كتاب : غرائب القرآن ورغائب الفرقان
المؤلف : نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري
قال معتزلة البصرة : في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة . قالت الأشاعرة : معنى كره الله أنه أراد عدم ذلك الشيء . وزيف بأن العدم يا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلاً للحاصل . ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم ، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلاً للحاصل؟ وأيضاً عدم الشيء المخصوص ليس عدماً محضاً . أما قوله { وقيل اقعدوا } فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمراً بالقعود ، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة ، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف ، أو هو قول الرسول كأنه غضب عليهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر { اقعدوا مع القاعدين } فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله { لم أذنت لهم } أي لم ذكرت هذه اللفظة التي أمكنهم أن يتوسلوا بها إلى تحصيل غرضهم . ومعنى قوله { مع القاعدين } ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت . { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } قال المفسرون : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة - أسفل من ثنية الوداع - ولم يكن بأقل العسكرين ، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً } فيكون استثناء متصلاً من أعم العام ، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيراً إلا خبالاً ضعيف . والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه ، وللمفسرين عبارات؛ قال الكلبي : إلا شراً . وقال سلمان إلا مكراً . وقال الضحاك : إلا غدراً . وقيل : إلا خبثاً . وقيل : هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتى يختلفوا وتتفرق كلمتهم . قالت المعتزلة : دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر . وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح . ولقائل : أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول . واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة : الأول : قوله { ما زادوكم إلا خبالاً } الثاني : { ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة } قال في الكشاف : زيد ألف في الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفاً قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريباً من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفاً أخرى ونحوه
{ أو لأذبحنه } [ الآية : 21 ] في النمل { ولا أتوها } [ الآية : 14 ] في الأحزاب ، ولا رابع لها في القرآن . وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة؛ فقال أكثرهم : هو متعد يقال : وضع البعير إذا عدا ، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو . وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير : ولأوضعوا ركائبهم . وقال الأخفش وأبو عبيد : إنه جاء لازماً ويقال : أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً . ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر أي أسرع . قال الواحدي : والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد . وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي . ومعنى { خلالكم } أي فيما بينكم . والخلل الفرجة فيما بين الشيئين . و { يبغونكم الفتنة } أي يبغون لكم . قال الأصمعي : يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي . ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون . فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء ، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذلك الغرض . وأما النوع الثالث فذلك قوله { وفيكم سماعون لهم } قال مجاهد وابن زيد : أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم . وقال قتادة : فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأثر على أكمل الوجوه لا محالة . واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة ، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله { والله عليم بالظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيما بينهم .
ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديماً وحديثاً فقال { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } أي من قبل وقعة توبك . قال ابن جريج : هو أن اثني عشر رجلاً من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه . ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه { وقلبوا لك الأمور } حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد .
ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائراً حول مصايد المكايد { حتى جاء الحق } الذي هو القرآن { وظهر أمر الله } غلب دينه وشرعه { وهم كارهون } رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم . ولما كان الأمر كذلك في الماضي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله { ويأبى الله إلا أن يتم نوره } [ التوبة : 32 ] { ومنهم من يقول ائذن لي } في القعود { ولا تفتني } ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت . واحتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد . وقيل : لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي . وقيل : قال الجد بن قيس؛ قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم ، ولكني أعينك بما لي فاتركني ، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : قد أذنت لك فنزلت الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة - وكان الجد منهم - من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا : جد بن قيس غير أنه بخيل جبان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد الشعر البراء ابن معرور . { ألا في الفتنة سقطوا } أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة النفاق والتمرد عن قبول التكليف المستتبع لشقاء الدارين ولهذا ختم الآية بقوله { وإن جهنم لمحيطة بالكافرين } أما في الدنيا فلإحاطة أسبابها بهم من النعي عليهم بالنفاق وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وتحقير المقدار ، وأما في الآخرة فلمآل حالهم إلى الدرك الأسفل من النار .
التأويل : أيها الأرواح والقلوب المؤمنة ما مصيبتكم وبلواكم إذ قيل لكم بالإلهام الرباني اخرجوا من الدنيا وما فيها في طلب والسير إليه ، أثاقلتم إلى أرض الدنيا وشهواتها . { إلا تنفروا } من سجن الدنيا وقيود شهواتها { يعذبكم عذاباً أليماً } باستيلاء ظلمات الصفات النفسانية وغلبات الأوصاف السبعية والشيطانية وبألم البعد عن الحضرة الربانية { ويستبدل قوماً غيركم } من الأرواح والقلوب العاشقة الصادقة بل من العقول الكاملة المفارقة { إلا تنصروه } والرسول الوارد الرباني { فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا } أي النفوس الأمارة الكافرة من أرض القبول . { ثاني اثنين } ثاني النفس الملهمة { إذ هما في } غار العدم . { وكلمة الله هي العليا } بجعل النفس المطمئنة بجذبة { ارجعي } { الفجر : 28 ] واصلة إلى مقام العنديه { انفروا } أيها الطلاب { خفافاً } مجردين من علائق الأهل والأولاد والأموال { وثقالاً } متلبسين بها ، أو { خفافاً } مجذوبين بالعناية { وثقالاً } سالكين بالهداية { وجاهدوا } بقدمي بذل الأموال والأنفس . وقدّم إنفاق المال لأن بذل النفس مع بقاء صفاتها الذميمة غير معتبر ، ومن صفاتها الذميمة الحرص على الدنيا والبخل بها ذلكم خير لكم لأن الحصل من المال ومن النفس الوزر والوبال .
والحاصل من الطلب الوصول والوصال { لو كان } مطلوبك يا محمد { عرضاً قريباً } هو الدنيا ونعيمها { وسفراً قاصداً } هو تتبع شهوات النفس وهواها { لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة } لأنها الخروج من الدنيا والعقبى . { وسيحلفون } يعني أرباب النفوس { لخرجنا معكم } يا أهل القلوب . { عفا الله عنك } قدم العفو على العتاب تحقيقاً لقوله { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } { الفتح : 2 ] { فهم في ريبهم يترددون } بين أوصافهم الذميمة النفسانية والحيوانية بلا داعية لخروج إلى الأنوار الروحانية { لأعدوا له عدة } وهي متابعة الأنبياء { فثبطهم } حبسهم في سجن البشرية { ما زادوكم إلاَّ خبالاً } فيه إشارة إلى أن قعود أهل الطبيعة في حبس البشرية صلاح لأرباب القلوب وأصحاب السلوك لأنهم لو خرجوا لا عن نية صادقة وعزيمة صالحة ما زادوهم إلا تشويشاً وتفرقة لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم . { لقد ابتغوا الفتنة من قبل } يعني أن صفات النفس قبل البلوغ كانت تستخدم الروح في شهواتها { حتى جاء الحق } وهو العقل القابل لأوامر الشرع { وظهر أمر الله } وهو التكليف { ومنهم } أي من صفات النفس { من يقول } وهو الهوى { ائذن لي } في القعود عن الارتقاء في مدارج المعارف والمشارع { ولا تفتني } يا روح بتكليفي ما ليس من شأني . وذلك أن الهوى مركب المحبة تستعمله الروح في تصاعده إلى ذروة الكمال والوصال . { ألا في الفتنة سقطوا } أي إن فتنة الهبوط هي الفتنة بالحقيقة { وإن جهنم } البعد والقطيعة من لوازم كفار النفس وصفاتها أعاذنا الله منها .
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
القراآت : { هل تربِّصون } بإظهار اللام وتشديد التاء : البزي وابن فليح ، وقرأه حمزة وعلي وهشام مدغماً حتى لا يجتمع ساكنان . الباقون : بإظهار اللام وتخفيف التاء { أن تقبل } بالياء التحتانية : حمزة وعلي وخلف . الباقون : بالفوقانية { مدخلاً } بضم الميم وسكون الدال : سهل ويعقوب . الباقون : بالدال المشددة المتفوحة . { يلمزك } بضم الميم : سهل ويعقوب . الآخرون : بكسرها سوى عباس فإنه مخير .
الوقوف : { تسؤهم } ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف { فرحون } ه { لنا } ج للابتداء لفظاً مع الاتحاد معنى { هو مولانا } ط لابتداء إخبار من الله أو الحكاية عنهم . { المؤمنون } ه { الحسنيين } ط للاستئناف بعد تمام الاستفهام { بأيدينا } ط والوصل أصح لأن الفاء جواب { نتربص } { متربصون } ه { منكم } ط . { فاسقين } ه { كارهون } ه { ولا أولادهم } ط { كافرون } ه { لمنكم } ط { يفرقون } ه { يجمحون } ه { في الصدقات } ط للشرط مع الفاء { يسخطون } ه { ورسوله } لا إلى قوله { راغبون } لأن الكل يتعلق ب « لو » وجواب « لو » بعد التمام محذوف أي لكان خيراً لهم .
التفسير : هذا نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين . عن ابن عباس : الحسنة في قوم بدر والمصيبة في يوم أحد . والأولى حمله على العموم إذ معلوم من حال المنافقين أنهم كانوا في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكر الله تعالى . ومعنى { أخذنا أمرنا } أي أمرنا الذي نحن موسومون به من التيقظ والتحرر وحسن الرأي والتدبير . و { من قبل } أي من قبل ما وقع { وتولوا } أي عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم أو أعرضوا عن الرسول { وهم فرحون } مسرورون ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول في جوابهم { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } قيل : أي في اللوح المحفوظ من خير أو شر أو خوف أو رجاء أو شدة أو رخاء . وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع - لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال - زالت عنه مناعة النفس وهانت عليه المصائب . وقيل : أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدوّ وإظهار دين الله على كل الأديان فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم والظفر يقع في جانبهم فلا معنى لفرح المنافقين في الحال . وقال الزجاج : معناه لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به من الصنرة عليكم أو الشهادة ، وعلى هذا القول يقع ما في الآية الثانية كالمكرر { هو مولانا } لا يتولى أمورنا إلا هو يفعل بنا ما يريد من أسباب التهاني والتعازي ، لا اعتراض لأحد عليه . { وعلى الله فليتوكل المؤمنون } فيه تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يعلق الرجاء إلا برب الأرباب فإنهم يتعلقون بالوسائط والأسباب .
ثم أمره بجواب ثانٍ فقال { قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين } التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ومنه تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره . والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الحالة أو الخصلة أو العاقبة يعني النصرة أو الشهادة . وفي الأولى إحراز الغنيمة والظفر بالأعداء ، وفي الثانية إبقاء الذكر والفوز بنعيم الآخرة . { ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده } قارعة مثل قارعة عاد وثمود وقيل : عذاب الله يشمل عذاب الدارين { أو بأيدينا } يعني القتل بأن يظهر نفاقكم ويأمر بقتلكم كالكافر الحربي { فتربصوا } أمر للتهديد نحو { ذق أنك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ثم ذكر أنهم إن أتوا بشيء من صورة البر لم يكن له قدر عند الله ولا ينتفعون به في الآخرة ، والغرض أن أسباب الذل والهوان مجتمعة عليهم في الدنيا والأخرى . عن ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به . ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً والحكم عاماً . و { أنفقوا } لفظه أمر ومعناه خبر كقوله فيما يجيء { استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } [ التوبة : 80 ] ومعناه أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم واستغفر لهم ، أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافاً بين حال الاستغفار وتركه؟ ومثله قول كثير لعزة :
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ... كأنه يقول : امتحني لطف محلك عندي وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل تجدين مني تفاوتاً في الحالين . وإنما يجوز إقامة الخبر والطلب أحدهما مقام الآخر إذا دل الكلام عليه فيعدل عن الأصل لإفادة المبالغة . وانتصب { طوعاً أو كرهاً } على الحال ومعناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين من جهتهما . وسمي الإلزام كراهاً لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقاً عليهم كالإكراه . ويحتمل أن يراد طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو ملزمين من جهتهم ، وذلك أن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملونهم على الإنفاق إذا رأوا فيه مصلحة . ومعنى { لن يتقبل منكم } أن الرسول لا يقبله منكم ، أو أنه لا يقع قبولاً عند الله . ثم علل عدم القبول بقوله { إنكم كنتم قوماً فاسقين } قال الجبائي : فيه دليل على أن الفسق يحبط الطاعات . وأجيب بأن الفسق ههنا بمعنى الكفر ولا يلزم منه كون الفسق المطلق كذلك . وإنما قلنا إن الفسق بمعنى الكفر لقوله سبحانه { وما منعهم أن تقبل منهم } الآية علل منع القبول بأمور ثلاثة : أولها : الكفر بالله وبرسوله . وثانيها { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى } قال المفسرون : معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل ، وفيه أنه يصلي للناس لا لله ، وفيه أنه غير معتقد للصلاة ووجوبها فلهذا لزم منه الكفر .
وثالثها : { ولا ينفقون إلا وهم كارهون } ولك أنهم لا ينفقون رغبة في ثواب الله وإنما ينفقون لأجل المصالح الدنيوية ، فهم في حكم الكارهين وإن أنفقوا مختارين يعدون الإنفاق مغرماً ومنعه مغنماً خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم « أدوا زكاة أموالكم طيبة بها نفوسكم » قيل : الكفر بالله سبب مستقل في منع القبول فكيف ضم إليه الأمرين الآخرين؟ والجواب أنها أمارات ويجوز توارد الأمارت المتعددة على شيء واحد . بوجه آخر أطلق كفرهم أولاً ثم قيده بعدم اعتقادهم وجوب الصلاة والزكاة ، وبعبارة أخرى حكم عليهم بالكفر مطلقاً ثم خص من أنواع كفرهم هذين تفظيعاً لشأن تارك الصلاة والزكاة . قال في الكشاف : وقرأت في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول كسلت كأنه ذهب إلى هذه الآية . وأن الكسل من صفات المنافقين . قال بعض العلماء : وجه الجمع بين قوله { فَمَنْ يعمل مثقال ذرة خيراً يره } [ الزلزلة : 7 ] وبين مضمون هذه الآية وهو أن شيئاً من أعمال البر لا يكون مقبولاً عند الله مع الكفر ، هو أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب . ولقائل أن يقول : لو لم يكن مقبولاً وإلا لم يكن له في التخفيف أيضاً أثر . وقيل : في الآية دلالة على أن الصلاة لازمة للكفار وإلا لم يكن الإتيان بها على وجه الكسل مانعاً من تقبل طاعاتهم كما أن قيامهم وقعودهم وسائر تصرفاتهم على وجه الكسل ليس مانعاً من التقبل بالإنفاق . ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبّين أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو أيضاً في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال مخاطباً للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد { فلا تعجبك } الآية . ونظيره { ولا تمدّن عينيك } [ طه : 131 ] وإنما قال { فلا تعجبك } بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه ، وهذ بخلاف ما سيجيء في الآية الآخرى من هذه السورة . والإعجاب سرور المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه ، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله { ما أظن أن تبيد هذه أبداً } [ الكهف : 35 ] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله ، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم « ثلاث مهلكات : شح مطاع وهوى متيع وإعجاب المرء بنفسه » والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها ، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى .
وقوله { إنما يريد الله ليعذبهم } إعرابه كما مر في قوله { يريد الله ليبين لكم } [ النساء : 26 ] قال مجاهد والسدي وقتادة : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذاباً بل هما من نعم الله تعالى على عباده ، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذاباً في الآخرة أيضاً . فإن تكلفوا وقالوا : أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سبباً للعذاب في الدنيا أيضاً . وبوجه أخر ، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان . في الدنيا لا محالة ، فأي فائدة في ذكرها؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سبباً للتعذيب في الدنيا والآخرة ، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم . فصاحب المال أبداً إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما في تعب حفظه وتثميره . ثم إن الدنيا حلوه خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة . ثم إنه إن بقي عليه ذلك إلى آخر عمره فعند الموت يعظم أسفه على مفارقته وكان كمن ينتقل من بستان ونعيم إلى سجن وجحيم وعند الحشر يكون حلاله حساباً وحرانه عذاباً فثبت أن حصول المال سبب لعذاب الدارين . إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادراً ، وكذا الكلام في الولد . وهذا المعنى وإن كان عاماً للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب . وذلك أن الرجل إذا كان مؤمناً بالله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة . وأيضاً إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكلفهم إنفاق الأموال وبعث الأولاد إلى الغزو والجهاد ، وكانوا لا يعتقدون في ذلك فائدة أخروية ، وكانوا في أشق تكليف ، وكانوا مبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته ، وكانا خائفين من افتضاحهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي ، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة ، وكعب الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدراً وكان عند الله بمكان ، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم ، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسببه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير : يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم . أما قوله { وتزهق أنفسهم } أي تخرج { وهم كافرون } فقد قالت الأشاعرة : فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر .
وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريداً لمرض نفسه ، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب ، وكون الدخول واقعاً في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضاً وهو طبيبه . وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان ، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مراداً بالضرورة . وقال في الكشاف : المراد الاستدراج بالنعم كقوله { إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً } [ آل عمران : 178 ] كأنه قيل : ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة . ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله { ويحلفون بالله أنهم لمنكم } أي على دينكم . ثم قال { وما هم منكم } أي ليسوا على دينكم . { ولكنهم قوم يفرقون } يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية .
ثم أكد نفاقهم بقوله { لو يجدون ملجأً } مفراً فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم . فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب . والمغارات مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر . والمدخل بالتشديد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما . والتداخل « تفعل » من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه . قال الكلبي وابن زيد : نفق كنفق اليربوع . والمراد أنهم لو وجدوا مكاناً على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة { لولوا إليه } يقال : ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه { وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعاً لا يرد وجوهم شيء . ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام . والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة . قال بعض العلماء : إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة ، فالملجأ الحصون ، والمغارات الكهوف في الجبال ، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم . ومن جملة قبائحهم قوله { ومنهم من يلمزك } الآية . قال الزجاج : لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته . وفرق الليث فقال : اللمز العيب في الحضور ، والهمز الغيب في الغيبة ، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوهاً : الأول : في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء أغناهم . الثاني : أن يقال : هي أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك . الثالث : هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قسمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه . عن أبي سعيد الخدري
« بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج : أعدل يا رسول الله . فقال : ويلك ومن يعدل إذ لم أعدل » فنزلت . وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال : ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل . فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أبا لك أما كان موسى راعياً . أما كان داود راعياً فلما ذهب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون » وقيل : هم المؤلفة قلوبهم . ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال { فإن أعطوا منها رضوا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون . ومعنى { إذا هم يسخطون } فهم يسخطون . وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجىء للجزاء ومتهجم عليه . ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال { ولو أنهم رضوا } الآية ورتبه على أربع مراتب : الأولى : الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور ، فكل ما كان حكماً له وقضاء منه كان حقاً وصواباً ولا إعتراض عليه . الثانية : أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم { حسبنا الله } كفاناً فضله وصنعه ، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب . الثالثة : أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقاً بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى . الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال . يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال : ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا : الخوف من عقاب الله . فقال : أصبتم . ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقال : ما الذي حملكم عليه؟ فقال : الرغبة في الثواب . فقال : أصبتم . ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسأهلم فقالوا : لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره . فقال : أنتم المحقون .
التأويل : { أن تصبك } يا روح { حسنة } من عواطف الحق تحزن النفس وصفاتها فبها تظفر الروح عليها { وإن تصبك مصيبة } من الموانع والقواطع أخذنا نصيبنا من المراتع الحيوانية لما خالفناه في السير في العالم الروحاني . { قل } يا روح { لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا } لا علينا فإن الفترات والوقفات للتربية لا للرد . وانظر وقل { هل تربصون بنا } أيتها النفس وصفاتها { إلا إحدى الحسنيين } الإحسان والعواطف الربانية والوقفة والفترة الموجبة لحسن التربية { بعذاب من عنده } هو الابتلاء بالمصائب من الخوف والجوع وغيرهما { أو بأيدينا } بالمنع من المخالفات وبكثرة الرياضيات والمجاهدات { طوعاً } أو رياء { وكرهاً } أي نفاقاً { لن يتقبل منكم } لأن أعمال اللسان وغيره من الجوارح من غير عمل القلب ليست بمقبولة وإن كان عمل القلب بدون الجوارح مقبولاً لقوله صلى الله عليه وسلم « نية المؤمن أبلغ من عمله » وباقي الآيات إشارات إلى أن من أمارات النفاق عدم الرضا بقسمة الخلاق وحال المخلص بالعكس .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
القراآت : { أذن خير } كلاهما بالرفع والتنوين : الأعشى والمفضل . الباقون : بالإضافة . { ورحمة } بالجر : حمزة الآخرون : بالرفع { ألم تعلموا } بتاء الخطاب : جبلة عن المفضل الباقون : بياء الغيبة { إن نعف } { نعذب } كلاهما بالنون ونصب { طائفة } عاصم غير المفضل . الباقون : على البناء للمفعول بياء الغيبة في الأول ، وبتاء التأنيث في التالي .
الوقوف : { وابن السبيل } ط أي فرض الله { فريضة من الله } ط { حكيم } ه { هو أذن } ط { آمنوا منكم } ط { أليم } ه { ليرضوكم } ط لاحتمال الواو الحال أو الاستئناف . { مؤمنين } ه { خالداً فيها } ط { العظيم } ه { بما في قلوبهم } ط { استهزؤا } ط لاحتمال الهمزة في « إن » للتعليل { يحذرون } ه { ونلعب } ط { تستهزؤون } ه { بعد إيمانكم } ط { مجرمين } ه { من بعض } ط كيلا تصير الجملة صفة لبعض المنافقين وهي صفة لكلهم { أيديهم } ط { فنسيهم } ط { الفاسقون } ه { فيها } ط { حسبهم } ط لاختلاف النظم مع اتحاد المقصود في إتمام الجزاء { ولعنهم الله } ج لذلك { مقيم } ه لا بناء على تعلق الكاف { وأولاداً } ط { خاضوا } ط { والآخرة } ج { الخاسرون } ه .
التفسير : إن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيَّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقاً لحكم الله فقال { إنما الصدقات } الآية . وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء ، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل : « إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق . وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن » ولنتكلم في تعريف هؤلا الأصناف . فالأول والثاني : الفقراء والمساكين . ولا شك أن كلاً من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساوياً الدلالة أو أحدهما أسوأ حالاً . فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث . قال الجبائي : إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات . والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم . وعند الشافعي الفقير أسوأ حالاً لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم ، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى { تظن أن يفعل بها فاقرة } [ القيامة : 25 ] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنوالاع الشر والدواهي . وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر ، وقد سأل المسكنة في قوله « اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين » فكأنه سأل توسط الحال ، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهراً فأماته مسكيناً .
وتقييده تعالى المسكين بقوله { ذا متربة } [ البلد : 16 ] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك ، وقال تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } [ الكهف : 79 ] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً كأهل الصفة ، والمسكين بأنه الطوَّاف الذي يسأل الناس . والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكيناً لأنه الدائم السكون إلى الناس . ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } [ الذاريات : 19 ] هو الفقير صاحب الحرمان . واتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فلعل الترفع هو ضد التمسكن . وقال أبو حنيفة : المسكين أسوأ حالاً لقوله تعالى { أو مسكيناً ذا متربة } [ البلد : 16 ] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له ، وقال يونس : قلت لأعرابي ، أفقير أنت؟ قال : لا والله بل مسكين . وقيل : سمعي مسكيناً لأنه يسكن حيث يحضر لأجل أنه لا بيت له ولا منزل . وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم . الصنف الثالث : العاملون على الصدقات وهم السعاة الجباة للصدقة . قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي : يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل . وقال مجاهد والضحاك : يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية ، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال : أما علمت أن مولى القوم منهم . وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية . يقال : فلان على بلدة كذا إذا كان والياً عليها . واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف؟ والجمهور على أن العامل يأخذ نصيبه وإن كان غنياً لأن ذلك أجرة عمله . وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة . الصنف الرابع : المؤلفة قلوبهم . عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل . قال العلماء : لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات . ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة .
والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام : ضعيف النية في الإسلام ، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه ، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده ، هذا كله إذا كانوا مسلمين ، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال ، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئاً من الزكاة ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس والآن لا يعطون أصلاً لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب . قال الزجاج : تقديره وفي فك الرقاب ، وللأئمة في تفسيره أقوال؛ فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال : إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم بإذنهم ما يعينهم على العتق . وقال مالك وأحمد وإسحاق : المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون . وعن أبي حنيفة وأصحابه . وهو قول سعيد بن جبير والنخعي ، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله { وفي الرقاب } يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه . وقال الزهري : سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون . قال المفسرون : إنما عدل عن اللام إلى « في » لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤا ، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة . ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم ، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم ، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو ، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلى ما يبلغه المقصد . وقال في الكشاف : إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحاق التصديق عليهم ممن سبق لأن « في » للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصباً للصدقات . وتكرير « في » في قوله { وفي سبيل الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج : أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً لازماً . وفلان مغرم بالنساء ، وسمي الدين غرماً لأنه شاق لازم . فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الآية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أي لإصلاح ذات البين .
وإن كان متمولاً أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية . روى الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم لم قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة : لا نملك الغرة يا رسول الله ، فقال لحمد ابن مالك : أعنهم بغرة من صدقاتهم ، وكان حمد على الصدقة يومئذ . وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن قدر على بعض أعطى الباقي . الصنف السابع قوله { في سبيل الله } يعني الغزاة . قال الشافعي : يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد . وقال أبو حنيفة : لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزاة فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله . الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية ، يعطى ما يبلغه المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال . قال الشافعي : ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيماً به منشئاً للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم .
ولنذكر طرفاً من أحكام هذه الأصناف :
الحكم الأول : اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله { إنما الصدقات } لقوله في موضع آخر { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] ولقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة » واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل ، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف ، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف ، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية والصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى ، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله { ومنهم من يلمزك في الصدقات } .
الحكم الثاني : في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهماً منها . والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله { خذ من أموالهم صدقة } فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله { وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } [ الذاريات : 19 ] وإذا كان حقاً لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء ، وإذا كان الإمام جائراً فالتفريق بنفسه أفضل .
الحكم الثالث : مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي ، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلاً موزعاً على كل واحد منهم ، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل صنف صار كل قسم حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر .
وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي . وقال الشافعي : لا بد من صرفها ، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز . واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله { فريضة من الله } وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله { إنما الصدقات للفقراء } في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم ، وهذا كالزجر عن مخالفة من الآية . وعن النبي صلى الله عليه وسلم « إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه » ثم ختم الآية بقوله { والله عليم } أي بتقدير الأنصباء والمصالح { حكيم } لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة ، ومن ههنا قال الشافعي : لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة ، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث ، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهم محصورون فتسهل التسوية بينهم .
الحكم الرابع : العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين ، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعاً والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي ، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئه عند سائر الأئمة . أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب . لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسراً للنفس ومنعاً من انصبابها بالكلية إليه . فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } أي عن دنس الاستغراق في حب المال . وأيضاً إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة ، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب .
وأيضاً النفس الناطقة لها قوتان : نظرية وكمالها في التعظيم لأمر الله ، وعملية وكمالها في الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسناً إلى الخلق ، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة . وأيضاً المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار ، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله . وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين ، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى . وأيضاً للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الروح في الاستغراق في بحار معرفة الله ، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته؟! وأيضاً إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال ، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به ، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان . ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقاً بين الأمرين وجمعاً بين المصلحتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود . وأيضاً الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه ، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفواً صفواً . وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصرفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبيدي . وأيضاً إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الالتحاق بأعداء المسلمين . وقال صلى الله عليه وسلم « الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر » وكأن تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين ، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين . وأيضاً أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعماً على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعماً على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار .
ثم حكى نوعاً من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم { هو أذن } عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم : لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له . فقال الجلاس بن سويد ، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية . وقال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلاً أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم « من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث » وكان ينم حديث النبي صل الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له : لا تفعل فقال : إنما محمد أذن من حدثه شيئاً صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا . وقال السدي : اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا إن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس ، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال : والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامراً كاذب وحلف عامر أنهم كذبة . وقال : اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان . قال علماء اللغة : الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنه جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين . وفسر إيذاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع . ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع ، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى ، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال { قل أذن خير لكم } بالإضافة كقولهم : رجل صدق يريدون الجودة والصلاح . ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل : نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعة وقبوله وليس بإذن في غير ذلك ويؤيده قراءة حمزة { رحمة } بالجر عطفاً عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما .
ثم بين كونه أذن خير بأنه { يؤمن بالله } أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة { ويؤمن للمؤمنين } يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله { و } هو { رحمة للذين آمنوا منكم } باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولي السرائر ولهذا ختم الآية بقوله { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } وأما من قرأ { أذن خير } بالرفع فيهما فعلى أن الإذن خبر مبتدأ محذوف و { خير } كذلك أي هو أذن هو خير . والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم . وقيل : التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد . ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله { يؤمن بالله } إلى آخره . ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله { أذن } وإن كان رافعاً في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله : قل هو أذنا خير لكم .
ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه } أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه . وإنما لم يقل يرضوهما تعظيماً لله بالإفراد بالذكر ، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك ، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعني { إن كانوا مؤمنين } أي بزعمهم . ثم وبخهم بقوله { ألم يعلموا } وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة . والضمير في قوله { أنه } للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل . والمحادة المخالفة لأن كلاً منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلاً منهما في شق آخر . وقال أبو مسلم : هي من الحديد حديد السلاح . ثم ذكر في الجزاء قوله { فإن له } بالفتح أي فحق أن له { نار جهنم } وقيل « أن » مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم . وقيل « فإن » معطوف على « أنه » وجواب من محذوف وهو يهلك . قال الزجاج : يجوز كسر « أن » على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح . ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرىء بالكسر .
قال السدي : قال بعض المنافقين : والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى { يحذر المنافقين } وقال مجاهد : كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشى علينا سرنا فنزلت .
والضمير في { عليهم } و { تنبئهم } للمؤمنين وفي { قلوبهم } للمنافقين ، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم . قيل : المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه ، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون : عن أبي مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله { استهزؤا } وهو أمر تهديد { إن الله مخرج ما تحذرون } مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود . قوله { ولئن سألتهم } الآية . عن ابن عمر أن رجلاً من المنافقين في غزوة تبوك . ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب بطوناً أي أوسع ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله وأصحابه . فقال واحد من المؤمنين : كذبت وأنت منافق . ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر : رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول : إنما كنا نخوض ونلعب . والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه . وقال الحسن وقتادة : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات . فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال : احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال : قلتم كذا وكذا فقالوا : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب . قال الواحدي : أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق . ثم أمر نبيه بأن يقول في جوابهم { أبا لله } أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فتح قصور الشام { وآياته } يعني القرآن { ورسوله كنتم تستهزؤن } لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن أولى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل « أتستهزؤن بالله » .
ثم قال : { لا تعتذروا } نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم : اعتذر المنزل إذا درس . واعتذرت المياه إذا انقطعت ، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع . والعذر سبب لقطع اللوم ، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر . ثم بين ذلك بقوله { قد كفرتم } أي صريحاً { بعد إيمانكم } أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه . وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه . { إن نعف عن طائفة منكم } ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة ، استهزأ اثنان وضحك الثالث ، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه . وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل . قال الزجاج : الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشي ، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور : 2 ] وأقله الواحد . وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال : الطائفة الواحد فما فوقه . ووجه بأن من اختار مذهباً فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة . وقال ابن الأنباري : العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى { الذين قال لهم الناس } [ آل عمران : 173 ] يعني نعيم بن مسعود . ثم علل كونه معذباً للطائفة الثانية { بأنهم كانوا مجرمين } أي مصّرين مستمرّين على الجرم ، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق ، ويجوز أن يراد بالعذاب العذاب العاجل . ومن قرأ { أن يعف } على البناء للمفعول والتذكير فلأنه مستند إلى الظرف كما تقول : سير بالدابة دون سيرت . وقرىء بالتأنيث ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل : إن ترحم طائفة .
ثم ذكر جملة أحوال المنافقين . وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم { إنهم لمنكم } وتقرير قوله { وما هم منكم } ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال { يأمرون بالمنكر } وهو كل قبيح عقلاً أو شرعاً وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله . { وينهون عن المعروف } وهو كل حسن عقلاً أو شرعاً وأعظم ذلك الإخلاص في الإيمان { ويقبضون أيديهم } عن كل خير أو عن كل واجب كصدقة أو زكاة أو إتفاق في سبيل الله ، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه . وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء { نسوا الله } أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم { فنسيهم } جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق .
وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم ، ثم قال { إن المنافقين هم الفاسقون } وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يتحرز عما يكسبه هذا الاسم . ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال { وعد الله } الآية ومعنى { خالدين فيها } مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود { هي حسبهم } كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقروناً بالإهانة والطرد { ولهم عذاب مقيم } نوع آخر من العذاب الدائم سوى عذاب النار ، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم . ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب { كالذين من قبلكم } أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم . فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب . ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين { وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم } وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت . { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } قيل : ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثاً؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ ، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة . قال جار الله : نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله . وأما قوله { وخضتم كالذي خاضوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة . ومعنى « كالذي » كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا . وقيل : أصله كالذين فحذف النون . ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف ، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوا وبادوا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين . فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال والفضائح مع ضعف بنيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين .
التأويل : { إنما الصدقات } وهي صدقات مواهب الله كما قال الله صلى الله عليه وسلم
« ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة على من يشاء من عبادة الفقراء وهم الأغنياء بالله الذين فنوا عنهم وبقوا به » { والمساكين } الذين لهم بقية أوصاف الوجود ألقوا سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [ الكهف : 73 ] { والعاملين عليها } وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أرباب الأحوال { والمؤلفة قلوبهم } الذين تتألف قلوبهم بذكر الله { وفي الرقاب } الذين يريدون أن يتخلصوا عن رق الموجودات تحر لعبودية موجدها . والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم . { والغارمين } الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم محبوسون في الوجود فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص عن حبس الوجود { وفي سبيل الله } المجاهدين الجهاد الأكبر مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا { وابن السبيل } المسافرون عن أوصاف الطبيعة وعالم البشرية ، السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة { فريضة من الله } أوجبها على ذمة كرمه كما قال « ألا من طلبني وجدني » { والله عليم } بطالبيه { حكيم } في معاونتهم بعد الطلب كقوله « من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً » { ويقولن هو أذن } رأوا محامده بنظر المذمة والعيب { قل أذن خير لكم } أي سامعيته خير لكم لأن له مقام السامعية يسمع ما يوحى إليه { يؤمن بالله } عياناً { ويؤمن للمؤمنين } لأن فوائد إيمانه تعود إليهم كما إلى نفسه { ورحمة للذين آمنوا } لأنهم يهتدون بهداه { والذين يؤذون رسول الله } بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم { يحذر المنافقون } والحذر لا يغني عن القدر { أن نعف عن طائفة } إظهاراً للفضل والرأفة { نعذب طائفة } إظهار للقهر والعزة ولكن إظهار اللطف بلا سبب . وإظهار القهر لا يكون إلا بسبب أنهم كانوا مجرمين و { بعضهم من بعض } لأن أرواحهم كانت في صف واحد في الأزل فمعاملاتهم من نتائج خصوصيات أرواحهم { نسوا الله } ولو ذكروه قبل الإتيان بالمعاصي لم يفعلوا ما فعلوا ، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروا فغفر لهم { هي حسبهم } لأنها نصيبهم في الأزل { كانوا أشد منكم قوة } بالاستعداد الفطري وضيعوها في الاستمتاع العاجل فخسروا رأس المال ولم يربحوا .
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
القراآت : { والمؤتفكات } وبابه بغير همز : أبو عمرو غير شجاع وورش ويزيد والحلواني عن قالون والأعشى وحمزة في الوقف .
الوقوف : { والمؤتفكات } ط { بالبينات } ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب . { يظلمون } ه { أولياء بعض } م لما مر . { ورسوله } ط { سيرحمهم الله } ط { حكيم } ه { عدن } ط { أكبر } ط { العظيم } ه { واغلظ عليهم } ط { جهنم } ط { المصير } ه { ما قالوا } ط { لم ينالوا } ج { من فضله } ط { خيراً لهم } ج { والآخرة } ج { ولا نصير } ه { من الصالحين } ه { معرضون } ه { يكذبون } ه { علام الغيب } ه ج لاحتمال النصب أو الرفع على الذم . وكونه بدلاً من الضمير في { نجواهم } { فيسخرون منهم } ط . { سخر الله منهم } ط لإتمام الجزء مع اختلاف النظم . { أليم } ه .
التفسير : لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في تكذيب الأنبياء والاشتغال بالنعيم الزائل بين أن أولئك الكفار من هم فذكر ست طوائف سمع العرب أخبارهم لأن بلادهم - وهي الشام - قربية من بلادهم وقد بقيت آثارهم مشاهدة ، ولهذا صدر الكلام بحرف الاستفهام للتقرير . فأوّلهم قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق ، وثانيهم : قوم عاد وأهلكوا بالريح العقيم ، وثالثهم : ثمود وأخمدوا بالصيحة ، ورابعهم : قوم إبراهيم سلط الله عليهم البعوض وكفى شر ملكهم وهو نمرود ببعوضة واحدة سلطها على دماغه . وخامسهم : أًحاب مدين قوم شعيب أخذتهم الرجفة ، وسادسهم : أصحاب المؤتفكات قوم لوط أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن جعل مدائنهم عاليها سافلها . والائتفاك الانقلاب سميت مدائنهم بذلك لأن الله تعالى قلبها عليهم . ويمكن أن يراد بالمؤتفكات الناس لانقلاب أحوالهم من الخير إلى الشر . ثم قال { أتتهم رسلهم بالبينات } أي بالمعجزات ولا بد بعد هذا من إضمار والتقدير فكذبوهم فأهلكهم الله . { فما كان الله ليظلمهم } قالت المعتزلة : أي ما صح منه الظلم ولكنهم استحقوا ذلك بسبب كفرهم ، وقد مر الكلام في أمثال ذلك . ثم بين أن شأن المؤمنين في الدنيا والآخرة بخلاف المنافقين فقال { والمؤمنون } الآية قال بعض العلماء : إنما قال ههنا { أولياء بعض } وهناك { من بعض } [ الآية : 66 ] لأن نفاق أتباع المنافقين حصل بسبب التقليد لأكابرهم بمقتضى الطبع والعادة بخلاف الموافقة بين المؤمنين فإنها بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية . وأقول : كون بعض المنافقين من بعض يوجب اشتراكهم في أمر من الأمور بالجملة كالدار أو حكم من الأحكام الشرعية أو سيرة وطريقة وهذا هو المقصود ، ولكنه يحتمل أن يكون تكلفاً أو بطريق النفاق لأن سببه انعقاد غرض من الأغراض الدنيوية العاجلة فذكر الله تعالى اشتراكهم في ذلك بلفظ « من » لمكان الاحتمال المذكور . وأما تشارك المؤمنين في السيرة فلما كان سبببه الإخلاص والعصبية للدين والاجتماع على ما يفضي إلى سعادة الدارين كانت الموالاة بينهم محققة فصرح الله تعالى بذلك .
ثم وصفهم بأضداد صفات المنافقين فقال { يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وهاتان الصفتان بالنسبة إلى غيرهم . ثم قال المنافقين { ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة } وهاتان لهم في أنفسهم وهما بإزاء قوله في صفة المنافقين { ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون } [ التوبة : 54 ] . ثم وصفهم بالطاعة على الإطلاق فقال { ويطيعون الله ورسوله } أي في كل ما يأتون ويذرون . ثم ذكر ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل الإجمال فقال { أولئك سيرحمهم الله } والسين تفيد المبالغة في إنجاز الوعد بالرحمة كما يؤكد الوعيد به إذا قلت سأنتقم منك يوماً يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك . ثم ختم الآية بقوله { إن الله عزيز حكيم } وفيه ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين لأن العزيز هو من لا يمنع من مرادة في عباده من رحمة أو عقوبة . والحكيم هو الذي يدبر عباده على وفق ما يقتضيه العدل والصلاح . ثم فصل ما أجمل من الرحمة بقوله { وعد الله المؤمنين } لآية . وقد كثر كلام أصحاب الآثار في معنى جنات عدن فقال الحسن : سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن ذلك فقالا : على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « هو قصر في الجنة من اللؤلؤ وفيه سبعون داراً من ياقوته حمراء ، في كل دار سبعون بيتاً من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريراً على كل سرير سبعون فراشاً على كل فراش زوجة من الحور العين ، وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لوناً من الطعام ، وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك أجمع » وعن ابن عباس أنها دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر . وقال ابن مسعود : جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها قاله الأزهري . وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها السيل واحدها بطن . وقال عطاء عن ابن عباس : هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى . وسائر الجنات حولها . وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدار والياقوت والذهب . فتهب الريح من تحت العرش فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض . وقال عبد الله بن عمر : وإن في الجنة قصراً يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد . وفي هذه الأخبار دلالة على أن عدناً علم ويؤيده قوله { جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب } [ مريم : 61 ] ولو لم يكن علماً لم يوصف بالمعرفة . ولا ريب أن أصله صفة من قولك عدن بالمكان إذا أقام به ، ومنه المعدن للمكان الذي تخلق فيه الجواهر .
وعلى هذا فالجنات كلها جنات عدن . إلا أن يغلب الاسم على بعضها . { ورضوان من الله } شيء يسير من رضاه { أكبر } من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وكرامة وكل خطب مع رضا المولى هين ، وكل نعيم مع سخطه منغص . وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى حالاً وأشرف مآلاً من السعادات الجسمانية بل لا نسبة لتلك اللذة والابتهاج إلى هذه على أن الاعتراف بالسعادات الجسمانية واجب من حيث الشرع { ذلك } الموعود والرضوان { هو الفوز العظيم } وحده دون ما يعده الناس فوزاً . في الحديث « إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون : ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً » ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال المنافقين فقال { يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم } قال الضحاك : أي جاهد الكفار واغلظ على المنافقين لأن المنافق لا تجوز محاربته في ظاهر الشرع . وضعف بأن النسق يأباه . وقيل : المراد بهؤلاء المنافقين هم الذين عرفه الله حالهم فصاروا كسائر الكفرة فجاز قتالهم ، وزيف بأنه وإن علم حالهم بالوحي إلا أنه مأمور بأن يحكم بالظاهر والقوم كانوا يظهرون الإسلام فكيف يجوز قتالهم؟ والصحيح أن الجهاد بذل المجهود في حصول المقصود وهو شامل للسيف واللسان ، فالمراد جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهادين جميعاً عن ابن مسعود : إن لم يستطع بيده فبلسانه ، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه ، فإن لم يستطع فبقلبه بأن يكرهه ويبغضه ويتبرأ منه . وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها . واعترض عليه بأن إقامة الحدود واجبة على كل فاسق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق . واعتذر عنه بأنه قال ذلك لأن عنده أن كل فاسق منافق أو لأن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه منافقاً . قال الضحاك : خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين ، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم . فحلفوا ما قالوا شيئاً من ذلك فأنزل الله تعالى { يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر } وعن قتادة أن رجلين اقتتلا رجل من جهينة ورجل من غفار فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبيّ يا بني الأوس انصروا أخاكم فوالله ما مثلنا محمد إلا كما قال القائل : سمن كلبك يأكلك وقال
{ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } [ المنافقون : 8 ] فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية . ومعنى قوله { وكفروا بعد إسلامهم } أنهم أظهروا الكفر بعدما كانوا يظهرون الإسلام . أما قوله { وهموا بما لم ينالوا } فهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك ، وذلك أنه توافق خمسة عشر رجلاً منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل ، وكان عمار بن ياسر أخذ بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها ، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلام فالتفت فإذا هم قوم متلثمون فقال : إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا . وقيل : همّ المنافقون بقتل عامر بن قيس لرده على الجلاس بن سويد وقد مر في تفسير قوله { يحلفون بالله لكم ليرضوكم } [ التوبة : 62 ] وقيل : أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وما نقموا } وما أنكروا وما عابوا { إلا أن أغناهم } كقول القائل .
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فظفروا بالغنائم وجمعوا الأموال . وروي أنه قُتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى ، ثم استعطف قلوبهم بعد صدور هذه الجنايات العظيمة عنهم فقال { فإن يتوبوا يك } يعني ذلك الرجوع { خيراً لهم } وكان الجلاس ممن تاب فحسنت توبته { وإن يتولوا } يعرضوا عن التوبة { يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا } بالقتل والسبي واغتنام الأموال . وقيل : بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب . وقيل : في القبر وأما عذاب الآخرة فمعلوم { وما لهم في الأرض } يحتمل أرض الدنيا وأرض القيامة .
ثم بين أن هؤلاء كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه عليه فقال { ومنهم من عاهد الله } يروى عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرزقني مالاً فقال : ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه . ثم قال مرة أخرى فقال : أما ترضى أن تكون مثل نبي الله ، فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال فضة وذهباً لسارت . فقال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأويتن كل ذي حق حقه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم ارزق ثعلبة مالاً . فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل وادياً من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما .
ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة ، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبره فقال : يا ويح ثعلبة ثلاثاً وأنزل الله عز وجل { خذ من أموالهم صدقة } [ التوبة : 103 ] فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم ، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة وقال لهما . مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما . فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا ، انطلقاً حتى تفرغا ثم تعودان إليّ . فانطلقا وأخبرا السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها فلما رأوها قالوا : ما يجب هذا عليك وما نريد أن نأخذ هذا منك . قال : بلى خذوه فإن نفسي بها طيبة . فأخذوها منه ثم رجعا على ثعلبة فقال : أروني كتابكما ثم قال : ما هذه إلا أخت الجزية ، انطلقا حتى أرى رأيي . فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال : يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة ثم نزلت الآية وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة ، فخرج إليه وقال : يا ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا . فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال : إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك . فجعل يحثوا التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني . فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئاً ، ثم أتى أبا بكر حين استخلف فقال : قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصاري فاقبل صدقتي . فقال : لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر وأبى أن يقبلها ، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها في خلافة عثمان ولم يقبل صدقته واحد من الخلفاء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم . وأقول وما ذاك إلا بشؤم اللجاج أولاً وآخراً . قال بعض العلماء : المعاهدة أعم من أن تكون باللسان أو بالقلب . وقال المحققون . إنه لا بد من التلفظ بها لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسهم ولم يتلفظوا به » ولأن قوله عز من قائل { ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدّقن } ظاهره مشعر بالقول اللساني .
والمراد بالفضل إيتاء المال بطريق التجارة أو الاستغنام ونحوهما . وأصل { لنصدقن } لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد . والمصدق المعطي لا السائل كقوله تعالى { وتصدق علينا أن الله يجزي المتصدقين } [ يوسف : 88 ] ومعنى قوله { ولنكونن من الصالحين } عن ابن عباس أنه أراد الحج . ولعل المراد إخراج كل ما يجب إخراجه إذ لا دليل على التقييد . ثم وصفهم بصفات ثلاث فقال { فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون } فالبخل عبارة عن منع الحق الشرعي ، والتولي نقض العهد ، والإعراض أراد به الإحجام عن تكاليف الله وأن ذلك منهم عادة معتادة ، ولترتب هذا الذم عل أمنع الصدقة ولإطلاق لفظة البخل عليه وهو في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب . ذكر العلماء أن الصدقة الملتزمة في قوله { لنصدقن } هي الصدقة الواجبة . وأن الرجل قد عاهد ربه أن يقول بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة . إن وسع الله عليه دون ما يلتزنه الإنسان بالنذر من المندوبات إذ لا دليل في الآية على ذلك مع أن سبب النزول يأباه . فإن قيل : الزكاة لا تلزم بسبب الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحلول الحول . قلنا إن قوله { لنصدقن } لا دليل فيه على الفور بل المراد لنصدقن في وقته الذي يليق به . وفي الآية دلالة على أن الرجل حين عاهد بهذا العهد كان مسلماً ثم إنه لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقاً ويؤكده قوله سبحانه { فاعقبهم نفاقاً } عن الحسن وقتادة أن أعقب مسند إلى ضمير البخل أي أورثهم البخل نفاقاً متمنكاً في قلوبهم لأنه كان سبباً فيه وباعثاً عليه ، وكذا التأويل إن جعل عائداً إلى التولي أو الإعراض . وضعت بأن حاصل هذه الأمور كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثراً في حصول النفاق فى القلب لأن ترك الواجب عدم والنفاق جهل وكفر وهو أمر وجودي والعدم لا يؤثر في الوجود ، ولأن هذه الترك قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق ، ولأنه لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان الترك جائزاً شرعاً أو محرماً فسبب اختلافات الأحكام الشرعية لا يخرج السبب عن كونه مؤثراً ، ولأن البخل أو التولي أو الإعراض هو بعينه خلاف ما وعدوا الله به فيصير تقدير الآية إن التولي أوجب النفاق بسبب التولي وهذا كلام كما ترى فلم يبق إلا أن يسند الفعل إلى الله تعالى فيكون فيه دليل على أن خالق الكفر في القلوب هو الله ، ومن هنا قال الزجاج : معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فالله تعالى يضلهم عن الدين في المستقبل ومما يؤكد القول بأن الضمير في { أعقب } لله أن الضمير في قوله { إلى يوم يلقونه } عائد إلى الله . وللمعتزلة أن يقولوا : النفاق وإن سلم أنه وجودي لكنه أمر شرعي ولا يبعد جعل شيء عدمي أمارة عليه .
وأيضاً الترك المقرون بالتولي والإعراض لا نسلم أنه لا يحصل معه النفاق ، ولا يلزم من كون الترك المحرم موجباً للكفر بجعل الشارع كون الترك الجائز كذلك ، ولا نسلم أن البخل هو بعينه إخلاف الوعد والكذب بل قد يقع البخل من غير سبق وعد . سلمنا عود الضمير إلى الله لكن من أين يلزم كونه خالقاً للكفر والنفاق ، ولم لا يجوز أن يراد فأعقبهم الله العقوبة على النفاق بإحداث الغم في قلوبهم وضيق الصدور ما ينالهم من الذل والخوف ، أو يراد فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا؟ ولأهل السنة أن يقولوا هذا عدول عن الظاهر مع أن الدلائل الدالة على وجوب انتهاء الكل إلى مشيئة الله وتقديره تعضد ما قلناه . قال العلماء : ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق ، فعلى المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه . ومذهب الحسن البصري أن نقض العهد يوجب النفاق لا محالة تمسكاً بهذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم « ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان » وقال عطاء بن أبي رباح : حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر قوله « ثلاث من كن فيه فهو منافق » في المنافقين خاصة الذين حدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوه واؤتمنوا على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه . ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال : إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله ، وإذا وعد أخلف كما ذكره الله فيمن عاهده ، وإذا أؤتمن على دين الله خان في السر وكان قلبه على خلاف لسانه . ونقل أن واصل بن عطاء أرسل إلى الحسن رجلاً فقال : إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم { فأكله الذئب } [ يوسف : 17 ] فكذبوا ، ووعدوه في قولهم { وإنّا له لحافظون } [ يوسف : 12 ] فأخلفوا وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه ، فهل تحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسن في مذهبه . قال أهل التفسير : قوله { إلى يوم يلقونه } دل على أن ذلك المعاهد يموت على ذلك وكان كما أخبر فيكون إخباراً بالغيب ومعجزاً . قال الجبائي : هذا اللقاء لا شك أنه ليس بمعنى الرؤية لأن الكفار لا يرونه بالاتفاق فدل على أن اللقاء في القرآن ليس بمعنى الرؤية ، وضعف بأنه لا يلزم من عدم كون هذا اللقاء بمعنى الرؤية كون كل لقاء ورد في القرآن كذلك كقوله { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } [ البقرة : 46 ] .
ثم وبخهم على التجاهل أو عدم العلم بعلم الله وإحاطته بضمائرهم وتناجيهم فقال { ألم يعلموا } الآية .
والسر ما ينطوي عليه الصدر ، والنجوى ما يكون بين اثنين وأكثر مع الإخفاء عن غيرهم . والترتيب يدل على التخليص كما مر في الإنجاء كان المتناجيين تخلصا عن غيرهما ومنه { خلصوا نجياً } [ يوسف : 80 ] ومعنى الآية كيف تتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع أنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ويعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر لأنه العالم بجميع المعلومات على أي وجه يفرض؟! عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحثهم على أن يجمعوا الصدقات ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله وأمسكت نصفها لعيالي . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله فهما مائة وستين ألف درهم . وقيل؛ صولحت إحداهما على ثمانين ألفاً . وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر ، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال : أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر ، أمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر لربي ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا : ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياء وسمعة ، وأما أبو عقيل فإنه جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله سبحانه { الذين يلمزون المطوعين } أي المتطوعين فأدغمت . والتطوع التنفل وهو الطاعة لله بما ليس بواجب . والجهد بالضم والفتح شيء قليل يعيش به المقل ، قاله الليث . وقال الفراء : الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم . وفرق ابن السكيت بينهما فقال : الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة . وقال الشعبي : الأول في العمل والثاني في القوة { سخر الله منهم } خير لا دعاء كقوله { الله يستهزىء بهم } [ البقرة : 15 ] وقد عرفت أن هذا من قبيل المشاكلة ، أو المراد منه لازم السخرية وهو إيقاع الذل والهوان بهم . وقال الأصم : المراد أنه تعالى يكلفهم إنفاق المال مع أنه لا يثيبهم عليه ، وإنما توجه الذم على المنافقين في هذا اللمز لأن الحكم بالرياء لمن يعطي الكثير كعبد الرحمن بن عوف وعاصم حكم على بواطن الأمور وذلك أمر استأثر الله به ورسوله . وأيضاً لمز الفقير على جهد المقل سفه لأنه لما لم يقدر إلا عليه فقد بذل كل ما له فعلم منه غالباً أنه إن قدر على أكثر من ذلك لم يكن منه منع ، وسعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة ، ولو لم تكن فيه إلا الثقة بالله والدخول في زمرة من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لكفى به منقبة وفضلاً .
التأويل : { بعضهم أولياء بعض } لأن التعارف في عالم الأرواح يوجب التآلف في عالم الأشباح { يأمرون بالمعروف } الحقيقي أي بطلبه والمطلوب هو الله لقوله « فأحببت أن أعرف » { وينهون عن المنكر } وهو ما يقطع العبد عن الله { ويقيمون الصلاة } الحقيقة { ويؤتون الزكاة } يعني ما فضل عن كفافهم الضروري { ويطيعون الله ورسوله } بخلاف المنافقين فإنهم يطيعون النفس والهوى { ومساكن طيبة } على مراتب النفوس الطيبة فإن الطيبات للطيبين { يا أيها النبي } يعني القلب الذي له نبأ من مقام الانباء { جاهد } النفوس الكافرة بسيف الصدق والمخالفات ، وجاهد نفوس المريدين الذين يدعون الإرادة في الظاهر دون الباطن { واغلظ عليهم } في المؤخذات بأحكام الشريعة والطريقة حتى تتمرن نفوسهم وإلا { فمأواهم جهنم } القطيعة { ولقد قالوا كلمة الكفر } وهي التي توجب الإنكار والاعتراض على الشيخ { وهموا بما لم ينالوا } أي أثبتوا لأنفسهم مرتبة الشخيوخة قبل أوانها { وما نقموا } إلا أن الشيخ رباهم بلبان فضل الله عن حلمة الولاية فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة ، ومربد الطريقة أعظم من مربد الشريعة فلهذا يكون عذابه أليماً في الدنيا والآخرة كما قال الجنيد : لو أقبل صديق إلى الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله { ومنهم من عاهد الله } باستعداده الفطري { لئن آتانا من فضله } جعلنا متمكنين من اكتساب الكمال { لنصدقن } لنصرفن كل ما أعطانا فيما أعطى لأجله { إلى يوم يلقونه } أي يلقون جزاء النفاق { وأن الله علام الغيوب } يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو غيب عن الخلف ويعلم ما يستكن في قلوبهم وهو غيب في نفوسهم ولهذا قال { الغيوب } . { سخر الله منهم } ذكره بلفظ الماضي ليعلم ان سخرية المنافقين نتيجة سخرية الله بهم في الأزل .
