساعده وجود الواو . وقيل : أراد آتيناه الحكم والحنان على عبادنا كقوله في نبينا { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وأراد بقوله : { وزكاة } أنه مع الإشفاق عليهم كان لا يخل بإقامة ما يجب عليهم لأن الرأفة واللين ربما تورث ترك الواجب ولهذا قال : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله } [ النور : 2 ] ولا يخفى أنه يساعد هذا القول وجود لفظة { من لدنا } وعن عطاء : أن معنى حناناً تعظيماً من لدنا . وعن ابن عباس وقتادة والضحاك وابن جريج : أن معنى زكاة عملاً صالحاً زكياً . وقيل : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكى الشهود . وقيل : بركة كقول عيسى { جعلني مباركاً } وقيل : صدقة أي ينعطف على الناس ويتصدق عليهم .
ثم أخبر محمد صلى الله عليه وسلم عن جملة أحواله بقوله : { وكان تقياً } بحيث لم يعص الله ولا هم بمعصية قط { وبرّاً بوالديه } لأن تعظيم الوالدين تلو تعظيم الله { ولم يكن جباراً عصياً } وذلك أن الزاهد في الدنيا قلما يخلو عن طلب ترفع والرغبة في احترام ، فذكر أنه مع غاية زهده كان موصوفاً بالتواضع للخلق وتحقيق العبودية للحق .
قال سفيان : الجبار الذي يقتل عند الغضب دليله قوله : { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض } [ القصص : 19 ] ثم إنه سبحانه سلم عليه في ثلاثة مواطن هي أوحش المواطن وأحوجها إلى طلب السلامة فيها ، ويحتمل أن يكون هذا السلام من الملائكة عليه إلا أنه لما كان بإذن الله كان كلام الله ، وقيل : إنما قال : { حياً } مع أن المبعوث هو المعاد إلى حال الحياة تنبيهاً على كونه من الشهداء وهم أحياء إلا أنه يشكل بما يجيء في قصة عيسى { ويوم أبعث حياً } [ مريم : 33 ] وذلك أنه ورد في الأخبار أن عيسى سيموت بعد النزول . والظاهر أنه أراد ويوم يجعل حياً فوضع الأخص موضع الأعم تأكيداً . قيل : السلام عليه يوم ولد لا بد أن يكون تفضلاً من الله تعالى لأنه لم يتقدم منه عمل يجزى عليه ، وأما الآخران فيجوز أن يكونا لأجل الثواب . قلت : أكثر أموره خارق للعادة ، فيحتمل أن يوجد منه في بطن أمه عمل يستحق الثواب كما يحكى أن أمه قالت لمريم وهما حاملان : إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك .
التأويل : إن زكريا الروح { نادى ربه نداء خفياً } من سر السر { قال رب إني وهن } مني عظم الروحانية واشتعل شيب صفات البشرية ، وإني خفت صفات النفس أن تغلب { وكانت امرأتي } يعني الجثة التي هي روح الروح { عاقراً } لا تلد إلا بموهبة من الله { فهب لي من لدنك } سأل { ولياً } فأعطاه الله نبياً وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني فإنه ولد الروح والنفس أعدى عدوه { يرثني ويرث من آل يعقوب } أي يتصف بصفة الروح وجميع الصفات الروحانية { واجعله رب رضياً } بأن توطنه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره { ولسوف يعطيك ربك فترضى } [ الضحى : 5 ] { اسمه يحيى } إن الله أحياه بنوره { ولم نجعل له من قبل سمياً } لا من الحيوانات ولا من الملائكة لأنه هو الذي يقبل فيض الألوهية بلا واسطة ، وهو سر حمل الأمانة كما قال : « ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن » { وقد بلغت من الكبر } أي بسبب طول زمان تعلق القلب بالقالب { عتياً } يبساً وجفافاً من غلبات صفات النفس { آيتك أن لا تكلم الناس } لا تخاطب إلا الله ولا تلتفت إلى ما سواه { ثلاث ليال } هي ثلاث مراتب الجماديات والحيوانيات والروحانيات { سوياً } متمكناً في هذا الحال من غير تلون { فخرج } زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته ، فأشار إليهم أن كونوا متوجهين إلى الله معرضين عما سواه آناء الليل وأطراف النهار بل بكرة الأزل وعشيّ الأبد { يا يحيى } القلب { خذ } كتاب الفيض الإلهي المكتوب لك في الأزل { بقوة } ربانية لا بقوة جسدانية لأنه خلق ضعيفاً { وآتيناه الحكم } في صباه إذ خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره { زكاة } وتطهراً من الالتفات إلى غيرنا { وبراً بوالديه } الروح والقالب .
أما البروح فلأن القلب محل قبول الفيض الإلهي لأن الفيض نصيب الروح أوّلاً ولكن لا يمسكه لغاية لطافته كما أن الهواء الصافي لا يقبل الضوء وينفذ فيه ، وأما القلب ففيه صفاء وكثافة فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه ، وهذا أحد أسرار حمل الأمانة . وأما بر والدة القلب فهو استعمالها على وفق الشريعة والطريقة { ولم يكن جباراً عصياً } كالنفس الأمارة بالسوء { وسلام عليه يوم يولد } في أصل خلقه { ويوم يموت } من استعمال المعاصي بالتوبة { ويوم يبعث حياً } بالتربية والترقي إلى مقام السلامة الله حسبي .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23) فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
القراآت : { إني أعوذ } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { ليهب لك } على الغيبة : أبو عمرو ويعقوب وورش والحلواني عن قالون وحمزة في الوقف . الآخرون { لأهب } على التكلم { نسياً } بفتح النون : حمزة وحفص . الباقون بكسرها . { من تحتها } بكسر الميم على أنه حرف جر وبجر التاء الثانية : أبو جعفر ونافع وسهل وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقونه بفتحهما على أن « من » موصولة والظرف صلتها { تساقط } بحذف تاء التفاعل : علي وحمزة والخزاز عن هبيرة . { تساقط } من المفاعلة : حفص غير الخزاز { يساقط } بياء الغيبة ، وعلى أن الضمير للجذع وبإدغام التاء في السين : سهل ويعقوب ونصير وحماد . الباقون مثله ولكن بتاء التأنيث على أن الضمير للنخلة { آتاني الكتاب } ممالة مفتوحة الياء : عليّ . وقرأ حمزة مرسلة الياء مفخمة في الوصل ممالة في الوقف . { وأوصاني } بالإمالة : علي { قول الحق } بالنصب : ابن عامر وعاصم ويعقوب . { وإن الله } بكسر الهمزة : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وروح والمعدل عن زيد .
الوقوف : { مريم } لا ليصير « إذ » ظرفاً لأذكر { شرقياً } لا للعطف { زكياً } 5 { بغياً } 5 { كذلك } ط لما مر { هين } ج لجواز كون الواو مقحمة أو معلقة بمحذوف كما يجيء { منا } ج لاختلاف الجملتين { مقضياً } 5 { قصياً } 5 { النخلة } ج لترتب الماضي من غير عاطف والأولى أن يكون استئنافاً { منسياً } 5 { سرياً } 5 { جنياً } 5 ز { عيناً } 5 ج للشرط مع الفاء { أحداً } لا لأن ما بعده جواب الشرط { نسياً } 5 ج للعطف مع الآية { تحمله } ط { فرياً } 5 { بغياً } 5 ج { إليه } ج { صبياً } 5 { عبد الله } ط لأن الجملة لا تقع صفة للمعرفة . ويمكن أن يجعل معنى التحقيق في « إن » عاملاً فيكون حالاً فلا يوقف { أينما كنت } ص لطول الكلام { حياً } ص 5 لذلك والوصل أولى لأن قوله { وبراً } معطوف على قوله { مباركاً } . { بوالدتي } ج لتبدل الكلام من الإثبات إلى النفي { شقياً } ، { حياً } 5 ، { عيسى ابن مريم } ج على القراءتين لاحتمال أن يراد أقول قول الحق وأن يجعل حالاً ، وأما في قراءة الرفع فإما أن يكون بدلاً من عيسى أو يكون التقدير هو قول الحق { يمترون } 5 ، { من ولد } 5 استعجالاً للتنزيه { سبحانه } ط { فيكون } 5 ط لمن قرأ { وأن } بالكسر { فاعبدوه } ط { مستقيم } ، 5 { من بينهم } ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء { عظيم } 5 { وأبصر } لا لأن ما بعده ظرف للتعجب { مبين } 5 وسمعت عن مشايخي رحمهم الله أن الوقف على قوله { قضى الأمر } لازم لا أقل من المطلوب لأن ما بعده جملة مستأنفة ولو وصل لأوهم أن يكون حالاً من القضاء وليس كذلك { لا يؤمنون } ، 5 { يرجعون } 5 .
التفسير : هذا شروع في ابتداء خلق عيسى ولا ريب أن خلق الولد بين شيخين فانيين أقرب إلى مناهج العادات من تخليق الولد من غير أب ، فلهذا أخرت قصة عيسى عن قصة يحيى ترقياً من باب التفهم من الأدنى إلى الأعلى . وقوله « إذ » بدل الاشتمال من مريم لأن الأزمان مشتملة على ما فيها ، وفي هذا الإبدال تفخيم لشأن الوقت كوقوع قصتها العجيبة فيه . والانتباه « افتعال » من النبذ الطرح كأنها ألقت نفسها إلى جانب معتزلة عن الناس في مكان يلي شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها . قال ابن عباس : من ههنا اتخذت النصارى المشرق قبلة { فاتخذت من دونهم حجاباً } لا بد لهذا الاحتجاب من غرض صحيح فمن المفسرين من قال : إنها لما رأت الحيض تباعدت عن مكانها المعتاد لكي تنتظر الطهر فتغتسل وتعود ، فلما طهرت جاء جبريل عليه السلام ، وقيل : طلبت الخلوة لأجل العبادة . وقيل : في مشربة للاغتسال من الحيض محتجبة بحائط أو شيء يسترها . وقيل : كانت في منزل زوج أختها زكريا ولها محراب على حدة تسكنه ، وكان زكريا إذا خرج أغلق عليها بابها فتمنت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي رأسها ، فانفجر السقف لها فخرجت وجلست في المشرفة وراء الجبل فأتاها الملك وذلك قوله : { فأرسلنا إليها روحنا } يعني جبرائيل لأن الدين يحيا به وبوحيه ، والإضافة للتشريف والتسمية مجاز كما تقول لمن تحبه إنه روحي { فتمثل لها } حال كونه { بشراً سوياً } تام الخلق أو حسن الصورة . وإنما مثل لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ، وتدرع الروحاني كجبريل مثلاُ تارة بالهيكل العظيم وأخرى بالصغير غير مستبعد ، والذين اعتقدوا أن جبرائيل جسماني جوزوا أن يكون له أجزاء أصلية قليلة وأجزاء فاضلة ، فبتلك الأجزاء الأصلية يكون متمكناً من التشبه بصورة الإنسان ، ولندرة أمثال هذه الأمور لا يلزم منها قدح في العلوم العادية المستندة إلى الإحساس . فلا يلزم الشك في أن زيداً الذي نشاهده الآن هو الذي شاهدناه بالأمس . قوله : { إن كنت تقياً } أي إن كان يرجى منك أن تتقي الله وترجع بالاستعاذة به فإني عائذة به منك . وقيل : إنه كان في ذلك العصر إنسان فاجر اسمه تقي وكان يتتبع النساء فظننت أن ذلك المتمثل هو ذلك الشخص فاستعاذت بالله . وقيل : « إن » نافية أي ما كنت تقياً حين استحللت النظر إلي وخلوت بي . وحين علم جبريل خوفها { قال إنما أنا رسول ربك } أرسلني { لأهب لك } أو ليهب لك { غلاماً زكياً } طاهراً من الذنوب ينمو على النزاهة والعفة . وكيف زال خوفها بمجرد القيل؟ احتمل أن يكون قد ظهر لها معجزة من جهة زكريا أو إرهاصاً لعيسى أو إلهاماً من الله سبحانه .
وهل تقدر الملائكة على تركيب الأجزاء وخلق الحياة والنطق حتى صح قول جبرائيل { لأهب لك } ؟ قال : اجتمعت الأمة على أن لا قدرة للأجسام على إيجاد الجواهر وإعدامها وإلا فلا استبعاد في تأثير بعض الأجسام في بعضها الخاصية خصها الله بها . ووجه صحة هذه القراءة أن جبرائيل صار سبباً في الهبة بالنفخ في الدرع .
{ قالت } استغراباً من حيث العادة لا تشكيكاً في قدرة الله { أنى يكون لي غلام } ولم تقل ههنا « رب » إما لأنها تخاطب جبرائيل ، وإما اكتفاء بما سلف في آل عمران { ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا } هي الفاجرة التي تبغي الرجال . عن المبرد أن أصله يغوى على « فعول » قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة . وعن ابن جنى أنه « فعيل » وإلا لقيل بغو كنهو عن المنكر خصصت بعدما عممت لزيادة الاعتبار بهذا الخزي تبرئة لساحتها عن الفحشاء . ولما جرى في أول القصة من تمثل جبرائيل لها بصورة البشر حتى ظنت أنه يريدها بسوء فاستعاذت بالرحمن منه بخلاف هذه القصة في آل عمران . فإنها بنيت على الأمن والبشارة بقوله : { وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك } [ آل عمران : 45 ] فلم تحتج إلى هذه الزيادة . وقال جار الله : المس عبارة عن النكاح الحلال لأنه كناية عنه في قوله : { من قبل أن تمسوهن } [ البقرة : 237 ] { أو لمستم النساء } [ النساء : 43 ] وإنما يقال في الزنا « فجر بها » و « خبث بها » ونحو ذلك ولا يليق به الكنايات والآداب . قلت لو سلم هذا من حيث اللغة إلا أنه لا بد لزيادة قوله : { ولم أك بغياً } في هذا المقام من فائدة وقد عرفت ما سنح لنا والله أعلم . { قال كذا قال ربك هو عليّ هين } تفسيره كما مر في قصة زكريا { ولنجعله } أي ولنجعل الغلام أو خلقه { آية للناس } يستدل بها على كمال اقتدارنا على إبداع الغرائب فعلنا ذلك ، ويجوز أن يكون معطوفاً على تعليل مضمر يتعلق بما يدل عليه { هين } أي تخلقه لنبين به قدرتنا { ولنجعله آية } وقد مر مثل هذا في قوله : { وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه } [ يوسف : 21 ] { ورحمة منا } على عبادنا لأن كل نبي رحمة لأمته فبه يهدون إلى صلاح الدارين { وكان أمراً مقضياً } مقدراً في اللوح أو أمراً حقيقاً بأن يقضي به لكونه آية ورحمة ، وهذا مبني على أن رعاية الأصلح واجبة على الله . وههنا إضمار قال ابن عباس : فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملت . وقيل : في ذيلها فوصلت إلى الفرج . وقيل : في فمها . وقيل : إن النافخ هو الله كقوله { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] وعلى هذا يقع تقديم ذكر جبرائيل كالضائع ولا سيما في قراءة من قرأ { لأهب لك } قيل : حملته وهي بنت ثلاث عشرة سنة .
وقيل : بنت عشرين وقد حاضت حيضتين قبل أن تحمل . وكم مدة حملها؟ عن ابن عباس في رواية تسعة أشهر كما في سائر النساء لأنها لو كانت مخالفة لهن في هذه العادة لناسب أن يذكرها الله تعالى في أثناء مدائحها . وقيل : ثمانية أشهر ولم يعش مولود لثمانية إلا عيسى . قال أهل التنجيم : إنما لا يعيش لأنه يعود إلى تربية القمر وهو مغير معفن بسرعة حركته وغلبة التبريد والترطيب عليه . وعن عطاء وأبي العالية والضحاك : سبعة أشهر . وقيل : ستة أشهر . وقيل : حملته في ساعة وصور في ساعة ووضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها . وعن ابن عباس في رواية أخرى : كما حملته نبذته لقوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله } إلى قوله : { كن فيكون } [ آل عمران : 59 ] ولفاآت التعقيب في قوله : { فحملته فانتبذت به مكاناً قصياً فأجاءها المخاض } وعلى هذا فالمكان القصي هو أقصى الدار أو وراء الجبل بعيداً من أهلها . ومعنى انتبذت به اعتزلت متلبسة به وهو في بطنها . وقصى مبالغة قاص . وروى الثعلبي عن وهب قال : إن مريم لما حملت فأول من عرف هو يوسف النجار ابن عمها و كانت سميت له ، وكانا يخدمان المسجد ولا يعلم من أهل زمانهما أكثر عبادة وصلاحاً منهما . فقال لها : إنه وقع في نفسي من أمرك شيء ولا أحب أن أكتمه عنك . فقالت : قل قولاً جميلاً . فقال : أخبريني يا مريم هل نبت زرع بغير بذر؟ قالت : نعم . ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر! أو تقول : إن الله لا يقدر على الإنبات حتى يستعين بالماء ، ألم تعلم أن الله تعالى خلق آدم وامرأته من غير ذكر ولا أنثى! فقال يوسف : لا أقول هذا ولكني أقول : إن الله قادر على ما يشاء ، وزالت التهمة عن قلبه وكان ينوب عنها في خدمة المسجد لضيق قلبها واستيلاء الضعف عليها من الحمل . فحين دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك لئلا يقتلوا ولدك ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، فلما بلغت تلك الدار أدركها النفاس فألجأها إلى أصل نخلة . قال جار الله : منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . لا يقال : جئت المكان وأجاءنيه زيد كما يقال بلغته وأبلغنيه ، ونظيره « آتى » حيث لم يستعمل إلا في الإعطاء ولم يقل « أتيت المكان وآتانيه فلان » . قلت : حاصله تخصيص باء التعدية بعد تعميم و { المخاض } بفتح الميم وجع الولادة . قال الجوهري : مخضت الناقة بالكسر مخاضاً مثل سمع سماعاً . قيل : طلبت الجذع لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة .
يروى أنه كان جذعاً لنخلة يابسة في الصحراء ليس لها رأس ولا ثمرة خضرة ، وكان الوقت شتاء والتعريف إما كتعريف النجم والصعق لكون ذلك الجذع مشهوراً هناك ، وإما للجنس أي جذع هذه الشجرة خاصة أرشدت إليها لتطعم منها الرطب الذي هو خرسة النفساء أي طعامها الموافق لها ، ولأن النخلة أقل الأشياء صبراً على البرد ولا تثمر إلا باللقاح فكان ظهور ذلك الرطب من ذلك الجذع في الشتاء من دون لقاح وإبار دليلاً على حصول الولد من غير ذكر قال في الكشاف : النسي اسم ما من حقه أن يطرح وينسى كخرقة الطامث ونحوها ، ونظير الذبح لما من شأنه أن يذبح . وعن يونس : أن العرب إذا ارتحلوا قالوا : انظروا أنساءكم يعنون العصا والقدح والشظاظ ونحوها . تمنت لو كانت شيئاً يعبأ به فحقه أن ينسى في العادة .
ومعنى { منسياً } أنه قد نسي وطرح فوجد فيه النسيان الذي هو حقه . وإنما تمنت ذلك لما لحقها من فرط الحياء والخجل ، أو لأنهم بهتوا وهي عارفة ببراءة ساحتها فشق ذلك عليها ، أو لخوفها على الناس أن يعصوا الله بسببها . ومن قرأ { نسياً } بالفتح فقد قال الفراء : هما لغتان كالوتر والوتر . ويجوز أن يكون تسمية بالمصدر كالحمل . وقرىء { نسأ } بالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه أهله لقلته ونزارته { فناداها من تحتها } الذي هو تحتها أو إنسان تحتها يعني جبريل بناء على أنه كان يقبل الولد كالقابلة ، أو أراد أسفل من مكانها لأن مريم كانت أقرب إلى الشجرة منه ، أو كان جبريل تحت الأكمة وهي فوقها فصاح بها لا تحزني . وعن الحسن وسعيد بن جبير أن المراد به عيسى لأن ذكر عيسى أقرب ، ولأن موضع اللوث لا يليق بالملك ، ولأن الصلة يجب أن تكون معلومة للسامع والذي علم كونه حاصلاً تحتها هو الولد ويجري القولان فيمن قرأ بكسر الميم . وعن عكرمة وقتادة أن الضمير في تحتها للنخلة . قوله : { سرياً } جمهور المفسرين على أن السريّ هو الجدول . وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم سمي بذلك لأن الماء يسري فيه . وقيل : هو من السر ومعناه سخاء في مروءة : ويقال : فلان من سروات قومه أي من أشرافهم . وجمع السري سراة وجمع سراة سروات . عن الحسن : كان والله عبداً سرياً حجة هذا القائل أن النهر لا يكون تحتها بل إلى جنبها ولا يمكن أن يقال : المراد أن النهر تحت أمرها يجري بأمرها ويقف بأمرها كما في قوله : { وهذه الأنهار تجري من تحتي } [ الزخرف : 51 ] لأنه خلاف الظاهر . وأجيب بأن المكان المستوي إذا كان فيه مبدأ معين فكل من كان أقرب منه كان فوق . وكل من كان أبعد منه كان تحت . وأراد أن النهر تحت الأكمة وهي فوقها . وأيضاً حمل السري على النهر موافق قوله :
{ واويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين } [ المؤمنون : 50 ] وقوله : { فكلي واشربي } يروى أن جبريل ضرب برجله فظهر ماء عذب . وقيل : كان هناك ماء جار ، والأول أقرب لأن قوله { قد جعل ربك } مشعر بالأحداث في ذلك الوقت . قال القفال : الجذع من النخلة هو الأسفل وما دون الرأس الذي عليه الثمرة . وقال قطرب : كل خشبة في أصل شجرة هي جذع ، والباء في قوله : { بجذع النخلة } كالزائد لأن العرب تقول هزة وهز به والمعنى حركي جذع النخلة أو افعلي الهز به . و { رطباً } تمييز ومفعول تساقط على حسب القراآت اللازمة والمتعدية . وعن الأخفش المراد جواز انتصابه ب { هزي } أي هزي إليك رطباً جنياً بجذع النخلة أي على جذعها . والجني المأخوذ طرياً . والظاهر أنه ما أثمر إلا الرطب وقد صار نخلاً . وقيل : إنه كان على حاله وإنه أثمر مع الرطب غيره . قالوا : إذا عسر ولادة المرأة لم يكن لها خير من الرطب ، والتمر للنفساء عادة من ذلك الوقت وكذا التحنيك . والمراد أنه جمع لها فائدتان في السري والرطب : إحداهما الأكل والشرب وقدم الأكل مع أن ذكر السري مقدم لأن احتياج النفساء إلى أكل الرطب أشد من احتياجها إلى شرب الماء لكثرة ما سال من الدماء ، والثانية سلوة الصدر لكونهما معجزين لزكريا أو إرهاصاً لعيسى أو كرامتين لمريم وأشار إلى هذه بقوله : { وقري عيناً } لأن قرّة العين تلزم قوة القلب والتسلي من الهموم والأحزان .
وقيل : إن ألم النفس أشد من ألم البدن ، فلم قدم دفع ألم البدن على دفع ألم القلب؟ وأجيب بأن الخوف النفسي كان قليلاً لتقدم بشارة جبريل فكان التذكر كافياً { فإما ترين } أصله ترأيين مثل تسمعين خففت الهمزة وسقطت نون الإعراب للجزم ثم ياء الضمير للساكنين وذلك بعد لحوق نون التأكيد وقد مر في قوله : { وما يبلغن عندك الكبر } [ الإسراء : 23 ] إذاً لتأكيد هذه الصورة يقصد به أن الشرط مما سيقع غالباً فإن مريم لا بد أن ترى أحداً من البشر عادة . عن أنس بن مالك : الصوم هنا الصمت . وعن ابن عباس مثله . وقال أبو عبيدة : كان ممسك عن طعام أو كلام أو سير فهو صائم . وقيل : أراد الصيام إلا أنهم كانوا لا يتكلمون في صيامهم . قال القفال : لعل مثل هذا النذر يجوز في شرعنا لأن الاحتراز عن كلام البشر يجرد الفكر لذكر الله تعالى وهو قربة ، ولعله لا يجوز لما فيه من التضييق والتشديد ولا حرج في الإسلام . وفي الكشاف : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الصمت . وروي أنه دخل أبو بكر الصديق على امرأة وقد نذرت أنها لا تتكلم فقال أبو بكر : إن الإسلام هدم هذا فتكلمي . وفي أمرها بهذا النذر معنيان : أحدهما أن كلام عيسى أقوى في إزالة التهمة وفيه أن تفويض الأمر إلى الأفضل أولى ، والثاني أن السكوت عن جدال السفهاء أصون للعرض ومن أذل الناس سفيه لم يجد مشافهاً .
وكيف أخبرتهم بالنذر؟ قيل : بالإشارة وإلا لزم النقض . وقيل : خص هذا الكلام بالقرينة العقلية . وقوله : { إنسياً } أراد المبالغة في نفي الكلام أو أراد أني أكلم الملائكة دون الإنس وهذا أشبه بقوله : { فإما ترين من البشر } . { فأتت به } أي بعيسى { قومها تحمله } الجملة حال . عن وهب : قال أنساها كربة الميلاد وما سمعت من الناس ما كان من بشارة الملائكة ، فلما كلمها جاءها مصداق ذلك فاحتملته فأقبلت به إلى قومها . وعن ابن عباس : أن يوسف النجار انتهى بمريم إلى غار فلبثوا فيه أربعين يوماً حتى طهرت من نفاسها ، ثم جاءت تحمله فكلمها عيسى في الطريق فقال : يا أماه أبشري فإني عبد الله ومسيحه . فلما دخلت به على قومها تباركوا وقالوا : { لقد جئت شيئاً فرياً } بديعاً من فرى الجلد ، وليس في هذا ما يوجب تعييراً أو ذماً لأن أمرها كان خارجاً عن المعتاد ، ويحتمل أن يراد إنه أمر منكر خارج عن طريق العفة والصلاح فيكون توبيخاً ويؤكده قولهم : { يأخت هرون } الآية .
واختلفوا في هارون فقيل : كان أخاها من أبيها من أمثل بين إسرائيل وهذا أظهر لأن حمل اللفظ على الحقيقة أولى من غيره . وقيل : يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم عنوا هارون النبي أخا موسى عليهما السلام وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة وبينهما ألف سنة وأكثر . وعن السدي : كانت من أولاده والمراد أنها واحدة منهم كما يقال يا أخا همدان أي يا واحداً منهم . وقيل : أرادوا رجلاً صالحاً في زمانها أي كنت عندنا مثله في الصلاح . ويحكى أنه تبع جنازته أربعون ألفاً كلهم يسمى هارون تبركاً به وباسمه . وقيل : كان رجلاً طالحاً معلناً بالفسق فسموها به وبالتشبيه بسيرته . ويروى أنهم هموا برجمها { فأشارت إليه } أي أن عيسى هو الذي يحكم . وبم عرفت ذلك؟ إما بأن كلمها في الطريق أو بالإلهام أو بالوحي إلى زكريا أبو بقول جبريل على أن أمرها بالسكوت بعد ما سبق من البشارة قيل : كان المستنطق لعيسى زكريا . وعن السدي . لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا من زناهم ثم { قالوا كيف نكلم من كان في المهد } قال جار الله : « كان » لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماضٍ مبهم يصلح للقريب والبعيد ، وههنا للزمان القريب عن الحال بدلالة الحال ، أو هو حكاية حال ماضية أي كيف عهد قبل عيسى أن يكلم الناس { صبياً } في المهد حتى تكلم هذا ، ويحتمل أن يقال : « كان » زائدة نظراً إلى أصل المعنى وإن كان يفيد زيادة ارتباط مع رعاية الفاصلة ، أو هي تامة { صبياً } حال مؤكدة .
