كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وقد يعبر عنه بالسنة والنبوة وهو كونه مأموراً بتبليغ ما فهم إلى الخلق ، وما أحسن هذا الترتيب ، وإذا كانت كاملة بحسب القوتين وما يتبعهما امتنع من مثله مل هذا القول والاعتقاد ، لأن غاية جهد النبي وقصارى أمره صرف القلوب والأرواح من الخلق إلى الحق ، فكيف يعقل منه ضده؟ فتبين أنه ليس المراد من قوله : { ما كان لبشر } إلى قوله : { كونوا عباداً لي من دون الله } أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق . ولو كان المراد منه التحريم لم يكن فيه تكذيب للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح ، لأن من ادعى على رجل فعلاً فقيل له إن فلاناً لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن مكذباً له فيما ادعاه عليه . ومثله { ما كان لله أن يتخذ من ولد } [ مريم : 35 ] على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر . وكذا قوله : { ما كان لنبي أن يغل } [ آل عمران : 161 ] ومعناه النفي لا النهي . ومعنى « ثم » في قوله : { ثم يقول } تبعيد هذا القول عن مثل ذلك البشر { ولكن كونوا } ولكن يقول كونوا { ربانيين } قال سيبويه : الرباني منسوب إلى الرب بمعنى كونه عالماً به ومواظباً على طاعته كما يقال : رجل إلهي إذا كان مقبلاً على معرفة الإله وطاعته . وزيادة الألف والنون في النسبة فقط للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا : شعراني ولحياني ورقباني للموصوف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة . وقال المبرد : والربانيون أرباب العلم واحدها ربان وهو الذي يرب العلم ويرب الناس بتعليمهم وإصلاحهم والقيام بأمرهم . والألف والنون كما في ريان وعطشان لا يختص بحال النسبة . والربانيون بهذا التفسير يشمل الولاة أيضاً . قال القفال : يحتمل أن يكون الوالي يسمى ربانياً لأن يطاع كالرب تعالى فينسب إليه . فمعنى الآية : ولكن يدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته . وقال أبو عبيدة : أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية . وسواء كانت عربية أو عبرية تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ثم اشتغل بتعليم طرق الخير . عن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس : اليوم مات رباني هذه الأمة . والباء في قوله : { بما كنتم } للسببية و « ما » مصدرية و { تعلمون } من التعليم أو العلم على القراءتين فيعلم منه أن التعليم أو العلم أو الدراسة وهي القراءة توجب على صاحبها كونه ربانياً ، والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانياً أمراً مغايراً لكونه عالماً ومعلماً ومواظباً على قراءة العلم ، وما ذاك إلا بأن يكون تعلمه لله وتعليمه لله ودراسته لله .
فمن اشتغل بالعلم والتعليم والدراسة لا لهذا الغرض خاب وخسر وكان السبب بينه وبين ربه منقطعاً وكان مثله كمن غرس شجرة تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « نعوذ بالله من قلب لا يشخع ومن علم لا ينفع » وفي الآية دليل على صحة قوله صلى الله عليه وسلم : « العلماء ورثة الأنبياء » تأمل تفهم بإذن الله . { ولا يأمركم } من قرأ بالنصب فوجهان : أحدهما أن تجعل « لا » مزيدة لتأكيد النفي أي ما ينبغي لبشر أن ينصبه الله منصب الدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة ثم يخالفه إلى أن يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمركم { أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً } كما نقول : ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي . والثاني أن يكون حرف النفي غير زائد فيرجع المعنى إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسل كان ينهي قريشاً عن عبادة الملائكة ، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح بحيث قالوا له : أنتخذك رباً؟ قيل لهم : ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء ، فيكون عدم الأمر في معنى النهي . ويراد بالنبيين غيره صلى الله عليه وسلم كأنه أخرج نفسه بتلك الدعوى عن زمرة الأنبياء . ومن قرأ بالرفع على الاستئناف فظاهر وتنصره قراءة عبد الله بن مسعود { ولن يأمركم } والضمير فيه على قراءة الرفع - قال الزجاج - لله . وقال ابن جريج لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لعيسى . وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح . { أيأمركم } أي البشر وقيل : الله { بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون } ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك . قيل : وفيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسجدوا له . قلت : وضع الشيء ابتداء أسهل من رفع نقيضه ثم وضعه ، فيحتمل أن يكون المراد ما صح ولا يعقل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعبادة نفسه أول ما استنبىء ، فكيف يعقل أن يأمرهم بذلك بعد الفهم بالإسلام واستنارة باطنهم بنور الهدى والإيمان بالله؟
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
القراآت : { لما } بكسر اللام حمزة الخزا . الباقون بفتحها . { آتيناكم } على صيغة جمع المتكلم : أبو جعفر ونافع . الباقون { آتيتكم } على الوحدة { يبغون } بياء الغيبة و { ترجعون } بتاء الخطاب مبنياً للمفعول : أبو عمرو غير عباس . وقرأ عباس وسهل وحفص بالياء التحتانية فيهما وقرأ يعقوب { يبغون } بالياء التحتانية { يرجعون } بالتحتانية مبنياً للفاعل . الباقون بتاء الخطاب فيهما { ملء } بالهمزة { الأرض } بغير الهمز . روى النجاري عن ورش وروى الأصفهاني عنه بغير همز فيهما . الباقون بالهمز فيهما .
الوقوف : { ولتنصرنه } ط { إصري } ط { أقررنا } ط { الشاهدين } ه { الفاسقون } ه { يرجعون } ه { من ربهم } ص { منهم } ج { مسلمون } ه { منه } ج لعطف المختلفتين { الخاسرين } ه { البينات } ط { الظالمين } ه { اجمعين } ه { فيها } ج ( لا ) { ينظرون } ه ( لا ) للاستثناء { رحيم } ه { توبتهم } ج { الضالون } ه ، { افتدى به } ط { ناصرين } ه .
التفسير : الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعاً لأعذارهم وإظهاراً لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين . قال الزجاج : تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله . وقيل : واذكروا يا أهل الكتاب . وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد إلى المعاهد منه ، أو من إضافة العهد إلى المعاهد كما تقول : ميثاق الله وعهد الله . أما الاحتمال الأول فيؤيده ما يشعر به ظاهر اللفظ من أن آخذ الميثاق هو الله والمأخوذ منهم النبيون وهو قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس . ثم على هذا القول ما نقل عن علي أنه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه والذي يدل على صحته ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حياً لما وسعه إلا اتباعي » فهذا على سبيل الفرض والتقدير ، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفاً . وقيل : المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف ، أو أمة النبيين فقد ورد كثيراً في القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به الأمة كقوله { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } [ الطلاق : 1 ] وقيل : النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكماً بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون . ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم .
وروي عن ابن عباس أنه قيل له : إن أصحاب عبد الله يقرأون { وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } ونحن نقرأ { وإذا أخذ الله ميثاق النبيين } فقال : إنما أخذ الله ميثاق النيبين على قومهم { لما آتيتكم } من قرأ بفتح اللام ففيه وجهان : أحدهما : أن « ما » تكون موصولة واللام للابتداء وخبره { لتؤمنن } واللام فيه جواب القسم المقدر . والعائد على الموصول في { آتيتكم } محذوف وفي { جاءكم } ما يدل عليه { لما معكم } لأنه في معنى « ما آتيتكم » والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به - وثانيهما - واختاره سيبويه وغيره - كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال : أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف . و « ما » هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذٍ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاء ، وليس ههنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة . فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جواباً للقسم ظاهراً ، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في « لتؤمنن » و « لتنصرن » وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط . ثم إن جواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه . ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضاً وجهان : أحدهما أن تكون « ما » مصدرية أي أخذ الله ميثاقهم لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقاً لكم في الأصول لتؤمنن به ، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء ، والثاني أن تكون « ما » موصولة وبيان الرابط كما مر . وعن سعيد بن جبير { لما } بالتشديد بمعنى « حين » . وقيل : أصله « لمن ما » أي لمن أجل ما آتيتكم . أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفوا إحداها للتخفيف فيؤل المعنى إلى قراءة حمزة . وفي جميع القراآت قيل : لا بد من إضمار بأن يقال : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطباً لهم لما آتيتكم . قلت : هذا من باب الالتفات فلا حاجة إلى الإضمار فكأنه قيل : وإذ أخذت أو أخذنا . ولما في أخذ الميثاق من معنى القول . ومن العلماء من قدر الإضمار بنوع آخر واستحسنه في التفسير الكبير مع أنه متكلف فقال : وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه .
والنبيون عام وليس كلهم أصحاب كتاب ولكنه وصف الكل بوصف أشرفهم ، أو الكتاب لذوي الكتب والحكمة لغيرهم ، أو جعل الداعي إلى الكتاب وإلى العمل به كالذي أنزل عليه . و « من » للبيان أو للتبعيض . وقوله : { ثم جاءكم } والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم معناه أي في زمانكم وإن كان المراد من النبيين أولادهم أو أممهم فلا إشكال . والمراد بتصديقه لما معهم موافقته في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع . فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه عليه السلام وأن الحق في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس الاشرعه عليه السلام . ولو قلنا : إن المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد إما ما ذكرنا أو أن نعته وصفته وأحواله مذكورة في الكتب المتقدمة ، فكان نفس مجيئه تصديقاً لما كان معهم . الظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو التوصية بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقاً لما معهم . وقيل : يحتمل أن يكون الميثاق إشارة إلى ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه ، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه . وقيل : المراد بأخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء المتقدمين ، فإذا صارت أحواله صلى الله عليه وسلم مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية وجب الانقياد له صلى الله عليه وسلم ، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالنيين أولادهم أو أممهم أو ميثاق النبيين من الأمم أو ميثاق الله من النبيين على تقدير كونهم أحياء . أقول والله أعلم : يحتمل أن يراد بقوله { ثم جاءكم } المجيء في الزمان الماضي ، فيكون معنى الآية أن الله تعالى أخذ ميثاقه من كل نبي أوتي كتاباً وحكمة أن يؤمن بكل رسول كان قد جاء قبله موافقاً لما معه وينصر دينه بأن يظهر حقيته في وقته وأنه من عند الله سبحانه وأنه موافق له في أصول العقائد وفي قواعد مكارم الأخلاق ، فتكون هذه الآية تمهيداً لما يجيء بعد من قوله : { قل آمنا بالله } الآية . { قال } الله أو كل نبي لأمته مستفهماً بمعنى الأمر { أأقرتم } بالإيمان به والنصرة؟ والإقرار في الشرع إخبار عن ثبوت حق سابق . وفي اللغة منقول بهمزة التعدية من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه { وأخذتم } أي قبلتم { على ذلكم أصري } عهدي . والأخذ بمعنى القبول كثير قال تعالى : { لا يؤخذ منها عدل } [ البقرة : 48 ] أي لا يقبل . ويأخذ الصدقات أي يقبلها . سمي العهد أصراً لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد .
ثم بعد المطالبة بالإقرار أكد ذلك بالإشهاد وقال : { فاشهدوا } أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار . وفي قوله : { وأنا معكم من الشاهدين } وأنه لا يخفى عليه خافية ، تذكير لهم وتوكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض . وقيل : فاشهدوا خطاب للملائكة . وقيل : معناه ليجعل كل أحد نفسه شاهداً على نفسه كقوله : { وأشهدهم على أنفسهم } [ الأعراف : 172 ] وقيل : بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به . وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى . وقيل : استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له ، أو يكون خطاباً للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم . ثم ضم إلى توكيد الوعيد بقوله : { فمن تولى بعد ذلك } الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر { فأولئك هم الفاسقون } الخارجون عن دين الله وطاعته ، ووعيد الفساق المردة معلوم . ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال : { أفغير دين الله يبغون } ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون { وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه ترجعون } من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في « أقررتم » و « أخذتم » أو للالتفات بعد قوله { أولئك هم الفاسقون } ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين ، وفي الثاني إلى جميع المكلفين . والأصل أفتبتغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة ههنا متوجه إلى الدين الباطل . وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم ، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال صلى الله عليه وسلم : كل الفريقين بريء من دين إبراهيم . فقالوا : ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت . وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها ، ولكن الاستفهام على سبيل الإإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها ، فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد ، كانوا طالبين ديناً غير دين الله ، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون . ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل ، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه ، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه ، فهو ذليل بين يدي قدرته ، خاضع لجلال قدرة في طرفي وجوده وعدمه عقلاً كان أو نفساً أو روحاً أو جسماً أو جوهراً أو عرضاً أو فاعلاً أو فعلاً . ونظير الآية { ولله يسجد من في السموات والأرض }
[ الرعد : 15 ] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده { طوعاً وكرهاً } وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك : أتاني راكضاً . ولو قلت أتاني كلاماً أي متكلماً لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيات . فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدين وكرهاً في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم ، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره . وأما الكافرون فينقادون في الدين كرهاً أي خوفاً من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب . وعن الحسن : الطوع لأهل السموات ، والكره لأهل الأرض . أقول : وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره . وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعاً ، ومن شاهد الجلال أسلم كرهاً . فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي { وإليه ترجعون } أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهراً وباطناً ، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره . ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه . أما وجه التوحيد في { قل } فظاهر ، بناء على ما قلنا ، وأما وجه الجمع في { آمنا } فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان ، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله : { والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته } [ البقرة : 285 ] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك . وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد ، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إلأيه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل ، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضاً وكذبوا بعضاً ، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق . ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في تفسير قوله : { وإذ أخذ الله ميثاق البنين } [ آل عمران : 81 ] فههنا قد أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بكل رسول كان قبله ولم يؤخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده فيكون في الآية دليل على أنه لا نبي بعده .
واعلم أن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فيجوز أن يعدّى أنزل ب « على » تارة كما في هذه الآية ، وبحرف الانتهاء أخرى كما في البقرة . فنطق القرآن بالاعتبارين جميعاً .
وقيل : عُدي هناك ب « إلى » لمكان { قولوا } فإن الوحي يأتي الأمة بطريق الانتهاء ، وعدي ههنا ب « على » لمكان { قل } فإن الرسول يأتيه الوحي بطريق الاستقلال وزيفه في الكشاف بقوله تعالى : { وأنزلنا إليك الكتاب } [ المائدة : 48 ] وبقوله : { آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا } [ آل عمران : 72 ] والإنصاف أن هذا القائل لم يدع أن هذه المناسبة يجب اعتبارها في كل موضع وإنما ادعى اعتبارها في الموضعين فيصلح حجة للتخصيص والله أعلم . { ونحن له مسلمون } فائدة تقديم الجار أن يعلم أن هذا الإذعان والإيمان والاستسلام لا غرض فيه إلا وجه الله دون شيء آخر من طلب المال والجاه ، بخلاف أحبار اليهود الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً فليسوا من الإسلام في شيء { ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه } فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ { وهو في الآخرة من الخاسرين } حيث فاته الثواب وحصل مكانه العقاب . والخاسرون ههنا هم الكافرون فقط عند أهل السنة ، ومع أصحاب الكبائر عند المعتزلة . وقد يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد إذ لو كان الإيمان غير الإسلام كان غير مقبول ، لأن كل ما هو غير الإسلام ليس بمقبول عند الله للآية . وقد ذكرنا مراراً أن النزاع لفظي لأن الإسلام إن أريد به الانقياد الكلي فلا فرق بينه وبين الإيمان كما في هذه الآية ، وإن أريد به الإقرار باللسان فالفرق بناء على أن الاعتقاد القلبي داخل في مفهوم الإيمان ، وعلى الفرق ورد قوله تعالى : { قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } [ الحجرات : 14 ] ثم بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال : { كيف يهدي الله } واختلف في سبب النزول ، ففي رواية عن ابن عباس نزلت في يهود قريضة والنضير ومن دان بدينهم ، كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا به بغياً وحسداً وعناداً ولدداً . وفي رواية أخرى عنه : نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب بقوله : { إلا الذين تابوا } وعن مجاهد قال : كان الحرث بن سويد قد أسلم وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لحق بقومه وكفر فأنزل الله هذه الآية إلى قوله : { فإن الله غفور رحيم } فحملهن إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فقال الحرث : والله إنك لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله أصدق الثلاثة ، ثم رجع فأسلم إسلاماً حسناً . قالت المعتزلة في الآية : إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وإلا كان الكافر معذوراً ولا يحس ذمه على الكفر . ثم إنه حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير الآية بشيء أخر سوى نصب الدلائل .
قالوا : فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثواباً لهم على إيمانهم كما قال : { والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] وقال : { والذين اهتدوا زادهم هدى } [ محمد : 17 ] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله : { ولا يهديهم طريقاً إلا طريق جهنم } [ النساء : 168169 ] وقوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار } [ يونس : 9 ] وقال أهل السنة : المراد بالهداية خلق المعرفة . وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال : كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه . ؟ وقال أهل التحقيق : كيف يهدي الله إليه قوماً احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية . وقوله : { وشهدوا } عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى : { فأصدق وأكن } [ المنافقون : 10 ] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار « قد » أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق . وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قوماً كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره ، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان ، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايراً للمعطوف عليه . { والله لا يهدي القول الظالمين } الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث - أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات - توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمان لا الكفر والعناد . وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل ولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية ، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلاً { أولئك جزاؤهم } إلى قوله : { ولا هم ينظرون } وقد مر مثله في البقرة . وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة . { إلا الذين تابوا من بعد ذلك } الكفر العظيم . ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال : { وأصلحوا } أي باطنهم مع الحق بالمراجعات ، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات ، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها . { فإن الله غفور } في الدنيا بالستر { رحيم } في الآخرة بالعفو . أو غفور بإزالة العقاب ، رحيم بإعطاء الثواب . قوله سبحانه { إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً } ازدياد الكفر قد يراد به الإصرار على الكفر ، وقد يراد به ضم كفر إلى كفره وهو المراد في الآية باتفاق عامة المفسرين . ثم اختلفوا فقيل : إنهم أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفراً بسبب طعنهم فيه كل وقت ، وإنكارهم لكل معجز يظهر عليه إلى غير ذلك من تخليطاتهم وتغليطاتهم .
وقيل : إن اليهود كانوا مؤمنين بموسى ثم كفروا بعيسى والإنجيل ، ثم ازدادوا كفراً بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن . وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء ، وقيل : نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة ، وازديادهم الكفر أنهم قالوا : نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون . وقيل : عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق زيادة في الكفر ثم إنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين ، وحكم تعالى في هذه الآية بعدم قبولها ، وهذا يوهم التناقض . وأيضاً ثبت بالدليل أن التوبة بشروطها مقبولة فما معنى قوله { لن تقبل توبتهم } قال الحسن وقتادة وعطاء : المراد بازدياد الكفر إصرارهم عليه فلا يتوبون إلا عند حضور الموت ، والتوبة حينئذٍ لا تقبل لقوله تعالى : { وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن } [ النساء : 18 ] وقيل : هي محمولة على ما إذا تابوا باللسان لا عن الإخلاص . وقال القاضي والقفال وابن الأنباري : هي من تتمة قوله : { إلا الذين تابوا } يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة . وقيل : لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه . أقول : ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية الموت على الكفر كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر . وفائدة هذه الكناية تصير كونهم آيسين من الرحمة ، هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين ، أما على تقدير التعميم فنقول : إنما يجعل الموت على الكفر لازماً لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذٍ لا تكون كلية ، فكم من مرتد أو يهودي مزداد للكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر . فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية . ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وأنه لا بد للعدول من فائدة ، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها ، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة ، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف . والحاصل أنه كأنه قيل : إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا من حقهم أن لا تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون الكاملون في الضلال ، ضلوا في تيه الأوصاف البهيمة والأخلاق السبعية فلم يكادوا يخرجون منها بقدم الإنابة .
واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام : أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء ، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله : { لن تقبل توبتهم } على وجه .
وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة . وملْ الشيء قدر ما يملؤه و { ذهباً } نصب على التمييز . وربما يقال على التفسير ، ومعناه أن يكون الكلام تاماً إلا أنه يكون مبهماً كقولك « عندي عشرون » فالعدد معلوم والمعدود مبهم . فإذا قلت « درهماً » فسرت العدد . ومعنى الفاء في { فلن يقبل } أن يعلم أن الكلام مبني على لاشرط والجزاء ، وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع . هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف . وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبماذا يجيبون؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم . والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيداً للزوم وتغليظاً في الوعيد والله أعلم . أما الواو في قوله { ولو افتدى به } فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر ، فلهذا كثر أقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري : إنها للعطف والتقدير : لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لم يمنعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه . وقيل : إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهباً يحتمل الوجوه الكثيرة ، فنص على نفي القبول بجهة الفدية . وقيل : إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية ، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط ، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب . وقيل : إنه محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً . وقيل : يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله : { ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به } [ الزمر : 47 ] والمثل يحذف كثيراً في كلامهم مثل : ضربت ضرب زيد . أي مثل ضربه . و « أبو يوسف وأبو حنيفة » تريد مثله . كما أنه يراد به في نحو قولهم « مثلك لا يفعل » كذا أي أنت . وذلك أن المثلين يقول أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد ، فإن قيل : من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا ، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك ، فما فائدة هذا الكلام؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير ، والذهب كناية عن أعزالأشياء . والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أن في بذله نفعاً للآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه . ثم صرح بعقابهم ونفى من يشفع لهم فقال : { أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين } قال أهل التحقيق : وماتوا أي ماتت قلوبهم { أولئك لهم عذاب أليم } بموت القلب وفقد المعرفة { وما لهم من ناصرين } على إحياء القلب بنور المعرفة حسبي الله ونعم الوكيل .
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
{ القراآت } : { أن تنزل } خفيفاً : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون بالتشديد . { حج البيت } بكسر الحاء : يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون بفتحها .
الوقوف : { تحبون } ط { عليم } ه { تنزل التوراة } ط { صادقين } ه { الظالمون } ه { حنيفاً } ط { المشركين } ه { للعالمين } ه ج لأن ما بعده يصلح حالاً واستئنافاً { مقام إبراهيم } ج للابتداء بالشرط مع الواو لأن الأمن من الآيات { آمنا } ط { سبيلا } ط { العالمين } ه { بآيات الله } ط قد قيل : والوده الوصل لأن الواو للحال { تعملون } ه { شهداء } ط { تعملون } ه { كافرين } ه { رسوله } ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط { مستقيم } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر ألبتة ، علّم المؤمنين كيفية الإنفاق الذين ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم . وههنا لطيفة وهي أنه سبحانه وتعالى سمى جوامع خصال الخير براً في قوله تعالى : { ولكن البر من آمن بالله } [ البقرة : 177 ] الآية . وذكر في هذه الآية { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فالمعنى أنكم وإن أتيتم بكل الخيرات لم تفوزوا بإحراز خصلة البر ولم تبلغوا حقيقتها حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تبحونها وتؤثرونها . وكان السلف رحمهم الله إذ أحبوا شيئاً جعلوه لله . يروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، حائط لي بالمدينة - يعني بيرحاء - وهو أحب أموالي إليّ صدقة . فقال صلى الله عليه وسلم « بخ بخ . ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين » . فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله . فقسمها صلى الله عليه وسلم في أقاربه . وروي أنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب . وروي أن زيد بن حارثة جاء عند نزول الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله ، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد . فوجد زيد في نفسه وقال : إنما أردت أن تصدق به . فقال صلى الله عليه وسلم « أما إن الله قد قبلها منك » . وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبى جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما رآها أعجبته فقال : إن الله تعالى يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } فأعتقها ولم يصب منها . ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي : ائتني بخير إبلي . فجاء بناقة مهزولة فقال : خنتني . فقال : وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتك إليه . فقال : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي . وفي تفسير البر قولان : أحدهما ما به يصيرون أبراراً ليدخلوا في قوله : { إن الأبرار لفي نعيم }
[ الانفطار : 13 ] فيكون المراد بالبر ما يصدر منهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله : { ولكن البر من آمن } [ البقرة : 177 ] وجملتها التقوى لقوله : { أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون } [ البقرة : 177 ] والثاني الجنة أي لن تنالوا ثواب البر . وقيل : المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم من قول الناس « برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني » . وقال تعالى : { أن تبروا وتتقوا } [ البقرة : 224 ] و « من » في قوله : { مما تحبون } للتبعيض نحو : أخذت من المال . ويؤيده قراءة عبد الله بن مسعود { بعض ما تحبون } وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه . والمراد بما تحبون قال بعضهم : هو نفس المال لقوله تعالى : { وإنه لحب الخير لشديد } [ العاديات : 8 ] وقيل : هو ما يكون محتاجاً إليه كقوله : { ويطعمون الطعام على حبه } [ الدهر : 8 ] { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } [ الحشر : 9 ] وقيل : هو أطيب المال وأرفعه كما مر . وعن ابن عباس أراد به الزكاة أي حتى تخرجوا زكاة أموالكم . ويريد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها ، وقال الحسن : هو كل ما أنفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله . ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي انها منسوخة بآية الزكاة . وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله . و « من » في { من شيء } للتبيين يعني من أي شيء كان ، طيب أو خبيث { فإن الله به عليم } فيجازيكم بحسبه أو يعلم الوجه الذي لأجله تنفقون من الإخلاص أو الرياء . ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب ، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه : أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالاً ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده وهو النسخ . ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراماً من لدن آدم ولم يحدث نسخ ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاماً لهم وتفضيحاً ودلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه كان أمياً فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخير من السماء . وثانيها أن اليهود قالوا له : إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالاً لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب . إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب ، وبقيت تلك الحرمة في أولاده ، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع الى التوراة . وثالثا لما نزل قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم }
[ النساء : 160 ] وقوله : { وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } [ الأنعام : 146 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم . غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ . ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم . فقالوا : لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت { كل الطعام } أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفرداً سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا . والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل . وعن بعض أصحاب أبي حنيفة : إنه اسم البر خاصة . ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئاً سوى الحنطة وما يتخذ منها . قال القفال : لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام ، وكذا القول في الخنزير ، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا صلى الله عليه وسلم أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق . والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع . قال تعالى : { ا هن حل لهم } والوصف بالمصدر يفيد المبالغة ، وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب مرض مرضاً شديداً فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها ، وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل . وقيل : كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئاً من العروق . وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر .
وههنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى ، فكيف صار تحريم يعقوب سبباً للحرمة؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء . وأيضاً لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سبباً لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية . وأيضاً الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم { فاعتبروا } [ الحشر : 2 ] ولقوله في معرض المدح { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر ، وعقولهم أنور ، وأذهانهم أصفة ، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى . ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته . والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل : إلا ما حرمه الله تعالى على إسرائيل . فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال : الشافعي يحلل لحم الخيل ، وأبو حنيفة يحرّمه .
وقال الأصم : لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهراً للنفس كما يفعله الزهاد ، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم . وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده : احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب ، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب . ومعنى قوله : { من قبل أن تنزل التوراة } إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة ، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله لعيهم أنواعاً كثيرة بدليل قوله تعالى : { فبظلم من الذين هادوا حرمنا } [ النساء : 160 ] إلى آخر الآية . ثم إن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الله تعالى فأمروا بالرجوع إلى كتابهم كما سبق تقريره ، فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا فلزمت الحجة عليهم وظهر إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه ، فلهذا قال : { فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } الذي ظهر من الحجة الباهرة { فأولئك هم الظالمون } الواضعون الباطل في موضع الحق ، والكذب في مقام الصدق والعناد في محل الإنصاف . وأيضاً إن تكذيبهم وافتراءهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن يقتدي بهم من أشياعهم { قل صدق الله } في جواب الشبه الثلاث وفيه تعريض بكذبهم { فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً } وهي التي عليه محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه حتى تتخلصوا من اليهودية التي فيها فساد دينكم ودنياكم حيث ألجأتكم الى تحريف كتاب الله لأغراضكم الفاسدة وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلت لإبراهيم ولمن يقتدي به { وما كان من المشركين } وفيه تنبيه على أن محمداً صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم في الفروع لما ثبت أن الذي حكم صلى الله عليه وسلم بحله حكم إبراهيم بحله . وفي الأصول لأن محمداً وإبراهيم كليهما صلى الله عليهما وسلم لا يدعوان إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى ، خلاف اليهود والنصارى ، وخلاف عبدة الأوثان والكواكب .
قوله سبحانه : { إن أول بيت وضع للناس } قال مجاهد : هو جواب عن شبهة أخرى لليهود وذلك أنهم قالوا : بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر وقبلة الأنبياء . فكان تحويل القبلة منه إلى الكعبة كالطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : إن الآية المتقدمة سيقت لجواز النسخ ، وإن أعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخها هو القبلة ، فذكر عقيب ذلك ما لأجله حولت القبلة إلى الكعبة . وقيل : لما انجر الكلام في الآية المتقدمة إلى قوله : { فاتبعوا ملة إبراهيم } وكان الحج من أعظم شعائر ملته ، أردفها بفضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج . وقيل : زعم كل من اليهود والنصارى أنه على ملة إبراهيم ، فبين الله تعالى ما يدل على كذبهم من حيث إن حج البيت كان من ملة إبراهيم وأهل الكتاب لا يحجون .
قالت العلماء : الأول هو الفرد السابق ، فلو قال : أول عبد أشتريه فهو حر . فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما لفقد قيد الفرد . ولو اشترى في المرة الثانية عبداً واحداً لم يعتق أيضاً لفقدان قيد السابق . ومعنى كونه موضوعاً للناس أنه جعل متعبدهم وموضع طاعتهم يتوجهون نحوه من جميع الأقطار ، وليس كل أول يقتضي أن يكون له ثانٍ فضلاً أن يشاركه في جميع خواصه ، فلا يلزم من كونه أول أن يكون بيت المقدس مثلاً ثانياً له ولا مشاركاً في وجوب الحج والاستقبال وغيرهما من الخواص . ثم إن كونه أول بيت وضع للناس يحتمل أن يكون المراد أنه أول في البناء والوضع ، ويحتمل أن يراد أنه أول في الوضع وإن كان متأخراً في البناء ، فلا جرم حصل فيه للمفسرين قولان : الأول أنه أول في بنائه ووضعه جميعاً . روى الواحدي رحمه الله في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال : خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرضين . وفي رواية أخرى : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً من الأرض بألفي سنة ، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى ، وروى أيضاً عن محمد بن عبي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه قال : إن الله تعالى بعث ملائكة فقال : ابنوا لي في الأرض بيتاً على مثال البيت المعمور . وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور . وهذا كان قبل خلق آدم وقد ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء ، وقد خلقه الله قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض من تحته . وعن الزهري قال : بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح في كل صفح منها كتاب . في الصفح الأول : « أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن » . وفي الثاني : « أنا الله ذو بكة ، خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي . من وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته » . وفي الثالث : « أنا الله ذو بكة خلقت الجن والإنس فطوبى لمن كان الخير على يديه ووبل لمن كان الشر على يديه » . وقد يستدل على صحة هذا القول بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة « ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض » . وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى ، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع ، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتاً في أديان جميع الأنبياء .