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
القراآت : { معي أبدأ } بفتح الياء : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل { معي عدو } بالفتح : حفض فقط .
الوقوف : { أو لا تستغفر لهم } ط { فلن يغفر الله لهم } ط { ورسوله } ط { الفاسقين } ه { في الحر } ط { حراً } م لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر . ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حراً إذا لم يفقهوا ذلك { يفقهون } ه { كثيراً } ج لأن { جزاء } يصلح أن يكون مفعولاً له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء { يكسبون } ه { معي عدوّاً } ط { الخالفين } ه { على قبره } ط { فاسقون } ه { وأولادهم } ط { كافرون } ه { القاعدين } ه { لا يفقهون } ه { وأنفسهم } ط { الخيرات } ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار { أولئك } مع اتفاق الجملتين . { المفلحون } ه { خالدين فيها } ط { العظيم } ه .
التفسير : عن ابن عباس ان عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا : يا رسول الله استغفر لنا واشتغل بالاستغفار لهم فنزل { استغفر لهم } الآية ، ومن المفسرين من قال : إنهم طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم وإن الله نهاه عنه . والنهي عن الشيء لا يدل على أن المنهي أقدم على ذلك الفعل . ثم إن الدليل قد يدل على أنه ما اشتغل بالاستغفار لأن المنافق كافر ، وقد ظهر في شرعه أن الاستغفار للكافر غير جائز ، ولأن الاستغفار للمنافق يجري مجرى اغرائه على مزيد النفاق ولأنه يلزم أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم غير مجاب الدعوة وإن أكثر في الدعاء . ومن الفقهاء من قال : التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال فيما وراء ذلك العدد بخلافه لما روي أنه لما نزلت الآية قال صلى الله عليه وسلم : « لأزيدن على السبعين » فنزل { سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم } [ المنافقون : 6 ] فكف عنه . فلولا أنه فهم بدليل الخطاب أن الأمر فيما وراء السبعين بالخلاف لم يقل لأزيدنّ على ذلك . وأجيب بأنه أراد إظهار الرحمة والرأفة بأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم لبعض لا أنه فهم منه ذلك ، كيف وقد قال تعالى { لن يغفر الله لهم } وأردفه بقوله { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } . فليس المقصود بهذا العدد تحديد المنع وإنما هو كقول القائل لمن يسأله حاجة : لو سألتني سبعين مرة لم أقضها . ولهذا بين العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وهي كفرهم وفسقهم ، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين . وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجهاً هو أن السبعة عدد شريف لأنه عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع ، فضرب السبعة في عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها .
وقيل : خص بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبّر على حمزة سبعين تكبيرة وكأنه قال : إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة : هذا وقد مر في تفسير قوله { قل أنفقوا طوعاً أو كرهاً } [ التوبة : 53 ] أن هذا أمر في معنى الخبر كأنه قيل : لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا ، وانتصاب سبعين على المصدر كقولك : ضربته عشرين ضربة . ثم ذكر نوعاً آخر من قبائح أفعالهم فقال { فرح المخلفون } قيل : إنهم احتالوا أن يتخلفوا وكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون . وأجيب بأنهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك ، أو أريد خلفهم كسلهم ونفقاهم والشيطان ، أو المجاهدون لما لم يوافقوهم في القعود فكأنهم خلفوهم ، أو أطلق عليهم المخلفون باعتبار أنهم سيصيرون ممنوعين من الخروج في الآية الآتية { فإن رجعك الله } إلى قوله { ولن تقاتلوا معي عدواً } ومعنى { بمقعدهم } بقعودهم قاله مقاتل . أو بموضع قعودهم وهو المدينة قاله ابن عباس . ومعنى { خلاف رسول الله } صلى الله عليه وسلم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا قاله قطرب والزجاج فانتصابه على أنه مفعول له أي قعد والأجل خلافه أو على الحال مثل « فأرسلها العراك » أي مخالفين له ، وقال الأخفش ويونس : الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان يخالفها جهة الخلف { وكرهوا أن يجاهدوا } كيف لا يكرهون وليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإخلاص ومعهم صارف الكفر والنفاق؟ وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين أموالهم وأرواحهم في الله المؤثرين ذلك على الدعة والخفض . واعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب إلا أنه صريح بذلك للتوكيد ، ولعل المراد أنه مال طبعهم إلى الإقامة لإلفهم بالبلد واستئناسهم بالأهل والولد ، وكرهوا الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس والمال للقتل والإهدار . { قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون } أن بعد هذه الدار دار أخرى وبعد هذه الحياة حياة أخرى . وهذه المشقة منقضية سهلة وتلك باقية صعبة ولبعضهم وكأنه صاحب الكشاف :
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب
وفي هذا استجهال عظيم لهم . ثم قال { فليضحكوا } وهو خبر إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره ومعناه فسيضحكون قليلاً أي ضحكاً قليلاً أو زماناً قليلاً وسيبكون كثيراً . يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم . ثم عرف نبيه وجه الصلاح في سائر الغزوات فقال { فإن رجعك الله إلى طائفة منهم } أي إن ردّك إلى المدينة .
الرجع متعد مثل الرد ، والرجوع لازم . وإنما قال طائفه لأن منهم من تاب عن النفاق وندم أو اعتذر بعذر صحيح . وقيل : لم يكن المخلفون كلهم منافقين فأراد بالطائفة المخلفين من المنافقين . { فاستأذنوك للخروج } إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك { فقل لن تخرجوا معي أبداً } عاقبهم بإسقاط عن ديوان الغزاة جزاء على تخلفهم لما فيه من الذم والطرد وصلاحاً لأمر الجهاد لما في استصحابهم من المفاسد المذكورة في قوله { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلاَّ خبالاً } [ التوبة : 47 ] ويعني بأول مرة غزوة تبوك . وإنما لم يقل أول المرات معرفاً مجموعاً لأن المعنى إن فصلت المرات مرة مرة كانت هذه أولها نظيره « هو أفضل رجل » يعني إن عدّ الرجال رجلاً رجلاً كان هو أفضلهم . وإنما لم يقل « أولى مرة » لأن أكثر اللغتين « هند أكبر النساء » ولا يكاد يقال « هي أكبر امرأة » { فاقعدوا مع الخالفين } كقوله { وقيل اقعدوا مع القاعدين } { التوبة : 46 ] والخالف من يخلف الرجل في قومه . وعن الأصمعي أنه الفاسد من خلف اللبن والنبيذ إذا فسد . وعن الفراء معناه المخالف . قال قتادة : ذكر لنا أن الخالفين الذين أمروا بالقعود كانوا اثني عشر رجلاً . عن ابن عباس أنه لما اشتكى عبد الله ابن أبيّ ابن سلول عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ويعطيه قميصه الذي يلي جلده ليكفن فيه ففعل كل ذلك . وعنه قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه ، فلما وقف علي يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره فقلت : يا رسول الله أعلى عدوّ الله عبد الله ابن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد أيامه ورسوله صلى الله عليه وسلم يتبسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت . قال : ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم . قال : فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل { ولا تصل على أحد منهم مات أبداً } الآية . فما صلى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله . قال المفسرون : وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بعبد الله بن أيّ قال : وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله ، والله إن كنت لأرجو أن يسلم به ألف من قومه وكان كما قال .
وقيل : لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول أنه انتقل إلى الإيمان لأنه وقت يتوب فيه الكافرة فرغب أن يصلي عليه . وذكر من أسباب دفع القميص أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أسيراً ببدر ولم يجدوا له قميصاً طويلاً فكساه عبد الله قميصه ، ومنها أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك . فقال : إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة ، فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه . ومنها أنه كان لا يرد السائل لقوله تعالى { وأما السائل فلا تنهر } [ الضحى : 10 ] ومنها أن ابنه عبد الله كان من الصالحين فالرسول أكرمه لمكان ابنه . ومنها إظهار الرأفة والرحمة كما مر .
قوله { مات } صفة لأحد { وأبداً } ظرف لقوله { لا تصل } وإنه يحتمل تأبيد النفي ونفي التأبيد والظاهر الأول ، لأن القرائن تدل على منعه من أن يصلي على أحد منهم منعاً كلياً دائماً . قال الزجاج : معنى قوله { ولا تقم على قبره } أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع ههنا منه . وقال الكلبي : معناه لا تقم بإصلاح مهمات قبره و { أنهم كفروا } تعليل للنهي ويرد عليه أن الكفر حادث وحكم الله قديم والحادث لا يكون علة للقديم . وأجيب بأن العلة ههنا بمعنى الإمارة المعرفة للحكم . قال في الكشاف : وإنما قيل مات وماتوا بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير لكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة . وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلاً في دينه ، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان . أما قوله { ولا تعجبك أموالهم وأولادهم } فقد سبق مثله في هذه السورة بتفاوت ألفاظ فوجب علينا أن نذكر سبب التفاوت ، ثم فائدة التكرار فنقول والله تعالى أعلم بمراده : إنما ذكر النهي ههنا بالواو وهناك بالفاء لأنه لا تعلق له ههنا بما قبله وهو موتهم على حالة الفسق خلاف ما هنالك . وإنما قال ههنا { وأولادهم } بدون « لا » لأن المراد هنالك الترقي من الأدون إلى الأعلى وهو أن إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم كقولك : لا يعجبني أمر النائب ولا أمر المنوب . وههنا أراد المعية فقط إما اكتفاء بما سبق هناك ، وإما لأن هؤلاء أقوام آخرون لم يكن عندهم تفاوت بين الأمرين . وقيل : إنه هناك لما علق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط أكد معنى النهي بتكرار « لا » ، وإنما قال ههنا { إن يعذبهم } لأنه إخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتعلق الإرادة بما هم فيه وهو العذاب .
وأما في الآية المتقدمة فالمفعول محذوف وقد مر . وقيل : الفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه « أن » ، وإنما حذف الحياة ههنا اكتفاء بما ذكر هنالك وقيل تنبيهاً على أن الحياة الدنيا لا تستحق أن تسمى حياة لخستها . وأما فائدة التكرير فهي المبالغة في التحذير من الأموال والأولاد لأنها جذابه للقلوب فتحتاج إلى صارف قوي ، ويحتمل أن تكون الأولى في قوم والثانية في آخرين . وقيل : الثانية في اليهود والأولى في المنافقين . ثم عاد إلى توبيخ المنافقين فقال { وإذا أنزلت سورة } أي تمامها ويجوز أن يزاد عليها كما يقع القرآن والكتاب على بعضه . وقيل : هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد { أن آمنوا } « أن » هي المفسرة لأن إنزال السورة في معنى القول . وقال الواحدي : تقديره بأن آمنوا وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان { أولوا الطول } ذو الفضل والسمعة من طال عليه طولاً قاله ابن عباس والحسن . وقال الأصم : الرؤساء والكبراء المنظور إليهم ، وخصوا بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود { مع القاعدين } مع أصحاب الأعذار من الضعفة والزمنى . والخوالف النساء اللواتي تخلفن في البيت ، وجوز بعضهم أن يكون الخوالف جمع خالف وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف . ثم قال { وطبع على قلوبهم } كقوله { ختم الله على قلوبهم } [ البقرة : 7 ] وقد مر البحث فيه ، وقال الحسن : البطع بلوغ القلب في الكفر إلى حد كأنه مات عن الإيمان . وقالت الأشاعرة : هو حصول داعية الكفر المانعة من الإيمان . والطبع في اللغة الختم وهو التأثير في الطين ونحوه ، ومنه الطبع للسجية التي جبل عليها الإنسان { فهم لا يفقهون } أسرار حكمة الله في الجهاد أو في الذهاب من السعادة وما في التخلف من الشقاء . وفي قوله { لكن الرسول } نكتة هي أنه إن تخلف هؤلاء فقد أنهض إلى الغزو من هو خير منهم وأصدق نية كقوله { فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوماً ليسوا بها بكافرين } [ الأنعام : 89 ] ثم ذكر منافع الجهاد على الإجمال فقال { وأولئك لهم الخيرات } وهي شاملة لمنافع الدارين . وقيل : هي الحور لقوله { فيهن خيرات حسان } [ الرحمن : 70 ] وقوله { وأولئك هم المفلحون } المراد منه الخلاص من المكاره . ثم فصل ما أجمل فقال { أعد الله } الآية وقيل : الخيرات الفلاح في الدنيا وهذه في الآخرة . و { الفوز العظيم } عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية .
التأويل : إنما لم يؤثر استغفار الرسول في حقهم لقصور في القائل لا لتقصير في الفاعل ، والأثر يتوقف على الأمرين { جزاء بما كانوا يكسبون } من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة الصفات الحيوانية . { وهم كافرون } مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد . لهم الخيرات لما سعوا سعي العبودية نالوا خيرات الربوبية ، { هم المفلحون } المتخلصون عن حجب صفات النفس { ذلك الفوز العظيم } إذ لا حجاب أعظم من حجاب النفس والله أعلم .
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
القراآت : { المعذرون } من الأعذار : قتيبة ويعقوب . الباقون : بالتشديد { دائرة السوء } بضم السين وكذلك في الفتح : أبو عمرو وابن كثير . الآخرون بفتحها { قرية } بضم الراء : نافع غير قالون : الباقون بإسكانها وكلاهما بمعنى .
الوقوف : { ورسوله } ط { أليم } ه { لله ورسوله } ط { من سبيل } ط { رحيم } ه لا للعطف ، { ما ينفقون } ه { أغنياء } ج لاحتمال أن يكون { رضوا } مستأنفاً أو وصفاً . { مع الخوالف } لا لأن الواو إما للعطف أو للحال . { لا يعلمون } ه { إليهم } ط { من أخباركم } ط { تعملون } ه { لتعرضوا عنهم } ط { عنهم } ط { رجس } ز لاختلاف الجملتين مع شدة اتصال المعنى في إتمام الوعيد . { جهنم } ج لأن جزاء يصلح أن يكون مفعولاً له أو مفعولاً مطلقاً محذوف أي يجزون جزاء { يكسبون } ه { لترضوا عنهم } ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب . { الفاسقين } ه { على رسوله } ط { حكيم } ه { الدوائر } ط { دائرة السوء } ط { عليم } ه { الرسول } ط { لهم } ط { في رحمته } ط { رحيم } ه .
التفسير : لما شرح أحوال منافقي المدينة شرع في أحوال المنافقين من أهل البدو فقال { وجاء المعذرون } من قرأ بالتخفيف فهو من أعذر إذا اجتهد في العذر وبالغ فيه ومنه قولهم : من أنذر فقد أعذر . فكأنه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكافرين؛ فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر وهم أسد وغطفان قالوا : إن لنا أتباعاً وعيالاً وإن بنا جهداً فأذن لنا في التخلف . وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل قالوا : إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وآله : سيغنيني الله عنكم . وعن مجاهد : نفر من غفار . ومن قرأ بالتشديد ففيه وجهان : الأوّل أن يكون من التعذير وهو التقصير في الأمر والتواني فيه وحقيقته أن يوهم أن له عذراً فيما يفعل ولا عذر له . الثاني وقد ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري أنه من الاعتذار والأصل فيه المعتذرون أدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين . والاعتذار قد يكون بالكذب كقوله تعالى : { يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا } وقد يكون صحيحاً كقول القائل :
ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر ... أي ما جاء بعذر صحيح . فإذا أخذنا بقراءة التخفيف كان المعذرون صادقين ، وإذا أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فاحتمل الأمران . ومن المفسرين من رجح جانب صدقهم لأنه تعالى ميزهم من الكاذبين بقوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } ومنهم من مال إلى أنهم كاذبون . روى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه قال : إن أقواماً تكلفوا عذراً بباطل وهم الذين عناهم الله بقوله { وجاء المعذرون } وتخلف آخرون لا بعذر ولا بشبهة عذر جراءة على الله وهم الذين أرادهم الله بقوله : { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله } وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان .
{ سيصيب الذين كفروا منهم } أي من الأعراب { عذاب أليم } في الدنيا بالقتل وفي العقبى بالنار . وإنما قال : { منهم } لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب . ثم ذكر أن تكليف ساقط عن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال { ليس على الضعفاء } وهم الذين في أبدانهم ضعف في أصل الخلقة أو لهرم { ولا على المرضى } ويدخل فيه أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة { ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون } في الغزو على أنفسهم { حرج } قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة ، وفيه دليل على أنه لا يحرم عليه الخروج إذا أمكنه الإعانة بمقدار القدرة كحفظ متاع المجاهدين وتكثير سوادهم وإنما يكون ذلك طاعة مقبولة منه إذا لم يجعل نفسه كلاً ووبالاً عليهم . ثم إنه شرط في جواز العقود النصح لله ورسوله ليحترزوا بعدهم عن إلقاء الإرجاف وإثارة الفتن ويقوموا على إصلاح مهمات بيوتهم . وبالجملة على كل ما له مدخل في طاعة الله ورسوله وموافقة السر العلن كما يفعل المولى . الناصح بصاحبه . ثم قال : { ما على المحسنين } أي المعذورين الناصحين { من سبيل } للعتاب والمؤاخذة . قال بعض أهل الظاهر كداود الأصفهاني وغيره : إن المحسن هو الآتي بالإحسان ورأس الإحسان وسنامه هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله . فهذا يدل على أن الملكف إذا تكلم بهذه الكلمة برئت ذمته عن مطالبة نفسه وماله إلا بدليل منفصل كما أن السلطان لو قال لأهل مملكته تكليفي عليكم كذا وكذا وبعد ذلك لا سبيل لأحد على أحد كان ذلك دليلاً على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء ذلك لأن باب النفي لا نهاية له فلا ينضبط إلا بهذا الطريق . وعلى هذا لو ورد في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصاً على أن التكاليف محصورة فيها وفيما وراءها ليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي ، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ويكون القرآن وافياً ببيان التكاليف والأحكام ، ولا حاجة إلى التمسك بالقياس لأن هذا النص دل على أن الأصل براءة الذمة . فإن كان القياس مفيداً للبراءة أيضاً فضائع ، وإن كان يفيد شغل الذمة صار مخصصاً لعموم النص ، وإنه لا يجوز لأن النص أقوى من القياس . ولما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بيّن قسماً رابعاً وهم الذين لا يجدون الراحلة وإن قدروا على الزاد فقال : { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم } أي على المركوب . قلت : قال في الكشاف : هو حال من الكاف في { أتوك } بإضمار « قد » أي إذا ما أتوك قائلاً { لا أجد ما أحملكم عليه تولوا } وجوز أن يكون واسطة بين الشرط والجزاء كالاعتراض .
قلت : ويحتمل أن يكون بدلاً من { أتوك } . قال مجاهد : هم أبناء مقرن معقل وسويد والنعمان ، وقيل : أبو موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله يستحملونه ووافق منه غضباً فقال : والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم مدبرون يبكون فدعاهم وأعطاهم ذو داغر الذري . فقال أبو موسى : ألست حلفت يا رسول الله فقال : أما إني إن شاء الله لا أحلف بيمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني . وقيل : هم البكاؤون سبعة نفر من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وعلبة بن زيد وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل ، أتوا رسول الله صلى الله عيه وآله فقالوا : يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك . فقال : لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وهم يبكون . وقوله { تفيض من الدمع } كقولك تفيض دمعاً وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كلها فائضة . و « من » للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز . { حزناً أن لا يجدوا } أي على أن لا يجدوا . { إنما السبيل } أي سبيل الخطاب والعتاب في أمر الغزو والجهاد { على الذين يستأذنوك } في التخلف وهم أغنياء . ثم قال على سبيل الاستئناف { رضوا } كأنه قيل ما لهم استأذنوا وهم قادرون على الاستعداد؟ فقيل : رضوا بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف ومن جملة أسباب الاستئذان أن طبع الله تعالى على قلوبهم . قال لأهل العلم : لما قال في الآية الأولى و { إذا أنزلت سورة } [ التوبة : 86 ] قال هناك { وطبع } [ التوبة : 87 ] ليكون المجهول مبنياً على المجهول بخلافه في هذه الآية . ثم إن العلم فوق الفقه فكان أنسب بالمقام الذي جرى فيه ذكر الله . أما قوله { قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم } فإنه علة المنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولاً فإذا علم بأن القوم يكذبونه وجب عليه تركه . وقوله { قد نبأنا الله } علة لانتفاء التصديق . { وسيرى الله عملكم } يعني رؤية وقوع أي سيقع أنكم هل تبقون على الحالة التي تظهرونها أم لا . وفي قوله { ثم تردّون على عالم الغيب } تخويف شديد وفيه أنه مطلع على بواطنهم الخبثة وضمائرهم المملوءة من النفاق والكذب . وإنما لم يقل في هذه الآية و « المؤمنون » كما في الآية التي تجيء ، لأن هذه في المنافقين ولا يطلع على ما في باطنهم إلا الله ثم رسوله باطلاع الله إياه أو بنور نبوته كما قال { قد نبأنا الله من أخباركم } والآية الأخرى في المؤمنين وعباداتهم ظاهرة للكل .
وختم آية المنافقين بقوله { ثم تردون } لأنه وعيد فقطعه عن الأول بخلاف آية المؤمنين حيث وصلها بالواو لأنه وعد من الله . ثم ذكر أن منافقي الأعراب سيؤكدون أعذارهم بالأيمان الكاذبة مثل ما حكى تعالى عن منافقي المدينة فقال : { سيحلفون بالله لكم } أي لأجلكم { إذا انقلبتم } أي رجعتم { إليهم } ولم يذكر المحلوف عليه . والظاهر أنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ولكن بين غرضهم من الحلف فقال { لتعرضوا عنهم } أرادوا الصفح والعفو فأمر الله المؤمنين بإعطاء طلبتهم ولكن على سبيل المقت لا الصفح ولهذا قال ابن عباس : أراد ترك الكلام والسلام . وقال مقاتل : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة : لا تجالسوهم ولا تكلموهم وكانوا ثمانين رجلاً منهم جد بن قيس ومعتب بن قشير . ثم بين علة الاجتناب عنهم فقال : { إنهم رجس } فكأنهم نجس العين فلا سبيل إلى تطهيرهم بالعتاب والتوبيخ وفي أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة . المعاتبة المعاودة وبشرة الأديم ظاهره الذي عليه الشعر أي إنما يعاد الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته ، يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب وإذا لم تكن المعاتبة نافعة فيهم فتركها هو الصواب { ومأواهم } جهنم منقلبهم النار عتاباً توبيخاً .
ثم بين أنهم طلبوا إعراض الصفح بقوله { يحلفون لكم لترضوا عنهم } نهاهم عن الرضا بقوله { فإن ترضوا عنهم } الآية ، ذلك أن إرادة المؤمن يجب أن تكون موافقة لإرادة الله ، وأي فائدة في رضا المؤمنين إذا كان الله تعالى ساخطاً عليهم؟ . ثم عدد مثالب الأعراب وأراد بهم جمعاً معينين كانوا يوالون منافقي المدينة . قال أهل اللغة : رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتاً ، ورجل أعرابي إذا كان بدوياً سواء كان من العرب أو من مواليهم وجمعه أعراب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود . فالأعرابي إذا قيل له يا أعرابي فرح ، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب ، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب . قال صلى الله عليه وسلم : « لا تؤمنّ امرأة رجلاً ولا فاسق مؤمناً ولا أعرابي مهاجراً » قيل : إنما سمى العرب عرباً لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤا بالعربة وهي من تهامة ونسبوا إلى بلدهم ، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم . وقيل : لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم لما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة ، يحكى عن بعض الحكماء أنه قال : حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة ، وحكمة الهند في أوهامهم ، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية ، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم . وإنما حكم على الأعراب بأنهم أشد كفراً ونفاقاً لأنهم يشبهون الوحوش .
سئل بعض الحكماء ما بال أهل البادية لا يحتاجون إلى الطبيب؟ فقال : كما لا يحتاج حمر الوحش الى البياطرة ولاستيلاء الهواء الحار عليهم الموجب لكثرة الطيش والخروج عن الاعتدال ، وإن من أصبح وأمسى مشرفاً عليه أنوار النبوة ومشرفاً باستماع مواعظه وآدابه كيف يكون مساوياً لمن نشأ كما يشاء من غير سياسة سائس ولا تأديب مؤدب؟! وإن شئت فقس الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « إن الجفاء والقسوة في الفدّادين » أي الأكارين لأنهم يفدّون أي يصيحون . وقوله : { وأجدر } أي أولى وأحق { بأن لا يعلموا حدود ما أنزل الله } أي مقادير تكاليفه وأحكامه وما تنتهي إليه الأدلة العقلية والسمعية { والله عليم } بما في قلوب أهل البدو والحضر وأصحاب الوبر والمدر { حكيم } في كل ما قدر من الشرائع وما يتبعها من الجزاء . ثم نوع جنس الأعراب فقال : { ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً } هو مفعول ثانٍ ليتخذ لأنه بمعنى الجعل والاعتقاد والزعم أي يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران . وقد عرفت أن أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه لزمه لأمر من خارج كتقية أو رياء ليس مما ينبعث من النفس ، والمغرم إما مصدر أو موضع . { ويتربص بكم الدوائر } نوب الزمان وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه تشبيهاً بالدائرة التي تحيط بما في ضمنها بحيث لا يوجد منها مخلص . ثم خيّب الله ظنونهم بالإسلام وذويه بأن دعا عليهم بقوله : { عليهم دائرة السوء } وإنها جملة معترضة كقوله { غلت أيديهم } [ المائدة : 64 ] والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك « رجل صدق » . قال في الكشاف : وهو ذم للدائرة لأن من دارت عليه ذامّ لها وبالضم اسم بمعنى البلاء . والعذاب ، والمراد أنهم لا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم . { والله سميع } لأقوالهم { عليم } بنياتهم . قيل : هم أعراب أسد وغطفان وتميم . ثم ختم الكلام بذكر الصالحين منهم فقال : { ومن الأعراب من يؤمن } الآية . والمعنى أنهم يعتقدون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند الله وسبباً لصلوات الرسول عليهم لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله : اللهم صل على آل أبي أوفى . ثم إنه تعال شهد لهم ولأمثالهم بصحة ما اعتقدوه فقال على طريق الاستئناف مؤكداّ بحرفي التنبيه والتحقيق { ألا إنها قربة لهم } ثم فسر القربة بقوله : { سيدخلهم الله في رحمته } والسين لتحقيق الوعد . قيل : هم عبد الله ذو البجاد بن ورهطه ، أخذت أمه بجاداً وهو كساء مخطط فشقته نصفين فردّته بأحدهما وأزرته بالثاني وبعثته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قائده والله أعلم .
التأويل : الناس ثلاثة : المتضررون المعذرون المعترفون بتقصيرهم ، والقاعدون الكذابون ، والناصحون المخلصون في الطلب ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والفقراء فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمال بالظواهر مع اشتغال البواطن في الطلب بقدر الاستعداد .
{ ولا على الذين إذا ما أتوك } بطريق المتابعة { لتحملهم } على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية { قلت لا أجد ما أحملكم عليه } ترفاً ودلالاً واستيراء لزناد أشواقهم كما قيل لموسى لن تراني زيادة لشوقه وهم أغنياء لهم الاتسعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال كسلاً وميلاً إلى اللذات العاجلة . { الأعراب أشد كفراً } إن في عالم الإنسانية بدواً هو نفسه وحضراً هو قلبه ، والكفر والنفاق للنفس مقتضى الذات كما أن الإيمان للقلب لذاته بالفطرة ، وقد يصير القلب كافراً بسراية النفس وقد تصير النفس مؤمنه بسراية القلب ، ولكن النفس تكون أشد كفراً من القلب الكافر كما أن القلب يكون أشد أيماناً من النفس المؤمنة . { حدود ما أنزل الله على رسوله } يعني الواردات النازلة على الروح فإن القلب حضر الروح كما أن المدينة حضر الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن النفوس من يعتقد أن ما يصرف من أوقاته في طلب الكمال ضائع وخسار وينتظر بالقلب اشتغالاً وفترة . { عليهم دائرة السوء } باستيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها { والله سميع } يجيب هذا الدعاء { عليم } بمن ينبغي أن يسمع في حقه .