ويرى أنه كان يرضع فلما سمع مقالتهم ترك الرضاع وأقبل عليهم بوجهه وتكلم مع جاره وأشار بسبابته قائلا : { إني عبد الله } فكان فيه أوّلاً رد قول النصارى : { آتاني الكتاب } هو الإنجيل والتوراة أي فهمها . وقيل : أكلم الله عقله واستنبأه طفلاً بل في بطن أمه . وقيل : أراد أنه سبق في قضائه ، أو جعل الآتي لا محالة كأنه قد وجد والأول أظهر وصغر الجسم لا مدح في كمال العقل وخرق العادة فيه أكذا قالوا إن كمال عقله في ذلك الوقت خارق للعادة . فيكون المعجز متقدماً على التحدي وهو غير جائز ولو كان نبياً في ذلك الوقت وجب أن يشتغل ببيان الشرائع والأحكام ولو وقع ذلك لاشتهر ونقل . والجواب أن بعض معجزات النبي لا بد أن يكون مقروناً بالتحدي ، أما الكل فممنوع ، وبعبارة أخرى لا بد أن يكون مقروناً بفعل خارق عن العادة ، ولكن كل فعل خارق للعادة فإنه لا يلزم اقترانه بالتحدي ، وكذا الكلام في بيان الشرائع فإن بعض أوقات النبي لا بد أن يقترن به التحدي دون كل أوقاته وحالاته ، على أنه أشار إلى بعض التكاليف بقوله : { وأوصاني بالصلاة والزكاة } كما يجيء . وعن بعضهم أنه كان نبياً لقوله : { وجعلني نبياً } ولكنه ما كان رسولاً لأنه ما جاء بالشريعة في ذلك الوقت ومعنى كونه نبياً أنه رفيع القدر عليّ الدرجة ، وضعف بأن النبي في عرف الشرع أخص من ذلك . ومعنى قوله : { مباركاً أينما كنت } نفاعاً حيثما كنت روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل معلماً للخير ، وضلال كثير من أهل الكتاب باختلافهم فيه لا يقدح في منصبه كما قيل :
عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر
وهذه سنة الله في أنبيائه ورسله كلهم { وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّاً } [ الفرقان : 31 ] يروى أن مريم سلمت عيسى إلى المكتب فقالت للمعلم . أدفعه إليك على أن لا تضربه فقال له : اكتب . فقال له : أي شيء أكتب؟ فقال : اكتب « أبجد » فقال : لا أكتب شيئاً لا أدري . ثم قال : إن لم تعلم ما هو فأنا أعلمك . الألف من آلاء الله ، والباء من بهاء الله والجيم من جمال الله ، والدال من أداء الحق إلى الله . وقيل : البركة أصلها من بروك البعير والمعنى جعلني ثابتاً في دين الله مستقراً فيه . وقيل : البركة هي الزيادة والعلو فكأنه قال : جعلني في جميع الأشياء غالباً منجحاً إلى أن يكرمني الله بالرفع إلى السماء عن قتادة أنه رأته امرأة وهو يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص فقالت : طوبى لبطن حملتك وثدي أرضعت به . فقال عيسى عليه السلام مجيباً لها : طوبى لمن تلا كتاب الله واتبع ما فيه ولم يك جباراً شقياً .
{ وأوصاني بالصلاة والزكاة } أي بأدائهما إما في وقتهما المعين وهو وقت البلوغ ، وإما في الحال بناء على أنه كان مع صغره كامل العقل تام التركيب بحيث يقوى على أداء التكاليف ويؤيده قوله { ما دمت حياً } وقيل : الزكاة ههنا صدقة الفطر . وقيل : تطهير البدن البدن من دنس الآثام . وقيل : أوصاني بأن آمركم بهما . وفي قوله : { وبراً بوالدتي } دلالة وإشارة إلى تبرئة أمه من الزنا وإلا لم يكن الرسول المعصوم مأموراً بالبر بها . قال بعض العلماء : لا تجد العاق إلا جباراً شقياً وتلا قوله : { وبراً بوالدتي } { ولم يجعلني جباراً شقياً } ولا تجد سيىء الملكة إلا مختالاً فخوراً . وقرأ { وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً } [ النساء : 36 ] وإنما نفى عن عيسى الشقاوة ولم ينف عنه المعصية كما نفى عن يحيى لما جاء في الخبر « ما أحد من بني آدم إلا أذنب أو هم بذنب إلا يحيى بن زكريا » ومن عقائد أهل السنة أن الأنبياء معصومون عن الكبائر دون الصغائر . قوله : { والسلام عليّ } قالت العلماء : إنما عرف السلام ههنا بعد تنكيره في قصة يحيى لأن النكرة إذا تكررت تعرفت على أن تعريف الجنس قريب من تنكيره . وقيل : إن الأول من الله والقليل عنه كثير .
قليل منك يكفيني ... قليلك لا يقال له قليل
وإني لأرضى منك يا هند بالذي ... لو أبصره الواشي لفرت بلابله
بلا وبأن لا أستطيع وبالمنى ... وبالوعد حتى يسأم الوعد آمله
والثاني من عيسى والكثير منه لا يبلغ معشار سلام الله . عن بعضهم أن عيسى عليه السلام قال ليحيى : أنت خير مني سلم الله عليك وسلمت على نفسي . وأجاب الحسن بأن تسليمه على نفسه هو تسليم الله عليه . وقال جار الله : في هذا التعريف تعريض باللعنة على متهمي مريم وأعدائها من اليهود لأنه إذا زعم أن جنس السلام خاصته فقد عرض بأن ضده عليهم نظيره في قصة موسى { والسلام على من اتبع الهدى } [ طه : 47 ] يعني أن العذاب على من كذب وتولى . يروى أنه كلمهم بهذه الكلمات ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان . وعن اليهود والنصارى أنهم أنكروا تكلم عيسى في المهد قائلين إن هذه الواقعة مما يتوفر الدواعي على نقلها ، فلو وجدت لاشتهرت وتواترت مع شدة غلو النصارى فيه وفي مناقبه . وأيضاً إن اليهود مع شدة عداوتهم له لو سمعوا كلامه في المهد بالغوا في قتله ودفعه في طفوليته . وأجاب المسلمون من حيث العقل بأنه لولا كلامه الذي دلهم على براءتها من الذي قذفوها به لأقاموا عليها الحد ولم يتركوها ، ولعل حاضري يشتغلوا وقتئذ بدفعه والله أعلم . { ذلك } الموصوف بالصفات المذكورة من قوله : { إني عبد الله } إلى آخره هو { عيسى ابن مريم } وفي كونه ابن لهذه المرأة نفى كونه ابناً على ما زعمت الضالة وأكد هذا المعنى بقوله : { قول الحق } فإن كان الحق هو اسم الله فهو كقوله : « كلمة الله » وانتصابه على المدح ، وإن كان بمعنى الثابت والصدق فانتصابه على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة كقولك « هو عبد الله الحق » و { قول الحق } من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل
{ حق اليقين } [ الواقعة : 95 ] قد مر آنفاً . وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر ، أو بدل ، أو خبر مبتدأ محذوف . ومعنى { تمترون } تشكون من المرية الشك ، أو المراد يتمارون من المراء اللجاج وذلك أن اليهود قالوا : ساحر كذاب ، وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة .
ثم صرح ببطلان معتقدم فقال : { ما كان الله } ما صح له وما استقام { أن يتخذ من ولده } كما لا يستقيم أن يكون له شريك ، وقد مر مثل هذه الآية في سورة البقرة . والذي نزيده ههنا أن بعضهم قال : معنى الآية ما كان لله أن يقول لأحد إنه ولدي لأن هذا الخبر كذب والكذب لا يليق بحكمته تعالى . وزعم الجبائي بناء على هذا التفسير أنه ليس لله أن يفعل كل شيء لأن قوله : { ما كان لله أن يتخذ من ولد } كقولنا « ما كان لله أن يظلم » فلا يليق شيء منها بحكمته وكمال إلهيته . وأجيب بأن الكذب على الله محال ، والظلم تصرف في ملك الغير فلا يتصوّر في حقه . فإن أردتم هذا المعنى فلا نزاع ، وإن أردتم شيئاً آخر فما الدليل على استحالته؟! احتج بعض الأشاعرة بالآية على قدم كلام الله لأن قوله : { كن } إن كان قديماً فهو المطلوب ، وإن كان محدثاً احتاج في حدوثه إلى قوله آخر وتسلسل . واستدلت المعتزلة بها على حدوث كلامه قالوا : إن قوله : { إذا قضى } للاستقبال وذلك القول متأخر عن القضاء المحدث ، والمتأخر عن المحدث محدث . وأيضاً الفاء في { فيكون } للتعقيب والقول متقدم عليه بلا فصل ، والمتقدم على المحدث بزمان قليل محدث ، وكلا الاستدلالين ضعيف لأنه لا نزاع في حدوث الحروف وإنما النزاع في كلام النفس . وأيضاً قوله : { كن } عبارة عن نفاذ قدرته ومشيئته وإلا فليس ثم قول لأن الخطاب مع المعدوم عبث ومع الموجود تحصيل الحاصل . ومن الناس من زعم أن المراد من قوله : { كن } هو صفة التكوين فإنها زائدة على صفة القدرة لأنه قادر على عوالم أخر سوى هذا وغير مكون لها ، ولعل هذا الزاعم سمى تعلق القدرة بالمقدور تكويناً . ومن قرأ { وأن الله } بالفتح فمعناه ولأن الله { ربي وربكم فاعبدون } وفيه أن الربوبية هي سبب العبادة فمن لم تصح ربوبيته لم يستحق أن يعبد ، ولا رب بالحقيقة إلا الله لانتهاء جميع الوسائط والأسباب إليه ، فلا يستحق العبادة إلا هو .
وههنا نكنة هي أن الله تعالى لا يصح أن يقول : { إن الله ربي وربكم فاعبدوه } فالتقدير قل : يا محمد بعد إظهار البراهين الباهرة على أن عيسى عبد الله { إن الله ربي وربكم } قال أبو مسلم الأصفهاني : إنه من تتمة كلام عيسى وما بينهما اعتراض . وعن وهب بن منبه : عهد إليهم حين أخبرهم عن حاله وصفته أن كلنا عبيد الله تعالى { فاختلف الأحزاب من بينهم } أي من بين أهل الكتاب . قال الكلبي : هم اليهود والنصارى . وقيل : النصارى اختلفوا ثم اتفقوا على أن يرجعوا إلى علماء زمانهم وهم يعقوب ونسطور وملكا فقيل للأول : ما تقول في عيسى؟ فقال : هو الله هبط إلى الأرض فخلق وأحيا ثم صعد إلى السماء فتبعه على ذلك خلق كثير وهم اليعقوبية . وسئل الثاني فقال : هو ابن الله فتابعه جم غفير وهم النسطورية ، وسئل الثالث فقال : كذبوا وإنما كان عبداً مخلوقاً نبياً يطعم وينام فصارا خصمه وهو المؤمن المسلم . وقيل : كانوا أربعة والرابع اسمه إسرائيل فقال : هو إله وأمه إله والثلاثة أقانيم والروح واحد . واعلم أن بحث الحلول والاتحاد فيه طول وقد ينجر الكلام فيه إلى مقامات يصعب الترقي إليها ، فلذلك ضل فيه من ضل وزل عنه من زل والله سبحانه أعلى من جميع ذلك وأجل { فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم } أي من شهودهم هذا الجزاء والحساب في ذلك اليوم ، أو من زمان شهودهم ، أو من مكان شهودهم فيه وهو الموقف . ويحتمل أن يكون المشهد ومن الشهادة أي من يشهد عليهم الملائكة والأنبياء أو جوارحهم فيه بالكفر والقبائح ، أو من مكان الشهادة أو وقتها . وقيل : هو ما قالوه وشهدوا به في عيسى وأمه يوم ولادته . ومعنى « من » التعليل أي الويل لهم من أجل المشهد وبسببه قال أهل البرهان : إنما قال ههنا { فويل للذين كفروا } وفي حم الزخرف { فويل للذين ظلموا } [ الآية : 65 ] لأن الكفر أبلغ من الظلم ، وقصة عيسى في هذه السورة مشروحة وفيها ذكر نسبتهم إياه إلى الله حتى قال : { ما كان لله أن يتخذ من ولد } فذكر بلفظ الكفر ، وقصتهم في الزخرف مهملة فوصفهم بلفظ دونه وهوالظلم . قلت : ويحتمل أن يقال : الظلم إذا أريد به الشرك كان أخص من الكفر فعمم أولاً ثم خصص لأن البيان بالمقام الثاني أليق { أسمع بهم وأبصر } صيغتان للتعجب والمراد أن هاتين الحاستين منهم جديران بتعجب منهما في ذلك اليوم بعد ما كانوا صماً وعمياً في الدنيا ، وذلك لكشف الغطاء ولحاق العيان بالخبر . والتعجب استعظام الشيء بسبب عظمه ، ثم جوز استعمال لفظ التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير سبب . قال سفيان : قرأت عند شريح { بل عجبت ويسخرون } [ الصافات : 12 ] فقال : إن الله لا يعجب من شيء إنما يعجب من لا يعلم .
فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال : إن شريحاً شاعر يعجبه علمه وعبد الله أعلم بذلك منه . والمعنى أنه صدر من الله فعل لو صدر مثله عن الخلق لدل على حصول التعجب في قلوبهم . وقيل : معنى الآية التهدد بما سيسمعون وسيبصرون مما يسوءهم . وقيل : أراد أسمع بهؤلاء وأبصر أي عرفهم مآل القوم الذين يأتوننا ليعتبروا وينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم . وقال الجبائي أن يراد أسمع الناس بهؤلاء وأبصرهم ليعتبروا بسوء عاقبتهم والوجه هو الأول يؤيده قوله : { لكن الظالمون } أي لكنهم فوضع المظهر موضع المضمر . { اليوم } وهو يوم التكليف { في ضلال مبين } حيث أغفلوا النظر والاستماع وتركوا الجد والاجتهاد في تحصيل الزاد للمعاد وهو { يوم الحسرة } لتحسر أهل النار فيه . وقيل : أهل الجنة أيضاً إذا رأى الأدنى مقام الأعلى ، والأول أصح لأن هذه الخواطر لا توجد في الجنة لأنها دار السرور . و { إذ } بدل من يوم الحسرة أو منصوص بالحسرة . ومعنى { قضي الأمر } فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار . وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عنه فقال : « يؤتى بالموت فيذبح كما يذبح الكبش والفريقان ينظران فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرح وأهل النار غماً إلى غم » قال أرباب المعقول : إن الموت عرض فلا يمكن أن يصير حيواناً فالمراد أنه لا موت بعد ذلك . عن الحسن { وهم في غفلة } متعلق بقوله : { في ضلال مبين } وقوله : { وأنذرهم } اعتراض . ويحتمل أن يتعلق ب { أنذرهم } أي أنذرهم على هذه الحال غافلين غير مؤمنين . ويحتمل أن يكون « إذ » ظرفاً ل { أنذر } أي أنذرهم حين قضي الأمر ببيان الدلائل وشرح أمر الثواب والعقاب . ثم أخبر عنهم أنهم في غفلة { وهم لا يؤمنون } ثم قرر بقوله : { إنا نحن نرث } أن أمور الدنيا كلها تزول وأن الخلق كلهم يرجعون إلى حيث لا يملك الحكم إلا الله وفيه من التخويف والإنذار ما فيه .
التأويل : { واذكر في الكتاب } الأزلي { مريم } القلب { إذا انتبذت من أهلها } تفردت من أهل الدنيا متوجهاً إلى جانب شروق النور الإلهي { فاتخذت من دونهم } حجاب الخلوة والعزلة { فأرسلنا إليها روحنا } وهو نور الإلهام الرباني والخاطر الرحماني كقوله : { وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا } [ الشورى : 52 ] { فتمثل لها بشراً سوياً } كما تمثل روح التوحيد بحروف « لا إله إلا الله » لانتفاع الخلق به . و { قالت إني أعوذ بالرحمن منك } ظناً منها أنه يشغلها عن الله . { قال إنما أنا رسول } الوارد الرباني { لأهب لك غلاماً زكياً } طاهراً عن لوث الظلمة الأنسية وهو النفس المطمئنة القدسية . { ولم يمسسني بشر } خاطر من عالم البشرية { ولم أك بغياً } أطلب غير ما خلقت لأجله وهو التوجه إلى عالم الروح المجرد { فحملته } بالقوة القريبة من الفعل { فانتبذت به مكاناً قصياً } لافتقاره إلى العبور على منازل الشريعة والطريقة { فأجاءها } مخاض الطلب والتعب { إلى جذع النخلة } وهي كلمة « لا إله إلا الله » التي كان أصلها ثابتاً في أرض نفسها { قالت يا ليتني مت قبل هذا } قال بعض أهل التحقيق : هذه كلمة يذكرها الصالحون عند اشتداد الأمر عليهم .
قال عليّ عليه السلام يوم الجمل : يا ليتني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة . وعن بلال : ليت بلالاً لم تلده أمه . وقيل : إن مريم قالت ذلك لعلمها بأن الله تعالى يدخل النار خلقاً كثيراً بسبب تهمتها وبسبب الغلو والتقصير في حق ابنها قلت : إن مريم القلب قالت يا ليتني مت عن اللذات الجمسية قبل هذا الوقت الذي فزت باللذات الحقيقية وكنت نسياً منسياً ، لإإن الخمول راحة والشهرة آفة { فناداها } بلسان الحال من تحت تصرفها من آلات القوى { أن لا تحزني قد جعل ربك تحتك } أي تحت تصرفك { سرياً } هو الغلام الموعود أو جدول الكشوف والعلوم الدينية { وهزي إليك بجذع النخلة } بالمداومة على الذكر { تساقط عليك رطباً جنياً } من المشاهدات والمكاشفات حالاً فحالاً { فكلي واشربي } من خوان الأفضال وبحر النوال من مادته « أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني » { وقري عينا } بأنوار الجمال في حجرة الوصال { فأما ترين } من السوانح البشرية { أحداً فقولي إني نذرت للرحمن صوماً } كما قيل الدنيا يوم ولنا فيه صوم أي الالتفات لغير الله . { فأتت به قومها } من عادة الجهال إنكار أحوال أهل الكمال . { يا أخت هرون } النفس المطمئنة أو الأمارة بناء على أن هارون كان صالحاً أو طالحاً { وكان أبوك } وهو الروح المفارق { إمرأ سوء وما كانت أمك } وهي القالب { بغياً } تستأنس إلى غير عالم الطبيعة التي خلقت لأجلها { فأشارت إليه } فيه أن هذا القوم هم أهل الإشارات { في المهد } مهد السر وذلك المتولد من نفخ الروح في مريم القالب ليس ابناً لله ولا محلاً له ولا نفسه . { فاختلف الأحزاب } فقوم عبدوا الله لأجله ، وقوم عبدوه طمعاً في جنته ، وقوم عبدوا الهوى وذلك قوله : { فويل للذين كفروا } { أسمع بهم } أي بأهل الله { وأبصر يوم يأتوننا } فإنهم بالله يسمعون وبه يبصرون .
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57) أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63) وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
القراآت : { ربي إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { مخلصاً } بفتح اللام : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل . الباقون بكسرها . { إبراهام } وما بعده : هشام والأخفش عن ابن ذكوان { إذا ابتلي } بالياء التحتانية وكذلك في سورة الحج : قتيبة { نورث } بالتشديد : رويس .
الوقوف : { إبراهيم } ط { نبياً } 5 { شيئاً } 5 { سوياً } 5 { لا تعبد الشيطان } ط { عصياً } 5 { ولياً } 5 { يا إبراهيم } ط ج وقد يوصل ويوقف على { آلهتي } . { ملياً } 5 { سلام عليك } ج للابتداء بسين الاستقبال مع أن القائل واحد { لك ربي } ط { حفياً } 5 { وأدعو ربي } ز لانقطاع النظم والوصل أولى لأن عسى لطمع الإجابة بالدعاء { شقياً } 5 { من دون الله } لا لأن ما بعده جواب لما { ويعقوب } ط { نبياً } 5 { نبياً } 5 { علياً } 5 { موسى } ز للأبتداء بأن مع أن المراد بالذكر إخلاص موسى { نبياً } 5 { نجياً } 5 { نبياً } 5 { إسماعيل } ز لما مر { نبياً } 5 ج للآية مع العطف { والزكاة } ط { مرضيا } 5 { إدريس } ز { نبياً } 5 { علياً } 5 { مع نوح } ز على تقدير ومن ذريته إبراهيم وما بعده قوم إذا تتلى عليهم ، وكذا وجه من وقف على { ذرية آدم } أو على { إسرائيل } والأصح أن الكل عطف على ذرية آدم والوقف على قوله : { واجتبينا } لئلا يحتاج إلى الحذف وليرجع ثناء السجود والبكاء إلى الكل { وبكيا } 5 { عياً } 5 { شيئاً } 5 لا بناء على أن { جنات } بدل من { الجنة } 5 { بالغيب } ط { مأتيا } 5 { سلاماً } 5 { وعشياً } 5 { تقياً } 5 { بأمر ربك } ج لاختلاف الجملتين { ذلك } ج لأن قوله : { وما كان } معطوف على { نتنزل } مع وقوع العارض { نسياً } ج 5 ، لأن ما بعده بدل أو خبر مبتدأ محذوف { لعبادته } ط { سمياً } 5 .
التفسير : إن الذين أثبتوا معبوداً سوى الله منهم من أثبت معبوداً حياً عاقلاً كالنصارى ، ومنهم من عبد معبوداً جماداً كعبدة الأوثان ، وكلا الفريقين ضال إلا أن الفريق الثاني أضل . وحين بين ضلال الفريق الأول شرع في بيان ضلال الفريق الثاني تدرجاً من الأسهل إلى الأصعب . وإنما بدأ بقصة إبراهيم عليه السلام لأنه كان أبا العرب وكانوا مقرين بعلوّ شأنه وكمال دينه فكأنه قال لهم : إن كنتم مقلدين فقلدوه في ترك عبدة الأوثان وعبادتها ، وإن كنتم مستدلين فانظروا في الدلائل التي ذكرها على أبيه . والمراد بذكر الرسول إياه في الكتاب أن يتلو ذلك على الناس كقوله : { واتل عليهم نبأ إبراهيم } [ الشعراء : 69 ] وإلا فهو سبحانه هو الذي يذكره في تنزيله . وقوله : { إذ قال } بدل من { إبراهيم } وما بينهما اعتراض ، ولمكان هذا الاعتراض صار الوقف على { إبراهيم } مطلقاً . وجوز في الكشاف أن يتعلق « إذ » ب { كان } أو ب { صديقاً نبياً } أي كان جامعاً لخصائص الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات .
والصديق من أبنية المبالغة فهي إما مبالغة صادق لأن ملاك أمر النبوة الصدق ، وإما مبالغة مصدق وذلك لكثرة تصديقه الحق وهذا أيضاً بالحقيقة يعود إلى الأول ، لأن مصدق الحق لا يعتبر تصديقه . إلا إذا كان صادقاً جداً في أقواله مصدقاً لجميع من تقدم من الأنبياء والكتب ، وكان نبياً في نفسه رفيع القدر عند الله وعند الناس بحيث جعل واسطة بينه وبين عباده . وقيل : إن « كان » بمعنى « صار » والأصح أنه بمعنى الثبوت والاستمرار أي إنه لم يزل موصوفاً بالصدق والنبوة في الأوقات الممكن له ذلك فيها . والتاء في { يا أبت } عوض من ياء الإضافة وقد مر في أول سورة يوسف . أورد على أبيه الدلائل والنصائح وصدر كلاً منها بالنداء المتضمن للرفق واللين استمالة لقلب أبيه وامتثالاً لأمر ربه على ما رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أوحى الله إلى إبراهيم إنك خليلي حسن خلقك ولو مع الكفار تدخل مداخل الأبرار فإن كلمتي سبقت لمن حسن خلقه أن أظله تحت عرشي وأسكنه حظيرة القدس وأدنيه من جواري » فقوله : { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر « منسيّ المفعول لا منويه فإن الغرض نفي الفعلين على الإطلاق دون التقييد . و » ما « موصولة أو موصوفة أي الذي لا يسمع أو معبوداً لا يسمع و { شيئاً } مفعول به من قوله : » أغن عني وجهك « أي ادفعه . ويجوز أن يكون بمعنى المصدر أي شيئاً من الإغناء ، وعلى هذا يجوز أن يقدر نحوه مع الفعلين السابقين أي لا يسمع شيئاً من السماع إلى آخره . وحاصل الدليل أن العبادة غاية الخضوع فلا يستحقها إلا أشرف الموجودات لا أخسها وهو الجماد غاية عذرهم عن تلك هي أنها تماثيل أشياء يتصوّر نفها أو ضرها كالكواكب وغيرها فيقال لهم : أليس الكواكب وسائر الممكنات تنتهي في الاحتياج إلى واجب الوجود؟ فإذا جعل شيء من هذه الأشياء معبوداً فقد شورك الممكن والواجب في نهاية التعظيم وهذا مما ينبو عنه الطبع السليم ، ورفع الوسائط من البين أدخل في الإخلاص وأقرب إلى الخلاص . وقوله : { يا أبت أني قد جاءني } تنبيه ونصيحة وفيه أن هذا العلم تجدد له حصوله فيكون أقرب إلى التصديق . وفي قوله : { من العلم ما لم يأتك } فائدة هي أنه لم يسم أباه بالجهل المفرط ولا نفسه بالعلم الفائق ولكنه قال : إن معي طائفة من العلم ليست معك فلا تستنكف ، وهب أنا في مفازة وعندي معرفة بالدلالة دونك { فاتبعني أهدك صراطاً سوياً } مستوياً مؤدّياً إلى المقصود وهو صلاح المعاش والمعاد .
استدل أرباب التعليم بالآية بأنه لا بد من الاتباع . وأجيب بأنه لا يلزم من اتباع النبي اتباع غيره . والإنصاف أن هذه الطريق أسهل .