وأيضاً قال تعالى في سورة مريم { أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم } [ مريم : 58 ] إلى قوله : { خروا سجداً } [ مريم : 58 ] والسجدة لا بد لها من قبلة فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف . القول الثاني : روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال : « المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما؟ قال : أربعون سنة » وعن علي أن رجلاً قال له : هو أول بيت؟ قال : لا . قد كان قبله بيوت ، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركاً ، فيه الهدى والرحمة والبركة . واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس . ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود ، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضاً كما روينا آنفاً ، وفي سورة البقرة أيضاً من الأخبار والآثار . فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل ، والمهندس جبرائيل ، وبانية إبراهيم الخليل وتلميذة ابنه إسماعيل . ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات ، ومصعد الصلوات والطاعات ، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء ، ومنه قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير . وليس الموضع الذي يرمي إليه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة ، وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء . ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها ألبتة إذا وصلت إلى محاذاتها . ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطبائع لا يؤذي بعضها بعضاً عنده كالكلاب والظباء ، ومنها أمن سكانها فلم ينقل ألبتة أن ظالماً هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية ، وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية ، وقصة أصحاب الفيل سوف تجيء في موضعها إن شاء العزيز ، ومنها أنه تعالى وضعها بواد غير ذي زرع لفوائد منها : أنه قطع بذلك رجاء أهل حرمة وسدنة بيته عمن سواءه حتى لا يتوكلوا إلا على الله . ومنها أنه مع كونه كذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة خليلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإنه من أعظم الآيات ومنها أن لا يسكنها أحد من الجبابرة لأنهم يميلون إلى طيبات الدنيا ، فيبقى ذلك الموضع المنيف والمقام الشريف مطهراً عن لوث وجود أرباب الهمم الدنية . ومنها أن لا يقصدها الناس للتجارة بل يأتون لمحض العبادة والزيارة ، ومنها أنه تعالى أظهر بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيت في أقل المواضع نصباً من الدنيا فكأنه تعالى يقول : جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين لأجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين .
ومنها كأنه قيل : كما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في قلب خال عن محبة الدنيا { للذي ببكة } للبيت الذي ببكة قال في الكشاف : وهي علم للبلد الحرام . ومكة وبكة لغتان كراتب وراتم . وضربة لازم ولازب مما يعتقب فيه الميم والباء لتقارب مخرجهما . وقيل : مكة البلد وبكة موضع المسجد . وفي الصحاح بكة اسم لبطن مكة وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكة إذا زحمه ودفعه ، وعن سعيد بن جبير : سميت بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة . قال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي . فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال : دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضاً ، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان . ويؤكد هذا القول من قال : إن بكة موضع المسجد لأن المطاف هناك وفيه الازدحام . ولا شك أن بكة غير البيت لأن الآية تدل على أن البيت حاصل في بكة ، والشيء لا يكون ظرفاً لنفسه ، وقيل : سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها ، لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه . وأما مكة فاشتقاقها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه واستقصى ، فسميت بذلك لأنها تجذب الناس من كل جانب وقطر أو لقلة مائها كأن أرضها امتصت ماءها . وقيل : إن مكة وسط الأرض ، والعيون والمياه تنبع من تحتها ، فكأن الأرض كلها تمك من ماء مكة ، ثم إنه تعالى وصف البيت بكونه مباركاً وهدى للعالمين ، أما انتصابه فعلى الحال عن الضمير المستكن في الظرف ، لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه معنى الاستقرار . وأما معناه فالبركة إما النمو والتزايد وكثرة الخير ، وإما البقاء والدوام وكل شي ثبت ودام فقد برك ، ومنه برك البعير إذا وضع صدره على الأرض والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها ، وتبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال ، والبيت مبارك لما يحصل لمن حجة واعتمره واعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب . قال صلى الله عليه وسلم : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام » وقال صلى الله عليه وسلم : « الحج المرور ليس له جزاء إلا الجنة » ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز ، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية ، وقلوبهم قدسية ، وأسرارهم نورانية ، وضمائرهم ربانية ، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية ، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره .
قال القفاز : يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله : { يجبى إليه ثمرات كل شيء } [ القصص : 57 ] فيكون كقوله : { إلى الأرض } [ الأنبياء : 71 ] المقدسة { التي باركنا فيها } [ الأنبياء : 71 ] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود . وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء ، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها أببتة . وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفاً من السنين دوام . وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد صلى الله عليه وسلم بما فيه من الآيات والأعاجيب ، أو لأنه يهدي إلى الجنة . ومعنى هدى هادياً أو ذا هدى قاله الزجاج ، وجوز أن يكون محله رفعاً أي وهو هدى { فيه آيات بينات } يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله ، ويكون قوله : { مقام إبراهيم } غير متعلق بما قبله ، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه . وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله : { مقام إبراهيم } إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضاً على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات ، فلقوه هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله : { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] وإما بأن يجعل المقام مشتملاً على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية وآبقاء هذا الأثر دون آثار سائر الأبنياء آية لإبراهيم خاصة ، وحفظة مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوفاً من السنين آية . قال الزجاج : قوله : { ومن دخله كان آمناً } من تتمة تفسير الآيات . وهذه الجملة وإن كانت من مبتدأ وخبر أو من شرط وجزاء إلا أنها في تقدير مفرد من حيث المعنى . فكأنه قيل : فيه آيات بينات وأمن من دخله كما لو قلت : فيه آية بينة من دخله كان آمناً كان معناه فيه آية بينة أمن من دخله . وهذا التفسير بعد تصحيحه مبني على أن الاثنين جمع كما قال صلى الله عليه وسلم : « الاثنان فما فوقهما جماعة » وفي القرآن { هذان خصمان اختصموا } [ الحج : 19 ] وقيل : ذكر آيتان وطوى ذكر غيرهما . دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل : فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : « حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة »
ومنهم من تمم الثلاثة فقال : مقام إبراهيم وأمن من دخله وإن لله على الناس حجه . وقال المبرد : مقام مصدر فلم يجمع والمراد مقامات إبراهيم هي ما أقامه من المناسك ، فالمراد بالآيات شعائر الحج . وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة { آية بينة } على التوحيد قاله في الكشاف . وفيه توكيد لكون مقام إبراهيم وحده بياناً . وأما حديث « أمن من دخله » فقد مر اختلاف العلماء فيه في سورة البقرة في قوله : { وإذا جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً } [ البقرة : 125 ] وقيل : كان آمناً من النار لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمناً » وعنه صلى الله عيله وسلم : « الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة » وهما مقبرتا مكة والمدينة . وعن ابن مسعود : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذٍ مقبرة فقال : « يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفاً وجوههم كالقمر ليلة البدر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام » { ولله على الناس حج البيت } لما ذكر فضائل البيت أردفه بإيجاب الحج وفيه لغتان : الفتح لغة الحجاز ، والكسر لغة نجد ، وكلاهما مصدر كالمدح والذم والذكر والعلم . وقيل : المكسور اسم للعمل ، والمفتوح مصدر . ومحل { من استطاع } خفض على البدل { من الناس } والمعنى : ولله على من استطاع من الناس حج البيت ، وقال الفراء : يجوز أن ينوي الاستئناف بمن والخبر ، أو الجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير : من استطاع إليه سبيلاً فللَّه عليه حج البيت . وقال ابن الأنباري : يحتمل أن يكون محله رفعاً على البيان كأنه قيل : من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل : هم من استطاع . والضمير في { إليه } للبيت أو الحج . واستطاعة السبيل إلى الشيء هي إمكان الوصول إليه واحتج أصحاب الشافعي بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن الناس يعم المؤمن والكفار وعدم الإيمان لا يصلح أن يكون معارضاً ومخصصاً لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم مع أن شرط صحة الإيمان بمحمد غير حاصل ، والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة ليس بحاصل ، واحتج جمهور المعتزلة بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنها لو كانت مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج فلا يتناوله التكليف المذكور وذلك باطل بالاتفاق . أجاب الأشاعرة بأن هذا أيضاً لازم عليكم لأن القادر إما أن يكون مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل وهو محال لأنه تكليف بما لا يطاق ، أو بعد حصوله وحينئذٍ يكون الفعل واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف .
والحق أن وجوب الفعل بالقدرة والإرادة لا ينافي توجيه التكليف إليه .
واعلم أن الحج لا يجب بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما روي عن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج . فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال : لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها الحج مرة فمن زاد فتطوع » وقد يجب أكثر من مرة واحدة لعارض كالنذور والقضاء . ولصحة الحج على الإطلاق شرط واحد وهو الإسلام ، فلا يصح حج الكافر كصومه وصلاته . ولا يشترط فيه التكليف بل يجوز للولي أن يحرم عن المجنون وعن الصبي الذي لا يميز وحينئذٍ يصح حجمها لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بأمرأة وهي في محفتها ، فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت : ألهذا حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نعم ولك أجر » . وعن جابر قال : حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم . ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز . فلا تصح مباشرة الحج من المجنون والصبي الذي لا يميز كسائر العبادات ، ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج بإذن الولي ، ولا يشترط فيها الحربة كسائر العبادات ، ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان زائدان : البلوغ والحرية لقوله صلى الله عليه وسلم : « أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام ، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام » والمعنى فيه أن الحج عبادة عمر لا تتكرر فاعتبر وقوعها في حالة الكمال ، ولأن التكليف تابع للتمييز فشرط هذا الحكم إذن يعود إلى ثلاثة : الإسلام والتكليف والحرية . ولو تكلف الفقير الحج وقع حجه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر الطريق وحج ، وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة . ولوجوب حجة الإسلام شرط زائد على الثلاثة المذكورة آنفاً وهو الاستطاعة بالآية . والاستطاعة نوعان : استطاعة مباشرته بنفسه واستطاعة تحصيله بغيره . النوع الأول يتعلق به أمور أربعة : أحدها الراحلة ، والناس قسمان : أحدهما من بينه وبين مكة مسافة القصر فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة سواء كان قادراً على المشي أو لم يكن لما روي أنه صلى الله عليه وسلم فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة . نعم لو كان قادراً على المشي يستحب له أن لا يترك الحج .
وعند مالك القوي على المشي يلزمه الحج . ويعتبر مع وجدان الراحلة وجدان المحمل أيضاً إن كان لا يستمسك على الراحلة ويلحقه مشقة شديدة . ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل . فإن وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكاً يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج ، وإن لم يجد الشريك فلا . القسم الثاني من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر . فإن كان قوياً على المشي لزمه الحج وإلا فلا يجب إلا مع الراحلة أو معها ومع المحمل كما في حق البعيد . والمراد بوجود الراحلة أن يقدر على تحصيلها ملكاً أو استئجاراً بثمن المثل أو بأجرة المثل وكذا في المحمل . المتعلق الثاني : الزاد وأوعيته وما يحتاج إليه في السفر مدة ذهابه وإيابه سواء كان له أهل أو عشيرة يرجع إليهم أو لا فحب الوطن من الإيمان . وكذا الراحلة للإياب وأجره البذرقة . كل ذلك بعد قضاء جميع الديون ورد الودائع ونفقة من يلزمه نفقتهم حينئذٍ إلى العود ، وبعد مؤن النكاح إن خاف العنت ، وبعد مسكنه ودست ثوب يليق به وخادم يحتاج إليه لزمانته أو لمنصبه . ولو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه ولو نقص لبطلت تجارته ، أو كان له متسغلات يرتفق منها نفقته ، فالأصح عند الأئمة أنه يكلف بيعها لأن واحد للزاد والراحلة في الحال ولا عبرة لخوف الفقر في الاستقبال .
المتعلق الثالث : الطريق ويشترط فيه غلبة ظن الأمن على النفس من نحو سبع وعدو ، والأمن على المال من عدو أو رصديّ وإن رضي بشيء يسير ، والأمن على البضع للمرأة بخروج زوج أو محرم أو نسوة ثقات . وفي البحر يعتبر غلبة السلامة وفي البر وجود علف الدابة .
المتعلق الرابع : البدن ويشترط فيه أن يقوى على الاستمساك على الراحلة ، فإن ضعف عن ذلك لمرض أو غيره فهو غير مستطيع للمباشرة . ولا بد للأعمى من قائد ، وعند أبي حنيفة لا حج عليه . ويروى أنه يستنيب قال الأئمة : لا بد مع الشرائط من إمكان المسير وهو أن يبقى من الزمان بعد الاستطاعة ما يمكنه المسير فيه إلى الحج به السير المعهود ، فإن احتاج إلى أن يقطع في يوم مرحلتين أو أكثر لم يلزمه الحج . ولو خرجت الرفقة قبل الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه لم يلزمه الخروج معهم . ووجوب الحج في العمر كالصلاة في وقتها ، فيجوز التراخي لكنه أن دامت الاستطاعة وتحقق الإمكان ولم يحج حتى مات عصى على الأظهر ون كان شاباً . وقال أحمد ومالك وأبو حنيفة في رواية : إنه على الفور . حجة الشافعي أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخره النبي صلى الله عليه وسلم من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة سنة ثمان ، وبعث أبا بكر أميراً على الحاج سنة تسع وحج هو سنة عشر وعاش بعدها ثمانين يوماً .
وأما النوع الثاني فهو استطاعة الاستنابة فإنها جائزة في الحج وإن كانت العبادات بعيدة عن الاستنابة ، لأن المحجوج عنه قد يكون عاجزاً عن المباشرة بسبب الموت أو الكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله . وعن ابن عباس أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج وماتت قبل أن تحج ، أفأحج عنها؟ فقال : لو كان على أختك دين أكنت قاضية؟ قال : نعم قال : فاقضوا حق الله تعالى فهو أحق بالقضاء » وعنه أن امرأة من خثعم قالت : يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال : نعم . وقد تكون الاستنابة بطريق الاستئجار لأنه عمل يدخله النيابة فيجري فيه الاستئجار كتفريق الزكاة . وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز ولكن يرزق عليه . ولو استأجر كان ثواب النفقة للآمر وسقط عنه الخطاب بالحج ويقع الحج عن الحاج . والحج بالرزق أن يقول : حج عني وأعطيك نفقتك . وهذا أيضاً جائز عند الشافعي كالإجارة . ولكن لا يجوز أن يقول استأجرتك بالنفقة لأنها مجهولة . والأجر لا بد أن تكون معلومة . فهذا جملة الكلام في الاستطاعة عند الجمهور . وعن الضحاك : إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع ، وقيل له في ذلك فقال : إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبواً ، فكذلك يجب عليه الحج . وفي ألآية أنواع من التوكيد والتغليظ منها قوله : { ولله على الناس حج البيت } أي حق واجب له عليهم لكونه إلهاً فيجب عليهم الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أم لم يعرفوا فإن كثيراً من أعمال الحج تعبد محض . ومنها بناء الكلام على الأبدال ليكون تثنية للمراد وتفصيلاً بعد الإجمال وإيراد للغرض في صورتين تقريراً له في الأذهان . ومنه ذكر من كفر مكان من لم يحج وفيه من التغليظ ما فيه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً » ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم : « من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر » ومنها إظهار الغني وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول : « فإنه » أو « فإني » فإنه يدل على غاية السخط والخذلان . ومنه وضع المظهر مقام المضمر حيث قال : { عن العالمين } . ولم يقل « عنه » لأنه تعالى إذا كان غنياً عن كل العالمين فلأن يكون غنياً عن طاعة ذلك الواحد أولى . ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله ، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا : إن الحج إلى مكة غير واجب .
وعن الضحاك : لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة . المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين - فخطبهم وقال : إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا . فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا : لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه . فنزلت { ومن كفر } . ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج قوله صلى الله عليه وسلم : « حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة » وروي « حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه » أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره . وعن ابن مسعود : حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت . وعن عمر : لو ترك الناس الحج عاماً واحداً ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون .
ثم إنه سبحانه لاين أهل الكتاب في الخطاب فقال : { قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله } التي دلتكم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بعد ظهور البينات ودحوض الشبهات ، أو بعد معرفة فضيلة الكعبة ووجوب الحج؟ { والله شهيد على ما تعملون } فيجازيكم عليه . وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ودلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم وبخهم على إضلالهم فقال : { لم تصدون عن سبيل الله من آمن } قال المفسرون : وكان صدّهم عن سبيل الله إلقاء الشكوك والشبهات في قلوب ضعفة المسلمين ، وإنكار أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم ، ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكدهم ، أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله . ومحل { تبغونها عوجاً } أو اعوجاجاً نصب على الحال أو بدل وهو بكسر العين الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى كالدين والقول . وأما الشيء الذي يرى فيقال فيه « عوج » بالفتح كالحائط والقناة ، ولهذا قال الزجاج : العوج بالكسر في المعاني وبالفتح في الأعيان . وتبغون بمعنى تطلبون ويقتصر على مفعول واحد إذا لم يكن معها اللام مثل « بغيت المال والأج » فإن أريد تعديته إلى مفعولين زيدت اللام . وفالتقدير تبغون لها عوجاً كما تقول : صدتك ظبياً أي صدت لك ظبياً . والضمير عائد إلى السبيل فإنها تذكر وتؤنث . والمعنى إنكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها زيفاً كقولكم : إن النسخ يدل على البداء وإن شريعة موسى باقية إلى الأبد وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس بذلك المنعوت في كتابنا أو المراد أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم .
ويحتمل أن يكون { عوجاً } حالاً بمعنى ذا عوج . وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقيل لهم : إنكم تبغون سبيل الله ضالين { وأنتم شهداء } أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل قاله ابن عباس . أو أنتم تشهدون ظهور المعجزات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، أو أنتم شهداء بين أهل دنيكم عدول يصغون لأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم الأمور يعني الأحبار . وفيه أن من كان كذلك لا يليق بحاله الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال . ثم أوعدهم بقوله : { وما الله بغافل عاما تعملون } كقول السيد لعبده وقد أنكر طريقته . لا يخفى عليّ سيرتك ولست بغافل عنك . وإنما ختم الآية الأولى بقوله : { والله شهيد } وهذه بقوله : { وما الله بغافل } لأن ذلك فيما أظهروه من الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا فيما أضمروه وهو الصد بالاحتيال وإلقاء الشبهة . وفي تكرير الخطاب في الآيتين بقوله : { يا أهل الكتاب } توبيخ لهم على توبيخ بألطف الوجوه وألين المقال لعلهم يتفكرون فينصرفون عن سلوك سبيل الضلال والإضلال . عن عكرمة ويروى عن زيد بن أسلم وجابر أيضاً أن شاس بن قيس اليهودي - وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين - مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال : ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار . فأمر شاباً من اليهود أني جلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث ، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج . ففعل وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار . فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين ، أوس بن قيظى أحد بني حارثة من الأوس ، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئت والله رددتها الآن جذعة . وغضب الفريقان جميعاً وقالا : قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي الحرة . فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية واصطفوا للقتال فنزلت { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين } الآيات فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته ، فلما سمعوا صوته صلى الله عليه وسلم وأنصتوا له صلى الله عليه وسلم وجعلوا يستمعون ، فما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضاً وجثوا يبكون .
وفي رواية زيد بن أسلم : خرج إليهم رسول الله فيمن معه من المهاجرين فقال : يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفاراً؟ الله الله . فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضاً ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل الآيات . قال جابر بن عبد الله . ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأومى إلينا بيده وكففنا وأصلح الله ما بيننا ، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . فما رأيت يوماً قط أقبح ولا أوحش أوّلاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم . { وكيف تكفرون } استفهام بطريق الإنكار والعجب . والمعنى من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في كل واقعة وبين أظهركم رسول الله يبين لكم كل شبهة ويزيح عنكم لكم علة؟ ومع هذين النورين لا يبقى لظلمة الضلال عين ولا أثر ، فعليكم أن لا تلتفتوا إلى قوم المخالف وترجعوا فيما يعنّ لكم إلى الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم . قلت : أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر ، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر ، ولكن نور سره باق بين المؤمنين ، فكأنه باقٍ على أن عترته صلى الله عليه وسلم وورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً . ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي » وقال : « إن العلماء ورثة الأنبياء » اللَّهم اجعلنا من زمرتهم بعصمتك وهدايتك . وفي هذا بشارة لهذه الأمة أنهم لا يضلون أبداً إلى يوم القيامة . ثم بين أن الكل بعصمة الله وتوفيقه فقال : { ومن يعتصم بالله } يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في دفع شرور الكفار { فقد هدي إلى صراط مستقيم } والاعتصام الاستمساك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في افة . أما المتعزلة فحيث لم يجعلوا الاعتصام بخلق الله وهدايته بل قالوا : إنه بفعل العبد ، تأوّلوا الآية بأن المراد بالهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات ، أو المراد بالهداية إلى الجنة . قال في الكشاف : { فقد هدي } أي فقد حصل له الهداية لا محالة كما تقول : إذا جئت فلاناً فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل له ، فهو يخبر عنه حاصلاً . ومعنى التوقع في « قد » ظاهر لأن المعتصم بالله . متوقع للهدى ، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده .
التأويل : { لن تنالوا البر } وهو صفة الله { حتى تنفقوا } أحب الأشياء إليكم وهو أنفسكم . إن الفراش لم ينل من بر الشمع وهو شعلته حتى أنفق مما أحبه وهو نفسه { كل الطعام كان حلاً } الخلق ثلاثة أصناف : الملك النوراني العلوي وغذاؤه الذكر وخلق للعبادة ، والحيوان الظلماني السفلي وغذاؤه الطعام وخلق للخدمة ، والإنسان المركب من القبيلين وغذاؤه لروحانيته الذكر ولجسمانيته الطعام وخلق للمعرفة والخلافة . وهذا الصنف على ثلاثة أقسام : منهم ظالم لنفسه وهو الذي بالغ في غذاء جسمانيته وقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت نفسه { أولئك كالأنعام بل هم أضل } [ الأعراف : 179 ] ومنهم مقتصد وهو الذي تساوى طرفاه { خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } [ التوبة : 102 ] { ومنهم سابق بالخيرات } [ فاطر : 32 ] وهو الذي بالغ في غذاء روحانيته وهو المذكور ، وفرط في غذاء جسمانيته حتى ماتت نفسه وقوي روحه { أولئك هم خير البرية } [ البينة : 7 ] فكان كل الطعام حلالاً للإنسان كما للحيوان إلا ما حرم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح من قبل أن ينزل الوحي والإلهام كما قيل : المجاهدات تورث المشاهدات { والذين جاهدوا فينا لنهديهم سبلنا } [ العنكبوت : 69 ] فمن افترى على الله الكذب بأن يريد أن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس { قل صدق الله } في قوله : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا } { فاتبعوا ملة إبراهيم } وكان من ملته إنفاق المال على الضيفان ، وبذل الروح عند الامتحان ، وتسليم الولد للقربان { وما كان من المشركين } الذين يتخذون مع الله إلهاً آخر { إن أول بيت وضع للناس } لا لله لأنه غني عن العالمين . وإن أنموذج بيت الله في الإنسان وهو العالم الصغير القلب الذي وضع ببكة صدر الإسلام مباركاً عليه وهدى يهتدي به جميع أجزاء وجوده إلى الله بجوده . فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع ، فبه يسمع وبه يبصر وبه يعقل وبه ينطق وبه يبطش وبه يمشي وبه يتحرك وبه يسكن { فيه آيات بينات } يصل بها الطالب إلى مطلوبه والقاصد إلى مقصوده ، ومنها مقام إبراهيم وهو الخلة التي توصل الخليل إلى خليله { ومن دخله } يعني مقام إبراهيم ببذل المال والنفس والولد وإرضاء خليله { كان آمناً } من نار القطيعة ومن عذاب الحجاب ، ثم أخبر عن وجوب زيارة بيت الخليل على الخليل إن استطاع إليه السبيل وذلك بأن وجد شرائط السلوك وإمكانه وآداب السير وأركانه . ومنها الإحرام بالخروج عن الرسوم والعادات ، والتجرد عن الطيبات والمألوفات ، والتطهر عن الأخلاق المذمومات ، والتوجه إلى حضرة فاطر الأرض والسموات بخلوص النيات وصفاء الطويات ، ومنها الوقوف بعرفات المعرفة ، والعكوف على عتبة جبل الرحمة بصدق الالتجاء ، وحسن العهد والوفاء . ومنها الطواف بالخروج عن الأطوار البشرية السبعية بالأطواف السبعة حول الكعبة الربوبية . ومنها السعي بين صفا الصفات ومروة الذات . ومنها الحلق بمحو آثار العبودية بموسى الأنوار الإلهية . وقس سائر المناسك على هذا . { ومن كفر } بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الألطاف ، ولا يترقب لحذبات الأعطاف التي توازي عمل الثقلين وهي الاستطاعة في الحقيقة { فإن الله غني عن العالمين } لا يستكمل هو منهم وإنما يستكملون هم منه . { قل يا أهل الكتاب } ظاهر الخطاب معهم وباطنه مع علماء السوء الذين يبيعون دينهم بدنياهم ولا يعملون بما يعلمون فيضلون ويضلون ، وما العصمة عن اتباع الهوى إلا منه تعالى .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
القراآت : { حق تقاته } بالإمالة : علي { ولا تفرقوا } بتشديد الراء : البزي وابن فليح .
الوقوف : { مسلمون } ه { ولا تفرقوا } ص لعطف المتفقتين { إخواناً } ج لاحتمال الواو وللحال والاستئناف { منها } ط { يهتدون } ه { المنكر } ط للعدول { المفلحون } ه { البينات } ط { عظيم } ه ( لا ) لتعلق الظرف بلهم على الأصح . وقيل : مصنوب بإضمار « اذكر » . { وتسود وجوه } ج { اسودت وجوههم } ( لا ) لأن التقدير : فيقال لهم : أكفرتم؟ { تكفرون } 5 { ففي رحمة الله } ط { خالدون } 5 { بالحق } ط { للعالمين } 5 { ما في الأرض } ط { الأمور } ه { وتؤمنون بالله } ط { خيراً لهم } ط { الفاسقون } ه قيل : لا وقف عليه وعليه وقف لأن المعرف لا يتصف بالجملة { إلا أذى } ط و { الأدبار } وقفة لأن « ثم » لترتيب الإخبار أي ثم هم لا ينصرون ، ولو كان عطفاً لكان ثم لا ينصروا . { لا ينصرون } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما حذر المؤمنين إضلال الكفار أمرهم في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات ، فأولها لزوم سيرة التقوى . عن ابن عباس : لما نزلت { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } وهو أن يطاع فلا يعصى طرفة عين ، وأن يشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى . أو هو القيام بالمواجب كلها والاجتناب عن المحارم بأسرها ، وأن لا يأخذه في الله لومة لائم ، ويقول بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين ، شق ذلك على المسلمين فنزلت { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] والجمهور على أنها منسوخة لأن معنى { حق تقاته } واجب تقواه وكما يحق أن يتقى وهو أن يجتنب جميع معاصيه ، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ وإلا كان إباحة لبعض المعاصي . ولا يجوز أن يراد بقوله : { حق تقاته } ما لا يستطاع من التكاليف كالصادر على سبيل الخطأ والسهو والنسيان لقوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] فعلى هذا لم يبق فرق بين الآيتين . ولناصر القول الأول أن يقول : إن كنه الإلهية غير معلوم للخلق ، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوماً فلا يحصل الخوف اللائق بذلك فلا يحصل حق الاتقاء ، وإذا كان كذلك فيجوز أن يؤمر بالاتقاء الأغلظ والأخف ، ثم ينسخ الأغلظ ويبقى الأخف ، ونزول هذه الآية بعد قوله : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها } [ البقرة : 286 ] ممنوع { ولا تموتن إلا وانتم مسلمون } ليس نهياً عن الموت وإنما هو نهي عن أن يدركهم الموت على خلاف حال الإسلام وقد مر في البقرة مثله . ثم إنه تعالى أمرهم بما هو كالأصل لجيمع الخيرات وإصلاح المعاش والمعاد وهو الاجتماع على التمسك بدين الله واتفاق الآراء على إعلاء كلمته فقال : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } حال كونهم مجموعين . وقولهم : اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلاً لاستظهاره به ووثوقه بعناية باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه ، لأن وجه الشبه وصف غير حقيقي ومنتزع من عدة أمور .
ويجوز أن يكون الحبل استعارة للعهد والاعتصام لوثوقه بالعهد بناء على أن في الكلام تشبيهين ، ويجوز أن تفرض الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام ترشيحاً لها . والحاصل أن طريق الحق دقيق والسائر عليه غير مأمون أن تزل قدمه عن الجادة ، فيراد بالحبل ههنا ما يتوصل به إلى الثبات على الحق وإن كانت عبارات المفسرين متخالفة . فعن ابن عباس : هو العهد كما يجيء { إلا بحبل من الله وحبل من الناس } [ آل عمران : 112 ] وقيل : إن هالقرآن كما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « أما إنها ستكون فتنة . قيل : فما المخرج منها؟ قال صلى الله عليه وسلم : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين » وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : « هذا القرآن حبل الله » وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إني تارك فيكم الثقلين : كتاب الله حبل متين ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي » وقيل : إنه دين الله . وقيل : إنه طاعة الله . وقيل : إخلاص التوبة . وقيل : الجماعة لقوله تعالى عقيب ذلك : { ولا تفرقوا } لأن الحق لا يكون إلا واحداً ، وما بعد الحق إلا الضلال . ويد الله مع الجماعة . قال صلى الله عليه وسلم : « ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد فقيل : ومن هم يا رسول الله؟ قال : الجماعة » وروي « السواد الأعظم » وروي « ما أنا عليه وأصحابي » قال صلى الله عليه وسلم : « لا تجتمع أمتي على الضلالة » وقد يتمسك بالآية نفاة القياس قالوا : الأحكام الشرعية إن احتيج فيها إلى الدلائل اليقينية امتنع الاكتفاء فيها بالقياس ، وإن اقتصر فيها على الدلائل الظنية فالقول بجواز القياس لكل أحد يوجب التفرق والاختلاف وهو منهي عنه . وأجيب بأن الدلائل الدالة على وجوب العمل بالقياس مخصصه لعموم قوله : { ولا تفرقوا } . ثم إنه تعالى ذكرهم نعمته عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة ، فألف الله بين قلوبهم ببكرة الإسلام فصاروا إخواناً في الله متراحمين متناصحين ، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية ، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل اسيراً في قبضة القضاء فلا يعادي أحداً ألبتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر . فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب اليقين أشد من حب الوالد لولده ، فكانوا كالأقربين والإخوان بل كجسد واحد وكنفس واحدة وقيل : يريد الإخوان في النسب .
وذلك أن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم ، وكان بينهما العداوة والحروب ، وبقيا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسول الله ، فذكر الله تعالى تلك النعمة . وفيه دليل على أن المعاملات الحسنة الجارية فيما بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله تعالى حيث خلق فيهم تلك الداعية المستلزمة لحصول الفعل . قال الكعبي : إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعونة والألطاف لا بخلق الفعل . وأجيب بأن كل هذا كان حاصلاً قبل ذلك . فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم . هذا شرح النعم الدنيوية عليهم ، ثم ذكرهم النعم الأخروية بقوله : { وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها } وشفا الحفرة وشفتها حرفها بالتذكير والتأنيث ، ومنه يقال : أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وطرفه . وأنقذه واستنقذه خلصه ونجاه . والضمير في { منها } للحفرة أو النار أو للشفاء إما لأنه في معنى الشفة وإما لإضافته إلى الحفرة وهو بعضها وهو كقوله :
كما شرقت صدر القناة من الدم ... قال بعضهم : الشفة أصغر من الشفا وكذلك الضلالة والضلال لذلك قال نوح عليه السلام : { ليس بي ضلالة } [ الأعراف : 61 ] حين قال له قومه { إنا لنراك في ضلال مبين } [ الأعراف : 60 ] أي ليس بي صغير من الضلال فكيف الكبير منه؟ ومعنى الآية إنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم تشبيهاً لها بالحفر التي فيها النار وتمثيلاً بحياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها . وفيه تنبيه على تحقير مدة الحياة وإن طالت كأنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء . قالت المعتزلة : معنى الإنقاذ أنه تعالى لطف بهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبسائر ألطفاه حتى آمنوا . وقال أهل السنة : جميع الألطاف مشتركة بين المؤمن والكافر ، فلو كان فاعل الإيمان هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار ، لكن الآية دلت على أن الله تعالى هو المنقذ فعلم أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى . { كذلك } مثل ذلك البيان البليغ { يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون } إرادة أن تزدادوا هدى أو لتكونوا على رجاء هداية . فالأول قول المعتزلة والثاني لأهل السنة ، وقد مر في أوائل سورة البقرة . ثم رغب المؤمنين الكاملين في تكميل غيرهم فقال : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } وهو جنس تحته نوعان : الترغيب في فعل ما ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته ، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان فقال : { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } واختلفوا في أن كلمة « من » في قوله : { منكم } للتبيين أو للتبيعض .
فذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه ، وكيف لا وقد وصفهم الله تعالى بذك في قوله : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر } فهذا كقولك : لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر . وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم . ثم قالوا : إن ذلك وإن كان واجباً على الكل إلا أنه متى قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات . وقال آخرون : إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى والعاجزين ، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما ، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما ، وكيف يباشر فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر ، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر ، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تمادياً . وأيضاً قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية ، فكان هذا بالحقيقة إيجاباً على البعض الذي يقوم به . ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب .
واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب : أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان : أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها ، فإن كانوا عدداً يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضاً عليهم ويأمرهم بصلاة العيد . والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت . فإن قال : نسيتها . حثه على المراقبة . ولا يعترض على من أخرها والوقت باق . وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم . فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك ، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين . فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس . وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء ، وإلزام النساء أحكام العدد ، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء ، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملون فيما لا تطيق ، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس ، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه ، من تصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف ، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به .
وإذا رأى رجلاً واقفاً مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه ، وإن كان في طريق خال فهو موضع ريبة فينكر ويقول : إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضيع الريب ، وإن كانت أجنبية فخف الله معها في الخلوة . ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار الجار إلا باستعداء صاحب الحق ، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة ، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات . والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن . وبالجملة : « الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق » فلينظر الداعي إلى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان ، ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ويدعوه إلى ما يليق به متدرجاً من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كل ذلك إيماناً واحتساباً لا سمعة ورياء ، ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية ، وذلك أنّ هذه الدعوة منصب النبي وخلفائه الراشدين بعده ، ومن ههنا ذهب الضحاك إلى أن المراد من المذكورين في هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتعلمون من الرسول ويعلمون الناس . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم « من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه » وعن علي : أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وكفى بقوله تعالى : { وأولئك هم المفلحون } أي الأخصاء بالفالح مدحاً لهم . وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح . وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب ، فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد إصلاح أحوال نفسه ، لأن العاقل بقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت عن وجهها . قال بعض العلماء : إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي واجبان على الفاسق ، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر وعن بعض السلف : مروا بالخير وإن لم تفعلوا . وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول : لا أقول ما لا أفعل فقال : وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهي عن منكر . والحق في هذه القضية ما قيل :
وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض
والقرآن ينعي عليه بقوله : { لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } [ الصف : 23 ] { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم } [ البقرة : 44 ] وقد سلف تقريره في البقرة .
وعن داود الطائي أنه سمع صوتاً من قبر : ألم أزكِ ألم أصلِ ألم أصم ألم أفعل كذا وكذا؟ أجيب بلى يا عدو الله ولكن إنك إذا خلوت بارزته بالمعاصي ولم تراقبه .
قوله سبحانه : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا } في النظم وجهان : أحدهما أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام ، ثم إن أهل الكتاب حسدوا محمداً فاحتالوا لإلقاء الشكوك في تلك النصوص ، ثم انجز الكلام إلى أنه أمر المؤمنين بالدعاء إلى الخير ، فختم الكلام بتحذير المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب من إلقائ الشبهات في النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة ، فعلى هذا تكون الآية من تتمة الآيات المتقدمة . وثانيهما أنه لما أمر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن ضده وكان ذلك مما لا يتم إلا بالقدرة على تنفيذه ، كيف وفي الناس ظلمة ومتغلبون ، فلا جرم حذر أهل الحق أن يتفرقوا ويختلفوا كيلا يصير ذلك سبباً لعجزهم عن القيام بهذا التكليف ، وعلى هذا تكون الآية من تتمة الآية السابقة فقط . قال بعضهم : تفرقوا واختلفوا مؤداهما واحد والتكرير للتأكيد . وقيل : معناهما مختلف . تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين . أو تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة للنصوص ، واختلفوا كل منهم نصرة قوله . أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل من الأحبار رئيسا في بلد ، واختلفوا بأن صار كل منهم يدعي أنه على الحق وصاحبه على الباطل . ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة فنسأل الله العصمة والسداد . { وأولئك } اليهود والنصارى الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم الدلالات الواضحة والنصوص الظاهرة ، أو أولئك الذين اقتفوا آثارهم من مبتدعه هذه الأمة { لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } وفي تعليق الظرف بقوله { لهم } فائدتان : إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم ، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن : { وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة } [ عبس : 38-41 ] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان : أحدهما - وإليه ميل أبي مسلم - : أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : { وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّاً } [ النحل : 58 ] ولما سلم الحسن بن علي الأمر على معاوية قال له رجل : يا مسوّد وجوه المؤمنين . وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر ، ولبعض الشعراء في الشيب :
يا بياض القرون سودت وجهي ... عند بيض الوجوه سود القرون .
وثانيهما : أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة ، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة . فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه ، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطبت به الظلمة من كل جانب .
قالوا : والحكمة في ذلك أن يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرون بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور . وأيضاً إذا عرف المكلف في الدنيا أنه يحصل له في الآخرة إحدى الحالتين ازدادت رغبته في الطاعات وترك المحرمات . قلت : والتحقيق فيه أن والهيئات والأخلاق الحميدة أنوار ، والملكات والعادات الذميمة ظلمات ، وكل منهما لا يظهر آثارهما كما هي إلا بعد المفارقة إلى الآخرة { انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً } [ الحديد : 13 ] واحتج أهل السنة بالآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وإنه ليس ههنا منزلة بين المنزلتين ، لأنه قسم أهل القيامة إلى قسمين : مبيض الوجوه وهم المؤمنون ، ومسودها وهم الكافرون لقوله تعالى في آخر الآية { فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } واعترض القاضي عليه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه ، وأيضاً لفظ وجوه نكرة فلا يفيد العموم . وأيضاً المذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان ، ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق . والواب لم لا يجوز أن يكون لامراد أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم ، فيكون الخطاب لجميع الكفار؟ وأنه أيضاً جعل موجب العذاب في آخر الآية هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث إنه بعد الإيمان . فإن قيل : لم قدم البياض على السواد أوّلاً وعكس آخراً؟ فالجواب بعد تسليم إفادة الواو الترتيب ، أنه بدأ بذكر أهل الثواب وختم بها أيضاً تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما قال : « سبقت رحمتي غضبي » ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة . ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟ قال أبي بن كعب : هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق ، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد أكفرتم بعدما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج : إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به بعد بعثه . وقال قتادة : إنهم المرتدون . وقال الحسن : هم المنافقون . وقيل : هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية » ولما رأى أبو أمامة رؤوساً منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عنياه ثم قال : كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء ، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء . فقال له أبو غالب : أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو لم أسمعه ، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثاً حتى عد سبعاً ما حدثتكموه .
قال : فما شأنك دمعت عيناك؟ قال : رحمة لهم . كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية . ثم أخذ بيده فقال : إن بأرضك منهم كثيراً فأعاذ الله منهم . هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعة . ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر ألبتة ، والاستفهام في قوله تعالى : { أكفرتم } بمعنى الإنكار . قال القاضي : وفيه وكذا في قوله : { ما كنتم تكفرون } دليل على أن الكفر منهم لا من الله . وقالت المرجئة : فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكفار . أما قوله : { ففي رحمة الله } فالمراد بها الجنة التي هي محل الرحمة . وموقع قوله : { هم فيها خالدون } موقع الاستئناف كأنه قيل : كيف يكونون فيها؟ فأجيب بذلك أي لا يظعنون عنها ولا يموتون . وفي إقامة الرحمة مقام الجنة دليل على أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته . وفي إضافة الرحمة إلى نفسه وتلعيل العذاب بكفرهم والنص على خلود أهل الثواب دون أهل النار وإن كانوا مخلدين أيضاً دلائل وإشارات إلى أن جانب العفو والمغفرة والرحمة مغلب ، وكيف لا وقد أردفه بقوله : { تلك } الأحكام التي وردت في حيز الوعيد والوعد وانقضى ذكرها { آيات الله نتلوها عليك } متلبسة { بالحق } العدل من جزاء المحسن بإحسانه وجزاء المسيء بإساءته ، أو ملتبسه بالمعنى الحق لأن معنى المتلو حق { وما الله يريد ظلما للعالمين } ولكن مصالح الخلق لا نتتظم إلا بتهديد المذنبين ، وإذا حصل التهديد فلا بد من التحقيق دفعاً للكذب عمن هو أصدق القائلين . قال الجبائي : قوله : { ظلماً } نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئاً مما يكون ظلماً سواء فرض منه أو من العبد على نفسه أو على غيره ، وإذا لم يرد لم يفعل إذ لو كان فاعلاً لشيء من الأقسام الثلاثة كان مريداً له هذا خلف ، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد ، إذ من جملتها القبائح ، وقد بينا أنه لا يريدها . ثم إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك ، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريداً له ، فدلت الآية على أنه قادر عل الظلم وعلى أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر فلهذا قال : { ولله ما في السموات وما في الأرض } وأيضاً لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح للجهل أو العجز أو الحاجة . وكل ذلك على الله تعالى محال لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض بل لكل ما في الوجود .
وربما يقال : معنى الآية إما أن يكون أنه لا يريد أن يظلمهم ، أو أنه لا يريد أن يظلم بعضهم بعضاً . والأول لا يستقيم على على مذهبكم لأن من مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء من الذنب أشد العذاب لم يكن ظالماً بل كان عادلاً لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه ، فتصور الظلم منه محال عندكم ، فلا يلزم منه مدح . والثاني أيضاً محال على قولكم لأن كلاً بإرادة الله وتبكوينه عندكم ، فثبت أنه لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح في مذهبكم . أجاب أهل السنة من وجهين : الأول أنه يتوقف المتدح بنفي صفة على إمكان تصور ذلك الشيء منه بدليل قوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } [ البقرة : 255 ] { وهو يطعم ولا يطعم } [ الأنعام : 14 ] ولا يتوقف التمدح بذلك على صحة النوم والأكل عليه . الثاني أنه تعالى إن عذب من ليس بمستحق للظلم لم يكن ظالماً لكنه في صورة الظلم . وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } [ الشورى : 40 ] والحق في هذا المقام أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه . وإذا كان اللطف والقهر من ضرورات صفات الكمال ، فوضع كل منهما في مظهره يكون وضع الشيء في موضعه فلا يكون ظلماً . واحتجت الأشاعرة بقوله : { ولله ما في السموات وما في الأرض } على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها من جملة ما في السموات وما في الأرض . أجابت المعتزلة بأن قوله : { لله } إضافة ملك لا إضافة فعل كما يقال : هذا البناء لفلان . يراد أنه مملوكه لا أنه مفعوله . وأيضاً الآية مسوقة في معرض المدح ولا مدح في نسبة الفواحش والقبائح إلى نفسه . وأيضاً قوله : { ما في السموات وما في الأرض } يتناول ما كان مظروفاً لهما وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض ، والداعية المنتهية إلى تخليق الله دفعاً للتسلسل أو لترجيح من غير مرجح ، قالت الحكماء : تقديم السموات في الذكر على الأرض دليل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأسباب السموية ، ولا شك أن الأحوال السموية مستندة إلى خلقه وتكوينه تعالى فيكون الجبر أيضاً لازماً من هذا الوجه . { وإلى الله } أي إلى حيث لا مالك سواه { ترجع الأمور } فالأول إشارة إلى أنه تعالى مبدأ المخلوقات كلها ، وهذا إشارة إلى أن معاد الكل إليه .
قوله عز من قائل : { كنتم خير أمة } في النظم وجهان : أحدهما أنه لما أمر المؤمنين بما أمر ونهاهم عما نهى ، عدل إلى طريق آخر يقتضي حملهم على الانقياد والطاعة لأن كونهم خير الأمم مما يقوّي داعتيهم في أن لا يبطلوا على أنفسهم هذه المزية ، وذلك إنما يكون بالتزام التكاليف الشرعية ، وثانيهما أنه لما ذكر حال الاشقياء وحال السعداء نبه أوّلاً على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله : { وما الله يريد ظلماً للعالمين } بمعنى أنهم استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة .
ثم نبه على سبب وعد السعداء بقوله : { كنتم خير أمة } أي تلك الكرامات والسعادات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خير أمة ، وأقول : لما انجز الكلام في مخاطبة المؤمنين الى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعاً واختراعاً وأن منتهى الكل إليه ، أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطفا ، وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه . عن عكرمة ومقاتل أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوديا اليهوديين قالا لابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة : إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ، ونحن خير وأفضل منكم فأنزل الله هذه الآية . قال بعض المفسرين : « كان » ههنا تامة ، وانتصاب { خير أمة } على الحال حدثتم ووجدتم خير أمة . والأكثرون على أنها ناقصة ، فجاء إيهام أنهم كانوا موصوفين بالخيرية في الزمان الماضي دون ما يستقبل . فأجيب بأن « كان » لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارىء بدليل قوله : { وكان الله غفوراً رحيماً } { النساء : 96 ] وقيل : المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ خير أمة ، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله : { ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل } [ الفتح : 29 ] وقال أبو مسلم : هذا تابع لقوله : { وأما الذين ابيضت وجوههم } وما بينهما اعتراض والتقدير : أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة : كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا نلتم من الرحمة وبياض الوجه ما نلتم . وقال بعضهم : لو شاء الله لقال : أنتم . فكان هذا التشريف حاصلاً لكلنا ، ولكنه مخصوص بقوم معينين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل صنيعهم . وقيل : إنها زائدة والمعنى : أنتم خير أمة . وزيفه ابن الأنباري بأن الزائدة لا تقع في أول الكلام ولا تعمل كقول العرب « عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان » ولا يقولون : « كان عبد الله قائم » على أن « كان » زائدة . لأن البداءة بها دليل شدة العناية ، والملغى لا يكون في محل العناية . وقيل : إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة . وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد ، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته . وإذا أطقلت الأمة في نحو قول العلماء « اجتمعت الأمة » وقعت عليهم . وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد .
قال الزجاج : ظاهر الخطاب في { كنتم } مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في حق لكل الأمة . ونظيره { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 178 ] { كتب عليكم القصاص } [ البقرة : 183 ] وقوله : { للناس } إما أن يتعلق ب { أخرجت } والمعنى : كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار . ومعنى إخراجها أنها أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها . وإما أن يتعلق ب { كنتم } أي كنتم للناس خير أمة . ثم بين سبب الخيرية على سبيل الاستئناف بقوله : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } كما تقول : زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم . وقد يستدل بالآية على أن إجماع هذه الأمة حجة لأنها لو لم تحكم بالحق لم تكن خيراً من المبطل ، ولأن اللام في { المعروف } وفي { المنكر } للاستغراق فيقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر فيكون إجماعهم حقاً وأما أنه من أي وجه يقتضي ذلك كون هذه الأمة خير الأمم مع أن الصفات الثلاثة كانت حاصلة لسائر الأمم فذلك أن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد ، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل . وأعرف والمعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة ، وأنكر المنكرات الكفر بالله ، فكان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار ، فكان من أعظم العبادات . ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله » فلا جرم صار لك موجباً لفضل هذه الأمة على سائر الأمم ، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله : { كنتم خير أمة } تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ، ويقروا بما أنزل الله ، وتقاتلونهم عليه ، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب أنكر المنكر . وفائدة القتل على الدين لا ينكره منصف فإن أكثر الناس يحبون ما ألفوه من الأديان الباطلة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم ، فإذا خوف بالقتل دخل في دين الحق مكرهاً إلى أن يألفه متدرجاً . وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول الله أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك ، ولا يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض . وإنما اقتصر في وصف الأمة على الإيمان بالله لأنه يستلزم الإيمان بالنبوة وبسائر ما عددنا وإلا لم يكن في الحقيقة إيمانأ ، ولهذا نفى عن أهل الكتاب في قوله : { ولو آمن أهل الكتاب } وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات ، لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف } فكانت العناية به أشد فكان تقديمه أهم .
وليعلم أن التكميل أفضل من الكمال نفسه ولهذا استلزم الأول الثاني دن العكس ، ولأن التكميل يتضمن الكمال فكان في تأخير الإيمان بالله تكريراً له مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة على أن الواو لا تفيد الترتيب ، وأيضاً أراد أن يبني عليه قوله : { ولو آمن } وفي التفسير الكبير : إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية ، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم ، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل . ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص ، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك ، ولهذا قال تعالى : { ولو آمن أهل الكتاب } يعني إيماناً متعتبراً وهو الإيمان بالله وبسائر ما لا بد منه من الأمور المعدودة { كان خيرا لهم } لحصلت لهم صفة الخيرية أيضاً لانضمامهم في زمرة هذه الأمة ، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله ، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين ، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا ، وبعد ذلك خلود في النار ، ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال : { منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه ، فاللام للمعهود السابق { وأكثرهم الفاسقون } الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه ، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضاُ فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم ، فلا ينبغي أن يقتدى بهم ألبتة . ثم أخبر عن حالهم وكان كما قال وهو آية الإعجاز بجملة مستأنفة هي { لن يضروكم إلا أذى } الإضرار ألا يجاوز أذى بقول كطعن في الدين أو تهديد أو تحريف نص أو إلقاء شبهة أو إظهار كلمة الكفر بإشراكهم عزيراً والمسيح . والأذى مصدر كالأسى يقال : يفعلون أذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية . والأذى نوع من الضر فصح انصابه به والتقدير : لن يضروكم شيئاً من أنواع الضرر إلا ضرراً يسيراً . ومن هذا تبين أن الاستثناء ليس بمنقطع على ما ظن { وإن قاتلوكم بولوكم الأدبار } منهزمين { ثم لا ينصرون } وإنما لم يجزم بالعطف على { يولوكم } لئلا يصير نفي النصر مقيداً بمقاتلتهم بل يرفع ليكون نفي النصر وعداً مطلقاً ، وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل : أخبركم أنهم إن يقاتلوكم وينهزموا ، ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتفٍ عنهم رأساً فلن يستقيم لهم أمر ألبتة .
ومعنى « ثم » إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أينما كانوا أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال . فإن قيل : هب أن اليهود كذلك ، لكن النصارى قد يوجحد لهم قوى وشوكة في ديارهم . قلنا : هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على ذلك ، فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر ، أو لعل نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة . وفي الآية تشجيع للمؤمن وتثبيت لمن آمن من أهل التكاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم .
التأويل : { اتقوا الله حق تقاته } لأهل العزائم وقوله : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] لأهل الرخص . والمعنى : اتقوا عن وجودكم بالله وبوجوده { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } لا ينتف وجودكم المجازي إلا وقد سلمتم لتصرفات الأحكام الإلهية والجذبات الربانية ، واستفدتم الوجود الحقيقي وهو البقاء بال . له { واعتصموا } أهل الاعتصام طائفتان : أهل الصورة وهم المتعلقون بالأسباب لأن مشربهم الأعمال فقيل لهم اعتصموا بحبل الله وهو كل سبب يتوصل به إلى الله من أعمال البر ، وأهل المعنى وهم المنقطعون عن الأسباب إذ مشربهم الأحوال فقيل لهم : واعتصموا بالله هو مولاكم مقصودكم أو ناصركم ، ولا تفرقوا في الظاهر وهو مفارقة الجماعة ، وفي الباطن وهو الميل إلى البدع والأهواء . { وكنتم على شفا حفرة } وهي عداوة بعضكم لبعض وعداوتكم لله ولأنفسكم { فأنقذكم منها } بالهداية والإيمان وتأليف القلوب { كذلك } مثل ما بين آياته للأوس والخزرج حتى صاروا إخواناً { يبين لكم } أيها الطلاب { آياته } وهي الجذبة الإلهية وتجلي صفات الربوبية { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } بالأفعال دون الأقوال { وأولئك هم المفلحون } من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } لأن الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله : { يوم تبلى السرائر } [ الطارق : 9 ] أي يجعل ما في الضمائر على الظواهر { أكفرتم بعد إيمانكم } هم أرباب الطلب السائرون إلى الله انقطعوا في بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على أعقابهم القهقرى . { فذوقوا العذاب } لأن الناس نيام لا يذوقون ألم جراحات الانقطاع والإعراض عنه الله ، فإذا ماتوا انتبوا وذاقوا { ففي رحمة الله } في الدنيا بالجمعية والوفاق مع أهل الله { هم فيها خالدون } في الآخرة ، ولأنه يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه { تلك } الأحوال { آيات الله } مع خواصه { نتلوها عليك بالحق } نظهرها على قلبك بالتحقيق { وما الله يريد ظلماً للعالمين } بأن يضع السواد والبياض في غير موضعهما { كنتم خير أمة أخرجت } من العدم إلى الوجود مستعدة لقبول كمالية الإنسان من جملة الخيرية تخفيف التكليف وضمان التضعيف ، ومنها عاقب مطيعهم بشؤم عصيانهم ، وغفر لعصاة هذه الأمة ببركة مطيعهم ، ومنها زلاتهم لعنة وزلاتنا رحمة ، ومنها شكا منهم إلينا وشكر منا إليهم قبل وجودنا { ولو آمن أهل الكتاب } يعني علماء السوء { لن يضروكم } أيها المحققون { إلا أذى } من طريق الإنكار والحسد { وإن يقاتلوكم } ينازعوكم ويخاصموكم { يولوكم الأدبار } من صدق نياتكم { لا ينصرون } لأنكم أهل الحق وحزب الله وإن حرب الله هم الغالبون .
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
القراآت : { ويسارعون } وبابه ك { سارعوا } [ آل عمران : 133 ] و { نسارع } [ المؤمنون : 56 ] ممالة : قتيبة وأبو عمرو طريق بن عبدوس . { ما يفعلوا } { فلن يكفروه } بياء الغيبة : حمزة وعلي وخلف وحفص أبو عمرو مخير . الباقون : بتاء الخطاب { تسؤهم } وبابه من كل همزة مجزومة بغير همزة : الأعشى وأوقية ، والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { لا يضركم } من الضير : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع . وقرأ المفضل { لا يضركم } بالفتح الباقون : { لا يضركم } بالضم كلاهما من الضر مجزوماً ثم محركاً للساكنين فالفتح للخفة والضم للإتباع { تعملون محيط } بتاء الخطاب : سهل . الباقون : بياء الغيبة .
الوقوف : { المسكنة } ط { بغير حق } ط { يعتدون } ه قيل : لا وقف عليه لأن ضمير { ليسوا } يعود إلى ما يعود إليه ضمير { منهم المؤمنون } لبيان الفضل بين الفريقين ، والذين عصوا واعتدوا أحد الفريقين { سواء } ط { يسجدون } ه قيل : لا وقف على جعل { يؤمنون } حالاً لضمير { يسجدون } ولا يصح بل الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوصاف لهم مطلقة غير مختصة بحال السجود { الخيرات } ط { الصالحين } ه { يكفروه } ط { المتقين } 5 { شيئاً } ط { النار } ج { خالدون } 5 { فأهلكته } ط { يظلمون } ج { خبالاً } ط { ما عنتم } ج لاحتمال كون قد بدت حالا { أكبر } ط { تعقلون } ه { كله } ج للعطف مع الحذف أي وهم لا يؤمنون بكتابكم { آمنا } ق قد قيل : والوصل أولى لأن المقصود بيان تناقض حاليهم في النفاق { من الغيظ } ط { يغيظكم } ط { الصدور } ه { تسؤهم } ز للابتداء بشرط آخر والوصل أجوز إذ الغرض تقرير تضاد الحالين منهم . { يفرحوا بها } ط لتناهي وصف الذم لهم وابتداء شرط على المؤمنين { شيئاً } ط { محيط } ه .
التفسير : هذا خبر آخر من مستقبلات أحوال اليهود المعلومة بالوحي . والمعنى ضربت عليهم الذلة والهوان في عامة الأحوال بالقتل والسبي والنهب أينما وجدوا إلا معتصمين أو متلبسين أي إلا في حال اعتصامهم { بحبل من الله وحبل من الناس } يعني ذمة الله وذمة المسلمين ، فهما في حكم واحد أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة بقبول الجزية ، فحينئذٍ يكون دمهم محقوناً ومالهم مصوناً وهو نوع من العزة وقيل : حبل الله الإسلام ، وحبل الناس الذمة . فعلى هذا يكون الواو بمعنى « أو » . وقيل : ذمة الله الجزية المنصوص عليها ، وذمة الناس ما يزيد الإمام عليها أو ينقص بالاجتهاد . وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب نظراً إلى المعنى لأن ضرب الذلة عليهم معناه لا تنفك عنهم { وباؤا بغضب من الله } قيل : إنه من قولك « تبوأ فلان منزل كذا » والمعنى مكثوا في غضب الله . وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا بالغضب . { وضربت عليهم المسكنة } عن الحسن أن المراد بها الجزية ، وإنما أفردت بالذكر بعد الاستثناء ليعلم أنها باقية غير زائلة بعد اعتصامهم بالذمة .
وقال آخرون : المراد أنك لا ترى منهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً مطاعاً لكنهم مستخفون في جميع النواحي والأكناف ، يظهرون من أنفسهم الفقر والمدقعة ألبتة . وباقي الآية قد مر تفسيره في البقرة إلا أنه سبحانه قال في هذا الموضع من هذه السورة وفي النساء { الأنبياء بغير حق } لأن جمع التكسير يفيد التكثير فذكر في الموضعين أعني في البقرة وفي أول السورة ما ينبىء عن القلة مع أن ذلك موافق لما بعده من جموع السلامة كالذين والصابئين وغيرهما . ثم تدرج إلى ما هو نص في الكثرة في الموضعين الآخرين نعياً علهيم وتفظيعاً لشأنهم ، ولمثل هذا عرّف الحق في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن تقتل النفس به وهو قوله : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } [ الأنعام : 151 ] ثم نكر في المواضع الباقية أي يغير ما حق أضلالاً في نفس الأمر ولا بحسب معتقدهم وتدينهم . { لسوا سواء } كلام تام وما بعده كلام مستأنف للبيان . قال الفراء وابن الأنباري : تقديره من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة ، إلا أنه أضمر ذكر هذا القسم على مذهب العرب من الاكتفاء بأحد الضدين لخطورهما بالبال معاً غالباً . قال أبو ذؤيب :
عاني إليها القلب إني لآمرها ... مطيع فما أدري أرشد طلابها؟
أراد أم غيّ فاكتفى بذكر الرشد عن ضده . وتقول : زيد وعبد الله لا يستويان ، زيد عاقل دين ذكي . فيغني هذا عن أن يقال : وعبد الله ليس كذلك . وقيل : وهو اختيار أبي عبيدة أن { أمة } مرفوعة ب { ليس } على لغة من قال : أكلوني البراغيث . أو هو بدل من الضمير على نحو { أسروا النجوى الذين ظلموا } [ الأنبياء : 3 ] والتقدير : ليسوا سواء أمة قائمة وأمة مذمومة . وفي تفسير أهل الكتاب قولان : الأول وعليه الجمهور أنهم اليهود والنصارى . قال ابن عباس ومقاتل : لما أسلم عبد الله بن سلام وأضرابه قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمد إلا شرارنا ، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم : لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دنياً غيره فنزلت . وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران ، واثنين وثلاثين من الحبشة ، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الثاني أنهم كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان فعلى هذه يكون المسلمون منهم . عن ابن مسعود قال : أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال : إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم . وفي رواية : فبشر صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله هذه الآيات { ليسوا سواء } إلى قوله : { والله عليم بالمتقين } قال القفال رحمه الله : لا يبعد أن يقال : أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب .
فقيل : ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العشاء في الساعة التي ينام فيها غيرهم مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا . ولا يبعد أيضاً أن يقال : المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل : أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة ، والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً ما تقدم من قوله : { كنتم خير أمة } [ آل عمران : 110 ] كقوله : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [ السجدة : 18 ] ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان : الأولى : أنها قائمة . قيل : أي في الصلاة . وقيل : ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة له غير مضطربة . وقيل : أي مستقيمة عادلة من قولك : « أقمت العود فقام » بمعنى استقام . وههنا نكتة وهي أن الآية دلت على أن المسلم قائم بحق العبودية . وقوله : { قائما بالقسط } [ آل عمران : 18 ] دل على أن المولى قام بحق الربوبية وهذه حقيقة قوله : { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } [ البقرة : 40 ] الصفة الثانية : { يتلون } أي أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل . فالتلاوة القراءة . وأصل الكلمة الإتباع . فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ ، وآيات الله القرآن . وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها . وآناء الليل ساعاته واحدها أنى مثل « معاً » و « أني » و « أنوا » مثل « نحى » و « تلو » . الصفة الثالثة : { وهم يسجدون } يحتمل أن يكون حالاً من { يتلون } كأنهم يقرأون في القرآن السجدة تخشعاً إلا أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً وساجداً » يأباه وأن يكون كلاماً مستقلاً أي يقومون تارة ويسجدون أخرى ويبتغون الفضل والرحمة بكل ما يمكن كقوله : { يبيتون لربهم سجداً وقياماً } [ الفرقان : 64 ] قال الحسن : يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وذلك لإحداث النشاط والراحة ، وأن يكون المراد : وهم يصلون ويتهجدون . والصلاة تسمى سجدة وركعة وسبحة ، وأن يراد وهم يخضعون لله كقوله : { ولله يسجد من في السموات والأرض } [ الرعد : 15 ] وعلى هذين الاحتمالين لا منع من كونه حالاً . الصفة الرابعة : { يؤمنون بالله واليوم الآخر } فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية . وهذه إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية ، فإن حاصل المعارف معرفة المبدأ والمعاد . ولا يخفى أن غير مؤمني أهل الكتاب ليسوا من القبيلين في شيء بسبب تحريفاتهم واعتقاداتهم الفاسدة . الخامسة والسادسة : { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي ومنعهم عما لا ينبغي .
وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين . وعن سفيان الثوري : إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن . الصفة السابعة { يسارعون في الخيرات } أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « العجلة من الشيطان » مخصوص بهذه الآية . على أنها لا تفيد كلية الحكم لأن القضية أهملت إهمالاً ، كيف لا والأمور متفاوتة .
منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما يحصل على مهل وتدريج فلو طلب منه خلاف وضعه فات الغرض وضاع السعي ، أو لكونه غير معلوم العاقبة فيفتقر إلى مزيد تدبر وتأمل . ومنها ما يحمد فيه التعجيل لضد ما قلنا فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم ، فإن الفرص تمر مر السحاب . قال صلى الله عليه وسلم : « اغتنم خمساً قبل خمس : شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغنالك قبل فرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك » الصفة الثامنة : { أولئك من الصالحين } وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى فإذا أخبر عنهم بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود . ثم شرط للأمة الموصوفة بل بجميع المكلفين إيصال الجزاء إليهم ألبتة تأكيداً للإخبار عنهم بقوله : { وأولئك من الصالحين } فقال : { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } أي لن يحرموا ثوابه ولن يمنعوه . فضمن الكفران معنى الحرمان ولهذا يعدى إلى مفعولين ، مع أن الأصل فيه التعدية إلى واحد نحو : شكر النعمة وكفرها . وسمى منع الجزاء كفراً كما سمى إيصال الثواب شكراً في قوله : { فإن الله شاكر عليم } [ البقرة : 158 ] ثم ختم الكلام بقوله : { والله عليم بالمتقين } مع أنه عالم بكل الأشياء بشارة لهم بجزيل الثواب ، ولدلالة على أنه لا يفوز عنده بالكرامة إلا أهل التقوى ، وتنبيهاً على أن الملتزم لوعدهم هو معبودهم الحق القادر الغني الحميد الخبير الذي لا غاية لكرمه ولا نهاية لعلمه ، فما ظنك بمثيب هذا شأنه؟! ثم بين أحوال أهل الشقاء بقوله : { إن الذين كفروا } الآية . وقد سبق تفسير مثله من أول السورة . ثم إنه لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً أمكن أن يخطر ببال أحد أن الذي ينفقون منه في وجوده الخيرات لعلهم ينتفعون بذلك فأزال ذلك الوهم بقوله : { مثل ما ينفقون } الآية . قال أكثر المفسرين وأهل اللغة : الصر البرد الشديد . وهو منقول عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد . وفي الصحاح : الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث . وعلى هذا فمعنى الآية : كمثل ريح فيها برد وذلك ظاهر . وجوز في الكشاف أن يكون الصر صفة معناه البارد فيكون موصوفة محذوفاً بمعنى فيها قرّة صر كما تقول : برد بارد على المبالغة ، أو تكون « في » تجريدية كما يقال : رأيت فيك أسداً أي أنت أسد ، وإن ضيعني فلان ففي الله كافٍ وكافل .
وقيل : الصر السموم الحارة . وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس { فيها صر } قال : فيها نار . وعلى القولين ، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان برداً مهلكاً أو حرّاً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث فيصح التشبية . وهذا في التشبية المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة . ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح ، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث . والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله ، ولهذا قيده بقوله : { في هذه الحياة الدنيا } فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاماً . وقيل : مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي جمع العساكر عليه صلى الله عليه وسلم في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر ، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلاً للحرث . والظاهر أن الضمير في { ينفقون } عائد إلى جميع الكفار . وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر ، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع ، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيراً كثيراً في المعاد ، لكنهم إذا قدموالآخرة رأوا كفرهم مبطلاً لآثار تلك الخيرات ، فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كبيراً فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف . ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيراً وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تخريب ديار المسلمين . ولا يبعد أيضاً تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالاً كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله ، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة . وقيل : المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله : { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [ البقرة : 188 ] والمراد جميع الانتفاعات . أما فائدة قوله : { ظلموا أنفسهم } وعدم الاقتصار على قوله : { أصابت حرث قوم } فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولاعثر ، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيراً منه في الدنيا أو في الآخرة . فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها ، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الإهلاك فائدة أصلاً .
ويحتمل أن يراد بالظالم ههنا وضع الزرع في غير موضعه . فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعاً . والضمير في { وما ظلمهم } للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم ، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول ، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم ، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما ستحقوا به العقوبة . ثم إنه تعالى لما بالغ في شرح احوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين . قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع ، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي إليه بشقوره أي أموره اللاصقة بالقلب المهمة له . الواحد شقر وأصله من البطن خلاف الظهر ، ومنه بطانة الثوب للذي يلي منه الجسد خلاف الظهارة ، نهاهم عن مودة كل كافر لأن قوله : { بطانة } نكرة في سياق النفي . وقوله : { من دونكم } يؤكد ذلك . وهو إما أن يتعلق ب { لا تتخذوا } ويكون صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم والأول أولى ، لأن الغرض ليس هو النهي عن اتخاذ البطانة وإنما المقصود النهي عن الاتخاذ من غير أبناء جنسهم وأهل ملتهم بطانة ، وأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى . و « من » للتبيين وقيل : زائدة . ثم ذكر علة النهي فقال : { لا يألونكم خبالاً } يقال : ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه ، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم : « لا آلوك نصحاً أو جهداً » على التضمين أي لا أمنعك نصحاً . والخبال الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول ومخبل ناقص العقل فاسدة . وقيل : خبالاً نصب على التمييز ، وقيل : مصدر في موضع الحال . والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم . { ودّوا ما عنتم } أي عنتكم على أن « ما » مصدرية . والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته . والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر . والحاصل من الجمليتن أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم { قد بدت البغضاء } هي شدة البغض كالضراء شدة الضر . والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط . فحذفت الهاء تخفيفاً وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان . وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب .
وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لا بد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته . وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك . { وما تخفي صدورهم أكبر } لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية . ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال : { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } من أهل العقول . وقيل : إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي . ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل : لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالاً وادّين عنتكم بادية بغضاؤهم . وأما { قد بينا } فكلام مبتدأ ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا ، فكأنه قيل : لم لا نتخذهم بطانة ، فقيل : لأنهم لا يقصرون فقيل : لم يفعلون ذلك؟ فقيل : لأنهم يودون عنتكم . ثم قيل : وما آية ودادة العنت؟ فقيل : قد بدت والله أعلم . أما كون هذا التقدير أحسن فلأن الجمل المتعاقبة على سبيل التنسيق يتوسط بينها العاطف ولا عاطف ههنا ، وأما كونه أبلغ فلبناء الكلام على السؤال والجواب ولتقليل اللفظ وتكثير المعنى ولإثبات الدعاوى بالبراهين ، ولا يخفى جلالة قدر هذه الفوائد . ثم استأنف للتحذير نمطاً آخر من البيان مشتملاً على التوبيخ فقال : { ها أنتم أولاء } الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب ، ثم ذيله ببيان الخطأ وهو قوله : { تحبونهم ولا يحبونكم } لأنكم تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ويريدون لكم الكفر وهو أقبح الأشياء ، أو تحبونهم لما بينكم وبينهم من الرضاعة والقرابة ولا يحبونكم لاختلاف الدين ، أو تحبونهم لأنهم أظهروا لكم الإيمان ولا يحبونكم لتمكن الكفر في باطنهم ، أو تحبونهم لأنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ولا يحبونكم لأنكم تحبون الرسول وهم يبغضونه ومحب المبغوض مبغوض ، أو تحبونهم فتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ولا يبحونكم لأنهم لا يفعلون مثل ذلك بكم ، أو تحبونهم لأنكم لا تريدون وقوعهم في المحن ولا يحبونكم لأنهم يتربصون بكم الدوائر . والحق أن هذه الاعتبارات وأمثالها مما لا تكاد تنحصر داخلة في الآية . ثم ذكر سبباً آخر مما يأبى أن يكون بينهما جامع فقال : { وتؤمنون بالكتاب كله } وأضمر قرينه وهو « وهم لا يؤمنون به » لأن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر غالباً . والمراد بالكتاب الجنس كقولهم « كثر الدرهم في أيدي الناس » . وفي الكشاف : إن الواو في { وتؤمنون } للحال ، واللام في { الكتاب } للعهد أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله . وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطنهم أصلب منكم في حقكم .
ثم ذكر مضادة أخرى فقال : { وإذا لقوكم قالوا آمنا } أحدثنا الدخول في الإيمان { وأذا خلوا عضوا } ويوصف المغتاظ أو النادم بعض الأنامل والبنان والإبهام لأن هذا الفعل كثيراً ما يصدر منهما فجعل كناية عن الغضب والندم ، وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ وهو شدة الغضب لما رأوا من ائتلاف المؤمنين وعلو دينهم وارتفاع شأنهم { قل موتو بغيظكم } دعاء عليهم بأن يزداد ما يوجب غيظهم من قوة الإسلام وعز أهله ، فإن ذلك يتضمن ذلهم وخزيهم . والحاصل أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله تعالى أتاح أن يظهر دين الإسلام علىلأديان كلها والمقدر كائن ، فإن كان هذا سبباً لغيظكم فلا محالة يكون موتكم على هذا الغيظ . ثم إن قوله : { إن الله عليم بذات الصدور } أي بصواحباتها وهي الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه . إن كان داخلاً في جمل المقول ، فمعناه أخبرهم بما يسرونه من الغيظ وقل لهم : إن غيظكم سيزداد إلى أن يذيبكم أو تموتوا عليه ، وقل لهم : إن الله يعلم ما هو أخفى مما تسرونه وهو مضمرات القلوب وخفياتها . وإن كان خارجاً فالمعنى قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني أعلم ما أضمره الخلائق ولم يظهروه على ألسنتهم أصلاً . ويجوز أن لا يكون أمراً بالقول لفظاً بل يراد حدّث نفسك بأنهم سيهلكون غيظاً وحسداً ، فيكون أمراً للرسول بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله ونصره . ثم ذكر نوعاً آخر من مضادتهم ومعاداتهم فقال : { إن تمسسكم حسنة } أي حسنة كانت من منافع الدنيا كالصحة والخصب والغنيمة والظفر على الأعداء والائتلاف بين الأحباء { تسؤهم } ساره يسوءه نقيض سره يسره { وإن تصبكم سيئة } ضد من أضداد ما عددنا . { يفرحوا بها } ولم يفرق صاحب الكشاف ههنا بين المس والإصابة وجعل المعنى واحداً . وأقول : يشبه أن يكون المس أقل من الإصابة وأنه أدخل في بيان شدة العداوة ، وذلك أن الحسد لا ينهض لقليل من الخير إلا أن يكون هناك كمال البغض ، والشماتة قلما توجد إذا أصاب العدوّ بلية عظمى كما قيل :
عند الشدائد تذهب الأحقاد ... إلا أن يكون ثمة غاية الحقد . وإذا كان حال القوم مع المسلمين في القضيتين بالخلاف دل ذلك على شدة بغضهم ونهاية حقدهم ، وعلى هذا فلا يبعد أن يقال التنوين في { حسنة } للتقليل وفي { سيئة } للتعظيم { وإن تصبروا } على عداوتهم { وتتقوا } ما نهيتم عنه من موالاتهم ، أو إن تصبروا على أوامر الله تعالى وتتقوا محارمه { لا يضركم كيدهم } وهو احتيال الإنسان لإيقاع غيره في مكروه . وقال ابن عباس : هو العداوة . { شيئاً } من الضرر بل كنتم في كنف الله وحفظه . وفيه إرشاد من الله تعالى إلى أن يستعان على دفع مكايد الأعداء بالصبر والتقوى ، فمن كان لله كان الله له .
وفي كلام الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك . وقال بعضهم :
إذا ما شئت إرغام الأعادي ... بلا سيف يسل ولا سنان
فزد في مكرماتك فهي أعدى ... على الأعداء من نوب الزمان
{ إن الله بما يعملون } في عداوتكم أو بما تعملون أنتم من الصبر والتقوى . { محيط } فيجازي كل أحد بما هو أهله .
التأويل : ضربت عليهم ذلة الطمع ومسكنة الحرص إلا أن يعتصموا بمحبة الله وطلبه وحبل من الناس يعني متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته . ويقتلون الأنبياء يميتون سنتهم وسيرهم . ليسوا أي العلماء الربانيون والمداهنون . فلن تكفروه لأنه من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً . ثم أخبر عن نفقات أهل الشهوات في استيفاء اللذات الجسمانية بقوله : { مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح } هي هواء الهوى { فيها صر } الشهوة { أصابت حرث قوم } هو الحرث الروحاني { ظلموا أنفسهم } بإبطال الاستعداد الإنساني . ثم نهي أهل المحبة عن مباطنة أهل السلو من هذا الحديث فقال : { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } لا يقصرون في إنكاركم والاعتراض عليكم والطعن فيكم { ودّوا } من نعيم الدنيا ومشتهياتها { ما عنتم } ما مقتموه وتركتموه لدناءة همتهم وعلو همتكم ، أو فرحوا بما قاستيم من المجاهدات والتزام الفقر والصبر على المكاره { قد بدت البغضاء من أفواههم } اعتراضاتهم الفاسدة { وما تخفي صدورهم } الحاسدة من الغل والحقد { أكبر } { تحبونهم } محبة الرحمة والشفقة { ولا يحبونكم } لتناكر الأرواح واختلاف حال الأشباح { ويؤتون بالكتاب كله } بجميع ما في القرآن من ترك الدنيا وجهاد النفس { عليم بذات الصدور } بالقلوب التي في الصدور أن موتها في الغيظ والحسد . { إن تمسسكم حسنة } كرامة من الله وقبول من الخلق . سيئة إنكار من الجهال وطعن .
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
القراآت : { تبوّى المؤمنين } بغير همز : أبو عمرو غير شجاع وورش والأعشى وحمزة في الوقف . { منزلين } بالتشديد وفتح الزاي : ابن عامر . الباقون : بالتخفيف والفتح أيضاً . { مسوّمين } بكسر الواو : أبو عمرو وابن كثير وعاصم وسهل ورويس . الباقون . بالفتح .
الوقوف : { للقتال } ط { عليم } ه لأن « إذ » بدل من { إذ غدوت } أو يتعلق بالوصفين أو بقوله { تبوىء } { أن تفشلا } ( لا ) لأن الواو للحال { وليهما } ط { المؤمنون } ه { أذلة } ج للفاء { تشكرون } ه { منزلين } ط لتمام القول { بلى } ( لا ) لاتحاد مع ما بعده { مسوّمين } ه { قلوبكم به } ط { الحكيم } ( لا ) لتعلق اللام بمعنى الفعل في النصر { خائبين } ه { ظالمون } ه { وما في الأرض } ط { من يشاء } ط { رحيم } ه .
التفسير : أنه سبحانه لما وعدهم النصر على الأعداء إن هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك إن لم يصبروا ، أتبعه قوله : { وإذا غدوت من أهلك } { ولقد نصركم الله ببدر } يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين مستعدين للقتال ، فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انهزموا ، ويوم بدر كانوا قليلين غير متسعدين لكنهم أطاعوا أمر الرسول فغلبوا واستولوا على خصومهم . ووجه آخر في النظر وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق ، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ المنافقين بطانة . قال أبو مسلم : هذا كلام معطوف بالواو عل قوله : { قد كان لكم آية في فئتين التقتا } [ آل عمران : 13 ] أي قد كان لكم مثل تلك الآية إذ غدا الرسول يبوىء المؤمنين . والجمهور على أنه منصوب بإضمار « اذكر » وعن الحسن أن هذا الغدو كان يوم بدر . وعن مجاهد أنه يوم الأحزاب . وأكثر العلماء بالمغازي على أن هذه الآية نزلت في واقعة أحد . وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحق والربيع والأصم وأبي مسلم . « روي أن المشركين أن نزلوا بأحد يوم الأربعاء ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ولم يدعه قط قبلها فاستشاره . فقال عبد الله وأكثر الأنصار : يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم ، فوالله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا ، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه ، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة ، وإن رجعوا رجعوا خائبين . وقال بعضهم : يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء إلا كلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم . وقال صلى الله عليه وسلم : إني رأيت في منامي بقراً مذبحة حولي فأوّلتها خيراً ، أو رأيت في ذباب سيفي ثلماً فأولته هزيمة ، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة . فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم ، فقال رجال من المسلمين - قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد- : اخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته . فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا : بئسما صنعنا ، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه . فقالوا : اصنع يا رسول الله ما رأيت . فقال : لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل . فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة من المدينة . قالوا من منزل عائشة وهو المراد بقوله : { من أهلك } »
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
القراآت : { سارعوا } بغير واو العطف : أبو جعفر ونافع وابن عامر . { قرح } بالضم حيث كان : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة . الباقون بالفتح .
الوقوف : { مضاعفة } ص لعطف المتفقتين { تفحلون } ه ج للعطف { للكافرين } ه { ترحمون } ه ومن قرأ { سارعوا } بغير واو فوقه مطلق { والأرض } ص لأن ما بعده صفة لجنة أيضاً أي جنة واسعة معدّة . { للمتقين } لا لأن الذين صفتهم . { عن الناس } ط { المحسنين } ج ه لأن والذين يصلح مبتدأ وخبره { أولئك جزاؤهم } فلا وقف على { يعلمون } ويصلح معطوفاً لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له فيوقف على { يعلمون } لينصرف عموم أولئك إلى المتقين السابقين منهم بعصمة الله واللاحقين بهم برحمة الله . والوقف لطول الكلام على { لذنوبهم } للابتداء بالاستفهام وعلى { إلا الله } لاعتراض الاستفهام ولزوم الجواب بأن يقول الروح : لا أحد يغفر الذنوب إلا أنت { خالدين فيها } ط { العاملين } ه { سنن } لا لتعقب الأمر بالاعتبار بعد الإخبار بالتبار . { المكذبين } ه { للمتقين } ه { مؤمنين } ه { مثله } ط { بين الناس } ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوفة أي ليعتبروا { وليعلم شهداء } ط { الظالمين } لا للعطف على { ليعلم } { الكافرين } ه .
التفسير : قال القفال : يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلاً بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين كانت قد اجتمعت من الربا ، وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر ، وكان من الممكن أن يصير ذلك داعياً للمسلمين إلى الإقدام على الربا كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر ويتمكنوا من الانتقام منهم ، فورد النهي عن ذلك نظراً لهم ورحمة عليهم . وقيل : إن هذه الآيات ابتداء أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميماً لما سلف من الإرشاد إلى الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد . وليس المراد النهي عن الربا في حال كونه أضعافاً لما علم أنه منهي عنه مطلقاً ، وإنما هو نهي عنه مع توبيخ بما كانوا عليه في الغالب والمعتاد من تضعيفه . كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل ، وهكذا مرة بعد أخرى حتى استغرق بالشيء الطفيف مال المديون { واتقوا الله لعلكم تفلحون } فيه أن اتقاء الله في هذا النهي واجب ، وأن الفلاح يقف عليه . فلو أكل ولم يتق زال الفلاح . ويعلم منه أن الربا من الكبائر لا من الصغائر ويؤكد قوله : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } كان أبو حنيفة يقول : هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار المعدة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه . وكون النار معدّة للكافرين لا يمنع دخول الفساق وهم مسلمون فيها لأن أكثر أهل النار الكفار فغلب جانبهم كما لو قلت : أعددت هذه الدابة للقاء المشركين .
لم يمتنع من أن تركبها لبعض حوائجك . ومثله قوله في صفة الجنة : { أعدت للمتقين } فإنه لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين وغيرهم كالملائكة والحور .
{ وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون } فيه أن رجاء الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول فلهذا يتمسك به أصحاب الوعيد في أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء فهو ليس أهلاً للرحمة . وغيرهم يحمل الآية على الزجر والتخويف { وسارعوا } معطوف على ما قبله . ومن قرأ بغير الواو فلأنه جعل قوله : { سارعوا } وقوله : { أطيعوا الله } كالشيء الواحد لأنهما متلازمان . وتمسك كثير من الأصوليين به في أن ظاهر الأمر يوجب الفور قالوا : في الكلام محذوف والتقدير : سارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم . ونكر المغفرة ليفيد المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وليس ذلك إلا المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام والإتيان بجميع الطاعات والاجتناب عن كل المنهيات وهذا قول عكرمة . وعن علي بن أبي طالب : هو أداء الفرائض . وعن عثمان بن عفان أنه الإخلاص لأنه المقصود من جميع العبادات . وعن أبي العالية أنه الهجرة . وقال الضحاك ومحمد بن إسحق : إنه لاجهاد لأنه من تمام قصة أحد . وقال الأصم : بادروا إلى التوبة من الربا لأنه ورد عقيب النهي عن الربا . ثم عطف عليه المسارعة إلى الجنة لأن الغفران ظاهره إزالة العقاب . والجنة معناها حصول الثواب ، ولا بد للمكلف من تحصيل الأمرين . ثم وصف الجنة بأن عرضها السموات ، ومن البيّن أن نفس السموات لا تكون عرضاً للجنة ، فالمراد كعرض السموات لقوله في موضع آخر { عرضها كعرض السماء } [ الحديد : 21 ] والمراد المبالغة في وصف سعة الجنة فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه ونظيره { خالدين يفها ما دامت السموات والأرض } [ هود : 107 ] لأنها أطول الاشياء بقاء عندنا . وقيل : المراد أنه لو جعلت السموات والأرضون طبقاً طبقاً بحيث يكون كل واحد من تلك الطبقات سطحاً مؤلفاً من أجزاء لا تتجزأ ، ثم وصل البعض بالبعض طبقاً واحداً لكان ذلك مثل عرض الجنة ، وهذه غاية من السعة لا يعلمها إلا الله تعالى . وقيل : إن الجنة التي عرضها عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكاً له ، فلا بد أن تكون الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا . وقال أبو مسلم : معنى العرض القيمة ، ومنه عارضت الثوب بكذا . معناه لو عرضت السموات والأرض على سبيل البيع لكاتنا ثمناً للجنة . والأكثرون على أن المراد بالعرض ههنا خلاف الطول . وخص بالذكر لأنه في العادة أدنى من الطول ، وإذا كان العرض هكذا فما ظنك بالطول . ونظيره { بطائنها من استبرق } [ الرحمن : 54 ] لأن البطائن في العادة تكون أدون حالاً من الظهائر وإذا كانت البطانة كذلك فكيف الظهارة؟ وقال القفال : العرض عبارة عن السعة . تقول العرب : بلاد عريضة أي واسعة .
والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ولم يدق ، وما ضاق عرضه دق . فجعل العرض كناية عن السعة . وسئل ههنا إنكم تقولون الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء؟ وأجيب بعد تسليم كونها الآن مخلوقة أنها فوق السموات وتحت العرش . قال صلى الله عليه وسلم في صفة الفردوس « سقفها عرش الرحمن » وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال : إنك تدعو الجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم « سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار » والمعنى - والله ورسوله أعلم - أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب ، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل . وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال : وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل : فأين هي؟ قال : فوق السموات السبع تحت العرش . ثم ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات . منها قوله : { الذين ينفقون في السراء والضراء } في حال الغنى والفقر لا يخلون بأن ينفقوا ما قدروا عليه . عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة . وعن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فكان الفقير أنكر عليها فقالت : احسب كم هي من مثقال ذرة . وقيل : في عرس أو حبس . والمراد في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة ، فهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في حالتي فرح وحزن . وقيل : إن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم ، أو ساءهم بأن كان مخالفاً له ، فإنهم لا يتركونه . وفي افتتاحه بذكر الإنفاق دليل على عظم وقعه عند الله لأنه طاعة شاقة أو لأنه كان أهم في ذلك الوقت لأجل الحاجة إليه في الجهاد ومواساة فقراء المسلمين . ومنها قوله { والكاظمين الغيظ } كظم القربة إذا ملأها وشد فاها . ويقال : كظم غيظه إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل كأنه كتمه على امتلائه ، ورد غيظه في جوفه ، وكف غضبه عن الإمضاء ، وهو من أقسام الصبر والحلم . قال صلى الله عليه وسلم : من كظم غيظاً وهو يقدر على انقاذ ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً وقال أيضاً : « ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » ومنها قوله : { والعافين عن الناس } قيل : يحتمل أن يراد العفو عن المعسرين لأنه ورد عقيب قصة الربا كما قال في البقرة : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم } [ البقرة : 280 ] ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم غضب على المشركين حين مثلوا بحمزة فقال : لأمثلن بهم . فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والعفو عنهم .
والظاهر أنه عام لجميع المكلفين في الأحوال إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه . قال صلى الله عليه وسلم : « لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه » وعن عيسى ابن مريم عليه السلام : ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذاك مكافأة ، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك { والله يحب المحسنين } يجوز أن يكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل فيه هؤلاء المذكورون ، وأن يكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء . وذلك أن من أنواع الإحسان إيصال النفع إلى الغير وهو المعنى بالإنفاق في السراء والضراء في وجوه الخيرات . ويدخل فيه الإنفاق بالعلم وبالنفس ، والجود بالنفس أقصى غاية الجود . ومنها دفع الضرر عن الغير إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة الإساءة بإساءة أخرى وهو المعبر عنه بكظم الغيظ ، وإما في الآخرة بأن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات الأخروية وهو المقصود بالعفو . فإذن الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير . فذكر ثواب المجموع بقوله : { والله يحب المحسنين } فإن محبة الله للعبد أعظم درجات الثواب . قال ابن عباس في رواية عطاء : إن منهالاً التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمراً فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت { والذين إذا فعلوا فاحشة } الآية . وقال في رواية الكلبي : إن رجلين أنصارياً وثقفياً آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، فكانا لا يفترقان في احوالهما . فخرج الثقفي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري في أهله وحاجته . فأقبل ذات يوم فأبصر امراة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها ، فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها . ذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحى فأدبر راجعاً فقال : سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك . قال : وندم على صنيعه فخرج يسيح ي الجبال ويتوب الى الله من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله ، فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجداً وهو يقول : رب ذنبي ذنبي . قد خنت أخي فقال له : يا فلان قم فانطلق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله أن يجعل لك فرجاً وتوبة . فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة ، وكان ذات يوم عند صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم { والذين إذا فعلوا فاحشة } إلى قوله : { ونعم أجر العاملين } فقال عمر : يا رسول الله أخاص هذا لهذا أم للناس عامة؟ فقال : بل للناس عامة في التوبة .
وعن ابن مسعود أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : أبنوا إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أذنك اجدع أنفك افعل كذا . فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم ، وبيّن أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار . والفاحشة نعت محذوف أي فعلوا فعلة فاحشة متزايدة القبح { أو ظلموا أنفسهم } أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به . وقيل : الفاحشة هي الزنا لقوله تعالى : { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } [ الإسراء : 32 ] وظلم النفس ما دونه من القبلة واللسمة . وهذا القول أنسب بسبب النزول الذي رويناه . وقيل : الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالاستغفار { واستغفر لذنبك } [ محمد : 19 ] وما كان استغفاره إلا عن الصغائر بل ترك الأولى { ذكروا الله } أي وعيده أو عقابه وأنه سائلهم أو نهيه ، أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه ، أو ذكروا العرض الأكبر على الله . وعلى جميع التقادير فلا بد من مضاف محذوف . ويكون الذكر بمعنى ضد النسيان وإليه ذهب الضحاك ومقاتل والواقدي . ونظيره { إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون } [ الأعراف : 201 ] وقيل : المراد ذكروا الله بالثناء والتعظيم والإجلال ، فإن من آداب المسألة والدعاء تقديم التعظيم والثناء { فاستغفروا لذنوبهم } يقال : استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى . والمراد بالاستغفار الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح ، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل . فأما الاستغفار بمجرد اللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب وإنما يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار كونه منقطعاً إلى الله تعالى { ومن يغفر الذنوب إلا الله } لأن كمال قدرته وغناه كما أنه يقتضي إيقاع العبد في العقاب ، فكمال رحمته وعفوه يقتضي إزالة ذلك العقاب عنه ، لكن صدور الرحمة عنه بالذات « سبقت رحمتي غضبي » فجانب العفو والمغفرة أرجح ولا سيما إذا اقترن الذنب بالتوبة والاعتذار والتنصل بأقصى ما يمكن للعبد . وفي كتاب مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم » وعن أنس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي . يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي . يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرضين خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة »
وعن علي رضي الله عنه قال : حدثني أبو بكر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له » ثم قرأ { والذين إذا فعلوا فاحشة } إلى قوله : { ومن يغفر الذنوب إلا الله } وهذه الجملة معترضة والتقدير : فاستغفروا لذنوبهم { ولم يصروا } لم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين . والتركيب يدل على الشدة ، ومنه صررت الصرة شددتها ، وصر الفرس أذنيه ضمهما إلى رأسه . وأصر أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم : « ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة » وروي « لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار » { وهم يعلمون } حال من فاعل يصروا ، وحرف النفي منصب عليها معاً كما لو قلت : ما جاءني زيد وهو راكب . وأردت نفي المجيء والركوب معاً . وذلك أن المقام مقام مدح لهم بعدم الإصرار . والمعنى ليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يعذر الجاهل ولا يعذر العالم ، ويحتمل أن يراد بالعلم العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز عن الفواحش فيجري مجرى قوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث » وعلى هذا يجوز أن يراد نفي الإصرار في حالة العلم لا نفيه مطلقاً كما لو أردت في المثال المذكور نفي المجيء في حال الركوب لا نفي المجيء على الإطلاق { أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم } وهي إشارة إلى إزالة العقاب { وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها } وهذه إشارة إلى إيصال لاثواب { ونعم أجر العاملين } ذلك الجزاء . قال القاضي : وهذا يبطل قول من قال : إن الثواب تفضل من الله وليس جزاء على عملهم ، وذلك أنه سمى الجزاء أجراً والأجر واجب مستحق فكذلك الجزاء . ولقائل أن يقول : إنه على وجه التشبيه لا التحقيق . واستدلوا أيضاً بالآية على أن أهل الجنة هم المتقون والتائبون دون المصرين لقوله : { ولم يصروا } والجواب ما مر أن كون الجنة معدة للمتقين الموصوفين لا يوجب أن لا يدخلها غيرهم بفضل الله وبرحمته . ثم ذكر ما يحمل المكلفين على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية فقال : { قد خلت من قبلكم سنن } وأصل الخلو الانفراد ، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه ، وكل ما انقرض ومضى فقد انفرد عن الوجود ، والسنة الطريقة المستقيمة . والمثال المتبع وهي « فعلة » بمعنى « مفعولة » من سن الماء يسنه إذا والى صبه فكأنه أجراه على نهج واحد ، أو من سننت النصل أحددته ، أو من سن الإبل إذا حسن الرعي . والمراد قد مضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة يعني سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله : { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } فإنهم خالفوا رسلهم للحرص على الدنيا وطلب لذاتها ، ثم انقرضوا ولم يبق من دنياهم أثر وبقي عليهم اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة هذا قول أكثر المفسرين .