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
القراآت : { من تحتها } بزيادة من : ابن كثير . والباقون بحذفها وبالنصب على الظرف . { والأنصار } بالرفع : يعقوب : الآخرون بالجر . { إن صلاتك } على التوحيد : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد . الباقون على الجمع بكسر التاء علامة للنصب { مرجون } بواو ساكنة بعد الجيم : أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى أبي بكر وحماد . الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم . { الذين اتخذوا } بغير واو : أبو جعفر ونافع وابن عامر { أسس بنيانه } مجهولاً في الحرفين : ابن عامر ونافع { حرف } بسكون الراء : ابن عامر وحمزة وخلف ويحيى وحماد . الباقون بالضم { هار } بالإمالة : أبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو وعلي غير ليث ، وابن حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وابن ذكوان غير ابن مجاهد والنقاش ويحيى وحماد { إلى أن } قرأها يعقوب . الباقون { إلا أن } { تقطع } فعلاً ماضياً أو مضارعاً بحذف التاء من التفعل : ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل وسهل ورويس . { تقطع } مضارعاً مجهولاً من التقطع : روح . الباقون { تقطع } مضارعاً مجهولاً من التقطيع .
الوقوف : { بإحسان } لا لأن قوله : { رضي الله عنهم } خبر { والسابقون } { أبداً } ط ه { العظيم } ه { منافقون } ط لمن قدر ومن أهل المدينة قوم مردوا ، ومن وصل وقف على { أهل المدينة } تقديره هم مردوا { على النفاق } ط { ومن قدر ومن أهل المدينة قوم احتمل أن يجعل { لا تعلمهم } صفة للقوم فلم يقف { لا تعلمهم } ط { نحن نعلمهم } ط { عظيم } ه ج لاحتمال أن يكون التقدير ومنهم آخرون وأن يكون معطوفاً على { منافقون } أو على قوم المقدر { سيئاً } ط { عليهم } ط { رحيم } ه { وصل عليهم } ط { لهم } ط { عليم } ه { الرحيم } ه { والمؤمنون } ط { تعملون } ه { يتوب عليهم } ط { حكيم } ه { من قبل } ط { الحسنى } ط { لكاذبون } ه { أبدا } ط { أن تقوم فيه } ط { أن يتطهروا } ط { المطهرين } ه { في نار جهنم } ط { الظالمين } ط { قلوبهم } ط { حكيم } ه .
التفسير : لما ذكر الأعراب المخلصين بين أن فوق منازلهم منازل أعلى وأجل وهي منازل السابقين الأوّلين والتابعين لهم بإحسان؛ قال ابن عباس : السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدراً . وعن الشعبي : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر ، وأهل بيعة العقبة الثانية وكانوا سبعين ، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن . والظاهر أن الآية عامة ي كل من سبق في الهجرة والنصرة . قال أهل السنة : لا شك أن أبا بكر أسبق في الهجرة أو هو من السابقين فيها وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنه رضي عنهم . ولا شك أن الرضا معلل بالسبق إلى الهجرة فيدوم بدوامه ، فدل ذلك على صحة إمامته وإلا استحق اللعن والمقت .
قال أكثر العلماء : كلمة « من » في قوله { من المهاجرين والأنصار } للتبعيض ، وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وفيهم ضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم . وقد قيل : من سن سنة حسنه فله أجرها وأجر من عمل بها . وقيل : للتبيين ليتناول المدح جميع الصحابة . وروي عن حميد بن زياد أنه قال : قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي : ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم؟ فقال لي : إن الله تعالى قد غفر لهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم . قلت له : في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال : سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى : { والسابقون الأوّلون } إلى آخر الآية؟ أوجب لجميعهم الرضوان وشرط على التابعين شرطاً لم يشترط عليهم وهو الاتباع بالإحسان وذلك أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة لا السيئة ، أو بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءاً ويحفظوا لسانهم عن الاغتياب والطعن في حقهم . قال العلماء : معنى رضا الله عنهم قبول طاعاتهم . ثم عاد إلى شرح أحوال المنافقين فقال : { وممن حولكم } هو خبر و { من الأعراب } بيان أو حال و { منافقون } مبتدأ { ومن أهل المدينة } عطف على الخبر أو خبر لمبتدأ آخر بناء على أن التقدير ومن أهل المدينة قوم { مردوا } التركيب يدل على الملابسة والبقاء على هيئة واحدة من ذلك « صرح ممرد » و « غلام أمرد » و « أرض مرداء » لا نبات فيها وتمرد إذا عتا فإن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على هيئته الأصلية من غير تغير . فمعنى مردوا على النفاق تمهروا وتمرنوا وبقوا عليه حذاقاً معوّدين إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع وفور حدسك وقوة ذكائك . ثم قال { سنعذبهم مرتين } قال ابن عباس : هما العذاب في الدنيا بالفضيحة والعذاب في القبر . روى السدي عن أبي مالك أنه صلى الله عليه وسلم قام خطيباً يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان إنك منافق ، اخرج يا فلان إنك منافق ، حتى أخرج ناساً وفضحهم . وقال مجاهد : هما القتل السبي وعذاب القبر . وقال قتادة : بالدبيلة وعذاب القبر . وقال محمد بن إسحق : هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام والمسلمين ثم عذابهم في القبور . وقال الحسن : بأخذ الزكاة من أموالهم وبعذاب القبر . وقيل : أحد العذابين ضرب الملائكة والوجوه والإدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق من نار . { ثم يردون إلى عذاب عظيم } هو الدرك الأسفل من النار . قال الكلبي : وممن حولكم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار ، ومن أهل المدينة عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأبو عامر الراهب وأضرابهم .
ثم قال { وآخرون } وهو معطوف على { منافقون } أو مبتدأ . و { اعترفوا } صفته و { خلطوا } خبره { عسى الله } جملة مستأنفة . وقيل : { خلطوا } حال بإضمار « قد » { عسى الله } خبر . وللمفسرين خلاف في أنهم قوم من المنافقين تابوا عن نفاقهم أو قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق ولكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا . عن ابن عباس في رواية الوالبي نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا ثم ندموا وقالوا نكون مفي الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد . روي أنهم كانوا ثلاثة : أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام . وقيل : كانوا عشرة فسبعة منهم حين بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد وقالوا : والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا . فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلى ركعتين - وكانت هذه عادته كلما قدم من سفر - فرآهم موثقين فسأل عنهم فقالوا : هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم . فقال رسول الله : وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا . فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئاً فنزل { خذ من أموالهم صدقة } الآية . والاعتراف هو الإقرار بالشيء عن معرفة والمراد أنهم أقروا بذنوبهم وهذه كالمقدمة للتوبة لأن الاعتراف بالذنب لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال . وفي الاستقبال { خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً } أي خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك : خلطت الماء واللبن . وهذا أبلغ من قولك : خلطت الماء باللبن . لأنك جعلت في الأول كلاً منهما مخلوطاً ومخلوطاً به كأنك قلت : خلطت الماء باللبن واللبن بالماء . ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء من قولك : بعت شاة ودرهماً أي شاة بدرهم . وذلك أن الواو للجمع والباء للإلصاق فهما متقاربان . ويجوز أن يقال : الخلط ههنا بمعنى الجمع . قال أهل السنة : فيه دليل على نفي القول بالمحابطة لأنه لو لم يبق العملان لم يتصور اختلاطهما . وفي قوله { عسى الله أن يتوب عليهم } دليل على وقوع التوبة التي أخبر بحصول مقدمتها وهي الاعتراف منهم ، وفيه دليل على قبول توبتهم لأن { عسى } من الكريم إطماع واجب . وفائدته أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق فلا يتكل ولا يهمل ، وفيه أن التوبة بخلق الله .
وقالت المعتزلة : معنى أن يتوب أن يقبل التوبة . ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن الدليل العام وهو وجوب انتهار الكل إلى مشيئته وتكوينه يعضد ما قلناه .
ثم قال سبحانه { خذ من أموالهم صدقة } عن الحسن : كانوا يقولون ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر عنهم وبهذا يحصل النظم بينها وبين ما قبلها كما مر . وقال أكثر الفقهاء : المراد بها الزكاة ووجه النظم أنهم لما أظهروا التوبة والندامة أمروا بإخراج الزكاة الواجبة تصحيحاً لدعواهم . ومما يدل على ذلك أن الأمر ظاهره الوجوب وأيضاً التطهير والتزكية يناسب الواجب لا التطوع . وفي قوله { من أموالهم } دلالة على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال ، وتعيين ذلك البعض إنما عرف من السنة . وفي إضافة المال إليهم دليل على أن المال مالهم ولا شركة للفقير فيه فتكون الزكاة متعلقة بذمته حتى لو تلف النصاب بعد الوجوب بقي الحق في ذمة المالك وهو قول الشافعي . وقوله { تطهرهم وتزكيهم } التاء فيهما للخطاب أي تطهرهم أيها الآخذ وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة . وقيل : التاء في { تطهرهم } للتأنيث والضمير للصدقة وفيه نوع انقطاع للمعطوفين . قال العلماء : المعطوفان متغايران لا محالة فالتزكية مبالغة في التطهير أو هي بمعنى الإنماء كأنه تعالى جعل النقصان سبباً للإنماء والزيادة والبركة ، أو المراد بالتزكية تعظيم شأنهم والإثناء عليهم . قال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الزكاة طهرة للآثام فلا تجب إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعلم إلا في حق البالغ العاقل دون الصبي والمجنون . وقال الشافعي : تجب الزكاة في مالهما لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقاً { وصلِّ عليهم } قال ابن عباس : معناه ادع لهم . فمن هنا قال الشافعي : السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول : أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت . وقال آخرون بظاهر اللفظ لما روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدتقه فقال : اللهم صل على آل أبي أوفى : وأكثر الأئمة الآن على أنه لا تحسن الصلاة لغير النبي على غيره إلا تبعاً . وأطلق بعضهم - كالغزالي وإمام الحرمين - لفظ الكراهة وقالوا : السلام أيضاً في معنى الصلاة . وأما الشيعة فإنهم يذكرون الصلاة والسلام في حق آل الرسول أيضاً كعلي وأولاده عليه السلام وهم على العموم من القرشيين بنو هاشم والمطلب دون بني أمية وبني نوفل وغيرهم . قالوا : لأنها كانت جائزة في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمتنع ذكره أو لا يحسن في أهل بيت الرسول؟ ولأن الكل أجمعوا على جوازها بالتبعية فما الفرق؟ وأما السلام فلا كلام عليه لأنه جائز في حق جمهور المسلمين فكيف لا يجوز في آل الرسول؟ { إن صلاتك سكن لهم } والسكن ما يسكن إليه المرء وتطمئن به نفسه ، وذلك لأن دعاءه يستجاب ألبتة فيتطهرون بها ، وكيف لا يفيض إشراق نفسه عليهم بتوجهه إليهم والترحم لهم؟ احتج مانعو الزكاة بها في زمان أبي بكر قالوا : الوجوب مشروط بحصول السكن والآن لا سكن .
ورُدَّ عليهم بسائر الآيات . روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حكم بصحة توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت { ألم يعلموا } يعني غير التائبين . وقيل : معناه ألم يعلم التائبون قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم { أن الله هو يقبل التوبة } الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية . وفائدة توسط هو أن يعلم أن الإلهية هي الموجبة لقبول التوبة لاستغنائه عن طاعة المطيعين ومعصية المذنبين فإذا انتقل العبد من حالة المعصية إلى حال الطاعة وجب على كرمه قبول توبته . وفيه أيضاً أن قبول التوبة ليس إلى الرسول . وفي قوله { عن عباده } دون « من » إشارة إلى البعد الذي يحصل للعبد عن الله بسبب العصيان أو إلى تبعيده نفسه عن الله هضماً وانكساراً . وفي إضافة أخذ الصدقات إلى الله بعد أن أمر الرسول بالأخذ تشريف عظيم لهذه الطاعة ، وأنها من الله بمكان ، وأنه يربيها كما يربي أحد نافلوه حتى إن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد وقد جاء هذا المعنى في الحديث . ثم أمر نبيه بأن يقول للتائبين أو لغير التائبين ترغيباً لهم في التوبة { اعملوا } فيه نوع تهديد وتخويف { فسيرى الله عملكم } وقد مر تفسير مثله عن قريب . والحاصل أنه كأنه قيل لهم اجتهدوا في العمل فإن له في الدنيا حكماً وهو أن يراه الله ورسوله والمؤمنون ، وفي الآخرة حكماً وهو الجزاء . وبوجه آخر كأنه قيل : إن كنت من المحققين فاعمل لله ، وإن كنت من الظاهريين فاعمل لتفوز بثناء شهداء الخلق وهم الرسول والمؤمنون فإنهم شهداء الله يوم القيامة ، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية . ولا شك أن رؤية الله تعالى شاملة لأفعال القلوب والجوارح جميعاً . أما رؤية الرسول والمؤمنين فلا تشمل أفعال القلوب إلا بإرادة الله وطلاعه وإفشائه . واعلم أنه تعالى قسم المخلفين إلى ثلاثة أقسام : منهم المنافقون الذين مردوا على النفاق ، والثاني التائبون المعترفون بذنوبهم ، والثالث الذين بقوا موقوفاً أمرهم وذلك قوله { وآخرون } وإعرابه كإعراب قوله { وآخرون اعترفوا } ومعنى { مرجون } أي مؤخرون من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه قوله : { أرجه وأخاه } [ الأعراف : 111 ] كما مَرّ ، وبه سميت المرجئة لأنهم جازمون بغفران ذنب التائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئة الله ويقولون : إنهم مرجون لأمر الله .
وقال الأوزاعي : لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان . وقال ابن عباس : نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية ، أمر رسول الله أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم ، فلما علموا أن أخذاً لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم فقبلت توبتهم ونزل فيهم { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } كما سيجيء . وقال الحسن : إنهم قوم من المنافقين حذرهم الله بهذه الآية إن لم يتوبوا . وقوله : { إما يعذبهم } التشكيك فيه راجع إلى العباد أي ليكن أمرهم على الخوف والرجاء وكان يقول أناس هلكوا إن لم ينزل الله لهم عذراً ، ويقول آخرون : عسى الله أن يغفر لهم . قال الجبائي : جعل أمرهم دائراً بين التعذيب والتوبة فدل ذلك على انتفاء القسم الثالث وهو العفو من غير التوبة ، وأجيب بأنه يجوز أن تكون المنفصلة مانعة الجمع فقط . ولما ذكر أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة قال : { والذين اتخذوا } كأنه قال : ومنهم الذين اتخذوا . في الكشاف : أن محله النصب على الاختصاص ، أو الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن وصفوا هؤلاء الأقوام . قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير : كانوا اثني عشر رجلاً بنوا مسجداً يضارّون به مسجد قباء . وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا : نبني مسجداً كذلك .
واعلم أنه سبحانه حكى أن الباعث لهم على هذا العمل كان أموراً أربعة : الأول الضرار وهو المضارة والثاني الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق ، والثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعتهم ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة ، والرابع قوله : { وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله } وقوله { من قبل } يتعلق ب { حارب } أي من قبل بناء مسجد الضرار . وقال في الكشاف : إنه متعلق ب { اتخذوا } والمراد من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف . قال الزجاج : الإرصاد الانتظار . وقال ابن قتيبة : الانتظار مع العداوة . وقال الأكثرون : إنه الإعداد . والمراد بمن حارب أبو عامر الراهب والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة ، وسماه رسول الله الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه لأنه زالت رياسته وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين ، فلما انهزمت هوازن خرج هارباً إلى الشام وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآتٍ بجنود ومخرج محمداً وأصحابه من المدينة ، فبنوا مسجداً وانتظروا أبا عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد .
ثم أخبر الله تعالى عن نفاقهم بقوله : { وليحلفن إن أردنا } أي ما أردنا ببناء هذا المسجد { إلا } الخصلة { الحسنى } وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المسلمين . قال المفسرون . إنهم لما بنوا مسجدهم وافق ذلك غزوة تبوك فأتوا رسول الله وقالوا : بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه . فلما قفل من الغزوة سألوه إتيان المسجد فنزل { لا تقم فيه أبداً } الآية فدعا بملك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي - قاتل حمزة - فقال لهم : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة ، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين . وقال الحسن : همّ رسول الله أن يذهب إلى ذلك المسجد فناداه جبرائيل لا تقم فيه . ولا ريب أن النهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه . ثم بيّن علة النهي فقال : { لمسجد أسس على التقوى من أوّل يوم } أي من ابتداء وجوده { أحق أن تقوم فيه } والمعنى لو كان القيام في غيره جائزاً لكان هذا أولى لاشتماله على الخيرات الكثيرة فكيف إذا كان غيره مشتملاً على المفاسد الكثيرة من الضرار وغيره؟ قالت الشيعة في هذا المقام : إن المسجد إذا كان مبنياً على التقوى من أول يوم كان أولى بالصلاة فيه؛ فالإمام أولى بأن يكون متقياً من أول عمره وما ذاك إلا عليّ عليه السلام لأنه لم يكفر بالله طرفة عين . واختلفوا في هذا المسجد فقيل : مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، عن أبي سعيد الخدري سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى . فأخذ الحصباء وضرب بها الأرض وقال : هو مسجدكم هذا مسجد المدينة . وقيل : هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة ، قال في الكشاف : وهذا أولى لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع . وقال القضي : كل مسجد بني على التقوى فإنه يدخل فيه كما لو قال قائل لرجل صالح أحق أن تجالسه لم يكن ذلك مقصوراً على واحد . وأيضاً كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار . ثم ذكر لمسجد التقوى وصفاً آخر وذلك قوله : { فيه رجال يحبون أن يتطهروا } فقيل : إنه التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والإخلاص كما أن أهل مسجد الضرار وصفوا بأضداد هذه الأمور من الضرار والكفر والتفريق ، ولأن طهارة الباطن أشد تأثيراً من طهارة الظاهر في القرب من الله .
وقيل : إنه التطهر بالماء وذلك أنهم كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء أثر البول . « وروي أنها لم نزلت مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال : أمؤمنون أنتم؟ فسكت القوم . ثم أعادها فقال عمر : يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم . فقال عليه السلام : أترضون بالقضاء؟ قالوا : نعم قال : أتصبرون على البلاء؟ قالوا : نعم . قال : أتشكرون في الرخاء؟ قالوا : نعم . فقال صلى الله عليه وسلم : مؤمنون ورب الكعبة . فجلس ثم قال : يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا : يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء . فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { رجال يحبون أن يتطهروا } » وقيل : يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا بأجمعهم . ومحبة التطيهر إيثاره والحرص عليه ومحبة الله الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه . ثم بين أنه لا نسبة بين الفريقين وأن بينهما بوناً بعيداً فقال مستفهماً على سبيل التقرير { أفمن أسس بنيانه } وهو مصدر كالعمران وأريد به المبني والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه { خير أم من أسس } دينه على ضد ذلك . والشفا هو الشفير أي الشفة ، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحسر الوادي ويبقى على طرف المسيل طين واهٍ مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الموضع الذي هو بصدد السقوط جرف ، والهار الهائر وهو أيضاً المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط . قال الليث : الهاء مصدرها الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه ، فإذا سقط فقد انهار . وقال في الكشاف : إنه صفة قصرت عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليست بألف فاعل إنما هي عينه وأصله « هور » على « فعل » ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل ، فلكونه على شفا جرف هار كان مشرفاً على السقوط ، ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما يسقط في قعر جهنم ، يروى أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه . ثم ذكر أن بنيانهم ذلك سبب لازدياد ريبهم فقال : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة } في كونه سبباً للريبة { في قلوبهم } وجوه منها : أن هدمه صار سبباً لازدياد شكهم في نبوته ، ومنها أنهم ظنوا أن تخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم فلا تزول تلك الريبة { إلا أن تقطع قلوبهم } أجزاء متفرقة إما بالموت وإما بالسيف وإما بالبلاء فحينئذٍ يضمحل أثرها عنها .
والمقصود أن هذا الشك يبقى في قلوبهم أبداً ويموتون على النفاق . قال في الكشاف : يجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويراً لحال زوال الريبة عنها ، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار . وقيل : معناه إلا أن يتوبوا تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم .
التأويل : { والسابقون الأولون } الذين سبقت لهم العناية الأزلية ، أو السابقون الأوّلون عند الخروج من العدم وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة ، أو السابقون في جواب { ألست بربكم } [ الأعراف : 172 ] الأولون في استماع هذا الخطاب ، أبو السابقون في استحقاق المحبة عند اختصاصهم بتشريف يحبهم في الأزل ، الأولون بأداء حق المحبة في سر يحبونه ، أو السابقون عند تخمير طينة آدم في مماسة ذراتهم يد القدرة ، الأولون باستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين صباحاً ، أو السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى مقام الوصال ، الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال ، وهذا السبق مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأمته كما قال : « نحن الآخرون السابقون » { من المهاجرين } عن الأوطان البشرية { والأنصار } لهم في طلب الحق { والذين اتبعوهم بإحسان } بذلوا جهدهم في متابعتهم بقدر الإمكان { رضي الله عنهم } بإعطاء الاستعدادات الكاملة { ورضوا عنه } بإيفاء حقوقها . { وممن حولكم } من أعراب صفات النفس { منافقون ومن أهل } مدينة القلب فمن صفات النفس بعضها منافق كالقوة الشهوية للوقاع فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهراً لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بل تميل إلى الشهوة إذا خليت وطباعها ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : « وإن أخوف ما أخاف على أمتي النساء » ومنها كافرة كالقوة الشهوية في طلب الغذاء فإنها باقية على طلبها ما دام البدن باقياً لاحتياجه إلى بدل ما يتحلل ، ومنها مسلمة كالقوة الغضبية والشيطانية من الكبر والحسد والكذب والخيانة فإنها يحتمل أن تتبدل بأضدادها من التواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإيمان والذكر . فهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما قال صلى الله عليه وسلم : « أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم : إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها » { لا تعلمهم نحن نعلمهم } يعني أن هذه الأفعال لا يعرفها أرباب العلوم الظاهرة وإنما يعرفها أصحاب الكشوف الباطنة .
{ سنعذبهم مرتين } مرة بأحكام الشريعة ومرة بآداب الطريقة { ثم يردّون } بجذبات اللطف { إلى عذاب عظيم } هو الفطام عن الكونين والفناء في الله أو بجذبات القهر إلى إسبال حجب البعد والبقاء في عالم الطبيعة { وآخرون } يعني القلب وصفاته { اعترفوا } بذنوب ثوبت صفات النفس والتلوث بها { خلطوا عملاً صالحاً } هو صدق التوجه { وآخر سيئاً } هو مطاوعة النفس والهوى في بعض الأوقات . { عسى الله } أن يوفقهم للرجوع إلى طريق الحق بالكلية والإعراض عما سواه . { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم بها } عن دنس حب الدنيا { وتزكيهم } بالأخلاق الفاضلة فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة . { ويأخذ الصدقات } فيه أن المعطي يجب أن لا ينظر إلا إلى الله ولا يمنّ على الفقير أصلاً { وستردون } بأقدام أعمالكم إلى الله الذي يعلم ما غاب عنكم من نتائج أعمالكم وما غبتم عنه من التقدير الأزلي وما تشاهدون بالعيون والقلوب في عالمي الملك والملكوت . { وآخرون مرجون } أخرت توبتهم ليتردّدوا بين الخوف والرجاء فيطيروا بجناحي القبض والبسط إلى أن يصلوا إلى سرادقات الهيبة والأنس . { والله عليم } بتربية عباده { حكيم } فيما يفعل من القبول والرد . { والذين اتخذوا } في عالم الطبيعة مزبلة النفس { مسجداً ضراراً } لأرباب الحقيقة { وكفراً } بأحوالهم { لمن حارب الله } هم أهل الإباحة من مدعي الفقر { لا تقم } يا رسول الروح . { أسس على التقوى } هو مسجد القلب جبل على العبودية والطاعة { من أول يوم } من الميثاق { رجال يحبون أن يتطهروا } هم الأوصاف الحميدة والملكات المزكاة عن دنس الطبيعة ولوث الحدوث . ثم ميز بين أهل السعادة والشقاوة فقال : { أفمن أسس بنيانه } أي جبل على الخير وما فيه رضا الله { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة } لأنهم جبلوا على الشقاء { إلا أن تقطع قلوبهم } غيروا عن طباعهم وذلك محال أو لا يزال يسري من مزبلة النفس وسخ وظلمة إلى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم غيروا عن طباعهم وذلك بسكين الرياضة فتزول عنها تلك الملكات .
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
القراآت : { فيقتلون } مبنياً للمفعول { ويقتلون } مبنياً للفاعل : حمزة علي وخلف الآخرون على العكس . { ويقتلون } بالتشديد : أبو عون عن قنبل . { إبراهام } وكذلك ما بعده : هشام { يزيغ } بياء الغيبة . حمزة وحفص والمفضل . والباقون بتاء التأنيث . { خلفوا } بالتخفيف وفتح اللام روى ابن رومي عن عباس . الباقون بالتشديد مجهولاً .
الوقوف : { الجنة } ط { ويقتلون } ط { القرآن } ط { بايعتهم به } ط { العظيم } ه { لحدود الله } ط { المؤمنين } ه { الجحيم } ه { إياه } ط { منه } ط ج { حليم } ه ط { ما يتقون } ط { عليم } ه { والأرض } ط { ويميت } ط { نصير } ه { تاب عليهم } ط { رحيم } ه ط للعطف على النبي { خلفوا } ط { إلا إليه } ط { ليتوبوا } ط { الرحيم } ه { الصادقين } ه .
التفسير : لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك ، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقاً به ، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والتغريب فيه فقال : { إن الله اشترى } الآية . قال محمد بن كعب القرظي : لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة - وهم سبعون نفساً - قال عبد الله بن رواحة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت . فقال : أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم . قالوا : فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال : الجنة ، قالوا : ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت { إن الله اشترى } الآية . قال مجاهد والحسن ومقاتل : ثامنهم فأغلى ثمنهم . وقال جعفر الصادق عليه السلام : والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها . واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازاً عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه . ولهذا قال الحسن : اشترى أنفساً هو خلقها وأموالاً هو رزقها . والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع . وههنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة ، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات . وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج إليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة الى الدرجات العاليات؛ فالبائع هو جوهر الروح القدسي ، والمشتري هو الله ، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني ، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة ، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال { فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به } وفي قوله { يقاتلون } معنى الأمر كقوله
{ وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [ الصف : 11 ] وهو كالتفسير لتلك المبايعة { فيقتلون ويقتلون } أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين . ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعاً للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان . ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله : { يقاتلون } . والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثراً من القتال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام : « لأن يهدي الله على يدك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس » ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة ، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته ، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعاً به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه فقال : « هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به » قوله { وعداً عليه } قال الزجاج : إنه منصوب بمعنى قوله : { بأن لهم الجنة } كأنه قيل : وعدهم الجنة وعداً فهو مصدر مؤكد ، وكذا قوله { حقاً } أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل { في التوراة والإنجيل والقرآن } قيل : وعد المجاهدين على الإطلاق ، وقيل : ذكر هذا البيع لأمة محمد ، وقيل : الأمر بالقتال { ومن أوفى } استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد { من الله } لأنه الغني عن كل الحاجات القدر على كل المقدورات . وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله : { إن الله اشترى } وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به ، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقاً مؤكداً . ومنها أنه قال { بأن لهم الجنة } بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة . ومنها قوله { وعداً } و { إنه لا يخلف الميعاد } . ومنها قوله { عليه } وكلمة « على » للوجوب ظاهراً . ومنها قوله : { حقاً } وهو تأكيد التحقيق . ومنها قوله : { في التوراة والإنجيل والقرآن } وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة . ومنها قوله : { ومن أوفى بعهده من الله } وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف ألبتة . ومنها قوله : { فاستبشروا } والبشارة الخبر الصدق الأول . ومنها قوله : { وذلك هو الفوز } ثم وصف الفوز ب { العظيم } واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه : أحدها { ذلك الفوز } بغير « هو » وإنه في ستة مواضع : في « براءة » موضعان ، وفي « النساء والمائدة والصف والتغابن » وما في « النساء » بزيادة واو . والآخر { وذلك هو الفوز } بزيادة « هو » وذلك في ستة مواضع أخرى في « براءة » موضعان و « يونس » و « المؤمن » و « الدخان » و « الحديد » وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية ، وكذلك ما في « المؤمن » .
وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخٍ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها . وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة . وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة ، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد . وكذلك في « المؤمن » وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية { فاغفر } { وقهم } { وأدخلهم } قال أبو القاسم البلخي : لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياساً على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة .
ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال : { التائبون } قال الزجاج : إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضاً وإن لم يجاهدوا كقوله { وكلاً وعد الله الحسنى } [ النساء : 95 ] وقيل : التائبون رفع على البدل من الضمير في { يقاتلون } وقيل : مبتدأ خبره { العابدون } وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال . أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن : التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق . ومال آخرون الى التعميم ليشمل المعاصي أيضاً إذ لا دليل على التخصيص { والعابدون } قال ابن عباس : هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم . وقال الحسن : هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء ، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع . وقال قتادة : وهم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم . و { الحامدون } هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم ، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة { ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين ، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله : { وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين } [ يونس : 10 ] و { السائحون } قال عامة المفسرين : هم الصائمون لقوله : « سياحة أمتي الصيام » ثم قيل : هذا صوم الفرض . وقيل : الذين يديمون الصيام . قال الأزهري : إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسح في الأرض متعبدٌ لا زاد معه فيكون ممسكاً عن الأكل والشرب كالصائم . وقيل : أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع . وقال أهل المعنى : الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول .
وقيل : السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه ، وكانت السياحة في بني إسرائيل . قال عكرمة عن وهب بن منبه : لا ريب أن للسياحة أثراً عظيماً في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعاً من الضر والبؤس فيصبر عليها ، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكه له ، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار { الراكعون الساجدون } يعني المصلين قال بعض العلماء : إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود ، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود . وقيل : أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيهاً على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع . ثم قال : { الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر } ومعناهما مذكور فيما مر إلا أن ههنا بحثاً آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله : { والناهون } { والحافظون } دون سائر الأوصاف؟ وأجيب بأن النسق يجيء بالواو وبغيرها كقوله : { غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } [ غافر : 2 ] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر ، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الأغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيهاً على هذه المخالفة والمباينة . ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في « الكهف » في قوله : { ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم } [ الآية : 22 ] وما في « الزمر » في قوله في ذكر الجنة { وفتحت أبوابها } [ الآية : 73 ] وما في « التحريم » في قوله : { ثيبات وأبكاراً } [ الآية : 5 ] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار . فالثمانية تجري مجرى استنئاف كلام فلهذا فصل بالواو . وأما قوله : { والحافظون لحدود الله } فكإجمال بعد تفصيل؛ وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها ، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات . وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية . فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا ، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز ، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان ، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها . والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل ، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل ، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال ، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام .
ومنها ما يكره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد . والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة ، وكالبيع بيع العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئاً في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكاليء بالكالىء المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين ، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة ، أو من جهة الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة ، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس . وأما دفع المضار والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة ، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان ، وإما في العقل كباب تحريم الخمر ، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق ، أو على سبيل الخفية وهو السرقة . وههنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام ، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولاً إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات . فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده ، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى . ولكن قوله : { والحافظون لحدود الله } يشمل ذلك أيضاً بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر .
ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه . ولما بين من أول السورة إلى ههنا وجوب إظهار من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضاً وإن كانوا أقارب فقال : { ما كان للنبي } ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك . ثم علل المنع بقوله : { من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى : { إن الله لا يغفر أن يشرك به } [ النساء : 116 ] فطلب غفرانهم جارٍ مجرى طلب إخلاف وعد الله ووعيده ، وفيه حط لمرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له . وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله : { ولو كانوا أولي قربى } روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية - فقال : أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله .
فقال أبو جهل وابن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون : ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه ، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت { ما كان للنبي } الآيتان . وقيل عن أبن عباس : لما افتتح صلى الله عليه وسلم مكة سأل أي أبويه أحدث به صلى الله عليه وسلم عهداً أي آخرهما موتاً؟ فقيل : أمك آمنة . فزار صلى الله عليه وسلم قبرها ثم قام باكياً فقال : إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي فيه ونزل عليّ { ما كان للنبي } الآية . فقال بعضهم كصاحب الكشاف والحسين بن أبي الفضل : هذا أصح لأن هذه السورة في آخر القرآن نزولاً ، وكانت وفاة أبي طالب بمكة في أول الإسلام . ويمكن أن يوجه الأول بأنه صلى الله عليه وسلم لعله بقي مستغفراً إلى حين نزول الآية . ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه صدر عن موعدة وعدها إياه ، وذلك أن أباه كان وعد إبراهيم أن يؤمن فكان يستغفر له بناء على ذلك الوعد . { فلما تبين } لإبراهيم { أنه عدو لله } إما بإصراره على الكفر أو بموته على ذلك أو بطريق الوحي { تبرأ منه } وترك الاستغفار . ويجوز أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام ويوافقه قراءة الحسن { وعدها أباه } بالباء الموحدة وذلك في قوله : { لأستغفرن لك } [ الممتحنة : 4 ] وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه . وقيل : المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام الموجب للغفران ، وكان يتضرع إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان . وقيل : المقصود النهي عن صلاة الجنازة فكان قوله : { ولا تصل على أحد منهم } [ التوبة : 84 ] في حق المنافقين خاصة وهذه في حق الكافرين عامة . ثم ختم الآية بقوله : { إن إبراهيم لأوّاه حليم } قال أهل اللغة : أوّاه « فعال » مأخوذ من حروف « أوه » كلمة يقولها المتوجع ، وذلك أن الروح القلبي يختنق عند الحزن في داخل القلب ويشتد حرارته فإذا تكلم صاحبه بها خرج ذلك النفس المختنق فخفف بعض ما به ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الأوّاه الخاشع المتضرع » والحلم ضد السفه ، وصفه تعالى بشدّة الرأفة والشفقة والخوف والوجل فبين أن إبراهيم مع هذه العادة تبرأ من أبيه حين انقطع رجاؤه منه فأنتم بهذا المعنى أولى .
ثم إن المسلمين خافوا أن يؤاخذوا بما سلف منهم من الاستغفار للمشركين فأنزل الله { ما كان الله ليضل قوماً } أي عن طريق الجنة أو يحكم عليهم بالضلال أو يخذلهم أو يوقع الضالة في قلوبهم حين يكون منهم الأمر الذي يستحق به العقاب { بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون } ما يجب عليهم أن يحترزوا عنه . والحاصل أن الله لا يسمي قوماً ضلالاً بعد إذ سماهم مهديين ما لم يقدموا على شيء مبين خطره ، وأما قبل العلم والبيان فلا يؤاخذهم كما لم يؤاخذ بشرب الخمر والربا قبل تحريمهما . وفي الآية تشديد عظيم حيث جعل المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض المحظورات داخلاً في حكم الضلال . ثم قال : { إن الله بكل شيء عليم إن الله له ملك السموات والأرض يحيي ويميت } والمراد أن ما كان عالماً قادراً هكذا لم يحتج إلى أن يفعل العقاب قبل البيان وإزاحة العذر . قالت المعتزلة : وفيه دليل على أنه يقبح من الله الابتداء بالعقاب . وأجيب بأنه له ذلك بحكم المالكية غاية ما في الباب أنه لا يعاقب إلا بعد إزاحة العذر عادة ، وفي قوله : { إن الله له ملك السموات والأرض } فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهاراً للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال : وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتم عبيدي .
ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال { لقد تاب الله على النبي } الآية . ولنبن تفسير الآيتين على أسئلة مع جواباتها . فالسؤال الأول : أن قبول التوبة دليل سبق الذنب ، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم . الجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب الأولى . والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذلك السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص . ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تعظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب . السؤال الثاني : ما المراد بساعة العسرة؟ فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته .
والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جداً في ذلك السفر ، كانوا في عسرة من الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد . وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة المنتنة ، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء ، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فرثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون { لا تنفروا في الحر } [ التوبة : 81 ] وقال أبو مسلم : يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسرة التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } [ الأحزاب : 10 ] الثالث : ما معنى { كاد يزيغ } وكيف إعرابه؟ والجواب هما استعمالان : كاد زيد يخرج ، وكاد يخرج زيد . معنى الأول كاد زيد خارجاً أي قارب الخروج ، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر . وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده ، والزيغ الميل عن الجادة قيل : قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان . وقيل : هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم حبسوا أنفسهم وصبروا وثبتوا وندموا . وقيل : ما كان إلا حديث نفس بلا عزيمة ومع ذلك خافوا أن يكون معصية . الرابع : ذكر التوبة في أول الآية فلم كررها في قوله : { ثم تاب عليهم } ؟ الجواب إن عاد الضمير في { عليهم } الى الفريق فلا تكرار ، وإن عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار جميعاً فالتكرير للتوكيد مع رعاية دقيقة هي أن التوبة اكتنفت الذنب من جانبيه ، وذلك أنه بدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطيباً لقلوبهم ثم ذكر الذنب ، ثم أردفه بذكر التوب ليدل على أن العفو عفو متأكد كما يقول السلطان عند كمال الرضا : عفوت عنك ثم عفوت عنك . وإليه الإشارة بقوله : صلى الله عليه وسلم : « إن الله يغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة » وقال ابن عباس في تفسر قوله : { ثم تاب عليهم } يريد ازداد عنهم رضا . ثم أكد هذه المعاني بقوله { إنه بهم رؤوف رحيم } فيشبه أن يراد بالرأفة إزالة الضرر ، وبالرحمة إيصال المنفعة . أو الأوّل رحمة سابقة ، والثاني لاحقة . الخامس : الثلاثة الذين خلفوا من هم؟ الجواب هم المرجون لمر الله كما مرّ ، سّمُّوا مخلفين كما سمو مرجئين أي مؤخرين عن أبي لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعد أولئك . وقيل : لأنهم خلفوا عن الغزو ومثله قراءة من قرأ بالتخفيف أي خلفوا الغازين . وقيل : المخلف من خلوف الفم أي فسدوا ، وقرأ جعفر الصادق عليه السلام : { خالفوا } . { حتى إذا ضاقت عليهم الأرض } مع سعتها وهو مثل للحيره في الأمر ، { وضاقت عليهم أنفسهم } أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور { وظنوا } أي علموا وتيقنوا { أن لا ملجأ من } سخط { الله إلا } إلى استغفاره كقوله صلى الله عليه وسلم :
« أعوذ بك منك » وقيل : الظن بمعناه الأصلي وهو الرجحان وذلك أنهم ما كانوا قاطعين بأن ينزل الله في شأنهم قرآنا ، وإن سلم أنهم قطعوا بذلك إلا أنهم جوزوا أن تكون المدة قصيرة وجواب « إذا » محذوف والتقدير حتى إذا كان كذا وكذا تاب عليهم ، وحسن حذفه لتقدم ذكره . عن كعب بن مالك قال : لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعدما كان ذكرني في الطريق وقال : ليت شعري ما خلف كعباً فقيل : له : ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه . فقال : معاذ الله ما أعلم إلا فضلاً وإسلاماً ونهى عن كلامنا - أيها الثلاثة - فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد ، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن ، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع - وهو جبل بالمدينة - أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجداً وكنت كما وصفني ربي { وضاقت عليهم الأرض بما رحبت } [ التوبة : 25 ] وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقال إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي حتى صافحني وقال : لتهنك توبة الله عليك فلن أنساها لطلحة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر : أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية . سئل أبو بكر الورّاق عن التوبة النصوح فقال : أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه . السادس : قد عرفنا فائدة قوله : { ثم تاب عليهم } فما فائدة قوله : { ثم تاب عليهم ليتوبوا } ؟ الجواب معناه رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد ألأخرى ليستقيموا على توبتهم ، أو تاب عليهم في الماضي ليتوبوا في المستقبل إذا فرطت منهم خطيئة علماً منهم بأن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة ، أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين ، أو تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة وثوابها لأن الانتفاع بها لا يحصل إلا بعد توبة الله عليهم . وقالت الأشاعرة : المقصود بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى حتى إنه لو لم يتب عليهم لم يتوبوا . وأيضاً قالوا : في الآية دلالة على أن قبول التوبة غير واجب عقلاً لأن توبة هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر ، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليهم وتركهم خمسين يوماً . ويمكن أن يجاب بأن شرائط التوبة من الإخلاص والنصح وغير ذلك لعلها لم تكن حاصلة من أوّل الأمر فلهذا تأخر القبول دليله قوله تعالى : { حتى إذا ضاقت } الآية .
ثم حث سبحانه المؤمنين على ملازمة سيرة التقوى والانضمام في زمرة أهل الصدق لا النفاق فقال : { يا أيها الذين آمنوا } الآية . قال بعض العلماء : ظاهر الأمر للوجوب فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين لا بمعنى أن يكونوا على طريقهم وسيرتهم ، لأن ذلك عدول عن الظاهر بل بمعنى المصاحبة . والكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فلا بد من وجود الصادقين . ثم إنه ثبت بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة علىلمكلفين إلى يوم القيامة فلا يكون هذا الأمر مختصاً بالكون مع الرسول وأصحابه في الغزوات بل أعم من ذلك . ثم إن الصادق لا يجوز أن يكون منحصراً في الإمام المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما يقوله الشيعة ، لأن كون كل واحد من المؤمنين مع ذلك الصادق بعد تسليم وجوده تكليف بما لا يطاق ، فالمراد بالصادقين أهل الحل والعقد في كل حين ، والمراد أنهم إذا أجمعوا على شيء كانوا صادقين فيه محقين ويجب على الباقين أن يكونوا معهم ظاهراً وباطناً . وقال أكثر المفسرين : الصادقون هم الذين صدقوا في دين الله وفيما عاهدوا عليه من الطاعة نية وقولاً وعملاً . وقيل : أي كونوا مع الثلاثة المذكورين في الصدق والثبات . وعن ابن عباس : الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي وافقوا المهاجرين والأنصار في الصدق ، وقيل : الخطاب للذين شدوا أنفسهم على السواري . وفي الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته . ومن خصائص الصدق ما روي أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إني أريد أن أؤمن بك إلا إني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء كلها ولا طاقة لي بتركها بأسرها ، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك ، فقبل ذلك وشرط له الصدق ثم أسلم . فلما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال : إن شربت وسألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد ، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها ، ثم عرض عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه ، وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : ما أحسن ما فعلت ، لما منعتني عن الكذب انسد أبواب المعاصي علي وتبت عن الكل . ومن فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات ، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب ، ومن مثالب الكذب أن إبليس مع تمرّده وكفره استنكف منه حتى استثنى في قوله { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } [ ص : 82 ] .
ثم المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذباً عند المعتزلة وكونه مفضياً إلى المفاسد عند الأشاعرة والله أعلم .
التأويل : { إن الله اشترى } في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر ، وإنه كما { اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة . { التائبون } عما سوى الله { العابدون } المتوجهون إليه على قدم العبودية { الحامدون } له على ما وفقهم لنعمة طلبه { السائحون } السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي { الراكعون } أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم { الساجدون } الساقطون على عتبة الوحدة بلاهم { الآمرون بالمعروف } الحقيقي { الناهون } عما سواه { والحافظون لحدود الله } لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره . { ما كان للنبي } فيه أن الاجتهاد ليس سبباً لنيل المراد ، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية { إن إبراهيم لأواه } الأواه هو المتبرىء من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه ، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق . { حليم } عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لجبرائيل حين سأله ألك حاجة : أما إليك فلا { وما كان الله ليضل قوماً } ليردّهم بالمكر إلى الاثنينية والبعد { بعد إذ هداهم } إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد { حتى يبين لهم ما يتقون } من آفات البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة ، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول : إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال . { إن الله له ملك السموات } سموات القلوب { والأرض } أرض النفوس { يحيي } بنور ربوبيته { من يشاء ويميت } عن صفات بشريته { من يشاء ومالكم من دون الله من ولي } فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك فإن طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعاً { لقد تاب الله على النبي } التوبة فضل من الله ورحمة ، فقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقاً لقوله { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] { الذين اتبعوه في ساعة } عسرة الدنيا وترك شهواتها . أو نقول { لقد تاب الله } أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة - عالم الروح - إلى مدينة الجسد { والأنصار } من القلب والنفس وصفاتهما { الذين اتبعوه في ساعة } رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل . { وعلى الثلاثة الذين خلفوا } من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء { حتى إذا ضاقت عليهم } أرض البشرية شوقاً إلى تلك الحضرة { وضاقت عليهم أنفسهم } تحنناً إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذاب البعد عن الله إلا الفرار إليه { ثم تاب عليهم } بجذبة العناية ، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبداً مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق والله أعلم .
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
القراآت : { موطئاً } ونحوه بالياء : يزيد والشموني وحمزة في الوقف { غلظة } بفتح الغين : المفضل . الباقون بكسرها . { أولا ترون } بتاء الخطاب للمؤمنين : حمزة ويعقوب . الباقون على الغيبة .
الوقوف : { عن نفسه } ط { صالح } ط { المحسنين } ه لا للعطف { يعملون } ه { كافة } ط { يحذرون } ه { غلظة } ط { المتقين } ه { إيماناً } ط { يستبشرون } ه { كافرون } ه { يذكرون } ه { إلى بعض } ط لحق المحذوف أي يقولون هل يراكم { ثم انصرفوا } ط { لا يفقهون } ه { عزيز } ط ، على تأويل عليه شفاعة ما عنتم والصحيح الوصل لأن المعنى شديد عليه ما أثمتم ولا وقف في الآية إلى قوله رحيم { حسبي الله } ط والأصح الوصل على جعل الجملة حالاً أي يكفي الله غير مشارك في الألوهية { إلا هو } ط { العظيم } ه .
التفسير : لما أمر بموافقة النبي وأصحابه في جميع الغزوات والمشاهد بقوله { وكونوا مع الصادقين } [ الآية : 119 ] أكد ذلك المعنى بالنهي عن التخلف عنه فقال : { ما كان لأهل المدينة } أي لا يستقيم ولا يجوز لهم . والأعراب الذين كانوا حول المدينة قد ذكرنا - عن ابن عباس - أنهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار ، وكأنه أراد المعروفين منهم وإلا فاللفظ عام . ومعنى { ولا يرغبوا } ولا أن يرغبوا . يقال : غبت بنفسي عن هذا الأمر أي أبخل بها عليه ولا أتركها له ، والمراد أنه لا يصح لهم أن يرغبوا عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب صلاح أنفسهم وبقائها بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ويرضوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه لأن نفسه أعز نفس عند الله ، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وجب على سائر الأنفس أن لا يضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه . وفي هذا النهي مع التهييج توبيخ عظيم ، ولا يخفى أن الجهاد لا يجب على كل فرد بعينه للأجماع وأن أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى ونحوهم مخصوصون بالعقل وبالنقل فيبقى ما وراء هاتين الصورتين داخلاً تحت عموم الآية . ثم ذكر ترغيباً يجري مجرى علة المنع من التخلف فقال : { ذلك بأنهم } أي الوجوب الدال عليه بقوله : { ما كان لهم } بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد بل على جميع الحركات والسكنات مدة الذهاب والإياب . والظمأ شدة العطش ، والنصب الإعياء والتعب ، والمخمصة المجاعة الشديدة التي تظهر ضمور البطن ، والموطىء إما مصدر كالمورد أو مكان وعلى التقديرين الضمير في { يغيظ } عائد إلى الوطء الصريح أو المقدر . ثم الوطء يجوز أن يكون حقيقة فيراد به الدوس بالأقدام وبحوافر الخيول وبأخفاف الإبل ، ويجوز أن يكون مجازاً فيراد به الإيقاع والإهلاك . قال ابن الأعرابي : غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى . ويقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم ويلحق بهم ضرراً من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة ، والمراد أنهم لا يتصرفون في أرض الكفار تصرفاً يغيظهم ويرزؤهم شيئاً إلا كتب لهم به عمل صالح .
وفيه دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله ، وكذا القول في طرف المعصية ولكن بالضد فما أعظم بركة الطاعة وما أشد شؤم المعصية . وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم . وقال الشافعي : لا يشاركون الغانمين في الغنيمة وإن شاركوهم في الثواب لأن الغنيمة من خواص المحاربين ومن قد تعاطى خطراً . قال قتادة : هذا الحكم من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر . وقال ابن زيد : هذا حين كان في المسلمين قلة فلما كثروا نسخه الله بقوله : { وما كان المؤمنون لينفروا كافة } وقال عطية : ما كان لهم التخلف إذا دعاهم الرسول وأمرهم . قال العلماء : وكذلك غيره من الأئمة والولاة إذا عينوا طائفة لأنا لو جوزنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي الى تعطيل الجهاد . قوله : { ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة } . قال المفسرون : يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سيف أو سوط وما أربى عليها مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة { ولا يقطعون وادياً } أي أرضاً في ذهابهم ومجيئهم وهذا شائع في استعمال العرب يقولون : لا تصل في وادي غيرك . وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال . والوادي كل منعطف بين جبال وآكام يكون منفذاً للسيل . { إلا كتب لهم } ذلك الإنفاق والقطع أو ذلك العمل الصالح المعهود في الآية المتقدمة . ثم ذكر غاية الكتب فقال : { ليجزيهم الله } أي أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء جزاء أحسن من أعمالهم وأجل . وقيل : الأحسن من صفة الفعل أي يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح . واعلم أنه سبحانه عدد أشياء بعضها ليس من أعمال المجاهدين وهو الظمأ والنصب والمخمصة ، وباقيها من أعمالهم وهي الوطء والنيل والإنفاق وقطع الأرض ، وقسم هذا الباقي قسمين فضم شطراً منه إلى ما ليس من أعمالهم تنبيهاً على أنه في الثواب جارٍ مجرى عملهم ولهذا صرح بذلك فقال : { إلا كتب لهم به عمل صالح } أي جزاء عمل صالح وأكد ذلك بقوله : { إن الله لا يضيع أجر المحسنين } . ثم أورد الشطر الباقي لغرض آخر وهو الوعد بأحسن الجزاء ، واقتصر ههنا على قوله { إلا كتب لهم } لأن هذا القسم من عملهم فلم يحتج إلى تصريح بذلك ، أو اكتفاء بما تقدم ، أو لأن الضمير عائد إلى المصدر الدال عليه الفعل والله تعالى أعلم بمراده .
ثم قال : { وما كان المؤمنون } وفيه قولان : أحدهما أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في عيوب المنافقين كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الكفار ينفرون جميعاً ويتركونه بالمدينة وحده فنزلت الآية . قاله ابن عباس . والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بأسرهم إلى الجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين إحدهما لملازمة خدمة الرسول والأخرى للنفر إلى الغزو . ثم ههنا احتمالان لأنه قال محرضاً { فلولا نفر } أي هلا نفر { من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين } فذهب الأكثر إلى أن الضمير في { ليتفقهوا } عائد إلى الفرقة الباقية في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم إذا بقوا في خدمته شاهدوا الوحي والتنزيل وضبطوا ما حدث من الشرائع ، وعلى هذا فلا بد من إضمار والتقدير : فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقام طائفة ليتفقه المقيمون في الدين { ولينذروا قومهم } النافرين { إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون } معاصي الله عند ذلك وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين وإلا ضاع أحد الشقين ، والاحتمال الآخر ما روي عن الحسن أن الضمير يعود إلى الطائفة النافرة . وتفقههم هو أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم من غير زاد ولا سلاح كيف يغلبون الجم الغفير من الكفار فينتبهون لدقائق صنع الله في إعلاء كلمته . فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بما شاهدوا من دلائل الحق فيحذروا أي يتركوا الكفر والشرك والنفاق . القول الثاني أنه ليس من بقية أحكام الجهاد وإنما هو حكم مستقل بنفسه ، ووجه النظم أن الجهاد أمر يتعلق بالسفر وكذلك التفقه ، أما في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فوجوبه ظاهر لمن ليس بحضرته حتى يصل إليه ويستفيد من خدمته لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كانت تتجدد كل يوم شيئاً فشيئاً ، وأما في زماننا فلا ريب أنه متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب عليه ، وإن أمكنه في الحضر فلا شك أن للسفر بركة أخرى يعرفها كل من زاول الأسفار وحاول الأخطار ، ومعنى { ليتفقهوا } ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا المتاعب في أخذها وتحصيلها . والفقه في الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية المستنبطة من دلائلها التفصيلية . والظاهر أن المراد في الآية أعم من ذلك بحيث يشمل علوم الشرع كلها من التفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه ومقدمات كل من ذلك وغاياتها بحسب الإمكان النوعي أو الشخصي . وفي قوله : { ولينذروا قومهم } إشارة إلى أن الغرض الأصلي من التعلم هو الإنذار والإرشاد لا ما يقصده علماء السوء من الأغراض الفاسدة كالمطاعم والملابس والمناصب والمفاخر ، أعاذنا الله تعالى بفضله من قبح النية وفساد الطوية ، وجعلنا ممن لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً .
القائلون بأن خبر الواحد حجة قالوا : أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة ، والخارج من الثلاثة اثنين أو واحداً . ثم إنه أوجب العمل بأخبارهم بقوله : { ولينذروا } وأجيب بأن إيجاب الإنذار لا يدل على وجوب العمل لأن الشاهد الواحد يلزمه أداء الشهادة وإن لم يلزم القبول ورد بأن قوله : { لعلهم يحذرون } إيجاب للعمل بأخبارهم . ثم أرشد سبحانه إلى ترتيب القتال فقال : { يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم } أي يقربون منكم مبتدأ من الأقرب ومنتقلاً إلى الأبعد . والقتال واجب مع كافة الكفر بآية القتال ، ولكن هذه الآية أخص لأن الغرض منها الترتيب ما لم يدع إلى قتال الأبعد قبل دفع الأقرب ضرورة فلا تكون هذه منسوخة بآية القتال على ما نقل عن الحسن ، وإنما وجب الابتداء بالغزو من المواضع القريبة لأن قتال الكل دفعة متعذر وللأقرب ترجيح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات مثلاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، يبتدأ بالجمع الحاضرين ثم ينتقل الى الغائبين . وأيضاً المؤنة في قتال الأقربين من النفقة والدواب تكون أقل والقتال معهم يكون أسهل للوقوف على أحوالهم وعدد عسكرهم ، والفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فق عرضوا الذراري للفتنة . وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام . ويروى أن أعرابياً جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة فقال صلى الله عليه وسلم : « كل مما يليك » فثبت بهذه الوجوه أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب ما لم يضطر الى العدول ضرورة . وقوله { وليجدوا فيكم غلظة } أي شدة نظير قوله : { واغلظ عليهم } [ التحريم : 9 ] ومن قرأ بفتح الغين فهو المصدر أيضاً كالسخطة وهي لفظة جامعة للجراءة والصبر على القتال ولشدة العداوة والعنف في القتل والأسر ، كل ذلك فيما يتصل بالدعوة إلى الدين إما بإقامة الحجة وإما بالسيف ، أما فيما يتصل بالبيع والشراء والمجالسة فلا وليكن تقوى الله سبحانه على ذكر منه في موارده ومصادره ، ولهذا ختم الآية بقوله : { واعلموا أن الله مع المتقين } فإن قلته قتله لله وان تركه على الجزية تركه لله وإن كسر عدوه وآل الأمر إلى أخذ الغنيمة راعى فيه حدود الله . ثم حكى بقية فضائح أعمال المنافقين فقال : { وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول } أي يقول بعض المنافقين لبعض إنكاراً واستهزاء بالمؤمنين المعتقدين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به ، أو يقولنه لقوم من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان والمقول { أيكم } مرفوع بالابتداء وخبره { زادته هذه إيماناً } . ثم إنه تعالى حكى أنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران : أحدهما ازدياد الإيمان وقد مر معناه في أول سورة الأنفال ، والثاني الاستبشار وهو استدعاء البشارة إما بثواب الآخرة وإما بالعزة والنصرة في الدنيا والمراد أنهم يفرحون بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل بها إلى مزيد الثواب .