ثم أكد المعنى المذكور بنصيحة أخرى زاجرة عما هو عليه فقال : { يا أبت لا تعبد الشيطان } أي لا تطعه فإن عبادة الأصنام هي طاعة الشيطان . ثم أسقط حصة نفسه إذ لم يقل إن الشيطان عدوّ لبني آدم بل قدّم حق ربه فقال : { إن الشيطان كان للرحمن عصياً } حين ترك أمره بالسجود عناداً واستكباراً لا نسياناً وخطأ ، نبهه بهذه النصيحة على وجود الرحمن ثم على وجود الشيطان ، وأن الرحمن مصدر كل خير ، والشيطان مظهر كل شر بدلالة الموضوع اللغوي ، وهذا القدر كافٍ من التنبيه لمن تأمل وأنصف . ثم بين الباعث على هذه النصحية فقال : { يا أبت إني أخاف } وفيه مع التخويف من سواء العاقبة أنواع من الأدب إذ ذكر الخوف والمس ونكر العذاب . قال الفراء : معنى أخاف أعلم . والأكثرون على أنه محمول على ظاهره لأن إبراهيم عليه السلام لم يكن جازماً بموت أبيه على الكفر وإلا لم يشتغل بنصحه . والخوف على الغير ظن وصول الضرر إلى ذلك الغير مع تألم قلبه من ذلك كما يقال : أنا خائف على ولدي . وذكروا في الولي وجوهاً منها : أنه إذا استوجب عذاب الله كان مع اشيطان في النار والمعية سبب الولاية أو مسببها غالباً ، وإطلاق أحدهما على الآخر مجاز . وليس هناك ولاية حقيقة لقوله : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ } [ الزخرف : 67 ] { إني كفرت بما أشركتمون من قبل } [ إبراهيم : 22 ] ومنها أن حمل العذاب على الخذلان ومنها أن الولي بمعنى التالي والتابع قال جار الله : جعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أتباعه وأوليائه أكبر من نفس العذاب ، لأن ولاية الشيطان في مقابلة رضا الرحمن وقال عز من قائل : { ورضوان من الله أكبر } [ التوبة : 72 ] وإذا كان رضوان الله أكبر من نعيم الجنة فولاية الشيطان أعظم من عذاب النار . ثم إن الشيخ قبل ملاطفات إبراهيم بالفظاظة والغلظة قائلاً { أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم } فقدم الخبر على المبتدأ إشعاراً بأنه عنده أعنى . وفي هذا الاستفهام ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته . وفي قوله : { يا إبراهيم } دون أن يقول : « يا بني » في مقابلة { يا أبت } تهاون به كيف لا وقد صرح بالإهانة قائلاً { لئن لم تنته لأرجمنك } باللسان أي لأشتمنك أو باليد أي لأقتلنك وأصله الرمي بالرجام . ثم ههنا إضمار أي فاحذرني { واهجرني ملياً } أي زماناً طويلاً من الملاوة ، أو أراد ملياً بالذهاب والهجران . مطيقاً له قوياً عليه قبل أن أثخنك بالضرب .
فلما رأى إبراهيم إصرار أبيه على التمرد والجهالة { قال سلام عليك } يعني سلام توديع ومتاركة كقوله : { وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } [ الفرقان : 63 ] وفيه أن متاركة المنصوح إذا ظهر منه آثار اللجاج من سنن المرسلين ، ويحتمل أن يكون قد دعا له بالسلامة استمالة له ورفقاً به بدليل قوله : { سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيّاً } بليغاً في البر والإلطاف وقد مر ي آخر « الأعراف » .
احتج بالآية بعض من طعن في عصمة الأنبياء قال : إنه استغفر لأبيه الكافر وهو منهي عنه لقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] الآية . ولقوله في الممتحنة { قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم } [ الممتحنة : 4 ] إلى قوله : { إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } [ الممتحنة : 4 ] فلو لم يكن هذا معصية لم يمنع من التأسي به . والجواب لعل إبراهيم عليه السلام في شرعه لم يجد ما يدل على القطع بتعذيب الكافر أو لعل بهذا الفعل منه من باب ترك الأولى ، أو لعل الاستغفار بمعنى الاستبطاء كقوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } [ الجاثية : 14 ] والمعنى سأسأل ربي أن يخزيك بكفرك ما دمت حياً . والجواب في الحقيقة ما مر في آخر سورة التوبة في قوله عز من قائل { وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه } [ التوبة : 114 ] والمنع من التأسي لا يدل على المعصية ، فلعل الاستغفار مع ذلك الشرط كان من خصائصه كما أن كثيراً من الأمور كانت مباحة للرسول الله صلى الله عليه وسلم هي محرمة علينا . ثم صرح بما تضمنه السلام من التوديع والهجران فقال : { وأعتزلكم } أي أهاجر إلى الشام { و } أعتزل { ما تدعون } أي ما تعبدون { من دون الله } وقد يعبر بالدعاء عن العبادة لأنه منها ومن وسائطها ، يدل على هذا التفسير قوله : { فلما أعتزلهم وما يعبدون } أما قوله : { وأدعو ربي } فيحتمل معنيين : العبادة والدعاء كما يجيء في سورة الشعراء . وفي قوله : { عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً } تعريض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم وعبادتها مع التواضع وهضم النفس المستفاد من لفظ { عسى } .
قال العلماء : ما خسر على الله أحد فإن إبراهيم لما ترك أباه الكافر وقومه فراراً بدينه عوّضه الله أولاداً مؤمنين أنبياء وذلك قوله : { ووهبنا له إسحاق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً ووهبنا لهم } شيئاً { من رحمتنا } عن الحسن : هي النبوة . وعن الكلبي : المال والولد . والأظهر أنها عامة في ذلك كل خير ديني ودنيوي ولسان الصدق والثناء الحسن ، عبر باللسان عما يوجد به كما عبر باليد عما يطلق بها وهو العطية وقد مر تحقيق الإضافة في أول يونس في قوله : { قدم صدق } [ يونس : 2 ] تبرأ إبراهيم من أبيه ابتغاء مرضاة الله فسماه الله أبا بالمؤمنين { ملة أبيكم إبراهيم } [ الحج : 78 ] ، وتل ولده للجبين ففداه الله بذبح عظيم ، وأسلم نفسه لرب العالمين فجعل النار عليه برداً وسلاماً ، وأشفق على هذه الأمة فقال وابعث فيهم رسولاً ، فأشركه الله في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس ، ووفى في حق سارة كما قال تعالى :
{ وإبراهيم الذي وفى } [ النجم : 37 ] فجعل موطىء قدمه مباركاً { واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى } [ البقرة : 125 ] وعادى كل الخلق في الله حين قال { فإنهم عدوّ لي إلا رب العالمين } [ الشعراء : 77 ] فلا جرم اتخذه الله خليلاً . ثم قفى قصة إبراهيم بقصة موسى عليه السلام لأنه تلوه في الشرف . والمخلص بكسر اللام الذي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وأخلص وجهه لله ، وبالفتح الذي أخلصه الله و { كان رسولاً نبياً } الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء والنبي الذي ينبىء عن الله عز وجل وإن لم يكن معه كتاب ، وكان المناسب ذكر الأعم قبل الأخص إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه { برب هرون وموسى } [ طه : 7 ] { الأيمن } من اليمين أي من ناحية اليمنى من موسى أو هو من اليمن صفة للطور أو للجانب { وقربناه } حال كونه { نجياً } أي مناجياً شبه تكليمه إياه من غير واسطة ملك بتقريب بعض الملوك واحداً من ندمائه للمناجاة والمسارة . وعن أبي العالية أن التقريب حسي ، قربه حتى سمع صريف القلم الذي كتبت به التوراة والأول أظهر ، ومنه قولهم للعبادة « تقرب » وللملائكة « أنهم مقربون » . { ووهبنا له من رحمتنا } أي من أجلها أي بعض رحمتنا فيكون { أخاه } بدلاً و { هرون } عطف بيان كقولك « رأيت رجلاً أخاك زيداً » . و { نبياً } حال من هارون . قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى فتنصرف الهبة إلى معاضدته وموازرته . وذلك بدعاء موسى في قوله : { واجعل لي وزيراً من أهلي } [ طه : 29 ] وخص إسماعيل بن إبراهيم بصدق الوعد وإن كان الأنبياء كلهم صادقين فيما بينهم وبين الله أو الناس ، لأنه المشهور المتواصف من خصاله من ذلك : أنه وعد نفسه الصبر على الذبح فوفى به . وعن ابن عباس أنه وعد صاحباً له أن ينتظره فانتظره سنة . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واعد رجلاً ونسي ذلك الرجل فانتظره من الضحى إلى قريب من غروب الشمس . وسئل الشعبي عن الرجل يعد ميعاده إلى أي وقت ينتظره؟ فقال : إذا واعدته في وقت الصلاة فانتظره إلى وقت صلاة أخرى . وكان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لغيرهم ولأن الابتداء بالإحسان الديني والدنيوي بمن هو أقرب أولى { قوا أنفسكم وأهليكم ناراً } [ التحريم : 6 ] « بدأ من تعول » ويحسن أن يقال : أهله أمته كلهم أقارب أو أباعد من حيث إنه يلزمه في جميعهم ما يلزم المرء في أهله خاصة من قضاء حقوق النصيحة والشفقة ورعاية مصالحهم الدينية والدنيوية . وعلى القولين يندرج في الصلاة الصلوات المفروضة والمندوبة كصلاة التهجد وغيرها ، وأما الزكاة فالأقرب أنها الصدقة المفروضة . وعن ابن عباس أنها طاعة الله والإخلاص لأن فاعلها يزكو بها عند الله .
وأما إدريس فالأصح أنه اسم عجمي بدليل منع الصرف كما مر مراراً في آدم ويعقوب وغيرهما . وقيل : « افعيل » من الدرس لكثرة دراسته كتاب الله ، ولعل معناه بالأعجمية قريب من الدراسة فظنه القائل مشتقاً منها .
وفي رفعته أقوال منها : أن المكان العليّ شرف النبوة والزلفى عند الله ، وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة ، وهو أول من خط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب ، وأول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود ، واسمه أخنوخ من أجداد نوح لأنه نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ ، وأهل التنجيم بعضهم يسمونه هرمس ولهم نوادر في استخراج طوالع المواليد ينسبونه إليه . وقيل : إن الله تعالى رفعه إلى السماء وإلى الجنة وهو حي لم يمت . وقال آخرون : رفع إلى السماء وقبض روحه . عن ابن عباس أنه سأل كعباً عن قوله : { ورفعناه مكاناً علياً } قال : جاء خليل من الملائكة فسأله أن يكلم ملك الموت حتى يؤخر قبض روحه ، فحمله ذلك الملك بين جناحيه فصعد به ، فلما كان في السماء الرابعة إذ بملك الموت يقول : بعثت لأقبض روح إدريس في السماء الرابعة وأنا أقول : كيف ذلك وهو في الأرض؟ فالتفت إدريس فرأى ملك الموت فقبض روحه هناك . وعن ابن عباس أنه رفع إلى السماء السادسة . وعن الحسن : المراد أنه رفع إلى الجنة ولا شيء أعلى منها . { أولئك } المذكورون من لدن زكريا إلى إدريس هم { الذين أنعم الله عليهم من النبيين } « من » للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم { من ذرية آدم } هي للتبعيض وكذا في قوله : { وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل } والمراد بمن هو من ذرية آدم إدريس لقربه منه ، وبذرية من حمل مع نوح إبراهيم عليه السلام لأنه من ولد سام بن نوح ، وبذرية إبراهيم وإسماعيل ، وبذرية إسرائيل موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم لأن مريم من ذريته . { وممن هدينا } يحتمل العطف على من الأولى والثانية وفي هذا الترتيب تنبيه على أن هؤلاء الأنبياء اجتمع لهم مع كمال الأحساب شرف الأنساب ، وأن جميع ذلك بواسطة هداية الله وبمزية اجتنائه واصطفائه . ثم إن جعلت { الذين } خبراً { لأولئك } كان { إذا يتلى } كلاماً مستأنفاً ، وإن جعلته صفة له كان خبراً وقد عرفت في الوقوف سار الوجوه من قرأ { يتلى } بالتذكير لأن تأنيث الآيات غير حقيقي والفاصل حاصل . والبكي جمع باكٍ « فعول » كسجود في « ساجد » أبدلت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها للمناسبة . ومن زعم أنه مصدر فقدسها لأنها قرينة سجداً . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا » أراد بالآيات التي فيها ذكر العذاب وقال غيره : إطلاق الآيات والحديث المذكور يدل على العموم لأن كل آية إذا فكر فيها المفكر صح أن يسجد عندها ويبكي .
قلت : لعل المراد بآيات الله ما خصهم الله تعالى به من الكتب المنزلة ، لأن القرآن حينئذ لم يكن منزلاً واختلفوا في السجود . فقيل : هو الخشوع والخضوع . وقيل : الصلاة . وقيل : سجدة التلاوة على حسب ما تعبدنا به . ويحتمل أنهم عند الخوف كانوا يتعبدون بالسجود . قال الزجاج : الإنسان في حال خروره لا يكون ساجداً فالمراد خروا متهيئين للسجود . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرؤا القرآن بحزن فإنه نزل بحزن » وعن ابن عباس : إذا قرأتم سجدة « سبحان » فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه . وقالت العلماء : يدعو في سجدة التلاوة بما يليق بها فإن قرأ آية تنزيل السجدة قال : اللَّهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك . وإن قرأ سجدة « سبحان » قال : اللَّهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك . وإن قرأ ما في هذه السورة قال : اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهديين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك .
ولما مدح هؤلاء الأنبياء ترغيباً لغيرهم من سيرتهم وصف أضدادهم لتنفير الناس عن طريقتهم قائلاً { فخلف من بعدهم خلف } وهو عقب السوء كما مر في آخر « الأعراف » فإضاعة الصلاة في مقابلة الخرور سجداً ، واتباع الشهوات بإزاء البكاء . عن بان عباس : هم اليهود تركوا الصلاة المفروضة وشربوا الخمر واستحلوا نكاح الأخت من الأب . وعن إبراهيم النخعي ومجاهد : أضاعوها بالتأخير . وعن علي رضي الله عنه في قوله : { واتبعوا الشهوات } من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور . وعن قتادة : هو في هذه الأمة { فسوف يلقون غياً } قال جار الله : كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد . وقال الزجاج : هو على حذف المضاف أي جزاء غي كقوله : { ويلق أثاماً } [ الفرقان : 68 ] أي مجازاة أثام . وقيل : غياً من طريق الجنة . وقيل : هو وادٍ في جهنم تستعيذ منه أوديتها احتج بعضهم بقوله : { إلا من تاب وآمن } على أن تارك الصلاة كافر وإلا لم يحتج إلى تجديد الإيمان . والجواب أنه إذا كان المذكورون هم الكفرة أو اليهود - كما رويناه عن ابن عباس - سقط الاستدلال . واحتجت الأشاعرة في أن العمل ليس من الإيمان لأن العطف دليل التغاير . وأجاب الكعبي بأنه عطف الإيمان على التوبة مع أنها من الإيمان ، ومنع من أن التوبة من الإيمان ولكنها شرطه لأنها العزم على الترك والإيمان إقرار باللسان ، وإنما حذف الموصوف ههنا وقال في الفرقان { وعمل عملاً صالحاً } [ الفرقان : 70 ] لأنه أوجز في ذكر المعاصي فأوجز في التوبة وأطال هناك فأطال هناك . وهذا الاستثناء بحسب الغالب فقد يتوب عن كفره ويؤمن ولم يدخل بعد وقت الصلاة ، أو كانت المرأة حائضاً ثم مات فهو من أهل النجاة مع أنه لم يعمل صالحاً .
ومعنى { لا يظلمون شيئاً } لا ينقصون شيئاً من جزاء أعمالهم بل يضاعف لهم تفضلاً تنبيهاً على أن تقدم الكفر لا يضرهم بعد أن يتوبوا ، ويحتمل أن ينتصب { شيئاً } على المصدر أي شيئاً من الظلم . ومعنى { جنات عدن } قد مر في سورة التوبة في قوله : { ومساكن طيبة في جنات عدن } [ التوبة : 72 ] وصفها الله تعالى بالإقامة والدوام خلاف ما عليه جنان الدنيا . ولما كانت الجنة مشتملة على جنات عدن أبدلت منها ، ويحتمل انتصابها عل الاختصاص وكذا انتصاب « التي » . قال جار الله : عدن علم بمعنى العدن وهو الإقامة وهو علم لأرض الجنة لكونها مكان إقامة ولولا ذلك لما ساغ الإبدال ، لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة . ولما ساغ وصفها ب « التي » ومعنى { بالغيب } مع الغيبة أي وعدوها وهي غائبة عنهم غير حاضرة ، أو هم غائبون عنها لا يشاهدونها ، أو الباء للسببية أي وعدها عباده بسبب تصديق الغيب والإيمان به خلاف حال المنافقين . وقوله : { إنه كان وعده مأتياً } بالأول أنسب وهو مفعول بمعنى « فاعل » ، أو على أصله لأن ما أتاك فقد أتيته . وجوز في الكشاف أن يكون من قولك : « أتى إليك إحساناً » أي كان وعده مفعولاً منجزاً . قوله : { إلا سلاماً } استثناء متصل على التأويل لأن اللغو فضول الكلام وما لا طائل تحته كما تقدم في يمين اللغو في « البقرة » وفي « المائدة » أي إن كان تسليم بعضهم على بعض أو تسليم الملائكة عليهم لغواً فلا يسمعون لغواً إلا ذلك كقولهم « عتابك السيف » . أو استثناء منقطع أي لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقيصة ، ويجوز أن يكون متصلاً بتأويل آخر وهو أن معنى السلام الدعاء بالسلامة وأهل دار السلام عن الدعاء بالسلامة أغنياء ، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث لولا ما فيه من فائدة الإكرام . وفي الآية تنبيه ظاهر على وجوب اتقاء اللغو حيث نزه الله عنه الدار التي لا تكليف فيها . ثم إنه سبحانه من عادته ترغيب كل قوم بما أحبوه في الدنيا فلذلك ذكر أساور من الذهب والفضة لبس الحرير التي كانت للعجم والأرائك التي هي الحجال المضروبة على الأسرة ، وكانت من عادة أشراف اليمن ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء لأنها العادة الوسطى المحمودة لمتنعمين منهم فوعدهم بذلك قائلاً : { ولهم رزقهم فيها بكرة وعيشاً } هذا قول الحسن . ولا يكون ثم ليل ولا نهار ولكن على التقدير أي يأكلون على مقدار الغداة على العشي . وقيل : أراد دوام الرزق كما تقول : أنا عند فلان صباحاً ومساء تريد الدوام ولا تقصد الوقتين المعلومين .
وقوله : { تلك الجنة التي نورت } كقوله في « الأعراف » { ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها } [ الأعراف : 43 ] وهي استعارة أي تبقى عليهم الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث منه . قال القاضي : في الآية دلالة على أن الجنة يختص بدخولها من كان متقياً غير مرتكب للكبائر . وأجيب بمنع الاختصاص وبأنه يصدق على صاحب الكبيرة . أنه اتقى الكفر .
سئل ههنا أن قوله تعالى : { تلك الجنة التي نورث } كلام الله وقوله بعده : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } خطاب ليس من كلام الله فما وجه العطف بينهما : وأجيب بأنه إذا كانت القرينة ظاهرة لم يقبح ، فظاهر قوله : { وما نتنزل إلا بأمر ربك } خطاب جماعة لواحد وإنه لا يليق إلا بالملائكة الذين ينزلون على الرسول كما روي أن قريشاً بعثت خمسة رهط إلى يهود المدينة يسألونهم عن صفة محمد صلى الله عليه وسلم وهل يجدونه في كتابهم . فسألوا النصارى فزعموا أنهم لا يعرفونه ، وقالت اليهود : نجده في كتابنا وهذا زمانه وقد سألنا رحمان اليمامة عن خصال ثلاث فلم يعرف فاسألوه عنهن ، فإن أخبركم بخصلتين منها فاتبعوه ، فاسألوه عن فئة أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فلم يدر كيف يجيب ، فوعدهم الجواب ولم يقل : إن شاء الله . فاحتبس الوحي عليه أربعين يوماً - وقيل خمسة عشر يوماً - فشق عليه ذلك مشقة شديدة . وقال المشركون : ودعه ربه وقلاه . فنزل جبرائيل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « أبطأت عني حتى ساء ظني واشتقت إليك . » قال : كنت أشوق ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت وإذ حبست احتبست . فأنزل الله الآية وأنزل قوله : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً } [ الكهف : 23 ] وسورة الضحى . ومعنى التنزل على ما يليق بهذا الموضع هو النزول على مهل أي نزلنا في الأحايين وقتاً غب وقت ليس إلا بأمر الله عزوجل . ثم أكد جبرائيل ما ذكره بقوله : { له ما بين أيدينا وما خلفنا } من الجهات والأماكن أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة وما بينهما من المكان والزمان الذي نحن فيه فلا نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته . وقيل : له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة { وما بين ذلك } وهو ما بين النفختين أربعون سنة . وقيل : ما مضى . من أعمارنا وما غبر منها والحال التي نحن فيها أو ما قبل وجودنا وبعد فنائنا . وقيل : الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا . والسماء التي وراءنا ، وما بين السماء والأرض وعلى الأقوال فالمراد أنه الميحط بكل شيء لا يخفى عليه خافية ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة فكيف يقدم على فعل إلا بأمره!
وقال أبو مسلم : في وجه النظم إن قوله : { وما نتنزل } من قول أهل الجنة لمن بحضرتهم أي ما ننزل الجنة إلا بأمر ربك .
أما قوله : { وما كان ربك نسياً } فعلى القول الأول معناه أنه ما كان امتناع النزول إلا لعدم الإذن ولم يكن لترك الله إياكم لقوله : { ما ودّعك ربك وما قلى } [ الضحى : 3 ] وعلى قول غير أبي مسلم هو تأكيد لإحاطته تعالى بجميع الأشياء ، وأنه لا يجوز عليه أن يسهو عن شيء ما ألبته . وعلى قول أبي مسلم المراد أنه ليس ناسياً لأعمال العاملين فيثيب كلاً منهم بحسب عمله فيكون من تتمة حكاية قول أهل الجنة ، أو ابتداء كلام من الله تعالى خطاباً لرسوله ويتصل به قوله : { رب السموات والأرض } أي بل هو ربهما { وما بينهما فاعبده } الفاء للسببية لأن كونه رب العالمين سبب موجب لأن يعبد { واصطبر لعبادته } لم يقل « على عبادته » لأنه جعل العبادة بمنزلة القرن في قولك للمحارب « اصطبر لقرنك » أي أوجد الاصطبار لأجل مقاومته . ثم أكد وجوب عبادته بقوله : { هل تعلم له سمياً } أي ليس له مثل ونظير حتى لا تخلص العبادة له ، وإن عديم النظير لا بد أن يصبر على مواجب إرادته وتكاليفه خصوصاً إذا كانت فائدتها راجعة إلى المكلف . وقيل : أراد أنه لا شريك له في اسمه وبيانه في وجهين : أحدهما أنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله عى الوثن إلا أنهم لم يطلقوا لفظ الله على من سواه . وعن ابن عباس : أراد لا يسمى بالرحمن غيره . قلت : وهذا صحيح ولعله هو السر في أنه لم يكرر لفظ « الرحمن » في سورة تكريره في هذه السورة . وثانيهما هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل أن التسمية على الباطل كلا تسمية .
التأويل : { واذكر في الكتاب } الأزلي { إبراهيم } القلب { إنه كان صديقاً } للتصديق ثلاث مراتب : صادق صدق في أقواله ، وصادق صدق في أخلاقه وأحواله ، وصديق صدق في قيامه مع الله في الله بالله وهو الفانى عن نفسه الباقي بربه { إذ قال لأبيه } الروح الذي يعبد صنم الدنيا بتبعية النفس { فقد جاءني من العلم } اللدني { ما لم يأتك } لما ذكرنا أن القلب محل للفيض الإلهي أقبل من الروح كالمرآة فإنها تقبل النور لصفائها وينعكس النور عنها لكثافتها وصقالتها { وهبنا له إسحاق } السر { ويعقوب } الخفي { وناديناه من جانب الطور الأيمن } أسمعنا موسى القلب من جانب طور الروح لا من جانب وادي النفس الذي هو على أيسر { وكان يأمر أهله } أي الجسم والنفس والقلب والروح بالصلاة له توجه كل منهم توجهاً يليق بحاله ، وبالزكاة أي تزكية كل واحد منهم من الأخلاق الذميمة { ورفعناه مكاناً علياً } في مقعد صدق عند مليك مقتدر { خروا } بقلوبهم على عتبة العبودية { سجداً } بالتسليم للأحكام الأزلية { وبكياً } بكاء السمع يذوبان الوجود على نار الشوق والمحبة { عباده بالغيب } أي بغيبتهم عن الوجود قبل التكوين كقوله :
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } [ التوبة : 111 ] { ولهم رزقهم } رؤية الله على ما جاء في الحديث : « وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوّاً وعشياً » { وما نتنزل إلا بأمر ربك } المقدور في علم الله ، وتنادى أهل العزة من سرادقات العزة أن يا أهل الطبيعة أفيقوا من المتمنيات فإنا ما ننزل من عالم الغيب . إلا بأمر ربك { وما كان ربك نسياً } ليحتاج إلى تذكير متمن ، بل هو رب سموات الأرواح وأرض الأجساد وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار له { فاعبده } بأركان الشريعة بجسدك وبآداب الطريقة بنفسك وبالإعراض عن الدنيا والإقبال على المولى بقلبك وبالفناء في الله والبقاء به بروحك وبسرك . { هل تعلم له } نظيراً في المحبوبية لك . والله أعلم بالصواب .
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
القراآت : { أئذا } مثل { أئنكم } في « الأنعام » { يذكر } من الذكر : ابن عامر ونافع وعاصم وسهل وروح والمعدل عن زيد . والآخرون بتشديد الذال من التذكر مدغماً . { ثم ننجي } من الإنجاء : عليّ وروح والمعدل عن زيد . الآخرون بالتشديد { خير مقاماً } بضم الميم : ابن كثير . الباقون بفتحها . { رياً } بالتشديد أبو جعفر ونافع عن ورش وابن ذكوان والأعشى وحمزة في الوقف ، وعن حمزة أيضاً بالهمزة في الوقف ليدل على أصل اللغة . الآخرون بهمز بعدها يا { وولداً } وما بعده بضم الواو سكون اللام : حمزة وعليّ . الآخرون بفتحهما { يكاد } على التذكير : نافع وعليّ { ينفطرن } من الانفطار : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وخلف وابن عامر والمفضل وأبو بكر وحماد والخزاز عن هبيرة . الباقون { يتفطرن } من التفطر .
الوقوف : { حياً } 5 { شيئاً } 5 { جثياً } 5 ج للآية وللعطف { عتياً } 5 ج لذلك { صلياً } 5 { واردها } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { مقضياً } 5 تقريباً للنجاة من الورود مع أن « ثم » لترتيب الأخبار { جثياً } 5 { آمنوا } لا لأن ما بعده مفعول « قال » { ندياً } 5 { ورئياً } 5 { مدّاً } 5 لأن « حتى » لانتهاء مدد الضلالة أو لابتداء الرؤية وجواب « إذا » محذوف وهو « آمنوا » { الساعة } ط لابتداء التهديد { جنداً } 5 { هدى } 5 { مرداً } 5 { وولداً } 5 ط لأبتداء الاستفهام للتقريع { عهداً } ط 5 للردع { كلاً } ط { مداً } 5 لا للعطف { فرداً } 5 { عزاً } 5 { كلاً } ط { ضدّاً } 5 { أزاً } 5 لا للتعجيل { عليهم } ط { عدّاً } 5 ط { وفداً } 5 ط { ورداً } 5 لئلا تشتبه الجملة بالوصف لهم { عهداً } 5 م حذرا من إيهام العطف { ولداً } 5 ط { إدّاً } 5 لا لأن ما بعده صفة { هداً } 5 لا لأن التقدير لأن دعوا { ولداً } 5 ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف { ولداً } 5 ط { عبداً } 5 ط { فرداً } 5 { ودّاً } 5 { من قرن } ط { ركزاً } 5 .