قال مجاهد : المراد سنن الله في الكافرين والمؤمنين فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر ، ولكن المؤمن بقي له الثناء الجميل والثواب الجزيل والكافر له اللعن والعقاب . ثم قال { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر ، أو لأن الغرض زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يحصل بتأمل أحوال أمثالهم وليس المراد من قوله { فسيروا في الأرض } الأمر بالسير بل المقصود تعرّف أحوالهم . فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلاً . ولا يبعد أن يقال : ندب إلى السير لأن لمشاهدة آثار الأقدمين أثراً أقوى من أثر السماع كما قيل :
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
{ هذا بيان } المشار إليه بهذا إما أن يكون جميع ما تقدم من الأمر والنهي والوعد والوعيد للمتقين والتائبين والمصرين ويكون قوله : { قد خلت } جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق من الأجر ، وإما أن يكون ما حثهم عليه من النظر في سوء عواقب المكذبين ومن الاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم . أما البيان والهدى والموعظة فلا بد من الفرق بينها لأن العطف يقتضي المغايرة ، فقيل : البيان كالجنس وهو إزالة الشبهات وتحته نوعان : أحدهما الكلام الذي يهدي المكلف إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى ، وثانيهما الكلام الزاجر عما لا ينبغي في طريق الدين وهو الموعظة . وخص الهدى والموعظة بالمتقين لأنهم هم المنتفعون به . وقيل : البيان عام للناس والهدى والموعظة خاصان بالمتقين ، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية وأقول : يشبه أن يكون البيان عاماً لجميع المكلفين وبأي طريق كان من طرق الدلالة . والهدى يراد به الكلام البرهاني والجدلي ، والموعظة يراد بها الكلام الإقناعي الخطابي كقوله : { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] وخص المتقون بالذكر لأن البيان في حق غيرهم غير مثمر . ثم لما بيّن هذه المقدمات ومهدها ذكر المقصود وهو قوله : { ولا تهنوا } . كأنه قال : إذا بحثتم عن أحوال القرون الخالية علمتم أن صولة الباطل تضحمل ، وأن العاقبة والغلبة لأرباب الحق . والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن الجهاد ولا يورثنكم ما أصابكم يوم أحد وهناً وجبناً { ولا تحزنوا } على من قتل منكم وجرح { وأنتم الأعلون } وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أحد أو أنتم الأعلون شأنا لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان وقتلاكم في الجنة وقتلاهم في النار ، أو أنتم الأعلون بالحجة والعاقبة الحميدة كقوله :
{ والعاقبة للمتقين } [ الأعراف : 128 ] وفي هذا تسلية لهم وبشارة . وقوله : { إن كنتم مؤمنين } إما أن يكون قيداً لقوله : { وأنتم الأعلون } أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة ، وإما أن يكون قيداً لقوله : { ولا تهنوا } أي إن صح إيمانكم بالله وبحقية هذا الدين فلا تضعفوا لثقتكم بأن الله سيتم هذا الأمر . قال ابن عباس : انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد . فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم « اللهم لا يعلون علينا ، اللهم لا قوة لنا إلا بك ، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر » . فأنزل الله تعالى هذه الآية . وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله { وأنتم الأعلون } وقال راشد بن سعد : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد كئيباً حزيناً جعلت المرأة تجيء بزوجها وأبيها وابنها مقتولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أهكذا تفعل برسولك؟ فنزلت { إن يمسسكم قرح } بفتح القاف وبضمها وهما لغتان كالضعف والضعف ، والجهد والجهد . وقيل بالفتح لغة تهامة والحجاز . وقيل بالفتح مصدر ، وبالضم اسم . وقال الفراء : إنه بالفتح الجراحة بعينها ، وبالضم ألم الجراحة . وقال ابن مقسم : هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع قرحة . ومعنى الآية إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبل ذلك في قوم بدر . ثم لم يثبطهم ذلك عن معاودة القتال فأنتم أولى بأن لا تفرقوا ولا تجبنوا ونظيره { فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون } [ النساء : 104 ] وقيل : القرحان في يوم أحد وذلك أنه قتل يومئذٍ خلق من الكفار نيف وعشرون رجلاً ، وقتل صاحب لوائهم ، وكثرت الجراحات فيهم ، وعقرت عامة خيلهم بالنبل ، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار كما يجيء من قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم } [ آل عمران : 152 ] والمماثلة في عدد القتلى والجرحى غير لازمة وإنما تكفي المثلية في نفس القتل والجراحة { وتلك الأيام } موصوفاً وصفته مبتدأ خبره { نداولها } وتلك مبتدأ أو الأيام خبره كقولك : « هي الأيام تبلي كل جديد » فإن الضمير لا يوصف ويكون { تلك } إشارة إلى الوقائع والأحوال العجيبة التي يعرفها أهل التجارب من أبناء الزمان . والمراد بالأيام ما في تلك الأوقات من الظفر والغلبة والحالات الغريبة . وقوله { نداولها } كالتفسير لما تقدمه . والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر . ويقال : تداولته الأيدي أي تناقلته . والدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين لا تدوم مسارّها ومغامها ، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوّه ، ويوم آخر بالعكس فلا يبقي شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها ونظيره قولهم : « الحرب السجال » .
شبهت بالدلاء لكونها تارة مملوءة وأخرى فارغة ، وليس المراد من هذه المداولة أنه تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين ، فإن نصرة الله منصب شريف لا يناله الكافرون . بل المراد أنه تارة يشدد المحنة على الكافرين وأخرى على المؤمنين وذلك أنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميعها لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل ، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب . فالحكمة في المداولة أن تكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام ، فيعظم ثوابه عند الله وإلى هذا يشير قوله سبحانه : { وليعلم الله الذين آمنوا } وحذف المعطوف عليه ليذهب الوهم كل مذهب ويقرر الفوائد . والتقدير نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم . وفي إيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ولكن في ضمنها مصالح جمة لو عرفوها انقلبت مساءتهم مسرة منها أن يعلم الله . وقد احتج هشام بن الحكم يظاهر هذه الآية ونحوها كقوله : { ولما يعلم الله الذين جاهدوا } [ آل عمران : 142 ] على أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند وقوعها وقد سبق الأجوبة عنها في تفسير قوله تعالى : { وإذا ابتلى إبراهيم ربه } [ البقرة : 124 ] وتأويل الآية أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على المقدور مجاز مشهور ، يقال : هذا علم فلان أو قدرته والمراد معلومه أو مقدوره . فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم لأن التغير في علم الله تعالى محال . فمعنى الآية ليظهر معلومنا وهو المخلص من المنافق والمؤمن من الكفار . وقيل : معناه ليحكم بالامتياز ، فوضع العلم مقام الحكم . وقيل : ليعلمهم علماً يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجوداً منهم الثبات ، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد . وقيل : ليعلم أولياء الله فأضاف إلى نفسه تفخيماً لهم . وعلى الأقوال العلم بمعنى العرفان ولهذا تعدى إلى مفعول واحد . وقيل : إنه بمعنى فعل القلب الذي يتعدى الى مفعولين والتقدير : وليعلمهم مميزين عن غيرهم . ويحتمل على جميع التقادير أن يضمر متعلق وليعلم بعده ومعناه : وليتميز الثابتون على الإيمان من المضطربين فعلنا ما فعلنا . ومن حكم المداولة قوله : { ويتخذ منكم شهداء } من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة كقوله : { لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] فإن كونهم كذلك منصب شريف لا يناله إلا هذه الأمة ، ولن يكونوا من الأمة إلا بالصبر على ما ابتلوا به من الشدائد . أو المراد ليكرم ناساً منكم بالشهادة . والشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء . والمقتول من المسلمين بسيف الكفار يسمى شهيداً . قال النضر بن شميل : لأنهم أحياء حضروا دار السلام كما ماتوا بخلاف غيرهم . وقال ابن الأنباري : لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة { والله لا يحب الظالمين } أي المشركين
{ إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] قال ابن عباس : وقيل : لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان الصابرين على البلوى ، وهو اعتراض بين بعض المعللات وبعض . وفيه أن دولة الكافرين على المؤمنين للفوائد المذكورة لا لأنه يحبهم . ومن الحكم قوله : { وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } والمحص في اللغة التنقية والمحق النقصان . وقال المفضل : هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء . وقال الزجاج : معنى الآية أنه أن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين أي تطهيرهم وتصفيتهم ، وإن كان بالعكس فالمراد محو آثار الكفار . وهذه مقابلة لطيفة لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم لا بالكلية ، فإن ذلك غير واقع بل بتدريج ومهل لايقطع طرفاً ننقصها من أطرافها .
التأويل : { لا تأكلوا الربا } ما يؤدي إلى الحرص إلى طلب الدنيا { أضعافاً مضاعفة } إلى ما لا يتناهى فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب . { واتقوا الله } خطاب للخواص أي اتقوا بالله عن غير الله في طلب الله { لعلكم تفلحون } عن حجب ما سوى الله ، وتظفرون بالوصول إلى الله . ثم خاطب العوام الذين هم ارباب الوسائط بقوله : { واتقوا } أي بالقناعة { النار } أي نار الحرص التي توري عنها نار القطيعة ، وجوزوا بقدمي طاعة الله وطاعة رسوله . ثم أخبر عن المسارعة إلى الجنان بمصارعة النفس والجنان { عرضها السموات والأرض } أي المسافة بين العبد وبينها هذا القدر لأن الوصول إليها بعد العبور عما في السموات والأرض وهو عالم المحسوسات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى أنه قال : لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين . فالولادة الثانية هي الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها . وولوج الملكوت هو التحلية بالصفات الروحانية { ينفقون أموالهم في السراء } وأرواحهم في الضراء بل من سوى الله في طلب الله { فعلوا فاحشة } هي رؤية غير الله { أوظلموا أنفسهم } بالتعليق بما سوى الله { وذكروا الله } بالنظر إليه وبرؤيته { ومن يغفر } ومن يستر بكنف عواطفه ذنوب وجود الأغيار { إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا } من رؤية الوسائط والتعلق بها { وهم يعلمون } أن كل شيء ما خلا الله باطل { أولئك جزاؤهم مغفرة } أي هم مستحقون لمقامات القرب { من ربهم وجنات } من أصناف ألطافه { تجري من تحتها الأنهار } العناية { ونعم أجر العاملين } لأن نيل المقصود في بذل المجهود { قد خلت من قبلكم أمم } لهم { سنن فسيروا في الأرض } نفوسكم الحيوانية بالعبور على أوصافها الدنية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية { فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية { ولا تهنوا } أيها السائرون في السر إلى الله { ولا تحزنوا } على ما فاتكم من اللذات الفانية { وأنتم الأعلون } من أهل الدنيا والآخرة لأنكم من أهل الله { إن يمسسكم } في أثناء المجاهدات { قرح } ابتلاء وامتحان { فقد مس القوم } من الأنبياء والأولياء { قرح } محن { مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس } السائرين يوماً نعمة ويوماً نقمة ، ويوماً منحة ويوماً محنة { ويتخذ منكم شهداء } أرباب المشاهدات والمكاشفات { وليمحص الله } فيه إشارة إلى أن كل ألم ونصب يصيب المؤمن فهو تطهير لقلبه وتكفير لسره ، وما يصيب الكافر من نعمة ودولة وغنى ومنى فهو سبب لكفرانه ومزيد لطغيانه .
وبوجه آخر البلاء لأهل الولاء تمحيص للقلوب عن ظلمات العيوب وتنويرها بأنوار الغيوب ومحق صفات نفوسهم الكافرة ومحو سمات أخلاقهم الفاجرة ليتخلصوا عن قفص الأشباح إلى حظائر الأرواح .
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
القراآت : { رايتموه } بغير همزة يعني بالتليين ونحوه { رأوك } [ الفرقان : 41 ] و { رأوه } [ الملك : 27 ] روى هبة الله بن جعفر الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف . { يرد ثواب } وبابه مدغماً : أبو عمروا وشان بن عامر وسهل وحمزة وعلي وخلف { نؤته } مثل { يؤده } [ آل عمران : 75 ] { وكائن } بالمد والهمز مثل « كاعن » حيث كان : ابن كثير . وقرأ يزيد { وكاين } بالمد بغير همزة . وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي بغير نون في الوقف { وكأي } الباقون : { وكأين } في الحالين { قتل } أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع وقتيبة والمفضل . الباقون . { قاتل } .
الوقوف : { الصابرين } ه { تلقوه } ص لطول الكلام { رسول } ج لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافاً { الرسل } ط { أعقابكم } ط لتناهي الاستفهام { شيئاً } ط { الشاكرين } ه { مؤجلاً } ج لابتداء الشرط { منها } ج للعطف { منها } ط { الشاكرين } ه { قتل } ط ليكون قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلزاماً للحجة على من اعتذر في الانهزام بما سمع من نداء إبليس ألا إن محمداً قد قتل . والتقدير ومعه ريبون كثير . ولو وصل كان الريبون مقتولين . ومن قرأ { قاتل } فله أن لا يقف { كثير } ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب { وما استكانوا } ط { الصابرين } ه { الكافرين } ه { الآخرة } ط { المحسنين } ه { خاسرين } ه { مولاكم } ج { الناصرين } ه .
التفسير : إنه سبحانه لما ذكر فوائد مداولة الأيام وحكمها ، أتبعها ما هو السبب الأصلي في ذلك فقال : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } بدون تحمل المشاق . و « أم » منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار و « لما » بمعنى « لم » مع زيادة التوقع . وليس المراد نفي العلم بالمجاهدين ولكن المراد نفي المعلوم . وإنما حسن إقامة ذلك مقام هذا لأن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه ، فلما حصلت بينهما هذه المطابقة حسن إقامة أحدها مقام الآخر . تقول : ما علم الله في فلان خيراً أي ما فيه خير حتى يعلمه . فحاصل الكلام لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم تجاهدوا بعد . وإنما أنكر هذا الحسبان لأنه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة وأوجب الصبر على تحمل متاعبها ، وبين وجوه المصالح المنوطة بها في الدين والدنيا . وإذا كان كذلك فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال مثل هذه الطاعة . والواو في قوله : { ويعلم الصابرين } واو الجمع في قولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . كأنه قيل : إن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان فليس كل من أقر بدين الله كان صادقاً ، ولكن الفيصل فيه تسليط المكروهات ومخالفات النفس فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء . وقيل : التقدير أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين؟ ووجه آخر وهو أن يكون مجزوماً أيضاً لكن الميم لما حركت للساكنين حركت بالفتحة إتباعاً للفتحة قلها .
وهذا كما قرىء { ولما يعلم الله } بفتح الميم إلا أن يراد ولما يعلمن بالنون الخفيفة ثم حذفت . وقرأ الحسن { ويعلم } بالجزم على العطف . وروي عن أبي عمرو { ويعلم } بالرفع على الحال كأنه قيل : ولما تجاهدوا وأنتم صابرون { ولقد كنتم تمنون الموت } الخطاب فيه للذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة . ويراد بالموت سببه وهو الجهاد والقتل . قال المحققون : إنه لم يكن تمنيهم للموت تمنياً لأن يقتلوا لأن قتل المشركين لهم كفر . ولا يجوز للمؤمن أن يتمنى الكفر أو يريده أو يرضى به ، بل إنما تمنوا الفوز بدرجات الشهداء والوصول إلى كراماتهم . وشبهوا ذلك بمن شرب دواء الطبيب النصراني فإن غرضه حصول الشفاء . ولا يخطر بباله جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنفيق صناعته ، قالت الأشاعرة ههنا : من أراد شيئاً أراد ما هو من لوازمه ، وثواب الشهداء لا يحصل إلا بالشهادة ، ولا ريب أنه تعالى أراد إيصال ثواب الشهداء إلى المؤمنين ، ولهذا ورد من الترغيبات ما ورد فأراد صيرورتهم شهداء ، ولن يصيروا شهداء إلا إذا قتلهم الكفار فلا بد أن يريد أن يقتلهم الكفار وذلك القتل كفر ومعصية ، فثبت أنه تعالى مريد للكفر والإيمان والطاعة والعصيان . { من قبل أن تلقوه } من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته وصعوبة مقاساته . { فقد رأيتموه وأنتم تنظرون } قال الزجاج : أي وأنتم بصراء كقولهم : رأيته بعيني أي رأيتموه معاينين حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وشارفتم أن تقتلوا . ويحتمل أن يراد رأيتم إقدام القوة وشدة حرصهم على قتلكم وعلى قتل الرسول ، ثم بقيتم أنتم تنظرون إليهم من غير جد في دفعهم ولا اجتهاد في مقاتلتهم ، وفيه توبيخ لهم على تمنيهم الجهاد وعلى إلحاحهم في الخروج إليه ، ثم انهزامهم وقلة ثباتهم عنده . قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ولا ينتقلوا سواء كان الأمر لهم أو عليهم . فلما وقفوا وحملوا على الكفار هزموهم وقتل علي عليه السلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم ، والزبير والمقداد شدا على المشركين ، ثم حمل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فهزموا أبا سفيان . ثم إن بعض القوم لما رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة إلى الغنيمة ، وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار ، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم ، وكثر القتل في المسلمين ، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر وكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله ، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة .
واحتمل طلحة بن عبيد الله رسول الله ودافع عنه أبو بكر وعلي عليه السلام . وظن ابن قميئة أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قد قتلت محمداً ، وصرخ صارخاً ألا إن محمداً قد قتل . قيل : وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله صلى الله عليه وسلم فانكفؤا ، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : إليّ عباد الله ، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا : يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا ، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فنزلت { وما محمد إلا رسول } أي مرسل . قال أبو علي : وقد يكون الرسول في غير هذا الموضع بمعنى الرسالة أي حالة مقصور على الرسالة لا يتخطاها إلى البقاء والدوام { قد خلت من قبله الرسل } فسيخلو كما خلوا . وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فكونوا أنتم كذلك لأن الغرض من إرسال الرسل التبليغ وإلزام الحجة لا وجودهم بين أممهم أبداً { أفان مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } الفاء لتسبيب الجملة الشرطية عن الجملة التي قبلها ، والهمزة لإنكار الجزاء لأنه في الحقيقة كأنه دخل عليه . والمعنى : أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمداً أو قتل؟ وسبب الإنكار ما تقدم من الدليلين : أحدهما أن الحاجة الى الرسول هي التبليغ وبعد ذلك لا حاجة إليه ، فلا يلزم من قتله أو موته الإدبار عما كان هو عليه من الدين وما يلزم كالجهاد . وثانيهما القياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم ، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك الدين . والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لم يرجعوا عن دينه وإنما ذكر القتل . وقد علم أنه لا يقتل لكونه مجوّزاً عند المخاطبين . وقوله : { والله يعصمك من الناس } [ المائدة : 67 ] لو سلم أنه متقدم في النزول فإنه مما كان يختص بمعرفته العلماء منهم على أنه ليس نصاً في العصمة عن القتل ، بل يحتمل العصمة من فتنة الناس وإضلالهم . وقوله : { إنك ميت } [ الزمر : 30 ] يراد به المفارقة إلى الآخرة بأي طريق كان بدليل { وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] وكثير منهم قد قتلوا . ويمكن أن يقال : صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق جزأيها لصدق قولنا إن كانت الخمسة زوجاً فهي تنقسم بمتساويين مع كذب جزأيها . ومعنى « أو » هو الترديد والتشكيك أي سواء فرض وقوع الموت أو القتل فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الإدبار أو الارتداد { ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً } بل لا يضر إلا نفسه ، وهذا كما يقول الوالد لولده عند العتاب إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض . يريد أنه يعود ضرره عليه .
وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين . ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والإنكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . روي أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين : ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان . وقال ناس من المنافقين : لو كان نبياً لما قتل ، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم . فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك : يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت . وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه . ثم قال : اللهم إني اعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل . وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصاري يتشحط في دمه فقال : يا فلان ، اشعرت أن محمداً قد قتل؟ فقال : إن كان قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم . ففي أمثالهم قال تعالى : { وسيجزي الله الشاكرين } لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا من الصبر والثبات . ثم قال : { وما كان لنفس أن تموت } ووجه النظم أن المنافقين أرجفوا أن محمداً قتل فارجدعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان ، فأبطل قولهم بأن القتل مثل الموت في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر . وكما أنه لو مات في بلده لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا لو قتل . وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يغنى عن القدر ، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك . أو الغرض بيان حفظة وكلاءته لنبيه فإنه ما بقي في تلك الواقعة سبب من أسباب الهلاك والشر إلا وقد حصل إلا أنه تعالى لما كان حافظاً لنبيه ولم يقدّر في ذلك الوقت أجله لم يضره ذلك . وفيه تقريع لأصحابه أنهم قد قصروا في الذب عنه صلى الله عليه وسلم ، وجواب عما قاله المنافقون للصحابة لما رجعوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . قال الأخفش والزجاج : تقدر الكلام وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله . وقال ابن عباس : الإذن هو قضاء الله وقدره فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئة الله وأرادته ، فأورد الكلام على سبيل التمثيل كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا بإذن الله فيه ، وذلك أن إسناد الموت إلى النفس نسبة الفعل إلى القابل لا إلى الفاعل ، فأقيم القابل مقام الفاعل . وقال أبو مسلم : الإذن هو الأمر . والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر . وقيل : المراد التكوين والتخليق لأنه لا يقدر على خلق الموت والحياة أحد إلا الله .
وقيل : التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار . والمعنى ما كان لنفس أن تموت بالقتل إلا بأن يخلي الله بين القاتل والمقتول . وفيه أنه تعالى لا يخلي بين نبيه وبين أحد ليقتله صلى الله عليه وسلم ، ولكنه جعل من بين يديه صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصداً ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به فلا تهنوا في غزواتكم بعد ذلك بإرجاف مرجف . وقيل : الإذن العلم أي لن تموت نفس إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه . وفي الآية دليل على أن المقتول ميت بأجله ، وأن تغيير الآجال ممتنع ولذا أكد هذا المعنى بقوله : { كتاباً موجلاً } وهو مصدر مؤكد لنفسه لدلالة ما قبله عليه أي كتب الموت كتاباً مؤجلاً مؤقتاً له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر . وقيل : الكتاب المؤجل هو المشتمل على الآجال . وقيل : هو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع الحوادث من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة . قال القاضي : الأجل والرزق مضافان إلى الله تعالى ، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد . فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج فيه العبد من أن يكون مذموماً أو ممدوحاً . والحق أن هذا تعكيس للقضية فإن الله تعالى إذا علم من العبد الكفر استحال أن يأتي هو بالإيمان وإلا انقلب علم الله جهلاً ، وإذا كان هو غير قادر على الإيمان حينئذٍ فما معنى اختياره؟ ثم إنه كان في الذين حضروا يوم أحد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة كما أخبر الله تعالى في هذه السورة فقوله : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } أي من ثوابها تعريض بالفريق الدنيوي وهم الذين شغلتهم الغنائم ، وباقي الآية مدح للفريق الآخر الأخروي ، وإن فضله تعالى وعطيته شامل لكلا الفريقين ، لكن ثواب الفريق الثاني هو المعتد به في الحقيقة ولهذا ختم الكلام بقوله : { وسنجزي الشاكرين } فأبهم الجزاء وأضافه إلى نفسه تنبيهاً على جزاء الذين شكروا نعمة الإسلام فلم يشغلهم عن الجهاد شيء لا يكتنه كنهه وتقصر عنه العبارة ، وأنه كما يليق بعميم فضله وجسيم طوله . وهذه الآية وإن وردت في الجهاد لكنها عامة في جميع الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم : « إنما الأعمال بالنيات » وذلك لأن المؤثر في جانب الثواب والعقاب القصود والدواعي . فمن وضع الجبهة على الأرض والوقت ظهر والشمس أمامه ، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان من الإيمان ، وإن قصد تعظيم الشمس كان من الكفر .
{ وكأين } الأكثرون على أنها في الأصل مركبة من كاف التشبيه و « أي » التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة . كما أن « كذا » مركبة من « الكاف » و « ذا » المقصود به الإشارة .
« فكأين » مثل « كذا » في كون المجرورين مبهمين عند السامع إلا أن في « ذا » إشارة في الأصل إلى ما في ذهن المتكلم بخلاف « أي » فإنه للعدد المبهم ومميزها منصوب ومفرد على الأصل . والأكثر إدخال « من » في مميز « كأين » وبه ورد القرآن والتمييز بعد « كذا » و « كأين » في الأصل عن الكاف لا عن « ذا » و « أي » كما في « مثلك رجلاً » لأنك تبين في كذا رجلاً وكأين رجلاً أن مثل العدد المبهم في أي جنس هو ولم تبين العدد المبهم . فأي في الأصل كان معرباً لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى « كم » الخبرية فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في « من » لا تنوين تمكن فلهذا يكتب بعد الياء نون ، مع أن التنوين لا صورة له خطاً ولأجل التركيب تصرف فيه فقيل : كائن مثل كاعن . وربما ظن بعضهم أنه اسم فاعل من كان ، ولكنه بني لكثرة الاستعمال وهاتان اللغتان فيه مشهورتان ولهذا قرىء بهما . وفيه لغات آخر غير مشهورة تركنا ذكرها لأنه لم يقرأ بها ولعلك تجدها في كتبنا الأدبية ، ومحل { كأين } ههنا رفع على الابتداء ، وقوله { قتل } أو { قاتل } خبره والضمير يعود إلأى لفظ { كأين } فإنه مفرد اللفظ . وإن كان مجموع المعنى . والربيون معناه الألوف أو الجماعات الكثيرة . الواحد ربى عن الفراء والزجاج . قال ابن قتيبة : أصله من الربة الجماعة ، فحذفت الهاء في النسبة ، ويقال : ترببوا أي تجمعوا . وقال ابن زيد : الربانيون الأئمة والولاة ، والربيون الرعية . والكسر فيه من تغييرات النسب كالضم في دهري ، والقياس الفتح ، ثم من قرأ { قتل } فمعنى الآية إن كثيراً من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعده ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوّهم ونصرة دينهم وكان ينبغي أن يكون لكم فيهم أسوة حسنة . فيكون المقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنيباء لتقتدي هذه الأمم بهم . ومن قرأ { قاتل } فالمعنى : وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوّهم قروح فما وهنوا . فعلى هذا يكون الغرض من الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال . وربما تؤيد هذه القراءة بما روي عن سعيد بن جبير أنه قال : ما سمعنا بنبي قتل في القتال ، ويحتمل أن تنزل القراءة الأولى على هذه الرواية أيضاً بأن يقال : المعنى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير ، فما ضعف الباقون وما استكانوا لقتل من قتل من إخوانهم ، بل مضوا على جهاد عدّوهم .
ثم إنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بصفات وذلك قوله { فما وهنوا } إلخ ولا بد من تغايرها فقيل { فما وهنوا } عند قتل النبي { وما ضعفوا } عن الجهاد بعده { وما استكانوا } للعدو أي لم يخضعوا له ، وفيه تعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عن الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبضعفهم عند ذلك عن جهاد الكفار واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان . وقيل : الوهن استيلاء الخوف عليهم ، والضعف ضعف الإيمان واختلاج الشبهات في صدورهم ، والاستكانة الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم . وقيل : الوهن ضعف يلحق القلب ، والضعف مطلقاً اختلال القوة الجسمية ، والاستكانة إظهار ذلك العجز والضعف . واستكان قيل « افتعل » من السكون كأنه سكن لصاحبه ليفعل به ما يريد . وعلى هذا فالمد شاذ كقولهم « هو منه بمنتزاح » أي ببعد يراد بمنتزح . والأصح أنه استفعل من « كان » والمد قياسي كأن صاحبه تغير من كون إلى كون أي من حال إلى حال . { والله يحب الصابرين } بأن يريد إكرامهم والحكم بالثواب والجنة لهم . ثم أخبر أنهم كانا مستعينين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع وطلب الإمداد والنصر من الله ، والغرض أن تقتدي هذه الأمة بهم . فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه وعدده وعدده ذل ، ومن اعتصم بالله والتجأ إلأيه فاز بالظفر . وفي إضافتهم الذنوب والإسراف إلى أنفسهم وهم ربانيون هضم للنفس واستصغار لها . قال المحققون : إنما قدموا الاستغفار لعلمهم بأنه تعالى ضمن نصر المؤمنين ، فإذا لم يحصل النصرة وظهرت أمارات واستيلاء الأعداء دل ذلك على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين ، فيلزم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة أقرب إلى الاستجابة . إنهم عمموا الذنوب أوَّلاً الصغائر والكبائر بقولهم : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } ثم خصصوا الذنوب الكبائر بقولهم { وإسرافنا في أمرنا } لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه . والمراد بتثبيت الأقدام وإزالة الخوف عن قلوبهم وإماطة الخواطر الفاسدة عن صدورهم . والمراد بالنصر الأمور الزائدة على القوة والعدة والشدة كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء ، وكإحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم كهبوب ريح تثير الغبار في وجوههم ، وإجراء سيل في مواضع وقوفهم . وفي الآية تأديب وإراشاد من الله تعالى في كيفية الطلب عند النوائب جهاداً كان أو غيره { فآتاهم الله ثواب الدنيا } من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر وانشراح الصدر { وحسن ثواب الآخرة } وهو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وذلك غير حاصل في الحال . والمراد أنه حكم لهم بحصولها في الآخرة ، وحكم الله بالحصول كنفس الحصول . أو المراد أنه سيؤتيهم مثل أتى أمر الله أي سيأتي ، قال القاضي : ولا يمتنع أن تكون الآية مختصة بالشهداء وأنهم في الجنة عند ربهم كما ماتوا أحياء ، وثواب الآخرة كله حسن ، فما ظنك بحسن ثوابها؟ وإنما لم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلتها وامتزاجها بالمضار وكدر صفوها بالانقطاع والزوال .
قال القفال : يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله : { وقولوا للناس حسناً } [ البقرة : 83 ] والغرض منه المبالغة كما يقال : فلان جود وعدل إذا كان غاية في الجود ونهاية في العدل . وههنا نكتة وهي أنه أدخل « من » التبعيضية في الآية المتقدمة في قوله : { نؤته منها } في الموضعين ، ولم يذكر في هذه الآية . لأن أولئك اشتغلوا بالثواب عن العبودية فلم ينالوا إلا البعض ، بخلاف هؤلاء فإنهم لم يذكروا أنفسهم إلا بالعيب والقصور ولم يسألوا ربهم إلا ما يوجب إعلاء كلمته ، فلا جرم فازوا بالكل . وفيه تنبيه على أن من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله . ثم قال { والله يحب المحسنين } والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه . وههنا سر وهو أنه تعالى وفقهم للطاعة ثم أثابهم عليها ثم مدحهم على ذلك فسماهم محسنين ، ليعلم العبد أن الكل بعنايته وفضله .
{ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا } عن السدي : المراد بالذين كفروا هو أبو سفيان وأصحابه فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم . والمعنى إن تستكينوا لهم وتستأمنوهم . وعن علي عليه السلام : هم المنافقون عبد الله بن أبيّ وأشياعه قالوا للمؤمنين عند الهزيمة : ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم . وعن الحسن : هم اليهود والنصارى يستغوونهم ويوقعون لهم الشبهة في الدين ولا سيما عند هذه الواقعة كانوا يقولون : لو كان نبياً حقاً لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوم له ويوم عليه . والأقرب أنه عام في جميع الكفار فإن خصوص السبب لا ينافي إرادة العموم ، فعلى المؤمنين أن لا يطيعوهم يف شيء ولا ينزلوا على حكمهم وعلى مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم وهو المراد بقوله : { يردوكم على أعقابكم } أي إلى الكفر بعد الإيمان { فتنقلبوا خاسرين } في الدنيا باستبدال ذلة الكفر بعزة الإسلام والانقياد للأعداء الذي هو اشق الأشياء لدى العقلاء ، وفي الآخر بالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد . { بل الله مولاكم } ناصركم وهو إضراب عما كانوا بصدده من طاعة الكفار . والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا خطأ وجهالة لأنهم عاجزون مثلكم متحيرون ، وبغير إذن الله لا ينفعون ولا يضرون . { وهو خير الناصرين } لو فرض أن لأحد سواه قدرة على النصر لأنه خبير بمواقع الحاجات ، قدير على إنجاز الطلبات ، ينصر في الدنيا والآخرة بلا شائبة علة من العلات ، ونصرة غيره لو فرض فإنه مخصوص بالدنيا وببعض الأمور وفي بعض الأوقات ولغرض من الإغراض الفاسدات ، كيف ولا ناصر بالحقيقة سواه .