وحصل للمنافقين الذين لهم عقائد فاسدة وأخلاق ذميمة أمران : أولهما زيادة الرجس لأن تكذيب سورة بعد تكذيب مثلها انضمام كفر إلى كفر أو لأن حصول حسد وغل ونفاق عقيب أمثالها ازدياد ملكة ذميمة غب أخرى ، وثانيهما بقاؤهم على تلك العقائد والأعمال إلى أن ماتوا لأن الملكة الراسخة لا تزول إلا إن مات صاحبها ، وإسناد زيادة الرجس إلى السورة إسناد حقيقي عند الأشاعرة لأنهم يقولون إنه سبحانه يخلق الكفر والإيمان في العبد فلا يبعد إحداث السورة فيهم الرجس ، وإسناد مجازي عند المعتزلة لانهم يقولون إنهم أحدثوا الرجس من عند أنفسهم حين نزول السورة بدليل أن الآخرين سمعوا السورة وازدادوا إيماناً . والتحقيق في أن النفس الطاهرة النقية عن درن الدنيا باستيلاء حب الله والآخرة إذا سمعتها صار سماعها موجباً لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا . وأما النفس الحريصة المتهالكة على لذات الدنيا وطيباتها الغافلة عن حب الآخرة وعشق المولى إذا سمعتها مشتملة على تعريض النفس للقتل والمال للنهب بسبب الجهاد زادت نفرته عنها وإنكاره عليها وكل بقدر . ثم عجب من حال المنافقين فقال : { أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } قال ابن عباس : أي يمتحنون بالمرض { ثم لا يتوبون } من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ المؤمن فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي ربه فيزيده ذلك إيماناً وخوفاً . وقال مجاهد : بالقحط والجوع . وقال قتادة : بالغزو أو الجهاد فإن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي ، وإن ذهبوا وهم على حالة النفاق عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة . وقال مقاتل : كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فيخبره جبرائيل فيوبخهم بذلك ويعظهم فما كانوا يتعظون . ثم ذكر نوعاً آخر من مخازيهم فقال { وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض } أي سورة مشتملة على ذكرهم أو أعم من ذلك . والنظر نظر الطعن والاستهزاء والازدراء بالوحي قائلين { هل يراكم من أحد } من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم لأن نظر التغامز دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد ، أو أرادوا إن كان من ورائكم أحد فلا تخرجوا وإلا فاخرجوا لنتخلص من هذا الإيذاء وسماع الباطل . { ثم انصرفوا } أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن الى الطعن فيه . ومعنى { صرف الله قلوبهم } قال ابن عباس : منعهم عن كل رشد وخير . وقال الحسن : طبع الله على قلوبهم . وقال الزجاج : أضلهم الله . قالت الأشاعرة : هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه .
وقالت المعتزلة : هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح ، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها ، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد قالوا : ومعنى قوله : { لا يفقهون } لا يتدبرون حتى يفقهوا . وعند الأشاعرة : هم قوم جبلوا على ذلك . يحكى عن محمد بن إسحق أنه قال : لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوماً انصرفوا صرف الله قلوبهم ، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال : { فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله } [ الجمعة : 10 ] ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آلف وآنس ، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم ، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم : كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل : هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف ، وتعرفون كونه حريصاً على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم . فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم . وقرىء { من أنفسكم } بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم . وتنسب هذه القراءة الى النبي والوصي وأهل البيت عليهم السلام . ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله : { عزيز عليه ما عنتم } العزة الغلية والشدة والعنت المشقة والوقوع في المكروه والإثم . و « ما » مصدرية أي شديد شاق عليه - لكونه بعضاً منكم - عنتكم ولقاؤكم المكروه ، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه . { حريص عليكم } الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدارين؛ فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسعادات فلا تكرار . وقال الفراء : الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار . ثم بين أنه رحمة للعاملين فقال { بالمؤمنين } أي منكم ومن غيركم { رؤوف رحيم } قال ابن عباس : لم يجمع الله بين اسمين من أسمائه إلا له ، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما إحسان وإحمال ، وإن كان صعباً مؤلماً فاقبلوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين ، ثم قال لرسوله فإن لم يقبلوا بل أعرضوا وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وارجع في جمع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك { وهو رب العرش العظيم } فلا يخرج عن قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرش وبما يحويه العرش والله أعلم .
التأويل : { ما كان لأهل } مدينة القالب وهو النفس والهوى والقلب { ومن حولهم من الأعراب } الصفات النفسانية والقلبية { أن يتخلفوا عن رسول } الروح السائر ولا يبذلوا وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ } من ماء الشهوات { ولا نصب } من أنواع المجاهدات { ولا مخمصة } بترك اللذات وحطام الدنيا في طلب الله { لا يطؤن موطئاً } من مقامات الفناء { يغيظ } كفار النفس والهوى { ولا ينالون من عدوّ } الشيطان والنفس والدنيا بلاء ومحنة وفقراً وحزناً وغير ذلك من أسباب الفناء { إلا كتب لهم به عمل صالح } من البقاء بالله بقدر الفناء في الله { ولا ينفقون نفقة صغيرة } هي بذل الصفات { ولا كبيرة } هي بذل الذات في صفات الله وفي ذاته { ولا يقطعون وادياً } من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح . { أحسن ما كانوا يعملون } لأن عملهم بقدر معرفتهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق فهمهم { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم } [ السجدة : 17 ] { وما كان المؤمنون لينفروا } في السير إلى الله وبالله وفي الله ، فهلا نفر من كل قوم وقبيلة فرقة طائفة هم خواصهم وأهل الاستعداد الكاملون ليتعلموا السلوك ويخبروا بذلك قومهم { لعلهم يحذرون } من غير الله . { قاتلوا الذين يلونكم } من كفار النفس والهوى وصفاتها { وليجدوا فيكم غلظة } عزيمة صادقة في ترك شهواتها { وماتوا وهم كافرون } أي لموت قلبهم لتزايد ظلمة النفاق كل حين ، ثم أخبر عن موت القلب بقوله : { أولا يرون أنهم يفتنون } والفتنة موجبة لانتباه القلب الحي { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب } [ ق : 37 ] أي قلب حي { هل يراكم من أحد } في مقام الإنكار والنفاق أي هل يرى محمد إنكارنا على رسالته والقرآن ، فإن كان رسولاً يرانا بنور رسالته { ثم انصرفوا } على هذا الحسبان لأن قلوبهم مصروفة وليس لهم فقه القلب لأن ذلك من أمارات حياة القلب . { من أنفسكم } تسكين للعوام لئلا يتنفروا عنه وإشارة للخواص إلى أن البشر لهم استعداد الوصول والوصال ، فإن لم يكن بالاستقلال فبالمتابعة فاتبعوني يحببكم الله . ومن قرأ { من أنفسكم } أي أشرفكم فلأنه أوّل جوهر خلقه الله تعالى « أول ما خلق الله تعالى روحي » ولاختصاصه بالخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين أو أدنى وتحليه بحلية { فأوحى إلى عبده ما أوحى }
[ النجم : 10 ] ولعلو همته ، { ما زاغ البصر وما طغى } [ النجم : 17 ] ولرؤيته سر القدر { ولقد رأى من آيات ربه الكبرى } [ النجم : 18 ] { بالمؤمنين رؤوف رحيم } فمن رأفته أمر بالرفق كما قال : « إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق » ومن رحمته قيل له { فبما رحمة من الله لنت لهم } [ آل عمران : 159 ] وههنا نكتة وهي أن رأفته ورحمته لما كانت مخلوقة اختصت بالمؤمنين فقط ، وكانت رحمته تعالى ورأفته للناس عامة { إن الله بالناس لرؤوف رحيم } ونكتة أخرى هي أن رحمته صلى الله عليه وسلم عامة للعالمين بقوله : { وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } [ الأنبياء : 107 ] وأما رحمته المضمومة إلى الرأفة فخاصة بالمؤمنين وكأن الرأفة إشارة إلى ظهور أثر الدعوة في حقهم ، فالمؤمنون أمة الدعوة والإجابة جميعاً وغيرهم أمة الدعوة فقط { فقل حسبي الله } لأن المقصود من التبليغ قد حصل لك وهو وصولك إلى الله أعرضوا عن دعوتك أو أقبلوا والله المستعان .
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
القراآت : { الر } بالإمالة وكذلك ما بعده : أبو عمرو وخلف وحمزة وعلي والخراز عن هبيرة والنجاري عن ورش ويحيى وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان . { لساحر } بالألف : ابن كثير وعصام وحمزة وعلي وخلف . الآخرون { لسحر } { حقاً أنه } بالفتح .
يزيد . { ضياء } بالهمز حيث كان : ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل { يفصل } بالياء : ابن كثير وعمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والعجلي . الباقون بالنون . { واطمأنوا } بغير همز : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف .
الوقوف : { آلر } ق كوفي { الحكيم } ه ط { عند ربهم } ط { مبين } ه { يدبر الأمر } ط { إذنه } ط { فاعبدوه } ط { تذكرون } ه { جميعاً } ط ، { حقاً } ط ، إلا لمن قرأ { أنه } بالفتح . { بالقسط } ط { يكفرون } ه { والحساب } ط { إلا بالحق } ط لمن قرأ { نفصل } بالنون ، ومن قرأ بالياء أمكنه أن يجعل { يفصل } حالاً . { يعلمون } ه { يتقون } ه { غافلون } هل لا لأن { أولئك } خبر « إن » { بإيمانهم } ج ط للحذف تقديره يهديهم ربهم بإيمانهم إلى دار البقاء مع اتحاد المقصود وتمام الموعود { النعيم } ه { سلام } ج ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد اعترضت جملة معطوفة أخرى لأن قوله { وآخر دعواهم } معطوف على { دعواهم } الأوّل { العالمين } ه .
التفسير : اتفقوا على أن قوله { الر } ليس بآية وعلى أن { طه } آية . ولعل الفرق أن { الر } لا يشاكل مقاطع الآية التي بعده ، عن ابن عباس { آلر } معناه انا الله أرى . وقيل : لا رب غيري . وقيل : آلر وحم ون اسم الرحمن { تلك } إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات ، والتبعيد للتعظيم ، والكتاب السورة ، والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها أو وصف بصفة من تكلم به ومنه قولهم للقصيدة حكيمة . وقيل : « فعيل » بمعنى « فاعل » لأنه يحكم بين الحق والباطل ، أو يحكم بأن محمداً صادق لأن القرآن أظهر معجزاته وأبقاها . وقيل : بمعنى مفعول أي حكم فيه بجميع المأمورات والمنهيات وقيل : بمعنى المحكم والإحكام المنع من الفساد وذلك أنه لا يمحوه الماء ولا يحرقه النار ولا يغيره الدهور . ويحتمل أن يقال : الكتاب الحكيم هو القرآن أو اللوح المحفوظ أو التوراة والإنجيل ، لأن جميع الكتب الإلهية متوافقة في الأصول ، ويجوز أن يكون { تلك } إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن . واعلم أنه سبحانه لما ختم السورة المتقدمة بقوله : { لقد جاءكم رسول من أنفسكم } [ التوبة : 127 ] صدر هذه السورة بتعديد بعض الحروف على طريق التحدي ، وذلك أن حروف القرآن من جنس الحروف التي يتلفظون بها فلولا أنه معجز لعارضوه وناقضوه . ولما بين بهذا الطريق أن محمداً رسول حق من عند الله أنكر على كفار قريش تعجبهم من كونه رسولاً فقال : { أكان للناس عجباً } نصب على أنه خبر كان واسمه { أن أوحينا } وفائدة اللام في قوله : { للناس } مع تقديمه هي أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتحدثون بها ، ثم إن تعجبهم إما أن يكون من جعل البشر رسولا أو من تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي والنبوة فقد روي أنهم كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وكلا الأمرين ليس بعجب ، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل
{ ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } [ الأنعام : 9 ] { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } [ الاسراء : 95 ] . وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحاً لأن الله غني عن العالمين { وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى } [ سبأ : 37 ] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفاً بالصدق والأمانة والتقوى ، وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمداً الأمين . و « أن » في قوله : { أن أنذر الناس } هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول ، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر النس . وقوله : { وبشر الذين آمنوا أن لهم } أي بأن لهم ، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم ، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين . ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائداً إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدىً ، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئاً من الأزمنة ، وبه تتم الماليكة والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء . وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي ، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية . ومعنى { قدم صدق } سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير . قال أحمد بن يحيى : القدم كل ما قدمت من خير . وقال ابن الأنباري : كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء . والسبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد ، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدماً . وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال : قدم صدق هي الأعمال الصالحة ، ومنهم من قال الثواب ، ومنها من قال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم . أما قوله : { قال الكافرون } فقال القفال : فيه إضمار والتقدير : فلما أنذرهم قالوا ذلك . ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قرأ السحر إشارة إلى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر ، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جارٍ مجرى السحر .
ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين . وقد مر في الأعراف تفسير قوله : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش } فلا حاجة إلى الإعادة .
ثم ذكر ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره فقال : { يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه } وإنما فقد العاطف لأنهما كالتفسير والتفصيل لما دل عليه قوله : { إن ربكم الله } الخ . والأمر الشأن أراد به أحوال الخلق وأحوال ملكوت المسوات والأرض والعرش . والمعنى أنه يقضي ويقدر بمقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي . قال الزجاج : إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح . ففي قوله : { يدبر الأمر } إشارة إلى استقلاله في التصرف جانب المبدإ ، وفي قوله { ما من شفيع } إشارة إلى استقلاله في طرف المعاد . ويمكن أن يقال : المراد أنه خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من الأصلح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في تحصيل المصالح فدل ذلك على أنه محسن إلى عباده مريد للخير والرأفة بهم كامل العناية بأحوالهم . قال أبو مسلم : الشفيع معناه الثاني من الشفع الذي يخالف الوتر أي خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والثقلين ، والمراد أنه لم يدخل في الوجود أحد إلا من بعد أن قال له : « كن » حتى كان وحصل . ثم أشار إلى المعلوم بالأوصاف المذكورة فقال : { ذلكم الله ربكم } الذي يستأهل منكم العبادة بإزاء النعم الجسام من خلق السموات والأرض بما فيهما وعليهما { فاعبدوه } وحده { أفلا تذكرون } فيه تنبيه على وجوب الاعتبار والنظر في الدلائل الدالة على عظمته وجلاله . ثم شرع في إثبات المعاد فقال : { إليه مرجعكم } أي رجوعكم { جميعاً } مجموعين . وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه ، ثم أكد ذلك بقوله : { وعد الله حقاً } وفيه تأكيدان كما مر . ثم قال : { إنه يبدأ الخلق ثم يعيده } وهو استئناف فيه معنى التعليل كأنه قال إن الذي قدر على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله :
{ وننشئكم فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 61 ] يعني أنه سبحانه لما كان قادراً على إنشاء ذواتكم أوّلاً ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانياً شيئاً فشيئاً من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه ، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق . ومن قرأ { أنه } بالفتح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه ، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله أي وعد الله وعداً بدء الخلق ثم إعادته ، ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً أي حق حقاً بدء الخلق .
ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال : { ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات } قال المفسرون : في الآية إضمار والتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي . وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله : { فاعبدوه } ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام . وقوله : { بالقسط } أي بالعدل متعلق ب { يجزي } أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحاً وهذا وجه حسن لطباق قوله : { بما كانوا يكفرون } وفي قوله : { والذين كفروا } من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب ، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر . والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره . قالت الأشاعرة : في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة . وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم ورُدَّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين : الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين ، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلاً يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها : أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولاً وقدراً فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات ، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك . هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات ، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذباً في قوله : { ليجزي } الخ . فإن قيل : لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم منه الكذب على الله ، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات والآلام؟ فالجواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية ، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال ، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض ، وأخذ الأجرة إنما يكون بعد الفراغ من العمل والعبد ما دام في الدنيا فهو في العمل ، وقد ترى أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بالآفات والبليات ، وأفسقهم وأجهلهم في أتم اللذات والمسرات .
ومنها أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء والمظلوم والظالم وأن لا يجعل من كفر به وعصاه كمن آمن به وأطاعه وليس هذه التفرقة في الدنيا كما قيل :
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
فلا بد من دار أخرى يظهر فيها التفاوت . ومنها أنه كلف عبيده بأن يعبدوه ، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد أن يجعله فارغ البال منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تكليفه ، والناس جبلوا على طلب اللذات والتبادر إلى تحصيل أسباب الراحات فلو لم يكن زاجر من خوف المعاد لوقع الهرج والمرج والفتن وحينئذٍ لا يتفرغ المكلف لأداء ما أمر به . فإن قيل : لم لا يكفي في نظام العالم مهابه الملوك وسياستهم؟ قلنا : إن لم يكن السلطان قاهراً قادراً على الرعية فلا فائدة فيه ، وإن كان قاهراً غالباً ولا خوف له من المعاد فحينئذٍ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الداعية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة . ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس ، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال : إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم ، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلاً قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة . وأيضاً إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فعلمنا أن للرحة دار أخرى . فإن قيل : ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم؟ قلنا : الفرق أن لذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين . ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان ، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال ، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف ، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف ، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سبباً لشقائه وخسته دون شرفه ومزيته .
ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوباً بالآفات أو خالصاً عنها ، فلما أنعم الله تعالى علينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علنيا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهاراً لكمال القدرة والرأفة والحكمة ، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن المذنبين ويزيل الغموم والهموم والآفات والمخافات . ومما يقوّي هذا الكلام أن الإنسان دائماً في الترقي من حين كونه جنيناً في بطن أمه إلى أن يخلص من ذلك السجن ويخرج إلى قضاء الدنيا ، وإلى أن ينتقل من تناول اللبن والشد الوثيق في المهد إلى تناول الأطعمة اللذيذة والمشي والعدو إلى أن يصير أميراً نافذ الحكم على الخلق أو عالماً مشرفاً على حقائق الأشياء ، فوجب بحكم هذا الاستقراء أن يكون حاله بعد الموت أشرف وأبهى من اللذات العاجلة المشوبة بالآلام . ومنها طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقاً فقد نجونا وهلك المنكر ، وإن كان باطلاً لم يضرنا هذا الاعتقاد ، غاية ذلك فوات بعض اللذات الزائلة المشوبة بالمنغصات . ومنها أن أحوال الإنسان من صباه إلى هرمه تضاهي حال الأرض من الربيع إلى الشتاء . ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فلم لا يعقل مثل ذلك في الإنسان؟ ومنها أن الإنسان إنما يتولد من نطفة نولدت من الأغذية الكائنة من الأجزاء العنصرية المتفرقة في مشارق الأرض ومغاربها ، فإذا مات وتفرقت تلك الأجزاء فكيف يمتنع أن تجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول؟ ومنها أن النظر في تغيرات العالم أدى إلى إثبات صانع حكيم قادر قاهر ، والعقل يحكم بأن هذا الحكيم لا يليق به أن يترك عبيده هملاً يكذبون عليه ويجورون ، فلا بد من أن يكون له أمر ونهي ووعد ووعيد من غير تجويز خلف فيهما كما مر ، ولا يتحقق جميع ذلك إلا في دار الجزاء .
وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون : المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزاً فالمرة الثانية أيضاً جائزة . ثم إن إله العالم قادر مختار عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد - وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار - عن أجزاء بدن عمرو ، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني . وأما شبهة المنكرين فمن ذلك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شراً من هذه فالتبديل سفه ، وإن كانت مثلها فعبث ، وإن كانت خيراً منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولاً ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه ، أو يقال إنه ما كان قادراً ثم حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم .
والجواب أن كلاً من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات النفسانية الممكنة للنوع الإنساني من قبيل العلم والعمل ، والأخرى للراحة والجزاء ، ومن ذلك أنهم قالوا : حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد . والجواب ما ذكرنا في كتبنا الحكمية من أن كل جسم مركب وكل مركب ينحل لا محالة . ولئن سلمنا أنها أزلية فحركاتها غير أزلية لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال ، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزلية تنافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الأزل والحركة محالاً . ولئن سلم أن الحركة أزلية فلم لا يجوز أن يكون بعض أوضاع الأفلاك مقتضياً لإعادة المعدومات من الأشخاص الإنسانية؟ ومن ذلك أنهم قالوا : الإنسان عبارة عن هذا البدن ذي الأجزاء لا كيف كانت بل بشرط وقوعها على تأليف مخصوص ، لأن أجزاء البدن كانت موجودة قبل هذا الإنسان والموجود مغاير للمعدوم . فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصورة والأعراض وعود المعدوم محال . وأجيب بأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد وإنما هو النفس سواء كانت جوهراً مجرداً مفارقاً أو جسماً مخصوصاً لطيفاً باقياً في جميع أحوال البدن من الصبا إلى الهرم مصوناً عن التحلل والتبدل وهو الذي يسميه المتكلمون بالأجزاء الأصلية . ومن ذلك أنهم قالوا : إذا قتل الإنسان واغتذى به إنسان آخر لزم أن تعاد تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال . وأجيب بعين ما مر وهي أن الأجزاء الأصلية لا تصير جزءاً من إنسان آخر . فهذه خلاصة وما وصل إليه العقول من أمر المعاد والله تعالى أعلم بحقائق الأمور .
تم عدد بعض نعمه على المكلفين فقال : { هو الذي جعل الشمس ضياء } وهو أجوف واوي مهموز اللام قلبت واوه ياء لكسرة ما قبلها ، ومن قرأ بهمزتين بينهما ألف فمحمول على القلب لأن إذا قدم اللام على العين وقع حرف العلة على الطرف فانقلب همزة وكان في « كساء » . وهو إما أن يكون جمع ضوء كحوض وحياض ، أو مصدر ضاء يضوء مثل قام قياماً وصام صياماً ، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة فجعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم إنه كرم وجود . والضياء أقوى من النور .
ولا خلاف بين العقلاء أن ضوء الشمس كيفية قائمة بها لذاتها ، أما نور القمر فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من الشمس وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية إلى البدرية كما بينا في تفسير قوله تعالى : { يسألونك عن الأهلة } [ البقرة : 189 ] { وقدره منازل } قال في الكشاف : أي قدّر مسيره منازل أو قدره ذا منازل . ومنزلة القمر المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة به وجملتها ثمانية وعشرون وأساميها مشهورة : الشرطين الثريا البطين الخ . وهي كواكب ثابتة معروفة عندهم جعلوها علامات المنازلة ، فنرى القمر كل ليلة نازلاً بقرب أحدها وذلك أنهم قسموا دور الفلك وهو اثنا عشر برجاً على ثمانية وعشرين - عدد أيام القمر - فأصاب كل برج منزلان وثلث فسموا كل منزل بالعلامة التي وقعت وقت التسمية بحذائه . ثم ذكر بعض منافعهما العائدة على المكلفين فقال : { لتعلموا عدد السنين والحساب } حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي . وقد ذكرنا السنة الشمسية والسنة القمرية وكيفية دوران إحداهما على الأخرى في تفسير قوله تعالى : { إن عدة الشهور } [ التوبة : 36 ] الآية فلا حاجة إلى التكرار ، ثم أشار إلى سائر منافعهما وخواصهما بقوله : { ما خلق الله ذلك } المذكور { إلا } ملتبساً { بالحق } والصواب دون الباطل والعبث ، فالشمس سلطان النهار والقمر خليفتها بالليل ، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى فصولها الأربعة ، وبالفصول تنظم مصالح هذا العالم ويتحصل معايش الخلائق ، وبحركة القمر يحصل الشهور ، وباختلاف حاله في زيادة النور ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات إلى غير ذلك من الخواص التي يرشد إليها التأمل والتدبر ولهذا قال : { يفصل الآيات لقوم يعلمون } لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الدلائل . وقيل : المراد بالعلم ههنا العقل الذي يعم الكل . ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد مر تفسيره في سورة « البقرة » في قوله : { إن في خلق السموات والأرض } [ الآية : 164 ] . ومعنى قوله : { وما خلق الله في السموات والأرض } كقوله : { وما خلق الله من شيء } [ الآية : 185 ] وقد مر في آخر « الأعراف » . وإنما خص كونها آيات بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر . قال القفال : من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل ، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء ، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بالمبدإ والمعاد .
ثم شرع في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به فقال : { إن الذين لا يرجون لقاءنا } عن ابن عباس ومقاتل والكلبي : معناه لا يخافون البعث كقوله تعالى : { وهم من الساعة مشفقون } [ الأنبياء : 49 ] واستبعد الأكثرون تفسير الرجاء بالخوف وقالوا : إنه بمعنى الطمع أي لا يطمعون في حسن لقائه كما يأمله السعداء ، أو لا يتوقعونه أصلاً لأنهم لا يؤمنون بالمعاد فهم ذاهلون عن طلب اللذات الحقيقية فارغون عن التوجه نحو السعادات الباقية { ورضوا } مع ذلك { بالحياة الدنيا } الحسية الخسيسة { واطمأنوا بها } سكنوا إليها سكون العاشق إلى معشوقه وهذه غاية الانهماك الاستغراق في اللذات الجسمانية { والذين هم عن آياتنا غافلون } فال يعتبرون بالآيات ولا ينظرون في الدلائل الموصلة إلى حقيقة المبدإ والمعاد ، فلم يقبلوها بالتقليد ولم ينظروا إليها بعين الاجتهاد { أولئك مأواهم النار } فيه معنى الجزاء ولذلك تعلق به قوله : { بما كانوا يكسبون } وفيه أن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول العذاب الجسماني وهو النار المحسوسة ، والعذاب الروحاني وهو نار البعد من المألوفات والقطيعة من السعادات الباقيات فيكون مثاله مثال من أخرج عن مجالسة معشوقه فألقي في بئر ظلمانية لا إلف بها ولا مؤنس بل يكون فيها أنواع المؤذيات وأصناف الموحشات نعوذ بالله من تلك الحالات .
وهذا حال من لا يؤمن بالمعاد فلا يعمل له ، وأما حال الذي يؤمن به فذلك قوله : { إن الذين آمنوا } استكملوا من جهة القوة النظرية { وعملوا الصالحات } استكملوا من قبل القوة العملية أو صدقوا بقوله ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله ، أو أشغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ثم جوارحهم بالخدمة حتى تكون عيونهم مشغولة بالاعتبار ، وآذانهم باستماع كلام الله ، وألسنتهم بذكر الله وسائر أعضائهم بطاعة الله تعالى : { يهديهم ربهم بإيمانهم } قال أكثر المفسرين : معناه يهديهم إلى الجنة ثواباً لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة . ومعنى قوله : { بإيمانهم } أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح ، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى : { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم } [ الحديد : 12 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : « إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله الصالح في صورة حسنة فيقول له : أنا عملك فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة . والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول : أنا عملك فينطلق به إلى النار » وقيل : معنى الآية إن إيمانهم يهديهم إلى مزايا من الألطاف ولوامع من الأنوار بحيث تزول بواسطتها عنهم الشكوك والشبهات فتؤدي إلى حصول المثوبات ولذلك جعل { تجري من تحتهم الأنهار } بياناً له وتفسيراً لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها . فهذه الهداية عبارة عن الفوائد الزوائد الحاصلة في الدنيا بعد الإيمان . قال القفال : فعلى هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار إلا أنه حذف الواو وجعل قوله : { تجري } خبراً مستأنفاً منقطعاً عما قبله . والتحقيق في تقرير هذا الوجه أن العلم نور والجهل ظلمة والروح كاللوح والعلوم والعارف كالنقوش ولكن حالهم بالضد من النقوش الجسمانية ، فإن تزاحم النقوش الجسمانية يكدر اللوح وتوارد النقوش المعنوية وتكاثرها يزيد لوح الروح لمعاناً وإشراقاً حتى إنه يقوى بها على تحصيل المعارف الباقية بسهولة ، فليس فهم الرجل المنتهي للعلوم والحقائق كفهم المبتدىء ، فإن الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور المعرفة ، وإذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة التوجه إلى الآخرة والإعراض عن الدنيا ، ولا تزال تتزايد إشراقات هذه المعارف والملكات فيرتقي في معارجها لحظة فلحظة ، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية فلا نهاية لمراتب هذه الهداية .
وفي قوله : { يهديهم ربهم بإيمانهم } دليل لمن قال إن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ولكنهما يعدّان الذهن لحصول الفيض من الجواد المطلق . ومعنى { تجري من تحتهم الأنهار } أنهم يكونون في البساتين على مواضع مرتفعة كالسرر والأرائك والأنهار تجري من بين أيديهم . { دعواهم فيها } قال بعض المفسرين : أي دعاؤهم ونداؤهم كما يدعو القانت بقوله : اللهم إياك نعبد : وقيل : الدعاء العبادة كقوله : { وأعتزلكم وما تدعون من دون الله } [ مريم : 48 ] وإنما تكون هذه عبادتهم لا على سبيل التكليف بل على سبيل الإلهام والعادة ابتهاجاً بذكر الله . وقيل : الادعاء بين المتخاصمين والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله من المعايب والإقرار له بالإلهية . قال القفال : أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما . وقيل : أي طريقتهم وسيرتهم وذلك لأن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قولهم سبحانك اللهم دعاء ولا دعوى . وقيل : أي تمنيهم كقوله : { ولهم ما يدعون } [ يس : 57 ] أي ما يتمنونه . وتقول العرب : ادّع عليّ ما شئت أي تمن فكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه ، ولقد كانوا في الدنيا يدعون في الحروب من يسكنون إليه ويستنصرونه فيقولون : يا آل فلان فأخبر الله تعالى عنهم أن أنسهم في الجنة بذكر الله وسكونهم بتحميده { وتحيتهم فيها سلام } أي بعضهم يحيي بعضاً بالسلام . وقيل : هي تحية الله أو الملائكة إياهم إضافة للمصدر إلى المفعول { وآخر دعواهم أن الحمد } هي « أن » المخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد { لله } على أن الضمير للشأن . قال أهل الظاهر من المفسرين : في سبب تخصيص هذه الأذكار بأهل الجنة أن قوله : { سبحانك اللهم } علم بين أهل الجنة وخدامهم إذا سمعوا ذلك منهم أتوهم بما يشتهونه . قال ابن جريج : ورد في الأخبار أنه إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا : { سبحانك اللهم } فيأتيهم الملك بذلك المشتهى ، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا : { الحمد لله رب العالمين } وقال القاضي : إنه وعد المتقين بالثواب العظيم فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك المواعيد قالوا سبحانك اللهم أي نسبحك عن الخلف في الوعد . وقيل : ألهم الله بني آدم في الجنة بعد انقراض الدنيا ما افتخر به الملائكة قبلهم في قولهم :
{ ونحن نسبح بحمدك } [ البقرة : 30 ] ويمكن أن يقال : إن لكل إنسان معراجاً بحسب قوته فإذا وصل العارف الصادق إلى صفات جلال الله تعالى قال سبحانك ، وإذا ارتقى منها إلى الذات قال اللهم ، فإذا عجز عن ذلك المضمار واحترق في أوائل تلك الأنوار رجع من عالم الجلال إلى عالم الإكرام فأفاض الخير على جميع المحتاجين ويدفع المخافات والمكاره عنهم بكل ما أمكنه وذلك قوله : { وتحيتهم فيها سلام } ثم إذا شاهدوا أثر نعمة الله عليهم بالاستفاضة والإفاضة اختتموا الكلام بقولهم : { الحمد لله رب العالمين } . وعلى هذا يدور أمرهم في العروج والنزول ما داموا في الدنيا فيكون كذلك حالهم في العقبى لقوله : « كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون » .
التأويل : { آلر } فيه إشارتان : إحداهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال : بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد . والثانية من الحق لنبيه عليه السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث ، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت : ياسين أي يا سيد فقلت : لبيك وسعديك والخير كله بيديك . وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبه { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] { تلك } أي هذه الآيات المنزلة عليك { آيات الكتاب الحكيم } الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك . والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها { إلى رجل منهم } لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره ، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله { قدم صدق } محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود ، أو هو العناية الأزلية « سبقت رحمتي غضبي » { لساحر مبين } صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس . إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي : الروح والقلب والعقل { يدبر } أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء . { إليه مرجعكم جميعاً } فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب { ارجعي إلى ربك } [ الفجر : 28 ] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع المردودين بغير الاختيار بالسلاسل والأغلال . ومن نتائجه تعلقات الدنيا واستيلاء صفات النفس { بالقسط } أي لكل بحسب كماله ونقصانه . جعل شمس الروح ضياء يستنير بها قمر القلب إذا وقع في مواجهتها ، وإذا وقع في مقابلة أرض النفس انكسف ولهذا سمي قلباً لتقلب أحواله بين الروح والنفس . وتلك الأحوال هي منازله ومقاماته لتعلموا عدد سنين المقامات وحساب الكشوف والمشاهدات { إن في اختلاف } ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية { وما خلق الله } في سموات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف والأخلاق وتبدل الأحوال { لآيات } دالة على التوحيد { لقوم يتقون } الأخلاق الذميمة { والذين هم عن آياتنا غافلون } وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها كالرهابين والبراهمة وبعض الفلاسفة والله تعالى أعلم .
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
القراآت : { لقضي إليهم } مبنياً للفاعل { أجلهم } بالنصب : ابن عامر ويعقوب . الآخرون مبنياً للمفعول ورفع { أجلهم } أو بدله بضم اللام وسكون الهاء : روى خلف عن الكسائي والاختبار عنه وعن غيره الإشمام { لي أن } بفتح الياء وكذلك { إني أخاف } : أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو . { نفسي أن } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع . { ولأدراكم } بلام الابتداء فعلاً مثبتاً : روى أبو ربيعة عن البزي وحمزة . وقرأ حمزة وعلي وأبو عمرو وخلف وورش من طريق النجاري والخراز عن جبيرة وهبيرة وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان ، وحماد ويحيى من طريق أبي حمدون بالإمالة فعلاً ماضياً منفياً بلا . الباقون : مثله ولكن بالتفخيم . { تشركون } بتاء الخطاب وكذكل في « النحل » و « الروم » : حمزة وعلي وخلف . الباقون بالياء .
الوقوف : { أجلهم } ط لأن ما بعده مستقبل فنحن نذر { يعمهون } ه { أو قائماً } ط { مسه } ط { يعملون } ه { ظلموا } لا لأن الواو للحال { ليؤمنوا } ط { المجرمين } ه { تعملون } ه { بينات } لا لأن ما بعده جواب « إذا » { أو بدله } ط . { نفسي } ج ط لأن « ان » النافية لها صدر الكلام ولكن القائل متحد { إليّ } ط ج لمثل ما قلنا { عظيم } ه { به } ط والوصل أولى للفاء أو لشدة اتصال المعنى { من قبله } ط { تعقلون } ه { بآياته } ط { المجرمون } ه { عند الله } ط { في الأرض } ط { يشركون } ه { فاختلفوا } ط { يختلفون } ه { من ربه } ج ط للابتداء بالأمر مع الفاء { فانتظروا } ج لاحتمال الابتداء أو التعليل { المنتظرين } ه .
التفسير : إنه سبحانه ابتدأ في هذه السورة بذكر شبهات القوم؛ فالأولى أنهم تعجبوا من تخصيص الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالنبوة فأزال ذلك التعجب بالإنكار وبالدلائل الدالة على صحة المبدا والمعاد فكأنه قيل : إنه ما جاء إلا بدليل التوحيد والإقرار بالمعاد فليس للتعجب معنى . ثم شرع في شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقولون أبداً اللهم إن كان محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء فأجابهم بقوله : { ولو يعجل الله } الآية . وقال القاضي : لما ذكر الوعيد على عدم الإيمان بالمبدإ والمعاد ذكر أن ذلك العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا وإلا نافى التكليف . وقال القفال : لما وصفهم فيما مر بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبيّن الله تعالى أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشر إليهم فلعلهم يؤمنون ، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن . كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها كما يجيء في الآية التالية ، وفي الرخاء كانوا يستعجلون النبي بالعذاب فقال ما معناه : ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما يعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لأميتوا وأهلكوا .
قال في الكشاف : أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير . فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل منه لهم . وقيل : التعجيل معناه طلب العجلة إلا أن الاستعجال أشهر وأظهر . فمعنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم . وقيل : هما متلازمان فكل معجل يلزمه الاستعجال إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به التكوين واللائق بهم الطلب . وسمي العذاب في الآية شراً لأنه أذى وألم في حق المعاقب به . ثم إن قوله { لو يعجل } كان متضمناً لمعنى نفي التعجيل فيمكن أن يكون قوله { فنذرهم } معطوفاً على منوي كأنه قيل : ولكن لا يعجل فيذرهم إلزاماً للحجة أو لمصالح أخرى . ثم بين أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه أظهروا العجل والطيش فقال : { وإذا مس الإنسان الضر } أي هذا الجنس { دعانا لجنبه } اللام في معنى الوقت كقولك : جئته لشهر كذا . وإن شئت قلت في موضع الحال لأن الظرف والحال متآخيان فيصح عطف أحدهما على الآخر وتأويل أحدهما بالآخر أي دعانا مضطجعاً { أو قاعداً أو قائماً } أو وقت اضطجاعه وقعوده وقيامه . والمراد أنه يدعو الله في جميع أحواله لا يفتر عن الدعاء . ثم إن خص الضر بالمرض احتمل أن يراد أنه يدعو الله حين كان مضطجعاً غير قادر على القعود أو قاعداً غير قادر على القيام ، أو قائماً لا يطيق المشي إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها . أو يراد أن من المضرورين من هو أسوأ حالاً وهو صاحب الفراش ، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود ، ومنهم المستطيع للقيام وكلهم لا يصبرون على الضراء . قال بعض المفسرين : الإنسان ههنا هو الكافر . ومنهم من بالغ فقال : كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به الكافر . وهذا شبه تحكم لورود مثل قوله تعالى : { هل أتى على الإنسان } [ الدهر : 1 ] إلا أن يساعده نقل صحيح . والأصح عند العلماء العموم لأن الإنسان خلق ضعيفاً لا يصبر على اللأواء ولا يشكر عند النعماء إلا من عصمه الله وقليل ما هم ، وهم الذين نظرهم في جميع الأحوال على المقدر المؤجل للأمور حسب إرادته ومشيئته فلا جرم إن أصابهم السراء شكروا وإن أصابهم الضراء صبروا فأفنوا إرادتهم في إرادته ورضوا بقضائه . قال الزجاج : في الآية تقديم وتأخير والتقدير : وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعداً أو قائماً : وضعف بأن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال الضر لأنه إذا كان داعياً على الدوام ثم نسي ذلك في وقت الرخاء كان أعجب . ومعنى { مرّ } مضى على طريقته التي له قبل مس الضراء ومرّ عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه .
ومعنى { كأن لم يدعنا } كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن { كذلك } مثل ذلك التزيين { زين للمسرفين ما كانوا يعملون } من تتبع الشهوات . والمزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان مفرع عن مسألة الجبر والقدر وقد مر مراراً . قال العلماء : سمي الكافر مسرفاً لأنه أنفق ماله من الاستعداد الشريف من القوى البدنية والأموال النفيسة في الأمور الخسيسة الزائلة من الأصنام التي هي أحقر من لا شيء ، ومن الشهوات الفانية التي لا أصل لها ولا دوام . والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس فصح ما قلنا .
ثم ذكر ما يجري مجرى الردع والزجر لهم عن إلقاء الشبه والأغاليط فقال : { ولقد أهلكنا القرون } وقد مضى تفسير القرن في أول الأنعام { ولما } ظرف لأهلكنا والواو في { وجاءتهم } للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم { رسلهم } بالدلائل ، والحجج على صدقهم وهي المعجزات . وقوله : { وما كانوا ليؤمنوا } إما أن يكون عطفاً على { ظلموا } أو يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي ، وإن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر والسبب في إهلاكهم تكذيب الرسل وعلم الله بإصرارهم { كذلك } أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي نجزي كل مجرم ، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم خاطب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : { ثم جعلناكم خلائف } أي استخلفناكم { في الأرض } بعد تلك القرون { لننظر كيف تعملون } خيراً أو شراً . استعير النظر للعمل الحقيقي الذي لا يتطرق إليه شك ، ويعني به العلم الذي يتعلق به الجزاء كما مر في « الأعراف » . قال قتادة : صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيراً بالليل والنهار . ثم حكى نوعاً ثالثاً من شبهاتهم فقال : { وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا } أي لا يؤمنون بالمعاد لأن كل من كان مؤمناً بالنشور فإنه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه ، وانتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم . طلبوا من الرسول أحد أمرين : إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله ، إما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض الآيات ووضع أخرى في مكانها . فأمره الله تعالى أن يقول في جوابهم { ما يكون لي } أي ما ينبغي وما يحل { أن أبدله من تلقاء نفسي } من قبل نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين الذي هو أسهل وأقل ليلزم منه نفي الأصعب الأكثر بالطريق الأولى . ثم أكد الجواب بقوله : { إن أتبع } أي ما أتبع { إلا ما يوحى إلي } إن نسخت آية تبعت النسخ وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل .
وقد تمسك بهذا نفاة القياس ونفاة جواز الاجتهاد وأجيب بأن رجوعهما أيضاً إلى الوحي . ونقل عن ابن عباس أن قوله : { إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم } منسوخ بقوله : { ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر } [ الفتح : 2 ] وضعف بأن النسخ إنما يكون في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية . قال المفسرون : هذا الالتماس منهم يحتمل أن يكون على سبيل السخرية . فقد روى مقاتل والكلبي أنهم خمسة نفر من مشركي مكة وهم المستهزؤون في قوله : { إنا كفيناك المستهزئين } [ الحجر : 95 ] . ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب ، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآناً آخر لا يكون كذلك . ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال : { لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم } ولا أعلمكم الله { به } على لساني . ومن قرأ بلام الابتداء . فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري ، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلاً لذلك دون غيري . وقرىء { لا أدرأكم به } بالهمزة . ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف ، أو يكون من الدرء الدفع . ومعنى ادرأته جعلته دارئاً أي لم أجعلكم بتلاوته خصماً تدرؤنني بالجدال وتكذبونني { فقد لبثت فيكم عمراً } أي بعضاً معتبراً من العمر وهو أربعون سنة { من قبله } أي من قبل نزول القرآن { أفلا تعقلون } فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهور مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي ، كان ذلك إنكاراً للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال { فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً } الآية . وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله لم يكن أحد أظلم منه . ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقيض مقصودهم من الالتماس فقال { ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم } إن لم يعبدوه { ولا ينفعهم } إن عبدوه ومن حق المعبود أن يكون مثيباً معاقباً . وفيه إشعار بأنها جماد ، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد ، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له { ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله } قد ذكرنا وجه ذلك في أوائل سورة البقرة في قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } [ الآية : 22 ] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله : { قل أتنبئون الله بما لا يعلم } والمراد أنه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجوداً لكان معلوماً للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور .
تقول : ما علم الله ذلك مني . والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط . وفي قوله : { في السموات ولا في الأرض } تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتفٍ معدوم . قوله : { سبحانه وتعالى عما يشركون } إما أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيهاً لنفسه عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به . ثم بيّن أن عبادة الأصنام بدعة وأن الناس - يعني العرب أو البشر كلهم - كانوا على الدين الحق فاختلفوا . وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة في قوله : { كان الناس أمة واحدة } [ الآية : 213 ] والمقصود ههنا تقبيح صورة الشرك وعبادة الأصنام من دون الله في أعينهم ، وتنفير طباعهم عن مثل هذا الأمر المستحدث الفظيع { ولولا كلمة سبقت من ربك } من بناء أمر الثواب والعقاب على التكليف لا على الإلجاء والقسر ، أو من تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة ، أو من قوله : « سبقت رحمتي غضبي » { لقضى بينهم } عاجلاً ولميز المحق من المبطل . ثم ذكر نوعاً رابعاً من أغاليطهم فقال : { ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه } وقد مر تفسيره في « الأنعام » في قوله : { لولا نزل عليه آية من ربه } [ الأنعام : 37 ] كأنهم لم يعتدّوا بالقرآن آية فاقترحوا غيره تعنتاً . { فقال إنما الغيب لله } هو المختص بعلمه { فانتظروا } نزول ما اقترحتموه وهذا أمر فيه تهديد ووعيد والله ورسوله أعلم .
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
القرآات : { يمكرون } بياء الغيبة : سهل وروح . الباقون : بالتاء الفوقانية . { ينشركم } النون : ابن عامر ويزيد . الباقون { يسيركم } من التسيير { متاع } بالنصب : حفص والمفضل . الباقون بالرفع { قطعاً } بسكون الطاء : ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب . والآخرون بفتحها { تتلو } بتاءين من التلاوة : حمزة وعلي وخلف وروح ، وروي عن عاصم { نبلو } بالنون ثم الباء الموحدة . { كل نفس } بالنصب الباقون : بتاء التأنيث { كل } بالرفع .
الوقوف : { آياتنا } ط { مكراً } ط ، { تمكرون } ه { والبحر } ط { في الفلك } ج ط للعدول مع أن جواب « إذا » منتظر ، { أحيط بهم } لا لأن قوله : { دعوا } بدل من { ظنوا } لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به ، وإن جعل { دعوا } جواباً عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه . { الدين } ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول { الشاكرين } ه { بغير الحق } ط . { على أنفسكم } ط ، إلا لمن جعله متعلقاً ب { بغيكم } { تعملون } ه { الأنعام } ط { عليها } لا لأن ما بعده جواب « إذا » . { بالأمس } ط { يتفكرون } ه { السلام } ط { مستقيم } ه { وزيادة } ط { ولا ذلة } ط ، { الجنة } ج ط { خالدون } ه { بمثلها } لا لأن قوله { وترهقهم } معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة . { عاصم } ج ط لأن الكاف لا يتعلق ب { عاصم } مع تعلقها بذلة قبله معنىً ، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما { مظلماً } ط { أصحاب النار } ج ط { خالدون } ه { وشركاؤكم } ج للعدول مع فاء التعقيب { تعبدون } ه { لغافلين } ه { يفترون } ه .
التفسير : لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عناداً ومكراً ولجاجاً أكد ذلك بقوله : { وإذا أذقنا } روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة ، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام - وقيل نسبوها إلى الأنواء - فقابلوا نعم الله بالكفران فذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة . وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة . وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه . قال في الكشاف : معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم . وهذا أيضاً من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد . و « إذا » الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في جواب الشرط كما في قوله : { إذا هم يسخطون } [ التوبة : 58 ] وفائدته أن يعلم أنهم فاجأوا وقوع المكر منهم في وقت الإذاقة وسارعوا إليه ولم يلبثوا قدر ما ينفضون عن رؤوسهم غبار الضر ولهذا قال سبحانه { قل الله أسرع مكراً } يقدر على إيصال جزاء مكرهم إليهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم ولكنه يمهلهم لأجل معلوم ليتضاعف خبثهم مع كونه محفوظاً بيانه قوله { إن رسلنا يكتبون ما تمكرون } وقد مر تحقيق هذا في تفسير قوله :
{ ويرسل عليكم حفظة } [ الأنعام : 62 ] . واعلم أن مضمون هذه الآية قريب من مضمون قوله : { وإذا مس الإنسان الضر } [ يونس : 12 ] إلا أن هذه زائدة عليها بدقيقة هي أنهم بعد الإعراض عن الدعاء يطلبون الغوائل ويقابلون الرحمة بالمكر والخديعة ولا يرضون رأساً برأس . ثم ضرب لأجل ما وصفهم به مثالاً حتى ينكشف المقصود تمام الانكشاف فقال : { هو الذي يسيركم } ومن قرأ { ينشركم } فكقوله : { فانتشروا في الأرض } [ الجمعة : 10 ] قال بعض العلماء : المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى ، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار . والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى ، غاية ذلك أن آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله : { والفلك التي تجري في البحر } [ البقرة : 164 ] قال القفال : هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلباً للمعاش ، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير . وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها ، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة : أولها الكون في الفلك ، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة ، والضمير في { جرين } للفلك على أنها جمع كما مر . وثالثها فرحهم بها . والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضاً : أوّلها { جاءتها } أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاصف ذات عصوف كلابن لذات اللبن ، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح . وثانيها { وجاءهم الموج من كل مكان } أي من جميع جوانب أحياز الفلك ، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر . وثالثها { وظنوا أنهم أحيط بهم } أي غلب على ظنونهم الهلاك . وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار ، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلاً في الهلاك . وقرىء { في الفلكي } والياء زائدة كما في « الأحمري » أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه . قال في الكشاف : وإنما التفت في قوله : { وجرين بهم } إلى آخره من الخطاب الى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح . وقال الإمام فخر الدين الرازي : الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في قوله : { إياك نعبد } [ الفاتحة : 5 ] دليل الرضا والتقريب . قلت : هذا وجه حسن . أما قوله : { دعوا الله مخلصين } فقد قال ابن عباس : تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً ، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية . وقال الحسن : ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري .
وقال ابن زيد : هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون ، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله . وعن أبي عبيدة : أن المراد من ذلك الدعاء قولهم : « أهيا شراهياً » تفسيره « يا حي يا قيوم » يحكى أن رجلاً قال لجعفر الصادق رضي الله عنه : ما الدليل على إثبات الصانع؟ فقال : أخبرني عن حرفتك . فقال : التجارة في البحر قال : صف لي كيف حالك؟ فقال : ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة . قال جعفر الصادق رضي الله عنه : هل وجدت في قلبك تضرعاً؟ فقال : نعم . قال جعفر : فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت . { لئن أنجيتنا من هذه } الشدة كما مر في الأنعام { يبغون في الأرض بغير الحق } البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد ، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله : { بغير الحق } قال في الكشاف : إنما زاد هذا القيد احترازاً من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة . قلت : ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله { ويقتلون النبيين بغير الحق } [ البقرة : 61 ] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل : يتمتعون متاع الحياة الدنيا . ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام ، أو على أنه خبر وقوله : { على أنفسكم } صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي قال صلى الله عليه وسلم : « أسرع الخير ثواباً صلة الرحم وأعجل الشر عقاباً البغي واليمين الفاجرة » وروي « اثنتان يعجلهما الله في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين » وعن محمد بن كعب : ثلاث من كن فيه كن عليه : البغي والنكث والمكر . قال تعالى : { إنما بغيكم على أنفسكم } أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياماً قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها { ثم } إلى ما وعدنا من المجازاة { مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون } وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت . ثم ذكر مثلاً لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال : { إنما مثل الحياة الدنيا } أي صفتها العجيبة الشأن { كماء أنزلناه من السماء فاختلط به } أي اشتبك بسبب هذا الماء { نبات الأرض } فيحتمل أن يراد أن نباته ثم وصوله إلى حد الكمال كليهما بسبب المطر ، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدإ حدوثه غير مهتز ولا مترعرع ، فإذا نزل المطر عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض وتكاثف .
{ حتى إذا أخذت الأرض زخرفها } قال الجوهري : الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزوّر . { وازينت } أصله تزينت فأدغم واجتلبت لذلك همزة الوصل . وهذا كلام في نهاية الفصاحة وفيه تشبيه الأرض بالعروس التي تأخذ الثياب الفاخرة من كل لون فتلبسها ، ثم تزين بجميع الأقسام المعهودة لها من حمرة وبياض ونحوها { وظن أهلها } أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا { أنهم قادرون عليها } متمكنون من تحصيل ريعها . { أتاها أمرنا } بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات . { ليلاً أو نهاراً } أي حين غفلتهم بالنوم أو حين اشتغالهم وتقلبهم في طلب معايشهم { فجعلناها } أي زرعها { حصيداً } شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله . { كأن لم تغن } أي كأن الشأن لم يلبث زرعها { بالأمس } أي في زمان قريب . يقال : غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به . والأمس مثل في الوقت القريب . هذا والصحيح عند علماء البيان أن هذا التشبيه من التشبيه المركب . قال في الكشاف : شبهت حال الدنيا في شرعة تقضيها وانقراض نعيمها بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعدما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه . وقيل : المراد أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء به وقع اليأس منه ، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا اطمأن بها وعظمت رغبته فيها وانتظم أمره بعض الانتظام أتاه الموت . وتلخيصه أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد . ويحتمل أن يكون هذا مثلاً لمن لا يؤمن بالمعاد ، فإن الأرض المزينة إذا زال حسنها فإنه يعود رونقها مرة أخرى فكذا النشور { كذلك نفصل الآيات } نذكر واحدة منها بعد الأخرى لتكون كثرتها وتواليها سبباً لقوة اليقين وموجباً لزوال الشك { لقوم يتفكرون } في أحوال الآفاق والأنفس . ثم لما نفر المكلفين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بقوله : { والله يدعوا إلى دار السلام } ومثله ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « سيد بنى داراً وصنع مائدة وأرسل داعياً فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد ، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد ، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم » وعنه صلى الله عليه وسلم : « ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثلقين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام » واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية .
فقيل : لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف ، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات ، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلاً وشرفاً وبهجة وسروراً . وقيل : سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات . وقيل : لفشوّ السلام بينهم { تحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم } [ الرعد : 24 ] { سلام قولاً من رب رحيم } [ يس : 58 ] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال { ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته . وقالت المعتزلة : المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها . والمراد من الهداية الألطاف ، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال : { للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثلاثة : فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله ، وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم . وأما الحسنى فقال في الكشاف : المراد المثوبة الحسنى . وقال ابن الأنباري : العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها ، ولذلك ترك موصوفها . وأما الزيادة فحملها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده ، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية . وقالت المعتزلة : الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه ، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة ، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله : { ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } [ فاطر : 30 ] وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدراً بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره : أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة . أما إذا كان غير مقدر كما لو قال : أعطيتك الحنطة زيادة . لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه . والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة ، فالزيادة عليها شيء مغاير لكل ما في الجنة . وعن علي عليه السلام : الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة . وعن ابن عباس : الحسنى الجنة والزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . وعن مجاهد : مغفرة من الله ورضوان . وعن يزيد بن سمرة : هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئاً إلا أمطرتهم . هذا شأن المنافع الحاصلة لهم ، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله : { ولا يرهق } أي لا يغشى { وجوههم قتر } غبرة فيها سواد { ولا ذلة } ولا أثر هوان وكسوف بال .
ثم أشار إلى كون تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله : { أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون } وهذا معنى قول علماء الأصول « الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم » ثم بين حال الفريق الآخر بقوله : { والذين } أي وجزاء الذين { كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها } أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحد بسيئة مثلها لا يزاد عليها . ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها . قالت المعتزلة : وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل ، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله . { وترهقهم ذلة } فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سبباً لذلهم وهوانهم على أنفسهم ، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي الله عنه :
كل بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
ومريض أنت عائده ... قد أتاه الله بالفرج
{ ما لهم من الله من عاصم } أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه ، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين . والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله : { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } [ غافر : 16 ] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال : { كأنما أغشيت } أي ألبست { وجوههم قطعاً من الليل } من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة و { مظلماً } صفته . ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعه فمظلماً حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في { من الليل } أو { أغشيت } لأن قوله : { من الليل } صفة لقوله : { قطعاً } فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه الى الصفة قاله في الكشاف . واعلم أن جمعاً من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله : { والذين كسبوا السيئات } هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله : { فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم } [ آل عمران : 106 ] وقوله : { ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة أولئك هم الكفرة الفجرة } [ عبس : 40 - 42 ] ولقوله بعدها { ويوم نحشرهم } والضمير عائد إلى { هؤلاء } . ثم إنه وصفهم بالشرك . وقال الآخرون : اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة . ثم شرع بعض أحوال المشركين في القيامة فقال : { ويوم نحشرهم } منصوب بإضمار « اذكر » أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس . وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله .
وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق ، فإذا اتخذ الممكن معبوداً برىء من ذلك في مقام لا ينفع إلا لصدق . قال في الكشاف : { مكانكم } أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم . وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العرب . و { أنتم } لتأكيد المضير في { مكانكم } لسده مسد قوله : « الزموا » . { وشركاؤكم } عطف عليه . { فزيلنا بينهم } ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا . قيل : عين الكلمة « واو » لأنه من زال يزول . وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة « فعيل » أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد . وقيل : هي من زلت الشيء أزيله ، فعينه على هذا ياء والوزن « فعل » ونظير زيلنا قوله : { ونادى أصحاب الأعراف } [ الآية : 48 ] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن { وقال شركاؤهم } في صحة هذه الإضافة وجوه منها : أنهم جعلوا نصيباً من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم . ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله : { مكانكم } ومنها أنهم أثبتوا هذه الشركة والشركاء . وقيل : هم الملائكة لقوله : { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون } وقيل : كل من عبد من دون الله . وقيل : الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين . وكيف تنطق هذه الأصنام؟ وقيل : لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق . ثم هل يبقيهم أو يفنيهم؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه . وقيل : يخلق فيهم الكلام فقط . وهذا الخطاب تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديداً في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة لا ، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه . وقالت الأشاعرة : لا يسأل عما يفعل . أما قول الشركاء { ما كنتم إيانا تعبدون } وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم : { فكفى بالله شهيداً } الآية . ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور . وقيل : لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين . وقيل : إنهما ما أقاموا لأعمال الكفار وزناً فجعلوها كالعدم . وقيل : المراد أنهم عبدوا الشياطين حيث أمروهم باتخاذ الأنداد ، ومن جوز الكذب في القيامة فلا إشكال . و { هنالك } أي في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان . { تبلوا كل نفس } تختبر وتذوق { ما أسلفت } من العمل . ومن قرأ بالنون فالمعنى نفعل بها فعل الخابر ، أو نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية لأجل ما أسلفت من الشر . ومن قرأ { تتلو } بتائين فمعناه تتبع ما أسفلت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار .
أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر . { وردّوا إلى الله مولاهم الحق } الصادق ربوبيته { وضل عنهم } وضاع عنهم { ما كانوا } يدعون أنهم شركاء الله أو ما كانوا يختلفون من شفاعة الآلهة . والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك .
التأويل : { وإذا أذقنا الناس } ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود { من بعد ضراء } وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف { إذا لهم مكر في آياتنا } بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول . { قل الله أسرع مكراً } فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد { من حيث لا يشعرون } { هو الذي يسيركم } في بر البشرية وبحر الروحانية ، أو في بر العبودية وبحر الربوبية { حتى إذا كنتم } في فلك جذبات العناية { وجرين بهم } بهبوب نسيم شهود الجمال { وفرحوا } بالوصول والوصال { جاءتها } نكباء تجلى صفات الجلال { وجاءهم } موج البلاء والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل { فلما أنجاهم } فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال ، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق { كماء أنزلناه } من سماء القلب إلى أرض البشرية { فاختلط به } الصفات المولدة من أرض البشرية { مما يأكل الناس والأنعام } من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية { أتاها } حكمنا الأزلي { ليلاً } عند استيلاء ظلمات صفات النفس { أو نهاراً } عند بقاء ضوء الفيض الروحاني ، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة . { والله يدعوا إلى دار السلام } وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الأثنينية والجهالة { ويهدي من يشاء } بجذبات العناية { إلى صراط مستقيم } يؤدي إلى السير بالله في الله . { للذين أحسنوا الحسنى } فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه ، والزيادة الجنة وما فيها من النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق .
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
القراآت : { كلمات ربك } وكذلك في آخر السورة على الجمع : أبو جعفر ونافع وابن عامر { لا يهدي } مثل { يرمي } : حمزة وعلي وخلف { يهدي } بسكون الهاء وتشديد الدال : أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عباس بإشمام الفتحة قليلاً { يهدي } بكسر الهاء وتشديد الدال : عاصم غير يحيى وجبلة ورويس { يهدي } بكسرتين والتشديد : يحيى { يهدي } بفتحتين والتشديد : ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس .
الوقوف : { يدبر الأمر } ط { الله } ج { تتقون } ه ج ط { ربكم الحق } ج ط للاستفهام مع الفاء { إلا الضلال } ج ط { تصرفون } ه { لا يؤمنون } ه { ثم يعيده } الأول ط { تؤفكون } ه { إلى الحق } ط { للحق } ط { أن يهدي } ج ط لما مر { فما لكم } ص لحق الاستفهام الثاني { تحكمون } ه ط { إلا ظناً } ط { شيئاً } ط { شيئاً } ط { يفعلون } ه { العالمين } ه { افتراء } ط { صادقين } ه { تأويله } ط { الظالمين } ه { لا يؤمن به } ط { بالمفسدين } ه { عملكم } ج لأن { أنتم } مبتدأ والعامل واحد { تعملون } ه .
التفسير : لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية ، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسؤول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس . فالحجة الأولى قوله : { قل من يرزقكم من السماء والأرض } بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات . { أمن يملك السمع والأبصار } خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة ، وكان صلى الله عليه وسلم يقول : « سبحان من بَصَّرَ بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم » ولما في تحصينهما في الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة . { ومن يخرج الحي من الميت } الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام . { ومن يدبر الأمر } عمم بعدما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها . وذكر كلها كالمتعذر . { فسيقولون الله } وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى ، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله { فقل أفلا تتقون } الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر . { فذلكم } الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة { الله ربكم الحق } الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان . { فماذا بعد الحق } « ذا » مزيدة و « ما » نافية أو استفهامية أو مجموع « ماذا » كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق { إلا الضلال } والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكناً لذاته باطلاً دعوى الإلهية فيه ، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحداً في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجباً هف محال ولهذا ختم الآية بقوله : { فأنى تصرفون } كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال ، إذ لا واسطة بين الأمرين ، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر .
{ كذلك } أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال ، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك { حقت كلمة ربك } . وتفسير الكلمة { أنهم لا يؤمنون } على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل ، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام . احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى : { فأنى تصرفون } أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار . وقالت الأشاعرة : قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال : { حقت كلمة ربك } وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر فيه ، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه ، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلاً وخبره الصدق كذباً وقدرته عجزاً وإرادته عبثاً وإشهاده باطلاً . الحجة الثانية { قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده } وإنما قال : { ثم يعيده } مع أن الخصم لا يعترف به لأنه قدم في هذه السورة دلال الإعادة بحيث لا يتمكن العاقل من دفعها إذا تأمل وأنصف فبنى الأمر على ذلك . وإنما أمر نبيه أن ينوب عنهم في الجواب بقوله { قل الله } الآية . تنبيهاً على أن هذا المعنى بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه الى إقرار الخصم المكابر ، فكأنه قيل : تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن ينطقوا بكلمة الحق . وقوله : { فأنى تؤفكون } كقوله : { فأنى تصرفون } وقد مر في « المائدة » . الحجة الثالثة { قل هل من شركائكم من يهدي } الآية . الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلاً ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن ، فحكى عن الخليل صلى الله عليه وسلم { الذي خلقني فهو يهدين } [ الشعراء : 78 ] وعن موسى { ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى } [ طه : 5 ] وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم { سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى } [ الأعلى : 1 - 3 ] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه من الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة ، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته ، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلاً عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة .
وقال الزجاج : يقال : هديت للحق وإلى الحق بمعنى ، فجمع بين العبارتين . ويقال : هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله : { أمن لا يهدي } وسائر القراآت أصلها « يهتدي » فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين ، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها . قيل : هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها { إلا أن يهدى } وأجيب بوجوه منها : أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله : { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً } [ التوبة : 31 ] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية ، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله . ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله : { إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم } [ فاطر : 14 ] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا أن تهدى . ومنها أن البنية عندنا ليست بشرط في صحة الحياة والعقل فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة ، ثم إنها تشتغل بهداية الغير ، ومنها أن المراد من الهدي النقل والحركة يقال : هديت المرأة زوجها أي نقلت إليه ، فالمعنى لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه . ثم عجب من مذهبهم الفاسد باستفهامين متواليين فقال : { فما لكم كيف تحكمون } .
ثم بين ما بنوا عليه أمر دينهم فقال : { وما يتبع أكثرهم إلا ظناً } أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء ، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع . { إن الظن } في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه { لا يغني من الحق } وهو العلم والتحقيق { شيئاً } من الغناء . والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال . ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله : { إن الله عليم بما يفعلون } . وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن . وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكاً . ولما فرغ من دلائل التوحد شرع في إثبات النبوة فقال : { ما كان هذا القرآن أن يفترى } أي افتراء من دون الله أو كلمة « أن » بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى . والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى .
{ ولكن } كان { تصديق الذي بين يديه } من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها ، ونفس هذا التصديق أيضاً معجز لأن أقاصيصه موافقه لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه ، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقاً فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة . أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله : { وتفصيل الكتاب } أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله : { كتاب الله عليكم } [ النساء : 24 ] قال في الكشاف قوله : { لا ريب فيه من رب العالمين } داخل في حيز الاستدراك كأنه قال : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين ، وجوز أن يكون { من رب العالمين } متعلقاً بتصديق وتفصيل و { لا ريب فيه } اعتراض كقولك : زيد لا شك فيه كريم . والمعنى ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب فيه . ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهماً على سبيل الإنكار { أم يقولون افتراه قل } إن كان الأمر كما تزعمون { فأتوا } أنتم على وجه الافتراء { بسورة مثله } في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية والفصاحة { وادعوا من استطعتم من دون الله } أي لا تستعينوا بالله وحده ثم استعينوا بكل من سواه { إن كنتم صادقين } أنه افتراه . قال بعض العلماء : هذه الآية في سورة يونس وهي مكية ، فلعل المراد بالسورة المتحدّي بها هذه السورة . والأصح أن التحدي واقع على أقصر سورة . قالت المعتزلة : لو لم يكن الإتيان بمثل القرآن صحيح الوجود في الجملة لم يتحدّ العرب به لكنهم تحدّوا بذلك فدل على أن القرآن محدث إذ لو كان قديماً والإتيان بالقديم محال لم يصح هذا التحدي . وأجيب بأن القرآن يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله وعلى هذه الحروف والأصوات المحدثة ، والتحدي إنما وقع بهذه لا بتلك { بل كذبوا } سارعوا إلى التكذيب { بما لم يحيطوا بعلمه } وهو القرآن { ولما يأتهم تأويله } ومعنى التوقع فيه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليداً للآباء ، وكذبوا به بعد التدبر وتكرير التحدي عليهم واستيقان عجزهم عن هذا بغياً وحسداً وعناداً . وذلك إنما حملهم على التكذيب أوّلا وآخراً وجوه منها : أنهم وجدوا في القرآن أقاصيص الأولين ولم يعرفوا المقصود منها فقالوا أساطير الأوّلين ، وخفي عليهم أن الغرض منها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل الأمم من العز إلى الذل وبالعكس ، ليعرف المكلف أن الدنيا ليست مما يبقى ، فنهاية كل حركة سكون وغاية كل سكون أن لا يكون كقوله : عز من قائل
{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } [ يوسف : 111 ] . ومنها أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئاً ساء ظنهم بالقرآن فأجاب الله تعالى عنه بقوله : { هو الذي أنزل عليك الكتاب } [ آل عمران : 7 ] إلى قوله : { وأخر متشابهات } [ آل عمران : 7 ] الآية . ومنها أنهم رأوا القرآن يظهر شيئاً فشيئاً فاتهموا النبي وقالوا : { لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] ومنها أنهم وجدوا القرآن مملوءاً من حديث الحشر والنشر ، وكانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا ذلك . وأنهم وجدوا فيه تكاليف كثيرة من الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وكانوا يقولون . إن إله العالم غني عنا وعن طاعاتنا { كذلك كذب الذين من قبلهم } يعني قبل النظر في معجزات أنبيائهم . قال أهل التحقيق : في الآية دلالة على أن من كان غير عارف بوجوه التأويل قد يقع في الكفر والبدعة ، لأن ظواهر النصوص قد تتعارض فيفتقر هنالك إلى تطبيق التنزيل على التأويل . وقيل : معنى الآية أن القرآن كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الأخبار بالغيوب ومن جملتها أحوال الآخرة . فقوله : { بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } إشارة إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز ، وقوله : { ولما يأتهم تأويله } إشارة إلى تكذيبهم قبل أن يمتحنوا غيوبه هل تطابق الواقع أم لا . ثم ختم الآية بقوله : { فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } والمراد أنهم طلبوا الدنيا وأعرضوا عن الآخرة فلم تبق عليهم الدنيا وفاتتهم الآخرة فبقوا في خسران الدارين . وقيل : المقصود عذاب الاستئصال الذي نزل بالمكذبين قبلهم . ثم قسم طوائف الأمم المكذبين فقال : { ومنهم من يؤمن به } أي بالقرآن أو بالرسول أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند { ومنهم } من يشك فيه لا يصدق به لا ظاهراً ولا باطناً ، ويمكن أن يقال : المراد به قسمتهم في الاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من يبقى على الكفر فتكون الآية كالعذر في تبقيتهم وعدم استئصالهم { وربك أعلم بالمفسدين } فيجازيهم على حسب مراتبهم في التكذيب ويعلم طوياتهم هل يتوبون أو يصرفون . ثم بين اختصاص كل مكلف بأفعاله وبنتائج أعماله من الثواب والعقاب فقال : { وإن كذبوك فقل لي عملي } أي جزاء عملي على الطاعة والإيمان وتبليغ الرسالة { ولكم عملكم } قال مقاتل والكلبي : هي منسوخة بآية القتال . والتحقيق أن آية القتال لا تدفع شيئاً من مدلولات هذه فلا نسخ والله أعلم .
التأويل : { قل من يرزقكم } أي من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس ويخرج من أرض النفس نبات الأفعال والأعمال ، وينزل من سماء القلب مطر أثار فيض الروح ويخرج من أرض النفس نبات الصفات البشرية والحيوانية . أو ينزل من سماء الروح مطر فيض الروح ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة ، أو ينزل من سماء القدرة مطر تجلي الصفات والفيض الرباني ويخرج من أرض الروح المحبة والأخلاق الإلهية ، أو ينزل من سماء الذات مطر تجلي الصفات ويخرج من أرض الوجود نبات الفناء في الله وثمرات البقاء بالله { أمن يملك السمع والأبصار } فيكون سمعه الذي به يسمع ، وبصره الذي به يبصر .
{ يخرج الحي من الميت } النفس من القالب والقلب من الروح والروح من القلب وبالعكوس { ومن يدبر } أمر الإنسان بالتربية من التراب إلى أن يصل إلى رب الأرباب . فسيقولون هذه الأحوال كلها من الله فقل لمن بلغ نظره إلى هذه المراتب العلية وإنها عتبة باب التوحيد والمعرفة { أفلا تتقون } بالله من غيره لتدخلوا بيت الوحدة { كذلك حقت كلمة ربك } هكذا جرى القلم في الأزل على الذين خرجوا عن قبول فيض النور حين رش على الخلق من نوره . { وتفصيل الكتاب } وتفصيل الجملة التي هي مكتوبة عنده في أم الكتاب وهو علمه القائم بذاته . { وربك أعلم بالمفسدين } الذين أفسدوا استعدادهم الفطري والله أعلم .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
القراآت : { أفأنت } بتليين الهمزة ونحوه : الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف . { ولكن الناس } بالتخفيف والرفع : حمزة وعلي وخلف { يحشرهم } بالياء : حفص الباقون بالنون { نرينك أو نتوفينك } بالنون الخفيفة : رويس { آلان } بوزن « عالان » بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام حيث كان : أبو جعفر ونافع وزمعة وحمزة في الوقف { ربي إنه } بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع . { فليفرحوا } بياء الغيبة { تجمعون } بتاء الخطاب : ابن عامر ويزيد . وقرأ زيد على ضده ، وقرأ رويس كليهما على الخطاب . والباقون على الغيبة فيهما .
الوقوف : { إليك } ط { لا يعقلون } ه { إليك } ط { لا يبصرون } ه { يظلمون } ه { بينهم } ط { مهتدين } ه { يفعلون } ه { رسول } ج ط { لا يظلمون } ه { صادقين } ه { ما شاء الله } ط { أجل } ط { ولا يستقدمون } ه { المجرمون } ه { آمنتم به } ط ، { تستعجلون } ه { الخلد } ج ط للاستفهام مع أن القائل واحد { تكسبون } ه { أحق هو } ط { بمعجزين } ه { لافتدت به } ط { العذاب } ج ط للعطف على { أسروا } دون { رأوا } { يظلمون } ه { والأرض } ط { لا يعلمون } ه { ترجعون } ه { للمؤمنين } ه { فليفرحوا } ط { يجمعون } ه { وحلالاً } ط { تفترون } ه { القيامة } ط { لا يشكرون } ه .
التفسير : إن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان خر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابحه في كلامه معرضة عن جهات محاسنه فيه ، وكما أن الصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت ، والعمى في العين أمر ينافي حصول إدراك الصورة ، فكذلك حصول هذا البغض الشديد يضاد وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه ، فبين الله سبحانه في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد { يستمعون إليك } إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يسمعون ولا يقبلون وينظرون إليك يعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يتبصرون ولا يصدقون . قال أهل المعاني : المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف النظر . فكان في المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظ المعنى ووحد النظر حملاً على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم . ثم قال : أتطمع أن تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ، أو تقدر على هداية العمي ولا سيما إذا قرن بفقد البصر فقد البصيرة ، إنما يقدر على ردهم إلى حالة الكمال خالق القدر والقوى وحده . وهذا الحصر إنما يفهم من قوله : { أفأنت } . والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج أصلاً أعرض عنه ولم يستوحش من ذلك لأن التقصير من المزاج لا من الصنعة والحذق . ثم أكد عدم قابليتهم في الفطرة مع إشارة إلى ما يلحقهم من الوعيد يوم القيامة بقوله : { إن الله لا يظلم } الآية .
فسرها المعتزلة بأن المراد من نفي الظلم أنه ما ألجأ أحد إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم أقدموا عليها . وأجاب الواحدي عنه بأنه إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا اعتراض عليه . وإنما قال : { ولكن الناس أنفسهم يظلمون } لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب . والتحقيق أنه نفى الظلم عنه لأنه وقوع فريق القهر ضروري ، ونسب الظلم إليهم لخصوص وقوعهم في الطريق وفيه دقة . ثم ذكر وعيد الكفار فقال : { ويوم يحشرهم } أي واذكر يوم يحشرهم { كأن لم يلبثوا } في محل النصب على الحال أي مشبهين بمن لم يلبث { إلا ساعة } وقوله { يتعارفون } إما حال أخرى أو بيان لقوله : { كأن لم يلبثوا } لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد . ويجوز أن يكون قوله : { ويوم يحشرهم } متعلقاً ب { يتعارفون } والمراد باللبث . قيل : لبثهم في الدنيا وقيل في القبور استقلوا المدد الطوال إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم واستقصروها للدهش والحيرة ، أو لطول وقوفهم في الحشر ، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا واستحقروها . وأما التعارف فقد قيل : يعرّف بعضهم بعضاً ما كانوا عليه من الخطإ والكفر وقيل : يعرف كل واحد أهل معرفته . والجمع بين ذلك وبين قوله : { ولا يسأل حميم حميماً } [ المعارج : 10 ] أن هذا تعارف توبيخ وتضليل يقول كل فريق لصاحبه أنت أضللتني يوم كذا ، أو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة . وإنما حذف « جميعاً » في هذه الآية اكتفاء بما في الآية السابقة { ويوم نحشرهم جميعاً ثم نقول للذين أشركوا } [ الأنعام : 22 ] ولأن الآية سيقت هناك لبيان حشر العابدين والمعبودين فأكد بقوله : { جميعاً } ليشمل الفريقين صريحاً والله أعلم . قوله : { قد خسر } استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل : ما أخسرهم! وفيه شهادة من الله على خسرانهم . وجوز في الكشاف أن يكون على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك . ثم أكد خسرانهم بقوله : { وما كانوا مهتدين } أي في رعاية مصالح هذه التجارة لأنهم أعطوا الكثير الشريف الباقي وقنعوا بالقليل الخسيس الفاني كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة نفيسة فاشتراها بكل ماله ، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله .
ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وإما نرينك } وجوابه محذوف . وقوله : { فإلينا مرجعهم } جواب { أو نتوفينك } والمعنى وإما نرينك في أعدائك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك ، أو نتوفينك قبل أن تدركه فنحن نريكهم في الآخرة لأن مرجع الكل إلينا . ولقد صدق الله وعده فقد أراه في هذه الدار خزيهم وقهرهم بالقتل والأسر والاستعلاء عليهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم ، والذي سيريه في الآخرة أكثر وأدوم يدل عليه لفظ « ثم » لتبعيد الرتبة في قوله : { ثم الله شهيد على ما يفعلون } ولا يخفى نتيجة هذه الشهادة من السخط والعقاب ، ويحتمل أن يراد إنطاق جوارحهم يوم القيامة جعل ذلك بمنزلة شهادة الله .
ثم بيّن أنه ما أهمل أمة من الأمم من رسول في وقت من الأوقات فقال : { ولكل أمة رسول } وزمان الفترة محمول على ضعف دعوة النبي صلى الله عليه وسلم المتقدم ووقوع موجبات التخليط في شرعه . { فإذا جاء رسولهم } فبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون { قضى بينهم بالقسط } أي حكم وفصل بالعدل فأنجى الرسول والمصدقون وعذب المكذبون فهذه الآية نظيرة قوله : { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً } [ الإسراء : 15 ] ويحتمل أن يقال : المراد ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول ينسبون إليه ويدعون به فكأنه تعالى يقول : أنا شهيد على أعمالهم ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة ، مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بالكفر والإيمان . { فإذا جاء رسولهم } وشهد لهم أو عليهم { قضى بينهم } والمراد منه المبالغة في إظهار العدل والنصفة فتكون الآية كقوله : { فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } [ النساء : 41 ] ثم ذكر شبهة أخرى من شبهات الكفرة ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب كانوا { يقولون متى هذا الوعد } استبعاداً لنزوله وقدحاً في نبوته وهذا مما يؤكد القول الأوّل في الآية المتقدمة ، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في دار الآخرة لحصول اليقين والمعرفة حينئذٍ . وأيضاً قوله : { إن كنتم صادقين } لفظ الجمع موافق لقوله : { ولكل أمة رسول } ثم أمره أن يجيب بما يحسم مادة الشبهة وهو قوله : { قل لا أملك لنفسي ضراً } من مرض أو فقر { ولا نفعاً } من صحة أو غنى { إلا ما شاء الله } قال العلماء : إنه استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب . ثم بين أن أحداً لا يموت إلا بالقضاء ، وأن لعذاب كل طائفة أمداً محدوداً لا يتجاوزه فلا وجه للاستعجال . فقال و { لكل أمة أجل } الآية . وقد مر تفسير الآية في أوائل الأعراف إلا أنه أدخل الفاء ههنا في الجزاء ، فإنه بنى الشرط على الاستئناف أو البيان بخلاف ما هنالك فإنه جعل الشرط مرتباً على قوله : { ولكل أمة أجل } [ الأعراف : 34 ] فلم يحسن الجمع بين الفاءين . ثم زيف رأيهم في استعجال العذاب مرة أخرى فقال : { قل أرأيتم } أي أخبروني { إن أتاكم عذابه بياتاً } أي في حين الغفلة والراحة . { أو نهاراً } حين الاشتغال بطلب المعاش كما مر في أول الأعراف { ماذا يستعجل } أي شيء يستعجل { منه } أي من العذاب { المجرمون } وإنما لم يقل « ماذا يستعجلون منه » دلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام ، لأن حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ مجيئه فضلاً عن أن يستعجله .
و « من » للبيان أو للابتداء والمعنى أن العذاب كله مر المذاق موجب للنفار فأيّ شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ أو المراد التعجب كأنه قيل : أيّ شيء هائل شديد يستعجلون؟ وقيل : الضمير في « منه » لله تعالى وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه . و « ماذا » الجملة مفعول { أرأيتم } ويجوز أن يكون جواباً للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني ، ثم تتعلق الجملة ب { أرأيتم } ويجوز أن يكون اعتراضاً وجواب الشرط { ثم إذا وقع آمنتم به } والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان ، ودخول حرف الاستفهام على « ثم » كدخوله على الواو والفاء إلا أنه على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب { آلآن } آمنتم به { وقد كنتم به تستعجلون } على جهة التكذيب والإنكار وقوله { ثم قيل } عطف على قيل المضمر قبل { آلآن } والحاصل ان الذي تطلبونه ضرر محض عارٍ عن المنفعة ، والعاقل لا يطلب مثل ذلك . وإنما قلنا إنه ضرر محض لأنه إذا وقع العذاب فإما أن تؤمنوا وإيمان اليأس غير مقبول ، وإما أن لا تؤمنوا فيحصل عقيب ذلك عذاب آخر أشد وأدوم ويقال على سبيل الإهانة . { ذوقوا عذاب الخلد } فإن قلتم إلهنا أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا الوعيد والتهديد؟ أجبتم { هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون } فالجزاء مرتب على العمل ترتب المعلول على العلة كما يقوله الحكيم ، أو ترتب الأجر الواجب عند المعتزلة ، أو بحكم الوعد المحض عند أهل السنة . وتفسير الكسب مذكور في البقرة في قوله : { لها ما كسبت ولكم ما كسبتم } [ الآية : 134 ] .
ثم حكى عنهم أنهم بعد هذه البيانات استفهموا تارة أخرى عن تحقيق العذاب فقال : { ويستنبئونك أحق هو } وهو استخبار على جهة الاستهزاء والإنكار أي أحق ما تعدنا به من نزول العذاب في العاجل؟ وهذا السؤال جهل محض لأنه تقدم ذكره مع الجواب مرة واحدة فلا وجه للإعادة ، ولأنه قد تبين بالبراهين القاطعة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيلزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه . وقيل : المراد أحق ما جئت به من القرآن والشرائع؟ وقيل : أي ما تعدنا من البعث والقيامة؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله : { قل إي وربي } ومعناه نعم ولكنه مستعمل مع القسم ألبتة . وفائدة هذا القسم في جوابهم أن يكون قد أبرز الكلام معهم على الوجه المعتاد بينهم استمالة لقلوبهم . ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن حد الهزل وأدخله في باب الجد .
فقد يكون هذا القدر مقنعاً إذا لم يكن الخصم ألد . ثم أكد مضمون المقسم عليه بقوله { وما أنتم بمعجزين } فائتين العذاب . والغرض التنبيه على أن أحداً لا يدافع نفسه عما أراد الله وقضى . ثم زاد في التأكيد بقوله : { ولو أن لكل نفس } الآية . وقد مر مثله في « آل عمران » و « المائدة » . وقوله : { ظلمت } صفة لنفس . أما قوله : { وأسروا الندامة } فقد قيل : الإسرار بمعنى الإظهار والهمزة للسلب أي أظهروا الندامة حينئذٍ لضعفهم وليس هناك تجلد . والمشهور أنه الإخفاء وسببه أنهم بهتوا حين عاينوا ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا صراخاً ولا بكاء ، أو أخفوا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم . وهذا التزوير في أول ما يرون العذاب ، أما عند إحاطة النار بهم فلا يبقى هذا التماسك ، أو أراد بالإخفاء الإخلاص لأن من أخلص في الدعاء أسره ، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم لأنهم أتوا بذلك في غير وقته { وقضى بينهم بالقسط } قيل : أي بين المؤمنين والكافرين . وقيل : بين الرؤساء والأتباع ، وقيل : بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم . وقيل : بين الظالمين من الكفار والمظلومين منهم فيكون في ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب بعضهم وإن اشترك كلهم في العذاب . ثم ذكر آيتين أن له جميع ما قرر بحكم المالكية والقدرة على الإحياء والإماتة والإبداء والإعادة . وقيل : في وجه النظم أنه لما ذكر حديث الافتداء بيّن أنه ليس للظالم شيء يفتدي به فإن كل الأشياء ملكه وملكه . وقيل : إنه لما أقسم على حقية ما جاء به النبي وكان دليلاً إقناعياً أراد أن يصححها بالبرهان النير فذكر أن كل ما في هذا العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور وعلوي وسفلي بسيط ومركب فهو ملكه ، فلكونه قادراً على جميع الممكنات يقدر على إيصال الرحمة إلى أوليائه والعذاب إلى أعدائه ، ولكنه منزهاً عن النقائص والآفات يكون بريئاً عن الخلف في الوعد والإيعاد . وفي تصدير الكلام بكلمة « ألا » تنبيه للغافلين وإيقاظ للنائمين وتقريع للناظرين في الأسباب الظاهرة القائلين : البستان للأمير ، والدار للوزير ، والغلام لزيد والجارية لعمرو ، ولا يعلمون أن كلها عوارٍ وودائع .
ولا بد يوماً أن ترد الودائع ... واعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء بأمور أحدها : إظهار المعجزة على يده مطابقاً لدعواه ، وقد قرره الله سبحانه في هذه السورة على أحسن الوجوه حيث قال : { وما كان هذا القرآن أن يفترى } إلى تمام الآيتين . والثاني أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إلى ذلك وادعى الرسالة وكان لنفسه قوّة تكميل الناقصين غلب على ظننا أنه النبي الحق ، فأشار سبحانه إلى هذا الطريق بقوله : قل { يا أيها الناس } الآية . فوصف القرآن بصفات أربع : الأولى كونه موعظة والمراد بها الزجر عما لا ينبغي كالطبيب ينهى المريض أوّلاً عما يضره .