التفسير : لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم وأمته بالتبعية أن يعبدوا الله ويصطبروا لعبادته كان لمنكر أن يعترض بأن هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا لأنها مشقة ولا في الآخرة لاستبعاد حشر الأجساد إلى حالها ، فلا جرم حكى قول المنكر ليجيب عن ذلك فقال : { ويقول الإنسان } وهو للجنس لأن هذ الاستغراب مركوز في الطباع قبل النظر في الدليل ، أو لأن هذا القول إذا صدر عن بعض الأفراد صح إسناده إلى بني نوعه لأنه منهم كما يقال : بنو فلان قتلوا فلاناً وإنما القاتل واحد منهم . وقيل : المراد بالإنسان ههنا شخص معين هو أبو جهل أو أبي بن خلف .
وقيل : بعض الجنس هم الكفرة . وانتصب « إذا » بفعل مضمر يدل عليه { أخرج } المذكور لا نفسه لأن ما بدعه لام الابتداء لا يعمل فيما قبله . لا تقول : اليوم لزيد قائم . وإنما جاز الجمع بين حرف الاستقبال وبين لام الابتداء المفيدة للحال ، لأن اللام ههنا خلصت لأجل التأكيد كما خلصت الهمزة في « يا الله » للتعويض ، واضمحل عنها معنى التعريف . و « ما » في « إذا » ما للتوكيد أيضاً وكأنهم قالوا مستنكرين : أحقاً أنا سنخرج أحياء حين تمكن فينا الفناء بالموت؟ والمراد بالخروج إما الخروج من الأرض أو الخروج من حال الفناء أو الندور من قوله : « خرج فلان عالماً » إذا كان نادراً في العلم فكأنه قال على سبيل الهزء : سأخرج حياً نادراً . وإنما قدم الظرف وأولى حرف الإنكار من قبل أن ما بعد الموت هو وقت كون الحياة منكرة ومنه جاء الإنكار كقولك لمن أساء إلى محسنه « أحين تمت عليك نعمة فلان أسأت إليه »؟! ولما كان الإنسان لا يصدر عنه هذا الإنكار إلا إذا لم يتذكر أو لم يذكر النشأة الأولى قال سبحانه منبهاً على ذلك { أو لا يذكر } وههنا إضمار تقديره أيقول ذلك ولا يذكر . وزعم جار الله أن الواو عطفت لا يذكر على يقول في قوله : { ويقول الإنسان } ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف الجر . قال العقلاء : لو اجتمعت الخلائق على إيراد حجة في البعث أوجز من هذه لم يقدروا عليها ، لأن خلق الذات مع الصفات أصعب من تغيير الذات في أطوار الصفات ، وهذا معلوم لكل صانع يتكرر عنه عمل ، لأن الأول لم يستقر بعد في خزانة خيال . والثاني قد ارتسم واستقر وثبت له مثال واحتذاء . وإذا كان حال من يتفاوت في قدرته الصعب والسهل كذلك ، فما الظن بمن لا يتوقف مقدوره إلا على مجرد تعلق الإرادة الأزلية به؟ وفي قوله : { ولم يك شيئاً } بحث قد مر في أول السورة مثله .
وحين نبه على النكتة الضرورية أكدها بالإقسام قائلاً { فوربك لنحشرنهم } الفاء للاستئناف وهو يفيد الإعراض عن قصة والشروع في أخرى عقيبها والواو للقسم وشرف المقسم به دليل كمال العناية بالمقسم عليه ، وإضافة القسم إلى المخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع المفسرين تفخيم لشأنه ورفع من مقداره ، والواو في { والشياطين } إما للعطف وإما بمعنى مع بناء على أن كل كافر مقرون مع شيطانه في سلسلة ، وإذا حشر جميع الناس حشراً واحداً وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا مع الشياطين بل الكفرة ، وإن كان الضمير عائداً إلى منكري البعث فقط فلا إشكال . وكذا في قوله : { لنحضرنهم حول جهنم جثياً } أي جثياً على الركب غير مشاة على أقدامهم لما يدهشهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معها القيام على الأرجل ، أو على العادة المعهودة في مواقف مطالبات الملوك ومقاولاتهم .
{ ثم لننزعن } لنميزن { من كل شيعة } طائفة شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة ، وقد سبق تفسيره في الأنعام . { أيهم أشد } قرىء بالنصب وهو ظاهر ، وأما المقتصرون على الضم فذهب سيبويه إلى أنها مبنية كيلا يلزم خلاف القياس من وجهين : أحدهما إعراب أيّ مع أن من حق الموصول أن يبنى ، والآخر حذف المبتدأ مع الأصل فيه أن يكون مذكوراً والتقدير : أيهم هو أشد . وذهب الخليل إلى أنها معربة ولكنها لم تنصب على أن تكون مفعول { لننزعن } بل رفعت بتقدير الحكاية أي من كل شيعة مقول فيم أيهم أشد ، فيكون من كل شيعة مفعول { لننزعن } كقولك « أكلت من كل طعام » أي بعضاً من كل . ويجوز أن يقدّر لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد ، قال سيبويه : لو جاز « اضرب أيهم » أفضل على الحكاية لجاز « اضرب الفاسق الخبيث » أي الذي يقال له الفاسق الخبيث وهذا باب قلما يصار إليه في سعة الكلام . ومذهب يونس في مثله أن الفعل الذي قبل « أيّ » معلق عن العمل ، ويجيز التعليق في غير أفعال القلوب . ثم إن علقت قوله : { على الرحمن } ب { أشد } كقولهم : « هو أشد على خصمه » فظاهر ، وإن علقته بالمصدر فذلك لا سبيل إليه عند النحويين لأن المصدر لا يعمل فيما قبله . فالوجه أن يقال : إنه بيان للمحذوف فكأنه سئل إن عتوَّه على من؟ فقيل : على الرحمن . وكذا الكلام في { أولى بها صلياً } تعلق المجرور بأفعل من غير تأويل أو ب { صلياً } على التأويل . صلى فلان النار يصلى صلياً إذا احترق . أخبر أوّلاً أنه يميز من كل فرقة ضالة من هو أضل ثم بين بقوله : { ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صلياً } أنه يطرحهم أي أهل الضلال البعيد في النار على الترتيب يقدم أولاهم بالعذاب فأولاهم ، ولا ريب أن الضال المضل يكون أولى بالتقدم من الضال ، وكذا الكافر المعاند بالنسبة إلى المقلد وإن كانوا جميعاً مشتركين في شدة العتوّ . ويجوز أن يراد بالذين هم أولى المنتزعين كما هم كأنه قال : ثم لنحن أعلم بتصلية هؤلاء وأنهم أولى بالصلى لكون دركاتهم أسفل .
{ وإن منكم } الخطاب للناس من غير التفات ، أو للإنسان المذكور فيكون التفاتاً ، وعلى التقديرين فإن أريد الجنس كأنه لم يكن في قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً } إشكال . ولكنه يشكل بأن المؤمنين كيف يردون النار؟ وأجيب بما روي عن جابر بن عبد الله أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : « إذا دخل أهل الجنة قال بعضهم لبعض : أليس وعدنا ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم : قد وردتموها وهي خامدة »
وعنه أيضاً رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للناس ضجيجاً من بردها » وأما قوله : { أولئك عنها مبعدون } فالمراد عن عذابها . وعن ابن عباس : يردونها كأنها إهالة . ومنهم من لم يفسر الورود ههنا بالدخول لأن ابن عباس قال : قد يرد الشيء الشيء ولم يدخله كقوله تعالى : { لما ورد ماء مدين } [ القصص : 33 ] ومعلوم أن موسى لم يدخل الماء ولكنه قرب منه . ويقال : وردت القافلة البلد إذا قربت منه ، فالمراد بالورود جثوهم حولها وعن ابن مسعود والحسن وقتادة : هو الجواز على الصراط لأن الصراط ممدود عليها . وعن مجاهد : هو مس الحمى جسده في الدنيا قال عليه السلام : « الحمى من فيح جهنم » وفي رواية « الحمى حظ كل مؤمن من النار » وإن أريد بالناس أو بالإنسان الكفرة فلا إشكال في ورودهم النار ولكنه لا يطابقه قوله : { ثم ننجي الذين اتقوا } ووجه بأنه أراد أن المتقين يساقون إلى الجنة عقيب ورود الكفار لا أنهم يوردونها يتخلصون .
أسئلة : كيف يندفع عنهم ضرر النار عند من فسر الورود بالدخول؟ زعم بعضهم أن البقعة المسماة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها مواضع خالية عن النار أشباه الطرق إلى دركات جهنم ، والمؤمنون يردون تلك المواضع . والأصح أنه سبحانه يزيل عنها طبيعة الإحراق بالنسبة إلى المؤمنين وهو على كل شيء قدير ، ولهذا لا تضر النار الملائكة الموكلين بالعذاب . ما الفائدة في إيراد المؤمنين النار إذا لم يعذبوا بها؟ فيه وجوه منها : أن يزدادوا سروراً إذا رأوا الخلاص منها . ومنها افتصاح الكافرين إذا اطلع المؤمنون عليهم . ومنها أن المؤمنين يوبخون الكفار ويسخرون منهم كما سخروا في الدنيا . ومنها أن يزيد التذاذهم بالجنة فبضدها تتبيّن الأشياء . هل ثبت في الأخبار كيفية دخول النار ثم خروج المتقين منها؟ قد ثبت أن الحاسبة تكون في الأرض أو في موضعها لقوله : { يوم تبدل الأرض غير الأرض } [ إبراهيم : 48 ] وجهنم قريبة من الأرض والجنة في السماء . فالاجتماع يكون في موضع الحساب ثم يدخلون من ذلك الموضع إلى جهنم ، ثم يرفع الله أهل الجنة ويبقى أهل النار فيها . قلت : هذا على رأي الفلاسفة الإسلاميين ظاهر ، فالمحاسبة تكون في الأرض ومرور الكل يكون على كرة النار ، ثم يرفع أهل الكمال إلى السماء ويبقى الكفرة في النار ويؤيده قوله : { كان } أي الورود { على ربك حتماً } أي محتوماً مصدر بمعنى المفعول { مقضياً } قضى به وعزم أن لا يكون غيره ، وذلك أن العبور من جميع الجوانب على كرة النار .
وأجمعت المعتزلة بذلك على أن العقاب واجب على الله عقلاً . وقال الأشاعرة : شبه بالواجب من قبل استحالة يطرق الخلف إليه . وقد سبق أن المتقي عند المعتزلة من يجتنب المعاصي كلها ، وعند غيرهم هو الذي اجتنب الشرك فقط ، وقد يهدم بالآية قاعدة القائل بمنزلة بين المنزلتين . وأجيب أن تنجية المتقين أعم من أن تكون إلى الجنة أو إلى غيرها ، هب أن تنجيتهم إلى الجنة إلا أن الذي طاعته ومعصيته سيان غير داخل في المتقين ولا في الظالمين فيبقى حكمة مسكوتاً عنه . ومن المعتزلة من تمسك بالوعيد بقوله : { ونذر الظالمين } ومنع أن الصيغة للعموم ، ولو سلم فمخصص بآيات الوعد لما ردّ على منكري البعث وقرر كيفية الحشر . قال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا } الآية ، والمراد أنهم عارضوا حجة الله بكلام أعوج فقالوا : لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا ولم يكن بالعكس ، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعز أعداءه . يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنون ويتطيبون ويتزينون ثم يدّعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنهم أكرم على الله عز وجل منهم قال جار الله : معنى بينات مرتلات الألفاظ ملخصات المعاني مبينات المقاصد ، إما محكمات أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو بتبيين الرسول قولاً أو فعلاً ، أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على ما معارضتها ، أو حججاً وبراهين ، وعلى التقادير تكون حالاً مؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً } [ البقرة : 91 ] لأن آيات الله لا تكون إلا بهذه الأوصاف .
ومعنى { للذين آمنوا } أنهم يخاطبونهم بذلك أو يفوهون به لأجلهم في شأنهم . والمقام بالضم موضع الإقامة أي المنزل ، وبالفتح موضع القيام ، والنديّ المجلس ومجتمع القوم حيث ينتدون . قوله : { أيّ الفريقين } يعني المؤمنين بالآيات والجاحدين لها من الكلام المنصف على زعمهم ، والمقصود نحن أوفر حظاً على ما يظهر منا في أحوال قيامنا وقعودنا ، وحسن الحال في الدنيا ظاهر على الفضل والرفعة وضده أمارة على النقص والضعة ، فأجابهم الله تعالى بقول : { وكم أهلكنا } أي كثيراً من المرات أهلكنا قبلهم أهل عصر و « من » بيان المهلك . ويجوز أن تكون زائدة للتأكيد و « كم » استفهامية لتقرير التكثير ، أو خبرية عند من يجوّز زيادتها في الموجب . و { هم أحسن } في محل النصب صفة ل « كم » أو الجر صفة { قرن } والأثاث متاع البيت وقد مر في النحل في قوله : { أثاثاً ومتاعاً إلى حين } [ الآية : 80 ] قال الجوهري : من همز { رئياً } جعله من رأيت وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة ، ومن لم يهمزه فإما أن يكون على تخفيف الهمزة أي قلب الهمزة ياء وأدغم ، أو يكون من « رويت ألوانهم وجلودهم رياً » أي امتلأت وحسنت .
وقال جار الله : الري هو المنظر والهيئة « فعل » بمعنى « مفعول » . وقرىء بهمز قبله ياء على القلب كقولهم « راء » في « رأي » . وقرىء بالزاي المنقوطة واشتقاقه من الزي بالفتح وهو الجمع لأن الزي محاسن مجموعة . وفي الآية حذف التقدير أحسن من هؤلاء ، والحاصل أنه تعالى أهلك من كان أكثر مالاً وجمالاً منهم وذلك دليل على إفساد إحدى مقدمتيهم وهي أن كل من وجد الدنيا كان حبيب الله ، أو على فساد المقدمة الأخرى وهي أن كل من كان حبيباً لله فإنه لا يوصل إليه غماً . ثم بين أن مآل الضال إلى الخزي والنكال وإن طالت مدته وكثرت عدته ، وقوله : { فليمدد له الرحمن } خبر مخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب الإمهال وأنه مفعول لا محالة لتنقطع معاذيرالضال ويقال له يوم القيامة { أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } [ فاطر : 37 ] أو ليزدادوا إثماً كقوله { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] أو هو في معنى الدعاء بأن يمهله الله عز وجل وينفس في مدة حياته . والغاية أحد الأمرين المذكورين أي انقطاع العذر أو ازدياد الإثم . أما قوله : { حتى إذا رأوا } إلى آخر . فقد قال في الكشاف : إنه يحتمل أن يكون متصلاً بقوله : { أي الفريقين } إلى آخره ، وما بينهما اعتراض قالوا : أي الفريقين خبر مقاماً وأحسن ندياً حتى إذا رأوا ما يوعدون . والمعنى لا يزالون يتفوّهون بهذا القول مولعين به إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين { أما العذاب } في الدنيا وهو غلبة المسلمين بالقتل والأسر وتغير أحوالهم من العز إلى الذل ومن الغنى إلى الفقر ، وأما يوم القيامة ، ويحتمل أن تتصل بما يليها والمراد أنهم لا ينفكون عن ضلالتهم وسوء مقالتهم إلى أن يعاينوا عذاب الدنيا ، أو الساعة ومقدماتها . وقوله : { فسيعلمون من هو شر مكاناً وأضعف جنداً } في مقابلة قولهم : { خير مقاماً وأحسن ندياً } لأن مقامهم هو مكانهم والنديّ المجلس الجامع لوجوه قومهم وأعوانهم ، والجند الأعوان ، ولا ريب أن مكان القتل والأسر شر مكان في الدنيا ومكان عذاب النار شر مكان في الآخرة . ولا شك أيضاً أنه لو كان لهم في الوقتين ناصر لم يلحقوهم من الخزي والنكال ما لحقهم .
وحين بيّن حال أهل الضلال أراد أن يبين حال أهل الكمال فقال : { ويزيد الله الذين اهتدوا هدى } وذلك أن بعض الاهتداء يجر إلى البعض الآخر كالإيمان يجر إلى الإخلاص فيه كما أن بعض الغواية يجر إلى بعضها . ومنها من فسر الزيادة بالعبادات المرتبة على الإيمان . والواو في { ويزيد } للاستئناف . وقد تكلف جار الله فقال : إنه للعطف على معنى { فليمدد } أي يزيد في ضلال الضال بخذلانه ويزيد المهتدين هداية بتوفيقه . وقد مر في سورة الكهف أن الباقيات الصالحات فسرها الأكثرون بجميع الأعمال الصالحات المؤدية إلى السعادات الباقيات .
وفسرها بعضهم بما هي أعظم ثواباً منها كالصلوات الخمس وغيرها . وقوله : { خير } يقتضي غيراً يكون مشاركاً له في أصل الخيرية ويكون هذا خيراً منه ، فإن قدرنا ذلك شيئاً فيه خيرية كبعض الأعمال الدنيوية المباحة أو كسائر الأعمال الصالحة عند من يفسر الباقيات بمعنى الأخص فظاهر أنها خير { ثواباً وخير مرداً } أي مرجعاً وعاقبة أو منفعة من قولهم : « هل لهذا الأمر مرد » إن قدرنا ذلك شيئاً لا ثواب فيه ولا خيرية كما زعم جار الله أن المراد هي خير ثواباً من مفاخرات الكفار ، فيكون إطلاق الثواب على عقاب الكفار من قبيل التهكم ومن باب قولهم : « تحية بينهم ضرب وجيع » . ويكون وجه التفضيل في الخير ما قيل في قولهم : « الصيف أحر من الشتاء » أي هو أبلغ في حره من الشتاء في برده ، ثم أردف مقالتهم الحمقاء بأخرى مثلها قائلا على سبيل التعجب { أفرأيت } كأنه قال : أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقيب حديث أولئك . وإنما استعملوا « أرأيت » بمعنى « أخبر » لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه . عن الحسن : نزلت في الوليد بن المغيرة ، والمشهور أنها في العاص بن وائل . قال خباب بن الأرث : كان لي عليه دين فاقتضيته ، وقيل : صاع له حلياً فاقتضاه الأجر فقال : إنكم تزعمون أنكم تبعثون وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ، فأنا أقضيك ، ثم فإني أوتي مالاً وولداً حينئذٍ . من قرأ { ولداً } بفتحتين فظاهر ، ومن قرأ بالضم فالسكون ، فإما جمع ولد كاسد في أسداً ، أو بمعنى الولد كالعرب والعرب ، فأنكر الله سبحانه عليه بقوله مستفهماً { أطلع الغيب } من قولهم « اطلع الجبل » أي ارتقى إلى أعلاه ، ولاختيار هذه الكلمة شأن كأنه قال : أو قد بلغ من عظمة شأنه أن ارتقى إلى عالم الغيب الذي تفرد به علام الغيوب { أم اتخذ عند الرحمن عهداً } عن الكلبي : هل عهد الله إليه أن يؤتيه ذلك . وعن قتادة : هل له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول : وقيل : العهد كلمة الشهادة { كلا } ردع وتنبيه على الخطأ فيما تصوره لنفسه وتمناه وفي قوله : { سنكتب } بسين التسويف مع أن الحفظة يكتبون ما قاله في الحلل دليل على أن السين جرد ههنا لمعنى الوعيد ، أو أراد سيظهر له نبأ الكتابة بالتعذيب والانتصار يؤيده قوله : { ونمد له } أي نطوّل له { من العذاب } ما يستأهله أمثاله من المستهزئين أو نزيده من العذاب ونضاعف له من المدد . مده وأمده معنى .
ثم أكد المدد بالمصدر وهو مؤذن بفرط الغضب أعاذنا الله منه ، ثم عكس استهزاءه بقوله : { ونرثه ما يقول } أي نمنع عنه منتهى ما زعم أنه يناله في الآخرة من المال والولد لأنه تألى على الله في قوله : { لأوتين } ومن يتأل على الله يكذبه لأن ذلك غاية الجراءة ونهاية الأشعبية .
والمراد هب أنا أعطيناه ما اشتهاه أما نرثه منه في العاقبة { ويأتينا } غداً { فرداً } بلا مال ولا ولد . وكلام صاحب الكشاف في الوجهين ملخبط فليتأمل فيه . وكذا في قوله : { فرداً } على الأول حال مقدرة نحو { فادخلوها خالدين } [ الزمر : 73 ] لأنه وغيره سواء في إتيانه فرداً حين يأتي ، ثم يتفاوتون بعد ذلك . وذلك أن الخلود لا يتحقق إلا بعد الدخول ، أما انفراده فمحقق في حالة الإتيان وتفاوت الحال بعد ذلك ، واشتراك الكل في الإتيان منفرداً لا مدخل له في المقصود فلا أدري ما حمله على هذا التكلف . قال : ويحتمل أن هذا القول : إنما يقوله ما دام حياً فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ، ويأتينا منفرداً عنه غير قائل له ، أو أراد أن هذا القول لا ننساه ولا نلغيه بل نثبته في صحيفته لنضرب به وجهه في الموقف ونعيره به ، ويأتينا على فقره ومسكنته فرداً من المال والولد لم نعطه سؤله ومتمناه ، فيجتمع عليه خطبان تبعه قوله وفقد سؤله . وحين فرغ من الرد على منكري البعث شرع في الرد على عبدة الأصنام فبين أوّلاً عرضهم وذلك أن يتعززوا بآلهتهم وينتفعون بشفاعتهم ، ثم أنكر عليهم وردعهم بقوله : { كلا } ثم أخبر عن مآل حالهم بقوله { سيكفرون } فإن كان الضمير للمعبودين فهم إما الملائكة كقوله : { قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن } [ سبأ : 41 ] وإما الأصنام فلا يبعد أن ينطق الله الجماد بذلك كقوله : { وألقوا إليهم القول إنهم لكاذبون } [ النحل : 86 ] وإن كان الضمير للعابدين فهو كقوله : { وألقوا إليهم القول إنهم لكاذبون } [ النحل : 86 ] وإن { الأنعام : 23 ] أما الضمير في يكونون فللمعبودين ، وقوله : { عليهم } في مقابلة قوله : { لهم عزاً } وضد العز الهوان كأنه قيل : ويكونون عليهم ذلاً لهم عزاً ويحتمل أن يراد بالضد العون لأنه يضاد العدو ، ووحد لاتفاق كلمتهم وفرط تضامهم وتوافقهم كقوله صلى الله عليه وسلم : « وهم يد على من سواهم » ومعنا كون الآلهة أضداداً أي أعواناً عليهم أنهم وقود النار وأن المشركين عذبوا بسبب عبادتها ، ويحتمل أن يكون الضمير في { يكونون } للمشركين أي يكون المشركون كفرة بآلهتهم وأعداء لهم بعد أن كانوا يعبدونها .
وحيث بيّن مذاهب الفرق الضالة أراد أن يبين منشأها فقال : { ألم تر أنا أرسلنا } الآية . والأز الهز والتهييج . قالت : الأشاعرة : في الآية دلالة على أنه تعالى مريد لجميع الكائنات لأن قول القائل : « أرسلت فلاناً على فلان » يفيد أنه سلطه عليه منه قوله صلى الله عليه وسلم : « سم الله وأرسل كلبك عليه » ويؤيده قوله : { تؤزهم } أي تغريهم على المعاصي وتحثهم عليها بالوسواس والتسويلات .
وقالت المعتزلة : أراد بهذا الإرسال التخلية بينهم وبينهم كما إذا لم يمنع الرجل من دخول بيت جيرانه . وحاصل كلامهم أنه أرسل الأنبياء وأرسل الشياطين ، ثم خلى بين المكلفين وبين الأنبياء والشياطين إلا أنه خص أولياءه بمزيد الألطاف حتى قبلوا قول الأنبياء ، ومنع أعداءه تلك الألطاف وهو المسمى بالخذلان فقبلوا قول الشياطين . ولما كان هذا الإرسال سبباً لهلاك الكفارة عداه ب « على » لا ب « إلى » قلت : لا يخفى أن استناد الكل إلى الله تعالى فنزاع الفريقين لفظيّ أو قريب منه . { فلا تعجل عليهم } يقال : عجلت عليه بكذا إذا استعجل منه أي لا تعجل عليهم بأن يهلكوا فتستريح أنت والمسلمون من شرورهم فليس بينك وبين ما تطلب من هلاكهم إلا أيام محصورة وأنفاس معدودة . قال ابن عباس : نزلت في المستهزئين وهم خمسة رهط . وعنه أنه كان إذا قرأها بكى وقال : آخر العدد خروج نفسك ، وآخر العدد فراق أهلك ، وآخر العدد دخول قبرك . وعن ابن السماك أنه كان عن المأمون فقرأها فقال : إذا كانت الأنفاس بالعدد ولم يكن لها مدد فما أسرع ما تنفد . وقال بعضهم :
إن الحبيب من الأحباب مختلس ... لا يمنع الموت بواب ولا جرس
وكيف يفرح بالدنيا ولذتها ... فتى يعد عليه اللفظ والنفس
ثم لما قرر أمر الحشر وأجاب عن شبه منكريه أراد أن يشرح حال المكلفين وقتئذٍ فقال : { يوم نحشر } وانتصابه بمضمر متقدم أو متأخر أي اذكر يوم كذا وكذا ونفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف . ويجوز أن ينتصب { بلا يملكون } خص المتقون بالجمع إلى محل كرامة الرحمن وافدين . يقال : وفد فلان على الأمير وفادة أي ورد رسولاً فهو وافد والجمع وفد كصاحب وصحب . عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما يحشرون على أرجلهم ولكنهم على نوق رحالهم ذهب وعلى نجائب سروجها ياقوت » وخص المجرمون بالسوق إلى جهنم ورداً أي وهم الذين يردون الماء ، وفيه من الإهانة ما فيه كأنهم نعم عطاش تساق إلى الماء . وقال جار الله : حقيقة الورد المسير إلى الماء فسمي به الواردون . قال بعض العلماء : في الآية دلالة على أن أهوال يوم القيامة تختص بالمجرمين لأن المتقين من الابتداء يحشرون على هذا النوع من الكرامة فكيف ينالهم بعد ذلك شدة؟ قلت : يحتمل أن يكون الحشر إلى الرحمن غير الحشر إلى الموقف ، فيراد بالحشر إلى الرحمن أي إلى دار كرامته وسوقهم إلى الجنة لقوله : { وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً } [ الزمر : 73 ] وهذا بعد امتياز الفريقين ، فالأمن الكلي فيما بعد هذه الحالة لا ينافي الخوف والدهشة فيما قبلها كما ورد في حديث الشفاعة وغيره . وقوله : { إلى الرحمن } دون أن يقول إلينا من وضع الظاهر موضع المضمر ، وفيه من البشارة ما فيه ولا يلزم منه التجسم للتأويل الذي ذكرناه ، والضمير في { لا يملكون } للمكلفين المذكورين بقسمهم وفاعله { من اتخذ } على البدلية لأنه في معنى الجمع .