التأويل : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } أن تلجوا علام الملكوت ولم تظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات ولا الصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق الشريعة وقانون الطريقة لتتحلى الأرواح بأنوار الحقيقة { ولقد كنتم } يا أرباب الصدق وأصحاب الطلب { تمنون } موت النفوس عن صفاتها تزكية لها { من قبل أن تلقوه } بالمجاهدات والرياضات في خلاف النفس وقهرها عند لقاء العدو في الجهاد الأصغر ظاهراً وفي الجهاد الأكبر باطناً { فقد } رأيتم هذه الأسباب التي كنتم تمنونها عياناً { وأنتم تنظرون } لا تفدون أرواحكم و لاتجاهدون حق الجهاد في الله بأرواحكم وأشباحكم { أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } فيه أن الإيمان التقليدي لا اعتبار له فينقلب المقلد عن إيمانه عند إعدام المقلد من الوالدين أو الاستاذ ، وكذا عند موت المقلد فيعجز عند سؤال الملكين في قولهما له من ربك؟ فيقول : هاه لا أدري . فيقولون : ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول : هاه لا أدري كنت أقول فيه ما قال الناس . فيقولان له : لا دريت ولا تليت . { وسيجزي الله } بالإيمان الحقيقي { الشاكرين } الذين شكروا نعمة الإيمان التقليدي بأداء حقوقه وهو الائتمان بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه { وما كان لنفس أن تموت } عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية وتتخلص عنها بطبعها إلا بتوفيق الله وجذبه وإشراق نوره كما أن ظلمة الليل لا تنتهي إلا بإشراق طلوع الشمس . ثم أثبت للعبد كسباً في طلب الهداية واستجلاب العناية بقوله : { ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها } وهذه رتبة الخواص أي من عمل شوقاً إلى الحق فقد رأى نعمة وجود المنعم ، فثوابه نقد في الدنيا لأنه حاضر لا غيبه له وهو معنى قولهم « الصوفي ابن الوقت » وفيه أنشد :
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائراً من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد .
ومن عمل شوقاً إلى الجنة فنظره على النعمة فثوابه في الآخرة { وسجيزي الشاكرين } أي كلا الفريقين على قدر شكرهما { وكأين من نبي قاتل } أعدى العدو الذي بين جنبيه و { معه ربيون } متخلقون بأخلاق الرب { فما وهنوا لما أصابهم } من تعب المجاهدات { وما ضعفوا } في طلب الحق { وما استكانوا } باحتمال الذلة والالتفات إلى غير الله . { إن تطيعوا الذين كفروا } أي النفوس الكافرة وصفاتها { يردّوكم } إلى أسفل سافلين بشريتكم وبهيمتكم .
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
{ القراآت } : { الرعب } بضمتين حيث كان : ابن عامر وعلي ويزيد وسهل ويعقوب . الباقون : يسكون العين - { ومأواهم } وبابه بغير همز : أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف . { ولقد صدقكم } وبابه بإدغام الدال في الصاد : حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وهشام وسهل { وتغشى } بتاء فوقانية وبالإمالة : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بياء الغيبة { كله } بالرفع : أبو عمرو وسهل ويعقوب . الباقون : بالنصب { يعملون بصير } بياء الغيبة : ابن كثير وعباس وعلي وخلف وحمزة . الباقون : بالخطاب { متم } و { متنا } بكسر الميم من مات يمات حيث كان : نافع وعلي وحمزة وخلف وافق حفصاً إلاههنا لجوار { قتلتم } الباقون : بضم الميم من مات يموت . { يجمعون } بياء الغيبة : حفص والمفضل وسائر القراء بتاء الخطاب .
الوقوف : { سلطاناً } ج لعطف المختلفتين { النار } ط { الظالمين } ه { بإذنه } ج لأن « حتى » تحتمل انتهاء الحس ، ووجه الابتداء أظهر لاقتران « إذا » مع حذف الجواب أي إذا فعلتم وفعلتم انقلب الأمر ويمنعكم نصره . والوقف على { تحبون } ظاهر في الوجهين . { الآخرة } ج لأن « ثم » لترتيب الإخبار وقيل لعطف { صرفكم } على الجواب المحذوف . { ليبتليكم } ج { عفا عنكم } ط { المؤمنين } ه { أصابكم } ط { تعملون } ه { طائفة منكم } ( لا ) لأن الواو للحال . { الجاهلية } ط { من شيء } ط { لله } ط { يبدو لك } ط { ههنا } ط { مضاجعهم } ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي لينفذ الحكم فيكم . { وليبتلي } { ما في قلوبكم } ط { الصدور } ه { الجمعان } ( لا ) لأن إنما خبر إن { كسبوا } ج لاحتمال الواو حالاً واستئنافاً { عنهم } ط { حليم } ه { وما قتلوا } ج لأن لام { يجعل } قد يتعلق بقوله : { وقالوا لإخوانهم } أو بمحذوف أي ذلك ليجعل { في قلوبهم } ط { ويميت } ط { بصير } ه { تجمعون } ه { تحشرون } ه { لنت لهم } ج لأن الواو للعطف و « لو » للشرط { من حولك } ص والوصل أولى ليعطف الأمر بالرحمة على النهي عن الغلظة تعريضاً { الأمر } ج لفاء التعقيب مع « إذا » الشرطية { على الله } ط { المتوكلين } ه { لكم } ج لابتداء شرط آخر مع الواو { من بعده } ط { المؤمنون } ه .
التفسير : إنه تعالى يذكر في هذه الآيات وجوهاً كثيرة في باب الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار . من جملتها الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفرة ، ولا شك أن هذا من معاظم أسباب الاستيلاء ، ثم إن هذا الوعد مخصوص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات . الأظهر الثاني كأنه قيل : إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أنا سنتلقي الرعب في قلوب الكفار بعد ذلك حتى يظهر هذا الدين على سائر الأديان ، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم
« نصرت بالرعب مسيرة شهر » وذهب كثير من المفسرين إلى أنه مختص بيوم أحد لوروده في مساق تلك القصة . قال السدي : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة ، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق . ثم إنهم ندموا وقالوا بئسما صنعنا . قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم . فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم حتى رجعوا عما هموا به ففي ذلك نزلت الآية . وقيل : إن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير سبب حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل من الخوف وقال : أين ابن أبي كبشة - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر وجرى بينهم من الكلمات ما جرى . والرعب الخوف الذي يملأ القلب فزعاً ومنه سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار . وإلقاء الرعب في قلوبهم لا يقتضي إلقاء جميع أنواعه فيها وإنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة فيها من بعض الوجوه . ولكن ظاهر قوله : { في قلوب الذين كفروا } يقتضي وقوع الرعب في قلوب جميع الكفرة وهكذا هو في الواقع لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه خوف المسلمين وهيبتهم . إما في الحرب وإما في المحاجة . وقيل : إنه مخصوص بأولئك الكفار . { بما أشركوا } أي بسبب إشراكهم بالله . وفيه وجه معقول وهو أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار كما قال : { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } [ النمل : 62 ] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار لأنه يقول : إذا كان هذا المعبود لا ينصرني فذاك الآخر ينصرني فلا يحصل له الإجابة . فيلزم الرعب والخوف هذا على تقدير أن معبوديهم يصح منهم الإجابة . كيف وإنهم لا يملكون نفعاً ولا ضراً؟ { ما لم ينزل به سلطاناً } الهة لم ينزل الله بإشراكها حجة . والتركيب يدل على القدرة والشدة والحدة ومنه يقال للوالي سلطان ، ومنه سلاطة اللسان ، والسليط الزيت كأنه استخراج بالقهر . قال الجوهري : السلطان بمعنى الحجة والبرهان لا يجمع لأن مجراه مجرى المصدر . وليس المراد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل لأن الشرك لن يقوم عليه حجة ، ولكن المراد نفي الحجة ونزولها جميعاً كقوله :
ولا ترى الضب بها ينجحر ... قال المتكلمون : التقليد باطل لأن كل ما لا دليل عليه لم يجز إثباته . ومنهم من يبالغ فيقول : ما لا دليل عليه فيجب نفيه . ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال لا سبيل إلى إثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات إليه . ويكفي في رفع هذه الحاجة إثبات الصانع الواحد فما زاد لا سبيل إلى إثباته فلم يجز إثباته . أقول : هذا إذا استدللنا بعدم الدليل على وجود الشريك على نفيه ، أما إذا استدللنا بوجود الدليل على نفيه فلا شريك لأجل الدليل ، ولا دليل على الاشتراك لوجود الدليل على نفي الشريك .
ولما ذكر حال الكفرة في الدنيا وهو استيلاء الرعب عليهم أتبعه حالهم في الآخرة فقال : { ومأواهم } أي والمكان الذي يأوون إليه { النار وبئس مثوى الظالمين } مقام المشركين من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام به ثم أكد وعد إلقاء الرعب بقوله : { ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم } تستأصلونهم قتلاً . قال أصحاب الاشتقاق : حَسَّه أي قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال : بطنه إذا أصاب بطنه ، ورأسه إذا أصاب رأسه . { بإذنه } بعلمه . وقيل : المراد بهذا الوعد أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشاً فصدق الله رؤياه بقتل طلحة صاحب لواء المشركين يوم أحد ، وقتل تسعة نفر بعده على اللواء . وقيل : هو ما ذكره من قوله { إن تصروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم } [ آل عمران : 125 ] إلا أن هذا كان مشروطاً بشرط هو الصبر والتقوى . وقيل : المراد هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة : لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين مادمتم فيه . فلما أقبل المشركون جعل الرماة : يرشقون خليهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم . وقيل : لما رجعوا إلى المدينة قال ناس من المؤمنين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم } قال بعض العلماء : هذا ليس بشرط فلهذا لم يقتض الجواب . والمعنى قد نصركم الله إلى حين كان منكم الفشل لأن وعدهم بالنصر كان مشروطاً بالصبر . وقال آخرون : إنه للمجازاة . ثم اختلفوا في الجزاء على وجوه : أحدها قال البصريون : إنه محذوف كما مر في الوقوف وذلك لدلالة سياق الكلام عليه . وثانيها قال الكوفيون : جوابه وعصيتم ، والواو زائدة . والمراد بالعصيان خروجهم من ذلك المكان فإن الفشل والتنازع أخرجهم من المكان الذي وقفهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم وثالثها قال أبو مسلم : جوابه ثم صرفكم . و « ثم » ههنا كالساقطة . وقيل : جوابه ما يدل عليه قوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } والتقدير : حتى إذا فشلتم صرتم فريقين . والمراد بالفشل الجبن والخور ، وبالتنازع أن الرماة لما هزم المشركون ونساؤهم يصعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخلهن قالوا : الغنيمة . فقال عبد الله بن جبير أمير الرماة : عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نبرح هذا المكان . فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة ، وبقي عبد الله مع طائفة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون . وقوله : { في الأمر } إما أن يكون بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن ، أو بمعنى الأمر الذي يضاد النهي أي تنازعتم فيما أمركم الرسول به وعصيتم بترك ملازمة ذلك المكان .
وإنما قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية كأنهم فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعاً في الغنيمة ، ثم تنازعوا من طريق القول في أنا هل نذهب في طلب الغنيمة أم لا ، ثم اشتغل بعضهم بطلب الغنيمة وإنما ورد الخطاب عاماً وإن كانت المعصية بمفارقة ذلك الموضع خاصة بالبعض اعتماداً على المخصص بعده وهو قوله { ومنك من يريد الآخرة } وفائدة قوله : { من بعد ما أراكم ما تحبون } التنبيه على عظم شأن المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم . قوله : { ثم صرفكم عنهم } قالت الأشاعرة : معنى هذا الصرف أنه تعالى رد المسلمين عن الكفار وحالت الريح دبوراً وكانت صباًَ حتى وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل منهم من قتل واستولى الكفرة . ولا يتوجه عليهم إشكال أن من مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه . وأما المعتزلة فلم يرضوا بهذا التفسير وقالوا : كيف يضيف الصرف بهذا المعنى إلى نفسه والصرف عن الكفار معصية وقد أضافها إلى الشيطان في قوله { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } وأيضاً إنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف ، ولو كان بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز المعاتبة على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم؟ فعند ذلك ذكروا في تأويل الآية وجوهاً . قال الجبائي : إن الرماة كانوا فريقين : بعضهم فارقوا المكان أوّلاً لطلب الغنائم ، وبعضهم بقوا هناك إلى أن أحاط بهم العدو ، وعلموا أنهم لو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلاً ، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو . ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه فتحصنوا به ، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافة الله إلى نفسه بمعنى أنه كان يأمره وبإذانه . ثم قال { ليبتليكم } والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين . ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقاربهم وأحبائهم ، من أعظم أنواع الابتلاء ، فإذن الآية مشتلمة على المعذورين ، في الانصراف وعلى غير المعذورين . فقوله : { ثم صرفكم عنهم } يرجع إلى المعذورين ، وقوله { ولقد عفا عنكم } يرجع إلى غير المعذورين . وسبب العفو ما علم من ندمهم على ما فرط منهم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الكعبي : { ثم صرفكم عنهم } بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم { ليبتليكم } بكثرة الأنعام عليكم والتخفيف عنكم . وقال أبو مسلم الأصفهاني : المعنى من الصرف نه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة لهم على عصيانهم وفشلهم ، ومعنى الابتلاء أنه جعل ذلك الصرف محنة عليهم ليتوبوا عما خالفوا فيه أمره ، ثم أعلمهم أنه قد عفا عنهم .
قال القاضي : ظاهر قوله : { ولقد عفا عنكم } يقتضي تقدم ذنب منهم . فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة ، وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو . وقالت الأشاعرة : لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول ، وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام عسكر الإسلام ولقتل جم غفير من الصحابة . ثم إن ظاهر الآية دل على أنه تعالى قد عفا عنهم من غير توبة لأنها غير مذكورة فصارت الآية دليلاً على أنه قد يعفو عن أصحاب الكبائر . { والله ذو فضل على المؤمنين } يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال ، سواء كانت الدولة لهم أو عليهم ، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة وقد يستدل بالآية على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنه سماهم مؤمنين خلاف ما يقوله المعتزلة من أنه لا مؤمن ولا كافر .
قوله سبحانه : { إذ تصعدون } إما مستأنف بإضمار « واذكر » وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون ، لأن ما صدر عنهم من فارقة ذلك الماكن والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه . أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون ، أو ثم صرفكم حين إصعادكم ، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها . قال أبو معاذ النحوي : كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى اعلاه ، وأما ما ارتفع كالسلم واحبل فإنه يقال صعد { ولا تلوون على أحد } لا تلتفتون إليه ، وأصله أن المعرّج على لاشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته . { والرسول يدعوكم } كان يقول : إليّ عباد الله ، أنا رسول الله من كَرَّ فله الجنة . فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا ، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو . { في أخراكم } في ساقتكم وجماعتكم الأخرى ، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه صلى الله عليه وسلم وبقي هو في الجماعة المتأخرة . يقال : جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى . { فأثابكم } قال في الكشاف : إنه عطف على صرفكم . وأقول : لا يبعد أن يعطف على { تصعدون } لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال : ثاب إليه أي رجع . والمرأة تسمى ثيباً لأن واطئها عائداً إليها . فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيراً كان أو شراً إلا أن العرف خصه بالخير .
فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل ، وإن حملناه على مقتضى العرف كان وارداً على سبيل التهكم كقولهم : عتابك السيف وتحيتك الضرب . أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الصل التعطية ومنه الغمام ، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور . والباء في { بغم } يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو : بعت هذا بذاك ، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة . أما الاحتمال الأول ففيه وجوه : قال الزجاج : إنكم لما أذقتم الرسول غماً بسبب عصيان أمره ، أذاقكم الله غم الانهزام . وقيل : المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم . وقال الحسن : يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين . وفي الكشاف : يجوز أن يكون الضمير في { فأثابكم } للرسول أي فآساكم في الاغتنام . فكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته وشج وجهه وقتل عمه وغيره ، غمه ما نزل بكم من قتل الأعزة ومن الانضمام في سلك العصاة لطلب الغنيمة ثم الحرمان عنها . وأما الاحتمال الثاني ففيه وجهان : أحدهما أن يكون هناك غمان : الأوّل ما أصابهم عند الفشل والتنازع ، والثاني ما حصل عند الهزيمة . أو الأول غم فوت الغنائم ، والثاني أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعاً عظيماً . أو الأول هذا والثاني خوفهم من رجوع المشركين واستئصال المسلمين . أو الأول ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم ، والثاني غم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم . أو الأول خوف عقاب المعصية ، والثاني غم التوبة فإنها لا تتم إلا بالعود إلى المحاربة ، وإذا أمر بالمعاودة يعد القلة والذلة فإن فعل غلب على ظنه القتل ، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقوبة الآخرة . وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها ، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها . ثم اللام في قوله : { لكيلا تحزنوا } يحتمل أن يتعلق بقوله : { ولقد عفا عنكم } لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن ، وإما أن يتعلق بقوله : { فأثابكم } فيكون المعنى على قول الزجاج : إنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار ، وليصير ذلك زاجراً لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله . وعلى قول الحسن : جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها ، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائده . قالت الأشاعرة : معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء . وأما المعتزلة فإنهم يقولون : الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعاً يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون .
وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح ، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية ، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله ، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال . وإن جعل الإثابة مسنداً إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ . وإن جعلت الباء بمعنى « مع » فالمعنى كما في قول الزجاج : أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة ، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك ، فيصير هذا مانعاً لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى . ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال : { والله خبير بما تعملون } عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك . ثم أخبر أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان : أحدهما الجازمون بحقية هذا الدين وأن هذه الواقعة لا تؤدي إلى الاستئصال لإخبار الصادق أن هذا الدين سيظهر على سائر لأديان ، فخاطب الجماعة بقوله : { ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً } وأراد هؤلاء بقوله : { يغشى طائفة منكم } والأمنة مصدر كالأمن ومثله من المصادر العظمة والغلبة . والنعاس فتور في أوائل النوم . وانتصاب { أمنة } على أنها حال متقدمة من { نعاساً } مثل : رأيت راكباً رجلاً ، أو مفعول له بمعنى نعستم أمنة ، أو على أنه حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة ، أو على أنه جمع آمن كبارّ وبررة ، أو على أنه مفعول { أنزل } و { نعاساً } بدل منه . قال أبو طلحة : غشانا النعاس ونحن في مصافنا ، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وما أحد إلاّ ويميل تحت حجفته . وعن الزبير : كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم . والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول : { ولو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } وعن ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة ، والنعاس في الصلاة من الشيطان . وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا ، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله . وكان في ذلك النعاس فوائد منها : أن شموله للمؤمنين كلهم لا في الوقت المعتاد معجزة ظاهره جديدة له صلى الله عليه وسلم موجبة لزيادة وثوقهم بأن الله ينجز وعده وينصرهم ، فيزداد جدهم واجتهادهم في الجهاد . ومنها أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال ، والنعاس يجدد القوة والنشاط . ومنها شغلهم عن مشاهدة قتل الأعزة والأحبة .
ومنها أن الأعداء كانوا حراصاً متهالكين في قتلهم . فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدل الدلائل على أن حفظ الله ولكلاءته معهم . ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس ههنا كناية عن غاية الأمن وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة مع أن فيه إبطال الفوائد والحكم المذكورة . واعلم أن من قرأ { تغشى } بالتاء فللعود إلى الأمنة ويؤيده أن الأمنة مقصودة بالذات ، والنعاس مقصود بالعرض ، ولأنها متبوع وأنه تابع . ومن قرأ بالياء فللعود إلى النعاس ، وينصره كونه أقرب ، وكون المبدل منه في حكم النحي ، وموافقته لقوله في قصة بدر { إذ يغشيكم النعاس } [ الأنفال : 11 ] ولأن العرب تقول : غشية النعاس ، وقلما يقولون غشية الأمن ، ولأن النعاس والأمنة لما كانا شيئاً واحداً كان التذكر أولى . وأما الفريق الثاني فهم المنافقون الذين كانوا في شك من نبوته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم ، فأخبر عنهم بقوله : { وطائفة قد أهمتهم أنفسهم } ما بهم إلا هَمُّ أنفسهم لا همَّ الدين ولا همَّ النبي ولا المسلمين . والهمّ الأمر الشديد . ويقال : أهمه ذلك الأمر أي أقلقه وأحزنه . فالمعنى أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان منهم بسبب التشكك وعد الثبات . والتحقيق فيه أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلاً عما سواه ، فلما كان أحب الأشياء عندهم هو النفس ، وكانت أسباب لاخوف على النفس هناك موجودة والدافع لذلك وهو الوثوق بنصر الله ووعده غير حاصل لهم فلم يكن لهم هناك إلا هَمُّ أنفسهم . { يظنون بالله غير الحق } وهو في حكم المصدر أي غير الظن الحق الذي يحب أن يظن به . و { ظن الجاهلية } بدل منه . والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة ، وأرداها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولاً أنهم يظنون بالله ظناً باطلاً ، ثم بين أنهم اختاروا من الأديان أرذلها كما يقال : فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة . أو { ظن الجاهلية } مصدر و { غير الحق } تأكيد ل { يظنون } كقولك : هذا القول غير ما تقول . و { ظن الجاهلية } كقولك : حاتم الجود ورجل صدق . مما أضيق للملابسة أي الظن المختص بالملة الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام . أو أريد ظن أهل الجاهلية وهم أهل الشرك الجاهلون بالله . فالجاهلية مصدر كالعالمية القادرية . قيل : إن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون الإله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات ، وينكرون النبوة والمعاد ، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقوّيهم وينصرهم . وقيل : الظن هو أنهم كانوا يقولون : لو كان محمد نبياً حقاً لم يسلط الله الكفار عليه ، وهذا ظن فاسد . أما عند أهل السنة فلأنه تعالى فاعل لما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه ، وإذا شرف المولى عبده بخلقة لم يجب أن يشرفه بأخرى .
وأما عند من يعتبر المصالح في أفعاله وأحكامه فلا يبعد أن يكون في التخلية بين الكافر والمسلم وغير ذلك من المصائب حكم خفية . ولو كان كون المؤمن محقاً يوجب زوال المصائب عنه اضطر الناس إلى معرفة الحق ، وكان ينافي التكاليف واستحقاق الثواب والعقاب . وإنما يعرف كون الإنسان محقاً بالدلائل والبينات ، ولا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة والمال والجاه على حقية صاحبها والله أعلم . { يقولون هل لنا من الأمر من شيء } حكاية شهة تمسك بها أهل النفاق فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار . وإنما يحتمل وجوها : أحدها هل لنا من التدبير من شيء يعنون رأي عبد الله بن أبي وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها . ونظيره ما حكى عنه { لو أطاعونا ما قتلوا } [ آل عمران : 168 ] وثانيها من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لأحد قالوا له الأمر ، وإذا كانت لعدوّه قالوا عليه الأمر . أي هل لنا من الأمر الذي كان يعدنا به محمد وهو النصر والقدرة شيء؟ وثالثها أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ والغرض منه تعيير المسلمين على التسديد في الجهاد ، فأمره الله تعالى أن يجيب عنها بقوله : { قل إن الأمر كله لله } والحوادث بأسرها مستندة إلى قضائه وقدره . فإذا كان قدر الخروج إلى الكفار واختصاص جمع من الصحابة بالشهادة فلا مفر من ذلك ، وإذا أراد إعلاء كلمة الإسلام وإظهار هذا الدين على الأديان وقع لا محالة . { يخفون في أنفسهم } في ضمائرهم أو فيما بينهم { ما لا يبدون لك } وذلك المخفي قولهم : { لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } أي لو كان هذا الدين حقاً لما سلط الله الكفار على من يذب عنه ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، فأمر الله تعالى نبيه أن يجيبهم بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم } وهي مصارعهم التي قتلوا فيها ، لأن ما كتب الله في اللوح لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم أن يقتلوا في المصارع المعلومة حتى يوجد ما علم الله وجوده . وقيل : معناه لو تخلفتم أيها المنافقون عن الجهاد ، لخرج المؤمنون الذين كتب الله عليهم قتال الكفار إلى مصارعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم ، على أن البروز إلى هذه المصارع لا يخلو عن الفوائد وذلك قوله : { وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم } خص الابتلاء بما في الصدور والتمحيص بما في القلوب إما لاختلاف العبارة ، وإما لأن الابتلاء محله القلب الذي في الصدر .
والتمحيص مورده الهيئات والعقائد التي في القلب . واعلم أن نسق هذه الآية أنيق ونظمه عجيب . أما نسقه فقوله : { وطائفة } مبتدأ و { أهمتهم } صفته و { يظنون } خبره . ويحتمل أن يكون خبره محذوفاً أي وثمة ، أو ومنهم طائفة أهمتهم ، و { يظنون } صفة أخرى ، أو حال بمعنى أهمتهم أنفسهم ظانين ، أو استئناف على وجه اليبان للجملة قبلها ، و { يقولون } بدل من { يظنون } أو بيان له . وإنما صح وقوع القول الذي مقوله إنشاء بدلاً من الإخبار بالظن لأن سؤالهم كان صادراً عن الظن و { يخفون } حال من { يقولون } و { قل إن الأمر كله لله } اعتراض بين الحال وذي الحال ، فمن قرأ { كله } بالرفع فلأنه مبتدأ و { لله } خبره ، والجملة خبر « إن » . ومن قرأ بالنصب فلكونه تأكيداً للأمر و { لله } خبر « إن » كما لو قلت : إن الإمر أجمع لله . وقوله : { يقولون } استئناف ، وقوله : و { وليبتلي } تقدم ذكره في الوقوف . وأما نظمه فإنه لما أخبر عن هذه الطائفة بأنهم يظنون ظن الجاهلية ، فسر ذلك الظن بأنهم يقولون هل لنا من الأمر من شيء ، لأن هذا القول لا يصدر إلا عمن كان ظاناً بل شاكاً في حقية هذا الدين وفي المبدأ والمعاد وفي القضاء والقدر ، فأزال ذلك الظن بقوله : { قل إن الأمر كله لله } بيده الإماتة والإحياء والفقر والإغناء والسراء والضراء . ثم لما كان سؤالهم ذلك مظنة أن يكون سؤال المؤمنين المسترشدين لا المعاندين المنكرين ، أراد أن يشكف عن حالهم ويبين مقالهم كيلا يغتربه المؤمنون فقال : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } أي ذلك القول إنما صدر عنهم في هذه الحالة ، فكان لسائل أن يسأل ما الذي يخفونه في أنفسهم؟ فقيل { يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا } وقد مر تفسيره . ويحتمل أن يراد : لو كان لنا رأي مطاع لم نخرج من المدينة فلم نقتل ههنا؟ فيكون كالطعن في قوله : { قل إن الأمر كله لله } قال في التفسير الكبير : هذا بعينه هو المناظرة الدائرة بين السني والمعتزلي . فذاك يقول : الطاعة والعصيان والكفر والإيمان من الله . وهذا يقول : الإنسان مختار مستقل إن شاء آمن وإن شاء كفر . فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذا الاعتقاد بأن ما قضى الله فهو كائن ، والحذر لايرد القدر ، والتدبير لا يبطل التقدير . وإن شئتم المصالح ففائدته الابتلاء وهو أن يتميز الموافق عن المنافق ما في المثل : لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وتطهير القلوب عن وساوس الشبهات وتبعات المعاصي والسيئات . ثم قال : { والله عليم بذات الصدور } صاحبتها وهي الأسرار والضمائر ليعلم أن ابتلاءه ليس لأنه لا يخفى عليه شيء ، وإنما ذلك لمحض الإلهية أو للاستصلاح .
قوله عز من قائل : { إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } يعني يوم أحد ، وذكر محمد بن إسحق أن ثلث الناس كانوا مجروحين ، وثلثهم انهزموا ، وثلثهم ثبتوا .
ومن المنهزمين من ورد المدينة وكان أولهم سعد بن عثمان أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل . ثم بعده رجال ودخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن : أعن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون؟ وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن : هاك المغزل أغزل . وقال بعض الرواة : إن المسلمين لم يعدوا الجبل . قال القفال : الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفراً قليلاً تولوا وأبعدوا ، فمنهم يبعد ، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم . ومنهم أيضاً عثمان انهزم هو مع رجلين من الأنصار - يقال لهما سعد وعقبة - انهزموا حتى بلغوا موضعاً بعيداً ، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : لقد ذهبتم فيها عريضة . وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلاً . سبعة من المهاجرين : أبو بكر ، وعلي وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، وأبو عبيدة بن الجراح ، والزبير بن العوّام . وسبعة من الأنصار : الحباب بن المنذر ، وأبو دجانة ، وعاصم بن ثابت ، والحرث بن الصمة ، وسهل بن حنيف ، وأسيد بن حضير ، وسعد بن معاذ . وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت ثلاثة من المهاجرين : علي وطلحة والزبير . وخمسة من الأنصار : أبو دجانة ، والحرث بن الصمة ، وحباب بن المنذر ، وعاصم بن ثابت ، وسهل بن حنيف . ثم لم يقتل منهم أحد وروى ابن عيينة أنه أصيب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول : وجهي لوجهك الفداء وعليك السلام غير مودع { إنما استزلهم الشيطان } تقول : زللت يا فلان تزل زليلاً إذا زل في طين أو منطق . والاسم الزلة ، واستزله غيره كأنه طلب منه الزلة ودعاه إليها . والباء في { ببعض ما كسبوا } للاستعانة مثلها في : كتبت بالقلم . والمعنى أنه كان قد صدر عنهم جنايات ، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم في التولي . وعلى هذا التقدير ففيه وجوه : قال الزجاج : إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة افرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا ، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوباً كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلى على حال يرضونها وإلا بعد الإخلاص في التوبة . فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطيئن فيه وقيل : إنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة المركز ، أوقعهم الشيطان بشؤم تلك المعصية في الهزيمة . وقيل : كانت لهم ذنوب قد تقدمت ، فبشؤمها قدر الشيطان على دعائهم إلى التولي لأن الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفاً فيها .
وإنما قال : { ببعض ما كسبوا } لأن الكسب قد يكون خيراً كقوله : { لها ما كسبت } [ البقرة : 134 ، 141 ، 286 ] أو لأن جميع الذنوب لا يؤاخذ بها الله تعالى كقوله : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير } [ الشورى : 30 ] وقال الحسن : استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة . ويحتمل أن تكون الباء بمعنى « في » أي السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان في بعض الأعمال . إما قبل هذه الغزوة وإما فيها كالفشل والتنازع والتحول عن المركز وطلب الغنيمة ، فاقترفوا ذنوباً فلذلك منعتهم التأييذ وتقوية القلوب حتى تولوا . وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل المسند إلى استزلال الشيطان فيه هو التولي ، وإنما يكون أعمالاً أخر إما في هذه الغزوة أو قبلها . { ولقد عفا الله عنهم } فيه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم لأن العفو عن الكفر لا يجوز . بقي البحث في أنه أي ذنب هو؟ والظاهر أنه التولي لأن التوبيخ وقع عليه والآية سيقت لأجله . ثم إنه من الصغائر أو من الكبائر؟ قالت المعتزلة : كلاهما محتمل . لكنه إن كان من الصغائر فلا حاجة إلى إضمار التوبة ، وإن كان من الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم وإن كانت غير مذكورة في الآية . قال القاضي : الأقرب أنه من الصغائر لأنه لا يكاد يقال في الكبائر إنها زلة ، ولأنهم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق في ثباتهم حاجة ، فلا جرم تحولوا لطلب الغنيمة ، والخطأ في الاجتهاد ليس من الكبائر . قالت الأشاعرة : إنه من الكبائر لأنهم خالفوا النص . وحيث عفا عنه من غير ذكر التوبة - والأصل عدم الإضمار - غلب على الظن أن العفو عن الكبائر واقع من غير شرط .
ثم ندب إلى المؤمنين ما يزيد رغبتهم في الجهاد فقال : { يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا } قيل : إنه عام . وقيل : يعني المنافقين . وقيل : منافقي يوم أحد كعبد الله بن أبيّ وأصحابه . وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لم يسم المنافق كافراً { وقالوا لإخوانهم } أي لأجل إخوانهم مثل { وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه } [ الأحقاف : 11 ] وذلك أنهم قالوا : { لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } والميت والمقتول لا يكلم . وعلى تقدير فرض التكلم كان المناسب أن لو قيل : لو كنتم عندنا ما متم وما قتلتم . ومعنى الأخوة اشتراك النسب . فلعل المقتولين كانوا أقارب المنافقين وإن كانوا مسلمين . أو اتفاق الجنس فلعل بعض المنافقين صار مقتولاً في بعض الغزوات . والضرب في الأرض الإبعاد فيها للتجارة وغيرها . والغزو قصد محاربة العدو قريباً كان أو بعيداً . والفاعل غاز والجمع غُزَّىً مثل : سابق وسبق ، وراكع وركع ، وإنما قال : { إذا ضربوا } دون « إذ ضربوا » أو « حين ضربوا » ليشاكل في المعنى قوله : { وقالوا } لأنه أراد حكاية الحال الماضية .
والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض . فالكافرون يقولون : لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد أن يقول : « قالوا » ويجوز أن يكون { قالوا } في تقدير « يقولون » لكنه وقع التعبير عنه بلفظ الماضي لأنه لازم الحصول في المستقبل مثل { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] وفيه دلالة على أن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة قد بلغ الغاية ، فكأن هذا المستقبل كالكائن الواقع . ويمكن أن يقال : عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ليعلم أن المقصود الإخبار عن جدّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة . وقال قطرب : كلمة « إذ » و « إذا » يجوز إقامة كل منهما مقام الأخرى ، وهذا وإن لم يوجد له في كلام العرب نظير ، لكن القرآن أولى ما يستشهد به وهو حجة على غيره وليس غير حجة عليه ، قال الواحدي : في الكلام محذوف والتقدير : إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا . وأما اللام في قوله : { ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم } ففي متعلقه وجهان : الأول أنه { قالوا } أي قالوا ذلك الكلام واعتقدوه ليجعل الله ذلك الكلام حسرة فتكون لام العاقبة كقوله تعالى : { فلتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً } [ القصص : 8 ] وكيف استعقب ذلك القول حصول الحسرة؟ فيه وجوه : فقيل : لأن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام تخيلوا أنهم لو بالغوا في منعه عن ذلك السفر أو الغزو لم يمت أو لم يقتل فازدادت حسرتهم وتلهفهم بسبب أنهم قصروا في منعه ، بخلاف المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكونان إلا بتقدير الله فإنه لا يحصل له شيء من هذا النوع من الأسف . وقيل : لأنهم إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الجهاد ، فإذا نال المسلمون في الجهاد غنيمة بقي أولئك المتخلفون في الخيبة والندامة . وقيل : المراد حسرتهم يوم القيامة إذا رأوا ثواب المجاهدين . وقيل : المقصود خيبتهم عن ترويج شبهتهم بعد ما أعلم الله المؤمنين بطلانها . وقيل : الغرض أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات يقسي قلوبهم ويضيق صدورهم فيقعون لذلك في الحيرة والحسرة . الوجه الثاني : أن متعلق اللام قوله : { لا تكونوا } وذلك إشارة إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله ذلك الانتفاء انتفاء كونكم مثلهم حسرة ، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمهم ويغيظهم { والله يحيي ويميت } رد لجهالتهم وجواب عن مقالتهم أي الأمر بيده والخلق له . فقد يحيي المسافر والغازي ، ويميت المقيم والقاعد . فعلى المكلف أن يتلقى أوامره بالامتثال ، فالله أعلم بحقيقة الأحوال ولا يجري الأمور إلا على وفق إمضائه وأحكامه ونقضه وإبرامه وكل ميسر لما خلق له .
عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته : ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة وها أناذا أموت كما يموت الغير فلا نامت أعين الجبناء . وفي أمثالهم « الشجاع موقى والجبان ملقى » . وكان عليّ يقول : إن لم تقتلوا تموتوا والذين نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش ، ويجوز أن يكون المراد : والله يحيي قلوب أوليائه بنور اليقين والعرفان ، ويميت قلوب أعدائه بظلمة الشك والخذلان { والله بما تعملون بصير } فلا تكونوا مثلهم . ومن قرأ على الغيبة فالضمير للذين كفروا ويكون وعيداً لهم . ثم إنه لما كذب الكافرين في قولهم : { لإخوانهم لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا } ونهى المؤمنين عن كونهم مثلهم لأنه يسبب التقاعد عن الجهاد وينفر الطبع عنه رغبهم فيه بقوله : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة } شيء من مغفرته ورحمته { خير مما يجمعون } فاللام الأولى هي الموطئة ، والثانية لام جواب القسم المقدر ، وكذا في الآية الأخرى . والمعنى أن القتل والموت في السفر غير لازم الحصول لأن ذلك منوط بالقدر لا بالسفر . ولئن سلم أنه لازم فإنه يستعقب المغفرة ويستجلب الرحمة من الله . وإن ذلك خير مما تجمعون من الدنيا وما فيها لو لم تموتوا . وعن ابن عباس : خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء . ومن قرأ بالياء فالضمير للكفار لأن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيراً ، أو ورد على حسب معتقدهم أن أموالهم خيرات لهم . وإنما كانت المغفرة والرحمة خيراً من المال لأن المال الذي يجمع لأجل الغد قد يموت صاحبه قبل الغد ، وإن لم يمت فلعل المال لا يبقى في الغد ، فكم من أمير أصبح أسيراً . وعلى تقدير بقاء المال وبقاء صاحبه إلى الغد فلعل مانعاً من مرض أو خوف يمنعه عن الانتفاع به ، وبتقدير عدم المانع فلذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار ، وبتقدير صفائها عن الشوائب فلا بد لها من الزوال والانقطاع ، ومنافع الآخرة أصفة وأضفى وأبقى وأنقى ولا سيما منافعها العقلية ، وأي نسبة لانتفاع الحمار بلذة قبقبه؟ فذبذبه إلى ابتهاج الملائكة المقربين بشروق أنوار العزة عليهم ، ثم رغبهم بنوع آخر فقال : { ولئن متم أو قتلتم لإلى الله تحشرون } كأنه قيل : إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياماً قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم ، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية . وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل ، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله ، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل ، الثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا .
ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت ، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقاً ليعم أنواع القتل كلها . وفي قوله : { لإلى الله تحشرون } لطائف منها : تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر ، وأنهم لا يحشرون إلى غيره ، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له ، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر ، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد ، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد . ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيهاً على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة . ومنها بناء { تحشرون } على المفعول تعويلاَ على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدىء ويعيد ، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره . ومنها أنه أضاف حشرة إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتاً لا يخرجون عن قبضته . ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون . واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه . فالأول إشارة إلى من يعبده خوفاً من عقابه ، والثاني إشارة إلى من يعبد طمعاً في ثوابه والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة . فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه ، وما أحسن هذا النسق! يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم ، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال : ماذا تطلبون؟ فقالوا : نخشى عذاب الله . فقال : هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه . ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا : نطلب الجنة والرحمة . فقال : هو أكرم من أن يمنعكم رحمته . ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات العبودية أكثر فسألهم فقالوا : نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة . فقال : أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون . قال القاضي : في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله : { ولئن متم أو قتلتم } عطفاً للشيء على نفسه . قلت : لا ، ولكنه عطف الأخص على الأعم . ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك ان عفا عنهم ، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم . روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم - وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي يغسلان السلاح - فقالت : ما فعل عثمان؟ أما والله لا تجددونه أمام القوم .
فقال لها علي : ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه . وروي أنه قال حينئذٍ : أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا . ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال : لقد ذهبتم فيها عريضة . وعنه أنه قال : « إنما أنا لكم مثل الوالد لولده ، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها » وقال صلى الله عليه وسلم : « لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقة ، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقة » فلما كان صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلماً وأحسنهم خلقاً لأن الغرض من البعثة - وهو التزام التكاليف - لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه ، وسكنت نفوسهم لديه ، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة . وعن بعض الصحابة أنه قال : لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان . كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام ، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة ، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها ، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة .
واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب ، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية ، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر ، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب ، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات ، فلا ينازع أحداً في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها ، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها ، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق . ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق ، وجب أن يكون أكمل الناس خلقاً وذلك من فضل الله ورحمته على الناس كما قال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } و « ما » مزيدة للتوكيد . أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى . وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال : فبرحمة . وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلاً . وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير : فبأي رحمة . وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى . فلا رحمة بالحقيقة الإله . ولا رحيم إلا هو ، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمتته عوضاً كالخوف من العقاب ، أو الطمع في الثواب ، أو الثناء ، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الإعراض .
وأيضاً رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها . فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم . ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ماهي لفقال : { ولو كنت فظاً } سيء الخلق وأصله فظظ كحذر . فظظت يا رجل بالكسر فظاظة { غليظ القلب } قاسية بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف { لانفضوا من حولك } لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه « فض الختام » . ويقال : لا يفضض الله فاك أي أسنانك . ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال : { فبما رحمة من الله لنت لهم } يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام { ولو كنت فظاً غليظ القلب } تشافههم بالملامة على ذلك { لانفضوا من حولك } هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم . وههنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله : { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] وقال في إقامة حد الزنا : { ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر } [ النور : 2 ] ومثله { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } [ المائدة : 54 ] { أشداء على الكفار رحمخاء بينهم } [ الفتح : 29 ] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه ، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان ، ومنه المثل « لا تكن حلواً فتسترط ولا مراً فتعقى » . واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر . وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله ، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين . فكل ما فعله مع محمد صلى الله عليه وسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب . فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء . فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفاداً من رحمة الله ، وهذا خلاف نص الآية ، فإذان جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره . والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف ، واستبعده الأشاعرة لأن كل ما كان ممكناً من الألطاف فقد فعله في حق كل المكلفين ، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك بالحقيقة كسب نفسه ، ويجب عندهم إيصاله إلأيه فلا يكون برحمة من الله . ثم قال : { فاعف عنهم } فيما يختص بك { واستغفر لهم { فيما يختص بحق الله إتماماً للشفقة عليهم . قيل : في فاء التعقيب دلالة على أنه أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال كما أنه تعالى قد عفا عنهم كأنه قيل : اعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم ، واستغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم ، وهذا من كمال رحمة الله بهذه الأمة .
ثم قال : { وشاورهم في الأمر } والمشاورة مأخوذة من قولهم : شرت العسل أي اجتنيتها واستخرجتها من موضعها . وقيل : من شرت الدابة شوراً عرضتها على البيع ، أقبلت بها وأدبرت . والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشواراً . يقال : إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار . وتركيبه يدل على الإظهار والكشف ، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء . وقد ذكر العلماء لأمر قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم ، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة ، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم . ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا . ومنها قال الحسن وسفيان بن عبيينة : قد علم الله أنه ما به إلأيهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده ، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة . ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم . ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم » وهذا هو السر في الجماعات والجمعات . ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالاً مما كانوا ، وأن عفوه أعظم من كل ذنب ، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة . ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه ، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل : إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء : إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ { الأمر } ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق ، فهو إذن لمعهود سابق وليس ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد . وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه ، وأشار عليه السعدان - سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة .
ومنهم من قال : اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فيبقى حجة في الباقي ، وكيف لا وإنه كان مأموراً بالاجتهاد فيما لم ينزل فيه وحي لعموم { فاعتبروا يا أولي الأبصار } [ الحشر : 2 ] والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين ، وقد عد المشاورة من جملة ما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالوجوب عليه لأن ظاهر الأمر للوجبوب . وقد يروى عن الشافعي أنه حمله على الندب قال : وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : « البكر تستأمر في نفسها » ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييباً لنفسها فكذا ههنا . { فإذا عزمت } أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى { فتوكل على الله } لأن الاعتماد في جميع الأمور عليه لا على الفكر والتدبير والرأي الحسن . عن جابر بن زيد أنه قرأ { فإذا عزمت } بالضم إذا أرشدتك إلى شيء وألزمته إياك فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحداً . { إن ينصركم الله } عن ابن عباس : إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد { وإن يخذلكم } كما خذلكم يوم أحد { فمن ذا الذي ينصركم من بعده } أي من بعد خذلالنه لدلالة الفعل عليه ، أو هو من قولك « ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان » تريد إذا جاوزته . وقيل : إن ينصركم بجذبات العناية فلا غالب لكم من الصفات البشرية ، وإن يخذلكم بترك الجذبات فمن ينصركم بعده من الأنبياء والأولياء؟ فإنه القادر على الإخراج عن هذا الوجود كما أنه هو القادر على الأدخال فيه . { وعلى الله } وليخص المؤمنون إياه بالتوكل لما علم أن الأمر كله له ولا رادّ لقضائه ولا دافع لبلائه ، ولأن الإيمان يوجب ذلك ويقتضيه . وليس المراد بالتوكل أن يهمل الإنسان حال نفسه بالكلية ويرفض الوسائط والأسباب كما يتصور الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافياً للأمر بالتوكل ، وإنما التوكل هو أن يراعي الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعوّل على عصمة الحق وتأييده وتوفيقه وتسديده .
التأويل : { ولقد صدقكم الله } أيها الطلاب { وعده } ألا من طلبني وحدني إذ تقتلون جنود لاصفات البشرية بأمره لا على وفق الطبع حتى إذا تركتم قتال النفس وخالفتم في أمر الطلب وعصيتم الدليل المربي { من بعد ما أراكم } الدليل بالتربية { ما تحبون } من دلالة الطريق ، وإنما عصيتم الدليل إذ دلكم على الله لأن منكم من كان همته زخارف الدنيا ، ومنكم من كان همته طلب نعيم الآخرة . قرئت هذه الآية عند الشبلي فصاح صيحة وقال : ما كان من أحد يقال له ومنكم من يريد الله ثم صرفكم عن جهاد النفس وقتل صفاتها باستيلائها عليكم ليمتحنكم بالستر بعد ما تجلى لكم أنوار المشاهدات ، وبالصحو بعد ما أسكركم بأقداح الواردات ، وبالفطام بعد ما أرضعكم بألبان الملاطفات { ولقد عفا عنكم } يعني بعد ابتلائكم عفا عن التفاتاتكم إلى الدنيا والآخرة بالعناية الأزلية { والله ذو فضل على المؤمنين } في الأزل إذ تصعدون في طريق الحق طالبين بعد ما كنتم هاربين ولا تلتفتون إلى أحد من الأمرين الدنيا والآخرة ، ورسول الوارد من الحق يدعوكم إليّ عبادي إليّ عبادي ، فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة غم طلب الحق لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من زخارف الدنيا ولا لما أصابكم من نعيم الآخرة { والله خبير بما تعملون } من ترك نعيم الدنيا والآخرة في طلب وجدانه فلا يخيب رجاءكم ويوفي جزاءكم .
ثم أخبر عن إنزال حقائق أصناف ألطافه على عباده في صور مختلفة . فأنزل الأمن في صورة النعاس على الصحابة ، وأخرج جواهر الوقائع السنية لأرباب القلوب والمكاشفات من معدن النعاس فإن أكثرها يقع بين النوم واليقظة . وطائفة من أرباب النفوس ومدعي الإسلام لا هم لهم إلا هم أنفسهم من استيفاء حظوظها واستيفاء لذاتها { ظن الجاهلية } وهو أن الأمور إلى الخلق لا إلى الله ولا بقضائه وقدره . هل لنا من أمر النصرة والظفر من شيء؟ { ما قتلنا ههنا } بالباطل على أيدي حزب الشيطان { وليبتلي الله ما في صدوركم } أنها المنافقون لأن الصدور معدن النفاق والغل ووسوسة الشيطان { ونزعنا ما في صدورهم من غل } [ الأعراف : 43 ] { يوسوس في صدور الناس } [ الناس : 5 ] { وليمحص ما في قلوبكم } أيها المؤمنون لأن القلوب محل الإيمان والاطمئنان { كتب في قلوبهم الإيمان } [ المجادلة : 22 ] { ألا بذكر الله تطمئن القلوب } [ الرعد : 28 ] ونسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب { إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } الشيطان خلق من نار فلهذا استخرج من معدن الإنسان حديد ما كسبوا من التولي ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم . { ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } ليعلم أن الله تعالى في كل شيء من الخير والشر أسراراً لا يعلمها إلا هو . ومن هنا قال : « لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم » إذا ضربوا في الأرض سافروا في البلاد مستفيدين من العباد ، أو سلكوا في أرض نفوسهم سبيل الرشاد ، أو كانوا غزى مجاهدين مع كفار النفس والهوى والشيطان . لو كان موافقين معنا ما ماتوا بمقاساة الرياضة ، وما قتلوا بسيف المجاهدة ، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوب الصديقين ، والله يحيي قلوب أهل المجاهدة بأنوار المشاهدة فلا يحسرون على ما يقاسون ، ويميت قلوب المنكرين بظلمة الإنكار وغلبة صفات النفس فيحسبون أنهم يحسنون . وباقي الحقائق قد مرت في التفسير . وقد سنح عند تحرير هذا الموضع أن قوله : { فبما رحمة من الله لنت لهم } يمكن أن يفهم منه الخطاب مع الروح الإنساني أنه لان برحمة الله لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية حتى يستوفي كل منها حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش ، ولولا ذلك لاضمحلت تلك الوقى وانفضت من الجوانب وتلاشت ، واختلت حكمة التمدن ، وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها . ثم الكلام في أن هذا اللين لا بد له من الغلظة حتى لا يتجاوز عن الوسط ولا يخرج عن قانون الشرع والعقل كما تقدم .
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
القراآت : { يغل } بفتح الياء وضم الغين : ابن كثير وأبو عمرو وعاصم غير المفضل ويعقوب غير رويس . الباقون : بالضم والفتح على البناء للمفعول . { ولا يحسبن } بياء الغيبة : الحلواني عن هشام . الباقون : بتاء الخطاب . { قتلوا } بالتشديد : ابن عامر . الباقون : بالتخفيف . { وإن الله } بالكسر على الابتداء : عليّ . الباقون : بالفتح . { وخافوني } بالياء في الحالين : سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل ، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل . الباقون بالحذف .
الوقوف : { إن يغل } ط لابتداء الشرط { يوم القيامة } ج لانتهاء جزاء الشرط مع العطف { لايظلمون } ه { جهنم } ط { المصير } ه { عند الله } ط { بما تعملون } ه { والحكمة } ج لمكان العطف { مبين } ه { مثليها } ( لا ) لأن استفهام الإنكار دخل على { قلتم } { هذا } ط { أنفسكم } ط { قدير } ه { وليعلم المؤمنين } ه لا { نافقوا } ج لاحتمال العطف والاستئناف والوصل أولى على تقدير وقد قيل لهم . { أو ادفعوا } ط { لاتبعناكم } ط { للإيمان } ج لاحتمال الحال والاستئناف . { في قلوبهم } ط { يكتمون } ج لاحتمال كون « الذين » بدلاً عن ضمير { يكتمون } أو خبر مبتدأ محذوف . { ما قتلوا } ط { صادقين } ه { أمواتاً } ط { عند ربهم } ص { يرزقون } ه لا لأن { فرحين } حالهم . { من فضله } ( لا ) للعطف . { من خلفهم } ( لا ) لتعلق « أن » . { يحزنون } ه م للآية واستئناف الفعل إذ يستحيل أن يكون الاستبشار حالاً للذين يحزنون . { وفضل } ( لا ) لأن التقدير وبأن ومن كسر وقف والجملة حينئذٍ اعتراضية . { المؤمنين } ه ج لأن « الذين » يصلح صفة اللمؤمنين ومبتدأ خبره للذين أحسنوا ، أو نصباً على المدح والأول أوجه لاتحاد الصفة . { القرح } ط لمن لم يقف على { المؤمنين } . { عظيم } ج لاحتمال البدل وكونه خبر مبتدأ محذوف . { إيماناً } ق والوصل أولى للعطف واتصال توكل اللسان بيقين القلب . { الوكيل } ه { سوء } لا للعطف { رضوان الله } ط { عظيم } ه { أولياءه } ص لوصل النهي عن الخوف بعد ذكر التخويف { مؤمنين } ه .
التفسير : هذا حكم من أحكام الجهاد . وأصل الغلول أخذ الشيء في خفية . يقال : أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الدلد شيئاً من اللحم ليسرقه . والغل الحقد الكامن في الصدر . والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الدرع والثياب ، والغلل الماء الذي يجري في أصول الشجر لأنه مستتر بالأشجار . وقال صلى الله عليه وسلم : « من بعثناه على عمل فغل شيئاً جاء يوم القيامة يحمله على عنقه » وقال أيضاً : « هدايا الولاة غلول » وقال الجوهري : غل يغل غلولاً أي خان . وأغل مثله إلا أن العرف جعله في الغالب مخصوصاً بالخيانة في الغنيمة حتى قال أبو عبيدة : الغلول في المغنم خاصة ، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر .
عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين » وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال : « لا ألْفَيَنَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له زعاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاة يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك . لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئاً قد أبلغتك » ومعنى الآية فيمن قرأ بفتح الياء وضم الغين : ما كان لنبي أن يخون أي ما صح وما ينبغي له ذلك لأن النبوة تنافي الغلول لأنها أعلى المراتب الإنسانية ، فلا يليق بصاحبها ما هو عار في الدنيا ونار في الآخرة ، كيف وإنه أمين على الوحي النازل عليه من فوق سبع سموات ، أفلا يكون أميناً في الأرض؟ هيهات . وقيل : اللام منقولة والتقدير : وما كان نبي ليغل كقوله { ما كان لله أن يتخذ من ولد } [ مريم : 35 ] أي ما كان الله ليتخذ ولداً . ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين ففيه وجهان : أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته . وفي تخصيصه بهذه الحرمة والخيانة محرمة على الإطلاق فوائد منها : أن المجني عليه كلما كان أجل منصباً كانت الخيانة في حقه أفحش . ومنها أنه لا يكاد يخفى عليه من قبل الوحي فكان مع عذاب الآخرة فضيحة لادنيا . ومنها أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر ، فكانت تلك الخيانة وقتئذٍ أقبح . وثانيهما يخوّن أي ينسب إلى الخيانة فيكون من الإغلال . قال المبرد : تقول العرب : أكفرت الرجل جعلته كافراً أو نسبته إلى الكفرة . قال القتيبي : لو كان هذا هو المراد لقيل « يغلل » كما يقال : « يفسق ويكفر » والأولى أن يقال : هو من أغللته أي وجدته غالاً كما يقال : أبخلته أي وجدته كذلك . ومن هنا قال في الكشاف : معناه راجع إلى القراءة الأولى إذ معناه ما صح له أن يوجد غلالاً ولا يوجد غالاً إلا إذا كان غالاً .
وكان ابن عباس ينكر على هذه القراءة ويقول : كيف لا ينسب إلى الخيانة وقد كان يقتل؟ وقال خصيف : قلت لسعيد بن جبير : ما كان لنبي أن يغل . فقال : بل يغل ويقتل . ولا يخفى أن الإنكار لا يتوجه إذا كان أغل بمعنى وجده غالاً ، وإنما يتوجه إذا كان الإغلال بمعنى النسبة إلى الخيانة كما روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها . وقد طعن بعضهم في هذه القراءة وقال : إن أكثر ما جاء من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل { ما كان لنا أن نشرك } [ يوسف : 38 ] { ما كان ليأخذ أخاه } [ يوسف : 76 ] { ما كان لنفس أن تموت } [ آل : عمران : 145 ] { ما كان الله ليضل قوماً } [ التوبة : 115 ] { وما كان الله ليطلعكم } [ آل عمران : 179 ] وحكى أبو عبيدة عن يونس أنه قال : ليس في الكلام « ما كان لك أن تضرب » بضم التاء . والحق أن القرآن حجة على غيره لا بالعكس . ويوافق هذه القراءة ما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده غله رجل بمخيط فنزلت . وعلى هذا يغل بمعنى يخان . وإن جعل يغل بمعنى يوجد غالاً فالقراءتان متعاضدتان ويوافقهما أسباب النزول ، أكثرها يروي أنه تأخرت قسمة الغنيمة في بعض الغزوات لمانع فجاءه قوم وقالوا : ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم : لو كان لكم مثل أحد ذهباً ما حبست منكم درهماً ، أترون أني أغلكم مغنمكم؟ فنزلت . وعن ابن عباس أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم بشيء زائد فنزلت . وقال الكلبي ومقاتل : « نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز طلباً للغنيمة وقالوا : يخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئاً فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر . فقال لهم صلى الله عليه وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا : تركنا بقية إخواننا وقوفاً فقال صلى الله عليه وسلم : بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم » . وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث طلائع فغنم بعدهم غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت مبالغة في النهي لرسوله يعني وما كان لنبي أن يعطي قوماً ويمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسوية . وسمى حرمان بعض الغزاة غلولاً تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر . وقيل : نزلت في أداء الوحي . كان يقرأ القرآن - وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم - فسألوه أن يترك ذلك فقيل : ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة منهم { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } أكثر المفسرين أجروه على ظاهره ونظيره في مانع الزكاة
{ يوم يحمى عليها في نار جهنم } [ التوبة : 35 ] ويدل عليه الحديث الذي رويناه وعن ابن عباس أنه قال : يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له : أنزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره فلا يقبل منه . وعن بعض جفاة الأعراب أنه سرق نافجة مسك فتليت عليه هذه الآية فقال : إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل . قلت : ذلك الشقي قاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية ، ولم يعلم أن ذلك المسك وقتئذٍ يكون أنتن من الجيفة وأثقل من الجبل وذلك ليذوق وبال أمره ويرى نقيض مقصوده . قال المحققون : والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادات فضيحته . ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : « لكل غادر لواء يوم القيامة » وقال أبو مسلم : هذا على سبيل التمثيل والتصوير لوباله وتبعته . والمراد أنه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية . وقيل : المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء ، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل ولا ضرورة . { ثم توفى كل نفس ما كسبت } إثبات للجزاء لكل كاسب على سبيل العموم ليعلم صاحب الغلول أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهذا أبلغ مما لو خص الغال بتوفية الجزاء فقيل : ثم يوفى ما كسب .
ثم فصل ما أجمل فقال : { أفمن اتبع } والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره « أمن اتقى فاتبع » قال الكلبي والضحاك : أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول { كمن باء بسخط من الله } رجع من بشدّة إرادة انتقام لأجل الغلول؟ وقال الزجاج : أفمن اتبع رضوان الله بامتثال امر النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى دفع المشركين يوم أحد ، كمن باء بسخط من الله وهم الذين لم يمتثلوا؟ وقيل : الأولون المهاجرون والآخرون المنافقون . وقيل : أفمن اتبع رضوان الله بالإيمان والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وهذا القول أقرب لتكون الآية مجراة على العموم وإن كان سبب النزول خاصاً . وقوله : { ومأواه جهنم } من تمام صلة من « باء » . وقوله : { وبئس المصير } اعتراض . قال القفال : لا يجوز في الحكمة أن يسوي بين المسيء والمحسن وإلا كان إغراء بالمعاصي وإباحة لهما وإهمالاً للطاعات وتنفيراً عنها . { هم درجات } قيل : أي لهم درجات . وحسن هذا الحذف لأن اختلاف أعمالهم كأنه قد صيرهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها . وقالت الحكماء : النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية يدل عليها اختلاف صفاتها بالإشراق والإظلام ، ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : « الناس معادن كمعادن الذهب والفضة » فهم في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات . وقيل : المراد ذوو درجات . ثم الضمير إلى أي شيء يعود؟ قيل : إلى من اتبع رضوان الله لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب ، والدركات في أهل العقاب .
ولأنه قد ذكر وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواه جهنم فيكون هذا وصفاً لمن اتبع الرضوان ويؤيده قوله : { عند الله } وهذا وإن كان معناه في علمه وحكمه كما يقال : « هذه المسألة عند الشافعي كذا » ولا يراد به عندية المكان لتنزهه تعالى عن ذلك إلا أنه يفيد في الجملة تشريفاً وأنه يليق بأهل الثواب . وقال الحسن : يعود إلى من باء بسخط لأنه أقرب لأنهم متفاوتون في العذاب . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن منها ضحضاحاً وغمراً » وقال : « إن أهون أهل النار عذاباً رجل يحذى له نعلان من نار يغلى من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل يعذب أحد عذابي » والأوجه أن يكون عائداً إلى الكل ، لأن درجات أهل الثواب متفاوتة ، وكذا دركات أهل العقاب حسب تفاوت أعمال الخلق . وقد تستعمل الدرجات في مراتب أهل النار كقوله : { ولكل درجات مما عملوا } [ الأنعام : 132 ] { والله بصير بما يعملون } فيجازيهم بمقدارها .
قوله عز من قائل : { لقد منّ الله على المؤمنين } في النظم وجوه منها : أن هذا الرسول نشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة ، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة؟ ومنها كأنه تعالى قال : لا أكتفي في وصفه بأن أنزهه عن الخيانة ولكني أقول : إن وجوده فيكم من أعظم نعمي عليكم . ومنها أنكم كنتم خاملين جاهلين وإنما حصل لكم الشرف والعلم بسبب هذا الرسول ، فالطعن فيه طعن فيكم . ومنها أن مثل هذا الرجل يجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ويكون معه باليد واللسان والسيف والسنان ، فيكون المقصود العود إلى ترغيب المسلمين في الجهاد . ومعنى المنّ ههنا الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه . والوجه في المنة إما أن يعود إلى أصل البعثة ، وإما أن يعود إلى بعثة هذا الرسول . فمن الأول أن الخلق مجبولون على النقصان والجهالة ، والنبي يورد عليهم وجوه دلائل الكمال ويزيح عللهم في كل حال . وأيضاً إنهم وإن شهدت فطرتهم بوجوب خدمة مولاهم لكن لا يعرفون كيفية تلك الخدمة إلى أن يشرحها النبي صلى الله عليه وسلم لهم . وأيضاً أنهم جبلوا على السكل والملل فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات فيزول فتورهم ويتجدد نشاطهم . وبالجملة فعقول البشر يمنزلة أنوار البصر ، وعقل النبي بمنزلة نور الشمس . فكما لا يتم الانتفاع بنور البصر إلا عند سطوع نور الشمس ، فكذلك لا يحصل الاهتداء بمجرد العقل ما لم ينضم إليه إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم . ومن الثاني أن هذا الرسول بعث { من أنفسهم } أي من جنسهم عربياً مثلهم ، أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده .
فعلى هذا يكون المراد بالمؤمنين من آمن مع الرسول من قومه . وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون به ، ووجه المنة أنه إذا كان اللسان واحداً سهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه ، وإذا كانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة كان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به . وفيه أيضاً شرف لهم وفخر كما قال : { وإنه لذكر لك ولقومك } [ الزخرف : 44 ] وذلك أن الافتخار بإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مشتركاً فيه بين اليهود والنصارى والعرب . ثم اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى وبالتوراة والإنجيل ، وما كان للعرب ما يقابل ذلك . فلما بعث الله محمداً وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائداً على شرف جميع الأمم . وقيل : { من أنفسهم } أي من جنس الإنس لا من الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل . ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة أنهما قرآ { من أنفسهم } بفتح الفاء أي أشرفهم ، وعلى هذا يكون المؤمنون عاماً . ويحتمل أن يراد بهم العرب ويصح لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل ، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان ، وخندف ذروة مضر ، ومدركة ذروة خندف ، وقريش ذروة مدركة ، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم . وأما سائر أوصافه من قوله : { يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة } فقد مر تفسيرها في البقرة عند قوله : { ربنا وابعث فيهم رسولاً } [ البقرة : 129 ] وإعراب قوله : { وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين } كما سلف في قوله : { وإن كانت لكبيرة } [ البقرة : 143 ] ومعنى المنة فيه أن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان موقعها أعظم . فبعثة هذا الرسول عقب الجهل والذهاب عن الدين تكون أعم نفعاً وأتم وقعاً . ثم لما أجاب عن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلول ، حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم لو كان رسولاً من عند الله ما انهزم عسكره وهو المراد بقوله : { أنى هذا } وأجاب عنها بقوله : { قل هو من عند انفسكم } والواو في قوله { أو لما أصابتكم } لعطف هذه الجملة الاستفهامية على ما قبلها من قصة أحد إلا أن حرف الاستفهام قدم على واو العطف لأن لا صدر الكلام و { لما } ظرف { قلتم } ومقول القول { أنى هذا } و { وأصابتكم } في محل الجر بإضافة { لما } إليه . والتقدير : أقلتم حين أصابتكم؟ ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على محذوف كأنه قيل : أفعلتم كذا ، وقلتم حينئذٍ من أين أصابنا هذا ، وكيف نصروا علينا ، ونحن على الحق ومعنا الرسول وهم على الباطل ولا نبي معهم؟ والمراد بالمصيبة واقعة أحد ، وبمثلها وقعة بدر . وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين ، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقيل : أراد نسبة الضعف في الهزيمة لا في عدد القتلى والأسرى .
