كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
وسبأ اسم للقبيلة فلا ينصرف أو اسم للحي أو الأب الأكبر فينصرف ، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ، ثم سميت مدينة مارب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث . ويحتمل أن يراد بسبأ المدينة أو القوم . ثم شرع في النبأ وهو قوله { إني وجدت امرأة } واسمها بلقيس بنت شراحيل ملك اليمن كابراً عن كابر إلى تبع الأول ، ولم يكن له ولد غيرها فورثت الملك وكانت هي وقومها مجوساً عبدة الشمس . والضمير في { تملكهم } يعود إلى سبأ إن أريد به القوم وإلى الأهل المحذوف إن أريد به المدينة . { وأوتيت من كل شيء } اي بعض كل ما يتعلق بالدنيا من الأسباب . { ولها عرش عظيم } كأنه استعظم لها ذلك مع صغر حالها إلى حال سليمان ، أو استعظمه في نفسه لأنه لم يكن لسليمان مثله مع علو شأنه ، وقد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله لمن فوقه في الملك ، وقد يطلع بعض الأصاغر على مسألة لم يطلع عليها أحد كما اطلع الهدهد على حال بلقيس دون سليمان . ووصف عرش الله بالعظم إنما هو بالإضافة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض . يحكى من عظم شأنه إنما كان مكعباً ثلاثين في ثلاثين أو ثمانين وكان من ذهب وفضة مكللاً بأنواع الجواهر وكذا قوائمه ، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق ، قال بعض المعتزلة : في قوله { وزين لهم الشيطان أعمالهم } دليل على أن المزين للكفر والمعاصي هو الشيطان . وأجيب بأن قول الهدهد لا يصلح للحجة والتحقيق فيه قد مر ولا يبعد أن يلهم الله الهدهد وجوب معرفته والإنكار على من يعبد غيره خصوصاً في زمن سليمان عليه السلام .
قوله { الا يسجدوا } من قرأ بالتشديد على أن الجار محذوف فإن كان متعلقاً بالصد فالتقدير صدهم لأن { لا يسجدوا } وإن كان متعلقاً ب { لا يهتدون } ف { لا } مزيدة أي لا يهتدون إلى أن يسجدوا . ومن قرأ بالتخفيف فقوله { ألا } حرف تنبيه و { يا } حرف النداء والمنادى محذوف والتقدير : ألا يا قوم اسجدوا كقوله :
ألا يا أسلمي يا دارميّ على البلى ... ولا زال منهلاً بجرعائك القطر
قال الزجاج : السجدة في الآية على قراءة التخفيف دون التشديد . والحق عدم الفرق لأن الذم على الترك كالأمر بالسجود في الاقتضاء . والخبء مصدر بمعنى المخبوء وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه الله عز وجل من غيوبه ، ومن جملة ذلك اطلاع الكواكب من أفق الشرف بعد اختفائها في أفق الغرب ، ومنها الأقضية والأحكام والوحي والإلهام ، ومنها إنزال الملك وكل أثر علوي . وفي تخصيص وصف الله تعالى في هذا المقام بإخراج الخبء إشارة إلى ما عهده الهدهد من قدرة الله تعالى في إخراج الماء من الأرض ، ألهمه هذا التخصيص كما ألهمه تلك المعرفة .
ولما انجر كلام الهدهد إلى هذه الغاية { قال } سليمان { سننظر } أي نتأمل في صفحات حالك { أصدقت أم كنت من الكاذبين } وهذا أبلغ من أن لو قال له « كذبت » لأنه إذا كان معروفاً بالكذب كان متهماً في كل ما أخبر به . ثم ذكر كيفية النظر في أمره فقال { أذهب بكتابي هذا فألقه إليهم } لم يقل إليها لأنه كان قد قال { وجدتها وقومها } فكأن سليمان قال : فألقه إلى الذين هذا دينهم اهتماماً فيه بأمر الدين . ولمثل هذا قال في الكتاب { ألا تعلوا عليّ وأتوني مسلمين } ومعنى { ثم تول عنهم } تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه تسمع ما يقولون { يرجعون } من رجع القول كقوله { يرجع بعضهم إلى بعض القول } [ سبأ : 31 ] يروى أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها ، فدخل من كوة وطرح الكتاب على حجرها وهي مستلقية نائمة . وقيل : نقرها فانتبهت فزعة . وقيل : أتاها والجنود حواليها من فوق والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها . وقيل : كان في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسد تلك الكوة بجناحه ، فلما رأت ذلك قامت إليه فألقى الكتاب إليها . وههنا إضمار أي فذهب فألقى ثم توارى ثم كأن سائلاً سأل فماذا قالت بلقيس؟ فقيل { قالت يا أيها الملأ إني ألقي إليّ كتاب كريم } مصدر بالتسمية أو حسن مضمونه أو هو من عند ملك كريم أو هو مختوم . يروى أنه طبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه وقال صلى الله عليه وسلم « كرم الكتاب ختمه » وعن ابن المقفع : من كتب إلى أخيه كتاباً ولم يختمه فقد استخف به . ثم إن سائلاً كأنه قال لها ممن الكتاب وما هو؟ فقالت { إنه من سليمان وإنه } كيت وكيت .
سؤال : لم قدم سليمان اسمه على اسم الله؟ والجواب أنها لم وجدت الكتاب على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد علمت أنه من سليمان وحين فتحت الكتاب رأت التسمية ، ولذلك قالت ما قالت ، أو لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب { إنه من سليمان } فقرأت عنوانه أوّلاً ثم أخبرت بما في الكتاب . أو لعل سليمان قصد بذلك أنها لو شتمت لأجل كفرها حصل الشتم لسليمان لا لله تعالى . و « أن » في { أن لا تعلوا } مفسرة لما ألقي إليها أي لا تتكبروا كما تفعل الملوك . يروى أن نسخة الكتاب : من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ : السلام على من اتبع الهدى . أما بعد ، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين . وكان كتب الأنبياء عليهم السلام جملاً وأنه مع وجازته مشتمل على تمام المقصود لأن قوله { بسم الله الرحمن الرحيم } مشتمل على إثبات الصانع وصفاته ، والباقي نهي عن الترفع والتكبر وأمر بالانقياد للتكاليف ، كل ذلك بعد إظهار المعجز برسالة الهدهد .
قوله { قالت يا ايها الملأ } استئناف آخر وهكذا إلى تمام القصة . ومعنى { أفتوني } أشيروا عليّ بما يحدث لكم من الرأي . والفتوى الجواب في الحادثة وأصلها من الفتاء في السن وقطع الأمر فصله والقضاء فيه ، أرادت بذلك استعطافهم وتطييب نفوسهم واستطلاع آرائهم ، فأجابوا بأنهم اصحاب القوى الجسداينة والخارجية ، ولهم النجدة والبلاء في الحرب ، ومع ذلك فوضوا الأمر إليها فما أحسن هذا الأدب . ويحتمل أن يراد نحن من أبناء الحرب لا من ارباب الرأي والشمروة وإنما الرأي إليكن وحيث كان يلوح من وصفهم أنفسهم بالشجاعة والعلم بأمور الحرب أهم مائلون إلى المحاربة ، ارادت أن تنبههم إلى الأمر الأصوب وهو الميل إلى الصلح فلذلك { قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية افسدوها } وذلك إذا أرادوا قهرها والتسلط عليها ابتداء وإلا فالإفساد غير لازم ، بل لعل الإصلاح ألزم إذا سلكت سبيل العدل والإنصاف فليس للظلمة في الآية حجة . ومفعول { مرسلة } محذوف اي مرسلة رسلاً مع هدية وهي اسم المهدي كالعطية اسم المعطي . وإنما رأت الإهداء أوّلاً لأن الهدية سبب استمالة القلوب . قال صلى الله عليه وسلم « تهادوا تحابوا » قال في الكشاف : روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج مرصعة اللجم والسروج بالجواهر ، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت ، وحقاً فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب : وبعثت رجلين من أشراف قومها- المنذر بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل -وقالت : إن كان نبياً ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقباً مستوياً وسلك في الخرزة خيطاً . ثم قالت : للمنذر : إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك ، وإن رأيته بشاً لطيفاً فهو نبي . فأقبل الهدهد فأخبر سليمان فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطاً شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على اللبنات ، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين وعن اليسار ، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ والأنس كذلك ، ولاوحش والطير كذلك . فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب على اللبنات فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم ، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال : ما وراءكم؟ وقال : أين الحق؟ وأخبرهم بما فيه . ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجر ، وأخذت دودة بيضاء الخيط فأدخلته في الجزعة ، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه ، ثم رد الهدية وذلك قوله على سبيل الإنكار { أتمدونني بمال } ثم قال على سبيل الإعلام وتعليل الإنكار { فما آتاني الله } من الكمالات والقربات والدرجات { خير مما آتاكم } ثم أضرب عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون الفرح إلا في أن يهدي إليهم حظ من الدنيا ، فعلى هذا تكون الهدية مضافة إلى المهدي إليه .
والمعنى { بل أنتم بهديتكم } هذه التي أهديتموها { تفرحون } فرح افتخار على الملوك . ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن الرد كأنه قال . بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها ثم قال للرسول أو للهدهد معه كتاب آخر { ارجع إليهم } ومعنى { لا قبل } لا طاقة ولا مقابلة . والذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار أن يقعوا مع ذلك في أسر واستعباد يروى أنه لما رجعت إليها الرسل عرفت أن سليمان نبي وليس لهم به طاقة ، فشخصت إليه في اثني عشر الف قيل . مع كل قيل ألوف . وأمرت عند خروجها أن يجعل عرشها في آخر سبعة أبيات في آخر قصر من قصور سبعة ، وغلقت الأبواب ووكلت به حرساً فلعل سليمن أوحي إليه ذلك فاراد أن يريها بعض ما خصه الله به من المعجزات فلذلك { قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } وعن قتادة : اراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا اسلمت لم يحل له أخذ مالها . وقيل : أراد بذلك اختبار عقلها كما يجيء . وقيل : أراد أن يعرف تجملها ومقدار مملكتها قبل وصولها إليه والعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر اقرانه ، ومن الشياطين الخبيث المارد ، ووزنه « فعليت » . قالوا : كان اسمه ذكوان . و { آتيك به } في الموضعين يجوز أن يكون فعلاً مضارعاً وأن يكون اسم فاعل . ومعنى . { أن تقوم من مقامك } إما على ظاهره وهو أن يقوم فيقعد ، وإما أن يكون المقام هو المجلس ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت به . وعلى هذا فقيل : المراد مجلس الحكم . وقيل : مقدار فراغه من الخطبة . وقيل : إلى انتصاف النهار . { وإني عليه } أي على حمله { لقوي أمين } آتي به على حاله لا أتصرف فيه بشيء . واختلفوا في الذي عنده علم من الكتاب فقيل : هو الخضر عليه السلام . وقيل : جبرائيل . وقيل : ملك أيد الله به سليمان . وقيل : آصف بن برخيا وزيره أو كاتبه . وقيل : هو سليمان نفسه استبطأ العفريت فقال له : أنا اريك ما هو أسرع مما تقول . وقد يرجح هذا القول بوجوه منها : أن الشخص المشار إليه بالذي يجب أن يكون معلوماً للمخاطب وليس سوى سليمان ، ولو سلم أن آصف أيضاً كان كذلك فسليمان أولى بإحضار العرش في تلك اللمحة والإلزام تفضيل آصف عليه من هذا الوجه .
ومنها قول سليمان . { هذا من فضل ربي } ويمكن أن يقال : الضمير راجع إلى استقرار العرش عنده ، ولو سلم رجوعه غلى الإتيان بالعرش فلا يخفى أن كمال حال التابع والخادم من جملة كمالات المتبوع والمخدوم ، ولا يلزم من أن يأمر الإنسان غيره بشيء أن يكون الآمر عاجزاً عن الإتيان بذلك الشيء . واختلفوا ايضاً في الكتاب فقيل : هو اللوح . وقيل : الكتاب المنزل الذي فيه الوحي والشرائع . وقيل : كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء . وما ذلك العلم؟ قيل : نوع من العلم لا يعرف الآن . والأكثرون على أنه العلم باسم الله الأعظم وقد مر في تفسير البسملة كثير مما قيل فيه . ومما وقفت عليه بعد ذلك أن غالب بن قطان مكث عشرين سنة يسأل الله الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأري في منامه ثلاث ليال متواليات : قل يا غالب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا صادق الوعد يا موفياً بالعهد يا منجز الوعد يا حي يا لا إله إلا أنت صل اللهم على محمد وآل محمد وسلم . والطرف تحريك الأجفان عند النظر فوضع موضع النظر فإِذا فتحت العين توهمت أن نور العين يمتد إلى المرئي وإذا غمضت توهمت أن ذلك النور قد اراتدّ ، فمعنى الآية أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك . يروى أن آصف قال له : مدّ عينك حتى ينتهي طرفك فمدّ عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغاص العرش في مكانه ثم ظهر عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتدّ طرفه . ومن استبعد هذا في قدرة الله فليتأمل في الحركات السماوية على ما يشهد به علم الهيئة حتى يزول استبعاده . وقال مجاهد : هو تمثيل لاستقصار مدة الإتيان به كما تقول لصاحبك : افعل هذا في لحظة أو لمحة . وحين عرف سليمان نعمة الله في شأنه وأن ذلك صورة الابتلاء بين أن شكر الشاكر إنما يعود إلى نفس الشاكر لأنه يرتبط به العتيد ويطلب المزيد كما قيل : الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة . وروي في الكشاف عن بعضهم أن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها ، فاستدع شاردها بالشكر واستدم راهنها بكرم الجوار . قوله « أقشعت نافرة » أي ذهبت في حال نفارها وراهنها أي ثابتها . { ومن كفر فان ربي غني } عن عبادة كل عابد فضلاً عن شكر شاكر { كريم } لا يقطع إمداد نعمه عنه لعله يتوب ويصلح حاله . زعم المفسرون أن الجن كرهوا أن يتزوّجها سليمان فتفضي إليه بإسرارهم لأنها كانت بنت جنية ، أو خافوا أن يولد له منها ولد تجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له : إن في عقلها شيئاً وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش وذلك قوله { نكروا لها عرشها } أي اجعلوه متنكراً متغيراً عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل لغيره لئلا يعرفه .
قالوا : وسعوه وجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه اسفله . وقوله { ننظر } بالجزم جواب للأمر وقرئ بالرفع على الاستئناف . { أتهتدي } لمعرفة العرش أو للجواب الصائب إذا سئلت عنه أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك الخوارق . وقوله { أم تكون من الذين لا يهتدون } أبلغ من أن لو قال « أم لا تهتدي » كما مر في قوله { أم كنت من الكاذبين } { فلما جاءت قيل أهكذا } أي مثل ذا { عرشك } لئلا يكون شبه تلقين فقالت { كأنه هو } ولم تقل : هو هو مع أنها عرفته ليكون دليلاً على وفور عقلها حيث لم تقطع في المحتمل وتوقفت في مقام التوقف . أما قوله { وأوتينا العلم } فمعطوف على مقدر كأنهم قالوا عند قولها كأنه هو قد اصابت في جوابها وطابقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان بهذه الخوارق . { وأوتينا } نحن { العلم } بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام { وصدّها } عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس وكونها بين ظهراني الكفرة . والغرض تلقي نعمة الله بالشكر على سابقة الإسلام . وقيل : هو موصول بكلام بلقيس . والمعنى وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو الحالة وذلك عند وفدة المنذر . ثم قال سبحانه { وصدها } قبل ذلك عما دخلت فيه { ما كانت تعبد من دون الله } وقيل : الجار محذوف أي وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد ، واختبر ساقها بأن أمر أن يبني على طريقها قصر من زجاج أبيض فأجرى من تحته الماء والقى فيه من دواب البحر السمك وغيره ، ووضع سريره في آخر فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس . ثم { قيل لها ادخلي الصرح } أي القصر أو صحن الدار { فلما رأته حسبته لجة } أي ماء غامراً { وكشفت عن ساقيها } لتخوض في الماء فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً إلا أنها شعراء ، فصرف سليمان بصره وناداها { إنه صرح ممرد } أي مملس { من قوارير } هذا عند من يقول : تزوجها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا له همدان وكان يزورها في الشهر مرّة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له . قالوا : كون ساقها شعراء هو السبب في اتخاذ النورة ، أمر به الشياطين فاتخذوها . وقال آخرون : المقصود من الصرح تهويل المجلس ، وحصل كشف الساق على سبيل التبع . عن ابن عباس : لما اسلمت قال لها : اختاري من أزوّجكه؟ فقالت : مثلي لا ينكح الرجال مع سلطان .
فقال : النكاح من الإسلام . فقالت : إن كان كذلك فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاً { قالت رب إني ظلمت نفسي } أي بالكفر في الزمن السالف أو بسوء ظني بسليمان إذ حسبت أنه يغرقني في الماء . وهذا التفسير أنسب بما قبله ولعل في قولها { مع سليمان } أي مصاحبة له إشارة إلى إسلامها تبع لإسلام سليمان وأنها تريد أن تكون معه في الدارين جميعاً والله أعلم .
التأويل : { ولقد آتينا داود } الروح { وسليمان } القلب { علماً } لدنيا { على كثير من عباده } وهم الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية . { وورث سليمان داود } لأن كل إلهام وفيض يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على داود الروح إلا أنه للطافته لا يحفظها وإنما يحفظها القلب لكثافته ، ولذلك كان سليمان اقضى من داود . قوله { منطق الطير } يعني الرموز والإشارات التي يحفظها بلسان الحال أرباب الأحوال الطائرين في سماء سناء الفناء . وقيل : أراد الخواطر الملكية الروحانية . قوله { من الجن والإِنس والطير } أي من الصفات الشيطانية والإنسانية والملكية { فهم يوزعون } على طبيعتهم بالشريعة وادي النمل هوى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها { قالت نملة } هي النفس اللوامة { يا أيها النمل } هي الصفات النفسانية { ادخلوا مساكنكم } محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس { وهم لا يشعرون } أنهم على الحق وأنتم على الباطل لأن الشمس لا حس عندها من نورها ولا من الظلمة التي تزيلها { نعمتك التي أنعمت عليّ } بتسخير جنودي لي وعلى والديّ وهما الروح والجسد . أنعم على الروح بإفاضة الفيوض ، وعلى الجسد باستعماله في أركان الشريعة . وفي قوله { بنبأ يقين } إشارة إلى أن من أدب المخبر أن لا يخبر إلا عن يقين وبصيرة ولا سيما عند الملوك . وفي قول سليمان { سننظر أصدقت } إشارة إلى أن خبر الواحد وإن زعم اليقين لا يعوّل عليه إلا بأمارات أخر . { كتاب كريم } كأنها عرفت أنها بكرامته تهتدي إلى حضرة الكريم : إن ملوك الصفات الربانية { إذا دخلوا قرية } الشخص الإنساني { أفسدوها } بإفساد الطبيعة الحيوانية { وجعلوا أعزة أهلها } وهم النفس الأمارة وصفاتها { أذلة } بسطوات التجلي { وكذلك يفعلون } مع الأنبياء والأولياء . وفي قوله { أيكم يأتيني بعرشها } إشارة إلى أن سليمان كان واقفاً على أن في قومه من هو أهل لهذه الكرامة وكرامات الأولياء من قوة إعجاز الأنبياء { قيل لها ادخلي الصرح } فيه دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها وإلا لم يجوّز النظر إلى ساقيها . { وأسلمت نفسي } للنكاح { مع سليمان لله } وفي الله .
تأويل آخر : { وتفقد الطير } هم أهل العشق الطيارة في فضاء سماء القدس وجوّ عالم الإنس . والهدهد الرجل العلمي الذي عول على فكره وإعمال قريحته في استنباط خبايا الأسرار وكوامن الأستار . { عذاباً شديداً } بالرياضة والمجاهدة . { أو لأذبحنه } بسكين مخالفات الإرادة .
سبأ مدينة الاختلاط والإنس بالإنس والمرأة الدنيا وبهجتها ، وعرشها العظيم حب الجاه والمناصب يسجدون لشمس عالم الطبيعة وهو الهوى ، والهدية عرض الدنيا وزينتها ، والإتيان بالعرش قبل إتيانهم هو إخراج حب الجاه من الباطن حتى تنقاد الأعضاء والجوارح بالكلية لاشتغال العبودية . آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه . والعفرين الرياضة الشديدة والذي عنده علم من الكتاب هو الجذبة التي توازي عمل الثقلين ، وتنكير العرش تغيير حب الجاه للهوى بحبه للحق ، والقصر قصر التصرف في الدنيا للحق بالحق ، وكشف الساق كناية عن اشتداد الأمر عليه ، والقوارير عبارة عن رؤية بواطن الأمور مع الاشتغال بظواهرها ، وهذه من جملة منطق يفهم إن شاء العزيز وحده والله أعلم .
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
القراآت : { لتنبيه } على الجمع المخاطب وهكذا { لتقولن } : حمزة وعلي وخلف . الباقون بالنون فيهما على التكلم { مهلك } بفتح الميم واللام : أبو بكر غير البرجمي وحماد والمفضل . وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام . الباقون بضم الميم وفتح اللام والكل يحتمل المصدر والمكان والزمان { أنا دمرناهم } و { أن الناس } بالفتح فيهما : عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ورويس { أئنكم } مذكور في « الأنعام » { يشكرون } بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم { أءله } مثل { أئنكم } { الريح } على التوحيد : ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { يذكرون } بياء الغيبة : ابو عمرو وهشام . الآخرون بتاء الخطاب { بل أدرك } بقطع الهمزة وسكون الدال : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد المفضل { بل ادّرك } بهمزة موصولة ودال مشددة : الشموني . الباقون مثله ولكن بألف بعد الدال .
الوقوف : { يختصمون } 5 { الحسنة } ج لابتداء استفهام آخر مع اتحاد القائل . { ترحمون } 5 { معك } ط { تفتنون } 5 { ولا يصلحون } 5 { لصادقون } 5 { لا يشعرون } 5 { مكرهم } ط لمن قرأ . « إنا » بكسر الألف على الاستئناف . { أجمعين } 5 { ظلموا } ط { يعلمون } 5 { يتقون } 5 { تبصرون } 5 { النساء } ط { تجهلون } 5 { قريتكم } ج لاحتمال تقدير لام التعليل { يتطهرون } 5 { إلا أمرأته } ز لاحتمال أن ما بعده مستأنف والأظهر أنه حال تقديره استثناء امرأته مقدرة { في الغابرين } 5 { مطر المنذرين } 5 { اصطفى } ط { يشكرون } 5 ط لأن ما بعده استفهام متسأنف و « أم » منقطعة تقديره بل أمن خلق السموات خير أمّا يشركون وكذلك نظائره { ماء } ج للعدول مع اتحاد المقول { بهجة } ط ولاحتمال الحال أي وقد ورد { خيراً } ط { القتال } ط { عزيزاً } 5 ج للآية والعطف { فريقاً } 5ج لاحتمال أن يكون ما بعده استئنافاً أو حالاً { تطؤها } ط { قديراً } 5 { جميلاً } 5 { عظيماً } 5 { ضعفين } ط { يسيراً } 5 مرتين لا لأن التقدير وقد أعتدنا { كريماً } 5 { معروفاً } ج للعطف { ورسوله } ط { تطهيراً } 5 لوقوع العوارض بين المعطوفين { والحكمة } ط { خبيراً } 5 { عظيماً } 5 { من أمرهم } ط { مبيناً } 5 { الناس } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { تخشاه } ط { منهن وطراً } ط { مفعولاً } 5 { له } ط { من قبل } لا { مقدوراً } 5 لا بناء على أن { الذين } وصف أو بدل { إلا الله } ط { حسيباً } 5 { النبيين } ط { عليماً } 5 .
التفسير : لما فرغ من توبيخ المنافقين حث جمع المكلفين على مواساة الرسول وموازرته كما واساهم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مداحض الأقدام . والأسوة القدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به ، فالمراد أنه في نفسه كما تقول في البيضة عشرون منا حديداً اي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد .
والمراد أن فيه خصلة هي المواساة بنفسه فمن حقها أن يؤتسى بها وتتبع . قال في الكشاف : قوله { لمن كان } بدل من قوله { لكم } وضعف بأن بدل الكل لا يقع من ضمير المخاطب فالأظهر أنه وصفة الأسوة . والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف . وقوله { يرجو الله واليوم الآخر } كقولك : رجوت زيداً وفضله أي رجوت فضل زيد ، أو اريد يرجو ايام الله واليوم الآخر خصوصاً . وقوله { وذكر } معطوف على { كان } وفيه أن المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي واظب على ذكر الله وعمل ما يصلح لزاد المعاد . ثم حكى أن ما ظهر من المؤمنين وقت لقاء الأحزاب خلاف حال المنافقين . وقوله { هذا } إشارة إلى الخطب أو البلاء . عن ابن عباس : كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً اي في آخر تسع ليال أو عشر ، فلما رأوهم قد اقبلوا للميعاد قالوا : هذا ما وعدنا الله ورسوله وقد وقع . { وصدق الله ورسوله } في كل وعد { وما زادهم إلا إيماناً } بمواعيده إلا فساد همهم بقتل نبيهم . والتقاسم التحالف فإن كان أمراً فظاهر وإن كان خبراً فمحله نصب بإضمار « قد » اي قالوا متقاسمين : والتبييت العزم على إهلاك العدوّ ليلاً . وأشير على الإسكندر بالبيات فقال : ليس من آيين الملوك استراق الظفر . قال في الكشاف « كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين . ثم قالوا لولاة دمه : ما شهدنا مهلك أهله فإذا ذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما . قلت : إنما ارتكب هذا التكليف لأنه استقبح أن يأتي العاقل بالخبر على خلاف المخبر عنه . يروى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشعب مبادرين وقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فهذا مكرهم ، فبعث الله صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم ، وعذب الله كلاً في مكانه ونجى صالحاً ومن معه وهذا مكر الله . وقيل : جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله الملائكة فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون رامياً . من قرأ { أنا دمرناهم } بالفتح فمرفوع المحل بدلاً من العاقبة أو خبراً لمحذوف أي هي تدميرهم ، أو منصوب على أنه خبر » كان « أي كان عاقبة مكرهم الدمار ، أو مجرور تقديره : لأنا وجوز في الكشاف على هذا التقدير أن يكون منصوباً بنزع الخافض . وانتصب { خاوية } على الحال والعامل معنى الإشارة في تلك . وإنما قال في هذه السورة { وأنجينا الذين آمنوا } موافقة لما بعده { فأنجيناه وأهله } { وأمطرنا } وكله على » أفعل « .
وقال في « حم السجدة » { ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } [ فصلت : 18 ] موافقة لما قبله وما بعده وزينا وقيضنا والله أعلم .
القصة الخامسة قصة لوط { و } انتصب { لوطاً } بإضمار « اذكر » أو بما دل عليه { ولقد أرسلنا } و « إذ » بدل على الأول بمعنى مجرد الوقت ظرف على الثاني ، و { يبصرون } إما من بصر الحاسة فكأنهم كانوا معلنين بتلك المعصية في ناديهم ، أو أراد ترون آثار العصاة قبلكم ، أو من بصر القلب والمراد تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا بمثلها ، وعلى هذا فمعنى قوله { بل أنتم قوم تجهلون } أنكم تفعلون فعل الجاهلية بأنها فاحشة مع علمكم بذلك ، أو اراد جهلهم بالعاقبة ، أو اراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها . أو الخطاب في قوله { تجهلون } تغليب ولو قرئ بياء الغيبة نظراً إلى الموصوف وهو قوم لجاز من حيث العربية ، وباقي القصة مذكور في « الأعراف » { قل الحمد لله } قيل : هو خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الذنوب وبالنجاة من العذاب . وقيل : أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم وبالتسليم على الأنبياء وأشياعهم الناجين ، والأكثرون على أنه خطاب مستأنف لأنه صلى الله عيله وسلم كان كالمخالف لمن تقدمه من الأنبياء من حيث إن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه ، فأمره الله سبحانه بأن يشكر ربه على هذه النعمة ويسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة . ثم شرع في الدلالة على الوحدانية والرد على عبدة الأوثان ، وفيه توقيف على أدب حسن وبعث على التيمن بالحمد والصلاة قبل الشروع في كل كلام يعتد به ، ولذا توارثه العلماء خلفاً عن سلف فافتتحوا بهما أمام كل كتاب وخطبة ، وعند التكلم بكل أمر له شأن . قال جار الله : معنى الاستفهام « وأم » المتصلة في قوله { الله خير أمّا يشركون } إلزام وتبكيت وتهكم بحالهم وتنبيه على الخطأ المفرط والجهل المفرط؛ فمن المعلوم أنه لا خير فيما اشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه . قلت : يحمل أن يكون هذا من قبيل الكلام المنصف . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال : بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم . ثم عدل عن الاستفهام بذكر الذات إلى الاستفهام بذكر الصفات مبتدئاً بما هو أبين الحسيات فقال : { أمن خلق السموات } وإنما قال ههنا { وأنزل لكم } واقتصر في إبراهيم على قوله { وأنزل } [ إبراهيم : 32 ] لأن لفظة { لكم } وردت هناك بالآخرة ، وليس قوله { ما كان لكم } مغنياً عن ذكره لأنه نفي لا يفيد معنى الأول . ومعنى الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله { فأنبتنا } تأكيد معنى اختصاص الإنبات بذاته لأن الإنسان قد يتوهم أن له مدخلاً في ذلك من حيث الغرس والسقي .
والحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة . والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به . وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال : النساء ذهبت . ومعنى { أءله مع الله } أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له . قال في الكشاف : قوله { بل هم } بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم . قلت : إنما تعين الغيبة ههنا لأن الخطاب في قوله { ما كان لكم } إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات . ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك . وقوله { يعدلون } من العدل أو من العدول اي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد .
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها . والقرار المستقر اي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها . والحاجز البرزخ كما في « الفرقان » . ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم . والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله سبحانه ، وإنه افتعال من الضر . وعن ابن عباس : هو المجهود . وعن السدي : الذي لا حول له ولا قوة . وقيل : هو المذنب ودعاؤه استغفاره . والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين ، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في « البقرة » وفي ادعوني وقوله { ويكشف السوء } كالبيان لقوله { يجيب المضطر } والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر « الأنعام » . وقوله { قليلاً ما تذكرون } معناه تذكرون تذكراً قليلاً ، ويجوز أن يراد بالقلة العدم . ثم استدل لحاجة الناس وخصوصاً الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم ، ثم استدل باحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرين بالإعادة أيضاً ، فاحتج عليهم بذلك لذلك . والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات . واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله { أءله مع الله } في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله { بل هم قوم يعدلون } ثم بقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } ثم بقوله { قليلاً ما تذكرون } ثم بقوله { تعالى الله عما يشركون } ثم { هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق ، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا ، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فاشركوا من غير حجة وبرهان . قل لهم يا محمد : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلهاً آخر . وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب . قال في الكشاف : هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعاً يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحداً لم يذكر كقوله :
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والمعنى إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتاً للقول بخلوها عن الأنيس . قلت : لقائل أن يقول : إن استثناء نقيض المقدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب ، ولا من امتناع كون اليعافير أنيساً القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس . وقال غيره : إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين ايضاً . وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز ، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز ، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازاً معاً . وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضاً لأنهم أيضاً عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي . وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب . ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم : « بئس خطيب القوم أنت » لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى . والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لا بد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة ، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب ، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معاً من غير محذور شرعي ولا عقلي ، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة . عن عائشة : من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وعن بعضهم : أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن الخلق مكره . قال المفسرون : سال المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة فنزلت . وأيان بمعنى متى . إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو « فعال » من أن يئين فلو سمي به لانصرف ، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزاً آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال { بل ادّارك } أي تدارك . ومن قرأ بغير الألف فهو « افتعل » من الدرك أي تتابع واستحكم . ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها ، ويمكن أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكماً بهم كما يقول لأجل الناس : ما أعلمك .
وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقيناً فلأن لا يعرفوا وقته أول . ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم « أدركت الثمرة » لأن تلك غايتها التي عندها تعدم . وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك ، وصفهم أوّلاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلاً إنهم لا يعلمون القيامة فضلاً عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية ، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم عمون عن إدراك الدليل مع وضوحه ، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون « عن » والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض . وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كما يقال : بنو فلان فعلوا . وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف . قلت : قد تقدّم ذكر المشركين في قوله { بل هم قوم يعدلون } وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة .
التأويل : { ولقد أرسلنا } صالح القلب بالإلهام الرباني إلى صفات القلب وهو الفريق المؤمن ، وإلى النفس وصفاتها وهو الفريق الكافر . والسيئة طلب الشهوات واللذات الفانية ، والحسنة طلب السعادات الباقية . وكان في مدينة القالب الإنساني { تسعة رهط } هم خواص العناصر الأربعة والحواس الخمس { يفسدون } في ارض القلب بإفساد الاستعداد الفطري { تقاسموا } بالموافقة على السعي في إهلاك القلب وصفاته وأن يقولوا لوليه وهو الحق سبحانه . ما أهلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمَّارة حين قصدت هلاكهم { ومكروا مكراً } في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية { ومكرنا مكراً } بتوارد الواردات الربانية وتجلي صفات الجمال والجلال { وهم لا يشعرون } أن صلاحهم في هلاكهم . فمن قتلته فأنا ديته { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } أنا أفنينا خواص التسعة وآفاتها وأفنينا قومهم أجميعن وهم النفس وصفاتها { فتلك بيوتهم } وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس خالية عن الحواس المهلكة والآفات الغالبة { بما ظلموا } أي وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب ، وكان موضعها النفس بأمر الشارع لا بالطبع لصلاح القالب وبقائه { وأنجينا الذين آمنوا } وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها . ولوط الروح { إذ قال لقومه } وهم القلب والسر والعقل عند تبدل أوصافهم بمجاورة النفس { أتأتون الفاحشة } وهي كل ما زلت به اقدامهم عن الصراط المستيم وأمارتها في الظاهر إتيان المناهي على وفق الطبع ، وفي الباطن حب الدنيا وشهواتها { وأنتم تبصرون } تميزون الخير من الشر .
وإتيان الرجال دون النساء عبارة عن صرف الاستعداد فيما يبعد عن الحق لا فيما يقرب منه { فما كان جواب قومه } وهم القلب المريض بتعلق حب الدنيا والسر المكدر بكدورات الرياء والنفاق والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال { أخرجوا } الصفات الروحاينة من قرية الشخص الإنساني { إنهم أناس يتطهرون } من لوث الدنيا وشهواتها { فأنجيناه وأهله } وهم السر والعقل وصفاتهما من عذاب تعلق الدنيا { إلا امرأته } وهي النفس الأمارة بالسوء { وأمطرنا } على النفس وصفاتها مطراً بترك الشهوات { فساء مطر المنذرين } أي صعب فإِن الفطام من المألوفات شديد وهذه حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال { قل الحمد لله وسلام } من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي { على عباده } { أمن خلق } سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة { فأنبتنا به حدائق } من العلوم والمعاني والأسرار { أءله مع الله } من الهوى { أمن جعل } أرض النفس { قراراُ } في الجسد { وجعل خلالها أنهاراً } من دواعي البشرية { وجعل لها رواسي } من القوى والحواس { وجعل بين } بحر الروح وبحر النفس { حاجزاً } القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما { أءله مع الله } كما زعمت الطبائعية { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } في العدم بلسان الحال { ويجعلكم } مستعدين لخلافته في الأرض { أءله مع الله } كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد { أمن يهديكم في ظلمات } بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية ، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية { أءله مع الله } كما يقول المنجمون : مطرنا بنوء كذا . وكما يقوله قاصروا النظر : هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا { من يبدأ الخلق } بالوجود المجازي { ثم يعيده } بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة { ومن يرزقكم } من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح { أءله مع الله } كائناً من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم .
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
القراآت : { أيذا } { أينا } بياء مكسورة بعد همزة مفتوحة : ابن كثير ويعقوب غير زيد . مثله ولكن بالمد : ابو عمرو وزيد { أيذا } بهمزة مفتوحة ثم ياء مكسورة { إنا } بكسر الهمزة وبعدها نون مشددة : سهل { إذا } من غير همزة الاستفهام { آينا } بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة : يزيد وقالون ، مثله ولكن من غير مد : نافع غير قالون { أئذا } بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة { إنا } بهمزة مكسورة بعدها نون مشددة : علي وابن عامر هشام يدخل بينهما مدة { أئذا } { أئنا } بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة فيهما : حمزة وخلف وعاصم . { ولا يسمع } بفتح الياء التحتانية { الصم } بالرفع : ابن كثير وعباس وكذلك في « الروم » . الآخرون بضم التاء الفوقانية وكسر الميم ونصب الصمّ { وما أنت تهدي } على أنه فعل العمى بالنصب وكذلك في « الروم » حمزة . الباقون { بهادي } على أنه اسم فاعل العمى بالجر أتوه مقصوراً على أنه فعل ماض : حمزة وخلف وحفص والمفضل . الآخرون بالمد على أنه اسم فاعل بما يفعلون على الغيبة : ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحماد والأعشى والبرجمي والحلواني عن هشام . { فزع } بالتنوين : عاصم وحمزة وعلي وخلف { يومئذ } بفتح الميم : حمزة وأبو جعفر ونافع ، الباقون بكسرها { تعملون } بتاء الخطاب : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص .
الوقوف : { لمخرجون } 5 { من قبل } لا تحرزاً عن الابتداء بمقول الكفار { الأولين } 5 { المجرمين } 5 { يمكرون } 5 { صادقين } 5 { تستعجلون } 5 { لا يشكرون } 5 { وما يعلنون } 5 { مبين } 5 { يختلفون } 5 { للمؤمنين } 5 { بحكمه } ج تعظيماً للابتداء بالصفتين مع اتفاق الجملتين { العليم } 5 ج للآية واختلاف الجملتين وللفاء واتصال المعنى اي إذا كان الحكم لله فأسرع اتوكل { على الله } ط { المبين } 5 { مدبرين } 5 { ضلالتهم } ط { مسلمون } 5 { تكلمهم } ج لمن قرأ بكسر الألف فإنه يحتمل أن يكون الكسر للابتداء ولكونها بعد التكليم لأنه في معنى القول ، ومن فتح فلا وقف إذ التقدير تكلمهم بأن { لا يوقنون } 5 { يوزعون } 5 { تعملون } 5 { لا ينطقون } 5 { مبصراً } ط { يؤمنون } 5 { من شاء الله } ط { داخرين } 5 { السحاب } ط { كل شيء } ط { تفعلون } 5 { خير منها } لا لأن ما بعده من تتمة الجزاء { آمنون } 5 لا لعطف جملتي الشرط { في النار } 5 { تعملون } 5 { شيء } ز للعارض وطول الكلام مع العطف { المسلمين } 5 لا للعطف { القرآن } ج { لنفسه } ج { المنذرين } 5 { فتعرفونها } ط { تعملون } 5 .
التفسير : لما ذكر أن المشركين في شك من أمر البعث عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين عامة شبهتهم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم تراباً عند الحس . قال النحويون : العامل في « إذا » ما دل عليه { أئنا لمخرجون } وهو نخرج والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة .
وإنما ذهبوا إلى هذا التكلف بناء على أن ما بعد همزة الاستفهام وكذا ما بعد « أن » واللام لا يعمل فيما قبلها لأن هذه الأشياء تقتضي صدر الكلام ، وتكرير حرف الاستفهام في « إذا » و « أن » جميعاً إنكار على إنكار . والضمير في « أنا » لهم ولآبائهم جميعاً وقد مر في سورة المؤمنين تفسير قوله { لقد وعدنا } وبيان المتشابه فليدّكر . ثم أوعدهم على عدم قبول قول الأنبياء بالنظر في حال الأمم السالفة المكذبة . ولم تؤنث « كان » لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي ، أو لأن المراد كيف كان عاقبة أمرهم . والمراد بالمجرمين الكافرون لأن الكفر جرم مخصوص وفيه تنبيه على قبح موقع الجرم اياماً كان؛ فعلى المؤمن أن يتخوّف عاقبتها ويترك الجرائم كلها كيلا يشارك الكفرة في هذا الاسم الشنيع . ومعنى قوله { ولا تحزن عليهم } الآية . قد مر في آخر « النحل » . وفي هذه الآي تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يناله من قومه . ثم إنهم استعجلوا العذاب الموعود على سبيل السخرية فأمره أن يقول لهم { عسى أن يكون } وهذه على قاعدة وعد الملوك ووعيدهم يعنون بذلك القطع بوقوع ذلك الأمر مع إظهار الوقار والوثوق بما يتكلمون . وإن كان على سبيل الرجاء والطمع ولمثل هذا قال { ردف لكم بعض الذي } دون أن يقول « ردف لكم الذي » . واللام زائدة للتأكيد كالباء في { ولا تلقوا بأيديكم } [ البقرة : 195 ] أو أريد أزف لكم ودنا لكم يتضمن فعل يتعدى بالام ومعناه تبعكم ولحقكم . وقال بعضهم : المقتضي للعذاب والمؤثر فيه حاصل في الدنيا إلا أن الشعور به غير حاصل كما للسكران أو النائم ، فتمام العذاب إنما يحصل بعد الموت وإن كان طرف منه حاصلاً في الدنيا فلهذا ذكر البعض . ثم ذكر أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة في الدنيا ولكنهم لا يشكرون هذه النعمة فيتسعجلون وقوع العقاب بجهلهم ، وفيه دليل على أن نعمة الله تعم الكافر والمؤمن . ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم مما يخفون كالقصود والدواعي وعلى ما يظهرون من أفعال الجوارح وغيرها ، ولعل الغرض أنه يعلم مايخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك . ثم أكد ذلك بأن المغيبات كلها ثابتة في اللوح المحفوظ ، والعاقبة إما مصدر كالعافية ، وإما اسم غير صفة كالذبيحة والربيئة ، وإما صفة والتاء للمبالغة كالرواية في قولهم « ويل للشاعر من راوية السوء » كأنه قيل : وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وهو مثبت في الكتاب الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة .
ثم بين لدفع شبه القوم إعجاز القرآن المطابق قصصه لما في التوراة والإنجيل مع كونه صلى الله عليه وسلم أمياً ، والمطابق غرضه لما هو الحق في نفس الأمر ، وقد حرفه بنوا إسرائيل وجهه كاختلافهم في شأن المسيح في كثير من الشرائع والأحكام ، وذكر أنه هدى ورحمة لمن آمن منهم وأنصف أو منهم ومن غيرهم .
ثم ذكر أن من لم ينصف منهم فالله يقضي بينهم بحكمة أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكماً { وهو العزيز } الذي لا يغالب فيما يريد { العليم } بما يحكم وبمن يحكم لهم أو عليهم . ثم أمره بالتوكل وقلة المبالاة بأعداء الدين وعلل ذلك بأمرين : أحدهما أنه على الحق الأبلج وفيه أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله ، وثانيهما قوله { إنك لا تسمع الموتى } لأنه إذا علم أن حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون والعمي الذين لا يبصرون ولا يهتدون ، صار ذلك سبباً قوياً في إظهار مخالفتهم وعدم الاعتداد بهم . وقوله { إذا ولوا مدبرين } تأكيد لأن الأصم إذا توجه إلى الداعي لم يرج منه سماع فكيف إذا ولى مدبراً وهداه عن الضلالة كقولك « سقاه عن العيمة » . ثم بين أن إسماعه لا يجدي إلا على الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته { فهم مسلمون } أي مخلصون منقادون لأمر الله بالكلية . ثم هدد المكلفين بذكر طرف من اشراط الساعة وما بعدها فقال { وإذا وقع القول } اي دنا وشارف أن يحصل مؤاده ومفهومه { عليهم } وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب { أخرجنا لهم دابة من الأرض } وهي الجساسة . وقد تكلم علماء الحديث فيها من وجوه : أحدها في مقدار جسمها . فقيل : إن طولها ستون ذراعاً . وقيل : إن راسها يبلغ السحاب . وعن أبي هريرة : ما بين قرنيها فرسخ للراكب . وثانيها في كيفية خلقتها فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان . وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هر وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعاً . وثالثها في كيفية خروجها؛ عن علي رضي الله عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها . وعن الحسن : لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام . ورابعها مكان خروجها ، « سئل النبي صلى الله عليه وسلم من اين تخرج الدابة؟ فقال : من أعظم المساجد حرمة على الله » يعني المسجد الحرام . وقيل : تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية . وخامسها في عدد خروجها؛ روي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية ، ثم تكمن دهراً طويلاً فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد ، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة .
وسادسها فيما يصدر عنها من الآثار والعجائب فظاهر الآية أنها تكلم الناس ، وفحوى الكلام { أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } قال جار الله : معناه أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات . ومن قرأ ( إن ) مكسورة فقولها حكاية قول الله فلذلك قالت { بآياتنا } أو المعنى بآيات ربنا فحذف المضاف أو سبب الإضافة اختصاصها بالله كما يقول بعض خاصة الملك : خيلنا وبلادنا . وإنما هي خيل مولاه وبلاده . عن السدي : تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام . وعن ابن عمر : تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشأم ثم اليمن فتفعل مثل ذلك . روي بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون وإذ تضطرب الرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان ، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ويكتب بين عينيه « مؤمن » وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه ويكتب بين عينيه « كافر » . وروي أنها تقول لهم : يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار . وقيل : تكلمهم من الكلم على معنى التبكيت والمراد به الجرح وهو الوسم بالعصا والخاتم .
ثم ذكر طرفاً مجملاً من أهوال يوم القيامة قائلاً { ويوم } أي واذكر يوم { نحشر من كل أمة فوجاً } أي جماعة كثيرة { ممن يكذب } هذه للتبيين والأولى للتبعيض وقوله { بآياتنا } يحتمل معجزات جميع الرسل أو القرآن خاصة . وقد مر معنى قوله { فهم يوزعون } في وصف جنود سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار . وعن ابن عباس : الفوج أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة ، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار . والواو في قوله { ولم تحيطوا } للحال كأنه قيل : أكذبتم بآياتي بادي الرأي من غير الوقوف على حقيقتها وأنها جديرة بالتصديق أو بالتكذيب . ويجوز أن تكون الواو للعطف والمعنى أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتفهمها ، فقد يجحد المكتوب إليه كون الكتاب من عند من كتبه ومع ذلك لا يدع تفهم مضمونه وأن يحيط بمعانيه . قال جار الله : { أمّاذا كنتم تعملون } للتبكيت لا غير لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب ولم يشتهر من حالهم إلا ذلك . وجوّز أن يراد ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك كأنكم لم تخلقوا إلا لأجله .
وقال غيره : أراد لما لم يشتغلوا بذلك العمل المهم وهو التصديق فأيّ شيء يعملونه بعد ذلك؟ لأن كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل . قال المفسرون : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها وذلك قوله { ووقع القول عليهم } أي العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار . ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة وأحوالها ذكر ما يصلح أن يكون دليلاً على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال { ألم يروا } الآية . ووجه دلالته على التوحيد أن التقليب من النور إلى الظلمة وبالعكس لا يتم إلا بقدرة قاهرة ، ودلالته على الحشر أن النوم يشبه الموت والانتباه يشبه الحياة ، ودلالته على النبوّة أن كل هذا لمنافع المكلفين وفي بعثة الرسل إلى الخلق ايضاً منافع جمة ، فما المانع لمفيض الخيرات من إيصال بعض المنافع دون البعض ، أو من رعاية بعض المصالح دون البعض؟ ووصف النهار بالإبصار إنما هو باعتبار صاحبه وقد مر في « يونس » . والتقابل مراعى في الآية من حيث المعنى كأنه قيل : ليسكنوا فيه وليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب . ثم عاد إلى ذكر علامة أخرى للقيامة فقال { ويوم ينفخ في الصور } وقد تقدم تفسيره في « طه » و « المؤمنين » . وقوله { ففزع } كقوله { ونادى } [ الأعراف : 48 ] { وسيق } [ الزمر : 73 ] والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون { إلا من شاء الله } قال أهل التفسير : إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة . وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل . وقيل : هم الشهداء . وعن الضحاك : الحور وخزنة النار وحملة العرش . وعن جابر أن منهم موسى لأنه صعق مرة . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة { ففزع } موافقة لقوله { وهم من فزع يومئذ آمنون } وفي « الزمر » قال { فصعق } [ الزمر : 68 ] لأن معناه فمات وقد سبق { إنك ميت وإنهم ميتون } [ الزمر : 30 ] .
ومعنى { داخرين } صاغرين أذلاء . وقيل : معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية . وجوّز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له . قال أهل المناظرة : إن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً ، فأخبر الله سبحانه أن حال الجبال يوم القيامة كذلك تجمع فتسير كما تسير الريح السحاب ، فإذا نظر الناظر حسبها جامدة أي واقفة في مكان واحد . { وهي تمرّ مرّ السحاب } قال جار الله { صنع الله } من المصادر المؤكدة كقوله « وعد الله » إلا أن مؤكدة محذوف وهو الناصب ل { يوم ينفخ } والمعنى يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت ، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين صنع الله ، فجعل الإثابة والمعاقبة من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب .
قلت : لا يبعد أن يكون الناصب ل { يوم ينفخ } هو « اذكر » مقدراً ، ويكون { صنع الله } مصدراً مؤكداً لنفسه أي صنع تسيير الجبال ومرها صنع الله . قال القاضي عبد الجبار : في قوله { أتقن كل شيء } دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه . وأجيب بأن الاية مخصوصة بغير الأعراض فإن الأعراض لا يمكن وصفها بالإتقان وهو الإحكام لأنه من أوصاف المركبات . قلت : ولو سلم وصف الأعراض بالإتقان فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص ، ولو سلم فالإجماع المذكور لعله ممنوع يؤيده قوله { إنه خبير بما تفعلون } وإذا كان خبيراً بكل أفعال العباد على كل نحو يصدر عنهم وخلاف معلومه يمتنع أن يقع فقد صحت معارضة الشعري ، وعلى مذهب الحكيم وقاعدته صدور الشر القليل من الحكيم لأجل الخير الكثير لا ينافي الإتقان والله أعلم . ثم فصل أعمال العباد وجزاءها بقوله { من جاء بالحسنة فله خير منها } إلى آخر الآيتين . وبيان الخيرية بالأضعاف وبأن العمل منقض والثواب دائم ، وبأن فعل السيد بينه وبين فعل العبد بون بعيد على أن الأكل والشرب إنما هو جزاء الأعمال البدنية ، وأما الأعمال القلبية من المعروفة والإخلاص فلا جزاء لها سوء الالتذاذ بلقاء الله والاستغراق في بحار الجمال والجلال جعلنا الله أهلاً لذلك . وقيل : المراد فله خير حاصل منها . وعن ابن عباس : أن الحسنة كلمة الشهادة التني هي أعلى درجات الإيمان . واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يعاقب مسلم . وأجيب بأنه يكفي في الخيرية أن لا يكون عقابه مخلداً . ثم وعد المحسنين أمراً آخر وهو قوله { وهم من فزع يومئذ آمنون } وآمن يعدّى بالجار وبنفسه . والتنوين في فزع في إحدى القراءتين إما للنوع وهو فزع نوع العقاب فإن فزع الهيبة والجلال يلحق كل مكلف وهو الذي أثبته في قوله { ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله } وإما للتعظيم أي من فزع شديد لا يكتنهه الواصف وهو خوف النار آمنون . وأما حال العصاة فأن تكب في النار فعبر عن الجملة بالوجه لأنه أشرف أو لأنهم يلقون في الجحيم منكوسين . وقوله { هل تجزون } الخطاب فيه إما على طريقة الالتفات وإما على سبيل الحكاية بإضمار القول أي يقال لهم عند الكب هذا القول . ثم ختم السورة بخلاصة ما أمر به رسوله وذلك أشياء منها : عبادة الرب سبحانه . ثم وصف الرب بأمرين احترازاً من ارباب أهل الشرك أولهما كونه رباً لما هو أقرب في نظر قريش وهو بلدة مكة حرسها الله . وفيه نوع منة عليهم كقوله { حرماً آمناً ويتخطف الناس من حولهم }
[ العنكبوت : 67 ] وثانيهما عام وهو قوله { وله كل شيء } ومنها أمره بالإسلام وهو الإذعان الكلي لأوامر الله بجميع أعضائه وجوارحه . ومنها أمره بتلاوة القرآن أي بتلوّه اي أتباعه وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما أمر به أتم قيام حتى خوطب بقوله { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [ طه : 2 ] ثم لما بين سيرته ذكر أن نفع الاهتداء وبال الضلال لا يعود إلا إلى المكلف أو عليه وليس على الرسول إلا البلاغ والإنذار . ثم جعل ختم الخاتمة الأمر بالحمد كما هو صفة أهل الجنة وبعد أمره بالحمد على نعمة النبوة والرسالة هدّد أعداءه بما سيريهم في الآخرة من الآيات الملجئة إلى الإقرار وذلك حين لا ينفعهم الإيمان . قاله الحسن . وعن الكلبي : هي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من العقوبات في الدنيا . { وما ربك بغافل عما تعملون } ولكنه من وراء جزاء العاملين .
التأويل : { قل سيروا } في أرض البشرية { فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين } لأن خواص نفوسهم انموذج من جهنم كما أن خواص أهل القلوب انموذج من الجنة { وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم } لأنه خمر طينة آدم بيديه اربعين صباحاً ونفخ فيه من روحه فهو مطلع على قالبه وعلى قلبه ولهذا قال { وما من غائبة } من الخواص في سماء القلب وأرض القالب { إلا في كتاب مبين } وهو علم الله تعالى أن هذا القرآن يقص لأن كل كتاب كان مشتملاً على شرح مقام ذلك النبي ولم يكن لنبي مقام في القرب مثل نبينا ، فلا جرم لم يكن في كتبهم من الحقائق مثل ما في القرآن ولهذا قال { إن ربك يقضي بينهم } اي بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي بحكمه أي بحكمته بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم ويبلغ متابعي نبينا صلى الله عليه وسلم إلى مقام المحبة . فاتبعوني يحببكم الله { وهو العزيز } الذي لعزته لا يهدي كل مثمن إلى مقام حبيبه { العليم } بمن يستحق هذا المقام . { فتوكل على الله إنك على الحق المبين } في دعوة الخلق إلى الله { وإذا وقع القول عليهم } وذلك بعد البلوغ ومضى زمان الرعي في مراتع البهيمية { أخرجنا لهم } من تحت أرض البشرية { دابة تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون } وهي النفس الناطقة فإنها إلى الآن كانت موصوفة بصفة الصمم والبكم بتبعية النفس الأمارة التي لا توقن هي وصفاتها بالدلائل . { ويوم نحشر من كل أمة فوجاً ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون } من كلامه وهي صفات الروح والقلب وذلك بعد التصفية والمداومة على الذكر والفكر ، حتى إذا رجعوا إلى الحضرة { قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علماً أماذا كنتم تعملون } بعد أن كنتم مصدقيها عند خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] وهذا خطاب فيه استبطاء وعتاب وقع قول يحبهم عليه بدل ما ظلموا فهم لا ينطقون كقوله « من عرف الله كل لسانه » { ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصراً } جعلنا ليل البشرية سبباً لاستجمام القلب ونهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مبصراً يبصر به الحق من الباطل .
{ ويوم ينفخ } إسرافيل المحبة في صور القلب { ففزع } من في سموات الروح من الصفات الروحانية ومن في أرض البشرية من الصفات النفسانية { إلا من شاء الله } من أهل البقاء الذين أحيوا بحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحب . وفزع الصفات هيجانها للطلب بتهييج أنوار المحبة { إلا من شاء الله } وهو الخفي وهي لطيفة في الروح بالقوة وإنما تصير بالفعل عند طلوع شموع الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية { وترى } جبال الأشخاص { جامدة } على حالها { وهي تمر } بالسير في الصفات وتبديل الأخلاق { مر السحاب } { رب هذه البلدة } وهي القلب والرب هو الله كما أن رب بلدة القالب هو النفس الأمارة وأنه تعالى حرم بلدة القلب على الشيطان كما قال { يوسوس في صدور الناس } [ الناس : 5 ] دون أن يقول « في قلوب الناس » { سيريكم آياته فتعرفونها } فيه إذا لم ير الآيات لم يمكن عرفانها اللهم اجعلنا من العارفين واكشف عنا غطاءنا بحق محمد وآله صلى الله وسلم عليهم .
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
القراآت : { ويرى } بفتح الياء وإمالة الراء { فرعون وهامان وجنودهما } مرفوعات : حمزة وعلي وخلف وهكذا قرؤوا قوله { وحزناً } بضم الحاء وسكون الزاي الباقون بفتحها .
الوقوف : { طسم } كوفي . { المبين } 5 { يؤمنون } 5 { نساءهم } ط { المفسدين } 5 { الوارثين } 5 لا للعطف { يحذرون } 5 { أرضعيه } ج للفاء مع احتمال الابتداء بإذا الشرطية { ولا تحزني } ج للابتداء بإن مع أن التقدير فإنا . { من المرسلين } 5 { وحزنا } ط { خاطئين } 5 { ولك } ط { لا تقتلوه } ق والوجه الوصل لأن الرجاء بعده تعليل للنهي . { لا يشعرون } 5 { فارغاً } ط { المؤمنين } 5 { قصيه } ز بناء على أن التقدير فتبعته فبصرت { لا يشعرون } 5 لا بناء على أن الواو للحال أي وقد حرمنا وقوله { فقالت } عطف على قوله { فبصرت } والحال معترض { ناصحون } 5 { لا يعلمون } 5 { وعلماً } 5 { المحسنين } 5 { يقتتلان } لا لأن ما بعده صفة الرجلين ظاهراً ولكن مع إضمار أي يقال لهما هذا من شيعته وهذا من عدوّه ، وليس ببعيد أن يكون مستأنفاً من { عدوّه } الأول ج لأن ما يتلوه معطوف على قوله فوجد مع اعتراض عارض من { عدوّه } الثاني لا للعطف عليه مع عدم اتحاد القائل { الشيطان } ط { مبين } 5 { فغفر له } ط { الرحيم } 5 { للمجرمين } 5 { يستصرخه } ط { مبين } ط { لهما } لا لأن ما بعده جواب « لما » { بالأمس } ط للابتداء بالنفي والوصل أوجه لاتحاد القائل { المصلحين } 5 { يسعى } ز لعدم العاطف مع اتحاد القول { من الناصحين } 5 { يترقب } ز لما قلنا في { يسعى } { الظالمين } 5 .
التفسير : فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة الشعراء . { نتلو عليك } على لسان جبرائيل { من نبأ موسى وفرعون } أي طرفاً من خبرها متلبساً { بالحق } أو محقين { لقوم يؤمنون } لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء . ثم شرع في تفصيل هذا المجمل وفي تفسيره كأن سائلاً سأل : وكيف كان نبؤهما؟ فقال مستأنفاً { إن فرعون علا في الأرض } أي طغى وتكبر في أرض مملكته { وجعل أهلها شيعاً } فرقاً يشيعونه على ما يريد ويطيعونه أو جعلهم أصنافاً في استخدامه فمن بان وحارث وغير ذلك ، أو فرقاً مختلفة بينهم عداوة ليكونوا له أطوع وهم بنو إسرائيل والقبط . وقوله { يستضعف } حال من الضمير في { جعل } أو صفة { شيعاً } أو مستأنف . و { بذبح } بدل منه . وقوله { إنه كان من المفسدين } بيان أن القتل من فعل أهل الفساد لا غير لأن الكهنة إن صدقوا فلا فائدة في القتل ، وإن كذبوا فلا وجه للقتل اللهم إلا أن يقال : إن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا ، وضعفه ظاهر لأن المقدر كائن ألبتة { ونريد } حكاية حال ماضية معطوفة على قوله { إن فرعون علا } فهذه أيضاً تفسير للنبأ .
وجوز أن يكون حالاً من الضمير في { يستضعف } اي يستضعفهم هو ونحن نريد أن نمنّ عليهم في المآل ، فجعلت إرادة الوقوع كالوقوع . { ونجعلهم أئمة } مقدمين في أمور الدين والدنيا . وعن ابن عباس : قادة يقتدى بهم في الخير . وعن مجاهد : دعاة إلى الخير وعن قتادة : ولاة أي ملوكاً . ومعنى الوراثة والتمكين في ارض مصر والشأم هو أن يرثوا ملك فرعون وينفذ فيه أمرهم ، والذي كانوا يحذرون منه هو ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم . يروى أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد . قال ابن عباس : إن أم موسى لما قربت ولادتها أرسلت إلى قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بالحبالى وكانت مصافية لأم موسى وقالت لها : قد نزل بي ما نزل ولينفعني حبك ، فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه ، وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها ، ثم قالت : ما جئتك إلا لأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك هذا حباً شديداً فاحفظيه . فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها نفر من بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته : يا أماه هذا الحرس فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعقل ما تصنع لما طاش من عقلها . فدخلوا فإذا التنور مسجور وإذا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا : لم دخلت القابلة عليك؟ قالت : إنها حبيبة لي دخلت للزيارة . فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت : يا أخت موسى أين الصبي؟ فقالت : لا أدري سمعت بكاءه في التنور ، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه برداً وسلاماً . فلما ألح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها أن يذبح فألهمها الله تعالى أن تتخذ له تابوتاً ثم تقذف التابوت في النيل . فجاءت إلى النجار وأمرته بنجر تابوت طوله خمسة أشبار في عرض خمسة فعلم النجار بذلك فجاء إلى موكل بذبح الأبناء فاعتقل لسانه فرجع ثم عاد مرات فعلم أنه من الله فأقبل على النجر .
وقيل : لما فرغ من صنعة التابوت ثم أتى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينيه وقلبه بألم فلم يعرف الطريق ، وأيقن أنه من الله وأنه هو المولود الذي يخافه فرعون فآمن في القوت وهو مؤمن آل فرعون . وانطلقت أم موسى وألقته في النيل ، وكانت لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها ، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها ، وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا : يا أيها الملك لا تبرأ هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبيه الإنس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك في يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس .
فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومع آسية زوجته ، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأرياح والأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون : ائتوني به ، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه ، فنظرت آسية فرأت نوراً في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا هو صبي صغير في مهده يمص إبهامه لبناً ، وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم ، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها . فقال الأعزة من قوم فرعون : إنا نظن أن هذا هو الذي تحذر منه ، فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله .
قال علماء البيان : اللام في قوله { ليكون لهم عدوّاً } لام العاقبة وأصلها التعليل إلا أنه وارد هنا على سبيل المجاز استعيرت لما يشبه التعليل من حيث إن العداوة والحزن كان نتيجة التقاطهم كما أن الإكرام مثلاً نتيجة المجيء في قولك « جئتك لتكرمني » وبعبارة أخرى ، إن مقصود الشيء والغرض منه هو الذي يؤل إليه أمره فاستعملوا هذه اللام فيما يؤل إليه الأمر على سبيل التشبيه وإن لم يكن غرضاً . ومعنى كونهم خاطئين هو أنهم أخطؤا في التدبير حيث ربوا عدوّهم في حجرهم أو أنهم اذنبوا وأجرموا ، وكان عاقبة ذلك أن يجعل الله في تربيتهم من على يديه هلاكهم . قال النحويون { قرة عين } خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولا يقوى أن يجعل مبتدأ و { لا تقتلوه } خبراً لأن الطلب لا يقع خبراً إلا بتأويل ، ولو نصب لكان أقوى لأن الطلب من مظان النصب . روي في حديث أن آسية حين قالت { قرة عين لي ولك } قال فرعون : لك لا لي ، ولو قال هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها . ثم إنها رأت فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وتوسمت فيه أمارات النجابة فقالت { عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً } فإنه أهل للتبني وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء . قال في الكشاف { وهم لا يشعرون } حال من آل فرعون . وقوله { إن فرعون } الآية . جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم والتقدير : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً . وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه . قلت : لا يبعد أن تكون الجملة حالاً من فاعل { قالت } أي قالت كذا وكذا في حال عدم شعورهم بالمآل وهو أن هلاكهم على يده وبسببه . وقال الكلبي : اي لا يشعرون بنو إسرائيل وأهل مصر أنا التقطناه .
قوله سبحانه { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } قال الحسن : اي فارغاً من كل هم إلا من هم موسى . وقال أبو مسلم : فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله { وأفئدتهم هواء } [ إبراهيم : 43 ] أي جوف لا عقول فيها وذلك أنها حين سمعت بوقوعه عند فرعون طار عقلها جزعاً ودهشاً . وقال محمد بن إسحاق والحسن في رواية : أي فارغاً من الوحي الذي أوحينا إليها وذلك قولنا { فألقيه في اليم ولا تخافي } الغرق وسائر المخاوف { ولا تحزني } والخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع ، والحزن غم يلحقه لواقع فنهيت عنهما جميعاً ، فجاءها الشيطان وقال لها : كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت هلاكه . ولما أتاها خبر موسى أنه وقع إلى يد فرعون أنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها . وقال أبو عبيدة : فارغاً من الخوف فالله تعالى يقول { لولا أن ربطنا على قلبها } وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ أما من فسر الفراغ بحصول الخوف فعنده معنى قوله { إن كادت لتبدي به } هو أنها كادت تحدث بأن الذي وجدتموه ابني قاله ابن عباس . وفي رواية عكرمة كادت تقول واإبناه من شدة وجدها به ، وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع . وقال الكلبي : ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون . ثم قال { لولا أن ربطنا على قلبها } بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن { لتكون من المؤمنين } المصدّقين بوعد الله وهو قوله { إنا رادوه إليك } . وأما من فسره بعدم الخوف فالمعنى عنده أنها صارت مبتهجة مسرورة حين سمعت أن فرعون تبناه وعطف عليه ، وأن الشأن أنها قاربت أن تظهر أنه ولدها لولا أن ألهمناها الصبر لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لتبني فرعون وتعطفه . والأول أظهر بدليل قوله { وقالت لأخته قصيه } اي اقتفي اثره وانظري أين وقع وإلى من صار ، وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم { فبصرت به } أي أبصرته { عن جنب } عن بعد أي نظرت إليه مزورّة متجانفة { وهم لا يشعرون } بحالها وغرضها . والتحريم ههنا لا يمكن حمله على النهي والتعبد ظاهراً فلذلك قيل : إنه مستعار للمنع لأن من حرم عليه شيء فقد منعه . وكان لا يقبل ثدي مرضع إما لأنه تعالى منع حاجته إلى اللبن وأحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء ، وإما لأنه أحدث في ألبانهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه . وعن الضحاك : أن أمه أرضعته ثلاثة اشهر فعرف ريحها . و { المراضع } جمع مرضعة وهي المرأة التي تصلح للإرضاع ، أو جمع مرضع وهو الثدي ، أو الرضاع ، فالأول مكان والثاني مصدر و { من قبل } أي من قبل قصصها أثره ، أو من قبل أن رددناه إلى أمه ، أو من قبل ولادته في حكمنا وقضائنا .
روي أنها لما قالت { وهم له ناصحون } قال هامان : إنها لتعرفه وتعرف أهله ، فقالت : إنما أردت وهم للملك ناصحون . والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد . والمراد أنهم يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه ولا يمنعون ما ينفعه في تربيته وغذائه . فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي يعلله فرعون شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع ، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها . فقال لها فرعون : ومن أنت منه فقد ابى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت : إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وعين أجرها . قال في الكشاف : إنما أخذت الأجر على إرضاع ولدها لأنه مال حربي استطابته على وجه الاستباحة . قلت : ولعل ذلك لدفع التهمة فإن مال الحربي لم يكن مستطاباً بدليل قوله { وأحلت لي الغنائم } قالوا : كانت عالمة بأن الله تعالىة سينجز وعده ولكن ليس الخبر كالعيان فلهذا قال سبحانه { ولتلعم أن وعد الله حق ولكن أكثرهم } أي أكثر الناس { لا يعلمون } حقية وعده في ذلك العهد وبعده لإعراضهم عن النظر في آيات الله . وقال الضحاك ومقاتل : يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعد رده إليها . قلت : ويؤيد هذا القول أنه اقتصر على الضمير دون أن يقول « ولكن أكثر الناس » كما قال في سورة يوسف { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ يوسف : 21 ] وقيل : هذا تعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت وأصبح فؤادها فارغاً . وعلى هذا يحتمل أن يكون قوله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } من جملة ما يعلمها أي ولتعلم حقية وعد الله وهذا الاستدراك . وجوز في الكشاف أن يتعلق الاستدراك بقوله { ولتعلم } المقصود أن الرد به إنما كان لهذا الغرض الديني وهو العلم بصدق وعد الله { ولكن أكثرهم لا يعلمون } أن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرة العين وذهاب الحزن .
ثم بين سبحانه كمال عنايته في حقه كما بين في قصة يوسف قائلاً : { ولما بلغ أشده } وزاد ههنا قوله { واستوى } فقيل : بلوغ الأشد والاستواء بمعنى واحد . والأصح أنهما متغايران . والأشد عبارة عن البلوغ ، والاستواء إشارة إلى كمال الخلقة . وعن ابن عباس : الأشد ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين ، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين . وهو عند الأطباء سن الوقوف . فلعل يوسف أعطى النبوة في سن النمو وأعطى موسى إياها في سن الوقوف . والعلم التوراة ، والحكم السنة ، وحكمة الأنبياء سنتهم - قيل : ليس في الآية دلالة على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله { ودخل المدينة } لا تفيد الترتيب . قلت : يشبه أن يستدل على أن النبوة كانت بعد قتل القبطي بأنها كانت بعد تزوجه بنت شعيب ، والتزوج كان بعد فراره منهم إلى مدين كما قرره تعالى في هذه السورة .
وقد أجمل ذلك في الشعراء حيث قال حكاية عن موسى { فعلتها إذا وأنا من الضالين ففرت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً } [ الشعراء : 2021 ] وعلى هذا يمكن أن يراد بالواو الترتيب ويكون المعنى : آتيناه سيرة الحكماء والعلماء قبل البعث فكان لا يفعل فعلاً يستجهل فيه . أما المدينة فالجمهور على أنها القرية التي كان يسكنها فرعون عن فرسخين من مصر . وقال الضحا : هي عين شمس . وقيل : هي مصر . وحين غفلتهم بين العشاءين أو وقت القائلة أو يوم عيد اشتغلوا فيه باللهو . وقيل : أراد غفلتهم عن ذكر موسى وأمره ، وذلك أنه حين ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته في الصغر أمر فرعون بقتله فجيء بجمر فأخذه في فيه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره . قاله السدي . وقيل : إن الغفلة لموسى من اهلها وذلك أنه لما بلغ أشده وآتاه الله الرشد علم أن فرعون وقومه على الباطل فكان يتكلم بالحق ويعيب دينهم وينكر عليهم ، فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل وتستر . قال الزجاج : قوله { هذا } { وهذا } وهما غائبان على جهة الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال : هذا من شيعته وهذا من عدوه . عن مقاتل : أن الرجلين كان كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط . واحتج عليه بأن موسى قال له { إنك لغويّ مبين } والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلماً كأنه قال ممن شايعه على دينه . وإنما وصفه بالغي لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر على أن بني إسرائيل فيهم غلظة الطباع فيمكن أن ينسبوا إلى الغواية بذلك الاعتبار ، ألا ترى أنهم قالوا بعد مشاهدة الآيات : اجعل لنا إلهاً . يروى أن القبطي أراد أن يتسخر الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون . وقيل : إن الإسرائيلي هو السامري { فاستغاثه } سأله أن يخلصه منه { فوكزه } أي دفعه بأطراف الأصابع أو بجمع الكف { فقضى عليه } أي أماته وقتله . الطاعنون في عصمة الأنبياء قالوا : إن كان القبطي مستحق القتل فلم قال { هذا من عمل الشيطان } وقال { رب إني ظلمت نفسي } وإن لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنباً؟ وأيضاً قوله { هذا من عدوّه } يدل على أنه كان كافراً حربياً وكان دمه مباحاً والاستغفار من القتل المباح غير جائز .
وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر . فقوله { هذا من عمل الشيطان } معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان ، أو هذا إشارة إلى عمل المقتول وهو كونه مخالفاً الله ، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به { فاغفر لي } فاستره على هذا كله .
إذا سلم أنه كان نبياً في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة : في قوله { هذا من عمل الشيطان } دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله . ولقائل أن يقول : الشيطان من خلق الله فضلاً عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئاً آخر كما قررنا .
قوله { بما أنعمت عليّ } قيل : أراد به القوة وأنه لن يستعملها إلا في مظاهرة أولياء الله وعلى هذا يكون ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي طاعة ، إذ لو كانت معصية لصار حاصل الكلام بما أ ، عمت عليّ بقبول توبتي فإني أكون مواظباً على مثل تلك المعصية . وقال القفال : الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرماً . وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون ، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى . وقال الكسائي والفراء : إنه خبر ومعناه الدعاء كأ ، ه قال : فلا تجعلني ظهيراً والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها . وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة . عن ابن عباس : أنه لم يستثن أي لم يقل . فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى . وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية ، ولئن صحت فلعله اراد أن جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه ، وبعد موت القبطي من الوكز { أصبح } موسى من غد ذلك اليوم { خائفاً يترقب } الأخبار وما يقال فيه { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه } يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية ، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد . فغويّ بمعنى غاوٍ . وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغوٍ لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء . قال بعضهم : لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال { أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس } وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سبباً لظهور القتل ومزيد الخوف . وقال آخرون : بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله { إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض } لا يليق إلا أن يكون قولاً للكافر . قال جار الله : الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن . وقيل : هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عز وجل .
وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله { وجاء رجل من أقصى المدينة } أي من ابعد مسافاتها إليه . وقوله { يسعى } صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف ، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفاً . قال العلماء : الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفاً وفي « يس » أن يكون صلة ، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل ، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلاً . والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بامره ومعنى { يأتمرون بك } يتشاورون بسببك . وقوله { لك من الناصحين } كقوله { فيه من الزاهدين } [ يوسف : 20 ] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة . { فخرج منها خائفاً يترقب } المكروه من جهتهم وأن يلحق به { قال } ملتجئاً إلى الله { رب نجني من القوم الظالمين } وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنباً وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص .
التأويل : { إن فرعون } النفس الأمارة استولى على من في الأرض الإنسانية { وجعل أهلها } وهم الروح والسر والعقل أصنافاً في الاستخدام لاستيفاء الشهوات { يستضعف طائفة } وهم صفات القلب ، الأبناء الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب ، والنساء الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن { إنه كان من المفسدين } للاستعداد الفطري . { ونرى فرعون } النفس { وهامان } الهوى { وجنودهما } من الصفات البهيمية والسبعية ولاشيطانية { أم موسى } السر لأن القلب تولد من ازدواج الروح والسر { أن أرضعيه } من لبن الروحانية فقد حرم عليه مراضع الحيوانية أو الدنيوية . { فألقيه في اليم } في الدنيا في تابوت القالب { وجاعلوه من المرسلين } أي من القلوب المحدّثين كما قال بعضهم : حدثني قلبي عن ربي { فالتقطه آل فرعون } وهم صفات النفس والقوى البشرية من الجاذبة والماسكة والهاضمة وغيرها فإنها أسباب لتربية الطفل { ليكون لهم } في العاقبة { عدوّاً } يجادلهم بطريق الرياضات والمخالفات . { وحزناً } بترك اللشهوات واللذات وبالدعوة إلى ما لا يلائم هواهم من طاعة الله . { وقالت امرأة فرعون } النفس وهي الجثة لا تقتلوا القلب بسيف الشهوات والانهماك في اسباب اللذات الحسيات . { عسى أن ينفعنا } بأن ينجينا من النار . قال أهل التحقيق : لما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب أنه يكون قرة عينها وولدها فلا جرم نفعها الله بالنجاة ورفع الدرجات ، وحين لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الاعتقاد بل كان يتوقع الهلاك منه كان هلاكه على يده بسيف الصدق وسم الذكر . { وهم لا يشعرون } أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم . { فؤاد أم موسى } هو سر السر ، أخت موسى القلب هو العقل .
ودخل مدينة القالب { على حين غفلة من أهلها } وهم الصفات النفسانية { فوجد فيها رجلين } صفتين . إحداهما من صفات القلب والأخرى من صفات النفس . وفي قوله { هذا من عمل الشيطان } إشارة إلى أن قتل كافر صفات النفس بالجهاد معها إن لم يكن بأمر الحق وعلى سبيل المتابعة لم يعتدّ به { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع كالفلاسفة والبراهمة { إنك لغويّ مبين } لآنك تنازع ذا سلطان قويّ قبل أوانه وهو فرعون النفس . { وجاء رجل } هو العقل { من أقصى } مدينة الإنسانية أي من أعلى مرتبة الروحانية { يسعى } في طلب نجاة موسى القلب فأخرج من مدينة البشرية إلى صحراء الروحانية { خائفاً } من سطوات فرعون النفس { يترقب } مكايدهم .
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
القراآت : { ربي أن } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . و { يصدر } بفتح الياء وضم الدال : ابن عامر ويزيد وأبو عمرو وأبو أيوب . الآخرون بضم الياء وكسر الدال { إني أريد } { ستجدني } بفتح ياء المتكلم فيهما : أبو جعفر ونافع { إني آنست } { إني أنا الله } و { إني أخاف } بفتح ياء المتكلم في الكل : ابو جعفر ونافع وأبو عمرو و { لعلي آتيكم } بفتح الياء : هم وابن عامر { جذوة } بفتح الجيم : عاصم وبضمها حمزة وخلف . الباقون بكسرها . { من الرهب } بفتح الراء وسكون الهاء : حفص ، وبفتحهما أبو عمرو وسهل ويعقوب وابو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون بضم الراء وسكون الهاء { فذاناك } بتشديد النون : ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو { معي } بالفتح : حفص { ردا } بغير همز : أبو جعفر ونافع وابن كثير . الآخرون بضم الراء وهمزة في الوقف { يصدقني } بالرفع : حمزة وعاصم { يكذبون } بالياء في الحالين : يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل { قال موسى } بغير واو : ابن كثير { ربي أعلم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . و { من يكون } على التذكير : حمزة وعلي وخلف والمفضل { لا يرجعون } بفتح الياء وكسر الجيم : نافع ويعقوب وعلي وخلف .
الوقوف : { السبيل } 5 { يسقون } 5 لأنه رأس آية عند الأكثرين مع عطف المتفقتين { تذودان } ج لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد الفاعل { خطبكما } ط { الرعاء } ز لأن ما بعده منقطع لفظاً ومعنى كأنه قال : فلم خرجتما فقالتا تعريضاً بالاستقامة وأبونا شيخ { كبير } ط { فقير } 5 { على استحياء } ز لعدم العاطف مع اتحاد القائل ، ومن وقف على { تمشي } ويجعل على استحياء حالاً مقدماً اي قالت مستحيية فلا وجه له في الوقف { لنا } ط لأن جواب « لما » منتظر وقبله حذف أي فذهب معها فلما جاءه فكأن الفاء لاستئناف القصص لأن قال جواب « لما » . { لا تخف } ز لأن قوله { نجوت } غير متصل به نظماً وليفصل بين البشارتين أي لا تخف ضيماً وقد نجوت من ظلم فرعون { الظالمين } 5 { استأجره } ج للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل { الأمين } 5 { حجج } ج للشرط مع الفاء { عندك } ج لابتداء النفي مع الواو { عليك } ج { الصالحين } 5 { وبينك } ج لابتداء الشرط { عليّ } ط { وكيل } 5 { ناراً } 5 لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد القائل { تصطلون } 5 { العالمين } 5 لا { عصاك } ط لحق الحذف أي فألقاها فحييت فلما رآها { ولم يعقب } ط { لا تخف } ج لمثل ما مر أي لا تخف باس العصا إنك أمنت بها بأس فرعون { الآمنين } 5 { سوء } ز لعطف الجملتين المتفقتين مع طول الكلام 5 { وملئه } ط { فاسقين } 5 { يقتلون } 5 { يصدقني } ز للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل { يكذبون } 5 { بآياتنا } ج أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وعلى { إليكما } أوجه أي أنتم الغالبون بآياتنا { الغالبون } 5 { الأولين } 5 { الدار } ط { الظالمون } 5 { غيري } ج لتنويع الكلام { إلى إله موسى } لا لأن ما بعده مقوله ايضاً { الكاذبين } 5 لا { يرجعون } 5 { في اليم } ج للابتداء بأمر الاعتبار واختلاف الجملتين مع فاء التعقيب { الظالمين } 5 { إلى النار } ج لعطف الجملتين المختلفتين { لا ينصرون } 5 { لعنة } ط لمثل ذلك { المقبوحين } 5 .
التفسير : ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة طريق فأوصله الله إلى مدين . وقد يؤيد هذا التفسير ما روي عن ابن عباس أنه خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه ، ويحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس أنه لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينه وبينهم قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى . أما أنه قصد مدين فلقوله سبحانه { ولما توجه تلقاء مدين } اي قصد نحو هذه القرية ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان . وأما أنه اعتمد على فضل الله فلقوله . { عسى ربي أن يهديني سواء السبيل } أي وسطه وجادّته نظيره قول جده إبراهيم عليه السلام { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [ الصافات : 99 ] وكذا الخلف الصدق يقتدي بالسلف الصالح فيهتدي . قال السدي : لما أخذ في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال : لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين . عن ابن جريج أنه خرج بغير زاد ولا ظهر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر . { ولما ورد ماء مدين } وكان بئراً فيما روي وورود الماء مجيئه والوصول إليه ضدّ الصدور . { وجد عليه } اي على شفيره ومستقاه { أمة من الناس } جماعة كثيرة العدد أصنافاً { يسقون } مواشيهم { ووجد من دونهم } اي في مكان اسفل من مكانهم { امرأتين تذودان } أي تدفعان وتطردان أغنامهما لأن على الماء من هو أقوى منهما فلم يتمكنا من السقي ، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واختلاط أغنامهما بأغنامهم أو اختلاطهما بالرجال . وقيل : تذودان الناس عن غنمهما . وقيل : تذودان عن وجوههما نظر الناظر . وبالجملة حذف مفعول { تذودان } لأن الغرض تقرير الذود لا المذود . وكذا في { يسقون } و { لا نسقي } المقصود هو ذكر السقي لا المسقي ، وكذا في قراءة من قرأ { حتى يصدر } من لاإصدار أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم الغرض بيان الإصدار . { قال ما خطبكما } هو مصدر بمعنى المفعول أي ما خطو بكما من الذياد { قالتا لا نسقي } الآية .
سألهما عن سبب الذود فذكرتا أنا ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وما لنا رجل يقوم بذلك . { وابونا شيخ } قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به ، وهذه الضرورة هي التي سوغت لنبي الله شعيب أن رضي لابنتيه بسقي الماشية على أن الأمر في نفسه ليس بمحظور ، ولعل العرب وخصوصاً أهل البدو منهم لا يعدّونه قادحاً للمروءة . وزعم بعضهم أن أباهما هو ثيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعدما عمي وهو اختيار أبي عبيد ينميه إلى ابن عباس . وعن الحسن أنه رجل مسلم قبل الدين من شعيب . أما قوله { فسقى لهما } فمعناه فسقى غنمهما لأجلهما وفيه قولان : أحدهما أنه سأل القوم فسمحوا وكان لهم دلو يجتمع عليها أربعون رجلاً فيخرجونها من البئر فاستقى موسى بها وحده وصب الماء في الحوض ودعا بالبركة ، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما . والثاني أنه عمد إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون أو مائة -أقوال- فأقلها وحده وسقى أغنامهما ، كل ذلك في شمس وحر . { ثم تولى إلى الظل } ظل شجرة { فقال رب إني لما أنزلت إليّ من خير فقير } ذهب أكثر المفسرين الظاهريين ومنهم ابن عباس إلى أنه طلب من الله طعاماً يأكله . وعدي { فقير } باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب . وعن الضحاك أنه مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاماً إلا بقل الأرض وإن خضرته تتراءى في بطنه من الهزال ، ويه دليل على أنه نزع الدلو وأقل الصخرة بقوة ربانية . وقال بعض أهل التحقيق : أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين ، وذلك أنه كان عند فرعون في ملك وثروة فأظهر الرضا بهذا الذل شكراً لله . يروى أنهما لما رجعتا إلى ابيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلاً صالحاً رحمنا فسقى لنا . فقال لإحداهما : اذهبي فادعيه لي وذلك قوله سبحانه { فجاءته إحداهما تمشي على استحياء } قيل : من جملة حيائها أنها قد استترت بكم درعها ثم { قالت إن أبي يدعوك } عن عطاء بن السائب أنه حين قال { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير } رفع صوته بدعائه ليسمعهما فلذلك قيل له { ليجزيك أجر ما سقيت لنا } وضعفت الرواية بأن هذا نوع من الدناءة وضعف اليقين بالله فلا يليق بالنبي . وقد روي أنها حين قالت : ليجزيك كره ذلك . ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال : إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمناً حتى قال شعيب هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا .
سؤال : كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية؟ الجواب : العمل بقول الواحد حراً أو عبداً ذكراً كان أو أنثى سائغ في الأخبار ، والمشي مع الأجنبية لا بأس به في حال الاضطرار مع التورع والعفاف ، ويؤيده ما روي أن موسى تبعها فأزلقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لهاك امشي خلفي وانعتي لي الطريق .
قال الضحاك : لما دخل عليه قال له : من أنت يا عبد الله؟ قال : أنا موسى بن عمران بن يصهر ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب . { وقص عليه القصص } أي المقصوص من لدن ولادته إلى قتل القبطيّ وفراره خوفاً من فرعون وملئه ف { قال } له شعيب { لا تخف } من فرعون أو ضيماً { نجوت من القوم الظالمين } فلا سلطان لفرعون بأرضنا { قالت إحداهما } وهي كبراهما اسمها صفراء وكانت الصغرى صفيراء { يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القويّ الأمين } قال النحويون : جعل القوي الأمين اسماً لكونه معرفة صريحة أولى من جعل « أفعل » التفضيل المضاف اسماً لكونه قريباً من المعرفة ، ولكن كمال العناية صار سبباً للتقديم . وورود الفعل وهو { استأجرت } بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف . وقال المحققون : إن قولها هذا كلام حكيم جامع لا مزيد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة اللتين هما ثمرتا الكياسة والديانة في الذين يقوم بأمرك ، فقد حصل مرادك وكمل فراغك . عن ابن عباس أن شعيباً أحفظته الغيرة فقال : وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوّب راسه اي خفضه حين بلغته رسالته ، وأنه أمرها بالمشي خلفه فلذلك قال { أريد أن أنكحك إحدى ابنتي } وليس هذا عقداً حتى تلزم الجهالة في المعقود عليها ولكنه حكاية عزم وتقرير وعد ولو كان عقداً لقال أنكحتك ابنتي فلانة . وفي قوله { هاتين } دليل على أنه كانت له غيرهما . قال أهل اللغة : { تأجرني } من أجرته إذا كنت له أجيراً فيكون { ثماني } حجج ظرفه أو من اجرته كذا إذا أثبته إياه فيكون المثاني مفعولاً به ثانياً ومعناه رعية ثماني حجج { فإن أتممت عشراً } اي عمل عشر حجج { فمن عندك } أي فإتمامه من عندك لا من عندي إذ هو تفضل منك وتبرع { وما أريد أن أشق عليك } الزام أتم الأجلين أو بالتكاليف الشاقة في مدة الرعي ، وإنما أعامل معك معاملة الأنبياء يأخذون بالأسمح -بالحاء لا بالجيم- قال أهل الاشتقاق : حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين يقول تارة أطيقة وتارة لا أطيقه . ثم أكد وعد المسامحة بقوله { ستجدني إن شاء الله من الصالحين } عموماً أو في باب حسن المعاملة . وقوله { إن شاء الله } أدب جميل كقول إسماعيل { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } [ الصافات : 102 ] أي على الذبح .
وفيه أن الاعتماد في جميع الأمور على معونة الله والأمر موكول إلى مشيئته . استدل الفقهاء بالآية على أن العمل قد يكون مهراً كالمال ، وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز ، وعلى أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد . ويمكن أن يقال : إنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا . وجوّز في الكشاف أن يكون استأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ووفاه إياه ثم أنكحه ابنته . وجعل قوله { على أن تأجرني } عبارة عما جرى بينهما { قال } موسى { ذلك } الذي شارطتني عليه قائم { بيني وبينك أيما الأجلين قضيت } و « ما » مؤكدة لإبهام أيّ زائدة في شيوعها { فلا عدوان عليّ } اي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة فإن قضيت الثماني فلا أطالب بالزيادة وإن قضيت العشر باختياري فلم أطالب بالزيادة أيضاً . وقيل : أراد أيهما قضيت فلا أكون متعدياً . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوّج كبراهما وقيل صغراهما ولا خلاف في أنه قضى أوفى الأجلين .
قال القاضي في قوله { فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله آنس } دليل على أنه لم يزد على العشرة وفيه نظر لأنه لا يفهم من هذا التركيب إلا أن الإيناس حاصل على عقيب مجموع الأمرين ، ولا يدل على أن ذلك حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ويؤيده ما روي عن مجاهد أنه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر . قال أهل اللغة : الجذوة بحركات الجم العود الغليظ كانت في راسه نار أو لم تكن ، وشاطئ الوادي جانبه ، و « من » الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة ، فالثانية بدل من الأولى وبدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكلم . احتجت المعتزلة على مذهبهم أن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله { من شجرة } وقال أهل السنة : مما وراء النهران الكلام القديم القائم بذات الله غير مسموع والمسموع من الشجرة وهو الصوت والحرف دال على كلام الله . وذهب الأشعري إالى أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعاً كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية . روي أن شعيباً كانت عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل : ادخل البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصاً هبد بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفاً فشعر بها فقال : غيرها ، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأناً . وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه ، ولما أصبح قال له شعيب : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ هناك أكثر لأن فيها تنيناً أخشاه عليك وعلى الغنم .
فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على منعها فمشى على اثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد اقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى موسى دامية فارتاح لذلك . وحين رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأناً . قيل : كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى ذهب ليقتبس النار فكلمه الملك الجبار وقد مر في النمل تفسير قوله { فلما رآها تهتز } [ النمل : 10 ] إلى قوله { من غير سوء } [ الآية : 12 ] أما قوله { واضمم إليك جناحك من الرهب } فذكر جار الله له معنيين : أحدهما حقيقة وهو أنه لما قلب الله العصا حية فزع واضطراب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له : إن اتقاءك بيدك فيه نقصان قدرك عند الأعداء فإن ألقيتها ، فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران : اجتناب النقص وإظهار معجزة أخرى . وثانيهما مجاز وهو أن يراد بضم الجناح التجلد وضبط النفس حتى لا يضطرب فيكون استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف أرخى جناحيه وإلا ضمهما . ومعنى { من الرهب } من أجل الخوف . والفرق بين هذه العبارة وبين قوله { اسلك يدك في جيبك } أن الغرض هناك خروج اليد بيضاء وههنا الغرض إخفاء الخوف أو اراد بالجناح المضموم ههنا اليد اليمنى وبالجناح المضموم إليه في قوله { واضمم يدك إلى جناحك } اليد اليسرى ، وقيل : إن الرهب هو الكم بلغة حمير وزيفه النقاد . من قرأ { فذانك } بالتخفيف فمثنى ذاك ، ومن قرأ بالتشديد فمثنى ذلك وأصله ذان لك قلبت اللام نوناً وأدغمت . وسميت الحجة برهاناً لبياضها وإنارتها من قولهم « امرأة برهرهة » أي بيضاء ، واليعن واللام مكررتان . والدليل على زيادة النون قولهم « أبره الرجل » إذا جاء بالبرهان ونظيره « السلطان » من السليط الزيت ، لإنارتها . وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون ، والسر فيه أن يكون على بصيرة من أمره عند لقاء المعاند اللجوج ، وزعم القاضي أنه في حال أداء الرسالة لأن المعجز إنما يظهر ليستدل المرسل إليه على الرسالة ولا يخفى ضعف هذا الكلام لأن الحكمة في الإظهار لا تنحصر في الاستدلال بل لعل هناك أنواعاً أخر من الحكم والمقاصد قد ذكرنا واحداً منها . ومما يؤكد أن هذا الكلام قد جرى ولم يكن هناك أحد غير موسى قوله معتذراً { رب إني قتلت منهم نفساً } الآية . والردء اسم ما يعان به من ردأته أي أعنته فعل بمعنى مفعول به و { يصدقني } بالرفع صفة وبالجزم جواب كما مر في قوله { ولياً يرثني } [ مريم : 56 ] والمراد بتصديق أخيه أن يذب ويجادل عنه لا أن يقول : صدقت فإن هذا القدر لا يفتقر إلى البيان والفصاحة لأن سحبان وباقلاً يستويان فيه .
ويجوز أن يكون الضمير في { يصدقني } لفرعون . وجوّز جار الله أن يكون من الإسناد المجازي بناء على أن يصدق مسند إلى هارون وهو بيانه وبلاغته سبب تصديق فرعون يؤيده قوله { إني أخاف أن يكذبون } قال الجبائي : إنما سأل موسى أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ولم يكن ليسأل مالا يأمن أن يجاب أولا يكون حكمة . ولقائل أن يقول : لعله ساله مشروطاً على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما يقول الداعي في دعائه . وقال السدي : علم أن الاثنين أقوى من الواحد فلهذا سأل اعترض القاضي بأن هذا من حيث العادة وأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين ، لأن المبعوث إليه في أيهما نظر علم وإن لم ينظر فالحال واحدة . هذا إذا كانت طريقة الدلالة بين المعجزتين واحدة ، فأما إذا اختلف وأمكن في إحداهما من إزالة الشبهة مالا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يقال : إنهما بمجموعهما أقوى من واحدة كما قال السدي ، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون لأن معجزتهما كانت واحدة .
قال جار الله معنى { سنشد عضدك } سنقوّيك بأخيك إما لأن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن يقوى على مزاولة الأمور بشدة اليد ، وإما لأن الرجل واشتداده بالأخ شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد . والسلطان التسلط والغلبة والحجة الواضحة . وقوله { بآياتنا } إما متعلق بمقدر أي اذهبا بآياتنا ، أو متعلق بظاهر وهو { نجعل } أو { لا يصلون } . ويجوز أن يكون بياناً ل { لغالبون } كأنه قيل : بماذا نغلب؟ فقيل : بآياتنا . وامتنع أن تكون صلة ل { لغالبون } لتقدمه ، ويجوز أن تكون قسماً جوابه { لا يصلون } مقدماً عليه مثله . ويجوز أن يكون من لغو القسم الذي لا جواب له كقولك « زيد وأبيك منطلق » والمراد الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو بالدولة والمملكة في المآل ، وصلب السحرة بعد تسليم ثبوته لا يقدح في قوله { ومن اتبعكما الغالبون } لأن الدولة الباقية أعلى شأنا و { سحر مفترى } أي سحر تعمله أنت ثم تنسبه إلى الله فهو كذب من هذا الوجه ، أو سحر ظاهر افتراؤه لا سحر يخفى افتراؤه ، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر فإن كل سحر ففاعله يوهم خلافه فهو المفترى . ومعنى { ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين } قد مر في سورة المؤمنين . قال جار الله { في آبائنا } حال عن { هذا } اي كائناً في زمانهم وأيامهم قلت : لا مانع من أن يكون الظرف لغواً ولا خلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا بنحوه ، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته ، أو أرادوا أن الكهان لم يخبروا بمجيء ما جاء به موسى .
وكل هذه المقالات لا تصدر إلا عن المحجوج اللجوج الذي قصارى أمره التمسك بحبل التقليد .
من قرأ { قال موسى } بغير واو فعلى طريقة السؤال والجواب . ووجه قراءة الأكثرين أنهم قالوا ذلك وقال موسىر هذا ليوازن العاقل الناظر بين القولين فيتبين له الغث من السمين . وقوله { ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده } إفحام لخصم المعاند إذ لا سبيل إلى دفاعه بالحجة أي يعلم أني محق وأنهم مبطلون . وقوله { ومن تكون له عاقبة الدار } يعني العاقبة الحميدة كأن المذمومة غير معتدّ بها ضم طريقة الوعيد إلى الإفحام المذكور . وقيل : معناه ربي أعلم بالأنبياء السالفة فهو جواب لقولهم { ما سمعنا بهذا } وقال جار الله : { ربي أعلم } بحال من أهله للفلاح حيث جعله نبياً ووعده حسنى العقبى ، ولو كان كاذباً كما يزعمون لم يؤهله لذلك لأنه لا يفلح عنده الظالمون ، واعلم أن فرعون كان من عادته عند ظهور حجة لموسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروّجها على أغمار قومه فذكر ههنا أمرين : الأوّل قوله { ما علمت لكم من إله غيري } فكأنه استدل بعدم الدليل على عدم المدلول وهو خطأ من جهة أن الدليل على المدلول وهو وجود الصانع أكثر من أن يحصى ، ومن جهة أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول . وأما قوله { غيري } فقد تكلف له بعضهم أنه لم يرد به أنه خالق السموات والأرض وما فيهما فإن امتناع ذلك بديهي ، وإنما أراد به نفي الصانع والاقتصار على الطبائع وأنه لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره .
الثاني قوله { فأوقد لي يا هامان على الطين } وقد تكلفوا له ههنا أيضاً فقيل : إنه يبعد من العاقل أن يروم صعود السماء بآلة ، ولكنه أراد أنه لا سبيل إلى إثبات الصانع من حيث العقل كما مر ، ولا من حيث الحس فإن الإحساس به يتوقف على الصعود وهو معتذر ، وإلا فابن يا هامان مثل هذا البناء وإنما قال ذلك تهكماً . فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع ، ثم رتب النتيجة عليه وهو قوله { وإني لأظنه من الكاذبين } يحتمل أن يريد لأعلمه من الكاذبين . والأكثرون من المفسرين على أنه بنى مثل هذا البناء جهلاً منه أو تلبيساً على ملئة حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن . يروى أن هامان جمع العمال حتى اجتمع منهم خمسون ألف بناء سوى الأجراء ، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ مبلغاً لا يقدر الباني أن يقوم عليه ، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعت ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل . ووقعت قطعة في البحر ، و قطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك .
وروي في القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال : قد قتلت إله موسى ، فعند ذلك بعث الله جبرائيل لهدمه . قال أهل البيان : إن صح الحديث ردّ النشابة ملطوخة فقد تهكم به بالفعل كما ثبت التهكم بالقول في غير موضع . وإنما قال { فأوقد لي يا هامان على الطين } ولم يقل : اطبخ لي الآجر . لأن هذه العبارة أحسن ، ولأن هذه العبارة أحسن ، ولأن فيه تعليم الصنعة ، وقد كان أوّل من عمل الآجر فرعون . عن عمر أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال : ما علمت أن أحداً بنى الآجر غير فرعون . والطلوع والأطلاع الصعود يقال : طلع الجبل واطلع .
وفي قوله سبحانه { واستكبر هو وجنوده في الأرض } يعني أرض مصر { بغير الحق } إشارة إلى أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى كما جاء في الحديث القدسي « الكبرياء ردائي والعظمة إزاري » فهو كقوله { ويقتلون النبيين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] وفي قوله { وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون } دليل على أنهم كانوا منكري البعث كالطبائعيين . وفي قوله { فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم } دلالة على علو شأنه تعالى وعظمة سلطانه وإشارة إلى استحقار فرعون وجنوده وعدده وإن كانوا أكثر من رمال الدهناء كأنه شبههم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر . استدلت الأشاعرة بقوله { وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار } أن خالق الشر وجاعل الكفر هو الله سبحانه . وقالت المعتزلة : معنى الجعل التسمية والحكم بذلك كما يقال : جعله بخيلاً وفاسقاً إذا حكم بالبخل والفسق عليه وسماه بالبخيل والفاسق ، أو أراد خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى كانوا أئمة الكفر داعين إلى النار أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي . وقال أبو مسلم : معنى الإمامة التقدم وذلك أنه تعالى عجل لهم العذاب فصاروا متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار . وقال بعضهم : أراد بالإمامة أنهم بلغوا في ذلك الباب أقصى النهايات حتى أستحقوا أن يقتدى بهم . ثم بين بقوله { ويوم القيامة لا ينصرون } أن عقاب الآخرة سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه . وقال في الكشاف : اراد وخذلناهم في الدنيا ويوم القيامة هم مخذولون كما قال { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة } اي طرداً وإبعاداً عن الرحمة { ويوم القيامة هم من المقبوحين } أي من المطرودين المبعدين : وقالت الليث : قبحه الله قبحاً بالفتح وقبحاً بالضم أي نجاه عن كل خير . وقال ابن عباس : من المشهورين بسواد الوجه وزرقة العين . وعن بعضهم أنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم فيجمع لهم بين الفضيحتين .
التأويل : وحين توجه تلقاء مدين عالم الروحانية { وجد عليه أمة } من أوصاف الروح { يسقون } مواشي أخلاقهم من ماء فيض الإلهي .
{ ووجد من دونهم امرأتين } السر والخفي ابنتا شعيب الروح يمنعان من استقاء ماء الفيض الإلهي . قال الشيخ الإمام الرباني نجم الدين المعروف بداية : وذلك لأن لمعان أنوار الفيض يرد على الروح في البداية بالتدريج فينشا منه الخفي ، وهو لطيفه ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبة الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجليات صفات الربوبية والفيوض الإلهية ، فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستقاء . وكذا السر وهو لطيفة روحانية متسوطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح ، مؤدية غلى القلب وهو أيضاً بمعزل عن استقاء ماء فيض الروح عند اشتغال القلب بمعالجات النفس وإصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية وذلك قولهما { لا نسقي حتى يصدر الرعاء } وهم صفات الروح ويصرفوا مواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء الفيض الإِلهي ، فإذا صدروا استقينا مواشينا من الأوصاف والأخلاق من أفضله مواشيهم في حوض القوى { وأبونا } وهو شعيب الروح لا يقدر على سقيه من الأوصاف الإنسانية إلا بالأجر والوسائط ، وإنا لا نطيق أن نسقي لضعف حالنا ، فسقي موسى القلب مواشيهما بقوّة استفادها من الجسد وقوّة استفادها من الروح لأنه متوسط بين العالمين ولهذا سمي قلباً { ثم تولى إلى الظل } إلى العناية فطلب الفيض الإلهي بلا وساطة وهكذا ينبغي أن يكون السالك لا يقنع بما وجد من المعارف أبداً .
{ فجاءته إحداهما } فيه أن القلب يحتاج في الوصول إلى حضرة شعيب الروح أن يستمد من الخفي أو السر . { لا تخف نجوت } فيه أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح نجا من ظلمات النفس وصفاتها { إن خير من استأجرت } من النفس والجسد { القوي الأمين } لأن القلب استفاد القوّة من الجسد والأمانة من الروح { ثماني حجج } فيه أن الروح في تبليغ القلب إلى مقام الخفي يحتاج إلى تسييره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق وهي : الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء . وتمام ذلك إلى العشرة راجع إلى خصوصيته وهما المحبة والأنس مع الله { أيما الأجلين قضيت } في التخلق بأخلاقك اليمانية وفي المحبة والأنس مع الله { فلا عدوان عليّ } أي ليس لك أن تمنعني العبور عن المحبة لأنك من خصوصيتك بالخلافة مجبول على تلك الصفات الثمانية . وأما المحبة والأنس مع الله فصفتان مخصوصتان بالحضرة . { ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء } ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر فإنه مجبول على تلك الأوصاف وليس من زمرة { يحبهم ويحبونه } [ المائدة : 54 ] إلا مؤمن موحد . فلما اتصف مسى القلب بالأوصاف الثمانية وغلبت عليه محبة الله واستأنس به وصار بجميع صفاته متوجهاً إلى حضرة القدس { آنس } من طور الحضرة نار نور الإلوهية . وفي قوله { لأهله امكثوا } إشارة إلى أن السالك لا بد له من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وتفريد الباطن عن تعلقات الكونين .
نو يبدو وإذا بدا استمكن شمس طلعت ومن رآها آمن . وفي قوله { لعلكم تصطلون } إشارة إلى أن الأوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية { من شاطئ الواد الأيمن } وهو السر في بقعة البدن من شجرة وجود الإنسان { من الرهب } أي رهبة من فوات وصال الحضرة { وأخي هرون } هو العقل فمن خصوصيته تصديق الناطق بالحق { قالوا ما هذا إلا سحر مفترى } لأن النفس خلقت من اسفل عالم الملكوت ومنكسة ، والقلب خلق وسط عالم الملكوت متوجهاً إلى الحضرة فلهذا { ما كذب الفؤاد ما رأى } [ النجم : 11 ] وما صدقت النفس ما رأت { في آبائنا الأولين } اي في طبائع الكواكب فإنها آباء النفس وأمهاتها العناصر والطبائع منكوسة إلىعالم السفل لا يعرفون مقام الوحدة فلا يعرفون بالتوحيد . { فأوقد لي يا هامان } الشيطان { على الطين } البشرية بنفخ الوساوس والغرور { فاجعل لي صرحاً } من المقدمات الخيالية والوهمية { فانظر كيف كان عاقبة المكذبين } أغرقوا في ماء شهوات الدنيا ويم هممها فأدخلوا نار الحسرة والندامة .
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
القراآت : { سحران } عاصم وحمزة وعلي وخلف . الآخرون { ساحران تظاهرا } بالتخفيف اتفاقاً { تجبى إليه } بتاء التأنيث : أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب . الباقون على التذكير { يعقلون } بياء الغيبة ، شجاع واليزيدي الباقون بتاء الخطاب إلا أبا عمرو فإنه مخير { ثم هو } بسكون الهاء علي والحلواني عن قالون { تبرأنا } مثل { أنشأنا } .
الوقوف : { يتذكرون } 5 { الشاهدين } 5 لا للاستدراك { العمر } ج لاختلاف الجملتين مع العطف { آياتنا } ج لما مر { مرسلين } 5 { يتذكرون } 5 { المؤمنين } 5 { ما أوتي موسى } ط { من قبل } ج للفصل بين الخبر والطلب مع اتحاد القائل { تظاهرا } ج للتعجب من عنادهم { كافرون } 5 { صادقين } 5 { أهواهم } ط { من الله } ط { الظالمين } 5 { يتذكرون } 5 لأن { الذين } مبتدأ { يؤمنون } 5 { مسلمين } 5 { ينفقون } 5 { أعمالكم } ط لابتداء الكلام مع اتحاد المقول { عليكم } ط لذلك { الجاهلين } 5 { من يشاء } ط لعطف الجملتين المتفقتين { بالمهتدين } 5 { أرضنا } ط { لا يعلمون } 5 { معيشتها } ج للفصل بين الاستفهام والإخبار مع فاء التعقيب { قليلاً } ط { الوارثين } 5 { آياتنا } ج للعدول مع اتفاق الجملتين { ظالمون } 5 { وزينتها } ج فصلاً بين المعنيين المتضادّين { وأبقى } ط { تعقلون } 5 { المحضرين } 5 { تزعومن } 5 { أغوينا } ج { غوينا } ج لعدم العاطف مع اتحاد القائل { إليك } ج لما قلنا مع زيادة النفي المقتضى للفصل { يعبدون } 5 { العذاب } ج لجواز تعلق « لو » بمحذوف أي لو اهتدوا لما لقوا ما لقوا ، ويجوز تعلقها ب { يهتدون } والوقف على { لهم } أي لو كانوا يهتدون لرأوا العذاب بقلوبهم { يهتدون } 5 { المرسلين } 5 { لا يتساءلون } 5 { المفلحين } 5 { ويختار } ز وقد يوصل على معنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة وفيه بعد { الخيرة } 5 { يشركون } 5 { يعلنون } 5 { إلا هو } ط { والآخرة } ز لعطف الجمل { ترجعون } 5 .
التفسير : إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا صلى الله عليه وسلم فذكر أوّلاً أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنواراً للقلوب وإرشاداً لأهل الضلال وسبباً لنيل الرحمة إرادة أن يتذكروا ، ويجوز أن يعود ترجي التذكر إلى موسى . ثم أجمل عظائم أحوال موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فقال { وما كنت بجانب الغربي } اي بجانب المكان الواقع في شق الغرب وهو ناحية الشأم التي فيها قضى إلى موسى أمر الوحي والاستنباء . { وما كنت من الشاهدين } على ذلك فقد يكون الشخص حاضراً ولا يكون شاهداً ولا مشاهداً . قال ابن عباس : التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى . ثم قال { ولكنا أنشأنا } بعد عهد موسى إلى عهدك { قروناً فتطاول عليهم العمر } فاندرست العلوم والشرائع ووجب إرسالك إلى خرهم قرناً وهو القرن الذي أنت فيه ، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء .
وحاصل الآية أنه ذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب والغرض بيان إعجازه كأنه قال : إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله ، دلالة ظاهرة على نبوّتك . ثم فصل ما أجمل فذكر أوّل أمر موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك وهو قوله { وما كنت ثاوياً } مقيماً { في أهل مدين } وهم شعيب والمؤمنون به { تتلوا عليهم آياتنا } قال مقاتل : أي لم تشهد أهل مدين وأنت تقرأ على أهل مكة خبرهم ، ولكنا ارسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمتها . وقال الضحاك : يقول يا محمد : إنك لم تكن رسولاً إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما الرسول غيرك { ولكنا كنا مرسلين } في كل زمان رسولاً فأرسلنا إلى أهل مدين شعيباً وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء . ثم ذكر أوسط أمر موسى وأشرف أحواله وبين أنه لم يكن هناك فقال { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } الأظهر أنه يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه . وعن بعض المفسرين أنه اراد قوله { ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها } [ الإعراف : 156 ] إلى قوله { المفلحون } [ الأعراف : 157 ] وقال ابن عباس : إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم يا أمة محمد أجيبكم قبل أن تدعوني وأعطيكم قبل أن تسألوني وأغفر لكم قبل أن تستغفروني . قال : وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى سبعين رجلاً لميقات ربه . وقال وهب : لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال : يا رب أرنيهم . قال : إنك لن تردكهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم . قال : بلى يا رب . فقال : يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه : أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس . وروى سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا } قال : « كتب الله كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد : إن رحمتي سبقت غضبي ، أعطيتكم قبل أن تسألوني ، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني ، من لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله أدخله الجنة » قوله { ولكن رحمة } أي ولكنا علمناك { رحمة من ربك } ثم فسر الرحمة بقوله { لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير من قبلك } أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة . وقيل : كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم ، فبعثه الله تعالى تقريراً لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة .
قوله { ولولا أن تصيبهم } هي امتناعية وجوابها مح1ذوف . والفاء في قوله { فيقولوا } للعطف على أن تصيبهم ، وقوله { لولا أرسلت } هي تحضيضية . والفاء في { فنتبع } جواب « لولا » ، وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلاً منهما بعث على الفعل . والمعنى : ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولاً محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم . والحاصل أن إرسال الرسول لجل إزالة هذا العذر . قال اصحاب البيان : القول هو المقصود بأن يكون سبباً لإرسال الرسل ، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها « لولا » وجيء بالقول معطوفاً عليها بفاء السببية تنبيهاً على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولاً ، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان ، وفي هذا يبان استحكام كفرهم وتصميمهم . قال الجبائي : في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لولا أرسلت . وقال الكعبي : فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى . وقال القاضي : فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفاً على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا . ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة .
ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم إلا العناد فقال { فلما جاءهم الحق } اي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز { قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى } من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر ، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله { أولم يكفروا } وفيه وجوه : أحدها أن اليهود أمروا قريشاً أن يسألوا محمداً مثل ما أوتي موسى فقال تعالى : { أولم يكفروا } هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة . والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة ، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا في زمن موسى إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لتجانسهم في الكفر والعنت . وقال الكلبي : إن مشركي مكة بعثوا رهطاً إلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا : إنا نجده في التوراة بنعته وصفته ، فلما رجه الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا : إنه كان ساحراً كما أن محمداً ساحر فقال الله تعالى في حقهم { أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل } . وقال الحسن : قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير : أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا .
وقال قتادة : أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه السلام ف { قالوا ساحران } والأظهر أن كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات . ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى : { أولم يكفروا بما أوتي موسى } بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت . من قرأ { ساحران } بالألف فظاهر ، وأما من قرأ { سحران } فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر ، أو على إرادة نوعين من السحر ، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة . وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم اشبه منها بالكتب . وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار . وفي تكرار { قالوا } وجهان : أحدهما قالوا ساحران مرة { وقالوا إنا بكل } من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين { كافرون } مرة . وثانيهما أن يكون قوله { وقالوا } معطوفاً على { أولم يكفروا } ثم عجزهم بقوله { قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } اي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ . قال ابن عباس { فإِن لم يستجيبوا لك } معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج . وقال مقاتل : فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما . وهذا اشبه بالآية ، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا . ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم . وإنما لم يقل « فإن لم يأتوا » لأن قوله { فأتوا } أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير : فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوبين ولم يق لهم شيء إلا اتباع الهوى . وفي قوله { ومن أضل ممن اتبع هواه } حال كونه { بغير هدى من الله } إشارة إلى فساد طريقة التقليد . استدلت الأشاعرة بقوله { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } اي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن . وقالت المعتزلة : الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقاً ومنها مالا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله { والذين اهتدوا زادهم هدى } [ محمد : 17 ] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذراً لهم . ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله { ولقد وصلنا } أي أنلزنا عليهم القرآن إنزالاً متصلاً بعضه في أثر بعض ليكون ذلك اقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإِنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة . ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعاً متواصلاً ووعداً ووعيداً وقصصاً وعبراً إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا .
ويحتمل أن يكون المراد : بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزاً مرة بعد أخرى .
وحين أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله { الذين آتيناهم الكتاب من قبله } أي من قبل القرآن { هم به يؤمنون } قال قتادة : إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها ، فلما بعث الله محمداً آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام . وقال مقاتل : نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر من ارض الحبشة في السفينة ، وثمانية جاؤا من الشام . وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم . والتحقيق أن كل من حصل في حقه هذه الصفة يكون داخلاً في الآية لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب . ثم حكى عنهم ما يدل على تأكد إيمانهم وقوله { إنه الحق من ربنا } تعليل للإٍيمان به لأن كونه حقاً من الله يوجب الإيمان به . وقوله { إنا كنا من قبله مسلمين } بيان لقولهم آمنا به لأن إيمانهم احتمل أن يكون قريب العهد وأن يكون بعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم ، وذلك لما وجدوا في كتب الأنبياء من البشارة بمقدمه فأذعنوا له وتلقوه بالقبول كما هو شأن كل مسلم ، ومعنى { من قبله } أي من قبل وجوده ونزوله . وفي قوله { يؤتون أجرهم مرتين } أقوال بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على أذى المشركين وعلى أذى أهل الكتاب ، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وعلى الإيمان به بعد نزوله وهذا أقرب ، لأنه لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة وبين أنهم كانوا مؤمنين به قبل البعث ثم اثبت لهم الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك . { ويدرؤن بالحسنة } وهي الطاعة { السيئة } وهي المعاصي المتقدمة أي يدفعون بالحلم الأذى . يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه . وقال السدي : عاب اليهود عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول : سلام عليكم . مدحهم بالإيمان ثم بالطاعات البدنية ومكارم الأخلاق ، ثم بالطاعات المالية وهو الإنفاق مما رزقهم ، ثم بالتحمل والتواضع . وإنما يجب أن يقوله الحليم في معارضة السفيه وهو قوله { وإذا سمعوا اللغو } وهو كل ما ينبغي أن يلقى ويترك { أعرضوا عنه وقالوا } لأهل ذلك اللغلو { لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم } سلام توديع ومتاركة { لا نبتغي الجاهلين } لا نطلب مخالطتهم وعشرتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم وهذا خلق مندوب إليه ولو بعد الأمر بالقتال فلا نسخ . ثم ذكر أن الهداية إنما تتعلق بمشيئة الله . قال الزجاج : أجمع المسلمون على أنها نزلت في ابي طالب وذلك أنه قال عند موته : يا معشر بني هاشم أطيعوا محمداً وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال : فما تريد يا ابن أخي؟ قال : أريد منك كلمة واحدة أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله .
قال : قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جبن عند الموت . وقد مر مثل هذا النقل في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى { وهم ينهون وينأون عنه } [ الأنعام : 26 ] . واعلم أنه لا منافاة بين هذه الآية وبين قوله { وانك لتهدي إلى صراط مستقيم } [ الشورى : 52 ] لأن الذي نفاه هداية التوفيق وشرح الصدر والتي أثبتها هداية الدعوة والبيان ، وبحث الأشاعرة والمعتزلة ههنا معلوم . وحيث بين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله سبحانه حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بالدنيا وذلك أنهم { قالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا } يروى أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك أن تسلبنا العرب بسرعة أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا ، فأجاب الله سبحانه عن شبهتهم بقوله { أولم نمكن لهم حرماً آمناً } يروى أن العرب كانوا يشتغلون بالنهب والغارة خارج الحرم وما كانوا يتعرضون ألبتة لسكان الحرم وقد زاد الله حرمته بقوله { ومن دخله كان آمناً } [ آل عمران : 97 ] وبين مزيته بقوله { يجبى إليه ثمرات كل شيء } قالوا : الكل ههنا بمعنى الأكثر . قلت : يحتمل أن يكون على أصله . وانتصب { رزقاً } على أنه مصدر لأن { يجبى } بمعنى يرزق ، أو على أنه مفعول لأجله . وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالاً من الثمرات لتخصصها بالإضافة . وحاصل الجواب أنه لما جعل الحرم آمناً وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان ، فبقاء هذه الحالة مع الإيمان أولى . ولا يخفى أن التخطف على تقدير وقوعه لا يصلح عذراً لعدم الإيمان فإن درجة الشهادة أعلى وأجل ، ومضرة التخطف أهون من العقاب الدائم إلا أنه تعالى احتج عليهم بما هو معلوم من عادة العرب وهو أنهم كانوا لا يتعرضون لقطان الحرم والأمر البين للحس أولى بأن يفحم به الخصم فلذلك قدمه الله تعالى . وفي الآية دلالة على صحة المحاجة . لإزالة شبهة المبطلين . قالت الشاعرة : الأرزاق إنما تصل إليهم على ايدي الناس وقد اضاف الرزق إلى نفسه فدل ذلك على أن افعال العباد مستندة إلى الله . ومن تأمل في الآية علم أن العبد يجب أن لا يخاف ولا يرجو إلا من الله .
ثم أجاب عن شبهتهم بحديث آخر مخلوط بالوعيد . وانتصب { معيشتها } بنزع الخافض كقوله { واختار موسى قومه } [ الأعراف : 155 ] أو على أنه ظرف مكان مجازاً كأن النظر استقر في المعيشة ، أو على حذف المضاف أي بطرت أيام معيشتها كخفوق النجم ، أو بتضمين بطرت معنى كفرت وعطلت ، والبطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله فيه .
ومعنى { إلا قليلاً } قال ابن عباس : أي لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوماً أو ساعة . ويجوز أن يكون شؤم معاصيهم بقي في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يسكن إلا قليلاً . { وكنا نحن الوارثين } كقوله { ولله ميراث السموات والأرض } [ آل عمران : 180 ] لأنه الباقي بعد فناء خلقه . ثم كان لسائل أن يقول : ما بال الكفرة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يهلكوا مع تماديهم في الغي؟ فقال { وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها } اي في القرية التي هي قصبتها وأصلها وغيرها من توابعها وأعمالها { رسولاً يتلو عليهم آياتنا } بوحي وتبليغ وذلك لتأكيد الحجة وقطع المعذرة . قال في الكشاف : يحتمل أن يراد وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى - يعني مكة - رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء . وكان لقائل أن يقول : ما بال الكفار بعد مبعث محمد لم يهلكهم الله مع تكذيبهم وجحودهم فقال { وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون } بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فمنهم من قد آمن ومنهم من سيؤمن ومنهم من يخرج من نسله من يؤمن . ثم اجاب عن شبهتهم بجواب ثالث وذلك أن حاصل شبهتهم أن قالا : تركنا الدين لأجل الدنيا . فبين تعالى بقوله { وما أوتيتم من شيء } الآية . أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى لأنه أكثر وأدوم . ونبه على جهلهم بقوله { أفلا تعقلون } ويرحم الله الشافعي حيث قال : إذا أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى ، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير . نظير الاية قوله صلى الله عليه وسلم « الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » قال البرهان : إنما السورة « وما أوتيتم » الواو وفي الشورى { فما أوتيتم } [ الآية : 36 ] بالفاء لأنه لم يتعلق بما قبله ههنا كثير تعلق ، وقد تعلق في الشورى بما قبلها أشد تعلق ، ولأنه عقب ما لهم من المخافة ما أوتوه من الأمنة والفاء حرف التعقيب والواو والمجرد العطف . وإنما زاد في هذه السورة { وزينتها } . لأن المراد ههنا جميع أعراض الدنيا من الضرورات ومن الزين ، فالمتاع مالا غنى عنه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمنكوح ، والزينة وغيرها كالثياب الفاخرة والمراكب الرائعة والدور المشيدة . وأما في « الشورى » فلم يقصد الاستيعاب بل ما هو مطلوبهم في تلك الحالة من النجاة والأمن في الحياة فلم يحتج إلى ذكر الزينة . ثم زاد البيان المذكور تأكيداً بقوله { افمن وعدناه وعداً حسناً فهو لاقيه } لأن وعد الله يترتب عليه الإنجاز البتة وصاحبه يلقى الموعود لا محالة .
وتقدير الكلام : أبعد التفاوت المذكور بين ما عند الله وبين متاع الحياة الدنيا يسوّي بين أهل الجنة وبين أبناء الدنيا؟ ومعنى « ثم » في قوله { ثم هو يوم القيامة } تراخي حال الإِحضار عن حال التمتع ، لا تراخي وقته عن وقته . وتخصيص لفظ { المحضرين } بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن . قال الله تعالى { لكنت من المحضرين } [ الصافات : 57 ] { فإنهم لمحضرون } [ الصافات : 127 ] ويمكن أن يقال : إن في اللفظ إشعاراً به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإِلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة والأنس وإنما يليق بمواضع الإكراه والوحشة . قيل : نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل . وقيل : في علي وحمزة وأبي جهل . وقيل : في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة . ثم ذكر من وصف القيامة قائلاً { ويوم يناديهم } أي فاذكر ذلك اليوم . ومعنى الاستفهام في { أين } التوبيخ والتهكم . ومفعولا { تزعمون } محذوفان تقديره تزعمونهم شركائي . { قال الذين حق عليهم القول } أي وجب وثبت وهو مفهوم لأملأن جهنم وهم اشياطين ورؤساء الكفر . و { هؤلاء } مبتدأ و { الذين أغوينا } صفته والعائد إلى الموصول محذوف والخبر { أغويناهم } والتقدير : هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم فغووا غياً مثل ما غوينا . قال أهل السنة : أرادوا كما أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر وإلجاء فنحن أيضاً أغويناهم بالوسوسة والتسويل وبكل ما أمكن حتى غووا . وقالت المعتزلة : يعنون أنا ما غوينا إلا باختيارنا فكذلك هم ما غووا إلا باختيارهم وإن أغواءنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين في الإقدام على تلك العقائد والأعمال فيكون كما حكي عن الشيطان { وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي } [ إبراهيم : 22 ] ثم قالوا { تبرأنا إليك } منهم ومن عقائدهم وأعمالهم { ما كانوا إيانا يعبدون } إنما كانوا يعبدون هؤلاء أهواءهم الفاسدة . وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى .
وحين حكى التوبيخ المذكور ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر اعتذاراً ذكر ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم وهو قوله : { وقيل ادعوا شركاءهم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم } زعم جم غفير من المفسرين أن جواب « لو » محذوف . فقال الضحاك ومقاتل : يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة ولعلموا أن العذاب حق ، أو لو كانوا يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب . وقيل : ارا ورأوا العذاب لو كانوا يبصرون شيئاً ولكنهم صاروا مبهوتين بحيث لا يبصرون شيئاً فلا جرم ما رأوه . وقيل : الضمير للأصنام أي كانوا أحياء مهتدين لشاهدوا العذاب . وقيل : « لو » للتمني أي تمنوا لو كانوا مهتدين . ثم بكتهم بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل .
ومعنى { عميت عليهم الأنباء } أن أخبار المرسلين والمرسل إليهم صارت كالعمى عليهم جميعاً لا يهتدون إليهم فهم لا يتساءلون كما يسال بعض الناس بعضاً في المشكلات لأنهم متساوية الأقدام في العجز عن الجواب ، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتلعثمون في الجواب عن مثل هذا السؤال كما قال سبحانه { يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا } [ المائدة : 109 ] فما ظنك بضلال أممهم؟! قال القاضي : الآية تدل على بطلان قول المجبرة ، لأن فعلهم لو كان خلقاً من الله تعالى وجب وقوعه بالقدرة والإرادة ولما عميت عليهم الأنباء ولقالوا : إنما كذبنا الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم ومن جهة القدرة الموجبة لذلك . وكذا القول فيما تقدّم لأن الشيطان كان له أن يقول : إنما أغويت لخلقك فيّ الغواية ، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك لتكون الحجة لهم على الله قوية والعذر ظاهراً . وعارضته الأشاعرة بالعلم والداعي . والذي اعتمد عليه القاضي في دفع هذا المشكل المعضل في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن فالواجب السكوت . وزيفه الأشعري بأن الكافر لو اورد هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهراً . ولقائل أن يقول : السكوت عن جواب الكافر جواب كما قيل : جواب الأحمق السكوت . وحين فرغ من توبيخ الكفار وتهديدهم اتبعة ذكر التائبين وأنهم من المفلحين . و « عسى » من الكريم تحقيق أو الترجي عائد إلى التائب . ثم إن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى وهي قولهم { لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم } [ الزخرف : 31 ] فأجاب الله تعالى عنها بقوله { وربك يخلق ما يشاء ويختار } لأنه المالك المطلق المنزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء . وعلى مذهب المعتزلة هو حكيم فلا يفعل إلا الحكمة والخير . وقوله { ما كان لهم الخبرة } بيان لقوله { ويختار } والخيرة من التخير كالطيرة من التطير في أنه اسم مستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وهو بمعنى المتخير كقولهم « محمد خيرة الله من خلقه » . وقد مر في الوقف أن بعضهم يقف على { ما يشاء } ثم يقول { ويختار ما كان لهم الخيرة } قال أبو القاسم الأنصاري : يعلم من هذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه ، واي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن بالله ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله . فإن قيل : إنما كلفه ليستوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا : إذا علم أن ذلك الأفضل لا يحصل فتوريطه للعقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة . ثم قولهم « المستحق خير من المتفضل به » ممنوع لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله ، أما الذي حصل ذاته وصفاته بإحسانه فكيف يستنكف من تفضله؟ قلت : لقائل أن يقول : مجرد الاستبعاد لا يصلح للمنع على أن لذة الأجر يستحيل أن تحصل بدون الأجر .
ثم نزه نفسه بقوله { سبحان الله وتعالى عما يشركون } والغرض أن الخلق والاختيار والإِعزاز والإِذلال والإِهانة والإِجلال كلها مفوض وجوبها إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة . ثم اكد ذلك بقوله { وربك يعلم ما تكن صدورهم } من عداوة نبيه { وما يعلنون } من مطاوعتهم فيه .
ويحتمل أن يكون عاماً يشمل السرائر والظواهر كلها وهو المستأثر بالإلهية . و { لا إله إلا هو } تقرير لما قبله { له الحمد في } الدار { الأولى } على نعمه الفائضة على البر والفاجر { و } في الدار { الآخرة } كقولهم { الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن } [ فاطر : 34 ] { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] والتحميد هناك على وجه اللذة لا التكليف . قال أهل السنة : الثواب يستحق عند المعتزلة فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة ، وأما أهل النار فلم ينعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم . والجواب ما ذكرناه أن تحميدهم يجري مجرى التنفس . قال القاضي : إنه يستحق الحمد من أهل النار أيضاً بما فعل بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم ، وأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله به عليه من أن يوجب الشكر . وقال في التفسير الكبير : فيه نظر ، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا أن التوبة واجبة القبول وأن الشكر مما يوجب الثواب فلا بد أن يتوبوا ويشتغلوا بالشكر ليستحقوا الثواب ويتخلصوا من العقاب . ولقائل أن يقول : لا يلزم من وجوب قبول التوبة واستحقاق الجزاء على العمل في دار التكاليف أن يكون الأمر كذلك في غير دار التكاليف . ثم بين بقوله { وله الحكم } أن القضاء بين العباد مختص به فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده ، ولا على الزوجة حكم زوجها ، ولا على الابن حكم ابيه ، ولا على الرعية حكم سلطانهم ، ولا على الأمة حكم رسولهم وإلى محل حكمه وقضائه يرجع كل عبيده وإمائه .
التأويل : { ولقد آتينا موسى } القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها { لعلهم يتذكرون } إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] { وما كنت } في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح { إذ قضينا إلى موسى } أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } [ آل عمران : 81 ] وما كنت في عالم الشهادة { ولكنا أنشأنا قروناً } في عالم الشهادة { فتطاول عليهم العمر } فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك العهود والمواثيق { وما كنت } مقيماً { في أهل مدين } كشعيب وموسى ، إذ أخذت منهما الميثاق أن يؤمنا بك { ولكنا كنا مرسلين } للرسل الذين أخذنا الميثاق منهم .
ولولا أن تصيبهم التقدير ، ولولا أن مقتضى العناية الأزلية في حق هذه الأمة ودفع حجتهم علينا فإنا ناديناهم وهم في العدم فأسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم للإِجابة { فلما جاءهم الحق } يعني محمداً . وفي أن له رتبة أن يقول أنا الحق لفنائه عن نفسه بالكلية وبقائه بربه وكل من سواه فليس له أن يقول ذلك إلا بطريق المتابعة { لولا أوتي مثل ما أوتي } لولم يكونوا محتجبين بكفرهم عن رؤية كماله لقالوا : لولا أوتي مثل ما أوتي محمد من مقام المحبة ومقام لي مع الله وقت { بكتاب من عند الله هو أهدى منهما } يعني الكتاب المشتمل على العلم اللدني فإنه أهدى إلى الحضرة من الكتب الموقوفة على السماع والمطالعة ، ومن لم تكن له هذه الرتبة فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه كما قال { فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم } { الذين آتيناهم } حقيقة { الكتاب } في عالم الرواح { من قبل } نزوله في عالم الأشباح { هم به يؤمنون } في عالم الصورة ولهذا قالوا { إنا كنا من قبله مسلمين } ولذلك قال { يؤتون أجرهم مرتين } أي في العالمين { بما صبروا } على مخالفات الهوى وموافقات الشرع { ويدرؤن } بالأعمال الصالحات ظلمة المعاصي ، أو بحسنة الذكر صدأ حب الدنيا عن مرآة القلوب ، أو بحسنة نفي ما سوى الله شرك الوجود المجازي { ومما رزقناهم } من الوجود المجازي { ينفقون } في طلب الوجود الحقيقي : { وإذا سمعوا اللغو } وهو طلب ماسوى الله { أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا } في طلب الوجود الحقيقي { ولكم أعمالكم } في طلب الفاني { إنك لا تهدي من أحببت } وذلك أن للقلب بابين : أحدهما إلى النفس والجسد وهو مفتوح ابداً ، والآخر إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده كل مفتاح كما قال { أم على قلوب أقفالها } [ محمد : 24 ] وقال : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } [ الفتح : 1 ] { وهو أعلم بالمهتدين } الذين اصابهم رشاش النور { وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف } بجذبات الألوهية من ارض الأنانية { أو لم نمكن لهم حرماً آمناً } في مقام الهوية { يجبى إليه ثمرات } حقائق { كل شيء رزقاً } من العلوم اللدنية { ولكن أكثرهم لا يعلمون } ذوق العلم اللدني { لم تسكن من بعدهم إلا قليلاً } أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها { إلا قليلاً } من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين { وكنا نحن الوارثين } بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد { حتى يبعث في أمها } اي روحها لأن القلب من متولدات الروح { رسولاً } من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة ، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما أوحى إلى عيسى « تجوّع ترنى تجرد تصل إلي » { أغويناهم كما غوينا } راعوا طريقة الأدب ولم يقولوا كما أغويتنا مثل ما قال إبليس { فبما أغويتني } [ الأعراف : 16 ] أي { أغويناهم } بتقديريك { كما أغوينا } بقضائك وهذا من خصوصية تكريم بني آدم بحفظ البعداء طريقة الأدب كما يحفظها أهل القرب على بساط الكرامة { ورأوا العذاب } يعني { لو كانوا يهتدون } لرأوا عذاب الفطام عن المألوفات والشهوات والله أعلم بالخفيات .
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
القراآت : { عندي أولم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن فليح وأبو عمرو وخزاعي عن أصحابه وابن مجاهد وأبو عون والسرندي عن قنبل . الباقون بالإسكان { ويكأن } { ويكأنه } الوقف على الياء : أبو عمرو ويعقوب { ويك } الوقف على الكاف و { ويكأنه } موصولة : روى السوسي عن السرندي وهو مذهب حمزة . الباقون كلاهما موصلان { لخسف } على البناء للفاعل : سهل ويعقوب وحفص { ربي أعلم } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو .
الوقوف : { بضياء } ط { تسمعون } 5 { فيه } ط { تبصرون } 5 { تشكرون } 5 { تزعمون } 5 { يفترون } 5 { عليهم } ص لأن الواو للحال أي وقد آتينا مع طول الكلام { القوّة } ط بناء على أن التقدير و « أذكر » إذ قال : وقال في الكشاف : إنه متعلق ب { تنوء } فلا وقف { الفرحين } 5 { في الأرض } ط { المفسدين } 5 { عندي } ط { جمعاً } ط { المجرمون } 5 { في زينته } ط لعدم العاطف واختلاف القائل . { قارون } لا لأن ما بعده تعليل التمني ولو ابتدأنا لحكمنا بأنه ذو حظ { عظيم } 5 { صالحاً } ج لأن ما بعده احتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله ، واحتمل أن يكون من قول أهل العلم { الصابرون } 5 { من دون الله } ق قد قيل : لتفصيل الاعتبار { المنتصرون } 5 { ويقدر } ج للابتداء بلولا مع اتحاد المقول { لخسف بنا } ط { الكافرون } 5 { ولا فساداً } ط { للمتقين } 5 { منها } ج لعطف جملة الشرط { يعملون } 5 { معاد } ط { مبين } 5 { للكافرين } 5 ز للآية مع العطف { المشركين } 5 للآية وخلو المعطوف عن نون التأكيد التي خلت المعطوف عليه مع اتفاق الجملتين آخراً احترازاً من إيهام كون ما بعده صفة { آخر } 5 { لا إله إلا هو } ط { وجهه } ط { ترجعون } 5 .
التفسير : لما بين سبحانه حقيقة آلهيته واستحقاقه للحمد المطلق وأن مرجع الكل إلى حكمته وقضائه ، أتبعه بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه أحد سواه وهو تبديل ظلام الليل بضياء النهار وبالعكس . والمعنى : أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد الدائم المتصل من السرد ، والميم زائدة ، وانتصابه على أن مفعول ثانٍ لجعل أو على الحال ، وإلى متعلق بجعل أو ب { سرمداً } ، ومنافع الليل والنهار والاستدلال بهما على كما قدرة الله تعالى قد تقدمت مراراً . قال جار الله : وإنما لم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قيل : { بليل تسكنون فيه } لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة وليس التصرف في المعاش وحده ، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثَمّ قرن بالضياء { أفلا تسمعون } لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده ، وقرن بالليل { أفلا تبصرون } لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه .
قال الكلبي : { أفلا تسمعون } معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك . وقوله { أفلا تبصرون } معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال . وقال أهل البرهان : قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل . وإنما ختم الاية الأولى بقوله { أفلا تسمعون } بناء على الليل ، وختم الأخرى بقوله { أفلا تبصرون } بناء على النهار والنهار مبصر وآية النهار مبصرة . ثم بين أن من رحمته زواجه بين الليل والنهار لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ولإرادة الشكر على النعمتين جميعاً . وفي الآية طريقة اللف ثقة بفهم السامع وذلك لأن السكون بالنهار وإن كان ممكناً وكذا الابتغاء من فضل الله بالليل إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره فلهذا خصه به . وفي تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء دليل على أنه لا شيء أسخط عند الله من الإشراك به ، ويعلم منه أنه لا شيء أجلب لرضاه من الشهادة بوحدانيته . وفحوى الخطاب : أين الذين ادّعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين الذين قلتم إنها تقربكم إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله؟ فيكون ذلك زيادة في غمهم .
ومعنى { ونزعنا } وأخرجنا { من كل أمة شهيداً } قال بعضهم : هونبيهم لأن الأنبياء يشهدون أنهم بلغوا أمتهم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زيادة في غمهم أيضاً . وقال آخرون : بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان ، ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب ، لأنه تعالى عم كل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه أزمنة الفترات والأزمنة التي بعد محمد صلى الله عليه وسلم . { فقلنا } للأمة { هاتوا برهانكم } فيما كنتم عليه من الشرك وخلاف الرسول { فعلموا } حينئذ { أن الحق لله } ورسوله وغاب { عنهم ما كانوا يفترون } من الباطل والزور . ثم عقب حديث أهل الضلال بقصة قارون . وهو اسم أعجمي ولهذا لم ينصرف بعد العلمية ولو كان « فاعولاً » من قرن لا نصرف . والظاهر أنه كان ممن آمن بموسى ، هذا ظاهر نص القرآن ولا يبعد أيضاً حمله على القرابة . قال الكلبي : إنه كان ابن عم موسى . وقيل : كان موسى ابن أخيه وكان يسمى المنوّر لحسن صورته ، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري . وقال : إذا كانت النبوّة لموسى والذبح والقربان إلى هارون فما لي؟ وفي قوله { فبغى عليهم } وجوه أحدها : أن بغيه استخفافه بالفقراء . وثانيها أن ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم . وقال القفال : معناه طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده . وقال الضحاك : طغى عليهم واستطال فلم يوافقهم في أمر . ابن عباس : تجبر وتكبر عليهم ومثله عن شهر بن حوشب قال : بغيه أنه زاد عليهم في الثياب شبراً فهذا يعود إلى التكبر .
الكلبي : بغيه حسده وذلك أنه لما جوز بهم موسى البحر وصارت السرالة له والوزارة لهارون ، وكان القربان إلى موسى فجعله إلى هارون فوجد قارون في نفسه حسدهما فقال لموسى : الأمر لكما ولست على شيء إلى متى اصبر؟ قال موسى : هكذا حكم الله . قال : والله لا أصدقك حتى تأتي بآية ، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يأتي كل واحد بعصا فألقى مجموع العصيّ في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها فأصبحوا فإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون : ما هو بأعجب مما تصنع من السحر . واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله { وآتيناه من الكنوز } سأل الكلبي : الستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف إيتاء مال قارون إلى نفسه؟ فأجاب بأنه لا حجة في أن ماله حرام لجواز أنه ظفر بكنر لبعض الملوك الخالية ، وكان الظفر عندهم طريق التملك ، أو لعله وصل إليه بالإرث من جهات ، أو بالكسب من جهة المضاربات وغيرها . والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به الباب ، أو جمع مفتح بالفتح وهو الخزانة . فمن الناس من طعن في القول الأول لأن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوأة من الذهب لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ولهذا قال أبو رزين : يكفي للكوفة مفتاح واحد . وأيضاً الكنوز هي الأموال المدفونة في الأرض ولا يتصوّر لها مفتاح . أجاب الناصرون للقول الأول وهو اختيار ابن عباس والحسن : أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقود جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد . وأيضاً ما روي أن مفاتيحه كانت من جلود الإبل وكل مفتاح إصبع ولكل خزانة مفتاح ، وكان إذا ركب حملت المفاتيح ستون بغلاً غير مذكور في القرآن . فالصواب أن يفسر قوله { لتنوء } أي تنهض مثقلاً بأن تلك الخزائن يعسر ضبطها ومعرفتها على أهل القوّة في الحساب ، وقريب منه قول أبي مسلم : إن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] والمراد أن حفظها والاطلاع عليها يثقل على العصبة أولي القوّة والمتانة في الرأي . وظاهر الكنوز وإن كان من جهة العرف هو المال المدفون إلا أنه قد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق . وأيضاً لا استبعاد في أن يكون موضع المال المدفون بيتاً تحت الأرض له غلق ومفتاح معه .
و { لا تفرح } كقوله { ولا تفرحوا بما آتاكم } [ الحديد : 23 ] وذلك أنه لا يفرح بالدنيا إلا من اطمأن ورضي بها . قال ابن عباس : كان حبه ذلك رشكاً لأنه ما كان يخاف معه عقوبه الله تعالى : { وابتغ فما آتاك الله } من المال والثروة { الدار الآخرة } يعني أسباب حصول سعاداتها من أصناف الخيرات والمبرات الواجبة والمندوبة فإن ذلك هو نصيب المؤمن من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب ، وإلى هذا أشار بقوله { ولا تنسَ نصيبك من الدنيا } ويحتمل أن يراد به اللذات المباحة .
وحين أمروه بالإحسان المالي أمروه بالإحسان مطلقاً ويدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن الغيبة والحضور . وفي قوله { كما أحسن الله إليك } إشارة إلى قوله تعالى { لئن شكرتم لأزيدنكم } [ إبراهيم : 7 ] وإلى ما قال الحكماء : المكافأة في الطبيعة واجبة . و { الفساد في الأرض } المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي . وهذا القائل موسى عليه السلام أو مؤمنو قومه وهو ظاهر اللفظ .
وكيف كان فقد جمع في هذه الألفاظ من الوعظ ما لو قبل لم يكن عليه مزيد لكنه أبي أن يقبل بل تلقى النصح بكفران النعمة قائلاً { إنما آوتيته على علم عندي } قال قتادة ومقاتل والكلبي : كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال : إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك . وقال سعيد بن المسيب والضحاك : إن موسى أنزل عليه الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وطالوت ثلثه ، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه ، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهباً . وقيل : أراد علمه بوجوه المكاسب والتجارات . وقيل : أراد إن الله أعطاني ذلك على علم له تعالى بحالي وباستئهالي لذلك . وقوله { عندي } الأمر كذلك اي في اعتقادي وفي ظني فأجابه الله تعالى بقوله { أولم يعلم } الآية . قال علماء المعاني : يجوز أن يكون المعنى بالاستفهام إثباتاً لعمله لأنه قد قرأ في التوراة أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية وحفظها من موسى وغيره فكأنه قيل : إنه قد علم ذلك فلم اغتر بكثرة ماله وأعوانه؟ ويجوز أن يراد به نفي العلم لأنه لما تحدّى بكونه من أهل العلم حيث قال { على علم عندي } وبخه الله تعالى أنه لم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهلكى . ووجه اتصال قوله { ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون } بما قبله أنه تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالم بكل المعلومات . وقال أبو مسلم : أراد أنهم لا يسالون سؤال استيقان وإنما يسألون سؤال تقريع ومحاسبة { فخرج على قومه في زينته } عن الحسن : في الحمرة والصفرة . وقيل : خرج على بغلة شهباء عليه ثوب أحمر أرجواني ، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه . وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلثمائة غلام ، وعن يساره ثلثمائة جارية بيض عيلهن الحلى والثياب الفاخرة . وقيل : في تسعين ألفاً عليهم الثياب الصفر . قال الراغبون في الحياة العاجلة { يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون انه لذو حظ عظيم } والحظ الجد والبخت .
عن قتادة : كانوا مسلمين تمنوا ذلك رغبة في الإنفاق في سبيل الخير . وقال آخرون : كانوا كفاراً وقد مر في سورة النساء تحقيق الغبطة والحسد في قوله { ولا تمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] { وقال الذين أوتوا العلم } بأحوال الدنيا وأنها عند الآخرة كلا شيء { ويلكم } وأصله الدعاء بالهلاك إلا أنه قد يستعمل في الردع والزجر بطريق النصح والإِشفاق ، والضمير في قوله { ولا يلقاها } عائد إلى الكلمة المذكورة وهي قوله { ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحاً } أو إلى الصواب بمعنى المثوبة .
أو بتأويل الجنة ، أو إلى السير والطريقة أي لا يلزم هذه السيرة { إلا الصابرون } على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله وحكم به من الغنى وضده ، وظاهر حال قارون ينبئ عن أنه كان ذا أشر وبطر واستخفاف بحقوق الله واستهانة بنبيه وكتابه ، فلا جرم خسف الله به وبدراه الأرض ، إلا أن المفسرين فصلوا فقالوا : كان يؤذي نبي الله موسى وهو يداريه للقرابة التي كانت بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار ، وعن كل الف درهم على درهم ، فحسبه فاستكثر فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال : إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا : أنت كبيرنا فأمر بما شئ . فقال : ائتوا إلى فلانة البغي حتى ترميه بنفسها في جمع بني إسرائيل فجعل لها ألف دينار أو طستاً مملوءاً من ذهب . فلما كان يوم عيد ق موسى فقال يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنى وهو غير مصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه . فقال قارون : وإن كنت أنت؟ قال : وإن كنت أنا .
قال : فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة . فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت : كذبوا بل جعل لي قارون جعلاً على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجداً يبكي وقال : يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك . فقال : يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فيعتزل فاعتزلوا جميعهاً غير جرلين . ثم قال : يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب ، ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط . ثم قال : خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق ، وقارون واصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه . ثم قال : خذيهم فانطبقت عليهم . فأوحى الله إلى موسى ما أفظك! استغاثوا بك مراراً فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريباً مجيباً . قلت : لعل استغاثته كانت مقرونة بالتوبة وإلا فالعتاب بعيد .
ثم إن بني إسرائيل أصبحوا يتناجون بينهم إنما دعا موسى على قارون ليستفيد داره وكنوزه ، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله . ومعنى { من المنتصرين } من المنتقمين من موسى ، أو من الممتنعين من عذاب الله { وأصبح الذين تمنوا مكانه } أي منزلته من الدنيا وأسبابها { بالأمس } أي بالزمان المتقدم { يقولون } راغبين في طاعة الله والرضا بقضائه وقسمته { ويكأن الله } من قرأ { وي } مفصولة عن { كأن } وهو مذهب الخليل وسيبويه فهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم كأنهم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا ثم قالوا { كأنه لا يفلح الكافرون } أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح نظير هذا الاستعمال قول الشاعر :
ويكأن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعيش عيش ضر
وعند الكوفيين : ويك بمعنى ويلك أي ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون . حكى هذا القول قطربق عن يونس ، وجوّز جار الله أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى { وي } واللام مقدر قبل أن لبيان المقول لأجله هذا القول والتعليل أي لأنه لا يفلح الكفار كان ذلك الخسف .
قال في الكشاف قوله { تلك } تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها . قلت : يحتمل أن يكون للتبعيد حقيقة . وفي قوله { لا يريدون } كون أن يقول « يترون » زجر عظيم ووعظ بليغ كقوله { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } [ هود : 113 ] حيث علق الوعيد بالكون عن علي أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحته . ومن الناس من رد العلو إلى فرعون والفساد إلى قارون لقوله تعالى { إن فرعون علا في الأرض } [ القصص : 4 ] وقال في قصة قارون { ولا تبغ الفساد في الأرض } وضعف هذا التخصيص بيِّن لقوله في خاتمة الآية { والعاقبة للمتقين } قوله { من جاء بالحسنة } الآية ، قد مر تفسير مثله في آخر « الأنعام » وفي آخر « النمل » . وقوله { فلا يجزى الذين عملوا السيئات } من وضع الظاهر موضع المضمر إذ كان يكفي أن يقال : « فلا تجزون » إلا أنه أراد فضل تهجين لحالهم بإسناد عمل السيئات إليهم مكرراً ، وفي ذلك لطف للسامعين في زيادة تبغيض السيئة إلى قلوبهم . ثم أراد أن يسلي رسوله في خاتمة السورة فقال { إن الذي فرض عليك القرآن } أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه { لرادّك إلى معاد } وزأي معاد فتنكير المعاد للتعظيم وأنه ليس لغيره من البشر مثله يعني أن الذي حملك صعوبة تكلي التبليغ وما يتصل به لمثيبك عليها ثواباً لا يحيط به الوصف . وقيل : أراد عوده إلى مكة يوم الفتح ، ووجه التنكير ظاهر لأن مكة يومئذ كانت معاداً له شأن لغلبة المسلمين وظهور عز الإسلام وأهله وذل أهل الشرك وحزبه والسورة مكية .
فقيل : وعده وهو بمكة في أذلا من أهلها أنه مهاجر بالنبي منها ويعيده إليها في ظفر ودولة . وقيل : نزلت عليه هذه الآية حين بلغ الجحفة في مهاجرة وقد اشتاق إلى وطنه . وفي الآية إخبار عن الغيب وقد وقع كما أخبر فيكون فيه إعجاز دال على نبوّته .
وحين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال { قل } لأهل الشرك { ربي أعلم } يعني نفسه وغياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده ، ولا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه وحقيته . ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال { وما كنت ترجوا أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة } قال أهل العربية : هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل : وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة ، أو « إلا » بمعنى « لكن » أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك . ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك وقد مرّ مراراً أن مثل هذا النهي منباب التهييج له ولأمته . ثم إن مرجع الكل إليه فقال { كل شيء هالك إلا وجهه } فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شيء سواه ، والوجه يعبر به عن الذات ، ومنهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعاً به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أوبتفريق الأجزاء كما يقال « هلك الثوب وهلك المتاع » وقال أهل التحقيق : معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود ولا للعدم من عند ذاته ، وإن سميت المعدوم شيئاً فممتنع الوجود أحق كل شيء بأن يسمى هالكاً . استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة والنار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفناء بحكم الآية ، وهذا يناقض قوله { أكلها دائم } [ الرعد : 35 ] وعورض بقوله { اعدّت للمتقين } [ آل عمران : 133 ] و { أعدت للكافرين } [ آل عمران : 131 ] ويحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر ومن هناك قال الضحاك : كل شيء هالك إلا الله والعرش والجنة والنار . وقيل : إلا العلماء فإن علمهم باق . ويمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلاً بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه ومن فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال والله أعلم .
التأويل : { أرايتم إن جعل الله عليكم } ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية { سرمداً } { من إله غير الله يأتيكم بضياء } نهار الوصل والتجلي { قل أرأيتم إن جعل الله عليكم } نهار الوصل بطلوع شمس التجلي { سرمداً } { من إله غير الله يأتيكم بليل } سر تسكنون فيه عن وعثاء سطوة التجلي { ومن رحمته جعل لكم } ليل السر ونهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كان يستهلك وجوده ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول « إنه ليغان على قلبي » وقال لعائشة : كلميني يا حميراء . وذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب .
وليس هذا السر من قبيل الحجاب وإنما هو من جملة الرحمة واللطف نظيره الشمس في عالم الصورة فإنها في خط الاستواء تحرق ، وفي الآفاق الرحوية لا تؤثر ، وفي الآفاق الحملية يعتدل الحر والبرد فتكثر العمارة وتسهل ويعيش الحيوان { ونزعنا من كل أمة } من أرباب النفوس { شهيداً } هو القلب الحاضر { فقلنا هاتوا برهانكم } وهو حقيقة التوحيد التي لا تحصل بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق لله { إن قارون } النفس { كان من قوم موسى } القلب لأن الله تعالى جعل النفس تبعاً للقلب وجعل سعادتها في متابعة { وآتيناه من الكنوز } المودعة في صفاتها قد أهلك من قبله من القرون كإبليس فإنه أكثر علماً وطاعة { في زينته } هي التي زين حبها للناس من النساء والبنين وغير ذلك { قال الذين يريدون الحياة الدنيا } وهم صفات النفس . { وقال الذين أوتوا العلم } وهو صفات الروح { فخسفنا به } الأرض دركات السفل { وبداره } وهي قالبه أرض جهنم يتغلغل فيها إلى يوم القيامة بل إلى الأبد { نجعلها للذين لا يريدون } كما قال في بعض الكتب المنزلة : عبدي أنا ملك حي لا أموت أبداً ، أطعني أجعلك ملكاً حياً لا تموت أبداً . عبدي أنا ملك إذا قلت لشيء كن فيكون ، أطعني أجعلك ملكاً إذا قلت لشيء كن فيكون . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت » { إن الذي فرض } أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن { لرادّك إلى معاد } هو مقام الفناء في الله والبقاء به { قل ربي أعلم من جاء بالهدى } وهو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي { إلا رحمة من ربك } أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن والله المستعان .
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
الوقوف : { الم } كوفي . { لا يفتنون } 5 { الكاذبين } 5 { يسبقونا } ط { يحكمون } 5ج { لآت } ط { العليم } 5 { لنفسه } ط { العالمين } 5 { يعملون } 5 { حسناً } ط { فلا تطعهما } ط { تعملون } 5 { الصالحين } 5 { كعذاب الله } ط { معكم } ط { العالمين } 5 { المنافقين } 5 { خطاياكم } ط { شيء } ط { لكاذبون } 5 { مع أثقالهم } ط فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين . { يفترون } 5 { عاماً } ط لحق الحذف اي فلم يؤمنوا فأخذهم { الطوفان } ط { ظالمون } 5 { للعالمين } 5 .
التفسير : إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة { إن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد } [ القصص : 85 ] أي إلى مكة ظاهراً ظافراً ، وكان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده { ألم أحسب الناس } إلى قوله { وهم لا يفتنون } بالجهاد أو نقول : لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله { وادع إلى ربك } [ القصص : 87 ] وكان دونه من المتاعب وأعباء الرسالة مالا يخفى ، بدا السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك . وايضاً لما بين أن كل هالك له رجوع إليه ، ردّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ما حسبوه ولكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء والحساب . قال أهل البرهان : وقوع الاستفهام بعد « ألم » يدل على استقلالها وانقطاعها عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها من السور . وفي تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب وإيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل : اسمع وكن لي . ولا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن وبالخطاب اهتمام ، ولهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه والاهتمام بشأنه كقوله { الم ذلك الكتاب } [ البقرة : 1 ] { الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب } [ آل عمران : 12 ] { المص كتاب أنزل إليك } [ الأعراف : 13 ] { يس والقرآن } [ يس : 12 ] { ص والقرآن } [ ص : 1 ] { الم تنزيل الكتاب } [ السجدة : 12 ] إلا ثلاث سور : { كهيعص } [ مريم : 1 ] { الم أحسب الناس } { الم غلبت الروم } [ الروم : 12 ] ولا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله وعبؤة بما فيه من التكاليف ، وبيانه في سورة مريم ظاهر ، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر معجز . وكذا الإخبار عن غلبة الروم قبل وقوعها . ومعنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإِيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف . واختلفوا في سبب نزولها فقيل : نزلت في عمار بن ياسر والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة . وقيل : نزلت في أقوام هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون .
وقيل : في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين ، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سيد الشهداء مهجع ، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة . قال جار الله : مفعولا الحسبان الترك وعلته والتقديرك أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا . قال : والترك بمعنى التصيير . فقوله { وهم لا يفتنون } حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه . وقال آخرون : تقديره أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن { قالوا آمنا } وأقول : إن من خواص « أن » مع الفعل و « أن » مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب ، والحكم بأن الترك ههنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرناه من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر { أم حسبتم أن تتركوا } [ التوبة : 16 ] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس . والتحقي أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله . فإذا قال باللسان : آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلا بدّ له من شهود وهو الإتيان بالأركان ، وإذا حصل الشهود فلا بدلا له من مزك وهو بذل النفس والمال في سبيل الرحمن . فمعنى الآية : أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلاً { ولقد فتنا الذين من قبلهم } أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم « آمنا » ، بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات . وقوله { فليعلمن الله } كقوله { وليعلم الله } [ الآية : 140 ] وقد مر تحقيقه في « آل عمران » . والحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم ، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين . وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل : فيرين الله وليظهرن الله . وقيل : فليميزن ، وجوز جار الله أن يكون وعداً ووعيداً كأنه قال : وليبينن الذي صدقوا وليعاقبن الكاذبين . قال الإمام فخر الدين الرازي : في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه ، فقال في حق الأوّلين { الذين صدقوا } بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد ، وقال في حق الآخرين { وليعلمن الكاذبين } بالصيغة المنبئة عن الثبات . وإنما قال { يوم ينفع الصادقين صدقهم } [ المائدة : 119 ] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإِسلام . ثم بين بقوله { أم حسب الذين } الخ . أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله { ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا }
[ الأنفال : 59 ] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال ، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لولا الاستعجال .
ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول ، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله { ساء ما يحكمون } والمخصوص محذوف و « ما » موصولة أو مبهمة والتقدير : بئس الذي يحكمون حكمهم هذا ، وبئس حكماً يحكمونه حكمهم هذا . وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف إرشادات وإلا يعاد عليها ترغيب وترهيب ولا يوجب من الله تعذيب . واعلم أن أصول الدين ثلاثة : معرفة المبدأ وأشار إليه بقوله { آمنا } ، ومعرفة الوسط وهو إرسال الرسل . وإيضاح السبل وإليه أشار بقوله { وهم لا يفتنون ولقد فتنا } ومعرفة المعاد إما للأشقياء وهو قوله { الم أحسب } الآية وإما للسعداء وهو قوله { من كان يرجو } أي يأمل { لقاء } جزاء { الله فإن أجل الله لآت } فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن ، فلولا البقاء لما حصل اللقاء كقولك : من كان يرجو الخير فإن السلطات واصل . فإِنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله . ومثله : من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب . إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة . ويحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر . وقيل : يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي :
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها ... { وهو السميع } لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا { العليم } بنياتهم وطوياتهم وبسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت ، وبالمرئي مالا عين رأت وبالنيات مالا خطر على قلب بشر .
ثم بين بقوله { ومن جاهد } الآية . أن فائدة التكاليف والمجاهدات إنما ترجع إلى المكلف والله غني عن كل ذلك . قال المتكلمون من الأشاعرة : في الآية دلالة على ان رعاية الأصلح لا تجب على الله وإلا كان مستكملاً بذلك ، وأن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني ، وأنه ليس في مكان وإلا لزم افتقاره ، وأنه ليس قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم لأن القدرة والعلم غيره فيلزم افتقاره . ويمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال . وعن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد . وعن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه . وعن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات الله مع صفاته . وفي الآية بشارة من وجه وإنذار من وجه آخر ، وذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح ولا شيء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية وقد مر مراراً أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلاً فيما علم وإجمالاً فيما لم يعلم ، والعمل الصالح هو الذي ندب الله ورسوله إليه ، والفاسد ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه .
وعند المعتزلة الأمر والنهي مترتب على الحسن والقبح . ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف . يقال : فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع . ولكن العمل عرض لا يبقى بنفسه ولا بالعامل لأن كل شيء هالك إلا وجهه ، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه الله . ومنه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة وهي كونها لله تعالى . وخالف زفر في نية الصوم وأبو حنيفة في نية الوضوء ، وقد مر . ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان والعمل الصالح أمرين : تكفير السيئات والجزاء بالأحسن . فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان ، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح ، ومنه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة ، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها . وههنا بحث وهو أن قوله { لنكفرن } يستدعي وجود السيئات حتى تكفر ، فالمراد بالذين آمنوا وعملوا إما قوم مسلمون مذنبون ، وإما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله . أو يقال إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء ، نظيره قول الملك لقوم : إذا أطعتموني أكرم آباءكم وأحترم أبناءكم . وهذا لا يقتضي أن يكرم آباء من توفي ابوه ويحترم ابن من لم يولد له ابن ، ولكن مفهومه أنه يكرم آباء من له أب ويحترم ابن من له ابن . أو يقال : ما من مكلف إلا وله سيئة حتى الأنبياء ، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين . وحين بين حسن التكاليف ووقوعها وذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها اشار بقوله { ووصينا الإنسان } الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة ولا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه ، ومع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيره؟ ومنه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ومعنى { وصينا } أمرنا كما مر في قوله { ووصى بها إبراهيم } [ البقرة : 132 ] وقوله { بوالديه } أي بتعهدهما ورعاية حقوقهما ، وعلى هذا ينتصب { حسناً } بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسناً أو افعل بهما حسناً كأنه قال : قلنا له ذلك وقلنا له { وإن جاهداك } إلى آخره فلو وقف على قوله { بوالديه } حسن ويجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والديه حسناً وقلنا له { وإن جاهداك } وقوله { ما ليس لك به علم } كقوله
{ ما لم ينزل به عليكم سلطاناً } [ الأنعام : 81 ] أي لا معلوم ليتعلق العلم به . وإذا كان التقليد في الإيمان قبيحاً فكيف يكون حال التقليد في الكفر . وعلى وجوب ترك طاعة الوالدين إذا ارادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي ، وذلك أن طاعتهما وجبت بأمر الله فإذا نفيا طاعة الله في الإشراك به فقد أبطلا طاعة الله مطلقاً ، ويلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر الله ، وكل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل . فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك بالله من الممتنعات . وفي قوله { إليّ مرجعكم } ترغيب في رعاية حقوق الوالدين وترهيب عن عقوقهما وإن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك . وفيه أن المجازي للمؤمن والمشرك إذا كان هو الله وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما . وفي قوله { فأنبئكم } دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شيء . يروى أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين اسلم قالت أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان : يا سعد بلغني أنك قد صبأت ، فوالله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد . وكان أحب ولدها إليها فابى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعداً أن يداريها ويرضيها بالإحسان . ثم أكد جزاء من آمن وعمل صالحاً بتكرير قوله { والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين } اي في زمرتهم { وحسن أولئك رفيقاً } [ النساء : 69 ] قال الحكماء : أي في المجردين الذين لا كون لهم ولا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم . ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر والوفاق فقال { ومن الناس من يقول آمنا بالله } يعني أنا والمؤمنون حقاً آمنا ادّعى أن إيمانه كإِيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله { فإذا أوذي في الله } اي في سبيله ودينه { جعل فتنة الناس كعذاب الله } قال جار الله : أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ، وهذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفاً وهذا في الواقع . وقيل : جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله . وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذب الله الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر وقالوا : إن آمنا نتعرض للتأذي من الناس ، وذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار ، وإن تركنا الإِيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل ونافقوا . وإنما قال { فتنة الناس } ولم يقل « عذاب الناس » لأن فعل العبد ابتلاء من الله . وليس في الاية منع من إظهار كلمة الكفر إكراهاً ، وإنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها .
ومما يؤكد تذبذبهم قوله { ولئن جاء نصر من ربك } ويلزمه الغنيمة غالباً { ليقولن إنا كنا معكم } يعني داب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر ، وإن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر وأظهر المعية وادّعى التبعية .
وفي تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة والرحمة هي التي أوجبت النصر . ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم ، لأنه خبير بما بأنفسهم كما هي وهم لا يعرفون نفوسهم كما هي ، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى الله شيئاً لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله { وليعلمنّ الله الذين آمنوا وليعلمنّ المنافقين } وفيه وعد للمؤمنين ووعيد للمنافقين . اعتبر أمر القلب ههنا وهو في المؤمن التصديق ، وفي المنافق النفاق ، واعتبر في أول السورة أمر اللسان وهو في الكافر الكذب لأنه يقول : الله غير موجود ، أو الله أكثر من واحد . وفي المؤمن الصدق لأنه يقول : الله واحد . وحين بين أحوال الفرق الثلاثة وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة ، وبين أن عذاب الله فوقها وكان للكافر أن يقول للمؤمن لم تصبر في الذل على الإيذاء ولم لا تدفع الذل والعذاب عن نفسك بموافقتنا ، وكان جواب المؤمن أن يقول خوفاً من عذاب الله خطيئة مذهبكم فقالوا : لا خطيئة فيه ، وإن كان فيه خطيئة فعلينا ، اشار إلى جميع ذلك قوله { وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم } أرادوا وليجتمع هذا الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا وأن نحمل خطاياكم ، نظيره « ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء » وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب ولكنه حكاية قول صناديد قريش . كانوا يقولون لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فإِن عسى كان جزاء ومعاد فإنا نتحمل عنكم الإثم . وترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول : افعل هذا وإثمه عليّ ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان . ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئاً من خطاياهم ، ولا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم الله عليهم بأنهم كاذبون . ويجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا وفي قلوبهم نية الخلف . ولا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف . أما الجمع بين قوله { وما هم بحاملين } وبين قوله { وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم } فهو أن النفي راجع إلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسببه ، والإثبات يرجع إلى انهم يحملون وزر الإضلال ووزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما قال عليه الصلاة والسلام « من سن سنة سيئة فعليه ورزها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء »
قال { وليسئلن } سؤال تقريع { يوم القيمة عما كانوا يفترون } من أنه لا حشر ، وعلى تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين . ثم أجمل قصة نوح ومن بعده تصديقاً لقوله في أول السورة { ولقد فتنا الذين من قبلهم } وفيه تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام كأنه قيل له : إن نوحاً لبث الف سنة تقريباً يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل ، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك ، وفيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال ، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون؟
سؤال : ما الفائدة في قوله { ألف سنة إلا خمسين عاماً } دون أن يقول : تسعمائة وخمسين . الجواب : لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز والتقريب . فإن من قال : عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريباً لا تحقيقاً . فإذا قال : إلا شهراً أو إلا سنة ، زال ذلك الوهم . وأيضاً المقصود تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر الألف الذي هو عقد معتبر أوصل إلى هذا الغرض . وإنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفاً لما في المستثنى منه تجنباً من التكرار الخالي عن الفائدة وتوسعة في الكلام . قال بعض الأطباء : العمر الطبيعي للإِنسان مائة وعشرون سنة . فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه السلام وغيره ، وذلك أن المفسرين قالوا : عمر نوح الفاً وخمسين سنة بعث على رأس أربعين ، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين ، وعاش بعد الطوفان ستين . وعن وهب أنه عاش ألفاً واربعمائة سنة . ويمكن أن يقال : إنهم ارادوا بالطبيعي ما كان أكثرياً في أعصارهم . ولا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائداً على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار والأدوار ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « أعمار أمتي ما بين الستين والسبعين » والطوفان ما عم كل المكان بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل . وفي قوله { وهم ظالمون } دليل على أن العذاب أخذهم وهم مصرون على الظلم ولو كانوا قد تركوه لما أهلكهم . والضمير في قوله { وجعلناها } إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة . وأعاجيب هذه القصة وأحوال السفينة وأهوالها قد تقدّمت مراراً ولا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها .
التأويل : أقسم بفردانيته وبآلائه ونعمائه أنه مهما يكون من العبد التقرب إليه بأصناف العبودية يكون منه التقرب إلى العبد بالطاف الربوبية يؤكده قوله { أحسب الناس } أي الناسون من أهل البطالة أن يتركوار بمجرد الدعوى ولا يطالبون بالبلوى ، فالمحبة والمحنة توأمان وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان ، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه . فالبلاء للنفوس لإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في حسن العمل ، والبلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيب ، والبلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق ، والبلاء على الأسرار في اعتكافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه ، وإن أشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه نكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق لا يدري أنه من الحق ولا يقال : إنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك { أم حسب الذين } فيه أن موجبات عمل السيئات سواد مرآة القلوب بصدأ الحسبان ورين الكفران ليتوهموا { أن يسبقونا } بالعدوان عن طريق سنتنا في الانتقام من أهل الحال والإجرام .
{ ساء ما يحكمون } بالنجاة عن الدركات باتباع الشهوات هيهات هيهات . { من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت } فإن من رجى عمره في رجاء لقائنا فهو الذي نبيح له النظر ألى جمالنا { وهو السميع } لأنين المشتاقين العليم بطويات الصادقين . ومن جاهد بالسعي في طلبنا فإنما يجاهد لنفسه لأنها بالتخلية عن الأخلاق الذميمة وباتحلية بالصفات الحميدة تخلص عن الأمارية وتستأهل للمطمئنية فتستحق لجذبة { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] والذين آمنت قلوبهم بمحبتنا { وعملوا الصالحات } ببذل الوجود في طلب جودنا { لنكفرن عنهم } سيئات وجودهم المجازي { ولنجزينهم } وجوداً حقيقياً أحسن منه { وإن جاهداك لتشرك بي } فيه إشارة إلى أن المريد إذا تمسك بذيل شيخ كامل وتوجه إلى الحضرة بعزيمة من عزائم الرجال فإن منعه الوالدان عن ذلك فعليه أن لا يطيعهما لأنه سبب ولادته في عالم الأرواح وهما سبب ولادته في عالم الاشباح كما قال عيسى عليه السلام : لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين . فهو احق برعاية الحقوق منهما . { جعل فتنة الناس كعذاب الله } فيه أن المؤمن من كف الأذى والولي من يتحمل من الخلق الأذى ولا تترشح عنه الشكوى من البلوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منها كل مليح . والمنافق إذا لم يكن في حماية خشية الله يفترسه خوف الخلق إذا أوذي في الله . { وقال الذين كفروا } فيه أن كافر النفس وصفاته يقولون بلسان الطبيعة الإنسانية لموسى القلب والسر والروح وصفاتهم { اتبعوا سبيلنا } في طلب الشهوات الحيوانية { ولنحمل خطاياكم } أي ندفع عنكم ضرر ما يرجع إليكم في متابعة شهوات الدنيا وطيباتها { وما هم بحاملين } شيئاً { من خطاياهم } وهو العمى والصمم والبكم وسائر الصفات النفسانية ، ولكن يحملون أثقالهم هذه الأوقات مع الآفات التي تختص بها والله أعلم بالصواب .
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
القراآت : { أولم تروا } بتاء الخطاب : حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل { النشاءة } بفتح الشين بعدها ألف ممدودة حيث كان : ابن كثير وأبو عمرو { مودّة } بالرفع { بينكم } بالجر على الإضافة : ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وابو زيد عن المفضل { مودة } بالرفع { بينكم } بالفتح : الشموني والبرجمي . { مودة } بالنصب { بينكم } على الإضافة : حمزة وحفص . الباقون : { مودة } بالنصب { بينكم } بالفتح { ربي إنه } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { إنكم } بهمز واحد { أينكم } بهمزة بعدها ياء : ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب . زيد : مثله . بزيادة مدّة في الثانية : يزيد وقالون كلاهما مثل هذه الثانية أبو عمرو . والأولى بهمزة واحدة الثانية بهمزتين : ابن عامر وحفص هشام يدخل بينهما مدَّة . الباقون بهمزتين فيهما { أئنكم } كنظائره . { وللنجينه } بسكون النون من الإنجاء : يعقوب وحمزة وعلي وخلف { سيء بهم } كما ذكر في « هود » و { منجوك } من الإنجاء : ابن كثير ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل { منزلون } بالتشديد : ابن عامر و { ثمود } غير مصروف في الحالين : حمزة وحفص وسهل ويعقوب .
الوقوف : { واتقوه } ط { تعلمون } 5 { افكاً } ط { واشكروا له } ط { ترجعون } 5 { من قبلكم } ج للعطف مع الاختلاف بالإثبات والنفي { المبين } 5 { يعيده } ط { يسير } 5 { الآخرة } ط { قدير } 5ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { من يشاء } ط لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين { تقلبون } 5 { السماء } ز فصلاً بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين { نصير } 5 { اليم } 5 { النار } ط { يؤمنون } 5 { أوثاناً } ج لمن قرأ { مودة } بالرفع { الدنيا } ج لاختلاف الجملتين والفصل بين تباين الدارين { بعضاً } ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقصود { من ناصرين } 5 قيل : لا وقف لتعليق الفاء { لوط } م لأن قوله { وقال } فاعله { إبراهيم } ولو وصل لأوهم اتحاد الفاعل { ربي } ط { الحكيم } 5 { الدنيا } ج للابتداء بأن مع واو العطف { الصالحين } 5 { الفاحشة } ز لأن ما بعده يصلح مستأنفاً أو حالاً أو وصفاً { العالمين } 5 { المنكر } ط لانتهاء الخطاب لابتداء الجواب { الصادقين } 5 { المفسدين } 5 { بالبشرى } لا لأن { قالوا } جواب « لما » { القرية } ج للابتداء بأن مع احتمال التعليل . { ظالمين } 5 وقد يوصل دلالة على تدارك إبراهيم { لوطاً } ط { بمن فيها } ج لأن لام التوكيد تقتضي قسماً أي والله لننجينه مع تمام المقصود في التنجية { إلا امرأته } ج لأن ما بعده يصلح مستأنفاً في النظم ولكنه حال المرأة لأن المستثنى مشبه بالمفعول أي يستثنى امرأته كائنة من الغابرين { ولا تحزن } ط فصلاً بين البشارتين وتوفيراً للفرح { الغابرين } 5 { يفسقون } 5 { يعقلون } 5 { شعيباً } لا لتعلق الفاء { مفسدين } 5 { جاثمين } 5 لأن { عاداً } يحتمل أن يكون منصوباً ب { أخذتهم } أو بمحذوف أي واذكر وهذا أوجه لأن قوله { وقد تبين } حال ولا يحسن أن يكون عامله { فأخذتهم } والأوجه انتصابه بمحذوف وهو « أذكر » أو أهلكنا .
{ مساكنهم } ط لأن التقدير مقدرين وعامله فأخذتهم { مستبصرين } 5ج للعطف { وهامان } يحتمل عندي الوقف وقيل : لا بناء على أن قوله { ولقد جاءهم } حال عامله { فأخذتهم } . { سابقين } 5 لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين { بذنبه } ط وكذلك { حاصباً } ط { وأخذته الصيحة } ط { وخسفنا به الأرض } ط { وأغرقنا } ط لعطف الجمل والوقف أوجه تفصيلاً لأنواع النقم وإمهالاً لفرصة الاعتبار { يظلمون } 5 { العنكبوت } ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { بيتاً } ط { العنكبوت } ج لأن وهن بيت العنكبوت معلق { يعلمون } 5 .
التفسير : قوله { وإبراهيم } منصوب بمضمر وهو « اذكر » . وقوله { إذ قال } بدل منه بدل الاشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها أي اذكر وقت قوله لقومه ، وجوز أن يكون معطوفاً على { نوحاً } فأورد عليه أن الإرسال قبل الدعوة فكيف يكون وقت الدعوة ظرفاً للإرسال؟ وأجيب بأن الإرسال أمر ممتد إلى أوان الدعوة أو المراد أرسلناه حين كان صالحاً لأن يقول لقومه اعبدوا الله خصوه بالعبادة واتقوا مخالفته . { ذلكم } الإِخلاص والتقوى { خير لكم إن كنتم تعلمون } أما العبادة فلأنها غاية الخضوع فلا تصلح إلا لمن هو في غاية الكمال فضلاً عن الجماد ، وأما اتقاء خلافه فلأن من قدر على إهلاك الماضين فهو قادر على إهلاك الباقين وتعذيبهم إذا عصوه ، فالعاقل من يحذر خلاف القادر . ثم بين بقوله { إنما تعبدون من دون الله أوثاناً } أن الذي يعبدونه في غاية الخسة لأنه صنم لا روح له ، ولا ظلم أشنع من وضع الأخس موضع الاشرف . وبين بقوله { وتخلقون افكاً } أن الذين يزعمون أنها شفعاؤهم عند الله كذب وزور ، ثم ذكرهم أنهم لا يقدرون على نفع ولا على إيصال رزق أيّ رزق كان . ثم أشار بقوله { فابتغوا عند الله الرزق } إلى أن هذه الهبة والرزق الموعود في قوله { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } [ هود : 6 ] يجب أن يطلب من الله فقط ، وإذا كان الرزق منه فالشكر يجب أن يكون له . ثم بين بقوله { إليه ترجعون } أن المعاقب والمثيب هو وحده فلا رهبة إلا منه ولا رغبة إلا فيه . ثم إن قوله { وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم } إلى قوله { فما كان جواب قومه } إن كان اعتراضاً خطاباً لكفار قريش فظاهر ، وإن كان تتمة قول إبراهيم فالأمم المتقدمة عليه إما قوم نوح وقوم إدريس وقوم شيث وقوم آدم ، وإما قوم نوح وحده . وعبر عن أمته بالأمم لأنه عاش ألف سنة وأكثر فمضت عليه القرون ، وكان كل قرن يوصون من بعدهم من الأبناء أن يكذبوا نوحاً والبلاغ ذكر المسائل والإبانة وإقامة البرهان عليه ، وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلا لم يكن البلاغ مبيناً .
وحين بين التوحيد والرسالة شرع في بيان المعاد فإِن هذه الأصول الثلاثة لا تكاد تنفصل في الذكر الإِلهي فقال { أولم يروا } أي ألم يعلموا بالبرهان النير القائم مقام الرؤية { كيف يبدئ الله الخلق } ثم يعيده . أما إبداء الخلق المطلق فلأن المخلوق لا بد له من خالق أوّل تنتهي إليه سلسلة المخلوقات ، وأما خلق الإنسان بل كيفيته فإنه كالمشاهد المحسوس فإنا نرى النطفة وقعت في الرحم فدارت عليها الأطوار حتى حصلت خلقاً آخر . وأما الإعادة فلأنها أهون في القياس العقلي ولهذا ختم الآية بقوله { إن ذلك على الله يسير } وحين اشار إلى العلم الحدسي الحاصل من غير طلب أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أو حكى إبراهيم قول ربه له { قل سيروا في الأرض } أي إن لم يحصل لكم الحدس المذكور فسيروا في أقطار الأرض وتفكروا في كيفية تكوّن المواليد الثلاثة : المعادن والنبات والحيوان . حتى يفضى بكم النظر إلى العيان؛ فالآية الأولى إشارة إلى ما هو كالمركوز في الأذهان ولهذا قال بطريق الاستفهام { أولم يروا } الآية الثانية أمر بالنظر المؤدي إلى العلم والإيقان على تقدير عدم حضور ذلك البيان والعيان . وإنما قال أوّلاً { كيف يبدئ } بلفظ المستقبل وثانياً { كيف بدأ } بلفظ الماضي ، لأن العلم الحدسي حاصل في كل حال ، وأما العلم الاستقرائي فلا يفيد اليقين إلا فيما شاهد وتتبع فكأنه قيل : إن لم يحصل لكم العلم بأن الله في كل حال موصوف بالإبداء والإعادة فانظروا في أصناف المخلوقات حتى تعرفوا أنه كيف بدأها ثم تستدلوا من ذلك على أنه ينشئها النشأة الثانية ، فهذا عطف على المعنى كأنه قال : وانظروا كيف بدأ هذا . وتكلف جار الله فقال : هو معطوف على جملة قوله { أولم يروا } كما قال قوله { ثم يعيده } إخبار على حياله وليس بمعطوف على { يبدئ } ثم في إقامة اسم الله مقام الضمير في قوله { ثم الله ينشئ النشأة } إشارة إلى أنه لا يقدر على هذه النشأة إلا المعبود الكامل الذات المتصف بالعلم والحياة وبسائر نعوت الجلال . وحين ذكر دلائل الأنفس والآفاق صرح بالنتيجة الكلية فقال { إن الله على كل شيء } من الإبداء والإعادة { قدير } وكذا على التكليف والجزاء تقريره قوله { يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون } يقال : قلب فلان في مكانه إذا اردى . وفي الآية لطائف منها : أنه قدم التعذيب على الرحمة مع قوله « سبقت رحمتي غضبي » لأن الآية مسوقة لتهديد المكذبين ومع ذلك لم يخل الكلام عن ذكر الرحمة وإنه يؤكد قوله « سبقت رحمتي غضبي »
ومنها أنه لم يقل يعذب الكافر ويرحم المؤمن إظهاراً للهيبة الإلهية . ومنها أنه قال أوّلا { وإليه ترجعون } ثم أعاده ههنا لأن التعذيب والرحمة قد يكونان عاجلين وكأنه قال : وإن تأخر ثوابكم وعقابكم فإن إلينا إيابكم وعلينا حسابكم وعندنا يدّخر لكم ذلك فلا تظنوا فواته يؤكده قوله { وما أنتم بمعجزين } وفيه أن الانقلاب إليه لا منه ، وذلك أن الإعجاز إما بالهرب وإما مع الثبات وقد نفى الأول بقوله { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } أي لو هبطتم إلى موضع السمك في الماء أو صعدتم إلى محل السماك في السماء لم تخرجوا من قبضة قدرة الله .
وقدّم الأرض على السماء لأن السماء أبعد وأفسح أي إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة أو في السماء التي هي أفسح منها وأبعد فإنكم لا تفوتون الله ، والمراد لا تعجزونه كيفما هبطتم في أعماق الأرض أو علوتم إلى البروج المشيدة الذاهبة في السماء كقوله { ولو كنتم في بروج مشيدة } [ النساء : 78 ] أو اراد لا تعجزون بلاءه الظاهر في الأرض أو النازل من السماء . وجوّز بعضهم أن يراد وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا في السماء بحذف الموصول ، واقتصر في الشورى على قوله { وما أنتم بمعجزين في الأرض } [ العنكبوت : 22 ] لأنه خطاب للمؤمنين . ونفى الثاني بقوله { وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير } لأن الركن الشديد الذي يستند إليه إما وليّ يشفع أو ناصر يدفع ، والأول أسهل الطيرقين فلذلك قدم الوليّ على النصير .
ثم خص الوعيد بالكافرين بآياته أي بدلائل الوحداينة وبالكتب والمعجزات . وفي زيادة قوله { أولئك } إشارة إلى أن اليأس من الرحمة منحصر فيهم لقوله { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } [ يوسف : 87 ] ونسبة اليأس إليهم إمّا على سبيل الإخبار عن حالهم يوم القيامة ، أو على سبيل وصف الحال ، فإن وصف المؤمن أن يكون راجياً خاشياً ونعت الكافر أن لا يخطر بباله خوف ولا رجاء بل يكون خائفاً كما قيل : الخائن خائف . وجوز في الكشاف أن يكون على طريقة التشبيه كأنه يشبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من رحمة الله . ولعله ذهب إلى هذا التشبه لأن اليأس من رحمة الله متوقف على الاعتراف بالله وبرحمته والكافر غير معترف بواحد من الأمرين . ثم بين بتكرار أولئك في قوله { وأولئك لهم عذاب أليم } أن كل واحد من الوعيدين لا يوجد إلا فيهم وإن كان الوعيدان متلازمين في الحقيقة . ثم حكى أن جواب قوم إبراهيم لم يكن إلا أن قالوا فيما بينهم أو قال واحد ورضي به الباقون { اقتلوه } بالسيف ونحوه { أو حرقوه } بالنار وهذا ليس جواباً في الحقيقة ولكنه كقولهم « عتابك السيف » .
وفيه بيان جهالتهم أنهم وضعوا الوعيد موضع الائتمار للنصيحة والإذعان للحق . ثم بين أنهم اتفقوا على تحريفه فأنجاه من النار .
والقصة مذكورة في سورة الأنبياء . { إن في ذلك } الإنجاء { لآيات } جمع الآية لعظم تلك الحالة كقوله { إن إبراهيم كان أمة } [ النحل : 120 ] أو لأنها مشتملة على أحوال عجيبة كالرمي من المنجنيق من غير أن لحق به ضرر ، وكما يروى أن النار أن النار صارت عليه روحاً وريحاناً إلى غير ذلك . وإنما قال في قصة نوح عليه السلام { وجعلناها آية } [ العنكبوت : 15 ] ولم يذكر الجعل ههنا لأن الخلاص من مثل تلك النار آية في نفسه ، وأما السفينة فقد جعلها الله آية بأن أحدث الطوفان وصانها عن الغرق ، ويمكن أن يقال : إن الصون عن النار أعجب من الصون عن الماء فلذلك وحد الآية هناك وجمعها ههنا . وإنما قال هناك { آية للعالمين } [ العنكبوت : 15 ] وههنا { لآيات لقوم يؤمنون } لأن تلك السفينة بقيت أعواماً حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد . أو نقول : جنس السفينة حصلت بعد ذلك فما بين الناس فكانت آية للعالمين . وأما تبريد النار فلم يبق من ذلك أثر فلم يظهر لمن بعده إلا بطريق الإيمان به . وههنا لطيفة وهي أن الله تعالى جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لغيره وقال { قد كان لكم أسوة حسنة في إبراهيم } [ الممتحنة : 4 ] فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله سيجعل النار على المؤمن المهتدي برداً وسلاماً . ثم حكى أنه بعد أن خرج من النار عاد إلى النصيحة والدعاء لقومه إلى التوحيد والإخلاص وذلك قوله { وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة } قال جار الله : من قرأ بالنصب بغير إضافة أو بإضافة فعلى وجهين : أحدهما التعليل اي لتتوددوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم وائتلافكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب فيكون بينهم نسبة من ذلك .
الوجه الثاني : أن يكون مفعولاً ثانياً على حذف المضاف ، أو على أن المصدر بمعنى المفعول أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم واتخذتموها مودودة بينكم . ومن قرأ بالرفع بإضافة أو بغير إضافة فعلى وجهين أيضاً : أن يكون خبراً لأن على أن ما موصولة والتقدير : إن التي اتخذتموها أوثاناً هي سبب مودة بينكم أو مودودة بينكم . وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة وعلى هذا فالوقف على { أوثاناً } حسن كما مر . { ثم يوم القيامة } يقوم بين العبدة وكذا بينهم وبين أوثانهم التباغض والتلا عن نظيره { كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضداً } [ مريم : 82 ] والتحقيق فيه أنهم غلبت عليهم الجسمية ولذاتها فلهذا ألفوا الأصنام ولم تقبل عقولهم موجوداً منزهاً عن الأجسام وخواصها ، فلا جرم إذا رفعت الحجب وكشف الغطاء عن عالم الأرواح زالت نسبة الجسمية وظهرت آلالام الروحانية وعذبوا بنار الخسران والحرمان من غير شفعاء ولا أعوان ، فلذلك قال { ومأواكم النار وما لكم من ناصرين } وإنما لم يقل ههنا
{ وما لكم من دون الله } [ البقرة : 107 ] لأن الله لا ينصر الكفار من اهل النار . وإنما جمع ههنا لأنه أراد في الأول جنس النصير وههنا أراد نفي الناصرين الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله { فآمن له لوط } وكان ابن أخي إبراهيم صدقه حين رأى النار لم تحرقه . قالت العلماء : إن لوطاً آمن برسالة إبراهيم حين رأى المعجزة . وأما بالوحدانية فآمن حين سمع مقالته إذ لو توقف في الإيمان إلى وقت إظهار المعجزة كان نقصاً في مرتبته وقدحاً في نور باطنه ، ألا ترى أن أبا بكر وعلياً أسلما كما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهما . { وقال } إبراهيم { إني مهاجر } من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين ولهذا قالوا : لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان . وكان معه في هجرته امراته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة وهاجر معه لوط أيضاً . ومعنى { إلى ربي } أي إلى حيث أمر ربي بالهجرة إليه ومثله قوله { إني ذاهب إلى ربي } [ الصافات : 99 ] وعبارة القرآن أدخل في الإخلاص لأن المهاجر إلى حيث أمره الملك قد يهاجر إليه مرة أخرى لغرض نفسه فيصدق أنه مهاجر إلى حيث أمره الملك ولا يصدق أنه مهاجر لأجل الملك ولرضاه . وفي قوله { إنه هو العزيز الحكيم } نوع تهديد لقومه وتصويب لما بدا له من الهجرة بأمر الله . قال في الكشاف : إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائي ، الحكيم الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي .
ثم ذكر ما أنعم به عليه من الأولد والأحفاد ، ومن جعل النبوة وجنس الكتاب الإلهي فيهم . وهو التوراة والإنجيل والزبور والفرقان -ولهذا اندرج ذكر إسماعيل في الآية . ولعل السر في عدم ذكر إسماعيل والتصريح بذكره أن الله تعالى جعل الزمان بعد إبراهيم قسمين : أحدهما زمن إسحاق ويعقوب وذراريهما إلى زمان الفترة ، والآخر من محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم قيام الساعة وهو من ولد إسماعيل فطي ذكر إسماعيل إشارة إلى تأخر زمان دولته والله أعلم . ثم كرر ذكر النعمة بقوله { وأتيناه أجره في الدنيا } قال أهل التحقيق : إن الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام بأضدادها . لما أراد القوم تعذيبه بالنار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وهاجر فريداً وحيداً فوهب الله له ذريّة طيبة مباركة كما وصفنا ، وكان لا مال له فكثر ماله حتى حصل له من المواشي ما علم الله عدده فقط . يروى أنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس في أعناقها أطواق من ذهب . وكان خاملاً حتى قال قائلهم { سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم } [ الأنبياء : 60 ] فجعل الله له لسان صدق في الآخرين .
اللهم صلى على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم . ثم بين بقوله { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } أن تلك النعمة الدنيوية ولذاتها مقرونة بفلاح الآخرة وصلاحها جعلنا الله تعالى ببركته أهلاً لبعض ذلك وهو المستعان . قوله { ولوطا إذ قال } إعرابه كإعراب قوله { وإبراهيم إذ قال } وقد مروالظاهر أن لوطاً يكون قد أمر قومه بالتوحيد والعبادة أوّلاً ثم نهاهم عن الفاحشة ثانياً . إلا أن الله تعالى قد حكى عنه ما اختص به وبقومه وهو قوله { إنكم لتأتون الفاحشة } ويحتمل أن يكونوا موحدين إلا أنهم بسبب الإصرار على الفعلة الشنعاء وتحليلها مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم الناهي عنها صاروا في حكم الكفرة . وإذا كان الزنا فاحشة كما قال { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة } [ الإسراء : 32 ] مع أن الزنا لا يفضي إلى قطع النسل فاللواطة أولى بكونها فاحشة لتماديها في القبح ولإفضائها إلى انقطاع النسل ، ويعلم منه احتياجها إلى الزاجر كالزنا بل أولى ويعلم منه افتقارها إلى الرجم بدليل إمطار الحجارة على أهلها . ومعنى { ما سبقكم بها } أنه لم يأت بمثل هذا الفعل أحد قبلهم أو لم يشتهر به ولم يبالغ فيه أحد وإن ارتكبه بعضهم في الندرة كما يقال : إن فلاناً سبق البخلاء في البخل ، واللئام في اللؤم إذا زاد عليهم . ومعنى { تقطعون السبيل } تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء . ويجوز أن يكونوا قطاع الطريق والظاهر يشعر به { وتأتون في ناديكم المنكر } أي تضمون إلى قبح فعلكم قبح الإظهار . والنادي هو المجلس ما دام فيه الناس . وعن عائشة : كانوا يتجامعون . وعن ابن عباس : هو الحذف ومضغ العلك وحل الإزار والفحش في المزاح والسخرية بمن مر بهم { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله } ولم يهددوه بنحو القتل والتخويف كما في قصة إبراهيم ، لأن إبراهيم كان يقدح في آلهتهم ويشتمهم بتعديد نقائصهم { يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً } [ مريم : 42 ] فجعلوا جزاءه شر الجزاء . وأما لوط فكان ينكر عليهم فعلهم فهددوه بالإحراج أوّلاً { أخرجوا آل لوط من قريتكم } [ النمل : 56 ] واقترحوا من عذاب الله ثانياً . ويجوز أن يكون على سبيل الاستهزاء فلا جرم { قال رب انصرني على القوم المفسدين } كأنه أيس من توبتهم وإنابتهم ومن أن يلدوا تائباً مطيعاً كما قال نوح { ولا يلدوا إلا فاجراً كفارا } [ نوح : 27 ] ولعلهم كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعاً وكرهاً أو بابتداء الفواحش واقتداء من بعدهم بهم .
والبشرى هي البشارة بالولد ، والنافلة إسحق ويعقوب ، وإضافة { مهلكو } إضافة تخفيف لا تعريف لأنه بمعنى الاستقبال أو الحال القريب منه لا الماضي ، ولأن المقصود يتضح بذلك لا بوصف الملائكة لمطلق الإهلاك .
والقرية سذوم . ثم علل الإهلاك بأن الظلم قد استمر فيهم بناء على أن كان للثبوت والاستمرار ، ويحتمل أن يكون للزمان الماضي فإن هذا القدر يكفي للتعليل والزائد عليه لا تحتاج الملائكة إلى تقريره بخلاف ما في قصة نوح { فأخذهم الطوفان وهم ظالمون } [ العنكبوت : 14 ] فإن ذلك إخبار من الله تعالى ولا يحسن من الكريم أن يعاقب على الجرم السابق إلا بعد تحقق الإصرار والاستمرار . قال بعضهم : إن تعلق { البشرى } بهذا الإنذار هو أنه كان في إهلاك قوم لوط إخلاء الأرض من العباد فقدمت البشارة المذكورة المتضمنة لوجود عباد صالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه . ثم إن إبراهيم لما سمع إنذار الملائكة أظهر الإشفاق على لوط والحزن له قائلاً { إن فيها لوطاً قالوا نحن أعلم } منك { بمن فيها } وأخبروا بحاله وحال قومه . ومعنى { من الغابرين } من الماضين ذكرهم أو ممن يمضي زمانه وبفنى أو من الباقين في المهلكين و { سيء بهم وضاق بهم ذرعاً } قد مر في « هود » وقال بعضهم : يحتمل أن يكون ضيق الذرع عبارة عن انقباض الروح فعند ذلك تجتمع أعضاء الإنسان وتقل مساحتها . فقالت الملائكة { لا تخف } علينا { ولا تحزن } بسبب التفكر في أمرنا . وقال أهل البرهان : وإنما قبل ههنا { ولما أن جاءت } بزيادة « أن » لأن « لما » تقتضي جواباً وإذا اتصل به « أن » دل على أن الجواب وقع في الحال من غير تراخ في الظاهر كما في هذه السورة وهو قوله { سيء بهم } وفي هود اتصل به كلام بعد كلام فطال فلم يحسن دخول « أن » ظاهراً مع أن القصة واحدة . ثم إن الملائكة قالوا للوط { إنا منجوك } بلفظ اسم الفاعل وقالوا لإبراهيم عليه السلام { لننجينه } بلفظ الفعل لأن ذلك ابتداء الوعد وهذا أوان إنجازه فأرادوا أن ذلك الوعد حتم واقع منا كقولك : أنا ميت لضرورة وقوعه ووجوده . والرجز العذاب الذي يوقع صاحبه في القلق والاضطراب من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب ، والمراد الحجارة . وقيل : النار . وقيل : الخسف . وعلى هذا يراد أن الأمر بالخسف والقضاء به من السماء { ولقد تركنا منها } أي من القرية { آية بينة } هي آثار منازلهم الخربة أو بقية الحجارة أو الماء الأسود أو قصتهم وخبرهم . وقوله { القوم } يتعلق ب { تركنا } أبو ب { بينة } ولزيادة قوله { بينة } قال { لقوم يعقلون } بخلاف قوله في قصة نوح عليه السلام { وجعلناها آية للعالمين } [ العنكبوت : 15 ] لأن الآية لا تتبين إلا لذوي العقول وليس كل من في العالم بذي عقل .
ثم أجمل سائر القصص والرجاء إما على أصله أو بمعنى الخوف . وعلى الأول قال جار الله : اراد افعلوا ما ترجون به العاقبة ، فأقيم المسبب مقام السبب .
أو أمروا الرجاء والمراد اشتراط ما يسوغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالصلاة مثلاً على إرادة الشرط وهو الإسلام . { فكذبوه } إنما صح إطلاق التكذيب مع أن ذكره شعيب أمر ونهي ، والأمر لكونه طلباً لا يحتمل التصديق والتكذيب ، وكذا النهي لأن قول شعيب يتضمن قوله الله واحد والحشر كائن والفساد محرم وكل واحد من هذه خبر . ومعنى الرجفة والصيحة قد مر في « الأعراف » وفي « هود » . وكذا إنه لم قال مع الرجفة في دارهم على التوحيد ، ومع الصيحة في ديارهم على الجمع . { و } أهلكنا { عاداً وثمود وقد تبين لكم } ذلك الإهلاك { من } جهة { مساكنهم } إذا نظرتم إليها عند مروركم بها { وكانوا مستبصرين } أي عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال ، وكانوا عارفين بأخبار الرسل أن العذاب نازل بهم ولكنهم لم ينظروا في الدليل ولجوا حتى هلكوا { وما كانوا سابقين } أي أدركهم أمر الله فلم يفوتوه .
ثم قرر أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الربعة ، فجعل ما منه تركيبهم سبباً لعدمهم وما منه بقاؤهم سبباً لفنائهم . فالحاصب حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر وهو إشارة إلى التعذيب بعنصر النار وأنه لقوم لوط . والصيحة وهي تموّج شديد في الهواء لمدين . وثمود . والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون { وما كان الله ليظلمهم } بالإهلاك { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بالإشراك وقال بعض أهل العرفان : وما كان الله ليضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة ولكنهم وضعوا أنفسهم مع شرفها في عبادة الوثن الذي هو في غاية الخسة فلذلك ضرب لهم المثل بالعنكبوت ونسجه الذي هو عند الناس في غاية الوهن والضعف . فإن كان تشبيهاً مركباً فظاهر ، وإن كان مفرقاً فالمشرك كالعنكبوت واتخاذه الصنم معبوداً وملجاً كاتخاذ العنكبوت نسجه بيتاً فإنه يصير سبباً لهلاكه ولتنظيف البيت منه كعابد الوثن يقع في النار بسبب عبادته .
وفيه أن العنكبوت كما أنه يصطاد بسبب نسجه الذباب ولكنه لا بقاء له ويتلاشى بأدتنى سبب كذلك الكافر يستفيد بشركه ما هو أقل من جناح بعوضة وهو بعض متاع الدنيا ولكنه كعمله يصير آخر الأمر هباء منثوراً . ثم عرض على العقول صحة المثل المضروب قائلاً { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } بأنه لا يصلح للبقاء ولا للاتسدفاء ولا للاستظلال ولا للاستكنان والنسج في نفسه إن فرض له فائدة كما أن الصنم في نفسه يمكن أن ينتفع به ولكن اتخاذ النسج بتاً لا شك انه غير مفيد بل مضر كما مر فكذلك عبادة الصنم . ثم قال { لو كانوا يعلمون } فحذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأمر دينهم لتابوا وندموا ، ولو كانوا يعلمون صحة هذا التشبيه وقد صح أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً العنكبوت . فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً . وصاحب الكشاف علق هذا الشرط بما قبله وليس بذاك وقد مر في الوقوف والله أعلم .
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
القراآت : { ما يدعون } بياء الغيبة : أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى والبرجمي . الباقون : بتاء الخطاب { آية } على التوحيد : ابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل وحمزة وعلي غير قتيبة وخلف لنفسه . { ويقول } بالياء : نافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بالنون { يا عبادي الذين } بسكون الياء : أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف . الباقون : بفتح الياء والوقف للجميع بالياء لا غير { ارضي } بفتح الياء ابن عامر { يرجعون } بضم الياء التحتانية وفتح الجيم : يحيى وهشام { ترجعون } بفتح التاء الفوقانية وكسر الجيم . الباقون : بضم التاء الفوقانية وفتح الجيم { لنثوينهم } بسكون الثاء المثلثة : حمزة وعلي وخلف . والآخرون : بفتح الياء التحتانية الموحدة . وتشديد الواو { وليتمتعوا } بسكون اللام : ابن كثير وقالون وحمزة وعلي وخلف { سبلنا } بسكون الباء : أبو عمرو .
الوقوف : { من شيء } ط { الحكيم } 5 { للناس } ط لاختلاف الجملتين والعدول عن العموم إلى الخصوص { العالمون } 5 { بالحق } 5 { للمؤمنين } 5 { الصلاة } ط { والمنكر } ط { أكبر } ط { ما تصنعون } 5 { مسلمون } 5 { إليك الكتاب } ط { يؤمنون به } ج فصلاً بين حال الفريقين مع اتفاق الجملتين { يؤمن به } ط { الكافرون } 5 { المبطلون } 5 { العلم } ط { الظالمون } 5 { من ربه } ط { عند الله } ط { مبين } 5 { عليهم } ط { يؤمنون } 5 { شهيداً } ج لأن ما بعده يصلح وصفاً واستئنافاً { والأرض } { بالله } لا لأن ما بعده خبر { الخاسرون } 5 { بالعذاب } ط { العذاب } ط { لا يشعرون } 5 { بالعذاب } ط { بالكافرين } 5 لا لأن { يوم } ظرف { المحيطة } { تعملون } 5 { فاعبدون } ط { ترجعون } 5 { خالدين فيها } ط { العاملين } قف بناء على أن التقدير هم الذين أو أعني الذين { يتوكلون } 5 { رزقها } ق قد قيل : والوصل أولى لأنه وصف آخر لدابة { وإياكم } ج لاحتمال الاستئناف والوصل أولى ليكون حالاً متمماً للمعنى { العليم } 5 { ليقولن الله } لا للاستفهام مع الفاء { يؤفكون } 5 { ويقدر له } ط { عليم } 5 { ليقولن الله } ط { الحمد لله } ط لتمام المقول { لا يعقلون } 5 { ولعب } ط { الحيوان } ط لأن الشرط غير معلق { يعلمون } 5 { الذين } 5 { يشركون } لا لتعلق لام كي ومن جعلها لام أمر تهديد وقف عليه { آتيناهم } ط لمن قرأ { وليتمتعوا } بالجزم على استئناف الأمر ، ومن جعل لام { ليكفروا } للأمر عطف هذه عليها فلم يقف { وليتمتعوا } لا لاستئناف التهديد { يعلمون } 5 { من حولهم } ط { يكفرون } 5 { جاءه } ط { الكافرين } 5 { سبلنا } ط { المحسنين } 5 .
التفسير : هذا توكيد للمثل المذكور وزيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئاً هذا على تقدير كون « ما » نافية و « من » زائدة ، ويجوز أن تكون استفهاماً نصباً ب { يدعون } أو بمعنى الذي و « من » للتبيين المراد ما يدعون من دونه من شيء فإن الله يعلمه .
وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة . وفيه ايضاً تجهيل لهم حيث عبدوا ما هو أقل من لا شيء وتركوا عبادة القاهر القادر الحكيم . ثم إن الجهلة من قريش كانوا يسخرون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ونحوهما فنزلت { وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون } وذلك لأن الأمثال والتشبيهات وسائل إلى المعاني المحتجبة في الأستار كما سبق في أول البقرة ، حيث ضرب المثل بالبعوضة . قال الحكيم : العلم الحدسي يعرفه العاقل ، وأما إذا كان فكرياً دقيقاً فإنه لا يعقله إلا العالم لافتقاره إلى مقدمات سابقة . والمثل مما يفتقر في إدراك صحته وحسن موقعه إلى أمور سابقة ولاحقة يعرف بها تناسب مورده ومضربه وفائدة إيراده فلا يعقل صحتها إلا العلماء . وحين أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان وقص قصصاً فيها عبر ، وأنذر أهل الكفر بإهلاك من غبر ووصف سبيل أهل الاباطيل بالتمثيل ، قوى قلوب أهل الإيمان بأن كفرهم ينبغي أن لا يورث شكاً في صحة دينكم ، وشكهم يجب أن لا يؤثر في رد يقينكم ، ففي خلق السموات والأرض بالحق بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر . وإنما قال ههنا { لآية للمؤمنين } مع قوله { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض . . . ليقولن الله } وقوله { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } [ البقرة : 164 ] إلى قوله { لآيات لقوم يعقلون } [ البقرة : 164 ] لأن المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب ولكنه يرتقي منه إلى نعوت الكمال والجلال فيعرف أنه خلقهما متقناً محكماً وهو المراد بقوله { بالحق } والخلق المتقن المحكم لا يصدر إلا عن العالم بالكليات والجزئيات ، وإلا عن الواجب الواحد الذات والصفات كقوله { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [ الأنبياء : 22 ] ثم يرتقي من مجموع هذه المقدمات إلى صحة الرسالة وحقيقة المعاد فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامة . وإنما وحد الآية ههنا لأنه إشارة إلى التوحيد وهو سبحانه واحد لا شريك له . وفي قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة وفي النبيين صلى الله عليه وسلم كثرة . وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله { اتل ما أوحي إليك من الكتاب } لتعلم أن نوحاً ولوطاً وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة ، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة ، ولهذا قال { اتل } ولم يقل « اتل عليهم » لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم . أو نقول : إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور .
وأيضاً فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة ، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة . وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وأقامة الصلاة معنيان : أحدهما زيادة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له : إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك وساطة بين الطرفين ، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق ، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق . والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمراً عليها . وإما لسانية ، وإما بدنية خارجية وافضلها الصلاة ، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } فقال بعض المفسرين : اراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل : أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة ، وضعف بأنه ليس مدحاً كاملاً لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره . والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفاً في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من الخشوع وغيره مرعية . فقد روي عن ابن عباس : « من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعداً » . « وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له : إن فلاناً يصلي بالنهار ويسرق بالليل . فقال : إن صلاته لتردعه » « وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش ، فوصف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن صلاته ستنهاه ، فلم يلبث أن تاب » وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح . واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوباً فاخراً فإنه يتجنب مباشرة القاذورات ، فمن لبس لباس القتوى كيف لا يتجنب الفواحش .
وإيضاً الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال { واسجد واقترب } [ العلق : 19 ] ومقرِّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي؟ وأيضاً من دخل في خدمة الملك فأعطاه منصباً له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك ، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في اصحاب الشمال؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مراراً ، وقال أهل التحقيق : الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع ، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر . واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان ، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان .
وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال { ونذر الظالمين فيها جثياً } [ مريم : 72 ] فالمصلي إذا قال « الله » نفى التعطيل وإذا قال « أكبر » نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك ، وإذا قال { بسم الله } نفى التعطيل ، وإذا قال { الرحمن الرحيم } نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق ، وهكذا { الحمد لله } خلاف التعطيل ، وقوله { رب العالمين } خلاف التشريك وفي قوله { إياك نعبد } نفي التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة ، وكذا قوله { وإياك نستعين } وفي قوله { اهدنا الصراط } نفى التعطيل لأن المعطل لا مقصد له . وفي قوله { المستقيم } نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد ، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط . وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد « أشهد أن لا إله إلا الله » نفى التعطيل والإشراك ، فأول الصلاة « الله » وآخرها « الله » . ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد : أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم ، فقل بعد ذكري : أشهد أن محمدا رسول الله ، واذكر إحسانه بالصلاة عليه . ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغه سلامي كما هو دأب المسافرين { ولذكر الله } أي الصلاة { أكبر } من غيرها من الطاعات . وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر . وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة . وعن ابن عباس : ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة . { والله يعلم ما تصنعون } من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك .
وحين بين طريقة إرشاد المسلمين ونفع من انتفع واليأس ممن امتنع ، أراد ان يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب وهي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن ، يعني مقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم والعجلة بالتأني . قال بعض المفسرين : أراد لا تجادلهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية . وقيل : إلاّ الذين اشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة وقيل : إلا الذين آذوا رسول الله . والتحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل والمبدأ والمعاد ، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولاً بالأحسن ، ولا تستهجن آراؤهم ولا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم { آمنا بالذي أنزل إلينا } إلى آخر الاية .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم « ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله ، فإن كان باطلاً لم تصدقوهم ، وإن كان حقاً لم تكذبوهم » ثم ذكر دليلاً قياسياً فقال { وكذلك } يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وقال جار الله : هو تحقيق لقوله { آمنا بالذي أنزل إلينا } اي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقاً لسائر الكتب السماوية . { فالذين آتيناهم الكتاب } هم عبد الله بن سلام وأضرابه { ومن هؤلاء } اي من اهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب ، والآخرون هم المعاصرون منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل : الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم ومن هؤلاء هم أهل الكتاب { وما يجحد بآياتنا } مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب الأشرف وأصحابه . واعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله : الزكاة تجب في مال الصغير . فإذا قيل له : لم؟ قال : كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر الجامع بينهما . فإن فهم الجامع من نفسه فذاك ، وإلا قيل له : لأن كليهما مال فضل عن الحاجة . فالله سبحانه ذكر أولاً التمسك بقوله { وكذلك أنزلنا } ثم ذكر الجامع بقوله { وما كنت تتلو } الآية . وفي قوله { بيمينك } زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً . ومعنى { إذا لارتاب } لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط لارتاب { المبطلون } من أهل الكتاب ، وارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل ، لأن النبي إذا كان قارئاً كاتباً أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام الله ، وإذا كان أمياً فلا مجال لهذا الوهم . أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب اليس صاحب آيات ومعجزات فإذا هم مبطلون على كل حال . ثم أكد إزالة ريبهم بقوله { بل هو } يعني القرآن { آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } وهو الحفاظ والقراء وسائر الكتب السماوية ، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس ولهذا جاء في صفة هذه الأمة « صدورهم أناجيلهم » { وما يجحد بآياتنا } الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم . سماهم أولاً كافرين لأجل مجرد الجحود ، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع . ويجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغولهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكماً أو حقيقة . ولما بين الدليل من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شبهتهم وهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه ، وذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئاً منها فأرشد الله نبيه إلى الجواب وهو أن يقول { إنما الآيات عند الله } ووجههأنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة وإنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة ، ولهذا علم وجود رسل كشيث وادريس وشعيب ، ولم يعلم لهم معجزة وكان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم إلا بقول موسى أو غيره ، فليس على النبي إلا النذارة .
وأما إنزال الآية فإلى رحمة الله إذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ وتكذيب النبي . ثم قال { أولم يكفهم } الآية . والمعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصائحهم كافياً في بيان الإعجاز؟ { إن في ذلك } المتلو على وجه الأرضين { لرحمة } من الله على الخلق وإلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ { وذكرى } ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان . وإنما كانت هذه الرحمة من الله على الخلق والتذكرة مختصة بالمؤمنين ، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة والخلود في النار ، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بكلام منصف وهو قوله { كفى بالله بيني وبينكم شهيداً } وقال في آخر سورة الرعد { قل كفى بالله شيهداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب } [ الآية : 43 ] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضاً وأما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة الله ، ثم بين كون شهادة الله كافية بقوله { يعلم ما في السموات والأرض } ثم هددهم بقوله { والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله } وهما متلازمان لأن الإيمان بما سوى الله وهو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر بالله وجحود بحقه . { أولئك هم الخاسرون } لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن افحش من اشتراء الباطل بالحق والكفر بالإيمان وإضاعة العمر في ما عبادة مالا ينفعهم بل يضرهم قيل : إن ناساً من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلما نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها حماقة قوم ان يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت { أولم يكفهم } الآية . ويروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا : يا محمد من يشهد لك بأنك رسو الله؟ فنزلت { قل كفى } الآية . فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين ، وعلى ا مر فهل يتناول أهل الكتاب؟ قالوا : نعم ، لأنه صح عندهم معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وقطعوا بأنها ليست من عند الله بل من تلقاء محمد صلى الله عليه وسلم فيلزمهم أن يقولوا : إن محمداً هو الله فيكون إيماناً بالباطل وكفراً بالله . قلت : ولعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة وعبدوا العجل والله أعلم . ثم إن النضر بن الحرث وغيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم وتكذيباً فنزلت { ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى } هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة .
وقوله { وهم لايشعرون } تأكيد للبغتة ، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم اصلاً .
ثم كرر قوله { يستعجلونك بالعذاب } تعجباً منهم وتعجيباً ، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول : هات ما عندك . وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصاً إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما اراد . وقوله { لمحيطة } بمعنى الاستقبال أي ستحبط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا ، أو مجازاً لأن جهنم مآلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم . والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر اي { يوم يغشاهم العذاب } كان كيت وكيت . وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات ، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا ، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم ، وإنما لم يقل « ومن تحتهم » كما قال { من فوقهم } لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الراس أو من موضع آخر . وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل . ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويراً لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها . وقوله { ذوقوا ما كنتم } أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة ، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من اهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال { يا عبادي } فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله { عيناً يشرب بها عباد الله } [ الدهر : 6 ] فقوله { الذين آمنوا } صفة موضحة . وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة .
ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالاً أو ارفع حالاً وأقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن مان شبراً من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد » واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنَّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعاً إلى الله الكريم ومستمداً من إعجاز الفرقان العظيم : اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سبباً لنجح المقاصد وحصول المآرب والاشتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير .
والفاء في قوله { فإياي } للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه قال : إذا كان لا مانع من عبادتي { فاعبدوني } ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير ، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال : هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله { وإياي فارهبون } [ البقرة : 40 ] فصار حاصل المعنى : إن لم تخلصوا العبادة لي في ارض فاخلصوها لي في غيرها . والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله { يا عبادي } الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل ، أو الإخلاص في العبادة . ويجوز أن يقال : العبودية غير العبادة ، فكم من عبد لا يطيع سيده ، ثم لما أمر المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال { كل نفس ذائقة الموت } أي إن الذي تكرهون لا بد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله { ثم إلينا ترجعون } فنثيبكم على ذلك ، وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطراراً فمن اراد أن لا يموت ابداً فليمت اختياراً فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار . ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران ، وأن في الجنة غرفاً تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار . وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله { نعم أجر العالمين } بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله { ذوقوا ما كنتم تعلمون } وقوله { لنبوئنهم } أَ لننزلنهم { من الجنة } عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال : ثوى في المنزل لازماً وأثوى غيره متعدياً إلى واحد . فانتصاب { غرفاً } إمات بنزع الخافض ، وإما لتضمين الإِثواء معنى التبوئة والإِنزال ، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم . ثم مدح { الذين صبروا } على المكاره في الحال . { وعلى ربهم يتوكلون } فيما يحتاجون إليه في الاستقبال . وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه المسافر والمقيم ، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن ، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن . والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله وبما سوى الله ، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه ، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه . ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب . وقال المفسرون : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول : كيف اقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت { وكاين من دابة لا تحمل رزقها } عن الحسن اي لا تدخره وقال غيره : لا تطيق حمل الرزق { الله يرزقها } بإيجاد غذائها وهدايتها إليه .
ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك . { وإياكم } بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء إلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختياراً وقهراً ، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلاً والراكع الساجد غير متوكل . عن ابن عيينة : ليس شيء يخبأ إلا الإِنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه ينساها . وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع . وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد ، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها ، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص؟! { وهو السميع } لدعاء طلبة الرزق { العليم } بطوياتهم ومقادير حاجاتهم . ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم ، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته ، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه اشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات ، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات ، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر الرزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب . ومعنى { يقدر } يضيق فالضمير في { له } إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء . وفي قوله { إن الله بكل شيء عليم } إشارة إلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله إليه من غير تأخير إن شاء .
ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إِحياء الأرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله . ثم قال { قل الحمد لله } وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً . وفيه أن العالم إذا لم يعمل بعلمه انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله { بل أكثرهم لا يعقلون } وقال جار الله : اراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد ، أو لا يعقلون ما تريد بقولك : « الحمد لله » ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم . واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله ، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل ، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الاخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا .
قال أهل العلم : الإقبال على الباطل لعب ، والإعراض عن الحق لهو ، والمشتغل بالدنيا كذلك . ويمكن أن يقال : المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لبعض أمور الآخرة لاعب ، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاهٍ وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هناك لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر الأبعد . ولما كان المذكور ههنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله { وما هذه الحياة الدينا } وقال في الأنعام { وما الحياة الدنيا } [ الآية : 32 ] وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها بالكلية ، فلا جرم قدم اللهو . ويحتمل أن يقال : إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من « الأنعام » وكذلك في القتال ويقال لها « سورة محمد » صلى الله عليه وسلم وفي « الحديد » . وقدم اللهو على اللعب في « الأعراف » و « العنكبوت » . فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا ، واللهو زمانه الشباب ، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب .
« تنبيه » ما ذكر في الحديد { اعلموا انما الحياة الدنيا لعب } [ الحديد : 20 ] كلعب الصبيان { ولهو } [ الحديد : 20 ] كلهو الشبان و { زينة } [ الحديد : 20 ] كزينة السنوان { وتفاخر } [ الحديد : 20 ] كتفاخر الإخوان { وتكاثر } [ الآية : 20 ] كتكاثر السلطان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين . وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة ، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون غلى المقصود اقرب . ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله { وللدار الآخرة خير } [ الأنعام : 32 ] ولما كان ههنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال { وإن الدار الآخرة لهي الحيوان } أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة . ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة « إن » ومن جهة صيغة الفصل ، ولام التأكيد ، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر « حيي » بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو . ولو كانا واوين لقيل : حوى مثل قوى وقياسه « حييان » بياءين قلبت الثانية واواً على منوال حيوة في اسم رجل . ولأن المبالغة ههنا أزيد مما في الأنعام قال ههنا { لو كانوا يعلمون } وهنالك { أفلا تعقلون } [ الأنعام : 32 ] لأن المعلوم أكثر مقمدة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله { فإذا ركبوا في الفلك } إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص ، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها .
ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال { أولم يروا } الآية . وقد مر مثله في « القصص » . ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئاً في غير موضعه فهو ظالم . فمن وضع شيئاً في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم ، وإنهم جعلوا الله شريكاً مع عدم إمكان الشريك له ، فلا أظلم منهم . وأيضاً من كذب صادقاً يجوز عليه الكذب كان ظالماً ، فمن كذب صادقاً لا يجوز عليه الكذب يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن؟ وفي قوله { لما جاءه } إشارة إلى أنهم لم يتلعثموا في التكذيب وقت أن سمعوه ولم يستعملوا التدبر التفكر فيما يجب أن يستعمل فيه التأني والتثبت ، وهذا أيضاً نوع من الظلم بل ظلم مضموم إلى ظلم . وفي قوله { اليس } معنيان بعد كون الاستفهام للتقرير . فإن أريد نفي الحال فمعناه ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترؤا على مثل هذه الجرأة؟ وإن اريد نفي الاستقبال فالمراد ألا يثوون في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق؟ وقيل : هو من الكلام المنصف لأنه قدم مقدمة هي أنه لا أظلم من المفتري وهو المتنبئ ومن الذي كذب النبي . ثم ذكر أن جهنم مقام الكافر سواء كان هو المتنبئ أو المكذب للنبي فهو كقوله { وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] ثم ختم السورة بآية جامعة فيها تسلية قلوب المؤمنين والمراد أن من جاهد النفس أو الشيطان الجني والإنسي { فينا } أي في حقنا ومن أجل رضانا خالصاً { لنهدينهم } سبيل الجنة أو سبيل الخير بإعطاء ميزد اللطاف والتوفيق . وقيل : والذين جاهدوا فيما علموا ولم يقصروا في العمل به لنهدينهم إلى ما لم يعلموا وهو قريب من قول الحكيم : إن النظر في المقدمات يعد النفس لقبول الفيض وهو النتيجة من واهب الصور الجسمانية والعقلية . وقوله { وإن الله لمع المحسنين } أي بالنصر والإعانة إشارة إلى مرتبة أعلى من الاستدلال وهو الذي يسمى العلم اللدني ، فكأنه تعالى أشار في خاتمة السورة إلى الفرق الثلاث . فأشار إلى الناقصين بقوله { ومن أظلم } وذلك أنهم صرفوا الاستعداد في غير ما خلق لأجله ، وإلى المتوسطين الذين يحصلون العلم بالكد بقوله { والذين جاهدوا } وإلى اصحاب الحدس وصفاء الضمير بقوله { وإن الله لمع المحسنين } والله أعلم بمراده .
التأويل : { وما يعقلها إلا العالمون } بالله لأن عقولهم مؤيدة بأنوار العلم اللدني { إن في ذلك لآية للمؤمنين } الذين ينظرون بنور الله فان النور لا يرى إلا بالنور { اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة } فيه أن التلاوة والعمل به يجب أن يتقارنا حتى يتخلق بخلق القرآن ويحصل الانتهاء عن الفحشاء وهي طلب الدنيا .
والمنكر وهو الالتفات إلى غير الله فإن لم تكن الصلاة متصفة بذلك فهي كالصلاة . { ولذكر الله } في إزالة مرض القلب { أكبر } من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة ، لأن القلب لا يطمئن إلا بذكر الله ، وعند الاطمئنان توجد سلامة القلب . فلاذكر له خاصية الإكسير في جعل الإبريز ذهباً خالصاً . { والله يعلم ما تصنعون } من استعمال مفتاح الشريعة وآداب الطريقة لفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والوصول إلى الكنز الخفي { ولا تجادلوا } يا ارباب القلوب أهل العلم الظاهر إلا بطريق الإنصاف والرفق { إلا الذين ظلموا } بمزيد الإنكار والعناد فحينئذ لا تجادلوهم إذ لا يرجى منهم قبول الحق والإذعان له ، فخلوا بينهم وبين باطلهم { وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا } من العلوم الباطنة { وأنزل إليكم } من العلوم الظاهرة { وكذلك } اي كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر { أنزلنا عليكم } الكشوف والمعارف { فالذين آتيناهم الكتاب } وهم أرباب القلوب يصدقون به ، { ومن هؤلاء } العلماء الظاهريين من يؤمن به { وما يجحد بآياتنا إلا الذين } يشترون الحق بالباطل { وما كنت تتلو } وفيه أن القلب إذا كان خالياً عن النقوش الفاسدة كان أقبل للعلوم اللدنية كقلب النبي صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } يعني أن قلوب الخواص خزائن الغيب . سأل موسى عليه السلام : إلهي أين أطلبك؟ فقال : أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي . ثم اشار بقوله { وما يجحد } إلى أن الحرمان من الرؤية من خصوصية الرين ولهذا قالوا { لولا أنزل عليه آية } وذلك لعمى عيون قلوبهم . ثم أشار إلى ظلومية الإنسان وجهوليته بأنه يستعجل بالعذاب مع عدم صبره عليه { وإن جهنم } الحرص وغيره من الأخلاق الذميمة { لمحيطة } بهم من فوقهم وهو الكبر والغضب { ومن تحت أرجلهم } وهو الحرص والشره والشهوة { وهم لا يشعرون } لأنهم نائمون فإذا ماتوا انتبهوا { يا عبادي } أن أرض حضرة جلالي { واسعة } فهاجروا بالخروج من حبس وجودكم إلى سرادقات هويتي { كل نفس ذائقة الموت } بالإضطرار فارجعوا إلينا بالاختيار { لنبوئنكم } من جنة الوصال غرفاً من المعارف { تجري من تحتها } أنهار الحكمة { الذين صبروا } في الباية على حبس النفس بالفطام عن المرام ، وفي الوسط على تجرع القلب كاسات التقدير من غير تعبير ، وفي النهاية صبروا على بذل الروح لنيل الفتوح { وكأين من دابة } شخص كالدابة { لا تحمل } النظر عن { رزقها } لضعف نفسها عن التوكل { الله يرزقها وإياكم } أيها الطالبون للمشاهدات والمكاشفات { ليقولن الله } لأن كلهم قالوا في الأزل : بلى عند خطاب { الست بربكم } [ الأعراف : 172 ] والفرق إثبات الشريك ونفيه وذلك لعدم إصابة النور المرشش وإصابة دليله قوله { الله يبسط الرزق } بإصابته النور { ويقدر } بأخطائه { إن الله عليم } باستحقاق كل فريق من نزل من سماء الروحاينة ماء الإيمان فأحيا به أرض القلوب { لهي الحيوان } لأن جميع أجزائها حي فقد ورد في الحديث
« إن الجنة وما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنار حتى ترابها وحصباؤها كلها حي » قلت : ولعل ذلك لبقاء كل منها على كماله الآخر . ثم بين بقوله { فإذا ركبوا } أن إخلاص المؤمن بثابت وإخلاص الكافر مضطرب ثم بين أن حرم القلب آمن وما حوله من صفات النفس ومشاهدة ربها مظنة تصرف الشيطان ، فمن افترى على الله بأن لا يكون له مع الله وقت وحال ويظهر ذلك من نفسه ، أو كذب طريقة أهل الحق جاهدوا فينا يخرج منه مجاهدة الرهبانيين والفلاسفة والبراهمة ونحوهم لأنهم مرتاضون رياء وكسلاً .
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
القراآت : { عاقبة } بالنصب : ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف . الآخرون : بالرفع . { السوأى } بالإمالة : أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحماد { يرجعون } على الغيبة : أبو عمرو غير عباس وأوقية وسهل ويحيى وحماد { تخرجون } بفتح التاء وضم الراء : حمزة وعلي وخلف . الباقون : مجهولاً { للعالمين } بكسر اللام : حفص يفصل على الغيبة : عباس . الآخرون : بالنون .
الوقوف : { ألم } كوفي { غلبت } { الروم } 5 { سيغلبون } 5 { سنين } 5 { ومن بعد } ط { المؤمنون } 5 { ينصر الله } ط وكلاهما مبني على أن قوله { بنصر الله } يتعلق ب { يفرح } { ينصر من يشاء } ط { الرحيم } 5 { وعد الله } 5 { لا يعلمون } 5 { الدنيا } ج لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى { غافلون } 5 { في أنفسهم } ط لحق الحذف أي فيعلموا ذلك أو فيقولوا هذا القول { مسمى } ط { لكافرون } 5 { من قبلهم } ط { بالبينات } ط { يظلمون } 5 لا لأن « ثم » لترتيب الأخبار { يستهزؤن } 5 { يرجعون } 5 { المجرمون } 5 والوصل جائز { كافرين } 5 { يتفرقون } 5 { يجبرون } 5 { محضرون } 5 { تصبحون } 5 { تظهرون } 5 { بعد موتها } ط { تخرجون } 5 { تنتشرون } 5 { ورحمة } ط { يتفكرون } 5 { وألوانكم } ط { للعالمين } 5 { من فضله } ط { يسمعون } 5 { موتها } ط { يعقلون } 5 { بأمره } ط لأن « ثم » لترتيب الأخبار { دعوة } لا وقيل : على من الأرض وكلاهما تعسف .
والحق أن قوله { من الأرض } متعلق ب { دعاكم } كقولك دعوت زيداً من بيته لا كقولك دعوته من بيتي { تخرجون } 5 { والأرض } ط { قانتون } 5 { أهون عليه } ج { والأرض } ط { الحكيم } 5 { من أنفسكم } ط لانتهاء الإخبار إلى الاستفهام { كخيفتكم أنفسكم } ط { يعقلون } 5 { بغير علم } ج لابتداء الاستفهام مع الفاء { أضل الله } ط لتمام الاستفهام وابتداء النفي { ناصرين } 5 { حنيفا } ط { عليها } ط { لخلق الله } ط { القيم } 5 لا للاستدراك { لا يعلمون } 5 وقيل : لا وقف عليه بناء على أن { منيبين } حال من ضمير { أقم } على أن الأمر له ولأمته مثل { يا أيها النبي إذا طلقتم } [ الطلاق : 1 ] والوقف أوضح لبعد العامل عن المعمول بل التقدير : كونوا منيبين بدليل قوله { ولا تكونوا من المشركين } لأن قوله { من الذين } كالبدل مما قبله { شيعاً } ط { فرحون } 5 .
التفسير : وجه تعلق السورة بما قبلها هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للمشركين ماأمر الله به { صم بكم عمي فهم لا يعقلون } [ البقرة : 171 ] وكان يحقر آلهتهم وينسبها إلى العجز وعدم النفع والضر ، وكان أهل الكتاب يوافقون المسلمين في الإله وفي كثير من الأحكام ولذلك قال { ولا تجادلوا أهل الكتاب } إلى قوله { وإلهنا وإلهكم واحد } [ العنكبوت : 46 ] فلا جرم أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم في الأمور . فاتفق أن بعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليهم رجلاً يقال له شهريران ، فسار إلى الروم بأهل فارس فظفر عليهم وقتلهم وخرب مدائنهم .
وكان قيصر بعث رجلاً يدعى بجنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهو أدنى الشأم إلى أرض العرب وإليه الإشارة بقوله { أدنى الأرض } لأن الأرض المعهودة عند العرب هي أرضهم أي غلبوا في أقرب أرض العرب منهم وهي أطراف الشأم . وجوز جار الله أن يراد بأرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم . وهذا تفسير مجاهد لأنه قال : هي أرض الجزيرة وهي أدنى أرض الروم إلى فارس . عن ابن عباس : الأردن وفلسطين . ففرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق فقد يبتلى المحبوب ويعجل عذابه ليسلم في الآجل . وقوله { في أدنى الأرض } إشارة إلى ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم . ثم بين أن الروم سيغلبون غلبة عظيمة بعد ذلك الضعف العظيم ، وكل ذلك دليل على أن الأمر بيد الله من قبل الغلبة ومن بعدها ، أو من قبل تلك المدة ومن بعد ذلك ، وقد وقع كما أخبر فغلبت الروم على فارس حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هنالك الرومية ، قال المفسرون : لما نزلت الآية قال أبو بكر للمشركين : لا أقر الله أعينكم ، والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين . فقال له أبي ابن خلف : كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه ، فخاطره على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين . فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين . فلما أراد ابو بكر أن يخرج من مكة أتاه أبي فلزمه وطلب كفيلاً فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أن يخرج إلى أحد أتاه عبدالله فلزمه إلى أن أقام كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجي أبي فمات بمكة من جراحته التي جرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية . وذلك عند رأس سبع سنين . فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتصدق به . قالت العلماء : إنما أبهم الوقت لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد الشاسعة قلما يحصل الاتفاق على وقتها المعين من السنة والشهر واليوم والساعة وإن كان معلوماً للنبي بإعلام الله إياه ، فالمعاند كان يتمكن من الإرجاف بوقوع الواقعة قبل وقوعها ليحصل الخلف في الميعاد ولكن المعاند لا يتمكن من إنكار الواقعة في البضع ، { ويومئذ } أي يوم يغلب الروم فارس ويحصل ما وعد الله من غلبتهم { يفرح المؤمنون بنصر الله } وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له ، أو بغيظ الشامتين بهم من كفار مكة .
وقيل : نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبر به نبيهم من غلبة الروم .
وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدرٍ وهو المراد بنصر الله ، وذلك أن خبر الكسر لم يصل إليهم في ذلك اليوم بعينه فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده ، ولناصر القولين الأولين أن يقول : اقيم سبب الفرح ، مقام الفرح أو المراد باليوم الوقت الواسع الشامل لما بين زمان وقوع الكسر إلى زمان وصول خبر الكسر الموجب للفرح . ومن علق قوله { بنصر الله } بقوله { ينصر } بناء على أن المقصود بيان أن النصرة بيد الله لا بيان وقوع النصرة لم يقف ههنا ووقف على { المؤمنون } { وهو العزيز الرحيم } فإذا سلط العدو على الحبيب فلعزته واستغنائه عن العالمين ، وإذا نصر الحبيب فرحمته عليه . أو نقول : إن نصر المحب فلعزته واستغنائه عنه ورحمته في الآخرة واصله إليه . { وعد الله } مصدر مؤكد لنفسه لأن ما سبق في معنى الوعد { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه لا خلف في وعده لأنهم بله في أمور الدين . وفي إبدال قوله { يعلمون } من قوله { لا يعلمون } أو في بيان هذا بذاك إشارة أن العلم بأمور الدنيا كالجهل المطلق ، وفي تنكير { ظاهراً } إشارة إلى قلة علمهم بظاهر الدنيا أيضاً وفي تكرير « هم » إشارة إلى أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكرة حاصلة وظاهر الدنيا ملاذها وملاعبها وباطنها مضارها ومتاعبها .
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من سفكي وفتكي
فلا يغرركم طول ابتسامي ... فقولي مضحك والفعل مبكي
ثم أشار إلى وجه التفكر بقوله { أولم يتفكروا } وقوله { في أنفسهم } يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال : أولم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في القلب ، والإضمار لا يوجد إلا في النفس . وأما تعلق الجار بالفعل كقولك : تفكر في الأمور . وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الاشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبساً بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها ، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب ، ثم في الآية تقريران : أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه ، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ث الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر .
وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة ، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإِله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف ، فإنه خلق السموات وغيرها من الأسجام لمنافع المكلفين ، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريب السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كيلا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل . ثم قال { وإن كثيراً من الناس } وقد قال قبل ذلك { ولكن أكثر الناس } لأنه قد ذكر دليلاً على الأصول ، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر مكما هو فعبر عن الباقي بالكثير . قال في الكشاف والمراد { بلقاء ربهم } الأجل المسمى ، والأشاعرة يحملونه على الرؤية ، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق ، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه ، وأن نفسه أقرب الشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض } [ آل عمران : 191 ] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال ، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق . وإنما أخر الأنفس في قوله { سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم } [ فصلت : 53 ] لإن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال : سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة . وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولاً ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة . وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني ، ثم أتبعه دليل الآفاق الذي يتوقف على السير والتحول ليقفوا على أمر أمثالهم . وحكاية أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدمهم كعاد وثمود كانوا أشد منهم قوة جسمانية وأثاروا الأرض حرثوها وهو إشارة إلى القوة المالية . ثم اشار إلى القوة الظهرية التي يستند إليها عند الضعف والفتور وهي الحصون والعمائر بقوله { وعمروها أكثر مما عمروها } هؤلاء يعني أهل مكة كانوا أهل واد غير ذي زرع ما لهم أثارة أرض أصلاً ولا عمارة لها راساً ، ففيه نوع تهكم بهم . قال أهل البرهان : إنما قال في هذه السورة وفي آخر « فاطر » وفي « المؤمن » { أولم يسيروا } بالواو وفي غيرهن { افلم } بالفاء لأن ما قبلها في هذه السورة { أولم يتفكروا } وما بعدها { وأثاروا } بالواو فوافق ما قبلها وما بعدها . وكذا في « فاطر » ما قبله { ولن تجد لسنتنا تحويلاً } [ الآية : 43 ] وما بعده { وما كان } [ الآية : 44 ] وفي « المؤمن » ما قبله { والذين يدعون } وأما في آخر « المؤمن » فما قبله { فأي آيات الله } وما بعده
{ فما أغنى عنهم } [ الآية : 82 ] وكلاهما بالفاء . قوله في هذه السورة { من قبلهم } متصل بكون آخر مضمر . وقوله { كانوا أشد منهم قوة } وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك . وإنما قال في « فاطر » { وكانوا } بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا اشد ، وخصت السورة به لقوله { وما كان الله ليعجزه } [ فاطر : 44 ] وقال في « المؤمن » { كانوا من قبلهم كانوا هم أشد } فأظهر « كان » وزاد لفظه « هم » لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية ، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم . { ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام . قال أهل السنة : هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم { والسوأى } تانيث الأسوا وهو الأقبح وهي خبر « كان » فيمن قرأ { عاقبة } بالرفع واسم « كان » فيمن قرأ { عاقبة } بالنصب . و « ثم » لتفاوت الرتبة ، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر . والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار . و { أن كذبوا } المعنى لأن « أو » بأن كذبوا أو هو تفسير اساؤا على أن الإساءة في معنى القول نحو : نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول { اساؤا } و { أن كذبوا } عطف بيان لها ، وخبر « كان » محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام . ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه . قال أهل التحقيق : ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } [ يونس : 26 ] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء سيئة سيئة بمثلها ، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله { أن كذبوا } ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كافٍ فيه .
وحين ذكر ان عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال { الله يبدأ } يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة . ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال { ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون } يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمراً غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار .
ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله { ولم يمكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين } يجحدونها وقتئذ بقوله
{ سيكفرون بعبادتهم } [ مريم : 82 ] أو كانوا في الدنيا كافرين بسببهم . ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين { يومئذ يتفرقون } فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء . وفي الأمثال « أحسن من بيضة في روضة » يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى { يحبرون } يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة . حبره إذا سره سروراً تهلل ببشر . وخصه مجاهد بالتكريم ، وقتادة بالتنعيم ، وابن كيسان بالتحلية ، ووكيع بالسماع . عن النبي صلى الله عليه وسلم « إن في الجنة لنهراً حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك افضل نعيم الجنة » قال الراوي : سألت ابا الدرداء بم تغنين؟ قال : بالتسبيح .
وروي أن في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة ، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس باصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا . وأما معنى { محضرون } لا يغيبون عنه وقد مر في قوله { ثم هو يوم القيامة من المحضرين } [ القصص : 61 ] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } [ النساء : 48 ] وكقوله { إنما التوبة على الله } [ النساء : 17 ] إلى قوله { تبت الآن } [ النساء : 18 ] قال جار الله : لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون : لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله { ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق } وفي الانتهاء بقوله { ويوم تقوم الساعة } وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف ، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين ، محمود على كل ما يوصل إلى المكلفين ، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين . والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة .
وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال { تمسون } صلاتا المغرب والعشاء { ويصبحون } صلاة الفجر { وعشياً } صلاة العصر و { يظهرون } صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره ، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء بقوله صلى الله عليه وسلم « لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء إلى نصف الليل » ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منَّ على عباده بالإستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله { ومن آياته منامكم بالليل } [ الروم : 23 ] كما يجيء . روي عن الحسن أن الاية مدنية بناء على أنه كان يقول : فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم .
وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة . قوله { وعشياً } معطوف على { حين } وما بينهما وهو قوله { وله الحمد في السموات والأرض } اعتراض .
قال جار الله : معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت : فيه ايضاً أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم . وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الأشياء العدم ، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر ، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى { ويخرج الحي من الميت } قد سلف مراراً ويحتمل أن يراد ههنا اليقظان والنائم لقوله { وكذلك تخرجون } اي من القبور ، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة ، وكذا رد الأرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها . عن رسول الله صلى الله عليه وسلم « من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه ، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته » ثم اراد أن يذكر الحجج الباهرة علىستحقاق التسبيح والتحميد له فقال { ومن آياته أن خلقكم } أي أصلكم أو كلاً منكم كما مر في أول الحج { من تراب } وذلك ان التراب أبعد الشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة ، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الرواح ولسكونه والحي متحرك حساس ، ولا تتنافي بين هذا وبين قوله { خلق من الماء بشراً } [ الفرقان : 54 ] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة ، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج ، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء ، و { ثم } لتبعيد الرتبة و { إذا } للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً .
قالوا : فيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولاً إنساناً فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولاً حيواناً ثم يجعله إنساناً ، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى . وقوله { بشراً } إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشروا بها يمتاز عن غيره من الحيوانات . وقوله { تنتشرون } إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فضله وجنسه ، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل ، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال : العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضاً . والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله { فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله { وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء } [ النساء : 1 ] .
وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منَّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقياً بتعاقب الأشخاص فقال { ومن آياته أن خلق لكم } ولا يلزم منه أن لا يكنَّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه ، فقد يكون الشيء مختصاً باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن ، فلولا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن .
و { من أنفسكم } أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في « النحل » ويشهد للتفسير الأول قوله { لتسكنوا إليها } فإن الجنس إلى الجنس أسكن { وجعل بينكم مودة } عن الحسن هي الجماع { ورحمة } هي الولد . وقال غيره : المودة حالة حاجة نفسه إليها ، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه ، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض ، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر . قال بعضهم : المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله ، والفرك من قبل الشيطان { إن في ذلك } الخلق والجعل { لآيات لقوم يتفكرون } فخلق الإنسان من الوالدين آية ، وجعل أحدهما ذكراً والآخر أنثى آية ، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية ، وجعل التوادد بين الوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض ، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات ، وأما السماء والأرض فلا يجد بداص من أن يقول : إنهما بقدرة الله تعالى . ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها ، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض ، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه ، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس والشم والذوق فلا حكم ظاهراً لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية . وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال { ومن آياته منامكم } قال جار الله : هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام . ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقاً لما جاء في مواضع آخر كقوله { وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً } [ النبأ : 10 ، 11 ] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال : وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان ، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام . وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار ، فان الإنسان كثيراً ما ينام بالنهار وبكسب بالليل .
وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه . ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال { ومن آياته يريكم } فأضمر « أن » واسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر « تسمع بالمعيدي خير من أن تراه » قيل : لما كان البرق من الأمور التي تتجدد زماناً دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه « أن » وقيل : ومن آياته كلام كافٍ كما تقول : منها كذا ومنها كذا .
وتسكت تريد بذلك الكثرة : وقيل : أراد ويريكم من آياته البرق . وانتصاب { خوفاً وطمعاً } كما مر في « الرعد » ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلاً { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد ، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلا بد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله { إن الله يمسك } [ فاطر : 41 ] إلى قوله { من بعده } [ فاطر : 41 ] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة ، وعند الأشاعرة ليس كذلك . ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين ، فإن قوله { كن فيكون } [ يس : 82 ] موافق للإرادة بالتفاق . قال جار الله : قوله { إذا دعاكم } بمنزلة قوله { يريكم } في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال : ومن آياته قيام السموات والأرض ، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهراً . أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقاً ولا للملك في جوف الأرض . نعم ، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز . ومعنى « ثم » عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة ، وإذا الأولى للشرط ، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء . واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين : أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين ، وأما من الآفاق فخلق السموات والرض . ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان ، ومن عوارضه المنام والابتغاء ، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار ، ومن لوازمها قيام السماء والأرض . والواحد يكفي للإقرار بالحق ، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر .
وراعى في تعداد العرضيات لطيفة ، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال ، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب ، وبدأ في كل باب بما هو أعجب ، وإنما ختم الآية الأولى بقوله { إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون } لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض ، أو نقول : إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان ، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك { لقوم يتفكرون } ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض ، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم ، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض .
وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره ، ولهذا يشترك في معرفتها الناس جميعاً فلهذا قال { لآيات للعالمين } ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة ، فالاشتراك في معرفتها أيضاً ظاهر . ومن قرأ { للعالمين } بكسر اللام فقد أحسن ، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره ، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال { لقوم يسمعون } ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد ، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى { يسمعون } ههنا يستجيبون لما يدعون إليه ، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر . وأما البرق والمطر فليس أمراً عادياً ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال { لقوم يعقلون } وقيل : إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه . وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله { وله من في السموات والأرض كل له قانتون } مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الصلين بقوله { وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو } يعني أن يعيده { أهون عليه } أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلاً حتى يقع التفضيل على حده . وإنما أخرت الصلة ههنا وقدمت في قوله في سورة مريم و { وهو على هين } [ مريم : 9 ] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي ، ولا معنى للاختصاص ههنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من ان المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل : أول الغزو أخرق . وليس الدخيل في أمر كالناشئ عليه . ومن الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتاليفها ، والإعادة تأليف فقط ، ولا شك أن أمراً واحداً أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال : الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه .
كان كلاماً معقولاً وقد أجرى الزجاج قوله { وهو أهون عليه } مجرى المثل فيما يصعب ويسهل .
وفسر به قوله { وله المثل الأعلى } يعني هذا مثل مضروب لكم في الأرض وله المثل الأعلى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات فيما بين الملائكة . وعن ابن عباس : أراد أن فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكنه ليس مكثله شيء فله المثل الأعلى وقال جار الله : المثل الوصف أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل ، وهو أنه القادر الذي يقدر على الخلق والإعادة ، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يصعب عليه جمع الأجزاء بعد تفرّقها على الوجه الذي يقتضيه التدبير ولهذا ختم الاية بقوله : { وهو العزيز الحكيم } وعن مجاهد : المثل الأعلى وصفه بالوحدانية وهو قوله « لا إله إلا الله » وقد ضرب لذلك مثلاً . ومعنى { من انفسكم } أنه أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم و « من » للابتداء وفي قوله { مما ملكت أيمانكم } للتبعيض ، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي . والمعنى هل ترضون لأنفسكم أن يكون لكم شركاء من بعض عبيدكم يشاركونكم فيما رزقناكم من الأموال والأملاك { فأنتم } يعني بسبب ذلك أنتم أيها السادات والعبيد في ذلك المرزوق { سواء } من غير تفضيل وففضل للأحرار على العبيد { تخافونهم } أن تستبدوا بتصرف دونهم { كخيفتكم أنفسكم } أي كما يهاب بعضكم بعضاً من الأحرار .
والحاصل أن من يكمون له مملوك لا يكون شريكاً له في ماله ولا يكون له حرمة كحرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له أو شفعاء عنده بغير إذنه؟ وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله حتى يعبدوا كعبادته على أن مملوككم ليس مملوكاً لكم في الحقيقة ليس إلا اختصاص المبايعة ، ولهذا لا حكم لهم عليهم بالقتل والقطع وبالمنع من الفرائض وقضاء الحاجة والنوم . وقد يزول الاختصاص بالبيع والعتق ومملوك الله لا خروج له من ملكه بوجه من الوجوه وفي قوله { فيما رزقناكم } إشارة إلى أن الذي هو لكم ليس في الحقيقة لكم وإنما الله استخلفكم فيه ورزقكموه من فضله { كذلك } أي مثل هذا التفصيل والتبعيد للتعظيم أو لدخوله في حيز الذكر أو المضي { نفصل الآيات } نبينها { لقوم يعقلون } لأن التمثيل إنما يكشف المعاني لأرباب العقول .
ثم شوه صورة الشرك بقوله { بل اتبع الذين ظلموا } أي اشركوا { أهواءهم بغير علم } فهوى العالم ربما يتبدل بالهدى وأما الجاهل فإنه هائم في هواه كالبهائم لا يرجى ارعواه يؤكده قوله { فمن يهدي من اضل الله وما لهم من ناصرين } والإضلال ههنا لا يخفى أن الأشاعرة يحملونه على خلق الضلال في المكلف ، والمعتزلة يحملونه على الخذلان ومنع الألطاف وقد تقدم مراراً .
ثم قال لرسوله ولأمته تبعية إذا تبين الحق وظهرت الوحداينة { فأقم وجهك للدين } أي سدده نحوه غير مائل إلى غير من الأديان الباطلة { فطرت الله } أي الزموها أو عليكم بها . قال جار الله : إنما اضمرته على خطاب الجماعة لقوله { منيبين } وهو حال منهم ولأن الأمر والنهي بعده معطوفان عليه لكنك قد عرفت في الوقوف أن هذا التقدير غير لازم وعلى ذلك يحتمل أن يقدر الزم أو عليك أو أخص أو اريد واشباه ذلك .
وفطرة الله هي التوحيد الذي تشهد به العقول السليمة والنظر الصحيح كما جاء في الحديث النبوي « كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه » . ويحتمل أن تكون الفطرة إشارة إلى أخذ الميثاق من الذر . وقوله { لا تبديل لخلق الله } نفي في معنى النهي أي لا تبدلوا خلقه الذي فطلكم عليه لكن الإيمان الفطري غير كافٍ . وقيل : هو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن قومه فكأنه قال : إنهم أشقياء ومن كتب شقياً لم يسعد . وقيل : أراد أن الخلق لا خروج لهم عن عبوديته بخلاف مماليك الإنسان فإنهم قد يخرجون من ايديهم بالبيع والعتق . وفيه فساد قول من زعم أن العبادة لتحصيل الكمال فإذا كمل العبد لم يبق عليه تكليف ، وفساد قول الصابئة وبعض أهل الشك أن الناقص لا يصلح لعبادة الله ونما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله ، وفساد قول النصارى والحلولية أن الله يحل في بعض الأشخاص كعيسى وغيره فيصير إلهاً . ومعنى { فرقوا دينهم وكانوا شيعاً } قد مر في آخر « الأنعام » وأنهم فرق كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها وقال أهل التحقيق : بعضهم يعبد الدنيا وبعضهم يعبد الهوى وبعضهم يريد الجنة وبعضهم يطلب الخلاص من النار . ومعنى { كل حزب بما لديهم فرحون } قد مر في « المؤمنين » وجوز جار الله أن يكون { من الذين } منقطعاً عما قبله { وكل حزب } مبتدأ و { فرحون } صفة كل ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب بصفة كذا والله أعلم .
التأويل : الألف ألفة طبع المؤمنين ، واللام لوم طبيعة الكافرين ، والميم مغفرة رب العالمين ، فمن اللفة أحبوا أهل الكتاب ، ومن اللوم أبغضهم الكافرون ، ومغفرة رب العالمين شملت الفريقين حتى قال { إن الله يغفر الذنوب جميعاً } [ الزمر : 53 ] إلا أن يكون هناك مخصص . ثم أشار إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة وسيغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله ونصره { في بضع سنين } من أيام الطلب { ويومئذ يفرح المؤمنون } وهم الروح والسر والعقل . { أولم يتفكروا } { في } استعداد { أنفسهم ما خلق الله السموات } الروحانية { والأرض } النفسانية إلا ليكون مظهراً للحق ولأجل مسمى بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلوب عن صدا الأوصاف الذميمة النفسانية .