ويجوز أن تكون الواو علامة للجمع كالتي في « أكلوني البراغيث » فيكون { من اتخذ } فاعلاً والاستثناء مفرغاً . ويجوز أن ينتصب { من اتخذ } على الاستثناء أو على تقدير حذف المضاف أي إلا شفاعة . من اتخذه واختلف المفسرون في الشفاعة فقيل : لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم . وقيل : لا يملك غيرهم أن يشفعوا لهم . واتخاذ العهد الاستظهار بالأيمان والعمل ، أو بكلمة الشهادة وحدها والأول يناسب أصول المعتزلة ، والثاني يناسب أصول الأشاعرة . وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه ذات يوم : « أيعجز أحدكم أن يتخذ كل صباح ومساء عند الله عهداً قالوا : وكيف ذلك؟ قال : يقول كل صباح ومساء : اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الحياة بأني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك له وأن محمداً عبدك ورسولك فلا تكلني إلى نفسي فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد ، فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع ووضع تحت العرش ، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد : أين الذي لهم عند الرحمن عهد فيدخلون الجنة » ويجوز أن يكون من عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به أي لا يشفع إلا المأمور بالشفاعة المأذون له فيها كقوله : { وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله } [ النجم : 26 ] .
وحين رد على عبدة الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولداً من اليهود والنصارى والعرب ، ومنهم من خص الآية بالرد على العرب القائلين بأن الملائكة بنات الله لأن الرد على النصارى تقدم في أول السورة . وفي قوله : { لقد جئتم } التفات من الغيبة إلى المخاطبة تسجيلاً عليهم بالجراءة والتعرض لسخطه . والأد الأمر العجيب أو المنكر ، والتركيب يدل على الشدة والثقل ومنه أدت الناقة تؤد إذا رجعت الحنين في جوفها . ويقال : فطره بالتخفيف إذا شقه ، ومطاوعه انفطر وبالتشديد للتكثير ، ومطاوعه تفطر وهذا البناء للتكثير . وانتصب { هذا } إما على المصدر لأن الخرور في معناه ، وإما لأن التقدير يهد هداً ، أو على الحال أي مهدودة ، أو على العلة أي لأنها تهد . ومحل { أن دعوا } إما مجرور بدلاً من الهاء في { منه } وإما منصوب بنزع الخافض أي هدّاً لأن دعوا ، علل الخرور بالهد والهد بالدعاء ، وإما مرفوع بأنه فاعل هد أي هدها الدعاء ، وخير الوجوه أوسطها كما في الوقوف والدعاء .
أما بمعنى التسمية فيكون المفعول الأول متروكاً طلباً للعموم والإحاطة بكل ما دعي ولداً له ، وإما بمعنى النسبة أي نسبوا إلى الرحمن ولداً . { وما ينبغي } لا يصح ولا يستقيم وهو في الأصل مطاوع بغى إذا طلب ، وإنما لا يصير مطلوباً لأنه محال . أما الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها ، وأما التبني فلأن القديم لا جنس له حتى يميل طبعه إليه ميل الوالد إلى الولد لمن أضاف إليه ولداً فقد جعله كبعض خلقه وأخرجه بذلك عن استحقاق اسم الرحمن المختص به ، فليس أصول النعم وفروعها إلا منه كما قيل : لينكشف عن بصرك غطاؤه فأنت وجميع ما عندك عطاؤه ، وهذا من فوائد تكرير هذا الاسم في هذا المقام .
سؤال : كيف تؤثر هذه الكلمة في الجمادات حتى تنفطر وتنشق وتخر؟ أجيب بأنه سبحانه كأنه يقول : كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند دعائهم الولد لي غضباً مني على من تفوّه بها لولا حلمي ، أو هو تصوير لأثر هذه الكلمة في الدنيا ، أو المراد أن هذا الاعتقاد يوجب أن تكون هذه الأجرام على ما ترى من النظام كقوله : { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] وقال أبو مسلم : أراد أن هذه الأجرام كانت ممن يعقل كادت تفعل ذلك . ثم بين أن العابدين والمعبودين في السموات أو في الأرضين كلهم تحت قهره وتسخيره في الدنيا وفي الآخرة وأنه محيط بجهل أحوالهم وتفاصيلها فقال : { إن كل } « إن » نافية أي ليس فرد من أفراد الخلائق { إلا أتى الرحمن } إلا وهو ملتجىء إلى ربوبيته مقر بعبوديته . ثم أجمل حال المؤمنين بما لا مزيد عليه في باب الكرامة قائلاً { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودّاً } أي سيحدث لهم في القلوب مودّة من غير ما سبب من الأسباب المعهودة كقرابة أو اصطناع وذلك كما يقذف في قلوب أعدائهم الرعب . والسين إما لأن السورة مكية وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة فوعدهم الله المودة بين الناس عند إظهار الإسلام ، وإما أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يعرض من حسناتهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : « يا عليّ قل اللَّهم اجعل لي عندك عهداً واجعل لي في صدور المؤمنين مودّة » ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وعن ابن عباس : يعني يحبهم الله ويحببهم إلى خلقه . وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : « يا جبرائيل قد أحببت فلاناً فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء : إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ، ثم يوضع له القبول في الأرض » وعن قتادة : ما أقبل العبد إلى الله عز وجل إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه .
وعن كعب قال : مكتوب في التوراة : لا محبة لأحد في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله تعالى ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ، وتصديق ذلك في القرآن { سيجعل لهم الرحمن ودّاً } هذا قول جمهور المفسرين . وعن أبي مسلم أن المراد أنه سهب لهم في الجنة ما يحبون ، واستعمال المصدر بمعنى المفعول كثير . وإنما صار إلى هذا القول لأن المسلم التقي يبغضه الكفار وقد يبغضه المسلمون أكثرهم ، وقد يحصل مثل هذه المحبة للكفار والفساق فيكونون مرزوقين بميل الناس إلى اختلاطهم ومحبتهم فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين . وأيضاً إن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا من فعل الله ، فحمل الكلام على إعطاء المنافع به أولى . وأجيب بأن المراد محبة الملائكة والأنبياء والصالحين ومثل هذه لا تحصل للكافر والفاسق ، وبأنه محمول على فعل الألطاف وخلق داعية إكرامه في قلوبهم . ثم عظم شأن ما في هذه السورة من التوحيد والنبوة وبيان الحشر والرد على الفرق الضالة قائلاً : { فإنما يسرناه } كأنه قال : بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر فإنما أنزلناه بلسانك أي بلغتك وسهلناه وفصلناه لتبشر به وتنذر . واللد جمع الألد الشديد الخصومة بالباطل كقوله في « البقرة » { وهو ألد الخصام } [ البقرة : 204 ] يريد أهل مكة . ثم ختم السورة بما هو غاية في الإنذار ونهاية في التخويف لأنبائه عن انقضاء القرون الخالية بالفناء أو بالإفناء بحيث لم يبق منهم شخص يرى ولا صوت يسمع فيعلم منه أن مآل الباقين أيضاً إلى ذلك فيجتهدوا في تحصيل الزاد للمعاد ولا يصرفوا همتهم إلى ما هو بصدد الزوال والنفاد . والركز الصوت الخفي وركز الرمح تغيب طرفه في الأرض والركاز المال المدفون .
التأويل : { ويقول } النفس الإنسانية لجهلها بالحقائق إذا مات عن الصفات البشرية { أخرج حياً } بالصفات الروحانية . { ولنحشرهم والشياطين } فلكل شخص قرين من الشياطين { ثم لنحضرنهم حول جهنم } القهر والطبيعة { وإن منكم } من الأنبياء والأولياء والمؤمنين والكافرين إلا هو وارد هاوية الهوى بقدم الطبيعة { حتماً مقضياً } لأن حكمته الأزلية اقتضت خلق هذا النوع المركب من العلوي والسفلي { ثم ننجي الذين اتقوا } الهوى يقدم الشريعة على طريق الطريقة للوصول إلى الحقيقة { آياتنا } من الحقائق والأسرار { قال الذين كفروا } ستروا الحق { للذين آمنوا } تحقيقاً وإيقاناً { وكم أهلكنا } بحب الدنيا والإغراق في بحر الشهوات والإحراق بنار المناصب للعرضيات { أما العذاب } وهو الموت على الإنكار والغفلة { وإما الساعة } وهي الإماتة عن الصفات البشرية عند قيام قيامة الشوق والمحبة . { فسيعلمون } حزب الله من حزب الشيطان { ويزيد الله } بالترقي من الإيمان إلى الإيقان إلى العيان { أن دعوا للرحمن ولداً } من فوائد ذكر اسم الرحمن ههنا أن الرحمانية أمهلتهم حتى قالوا ما قالوا وإلا فالألوهية مقتضية لإعدامهم في الحال { وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً } عن مشيئة وإرادة بخلافهم في الدنيا فإنهم يظنون أن لهم إرادة واختياراً . { فإنما يسرنا } فيه أنه لولا تيسير الله درايته على قلب النبي صلى الله عليه وسلم وإلا فكيف يسع ظروف الحروف المحدثة المتناهية حقائق كلامه الأزلية غير المتناهية { وكم أهلكنا } في تيه الضلالة { أو تسمع لهم ركزاً } بالثناء الحسن عليهم والله أعلم بالصواب .
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8) وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36)
القراآت : بإمالة الطاء والهاء . حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وعباس وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب . وفي الكشاف أن أبا عمرو فخم الطاء لاستعلائها وأمال الهاء . والآخرون بتفخيمها { لأهله امكثوا } بضم الهاء وكذلك في « القصص » : حمزة { إني آنست } { إني أنا الله } بفتح ياء المتكلم فيهما : أبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو { لعلي آتيكم } بفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر غير ابن مجاهد { على النار هدى } ممالة : عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدوية وحمزة في رواية ابن معدان وأبي عمر والنجاري عن ورش وأبي عمرو وغير ابراهيم وابن حماد { أني أنا ربك } بفتح الهمزة وياء المتكلم : ابن كثير وأبو عمرو ويزيد . بكسر الهمزة وفتح الياء : نافع الباقون : بكسر الهمزة وسكون الياء { طوى } منوناً حيث كان : عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر { وإنا اخترناك } على الجمع : حمزة والمفضل { لذكري } { إني } { لي } { أمري } { عيني } { برأسي } ( إني ) بفتح الياآت : حمزة والمفضل ونافع وأبو عمرو . ( لي فيها ) بالفتح : حفص والمفضل والأعشى والبرجمي والأصبهاني عن ورش مخير { أخي اشدد } بفتح الياء موصولة : ابن كثير غير الخزاعي عن ابن فليح وأبو عمرو { واشدد } بفتح الهمزة { وأشركه } بضمها على التكلم : ابن عامر والباقون بضم الأول وفتح الثاني على الأمر { سؤلك } بالواو : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف . الآخرون بالهمزة .
الوقوف : { طه } 5 كوفي ومن قال معناه يا رجل أو يا طالب أو يا هادي لم يقف { لتشقى } 5 للاستثناء { يخشى } 5 لا بناء على أن { تنزيلاً } بدل { تذكره } { لعلي } 5 { الرحمن } مبتدأ { استوى } 5 { الثرى } 5 { وأخفى } 5 { إلا هو } ط { الحسنى } 5 { حديث موسى } 5 لئلا يوهم أن « إذ » ظرف للإتيان { هدى } 5 { يا موسى } 5 { نعليك } ج للابتداء بأن مع اتحاد القول { طوى } 5 ط إلا لمن قرأ { إنا اخترناك } { بوحي } 5 { فاعبدني } 5 لا للعطف { لذكرى } 5 { تسعى } 5 { فتردى } 5 { يا موسى } 5 { عصاي } ج لا مكان أن يجعل { أتوكأ } مستأنفاً أو حالاً والعامل أضمر أو أشير بناء على أن « هي » بمعنى « هذه » . { أخرى } 5 { يا موسى } 5 { تسعى } 5 { ولا تخف } ق لحق السين { الأولي } 5 { آية أخرى } 5 لا لتعلق اللام . { الكبرى } 5 ج للآية والاستئناف بالأمر على أن المقول متصل { طغى } 5 { صدري } 5 { أمري } 5 لا { لساني } 5 لا { قولي } ص لطول الكلام { أهلي } 5 لا { أخي } 5 لا وقف لمن قرأ { أشدد } بفتح الهمزة جواباً للدعاء ومن فتح الياء فله الوصل ومن قرأ { اشدد } بضم الهمزة فله الجواز لاتساق الدعاء على الدعاء بلا عاطف { أزري } 5 لا { أمري } 5 لا لتعلق « كي » { كثيراً } 5 { بصيراً } { يا موسى } 5 .
التفسير : في { طه } قولان للمفسرين : أحدهما أنه من حروف التهجي وقد سلف البحث في أمثالها ، والذي زادوه ههنا أمور منها : قول الثعلبي : الطاء شجرة طوبى ، والهاء الهاوية وكأنه أقسم بالجنة والنار . ومنها ما روي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن الطاء طهارة أهل الدين والهاء هدايتهم . وقيل : أراد يا طاهراً من الذنوب ويا هادياً إلى علام الغيوب . ومنها قول سعيد بن جبير هو افتتاح باسمه الطيب الطاهر الهادي . قيل : الطاء تسعة في الحساب والهاء خمسة ومعناه : يا أيها البدر . القول الثاني أنها كلمة مفيدة ومعناها يا رجل . مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن بير وقتادة وعكرمة والكلبي . ثم قال سعيد بن جبير بلسان القبطية : وقال قتادة بلسان اليونانية والسريانية . وقال عكرمة بلسان الحبشة . وقال الكلبي بلسان عك وهو عك ابن عدنان أخو معد وهو اليوم في اليمن . وعن الحسن أن طه أمر وأصله طأ أمراً بالوطء فقلبت الهمزة هاء وذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معاً ، ويؤكده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم بالليل حتى اسمعدّت قدماه - أي تورمتا - فقال له جبرائيل : أرفق على نفسك فإن لها عليك حقاً ونزلت { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } أي تتعب بالعبادة ولكنك بعثت بالحنيفية السهلة . وعند الأكثرين معنى { لتشقى } لتتعب بفرط تأسفك عليهم وتحسرك على أن يؤمنوا . والشقاء يجيء بمعنى التعب ومنه المثل « أشقى من رائض مهر وأتعب » . وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحرث قالا له : إن كل شقي لأنك تركت دين آبائك فرد الله عليهم بأن القرآن هو السبب في نيل كل سعادة . قال جار الله : إن جعلت { طه } تعديد الأسماء الحروف فقوله { ما أنزلنا } ابتداء الكلام ، وإن جعلته اسماً للسورة فمبتدأ وما بعده خبر وقد أقيم الظاهر - وهو القرآن - مقام الضمير الرابط ، وإن جعلته قسماً فما يتلوه جواب وكل واحد من { لتشقى } و { تذكرة } علة للفعل إلا أن الأول وجب مجيئه مع اللام لأنه ليس فعلاً لفاعل الفعل المعلل والثاني جاز قطع اللام عنه لوجود الشرط . ولا يجوز أن يكون { تذكرة } بدلاً من محل { لتشقى } لاختلاف الجنسين ، فإن التذكرة لا يمكن أن تحمل على الشقاء ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي فيه « إلا » بمعنى « لكن » . وفي قوله { لتشقى } و { إلا تذكرة } وجه آخر وهو أنه ما أنزلنا عليك القرآن لتتحمل متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة أي ما أنزلنا عليك هذا التعب الشاق إلا لهذا الغرض كما يقال : ما شافهناك بذلك الكلام لتتأذى إلا ليعتبر بك غيرك .
فانتصب { تذكرةً } على أنه حال أو مفعول له ، وإذا كانت حالاً جاز أن يكون { تنزيلاً } بدلاً منها ، وإذا كانت مفعولاً لأجله لم يجز أن يكون { تنزيلاً } بدلاً منها لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، فالإنزال لا يعلل بالتنزيل في الظاهر . ويجوز أن ينتصب { تنزيلاً } بمضمر أي نزل تنزيلاً أو بأنزلنا لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنزلناه تذكرةً ، أو على المدح والاختصاص ، أبو ب { يخشى } مفعولاً به أي أنزله الله تذكرةً لمن يخشى تنزيل الله عز وجلّ أي لمن يؤل أمره إلى الخشية لأنه هو المنتفع به . ومعنى كون القرآن تذكرةً أنه صلى الله عليه وسلم كان يعظهم به وببيانه . { ممن خلق } متعلق { بتنزيلاً } فيكون الظرف لغواً أو بكائناً صفة له فيكون مستقراً . وفائدة الانتقال إلى الغيبة من لفظ المتكلم حين لم يقل تنزيلاً منا أمور منها : الافتنان في الكلام على عادتهم . ومنها تنسيق الصفات مع لفظ الغيبة . ومنها التفخيم بالإسناد أولاً إلى ضمير المتكلم المطاع في { أنزلناه } ثم إلى المختص بصفات العظمة والتمجيد . وقيل : أنزلنا حكاية كلام جبرائيل فلا التفات .
و { العلى } جمع العليا تأنيث الأعلى وفي وصف السموات بها دلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها وبعد مرتقاها . ويحصل منه تعظيم شأن القرآن بالضرورة فعلى قدر المرسل يكون حال الرسالة . ومنه قول الحكماء : عقول الرجال تحت لسان أقلامهم . وارتفع { الرحمن } على المدح على تقدير هو الرحمن ، أو هو مبتدأ مشار بلامه إلى من خلق . والبحث في الاستواء على العرش من جانبي المشبهة والموحدة قد مر مشبعاً في « الأنعام » في قوله { وهو القاهر فوق عباده } [ الأنعام : 18 ] وفي الأعراف في قوله { إن ربكم الله الذي خلق السموات } [ الآية : 54 ] فلا حاجة إلى الإعادة . ثم أكد كمال ملكه وملكه بقوله { له ما في السموات } الآية . عن محمد بن كعب : أن ما تحت الثرى هو ما تحت سبع الأرضين . وعن السدي : هو الصخرة التي تحت الأرض السابعة . وقيل : الثور أو الحوت . والتحقيق أن الثرى هو التراب الندى وهو ما جاوز البحر من جرم الأرض ، فالذي تحته هو ما بقي من جرم الأرض إلى المركز فيحتمل أن يكون هناك أشياء لا يعلمها إلا الله سبحانه من المعادن وغيرها ، ولا ريب أن الكل لله سبحانه . ثم بيّن كمال علمه بقوله { وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى } فالسر ما أسررته إلى غيرك وأخفى من ذلك ما أخطرته ببالك ، أو السر هذا وأخفى منه ما استسره . وقيل : أخفى فعل ماضٍ أي يعلم أسرار العباد وأخفى عنهم ما يعلم هو .
قلت : هذا المعنى صحيح لأنه تعالى محيط بجميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء قط ولا يحيط به شيء من الأشياء فلا يطلع على غيوبه أحد ، إلا أن اللفظ يحصل فيه بشاعة إذا حمل على هذا التفسير فلهذا قال صاحب الكشاف : وليس بذلك وكيف طابق الجزاء الشرط . وأجيب بأن معناه إن تجهر بذكر الله من دعاء أو غيره فاعلم أنه غني عن جهرك . فإما أن يكون نهياً عن الجهر كقوله { واذكر ربك في نفسك } [ الأعراف : 205 ] وإما أن يكون تعليماً للعباد أن الجهر ليس لإسماع الله وإنما هو لغرض آخر كأن يقتدي غيره به . ومن فوائد الآية زجر المكلف عن القبائح - ظاهرة كانت أو باطنة - وترغيبه في الطاعات - ظاهرة وباطنة - وقد شرحنا شمة من حقيقة علمه تعالى في تفسيره قوله { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] وفي غير ذلك من المواضع المناسبة ، فلنقتصر الآن على ذلك . ثم ذكر أن الموصوف بالقدرة والعلم على الوجه المذكور لا شريك له وهو الذي يستحق العبادة دون غيره . واعلم أن مراتب التوحيد أربع : الإقرار باللسان ، ثم الاعتقاد بالقلب ، ثم تأكيد ذلك الاعتقاد بالحجة ، ثم الاستغراق في بحر المعرفة بحيث لا يدور في خاطره سوى الأحد الصمد . والأول بدون الثاني نفاق ، والثاني بدون الأول غير مفيد إلا إذا لم يجد مهلة كما إذا نظر وعرف فمات . ويروى أن ملك الموت مكتوب في جبهته « لا إله إلا الله » حتى إذا رآه المؤمن تذكر كلمة الشهادة فيكفيه ذلك ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال « يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان » والإقرار بدون الثالث إيمان المقلد وفيه خلاف مشهور والأصح أنه مقبول ، وأما المقام الرابع فهو مقام الصديقين والخاصة من عباد الله ، ومبتداه تفريق ونقص وترك ورفض على ما قرره المحققون ، وآخره الفناء في الله والبقاء به .
قال النحويون : لا إله إلا الله تقديره لا إله في الوجود إلا الله . وقال أهل العرفان : معناه لا إله في الإمكان إلا الله . روي أن موسى بن عمران قال : يا رب علمني شيئاً أذكرك به . فقال : قل لا إله إلا الله . فقال : كل عبادك يقول . فقال : قل لا إله إلا الله . قال إنما أردت شيئاً تخصني به . قال : يا موسى لو أن السموات السبع ومن فوقهم في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهن « لا إله إلا الله » . والبحث عن أسماء الله تعالى قد سلف في تفسير البسملة ، وعن أسمائه الحسنى قد مر في « الأعراف » في قوله { ولله الأسماء الحسنى } [ الأعراف : 180 ] واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام : كامل لا يحتمل الزيادة والنقصان وهو الله تقدس وتعالى ، وناقص لا يحتمل الكمال سوى الصورة الكمالية التي جبل عليها كصغيرة الإنسان من المخلوقات وناقص يتقلب بين الأمرين فتارةً يصعد إلى حيث يخبر عنه بأنه
{ في مقعد صدق عند مليك مقتدر } [ القمر : 55 ] وتارةً يتسفل إلى أن يقال له { ثم رددناه أسفل سافلين } [ التين : 5 ] والكمال بالحقيقة لما ليس معرض الزوال فلا كمال في الصحة والجاه والمال وإنما الكمال في الانتساب إلى الكبير المتعال ، وهو تحقيق نسبة العبدية المنبئة عن عزة الربوبية ، وكل منتسب إلى بلد أو قبيلة فإنه يبالغ في مدحها حتى يلزم مدحه بالعرض فيجب على المكلف أن يذكر ربه بالأسماء الحسنى حتى يثبت بذلك شرفه ويحسن ذكره . إلهنا حسن الاسم دليل حسن المسمى ، وحسن المسمى يدل على أنه لا يفعل القبيح ولا يزال مواظباً على الإحسان كما قيل :
يا حسن الوجه توق الخنا ... لا تخلطن الزين بالشين
فيا حسن الأسماء والصفات لا تردّنا عن خوان إحسانك محرومين . ذكر أن صياداً اصطاد سمكةً وكانت له بنت فأخذتها وألقتها في البحر وقالت : إنها ما وقعت في الشبكة إلا لغفلتها . إلهنا تلك المرأة رحمت سمكة بسبب غفلتها ونحن قد اصطادنا إبليس وأخرجنا من بحر رحمتك لغفلتنا فردّنا إلى مقرنا وأنت أرحم الراحمين . عن محمد بن كعب القرظي أن موسى عليه السلام قال : يا رب أيّ خلق أكرم عليك؟ قال : الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري . قال : أيّ خلقك أعلم؟ قال : الذي يلتمس علماً إلى علمه . قال : وأيّ خلقك أعدل؟ قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس . قال : وأيّ خلقك أعظم جرماً؟ قال : الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قضيته له . إلهنا إنا نتهمك فإنا نعلم أن كل ما أحسنت فهو فضل ، وكل ما لا تفعله بنا من الإحسان فهو عدل ، فلا تؤاخذنا بسوء أعمالنا . وعن الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ : سيعلم الجمع من أهل الكرم ، أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس . ثم يقال : أين الذين لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله؟ ثم ينادي أين الحمادون لله على كل حال؟ ثم تكون التبعة والحساب على من بقي . إلهي فنحن حمدناك واثنينا عليك بمقدار قدرتنا وطاقتنا ، فاعف عنا بفضلك وحسن أسمائك . وحين عظم شأن القرآن وبيّن حال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما كلف من أعباء الرسالة قفاه بقصة موسى تثبيتاً وتقوية وتسلية .
قال الكلبي : معنى { وهل أتاك } أي لم يأتك إلى الآن وقد أتاك الآن فتنبه له . ويقول المرء لصاحبه : هل بلغك خبر كذا ليتطلع السامع لما يومي إليه . وعن مقاتل والضحاك عن ابن عباس أن المراد منه تقرر الخبر في قلبه أي قد أتاك ذلك في الزمان المتقدم .
« وإذ » ظرف للحديث لأنه حدث ، أو المراد اذكر وقت كذا ومظروفه محذوف أي حين رأى ناراً كان كيت وكيت . قال أهل السير : استأذن موسى شعيباً عليهما السلام في الخروج إلى أمه ، وخرج بأهله وولد له في الطريق ابن في ليلة شاتية مثلجة وكانت ليلة الجمعة وقد ضل الطريق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وقدح فصلد زنده ، فرأى ناراً من يسار الطريق من بعيد . قال السدي : ظن أنها من نيران الرعاة . وقال الآخرون : إنه رآها في شجرة . واختلفوا أيضاً في أن الذي رآه كان ناراً أم لا . قالوا : والصحيح أنه كان ناراً ليكون صادقاً في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء . ويمكن أن يقال : إطلاق اللفظ على ما يشبه مسماه ليس بكذب . قيل : النار أربعة أقسام : نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ، ونار تشرب ولا تأكل وهو نار الشجر { جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً } [ يس : 80 ] ونار تأكل وتشرب وهي نار موسى عليه السلام . وبعبارة أخرى نور بلا حرقة وهي نار موسى ، وحرقة بلا نور وهي نار جهنم ، وحرقة ونور وهي نار الدنيا ، ولا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار . { فقال لأهله امكثوا } إنما جمع لأن أهله جمع وهم المرأة والخادم والولد . ويجوز أن يخاطب المرأة وحدها ولكن أخرج الخطاب على ظاهر لفظ الأهل فإنه اسم جمع . وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجماعة تفخيماً أي أقيموا في مكانكم فقد { آنست ناراً } أي أبصرت إبصاراً لا شبهة فيه أو إبصاراً يؤنس به . والتركيب يدل على الظهور ، ومن ذلك إنسان العين لأنه يظهر الأشياء ، ومنه الإنس لظهورهم كما قيل الجن لاستتارهم ، ومنه الأنس ضد الوحشة لظهور المطلوب وهو المأنوس به . قال جار الله : لما وجد الإيناس وكان مقطوعاً متيقناً حققه لهم بكلمة « إن » ليوطن أنفسهم . ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين بنى الأمر فيهما على الرجاء دون الجزم قائلاً { لعلي آتيكم } قال المحققون : فيه دلالة على أن إبراهيم عليه السلام لم يكذب ألبتة لأن موسى قبل نبوته احترز عن الكذب المظنون فلم يقل « إني آتيكم » لئلا يعد ما لم يستيقن الوفاء به ، فإبراهيم وهو أبو الأنبياء أولى بالاحتراز من الكذب الصريح . والقبس النار المقتبسة في رأس عود أو فتيلة ونحوهما . { وهدى } على حذف المضاف أي ذوي هدى ، أو إذا وجد الهداة فقد وجد الهدى . والظاهر أنه أراد قوماً يهدونني الطريق . وعن مجاهد وقتادة : قوماً ينفعونني بهداهم في أبواب الدين ، وذلك أن همم الأبرار معقودة في جميع أحوالهم بالأمور الدينية لا يشغلهم عنها شاغلٌ . ومعنى الاستعلاء في على النار وهو مفعول ثانٍ لأجد ، أو حال من ذوي هدى أن أهل النار يشغلون المكان القريب منها أو المصطلون بها كفنوها قياماً وقعوداً فهم مشرفون عليها وإن كان المكانان مستويين .