فالمسلمون هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضاً في الأولى يوم أحد ، ثم لما عصوا الله هزمهم المشركون فانهزام المشركين حصل مرتين ، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة فخرج عن قوله : { قد أصبتم مثليها } جواب ضمني يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة ، فإذا أصبتم منهم مثلي ما نالوا منكم فما وجه الاستبعاد؟ لكنه صرح بجواب آخر فقال : { قل هو من عند أنفسكم } وفي تقريره وجهان : الأول أن هذه المصيبة بشؤم معصيتكم . وذلك أنهم عصوا الرسول في أمور في الخروج عن المدينة وكان رأيه في الإقامة ، ثم في الفشل وفي التنازع وفي مقارقة المركز وفي الاشتغال بطلب الغنيمة . الثاني ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال : يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى ، وأمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم . فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لقومه فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم . فقتل يوم أحد سبعون رجلاً بعدد أسارى بدر . فمعنى { هو من عند أنفسكم } هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل . وتمسك المعتزلة بالآية على أن للعبد اختياراً في الفعل والترك ، وأنه من عند نفسه . وعارضهم الأشاعرة بقوله : { إن الله على كل شيء قدير } فإن فعل العبد من جملة الأشياء فيكون الله قادراً عليه . فلو وجد بإيجاد العبد امتنع من الله أن يقدر عليه إذ لا قدرة على إيجاد الموجود والحق أن وجود الواسطة لا ينافي انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب ويؤيده قوله : { وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله } قال ابن عباس : أي وقع بقضائه وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين لأن الرضا بالقضاء لازم . وقيل : بتخليته لأن الإذن مخل بين المأذون له ومراده ، فاستعير الإذن للتخلية ، وإن اعتبرتم المصالح فذاك قد وقع { ليعلم المؤمنين } أي ليتميزوا عن أهل النفاق . وإنما لم يقل « وليعلم المنافقين » ليناسب المؤمنين لفظاً لأن الغرض تصوير أنهم شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت وأحدثوها ، ولأنه عطف على الصلة . { وقيل لهم } قال الأصم : هذا القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يدعوهم إلى القتال . وقيل : هو بو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري ، لما انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس تبعهم وقال : أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم { تعالوا قاتلوا في سبيل الله } إن كان في قلبكم حب هذا الدين { أو ادفعوا } عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم يكن بكم هم الآخرة وطلب مرضاة الله أي كونوا من رجال الدين أو من رجال الدنيا .
وقال السدي وابن جريرج : ادفعوا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والرعب . ثم إنه كأن سائلاً سأل فما أجاب المنافقون عند دعاء المؤمنين إياهم إلى القتال؟ فقيل : { قالوا لو نعلم قتالاً لاتبعناكم } كأنهم جحدوا أن يكون بين الفريقين قتال ألبتة . أو المراد لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالاً لوافقناكم عليه ولكنكم تلقون بأيديكم إلى التهلكة ، وذلك أن رأي عبد الله كان في الإقامة وما كان يستصوب الخروج من المدينة ، وكلا المعنيين منهم في الجواب فاسد . أما الأول فلأن ظهور أمارات الحرب كافٍ في وجب القتال والدفع عن النفس والمال . والظن في أمور الدنيا قائم مقام العلم ، ولا أمارة أقوى من قرب الأعداء من المدينة عند جبل أحد . وأما الثاني فلأنه تعالى لما وعدهم بالنصر والغلبة إن صبروا واتقوا لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء النفس إلى التهليكة . ولركاكة جوابهم قال : { هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان } لأنهم تباعدوا بهذا الجواب المنبىء عن الدغل والنفاق عن الإيمان المظنون بهم قبل اليوم . والمراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان ، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخزال تقوية لجانب المشركين وعلى الأول قال أكثر العلماء : إنه تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار لأن القرب من الكفر حصول الكفر . قال الحسن : إذا قال الله أقرب فهو اليقين بأنهم مشركون كقوله : { مائة ألف أو يزيدون } [ الصافات : 147 ] فهذه الزيادة لا شك فيها . وقال الواحدي : فيه دليل على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم { يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم } أي لا يتجاوز الإيمان حناجرهم ومخارج الحروف منهم خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم ما نطقوا به من التوحيد { والله أعلم بما يكتمون } من بغض الإسلام والمسلمين وسائر مجاري أحوالهم فيما بينهم . وذلك أن المؤمنين قد علموا بعض ذلك بالقرائن والأمارات ، وهو تعالى عالم بتفاصيل ذلك { لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض } [ سبا : 3 ] .
{ الذين قالوا } منصوب على الذم أو على البدل من { الذين نافقوا } أو مرفوع على الذم أي هم الذين ، أو على البدل من ضمير { يكتمون } وقيل : يجوز أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في { أفواههم } أو { قلوبهم } { لإخوانهم } لأجل إخوانهم المقتولين يوم أحد إخوة في النسب أو في سكنى الدار أو في الجنسية في النفاق . والقائلون - عند جمهور المفسرين - عبد الله بن أبيّ وأصحابه . واعترض الأصم بأنه قد خرج يوم أحد فكيف وصف بالقعود في قوله : { وقعدوا } أي والحال أنهم قد قعدوا عن القتال . والجواب أن القعود عن القتال وهو الجبن عنه وتركه لا ينافي الخروج .
{ لو أطاعونا } في أمرنا إياهم بالقعود { ما قتلوا } كأنهم قعدوا وما اكتفوا بذلك بل أرادوا تثبيط غيرهم وذلك لما في الطباع من محبة الحياة وكراهة الموت . « ومن يسمع يخل » فلعل بعض ضعفة المسلمين إذا سمع ذلك رغب في القعود ونفر طبعه عن الجهاد فأجابهم الله تعالى بقوله : { قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين } في أن الحذر يغني عن القدر ، وأن سلامتكم كانت بسبب قيودكم لا بغيره من أسباب النجاة وفيه استهزاء بهم أي إن كنتم رجالاً دفاعين لأسباب الموت فادفعوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا . وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقاً . جميع ذلك بناء على أن القتل أمر مكروه يجب على العاقل أن يتحرز منه لو أمكنه ، لكنا لا نسلم ذلك وهو المراد بقوله : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا } والخطاب للرسول أو لكل أحد . ومن قرأ على الغيبة فالضمير للرسول . أو المراد لا يحسبن حاسب أو لا يحسبنهم أمواتاً . وضمير المفول للذين قتلوا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً . فحذف المفعول الأوّل لدلالة الكلام عليه ، فكأنه مذكرو كما حذف المبتدأ في قوله : { بل أحياء } أي هم أحياء للدلالة . عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهارالجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآية » وعن جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما لي أراك مهتماً؟ قلت : يا رسول الله قتل أبي وترك ديناً وعيالاً . « فقال : ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحاً . فقال : يا عبدي سلني أعطك . فقال : أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية . فقال : إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجون . فقال : يا رب فأبلغ من روائي » فنزلت . وقال جماعة من أهل التفسير : نزلت الآية في شهداء بئر معونة . وقال بعضهم : إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا : نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور ، فنزلت الآية تنفيساً عنهم وإخباراً عن حال قتلاهم أنهم أحياء متنعمون . واختلف العلماء في معنى هذه الحياة . فعن طائفة أنها على سبيل المجاز . وقال الأصم والبلخي : أريد بها الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبة . وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال : ما مات من خلف مثلك .
ومن هذه الطائفة من قال : مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وأنها لا تبلى تحت الأرض ألبتة . روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين إلى قبور الشهداء أمر بأن ينادي : من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع . قال جابر : فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصاب المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دماً . ومن هؤلاء من قال : المراد أنهم لا يغسلون كما لا يغسل الأحياء وذهبت طائفة من متكلمي المعتزلة إلى أن المراد أنهم سيصيرون أحياء والغرض تعذيب منكري المعاد ، وزيف بأنه عدول عن الظاهر ، وبأن عذاب القبر ثابت . فالثواب أولى . وبأنه نهى عن حسبانهم أمواتاً والذي يزيل هذا الحسبان هو اعتقاد أنهم أحياء في الحال لا اعتقاد أنهم أحياء في قوم القيامة ، فإن ذلك مما لا شك النبي والمؤمنون فيه . وبما رويناه عن ابن عباس أن أرواحهم في أجواف طير . وبقوله : { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم } والاستبشار بمن يكون في الدنيا لا بد أن يكون قبل يوم القيامة . وذهب كثير من المحققين إلى أنهم أحياء في الحال لكن يحياة روحانية ، وأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة . وذلك أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية ، لأن أجزاء البدن في الذوبان والانحلال ويعرض لها السمن والهزال والقوّة والكلال ، وكلنا يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل . ولأن الإنسان يكون عالماً بنفسه حالماً يكون غافلاً عن جميع أعضائه وأجزأئه ، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم . ثم ذلك الشيء المغاير لهذا البدن المحسوس سواء كان جسماً مخصوصاً سارياً أو جوهراً مجرداً لا يبعد أن ينفصل بعد موت البدن حياً أو أماته الله فيعيده حياً وبهذا يثبت عذاب القبر وثوابه وتزول الشبهات . ومن تأمل في الأمور الواردة عليه وجد أحوال النفس مضادة لأحوال البدن ، ووجد قوة أحدهما مقتضية لضعف الآخر ، كما أن البدن يضعف وقت النوم وتقوى النفس على مشاهدة المغيبات ونقوش عالم الأرواح ، وإذا أعرضت النفس عن الطعام والشراب وأقبلت على مطالعة العالم العلوي زادت سروراً وابتهاجاً وفرحاً وارتياحاً ، وانطبعت فيها الجلايا القدسية ، وانكشفت لها المعارف الإلهية ، وأكثر أرباب الشرع على أنهم أحياء في الحال بحياة جسمانية . ثم منهم من قال : إنه تعالى يصعد أجسادهم إلى السموات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادات والكرامات إليها ، ومنهم من قال : بل يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها . ومن الناس من طعن في هذه القول وقال : إن تجويز كون البدن الميت الملقى في التراب حياً متنعماً عاقلاً عارفاً نوع من السفسطة . والحق في هذه المسألة عندي خلاف ما يقوله أهل التناسخ من أن النفس بعد موت بدنها تقبل على بدن آخر وتعرض عن الأوّل بالكلية ، وخلاف ما يقوله الفلاسفة من أن النفس تنقطع علاقتها عن البدن مطلقاً وإنما تلتذ أو تتألم هي بما اكتسبت من المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة أو بالعقائد الباطلة والملكات الذميمة .
والذي أقوله : إن النفس تبقى لها علاقة مع بدنها لا بالتحريك واكتساب الأعمال ، ولكن بالتلذذ والتألم والتعقل ونحوها . وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما كان يتغير في مدّة العمر بحسب الأسنان والأمزجة . والتحقيق فيه أن النفس في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات ، وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات ، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والحساب ، فكيف ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر؟ فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى . وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهداً في القبر من غير تحرك ولا إحساس ونطق ، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقال : يافلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقاً . فقال عمر : يا رسول الله كيف تكلم أجساداً لا أرواح فيها؟ فقال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئاً . وفي حديث عذاب القبر « إنه ليسمع قرع نعالهم » ولعل السر في أنه اكتفى بهذا القدر من التصرف أنه إن كان أكثر من ذلك كما سيكون في القيامة الكبرى نافى تكليف سائر الأحياء وأفضى الأمر إلى الإلجاء وهو السر في آخر حديث عذاب القبر « فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين » وأما الشهداء فلا يبعد أن يجازيهم الله تعالى بمزيد التلذذ بنعيم الآخرة كما قتلوا تعجيلاً للثواب . وكما عجلوا الانقطاع عن طيبات الدنيا ومشتهياتها فإن جزاء كل طائفة ينبغي أن يناسب عملهم . فافهم هذه الأسرار فإنها علق مضنة وبه ثبت جميع ما ورد في الشريعة الحقة والله أعلم . ومعنى { عند ربهم } أنهم مقربون ذوو كرامة كقوله : { فالذين عند ربك } [ فصلت : 38 ] أو المراد بحيث لا يملك أحد جزاءهم سوى ربهم ، أو المراد في علمه وحكمه كما يقال : « هذه المسألة عند الشافعي كذا » . يرزقون كما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها التنعم برزق الله كما ورد في الحديث . { فرحين بما آتاهم الله من فضله } وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها . وقال المتكلمون : الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم .
فقوله : { يرزقون } إشارة إلى المنفعة وقوله : { فرحين } إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم . بلسان الحكماء { يرزقون } إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية و { فرحين } رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال ، و { يستبشرون بالذين } بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم . والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة . ومعنى { من خلفهم } أنهم بقوا بعدهم . وقيل لم يحلقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } بدل الاشتمال من « الذين » . وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة ، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم ، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران : من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله : { فرحين بما آتاهم الله من فضله } ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله { ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم } ثم كرر هذا المعنى لمزيد التأكد فقال : { يستبشرون بنعمة من الله } وهي الثواب . وفضل وهو التفضل الزائد وهذا هو سرورهم بسعادة أنفسهم . { وأن الله } أي وبأن الله { لا يضيع أجر المؤمنين } وهذا سرورهم بسعادة إخوانهم المؤمنين . ثم إنه تعالى مدح المؤمنين بغزوتين متصلتين بغزوة أحد تعرف أولاهما بغزوة حمراء الأسد ، والثانية بغزوة بدر الصغرى . أما الأولى فما روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا : إنا قتلنا أكثرهم ولم يبقَ منهم إلاّ القليل . فلم تركناهم؟ فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله ، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوّتهم فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال : لا أريد الآن أن يخرج معي إلا من حضر يومنا بالأمس . فخرج في سبعين من الصحابة حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال - فألقى الله الرعب في قلوب المشركين وانهزموا . فنزلت { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا } بإتيان جميع المأمورات { واتقوا } بالانتهاء عن المحظورات { وأحسنوا } في طاعة الرسول واتقوا مخالفته وإن بلغ الأمر بهم إلى الجراحات . روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة . ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى ، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة . و « من » في قوله : { للذين أحسنوا منهم } للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم . وقال أبو بكر الأصم : نزلت في يوم أحد لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم بالناس بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم ، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنهم بعد أن مثلوا بحمزة ، فصلى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم .
وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال صلى الله عليه وسلم للزبير « ردّها لئلا تجزع من مثلة أخيها » . فقالت : قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى . فقال للزبير : فدعها تنظر إليه ، فقالت خيراً واستغفرت له . وجاءت امرأة أخرى قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها ، فلما رأت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي قالت : إن كل مصيبة بعدك هدر . وأما الثانية فروى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى : يا محمد موعدنا موسم بدر الصغر القابل فنقتتل بها إن شئت . فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : قل بيننا وبينك ذاك إن شاء الله . فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل مرّ الظهران ، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع ، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمراً فقال : يا نعيم إني واعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر ، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن ، وقد بدا لي أن أرجع . ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة فألحق بالمدينة وثبطهم ولك عندي عشر من الإبل . فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم : ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقراركم فقتلوا أكثركم ، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد ، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم . فقال صلى الله عليه وسلم « والذي نفسي بيدهه لأخرجنّ إليهم وحدي » . فخرج في سبعين راكباً وهم يقولون : حسبنا الله ونعم الوكيل ، إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام . فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحداً من المشركين . وكانت معهم تجارت ونفقات فوافوا السوق وباعوا ما معهم واشتروا بها أدماً وزبيباً وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين ، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين . ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا : إنما خرجتم لتشربوا السويق وأنزل الله في المؤمنين { الذي قال لهم الناس } يعني نعيم بن مسعود كما ذكرناه . وإنما عبر عن الإنسان الواحد بالناس لأنه من جنس الناس كما يقال : فلان يركب الخيل وما له إلا فرس واحد . ولأن الواحد إذا قال قولاً وله أتباع يقولون مثل قوله ويرضون به ، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل كقوله تعالى : { وإذا قتلتم نفساً } [ البقرة : 72 ] وحين قال نعيم ذلك القول لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه ، وقال ابن عباس ومحمد بن إسحق : مر ركب من عبد القيس بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليخوفوهم وضمن لهم عليه جعلاً - حمل بعير من زبيب - .
وقال السدي : هم منافقو المدينة كانوا يثبطون المسلمين عند الخروج ويقولون : إن الناس قد جمعوا لكم يعني أبا سفيان وأصحابه . والمفعول محذوف أي جمعوا لكم الجموع . والعرب تسمي الجيش جمعاً . { فاخشوهم فزادهم } قول نعيم أو قول المثبطين { إيماناً } لأنهم لم يسمعوا قولهم وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد ، وأظهروا حمية الإسلام فكان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى بحسب زيادتها ونقصانها . وأما من قال : الإيمان عبارة عن نفس التصديق فتأويله أن الزيادة وقعت في ثمرات الإيمان ، ولكنها جعلت في افيمان مجازاً . وقد مر تحقيق الكلام لنا في هذا المعنى في أوائل الكتاب . وكما أنهم أضمروا ذلك بحسب الاعتقاد وافقوا الخليل عليه السلام حين ألقي في النار فأظهروه باللسان وقالوا : حسبنا الله . وقد مر إعراب مثله في البقرة في قوله : { فحسبه جهنم } [ البقرة : 206 ] { ونعم الوكيل } الكافي أو الكافل أو الموكول إليه هو . ثم عملوا بما اعتقدوه وقالوا فخرجوا { فانقلبوا بنعمة من الله } وهي العافية { وفضل } وهو الربح بالتجارة ، أو النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة { لم يمسسهم سوء } لم يصبهم قتل ولا جراح وصفهم بأنه حصل لهم الملائم ولم يحصل لهم المنافي وهذه غاية المطلب ونهاية الأماني ، وإن ذلك ثمرة الإخلاص والتوكل على الله سبحانه وتعالى . ثم روي أنهم قالوا : هل يكون هذا غزواً؟ فقال تعالى : { واتبعوا رضوان الله } ليعلموا أن لهم ثواب المجاهدين حيث قضوا ما عليهم . ثم قال : { والله ذو فضل عظيم } تنبيهاً على أن السبب الكلي في ثواب المطيعين هو فضل ربهم ورحمته عليهم ولم ينج أحداً عمله إلا أن يتغمده الله برحمته ، فعلى المؤمن أن لا يثق إلا بالله ولا يخاف أحداً إلا إياه وذلك قوله : { إنما ذلكم } المثبط هو { الشيطان } لعتوّه وتمرده وإعوائه ، ثم بين شيطنته بقوله : { يخوّف أولياءه } أو الشيطان صفة اسم الإشارة ، وهذه الجملة خبر والمعفول الأوّل محذوف أي يخوّفكم أولياءه { فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين } فإن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس الذين هم أولياء المثبطين . والأولياء هم أبو سفيان وأصحابه . وقيل : الشيطان هو إبليس . وقيل : المضاف محذوف والتقدير إنما ذلكم قول الشيطان . وقيل : يخوّف ألوياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعلى هذا فالضمير في { فلا تخافوهم } للناس في قوله : { إن الناس قد جمعوا لكم } وقيل : التقدير يخوّفكم بأوليائه كقوله : { ويخوّفونك بالذين من دونه } [ الزمر : 36 ] فحذف حرف الجر قاله الفراء والزجاج وأبو علي ، وزيفه ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر .
الله حسبي .
التأويل : قد ذكرنا أن النفس يبقى لها نوع تعلق ببدنها . فالآن نقول : إن روح الشهيد مخصوص بمزيد تعلق ببدنه جزاء له على تعجيب إذاقة مرارة الفراق عن الدنيا ، ولهذا لا تبلى أجساد كثير منهم وتبقى غضة طرية وكأنهم هم الشهداء في الحقيقة ، وهكذا أجساد الكاملين من النبيين و الصديقين الذين قتلوا أنفسهم بسيوف الرياضات ، ومطارف الأذكار ، وأسنة ألسنة الطاعنين ، وتجرع سموم مخالفات النفس ، ومكايدة الشيطان حتى ماتوا بالإرادة وحيوا بالطبيعة . وليس كل تعلق بهذا العالم سبباً للتألم بل بعضه سبب اللذة والابتهاج { يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } [ يس : 26-27 ] وكما ورد في حديث الشهداء « من يبلغ إخواننا عنا إنا في الجنة » والذي جاء فيه « إن أرواحهم في أجواف طير خضر » فلعل ذلك جزاء لهم على خروج الدم والأبخرة اللطيفة منهم ظلماً . فمن الممكن أن يخلق الله تعالى من ذلك جسماً لطيفاً شبه طائر ، ويكون لروح الشهيد به مزيد تعلق حتى تحركه ويطير حيث شاء من السماء والأرض وإلى الجنة بإذن الله تعالى . وأما كون الطيرخضراً فإما لأن بدن الميت يميل إلى الخضرة ، وإما أن يكون عبارة عن النضرة { تعرف في وجوههم نضرة النعيم } [ المطففين : 24 ] وإما لأن حالهم بالنسبة إلى ما سيؤل إليه أهل الجنة والنار يوم القيامة كالمتوسط بين الحالين الذين يعبر عنهما بالبياض والسواد في قوله : { يوم تبيض وجوه وتسود وجوه } [ آل عمران : 106 ] وهذه المعاني ما وجدتها في كتب التفسير والتأويل ، وأرجو أن أكون مصيباً فيها الغرض والله تعالى ورسوله أعلم بمرادهما .
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
القراآت : { ولا يحزنك } من الأفعال حيث كان إلا قوله : { لا يحزنهم الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] نافع ومثله { ليحزنني } [ يوسف : 13 ] و { ليحزن الذين آمنوا } [ المجادلة : 10 ] وقرأ يزيد على ضده . الباقون : بفتح الياء وضم الراء . ولا خلاف في مثل { يحزنون } [ البقرة : 38 ] و { لا تحزن } [ الحجر : 88 ] مما هو لازم { ولا يحسبن } وثلاثة بعدها بالياء التحتانية مع ضم الباء في { تحسبنهم } أبو عمرو وابن كثير ، وقرأ حمزة كلها بتاء الخطاب ، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب كلها بالتحتانية إلا قوله : { فلاد تحسبنهم } فإنها بالتاء وفتح الباء . الباقون : الأولياء على الغيبة والأخريان بالخطاب . { يميز } بالتشديد حيث كان : حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب عياش مخير . الباقون : خفيف بفتح الياء وكسر الميم . { يعملون خبير } بياء الغيبة : ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو { لقد سمع } وبابه مدغماً : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام . { سيكتب } بضم الياء وفتح التاء { وقتلهم } برفع اللام و { ويقول } على الغيبة : حمزة الباقون : بالنون فيهما على التكلم . ونصب اللام في { وقتلهم } { وبالزبر } ابن عامر { وبالكتاب } الحلواني عن هشام . الباقون : بغير إعادة الخافض فيهما { زحزع عن } مدغماً : شجاع وأبو شعيب من طريق العطار وابن مهران { ليبيننه } { ولا يكتمونه } بالياء فيهما لأنهم غيب : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير رويس وأبو بكر وحماد . الباقون : بتاء الخطاب فيهما على حكاية مخاطبتهم .
الوقوف : { في الكفر } ج للابتداء بأن ولاحتمال إضمار اللام أو الفاء { شيئاً } ط { في الآخرة } ج لعطف المختلفين مع اتحاج مقصود الكلام { عظيم } ه { شيئاً } ج لما ذكر { في الآخرة } ط { أليم } 5 { لأنفسهم } ط { إثما } ج لما ذكر أياَ { مهين } ه { من الطيب } ط { ورسله } ط { عظيم } ه { خيراً لهم } ط { شراً لهم } ط { القيامة } ط { والأرض } ط { خبير } ه { أغنياء } م لئلا يصير ما بعده من مقولهم ، ومن قرأ بضم الياء فوقفه مطلق . { بغير حق } ج لمن قرأ { ويقول } بالياء لأن التقدير : ويقول الله أو يقول الزبانية فلا ينعطف على قوله : { سيكتب } مع اتساق المعنى . { الحريق } ه { للعبيد } ج ه لاحتمال الصفة وأن يكون المراد هم الذين ، والوقف أولى لأنه لا يظلم العبيد ملطقاً لا العبيد الموصوفة . نعم لو كان بدلاً من الذين قالوا إن الله فقير صح { تأكله النار } ط { صادقين } ه { المنير } ه { الموت } ط { يوم القيامة } ط لابتداء شرط في أمر معظم . { فقد فاز } ط { الغرور } ه { كثيراً } ط { الأمور } ه { ولا تكتمونه } ز لأن الجملتين وان اتفقتا لم يكن النبذ متصلاً بأخذ الميثاق فلم يضف إلى ظرف « إذ » { قليلاً } ط { يشترون } ه { من العذاب } ج لما ذكر . { أليم } ه { والأ { ض } ط { قدير } ه .
التفسير : نزلت في كفار قريش وإنه تعالى جعل رسوله آمناً من شرهم وأتاح العاقبة له وإن جمعوا الجموع وجهزوا الجيوش حتى يظهر هذا الدين على الأديان كلها ، وقيل في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوّفون المؤمنين بسبب واقعة أحد ، ويؤيسونهم من النصر والظفر ، وربما يقولون : إن محمداً لطالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة يكون عليه ، ولو كان رسولاً ما غلبه أحد .
وقيل : إن قوماً من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفاً من قريش ، فاغتنم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فبيّن الله تعالى أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك . ونصر بعضهم هذا القول بأن المسارعة وهي شدة الرغبة في الكفر إنما تناسب من كفر بعد الإيمان المستمر على الكفر ، وبأن إرادته أن لا يجعل لهم حظاً في الآخرة إنما تليق بمن آمن فاستوجب الحظ ثم أحبط ، وبأن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود وذلك هو ما قدر النبي صلى الله عليه وسلم من الانتفاع بإيمانهم أو انتفاعهم بالإيمان فبيّن الله تعالى أنه لا يلحق بسبب فوات ذلك ضرر بالدين ، وأن وبال ذلك يعود عليهم كما دل عليه بقية الآية . فإن قيل : الحزن على كفر الكافر وعلى معصية العاصي طاعة ، فكيف نهي نبي الله عن ذلك؟ فالجواب أنه نهي عن الإسراف في الحزن بحيث يأتي عليه ونظيره { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } [ الشعراء : 3 ] أو المراد لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك { إنهم لن يضروا الله } أي دينه { شيئاً } من الضرر . { يريد الله ألا يجعل لهم حظاً في الآخرة } فيه دليل على أن إرادة الله تتعلق بالعدم ، وتنصيص على أن الخير والشر والنفع والضر بإرادة الله ، ومعنى قوله : { ولهم عذاب عظيم } أنه كما لاحظ لهم من منافع الآخرة فلهم حظ عظيم من مضارها . وفي الإخبار عن إرادة عدم الجعل دون الإخبار عن عدم الجعل إشعار بأن استحقاقهم للحرمان بلغ إلى حد أراد أرحم الراحمين أن لا يرحمهم وأن الداعي إلى تعذيبهم خلص خلوصاً لم يبق معه صارف ألبتة . ثم أنزل في اليهود خاصة وهو الأشبه أو في الكفار عامة { إن الذين اشتروا } الآية . والغرض تأكيد تقوية قلب الرسول كأنه قيل : إن أكثرهم ينازعونك في الدين لا لأجل شبهة لهم بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا . ومن كان عقله هذا القدر - وهو أن يبيع بالقليل من الدنيا السعادة الكثيرة في الآخرة - كان في غاية الحماقة ، ومثله لا يقدر على إلحاق الضرر بالغير . ولو قيل : إن الآية في المرتدين فالمعنى أن اختيار دين بعد دين ثم الارتداد على العقبين يدل على الاضطراب وضعف الرأي ، والإنسان المضطرب الحال لا قدرة له على إيصال الضرر إلى الغير . ثم بين أن بقاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد والكفار الذين بقوا بعد شهداء أحد لا خير فيه فقال : { ولا يحسبن } من قرأ بالياء فقوله : { الذين كفروا } فاعل ، و « أن » مع ما في حيزه ساد مسد مفعوليه .
ومن قرأ بتاء الخطاب ف { الذين كفروا } مفعول أول و « أن » مع ما في حيزه بدل منه . وصح الإبدال وإن لم يمض إلا أحد المفعولين لأن المبدل في حكم المنحي . ألا تراك تقول : جعلت متاعك بعضه فوق بعض . مع امتناع السكوت على متاعك؟ والتقدير : ولا تحسبن الذين كفروا أن إملائي خير لهم على أن « ما » مصدرية . ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي لا تحسبنهم أصحاب أن الإملاء خير لهم ، أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم . قال الأصمعي : يقال أملي عليه الزمان أي طال . وأملى له أي طوّل له وأمهله . قال أبو عبيدة : ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة ، والملوان الليل والنهار . ويقال : أقمت عنده ملاوة من الدهر أي حيناً وبرهة . و { إثماً } نصب على التمييز . وفي وصف العذاب أوّلاً بالعظم ثم بالألم ثم بالإهانة تدرج من الأهون إلى الأشق ، وفيه من الوعيد والسخط ما لا يخفى . قالت الأشاعرة ههنا : إن إطالة المدة من فعل الله لا محالة . والآية دلت على أنها ليست بخير ففيه دلالة على أنه سبحانه فاعل الخير والشر . وأيضاً إنه نص على أن الغرض من هذا الإملاء ، أن يزدادوا إثماً ، فإذن الكفر والمعاصي بإرادة الله . وأيضاً أخبر عنهم أنه لا خير لهم فيه وأنهم لا يحصلون منه إلا على ازدياد الغي والإثم ، والإتيان بخلاف خبر اله تعالى محال ، فعلمنا أنهم مجبورون على ذلك في صورة مختارين . أجابت المعتزلة بأن المراد أن هذا الإملاء ليس خيراً من موت الشهداء إذ الآية من تتمة قصة أحد ، لا أنه ليس بخير مطلقاً . وزيف بأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا مع المفضل عليه ، لكنه لم يذكر فعلمنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيراً من شيء آخر ، وعن الثاني أن ازدياد الإثم علة للإملاء وليس كل علة بغرض كقولك : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة . ومثله { وجعلو لله أنداداً ليضلوا } [ إبراهيم : 30 ] وهم ما فعلوا ذلك إلأ ضلال . ويقال : ما كانت موعظتي لك إلا للزيادة في تماديك في الغي إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك . ورد بأن حمل اللام على لام العاقبة عدول عن الظاهر ، على أنا نعلم بالبرهان أن علمه تعالى بأنهم مزدادون إثماً على تقدير الإمهال علة فاعلية لازديادهم إثماً فكان تعالى فاعلاً للازدياد ومريداً له . قالوا : في الكلام تقديم وتأخير وترتيبه : لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً إنما نملي لهم خير لأنفسهم . ويعضده قراءة يحيى بن وثاب بكسر « إن » الأولى وفتح الثانية .