{ فلما أتاها } أي أتى النار . قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنها نار بيضاء تتقد ، وسمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً فخاف وبهت فألقيت عليه السكينة ، ثم نودي وكانت الشجرة عوسجة . وقال وهب : ظن موسى أنها أوقدت فأخذ من دقاق الحطب ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ، ثم لم يزل تطمعه ويطمع فيها ، ثم لم يكن أسرع من خمودها فكأنها لم تكن ، ثم رمى موسى بنظره إلى فرعها فإذا خضرته ساطعة في السماء ، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار ، فلما رأى موسى ذلك وضع يده على عينيه فنودي { يا موسى } من قرأ { أني } بالفتح فتقديره نودي بأني ، ومن قرأ بالكسر فلأن النداء في معنى القول ، أو لأن التقدير نودي فقيل يا موسى . وتكرير الضمير في « أني » { أنا ربك } لتوكيد الدلالة وتحقيق المعرفة وإماطة الشبهة . روي أنه لما نودي يا موسى قال : من المتكلم؟ فقال الله عزوجلّ : إني أنا ربك . فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان . فقال : أنا عرفت أنه كلام الله بأني أسمعه من جميع جهاتي الست وأسمعه بجميع أعضائي حتى كأن كل جارحة مني صارت أذناً . وقيل : لعله سمع النداء من جماد كالحصا والشجرة فيكون معجزاً . وأيضاً إنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث إن الخضرة ما كانت تطفىء تلك النار ولا النار تضر بالخضرة ، فعرف أنه لا يقدر عليه أحد إلا الله . وجوّز الأشاعرة أن يكون قد خلق الله تعالى علماً ضرورياً بذلك والمعتزلة منعوا منه قالوا إن حصول العلم الضروري بأن ذلك المتكلم هو الله يستلزم العلم الضروري بوجود الصانع لاستحالة أن تكون الصفة معلومة بالضرورة والذات معلوماً بالاستدلال ، وحصول العلم الضروري بوجود الصانع ينافي التكليف وبالاتفاق لم يخرج موسى عن التكليف . قال القاضي : إن كانت النبوة قد تقدمت لموسى فلا كلام في حصول هذه الخوارق وإلا وجب أن تكون المعجزات لغيره من الأنبياء في زمانه كشعيب مثلاً . قال : وهذا أولى لأن قوله { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } دليل على أنه أوّل وحي يوحى إليه . وعند أهل السنة الإرهاص جائز فلم يوجبوا إحالة تلك الخوارق إلى غيره . وعندهم أن الله تعالى أسمعه الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت . والمعتزلة أنكروا وجود ذلك الكلام . وقالوا : إنه تعالى خلق ذلك النداء في جسم من الأجساد كالشجرة وهو قادر على ذلك . وأهل السنة مما وراء النهر أثبتوا الكلام القديم إلا أنهم زعموا أن الذي سمعه موسى صوت خلقه الله في الشجرة لأنه تعالى رتب النداء على أنه أتى النار ، والمرتب على المحدث .
ومثله استدلال المعتزلة بقوله { فاخلع نعليك } على أن كلامه تعالى ليس بقديم لأن الأمر والمأمور معدوم سفه فلا بد أن يكون هذا الأمر عند وجود موسى فيكون محدثاً . أجابت الأشاعرة بأن كلامه الأزلي ليس بأمر ولا نهي ، ولو سلم فأمره بالأزل مستمر إلى أن صار الشخص مأموراً من غير تغير في أمره كالقدرة الأزلية تتعلق بالمقدور الحادث . وأما الحكمة في الأمر بخلع النعلين قال المفسرون : لأنهما كانتا من جلد حمار ميت غير مدبوغ وهو قول علي ومقاتل والكلبي والضحاك وقتادة والسدي . وقال الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد : ليباشر الوادي بقدميه متبركاً به . وقيل : عظم البقعة عن وطئها إلا حافياً يؤيده قوله { إنك بالواد المقدس } . ومن هنا كره بعضهم الصلاة والطواف في النعل ، وكان السلف يطوفون بالكعبة حفاة . ومنهم من استعظم دخول المسجد بنعليه وكان إذا وقع منه ذلك تصدق . وعلى القول الأول لا يكره إلا إذا كان غير مدبوغ . « وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال : ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا : خلعت فخلعنا . قال : فإن جبرائيل أخبرني أن فيهما قذراً » يروى أن موسى خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي .
قال الجوهري { طوى } بكسر الطاء وضمها اسم موضع بالشأم . فمن صرفه جعله اسم واد ومكان ، ومن لم يصرفه جعله اسم بقعة . وقال بعضهم . طوى بالضم مثل طوى وهو الشيء المثنى أي طوى مرتين أي قدس . وقال الحسن : ثنيت فيه البركة والتقديس مرتين ، ويحتمل أن يراد نودي نداءين . وقيل : طوى مصدر كهدى ومعناه العلى . وعن ابن عباس أنه مر بذلك الوادي ليلاً فطواه فكان المعنى بالواد المقدس الذي طويته طياً أي قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه . { وأنا أخترتك } اصطفيتك للنبوة . قيل : فيه دلالة على أن النبوة لا تحصل بالاستحقاق وإنما هي ابتداء عطية من الله . وفي هذه الأخبار غاية اللطف والرحمة ولكن في قوله { فاستمع } نهاية الجلال والهيبة ففي الأول رجاء وفي الثاني خوف كأنه قال : جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل جميع همتك مصروفة إليه . { لما يوحى } أي للذي يوحى أو للوحي متعلق ب { استمع } أو ب { اخترتك } ثم قال { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } ورتب عليه { فاعبدني } ليعلم أن عبادته إنما لزمت لإلهيته ومن هنا قال العلماء : إن الله معناه المستحق للعبادة . قال الأصوليون : تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز ولكن عن وقت الخطاب جائز لأنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفيتها . وأيضاً قال { وأقم الصلاة } ولم يبين هيئاتها . أجاب القاضي عن هذا الأخير بأنه لا يمتنع أن موسى عليه السلام عد عرف الصلاة التي تعبد الله بها شعيباً وغيره من الأنبياء ، فكان الخطاب متوجهاً إلى ذلك ، وزيف بأن حمل الخطاب متوجهاً على التأسيس أولى قال : قد بين له ولكن لم يحك الله تعالى سوى هذا القدر .
ورد بأن البيان أكثر فائدة من المجمل ، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية . ولقائل أن يقول : سلمنا أن المبين أكثر فائدةً للمخاطب ، ولكن لا نسلم أن حكاية المبين أولى فلعل حكاية المجمل تكفي لغيره لصيرورة بعض هيئات ذلك التكليف منسوخاً وإن كان أصله باقياً .
وفي قوله { لذكري } وجوه . لأن اللام إما بمعنى الوقت أو هي للتعليل . والذكر إما بالجنان أو هو ضد النسيان . وياء المتكلم فاعل في الأصل أو مفعول . وهل يحتمل الكلام تقدير مضاف أم لا؟ . ولمثل هذه الاعتبارات تعددت الوجوه فمنها : أن اللام للتعليل والياء منصوب أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلى لي ، أو أراد لتذكرني في الصلاة لاشتمالها على الأذكار . عن مجاهد : والفرق أن إطلاق الذكر على العبادة والصلاة في الأول حقيقة شرعية ، وفي الثاني مجاز . أو نقول : في الأول تكون نفس الصلاة مطلوبة بالذات ، وفي الثاني تكون مطلوبة بعرض الذكر ، أو أراد لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري . ومنها أن المضاف مع ذلك محذوف أي لإخلاص ذكري وطلب وجهي . ومنها أن الياء فاعل أي لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها ، أو لأن أذكرك بالمدح والثنا وأجعل لك لسان صدق . ومنها أن اللام للوقت كقولك « جئتك لوقت كذا » أي لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة . ومنها أن يحمل الذكر على ضد النسيان أي لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين في كونهم رطاب اللسان في جميع الأحيان بذكر مولى الأنعام ومولى الإحسان { رجالٌ لا تلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله } [ النور : 37 ] وأراد ذكر الصلاة بعد نسيانها وكان حق العبارة أن يقال لذكرها كقوله صلى الله عليه وسلم « من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها » فلعل المضاف محذوف أي لذكر صلاتي ، أو ذكر الصلاة هو ذكر الله فالياء في الأصل منصوب ، أو الذكر والنسيان من الله عز وجلّ في الحقيقة فلياء فاعل . قال الشافعي : من فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء ولو ترك الترتيب جاز . ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة فإن كان في الوقت سعة يستحب أن يبدأ بالفائتة ، وإن بدأ بصلاة الوقت جاز إلا إذا ضاق الوقت فإنه يجب الابتداء بصلاة الوقت ، وإن تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمها ثم قضى الفائتة ، ويستحب أن يعيد صلاة الوقت بعدها . وقال أبو حنيفة : يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم يتزيد على صلاة يوم وليلة حتى لو تذكر خلال صلاة الوقت بطلت إلا أن يكون الوقت ضيقاً فلا تبطل .
حجة الشافعي ما روي في حديث قتادة أنهم ناموا عن صلاة الفجر ثم انتبهوا بعد طلوع الشمس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقودوا رواحلهم ثم صلاها ، ولو كان وقت الانتباه متعيناً للصلاة لما فعل كذلك . نعم إنه وقت لتقرير الوجوب عليه ثم الوقت موسع بعد ذلك . حجة أبي حنيفة قوله تعالى { أقم الصلاة لذكري } وقوله صلى الله عليه وسلم « فليصلها » إذا ذكرها « وفي حديث جابر أن عمر جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يسب كفار قريش ويقول : يا رسول الله ما صليت صلاة العصر حتى كادت تغيب الشمس . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » وأنا والله ما صليتها بعد . « قال : فنزل في البطحاء وصلى العصر بعد ما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها . وأما القياس فهما صلاتان فريضتان جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة ومزدلفة . فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون كذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة ، وأما إذا دخل في حد الكثرة فيسقط هذا الترتيب . ثم لما أمر موسى بالعبادة عامة وبالصلاة التي هي أفضلها خاصة علل ذلك بقوله { إن الساعة آتية } .
سؤال : » كاد « نفيه إثبات وإثباته نفي . فقوله { أكاد أخفيها } يكون معناه لا أخفيها وهو باطل لقوله { إن الله عنده علم الساعة } [ لقمان : 34 ] ولأن قوله . { لتجزى كل نفس } إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار إذ لو كان المكلف عارفاً وقت القيامة وكذا وقت الموت اشتغل بالمعاصي إلى قريب من ذلك الوقت ثم تاب فيكون إغراء على المعصية . والجواب لا نسلم أن » كاد « إثباته نفي وإنما هو للمقاربة فقط . والباقي موكول إلى القرينة . ولئن سلم فالمراد بعدم الإخفاء إخباره بأنها آتية وإن كان وقتها غير معين كأنه قال : أكاد لا أقول هي آتية لفط إرادة الإخفاء ولولا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف لما أخبرت به . وبالغ بعض المفسرين في هذا المعنى فقال : أراد أكاد أخفيها من نفسي أي لو صح إخفاؤها من نفسي لأخفيتها مني وأكدوا ذلك بأنهم وجدوه في مصحف أبيّ كذلك . فقال قطرب : هذا على عادة العرب في المخاطبة إذا بالغوا في كتمان الشيء قالوا : كتمته من نفسي . وقيل : » كاد « من الله واجب وأراد أنا أخفيها من الخلق كقوله { عسى أن يكون قريباً } [ الاسراء : 51 ] أي هو قريب قاله الحسن . وعن أبي مسلم أن » أكاد « بمعنى أريد كقوله { كذلك كدنا ليوسف } [ يوسف : 21 ] ومنه قولهم » لا أفعل ذلك ولا أكاد « أي لا أريد أن أفعله . وقيل : أكاد صلة والمعنى أن الساعة آتية أخفيها . وقال أبو الفتح الموصلي : الهمزة للإزالة أي أكاد أظهرها معناه قرب إظهارها كقوله
{ اقتربت الساعة } [ القمر : 1 ] ومثله ما روي عن أبي الدرداء وسعيد بن جبير أخفيها بفتح الهمزة من خفاه إذا أظهره . وقوله { لتجزى } متعلق { بأخفيها } كما قلنا أو ب { آتية } ، فلولا القيامة لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء وذلك خلاف قضية العدالة والحكمة . واحتجاج المعتزلة بالآية ظاهر لأنه قال { بما تسعى } أي بسعيها . فلو لم يكن أعمال العباد بسعيهم لم يصح هذا الإسناد ، ولو لم يكن الثواب مستحقاً على العمل لم يكن لباء السببية معنى والجواب أن اعتبارها الوسط لا ينافي انتهاء الكل إلى الله ، واستناد الجزاء إلى عنايته الأزلية التي لا علة لها . ومعنى الفاء في { فلا يصدّنك } أنه إذا صح عندك أني أخبرتك بإتيان الساعة فلا تلتفت إلى قول المخالف الذي يصدك عن التصديق بالساعة ، لأن قوله ناشىء عن الهوى واتباعه . وجوّز أبو مسلم أن يكون الضمير في { عنها } للصلاة . والعرب تذكر شيئين لم ترمي بضميرهما إلى السامع اعتماداً على أنه يرد كلاً منهما إلى ما هو له ، وزيف بأن هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هنا . وأما الخطاب فالظاهر أنه لموسى لأن الكلام أجمع معه . وجوّز بعضهم أن يكون لنبينا عليه السلام والمقصود الأمة ، والنهي عن الصد في الظاهر لمن لا يؤمن بالساعة وهو بالحقيقة نهي لموسى عن التكذيب . والوجه فيه أن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب ، أو صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب كأنه قيل : كن في الدنيا صلباً حتى لا يطمع في إغوائك الكافر . والذي دعا إلى هذا النهي البالغ في معناه هو أن في المبطلين والجاحدين كثرة وهي مزلة قدم فعلى المرء أن يكون مع المحقين وإن قلوا لا مع غيرهم وإن كثروا . وفيه حث بليغ على العمل بالدليل وزجر قويّ عن التقليد وإنذار بأن الردى والهلاك مع اتباع الهوى . وههنا استدل الأصوليون على شرف علمهم ووجوب تعلمه كيلا يتمكن الخصم من تشكيكه . وزعم القاضي أن في نسبة الصد إلى الكافر بالبعث دليلاً على أن القبائح إنما تصدر عن العباد . وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . قال أهل التحقيق : قوله أوّلاً لموسى { اخلع نعليك } إشارة إلى التخلية وتطهير لوح الضمير عن الأغيار وما بعده إشارات إلى التحلية وتحصيل ما ينبغي تحصيلة . وأصول ذلك ترجع إلى علم المبدأ وهو قوله { إني إنا الله } وإلى علم الوسط وهو قوله { فاعبدني } وإنه مشتمل على الأعمال الجسمانية . وقوله { لذكري } وهو مشتمل الأعمال الروحانية وإلى علم المعاد وذلك قوله { إن الساعة آتية } . وأيضاً إنه افتتح الخطاب بقوله { وأنا اخترتك } وهو غاية اللطف ، وختم الكلام بقوله { فلا يصدّنك } إلى آخره وهو قهر تنبيهاً على أن رحمته سبقت غضبه ، وأن العبد لا بد أن يكون سلوكه على قدمي الرجاء والخوف .
قوله { وما تلك } مبتدأ وخبر و { بيمينك } حال منتصب بمعنى الإشارة أو الاستفهام . وجوّز الكوفيون أن يكون { تلك } اسماً موصولاً صلته { بيمينك } أي ما التي بيمينك . قيل : لم يقل بيدك لأنه يحتمل أن يكون في يساره خاتم أو شيء آخر وكان يلتبس عليه الجواب .
أسئلة : ما الفائدة في هذا السؤال؟ جوابه أن الصانع الماهر إذا أراد أن يظهر من الشيء الحقير كقطعة من حديد شيئاً شريفاً كاللبوس المسرد عرضه على الحاضرين ويقول ما هذا حتى إنه بعد إظهار صنعته يلزمهم بقولهم ويقول : خذوا هذا من ذلك الذي قلتم فكأنه سبحانه قال لموسى : هل تعرف حقيقة ما في يمينك وأنه خشبة يابسة حتى إذا قلبه ثعباناً عظيماً كان قد نبهه على كمال قدرته الباهرة . وقال أهل الخطابة : إنه سبحانه لما أطلعه على تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء ، وأسمعه تسبيح الملائكة ثم أسمعه كلام نفسه ممازجاً باللطف والقهر والتكاليف تحير موسى ودهش وكاد لا يعرف اليمين من الشمال فقيل له { وما تلك بيمنك يا موسى } ليعرف موسى أن يمينه هي التي فيها العصا . وأيضاً إنه لما تكلم معه بالكلم الإلهية وقرب موسى أن يدهش تكلم معه بكلام البشر إزالة لتلك الدهشة والحيرة لا لأن المسؤول عنه مما يقع فيه الغلط كما أن السائل لا يجوز عليه الغلط نظيره حال المؤمن في القبر يغلبه الوجل والخجل فيسأل عن أمر لا يشك فيه في الدنيا وهو التوحيد دفعاً للإيحاش وجلباً للاستئناس . وأيضاً لما عرف موسى كمال الإلهية أراد أن يعرفه نقصان البشرية فسأله عن منافع العصا فذكر ما ذكر ، فعرّفه الله تعالى أن فيها منافع أجل مما ذكر تنبيهاً على أن عقول البشر قاصرة عن خفيات الأمور لولا التوفيق والإرشاد . آخر : خاطب موسى بلا واسطة خاطب محمداً صلى الله عليه وسلم بواسطة جبرائيل ، فيلزم أن يكون موسى أفضل . وجوابه المنع بدليل { فأوحى إلى عبده ما أوحى } [ النجم : 10 ] وبيان الأفضلية أن كلامه مع موسى لم يكن سراً وكلامه مع محمد سر لم يستأهل له سواه . وأيضاً حصل لأمته في الدنيا شرف التكليم؛ المصلي يناجي ربه ، وفي الآخرة شرف التسليم والتسليم { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ } [ يس : 58 ] . وأيضاً إن موسى كان عند استغراقه في بحر المحبة متعلقاً بالعصا ومنافعها ، ومحمد عليه السلام لم يلتفت إلى الكونين حين عرضا عليه { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] بل كان فانياً عن الأغيار باقياً بالواحد القهار ولهذا لم يزد في الثناء حينئذٍ على قوله « أنت كما أثنيت على نفسك » .
وههنا نكت منها : أنه سبحانه لما أشار إلى العصا واليد بقوله { وما تلك بيمينك يا موسى } حصل في كل منهما برهان باهر ومعجز ماهر فصار أحدهما - وهو الجماد - حيواناً والآخر - وهو الكثيف - نورانياً لطيفاً .
ثم إنه تعالى ينظر في كل يوم ثلثمائة وستين نظرة إلى قلب العبد فأي عجب أن ينقلب قلبه الجامد المظلم حياً مستنيراً . ومنها أن العصا صارت بين يمين موسى حياً فكيف لا يصير قلب المؤمن الذي هو بين أصبعين من أصابع الرحمن حياً! ومنها أن العصا بإشارة واحدة صارت بحيث ابتلعت سحر السحرة كلهم فقلب المؤمن أولى أن يصير بمدد نظر الرب في كل يوم مرات بحيث يبتلع سحر النفس الأمارة بالسوء . ثم إن جواب موسى عليه السلام يتم بقوله { هي عصاي } إلا أنه زاد على ذلك لأنه كان يحب المكالمة وكان المقام مقام انبساط وقرب فاغتنم الفرصة وجعل ذلك كالوسيلة إلى درك الغرض . وقيل : هو جواب سؤال آخر كأنه سئل فما تصنع بها فأخذ في ذكر منافعها . وقيل : خاف أن ينكر عليه استصحاب العصا كالنعلين . ومعنى { أتوكأ عليها } أغتمد عليها إذا أعييت أو قوفت على رأس القطيع وعند الطفرة والتركيب يدور على الشد والإيثاق . { وأهش بها } أي أخبط الورق بها على رؤوس غنمي لتأكله . والتركيب يدل على الرخاوة واللين ومنه « رجل هش المكسر » أي سهل الشأن فيما يطلب من الحوائج وهو مدح « وهش الخبز » يهش بالكسر إذا كان ينكسر لرخاوته . قال المحققون : إن موسى عليه السلام كان يتوكأ على العصا ومحمد صلى الله عليه وسلم كان يتكل على فضل الله ورحمته قائلاً مع أمته { حسبنا الله ونعم الوكيل } [ آل عمران : 173 ] فورد في حقه { حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] أي حسبك وحسب من اتبعك . وأيضاً إنه بدأ بمصالح نفسه في قوله { أتوكأ عليها } ثم بمصالح رعيته بقوله { وأهش بها على غنمي } ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر أمته { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 } « اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون » فلا جرم يقول موسى يوم القيامة « نفسي نفسي » ومحمد يقول « أمتي أمتي » . ثم قال { ولي فيها مآرب } هي جمع المأربة بضم الراء الحاجة وقد تفتح الراء . وحكى ابن الأعرابي وقطرب بكسر الراء أيضاً ومثله الأرب بفتحتين والإربة بكسر الهمزة وسكون الراء . وإنما قال { أخرى } لأن المآرب في معنى جماعة ونظيره الأسماء الحسنى . ومن آياتنا الكبرى قالوا : إنما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فتطول مكالمته وقالوا : انقطع بالهيبة كلامه فأجمل . وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن ، وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين ، وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والجراب وغيرها ، وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل ، وإذا قصر رشاؤه وصله بها ، وكان يقاتل بها السباع عن غنمه .
وقيل : إن موسى عليه السلام كان أحس بأنه تعالى إنما سأله عن أمر العصا لمنافع عظيمة فقال : إلهي ما هذه العصا إلا كغيرها ولكنك لما سألت عنها وكلمتني بسببها عرفت أن لي فيها مآرب أخرى . وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً وتكونان شمعتين بالليل . وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه ، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت ، وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب ، وكانت تقيه الهوام . قلت : هذه الخوارق إن كانت بعد نبوة موسى فلا كلام ، وإن كانت قبلها ففي صحة الرواية بُعْدٌ وإلا كان الأنسب تقديمها عند تعدد المنافع . وعلى تقدير صحتها فلعلها إرهاص أو من معجزات شعيب على ما يروى أنه كان قد أعطاها إياه .
قال أهل النكت : إن موسى لما قال { ولي فيها مآرب أخرى } أراد الله سبحانه أن يعرّفه أن فيها مأربة أخرى لا يفطن لها و { قال ألقها يا موسى } وبوجه آخر كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا ، والرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب ، فأمر بتركهما تنبيهاً على أن السالك ما دام في مقام الطلب والهرب كان مشتغلاً بنفسه وطالباً لحظه فلا يحصل له كمال الاستغراق في بحر العرفان . وفيه أن موسى عليه السلام مع جلالة منصبه وعلو شأنه لم يمكن له الوصول إلى حضرة الجلال حتى خلع النعل وألقى العصا ، فأنت مع ألف وقر من المعاصي كيف يمكنك الوصول إلى جنابه؟! قال الكلبي : الاستطاعة قبل الفعل لأن القدرة على إلقاء العصا إما أن توجد والعصا في يديه فذاك قولنا ، أو توجد وهي خارجة عن يده وذلك تكليف بأنه يلقي من يده ما ليس في يده . ويمكن أن يجاب بأن القدرة مع إلقاء العصا . قوله { فإذا هي حية تسعى } [ الأعراف : 107 ] وفي موضع آخر { فإذا هي ثعبان } وفي آخر { كأنها جان } [ النمل : 10 ] عبارات عن معبر واحد لأن الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والعظيم . وأما الثعبان - وهو العظيم من الحيات - والجان - وهو الدقيق منها - فبينهما تنافٍ في الظاهر لا في التحقيق ، لأنها حين انقلابها كانت تكون حية صفراء دقيقة كالجان ، ثم تتورم ويتزايد جرمها حتى يصير ثعباناً آخر الأمر . أو أنها كانت في شخص ثعبان وسرعة حركة الجان ولهذا وصفها بالسعي وهو المشي بسرعة وخفة حركة . والعجب أن موسى قال { أتوكأ عليها } فصدّقه الله تعالى في ذلك وجعلها متكئاً له بأن كانت أعظم معجزاته .
وإنما قلبها حية في ذلك الوقت لتكون معجزة لموسى عليه السلام يعرف بها نبوة نفسه فإن النداء والنور والكلام لم يكن في ظهور الدلالة كهذه ، ولأن توالي المعجزات كتتابع الخلع والكرامات . وأيضاً لأنه عرضها عليه ليشاهدها ويوطن نفسه عليها حتى لا يخافها عند عدوّه؛ فالولي يستر العيوب والعدوّ يبرز المناقب في صورة المثالب ، فكيف إذا وجد مجال طعن وقدح؟! وقد مر في « الأعراف » أن الحية كان لها عرف كعرف الفرس ، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً ، فلما رأى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه من الفزع والنفار ما يملك البشر عند الأهوال حتى ذهل عن الدلائل وأخذ يفر ، ولو أنه بلغ حينئذٍ مقام { ففروا إلى الله } [ الذاريات : 50 ] لم يفر عن شيء . او لعله لما حصل له مقام المكالمة بقي في قلبه عجب فأراه الله تعالى أنه بعد في نقص الإمكان ولم يفاوت عالم البشرية وما النصر والتثبيت إلا من الله وحده . فقد روي أنه لما قال له ربه : { لا تخف } بلغ من ذهاب خوفه وطمأنينة نفسه أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحييها ، قال الشيخ أبو القاسم الأنصاري : ذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة ، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه ألبتة . وعن بعضهم أنه خافها لأنه عرف ما لقي آدم منها .
قلت : يحتمل أن يكون خوف موسى وهجره إياها من فوات المنافع المعدودة ولهذا علل عدم خوفه بقوله { سنعيدها سيرتها الأولى } قال جار الله : السيرة من السير كالركبة من الركوب . يقال : سار فلان سيرة حسنة . ثم اتسع فيها فنقلت إلى معنى المذهب والطريقة ومنه سير الأولين ، فيجوز أن ينتصب على الظرف أي في طريقتها الأولى حال ما كانت عصاً ، أو يكون أعاد منقولاً بالهمزة من عاده بنزع الخافض بمعنى عاد إليه فيتعدى إلى مفعولين ، أو يكون المراد بالإعادة الإنشاء ثانياً . ونصب { سيرتها } بفعل مضمر في موضع الحال أي سنعيدها تسير سيرتها الأولى حيث كنت تتوكأ عليها ولك فيها المآرب التي عرفتها . ثم قوى أمره بمعجزة ثانية فقال { واضمم يدك إلى جناحك } يقال : لكل ناحيتين جناحان ومنه جناحا العسكر وجناحا الإنسان لجنبهما . والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا جناحين لأنه يجنحهما عند الطيران أي يميلهما . فقيل : المراد بالآية تحت العضد بدليل قوله { تخرج } وعن ابن عباس : معناه إلى صدرك . وضعف بأنه لا يطابقه قوله { تخرج } قلت : لا شك أن الصدر مستور بالقميص فيظهر عند ذلك معنى الخروج ويفسره قوله في موضع آخر { وأدخل يدك في جيبك } [ النمل : 12 ] والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوءة . والبرص أبغض شيء عند العرب بحيث تمجه أسماعهم فكان جدير بأن يكنى عنه .
ومعنى { بيضاء } أنها تنور كشعاع الشمس . قال في الكشاف : من غير سوء من صلة البيضاء كما تقول : ابيضت من غير سوء . قلت : لعله أراد أن « من » للتعليل أي ليس البياض هو السوء وإنما السبب غيره وحقيقته ترجع إلى الابتداء . و { بيضاء } و { آية } حالان معاً أو متداخلتان . واحتمل أن ينتصب آية بمضمر يدل عليه الكلام نحو « خذ ودونك » . وقوله { لنريك } إما أن يتعلق بهذا المحذوف أو بمحذوف آخر أي لنريك { من آياتنا } فلعنا ما فعلنا . ولا يبعد عندي أن يتعلق بالأمرين المذكورين أي { ألقها } و { اضمم } لنريك قال الحسن : اليد في الإعجاز أعظم من العصا لأنه تعالى وصفها بالكبرى . وضعف بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما في العصا ففيه تغير اللون والزيادة في الحجم وخلق الحياة والقدرة على الأمور الخارقة ، فالمراد لنريك بهاتين الآيتين بعض آياتنا الكبرى . وجوز في الكشاف أن يكون المراد لنريك بهما الكبرى من آياتنا . ويرد عليه لزوم أن تكون الآيات الكبرى منحصرة فيهما وليس كذلك فإن معجزات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أكبر من الكل ، وكفاك بالقرآن شاهداً على ذلك . ثم صرح بالمقصود من المعجزات فقال { اذهب إلى فرعون } وخصه بالذكر لأن قومه تبع له . ثم بين العلة في ذلك فقال { إنه طغى } وعن وهب أن الله تعالى قال لموسى : استمع كلامي واحفظ وصيتي برسالتي فإنك بعيني وبسمعي وإن معك يدي وبصري وإني ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر تقديسي ، وإني أقسم بعزتي لولا الحجة والعذر الذي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار شديدة ، ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً ليناً لا يغتر بلباس الدنيا ، وإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل . قال : فسكت موسى سبعة أيام ثم جاءه ملك فقال له : أجب ربك فيما أمرك فعنده { قال رب اشرح لي صدري } قال علماء المعاني : أنهم أولاً بقوله { ربي اشرح لي } { ويسر لي } فعلم أن ثمة مشروحاً وميسراً . ثم بين فرفع الإبهام بذكر الصدر والأمر وكان أوكد من جهة الإجمال . ثم التفصيل كان في صدر موسى ضيق كما جاء في موضع آخر { ويضيق صدري } [ الشعراء : 13 ] فسأل الله أن يبدل الضيق بالسعة حتى يفهم ما أنزل عليه من الوحي . وقيل : أراد شجعني على مخاطبة فرعون وعلى تحمل أعباء الرسالة . واعلم أن الكلام في الدعاء وشرائطه وفوائده وسائر ما يتعلق به قد سبق منا في « البقرة » في تفسير قوله سبحانه
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } [ الآية : 186 ] .
ولنذكر ههنا نكتاً شريفة : الأولى أنه تعالى كامل في الأزل إلا أنه غير مكمل في الأزل لأن التكميل هو جعل الشيء كاملاً ولا شيء معه في الأزل فلا تكميل ، وذلك كما يقال : « إنه سبحانه لا يعلم عدداً مفصلاً لحركات أهل الجنة لأن كل ما له عدد مفصل فهو متناه وحركات أهل الجنة غير متناهية فامتنع ذلك لا لقصور في العلم بل لكونه في نفسه ممتنع الحصول . ولما كان الغرض من التكوين تكميل الناقصين ، وكان الوجود أول صفة من صفات الكمال أجلس الله سبحانه على هذه المائدة بعض المعدومات ، لأنه لو أجلس الكل عليها لدخل في الوجود ما لا نهاية له ، ولانتهت القدرة الذاتية لامتناع إيجاد الموجود . وكما أن رحمته اقتضت وضع مائدة الوجود لبعض المعدومات دون بعض حتى صار ذلك البعض حياً مدركاً للمنافي والملائم واللذة والألم والخير الشر فقال : الأحياء عند ذلك يا رب الأرباب شرفتنا بخلعة الوجود وخلعة الحياة ، ولكن ازدادت حاجتنا لأنا - حال العدم وحال الجمادية - ما كنا نحتاج إلى الملائم والمخالف والموافق ، وما كنا نخاف المنافي والمؤذي ، والآن احتجنا إلى طلب الملائم ودفع المنافي ، فإن لم يكن لنا قدرة على الهرب والطلب كنا كالزمن المعقد في الطريق عرضة للآفات وهدفاً لسهام البليات ، فاقتضت الرحمة الكاملة تخصيص بعض الأحياء بالقدرة كما اقتضت تخصيص بعض المعدومات بالوجود وتخصيص بعض الموجودات بالحياة فقال : القادرون عند ذلك : إلهنا الجواد الكريم إن الحياة والقدرة بلا عقل لا تكون إلا للبهائم المسخرة في حمل الأثقال ، فأفض علينا من العقل الذي هو أشرف مخلوقاتك . فأعطى بعضهم العقل فحصل في أرواحهم نور البصيرة وجوهر الهداية ختامه مسك كما أن خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم كان أفضل المخلوقات ، فنظر العقل في نفسه فرأى نفسه كالحقة المملوءة من الجواهر بل كسماء مزينة بالزواهر وهي العلوم الضرورية البديهية المركوزة في بداية العقول وصرائح الأذهان ، يهتدي بها السائرون في ظلمات بر الشكوك وبحر الشبهات ، فاستدل العقل بتلك الأرقام على راقم ، وبتلك النقوش على نقاش ، فغلبته دهشة الأنوار الأزلية وكاد يغرق في بحر الفكر ، ويضيق عليه نطاق التأمل والتدبر ، ويقع في تجاذب أيدي الأعداء الداخلة والخارجة وشياطين الجن والإنس فعند ذلك قال : { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } فانتهاء جميع الحوادث اليه وتيسير الأمور الكلية والجزئية من عنده ، وهو الذي يعطي القابل قابليته والفاعل فاعليته .
الثانية : إنه تعالى خاطبه أولاً بالتوحيد { إنني أنا الله لا إله إلا أنا } وثانياً بالعبادة { فاعبدني } وثالثاً بمعرفة المعاد { إن الساعة آتية } ورابعاً بمعرفة الحكمة في جملة أفعاله { وما تلك بيمينك } وخامساً بعرض المعجزات الباهرة عليه { لنريك من آياتنا الكبرى } وسادساً بإرساله إلى أعظم الناس كفراً وكانت هذه التكاليف الشاقة سبباً لضيق العطن وانحلال عقدة الصبر فلا جرم تضرع إلى الله سبحانه قائلاً { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } وههنا دقيقة هي أن شرح الصدر .
مقدمة لسطوع الأنوار الإلهية في القلب ، والاستماع مقدّمة الفهم . ولما أعطى موسى المقدّمة بقوله { فاستمع } نسج موسى على ذلك المنوال فقال { رب اشرح لي صدري } ولما آل الأمر إلى محمد وكان خاتم النبيين ومقصوداً من الكائنات ومخاطباً بقوله { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] أوتي النتيجة فقيل له { وقل ربي زدني علماً } [ طه : 114 ] ووصف بقوله { وسراجاً منيراً } [ الأحزاب : 46 ] فشرح الصدر هو أن يصير الصدر قابلاً للنور ، والسراج المنير هو المعطي للنور : فالتفاوت بين موسى ومحمد عليهما السلام هو التفاوت بين الآخذ والمعطي ولهذا قال موسى : اللهم اجعلني من أمة محمد .
الثالثة : إنه تعالى ذكر عشرة أشياء ووصفها بالنور أحدهما وصف ذاته بالنور { الله نور السموات والارض } [ النور : 35 ] وثانيهما الرسول { قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين } [ المائدة : 15 ] وثالثهما الكتاب { واتبعوا النور الذي أنزل معه } [ الأعراف : 157 ] ورابعها الإيمان { يريدون أن يطفئوا نور الله } [ التوبة : 32 ] وخامسها عدل الله { وأشرقت الأرض بنور ربها } [ الزمر : 69 ] وسادسها ضياء القمر { جعل القمر فيهن نوراً } [ نوح : 16 ] وسابعها النهار { وجعل الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] وثامنها البينات { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } [ المائدة : 44 ] وتاسعها الأنبياء { نور على نور } [ النور : 35 ] وعاشرها المعرفة { مثل نوره كمشكاة فيها مصباح } [ النور : 35 ] فكأن موسى عليه السلام قال أوّلاً { رب اشرح لي صدري } بمعرفة أنوار جلال كبريائك . وثانياً { رب اشرح لي صدري } بالتخلق بأخلاق رسلك وأنبيائك . وثالثاً { رب اشرح لي صدري } باتباع وحيك وامتثال أمرك ونهيك . ورابعاً { رب أشرح لي صدري } بنور الإيمان والإيقان بالهيتك . وخامساً { رب اشرح لي صدري } بالاطلاع على أسرار عدلك في قضائك وحكمك . وسادساً { رب اشرح لي صدري } بالانتقال من نور شمسك وقمرك إلى أنوار جلالك وعزتك كما فعله إبراهيم صلوات الرحمن عليه . وسابعاً { رب اشرح لي صدري } عن مطالعة نهارك وليلك إلى مطالعة نهار فضلك وليل عدلك . وثامناً { رب اشرح لي صدري } بالاطلاع على مجامع آياتك ومعاقد بيناتك في أرضك وسمائك . وتاسعاً { رب اشرح لي صدري } في أن أكون خلف صدق أنبيائك المتقدمين متشبهاً بهم في الانقياد لحكم رب العالمين . وعاشراً { رب اشرح لي صدري } بأن تجعل سراج الإيمان كالمشكاة التي فيها المصباح .
الرابعة : شرح الصدر عبارة عن إيقاد النور في القلب حتى يصير القلب كالسراج ، ومستوقد السراج محتاج إلى سبعة أشياء : زند وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن . فالزند زند المجاهد { والذين جاهدوا فينا } [ العنكبوت : 69 ] والحجر حجر التضرع { وادعوا ربكم تضرعاً وخيفةً } [ الأعراف : 55 ] والحراق منع الهوى { ونهى النفس عن الهوى } [ النازعات : 40 ] والكبريت الإنابة { وأنيبوا إلى ربكم } [ الزمر : 54 ] والمسرجة الصبر { واستعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 45 ] والفتيلة الشكر { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ ابراهيم : 7 ] والدهن الرضا { واصبر لحكم ربك }
[ الطور : 48 ] ثم إذا صلحت هذه الأدوات فلا تعول عليها بل ينبغي أن تطلب المقصود من حضرة ربك بالتضرع والدعاء قائلاً { رب اشرح لي صدري } فهنالك تسمع { قد أوتيت سؤلك يا موسى } . الخامسة : هذا النور الروحاني المسمى بشرح الصدر أفضل من الشمس الجسمانية لوجوه أحدها : الشمس يحجبها الغيم ، وشمس المعرفة لا تحجبها السموات السبع { إليه يصعد الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] وثانيها الشمس تغيب ليلاً وشمس المعرفة لا تغيب ليلاً { إن ناشئة الليل هي أشد وطئاً وأقوم قيلاً } [ المزمل : 6 ] { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } [ الإسراء : 1 ] الليل للعاشقين ستير ياليت أوقاته تدوم وعند الصباح يحمد القوم السرى . وثالثها الشمس تفنى { إذا الشمس كورت } [ التكوير : 1 ] والمعرفة لا تفنى { أصلها ثابت وفرعها في السماء } [ ابراهيم : 24 ] { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيمٍ } [ يس : 58 ] ورابعها الشمس إذا قارنها القمر انكسفت وشمس توحيد المعرفة وهي « أشهد أن لا إله إلا الله » إذا لم تقرن بقمر النبوة وهي « أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم » لم يصل نور إلى عالم الجوارح . وخامسها الشمس تسود الوجه والمعرفة تبيض الوجوه { يوم تبيض وجوه } [ آل عمران : 106 ] وسادسها الشمس تحرق والمعرفة تنجي من الإحراق « جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي » وسابعها الشمس تصدع والمعرفة تصعد { إليه يصعد الكلم الطيب } [ فاطر : 10 ] وثامنها الشمس منفعتها في الدنيا والمعرفة منفعتها في الدارين { فلنحيينه حياةً طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [ النحل : 97 ] وبوجه آخر الشمس زينة لأهل الأرض ، والمعرفة زينة لأهل السماء . وتاسعها الشمس فوقاني الصورة تحتاني المعنى ، والمعارف الإلهية تحتانية الصورة فوقانية المعنى ، وفيه أن الخيبة مع الترفع والشرف مع التواضع . وعاشرها الشمس تعرّف أحوال الخلق ، والمعرفة تصل القلب إلى الخالق . والشمس تقع على الولي والعدوّ والمعرفة لا تحصل إلا للولي ، ولما كان شرح الصدر الذي هو أول مراتب الروحانيات أشرف من أعلى مراتب الجسمانيات بدأ موسى بطلبه قائلاً { رب اشرح لي صدري } .
السادسة : الشمس سراج أوقدها الله تعالى للفناء { كل من عليها فان } [ الرحمن : 26 ] والمعرفة سراج استوقده للبقاء { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت } [ ابراهيم : 27 ] والذي خلقه للفناء إذا قرب منه الشيطان احترق { يجد له شهاباً رصداً } [ الجن : 9 ] والذي خلقه للبقاء كيف يقرب منه الشيطان { رب اشرح لي صدري } وأيضاً : الشمس في السماء ثم إنها مع بعدها تزيل الظلمة عن بيتك ، فشمس المعرفة مع قربها لأنها في قلبك أولى أن تزيل ظلمة المعصية والكفر عن قلبك . وأيضاً الإنسان إذا استوقد سراجاً فإنه لا يزال يتعهده ويمده ، والله تعالى هو الموقد لسراج المعرفة { ولكن الله حبب إليكم الإيمان } [ الحجرات : 7 ] أفلا يمده وهو معنى قوله { رب اشرح لي صدري } . وأيضاً إذا كان في البيت سراج فإن اللص لا يقرب منه ، وإنه سبحانه قد أوقد سراج المعرفة في قلبك فكيف يقرب الشيطان منه { رب اشرح لي صدري } وأيضاً المجوس إذا أوقدوا ناراً لا يجوزون إطفاءها ، فالملك القدوس إذا أوقد سراج المعرفة في قلبك كيف يرضى بإطفائها { رب اشرح لي صدري } .
السابعة : أنه سبحانه أعطى قلب المؤمن تسع كرامات أحدها { أوَمَنْ كان ميتاً فأحييناه } [ الأنعام : 122 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً ميتة فهي له » فيعلم أنه لما خلق أرض القلب فأحياها بنور الإيمان لا يكون لغيره فيها نصيب . وثانيها الشفاء { ويشف صدور قوم مؤمنين } [ التوبة : 14 ] وفيه أنه إذا وضع الشفاء في العسل بقيت تلك الخاصية فيه أبداً . فإذا وضع الشفاء في الصدر فكيف لا يبقى أبداً؟ وثالثها الطهارة { أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى } [ الحجرات : 3 ] وفيه أن الصائغ إذا امتحن الذهب فبعد ذلك لا يدخله في النار ، فالله تعالى لما امتحن قلب المؤمن كيف يدخله النار بعده؟ ورابعها الهداية { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [ التغابن : 11 ] وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يهدي نفسك والقرآن يهدي روحك والمولى يهدي قلبك ، والأول قد يحصل وقد لا يحصل { إنك لا تهدي من أحببت } [ القصص : 56 ] وكذا الثاني { يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } [ البقرة : 26 ] وأما هداية القلب فلا تزول ألبتة لأن الهادي لا يزول { ولكن الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } [ القصص : 56 ] وخامسها الكتابة { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] وفيه أن القرطاس إذا كتب فيه القرآن لم يجز إحراقه ، فقلب المؤمن الذي فيه القرآن وجميع أحكام ذات الله وصفاته كيف يليق بالكريم إحراقه؟ وأيضاً إن بشراً الحافي أكرم قرطاساً فيه اسم الله تعالى فنال سعادة الدارين ، فإكرام قلب فيه معرفة الله أولى بذلك . وأيضاً إن القرطاس إذا كتب فيه اسم الله الأعظم عظم قدره حتى إنه لا يجوز للجنب والحائض مسه ، فالقلب الذي فيه أكرم الموجودات كيف يجوز للشيطان الخبيث أن يمسه؟ وسادسها { هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين } [ الفتح : 4 ] وفيه أن أبا بكر لما نزلت عليه السكينة في الغار قيل له لا تحزن إن الله معنا . فالمؤمن إذا نزلت السكينة في قلبه لا بد أن يقال له عند قبض الروح : لاتخف ولا تحزن كما قال { تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا } [ فصلت : 30 ] وسابعها المحبة والزينة كما قال { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } [ الحجرات : 6 ] وفيه أن الدهقان إذا ألقى في الأرض حبة فهو لا يفسدها ولا يحرقها ، فهو سبحانه حين ألقى حبة المحبة في أرض القلب كيف يحرقها؟ وثامنها { وألف بين قلوبكم } [ آل عمران : 103 ] وفيه أن محمداً حين ألف بين قلوب أصحابه ما تركهم غيبة ولا حضوراً سلام « علينا وعلى عباد الله الصالحين » فأكرم الأكرمين وأرحم الراحمين كيف يتركهم { سلامٌ قولاً من ربٍ رحيم } [ يس : 58 ] وتاسعها الطمأنينة { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 21 ] وفيه أن الحاجات غير متناهية وما سوى الله فهو متناه ، المتناهي لا يقابل غير المتناهي .
فالكافي للمهمات لا يكون إلا من له كمالات غير متناهيات فلا يزيل قلق الحوائج واضطراب الأماني إلا الله سبحانه ، وبإزاء هذه الكرامات ورد في حق الكفار أضدادها { فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم } [ الصف : 5 ] { ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم } [ التوبة : 127 ] { في قلوبهم مرض } [ البقرة : 10 ] { قلوبهم قاسية } [ المائدة : 13 ] { إنا جعلنا على قلوبهم أكنةً أن يفقهوه } [ الكهف : 57 ] { وختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] { أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] { بل ران على قلوبهم } [ المطففين : 14 ] { طبع الله على قلوبهم } [ النحل : 108 ] فلأجل تلك الكرامات والهرب من أضدادها قال موسى { رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري } .
الثامنة : في حقيقة شرح الصدر وذلك أن لا يبقى للقلب التفات إلى الدنيا إلا رغبة بأن يكون متعلق القلب الأهل والولد وتحصيل مصالحهم ودفع المضار عنهم ، ولا رهبة بأن يكون خائفاً من الأعداء والمنازعين فإن القوة البشرية لضعفها كينبوع صغير ، فإذا وزعت على جداول كثيرة ضعف الكل وضاعت وإذا انصب الكل في موضع واحد ظهر أثرها وقويت فائدتها ، فسأل موسى ربه أن يوقفه على معايب الدنيا وقبح صفاتها ليكون متوجهاً بالكلية إلى عالم القدس ومنازل الروحانيات وهذا معنى قوله { رب اشرح لي صدري } . أو نقول : إنه لما كلف بضبط الوحي في قوله { فاستمع لما يوحى } وبالمواظبة على خدمة الخالق في قوله { فاعبدني } فكأنه صار مكلفاً بتدبير العالمين ، والالتفات إلى أحدهما يمنع من الاشتغال بالآخر فسأل موسى ربه قوة وافية بالطرفين فقال { رب اشرح لي صدري } أو نقول : معدن النور هو القلب ، والاشتغال بما سوى الله - من الزوجة والولد والصديق والعدوّ بل الجنة والنار - هو الحجاب المانع من وصول نور شمس القلب إلى فضاء الصدر ، فإذا قوى الله بصيرة العبد حتى طالع عجز الخلق وقلة فائدتهم في الدارين صغروا في عينه كالذباب والبق والبعوض فلا يدعوه رغبة إلى شيء مما يتعلق بالدنيا ولا رهبة من شيء من ذلك فيصير الكل عنده كالعدم فعند ذلك يزول الحجاب وينفسخ القلب بل الصدر للنور { رب اشرح لي صدري } .
التاسعة : لنضرب مثلاً لذلك فنقول : البدن بالكلية كالمملكة ، والصدر كالقلعة ، والفؤاد كالصفة ، والقلب كالسرير ، والروح كالملك ، والعقل كالوزير ، والشهوة كالعامل الكبير الذي يجلب النعم إلى البلدة ، والغضب كالاسفهيد الذي يشتغل بالضرب ، والتأديب والحواس كالجواسيس ، وسائر القوى كالمحترفين والعملة والصناع . ثم إن الشيطان كملك مطاع وإنه يخاصم هذه البلدة والقلعة والهوى والحرص وسائر الأخلاق الذميمة جنوده ، فإذا أخرج الروح وزيره وهو العقل أخرج الشيطان في مقابله الهوى فجعل العقل يدعو إلى الله تعالى والهوى إلى الشيطان . ثم إن الروح أخرج الفطنة إعانة للعقل فأخرج الخصم في مقابلته الشهوة ، فالفطنة توقفك على معايب الدنيا ، والشهوة تحسن لذات الدنيا . ثم إن الروح أمد الفطنة بالفكرة لتوقف على الحاضر والغائب من المعايب على ما قال « تفكر ساعة خيرمن عبادة سنة » فأخرج الشيطان في مقابلة الفكرة الغفلة ، ثم أخرج الروح الحلم والثبات فإن العجلة ترى الحسن قبيحاً والقبيح حسناً ، فأخرج الشيطان بإزائه العجلة والسرعة فلهذا قال صلى الله عليه وسلم
« ما دخل الرفق في شيء إلا زانه وما دخل الخرق في شيء إلا شانه » وخلق السموات والأرض في ستة أيام ليتعلم منه الرفق والثبات فهذه هي الخصومة الواقعة بين الصفين وقلبك وصدرك هو المعركة . ثم إن لهذا الصدر الذي هو القلعة خندقاً وهو الزهد في الدنيا ، وله سور وهو الرغبة في الآخرة . فإن كان الخندق عظيماً والسور قوياً عجز عسكر الشيطان وجنوده فانهزموا ، وإن كان بالضد دخل الشيطان وجنوده من الكبر والهوى والعجب والبخل وسوء الظن بالله ومن النميمة والغيبة وسائر الخصال الذميمة ، وينحصر الملك في القصر ويضيق الأمر عليه ، ثم إذا جاء مدد التوفيق وأخرج هذا العسكر من القلعة انفسح وانشرح { رب اشرح لي صدري } .
النكتة العاشرة : في الفرق بين الصدر والقلب والفؤاد واللب . الصدر مقر الإسلام { أفمن شرح الله صدره للإسلام } [ الزمر : 22 ] والقلب مقر الإيمان { حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم } [ الحجرات : 7 ] { أولئك كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] والفؤاد مقر المشاهدة { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] واللب مقام التوحيد { إنما يتذكر أولوا الألباب } [ الزمر : 9 ] أي الذين خرجوا من قشر الوجود المجازي وبقوا بلب الوجود الحقيقي . ثم إن القلب كاللوح المحفوظ في العالم الصغير فإذا ركب العقل سفينة التوفيق وألقاها في بحار أمواج المعقولات من عالم الروحانيات هبت من مهاب العظمة والكبرياء رخاء السعادة تارة ودبور الأدبار أخرى ، فحينئذٍ يضطر الراكب إلى التماس أنوار الهدايات وطلب انفتاح أبواب السعادات فيقول { رب اشرح لي صدري } وإنما سأل موسى شرح الصدر دون القلب لأن انشراح الصدر يستلزم انشراح القلب دون العكس . وأيضاً شرح الصدر كالمقدمة لشرح القلب والجواد يكفيه الإشارة ، فإذا علم أنه طالب للمقدمة فلا يليق بكرمه أن يمنعه النتيجة . وأيضاً إنه راعى الأدب في الطلب فاقتصر على طلب الأدنى . فلا جرم أعطى المقصود فقال { قد أتيت سؤلك يا موسى } وحين اجترأ في طلب الرؤية بقوله { أرني أنظر إليك } [ الأعراف : 143 ] أجيب بقوله { لن تراني } . واعلم أن جميع المهيئات الممكنة كالبلور الصافي الموضع في مقابلة شمس القدس ونور العظمة ومشرق الجلال ، فإذا وقع للقلب التفات إليها حصلت له نسبة إليها بأسرها ، فينعكس شعاع كبرياء الإلهية من كل واحد منها إلى القلب فيحرق القلب . ومعلوم أن المحرق كلما كان أكثر كان الاحتراق أتم ، فلهذا قال موسى { رب اشرح لي صدري } حتى أقوى على إدراك درجات الممكنات وأصل إلى مقام الاحتراق بأنوار الجلال كما نبينا صلى الله عليه وسلم « أرني الأشياء كما هي » وههنا دقيقة وهي أن موسى لما زاد لفظة { لي } في قوله { رب اشرح لي } دون أن يقول « رب اشرح صدّري » علم أنه أراد أن تعود منفعة الشرح إليه فلا جرم يقول يوم القيامة « نفسي نفسي » وإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما لم ينس أمته في مقام القرب إذ قيل له « السلام عليك أيها النبي » فقال :
« السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين » ، فلا جرم يقول يوم القيامة « أمتي أمتي » وشتان ما بين نبي يتضرع إلى الله ويقول { رب اشرح لي صدري } وبين نبي يخاطب أولاً بقوله { ألم نشرح لك صدرك } [ الشرح : 1 ] . ولا يخفى أن المراد بالشرح والتيسير عند أهل السنة هو خلقهما ، وعند المعتزلة تحريك الدواعي والبواعث بفعل الألطاف المسهلة ، فإنه يحتمل أن يكون هناك من الألطاف ما لا يحسن فعلها إلا بعد هذا السؤال .
أما قوله سبحانه { واحلل عقدةً من لساني } فاعلم أن النطق فضيلة عظيمة وموهبة جسيمة ولهذا قال { خلق الإنسان علمه البيان } [ الرحمن : 3 ، 4 ] بغير توسط العاطف كأنه إنما يكون خالقاً للإنسان إذا علمه البيان . وفي لسان الشاعر وهو زهير :
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم .
وعن علي كرم الله وجهه : ما الإنسان لولا اللسان إلا صورة مصورة أو بهيمة مهملة . وقالت العقلاء : المرء بأصغريه . المرء مخبوء تحت لسانه . وفي مناظرة آدم والملائكة لم تظهر الفضيلة إلا بالنطق . ومن التعريفات المشهورة : إن الإنسان هو الحيوان الناطق ، وهذا النطق وإن كان في التحقيق هو إدراك المعاني الكلية لكن النطق اللساني لا ريب أنه أظهر خواص الآدمي وقد نيط به أمر تمدنه والتعبير عما في ضميره فقول موسى { رب اشرح لي صدري } إشارة إلى طلب النور الواقع في القلب ، وقوله { ويسر لي أمري } رمز الى تسهيل ذلك التحصيل ، وقوله { واحلل } طلب لسهولة أسباب التكميل لأن اللسان آلة إلافاضة والإفادة وبه يتيسر ذلك الخط الجسيم والمنصب العظيم .
وحسبك يا فتى شرفاً وفخراً ... سكوت الحاضرين وأنت قائل
ومن الناس من مدح الصمت بوجوه منها : قوله صلى الله عليه وسلم « الصمت حكمة وقليل فاعله » وقوله : مقتل الرجل بين فكيه . وفي نوابغ الكلم : يا بني قِ فاك لا تقرع قفاك . ومنها أن الكلام خمسة أقسام : فالذي ضرره خالص أو غالب أو مساوٍ للنفع واجب الترك احترازاً من السفه والعبث ، والذي نفعه خالص أو غالب عسر المراعاة فالأولى تركه . ومنها أنه ما من موجود أو معدوم معلوم أو موهوم إلا واللسان يتناوله بإثبات أو نفي بحق أو بباطل ، بخلاف سائر الأعضاء . فالعين لاتصل إلا إلى الألوان والسطوح ، والأذن لا تصل إلا إلى الأصوات والحروف ، واليد لا تصل إلا إلى الأجسام ، وكذا باقي الجوارح .
أما اللسان فإنه رحب الميدان واسع المضطرب خفيف المؤنة سهل التناول لا يحتاج إلى آلات وأدوات للمعصية به فكان الأولى ترك الكلام وإمساك اللسان . والإنصاف أن الصمت في نفسه ليس بفضيلة لأنه أمر عدمي والنطق في نفسه فضيلة ، وإنما يصير رذيلة لأسباب عرضية مما عددها ذلك القائل فيرجع الحق إلى ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم « رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم » قالوا : ترك الكلام له أربعة أسماء : الصمت وهو أعمها حتى إنه يستعمل فيما ليس يقوى على النطق كقولهم « مال ناطق أو صامت » . والسكوت وهو ترك الكلام ممن يقدر على الكلام والإنصات هو السكوت مع استماع قال تعالى { فاستمعوا له وأنصتوا } [ الأعراف : 204 ] والإصاخة وهو الاستماع إلى ما يصعب إدراكه كالسر والصوت من المكان البعيد . أما العقدة فقيل : إنها كانت في أصل خلقته وعن ابن عباس أنه في حال صباه أخذ بلحية فرعون ونتفها فهم فرعون بقتله وقال : هذا هو الذي يزول ملكي على يده فقالت آسية : إنه صبي لا يعقل وإن شئت فامتحنه بالتمرة والجمرة . وقيل : بالياقوت والجمر . فأحضرا بين يديه فأراد مد اليد إلى الياقوت فحول جبرائيل يده إلى الجمرة فأخذها ووضعها في فيه فظهر به تعقد وتحبس عن بعض الحروف . فإن صحت هذه الرواية فالنار إنما أحرقته وأثرت فيه إطفاء لثائرة غضب فرعون وإلا فالله سبحانه قادر على دفع الإحراق عن طبع النار كما في حق إبراهيم صلوات الرحمن عليه ، وكما في حق موسى حين ألقي في التنور . ويروى أن يده احترقت أيضاً وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم يبرأ ولما دعاه قال : الي أيّ رب تدعوني؟ قال : إلى الذين أبرأ يدي وقد عجزت عنها . وعن بعض العلماء أنه لم تبرأ يده لئلا ينعقد بينه وبين فرعون حرمة المؤاكلة من قصعة واحدة . وقيل : لم تحرق يده لأن الصولة ظهرت باليد ، وإنما احترق اللسان لأنه خاطبه بقوله « يا أبت » .
وما الحكمة في طلب حل العقدة؟ الأظهر كيلا يقع في أداء الرسالة خلل فلهذا { قال يفقهوا قولي } وقيل : لأن العقدة في اللسان قد تقتضي الاستخفاف بالقائل وعدم الالتفات إليه . وقيل : إظهاراً للمعجزة فكما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزاً له فكذا إطلاق لسان موسى كان معجزاً في حقه . وهل زالت تلك العقدة بالكلية؟ فعن الحسن نعم لقوله { قد أوتيت سؤلك يا موسى } والأصح أنه بقي بعضها لقوله تعالى حكاية عن فرعون { أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين } [ الزخرف : 52 ] أي يقارب أن لا يبين . وكان في لسان الحسين بن علي رضي الله عنه رتة أي عجمة في الكلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
« ورثها من عمه موسى » وفي تنكير عقدة أيّ عقدة من عقد دلالة على أنه طلب حل بعضها بحيث يفهم عنه فهماً جيداً ولم يطلب الفصاحة الكاملة . وقال أهل التحقيق : وذلك لأن حل العقدة بالكلية نصيب محمد صلى الله عليه وسلم فكان أفصح العرب والعجم وقد قال تعالى { ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن } [ الإسراء : 34 ] فلما كان ذلك حقاً ليتيم أبي طالب لا جرم ما دار حوله . ومن مطالب موسى قوله { واجعل لي وزيراً من أهلي هرون } قال أهل الاشتقاق : الوزير من الوزر بالكسر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنة ، أو من الوزر بفتحتين وهو الملجأ لأن الملك يعتصم برأيه ويلجيء إليه أموره ، أو من الموازرة وهي المعاونة فيكون من الأزر والقوة ومنه قوله تعالى { اشدد به أزري } أي ظهري لأنه محل القوة . قال الجوهري : آزرت فلاناً أي عاونته ، والعامة تقول : وازرته . وعلى هذا فيكون القياس أزيراً بالهمز على ما حكي عن الأصمعي ووجه القلب حمل « فعيل على » مفاعل « لاتحاد معنييهما في نحو » عشير « و » جليس « و » صديق « وغيرها . وحمله على أخوته من نحو الموازرة ويوازر والاستعانة بالوزير وبحسن رأيه دأب الملوك العقلاء وقد استحسنه نبينا صلى الله عليه وسلم فقال » إذا أراد الله بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه عليه ، وإن أراد شراً كفه « وكان أنو شروان يقول : لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ، ولا أكرم الدواب عن السوط ، ولا أعلم الملوك عن الوزير . وكفى بمرتبة الوزارة منقبة وفخراً وشرفاً وذكراً أن النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة ابتهل إلى الله سبحانه في مقام القرب والمكالمة يطلبه منه ، فيجب على من أوتي هذه الرتبة أن يؤدي إلى الله حقها ولا يغتر بالدنيا وما فيها ، ويزرع في أرض الوزارة ما لم يندم عليه وقت حصاده . وقيل : إن موسى خاف على نفسه العجز عن القيام بذلك الأمر العظيم والخطب الجسيم فطلب المعين . والأظهر أنه رأى أن التعاون على الدين والتظاهر عليه مع خلوص النية وصفاء الطوية أبعد عن التهمة وأعون على الغرض ، ولهذا حكى عن عيسى أنه قال { من أنصاري إلى الله } [ الصف : 14 ] وخوطب نبينا صلى الله عليه وسلم بقوله { يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين } [ الأنفال : 64 ] وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال » إن لي في السماء وزيرين وفي الارض وزيرين فاللذان في السماء جبرائيل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر « ثم إن موسى طلب أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه لتكون الثقة به أكثر وليكون الشرف في بيته أوفر وإنه كان واثقاً بأخيه هارون فأراد أن يخصه بهذا المنصب الشريف قضاء لحقوق الإخاء ، فمن منع المستوجبين فقد ظلم وكان أفصح منه لساناً وأكبر سناً وألين جانباً .
قال جار الله : { وزيراً } و { هرون } مفعولاً { اجعل } قدم ثانيهما عناية بأمر الوزارة ، أو { لي } و { وزيراً } مفعولان { هرون } عطف بيان للوزير و { أخي } في الوجهين بدل من { هرون } أو عطف بيان آخر . وقيل : يجوز فيمن قرأ { اشدد } على الأمر أن يجعل { أخي } مرفوعاً على الابتداء و { اشدد } خبره فيوقف على { هرون } وشد الأزر به عبارة عن تقويته به وأن يجعله ناصراً له فيما عسى يرد عليه من الشدائد والخطوب ، بل يجعله وسيلة له في أمر النبوة وطريق الرسالة لأنه صرح بذلك في قوله { وأشركه في أمري } . ثم ذكر غاية الأدعية فإن المقصد الأسنى هو الاستغراق في بحر التوحيد ونفي الإشراك ، فإن التعاون مهيج الرغبات ومسهل سلوك سبل الخيرات فقال { كي نسبحك كثيراً } أي تسبيحاً كثيراً { ونذكرك } ذكراً { كثيراً } وقدم التسبيح وهو التنزيه لأن النفي مقدم على الإثبات ، فبالأول تزول العقائد الفاسدة ، وبالثاني ترتسم النقوش الحسنة المفيدة . ثم ختم الأدعية بقوله { إنك كنت بنا بصيراً } وفيه فوائد منها : أنه فوض استجابة الدعوات إلى عمله بأحوالهما وأنهما يصدد أهلية الإجابة أم لا ، وفيه من حسن الأدب ما لا يخفى . ومنها أنه عرض فقره واحتياجه على علمه وأنه مفتقر إلى التعاون والتعاضد ولهذا سأل ما سأل . ومنها أنه أعلم بأحوال أخيه هل يصلح لوزارته أم لا ، وأن وزارته هل تصير سبباً لكثرة التسبيح والذكر . وحين راعى من دقائق الأدب وأنواع حسن الطلب ما يجب رعايته فلا جرم أجاب الله تعالى مطالبه وأنجح مآربة قائلاً { قد أوتيت سؤلك } والسؤل بمعنى المسؤول كالخبز بمعنى المخبوز والأكل بمعنى المأكول . وزيادة قوله { يا موسى } بعد رعاية الفاصلة لأجل كمال التمييز والتعيين والله أعلم . بمصالح عبيده .
التأويل : يا من طاب بطهارته بساط النبوة { ما أنزلنا عليك القرآن } إلا لتسعد بتخلقك بخلقه ويسعد بسببك الأولون والآخرون من أهل السموات وأهل الأرضين . { تنزيلاً ممن خلق } أرض بشريتك وسموات روحانيتك التي هي أعلى الموجودات الممكنات كما قال « أول ما خلق الله روحي » استوى بصفة الرحمانية على عرش قلبك ليكون معه وقت لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل : { له ما في السموات } الروحانية من الصفات الحميدة { وما في الأرض } البشرية من الصفات الذميمة { وما بينهما } أي بين سماء الروح وأرض النفس وهو القلب بما فيه من الإيمان والإيقان والصدق والإخلاص { وما تحت الثرى } أي ما هو مركوز في جبلة الإنسانية : { وإن تجهر بالقول } أن يظهر شيء من صفاتك بالقول { فإنه يعلم السر } وهو ما يظهر من سيرتك { وأخفى } هو ما أخفى الله من خفيك .
السر في اصطلاح الصوفية لطيفة بين القلب والروح ، وهو معدن الأسرار الروحانية . والخفي لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية وهو مهبط أنوار الربوبية وأسرارها وجملتها المعقولات ، وقد يحصل لكل إنسان عند نشأته الأولى وإن كان كافراً . والأخفى لطيفة بين الروح والحضرة الإلهية ويكون عند نشأته الأخرى ولا يحصل إلا لمؤمن موحد صار مهبط الأنوار الربانية وجملتها المشاهدات والمكاشفات وحقائق العلوم اللدنية ، ولهذا قال عقيبه { الله لا إله إلا هو } لأن مظهر الألوهية وصفاته العليا وأسمائه الحسنى هو الخفي الذي لا شيء أقرب إلى الحضرة منه إلا وهو سر { وعلم آدم الأسماء كلها } [ البقرة : 31 ] وهو حقيقة قوله « إن الله خلق آدم فتجلى فيه » { وهل أتاك حديث موسى } القلب { إذ رأى ناراً } [ طه : 10 ] وهو نور في الحقيقة مأنوس به من جانب طور الروح { فقال لأهله } وهم النفس وصفاتها { امكثوا } في ظلمة الطبيعة الحيوانية { إني آنست } نار المحبة التي لا تبقى ولا تذر من حطب الوجود المجازي شيئاً { لعلي آتيكم منها بقبس } يخرجكم من ظلمات الطبيعة إلى أنوار الشريعة { أو أجد على النار هدى } بآداب الطريقة إلى الحقيقة { فلما أتاها نودي } من شجرة القدس بخطاب الإنس { فاخلع نعليك } أي اترك الالتفات إلى الزوجة والولد فإن النعل يعبر في الرؤيا بهما ، أو اترك الالتفات إلى الكونين إنك واصل الى جناب القدس ، أو هما المقدمتان في نحو قولنا « العالم محدث وكل محدث فله محدث وموجد » وذلك أنه إذا غرق في لجة العرفان بقيت المقدمات على ساحل الوسائل { وأنا اخترتك } يا موسى القلب من سائر خلق وجودك من البدن والنفس والسر والروح { فاستمع } بسمع الطاعة والقبول إنني لما تجليت بأنانية الوهيتي لأنانية وجودك المجازي لا يبقى إلا أنا { فاعبدني } بإفناء وجودك وأدم المناجاة معي لنيل ذكري إياك بالتجلي . إن قيامة العشق { آتية أكاد أخفيها } لعظم شأنها إلا أن متقاضى الكرم اقتضى إظهارها لأخص عبيدي { لتجزى كل نفس بما تسعى } في العبودية من الروح والسر والقلب والنفس والقالب فلما كان سعي الروح بحب الوطن الأصلي للرجوع إليّ أمكن إضافة { ونفخت فيه من روحي } [ ص : 72 ] فجزاؤه من تجلي صفات الجلال بانعدام الناسوتية في اللاهوتية وكان سعي السعي بالخلو عن الأكوان لقبول فيض المكون فجزاؤه بإفاضة الفيض الإلهي عليه . وسعي القلب بقطع تعلقات الكونين لتصفيته وقابليته لتجلي صفات الجمال والجلال ، فجزاؤه بدوام التجلي وأن يبيت عند ربه يطعمه ويسقيه من الشراب الطهور الذي يزيل لوث الحدوث عن لوح القلوب لكشف حقائق . وسعي النفس بتبديل الأخلاق وانتفاء الأوصاف الحيوانية ، فجزاؤه بإشراق نور ربها لإزالة ظلمة صفاتها واطمئنانها إلى ذكر ربها لتصير قابلة لجذبه { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] وسعي القالب باستعمال أركان الشريعة وآداب الطريقة ، فجزاؤه ورفعة الدرجات ونيل الكرامات في الدارين فلا يصدنك عن هذه السعادات النفس الأمارة بالسوء التي لا تؤمن بها .
ويحتمل أن يقال : أكاد أخفي الساعة ودخول الجنة والنار لئلا تكون عبادتي مشوبة بطمع الجنة وخوف النار . قالوا : أخطأ موسى في قوله { هي عصاي } وكان عليه أن يقول « أنت أعلم بحالها مني » وفي قوله { أتوكأ عليها } وكان عليه أن يتكىء على لطف الله وكرمه فلهذا قيل له { ألقها يا موسى } وفي قوله { وأهش بها على غنمي } إذ نسي أن العصا لا تكون واسطة لرزق أغنامه وإنما الرزاق هو الله . { خذها ولا تخف } فإن الضار والنافع هو الله وحده فلا يكن خوفك إلا منه ولا رجاؤك إلا به { واضمم } يد همتك إلى جناح قنوعك { تخرج بيضاء } نقية عن درن السؤال وعن الطمع وباقي الحقائق مذكور في التفسير . وفي قوله { قد أوتيت } بلفظ الماضي إشارة إلى أنه أعطي ذلك بالتقدير الأزلي لا بالتدبير العملي والله أعلم بالصواب .
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
القراآت : { ولتصنع } بسكون اللام والعين على الأمر : يزيد الآخرون بكسر اللام ونصب العين { لنفسي اذهب } { في ذكري اذهبا } تفتح ياء المتكلم : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { خلقه } فتح اللام على أنه فعل : نصير الباقون بالسكون . { مهداً } وكذلك في « الزخرف » : عاصم وحمزة وعليّ وخلف وروح . الآخرون { مهاداً } { سوى } بكسر السين : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وعليّ الآخرون بالضم { لا نخلفه } بالجزم جواباً للأمر : يزيد { يوم الزينة } على الظرف : هبيرة : { وقد خاب } حيث كان بالإمالة : حمزة { فيسحتكم } من الإسحات : حمزة وعليّ وخلف ورويس وحفص . الباقون بفتح الياء والحاء { إن } مخففة : ابن كثير وحفص والمفضل . الباقون مشددة . { هذين } أبو عمرو و { هذان } بالتشديد : ابن كثير . الباقون بالتخفيف { فاجمعوا } بهمزة الوصل وفتح الميم أمراً من الجمع : أبو عمرو . والآخرون على لفظ الأمر من الإجماع : { وقد أفلح } بنقل الحركة إلى الدال حيث كان : ورش وعباس وحمزة في الوقف { تخيل } بالتاء الفوقانية : ابن ذكوان وروح والمعدل عن زيد الباقون وابن مجاهد عن ابن ذكوان بالتحتانية : { تلقف } بالتشديد والرفع على الاستئناف : ابن ذكوان : { تلقف } بالتخفيف والجزم : حفص والفضل . وقرأ البزي وابن فليح مشددة التاء { كيد سحر } على المصدر : حمزة وعلي وخلف . الباقون { كيد ساحر } على الوصف . { قال آمنتم } بالمد : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وأبو جعفر ونافع وابن كثير عن ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل { قال أمنتم } على الخبر بغير مد : حفص وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل . الباقون { أآمنتم } بزيادة همزة الاستفهام { ومن يأته } مختلسة الهاء : يزيد وقالون ويعقوب غير زيد ، وأبو عمرو عن طريق الهاشمي عن اليزيدي { ومن يأته } بسكون الهاء : خلا دور جاء والعجلي وشجاع واليزيدي غير أبي شعيب ويحيى وحماد . الباقون { يأته } بالإشباع .
الوقوف : { أخرى } 5 لا لأن « إذ » تفسير المرة { ما يوحى } 5 لا لأن ما بعده تفسير { ما يوحى } { وعدوّ له } ط { مني } ج لأن الواو وقد تكون مقحمة وتعلق اللام ب { ألقيت } وقد تكون عاطفة على محذوف أي لتحب ولتصنع ، ومن جزم اللام وقف على { مني } لا محالة { على عيني } م لئلا يوهم أن « إذ » ظرف { لتصنع } { من يكفله } ط لانقطاع النظم وانتهاء الاستفهام على أن فاء التعقيب مع اتحاد القصة يجيز الوصل . { ولا تحزن } ط لابتداء منة أخرى { فتوناً } 5 ط { يا موسى } 5 { لنفسي } 5 لاتساق الكلام مع حق الفاء مضمرة { ذكري } 5 ج لمثل ما قلنا والمضمر واو { طغى } 5 للآية مع الفاء { يخشى } 5 { يطغى } 5 { وأرى } 5 { ولا تعذبهم } ط لأن « قد » لتوكيد الابتداء وقد انقطع النظم على أن اتحاد المقول يجيز الوصل { من ربك } ط لذلك فإن الواو للابتداء { في كتاب } ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف { ولا ينسى } 5 بناء على أن « الذي » صفة الرب والأحسن تقدير هو الذي أو أعني الذي { ماء } ط للالتفات { شتى } 5 { أنعامكم } ط { النهى } 5 { أخرى } 5 { وأبى } 5 { يا موسى } 5 { سوى } 5 { ضحى } 5 { أتى } 5 { بعذاب } ج لاختلاف الجملتين { افترى } 5 { النجوى } 5 { المثلى } 5 { صفاً } 5 { استعلى } 5 { ألقى } 5 { ألقوا } ج لأن التقدير فألقوا ما ألقوه فإذا حبالهم مع فاء التعقيب وإذا المفاجأة المنافيين للوقف { تسعى } 5 { موسى } 5 { الأعلى } 5 { ما صنعوا } ط { كيد ساحر } ط { أتى } 5 { وموسى } 5 { لكم } ط { السحر } ق للقسم المحذوف ولانقطاع النظم مع فاء التعقيب وإتمام مقصود الكلام { النخل } ج لابتداء معنى القسم ولفظ استفهام يعقبه مع اتفاق الجملة واتحاد الكلام .
{ وأبقى } 5 { قاض } ط { الحياة الدنيا } ط { من السحر } ط { وأبقى } 5 { جهنم } ط { ولا يحيى } 5 { العلى } 5 لا لأن ما بعده بدل { فيها } ط { تزكى } 5 .
التفسير : منّ عليه مناً أنعم ، ومنّ عليه منة أي امتن عليه كأن الله سبحانه قال لموسى : إني راعيت صلاحك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ، أو كنت ربيتك من غير سابقة حق فلو منعتك الحال مطلوبك لكان ذلك رداً بعد القبول وحرماناً بعد الأحسان وذلك ينافي الكرم الذاتي . قالوا : المنة تهدم الصنيعة فهي نوع من الأذى . فقوله { ولقد مننا عليك } يكون من المن لا من المنة ، قلت : يحتمل أن لا تكون المنة من المنعم المطلق أذية وإنما تكون تنبهاً علىلنعم وإيقاظاً من سنة الغفلة حتى يتلقى المكاف النعمة بالشكر والطاعة . وإنما قال { مرة أخرى } لأن الجملة قصة واحدة وإن كانت مشتملة على منن كثيرة ، والوحى إلى أم موسى إما أن يكون على لسان نبي في عصرها كشعيب مثلاً ، أو عن لسان ملك لا على طريق النبوّة كالوحي إلى مريم في قوله { وإذ قالت الملائكة يا مريم } [ آل عمران : 42 ] أو أراها في المنام أنه وضع ولدها في التابوت وقذف في البحر ثم رده الله إليها ، أو ألهمها بذلك ، أو لعل الأنياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب أخبروا بذلك وانتهى خبرهم إليها . ومعنى { ما يوحى } ما يجب أن يوحى لما فيه من المصلحة الدينية ولأنه أمر عظيم ولأنه مما لا يعلم إلا بطريق الوحي . « وأن » هي المفسرة لأن الإيحاء في معنى القول ، والقذف يستعمل بمعنى الوضع أي ضعيه في التابوت وقد مر معناه في « البقرة » في قصة طالوت . قال جار الله : الضميران الباقيان في قوله { فاقذفيه في اليم فليلقه } عائدان إلى موسى أيضاً لئلا يؤدي إلى تنافر النظم ، فإن المقذوف والملقى إذا كان موسى وهو في جوف التابوت لزم أن يكون التابوت أيضاً مقذوفاً وملقى ويؤيده أن الضمير في قوله { عدوّ له } لموسى بالضرورة لأن عداوة التابوت غير معقولة .
وإذا كان الضمير الأول والضمير الأخير لموسى فالأنسب بإعجاز القرآن أن يكون الضمير المتوسط أيضاً له ، لأن المعنى صحيح واللفظ متناسب فلا حاجة إلى العدول اعتماداً على القرينة . واليم هو البحر ، والمراد ههنا نيل مصر والساحل شاطىء البحر . وأصل السحل القشر ولهذا قال ابن دريد : هو مقلوب لأن الماء سحله فهو مسحول . قال أهل الإشارة : من خصوصة انشراح الصدر بنور الوحي أن يقذف في قلبه قذف الولد الذي هو أعز الأشياء في تابوت التوكل وبحر التسليم حتى يلقيه اليم بساحل إرادة الله ومشيئته . يروى أنها جعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليم ، وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينا هو جالس على رأس بركة مع اسية إذا بالتابوت فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه . وظاهر اللفظ يدل على أن التابوت التقط من الساحل ، فلعل اليم ألقاه بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون فأداه النهر إلى البركة . أما كون فرعون عدواً لله من جهة كفره وعتوه فظاهر ، وأما كونه عدوّاً لموسى وهو صغير فباعتباره المآل ، أو لأنه لو ظهر له حاله لقتله فسبحان من يربي حبيبه في حجر عدوّه . قالوا : كان بحضرة فرعون حينئذٍ أربعمائة غلام وجارية ، فحين أشار بأخذ التابوت ووعد من يسبق إلى ذلك الإعتاق تسابقوا جميعاً ولم يظفر بأخذه إلا واحد منهم فأعتق الكل . والنكتة فيه أن عدوّ الله لم يجوز من كرمه حرمان البعض إذ عزم الكل على الأخذ ، فأكرم الأكرمين كيف لا يعتبر عزائم المؤمنين على الطاعة والخير؟ فالمرجو منه إعتاق الكل من النار وإن وقع لبعضهم تقصير في العمل . قوله { مني } إما أن يتعلق ب { ألقيت } أو يكون صفة للمحبة أي محبة حاصلة مني وعلى الوجهين فالمحبة إما محبة الله ومن أحبه الله أحبته القلوب ، وإما محبة الناس التي زرعها الله في قلوبهم ، فقد يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبرعنه من رآه . قال القاضي . هذا الوجه أقرب لأنه في الصغر لا يوصف بمحبة الله التي يرجع معناها إلى إيصال الثواب . ورد بأن محبة الله عبارة عن إرادة الخير والنفع وهو أعم من أن يكون جزاء على العمل أو لا يكون ولهذا بين المحبة بقوله { ولتصنع على عيني } أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يراعى الشيء بالعينين إذا عني بحفظه ، ولما كان العالم بالشيء حارساً له عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه .