كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
وتعداد الصلات وإن كان بعضها قد يغني عن ذكر البعض فإن التسوية حالة من حالات الخلق، وقد يغني ذكرها عن ذكر الخلق كقوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة:29] ولكن قصد إظهار مراتب النعمة. وهذا من الإطناب المقصود به التذكير بكل صلة والتوقيف عليها بخصوصها، ومن مقتضيات الإطناب مقام التوبيخ.
والخلق: الإيجاد على مقدار مقصود.
والتسوية: جعل الشيء سويا، أي قويما سليما، ومن التسوية جعل قواه ومنافعه الذاتية متعادلة غير متفاوتة في آثار قيامها بوظائفها بحيث إذا اختل بعضها تطرق الخلل إلى البقية فنشأ نقص في الإدراك أو الإحساس أو نشأ انحراف المزاج أو ألم فيه، فالتسوية جامعة لهذا المعنى العظيم.
والتعديل: التناسب بين أجزاء البدن مثل تناسب اليدين، والرجلين، والعينين ، وصورة الوجه فلا تفاوت بين متزاوجها، ولا بشاعة في مجموعها. وجعله مستقيم القامة، فلو كانت إحدى اليدين في الجنب والأخرى في الظهر لاختل عملهما، ولجعل العينان في الخلف لانعدمت الاستفادة من النظر حال المشي، وكذلك موضع الأعضاء الباطنة من الحلق والمعدة والكبد والطحال والكليتين. وموضع الرئتين والقلب وموضع الدماغ والنخاع.
وخلق الله جسد الإنسان مقسمة أعضاؤه وجواره على جهتين لا تفاوت بين جهة وأخرى منهما وجعل في كل جهة مثل ما في الأخرى من الأوردة والأعصاب والشرايين.
وفرع فعل "سواك" على {خَلَقَكَ} وفعل "عدلك" على "سواك" تفريعا في الذكر نظرا إلى كون معانيها مترتبة في اعتبار المعتبر وإن كان جميعا حاصلا في وقت واحد إذ هي أطوار التكوين من حين كونه مضغة إلى تمام خلقه فكان للفاء في عطفها أحسن وقت كما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:2-3].
وقرأ الجمهور {فَعَدَلَكَ} بتشديد الدال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بتخفيف الدال، وهما متقاربان إلا أن التشديد يدل على المبالغة في العدل، أي التسوية فيفيد إتقان الصنع.
وقوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ} اعلم أن أصل {أي} أنها للاستفهام عن تمييز شيء عن مشاركيه في حاله كما تقدم في قوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} في سورة عبس [18].
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:185].
والاستفهام بها كثيرا ما يراد بها الكناية عن التعجب أو التعجيب من شأن ما أضيفت إليه {أي} لأن الشيء إذا بلغ من الكمال والعظمة مبلغا قويا يتساءل عنه ويستفهم عن شأنه، ومن هنا نشأ معنى دلالة {أي} على الكمال، وإنما تحقيقه أنه معنى كنائي كثر استعماله في كلامهم، وإنما هي الاستفهامية، و {أي} هذه تقع في المعنى وصفا لنكرة إما نعتا نحو: هو رجل أي رجل، وإما مضافة إلى نكرة كما في هذه الآية، فيجوز أن يتعلق قوله: {فِي أَيِّ صُورَةٍ} بأفعال خلقك، فسواك، فعدلك فيكون الوقف على {فِي أَيِّ صُورَةٍ} .
ويجوز أن يتعلق بقوله: {رَكَّبَكَ} فيكون الوقف على قوله: {فَعَدَلَكَ} ويكون قوله: {مَا شَاءَ} معترضا بين {فِي أَيِّ صُورَةٍ} وبين {رَكَّبَكَ} .
والمعنى على الوجهين: في صورة أي صورة، أي في صورة كاملة بديعة.
وجملة {مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} بيان لجملة {عدلك} باعتبار كون جملة {عدلك} مفرعة عن جملة {فَسَوَّاكَ} المفرعة عن جملة {خَلَقَكَ} فبيانها بيان لهما.
و {في} للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي خلقك فسواك فعدلك ملابسا صورة عجيبة فمحل {فِي أَيِّ صُورَةٍ} محل الحال من كاف الخطاب وعامل الحال {عدلك} ، أو {رَكَّبَكَ} ، فجعلت الصورة العجيبة كالظرف للمصور بها للدلالة على تمكنها من موصوفها.
و {ما} يجوز أن تكون موصولة ما صدقها تركيب، وهي موضع نصب على المفعولية المطلقة و {شَاءَ} صلة {ما} والعائد محذوف تقديره: شاءه. والمعنى: ركبك التركيب الذي شاءه قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6].
وعدل عن التصريح بمصدر {رَكَّبَكَ} إلى إبهامه بـ {ما} الموصولة للدلالة على تقحيم الموصول بما في صلته من المشيئة المسندة إلى ضمير الرب الخالق المبدع الحكيم وناهيك بها.
ويجوز أن تكون جملة {شَاءَ} صفة لـ {صُورَةٍ} ، والرابط محذوف و {ما} مزيدة للتأكيد، والتقدير: في سورة عظيمة شاءها مشيئة معينة أي عن تدبير وتقدير.
[9] {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} .
{كَلَّا} ردع عما هو غرور بالله أو بالغرور مما تضمنه قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ} [الإنفطار:6] من حصول ما يغر الإنسان بالشرك ومن إعراضه عن نعم الله تعالى بالكفر، أو من كون حالة المشرك كحالة المغرور كما تقدم من الوجهين في الإنكار المستفاد من قوله: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} .
والمعنى: إشراكك بخالقك باطل وهو غرور، أو كالغرور.
ويكون قوله بعده {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} إضرابا انتقاليا من غرض التوبيخ والزجر على الكفر إلى ذكر جرم فظيع آخر، وهو التكذيب بالبعث والجزاء ويشمله التوبيخ بالزجر بسبب أنه معطوف على توبيخ وزجر لأن {بل} لا تخرج عن معنى العطف أي العطف في الغرض لا في نسبة الحكم. ولذلك يتبع المعطوف بها المفرد في إعراب المعطوف عليه فيقول النحويون: إنها تتبع في اللفظ لا في الحكم، أي هو اتباع مناسبة في الغرض لا في اتباع في النسبة.
ويجوز أن يكون {كلا} إبطالا لوجود ما يغر الإنسان أن يشرك بالله، أي لا عذر للإنسان في الإشراك بالله إذ لا يوجد ما يغره به.
ويكون قوله: {بَلْ تُكَذِّبُونَ} إضرابا إبطاليا، وما بعد {بل} بيانا لما جرأهم على الإشراك وإنه ليس غرورا إذ لا شبهة لهم في الإشراك حتى تكون الشبهة كالغرور، ولكنهم أصروا على الإشراك لأنهم حبسوا أنفسهم في مأمن من تبعته فاختاروا الاستمرار عليه لأنه هوى أنفسهم، ولم يعبأوا بأنه باطل صراح فهم يكذبون بالجزاء فلذلك سبب تصميم جميعهم على الشك مع تفاوت مداركهم التي لا يخفى على بعضها بطلان كون الحجارة آلهة، ألا ترى أنهم ما كانوا يرون العذاب إلا عذاب الدنيا.
وعلى هذا الوجه يكون فيه إشارة إلى أن إنكار البعث هو جماع الإجرام، ونظير هذا الوجه وقع في قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ، بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} في سورة الانشقاق [20-22].
وقرأ الجمهور {تُكَذِّبُونَ} بتاء الخطاب. وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة على الالتفات.
وفي صيغة المضارع من قوله: {تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} إفادة أن تكذيبهم بالجزاء متجدد لا
يقلعون عنه، وهو سبب استمرار كفرهم.
وفي المضارع أيضا استحضار حالة هذا التكذيب استحضارا يقتضي التعجيب من تكذيبهم لأن معهم من الدلائل ما لحقه أن يقلع تكذيبهم بالجزاء.
والدين: الجزاء.
[10-12] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَاماً كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} .
عطف على جملة {تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الإنفطار:9] تأكيدا لثبوت الجزاء على الأعمال.
وأكد الكلام بحرف {إن} ولام الابتداء لأنهم ينكرون ذلك إنكارا قويا.
و {لَحَافِظِينَ} صفة لمحذوف تقديره: لملائكة حافظين، أي محصين غير مضيعين لشيء من أعمالكم.
وجميع الملائكة باعتبار التوزيع على الناس: وإنما لكل أحد ملكان قال تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 17-18]، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن لكل أحد ملكين يحفظان أعماله" وهذا بصريح معناه يفيد أيضا كفاية عن وقوع الجزاء إذ لولا الجزاء على الأعمال لكان الاعتناء بإحصائها عبثا.
وأجري على الملائكة الموكلين بإحصاء أعمالهم أربعة أوصاف هي: الحفظ، والكرم، والكتابة، والعلم بما يعلمه الناس.
وابتدئ منها بوصف الحفظ لأنه الغرض الذي سبق لأجله الكلام الذي هو إثبات الجزاء على جميع الأعمال، ثم ذكرت بعده صفات ثلاث بها كمال الحفظ والإحصاء وفيها تنويه بشأن الملائكة الحافظين.
فأما الحفظ: فهو هنا بمعنى الرعاية والمراقبة، وهو بهذا المعنى يتعدى إلى المعمول بحرف الجر، وهو"على" لتضمنه معنى المراقبة. والحفيظ: الرقيب، قال تعالى: {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى:6].
وهذا الاستعمال هو عير استعمال الحفظ المعدى إلى المفعول بنفسه فإنه بمعنى الحراسة نحو قوله :{يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11]. فالحفظ بها الإطلاق يجمع
معنى الرعاية والقيام على ما يكون إلى الحفيظ، والأمانة على ما يوكل إليه.
وحرف "على" فيه للاستعلاء لتضمنه معنى الرقابة والسلطة.
وأما وصف الكرم فهو النفاسة في النوع كما تقدم في قوله تعالى: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
فالكرم صفتهم النفسية الجامعة للكمال في المعاملة وما يصدر عنهم من الأعمال، وأما صفة الكتاب فمراد بها ضبط ما وكلوا على حفظه ضبطا لا يتعرض للنسيان ولا للإجحاف ولا للزيادة، فالكتابة مستعارة لهذا المعنى، على أن حقيقة الكتابة بمعنى الخط غير ممكنة بكيفية مناسبة لأمور الغيب.
وأما صفة العلم بما يفعله الناس فهو الإحاطة بما يصدر عن الناس من أعمال وما يخطر ببالهم من تفكير مما يراد به عمل خير أو شر وهو الهم.
و {مَا تَفْعَلُونَ} يعم كل شيء يفعله الناس وطريق علم الملائكة بأعمال الناس مما فطر الله عليه الملائكة الموكلين بذلك.
ودخل في {مَا تَفْعَلُونَ} : الخواطر القلبية لأنها من عمل القلب أي العقل فإن الإنسان يعمل عقله ويعزم ويتردد، وإن لم يشفع في عرف اللغة إطلاق مادة الفعل على الأعمال القلبية.
واعلم أنه ينتزع من هذه الآية أن هذه الصفات الأربع هي عماد الصفات المشروطة في كل ما يقوم بعمل للأمة في الإسلام من الولاة وغيرهم فإنهم حافظون لمصالح ما استحفظوا علية وأول الحفظ الأمانة وعدم التفريط.
فلا بد فيهم من الكرم وهو زكاة الفطرة، أي طهارة النفس.
ومن الضبط فيما يجري على يديه بحيث لا تضيع المصالح العامة ولا الخاصة بأن يكون ما يصدره مكتوبا، أو كالمكتوب مضبوطا لا يستطاع تغييره، ويمكن لكل من يقوم بذلك العمل يعد القائم به، أو في مغيبة أن يعرف ماذا أجري فيه من الإعمال، وهذا أصل عظيم في وضع الملفات للنوازل والتراتيب، ومنه نشأت دواوين القضاة، ودفاتر الشهود، والخطاب على الرسوم، وإخراج نسخ الأحكام والأحباس وعقود النكاح.
ومن إحاطة العلم بما يتعلق بالأحوال التي تسند إلى المؤتمن عليها بحيث لا يستطيع
أحد من المخالطين أن يموه عليه شيئا، أو أن يلبس عليه حقيقة بحيث ينتفي عنه الغلط، والخطأ في تمييز الأمور بأقصى ما يمكن، ويختلف العلم المطلوب باختلاف الأعمال فيقدم في كل ولاية من هو أعلم بما تقتضيه ولايته من الأعمال وما تتوقف عليه من المواهب والدراية، فليس ما يشترط في القاضي يشترط في أمير الجيش مثلا، وبمقدار التفاوت في الخصال التي تقتضيها إحدى الولايات يكون ترجيح من تسند إليه الولاية على غيره حرصا على حفظ مصالح الأمة، فيقدم في كل ولاية من هو أقوى كفاءة لإتقان أعمالها وأشد اضطلاعا بممارستها.
[13-16] {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ، وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} .
فصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها استئناف بياني جواب عن سؤال يخطر في نفس السامع يثيره قوله: {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الإنفطار: 9-10]. الآية لتشوف النفس إلى معرفة هذا الجزاء ما هو، وإلى معرفة غاية إقامة الملائكة لإحصاء الأعمال ما هي، فبين ذلك بقوله: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} الآية.
وأيضا تتضمن هذه الجملة تقسيم أصحاب الأعمال فهي تفصيل لجملة {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الإنفطار:12] وذلك من مقتضيات فصل الجملة عن التي قبلها.
وجيء بالكلام مؤكدا ب {إن} ولام الابتداء ليساوي البيان مبينه في التحقيق ودفع الإنكار.
وكرر التأكيد مع الجملة المعطوفة للاهتمام بتحقيق كونهم في جحيم لا يطمعوا في مفارقته.
و {الأَبْرَارَ} : جمع بر بفتح الباء وهو التقي. وهو فعل بمعنى فاعل مشتق من بر يبر، ولفعل بر اسم مصدر هو بر بكسر الباء ولا يعرف له مصدر قياسي بفتح الباء كأنهم أماتوه لئلا يلتبس بالبر وهو التقي. وإنما سمي التقي برا لأنه بر ربه، أي صدقه ووفى له بما عهد له الأمر بالتقوى.
و {الْفُجَّارَ} : جمع فاجر، وصيغة فعال تطرد في تكسير فاعل المذكر الصحيح اللام.
والفاجر: المتصف بالفجور وهو ضد البرور.
والمراد ب {الْفُجَّارَ} هنا: المشركون، لأنهم الذين لا يغيبون عن النار طرفة عين وذلك هو الخلود، ونحن أهل السنة لا نعتقد الخلود في النار لغير الكافر. فأما عصاة المؤنين فلا يخلدون في النار وإلا لبطلت فائدة الإيمان.
والنعيم: اسم ما ينعم به الإنسان.
والظرفية من قوله "في نعيم" مجازية لأن النعيم أمر اعتباري لا يكون ظرفا حقيقة، شبه دوام التنعم لهم بإحاطة الظرف بالمظروف بحيث لا يفارقه.
وأما ظرفية قوله: {لَفِي جَحِيمٍ} فهي حقيقية.
والجحيم صار علما بالغلبة على جهنم، وقد تقدم في سورة التكوير وفي سورة النازعات.
وجملة {يَصْلَوْنَهَا} صفة ل {جَحِيمٍ} ، أو حال من {الْفُجَّارَ} ، أو حال من الجحيم، وصلي النار: مس حرها للجسم، يقال: صلي النار، إذا أحس بحرها، وحقيقته: الإحساس بحر النار المؤلم، فإذا أريد التدفي قيل: اصطلى.
و {يَوْمُ الدِّينِ} ظرف ل {يَصْلَوْنَهَا} وذكر لبيان: أنهم يصلونها جزاء عن فجورهم لأن الدين الجزاء ويوم الدين يوم الجزاء وهو من أسماء يوم القيامة.
وجملة {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} عطف على جملة {يَصْلَوْنَهَا} ، أي يصلون حرها ولا يفارقونها، أي وهم خالدون فيها.
وجيء بقوله: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} جملة اسمية دون أن يقال: وما يغيبون عنها، أو ما يفارقونها، لإفادة الاسمية الثبات سواء في الإثبات أو النفي، فالثبات حالة للنسبة الخبرية سواء كانت نسبة إثبات أو نسبة نفي كما في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} في سورة البقرة [167].
وزيادة الباء لتأكيد النفي.
وتقديم {عنها} على متعلقه للاهتمام بالمجرور، وللرعاية على الفاصلة.
[17] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .
يجوز أن تكون حالية، والواو واو الحال، ويجوز أن تكون معترضة إذا جعل {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الإنفطار:19] بدلا من {يَوْمُ الدِّينِ} المنصوب على الظرفية كما سيأتي.
و {مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} : تركيب مركب من {ما} الاستفهامية وفعل الدراية المعدى بالهمزة فصار فاعله مفعولا زائدا على مفعولي درى، وهو من قبيل: أعلم وأرى، فالكاف مفعوله الأول، وقد علق على المفعولين الآخرين ب {ما} الاستفهامية الثانية.
والاستفهام الأول مستعمل كناية عن تعظيم أمر اليوم وتهويله بحيث يسأل المتكلم من يسمعه عن الشيء الذي يحصل له الدراية بكنه ذلك اليوم، والمقصود أنه لا تصل إلى كنهه دراية دار.
والاستفهام الثاني حقيقي، أي سؤال سائل عن حقيقة يوم الدين كما تقول: علمت هل زيد قائم، أي علمت جواب هذا السؤال.
ومثل هذا التركيب مما جرى مجرى المثل فلا يغير لفظه، وقد تقدم بيانه مستوفى عند قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3].
[18] {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .
تكرير للتهويل تكريرا يؤذن بزيادته، أي تجاوز حد الوصف والتعبير فهو من التوكيد اللفظي، وقرن هذا بحرف {ثم} الذي شأنه إذا عطف جملة على أخرى أن يفيد التراخي الرتبي، أي تباعد الرتبة في الغرض المسوق له الكلام، وهي في هذا المقام رتبة العظمة والتهويل، فالتراخي فيها هو الزيادة.
[19] {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
{يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} .
في هذا بيان للتهويل العظيم المجمل الذي أفاده قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار:17-18] إذ التهويل مشعر بحصول ما يخافه المهول لهم فاتبع ذلك بزيادة التهويل مع التأييس من وجدان نصير أو معين.
وقرأه الجمهور بفتح {يوم} فيجوز أن يجعل بدلا مطابقا، أو عطف بيان من {يَوْمُ الدِّينِ} المرفوع ب {مَا أَدْرَاكَ} وتجعل فتحته فتحة بناء لأن اسم الزمان إذا أضيف إلى
جملة فعلية وكان فعلها معربا جاز في اسم الزمان أن يبني على الفتح وأن يعرب بحسب العوامل.
ويجوز أيضا أن يكون بدلا مطابقا من {يَوْمُ الدِّينِ} المنصوب على الظرفية في قوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الإنفطار:15]، ولا يفوت بيان الإبهام الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الإنفطار:17] لأن {يَوْمُ الدِّينِ} المرفوع المذكور ثانيا هو عين {يَوْمُ الدِّينِ} المنصوب أولا، فإذا وقع بيان للمذكور أولا حصل بيان المذكور ثانيا إذ مدلولهما يوم متحد.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب مرفوعة، فيتعين أن يكون بدلا أو بيانا من {يَوْمُ الدِّينِ} الذي في قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} .
ومعنى {لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} : لا تقدر نفس على شيء لأجل نفس أخرى، أي لنفعها، لأن شأن لام التعليل أن تدخل على المنتفع بالفعل عكس "على"، فإنها تدخل على المتضرر كما في قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة:286]، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في سورة الممتحنة [4].
وعموم {نَفْسٌ} الأولى والثانية في سياق النفي يقتضي عموم الحكم في كل نفس.
و {شَيْئًا} اسم يدل على جنس الموجود، وهو متوغل في الإبهام يفسره ما يقترن به في الكلام من تمييز أو صفة أو نحوهما، أو من السياق، ويبينه هنا ما دل عليه فعل {لاَ تَمْلِكُ} ولام العلة، أي شيئا يغني عنها وينفعها كما في قوله تعالى: {وَمَا أُغْنِي عَنكُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في سورة يوسف [67]، فانتصب {شَيْئًا} على المفعول به لفعل {لاَ تَمْلِكُ} ، أي ليس في قدرتها شيء ينفع نفس أخرى.
وهذا يفيد تأييس المشركين من أن تنفعهم أصنامهم يومئذ كما قال تعالى: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:94].
{وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} .
وجملة {وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} تذييل، والتعريف في {الأَمْرُ} للاستغراق. والأمر هنا للمعنى: التصرف والأذن وهو واحد الأوامر، أي لا يأمر إلا الله ويجوز أن يكون الأمر مرادفا للشيء فتغيير التعبير للتفنن.
والتعريف على كلا الوجهين تعريف الجنس المستعمل لإرادة الاستغراق، فيعم كل
الأمور وبذلك العموم كانت الجملة تذييلا.
وأفادت لام الاختصاص مع عموم الأمر أنه لا أمر يومئذ إلا لله وحده لا يصدر من غيره فعل، وليس في هذا التركيب صيغة حصر ولكنه آيل إلى معنى الحصر على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} .
وفي هذا الختام رد العجز على الصدر لأن أول السورة ابتدئ بالخبر عن بعض أحوال يوم الجزاء وختمت السورة ببعض أحواله.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المطففينسميت هذه السورة في كتب السنة وفي بعض التفاسير "سورة ويل للمطففين"، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه"، والترمذي في "جامعه".
وسميت في كثير من كتب التفسير والمصاحف "سورة المطففين" اختصارا.
ولم يذكرها في "الإتقان" في عداد السور ذوات أكثر من اسم وسماها "سورة المطففين" وفيه نظر.
وقد أختلف في كونها مكية أو مدنية أو بعضها مكي وبعضها مدني. فعن ابن مسعود والضحاك ومقاتل في رواية عنه: أنها مكية، وعن ابن عباس في الأصح عنه وعكرمة والحسن السدي ومقاتل في رواية أخرى عنه: أنها مدنية، قال: وهي أول سورة نزلت بالمدينة، وعن ابن عباس في رواية عنه وقتادة: هي مدنية إلا ثمان آيات من آخرها من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [الإنفطار:19] إلى آخرها.
وقال الكلبي وجابر بن زيد: نزلت بين مكة والمدينة فهي لذلك مكية، لأن العبرة في المدني بما نزل بعد الهجرة على المختار من الأقوال لأهل علم القرآن.
قال ابن عطية: احتج جماعة من المفسرين على أنها مكية بذكر الأساطير فيها أي قوله: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم:15]. والذي نختاره: أنها نزلت قبل الهجرة لأن معظم ما اشتملت عليه التعريض بمنكري البعث.
ومن اللطائف أن تكون نزلت بين مكة والمدينة لأن التطفيف كان فاشيا في البلدين. وقد حصل من اختلافهم أنها: إما آخر ما أنزل بمكة، وإما أول ما أنزل بالمدينة، والقول بأنها نزلت بين مكة والمدينة قول حسن.
فقد ذكر الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس قال لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل الله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وعن القرظي كان بالمدينة تجار يطففون الكيل وكانت يباعاتهم كسبت القمار والملامسة والمناملة والمخاصرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق وقرأها، وكانت عادة فشت فيهم من زمن الشرك فلم يتفطن بعض الذين أسلموا من أهل المدينة لما فيه من أكل مال الناس. فأريد إيقاظهم لذلك، فكانت مقدمة لإصلاح أحوال المسلمين في المدينة مع تشنيع أحوال المشركين بمكة ويثرب بأنهم الذين سنوا التطفيف.
وما أنسب هذا المقصد بأن تكون نزلت بين مكة والمدينة لتطهير المدينة من فساد المعاملات التجارية قبل أن يدخل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لئلا يشهد فيها منكرا عاما فإن الكيل والوزن لا يخلو وقت عن التعامل بهما في الأسواق وفي المبادلات.
وهي معدودة السادسة والثمانين في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العنكبوت وقبل سورة البقرة.
وعدد آيها ست وثلاثون.
أغراضها
اشتملت على التحذير من التطفيف في الكيل والوزن وتفظيعه بأنه تحيل على أكل مال الناس في حال المعاملة أخذا وإعطاء.
وأن ذلك مما سيحاسبون عليه يوم القيامة.
وتهويل ذلك اليوم بأنه وقوف عند ربهم ليفصل بينهم وليجازيهم على أعمالهم وأن الأعمال محصاة عند الله.
ووعيد الذين يكذبون بيوم الجزاء والذين يكذبون بأن القرآن منزل من عند الله.
وقوبل حالهم بضده من حال الأبرار أهل الإيمان ورفع درجاتهم وإعلان كرامتهم بين الملائكة والمقربين وذكر صور من نعيمهم.
وانتقل من ذلك إلى وصف حال الفريقين في هذا العالم الزائل إذ كان المشركون
يسخرون من المؤمنين ويلزمونهم ويستضعفونهم وكيف انقلب الحال في العالم الأبدي.
[1-3] {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} .
افتتاح السورة باسم الويل مؤذن بأنها تشتمل على وعيد بلفظ {ويل} من براعة الاستهلال، ومثله قوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد:1]. وقد أخذ أبو بكر بن الخازن من عكسه قوله في طالع قصيدة بتهنئته بمولود:
بشرى فقد أنجز الإقبال ما وعدا
والتطفيف: النقص عن حق المقدار في الموزون أو المكيل، وهو مصدر طفف إذ بلغ الطفافة. والطفاف بضم الطاء وتخفيف الفاء ما قصر عن ملء الإناء من شراب أو طعام، ويقال: الطف بفتح الطاء دون هاء تأنيث، وتطلق هذه الثلاثة على ما تجاوز حرف المكيال مما يملأ به وإنما يكون شيئا قليلا زائدا على ما ملأ الإناء، فمن ثم سميت طفافة، أي قليل زيادة.
ولا نعرف له فعلا مجردا إذ لم ينقل إلا بصيغة التفعيل، وفعله: طفف، كأنهم راعوا في صيغة التفعيل معنى التكلف والمحاولة لأن المطفف يحاول أن ينقص الكيل دون أن يشعر به المكتال، ويقابله الوفاء.
و {ويل} كلمة دعاء بسوء الحال، وهي في القرآن وعيد بالعقاب وتقريع، والويل: اسم وليس بمصدر لعدم وجود فعل له، وتقدم عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
وهو من عمل المتصدين للتجر يغتنمون حاجة الناس إلى الابتياع منهم وإلى البيع لهم لأن التجار هم أصحاب رؤوس الأموال وبيدهم المكاييل والموازين، وكان أهل مكة تجارا، وكان في يثرب تجار أيضا وفيهم اليهود مثل أبي رافع، وكعب بن الأشرف تاجري أهل الحجاز وكانت تجارتهم في التمر والحبوب، وكان أهل مكة يتعاملون بالوزن لأنهم يتجرون في أصناف السلع ويزنون الذهب والفضة وأهل يثرب يتعاملون بالكيل.
والآية تؤذن بأن التطفيف كان متفشيا في المدينة في أول مدة الهجرة واختلاط المسلمين بالمنافقين يسبب ذلك.
واجتمعت كلمة المفسرين على أن أهل يثرب كانوا من أخبث الناس كيلا فقال جماعة من المفسرين: إن هذه الآية نزلت فيهم فأحسنوا الكيل بعد ذلك. رواه ابن ماجة عن ابن عباس.
وكان ممن اشتهر بالتطفيف في المدينة رجل يكنى أبا جهينة واسمه عمرو كان له صاعان يأخذ بأحدهما ويعطي بالآخر.
فجملة {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} إدماج، مسوقة لكشف عادة ذميمة فيهم هي الحرص على توفير مقدار ما يبتاعونه بدون حق لهم فيه، والمقصود الجملة المعطوفة عليها وهي جملة {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} فهم مذمومون بمجموع ضمن الجملتين.
والاكتيال: افتعال من الكيل، وهو يستعمل في تسلم ما يكال على طريقة استعمال أفعال: ابتاع، وارتهن، واشترى، في معنى أخذ المبيع، وأخذ الشيء المرهون وأخذ السلعة المشتراة، فهو مطاوع كال، كما أن ابتاع مطاوع باع، وارتهن مطاوع رهن، واشترى مطاوع شرى، قال تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} [يوسف:63] أي نأخذ طعاما مكيلا، ثم تنوسي منه معنى المطاوعة.
وحق فعل اكتال أن يتعدى إلى مفعول واحد هو المكيل، فيقال: اكتال فلان طعاما مثل ابتاع، ويعدى إلى ما زاد على المفعول بحرف الجر مثل {من} الابتدائية فيقال: اكتال طعاما من فلان، وإنما عدي في الآية بحرف {على} لتضمين {اكْتَالُوا} معنى التحامل، أي إلقاء المشقة على الغير وظلمه، ذلك أن شأن التاجر وخلقه أن يتطلب توفير الربح وإنه مظنة السعة ووجود المال بيده فهو يستعمل حاجة من يأتيه بالسلعة، وعن الفراء "من" و"على" يتعاقبان في هذا الموضع لأنه حق عليه فإذا قال اكتلت عليك، فكأنه قال: أخذت ما عليك، وإذا قال: اكتلت منك فكقوله: استوفيت منك.
فمعنى {اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ} اشتروا من الناس ما يباع بالكيل، فحذف المفعول لأنه معلوم في فعل {اكْتَالُوا} أي اكتالوا مكيلا، ومعنى كالوهم باعوا للناس مكيلا فحذف المفعول لأنه معلوم.
فالواوان من {كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} عائدان إلى اسم الموصول والضميران المنفصلان عائدان إلى الناس.
وتعدية "كالوا"، و"وزنوا" إلى الضميرين على حذف لام الجر. وأصله: كالوا لهم ووزنوا لهم، كما حذفت اللام في قوله تعالى في سورة البقرة [233] {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} أي تسترضعوا لأولادكم، وقولهم في المثل الحريص يصيدك لا الجواد أي الحريص يصيد لك. وهو حذف كثير مثل قولهم: نصحتك وشكرتك، أصلهما نصحت لك وشكرت لك، لأن فعل كال وفعل وزن لا يتعديان بأنفسهما إلا إلى الشيء المكيل أو الموزون يقال: كال له طعاما ووزن له فضة، ولكثرة دورانه على اللسان خففوه فقالوا: كاله ووزنه طعاما على الحذف والإيصال.
قال الفراء: هو من كلام أهل الحجاز ومن جاورهم من قيس يقولون: يكيلنا، يعني ويقولون أيضا: كال له ووزن له. وهو يريد أن غير أهل الحجاز وقيس لا يقولون: كال له ووزن له، ولا يقولون إلا: كاله ووزنه، فيكون فعل كال عندهم مثل باع.
والاقتصار على قوله: {إِذَا اكْتَالُوا} دون أن يقول: وإذا اتزنوا كما قال {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} اكتفاء بذكر الوزن في الثاني تجنبا لفعل اتزنوا لقلة دورانه في الكلام فكان فيه شيء من الثقل. ولكنته أخرى وهي أن المطففين هم أهل التجر وهم يأخذون السلع من الجالبين في الغالب بالكيل لأن الجالبين يجلبون التمر والحنطة ونحوهما مما يكال ويدفعون لهم الأثمان عينا بما يوزن من ذهب أو فضة مسكوكين أو غير مسكوكين، فلذلك اقتصر في ابتياعهم من الجالبين على الاكتيال نظرا إلى الغالب، وذكر في بيعهم للمبتاعين الكيل والوزن لأنهم يبيعون الأشياء كيلا ويقبضون الأثمان وزنا. وفي هذا إشارة إلى أن التطفيف من عمل تجارهم.
و {يَسْتَوْفُونَ} جواب {إذا} والاستيفاء أخذ الشيء وافيا، فالسين والتاء فيه للمبالغة في الفعل مثل: استجاب.
ومعنى {يُخْسِرُونَ} يوقعون الذين كالوا لهم أو وزنوا لهم في الخسارة، والخسارة النقص من المال في التبايع.
وهذه الآية تحذير للمسلمين من التساهل في التطفيف إذ وجوده فاشيا في المدينة في أول هجرتهم وذم للمشركين من أهل المدينة وأهل مكة.
وحسبهم أن التطفيف يجمع ظلما واختلاسا ولؤما، والعرب كانوا يتعيرون بكل واحد من هذه الخلال متفرقة ويتبرؤون منها، ثم يأتونها مجتمعة، وناهيك بذلك أفنا.
[4-6] {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} .
استئناف ناشيء عن الوعيد والتقريع لهم بالويل على التطفيف وما وصفوا به من الاعتداء على حقوق المبتاعين.
والهمزة للاستفهام التعجيبي بحيث يسأل السائل عن علمهم بالبعث، وهذا يرجع أن الخطاب في قوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين:1] موجه إلى المسلمين. ويرجع الإنكار والتعجب من ذلك إلى إنكار ما سيق هذا لأجله وهو فعل التطفيف. فأما المسلمون الخلص فلا شك أنهم انتهوا عن التطفيف بخلاف المنافقين.
والظن: مستعمل في معناه الحقيقي المشهور وهو اعتقاد وقوع شيء اعتقادا راجحا على طريقة قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32].
وفي العدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة في قوله: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ} لقصد تمييزهم وتشهير ذكرهم في مقام الذم، ولأن الإشارة إليهم بعد وصفهم ب"المطففين" تؤذن بأن الوصف ملحوظ في الإشارة فيؤذن ذلك بتعليل الإنكار.
واللام في قوله: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} لام التوقيت مثل {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء:78].
وفائدة لام التوقيت إدماج الرد على شبهتهم الحاملة لهم على إنكار البعث باعتقادهم أنه لو كان بعث لبعثت أموات القرون الغابرة، فأومأ قوله: {لِيَوْمٍ} أن للبعث وقتا معينا يقع عنده لا قبله.
ووصف يوم ب {عَظِيمٍ} باعتبار عظمة ما يقع فيه من الأهوال، فهو وصف مجازي عقلي.
و {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} بدل من "يوم عظيم" بدلا مطابقا وفتحته فتحة بناء مثل ما تقدم في قوله تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} في سورة الانفطار [19] على قراءة الجمهور ذلك بالفتح.
ومعنى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} أنهم يكونون قياما، فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحالة.
واللام في {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} للأجل، أي لأجل ربوبية وتلقي حكمه.
والتعبير عن الله تعالى بوصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} لاستحضار عظمته بأنه مالك أصناف المخلوقات.
واللام في {الْعَالَمِينَ} للاستغراق كما تقدم في سورة الفاتحة.
قال في "الكشاف" وفي هذا الإنكار، والتعجيب، وكلمة الظن، ووصف اليوم بالعظيم، وقيام الناس فيه لله خاضعين، ووصف ذاته ب {رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، بيان بليغ لعظيم الذنب وتفاقم الإثم في التطفيف وفيما كان مثل حاله من الحيف وترك القيام بالقسط والعمل على السوية اه.
ولما كان الحامل على التطفيف احتقارهم أهل الجلب من أهل البوادي فلا يقيمون لهم ما هو شعار العدل والمساواة، كان التطفيف لذلك منبئا عن إثم احتقار الحقوق، وذلك قد صار خلقا لهم حتى تخلقوا بمكابرة دعاة الحق، وقد أشار إلى هذا التنويه به قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن:7-9] وقوله حكاية عن شعيب {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 182-183].
[7-9] {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ} .
{كلا}
إبطال وردع لما تضمنته جملة {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:4] من التعجيب من فعلهم التطفيف، والمعنى: كلا بل هم مبعوثون لذلك اليوم العظيم ولتلقي قضاء رب العالمين فهي جواب عما تقدم.
{إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ} .
استئناف ابتدائي بمناسبة ذكر يوم القيامة. وهو تعريض بالتهديد للمطففين بأن يكون عملهم موجبا كتبه في كتاب الفجار.
و {الْفُجَّارَ} غلب على المشركين ومن عسى أن يكون متلبسا بالتطفيف بعد سماع النهي عنه من المسلمين الذي ربما كان بعضهم يفعله في الجاهلية.
والتعريف في {الْفُجَّارَ} للجنس مراد به الاستغراق، أي جميع المشركين فيعم المطففين وغير المطففين، فوصف الفجار هنا نظير ما في قوله: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:42].
وشمول عموم الفجار لجميع المشركين المطففين منهم وغير المطففين يعنى به أن المطففين منهم والمقصود الأول من هذا العموم، لأن ذكر هذا الوصف والوعيد عليه عقب كلمة الردع عن أعمال المطففين قرينة على أن الوعيد موجه إليهم.
و"الكتاب" المكتوب، أي الصحيفة وهو هنا يحتمل شيئا تحصى فيه والأعمال، ويحتمل أن يكون كناية عن إحصاء أعمالهم وتوقيفهم عليها، وكذلك يجري على الوجهين قوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} وتقدمت نظائره غير مرة.
و {سِجِّينٍ} حروف مادته من حروف العربية، وصيغته من الصيغ العربية، فهو لفظ عربي، ومن زعم أنه معرب فقد أغرب. روى عن الأصمعي: أن العرب استعملوا سجين عوضا عن سلتين، وسلتين كلمة غير عربية.
ونون {سِجِّينٍ} أصلية وليست مبدلة عن اللام، وقد اختلف في معناه على أقوال أشهرها وأولاها أنه علم لواد في جهنم، صيغ بزنة فعيل من مادة السجن للمبالغة مثل: الملك الضليل، ورجل سكير، وطعام حريف شديد الحرافة وهي لذع اللسان سمي ذلك المكان سجينا لأنه أشد الحبس لمن فيه فلا يفارقه وهذا الاسم من مصطلحات القرآن لا يعرف في كلام العرب من قبل ولكنه مادته وصيغته موضوعتان في العربية وضعا نوعيا. وقد سمع العرب هذا الاسم ولم يطعنوا في عربيته.
ومحمل قوله: {لَفِي سِجِّينٍ} إن كان على ظاهر الظرفية كان المعنى أن كتب أعمال الفجار مودعة في مكان اسمه {سِجِّينٍ} أو وصفه {سِجِّينٍ} وذلك يؤذن بتحقيره، أي تحقير ما احتوى عليه من أعمالهم المكتوبة فيه، وعلى هذا حمله كثير من المتقدمين، وروى الطبري بسنده حديثا مرفوعا يؤيد ذلك لكنه حديث منكر لاشتمال سنده على مجاهيل.
وإن حملت الظرفية في قوله: {لَفِي سِجِّينٍ} على غير ظاهرها، فجعل كتاب الفجار مظروفا في {سِجِّينٍ} مجاز عن جعل الأعمال المحصاة فيه في سجين، وذلك كناية رمزية عن كون الفجار في سجين.
وجملة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} معترضة بين جملة {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} وجملة {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} وهو تهويل لأمر السجين تهويل تفظيع لحال الواقعين فيه وتقدم {مَا أَدْرَاكَ} في سورة الانفطار [17].
وقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} خبر عن ضمير محذوف يعود إلى {كِتَابَ الفُجَّارِ} . والتقدير هو أي كتاب الفجار كتاب مرقوم، هذا من حذف المسند إليه الذي اتبع في حذفه استعمال العرب إذا تحدثوا عن شيء ثم أرادوا الإخبار عنه بخير جديد.
والمرقوم: المكتوب كتابة بينة تشبه الرقم في الثوب المنسوج.
وهذا الوصف يفيد تأكيد ما يفيده لفظ {كِتَابَ} سواء كان اللفظ حقيقة أو مجازا.
[10-13] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ، الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} .
جملة {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} يجوز أن تكون مبينة لمضمون جملة {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} فإن قوله: {يَوْمَئِذٍ} يفيد تنوينه جملة محذوفة جعل التنوين عوضا عنها تقديرها: يوم إذ يقوم الناس لرب العالمين ويل فيه للمكذبين.
ويجوز أن تكون ابتدائية وبين المكذبين بيوم الدين والمطففين عموم وخصوص وجهي فمن المكذبين من هم مطففون ومن المطففين مسلمون وأهل كتاب لا يكذبون بيوم الدين، فتكون هذه الجملة إدماجا لتهديد المشركين المكذبين بيوم الدين وإن لم يكونوا من المطففين.
وقد ذكر المكذبون مجملا في قوله: {لِلْمُكَذِّبِينَ} ثم أعيد مفصلا ببيان متعلق التكذيب، وهو {بِيَوْمِ الدِّينِ} لزيادة تقرير تكذيبهم أذهان السامعين منهم ومن غيرهم من المسلمين وأهل الكتاب، فالصفة هنا للتهديد وتحذير المطففين المسلمين من أن يستخفوا بالتطفيف فيكونوا بمنزلة المكذبين بالجزاء عليه.
ومعنى التكذيب ب"يوم الدين" التكذيب بوقوعه.
فالتكذيب بيوم الجزاء هو منشأ الإقدام على السيئات والجرائم، ولذلك أعقبه بقوله: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي أن
تكذيبهم به جهل بحكمة الله تعالى في خلق الله وتكليفهم إذ الحكمة من خلق الناس تقتضي تحسين أعمالهم وحفظ نظامهم. فلذلك جاءتهم الشرائع آمرة بالصلاح وناهية عن الفساد. ورتب لهم الجزاء على أعمالهم الصالحة بالثواب والكرامة، وعلى أعمالهم السيئة بالعذاب والإهانة. كل عل حسب عمله: فلو أهمل الخالق تقويم مخلوقاته وأهمل جزاء الصالحين والمفسدين، ولم يكن ذلك من حكمة الخلق قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ، فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} [المؤمنون:115-116].
وقد ذكر للمكذبين بيوم الدين ثلاثة أوصاف وهي: معتد، أثيم، يقول إن الآيات أساطير الأولين.
والاعتداء: الظلم، والمعتدي: المشرك والكافر بما جاءه من الشرائع لأنهم اعتدوا على الله بالإشراك، وعلى رسله بالتكذيب، واعتدوا على دلائل الحق فلم ينظروا فيها أو لم يعلموا بها.
والأثيم: مبالغة في الآثم، أي كثير الإثم.
وصيغة القصر من النفي والاستثناء تفيد قصر صفة التكذيب بيوم الدين على المعتدين الآثمين الزاعمين القرآن أساطير الأولين.
فهو قصر صفة على موصوف وهو قصر حقيقي لأن يوم الدين لا يكذب به إلا غير المتدينين المشركون والوثنيون وأضرابهم ممن جمع الأوصاف الثلاثة، وأعظمها التكذيب بالقرآن فإن أهل الكتاب والصابئة لا يكذبون بيوم الدين، وكثير من أهل الشرك لا يكذبون بيوم الدين مثل أصحاب ديانة القبط.
فالذين يكذبون بيوم الدين هم مشركو العرب ومن شابههم مثل الدهريين فإنهم تحققت فيهم الصفتان الأولى والثانية وهي الاعتداء والإثم وهو ظاهر، وأما زعم القرآن أساطير الأولين فهو مقالة المشركين من العرب وهم المقصود ابتداء وأما غيرهم ممن لم يؤثر عنهم هذا القول فهم متهيئون لأن يقولوه، أو يقولوا ما يساويه، أو يؤول إليه، لأن من لم يعرض عليه القرآن منهم لو عرض عليه القرآن لكذب به تكذيبا يساوي اعتقاد أنه من وضع البشر، فهؤلاء وإن لم يقولوا القرآن أساطير الأولين فظنهم في القرآن يساوي ظن المشركين فنزلوا منزلة من يقوله.
ولك أن تجعل القصر ادعائيا ولا تلتفت إلى تنزيل من لم يقل ذلك في القرآن.
ومعنى الادعاء أن من لم يؤثر عنهم القول في القرآن بأنه أساطير الأولين قد جعل تكذيبهم بيوم الدين كلا تكذيب مبالغة في إبطال تكذيب المشركين بيوم الدين.
وجملة {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} صفة لمعتد أو حال منه.
والآيات هنا القرآن وأجزاؤه لأنها التي تتلى وتقرأ.
والأساطير: جمع أسطورة وهي القصة، والأكثر أن يراد القصة المخترعة التي لم تقع وكان المشركون ينظرون قصص القرآن بقصة رستم، وإسفنديار، عند الفرس، ولعل الكلمة معربة عن الرومية، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} في سورة الأنعام [25].
والمراد بالأولين الأمم السابقة لأن الأول يطلق على السابق على وجه التشبيه بأنه أول بالنسبة إلى ثان بعده وإن كان هو قد سبقته أجيال، وقد كان المشركون يصفون القرآن بذلك لما سمعوا فيه من القصص التي سيقت إليهم مساق الموعظة والاعتبار، فحسبوها من قصص الأسمار. واقتصروا على ذلك دون ما في أكثر القرآن من الحقائق العالية والحكمة. بهتانا منهم.
وممن كانوا يقولون ذلك النضر بن الحارث وكان قد كتب قصة رستم وقصة إسفنديار وجدها في الحيرة فكان يحدث بها في مكة ويقول: أنا أحسن حديثا من محمد فإنما يحدثكم بأساطير الأولين.
وليس المراد في الآية خصوصه لأن كلمة {كُلُّ مُعْتَدٍ} ظاهر في عدم التخصيص.
[14-17] {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
{كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، كَلاَّ} .
اعتراض بالردع وبيان له، لأن {كَلاَّ} ردع لقولهم أساطير الأولين، أي أن قولهم باطل. وحرف {بل} للإبطال تأكيدا لمضمون {كَلاَّ} وبيانا وكشفا لما حملهم على أن يقولوا في القرآن ما قالوا وأنه ما أعمى بصائرهم من الرين.
والرين: الصدأ الذي يعلو حديد السيف والمرآة، ويقال في مصدر الرين الران مثل العيب والعاب، والذيم والذام.
وأصله فعله أن يسند إلى الشيء الذي أصابه الرين، فيقال: ران السيف وران الثوب، إذا أصابه الرين، أي صار ذا رين، ولما فيه من معنى التغطئة أطلق على التغطية فجاء منه فعل ران بمعنى غشي، فقالوا: ران النعاس على فلان، ورانت الخمر، وكذلك قوله تعالى: {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} هو من باب ران الرين على السيف، ومن استعمال القرآن هذا الفعل صار الناس يقولون: رين على قلب فلان وفلان مرين على قلبه.
والمعنى: غطت على قلوبهم أعمالهم أن يدخلها فهم القرآن والبون الشاسع بينه وبين أساطير الأولين.
وقرأ الجمهور بإدغام اللام في الراء بعد قلبها راء لتقارب مخرجيها.
وقرأه عاصم بالوقف على لام "بل" والابتداء بكلمة ران تجنبا للإدغام.
وقرأه حفص بسكتة خفيفة على لام {بل} ليبين أنها لام. قال في اللسان: إظهار اللام لغة لأهل الحجاز. قال سيبويه: هما حسنان، وقال الزجاج: الإدغام أرجح.
والقلوب العقول ومحال الإدراك. وهذا كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة [7].
ومن كلام رعاة الأعراب يخاطبون إبلهم في زمن شدة البرد إذا أوردوها الماء فاشمأزت منه لبرده برديه تجديه سخينا أي بل رديه وذلك من الملح الشبيهة بالمعاياة إذ في ظاهره طلب تبريده وأنه بالتبريد يوجد سخينا.
و {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ما عملوه سالفا من سيئات أعمالهم وجماحهم عن التدبر في الآيات حتى صار الإعراض والعناد خلقا متأصلا فيهم فلا تفهم عقولهم دلالة الأدلة على مدلولاتها.
روى الترمذي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء فإذا هو نزع واستغفر الله وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو على قلبه وهو الران الذي ذكر الله في كتابه {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
ومجيء {يَكْسِبُونَ} بصيغة المضارع دون الماضي لإفادة تكرر ذلك الكسب وتعدده في الماضي.
وفي ذكر فعل {كانوا} دون أن يقال: ما يكسبون، إشارة إلى أن المراد: ما يكسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يكونوا مناط تكليف أيامئذ. فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة.
و {كلا} الثانية تأكيد ل {كلا} الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخا.
{إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ، ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} .
جملة {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة، والعذاب، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب.
فأما الإهانة فحجبهم عن ربهم، والحجب هو الستر، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدى سيد القوم قال الشاعر الذي لم يسم وهو من شواهد الكشاف:
إذا اعتروا باب ذي عبيه رجبوا ... والناس من بين مرجوب ومحجوب
وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان.
ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} [المطففين:23] وكذلك أيضا لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ} [الأعراف:40]، وليكون الكلام مفيدا للمعنيين قيل "عن ربهم لمحجوبون" دون أن يقال: عن رؤية ربهم، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران [77] {ولا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} .
وأما العذاب فهو ما في قوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} .
وقد عطفت جملة بحرف {ثم} الدالة في عطفها الجمل على التراخي الرتبي وهو
ارتقاء في الوعيد لأنه وعيد بأنهم من أهل النار وذلك أشد من خزي الإهانة.
و"صالوا" جمع صال وهو الذي مسه حر النار، وتقدم في آخر سورة الانفطار.
والمعنى: أنهم سيصلون عذاب الجحيم.
وأما التقريع مع التأييس من التخفيف فهو مضمون جملة {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} فعطف الجملة بحرف {ثم} اقتضر تراخي مضمون الجملة على مضمون التي قبلها، أي بعد درجته في الغرض المسوق له الكلام.
واقتضى اسم الإشارة أنهم صاروا إلى العذاب. والإخبار عن العذاب بأنه الذي كانوا به يكذبون يفيد أنه العذاب الذي تكرر وعيدهم به وهو يكذبونه، وذلك هو الخلود وهو درجة أشد في الوعيد، وبذلك كان مضمون الجملة المعطوفة هي عليها.
أو يكون قوله: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} إشارة إلى جواب مالك خازن جهنم المذكور في قوله تعالى: {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ، لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 77-78] فطوى سؤالهم واقتصر على جواب مالك خازن جهنم اعتماد على قرينة عطف جملة هذا المقال ب {ثم} الدالة على التراخي.
وبني فعل {يقال} للمجهول لعدم تعلق الغرض بمعرفة القائل والمقصد هو القول.
وجيء با سم الموصول ليذكروا تكذبهم به في الدنيا تنديما لهم وتحزينا.
وتقديم {به} على {تُكَذِّبُونَ} للاهتمام بمعاد الضمير مع الرعاية على الفاصلة والباء لتعدية فعل {تُكَذِّبُونَ} إلى تفرقة بين تعديته إلى الشخص الكاذب فيعدى بنفسه وبين تعديته إلى الخبر المكذب فيعدى بالباء، ولعل أصلها باء السببية والمفعول محذوف، أي كذب بسببه من أخبره به، ولذلك قدره بعض المفسرين: هذا الذي كنتم به تكذبون رسل الله في الدنيا.
[18-21] {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} .
{كَلاّ} .
ردع وإبطال لما تضمنه ما يقال لهم {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] فيجوز أن تكون كلمة {كَلاّ} مما قيل لهم مع جملة {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} ردعا لهم فهي من المحكى بالقول.
ويجوز أن تكون معترضة من كلام الله في القرآن ابطالا لتكذيبهم المذكور.
{إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} .
يظهر أن هذه الآيات المنتهية بقوله: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} من الحكاية وليست من الكلام المحكي بقوله: {ثم يقال} الخ، فإن هذه الجملة بحذافرها تشبه جملة {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7] الخ أسلوبا ومقابلة. فالوجه أن يكون مضمونها قسيما لمضمون شبيهها فتحصل مقابلة وعيد الفجار بوعد الأبرار ومن عادة القرآن تعقيب الإنذار بالتبشير والعكس لأن الناس راهب وراغب فالتعرض لنعيم الأبرار إدماج اقتضته المناسبة وإن كان المقام من أول السورة مقام إنذار.
ويكون المتكلم بالوعد والوعيد واحدا وجه كلامه للفجار الذين لا يظنون أنهم مبعوثون، وأعقبه بتوجيه بكلام للأبرار الذين هم بضد ذلك، فتكون هذه الآيات معترضة متصلة بحرف الردع على أوضح الوجهين المتقدمين فيه.
ويجوز أن تكون من المحكي بالقول في {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] فتكون محكية بالقول المذكور متصلة بالجملة التي قبلها وبحرف الإبطال على أن يكون القائلون لهم {هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} على وجه التوبيخ، أعقبوا توبيخهم بوصف نعيم المؤمنين بالبعث تنديما للذين أنكروه وتحسيرا لهم على ما أفاتوه من الخبر.
والأبرار: جمع بر بفتح الباء، وهو الذي يعمل البر، وتقدم في السورة التي قبل هذه.
والقول في الكتاب ومظروفيته في عليين، كالقول في {إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين:7].
وعليون: جمع علي، وعلي على وزن فعيل من العلو، وهو زنة مبالغة في الوصف جاء على صورة جمع المذكر السالم وهو من الأسماء التي ألحقت بجمع المذكر السالم على غير قياس.
وعن الفراء أن {عِلِّيِّينَ} لا واحد له. يريد: أن عليين ليس جمع "علي" ولكنه علم على مكان الأبرار في الجنة إذ لم يسمع عن العرب "علي" وإنما قالوا: علية للغرفة، وعليون علم بالغلبة لمحلة الأبرار.
واشتق هذا الاسم من العلو، وهو علو اعتباري، أي رفعة في مراتب الشرف والفضل، وصيغ على صيغة جمع المذكر لأن أصل تلك الصيغة أن تجمع بها أسماء العقلاء وصفاتهم، فأستكمل له صيغة جمع العقلاء الذكور إتماما لشرف المعنى باستعارة العلو وشرف النوع بإعطائه صيغة التذكير.
والقول في {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ} كالقول في {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 8-9] المتقدم.
و {يَشْهَدُهُ} يطلعون عليه، أي يعلن به عند المقربين، وهم الملائكة وهو إعلان تنويه بصاحبه كما يعلن بأسماء النابغين في التعليم، وأسماء الأبطال في الكتائب.
[22-28] {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ، تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ، يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ، خِتَامُهُ مِسْكٌ، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ، وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} .
مضمون هذه الجملة قسيم لمضمون جملة {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] إلى آخرها. ولذلك جاءت على نسيج نظم قسيمتها افتتاحا وتوصيفا وفصلا، وهي مبينة لجملة {إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] فموقعها موقع البيان أو موقع بدل الاشتمال على كلا الوجهين في موقع التي قبلها على أنه يجوز أن تكون من الكلام الذي يقال لهم {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] فيكون قول ذلك لهم، تحسيرا وتنديما على تفريطهم في الإيمان.
وأحد الوجهين لا يناكد الوجه الآخر فيما قرر للجملة من الخصوصيات.
وذكر الأبرار بالاسم الظاهر دون ضميرهم. خلافا لما جاء في جملة {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] تنويها بوصف الأبرار.
وقوله: {عَلَى الأَرَائِكِ} خبر ثان عن الأبرار، أي هم على الأرائك، أي متكئون عليها.
والأرائك: جمع أريكة بوزن سفينة، والأريكة: اسم لمجموع سرير وودادته وحجلة منصوبة عليهما، فلا يقال: أريكة إلا لمجموع هذه الثلاثة، وقيل: إنها حبشية وتقدم عند قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ} في سورة الإنسان .
و {يَنظُرُونَ} في موضع الحال من الأبرار. وحذف مفعول {يَنظُرُونَ} إما لدلالة ما تقدم عليه من قوله في ضدهم {إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] والتقدير: ينظرون إلى ربهم، وإما لقصد التعميم، أي ينظرون كل ما يبهج نفوسهم ويسرهم بقرينة مقاعد الوعد والتكريم.
وقرأ الجمهور {تَعْرِفُ} بصيغة الخطاب {نَضْرَةَ} وهو خطاب لغير معين. أي تعرف يا من يراهم. وقرأه أبو جعفر ويعقوب "تعرف" بصيغة البناء للمجهول ورفع "نضرة".
ومآل المعنيين واحد إلا أن قراءة الجمهور جرت على الطريقة الخاصة في استعماله. وجرت قراءة أبي جعفر ويعقوب على الطريقة التي لا تختص به.
والخطاب بمثله في مقام وصف الأمور العظيمة طريقة عربية مشهورة، وهذه الجملة خبر ثالث عن {الأَبْرَارَ} أو حال ثانية له.
والنضرة: البهجة والحسن، وإضافة {نَضْرَةَ} إلى {النَّعِيمِ} من إضافة المسبب إلى السبب، أي النضرة والبهجة التي تكون لوجه المسرور الراضي إذ نبدو على وجهه ملامح السرور.
وجملة {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} خبر رابع عن الأبرار أو حال ثالثة منه. وعبر ب {يُسْقَوْنَ} دون: يشربون، للدلالة على أنهم مخدومون يخدمهم مخلوقات لأجل ذلك في الجنة. وذلك من تمام الترفة ولذة الراحة.
والرحيق: اسم للخمر الصافية الطيبة.
والمختوم: المسدود إناؤه، أي باطيته، وهو اسم مفعول من ختمه إذا شد بصنف من الطين معروف بالصلابة إذا يبس فيعسر قلعه وإذا قلع ظهر أنه مقلوع كانوا يجعلونه للختم على الرسائل لئلا يقرأ حاملها على ما فيها ولذلك يقولون من كرم الكتاب ختمه ويجعلون علامة عليه، تطبع فيه وهو رطب فإذا يبس تعذر فسخها، ويسمى ما تطبع به خاتما بفتح الفوقية، وكان الملوك والأمراء والسادة يجعلون لأنفسهم خواتيم يضعونها في أحد
الخنصرين ليجدوها عند إصدار الرسائل عنهم، قال جرير:
إن الخليفة أن الله سربله ... سربال ملك به تزجى الخواتيم
والختام بوزن كتاب: اسم للطين الذي يختم به كانوا يجهلون طين الختام على محل السداد من القارورة أو الباطية أو الدن للخمر لمنع تخلل الهواء إليها وذلك أصلح لاختمارها وزيادة صفائها وحفظ رائحتها. وجعل ختام خمر الجنة بعجين المسك عوضا عن طين الختم.
والمسك مادة حيوانية ذات عرف طيب مشهور طيبه وقوة رائحته منذ العصور القديمة، وهذه المادة تتكون في غدة مملوءة دما تخرج في عنق صنف من الغزال في بلاد التيبيت من أرض الصين فتبقى متصلة بعنقه إلى أن تيبس فتسقط فيلتقطها طلابها ويتجرون فيها. وهي جلدة في شكل فأر صغير ولذلك يقولون: فأرة المسك.
وفسر {خِتَامُهُ مِسْكٌ} بأن المعنى ختام شربه، أي آخر شربه مسك، أي طعم المسك بمعنى نكهته، وأنشد أبن عطية قول ابن مقبل:
مما يعتق في الحانوت قاطفها ... بالفلفل الجون والرمان مختوم
أي ينتهي بلذع الفلفل وطعم الرمان.
وجملة {خِتَامُهُ مِسْكٌ} نعت ل {رَحِيقٍ} . أو بدل مفصل من مجمل، أو استئناف بياني ناشيء عن وصف الرحيق بأنه {مَخْتُومٍ} أن يسأل سائل عن ختامها أي شيء هو من أصناف الختام لأن غالب الختام أن يكون بطين أو سداد.
وجملة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} معترضة بين جملة {خِتَامُهُ مِسْكٌ} . وجملة {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} .
واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله: {وَفِي ذَلِكَ} هو مبدأ الجملة. وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحيق فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال. ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها. والفاء إما أن تكون فصيحة، والتقدير: إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون، أو التقدير: وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين، والمصرح به تنافس جميع
المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيرا ما يعامل معاملة الشرط، كما روي قول النبي صلى الله عليه وسلم "كما تكونوا يول عليكم" بجزم "تكونوا" و "يول"، فالتقدير: إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون. وإما أن تكون الفاء تفريعا على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير، والتقدير: وتنافسوا صيغة أمر في ذلك، فليتنافس المتنافسون فيه، ويكون الكلام مؤذنا بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور.
وجملة {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} معترضة بين جملة {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} الخ وجملة {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} .
والتنافس: تفاعل من نفس عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلا له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النفيس، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله. وقد قيل: إن الأصل في هذه المادة هو النفس. فالتنافس حصول النفاسة بين متعددة.
ولام الأمر في {فَلْيَتَنَافَسِ} مستعملة في التحريض والحث.
ومزاجه: ما يمزج به. وأصله مصدر مازج بمعنى مزج، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سورتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغته غتا فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تشر ممزوجة بالماء. قال كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محقبة ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
وقال حسان:
يسقون من ورد البريضة عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم، كقول لبيد:
أغلي سباء بكل أدكن عاتق ... أو جونة قدحت وفض ختامها
و {تَسْنِيمٍ} علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنم الشيء إذا جعله كهيئة السنام. ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصب على جنانهم من علو فكأنها سنام. وهذا العلم عربي المادة والصيغة ولكنه لم يكن معروفا عند العرب فهو مما أخبر به القرآن، ولذا قال
ابن عباس لما سئل عنه: هذا مما قال الله تعالى: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به. ولغرابة ذلك أحتيج إلى تبيينه بقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} ، أي حال كون التسنيم عينا يشرب بها المقربون.
والمقربون: هم الأبرار، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون.
وباء {يَشْرَبُ بِهَا} إما سببية، وعدي فعل {يَشْرَبُ} إلى ضمير العين بتضمين {يَشْرَبُ} معنى: يمزج، لقوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} أي يمزجون الرحيق بالتسنيم. وإما باء الملابسة وفعل {يَشْرَبُ} معدى إلى مفعول محذوف وهو الرحيق أي يشربون الرحيق ملابسين للعين، أي محيطين بها وجالسين حولها. أو الباء بمعنى "من" التبعيضية قد عد الأصمعي والفارسي وابن قتيبة وابن مالك في معاني الباء، وينسب إلى الكوفيين. واستشهدوا له بهذه الآية وليس ذلك ببين فإن الاستعمال العربي يكثر فيه تعدية فعل الشرب بالباء دون "من"، ولعلهم أرادوا به معنى الملابسة، أو كانت الباء زائدة كقول أبي ذؤيب يصف السحاب:
شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج
[29-35] {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ، وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ، وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ، وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ، وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ، فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ، عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ} .
هذا من جملة القول الذي قال يوم القيامة للفجار المحكي بقوله تعالى: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] لأنه مرتبط بقوله في آخره {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} حكاية كلام يصدر يوم القيامة، إذ تعريف "اليوم" باللام ونصبه على الظرفية يقتضيان أنه يوم حاضر موقت به الفعل المتعلق هو به، ومعلوم أن اليوم الذي يضحك فيه المؤمنون من الكفار وهم على الأرائك هو يوم حاضر حين نزول هذه الآيات وسيأتي مزيد إيضاح لهذا ولأن قوله: {كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} ظاهر في أنه حكاية كون مضى، وكذلك معطوفاته من قوله "وإذا مروا ، وإذا انقلبوا، وإذا رأوهم" فدل السياق على أن هذا الكلام
حكاية قول ينادي به يوم القيامة من حضرة القدس على رؤوس الأشهاد.
فإذا جريت على ثاني الوجهين المتقدمين في موقع جمل {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] الآيات، من أنها محكية بالقول الواقع في قوله تعالى: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] إلى هنا فهذه متصلة بها. والتعبير عنهم بالذين أجرموا إظهار في مقام الإضمار على طريقة الالتفات إذ مقتضى الظاهر أن يقال لهم: إنكم كنتم من الذين آمنوا تضحكون، وهكذا على طريق الخطاب وإن جريت على الوجه الأول بجعل تلك الجمل اعتراضا، فهذه الجملة مبدأ كلام متصل بقوله: {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:16] واقع موقع بدل الاشتمال لمضمون جملة {إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:16] باعتبار ما جاء في آخر هذا من قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} فالتعبير بالذين أجرموا إذا جار على مقتضى الظاهر وليس بالتفات.
وقد اتضح بما قررناه نظم هذه الآيات من قوله: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين:18] إلى هنا مزيد اتضاح، وذلك مما أغفل المفسرون العناية بتوضيحه، سوى ن ابن عطية أورد كلمة مجملة فقال ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول {فَالْيَوْمَ} على حكاية ما يقال اه.
و {إذا} في المواضع الثلاثة مستعمل للزمان الماضي كقوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92] وقوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوْ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83].
والمقصود في ذكره أنه بعد أن ذكر حال المشركين على حدة، وذكر حال المسلمين على حدة، أعقب بما فيه صفة لعاقبة المشركين في معاملتهم للمؤمنين في الدنيا ليعلموا جزاء الفريقين معا.
وإصدار ذلك المقال يوم القيامة مستعمل في التنديم والتشميت كما اقتضته خلاصته من قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} إلى آخر السورة.
والافتتاح ب {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} بصورة الكلام المؤكد لإفادة الاهتمام بالكلام وذلك كثير في افتتاح الكلام المراد إعلانه ليتوجه بذلك الافتتاح جميع السامعين إلى استماعه للإشعار بأنه خبر مهم، والمراد ب {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} المشركون من أهل مكة وخاصة صناديدهم.
وهم: أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وعقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل، والأسود ابن عبد يغوث، والعاص بن هشام، والنضر بن الحارث، كانوا يضحكون من عمار بن ياسر، وخباب بن الأرت، وبلال، وصهيب، ويستهزئون بهم.
وعبر بالموصل وهذه الصلة {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} للتنبيه على أن ما أخبر به عنهم هو إجرام، وليظهر موقع قوله، {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:36].
والإجرام: ارتكاب الجرم وهو الإثم العظيم، وأعظم بالإجرام الكفر ويوذن تركيب "كانوا يضحكون" بأن ذلك صفة ملازمة لهم في الماضي، وصوغ {يَضْحَكُونَ} بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم وأنه ديدن لهم.
وتعدية فعل {يَضْحَكُونَ} إلى الباعث على الضحك بحرف {من} هو الغالب في تعدية أفعال هذه المادة على أن "من" ابتدائية تشبه الحالة التي تبعث على الضحك بمكان يصدر عنه الضحك، ومثله أفعال: سخر منه، وعجب منه.
ومعنى يضحكون منهم: يضحكون من حالهم فكان المشركون لبطرهم يهزأون بالمؤمنين ومعظمهم ضعفاء أهل مكة فيضحكون منهم، والظاهر أن هذا يحصل في نواديهم حين يتحدثون بحالهم بخلاف قوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} .
واعلم أنه إذا كان سبب الضحك حالة خاصة من أحوال كان المجرور اسم ذلك الحال نحو {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا} [النمل:19] وإذا كان مجموع هيئة الشيء كان المجرور اسم الذات صاحبة الأحوال لأن اسم الذات أجمع للمعروف من أحوالها نحو {وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:110]. وقول عبد يغوث الحارث:
وتضحك مني شيخة عبشمية ... كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا
والتغامز: تفاعل من الغمز ويطلق على جس الشيء باليد جسا مكينا، ومنه غمز القناة لتقويمها وإزالة كعوبها. وفي حديث عائشة "لقد رأيتني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وأنا مضطجعة بينه وبين القبلة فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتهما".
ويطلق الغمز على تحريك الطرف لقصد تنبيه الناظر لما عسى أن يفوته النظر إليه من أحوال في المقام وكلا الإطلاقين يصح حمل المعنى في الآية عليه.
وضمير {مَرُّوا} يجوز أن يعود إلى {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} فيكون ضمير {بهم} عائدا إلى
{الَّذِينَ آمَنُوا} ، ويجوز العكس، وأما ضمير {يَتَغَامَزُونَ} فمتمخض للعود إلى {الَّذِينَ أَجْرَمُوا} .
والمعنى: وإذا مر المؤمنون بالذين أجرموا وهم في مجالسهم يتغامز المجرمون حين مرور المؤمنين أو وإذا مر الذين أجرموا بالذين آمنوا وهم في عملهم وفي عسر حالهم يتغامز المجرمون حين مرورهم. وإنما يتغامزون من دون إعلان السخرية بهم اتقاء لتطاول المؤمنون عليهم بالسب لأن المؤمنين قد كانوا كثيرا بمكة حين نزول هذه السورة، فكان هذا دأب المشركين في معاملتهم وهو الذي يقرعون به يوم القيامة.
والانقلاب: الرجوع إلى الموضع الذي جيء منه. يقال: انقلب المسافر إلى أهله وفي دعاء السفر "أعوذ بك من كآبة المنقلب" وأصله مستعار من قلب الثوب، إذا صرفه من وجهه إلى وجه آخر، يقال: قلب الشيء إذا أرجعه.
وأهل الرجل: زوجه وأبنائه، وذكر الأهل هنا لأنهم ينبسط إليهم بالحديث فلذلك قيل {إِلَى أَهْلِهِمُ} دون: إلى بيوتهم.
والمعنى: وإذا رجع الذين أجرما إلى بيوتهم وخلصوا مع أهلهم تحدثوا أحاديث الفكاهة معهم بذكر المؤمنين وذمهم.
وتكرير فعل {انقَلَبُوا} بقوله: {انقَلَبُوا فَكِهِينَ} من النسج الجزل في الكلام كان يكفي أن يقول: وإذا انقلبوا إلى أهلهم فكهوا، أو وإذا انقلبوا إلى أهلهم كانوا فاكهين. وذلك لما في إعادة الفعل من زيادة تقرير معناه في ذهن السامع لأنه مما ينبغي الاعتناء به، ولزيادة تقرير ما في الفعل من إفادة التجدد حتى يكون فيه استحضار الحالة. قال ابن جني في كتاب التنبيه على إعراب الحماسة عند قول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
محال أن تقول إذا قمت قمت وإذا أقعد أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول، أي فلا يستقيم جعل الثاني جوابا للأول. وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة ومثله قول الله تعالى: {هَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] ولو قال: هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا لأنه كقولك الذي ضربته ضربته والتي أكرمتها أكرمتها ولكن لما اتصل
بـ {أَغْوَيْنَاهُمْ} الثانية قوله: {كَمَا غَوَيْنَا} أفاد الكلام كالذي ضربته ضربته لأنه جاهل. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك أه.
وقد مضى ذلك في سورة القصص وفي سورة الفرقان.
و {فَكِهِينَ} اسم فاعل فاكه وهو من فكه من باب فرح إذا مزح وتحدث فأضحك، والمعنى: فاكهين في التحدث عن المؤمنين فحذف متعلق {فَكِهِينَ} للعلم بأنه من قبيل متعلقات الأفعال المذكورة معه.
وقرأ الجمهور {فاكهين} بصيغة الفاعل. وقرأ حفص عن عاصم وأبو جعفر {فَكِهِينَ} بدون ألف بعد الفاء على أنه جمع فكه. وهو صفة مشبهة وهما بمعنى واحد مثل فارح فرح. وقال الفراء: هما لغتان.
وجملة {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ} حكت ما يقوله الذين أجرموا في المؤمنين إذا شاهدوهم أي يجمعون بين الأذى بالإشارات وبالهيئة وبسوء القول في غيبتهم وسوء القول إعلانا به على مسامع المؤمنين لعلهم يرجعون عن الإسلام إلى الكفر، أم كان قولا يقوله بعضهم لبعض إذا رأوا المؤمنين كما يفكهون بالحديث عن المؤمنين في خلواتهم، وبذلك أيضا فارق مضمون الجمل التي قبلها مع ما في هذه الجملة من عموم أحوال رؤيتهم سواء كانت في حال المرور بهم أو مشاهدة في مقرهم.
ومرادهم بالضلال: فساد الرأي. لأن المشركين لا يعرفون الضلال الشرعي، أي هؤلاء سيئوا الرأي إذ اتبعوا الإسلام وانسلخوا عن قومهم، وفرطوا في نعيم الحياة طمعا في نعيم بعد الموت وأقبلوا على الصلاة والتخلق بالأخلاق التي يراها المشركون أوهاما وعنتا لأنهم بمعزل عن مقدرة قدر الكمال النفساني وما همهم إلا التلذذ الجثماني.
وكلمة {إذا} في جملة من الجمل الثلاث ظرف متعلق بالفعل الموالي له في كل جملة.
ولم يعرج أحد من المفسرين على بيان مفاد جملة {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَالُّونَ} مع ما قبلها. وقال المهايمي في تبصرة الرحمان وإذا رأوهم يؤثرون الكمالات الحقيقية على الحسية فقدر مفعولا محذوفا لفعل {رَأَوْهُمْ} لإبداء المغايرة بين مضمون هذه الجملة ومضمون الجمل التي قبلها وقد علمت عدم الاحتياج إليه ولقد أحسن
في التنبيه عليه.
وتأكيد الخبر بحرف التأكيد ولام الابتداء لقصد تحقيق الخبر.
وجملة {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} في موضع الحال أي يلمزوهم بالضلال في حال أنهم لم يرسلهم مرسل ليكونوا موكلين بأعمالهم فدل على أن حالهم كحال المرسل ولذلك نفي أن يكونوا أرسلوا حافظين عليهم فإن شدة الحرص على أن يقولوا: إن هؤلاء لضالون، كلما رأوهم يشبه حال المرسل ليتتبع أحوال أحد ومن شأن الرسول الحرص على التبليغ.
والخبر مستعمل في التهكم بالمشركين، أي لم يكونوا مقيضين للرقابة عليهم والاعتناء بصلاحهم.
فمعنى الحفظ هنا الرقابة ولذلك عدي بحرف "على" ليتسلط النفي على الإرسال والحفظ وعنى الاستعلاء المجازي الذي أفاده حرف "على" فينتفي حالهم الممثل.
وتقديم المجرور على معلقه للاهتمام بمفاد حرف الاستعلاء وبمجروره مع الرعاية على الفاصلة.
وأفادت فاء السببية في قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} ، أن استهزاءهم بالمؤمنين في الدنيا كان سبب في جزاءهم بما هو من نوعه في الآخرة إذ جعل الله الذين آمنوا يضحكون من المشركين فكان جزاء وفاقا.
وتقديم "اليوم" على {يَضْحَكُونَ} للاهتمام به لأنه يوم الجزاء العظيم الأبدي وقوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} في اتصال نظمه بما قبله غموض. وسكت عنه جميع المفسرين عدا ابن عطية. ذلك أن تعريف اليوم باللام مع كونه ظرفا منصوبا يقتضي أن اليوم مراد به يوم حاضر في وقت نزول الآية نظير وقت كلام المتكلم إذا قال: اليوم يكون كذا، يتعين أنه يخبر عن يومه الحاضر، فليس ضحك الذين آمنوا على الكفار بحاصل في وقت نزول الآية وإنما يحصل يوم الجزاء، ولا يستقيم تفسير قوله: {فَالْيَوْمَ} بمعنى: فيوم القيامة الذين آمنوا يضحكون من الكفار، لأنه لو كان كذلك لكان مقتضى النظم أن يقال فيومئذ الذين آمنوا من الكفار يضحكون. وابن عطية استشعر إشكالها فقال ولما كانت الآيات المتقدمة قد نيطت بيوم القيامة وأن الويل يومئذ للمكذبين ساغ أن يقول {فَالْيَوْمَ} على حكاية ما يقال يومئذ وما يكون اهـ.
وهو انقداح زناد يحتاج في تنوره إلى أعواد.
فإما أن نجعل ما قبله متصلا بالكلام الذي يقال لهم يوم القيامة ابتداء من قوله: {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين:17] إلى هنا كما تقدم.
وإما أن يجعل قوله: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا} الخ مقول قول محذوف دل عليه قوله في الآية قبله {ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . والتقدير: ويقال لهم اليوم الذين آمنوا يضحكون منكم.
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} دون أن يقال: فاليوم يضحك الذين آمنوا، لإفادة الحصر وهو قصر إضافي في مقابلة قوله: {كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} أي زال استهزاء المشركين بالمؤمنين فاليوم المؤمنون يضحكون من الكفار دون العكس.
وتقديم {مِنْ الْكُفَّارِ} على متعلقه وهو {يَضْحَكُونَ} للاهتمام بالمضحوك منهم تعجيلا لإساءتهم عند سماع هذا التقريع.
وقوله: {مِنْ الْكُفَّارِ} إظهار في مقام الإضمار، عدل عن أن يقال: منهم يضحكون، لما في الوصف المظهر من الذم للكفار.
ومفعول {يَنظُرُونَ} محذوف دل عليه قوله: {مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} تقديره: ينظرون، أي يشاهدون المشركين في العذاب والإهانة.
[36] {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} .
فذلكه لما حكي من اعتداء المشركين على المؤمنين وما ترتب عليه من الجزاء يوم القيامة، فالمعنى فقد جوزي الكفار بما كانوا يفعلون وهذا من تمام النداء الذي يعلق به يوم القيامة.
والاستفهام ب {هل} تقريري وتعجب من عدم إفلاتهم منه بعد دهور.
والاستفهام من قبيل الطلب فهو من أنواع الخطاب.
والخطاب بهذا الاستفهام موجه إلى غير معين بل إلى كل من يسمع ذلك النداء يوم القيامة. وهذا من مقول القول المحذوف.
و {ثُوِّبَ} أعطي الثواب، يقال: ثوبه كما يقال: أثابه، إذ أعطاه ثوابا.
والثواب: هو ما يجازى به من الخير على فعل محمود وهو حقيقته كما في الصحاح، وهو ظاهر الأساس ولذلك فاستعماله في جزاء الشر هنا استعارة تهكمية. وهذا هو التحقيق وهو الذي صرح به الراغب في آخر كلامه إذ قال: إنه يستعمل في جزاء الخير والشر. أراد إنه يستعار لجزاء الشر بكثرة فلا بد من علاقة وقرينة وهي هنا قوله: {الْكُفَّارِ} وما كانوا يفعلون كقول عمرو بن كلثوم:
نزلتم منزل الأضياف منا ... فعجلنا القرى أن تشتمونا
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
ومن قبيل قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الإنشقاق:24].
و {مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} موصول وهو مفعول ثان لفعل {ثُوِّبَ} إذ هو من باب أعطى. وليس الجزاء هو ما كانوا يفعلونه بل عبر عنه بهذه الصلة لمعادلته شدة جرمهم على طريقة التشبيه البليغ، أو على حذف مضاف تقديره: مثل، ويجوز أن يكون على نزع الخافض وهو باء السببية، أي بما كانوا يفعلون.
وفي هذه الجملة محسن براعة المقطع لأنها جامع لما اشتملت عليه السورة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الانشقاقسميت في زمن الصحابة "سورة إذا السماء انشقت". ففي الموطأ عن أبي سلمة أن أبا هريرة قرأ بهم إذا السماء انشقت فسجد فيها فلما انصرف أخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد فيها. فضمير "فيها" عائد إلى {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الإنشقاق:1] بتأويل السورة، وبذلك عنونها البخاري والترمذي وكذلك سماها في "الإتقان".
سماها المفسرون وكتاب المصاحف "سورة الانشقاق" باعتبار المعنى كما سميت السورة السابقة "سورة التطفيف" و "سورة انشقت" اختصارا.
وذكرها الجعبري في "نظمه" في تعداد المكي والمدني بلفظ "كدح" فيحتمل أنه عنى أنه اسم للسورة ولم أقف على ذلك لغيره.
ولم يذكرها في "الإتقان" مع السور ذوات الأكثر من اسم.
وهي مكية بالاتفاق.
وقد عدت الثالثة والثمانين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة الانفطار وقبل سورة الروم.
وعد آيها خمسا وعشرين أهل العدد بالمدينة ومكة والكوفة وعدها أهل البصرة والشام ثلاثا وعشرين.
أغراضها
ابتدئت بوصف أشراط الساعة وحلول يوم البعث واختلاف أحوال الخلق يومئذ بين أهل نعيم وأهل شقاء.
[1-6] {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} .
قدم الظرف {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} على عامله وهو {كَادِحٌ} للتهويل والتشويق إلى الخبر وأول الكلام في الاعتبار: يا أيها الإنسان إنك كادح إذا السماء انشقت الخ.
ولكن ما تعلق {إذا} بجزء من جملة {إِنَّكَ كَادِحٌ} وكانت {إذا} ظرفا متضمنا معنى الشرط صار: يأيها الإنسان إنك كادح جوابا لشرط {إذا} ولذلك يقولون {إذا} ظرف خافض لشرطه منصوب بجوابه، أي خافض لجملة شرطه بإضافته إليها منصوبا بجوابه لتعلقه به فكلاهما عامل ومعمول باختلاف الاعتبار.
و {إذا} ظرف للزمان المستقبل، والفعل الذي في الجملة المضافة إليه {إذا} مؤول بالمستقبل وصيغ بالمضي للتنبيه على تحقق وقوعه لأن أصل {إذا} القطع بوقوع الشرط.
وانشقت مطاوع شقها، أي حين يشق السماء شاق فتنشق، أي يريد الله شقها فانشقت كما دل عليه قوله بعده {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} .
والانشقاق: هذا هو الانفطار الذي تقدم في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ} [الإنفطار:1] وهو انشقاق يلوح للناس في جو السماء من جراء اختلال تركيب الكرة الهوائية أو من ظهور أجرام كوكبية تخرج عن دوائرها المعتادة في الجو الأعلى فتنشق القبة الهوائية فهو انشقاق يقع عند اختلال نظام هذا العالم.
وقدم المسند إليه على المسند الفعلي في قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} دون أن يقال: إذا انشقت السماء لإفادة تقوي الحكم وهو التعليق الشرطي، أي إن هذا الشرط محقق الوقوع، زيادة على ما يقتضيه {إذا} في الشرطية من قصد الجزم بحصول الشرط بخلاف "إن".
و {أَذِنَتْ} ، أي استمعت، وفعل أذن مشتق من اسم جامد وهو اسم الأذن بضم الهمزة آلة السمع في الإنسان يقال أذن له كما يقال: استمع له، أي أصغى إليه أذنه.
وهو هنا مجاز مرسل في التأثر لأمر الله التكويني بأن تنشق. وليس هو باستعارة
تبعية1 ولا تمثيلية2.
والتعبير ب"ربها" دون ذلك من أسماء الله وطرق تعريفه، لما يؤذن به وصف الرب من الملك والتدبير.
وجملة {وَحُقَّتْ} معترضة بين المعطوفة والمعطوف عليها.
والمعنى: وهي محقوقة بأن تأذن لربها لأنها لا تخرج عن سلطان قدرته وإن عظم سمكها واشتد خلقها وطال زمان رتقها فما ذلك كله إلا من تقدير الله لها، فهو الذي إذا شاء أزالها.
فمتعلق {حُقَّتْ} محذوف دل عليه فعل {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} ، أي وحقت بذلك الانقياد والتأثر يقال: حق فلان بكذا، أي توجه عليه حق. ولما كان فاعل توجيه الحق غير واضح تعيينه غالبا، كان فعل حق بكذا، مبنيا للمجهول في الاستعمال، ومرفوعه بمعنى اسم المفعول، فيقال: حقيق عليه كذا، كقوله تعالى: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} [الأعراف:105] وهو محقوق بكذا، قال الأعشى:
لمحقوقه أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
والقول في جملة {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ} مثل القول في جملة {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} في تقديم المسند إليه على المسند الفعلي.
ومد الأرض: بسطها، وظاهر هذا أنها يزال ما عليها من جبال كما يمد الأديم فتزول انثناءاته كما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا، فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا، لاَ تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلاَ أَمْتًا} [طه:105-107].
ومن معاني المد أن يكون ناشئا عن اتساع مساحة ظاهرها بتشققها بالزلزال وبروز أجزاء من باطنها إلى سطحها.
ومن معاني المد أن يزال تكويرها بتمدد جسمها حتى تصير إلى الاستطالة بعد التكوير. وذلك كله مما يؤذن باختلال نظام سير الأرض وتغير أحوال الجاذبية وما بالأرض من كرة الهواء فيعقب ذلك زوال هذا العالم.
ـــــــ
1 رد على الخفاجي.
2 رد على الطيبي وسعدي
وقوله: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا} صالح للحمل على ما يناسب هذه الاحتمالات في مد الأرض ومحتمل لأن تنقذف من باطن الأرض أجزاء أخرى يكون لانقذافها أثر في إتلاف الموجودات مثل البراكين واندفاع الصخور العظيمة وانفجار العيون إلى ظاهر الأرض فيكون طوفان.
و {تَخَلَّتْ} أي أخرجت ما في باطنها فلم يبق منه شيء لأن فعل تخلى يدل على قوة الخلو عن شيء لما في مادة التفعل من الدلالة على تكلف الفعل كما يقال تكرم فلان إذا بالغ في الإكرام.
والمعنى: إنه لم يبق مما في باطن الأرض شيء كما قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة:2].
وتقدم الكلام على نظير قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} آنفا.
وجملة {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} إلى آخره جواب {إذا} باعتبار ما فرع عليه من قوله: {فَمُلاَقِيهِ} ونسب هذا إلى المبرد، أي لأن المعطوف الأخير بالفاء في الأخبار هو المقصود مما ذكر معه.
فالمعنى: إذا السماء انشقت وإذا الأرض مدت لاقيت ربك أيها الإنسان بعد كدحك لملاقاته فكان قوله: {إِنَّكَ كَادِحٌ} إدماجا بمنزلة الاعتراض أمام المقصود.
وجوز المبرد أن يكون جواب {إذا} محذوفا دل عليه قوله: {فَمُلاَقِيه} والتقدير: إذا السماء انشقت إلى آخره لاقيت أيها الإنسان ربك.
وجوز الفراء أن يكون جواب {إذا} قوله: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} وإن الواو زائدة في الجواب. ورده ابن الانباري بأن العرب لا تقحم الواو إلا إذا كانت {إذا} بعد "حتى" كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر:73] أو بعد "لما" كقوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [الصافات:103-104] الآية.
وقيل الجواب {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإنشقاق:7]، ونسب إلى الكسائي واستحسنه أبو جعفر النحاس.
والخطاب لجميع الناس فاللام في قوله: {الإنسان} لتعريف الجنس وهو للاستغراق
كما دل عليه التفصيل في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إلى قوله: {كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الإنشقاق:15].
والمقصود الأول من هذا وعيد المشركين لأنهم الذين كذبوا بالبعث. فالخطاب بالنسبة إليهم زيادة للإنذار، وهو بالنسبة إلى المؤمنين تذكير وتبشير. وقيل: أريد إنسان معين فقيل هو الأسود بن عبد الأسد بالسين المهملة في "الاستيعاب" و "الإصابة" ووقع في "الكشاف" بالشين المعجمة كما ضبطه الطيبي وقال هو في "جامع الأصول" بالمهملة ، وقيل أبي بن خلف، وقد يكون أحدهما سبب النزول أو هو ملحوظ ابتداء.
والكدح: يطلق على معان كثيرة لا نتحقق أيها الحقيقة، وقد أهمل هذه المادة في الأساس فلعله لأنه لم يتحقق المعنى الحقيقي. وظاهر كلام الراغب أن حقيقته: إتعاب النفس في العمل والكد. وتعليق مجروره في هذه الآية بحرف "إلى" تؤذن بأن المراد به عمل ينتهي إلى لقاء الله، فيجوز أن يضمن {كَادِحٌ} معنى ساع لأن كدح الناس في الحياة يتطلبون بعمل اليوم عملا لغد وهكذا، وكذلك يتقضى به زمن العمر الذي هو أجل حياة كل إنسان ويعقبه الموت الذي هو رجوع نفس الإنسان إلى محض تصرف الله، فلما آل سعيه وكدحه إلى الموت جعل كدحه إلى ربه. فكأمه قيل: إنك كادح تسعى إلى الموت وهو لقاء ربك، وعليه فالمجرور ظرف مستقر هو خبر ثان عن حرف "إن"، ويجوز أن يضمن {كَادِحٌ} معنى ماش فيكون المجرور ظرفا لغوا.
و {كَدْحًا} منصوب على المفعولية المطلقة لتأكيد {كَادِحٌ} المضمن معنى ياع إلى ربك، أي ساغ إليه لا محالة ولا مفر.
وضمير النصب في "ملاقيه" عائد إلى الرب، أي فملاق ربك، أي لا مفر لك من لقاء الله ولذلك أكد الخبر بإن.
[7-15] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا، وَيَصْلَى سَعِيرًا، إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا، إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} .
هذا تفصيل الإجمال الذي في قوله: {إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق:6] أي رجوع جميع الناس أولئك إلى الله، فمن أوتي كتابه بيمينه فريق من الناس هم المؤمنون ومن أوتي كتابه وراء ظهره فريق آخر وهم المشركون كما دل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ
ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} ، وبين منتهاهما مراتب، وإنما جاءت هذه الآية على اعتبار تقسيم الناس يومئذ بين أتقياء ومشركين.
والكتاب: صحيفة الأعمال، وجعل إيتاؤه إياه بيمينه شعارا للسعادة لما هو متعارف من أن اليد اليمنى تتناول الأشياء الزكية وهذا في غريزة البشر نشأ عن كون الجانب الأيمن من الجسد أقدر وأبدر للفعل الذي يتعلق العزم بعمله فارتكز في النفوس أن البركة في الجانب الأيمن حتى سموا البركة والسعادة يمنا، ووسموا ضدها بالشؤم فكانت بركة اليمين مما وضعه الله تعالى في أصل فطرة الإنسان، وتقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} في سورة الصافات [28]، وقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} [الواقعة:27]. وقوله: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ} في سورة الواقعة [41]، وقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} في سورة الواقعة [8-9].
والباء في قوله: {بِيَمِينِهِ} للملابسة أو المصاحبة، أو هي بمعنى "في"، وهي متعلقة ب {أوتي} .
وحرف "سوف" أصله لحصول الفعل في المستقبل، والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد وذلك هو الشائع، ويقصد به في الاستعمال البليغ تحقق حصول الفعل واستمراره ومنه قوله تعالى: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} في سورة يوسف [98]، وهو هنا مفيد للتحقيق والاستمرار بالنسبة إلى الفعل القابل للاستمرار وهو ينقلب إلى أهله مسرورا وهو المقصود من هذا الوعد. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} في سورة النساء [30].
والحساب اليسير: هو عرض أعماله عليه دون مناقشة فلا يطول زمنه فيعجل به إلى الجنة، وذلك إذا كانت أعماله صالحة، فالحساب اليسير كناية عن عدم المؤاخذة.
و {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} هو الكافر. والمعنى: أنه يؤتى كتابه بشماله كما تقتضيه المقابلة ب {مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} وذلك أيضا في سورة الحاقة قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ} ، أي يعطى كتابه من خلفه فيأخذه بشماله تحقيرا له ويناول له من وراء ظهره إظهارا للغضب عليه بحيث لا ينظر مناوله كتابه إلى وجهه.
وظرف {وَرَاءَ ظَهْرِهِ} في موضع الحال من {كِتَابَهُ} .
و {وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} أي يرجع. والانقلاب: الرجوع إلى المكان الذي جيء منه، وقد تقدم قريبا في سورة المطففين.
والأهل: العشيرة من زوجة وأبناء وقرابة.
وهذا التركيب تمثيل لحال المحاسب حسابا يسيرا في المسرة والفوز والنجاة بعد العمل الصالح في الدنيا، بحال المسافر لتجارة حين يرجع إلى أهله سالما رابحا لما في الهيئة المشبه بها من وفرة المسرة بالفوز والربح والسلامة ولقاء الأهل وكلهم في مسرة فذلك وجه الشبه بين الهيأتين وهو السرور المألوف للمخاطبين فالكلام استعارة تمثيلية.
وليس المراد رجوعه إلى منزله في الجنة لأنه لم يكن فيه من قبل حتى يقال لمصيره إليه انقلاب، ولأنه قد لا يكون له أهل. وهو أيضا كناية عن طول الراحة لأن المسافر إذا رجع إلى أهله فارق المتاعب زمان.
والمراد بالدعاء في قوله: {يَدْعُو ثُبُورًا} النداء، أي ينادي الثبور بأن يقول: يا ثبوري، أو يا ثبورا، كما يقال: يا ويلي ويا ويلتنا.
والثبور: الهلاك وسوء الحال وهي كلمة يقولها من وقع في شقاء وتعس.
والنداء في مثل هذه الكلمات مستعمل في التحسر والتوجع من معنى الاسم الواقع بعد حرف النداء.
{وَيَصْلَى} قرأه نافع وبن كثير وبن عامر والكسائي بتشديد اللام مضاعف صلاه إذا أحرقه. وقرأه أبو عمرو وعاصم وحمزة وأبو جعفر ويعقوب وخلف {وَيَصْلَى} بفتح التحتية وتخفيف اللام مضارع صلي اللازم إذا مسته النار كقوله: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ} [الإنفطار:15].
وانتصب {سَعِيراً} على نزع الخافض بتقدير يصلى بسعير، وهذا الوجه هو الذي يطرد في جميع المواضع التي جاء فيها لفظ النار ونحوه منصوبا بعد الأفعال المشتقة من الصلي والتصلية، وقد قدمنا وجهه في تفسير قوله تعالى: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} في سورة النساء [10] فأنظره.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} مستعمل في التعجيب من حالهم كيف انقلبت
من ذلك السرور الذي كان لهم في الحياة الدنيا المعروف من أحوالهم بما حكي في آيات كثيرة مثل قوله: {أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل:11] وقوله: {وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:31] فآلوا إلى ألم النار في الآخرة حتى دعوا بالثبور.
وتأكيد الخبر من شأن الأخبار المستعملة في التعجيب كقول عمر لحذيفة بن اليمان إنك عليه لجريء أي على النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الجملة معترضة.
وموقع جملة {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} موقع التعليل لمضمون جملة {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} إلى آخرها.
وحرف "أن" فيها مغن عن فاء التعليل، فالمعنى: يصلى سعيرا لأنه ظن أن لن يحور، أي لن يرجع إلى الحياة بعد الموت، أي لأنه يكذب بالبعث، يقال: حار يحور، إذا رجع إلى المكان الذي كان فيه، ثم أطلق إلى الرجوع إلى حالة كان فيها بعد أن فارقها، وهو المراد هنا وهو من المجاز الشائع في إطلاق الرجوع عليه في قوله: {ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ} [يونس:23] وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] وسمي يوم البعث يوم المعاد.
وجيء بحرف {لن} الدال على تأكيد النفي وتأييده لحكاية جزمهم وقطعهم بنفيه.
وحرف {بلى} يجاب به الكلام المنفي لإبطال نفيه وأكثر وقوعه بعد الاستفهام عن النفي نحو {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] ويقع بعد غير الاستفهام أيضا نحو قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن:7].
وموقع {بلى} الاستفهام كأحرف الجواب.
وجملة {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} مبينة للإبطال الذي أفاده حرف {بلى} على وجه الإجمال يعني أن ظنه باطل لأن ربه أنبأه بأنه يبعث.
والمعنى: إن ربه عليم بمآله. وتأكيد ذلك بحرف {إن} لرده إنكاره البعث الذي أخبر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فآل المعنى الحاصل من حرف الإبطال ومن حرف التأكيد إلى معنى: أن ربه بصير به وأما هو فغير بصير بحاله كقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].
وتعدية {بَصِيرًا} بالباء لأنه من بصر القاصر بضم الصاد به إذا رآه رؤية محققة، فالباء فيه معناها الملابسة أو الإلصاق.
وفيه إشارة إلى حكمة البعث للجزاء لأن رب الناس عليم بأحوالهم فمنهم المصلح ومنهم المفسد والكل متفاوتون في ذلك فليس من الحكمة أن يذهب المفسد بفساده وما ألحقه بالموجودات من مضار وأن يهمل صلاح المصلح، فجعل الله الحياة الأبدية وجعلها للجزاء على ما قدم صاحبها في حياته الأولى.
وأطلق البصر هنا على العلم التام بالشيء.
وعلق وصف "بصير" بضمير الإنسان الذي ظن أن لن يحور، والمراد: العلم بأحواله لا بذاته.
وتقديم المجرور على متعلقة للاهتمام بهذا المجرور، أي بصير به لا محالة مع مراعاة الفواصل.
[16-19] {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} .
الفاء لتفريع القسم وجوابه، على التفصيل الذي في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإنشقاق:7] إلى هنا: فإنه اقتضى أن ثمة حسابا وجزاء بخير وشر فكان هذا التفريع فذلكة وحوصلة لما فصل من الأحوال وكان أيضا جمعا إجماليا لما يعترض في ذلك من الأهوال.
وتقدم أن "لا أقسم" يراد منه أقسم، وتقدم وجه القسم بهذه الأحوال ومخلوقات عند قوله: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} في سورة التكوير [15].
ومناسبة الأمور المقسم بها هنا للمقسم عليه لأن الشفق والليل والقمر تخالط أحوالا بين الظلمة وظهور النور معها، أو في خلالها، وذلك مناسب لما في قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} من تفاوت الأحوال التي يتخبط فيها الناس يوم القيامة أو في حياتهم الدنيا، أو من ظهور أحوال خير في خلال أحوال شر أو انتظار تغير الأحوال إلى ما يرضيهم إن كان الخطاب للمسلمين خاصة كما سيأتي.
ولعل ذكر الشفق إيماء إلى أنه يشبه حالة انتهاء الدنيا لأن غروب الشمس مثل حالة
الموت، وأن ذكر الليل إيماء إلى شدة الهول يوم الحساب وذكر القمر إيماء إلى حصول الرحمة للمؤمنين.
والشفق: اسم للحمرة التي تظهر في أفق مغرب الشمس اثر غروبها وهو ضياء من شعاع الشمس إذا حجبها عن عيون الناس بعض جرم الأرض، واختلف في تسمية البياض الذي يكون عقب الاحمرار شفقا.
و {وَمَا وَسَقَ} "ما" فيه مصدرية، ويجوز أن يكون موصولة على طريقة حذف العائد المنصوب.
والوسق: جمع الأشياء بعضها على بعض فيجوز أن يكون المعنى وما جمع مما كان منتشرا في النهار من ناس وحيوان فإنها تأوي في الليل إلى مآويها وذلك مما جعل الله في الجبلة من طلب الأحياء السكون في الليل قال تعالى: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص:73]، وذلك من بديع التكوين فلذلك أقسم به قسما أدمجت فيه منة. وقيل: ما وسقه الليل: النجوم، لأنها تظهر في الليل، فشبه ظهورها فيه بوسق الواسق أشياء متفرقة. وهذا أنسب بعطف القمر عليه.
واتساق القمر: اجتماع ضيائه وهو افتعال من الوسق بمعنى الجمع كما تقدم آنفا وذلك في ليلة البدر، وتقييد القسم به بتلك الحالة لأنها مظهر نعمة الله على الناس بضيائه.
وأصل فعل اتسق: اوتسق قلبت الواو تاء فوقية طلبا لإدغامها في تاء الافتعال وهو قلب مطرد.
وجملة {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} نسج نظمها نسجا مجملا لتوفير المعاني التي تذهب إليها أفهام السامعين، فجاءت على أبدع ما ينسج عليه الكلام الذي يرسل إرسال الأمثال من الكلام الجامع البديع النسج الوافر المعنى ولذلك كثرت تأويلات المفسرين لها.
فلمعاني الركوب المجازية، ولمعاني الطبق من حقيقي مجازي، متسع لما تفيده الآية من المعاني، وذلك ما جعل لإيثار هذين اللفظين في هذه الآية خصوصية من أفنان الإعجاز القرآني.
فأما فعل {لَتَرْكَبُنَّ} فحقيقته متعذرة هنا وله من المعاني المجازية المستعملة في
الكلام أو التي يصح أن تراد في الآية عدة، منها الغلب والمتابعة، والسلوك، والاقتحام، والملازمة، والرفعة.
وأصل تلك المعاني إما استعارة وإما تمثيل يقال: ركب أمرا صعبا وارتكب خطأ.
وأما كلمة {طَبَقٍ} فحقيقتها أنها اسم مفرد للشيء المساوي شيئا آخر في حجمه وقدره، وظاهر كلام "الأساس" و"الصحاح" أن المساواة بقيد كون الطبق أعلى من الشيء لمساويه فهو حقيقة في الغطاء فيكون في الألفاظ الموضوعة لمعنى مقيد كالخوان والكأس، وظاهر الكشاف أن حقيقته مطلق المساواة فيكون قيد الاعتلاء عارضا بغلبة الاستعمال، يقال: طابق النعل النعل.
وأياما كان فهو اسم على وزن فعل إما مشتق من المطابقة كاشتقاق الصفة المشبهة ثم عوامل معاملة الأسماء وتنوسي منه الاشتقاق، وإما أن يكون أصله اسم الطبق هو الغطاء لوحظ في التشبيه ثم تنوسي ذلك فجاءت منه مادة المطابقة بمعنى المساواة فيكون من المشتقات من الأسماء الجامدة.
ويطلق اسما مفردا للغطاء الذي يغطى به، ومنه قولهم في المثل وافق شن طبقة أي غطاءه وهذا من الحقيقة لأن الغطاء مساو لما يغطيه. ويطلق الطبق على الحالة لأنها ملابسة لصاحبها كملابسة الطبق لما طبق عليه.
ويطلق اسما مفردا أيضا على شيء متخذ من أدم أو عود ويؤكل عليه وتوضع فيه الفواكه ونحوها، وكأنه سمي طبقا لأن أصله يستعمل غطاء الآنية فتوضع فيه أشياء.
ويطلق اسم جمع لطبقة. وهي مكان فوق مكان آخر معتبر مثله في المقدار إلا أنه مرتفع عليه، وهذا من المجاز يقال: أتانا طبق من الناس، أي جماعة.
ويقارن اختلاف معاني اللفظين اختلاف معنى {عن} من مجاوزة وهي معنى حقيقي، أو من مرادفة كلمة "بعد" وهو معنى مجازي.
وكذلك اختلاف وجه النصب للفظ طبقا بين المفعول به والحال، وتزداد هذه المحامل إذا لم تقصر الجمل على ما له مناسبة بسياق الكلام من موقع الجملة عقب آية {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الإنشقاق:6] الآيات. ومن وقوعها بعد القسم المشعر بالتأكيد، ومن اقتضاه فعل المضارعة بعد القسم أنه للمستقبل. فتتركب من هذه المحامل معان كثيرة صالحة لتأويل الآية.
فقيل المعنى: لتركبن حالا بعد حال، رواه البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم والأظهر أنه تهديد بأهوال القيامة فتنوين "طبق" في الموضعين للتعظيم والتهويل و {عن} بمعنى "بعد" والبعدية اعتبارية، وهي بعدية ارتقاء، أي لتلاقن هولا اعظم من هول، كقوله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88]. وإطلاق الطبق على الحالة على هذا التأويل لأن الحالة مطابقة لعمل صاحبها.
وروى أبو نعيم عن جابر بن عبدالله تفسير الأحوال بأنها أحوال موت وإحياء، وحشر، وسعادة أو شقاوة، ونعيم أو جحيم، كما يكتب الله لكل أحد عند تكوينه رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن كثير هو حديث منكر وفي إسناده ضعفاء، أو حالا بعد حال من شدائد القيامة وروي هذا عن ابن عباس وعكرمة والحسن مع اختلاف في تعيين الحال.
وقيل {لَتَرْكَبُنَّ} منزلة بعد منزلة على أن طبقا اسم منزلة، وروي عن ابن زيد وسعيد بن جبير أي لتصيرن من طبق الدنيا إلى طبق الآخرة، أو إن قوما كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، فالتنوين فيها للتنويع.
وقيل من كان على صلاح دعا إلى صلاح آخر ومن كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأن كل شيء يجر إلى شكله، أي فتكون الجملة اعتراضا بالموعظة وتكون {عن} على هذا على حقيقتها للمجاوزة، والتنوين للتعظيم.
ويحتمل أن يكون الركوب مجازا في السير بعلاقة الإطلاق، أي لتحضرن للحساب جماعات بعد جماعات على معنى قوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30] وهذا تهديد لمنكريه، أي يكون الركوب مستعملا في المتابعة، أي لتتبعن. وحذف مفعول {تركبن} بتقدير: ليتبعن بعضكم بعضا، أي في تصميمكم على إنكار البعث. ودليل المحذوف هو قوله: {طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} ويكون {طَبَقًا} مفعولا به وانتصاب {طَبَقًا} إما على الحال من ضمير {تركبن} . وإما على المفعولية به على حسب ما يليق بمعاني ألفاظ الآية.
وموقع {عَنْ طَبَقٍ} موقع النعت ل {طَبَقًا} .
ومعنى {عن} إما مجازية، وإما مرادفة معنى "بعد" وهو مجاز ناشئ عن معنى المجاوزة، ولذلك ضمن النابغة معنى قولهم "ورثوا المجد كابرا عن كابر" غير حرف
"عن" إلى كلمة "بعد" فقال:
لآل الجلاح كابرا بعد كابر
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {لَتَرْكَبُنَّ} بضم الموحدة على خطاب الناس. وقرأه الباقون بفتح الموحدة على أنه خطاب للإنسان من قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} [الإنشقاق:6]. وحمل أيضا على أن التاء الفوقية تاء المؤنثة الغائبة وأن الضمير عائد إلى السماء، أي تعتريها أحوا متعاقبة من الانشقاق والطي وكونها مرة كالدهان ومرة كالمهل. وقيل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عطية: قيل هي عدة بالنصر، أي لتركبن أمر العرب قبيلا بعد قبيل وفتحا بعد فتح كما وجد بعد ذلك أي بعد نزول الآية حين قوي جانب المسلمين فيكون بشارة للمسلمين، وتكون الجملة معترضة بالفاء بين جملة {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الإنشقاق:14] وجملة {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الإنشقاق:20]. وهذا الوجه يجري على كلتا القراءتين.
[20-21] {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} .
يجوز أن يكون التفريع على ما ذكر من أحوال من أوتي كتابه وراء ظهره، وأعيد عليه ضمير الجماعة لأن المراد ب"من" الموصولة كل من تحق فيه الصلة فجرى الضمير على مدلول "من" وهو الجماعة. والمعنى: فما لهم لا يخافون أهوال يوم لقاء الله فيؤمنوا.
ويجوز أن يكون مفرعا على قوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الإنشقاق:6]، أي إذا تحققت ذلك فكيف لا يؤمن بالبعث الذين أنكروه. وجيء بضمير الغيبة لأن المقصود من الإنكار والتعجب خصوص المشركين من الذين شملهم لفظ الإنسان في قوله: {يَاأَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} لأن العناية بموعظتهم أهم فالضمير التفات.
ويجوز أن يكون تفريعا على قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الإنشقاق:19] فيكون مخصوصا بالمشركين باعتبار أنهم أهم في هذه المواعظ. والضمير أيضا التفات.
ويجوز تفريعه على ما تضمنه القسم من الأحوال المقسم بها باعتبار تضمن القسم بها أنها دلا ئل على عظيم قدرة الله تعالى وتفرده بالألهية ففي ذكرها تذكرة بدلالتها على الوحدانية. والالتفات هو هو.
وتركيب "ما لهم لا يؤمنون" يشمل على "ما" الاستفهامية مخبر عنها بالجار والمجرور، والجملة بعد {لهم} حال من "ما" الاستفهامية.
وهذا الاستفهام مستعمل في التعجيب من عدم إيمانهم وفي إنكار انتفاء إيمانهم لأن شأن الشيء العجيب المنكر أن يسأل عنه فاستعمال الاستفهام في معنى التعجيب والإنكار مجاز بعلاقة اللزوم، واللام للاختصاص.
وجملة {لاَ يُؤْمِنُونَ} في موضع الحال فإنها لو وقع في مكانها اسم لكان منصوبا كما في قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88] والحال هي مناط التعجيب، وقد تقدم تفصيل القول في تركيبه وفي الصيغ التي ورد عليها أمثال هذا التركيب عند قوله تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة البقرة [246].
ومتعلق {يُؤْمِنُونَ} محذوف يدل عليه السياق، أي بالبعث والجزاء.
ويجوز تنزيل فعل {يُؤْمِنُونَ} منزلة اللازم، أي لا يتصفون بالإيمان، أي ما سبب أن لا يكونوا مؤمنين، لظهور دلائل على انفراد الله تعالى بالإلهية فكيف يستمرون على الإشراك به.
والمعنى: التعجيب والإنكار من عدم إيمانهم مع ظهور دلائل صدق ما دعوا إليه وأنذروا به.
و {لاَ يَسْجُدُونَ} عطف على {لاَ يُؤْمِنُونَ} {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ} ظرف قدم على عامله للاهتمام به وتنويه شأن القرآن.
وقراءة القرآن عليهم قراءته قراءة تبليغ ودعوة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عليهم القرآن جماعات وأفرادا وقد قال له عبد الله بن أبي بن سلول لا تغشنا به في مجالسنا وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على الوليد بن المغيرة كما ذكرناه في سورة عبس.
والسجود مستعمل بمعنى الخضوع والخشوع كقوله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6] وقوله: {يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل:48]، أي إذا قريء عليهم القرآن لا يخضعون لله ولمعاني القرآن وحجته، ولا يؤمنون بحقيقته ودليل هذا المعنى مقابلته بقوله: {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الإنشقاق:22].
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن عند هذه الآية سجدة من سجود القرآن والأصح من قول مالك وأصحابه أنها ليست من سجود القرآن خلافا لأبن وهب من أصحاب مالك فإنه جعل سجودات القرآن أربع عشرة. وقال الشافعي: هي سنة. وقال أبو حنيفة: واجبة. والأرجح أن عزائم السجود المنسوبة إحدى عشرة سجدة وهي التي رويت بالأسانيد الصحيحة عن الصحابة. وإن ثلاث آيات غير الإحدى عشرة آية رويت فيها أخبار أنها سجد النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءتها منها هذه وعارضتها روايات أخرى فهي: إما قد ترك سجودها، وإما لم يؤكد ومنها قوله تعالى هنا {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} . وقال ابن العربي السجود في سورة الانشقاق قول المدنيين من أصحاب مالك اه.
قلت: وهو قول ابن وهب ولا خصوصية لهذه الآية بل ذلك في السجدات الثلاث الزائدة على الإحدى عشرة، وقد قال مالك في الموطأ بعد أن روى حديث أبو هريرة "الأمر عندنا أن عزائم السجود إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء" وقال أبو حنيفة والشافعي: سجدات التلاوة أربع عشرة بزيادة سجدة سورة النجم وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق. وقال أحمد: هن خمس عشرة سجدة بزيادة السجدة في آخر الآية من سورة الحج ففيها سجدتان عنده.
[22] {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} .
يجوز أنه إضراب انتقالي من التعجيب من عدم إيمانهم، وإنكار عليهم إلى الإخبار عنهم بأنهم مستمرون على الكفر والطعن في القرآن، فالكلام ارتقاء في التعجيب والإنكار.
فالإخبار عنهم بأنهم يكذبون مستعمل في التعجيب والإنكار فلذلك عبر عنه بالفعل المضارع الذي يستروح منه استحضار الحالة مثل قوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
ويجوز أن يكون {بل} إضرابا إبطاليا، أي لا يوجد ما لأجله لا يؤمنون ولا يصدقون بالقرآن بل الواقع بضد ذلك فإن بواعث الإيمان من الدلائل متوفرة ودواعي الاعتراف بصدق القرآن والخضوع لدعوته متظاهرة ولكنهم يكذبون، أي يستمرون على التكذيب عنادا وكبرياء ويوميء إلى ذلك قوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الإنشقاق:23].
وهذان المعنيان نظير الوجهين في قوله تعالى في سورة الانفطار [9-10] {بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ، وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} .
وفي اجتلاب الفعل المضارع دلالة على حدوث التكذيب منهم وتجدده، أي بل هم مستمرون على التكذيب عنادا وليس ذلك اعتقادا فكما نفي عنهم تجدد الإيمان وتجدد الخضوع عند قراءة القرآن أثبت لهم تجدد التكذيب.
وقوله: {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهارا في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: بل هم يكذبون، فعدل إلى الموصول والصلة لما تؤذن بها الصلة من ذمهم بالكفر للإيماء إلى علة الخبر، أي أنهم استمروا على التكذيب لتأصل الكفر فيهم وكونهم ينعتون به.
[23] {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} .
اعتراض بين جملة {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الإنشقاق:22]. وجملة {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الإنشقاق:24] وهو كناية عن الإنذار والتهديد بأن الله يجازيهم بسوء طويتهم.
ومعنى {بِمَا يُوعُونَ} بما يضمرون في قلوبهم من العناد مع علمهم بأن ما جاء به القرآن حق ولكنهم يظهرون التكذيب به ليكون صدودهم عنه مقبولا عند أتباعهم وبين مجاوريهم.
وأصل معنى الإيعاء: جعل الشيء وعاء والوعاء بكسر الواو الظرف لأنه يجمع فيه، ثم شاع إطلاقه على جمع الأشياء لئلا تفوت وصارا مشعرا بالتقتير، ومنه قوله تعالى: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} [المعارج:18] وفي الحديث "لا توعي فيوعي الله عليك" واستعمل في هذه الآية في الإخفاء لأن الإيعاء يلتزم الإخفاء فهو هنا مجاز مرسل.
[24] {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
تفريع على جملة {بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الإنشقاق:22].
وفعل "بشرهم" مستعار للإنذار والوعيد على طريقة التهكم لأن حقيقة التبشير: الإخبار بما يسر وينفع. فلما علق بالفعل عذاب أليم كانت قرينة التهكم كنار على علم، وهو من قبيل قول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
[25] {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} .
يجوز أن يكون الاستثناء متصلا: إما على إنه استثناء من الضمير في قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الإنشقاق:19] جريا على تأويله بركوب طباق الشدائد والأهوال يوم القيامة وما هو في معنى ذلك من التهديد.
وإما على أنه استثناء من ضمير الجمع في {فَبَشِّرْهُمْ} [الإنشقاق:24] والمعنى إلا الذين يؤمنون من الذين هم مشركون الآن كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:160] وقوله في سورة البروج [10] {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} الآية وفعل {آمَنُوا} على هذا الوجه مراد به المستقبل، وعبر عنه بالماضي للتنبيه على معنى: من تحقق إيمانهم، وما بينهما من قوله: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الإنشقاق:20] إلى هنا تفريع معترض بين المستثنى والمستثنى منه خص به الأهم ممن شملهم عموم {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الإنشقاق:19].
وقيل هو استثناء منقطع من ضمير {فَبَشِّرْهُمْ} فهو داخل في التبشير المستعمل في التهكم زيادة في إدخال الحزن عليهم. فحرف {إلا} بمنزلة "لكن" والاستدراك به لمجرد المضادة لا لدفع توهم إرادة ضد ذلك ومثل ذلك كثير في الاستدراك، وأما تعريف بعضهم الاستدراك بأنه تعقيب الكلام برفع ما يتوهم ثبوته أو نفيه، فهو تعريف تقريبي.
وجملة {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} استئناف بياني كأن سائلا سأل: كيف حالهم يوم يكون أولئك في عذاب أليم?
والأجر غير الممنون هو الذي يعطاه صاحبه مع كرامة بحيث لا يعرض له بمنة كما أشار إليه قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:14] ونحوه مما ذكر فيه مع الجزاء سببه، والمعنى: أن أجرهم سرور لهم لا تشوبه شائبة كدر فإن المن ينغص الإنعام قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} [البقرة:264] وقال النابغة:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة ... لوالده ليست بذات عقارب
ومن نوابغ الكلم للعلامة الزمخشري: طعم الآلاء أحلى من المن. وهو أمر من الآلاء مع المن.
ويجوز أن يكون {غَيْرُ مَمْنُونٍ} بمعنى غير مقطوع يقال: مننت الحبل، إذا قطعه، قال تعالى: {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لاَ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:32-33].
سأل نافع بن الأزرق الخارجي عبد الله بن عباس عن قوله: {غَيْرُ مَمْنُونٍ} فقال: غير مقطوع فقال: هل تعرف العرب ذلك? قال: نعم قد عرفه أخو يشكر يعني الحارث بن حلزة حيث يقول:
فترى خلفهن من سرعة الرج ... ع منينا كأنه أهباء
المنين: الغبار لأنها تقطعه وراءها.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البروجروى أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج" . وهذا ظاهر في أنها تسمى "سورة السماء ذات البروج" لأنه لم يحك لفظ القرآن، إذ لم يذكر الواو.
وأخرج أحمد أيضا عن أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن يقرأ في العشاء بالسماوات" ، أي السماء ذات البروج والسماء والطارق فمجمعهما جمع سماء وهذا يدل على أن اسم السورتين: سورة السماء ذات البروج، سورة السماء والطارق.
وسميت في المصاحف وكتب السنة وكتب التفسير "سورة البروج".
وهي مكية باتفاق.
ومعدودة السابعة والعشرين في تعداد نزول السور نزلت بعد سورة "والشمس وضحاها" وسورة "التين".
وآيها اثنتان وعشرون آية.
من أغراض هذه السورة
ابتدئت أغراض هذه السورة بضرب المثل للذين فتنوا المسلمين بمكة بأنهم مثل قوم فتنوا فريقا ممن آمن بالله فجعلوا أخدودا من نار لتعذيبهم ليكون المثل تثبيتا للمسلمين وتصبيرا لهم على أذى المشركين وتذكيرهم بما جرى على سلفهم في الإيمان من شدة التعذيب الذي لم ينلهم مثله ولم يصدهم ذلك عن دينهم.
وإشعار المسلمين بأن قوة الله عظيمة فسيلقى المشركون جزاء صنيعهم ويلقى
المسلمون النعيم الأبدي والنصر.
والتعريض للمسلمين بكرامتهم عند الله تعالى.
وضرب المثل بقوم فرعون وبثمود وكيف كانت عاقبة أمرهم ما كذب الرسل فحصلت العبرة للمشركين في فتنهم المسلمين وفي تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم والتنويه بشأن القرآن.
[1-9] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ، قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ، النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ، إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ، وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
في افتتاح السورة بهذا القسم تشويق إلى ما يرد بعده وإشعار بأهمية المقسم عليه، وهو مع ذلك يلفت ألباب السامعين إلى الأمور المقسم بها، لأن بعضها من دلائل عظيم القدرة الإلهية المقتضية تفرد الله تعالى بالإلهية وإبطال الشريك، وبعضها مذكر بيوم البعث الموعود، ورمز إلى تحقيق وقوعه، إذ القسم لا يكون إلا بشيء ثابت الوقوع وبعضها بما فيه من الإبهام يوجه أنفس السامعين إلى تطلب بيانه.
ومناسبة القسم لما أقسم عليه أن المقسم عليه تضمن العبرة بقصة أصحاب الأخدود ولما كانت الأخاديد خطوطا مجعولة في الأرض مستعرة بالنار أقسم على ما تضمنها، بالسماء بقيد صفة من صفاتها التي يلوح بها للناظرين في نجومها ما أسماه العرب بروجا وهي تشبه دارات متلألئة بأنوار النجوم اللامعة الشبيهة بتلهب النار.
والقسم بالسماء بوصف ذات البروج يتضمن قسما بالأمرين معا لتلتفت أفكار المتدبرين إلى ما في هذه المخلوقات وهذه الأحوال من دلالة على عظيم القدرة وسعة العلم الإلهي إذ خلقها على تلك المقادير المضبوطة لينتفع بها الناس في مواقيت الأشهر والفصل. كما قال تعالى في نحو هذا {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة:97].
وأما مناسبة القسم باليوم الموعود فلأنه يوم القيامة باتفاق أهل التأويل لأن الله وعد بوقوعه قال تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج:44] مع ما في القسم به من
إدماج الإيماء إلى وعيد أصحاب القصة المقسم على مضمونها، ووعيد أمثالهم المعرض بهم.
ومناسبة القسم ب {شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} على اختلاف تأويلاته، ستذكر عند ذكر التأويلات وهي قريبة من مناسبة القسم باليوم الموعود، ويقابله في المقسم عليه قوله: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} .
والبروج: تطلق على علامات من قبة الجو يتراءى للناظر أن الشمس تكون في سمتها مدة شهر من أشهر السنة الشمسية، فالبروج: اسم منقول من اسم البرج بمعنى القصر لأن الشمس تنزله أو منقول من البرج بمعنى الحصن.
والبرج السماوي يتألف من مجموعة نجوم قريب بعضها من بعض لا تختلف أبعادها أبدا. وغنما سمي برجا لأن المصطلحين تخيلوا أن الشمس تحل فيه مدة فهو كالبرج، أي القصر، أو الحصن، ولما وجدوا كل مجموعة منها يخال منها شكل لو أحيط بإطار لخط مفروض لأشبه محيطها محيط صورة تخيلية لبعض الذوات من حيوان أو نبات أو آلات، ميزوا بعض تلك البروج من بعض بإضافته إلى اسم ما تشبهه تلك الصورة تقريبا فقالوا: برج الثور، برج الدلو، برج السنبلة مثلا.
وهذه البروج هي في التحقيق: سموت تقابلها الشمس في فلكها مدة شهر كامل من أشهر السنة الشمسية يوقتون بها الأشهر والفصول بموقع الشمس نهارا في المكان الذي تطلع فيه نجوم تلك البروج ليلا، وقد تقدم عند قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً} في سورة الفرقان [61].
و {شَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} مراد بهما النوع. فالشاهد: الرائي، أو المخبر بحق الإلزام منكره. والمشهود: المرئي أو المشهود عليه بحق. وحذف متعلق الوصفين لدلالة الكلام عليه فيجوز أن يكون الشاهد حاضر ذلك اليوم الموعود من الملائكة قال تعالى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21].
ويجوز أن يكون الشاهد الله تعالى ويؤيده قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أو الرسل والملائكة.
والمشهود: الناس المحشورون للحساب وهم أصحاب الأعمال المعرضون للحساب لأن العرف في المجامع أن الشاهد فيها: هو السالم من مشقتها وهم النظارة الذين يطلعون
على ما يجري في المجمع، وإن المشهود: الذي يطلع الناس على ما يجري عليه.
ويجوز أن يكون الشاهد: الشاهدين من الملائكة، وهم الحفظة الشاهدون على الأعمال، والمشهود: أصحاب الأعمال. وأن يكون الشاهد الرسل المبلغين للأمم حيث يقول الكفار: ما جاءنا من بشير ولا نذير ومحمد صلى الله عليه وسلم يشهد على جميعهم وهو ما في قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا} [النساء:41].
وعلى مختلف الوجوه فالمناسبة ظاهرة بين {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} وبين ما في المقسم عليه من قوله: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} ، وقوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} أي حضور.
وروى الترمذي من طريق موسى بن عبيدة إلى أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اليوم الموعود يوم القيامة واليوم المشهود يوم عرفة والشاهد يوم الجمعة" . أي فالتقدير: ويوم شاهد ويوم مشهود. قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه اه.
ووصف "يوم" بأنه {شَاهِدٍ} مجاز عقلي، ومحمل هذا الحديث على أن هذا مما يراد في الآية من وصف {شَاهِدٍ} ووصف {مَشْهُودٍ} فهو من حمل الآية على ما يحتمله اللفظ في حقيقة ومجاز كما تقدم في المقدمة التاسعة.
وجواب القسم قيل محذوف لدلالة قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} عليه والتقدير أنهم ملعونون كما لعن أصحاب الأخدود. وقيل تقديره: أن الأمر لحق في الجزاء على الأعمال: أو لتبعثن.
وقيل الجواب مذكور فيما يلي فقال الزجاج هو {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] أي والكلام بينهما اعتراض قصد به التوطئة للمقسم عليه وتوكيد الحقيق الذي أفاد القسم بتحقيق ذكر النظير. وقال الفراء: الجواب {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} أي فيكون قتل خبرا لا دعاء ولا شتما ولا يلزم ذكر قد في الجواب مع كون الجواب ما ضيا لآن قد تحذف بناء على أن حذفها ليس مشروطا بالضرورة.
ويتعين على قول الفراء أن يكون الخبر مستعملا في لازم معناه من الإنذار للذين يفتنون المؤمنين بأن يحل بهم ما حل بفاتني أصحاب الأخدود، وإلا فإن الخبر عن
أصحاب الأخدود لا يحتاج إلى التوكيد بالقسم إذ لا ينكره أحد فهو قصة معلومة للعرب.
وانتساق ضمائر جمع الغائب المرفوعة من قوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} إلى قوله: {وَمَا نَقَمُوا} يقتضي أن يكون أصحاب الأخدود واضعيه لتعذيب المؤمنين.
وقيل الجواب هو جملة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] فيكون الكلام الذي بينهما اعتراضا وتوطئة على نحو ما قررناه في كلام الزجاج.
وقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} صيغته تشعر بأنه إنشاء شتم لهم شتم خزي وغضب وهؤلاء لم يقتلوا ففعل قتل ليس بخبر بل شتم نحو قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات:10]. وقولهم قاتله الله، وصدوره من الله يفيد معنى اللعن ويدل على الوعيد لأن الغضب واللعن يستلزمان العقاب على الفعل الملعون لأجله.
وقيل هو دعاء على أصحاب الأخدود بالقتل كقوله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] والقتل مستعار لأشد العذاب كما يقال: أهلكه الله، أي أوقعه في أشد العناء، وأيا ما كان فجملة {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} هذا على معترضة بين القسم وما بعده.
ومن جعل {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} جواب القسم جعل الكلام خبرا وقدره لقد قتل أصحاب الأخدود، فيكون المراد من أصحاب الأخدود الذين ألقوا فيه وعذبوا فيه ويكون لفظ أصحاب مستعملا في معنى مجرد المقارنة والملازمة كقوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف:39] ولقد علمت آنفا تعين تأويل هذا القول بأن الخبر مستعمل في لازم معناه.
ولفظ {أَصْحَابُ} يعم الآمرين بجعل الأخدود والمباشرين لحفره وتسعيره، والقائمين على إلقاء المؤمنين فيه.
وهذه قصة اختلف الرواة في تعيينها وفي تعيين المراد منها في هذه الآية.
والروايات كلها تقتضي أن المفتونين بالأخدود قوم اتبعوا النصرانية في بلاد اليمن على أكثر الروايات، أو في بلاد الحبشة على بعض الروايات، وذكرت فيها روايات متقاربة تختلف بالإجمال والتفصيل، والترتيب، والزيادة، والتعيين وأصحها ما رواه مسلم والترمذي عن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قص هذه القصة على أصحابه. وليس فيما روي
تصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم ساقها تفسيرا لهذه الآية والترمذي ساق حديثها في تفسير سورة البروج.
وعم مقاتل كان الذين اتخذوا الأخاديد في ثلاث من البلاد في نجران، وبالشام، وبفارس أما الذين بالشام ف انطانيوس الرومي وأما الذي بفارق فهو بختنصر والذي بنجران فيوسف ذو نواس ولنذكر القصة التي أشار إليها القرآن تؤخذ من سيرة ابن إسحاق على أنها جرت في نجران من بلاد اليمن، وإنه كان ملك وهو ذو نواس له كاهن أو ساحر. وكان للساحر تلميذ اسمه عبد الله بن الثامر وكان يجد في طريقه إذا مشى إلى الكاهن صومعة فيها راهب كان يعبد الله على دين عيسى عليه السلام ويقرأ الأنجيل اسمه فيميون بفاء، فتحتية، فميم. فتحتية وضبط في الطبعة الأوربية من "سيرة ابن إسحاق"-التي يلوح أن أصلها المطبوعة عليه أصل صحيح، بفتح فسكون فكسر فضم قال السهيلي: ووقع للطبري للقاف عوض الفاء. وقد يحرف فيقال ميمون بميم في أوله وبتحتية واحدة أصله من غسان من الشام ثم ساح فاستقر بنجران، وكان منعزلا عن الناس مختفيا في صومعته وظهرت لعبد الله في قومه كرامات. وكانت كلما ظهرت له كرامة دعا من ظهرت لهم إلى أن يتبعوا النصرانية، فكثر المنتصرون في نجران وبلغ ذلك الملك ذا نؤاس وكان يهوديا وكان أهل نجران مشركين يعبدون نخلة طويلة، فقتل الملك الغلام وقتل الراهب وأمر بأخاديد وجمع فيها حطب وأشعلت، وعرض أهل نجران عليها فمن رجع عن التوحيد تركه ومن ثبت على الدين الحق قذفه في النار.
فكان أصحاب الأخدود ممن عذب في أهل دين المسيحية في بلاد العرب. وقصص الأخاديد كثيرة في التاريخ، والتعذيب بالحرق طريقة قديمة، ومنها: نار إبراهيم عليه السلام. وأما تحريق عمرو بن هند مائة من بني تميم وتلقيبه بالمحرق فلا أعرف أن ذلك كان باتخاذ أخدود. وقال ابن عطية: رأيت في بعض الكتب أن أصحاب الأخدود هو محرق وآله الذي حرق من بني تميم مائة.
و {الأخدود} : بوزن أفعول وهو صيغة قليلة الدوران غير مقيسة، ومنها قولهم: أفحوص مشتق من فحصت القطاة والدجاجة إذا بحثت في التراب موضعا تبيض فيه، وقولهم أسلوب اسم لطريقة، ولسطر النحل، وأقنوم اسم لأصل الشيء. وقد يكون هذا الوزن مع هاء تأنيث مثل أكرومة، وأعجوبة، وأطروحة، وأضحوكة.
وقوله: {النَّارِ} بدل من الأخدود بدل اشتمال أو بعض من كل لأن المراد
بالأخدود الحفير بما فيه.
والوقود: بفتح الواو اسم ما توقد به النار من حطب ونفط ونحوه.
ومعنى {ذَاتِ الْوَقُودِ} : أنها لا يخمد لهبها لأن لها وقودا يلقى فيها كلما خبت.
ويتعلق {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} بفعل قتل، أي لعنوا وغضب الله عليهم حين قعدوا على الأخدود.
وضمير {هم} عائد إلى أصحاب الأخدود فإن الملك يحضر تنفيذ أمره ومعه ملأه، أو أريد بها المأمورون من الملك. فعلى احتمال أنهم أعوان الملك فالقعود الجلوس كني به عن الملازمة للأخدود لئلا يتهاون الذين يحشون النار بتسعيرها، و"على" للاستعلاء المجازي لأنهم لا يقعدون فوق النار ولكن حولها. وإنما عبر عن القرب والمراقبة بالاستعلاء كقول الأعشى:
وبات على النار الندى والمحلق
ومثله قوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ} [القصص:23]، أي عنده.
وعلى احتمال أن يكون المراد ب {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} المؤمنين المعذبين فيه، فالقعود حقيقة و"على" للاستعلاء الحقيقي، أي قاعدون على النار بأن كانوا يحرقونهم مربوطين بهيئة القعود لأن ذلك أشد تعذيبا وتمثيلا، أي بعد أن يقعدوهم في الأخاديد يوقدون النار فيها وذلك أروع وأطول تعذيبا.
وأعيد ضمير {هم} في قوله: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} ليتعين أن يكون عائدا إلى بعض أصحاب الأخدود.
وضمير {يَفْعَلُونَ} يجوز أن يعود إلى {أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} ، فمعنى كونهم شهودا على ما يفعلونه: أن بعضهم يشهد لبعض عند الملك بأن أحدا لم يفرط فيما وكل به من تحريق المؤمنين، فضمائر الجميع وصيغته موزعة.
ويجوز أن يعود الضمير إلى ما تقتضيه دلالة الاقتضاء من تقسيم أصحاب الأخدود إلى أمراء ومأمورين شأن الأعمال العظيمة فلما أخبر عن أصحاب الأخدود بأنهم قعود على النار علم أنهم الموكلون بمراقبة العمال. فعلم أن لهم أتباعا من سعارين ووزع فهم معاد ضمير يفعلون.
وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون شهود جمع شاهد بمعنى مخبر بحق، وأن يكون بمعنى حاضر ومراقب لظهور أن أحدا لا يشهد على فعل نفسه.
وجملة {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} في موضع الحال من ضمير {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} كأنه قيل: قعود شاهدين على فعلهم بالمؤمنين على الوجهين المتقدمين في معاد ضمير {مَا يَفْعَلُونَ} ، وفائدة هذه الحال تفظيع ذلك القعود وتعظيم جرمه إذ كانوا يشاهدون تعذيب المؤمنين لا يرأفون في ذلك ولا يشمئزون، وبذلك فارق مضمون هذه الجملة مضمون جملة {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} باعتبار تعلق قوله: {بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} .
وفي الإتيان بالموصول في قوله: {مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} من الإبهام ما يفيد أن لموقدي النار من الوزعة والعمل ومن يباشرون إلقاء المؤمنين فيها غلظة وقسوة في تعذيب المؤمنين وإهانتهم والتمثيل بهم، وذلك زائد على الإحراق.
وجملة {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} في موضع الحال والواو واو الحال أو عاطفة على الحال التي قبلها.
والمقصود التعجيب من ظلم أهل الأخدود أنهم يأتون بمثل هذه الفظاعة لا لجرم في شأنه أن ينقم من فاعله فإن كان الذين خددوا الأخدود يهودا كما كان غالب أهل اليمن يومئذ فالكلام من تأكيد الشيء بما يشبه ضده أي ما نقموا منهم شيء ينقم بل لأنهم آمنوا بالله وحده كما آمن به الذين عذبوهم. ومحل التعجيب أن الملك ذا نواس وأهل اليمن كانوا متهودين فهم يؤمنون بالله وحده ولا يشركون به فكيف يعذبون قوما آمنوا بالله وحده مثلهم وهذا مثل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ} [المائدة:59] وإن كان الذين خددوا الأخدود مشركين فإن عرب اليمن بقي فيهم من يعبد الشمس فليس الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده لأن شأن تأكيد الشيء بما يشبه ضده أن يكون ما يشبه ضد المقصود هو في الواقع من نوع المقصود فلذلك يؤكد به المقصود وما هنا ليس كذلك لأن الملك وجنده نقموا منهم الإيمان بالله حقيقة إن كان الملك مشركا.
وإجراء الصفات الثلاث على اسم الجلالة وهي: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} لزيادة تقرير أن ما نقموه منهم ليس من شأنه أن ينقم بل هو حقيق بأن يمدحوا به لأنهم آمنوا برب حقيق بأن يؤمن به لأجل صفاته التي تقتضي عبادته ونبذ ما عداه لأنه ينصر مواليه ويثيبهم ولأنه يملكهم، وما عداه ضعيف العزة لا يضر ولا ينفع ولا
يملك منهم شيئا فيقوى التعجيب منهم بهذا.
وجملة {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} تذييل بوعيد للذين أتخذوا الأخدود وبوعد الذين عذبوا في جنب الله، ووعيد لأمثال أولئك من كفار قريش وغيرهم من كل من تصدوا لأذى المؤمنين ووعد المسلمين الذين عذبهم المشركون مثل بلال وعمار وصهيب وسمية.
[10] {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} .
إن كان هذا جوابا للقسم على بعض المفسرين كما تقدم كان ما بين القسم وما بين هذا كلاما معترضا يقصد منه التوطئة لوعيدهم بالعذاب والهلاك بذكر ما توعد به نظيرهم، وإن كان الجواب في قوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج:4] كان قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} بمنزلة الفذلكة لما أقسم عليه إذ المقصود بالقسم وما أقسم عليه هو تهديد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات من مشركي قريش.
وتأكيد الخبر ب {إن} للرد على المشركين الذين ينكرون أن تكون عليهم تبعة من فتن المؤمنين.
والذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات: هم مشركو قريش وليس المراد أصحاب الأخدود لأنه لا يلاقي قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} إذ هو تعريض بالترغيب في التوبة، ولا يلاقي دخول الفاء في خبر {إن} من قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} كما سيأتي.
وقد عد من الذين فتنوا المؤمنين أبو جهل رأس الفتنة ومسعرها، وأمية بن خلف وصفوان بن أمية، والأسود بن عبد يغوث، والوليد بن المغيرة، وأم أنمار، ورجل من بني تيم.
والمفتنون: عد منهم بلال بن رباح كان عبدا لأمية بن خلف فكان يعذبه، وأبو فكيهة كان عبدا لصفوان بن أمية، وخباب بن الأرت كان عبد لأم أنمار، وعمار بن ياسر، وأبوه ياسر، وأخوه عبد الله كانوا عبيدا لأبي حذيفة بن المغيرة فوكل بهم أبا جهل، وعامر بن فهيرة كان عبدا لرجل من بني تيم.
والمؤمنات المفتونات منهن: حمامة أم بلال أمة أمية بن خلف. وزنيرة، وأم عنيس
كانت أمة للأسود بن عبد يغوث، والنهدية وابنتها كانتا للوليد بن المغيرة، ولطيفة، ولبينة بنت فهيرة كانت لعمر بن الخطاب قبل أن يسلم كان عمر يضربها، وسمية أم عمار بن ياسر كانت لعم أبي جهل.
وفتن ورجع إلى الشرك الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن المنبه بن الحجاج.
وعطف {الْمُؤْمِنَاتِ} للتنويه بشأنهن لئلا يظن أن هذه المزية خاصة بالرجال، ولزيادة تفظيع فعل الفاتنين بأنهم اعتدوا على النساء والشأن أن لا يعترض لهن بالغلظة.
وجملة {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} معترضة. و {ثم} فيها للتراخي الرتبي لأن الاستمرار على الكفر أعظم من فتنة المؤمنين.
وفيه تعريض للمشركين بأنهم إن تابوا وآمنوا سلموا من عذاب جهنم.
والفتن: المعامة بالشدة والإيقاع في العناء الذي لا يجد منه مخلصا إلا بعناء أو ضر أخف أو حيلة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} في سورة البقرة [191].
ودخول الفاء في خبر "أن" من قوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} لأن اسم "إن" وقع موصولا والموصول يضمن معنى الشرط في الاستعمال كثيرا. فتقدير: إن الذين فتنوا المؤمنين ثم إن لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم، لأن عطف قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} مقصود به معنى التقييد فهو كالشرط.
وجملة {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} عطف في معنى التوكيد اللفظي في جملة {لَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} . واقترانها بواو العطف للمبالغة في التأكيد بإيهام أن من يريد زيادة تهديدهم بوعيد آخر فلا يوجد أعظم من الوعيد الأول. مع ما بين عذاب جهنم وعذاب الحريق من اختلاف في المدول وإن كان مآل المدلولين واحدا. وهذا ضرب من المغايرة يحسن عطف التأكيد.
على أن الزج بهم في جهنم عذاب قبل أن يذوقوا عذاب حريقها لما فيه من الخزي والدفع بهم في طريقهم قال تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور:13] فحصل بذلك اختلاف ما بين الجملتين.
ويجوز أن يراد بالثاني مضاعفة العذاب لهم كقوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ} [النحل:88].
ويجوز أن يراد بعذاب الحريق حريق بغير جهنم وهو ما يضرم عليهم من نار تعذيب قبل يوم الحساب كما جاء في الحديث "القبر حفرة من حفر جهنم أو روضة من رياض الجنة" رواه البيهقي في سننه عن ابن عمر.
[11] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} .
يجوز أن يكون استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} المقتضى أنهم إن تابوا لم يكن لهم عذاب جهنم فيتشوف السامع إلى معرفة حالهم أمقصورة على السلامة من عذاب جهنم أو هي فوق ذلك فأخبر بأن لهم جنات فإن التوبة الإيمان، فلذلك جيء بصلة {آمَنُوا} دون: تابوا، ليدل على أن الإيمان والعمل الصالح هو التوبة من الشرك الباعث على فتن المؤمنين، وهذا الاستئناف وقع معترضا.
ويجوز أن يكون اعتراضا بين جملة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج:10] وجملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] اعتراضا بالبشارة في خلال الإنذار لترغيب المنذرين في الإيمان، ولتثبيت المؤمنين على ما يلاقونه من أذى المشركين على عادة القرآن في إرداف الإرهاب بالترغيب.
والتأكيد ب {إن} للاهتمام بالخبر.
والإشارة في {ذلك} إلى المذكور من اختصاصهم بالجنات والأنهار.
و {الْكَبِيرُ} : مستعار للشديد في بابه، والفوز: مصدر.
[12] {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} .
جملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} علة لمضمون قوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} إلى قوله: {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ } [البروج:10]، أي لأن بطش الله شديد على الذين فتنوا الذين آمنوا به. فموقع {إن} في التعليل يغني عن فاء التسبب.
وبطش اله يشمل تعذيبه إياهم في جهنم ويشمل ما قبله مما يقع في الآخرة وما يقع
في الدنيا قال تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان:16] ووجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لأن بطش الله بالذين فتنوا المؤمنين فيه نصر للنبي صلى الله عليه وسلم وتثبيت له.
[13] {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} .
تصلح لأن تكون استئنافا ابتدائيا انتقل به من وعيدهم بعذاب الآخرة إلى توعدهم بعذاب في الدنيا يكون من بطش الله، أردف به وعيد عذاب الآخرة لأنه أوقع في قلوب المشركين إذ هم يحسبون أنهم في أمن من العقاب إذ هم لا يصدقون بالبعث فحسبوا أنهم فازوا بطيب الحياة الدنيا.
والمعنى: أن الله يبطش بهم في البدء والعود، أي في الدنيا والآخرة.
وتصلح لأن تكون تعليلا لجملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] لأن الذي يبدئ ويعيد قادر على إيقاع البطش الشديد في الدنيا وهو الإبداء، وفي الآخرة إعادة البطش.
وتصلح لأن تكون إدماجا للاستدلال على إمكان البعث أي أن الله يبدئ الخلق ثم يعيده فيكون كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم:27].
والبطش: الأخذ بعنف وشدة ويستعار للعقاب المؤلم الشديد كما هنا.
ويبدئ: مرادف يبدأ، يقال: بدأ وأبدأ. فليست همزة أبدأ للتعدية.
وحذف مفعولا الفعلين لقصد عموم تعلق الفعلين بكل ما يقع ابتداء، ويعاد بعد ذلك فشمل بدأ الخلق وإعادته وهو البعث، وشمل البطش الأول في الدنيا والبطش في الآخرة، وشمل إيجاد الأجيال وإخلافها بعد هلاك أوائلها. وفي هذه الاعتبارات من التهديد للمشركين محامل كثيرة.
وضمير الفصل في قوله: {هُوَ يُبْدِئُ} للتقوي، أي لتحقيق الخبر ولا موقع للقصر هنا. إذ ليس في المقام رد على من يدعي أن غير الله يبدئ ويعيد. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في سورة البقرة [5] أن ضمير الفصل يليه الفعل المضارع على قول المازني، وهو التحقيق. ودليله قوله: {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ} وقد تقدم في سورة فاطر [10].
[14-16] {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ، ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ، فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} .
جملة معطوفة على جملة {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12]، ومضمونها قسيم لمضمون {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . لأنه لما أفيد تعليل مضمون جملة {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج:10] إلى آخره، ناسب أن يقابل بتعليل مضمون جملة {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ} [البروج:11] إلى آخره، فعلل بقوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} ، فهو يغفر للذين تابوا وآمنوا وعملوا الصالحات ما فرط منهم وهو يحب التوابين ويودهم.
و {الْوَدُودُ} : فعول بمعنى فاعل مشتق من الود وهو المحبة فمعنى الودود: المحب وهو من أسمائه تعالى، أي إنه يحب مخلوقاته ما لم يحيدوا عن وصايته. والمحبة التي يوصف الله بها مستعملة في لازم المحبة في اللغة تقريبا للمعنى المتعالي عن الكيف وهو من معنى الرحمة، وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} في آخر سورة هود [90].
ولما ذكر الله من صفاته ما تعلقه بمخلوقاته بحسب ما يستأهلونه من جزاء أعقب ذلك بصفاته الذاتية على وجه الاستطراد والتكملة بقوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} تنبيها للعباد إلى وجوب عبادته لاستحقاقه العبادة لجلاله كما يعبدونه لاتقاء عقابه ورجاء نواله.
و {الْعَرْشِ} :اسم لعالم يحيط بجميع السماوات، سمي عرشا لأنه دال على عظمة الله تعالى كما يدل العرش على أن صاحبه من الملوك.
و {الْمَجِيدُ} : العظيم القوي في نوعه، ومن أمثالهم في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار، وهما شجران يكثر قدح النار من زندهما.
وقرأه الجمهور بالرفع على أنه خبر رابع عن ضمير الجلالة. وقرأه حمزة والكسائي وخلف بالجر نعتا للعرش فوصف العرش بالمجد كناية عن مجد صاحب العرش.
ثم ذيل ذلك بصفة جامعة لعظمته الذاتية وعظمة نعمه بقوله: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} أي إذا تعلقت إرادته بفعل، فعله على أكمل ما تعلقت به إرادته لا ينقصه شيء ولا يبطيء به ما أراد تعجيله. فصيغة المبالغة في قوله: {فَعَّالٌ} للدلالة على الكثرة في الكمية والكيفية.
والإرادة هنا هي المعرفة عندنا بأنها صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه وهي غير الإرادة بمعنى المحبة مثل {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ} [البقرة:185].
[17-18] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ، فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} .
متصل بقوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم للاستدلال على كون بطشه تعالى شديدا ببطشين بطشهما بفرعون وثمود بعد أن علل ذلك بقوله: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:13] فذلك تعليل، وهذا تمثيل ودليل.
والاستفهام مستعمل في إرادة لتهويل حديث الجنود بأن يسأل عن عمله. وفيه تعريض للمشركين بأن قد يحل بهم ما حل بأولئك {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى} إلى قوله: {فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} [النجم: 50-55].
والخطاب لغير معين ممن يراد موعظته من المشركين كناية عن التذكير بخبرهم لأن حال المتلبسين بمثل صنيعهم الراكبين رؤوسهم في العناد، كحال من لا يعلم خبرهم فيسأل هل بلغه خبرهم أو لا، أو خطابا لغير معين تعجيبا من حال المشركين في إعراضهم عن الاتعاظ بذلك فيكون الاستفهام مستعملا في التعجيب.
والإتيان: مستعار لبلوغ الخبر، والحديث: الخبر. وتقدم في سورة النازعات.
و {الْجُنُودِ} : جمع جند وهو العسكر المتجمع للقتال. وأطلق على الأمم التي تجمعت لمقاومة الرسل كقوله تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنْ الأَحْزَابِ} [ص:11] واستعير الجند للملأ بقوله: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ} [ص:6] ثم رشحت الاستعارة باستعارة مهزوم وهو المغلوب في الحرب فاستعير للمهلك المستأصل من دون حرب.
وأبدل فرعون وثمود من الجنود بدلا مطابقا لأنه أريد العبرة بهؤلاء.
و {فرعون} : اسم لملك مصر من القبط وقد تقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} في سورة الأعراف [103].
والكلام على حذف مضاف لأن فرعون ليس بجند ولكنه مضاف إليه الجند الذين كذبوا موسى عليه السلام وآذوه. فحذف المضاف لنكتة المزاوجة بين اسمين علمين مفردين في الابدال من الجنود.
وضرب المثل بفرعون لأبي جهل وقان يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة،
وضرب المثل للمشركين بقوم فرعون لأنهم أكبر أمة تألبت على رسول من رسل الله بعثه الله لإعتاق بني إسرائيل من ذل العبودية لفرعون، وناووه لأنه دعا إلى عبادة الرب الحق فغاظ ذلك فرعون الزاعم أنه إله القبط وابن آلهتهم.
وتخصيص ثمود بالذكر من بقية الأمم التي كذبت الرسل من العرب مثل عاد وقوم تبع، ومن غيرهم مثل قوم نوح وقوم شعيب. لما اقتضته الفاصلة السابعة الجارية على حرف الدال من قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج:12] فإن ذلك لما استقامت به الفاصلة ولم يكن في ذكره تكلف كان من محاسن نظم الكلام إيثاره.
وتقدم ذكر ثمود عند قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} في سورة الأعراف [73]. وهو اسم عربي ولكن يطلق على القبيلة التي ينتهي نسبها إليه فيمنع من الصرف بتأويل القبيلة كما هنا.
[19-20] {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} .
إضراب انتقالي إلى إعراضهم عن الاعتبار بحال الأمم الذين كذبوا الرسل وهو أنهم مستمرون على التكذيب منغمسون فيه انغماس المظروف في الظرف فجعل تمكن التكذيب من نفوسهم كتمكن الظرف بالمظروف.
وفيه إشارة إلى أن إحاطة التكذيب بهم إحاطة الظرف بالمظروف لا يترك لتذكر ما حل بأمثالهم من الأمم مسلكا لعقولهم ولهذا لم يقل بل الذين كفروا يكذبون كما قال في سورة الانشقاق.
وحذف متعلق التكذيب لظهوره من المقام إذ التقدير: أنهم في تكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالوحي المنزل إليه وبالبعث.
وجملة {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} عطف على جملة {الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} ، أي هم متمكنون من التكذيب والله يسلط عليهم عقابا لا يفلتون منه. فقوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} تمثيل لحال انتظار العذاب إياهم وهم في غفلة عنه بحال من أحاط به العدو من ورائه وهو لا يعلم حتى إذا رام الفرار والإفلات وجد العدو محيطا به، وليس المراد هنا إحاطة علمه تعالى بتكذيبهم إذ ليس له كبير جدوى.
وقد قوبل جزاء إحاطة التكذيب بهم بإحاطة العذاب بهم جزاء وفاقا فقوله: {وَاللَّهُ
مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} خبر مستعمل في الوعيد والتهديد.
[21-22] {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} .
إضراب إبطال لتكذيبهم لأن القرآن جاءهم بدلائل بينة فاستمرارهم على التكذيب ناشيء عن سوء اعتقادهم صدق القرآن إذ وصفوه بصفات النقص من قولهم: أساطير الأولين، إفك مفترى، قول كاهن، قول شاعر، فكان التنويه به جامعا لإبطال جميع ترهاتهم على طريقة الإيجاز.
و {قُرْآنٌ} : مصدر قرأ على وزن فعلان الدال على كثرة الدال على كثرة المعنى مثل الشكران والقربان. وهو من القراءة وهي تلاوة كلام صدر في زمن سابق لوقت تلاوة تاليه بمثل ما تكلم به متكلمه سواء كان مكتوبا في صحيفة أم كان ملقنا لتاليه بحيث لا يخالف أصله كلام تاليه ولذلك لا يقال لنقل كلام أنه قراءة إلا إذا كان كلاما مكتوبا أو محفوظا.
وكلمة جاء {قُرْآنٌ} منكرا فهو مصدر وأما اسم كتاب الإسلام فهو بالتعريف باللام لأنه علم بالغلبة.
فالإخبار عن الوحي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم باسم قرآن إشارة عرفية إلى أنه موحى به تعريض بإبطال ما اختلقه المكذبون: أنه أساطير الأولين أو قول كاهن أو نحو ذلك.
ووصف {قُرْآنٌ} صفة أخرى بأنه مودع في لوح.
واللوح: قطعة من خشب مستوية تتخذ ليكتب فيها.
وسوق وصف {فيِ لَوْحٍ} مساق التنويه بالقرآن وباللوح، يعين أن اللوح كائن قدسي من كائنات العالم العلوي المغيبات، وليس في الآية أكثر من أن اللوح أودع فيه القرآن، فجعل الله القرآن مكتوبا في لوح علوي كما جعل التوراة مكتوبة في ألواح وأعطاها موسى عليه السلام فقال: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف:145] وقال {وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ} [الأعراف:150] وقال {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ} [الأعراف:154]، وأما لوح القرآن فجعله محفوظا في العالم العلوي.
وبعض علماء الكلام فسروا اللوح بموجود سجلت فيه جميع المخلوقات مجتمعة ومجملة، وسموا ذلك بالكتاب المبين، وسموا تسجيل المخلوقات فيه بالقضاء، وسموا
ظهورها في الوجود بالقدر، وعلى ذلك درج الأصفهاني في شرحه على الطوالع حسبما نقله المنجور في شرح نظم ابن زكري مسوقا في قسم العقائد السمعية وفيه نظر. وورد في آثار مختلفة القوة أنه موكل به إسرافيل وأنه كائن عن يمين العرش. واقتضت هذه الآية أن القرآن كله مسجل فيه.
وجاء في آية سورة الواقعة {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} وهو ظاهر في أن اللوح المحفوظ، والكتاب المكنون شيء واحد.
وأما المحفوظ والمكنون فبينهما تغاير في المفهوم وعموم وخصوص وجهي في الوقوع، فالمحفوظ: المصون من كل ما يثلمه وينقصه ولا يليق به وذلك كمال له. والمكنون الذي لا يباح تناوله لكل أحد وذلك للخشية عليه لنفاسته ولم يثبت حديث صحيح في ذكر اللوح ولا في خصائصه وكل ما هنالك أقوال معزوة لبعض السلف لا تعرف أسانيد عزوها.
وورد أن القلم أول ما خلق الله فقال له: أكتب، فجرى بما هو كائن إلى الأبد، رواه الترمذي من حديث عبادة بن الصامت وقال الترمذي: حسن غريب، وفيه عن ابن عباس اه.
وخلق القلم لا يدل على خلق اللوح لأن القلم يكتب في اللوح وفي غيره.
والمجيد: العظيم في نوعه كما تقدم في قوله: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج:15] ومجد القرآن لأنه أعظم الكتب السماوية وأكثرها معاني وهديا ووعظا، ويزيد عليها ببلاغته وفصاحته وإعجازه البشر عن معارضته.
ووقع في التعريفات للسيد الجرجاني: أن الألواح أربعة.
أولها: لوح القضاء السابق على المحو والإثبات وهو لوح العقل الأول.
الثاني: لوح القدر أي النفس الناطقة الكلية وهو المسمى اللوح المحفوظ.
الثالث: لوح النفس الجزئية السماوية التي ينتقش فيها كل ما في هذا العالم بشكله وهيئته ومقداره وهو المسمى بالسماء الدنيا.
الرابع: لوح الهيولى القابل للصورة في عالم الشهادة اه.
وهو إصطلاح مخلوط بين التصرف والفلسفة. ولعله مما استقراه السيد من كلام
عدة علماء.
وقرأ الجمهور {مَحْفُوظٍ} بالجر على أنه صفة {لَوْحٍ} . وحفظ اللوح الذي فيه القرآن كناية عن حفظ القرآن.
وقرأه نافع وحده برفع {مَحْفُوظٍ} على أنه صفة ثانية لقرآن ويتعلق قوله: {فيِ لَوْحٍ} ب {مَحْفُوظٍ} . وحفظ القرآن يستلزم أن اللوح المودع هو فيه محفوظ أيضا، فلا جرم حصل من القراءتين ثبوت الحفظ للقرآن واللوح. فأما حفظ القرآن فهو حفظه من التغيير ومن تلقف الشياطين قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وأما حفظ اللوح فهو حفظه عن تناول غير الملائكة إياه. أو حفظه كناية عن تقديسه كقوله تعالى: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 78-79].
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الطارقروى أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في العشاء الآخرة بالسماء ذات البروج والطارق" اه. فسماها أبو هريرة: السماء والطارق لأن الأظهر أن الواو من قوله: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} واو العطف، ولذلك لم يذكر لفظ الآية الأولى منها بل أخذ لها اسما من لفظ الآية كما قال في {السَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1].
وسميت في كتب التفسير وكتب السنة وفي المصاحف "سورة الطارق" لوقوع هذا اللفظ في أولها. وفي "تفسير الطبري" و "أحكام ابن العربي" ترجمت {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} .
وهي سبع عشرة آية.
وهي مكية بالاتفاق نزلت قبل سنة عشر من البعثة. أخرج أحمد بن حنبل عن خالد بن أبي جبل العدواني أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقول {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] حتى ختمها قال: "فوعيتها في الجاهلية ثم قرأتها في الإسلام" الحديث.
وعددها في ترتيب نزول السور السادسة والثلاثين. نزلت بعد سورة {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} وقبل سورة {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} .
أغراضها
إثبات إحصاء الأعمال والجزاء على الأعمال.
وإثبات إمكان البعث بنقض ما أحاله المشركون ببيان إمكان إعادة الأجسام.
وأدمج في ذلك التذكير بدقيق صنع الله وحكمته في خلق الإنسان.
والتنويه بشأن القرآن.
وصدق ما ذكر فيه من البعث لأن إخبار القرآن به لما استبعدوه وموهوا على الناس بأن ما فيه غير صدق. وتهديد المشركين الذين ناووا المسلمين.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم ووعده بأن الله منتصر له غير بعيد.
[1-4] {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ، النَّجْمُ الثَّاقِبُ، ِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} .
افتتاح السورة بالقسم تحقيق لما يقسم عليه وتشويق إليه كما تقدم في سوابقها. ووقع القسم بمخلوقين عظيمين فيهما دلالة على عظيم قدرة خالقهما هما: السماء، والنجوم، أو نجم منها عظيم منها معروف، أو ما يبدو انقضاضه من الشهب كما سيأتي.
{وَالطَّارِقِ} : وصف مشتق من الطروق، وهو المجيء ليلا لأن عادة العرب أن النازل بالحي ليلا يطرق شيئا من حجر أو وتد إشعار لرب البيت أن نزيلا نزل به لأن نزوله يقضي بأن يضيفوه، فأطلق الطروق على النزول ليلا مجازا مرسلا فغلب الطروق على القدوم ليلا.
وأبهم الموصوف بالطارق ابتداء، ثم زيد إبهاما مشوبا بتعظيم أمره بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} ثم بين بأنه {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} ليحصل من ذلك مزيد تقرر للمراد بالمقسم به وهو أنه من جنس النجوم شبه طلوع النجم ليلا بطروق المسافر الطارق بيتا بجامع كونه ظهورا في الليل.
و {مَا أَدْرَاكَ} استفهام مستعمل في تعظيم الأمر، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [في الشورى: 17]، وعند قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الحاقة:3] وتقدم الفرق بين: ما يدريك، وما أدراك.
وقوله: {النَّجْمُ} خبر عن ضمير محذوف تقديره: هو، أي الطارق النجم الثاقب.
والثقب: خرق شيء ملتئم، وهو هنا مستعار لظهور النور في خلال ظلمة الليل. شبه النجم بمسار أو نحوه، وظهور ضوئه بظهور ما يبدو من المسار من خلال الجسم الذي يثقبه مثل لوح أو ثوب.
وأحسب أن استعارة الثقب لبروز شعاع النجم في ظلمة الليل من مبتكرات القرآن ولم يرد في كلام العرب قبل القرآن. وقد سبق قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [في سورة الصافات: 10]، ووقع في تفسير القرطبي: والعرب تقول اثقب نارك، أي أضئها، وساق بيتا شاهدا على ذلك ولم يعزه إلى قائل.
والتعريف في {النَّجْمُ} يجوز أن يكون تعريف الجنس كقول النابغة:
أقول والنجم قد مالت أواخره... البيت
فيستغرق جميع النجوم استغراقا حقيقيا وكلها ثاقب فكأنه قيل، والنجوم، إلا أن صيغة الإفراد في قوله: {الثَّاقِبُ} ظاهر في إرادة فرد معين من النجوم، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إشارة إلى نجم معروف يطلق عليه اسم النجم غالبا، أي والنجم الذي هو طارق.
ويناسب أن يكون نجما يطلع في أوائل ظلمة الليل وهي الوقت المعهود لطروق الطارقين من السائرين. ولعل الطارق هو النجم الذي يسمى الشاهد، وهو نجم يظهر عقب غروب الشمس، وبه سميت صلاة المغرب صلاة الشاهد.
روى النسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن هذه الصلاة أي صلاة العصر فرضت على من كان قبلكم فضيعوها إلى قوله ولا صلاة بعدها حتى يطلع الشاهد" .
وقيل أريد ب {الطَّارِقُ} نوع الشهب روي عن جابر بن زيد: أن النجم الطارق هو كوكب زحل لأنه مبرز على الكواكب بقوة شعاعه. وعنه: أنه الثريا لأن العرب تطلق عليها النجم علما بالغلبة ، وعن ابن عباس: أنه نجوم برج الجدي، ولعل ذلك النجم كان معهودا عند العرب واشتهر في ذلك في نجم الثريا.
وقيل: أريد بالطارق نوع الشهب أي لأن الشهاب ينقض فيلوح كأنه يجري في السماء كما يسير السائر الذي أدركه الليل. فالتعريف في لفظ {النَّجْمُ} للاستغراق، وخص عمومه بوقوعه خبرا عن ضمير {الطَّارِقُ} أي أن الشهاب عند انقضاضه يرى سائرا بسرعة ثم يغيب عن النظر فيلوح كأنه استقر فأشبه إسراع السائر ليلا ليبلغ إلى أحياء المعمورة فإذا بلغها وقف سيره.
وجواب القسم هو قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} جعل كناية تلويحية رمزية عن المقصود. وهو إثبات البعث فهو كالدليل على إثباته، فإن إقامة الحافظ تستلزم شيئا
يحفظه وهو الأعمال خيرها وشرها، وذلك يستلزم إرادة المحاسبة عليها والجزاء بما تقتضيه جزاء مؤخرا بعد الحياة الدنيا لئلا تذهب أعمال العاملين سدا وذلك يستلزم أن الجزاء مؤخر إلى ما بعد هذه الحياة إذ المشاهد تخلف الجزاء في هذه الحياة بكثرة، فلو أهمل الجزاء لكان إهماله منافيا لحكمة الإله الحكيم مبدع هذا الكون كما قال {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] وهذا الجزاء المؤخر يستلزم إعادة حياة للذوات الصادرة منها الأعمال.
فهذه لوازم أربعة بها كانت الكناية تلويحية رمزية.
وقد حصل مع هذا الاستدلال إفادة أن على الأنفس حفظة فهو إدماج.
والحافظ: هو الذي يحفظ أمرا ولا يهمله ليترتب عليه غرض مقصود.
وقرأ الجمهور {لما} بتخفيف الميم، وقرأه ابن عامر وحمزة وأبو جعفر وخلف بتشديد الميم.
فعلى قراءة تخفيف الميم تكون {إن} مخففة من الثقيلة و {لما} مركبة من اللام الفارقة بين {إن} النافية و {إن} المخففة من الثقيلة ومعها {ما} الزائدة بعد اللام للتأكيد وأصل الكلام: إن كل نفس لعليها حافظ.
وعلى قراءة تشديد الميم تكون {إن} نافية و {لما} حرف بمعنى {إلا} فإن {لما} ترد بمعنى {إلا} في النفي وفي القسم، تقول: سألتك لما فعلت كذا أي إلا فعلت، على تقدير: ما أسألك إلا فعل كذا فآلت إلى النفي وكل من {إن} المخففة و {إن} النافية يتلقى بها القسم.
وقد تضمن هذا الجواب زيادة على إفادته تحقيق الجزاء إنذارا للمشركين بأن الله يعلم اعتقادهم وأفعالهم وأنه سيجازيهم على ذلك.
[5-7] {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} .
الفاء لتفريع الأمر بالنظر في الخلقة الأولى، على ما أريد من قوله: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4] من لوازم معناه، وهو إثبات البعث الذي أنكروه على طريقة الكناية التلويحية الرمزية كما تقدم آنفا، فالتقدير: فإن رأيتم البعث محالا فلينظر الإنسان
مم خلق ليعلم أن الخلق الثاني ليس بأبعد من الخلق الأول.
فهذه الفاء مفيدة مفاد فاء الفصيحة.
والنظر: نظر العقل، وهو التفكر المؤدي إلى علم شيء بالاستدلال فالمأمور به نظر المنكر للبعث في أدلة إثباته كما يقتضيه التفريع على {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق:4].
و {من} من قوله: {مِمَّ خُلِقَ} ابتدائية متعلقة ب {خُلِقَ} . والمعنى: فليتفكر الإنسان في جواب: ما شيء خلق منه? فقدم المعلق على عامله تبعا لتقديم ما اتصلت به من {من} اسم الاستفهام.
و {ما} استفهامية علقت فعل النظر العقلي عن العمل.
والاستفهام مستعمل في الإيقاظ والتنبيه إلى ما يجب علمه كقوله تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس:18] فالاستفهام هنا مجاز مرسل مركب.
وحذف ألف {ما} الاستفهامية على طريقة وقوعها مجرورة.
ولكون الاستفهام غير حقيقي أجاب عنه المتكلم بالاستفهام على طريقة قوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 1، 2].
و {الإنسان} مراد به خصوص منكر البعث كما علمت آنفا من مقتضى التفريع في قوله: {فلينظر} الخ.
ومعنى {دَافِقٍ} خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل.
وصيغة {دَافِقٍ} اسم فاعل من دفق القاصر، وهو قول فريق من اللغويين. وقال الجمهور: لا يستعمل دفق قاصرا. وجعلوا دافقا بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر.
وعن الفراء: أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلا، إذا كان في طريقة النعت. وسيبويه جعله من صيغ النسب كقولهم: لابن وتامر، ففسر دافق: بذي دفق.
والأحسن أن يكون اسم فاعل ويكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جبر بمعنى انجبر في قوله:
قد جبر الدين الإله فجبر
وأنه سماعي.
وأطنب في وصف هذا الماء الدافق لإدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين ليستيقظ الجاهل الكافر ويزداد المؤمن علما ويقينا.
ووصف أنه يخرج من {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} لأن الناس لا يتفطنون لذلك.
والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان ولو بدون بروز فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب.
والصلب: العمود العظمي الكائن في وسط الظهر، وهو ذو الفقرات.
والترائب: جمع تريبة، ويقال: تريب. ومحرر أقوال اللغويين فيها أنها عظام الصدر التي بين الترقوتين والثديين ووسمه بأنه موضع القلادة من المرأة.
والترائب تضاف إلى الرجل وإلى المرأة، ولكن أكثر وقوعها في كلامهم في أوصاف النساء لعدم احتياجهم إلى وصفها في الرجال.
وقوله: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} الضمير عائد إلى {مَاءٍ دَافِقٍ} وهو المتبادر فتكون جملة يخرج حالا من {مَاءٍ دَافِقٍ} أي يمر ذلك الماء بعد أن يفرز من بين صلب الرجل وترائبه. وبهذا قال سفيان والحسن، أي أن أصل تكون ذلك الماء وتنقله من بين الصلب والترائب، وليس المعنى أنه يمر بين الصلب والترائب إذ لا يتصور ممر بين الصلب والترائب لأن الذي بينهما هو ما يحويه باطن الصدر والضلوع من قلب ورئتين.
فجعل الإنسان مخلوقا من ماء الرجل لأنه لا يتكون جسم الإنسان في رحم المرأة إلا بعد أن يخالطها ماء الرجل فإذا اختلط ماء الرجل بما يسمى ماء المرأة وهو شيء رطب كالماء يحتوي على بويضات دقيقة يثبت منها ما يتكون منه الجنين ويطرح ما عداه.
وهذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل مع التنبيه على أن خلق الإنسان من ماء الرجل وماء المرأة بذكر الترائب لأن الأشهر أنها لا تطلق إلا على ما بين ثديي المرأة.
ولا شك أن النسل يتكون من الرجل والمرأة فيتكون من ماء الرجل وهو سائل فيه
أجسام صغيرة تسمى في الطب الحيوانات المنوية، وهي خيوط مستطيلة مؤلفة من طرف مسطح بيضوي الشكل وذنب دقيق كخيط، وهذه الخيوط يكون منها تلقيح النسل في رحم المرأة ومقرها الانثيان وهما الخصيتان فيندفع إلى رحم المرأة.
ومن ماء هو للمرأة كالمني للرجل ويسمى ماء المرأة، وهو بويضات دقيقة كروية الشكل تكون في سائل مقره حويصلة من حويصلات يشتمل عليها مبيضان للمرأة وهما بمنزلة الانثيين للرجل فهما غدتان تكونان في جانبي رحم المرأة، وكل مبيض يشتمل على عدد من الحويصلات يتراوح من عشر إلى عشرين. وخروج البيضة من الحويصلة يكون عند انتهاء نمو الحويصلة فإذا انتهى نموها انفجرت فخرجت البيضة في قناة تبلغ بها إلى تجويف الرحم، وإنما يتم بلوغ البيضة النمو وخروجها من الحويصلة في وقت حيض المرأة فلذلك يكثر العلوق إذا باشر الرجل المرأة بقرب انتهاء حيضها.
وأصل مادة كلا الماءين مادة دموية تنفصل عن الدماغ وتنزل في عرقين خلف الأذنين، فأما في الرجل فيتصل العرقان بالنخاع، وهو الصلب ثم ينتهي إلى عرق ما يسمى الحبل المنوي مؤلف من شرايين وأوردة وأعصاب وينتهي إلى الانثيين وهما الغدتان اللتان تفرزان المني فيتكون هنالك بكيفية دهنية وتبقى منتشرة في الانثيين إلى أن تفرزها الأنثيان مادة دهنية شحمية وذلك عند دغدغة ولذع القضيب المتصل بالانثيين فيندفق في رحم المرأة.
وأما بالنسبة إلى المرأة فالعرقات اللذان خلف الأذنين يمران بأعلى صدر المرأة وهو الترائب لأن فيه الثديين وهما من الأعضاء المتصلة بالعروق التي يسير فيها دم الحيض الحامل للبويضات التي منها النسل. والحيض يسيل من فوهات عروق في الرحم، وهي عروق تنفتح عند حلول إبان المحيض وتنقبض عقب الطهر. والرحم يأتيها عصب من الدماغ.
وهذا من الإعجاز العلمي في القرآن الذي لم يكن علم به للذين نزل بينهم، وهو إشارة مجملة وقد بينها حديث مسلم عن أم سلمة وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن احتلام المرأة، فقال: "تغتسل إذا أبصرت الماء" فقيل له: "أترى المرأة ذلك" فقال "وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك إذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه" .
[8-10] {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ، يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ، فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} .
استئناف بياني ناشيء عن قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق:5] لأن السامع يتساءل عن المقصد من هذا الأمر بالنظر في أصل الخلقة. وإذ قد كان ذلك النظر نظر استدلال فهذا الاستئناف البياني له يتنزل منزلة نتيجة الدليل، فصار المعنى: إن الذي خلق الإنسان من ماء دافق قادر على إعادة خلقه بأسباب أخرى وبذلك يتقرر إمكان إعادة الخلق ويزول ما زعمه المشركون من استحالة تلك الإعادة.
وضمير {إنه} عائد إلى الله تعالى وإن لم يسبق ذكر لمعاد ولكن بناء الفعل للمجهول في قوله: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:6]، يؤذن بأن الخالق معروف لا يحتاج إلى ذكر اسمه، وأسند الرجع إلى ضمير دون سلوك طريقة البناء للمجهول كما في قوله: {خُلِقَ} لأن المقام مقام إيضاح وتصريح بأن الله هو فاعل ذلك.
وضمير {رَجْعِهِ} عائد إلى {الْأِنْسَانُ} [الطارق:5].
والرجع: مصدر رجعه المتعدي. ولا يقال في مصدر رجع القاصر إلا الرجوع.
و {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} متعلق ب {رَجْعِهِ} أي يرجعه يوم القيامة.
والسرائر: جمع سريرة وهي ما يسره الإنسان ويخفيه من نواياه وعقائده.
وبلو السرائر، اختبارها وتمييز الصالح منها عن الفاسد، وهو كناية عن الحساب عليها والجزاء، وبلو الأعمال الظاهرة والأقوال مستفاد بدلالة الفحوى من بلو السرائر.
ولما كان بلو السرائر مؤذنا بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} مشعرا بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} ، فالضمير عائد إلى {الْأِنْسَانُ} [الطارق:5]. والمقصود، المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد، أي فما للإنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه.
[11-14] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ، وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ، إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} .
بعد أن تبين الدليل على إمكان البعث أعقب بتحقيق أن القرآن حق وأن ما فيه قول فصل إبطالا لما موه عليهم من أن أخباره غير صادقة إذ قد أخبرهم بإحياء الرمم البالية.
فالجملة استئناف ابتدائي لغرض من أغراض السورة.
وافتتح الكلام بالقسم تحقيقا لصدق القرآن في الإخبار بالبعث في غير ذلك مما اشتمل عليه من الهدى. وذلك أعيد القسم ب {السَّمَاءِ} كما أقسم بها في أول السورة، وذكر من أحوال السماء ما له مناسبة بالمقسم عليه، وهو الغيث الذي به صلاح الناس، فإن إصلاح القرآن للناس كإصلاح المطر. وفي الحديث "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا" الحديث.
وفي اسم الرجع مناسبة لمعنى البعث في قوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق:8] وفيه محسن الجناس التام وفي مسمى الرجع وهو المطر المعاقب لمطر آخر مناسبة لمعنى الرجع البعث فإن البعث حياة معاقبة بحياة سابقة.
وعطف {الْأَرْضِ} في القسم لأن بذكر الأرض إتمام المناسبة بين المقسم والمقسم عليه كما علمت من المثل الذي في الحديث.
والصدع: الشق، وهو المصدر بمعنى المفعول، أي المصدوع عنه، وهو النبات الذي يخرج من شقوق الأرض قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبّاً، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً، وَعِنَباً وَقَضْباً، وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} [عبس 25-29].
ولأن في هذين الحالين إيماء إلى دليل آخر من دلائل إحياء الناس للبعث فكان في هذا القسم دليلان.
والضمير الواقع إسما ل {إن} عائد إلى القرآن وهو معلوم من المقام.
والفصل مصدر بمعنى التفرقة، والمراد أنه يفصل بين الحق والباطل، أي يبين الحق ويبطل الباطل، والإخبار بالمصدر للمبالغة، أي إنه لقول فاصل.
وعطف {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} بعد الثناء على القرآن بأنه {قَوْلٌ فَصْلٌ} يتعين على المفسر أن يتبين وجه هذا العطف ومناسبته، والذي أراه في ذلك أنه أعقب به الثناء على القرآن ردا على المشركين إذ كانوا يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء يهزل إذ يخبر بأن الموتى سيحيون، يريدون تضليل عامتهم حين يسمعون قوارع القرآن وإرشاده وجزالة معانيه يختلقون لهم تلك
المعاذير ليصرفوهم عن أن يتدبروا القرآن وهو ما حكاه الله عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26]، فالهزل على هذا الوجه هو ضد الجد أعني المزح واللعب، ومثل هذه الصفة إذا وردت في الكلام البليغ لا محمل لها إلا إرادة التعريض وإلا كانت تقصيرا في المدح لا سيما إذا سبقتها محمدة من المحامد العظيمة.
ويجوز أن يطلق الهزل على الهذيان قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} أي بالهذيان.
[15-16] {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً} .
استئناف بياني ينبيء عن سؤال سائل يعجب من إعراضهم عن القرآن مع أنه قول فصل ويعجب من معاذيرهم الباطلة مثل قولهم: هو هزل أو هذيان أو سحر، فبين للسامع أن عملهم ذلك كيد مقصود. فهم يتظاهرون بأنهم ما يصرفهم عن التصديق بالقرآن إلا ما تحققوه من عدم صدقه، وهو إنما يصرفهم عن الإيمان به الحفاظ على سيادتهم فيضللون عامتهم بتلك التعللات الملفقة.
والتأكيد ب {إن} لتحقيق هذا الخبر لغرابته، وعليه فقوله: {وَأَكِيدُ كَيْداً} تتميم وإدماج وإنذار لهم حين يسمعونه.
ويجوز أن يكون قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تسلية له على أقوالهم في القرآن الراجعة إلى تكذيب من جاء بالقرآن. أي إنما يدعون أنه هزل لقصد الكيد وليس لأنهم يحسبونك كاذبا على نحو قوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
والضمير الواقع اسما ل {إن} عائد إلى ما فهم من قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ، وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 13، 14] من الرد على الذين يزعمون القرآن بعكس ذلك، أي أن المشركين المكذبين يكيدون.
وجملة {وَأَكِيدُ كَيْداً} تثبيت للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر.
و {كَيْداً} في الموضعين مفعول مطلق مؤكد لعامله وقصد منه مع التوكيد تنوين تنكيره الدال على التعظيم.
والكيد: إخفاء قصد الضر وإظهار خلافه، فكيدهم مستعمل في حقيقته. وأما الكيد المسند إلى ضمير الجلالة فهو مستعمل في الإمهال مع إرادة الانتقام عند وجود ما تقتضيه
الحكمة من إنزاله بهم وهو استعارة تمثيلية، شبهت هيئة إمهالهم وتركهم مع تقدير إنزال العقاب بهم بهيئة الكائد يخفي إنزال ضره ويظهر أنه لا يريده وحسنها محسن المشاكلة.
[17] {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} .
الفاء لتفريع الأمر بالإمهال على مجموع الكلام السابق من قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13]، بما فيه من صريح وتعريض وتبيين ووعد بالنصر، أي فلا تستعجل لهم بطلب إنزال العقاب فإنه واقع به لا محالة.
والتمهيل: مصدر مهل بمعنى أمهل، وهو الإنظار إلى وقت معين أو غير معين، فالجمع بين "مهل" و {أَمْهِلْهُمْ} تكرير للتأكيد لقصد زيادة التسكين، وخولف بين الفعلين في التعدية مرة بالتضعيف وأخرى بالهمز لتحسين التكرير.
والمراد ب {الْكَافِرِينَ} ما عاد عليه ضمير {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} [الطارق: 15]، فهو إظهار في مقام الإظمار للنداء عليهم بمذمة الكفر، فليس المراد جميع الكافرين بل أريد الكافرون المعهودون.
و {رُوَيْداً} تصغير رود بضم الراء بعدها واو، ولعله اسم مصدر، وأما قياس مصدره فهو رود بفتح الراء وسكون الواو، وهو المهل وعدم العجلة وهو مصدر مؤكد لفعل {أَمْهِلْهُمْ} فقد أكد قوله: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} مرتين.
والمعنى: انتظر ما سيحل بهم ولا تستعجل لهم انتظار تربص واتياد فيكون {رُوَيْداً} كناية عن تحقق ما يحل بهم من العقاب لأن المطمئن لحصول شيء لا يستعجل به.
وتصغيره للدلالة على التقليل، أي مهلة غير طويلة.
ويجوز أن يكون {رُوَيْداً} هنا اسم فعل للأمر، كما في قولهم: رويدك، لأن اقترانه بكاف الخطاب إذا أريد به اسم الفعل ليس شرطا، ويكون الوقف على قوله: {الْكَافِرِينَ} و {رُوَيْداً} كلاما مستقلا، فليس وجود فعل من معناه قبله بدليل على أنه مراد به المصدر، أي تصبر ولا تستعجل نزول العذاب بهم فيكون كناية عن الوعد بأنه واقع لا محالة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأعلىهذه السورة وردت تسميتها في السنة سورة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ففي الصحيحين عن جابر بن عبد الله قال قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول فشكاه بعض من صلى خلفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي: "أفتان أنت يا معاذ أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى والضحى" اهـ.
وفي "صحيح البخاري" عن البراء بن عازب قال: ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى في سور مثلها.
وروى الترمذي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان يقرأ في العيد ويوم الجمعة سبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية" .
وسمتها عائشة "سَبِّحِ". روى أبو داود والترمذي عنها كان النبي يقرأ في الوتر في الركعة الأولى سبح الحديث. فهذا ظاهر في أنها أرادت التسمية لأنها لم تأتي بالجملة القرآنية كاملة، وكذلك سماها البيضاوي وابن كثير. لأنها اختصت بالافتتاح بكلمة "سَبِّحِ" بصيغة الأمر.
وسماها أكثر المفسرين وكتاب المصاحف "سورة الأعلى" لوقوع صفة الأعلى فيها دون غيرها.
وهي مكية في قول الجمهور وحديث البراء بن عازب الذي ذكرناه آنفا يدل عليه، وعن ابن عمر وابن عباس أن قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 14-15]، نزل في صلاة العيد وصدقة الفطر، أي فهما مدنيتان فتكون السورة بعضها مكي وبعضها مدني.
وعن الضحاك أن السورة كلها مدنية.
وما اشتملت عليه من المعاني يشهد لكونها مكية وحسبك بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6].
وهي معدودة ثامنة في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة التكوير وقبل سورة الليل. وروي عن ابن عباس وعكرمة والحسن أنها سابعة قالوا: أول ما نزل من القرآن: اقرأ باسم ربك، ثم ن~، ثم المزمل، ثم تبت، ثم إذا الشمس كورت، ثم سبح اسم ربك. وأما جابر بن زيد فعد الفاتحة بعد المدثر ثم عد البقية فهي عنده الثامنة، فهي من أوائل السور وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} ينادي على ذلك.
وعدد آيها تسع عشرة آية باتفاق أهل العدد.
أغراضها
اشتملت على تنزيه الله تعالى والإشارة إلى وحدانيته لانفراده بخلق الإنسان وخلق ما في الأرض مما فيه بقاؤه.
وعلى تأييد النبي صلى الله عليه وسلم وتثبيته على تلقي الوحي.
وأن الله معطيه شريعة سمحة وكتابا يتذكر به أهل النفوس الزكية الذين يخشون ربهم، ويعرض عنهم أهل الشقاوة الذين يؤثرون الحياة الدنيا ولا يعبأون بالحياة الأبدية.
وأن ما أوحي إليه يصدقه ما في كتب الرسل من قبله وذلك كله تهوين لما يلقاه من إعراض المشركين.
[1-5] {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} .
الافتتاح بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يسبح اسم ربه بالقول، يؤذن بأنه سيلقي إليه عقبه بشارة وخيرا له وذلك قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6] الآيات كما سيأتي ففيه براعة استهلال.
والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
والتسبيح: التنزيه عن النقائص وهو من الأسماء التي لا تضاف لغير اسم الله تعالى وكذلك الأفعال المشتقة منه لا ترفع ولا تنصب على المفعولية إلا ما هو اسم لله، وكذلك
أسماء المصدر منه نحو: سبحان الله. وهو من المعاني الدينية، فأشبه أنه منقول إلى العربية من العبرانية وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} في [سورة البقرة: 30].
وإذ عدي فعل الأمر بالتسبيح هنا إلى اسم فقد تعين أن المأمور به قول دال على تنزيه الله بطريقة إجراء الأخبار الطيبة أو التوصيف بالأوصاف المقدسة لإثباتها إلى ما يدل على ذاته تعالى من الأسماء والمعاني، ولما كان أقوالا كانت متعلقة باسم الله باعتبار دلالته على الذات، فالمأمور به إجراء الأخبار الشريفة والصفات الرفيعة على الأسماء الدالة على الله تعالى من أعلام وصفات ونحوها، وذلك آيل إلى تنزيه المسمى بتلك الأسماء. ولهذا يكثر في القرآن إناطة التسبيح بلفظ اسم الله نحو قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، وقد تقدم ذلك في مبحث الكلام على البسملة في أول هذا التفسير.
فتسبيح اسم الله النطق بتنزيهه في الخويصة وبين الناس بذكر يليق بجلاله من العقائد والأعمال كالسجود والحمد. ويشمل ذلك استحضار الناطق بألفاظ التسبيح معاني تلك الألفاظ إذ المقصود من الكلام معناه. وبتظاهر النطق مع استحضار المعنى يتكرر المعنى على ذهن المتكلم ويتجدد ما في نفسه من تعظيم الله تعالى.
وأما تفكر العبد في عظمة الله تعالى وترديد تنزيهه في ذهنه فهو تسبيح لذات الله ومسمى اسمه ولا يسمى تسبيح اسم الله، لأن ذلك لا يجري على لفظ من أسماء الله تعالى، فهذا تسبيح ذات الله وليس تسبيحا لاسمه.
وهذا ملاك التفرقة بين تعلق لفظ التسبيح بلفظ اسم الله نحو {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} ، وبين تعلقه بدون اسم نحو {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ} [الانسان: 26] ونحو {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} الأعراف: 206] فإذا قلنا {اللَّهُ أَحَدٌ} [الاخلاص: 1] أو قلنا {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ} [الحشر: 23] إلى آخر السورة كان ذلك تسبيحا لاسمه تعالى وإذا نفينا الإلاهية عن الأصنام لأنها لا تخلق كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73] كان ذلك تسبيحا لذات الله لا لأسمه لأن اسمه لم يجر عليه في هذا الكلام إخبار ولا توصيف.
فهذا مناط الفرق بين استعمال {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} واستعمال {وَسَبِّحْهُ} ومآل الإطلاقين في المعنى واحد لأن كلا الإطلاقين مراد به الإرشاد إلى معرفة أن الله منزه عن النقائض.
واعلم أن مما يدل على إرادة التسبيح بالقول وجود قرينة في الكلام تقتضيه مثل التوقيت بالوقت في قوله تعالى: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الأحزاب:42] فإن الذي يكلف بتوقيته هو الأقوال والأفعال دون العقائد، ومثل تعدية الفعل بالباء مثل قوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [السجدة: 15] فإن الحمد قول فلا يصاحب إلا قولا مثله.
وتعريف {اسم} بطريقة الإضافة إلى {رَبِّكَ} دون تعريفه بالإضافة إلى علم الجلالة نحو: سبح اسم الله، لما يشعر به وصف رب من أنه الخالق المدبر. وأما إضافة (رب) إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم فلتشريفه بهذه الإضافة وأن يكون له حظ زائد على التكليف بالتسبيح.
ثم أجري على لفظ {رَبِّكَ} صفة {الأَعْلَى} وما بعدها من الصلات الدالة على تصرفات قدرته، فهو مستحق للتنزيه لصفات ذاته ولصفات إنعامه على الناس بخلقهم في أحسن تقويم، وهدايتهم، ورزقهم، وزرق أنعامهم، للإيماء إلى موجب الأمر بتسبيح اسمه بأنه حقيق بالتنزيه استحقاقا لذاته ولوصفه بصفة أنه خالق المخلوقات خلقا يدل على العلم والحكمة وإتقان الصنع، وبأنه أنعم بالهدى والرزق الذين بهما استقامة حال البشر في النفس والجسد وأوثرت الصفات الثلاث الأول لما لها من المناسبة لغرض السورة كما سنبينه.
فلفظ {الأَعْلَى} اسم يفيد الزيادة في صفة العلو، أي الارتفاع. والارتفاع معدود في عرف الناس من الكمال فلا ينسب العلو بدون تقييد إلا إلى شيء غير مذموم في العرف، ولذلك إذا لم يذكر مع وصف الأعلى مفضل عليه أفاد التفضيل المطلق كما في وصفه تعالى هنا. ولهذا حكي عن فرعون أنه قال {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].
والعلو المشتق منه وصفه تعالى {الأَعْلَى} علو مجازي، وهو الكمال التام الدائم.
ولم يعد وصفه تعالى {الأَعْلَى} في عداد الأسماء الحسنى استغناء عن اسمه {العلي} لأن أسماء الله توقيفية فلا من صفات الله تعالى بمنزلة الاسم إلا ما كثر إطلاقه إطلاق الأسماء، وهو أوغل من الصفات، قال الغزالي: والعلو في الرتبة العقلية مثل العلو في التدريجات الحسية، ومثال الدرجة العقلية، كالتفاوت بين السبب والمسبب والعلة والمعلول والفاعل والقابل والكامل والناقص اهـ.
وإيثار هذا الوصف في هذه السورة لأنها تضمنت التنويه بالقرآن والتثبيت على تلقيه
وما تضمنه من التذكير وذلك لعلو شأنه فهو من متعلقات وصف العلو الإلهي إذ هو كلامه.
وهذا الوصف هو ملاك القانون في تفسير صفات الله تعالى ومحاملها على ما يليق بوصف الأعلى فلذلك وجب تأويل المتشابهات من الصفات.
وقد جعل من قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} دعاء السجود في الصلاة إذ ورد أن يقول الساجد: سبحان ربي الأعلى، ليقرن أثر التنزيه الفعلي بأثر التنزيه القولي.
وجملة {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} اشتملت على وصفين وصف الخلق ووصف تسوية الخلق، وحذف مفعول {خَلَقَ} فيجوز أن يقدر عاما، وهو ما قدره جمهور المفسرين، وروي عن عطاء، وهو شأن حذف المفعول إذا لم يدل عليه دليل، أي خلق كل مخلوق فيكون كقوله تعالى حكاية عن قول موسى {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50].
ويجوز أن يقدر خاصا، أي خلق الإنسان كما قدره الزجاج، أو خلق آدم كما روي عن الضحاك، أي بقرينة قرن فعل {خَلَقَ} بفعل {سوى} قال تعالى: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29] الآية.
وعطف جملة {فَسَوَّى} بالفاء دون الواو للإشارة إلى مضمونها هو المقصود من الصلة وأن ما قبله توطئة له كما في قول ابن زيابة:
يا لهف زيابة للحارث الص ... ابح فالغانم فالآيب
لأن التلهف يحق إذا صحبهم فغنم أموالهم وآب بها ولم يستطيعوا دفاعه ولا استرجاعه.
فالفاء من قوله: {فَسَوَّى} للتفريع في الذكر باعتبار أن الخلق مقدم من اعتبار المعتبر على التسوية، وإن كان حصول التسوية مقارنا لحصول الخلق.
والتسوية: تسوية ما خلقه فإن حمل على العموم فالتسوية أن جعل كل جنس ونوع من الموجودات معادلا، أي مناسبا للأعمال التي في جبلته فاعوجاج زباني العقرب من تسوية خلقها لتدفع عن نفسها به بسهولة.
ولكونه مقارنا للخلقة عطف على فعل {خَلَقَ} بالفاء المفيدة للتسبب، أي ترتب
على الخلق تسويته.
والتقدير: وضع المقدار وإيجاده في الأشياء في ذواتها وقواها، يقال: قدر بالتضعيف وقدر بالتخفيف بمعنى.
وقرأ الجمهور بالتشديد وقرأها الكسائي وحده بالتخفيف.
والمقدار: أصله كمية الشيء التي تضبط بالذرع أو الكيل أو الوزن أو العد، واطلق هنا على تكوين المخلوقات على كيفيات منظمة مطردة من تركيب الأجزاء الجسدية الظاهرة مثل اليدين، والباطنة مثل القلب، ومن إيداع القوى العقلية كالحس والاستطاعة وحيل الصناعة.
وإعادة اسم الموصول في قوله: {وَالَّذِي قَدَّرَ} وقوله: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} مع إغناء حرف العطف عن تكريره، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب.
وعطف قوله: {فَهَدَى} مثل عطف {فَسَوَّى} ، فإن حمل {خَلَقَ} و {قَدَّرَ} على عموم المفعول كانت الهداية عامة. والقول في وجه عطف {فَهَدَى} بالفاء مثل القول في عطف {فَسَوَّى}
وعطف {فَهَدَى} على {قَدَّرَ} عطف المسبب على السبب أي فهدى كل مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإدراك والإرادة هي هداية الإلهام إلى كيفية استعمال ما قدر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه.
والمعنى: قدر الأشياء كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدر لها، فالله لما قدر للإنسان أن يكون قابلا للنطق والعلم والصناعة بما وهبه من العقل وآلات الجسد هداه لاستعمال فكره لما يحصل من خلق له، ولما قدر البقرة للدر ألهمها الرعي ورثمان ولدها لتدر بذلك للحالب، ولما قدر النحل لإنتاج العسل ألهمها أن ترعى النور والثمار وألهمها بناء الجبح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل.
ومن أجل مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع. فمفعول {هدى} محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهدي فهو مخصوص بذوات الإدراك والإرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدر نظامها ولم
يقدر لها الإدراك مثل تقدير الأثمار للشجر، وإنتاج الزريعة لتجدد الإنبات، فذلك غير مراد من قوله: {فَهَدَى} لأنها مخلوقة ومقدرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء، وإن جعل مفعول {خَلَقَ} خاصا وهو الإنسان كان مفعول {قَدَّرَ} على وزانه، أي تقدير كمال قوى الإنسان، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإدراك والعقل.
وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن لهذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6] وقال {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8].
وقوله: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} تذكير لخلق جنس النبات من شجر وغيره. واقتصر على بعض أنواعه وهو الكلأ لأنه معاش السوائم التي ينتفع الناس بها.
والمراد: إخراجه من الأرض وهو لإنباته.
والمرعى: النبت الذي ترعاه السوائم، وأصله: إما مصدر ميمي أطلق على الشيء المرعي من إطلاق المصدر على المفعول مثل الخلق بمعنى المخلوق وإما اسم مكان الرعي أطلق على ما ينبت فيه ويرعى إطلاقا مجازيا بعلاقة الحلول كما أطلق اسم الوادي على الماء الجاري فيه.
والقرينة جعله مفعولا ل {أَخْرَجَ} ، وإيثار كلمة {الْمَرْعَى} دون لفظ النبات، لما يشعر به مادة الرعي من نفع الأنعام به ونفعها للناس الذين يتخذونها مع رعاية الفاصلة...
والغثاء: بضم الغين المعجمة وتخفيف المثلثة، ويقال بتشديد المثلثة وهو اليابس من النبت.
والأحوى: الموصوف بالحوة بضم الحاء وتشديد الواو، وهي من الألوان: سمرة تقرب من السواد. وهو صفة {غُثَاءً} لأن الغثاء يابس فتصير خضرته حوة.
وهذا الوصف أحوى لاستحضار تغير لونه بعد أن كان أخضر يانعا وذلك دليل على تصرفه تعالى بالإنشاء وبالإنهاء. وفي وصف إخراج الله المرعى وجعله غثاء أحوى مع ما سبقه من الأوصاف في سياق المناسبة بينها وبين الغرض المسوق له الكلام وإيماء إلى تمثيل حال القرآن وهدايته وما اشتمل عليه من الشريعة التي تنفع الناس بحال الغيث
الذي ينبت به المرعى فتنتفع به الدواب والأنعام، وإلى أن هذه الشريعة تكمل ويبلغ ما أراد الله فيها كما يكمل المرعى ويبلغ نضجه حين يصير غثاء أحوى، على طريقة تمثيلية مكنية رمز إليها بذكر لازم الغيث وهو المرعى. وقد جاء بيان هذا الإيماء وتفصيله بقول النبي صلى الله عليه وسلم "مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقيه قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا" الحديث.
ويجوز أن يكون المقصود من جملة {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} إدماج العبرة بتصاريف ما أودع الله فيه المخلوقات من مختلف الأطوار من الشيء إلى ضده للتذكير بالفناء بعد الحياة كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم:54]، للإشارة إلى أن مدة نضارة الحياة للأشياء تشبه المدة القصيرة، فاستعير لعطف {َجَعَلَهُ غُثَاءً} الحرف الموضوع لعطف ما يحصل فيه حكم المعطوف عليه، ويكون ذلك من قبيل قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً} إلى قوله: {فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس:24].
[6-7] {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} .
قد عرفت أن الأمر بالتسبيح في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] بشارة إجمالية للنبي صلى الله عليه وسلم بخير يحصل له، فهذا موقع البيان الصريح بوعده بأنه سيعصمه من نسيان ما يقرئه فيبلغه كما أوحى إليه ويحفظه من التفلت عليه، ولهذا تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا لأن البشارة تنشيء في نفس النبي صلى الله عليه وسلم ترقبا لوعد بخير يأتيه فبشره بأنه سيزيده من الوحي، مع ما فرع على قوله: {سَنُقْرِئُكَ} من قوله: {فَلا تَنْسَى} .
وإذا قد كانت هذه السورة من أوائل السور نزولا. وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شدة إذا نزل جبريل، وكان مما يحرك شفتيه ولسانه، يريد أن يحفظه ويخشى أن يتفلت عليه فقيل له {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16-17]، إن علينا أن نجمعه في صدرك وقرآنه أن تقرأه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:18]. يقول: إذا أنزل عليك فاستمع، قال: فكان إذا أتاه
جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما قرأ جبريل كما وعده الله وسورة القيامة التي منها {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} نزلت بعد سورة الأعلى فقد تعين أن قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} وعد من الله بعونه على حفظ جميع ما يوحى إليه.
وإنما ابتدىء بقوله: {سَنُقْرِئُكَ} تمهيدا للمقصود الذي هو {فَلا تَنْسَى} وإدماجا للإعلام بأن القرآن في تزايد مستمر، فإذا كان قد خاف من نسيان بعض ما أوحي إليه على حين قلته فإنه سيتتابع ويتكاثر فلا يخش نسيانه فقد تكفل له عدم نسيانه مع تزايده.
والسين علامة على استقبال مدخولها، وهي تفيد تأكيد حصول الفعل وخاصة إذا اقترنت بفعل حاصل في وقت التكلم فإنها تقتضي أنه يستمر ويتجدد وذلك تأكيد لحصوله وإذا قد كان قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} إقراء، فالسين دالة على أن الإقراء يستمر ويتجدد.
والالتفات بضمير المتكلم المعظم لأن التكلم أنسب بالإقبال على المبشر.
وإسناد الإقراء إلى الله مجاز عقلي لأنه جاعل الكلام المقروء وآمر بإقرانه.
فقوله: {فَلا تَنْسَى} خبر مراد به الوعد والتكفل له بذلك.
والنسيان: عدم خطور المعلوم السابق في حافظة الإنسان برهة أو زمانا طويلا.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} مفرغ من فعل {تَنْسَى} ، و"ما" موصولة هي المستثنى. والتقدير: إلا الذي شاء الله أن تنساه، فحذف مفعول فعل المشيئة جريا على غالب استعماله في كلام العرب. وانظر ما تقدم في قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} في [البقرة: 20].
والمقصود بهذا أن بعض القرآن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم إذا شاء الله أن ينساه. وذلك نوعان:
أحدهما: وهو أظهرهما أن الله إذا شاء نسخ تلاوة بعض ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يترك قراءته فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بأن لا يقرأوه حتى ينساه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. وهذا مثل ما روي عن عمر أنه قال: كان فيما أنزل الشيخ والشخة إذا زنيا فارجموهما قال عمر: لقد قرأناها، وأنه كان فيما أنزل لا ترغبوا عن آبائكم فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم. وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا} في قراءة من
قرأ {نُنْسِهَا} في [سورة البقرة:106].
النوع الثاني: ما يعرض نسيانه للنبي صلى الله عليه وسلم نسيانا مؤقتا كشأن عوارض الحافظة البشرية ثم يقيض الله له ما يذكره به. ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقرأ من الليل بالمسجد فقال: "يرحمه الله فقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن أو كنت أنسيتها من سورة كذا وكذا" ، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط آية في قراءته في الصلاة فسأله أبي بن كعب أنسخت? فقال: "نسيتها" .
وليس قوله: {فَلا تَنْسَى} من الخبر المستعمل في النهي عن النسيان لأن النسيان لا يدخل تحت التكليف، أما إنه ليست "لا" فيه ناهية فظاهر ومن زعمه تعسف لتعليل كتابة الألف في آخره.
وجملة {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} معترضة وهي تعليل لجملة {فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فإن مضمون تلك الجملة ضمان الله لرسوله صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن من النقص العارض.
ومناسبة الجهر وما يخفى أن ما يقرؤه الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن هو من قبيل الجهر فالله يعلمه، وما ينساه فيسقطه من القرآن وهو من قبيل الخفي فيعلم الله أنه اختفى في حافظته حين القراءة فلم يبرز إلى النطق به.
[8] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} .
عطف على {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى:6]. وجملة {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7]، معترضة كما علمت. وهذا العطف من عطف الأعم على الأخص في المآل وإن كان مفهوم الجملة السابقة مغايرا لمفهوم التيسير لأن مفهومها الحفظ والصيانة ومفهوم المعطوفة تيسير الخير له.
والتيسير: جعل العمل يسيرا على عامله.
ومفعول فعل التيسير هو الشيء الذي يجعل يسيرا، أي غير صعب ويذكر مع المفعول الشيء المجعول الفعل يسيرا لأجله مجرورا باللام كقوله تعالى: {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} [طه:26].
واليسرى: مئنث الأيسر، وصيفة فعلى تدل على قوة الوصف لأنها مؤنث أفعل.
والموصوف محذوف، وتأنيث الوصف مشعر بأن الموصوف المحذوف مما يجري في الكلام على اعتبار اسمه مؤنثا بأن يكون مفردا فيه علامة تأنيث أو يكون جمعا إذ المجموع تعامل معاملة المؤنث. فكان الوصف المؤنث مناديا على تقدير موصوف مناسب للتأنيث في لفظه، وسياق الكلام الذي قبله يهدي إلى أن يكون الموصوف المقدر معنى الشريعة فإن خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في القرآن مراعى فيه وصفه العنواني وهو أنه رسول فلا جرم أن يكون أول شؤونه هو ما أرسل به وهو الشريعة.
وقوله: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} إن حمل على ظاهر نظم الكلام وهو ما جرى عليه المفسرون، فالتيسير مستعار للتهيئة والتسخير، أي قوة تمكينه صلى الله عليه وسلم من اليسرى وتصرفه فيها بما يأمر الله به، أي نهيئك للأمور اليسرى في أمر الدين وعواقبه من تيسير حفظ القرآن لك وتيسير الشريعة التي أرسلت بها وتيسير الخير لك في الدنيا والآخرة. وهذه الاستعارة تحسنها المشاكلة.
ومعنى اللام في قوله: {لِلْيُسْرَى} العلة، أي لأجل اليسرى، أي لقبولها، ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم "كل ميسر لما خلق له" وتكون هذه الآية على مهيع قوله تعالى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} في [سورة الليل:10].
ويجوز أن يجعل الكلام جاريا على خلاف مقتضى الظاهر بسلوك أسلوب القلب وأن الأصل: ونيسر لك اليسرى، أي نجعلها سهلة لك فلا تشق عليك فيبقى فعل {نُيَسِّرُكَ} على حقيقته، وإنما خولف عمله في مفعوله والمجرور المتعلق به على عكس الشائع في مفعوله والمجرور المتعلق به.
وفي وصفها ب {اليسرى} إيماء إلى استتباب تيسره لها بما أنها جعلت يسرى، فلم يبق إلا حفظه من الموانع التي يشق معها تلقي اليسرى.
فاشتمل الكلام على تيسيرين: تيسير ما كلف به النبي صلى الله عليه وسلم، أي جعله يسيرا مع وفائه بالمقصود منه، وتيسير النبي صلى الله عليه وسلم للقيام بما كلف به.
ويوجه العدول على مقتضى ظاهر النظم إلى ما جاء النظم عليه، بأن فيه تنزيل الشيء الميسر منزلة الشيء الميسر له والعكس للمبالغة في ثبوت الفعل للمفعول على طريقة القلب المقبول كقول العرب عرضت الناقة على الحوض ، وقول العجاج:
ومهمه مغبرة أرجاؤه ... كأن لون أرضه سماؤه
وقد ورد القلب في آيات من القرآن ومنها قوله تعالى: {مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} [القصص: 76]، ومنه القلب التشبيه المقلوب.
والمعنى: وعد الله إياه بأنه يسره لتلقي أعباء الرسالة فلا تشق عليه ولا تحرجه تطمينا له إذ كان في أول أمر إرساله مشفقا أن لا يفي بواجباتها. أي أن الله جعله قابلا لتلقي الكمالات وعظائم تدبير الأمة التي من شأنها أن تشق على القائمين بأمثالها.
ومن آثار هذا التيسير ما ورد في الحديث " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرها" ، وقوله صلى الله عليه وسلم لأصحابه "إنما بعثتم ميسرين لا معسرين" .
[9-13] {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى، سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} .
بعد أن ثبت الله رسوله صلى الله عليه وسلم تكفل له ما أزال فرقه من أعباء الرسالة وما اطمأنت به نفسه من دفع ما خافه من ضعف عن أدائه الرسالة على وجهها وتكفل له دفع نسيان ما يوحى إليه إلا ما كان إنساؤه مرادا لله تعالى. ووعده بأنه وفقه وهيأه لذلك ويسره عليه، إذ كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مبدأ عده بالرسالة إذ كانت هذه السورة ثامنة السور لا يعلم ما سيتعهد الله به فيخشى أن يقصر عن مراد الله فيلحقه غضب منه أو ملام. أعقب ذلك بأن أمره بالتذكير، أي التبليغ، أي بالاستمرار عليه، إرهافا لعزمه، وشحذا لنشاطه ليكون إقباله على التذكير بشراشره فإن امتثال الأمر إذا عاضده إقبال النفس على فعل المأمور به كان فيه مسرة للمأمور، فجمع بين أداء الواجب وإرضاء الخاطر.
فالفاء للتفريع على ما تقدم تفريع النتيجة على المقدمات.
والأمر: مستعمل في طلب الدوام.
والتذكير: تبليغ الذكر وهو القرآن.
والذكرى: اسم مصدر التذكير وقد تقدم في سورة عبس.
ومفعول {فَذَكِّرْ} محذوف لقصد التعميم، أي فذكر الناس ودل عليه قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الآيتين.
وجملة {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} معترضة بين الجملتين المعللة وعلتها، وهذا الاعتراض منظور فيه إلى العموم الذي اقتضاه حذف مفعول {فَذَكِّرْ} ، أي فدم على تذكير
الناس كلهم إن نفعت الذكرى جميعهم، أي وهي لا تنفع إلا البعض وهو الذي يؤخذ من قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} الآية. فالشرط في قوله: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} جملة معترضة وليس متعلقة بالجملة ولا تقييدا لمضمونها إذ ليس المعنى: فذكر إذا كان للذكرى نفع حتى يفهم منه بطريق مفهوم المخالفة أن لا تذكر إذا لم تنفع الذكرى، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذكرى نافعة إذ لا سبيل إلى تعرف مواقع نفع الذكرى، ولذلك كان قوله تعالى: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [قّ: 45]، مؤولا بأن المعنى فذكر بالقرآن فيتذكر من يخاف وعيد، بل المراد فذكر الناس كافة إن كانت الذكرى تنفع جميعهم، فالشرط مستعمل في التشكيك لأن أصل الشرط ب "إن" أن يكون غير مقطوع بوقوعه، فالدعوة عامة وما يعلمه الله من أحوال الناس في قبول الهدى وعدمه أمر استأثر الله بعلمه، فأبو جهل مدعو للإيمان والله يعلم أنه لا يؤمن لكن الله لم يخص بالدعوة من يرجى منهم الإيمان دون غيرهم. والواقع يكشف المقدور.
وهذا تعريض بأن في القوم من لا تنفعه الذكرى وذلك يفهم من اجتلاب حرف "إن" المقتضى عدم احتمال وقوع الشرط أو ندرة وقوعه، ولذلك جاء بعده بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} فهو استئناف بياني ناشيء عن قوله: {فَذَكِّرْ} وما لحقه من الاعتراض بقوله: {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} المشعر بأن التذكير لا ينتفع به جميع المذكرين.
وهذا معنى قول ابن عباس: تنفع أوليائي ولا تنفع أعدائي، وفي هذا ما يريك معنى الآية واضحا لا غبار عليه ويدفع حيرة كثير من المفسرين في تأويل معنى "إن"، ولا حاجة إلى تقدير الفراء والنحاس: إن نفعت الذكرى وإن لم تنفع وأنه اقتصر على القسم الواحد لدلالته على الثاني.
ويذكر: مطاوع ذكره. وأصله: يتذكر، فقلبت التاء ذالا لقرب مخرجيهما ليأتي إدغامها في الذال الأخرى.
و {مَنْ يَخْشَى} : جنس لا فرد معين أي سيتذكر الذين يخشون. والضمير المستتر في {يَخْشَى} مراعى فيه لفظ "من" فإنه لفظ مفرد.
وقد نزل فعل {يَخْشَى} منزلة اللازم فلم يقدر له المفعول، أي يتذكر من الخشية فذكرته وجبلته، أي من يتوقع حصول الضر والنفع فينظر في مظان كل ويتدبر في الدلائل
لأنه يخشى أن يحق عليه ما أنذر به.
والخشية: الخوف، وتقدم في قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44]،. والخشية ذات مراتب وفي درجاتها يتفاضل المؤمنون.
والتجنب: التباعد، وأصله تفعل لتكلف الكينونة بجانب من شيء.
والجانب: المكان الذي هو طرف لغيره، وتكلف الكينونة به كناية عن طلب البعد أي بمكان بعيد منه، أي يتباعد عن الذكرى الأشقى.
والتعريف في {الأَشْقَى} تعريف الجنس، أي الأشقون.
والأشقى هو شديد الشقوة والشقوة والشقاء في لسان الشرع الحالة الناشئة في الآخرة عن الكفر من حالة الإهانة والتعذيب، وعندنا أن من علم إلى موته مؤمنا فليس بشقي.
فالأشقى: هو الكافر لأنه أشد الناس شقاء في الآخرة لخلوده في النار.
وتعريف {الأَشْقَى} تعريف الجنس، فيشمل جميع المشركين. ومن المفسرين من حمله على العهد فقال: أريد به الوليد بن المغيرة، أو عتبة بن ربيعة.
ووصف {الأَشْقَى} ب {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} لأن إطلاق {الأَشْقَى} في هذه الآية في صدر مدة البعثة المحمدية فكان فيه من الإبهام ما يحتاج إلى البيان فأتبع بوصف يبينه في الجملة ما نزل من القرآن من قبل هذه الآية.
ومقابلة {مَنْ يَخْشَى} ب {الشقى} تؤذن بأن {الأَشْقَى} من شأنه أن لا يخشى فهو سادر في غروره منغمس في لهوه فلا يتطلب لنفسه تخلصا من شقائه.
ووصف النار ب {الْكُبْرَى} للتهويل والإنذار والمراد بها جهنم.
وجملة {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} عطف على جملة {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} فهي صلة ثانية.
و"ثم" للتراخي الرتبي تدل على أن معطوفها متراخي الرتبة في الغرض المسوق له الكلام وهو شدة العذاب فإن تردد حاله بين الحياة والموت وهو في عذاب الاحتراق عذاب أشد مما أفاده أنه في عذاب الاحتراق. ظرورة أن الاحتراق واقع وقد زيد فيه درجة أنه لا راحة منه بموت ولا مخلص منه بحياة.
فمعنى {لا يَمُوتُ} : لا يزول عنه الإحساس، فإن الموت فقدان الإحساس مع ما في هذه الحالة من الأعجوبة وهي مما يؤكد اعتبار تراخي الرتبة في هذا التنكيل.
وتعقيبه بقوله: {وَلا يَحْيَى} احتراس لدفع توهم أن يراد بنفي الموت عنهم أنهم استراحوا من العذاب لما هو متعارف من أن الاحتراق يهلك المحرق، فإذا قيل {لا يَمُوتُ} توهم المنذرون أن ذلك الاحتراق لا يبلغ مبلغ الإهلاك فيبقى المحرق حيا فيظن أنه إحراق هين فيكون مسلاة للمهددين فلدفع ذلك عطف عليه {وَلا يَحْيَى} ، أي حياة خالصة من الآلام والقرينة على الوصف المذكور مقابلة ولا يحيى بقوله: {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا} .
وليس هذا من قبيل نفي وصفين لإثبات حالة وسط بين حالتيهما مثل {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور: 35]. وقول إحدى نساء أم زرع لا حر ولا قر لأن ذلك لا طائل تحته.
ويجوز أن نجعل نفي الحياة كناية عن نفي الخلاص بناء على أن لازم الإحراق الهلاك ولازم الحياة عدم الهلاك.
وفي الآية محسن الطباق لأجل التضاد الظاهر بين {لا يَمُوتُ} و {لا يَحْيَى} .
[14-15] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} .
استئناف بياني لأن ذكر {مَنْ يَخْشَى} وذكر {الْأَشْقَى} يثير استشراف السامع لمعرفة أثر ذلك فابتدئ بوصف أثر الشقاوة فوصف {الْأَشْقَى} بأنه {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 12]، وأخر ذكر ثواب الأتقى تقديما للأهم في الغرض وهو بيان جزاء الأشقى الذي يتجنب الذكرى وبقي السامع ينتظر أن يعلم جزاء من يخشى ويتذكر. فلما وفي حق الموعظة والترهيبة استؤنف الكلام لبيان المثوبة والترغيب. فالمراد ب {مَنْ تَزَكَّى} هنا عين المراد ب "مَنْ يَخْشَى، ويذكر" فقد عرف هنا بأنه الذي ذكر اسم ربه، فلا جرم أن ذكر اسم ربه هو التذكر بالذكرى، فالتذكر هو غاية الذكرى المأمور بها الرسول ص9 في قوله تعالى: {فَذَكِّرْ} [الأعلى: 9].
وقد جمعت أنواع الخير في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} فإن الفلاح نجاح المرء فيما يطمح إليه فهو يجمع معنيي الفوز والنفع وذلك هو الظفر بالمبتغى من الخير، وتقدم في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} في [البقرة: 5].
والإتيان بفعل المضي في قوله: {أَفْلَحَ} للتنبيه على المحقق وقوعه من الآخرة، واقترانه بحرف {قد} لتحقيقه وتثنيته كما في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1]، وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:9]، لأن الكلام موجه إلى الأشقين الذين تجنبوا الذكرى إثارة لهمتهم في الالتحاق بالذين خشوا فأفلحوا.
ومعنى تزكى: عالج أن يكون زكيا، أي بذل استطاعته في تطهير نفسه وتزكيتها كما قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9-10].
فمادة التفعل للتكلف وبذل الجهد، وأصل ذلك هو التوحيد والاستعداد للأعمال الصالحة التي جاء بها الإسلام ويجئ بها، فيشمل زكاة الأموال.
أخرج البزاز عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} قال: "من شهد أن لا اله إلا الله، وخلع الأنداد، وشهد أني رسول الله، {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} قال: هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها" ، وهو قول ابن عباس وعطاء وعكرمة وقتادة.
وقدم التزكي على ذكر الله والصلاة لأنه أصل العمل بذلك كله فإنه إذا تطهرت النفس أشرقت فيها أنوار الهداية فعلمت منافعها وأكثرت من الإقبال عليها فالتزكية: الارتياض على قبول الخير والمراد تزكى بالإيمان.
وفعل {ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} يجوز أن يكون من الذكر اللساني الذي هو بكسر الذال فيكون كلمة {اسْمَ رَبِّهِ} مرادا بها ذكر أسماء الله بالتعظيم مثل قول لا إله إلا الله، وقول الله أكبر، وسبحان الله ونحو ذلك على ما تقدم في قوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1].
ويجوز أن يكون من الذكر بضم الذال وهو حضور الشيء في النفس الذاكرة والمفكرة فتكون كلمة {اسم} مقحمة لتدل على شأن الله وصفات عظمته فإن أسماء الله أوصاف كمال.
وتفريع {فَصَلَّى} على {ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} على كلا الوجهين لأن الذكر بمعنييه يبعث الذاكر على تعظيم الله تعالى والتقرب إليه بالصلاة التي هي خضوع وثناء.
وقد رتبت هذه الخصال الثلاث في الآية على ترتيب تولدها. فاصلها: إزالة الخباثة النفسية من عقائد باطلة وحديث النفس بالمضمرات الفاسدة وهي المشار إليه بقوله: {تَزَكَّى} ، ثم استحضار معرفة الله بصفات كماله وحكمته ليخافه ويرجوه وهو المشار
بقوله: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ} ثم الإقبال على طاعته وعبادته وهو المشار إليه بقوله: {فَصَلَّى} والصلاة تشير إلى العبادة وهي في ذاتها طاعة وامتثال يأتي بعده ما يشرع من الأعمال قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45].
[16-17] {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} .
قرأ الجمهور {تُؤْثِرُونَ} بمثناة فوقية بصيغة الخطاب، والخطاب موجه للمشركين بقرينة السياق وهو التفات، وقرأه أبو عمرو وحده بالمثناة التحتية على طريقة الغيبة عائدا إلى {الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى:11-12].
وحرف {بل} معناه الجامع هو الإضراب، أي انصراف القول أو الحكم إلى ما يأتي بعد {بل} ؛ فهو إذا عطف المفردات كان الإضراب إبطالا للمعطوف عليه: لغلط في ذكر المعطوف أو للاحتراز عنه فذلك انصراف عن الحكم. وإذا عطف الجمل فعطفه عطف كلام على كلام وهو عطف لفظي مجرد عن التشريك في الحكم ويقع على وجهين، فتارة يقصد إبطال معنى الكلام نحو قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} [المؤمنون: 70]، فهو انصراف في الحكم، وتارة يقصد مجرد التنقل من خبر إلى آخر مع عدم إبطال الأول نحو قوله تعالى: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ، بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 62-63]. فتكون {بل} بمنزلة قولهم دع هذا فهذا انصراف قولي. ويعرف أحد الاضرابين بالقرائن والسياق.
و {بل} هنا عاطفة جملة عطفا صوريا فيجوز أن تكون لمجرد الانتقال من ذكر المنتفعين بالذكرى والمتجنبين لها، إلى ذكر سبب إعراض المتجنبين وهم الأشقون بأن السبب إيثارهم الحياة الدنيا، وذلك على قراءة أبي عمرو ظاهر وأما على قراءة الجمهور فهو إضراب عن حكاية أحوال الفريقين بالانتقال إلى توبيخ أحد الفريقين وهو الفريق الأشقى فالخطاب موجه إليهم على طريقة الالتفات لتجديد نشاط السامع لكي لا تنقضي السورة كلها في الإخبار عنهم بطريق الغيبة.
ويجوز أن يكون الاضراب إبطالا لما تضمنه قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، من التعريض للذين شقوا بتحريضهم على طلب الفلاح لأنفسهم ليلتحقوا بالذين يخشون ويتزكون ليبطل أن يكونوا مظنة تحصيل الفلاح.
والمعنى: أنهم بعداء عن أن يضن بهم التنافس في طلب الفلاح لأنهم يؤثرون الحياة
الدنيا، فالمعنى: بل أنتم تؤثرون منافع الدنيا على حظوظ الآخرة، وهذا كما يقول الناصح شخصا يضن أنه لا ينتصح لقد نصحتك وما أظنك تفعل.
ويجئ فيه الوجهان المتقدمان من الخطاب والغيبة على القراءتين.
والإيثار: اختيار شيء من بين متعدد.
والمعنى: يؤثرون الحياة الدنيا بعنايتكم واهتمامكم.
ولم يذكر المؤثر عليه لأن الحياة الدنيا تدل عليه، أي لا تتأملون فيما عدا حياتكم هذه ولا تتأملون في حياة ثانية، فالمشركون لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكروا بالحياة الآخرة وأخبروا بها لم يعيروا سمعهم ذلك وجعلوا ذلك من الكلام الباطل وهذا مورد التوبيخ.
واعلم أن للمؤمنين حظا من هذه الموعظة على طول الدهر، وذلك حظ مناسب لمقدار ما يفرط فيه أحدكم مما ينجيه في الآخرة إيثارا لما يجتنيه من منافع الدنيا التي تجر إليه تبعة في الآخرة على حسب ما جاءت به الشريعة، فأما الاستكثار من منافع الدنيا مع عدم إهمال أسباب النجاة في الآخرة فذلك ميدان للهمم وليس ذلك بمحل ذم قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77].
وجملة {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} عطف على جملة التوبيخ عطف الخبر على الإنشاء لأن هذا الخبر يزيد إنشاء التوبيخ توجيها وتأييدا بأنهم في إعراضهم عن النظر في دلائل حياة آخرة قد أعرضوا عما هو خير وأبقى.
{وَأَبْقَى} : اسم تفضيل، أي أطول بقاء وفي حديث النهي عن جر الإزار وليكن إلى الكعبين فإنه أتقى وأبقى.
[18-19] {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى، صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} .
تذييل للكلام وتنويه به بأنه من الكلام النافع الثابت في كتب إبراهيم وموسى عليهما السلام، قصد به الإبلاغ للمشركين الذين كانوا يعرفون رسالة إبراهيم ورسالة موسى، ولذلك أكد هذا الخبر ب {إن} ولام الابتداء لأنه مسوق إلى المنكرين.
والإشارة بكلمة {هذا} إلى مجموع قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} إلى قوله: {وَأَبْقَى} [الأعلى: 14-17]، فإن ما قبل ذلك من أول السورة إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، ليس مما ثبت معناه في صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام.
روى ابن مردويه والآجري عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله هل أنزل عليك شيء مما كان في صحف إبراهيم وموسى? قال: " نعم {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 14-17]. لم أقف على مرتبة هذا الحديث.
ومعنى الظرفية في قوله: {لَفِي الصُّحُفِ} أن مماثله في المعنى مكتوب في الصحف الأولى، فأطلقت الصحف على ما هو مكتوب فيها على وجه المجاز المرسل كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا} [صّ: 16]، أي ما في قطنا وهو صك الأعمال.
والصحف: جمع صحيفة على غير قياس لأن قياس جمعه صحائف، ولكنه مع كونه غير مقيس هو الأفصح كما قالوا: سفن في جمع سفينة، ووجه جمع الصحف أن إبراهيم كان له صحف وأن موسى كانت له صحف كثيرة وهي مجموع صحف أسفار التوراة.
وجاء نظم الكلام على أسلوب الإجمال والتفصيل ليكون هذا الخبر مزيد تقرير في أذهان الناس فقوله: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} بدل من {الصُّحُفِ الْأُولَى} .
و {الْأُولَى} : وصف لصحف الذي هو جمع تكسير فله حكم التأنيث، و {الْأُولَى} صيغة تفضيل. واختلف في الحروف الأصلية للفظ أول فقيل حروفه الأصول همزة فواو "مكررة" فلام ذكره في اللسان فيكون وزن أول: أأول، فقلبت الهمزة الثانية واو وأدغمت في الواو. وقيل أصوله: واوان ولام وأن الهمزة التي في أوله مزيدة فوزن أول: أفعل وإدغام إحدى الواوين ظاهر.
وقيل حروفه الأصلية واو وهمزة ولام فاصل أول أو أل بوزن أفعل قلبت الهمزة التي بعد الواو واوا وأدغما.
و {الْأُولَى} : مؤنث أفعل من هذه المادة فإما أن نقول: أصلها أولى سكنت الواو سكونا ميتا لوقوعها إثر ضمة، أو أصلها: وولى بواو مضمومة في أوله وسكنت الواو الثانية أيضا أو أصلها: وألى بواو مضمومة ثم همزة ساكنة فوقع فيه قلب، فقيل: أولى فوزنها على هذا عفلى.
والمراد بالأولية في وصف الصحف سبق الزمان بالنسبة إلى القرآن لا التي لم يسبقها غيرها لأنه قد روي أن بعض الرسل قبل إبراهيم أنزلت عليهم صحف. فهو كوصف {عاد}
ب {الْأُولَى} في قوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم:50]، وقوله تعالى: {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56]، وفي حديث البخاري "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت" .
وأخرج عبد بن حميد وبن مردويه وبن عساكر وأبو بكر الآجري عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن صحف إبراهيم كانت عشر صحائف.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الغاشيةسميت في المصاحف والتفاسير "سورة الغاشية". وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من "جامعه"، لوقوع لفظ {الْغَاشِيَةِ} في أولها.
وثبت في السنة تسميتها {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، ففي "الموطأ" أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة? قال: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وهذا ظاهر في التسمية لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة فالمسؤول عنه السورة الثانية، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من "صحيحه".
وربما سميت "سورة هل أتاك" بدون كلمة {حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} . وبذلك عنونها ابن عطية في "تفسيره" وهو اختصار.
وهي مكية بالاتفاق.
وهي معدودة السابعة والستين في عداد نزول السور نزلت بعد سورة الذاريات وقبل سورة الكهف.
وآياتها ست وعشرون.
أغراضها
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة وما فيه من العقاب قوم مشوهة حالتهم، ومن ثواب قوم ناعمة حالتهم وعلى وجه الإجمال المرهب أو المرغب.
والإيماء إلى ما يبين ذلك الإجمال كله بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات
من خلق الله وهي نصب أعينهم، على تفرده بالإلهية فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون.
وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقا جديدا بعد الموت يوم البعث.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الإسلام وأن لا يعبأ بإعراضهم.
وأن وراءهم البعث فهم راجعون إلى الله فهو مجازيهم على كفرهم وإعراضهم.
[1] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} .
الافتتاح بالاستفهام عن بلوغ خبر الغاشية مستعمل في التشويق إلى معرفة هذا الخبر لما يترتب عليه من الموعظة.
وكون الاستفهام ب {هل} المفيدة معنى (قد)، فيه مزيد تشويق فهو استفهام صوري يكنى به عن أهمية الخبر بحيث شأنه أن يكون بلغ السامع، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [صّ: 21]. وقوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} في [سورة النازعات:15].
وتقدم هنالك إطلاق فعل الإتيان على فشو الحديث.
وتعريف ما أضيف إليه {حَدِيثُ} بوصفه {الْغَاشِيَةِ} الذي يقتضي موصوفا لم يذكر هو إبهام لزيادة التشويق إلى بيانه الآتي ليتمكن الخبر في الذهن كمال تمكن.
والحديث: الخبر المتحدث به وهو فعيل بمعنى مفعول أو الخبر الحاصل بحدثان أي ما حدث من أحوال. وتقدم في سورة النازعات.
و {الْغَاشِيَةِ} : مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مفرا من أهوالها فكأنها غاش يغشى على عقولهم. ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يكون وصف الغاشية مشتقا منه. ففهم من هذا أن الغاشية صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث الغاشية لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الاسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة.
والغاشية هنا: علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه {وُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ} أي يوم الغاشية.
[2-7] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ، عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ، تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً، تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ، لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} .
{وُجُوهٌ} مبتدأ و {خَاشِعَةٌ} خبر والجملة بيان لحديث الغاشية كما يفيده الظرف من قوله: {يَوْمَئِذٍ} فإن ما صدقه هو يوم الغاشية. ويكون تنكير {وُجُوهٌ} مبتدأ قصد منه النوع.
و"خاشعة، عاملة، ناصبة" أخبار ثلاثة عن {وُجُوهٌ} ، والمعنى: أناس خاشعون الخ.
فالوجوه كناية عن أصحابها، إذ يكنى بالوجه عن الذات كقوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:27]. وقرينة ذلك هنا قوله بعده {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} إذ جعل ضمير الوجوه جماعة العقلاء.
وأوثرت الوجوه بالكناية عن أصحابها هنا وفي مثل هذا المقام لأن حالة الوجوه تنبئ عن حالة أصحابها إذ الوجه عنوان عما يجده صاحبه من نعيم أو شقوة كما يقال خرج بوجه غير الوجه الذي دخل به.
وتقدم في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} الآية في [سورة عبس: 38].
ويجوز أن يجعل إسناد الخشوع والعمل والنصب إلى {وُجُوهٌ} من قبيل المجاز العقلي، أي أصحاب وجوه.
ويتعلق {يَوْمَئِذٍ} ب {خَاشِعَةٌ} قدم على متعلقة للاهتمام بذلك اليوم ولما كانت "إذ" من الأسماء التي تلزم الإضافة إلى جملة فالجملة المضاف إليها "إذ" محذوفة عوض عنها التنوين، ويدل عليها ما في اسم {الْغَاشِيَةِ} من لمح أصل الوصفية لأنها بمعنى التي تغشى الناس فتقدير الجملة المحذوفة يوم إذ تغشى الغاشية.
أو يدل على الجملة سياق الكلام فتقدر الجملة: يوم إذ تحدث أو تقع.
و {خَاشِعَةٌ} : ذليلة يطلق الخشوع على المذلة قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45]، وقال {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج: 44].
والعاملة: المكلفة العمل من المشاق يومئذ. وناصبة: من النصب وهو التعب.
وأوثر وصف {خَاشِعَةٌ} و {عَامِلَةٌ} و {نَاصِبَةٌ} تعريضا بأهل الشقاء بتذكيرهم بأنهم تركوا الخشوع لله والعمل بما أمر به والنصب في القيام بطاعته، فجزائهم خشوع ومذلة، وعمل مشقة، ونصب إرهاق.
وجملة {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} خبر رابع عن {وُجُوهٌ} . ويجوز أن تكون حالا، يقال: صلي يصلى، إذ أصابه حر النار، وعليه فذكر {نَارًا} بعد {تَصْلَى} لزيادة التهويل والإرهاب وليجرى على {نَارًا} وصف {حَامِيَةً} .
وقرأ الجمهور {تَصْلَى} بفتح التاء أي يصيبها صلي النار. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {تَصْلَى} بضم التاء من أصلاه النار بهمزة التعدية إذا أناله حرها.
ووصف النار ب {حَامِيَةً} لإفادة تجاوز حرها المقدار المعروف لأن الحمي من لوازم ماهية النار فلما وصفت ب {حَامِيَةً} كان دالا على شدة الحمى قال تعالى: {نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ} [الهمزة:6].
وأخبر عن {وُجُوهٌ} خبرا خامسا بجملة {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} أو هو حال من ضمير {تَصْلَى} لأن ذكر الاحتراق بالنار يحضر في الذهن تطلب إطفاء حرارتها بالشراب فجعل شرابهم من عين آنية.
يقال: أنى إذا بلغ شدة الحرارة، ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} في [سورة الرحمن:44].
وذكر السقي يخطر في الذهن تطلب معرفة ما يطعمونه فجيء به خبرا سادسا أو حالا من ضمير {تُسْقَى} بجملة {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} ، أي يطعمون طعام إيلام وتعذيب لا نفع فيه لهم ولا يدفع عنهم ألما.
وجملة {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ} الخ خبر سادس عن {وُجُوهٌ} .
وضمير {لهم} عائد إلى {وُجُوهٌ} باعتبار تأويله بأصحاب الوجوه ولذلك جيء به ضمير جماعة المذكر. والتذكير تغليب للذكور على الإناث.
والضريع: يابس الشبرق بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة وكسر الراء وهو نبت ذو شوك إذا كان رطبا فإذا يبس سمي ضريعا وحينئذ يصير مسموما وهو مرعى للإبل ولحمر الوحش إذا كان رطبا، فما يعذب بأهل النار بأكله شبه بالضريع في سوء طعمه
وسوء مغبته.
وقيل: الضريع اسم سمى القرآن به شجرا في جهنم مأن هذا الشجر هو الذي يسيل منه الغسلين الوارد في قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ، وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 35، 36]، وعليه فحرف {مِنْ} للابتداء، أي ليس لهم طعام إلا ما يخرج من الضريع والخارج هو الغسلين وقد حصل الجمع بين الآيتين
ووصف ضريع بأنه لا يسمن ولا يغني من جوع لتشويهه وأنه تمحض للضر فلا يعود على آكليه بسمن يصلح بعض ما التفح من أجسادهم، ولا يغني عنهم دفع ألم الجوع، ولعل الجوع من ضروب تعذيبهم فيسألون الطعام فيطعمون الضريع فلا يدفع عنهم ألم الجوع.
والسمن، بكسر السين وفتح الميم: وفرة اللحم والشحم للحيوان يقال: أسمنه الطعام، إذا عاد عليه بالسمن.
والإغناء: الإكفاء ودفع الحاجة. و {مِنْ جُوعٍ} متعلق ب {يغني} وحرف {من} لمعنى البدلية، أي غناء بدلا عن الجوع.
والقصر المستفاد من قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} مع قوله تعالى: {وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} يؤيد أن الضريع اسم شجر جهنم يسيل منه الغسلين.
[8-10] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} .
يتبادر في بادئ الرأي أن حق هذه الجملة أن تعطف على جملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] بالواو لأنها مشاركة لها في حكم البيان لحديث الغاشية كما عطفت جملة {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس:40] على جملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} في [سورة عبس: 38]. فيتجه أن يسأل عن وجه فصلها عن التي قبلها، ووجه الفصل التنبيه على أن المقصود من الاستفهام في {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] الإعلام بحال المعرض بتهديدهم وهم أصحاب الوجوه الخاشعة فلما حصل ذلك الإعلام بجملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ} [الغاشية:2] إلى آخرها تم المقصود، فجاءت الجملة بعدها مفصولة لأنها جعلت استئنافا بيانيا جوابا عن سؤال مقدر تثيره الجملة السابقة فيتساءل السامع: هل من حديث الغاشية ما هو مغاير لهذا الهول? أي ما هو أنس ونعيم لقوم آخرين.
ولهذا النظم صارت هذه الجملة بمنزلة الاستطراد والتتميم، لإظهار الفرق بين حالي الفريقين ولتعقيب النذارة بالبشارة فموقع هذه الجملة المستأنفة موقع الاعتراض ولا تنافي بين الاستئناف والاعتراض وذلك موجب لفصلها عما قبلها. وفيه جري القرآن على سننه من تعقيب الترهيب والترغيب.
فأما الجملتان اللتان في سورة عبس فلم يتقدمهما إبهام لأنهما متصلتان معا بالظرف وهو {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُْ} [عبس:33].
وقد علم من سياق توجيه الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن الوجوه الأولى وجوه المكذبين بالرسول والوجوه المذكورة بعدها وجوه المؤمنين المصدقين بما جاء به.
والقول في تنكير {وُجُوهٌ} ، والمراد بها، والإخبار عنها بما بعدها، كالقول في الآيات التي سبقتها.
و {ناعمة} : خبر عن {وُجُوهٌ} . يجوز أن يكون مشتقا من نعم بضم العين ينعم بضمها الذي مصدره نعومة وهي اللين وبهجة المرأى وسحن المنظر.
ويجوز أن يكون مشتقا من نعم بكسر العين ينعم مثل حذر، إذا كان ذا نعمة، أي حسن العيش والترف.
ويتعلق {لسعيها} بقوله: {راضية} ، و {راضية} خبر ثان عن {وُجُوهٌ} .
والمراد بالسعي:العمل الذي يسعاه المرء ليستفيد منه. وعبر به هنا مقابل قوله في ضده {عَامِلَةٌ} [الغاشية: 3].
والرضى: ضد السخط، أي هي حامدة ما سعته في الدنيا من العمل الذي هو امتثال ما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمجرور في قوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} خبر ثالث عن {وُجُوهٌ} .
والجنه أريد به مجموع دار الثواب الصادق بجنات كثيرة أو أريد به الجنس مثل {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [التكوير: 14].
ووصف {الجنة} ب {عَالِيَةٍ} لزيادة الحسن لأن أحسن الجنات ما كان في المرتفعات، قال تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ} [البقرة: 265]، فذلك يزيد حسن باطلها بحسن ما يشاهده الكائن فيها من مناظر، وهذا وصف شامل لحسن موقع الجنة.
[11] {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} .
اللاغية: مصدر بمعنى اللغو مثل الكاذبة للكذب. والخائنة والعافية، أي لا يسمع فيها لغو، أو هو وصف لموصوف مقدر التأنيث، أي كلمة لاغية لما دل عليه {لاغِيَةً} من أنها كلمات، ووصف الكلمة بذلك مجاز عقلي لأن اللاغي صاحبها.
ونفي سماع {لاغِيَةً} مكنى به عن انتفاء اللغو في الجنة من باب:
ولا ترى الضب بها ينجحر
أي لا ضب بها إذ الضب لا يخلو من الإنجحار.
واللغو: الكلام الذي لا فائدة له، وهذا تنبيه على أن الجنة دار جد وحقيقة فلا كلام فيها إلا لفائدة لأن النفوس فيها تخلصت من النقائص كلها فلا يلذ لها إلا الحقائق والسمو العقلي والخلقي، ولا ينطقون إلا ما يزيد النفوس تزكية.
وجملة {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} صفة ثانية ل {جَنَّةٍ} [الغاشية: 10]، ترك عطفها على الصفة التي قبلها لأن النعوت المتعددة يجوز أن تعطف ويجوز أن تفصل دون عطف قال في التسهيل: ويجوز عطف بعض النعوت على بعض وقال المرادي في شرحه نحو قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 2-4]. وقال: ولا يعطف إلا بالواو ما لم يكن ترتيب: فبالفاء كقوله:
يا لهف زيابة للحارب ال ... صابح فالغانم فالآيب
قال السهيلي: والعطف ب(ثم) جوازه بعيد. اهـ. قال الدماميني: وكذا في الجمل مررت برجل يحفظ القرآن ويعرف الفقه ويتقي إلى الله، قال: ونص الواحدي في قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [آل عمران: 118]. أن لا يألونكم وما بعده من الجمل أي الثلاث لا يكون صفات، لعدم العاطف لكن ظاهر سكوت الجمهور عن وجوب العطف يشعر بجوازه فيها أي الجمل كالمفردات اهـ.
ابتدئ في تعداد صفات الجنة بصفتها الذاتية وهو كونها عالية. وثني بصفة تنزيهها عما يعد من نقائص مجامع الناس ومساكن الجماعات وهو الغوغاء واللغو، وقد جردت هذه الجملة من أن تعطف على {عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22]، مراعاة لعدم التناسب بين المفردات
والجمل وذلك حقيق بعدم العطف لأنه أشد من كمال الانقطاع في عطف الجمل.
وهذا وصف للجنة بحسن سكانها.
وقرأ نافع {لاَ تَسْمَعُ} بمثابة فوقية مضمومة و {لاغِيَةً} نائب فاعل، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بمثناة تحتية مضمومة وبرفع {لاغِيَةً} أيضا فأجري الفعل على التذكير لأن {لاغِيَةً} ليس حقيقي التأنيث وحسنه وقوع الفصل بين الفعل وبين المسند إليه، وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وروح عن يعقوب بفتح المثناة الفوقية وبنصب {لاغِيَةً} ، والتاء لخطاب غير المعين.
[12] {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} .
صفة ثالثة ل {جَنَّةٍ} [الغاشية: 10]. فالمراد جنس العيون كقوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير:14]، أي علمت النفوس، وهذا وصف للجنة باستكمالها محاسن الجنات قال تعالى: {أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً} [الاسراء:91].
وإنما لم تعطف على لجملة التي قبلها لاختلافهما بالفعلية في الأولى والاسمية في الثانية، وذلك الاختلاف من محسنات الفصل ولأن جملة {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً} ، مقصود منها التنزه عن النقائص وجملة {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} مقصود منها إثبات بعض محاسنها.
[13-16] {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} .
صفة رابعة لجنة.
وأعيد قوله: {فِيهَا} دون أن يعطف {سُرُرٌ} على {عَيْنٌ} عطف المفردات لأن عطف السرر على {عَيْنٌ} يبدو نابيا عن الذوق لعد الجامع بين عين الماء والسرر في الذهن لولا أن جمعها الكون في الجنة فلذلك كرر ظرف {فِيهَا} تصريحا بأن تلك الظرفية هي الجامع، ولأن بين ظرفية العين الجارية في الجنة وبين ظرفية السرر وما عطف عليه من متاع القصور والأثاث تفاوتا ولذلك عطف و {أَكْوَابٌ} ، و {نَمَارِقُ} ، {وَزَرَابِيُّ} ، لأنها متماثلة في أنها من متاع المساكن الفائقة.
وهذا وصف لمحاسن الجنة بمحاسن أثاث قصورها فضمير فيها عائد للجنة باعتبار
أن ما في قصورها هو مظروف فيها بواسطة.
و { سرر} : جمع سرير، وهو ما يجلس عليه ويضطجع فيسع الإنسان المضطجع. ويتخذ من خشب أو حديد له قوائم ليكون مرتفع عن الأرض. ولما كان الارتفاع عن الأرض مأخوذا في مفهوم السرر كان وصفها ب {مَرْفُوعَةٌ} لتصوير حسنها.
و {الأكواب} : جمع كوب بضم الكاف، وهو إناء للخمر له ساق ولا عروة له.
و { موضوعة} ، أي لا ترفع من بين أيديهم كما ترفع آنية الشراب في الدنيا إذا بلغ الشاربون حد الاستطالة من تناول الخمر، كني ب {مَوْضُوعَةٌ} عن عدم انقطاع لذة الشراب طعما ونشوة، أي موضوعة بما فيها من أشربة.
وبين {مَرْفُوعَةٌ} ، و {مَوْضُوعَةٌ} ، إيهام الطباق لأن حقيقة معنى الرفع ضد حقيقة معنى الوضع، ولا تضاد بين مجاز الأزل وحقيقة الثاني ولكنه إيهام التضاد.
والنمارق: جمع نمرقة بضم النون وسكون ميم بعدها راء مضمومة وهي الوسادة التي يتكئ عليها الجالس والمضطجع.
و {مصفوفة} : أي جعل بعضها قريبا من بعض صفا، أي أينما أراد الجالس أن يجلس وجدها.
و { زرابي} : جمع زربية بفتح الزاي وسكون الراء وكسر الموحدة وتشديد الياء، وهي البساط أو الطنفسة "بضم الطاء" المنسوج من الصوف الملون الناعم يفرش في الأرض للزينة والجلوس عليه لأهل الترف واليسار.
والزريبة نسبة إلى "أذربيجان" بلد من بلاد فارس وبخارى، فأصل زربية أذربية، حذفت همزتها للتخفيف لثقل الاسم لعجمته واتصال ياء النسب به، وذالها مبدلة عن الزاي في كلام العرب لأن اسم البلد في لسان الفرس ازربيجان بالزاي المعجمة بعدها راء مهملة وليس في الكلام الفارسي حرف الذال، وبلد "أذربيجان" مشهور بنعومة صوف أغنامه. واشتهر أيضا بدقة صنع البسط والطنافس ورقة خملها.
والمبثوثة: المنتشرة على الأرض بكثرة وذلك يفيد كناية عن الكثرة.
وقد قوبلت صفات وجوه أهل النار بصفات وجوه أهل الجنة فقوبلت صفات {خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2]، {عَامِلَةٌ} ، {نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 3]، بصفات {نَاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٍ} ،
[الغاشية: 8-9]، وقوبل قوله: {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4] بقوله في {جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22]. وقوبل {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية:5]، بقوله: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية:12]، وقوبل شقاء عيش أهل النار الذي أفاده قوله: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية:6-7]، بمقاعد أهل الجنة المشعرة بترف العيش من شراب ومتاع.
وهذا وعد للمؤمنين بأن لهم في الجنة ما يعرفون من النعيم في الدنيا وقد علموا أن ترف الجنة لا يبلغه الوصف بالكلام وجمع ذلك بوجه الإجمال في قوله تعالى: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ} [الزخرف: 71]، ولكن الأرواح ترتاح بمألوفاتها فتعطاها فتكون نعيم أرواح الناس في كل عصر ومن كل مصر في الدرجة القصوى مما ألفوه ولا سيما ما هو مألوف لجميع أهل الحضارة والترف وكانوا يتمنونه في الدنيا ثم يزادون من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
[17-20] {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} .
لما تقدم التذكير بيوم القيامة ووصف حال أهل الشقاء بما وصفوا به، وكان قد تقرر فيما نزل من القرآن إن أهل الشقاء هم أهل الإشراك بالله، فرع على ذلك إنكار عليهم إعراضهم عن النظر في دلائل الوحدانية، فالفاء في قوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ} تفريع التعليل على المعلل لأن فظاعة ذلك الوعيد تجعل المقام مقام استدلال على أنهم محقوقون بوجوب النظر في دلائل الوحدانية التي هي أصل الاهتداء إلى تصديق ما أخبرهم به القرآن من البعث والجزاء، وإلى الاهتداء إلى أن منشئ النشأة الأولى عن عدم بما فيها من عظيم الموجودات كالجبال والسماء، لا يستبعد في جانب قدرته إعادة إنشاء الإنسان بعد فنائه عن عدم، وهو دون تلك الموجودات العظيمة الأحجام، فكان إعراضهم عن النظر مجلبة لما يجشمهم من الشقاوة وما وقع بين هذا التفريع وبين المفرع عنه من جملة {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية:8] كان في موقع الاعتراض كما علمت.
فضمير {يَنْظُرُونَ} عائد إلى معلوم من سياق الكلام.
والهمزة للاستفهام الإنكاري إنكارا عليهم إهمال النظر في الحال إلى دقائق صنع الله في بعض مخلوقاته.
والنظر: نظر العين المفيد الاعتبار بدقائق المنظور، وتعديته بحرف “إلى” تنبيه على إمعان النظر ليشعر الناظر مما في المنظور من الدقائق، فإن قولهم نظر إلى كذا أشد في توجيه النظر من نظر كذا، لما في “إلى” من معنى الانتهاء حتى كأن النظر انتهى عند المجرور ب”إلى” انتهاء تمكن واستقرار كما قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأحزاب: 19]، وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:23].
ولزيادة التنبيه على إنكار هذا الإهمال قيد فعل {يَنْظُرُونَ} بالكيفيات المعدودة في قوله: {كَيْفَ خُلِقَتْ} ، {كَيْفَ رُفِعَتْ} ، {كَيْفَ نُصِبَتْ} ، {كَيْفَ سُطِحَتْ} أي لم ينظروا إلى دقائق هيئات خلقها.
وجملة {كَيْفَ خُلِقَتْ} بدل اشتمال من الإبل والعامل فيه هو العامل في المبدل منه وهو فعل {يَنْظُرُونَ} لا حرف الجر، فإن حرف الجر آلة لتعدية الفعل إلى مفعوله فالفعل إن احتاج إلى حرف الجر في التعدية إلى المفعول لا يحتاج إليه في العمل في البدل، وشتان بين ما يقتضيه إعمال المتبوع وما يقتضيه إعمال التابع فكل على ما يقتضيه معناه وموقعه، فكيف منصوب على الحال بالفعل الذي يليه.
والمعنى والتقدير: أفلا ينظرون إلى الإبل هيئة خلقها.
وقد عدت أشياء أربعة هي من الناظرين، عن كثب لا تغيب عن أنظارهم، وعطف بعضها على بعض، فكان اشتراكها في مرآهم جهة جامعة بينها بالنسبة إليهم، فإنهم المقصودون بهذا الإنكار والتوبيخ، فالذي حسن اقتران الإبل مع السماء والجبال والأرض في الذكر هنا، هو أنها تنتظم في نظر جمهور العرب من أهل تهامة والحجاز ونجد وأمثالها من بلاد أهل الوبر والانتجاع.
فالإبل أموالهم ورواحلهم، ومنها عيشهم ولباسهم ونسج بيوتهم وهي حمالة أثقالهم، وقد خلقها الله خلقا عجيبا بقوة قوائمها ويسر بروكها لتيسير حمل الأمتعة عليها، وجعل أعناقها طويلة قوية ليمكنها النهوض بما عليها من الأثقال بعد تحميلها أو بعد استراحتها في المنازل والمبارك، وجعل في بطونها أمعاء تخزن الطعام والماء بحيث تصبر على العطش إلى عشرة أيام في السير في المفاوز مما يهلك فيما دونه غيرها من الحيوان.
وكم قد جرى ذكر الرواحل وصفاتها وحمدها في شعر العرب ولا تكاد تخلو قصيدة من طوالها عن وصف الرواحل ومزاياها. وناهيك بما في المعلقات وما في قصيدة كعب بن زهير.
و {الإبل} : اسم جمع للبعران لا واحد له من لفظة، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} في [سورة الأنعام: 146].
وعن المبرد أنه فسر الإبل في هذه الآية بالأسحبة وتأوله الزمخشري بأنه لم يرد أن الإبل من أسماء السحاب ولكنه أراد أنه من قبيل التشبيه، أي هو على نحو قول عنترة:
جادت عليه كل بكرة حرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
ونقل بهم إلى التدبر في عظيم خلق السماء إذ هم ينظرونها نهارهم وليلهم في إقامتهم وظعنهم، يرقبون أنواء المطر ويشيمون لمع البروق، فقد عرف العرب بأنهم بنو ماء السماء قال زيادة الحارثي على تردد لشراح الحماسة في تأويل قوله بنو ماء السماء :
ونحن بنوا ماء السماء فلا نرى ... لأنفسنا من دون مملكة قصر
وفي كلام أبي هريرة وقد ذكر قصة هاجر فقال أبو هريرة في آخرها إنها لأمكم يا بني ماء السماء ويتعرفون من النجوم ومنازل الشمس أوقات الليل والنهار ووجهة السير.
وأتبع ذكر السماء بذكر الجبال وكانت الجبال منازل لكثير منهم مثل جبلي أجإ وسلمى لطي. وينزلون سفوحها ليكونوا أقرب إلى الاعتصام بها عند الخوف ويتخذون فيها مراقب للحراسة.
والنصب: الرفع أي كيف رفعت وهي مع ارتفاعها ثابتة راسخة لا تميل.
وثم نزل بأنظارهم إلى الأرض وهي تحت أقدامهم وهي مرعاهم ومفترشهم، وقد سطحها الله، أي خلقها ممهدة للمشي والجلوس والإضطجاع.ومعنى سطحت: يقال سطح الشيء إذا سواه ومنه سطح الدار.
والمراد بالأرض أرض كل قوم لا مجموع الكرة الأرضية.
وبنيت الأفعال الأربعة إلى المجهول للعلم بفاعل ذلك.
[21-24] {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ، إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} .
الفاء فصيحة تفريع على محصل ما سبق من أول السورة الذي هو التذكير بالغاشية وما اتصل به من ذكر إعراضهم وإنذارهم، رتب على ذلك أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدوام على
تذكيرهم وأنه لا يؤيسه إصرارهم على الإعراض وعدم ادكارهم بما ألقى إليهم من المواعظ، وتثبيته بأنه لا تبعة عليه من عدم إصغائهم إذ لم يبعث ملجئا لهم على الإيمان.
فالأمر مستعمل في طلب الاستمرار والدوام.
ومفعول {ذكر} محذوف هو ضمير يدل عليه قوله بعده {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} .
وجملة {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} تعليل للأمر بالدوام على التذكير مع عدم إصغائهم لأن {إنما} مركبة من (أن) و (ما) وشأن (أن) إذا وردت بعد جملة أن تفيد التعليل وتغني غناء فاء التسبب، واتصال (ما) الكافة بها لا يخرجها عن مهيعها.
والقصر المستفاد ب {إِنَّمَا} قصر إضافي، أي أنت مذكر لست وكيلا على تحصيل تذكرهم فلا تتحرج من عدم تذكرهم فأنت غير مقصر في تذكيرهم. وهذا تطمين لنفسه الزكية.
وجملة {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} بدل اشتمال من جملة القصر باعتبار جانب النفي الذي يفيده القصر.
والمصيطر: المجبر المكره.
يقال: صيطر بصاد في أوله، ويقال: سيطر بسين في أوله والأشهر بالصاد. وتقدم في سورة الطور [37]: {أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} وقرأ بها الجمهور وقرأ هشام عن ابن عامر بالسين وقرأه حمزة بإشمام الصاد صوت الزاي.
ونفي كونه مصيطرا عليهم خبر مستعمل في غير الإخبار لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنه لم يكلف بإكراههم على الإيمان، فالخبر بهذا النفي مستعمل كناية عن التطمين برفع التبعة عنه من جراء استمرار أكثرهم على الكفر، فلا نسخ لحكم هذه الآية بآيات الأمر بقتالهم.
ثم جاء وجوب القتال بتسلسل حوادث كان المشركون هم البادئين فيها بالعدوان على المسلمين إذ أخرجوهم من ديارهم، فشرع قتال المشركين لخضد شوكتهم وتأمين المسلمين من طغيانهم.
ومن الجهلة من يضع قوله: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} في غير موضعه ويحيد به عن مهيعه فيريد أن يتخذه حجة على حرية التدين بين جماعات المسلمين. وشتان بين أحوال أهل الشرك وأحوال جامعة المسلمين. فمن يلحد في الإسلام بعد الدخول فيه يستتاب
ثلاثا فإن لم يتب قتل، وإن لم يقدر عليه فعلى المسلمين أن ينبذوه من جامعتهم ويعاملوه معاملة المحارب. وكذلك من جاء بقول أو عمل يقتضي نبذ الإسلام أو إنكار ما هو من أصول الدين بالضرورة بعد أن يوقف على مآل قوله أو عمله فيلتزمه ولا يتأوله بتأويل المقول ويأبى الانكفاف.
وتقديم عليهم على متعلقه وهو مسيطر للرعاية على الفاصلة.
وقوله: {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ، فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} معترض بين جملة {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وجملة {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] والمقصود من هذا الاعتراض الاحتراس من توهمهم أنهم أصبحوا آمنين من المؤاخذة على عدم التذكر.
فحرف {إلا} للاستثناء المنقطع وهو بمعنى الاستدراك.
والمعنى: لكن من تولى عن التذكر ودام على كفره يعذبه الله العذاب الشديد.
ودخلت الفاء في الخبر وهو {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ} إذ كان الكلام استدراكا وكان المبتدأ موصولا فأشبه بموقعه وبعمومه الشروط فأدخلت الفاء في جوابه ومثله كثير كقوله تعالى: {قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4]. والأكبر: مستعار للقوى المتجاوز حد أنواعه.
[25-26] {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} .
تعليل لجملة {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية: 22]، أي لست مكلفا بجبرهم عل التذكر والإيمان لأنا نحاسبهم حين رجوعهم إلينا في دار البقاء. وقد جاء حرف {إن} على استعماله المشهور، إذا جيء به لمجرد الاهتمام دون رد إنكار، فإنه يفيد مع ذلك تعليلا وتسببا كما يقدم غير مرة، وتقدم عند قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في [سورة البقرة: 32].
والإياب: بتخفيف الياء الأوب، أي الرجوع إلى المكان الذي صدر عنه. أطلق على الحضور في حضرة القدس يوم الحشر تشبيها له بالرجوع إلى المكان الذي خرج منه ملاحظة أن الله خالق الناس خلقهم الأول، فشبهت إعادة خلقهم وإحضارهم لديه برجوع المسافر إلى مقره كما قال تعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر 27-28].
وتقديم خبر {إن} على اسمها يظهر أنه لمجرد الاهتمام تحقيقا لهذا الرجوع لأنهم
ينكرونه، وتنبيها على إمكانه بأنه رجوع إلى الذي أنشأهم أول مرة.
ونقل الكلام من أسلوب الغيبة في قوله: {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ} [الغاشية: 24]، إلى أسلوب التكلم بقوله: {إلينا} على طريقة الالتفات.
وقرأ أبو جعفر {إيابهم} بتشديد الياء. فعن ابن جني هو مصدر على وزن فعال مصدر: أيب بوزن فيعل من الأوب مثل حوقل. فلما اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فقيل: إياب.
وعطفت جملة {إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} بحرف {ثم} لإفادة التراخي الرتبي فإن حسابهم هو الغرض من إيابهم وهو أوقع في تهديدهم على التولي.
ومعنى {على} من قوله: {عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} أن حسابهم لتأكده في حكمة الله يشبه الحق الذي فرضه الله على نفسه.
وهذه الجملة هي المقصود من التعليل التي قبلها بمعنى التمهيد لها والإدماج لإثبات البعث. وفي ذلك إيذان بأن تأخير عقابهم إمهال فلا يحسبوه انفلاتا من العقاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفجرلم يختلف في تسمية هذه السورة "سورة الفجر" بدون الواو في المصاحف والتفاسير وكتب السنة.
وهي مكية باتفاق سوى ما حكى ابن عطية عن أبي عمرو الداني أنه حكى عن بعض العلماء وأنها مدنية.
وقد عدت العاشرة في عداد نزول السور. نزلت بعد سورة الليل وقبل سورة الضحى.
وعدد آيها اثنتان وثلاثون عند أهل العدد بالمدينة ومكة عدوا قوله: {وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] منتهى آية، وقوله: {رِزْقَهُ} [الفجر: 16]، منتهى آيه. ولم يعدها غيرهم منتهى آية، وهي ثلاثون عند أهل العدد بالكوفة والشام وعند أهل البصرة تسع وعشرون.
فأهل الشام عدوا {بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، منتهى آية. وأهل الكوفة عدوا {فِي عِبَادِي} [الفجر: 29]، منتهى آية.
أغراضها
حوت من الأغراض ضرب المثل لمشركي أهل مكة في إعراضهم عن قبول رسالة ربهم بمثل عاد وثمود وقوم فرعون.
وإنذارهم بعذاب الآخرة.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم مع وعده باضمحلال أعدائه.
وإبطال غرور المشركين من أهل مكة إذ يحسبون أن ما هم فيه من النعيم علامة على
أن الله أكرمهم وأن ما فيه المؤمنون من الخصاصة علامة على أن الله أهانهم.
وأنهم أضاعوا شكر الله على النعمة فلم يواسوا ببعضها على الضعفاء وما زادتهم إلا حرصا على التكثر منها.
وأنهم يندمون يوم القيامة على أن لم يقدموا لأنفسهم من الأعمال ما ينتفعون به يوم لا ينفع نفس مالها ولا ينفعها إلا إيمانها وتصديقها بوعد ربها. وذلك ينفع المؤمنين بمصيرهم إلى الجنة.
[1-4] {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} .
القسم بهذه الأزمان من حيث إن بعضها دلائل بديع صنع الله وسعة قدرته فيما أوجد من نظام يظاهر بعضه بعضا من ذلك وقت الفجر الجامع بين انتهاء ظلمة الليل وابتداء نور النهار، ووقت الليل الذي تمخضت فيه الظلمة. وهي مع ذلك أوقات لأفعال من البر وعبادة الله وحده، مثل الليالي العشر، والليالي الشفع، والليالي الوتر.
والمقصود من هذا القسم تحقيق المقسم عليه لأن القسم في الكلام من طرق تأكيد الخبر إذ القسم إشهاد المقسم ربه على ما تضمنه كلامه.
وقسم الله تعالى متمحض لقصد التأكيد.
والكلام موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما دل عليه قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6] وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
ولذلك فالقسم تعريض بتحقيق حصول المقسم عليه بالنسبة للمنكرين.
والمقصد من تطويل القسم بأشياء، التشويق إلى المقسم عليه.
و {الْفَجْرِ} : اسم لوقت ابتداء الضياء في أقصى المشرق من أوائل شعاع الشمس حين يتزحزح الإظلام عن أول خط يلوح للناظر من الخطوط الفرضية المعروفة في تخطيط الكرة الأرضية في الجغرافيا ثم يمتد فيضيء الأفق ثم تظهر الشمس عند الشروق وهو مظهر عظيم من مظاهر القدرة الإلهية وبديع الصنع.
فالفجر ابتداء ظهور النور بعد ما تأخذ ظلمة الليل في الإنصرام وهو وقت مبارك للناس إذ عنده تنتهي الحالة الداعية إلى النوم الذي هو شبيه الموت، ويأخذ الناس في
ارتجاع شعورهم وإقبالهم على ما يألفونه من أعمالهم النافعة لهم.
فالتعريف في {الْفَجْرِ} تعريف الجنس وهو الأظهر لمناسبة عطف {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} .
ويجوز أن يراد فجر معين: فقيل أريد وقت صلاة الصبح من كل يوم وهو عن قتادة. وقيل فجر يوم النحر وهو الفجر الذي يكون فيه الحجيج بالمزدلفة وهذا عن ابن عباس وعطاء وعكرمة، فيكون تعريف {الْفَجْرِ} تعريف العهد.
وقوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} : هي ليال معلومة للسامعين موصوفة بنها عشر واستغني عن تعريفها بتوصيفها بعشر وإذ قد وصفت بها العدد تعين أنها عشر متتابعة وعدل عن تعريفها مع أنها معروفة ليتوصل بترك التعريف إلى تنوينها المفيد للتعظيم وليس في ليالي السنة عشر ليال متتابعة عظيمة مثل عشر ذي الحجة التي هي وقت مناسك الحج، ففيها يكون الإحرام ودخول مكة وأعمال الطواف، وفي ثامنتها ليلة التروية، وتاسعتها ليلة عرفة وعاشرتها ليلة النحر. فتعين أنها الليالي المرادة بليال عشر. وهو قول ابن عباس وابن الزبير وروى أحمد والنسائي عن أبي الزبير "المكي" عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن العشر عشر الأضحى" وقال ابن العربي ولم يصح وقال ابن عساكر رجاله لا بأس بهم وعندي أن المتن في رفعه نكارة اه.
وماسبة عطف {لَيَالٍ عَشْرٍ} على {الْفَجْرِ} أن الفجر وقت انتهاء الليل، فبينه وبين الليل جامع المضادة، والليل مظهر من مظاهر القدرة الإلهية فلما أريد عطفه على الفجر بقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} خصت قبل ذكره بالذكر ليال مباركة إذ هي من أفراد الليل.
وكانت الليالي العشر معينة من الله تعالى في شرع إبراهيم عليه السلام ثم غيرت مواقيتها بما أدخله أهل الجاهلية على السنة القمرية من النسي فاضطربت السنين المقدسة التي أمر الله بها إبراهيم عليه السلام ولا يعرف متى بدأ ذلك الاضطراب، ولا مقادير ما أدخل عليها من النسي، ولا ما يضبط أيام النسيء في كل عام لاختلاف اصطلاحهم في ذلك وعدم ضبطه فبذلك يتعذر تعيين الليالي العشر المأمور بها من جانب الله تعالى، ولكننا نوقن بوجودها من خلال السنة إلى أن أوحى الله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في سنة عشر من الهجرة وعام حجة الوداع، بأن أشهر الحج في تلك السنة وافقت ما كانت عليه السنة في عهد إبراهيم عليه السلام فقال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع "إن الزمان استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" .
وهذا التغيير لا يرفع بركة الأيام الجارية فيها المناسك قبل حجة الوداع لأن الله عظمها لأجل ما يقع فيها من مناسك الحج إذ هو عبادة لله خاصة.
فأوقات العبادات تعيين لإيقاع العبادة فلا شك أن للوقت المعين لإيقاعها حكمة علمها الله تعالى ولذلك غلب في عبارات الفقهاء وأهل الأصول إطلاق اسم السبب على الوقت لأنهم يريدون بالسبب المعرف بالحكم ولا يريدون به نفس الحكمة. وتعيين الأوقات للعبادات مما انفرد الله به، فلأوقات العبادات حرمات بالجعل الرباني، ولكن إذا اختلفت أو اختلطت لم يكن اختلالها أو اختلاطها بقاض بسقوط العبادات المعينة لها.
فقسم الله تعالى بالليالي العشر في هذه الآية وهي مما نزل بمكة قسم بما في علمه من تعيينها في علمه.
والشفع: ما يكون ثانيا لغيره، والوتر: الشيء المفرد، وهما صفتان لمحذوف فعن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الشفع يوم النحر ذلك لأنه عاشر ذي الحجة ومناسبة الابتداء بالشفع أنه اليوم العاشر فناسب قوله: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} ، وأن الوتر يوم عرفة رواه أحمد بن حنبل والنسائي وقد تقدم آنفا، وعلى هذا التفسير فذكر الشفع والوتر تخصيص لهذين اليومين بالذكر للاهتمام، بعد شمول الليالي العشر لهما.
وفي جامع الترمذي عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر" . قال الترمذي: وهو حديث غريب وفي العارضة أن في سنده مجهولا، قال ابن كثير وعندي أن وقفه على عمران ابن حصين أشبه.
وينبغي حمل الآية على كلا التفسيرين.
وقيل: الشفع يومان بعد يوم منى، والوتر اليوم الثالث وهي الأيام المعدودات فتكون غير الليالي العشر.
وتنكير {ليال} وتعريف {الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} مشير إلى أن الليالي العشر ليال معينة وهي عشر ليال في كل عام، وتعريف {الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} يؤذن بأنهما معروفان وبأنهما الشفع والوتر من الليالي العشر.
وفي تفسير {الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} أقوال ثمانية عشر وبعضها متداخل استقصاها القرطبي، وأكثرها لا يحسن حمل الآية عليه إذ ليست فيها مناسبة للعطف على ليال عشر.
وقرأ الجمهور {وَالْوَتْرِ} بفتح الواو وهي لغة قريش وأهل الحجاز. وقرأه حمزة
والكسائي وخلف بكسر الواو وهي لغة تميم وبكر بن سعد بن بكر وهم بنو سعد أظآر النبي صلى الله عليه وسلم وهم أهل العالية، فهما لغتان في الوتر. بمعنى الفرد.
و {اللَّيْلِ} عطف على {لَيَالٍ عَشْرٍ} عطف الأعم على الأخص أو عطف {الفجر} بجامع التضاد. وأقسم به لما أنه مظهر من مظاهر قدرة الله وبديع حكمته.
ومعنى يسري: يمضي سائرا في الظلام، أي إذا انقضى منه جزء كثير، شبه تقضي الليل في ظلامه بسير السائر في الظلام وهو السرى كما شبه في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر:33]، وقال {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:2]، أي تمكن ظلامه واشتد.
وتقييد {اللَّيْلِ} بظرف {إِذَا يَسْرِ} لأنه وقت تمكن ظلمة الليل فحينئذ يكون الناس أخذوا حظهم من النوم فاستطاعوا التهجد قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6]، وقال {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ} [الانسان: 26].
وقرأ أبو نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {إِذَا يَسْري} بيان بعد الراء في الوصل على الأصل وبحذفها في الوقف لرعي بقية الفواصل: الفجر، عشر، والوتر، حجر ففواصل القرآن كالأسجاع في النثر والأسجاع تعامل معاملة القوافي، قال أبو علي: وليس إثبات الياء في الوقف بأحسن من الحذف وجميع ما لا يحذف وما يختار فيه أن لا يحذف نحو القاض بالألف اللام يحذف إذا كان في قافية أو فاصلة فإن لم تكن فاصلة فالأحسن إثبات الياء. وقرأ ابن كثير ويعقوب بثبوت الياء بعد الراء في الوصل وفي الوقف على الأصل.
وقرأ الباقون بدون الياء وصلا ووقفا. وهذه الرواية يوافقها رسم المصحف إياها بدون ياء، والذين أثبتوا الياء في الوصل والوقوف اعتمدوا الرواية واعتبروا رسم المصحف سنة أو اعتداد بأن الرسم يكون باعتبار حالة الوقف.
وأما نافع وأبو عمرو وأبو جعفر فلا يوهن رسم المصحف روايتهم لأن رسم المصحف جاء على مراعاة حال الوقف ومراعاة الوقف تكثر في كيفيات الرسم.
[5] {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} .
جملة معترضة بين القسم وبين ما بعده من جوابه أو دليل جوابه، كما في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76].
والاستفهام تقريري، وكونه بحرف {هل} لأن أصل {هل} أن تدل على التحقيق إذ هي بمعنى (قد).
واسم الإشارة عائد إلى المذكور مما أقسم به، أي هل بالقسم في ذلك قسم.
وتنكير {قسم} للتعظيم أي قسم كاف ومقنع للمقسم له، إذا كان عاقلا أن يتدبر بعقله.
فالمعنى: هل في ذلك تحقيق لما أقسم عليه للسامع الموصوف بأنه صاحب حجر.
والحجر: العقل لأن يحجر صاحبه عن ارتكاب ما لا ينبغي، كما سمي عقلا لأنه يعقل صاحبه عن التهافت كما يعقل العقال البعير عن الضلال.
واللام في قوله: {لِذِي حِجْرٍ} لام التعليل، أي قسم لأجل ذي عقل يمنعه من المكابرة فيعلم أن المقسم بهذا القسم صادق فيما أقسم عليه.
[6-14] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ، الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ، وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ، وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ، الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ، فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ، فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} .
لا يصلح هذا أن يكون جوابا للقسم ولكنه: إما دليل الجواب إذ يدل على أن المقسم عليه من جنس ما فعل بهذه الأمم الثلاث وهو الاستئصال الدال عليه قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} ، فتقدير الجواب ليصبن ربك على مكذبيك سوط عذاب كما صب على عاد وثمود وفرعون.
وإما تمهيد للجواب ومقدمة له إن جعلت الجواب قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} وما بينه وبين الآيات السابقة اعتراض جعل كمقدمة لجواب القسم.
والمعنى: أن ربك لبالمرصاد للمكذبين لا يخفى عليه أمرهم، فيكون تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [ابراهيم: 42].
فالاستفهام في قوله: {أَلَمْ تَرَ} تقريري، والمخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم تثبيتا له ووعدا بالنصر، وتعريضا للمعاندين بالإنذار بمثله فإن ما فعل بهذه الأمم الثلاث موعظة وإنذار للقوم الذين فعلوا مثل فعلهم من تكذيب رسل الله قصد منه تقريب وقوع ذلك وتوقع حلوله. لأن التذكير بالنظائر واستحضار الأمثال يقرب إلى الأذهان الأمر الغريب الوقوع،
لأن بعد العهد بحدوث أمثاله ينسيه الناس، وإذا نسي استبعد الناس وقوعه، فالتذكير يزيل الاستبعاد.
فهذه العبر جزئيات من مضمون جواب القسم، فإن كان محذوفا فذكرها دليله، وإن كان الجواب قوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} كان تقديمها على الجواب زيادة في التشويق إلى تلقيه، وإيذانا بجنس الجواب من قبل ذكره ليحصل بعد ذكره مزيد تقرره في الأذهان.
والرؤية في {أَلَمْ تَرَ} يجوز أن تكون رؤية علمية تشبيها للعلم اليقيني بالرؤية في الوضوح والانكشاف لأن أخبار هذه الأمم شائعة مضروبة بها المثل فكأنها مشاهدة. فتكون {كَيْفَ} استفهاما معلقا فعل الرؤية عن العمل في مفعولين.
ويجوز أن تكون الرؤية بصرية والمعنى: ألم تر آثار ما فعل ربك بعاد، وتكون {كَيْفَ} اسما مجردا عن الاستفهام في محل نصب على المفعولية لفعل الرؤية البصرية.
وعدل عن اسم الجلالة إلى التعريف بإضافة رب إلى ضمير المخاطب في قوله: {فَعَلَ رَبُّكَ} لما في وصف رب من الإشعار بالولاية والتأييد ولما تؤذن به إضافته إلى ضمير المخاطب من إعزازه وتشريفه.
وقد أبتدئت الموعظة بذكر عاد وثمود لشهرتهما بين المخاطبين وذكر بعدهما قوم فرعون لشهرة رسالة موسى عليه السلام إلى فرعون بين أهل الكتاب ببلاد العرب وهم يحدثون العرب عنها.
وأريد ب {عاد} الأمة لا محالة قال تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ} [هود: 59]، فوجه صرف أنه اسم ثلاثي ساكن الوسط مثل هند ونوح وإرم بكسر الهمزة وفتح الراء اسم إرم بن سام بن نوح وهو جد عاد لأن عادا هو ابن عوص بن إرم، وهو ممنوع من الصرف للعجمة لأن العرب البائدة يعتبرون خارجين عن أسماء اللغة العربية المستعملة، فهو عطف بيان ل {عاد} للإشارة إلى أن المراد ب {عاد} القبيلة التي جدها الأدنى هو عاد بن عوص بن إرم، وهو عاد الموصوفة ب {الأولى} في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم:50]، لئلا يتوهم أن المتحدث عنهم قبيلة أخرى تسمى عادا أيضا. كانت تنزل مكة مع العماليق يقال: إنهم بقية من عاد الأولى وإرم اسمان لقبيلة عاد الأولى.
ووصفت عاد ب {ذَاتِ الْعِمَادِ} ، و {ذات} وصف مؤنث لأن المراد بعاد القبيلة.
والعماد: عود غليظ طويل يقام عليه البيت يركز في الأرض تقام عليه أثواب الخيمة أو القبة ويسمى دعامة، وهو هنا مستعار للقوة تشبيها للقبيلة القوية بالبيت ذات العماد.
وإطلاق العماد على القوة جاء في قول عمرو بن كلثوم:
ونحن إذا عماد الحي خرت ... على الأحفاض نمنع من يلينا
ويجوز أن يكون المراد ب {الْعِمَادِ} الأعلام التي بنوها في طرقهم ليهتدي بها المسافرون المذكورة في قوله تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ} [الشعراء:128].
ووصفت عاد ب {ذَاتِ الْعِمَادِ} لقوتها وشدتها، أي قد أهلك الله قوما هم أشد من القوم الذين كذبوك قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13]، وقال {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً} [غافر82].
و {التي} : صادق على {عاد} بتأويل القبيلة كما وصفت ب {ذَاتِ الْعِمَادِ} والعرب يقولون: تغلب ابنة وائل، بتأويل تغلب بالقبيلة.
والبلاد: جمع بلد، وبلدة وهي مساحة واسعة من الأرض معينة بحدود أو سكان.
والتعريف في {البلاد} للجنس والمعنى: التي لم يخلق مثل تلك الأمة في الأرض. وأريد بالخلق خلق أجسادهم فقد روي أنهم كانوا طوالا شدادا أقوياء، وكانوا أهل عقل وتدبير، والعرب تضرب المثل بأحلام عاد، ثم فسدت طباعهم بالترف فبطروا النعمة.
والظاهر أن لام التعريف هنا للاستغراق العرفي، أي في بلدان العرب وقبائلهم.
وقد وضع القصاصون حول قوله تعالى: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} قصة مكذوبة فزعموا أن {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} مركب جعل اسما لمدينة باليمن أو بالشام أو بمصر، ووصفوا قصورها وبساتينها بأوصاف غير معتادة، وتقولوا أن أعرابيا يقال له: عبد الله بن قلابة كان في زمن الخليفة معاوية بن أبي سفيان تاه في ابتغاء إبل له فاطلع على هذه المدينة وأنه لما رجع أخبر الناس فذهبوا إلى المكان الذي زعم أنه وجدوا فيه المدينة فلم يجدوا شيئا. وهذه أكاذيب مخلوطة بجهالة إذ كيف يصح أن يكون اسمها أرم ويتبع بذات العماد بفتح {إرم} وكسر {ذات} فلو كان الاسم مركبا مزجيا لكان بناء جزئيه على الفتح، وإن كان الاسم مفردا و {ذات} صفة له فلا وجه لكسر {ذات} ، على أن موقع هذا الإسلام عقب قوله تعالى: {بعاد} يناكد ذلك كله.
ومنع {ثمود} من الصرف لأن المراد به الأمة المعروفة، ووصف باسم الموصول لجمع المذكر في قوله: {الَّذِينَ جَابُوا} دون أن يقول التي جابت الصخرة بتأويل القوم
فلما وصف عدل عن تأنيثه تفننا في الأسلوب.
ومعنى {جَابُوا} : قطعوا، أي نحتوا الصخر واتخذوا فيه بيوتا كما قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} [الشعراء: 149]، وقد قيل: إن ثمود أول أمم البشر نحتوا الصخر والرخام
و { الصخر} : الحجارة العظيمة.
والواد: اسم لأرض كائنة بين جبلين منخفضة، ومنه سمي مجرى الماء الكثير وادا وفيه لغتان: أن يكون آخره دالا، وأن يكون آخره ياء ساكنة بعد الدال.
وقرأ الجمهور بدون ياء. وقرأه ابن كثير ويعقوب بياء في آخره وصلا ووقفا، وقرأه ورش عن نافع بياء في الوصل وبدونها في الوقف وهي قراءة مبنية على مراعاة الفواصل ثم ما تقدم في قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر:4] وهو مرسوم في المصحف يدون ياء والقراءات تعتمد الرواية بالسمع لا رسم المصحف إذ المقصود من كتابة المصاحف أن يتذكر بها الحفاظ ما عسى أن ينسوه.
والواد: علم بالغلبة على منازل ثمود، ويقال له: وادي القرى، بإضافته إلى القرى التي بنتها ثمود فيه ويسمى أيضا الحجر بكسر الحاء وسكون الجيم، ويقال لها حجر ثمود وهو واد بين خيبر وتيماء في طريق الماشي من المدينة إلى الشام، ونزله اليهود بعد ثمود لما نزلوا بلاد العرب، ونزله من بلاد العرب قضاعة وجهينة، وغذرة وبلي.
وكان غزاه النبي صلى الله عليه وسلم وفتحه سنة سبع فأسلم من فيه من العرب وصولحت اليهود على جزية.
والباء في قوله: {بالواد} للظرفية.
والمراد ب {فرعون} هو وقومه.
ووصف {ذِي الْأَوْتَادِ} لأن مملكته كانت تحتوي على الأهرام التي بناها أسلافه لأن صورة الهرم على الأرض تشبه الوتد المدقوق، ويجوز أن يكون الأوتاد مستعارا للتمكن والثبات، أي ذي قوة على نحو قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} ، وقد تقدم عند قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [صّ:12].
وقوله: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ} يجوز أن يكون شاملا لجميع المذكورين عاد وثمود
وفرعون. ويجوز أن يكون نعتا لفرعون الأول المراد هو وقومه.
والطغيان شدة العصيان والظلم ومعنى طغيانهم في البلاد أن كل أمة من هؤلاء طغوا في بلدهم، ولما كان بلدهم من جملة البلاد أي أرضي الأقوام كان طغيانهم في بلدهم قد أوقع الطغيان في البلاد لأن فساد البعض آئل بفساد الجميع بسن سنن السوء، ولذلك تسبب عليه ما فرع عنه من قوله: {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} لأن الطغيان يجرئ صاحبه على دحض حقوق الناس فهو من جهة يكون قدوة سوء لأمثاله وملائه، فكل واحد منهم يطغى على من هو دونه، وذلك فساد عظيم، لأن به اختلال الشرائع الإلاهية والقوانين الوضعية الصالحة وهو من جهة أخرى يثير الحفائظ والضغائن في المطغي عليه من الرعية فيضمرون السوء للطاغين وتنطوي نفوسهم على كراهية ولاة الأمور وتربص الدوائر بها فيكونون لها أعداء غير مخلصي الضمائر ويكونون رجال الدولة متوجسين منهم خيفة فيظنون بهم السوء في كل حال ويحذرونهم فتتوزع قوة الأمة على أفرادها عوضا عن تتحد على أعدائها فتصبح للأمة أعداء في الخارج وأعداء في الداخل وذلك يفضي إلى فساد عظيم، فلا جرم كان الطغيان سببا لكثرة الفساد.
ويجوز أن يكون التعريف في {البلاد} تعريف العهد، أي في بلادهم والجمع على اعتبار التوزيع، أي طغت كل أمة في بلادها.
والفساد: سوء حال الشيء ولحاق الضر به قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} [البقرة: 205]. وضد الفساد الصلاح قال تعالى: {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [الأعراف: 56]، وكان ما أكثروه من الفساد سببا في غضب الله عليهم، والله لا يحب الفساد فصب عليهم العذاب.
والصب حقيقته: إفراغ ما في الظرف، وهو هنا مستعار لحلول العذاب دفعة وإحاطته بهم كما يصب الماء على المغتسل أو يصب المطر على الأرض، فوجه الشبه مركب من السرعة والكثرة ونظيره استعارة الإفراغ في قوله تعالى: {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} [البقرة: 250]، ونظير الصب قولهم: شن عليهم الغارة.
وكان العذاب الذي أصاب هؤلاء عذابا مفاجئا قاضيا.
فأما عاد فرأوا عارض الريح فحسبوه عارض مطر فما لبثوا حتى أطارتهم الريح كل مطير.
وأما ثمود فقد أخذتهم الصيحة.
وأما فرعون فحسبوا البحر منحسرا فما راعهم إلا وقد أحاط بهم.
والسوط: آلة ضرب تتخذ من جلود مظفورة تضرب بها الخيل للتأديب ولتحملها على المزيد من الجري.
وعن الفراء أن كلمة {سَوْطَ عَذَابٍ} يقولها العرب لكل عذاب يدخل فيه السوط أي يقع السوط ، يريد أن حقيقتها كذلك ولا يريد أنها في هذه الآية كذلك.
وإضافة {سَوْطَ} إلى {عَذَابٍ} من إضافة الصفة إلى الموصوف، أي صب عليهم عذابا سوطا، أي كالسوط في سرعة الإصابة فهو تشبيه بليغ.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} تذييل وتعليل لإصابتهم بسوط عذاب إذا قدر جواب القسم محذوفا. ويجوز أن تكون جواب القسم كما تقدم آنفا.
فعلى كون الجملة تذييلا تكون تعليلا لجملة {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله ينصر رسله وتصريحا للمعاندين بما عرض لهم به من توقع معاملته إياهم بمثل ما عامل به المكذبين الأوليين، أي أن الله بالمرصاد لكل طاغ مفسد.
وعلى كونها جواب القسم تكون كناية عن تسليط العذاب على المشركين إذ لا يراد من الرصد إلا دفع المعتدي من عدو ونحوه، وهو المقسم عليه ومن قبله اعتراضا تفننا في نظم الكلام إذ قدم على المقصود بالقسم ما هو استدلال عليه وتنظير بما سبق من عقاب أمثالهم من الأمم من قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} الخ، وهو أسلوب من أساليب الخطابة إذ يجعل البيان والتنظير بمنزلة المقدمة ويجعل الغرض المقصود بمنزلة النتيجة والعلة إذا كان الكلام صالحا للاعتبارين مع قصد الاهتمام بالمقدم والمبادرة به.
والعدول عن ضمير المتكلم أو اسم الجلالة إلى {ربك} في قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} إيماء إلى أن فاعل ذلك ربه الذي شأنه أن ينتصر له، فهو مؤمل بأن يعذب الذين كذبوه انتصارا له انتصار المولى لوليه.
والمرصاد: المكان الذي يترقب فيه الرصد، أي الجماعة المراقبون شيئا، وصيغة مفعال تأتي للمكان وللزمان كما تأتي للآلة، فمعنى الآلة هنا غير محتمل، فهو هنا إما للزمان أو المكان إذ الرصد الترقب.
وتعريف "المرصاد" تعريف الجنس وهو يفيد عموم المتعلق، أي بالمرصاد لكل فاعل، فهو تمثيل لعموم علم الله بما يكون من أعمال العباد وحركاتهم، بحال اطلاع الرصد على تحركات العدو والمغيرين وهذا المثل كناية عن مجازاة كل عامل بما عمله ويعمله إذ لا يقصد الرصد إلا للجزاء على العدوان، وفي ما يفيده من التعليل إيماء إلى أن الله لم يظلمهم فيما أصابهم به.
والباء في قوله: {بالمرصاد} للظرفية.
[15_20] {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} .
{فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ، كَلَّا} .
دلت الفاء على أن الكلام الواقع بعدها متصل بما قبلها ومتفرع عليه لا محالة.
ودلت {أما} على معنى: مهما يكن من شيء، وذلك أصل معناها ومقتضى استعمالها، فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبل الفاء المتصلة بها، فلاح ذلك برقا فقوي بها ارتباط جوابها بما قبلها وقبل الفاء المتصلة بها، فلاح ذلك برقا وامضا، وانجلى بلمعه ما كان غامضا، إذ كان تفريع ما بعد هذه الفاء على ما قبلها خفيا، فلنبينه بيانا جليا، ذلك أن الكلام السابق اشتمل على وصف ما كانت تتمتع فيه الأمم الممثل بها مما أنعم الله عليها به من النعم، وهم لاهون عن دعوة رسل الله، ومعرضون عن طلب مرضاة ربهم، مقتحمون المناكر التي لهو عنها، بطرون بالنعمة، معجبون بعظمتهم فعقب ذكر ما كانوا عليه وما جازاهم الله به عليه من عذاب في الدنيا، باستخلاص العبرة وهو تذكير المشركين بأن حالهم مماثل لحال أولئك ترفا وطغيانا وبطرا، وتنبيههم على خطاهم إذ كان لهم من حال الترف والنعمة شبهة توهموا بها أن الله جعلهم محل كرامة، فحسبوا أن إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم بالعذاب ليس بصدق لأنه يخالف ما هو واقع لهم من النعمة، فتوهموا أن فعل الله بهم أدل على كرامتهم عنده مما يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أمرهم بخلاف ما هم عليه، ونفوا أن يكون بعد هذا العالم عالم آخر يضاده، وقصروا عطاء الله على ما عليه عباده في هذه الحياة الدنيا، فكان هذا
الوهم مسولا لهم التكذيب بما أنذروا به من وعيد، وبما يسر المؤمنون من ثواب في الآخرة،فحصروا جزاء الخير في الثروة والنعمة وقصروا جزاء السوء على الخصاصة وقتر الرزق. وقد تكرر في القرآن التعرض لإبطال ذلك كقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون:55-56].
وقد تضمن هذا الوهم أصولا انبنى عليها، إنكار الجزاء في الآخرة، وإنكار الحياة الثانية، وتوهم دوام الأحوال.
ففاء التفريع مرتبطة بجملة {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14]، بما فيها من العموم الذي اقتضاه كونها تذييلا.
والمعنى: هذا شأن ربك الجري على وفق علمه وحكمته.
فأما الإنسان الكافر فيتوهم خلاف ذلك إذ يحسب أن ما يناله من نعمة وسعة في الدنيا تكريما من الله له، وما يناله من ضيق عيش إهانة أهانه الله بها.
وهذا التوهم يستلزم ظنهم أفعال الله تعالى جارية على غير حكمة قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50].
فأعلم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالحقيقة الحق ونبههم لتجنب تخليط الدلائل الدقيقة السامية، وتجنب تحكيم الواهمة والشاهية، وذكرهم بأن الأحوال الدنيوية أعراض زائلة ومتفاوتة الطول والقصر، وفي ذلك كله إبطال لمعتقد أهل الشرك وضلالهم الذي كان غالبا على أهل الجاهلية ولذلك قال النابغة في آل غسان الذين لم يكونوا مشركين وكانوا متدينين بالنصرانية:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وقد أعقب الله ذلك بالردع والإبطال بقوله: {كلا} . فمناط الردع والإبطال كلا القولين لأنهما صادران عن تأويل باطل وشبهة ضالة كما ستعرفه عند قوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} .
واقتصار الآية على تقتير الرزق في مقابلة النعمة دون غير ذلك من العلل والآفات لأن غالب أحوال المشركين المتحدث عنهم صحة المزاج وقوة الأبدان فلا يهلكون إلا بقتل أو هرم فيهم وفي ذويهم قال النابغة:
تغشى متالف لا ينظرنك الهرما
ولم يعرج أكثر المفسرين على بيان نظم الآية واتصالها بما قبلها عدا الزمخشري وابن عطية.
وقد عرف هذا الاعتقاد الضال من كلام أهل الجاهلية قال طرفة:
فلو شاء ربي كنت قيس بن عاصم ... ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأصبحت ذا مال كثير وطاف بي ... بنون كرام سادة لمسود
وجعلوا هذا الغرور مقياسا لمراتب الناس فجعلوا أصحاب الكمال أهل المظاهر الفاخرة، ووصموا بالنقص أهل الخصاصة وضعفاء الناس، لذلك لما أتى الملأ من قريش ومن بني تميم وفزارة للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمار، وبلال، وخباب، وسالم، مولى أبي حذيفة، وصبيح مولى أسيد، وصهيب، في أناس آخرين من ضعفاء المؤمنين قالوا للنبي أطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. وقالوا لأبي طالب: لو أن ابن أخيك طرد هؤلاء الأعبد والحلفاء كان أعظم له في صدورنا وأدلى لاتباعنا إياه. وفي ذلك نزل قوله تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية كما تقدم في [سورة الأنعام: 52].
فنبه الله على خطأ اعتقادهم بمناسبة ذكر مماثله مما اعتقده الأمم قبلهم الذي كان موجبا صب العذاب عليهم، وأعلمهم أن أحوال الدنيا لاتتخذ أصلا في اعتبار الجزاء على العمل، وأن الجزاء المطرد هو جزاء يوم القيامة.
والمراد بالإنسان الجنس وتعريفه تعريف الجنس فيستغرق أفراد الجنس ولكنه استغراق عرفي مراد به الناس المشركون لأنهم الغالب على الناس المتحدث عنهم وذلك الغالب في إطلاق لفظ الإنسان في القرآن النازل بمكة كقوله: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق:6-7]، {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة:3]، {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ، أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:4-5] ونحو ذلك ويدل لذلك قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر:23] الآية.
وقيل: أريد إنسان معين، فقيل عتبة بن ربيعة أو أبو حذيفة بن المغيرة عن ابن عباس،
وقيل: أمية بن خلف عن مقاتل والكلبي، وقيل: أبي بن خلف عن الكلبي أيضا. وإنما هؤلاء المسمون أعلام التضليل. قال ابن عطية: ومن حيث كان هذا غالبا على الكفار جاء التوبيخ في هذه الآية باسم الجنس إذ يقع كذا بعض المؤمنين في شيء من هذا المنزع اه.
واعلم أن من ضلال أهل الشرك ومن فتنة الشيطان لبعض جهلة المؤمنين أن يخيل إليهم ما يحصل لأحد بجعل الله من ارتباط المسببات باسبابها والمعلولات بعللها فيضعوا ما يصادف نفع أحدهم من الحوادث موضع كرامة من الله للذي صادفته منافع ذلك، تحكيا للشاهية ومحبة النفس ورجما بالغيب وافتياتا على الله، وإذا صادف أحدهم من الحوادث ما جلب له ضرا تخيله بأوهامه انتقاما من الله قصده به، تشاؤما منهم.
فهؤلاء الذين زعموا ما نالهم من نعمة الله إكراما من الله لهم ليسوا أهلا لكرامة الله.
وهؤلاء الذين توهموا ما صادفهم من فتور الرزق إهانة من الله لهم ليسوا بأحط عند الله من الذين زعموا أن الله أكرمهم بما فيه من نعمة.
فذلك الاعتقاد أوجب تغلغل أهل الشرك في إشراكهم وصرف أنظارهم عن التدبر فيما يخالف ذلك، وربما جرت الوساوس الشيطانية فتنة من ذلك لبعض ضعفاء الإيمان وقصار الأنظار والجهال بالعقيدة الحق كما أفصح أحمد ابن الراوندي1 عن تزلزل فهمهم وقلة علمه بقوله:
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة ... وصير العالم النحرير زنديقا
وذلك ما صرف الضالين عن تطلب الحقائق من دلائلها، وصرفهم عن التدبر فيما ينيل صاحبه رضى الله وما يوقع في غضبه، وعلم الله واسع وتصرفاته شتى وكلها صادرة عن حكمة {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]. فقد يأتي الضر للعبد من عدة أسباب وقد يأتي النفع من أخرى. وبعض ذلك جار في الظاهر على المعتاد، ومنه ما فيه سمة خرق العادة. فربما أتت الرزايا من وجوه الفوائد، والموفق يتيقظ للأمارات
ـــــــ
1 هو أحمد بن يحيى أبو الحسين ابن الرواندي بواو مفتوحة ثم نون ساكنة نسبة إلى رواند قرية من قرى قاسان بنواحي أصبهان. كان من المعتزلة ثم صار ملحداً توفي سنة خمسين ومائتين، وقيل خمس وأربعين وقيل سنة ثمان وتسعين.
قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام:44]، وقال {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ، ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [الأعراف:94-95] وقال {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126].
وتصرفات الله متشابهة بعضها يدل على مراده من الناس وبعدها جار على ما قدره من نظام العالم وكل قد قضاه وقدره وسبق علمه به وربط مسبباته بأسبابه مباشرة أو بواسطة أو وسائط والمتبصر يأخذ بالحيطة لنفسه وقومه ولا يقول على الله ما يمليه عليه وهمه ولم تنهض دلائله، ويفوض ما أشكل عليه إلى علم الله. وليس مثل هذا المحكي عنهم من شأن المسلمين المهتدين بهدي النبي صلى الله عليه وسلم والمتبصرين في مجاري التصرفات الربانية. وقد نجد في بعض العوام ومن يشبههم من الغافلين بقايا مت اعتقاد أهل الجاهلية لإيجاد التخيلات التي تمليها على عقولهم فالواجب عليهم أن يتعظوا بموعظة الله في هذه الآية.
لا جرم أن الله قد يعجل جزاء الخير لبعض الصالحين من عباده كما قال {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97]. وقد يعجل العقاب لمن يغضب عليه من عباده. وقد حكى عن نوح قوله لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 10-12]، وقال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16]. ولهذه المعاملة علامات أظهرها أن تجري على خلاف المألوف كما نرى في نصر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء على الأمم العظيمة القاهرة. وتلك مواعيد من الله يحققها أو وعيد منه يحيق بمستحقيه.
وحرف أما يفيد تفصيلا في الغالب، أي يدل على تقابل بين شيئين من ذوات وأحوال. ولذلك قد تكرر في الكلام، فليس التفصيل المستفاد منها بمعنى تبيين مجمل قبلها، بل هو تفصيل وتقابل وتوازن، وهو ضرب من ضروب التفصيل الذي تأتي له أما، فارتباط التفصيل بالكلام السابق مستفاد من الفاء الداخلة على أما، وإنما تعلقه بما قبله تعلق المفرع بمنشأه لا تفصيل بيان على مجمل.
فالمفصل هنا أحوال الإنسان الجاهل فصلت إلى حاله في الخفض والدعة وحاله في الضنك والشدة فالتوازن بين الحالين المعبر عنهما بالظرفين في قوله: {إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ} الخ وفي قوله: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} الخ. وهذا التفصيل ليس من
قبيل تبيين المجمل ولكنه تمييز وفصل بين شيئين أو أشياء تشتبه أو تختلط.
وقد تقدم ذكر {أما} عند قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} الآية في سورة البقرة [26].
والابتلاء: الاختبار ويكون بالخير وبالضر لأن في كليهما اختبارا لثبات النفس وخلق الأناة والصبر قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الانبياء:35]، وبذكر الابتلاء ظهر أن إكرام الله إياه إكرام ابتلاء فيقع على حالين، حال مرضية وحال غير مرضية وكذلك تقتير الرزق تقتير ابتلاء يقتضي حالين أيضا. قال تعالى: {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل:40]، وقال {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الانبياء:35]، والأشهر أنه الاختبار بالضر وقد استعمل في هذه الآية في المعنيين.
والمعني: إذا جعل ربه ما يناله من النعمة أو من التقتير مظهرا لحاله في الشكر والكفر، وفي الصبر والجزع، توهم أن الله أكرمه بذلك أو أهانه بهذا.
والإكرام: قال الراغب: أن يوصل إلى الإنسان كرامة، وهي نفع لا تلحق فيه غضاضة ولا مذلة، وأن يجعل ما يوصل إليه شيئا كريما، أي شريفا قال تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الانبياء:26]، أي جعلهم كراما اه يريد أن الإكرام يطلق على إعطاء المكرمة ويطلق على جعل الشيء كريما في صنفه فيصدق قوله تعالى: {فَأَكْرَمَهُ} بأن يصيب الإنسان ما هو نفع لا غضاضة فيه، أو بأن جعل كريما سيدا شريفا. وقوله: {فَأَكْرَمَهُ} من المعنى الأول للإكرام وقوله: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} من المعنى الثاني له في كلام الراغب واعلم أن قوله: {ونعمه} صريح في أن الله ينعم على الكافرين إيقاظا لهم ومعاملة بالرحمة، والذي عليه المحققون من المتكلمين أن الكافر منعم عليه في الدنيا، وهو قول الماتريدي والباقلاني. وهذا مما أختلف فيه الأشعري والماتريدي والخلف لفظي.
ومعنى {نعمه} جعله في نعمة، أي في طيب عيش.
ومعنى {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} أعطاه بقدر محدود، ومنه التقتير بالتاء الفوقية عوضا عن الدال، وكل ذلك كناية عن القلة ويقابله بسط الرزق قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27].
والهاء في {رزقه} يجوز أن تعود إلى {الإنسان} من إضافة المصدر إلى المفعول،
ويجوز أن تعود إلى {ربه} من إضافة المصدر إلى فاعله.
والإهانة: المعاملة بالهون وهو الذل.
وإسناد {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} و {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} إلى الرب تعالى لأن الكرامة والنعمة انساقت إلى الإنسان أو انساق له قدر الرزق بأسباب من جعل الله وسننه في هذه الحياة الدنيا بما يصادف بعض الحوادث بعضا، وأسباب المقارنة بين حصول هذه المعاني وبين من تقع به من الناس في فرصها ومناسباتها.
والقول مستعمل في حقيقته وهو التكلم، وإنما يتكلم الإنسان عن اعتقاد. فالمعنى: فيقول ربي أكرمني، معتقدا ذلك، ويقول: ربي أهانني، معتقدا ذلك لأنهم لا يخلون عن أن يفتخروا بالنعمة، أو يتذمروا من الضيق والحاجة، ونظير استعمال القول هذا الاستعمال ما وقع في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 75]، أي اعتقدوا ذلك فقالوه واعتذروا به لأنفسهم بين أهل ملتهم.
وتقديم {ربي} على فعل {أكرمني} وفعل {أهانني} ، دون أن يقول: أكرمني ربي أو أهانني ربي، لقصد تقوي الحكم، أي يقول ذلك جازما به غير متردد.
وجملتا {فيقول} في الموضعين جوابان ل إما الأولى والثانية، أي يطرد قول الإنسان هذه المقالة كلما حصلت له نعمة وكلما حصل له تقتير رزق.
وأوثر الفعل المضارع في الجوابين لإفادة تكرر ذلك القول وتجدده كلما حصل مضمون الشرطين.
وحرف {كلا} زجر عن قول الإنسان {رَبِّي أَكْرَمَنِ} عند حصول النعمة. وقوله: {رَبِّي أَهَانَنِ} عندما يناله تقتير، فهو ردع عن اعتقاد ذلك فمناط الردع كلا القولين لأن كل قول منهما صادر عن تأول باطل، أي ليست حالة الإنسان في هذه الحياة الدنيا دليلا على منزلته عند الله تعالى. وإنما يعرف مراد الله بالطرق التي ارشد الله إليها بواسطة رسله وشرائعه، قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} إلى قوله: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً} في [سورة الكهف: 104-105]، في سورة الكهف. فرب رجل في نعمة في الدنيا هو مسخوط عليه ورب أشعث أغبر مطرود بالأبواب لو أقسم على الله لأبره.
فمناط الردع جعل الإنعام علامة على إرادة الله إكرام المنعم عليه وجعل التقتير
علامة على إرادة الإهانة، وليس مناطه وقوع الكرامة ووقوع الإهانة لأن الله أهان الكافر بعذاب الآخرة ولو شاء إهانته في الدنيا لأجل الكفر لأهان جميع الكفرة بتقتير الرزق.
وبهذا ظهر أن لا تنافي بين إثبات إكرام الله تعالى الإنسان بقوله: {فَأَكْرَمَهُ} وبين إبطال ذلك بقوله: {كلا} لأن الإبطال وارد على ما قصده الإنسان بقوله: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} أن ما ناله من النعمة علامة على رضى الله عنه.
فالمعنى أن لشأن الله في معاملته الناس في هذا العالم أسرارا وعللا لا يحاط بها، وأن أهل الجهالة بمعزل عن إدراك سرها بأقيسة وهمية. والاستناد لمألوفات عادية، وأن الأولى لهم أن يتطلبوا الحقائق من دلائلها العقلية، وأن يعرفوا مراد الله من وحيه إلى رسله. وأن يحذروا من أن يحيدوا بالأدلة عن مدلولها. وان يستنتجوا الفروع من غير أصولها.
وأما أهل العلم فهم يضعون الأشياء مواضعها، ويتوسمون التوسم المستند إلى الهدي ولا يخلطون ولا يخبطون.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر {ربي} في الموضعين بفتح الياء. وقرأ الباقون بسكونها.
وقرأ الجمهور {فَقَدَرَ عَلَيْهِ} بتخفيف الدال. وقرأه ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الدال.
وقرأ نافع {أكرمن، وأهانن} بياء بعد النون في الوصل وبحذفها في الوقف. وقرأهما ابن كثير بالياء في الوصل والوقف، وقرأهما ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب بدون ياء في الوصل والوقف. وهو مرسون في المصحف بدون ياء بعد النونين ولا منافاة بين الرواية ورسم المصحف. و {كلا} ردع عن هذا القول أي ليس ابتلاء الله الإنسان بالنعيم وبتقتير الرزق مسببا على إرادة الله تكريم الإنسان ولا على إرادته أهانته. وهذا ردع مجمل لم يتعرض القرآن لتبينه اكتفاء بتذييل أحوال الأمم الثلاث في نعمتهم بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] بعد قوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر:13].
[17-20] {بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً} .
{بل} إضراب انتقالي. والمناسبة بين الغرضين المنتقل منه والمنتقل إليه مناسبة المقابلة لمضمون {فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ} من جهة ما توهموه أن نعمة مالهم وسعة عيشهم تكريم من الله لهم، فنبههم الله على أنهم إن أكرمهم الله فإنهم لم يكرموا عبيده شحا بالنعمة إذ حرموا أهل الحاجة من فضول أموالهم وإذ يستزيدون من المال ما لا يحتاجون إليه وذلك دحض لتفخرهم بالكرم والبذل.
فجملة {لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} استئناف كما يقتضيه الإضراب، فهو إما استئناف ابتداء كلام، وإما اعتراض بين {كلا} وأختها كما سيأتي وإكرام اليتيم: سد خلته وحسن معاملته لأنه مظنة الحاجة لفقد عائله، ولاستيلائهم على الأموال التي يتركها الآباء لأبنائهم الصغار. وقد كانت الأموال في الجاهلية يتداولها رؤساء العائلات.
والبر لأنه مظنة انكسار الخاطر لشعوره بفقد من يدل هو عليه.
واليتيم: الصبي الذي مات أبوه وتقدم في سورة النساء، وتعريفه للجنس، أي لا تكرمون اليتامى، وكذلك تعريف {المسكين} .
ونفي الحض على طعام المسكين نفي لإطعامه بطريق الأولى، وهي دلالة فحوى الخطاب، أي لقلة الاكتراث بالمساكين لا ينفعونهم ولو نفع وساطة، بله أن ينفعوهم بالبذل من أموالهم.
و {طعام} يجوز أن يكون اسما بمعنى المطعوم، بالتقدير: ولا يحضون على إعطاء طعام المسكين فإضافته إلى المسكين على معنى لام الاستحقاق ويجوز أن يكون اسم مصدر أطعم. والمعنى: ولا تحضون على إطعام الأغنياء المساكين فإضافته إلى المسكين من إضافة المصدر إلى مفعوله.
و {المسكين} : الفقير وتقدم في سورة براءة.
وقد حصل في الآية احتباك لأنهم لما نفي إكرامهم اليتيم وقوبل بنفي أن يحضوا على طعام المسكين، علم أنهم لا يحضون على إكرام أيتامهم، أي لا يحضون أولياء الأيتام على ذلك، وعلم أنهم لا يطعمون المساكين من أموالهم.
ويجوز أن يكون الحض على الطعام كناية عن الإطعام لأن من يحض على فعل شيء يكون راغبا في التلبس به فإذا تمكن أن يفعله فعله، ومنه قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] أي عملوا بالحق وصبروا وتواصوا بهما.
وقرأ الجمهور "لا تكرمون، ولا تحضون، وتأكلون، وتحبون" بالمثناة الفوقية على الخطاب بطريقة الالتفات من الغيبة في قوله: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} الآيات لقصد مواجهتهم بالتوبيخ، وهو بالمواجهة أوقع منه بالغيبة. وقرأها أبو عمرو ويعقوب بالمثناة التحتية على الغيبة لتعريف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بذلك فضحا لدخائلهم على نحو قوله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً، أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:6-7].
وقرأ الجمهور {وَلا تَحَاضُّونَ} بضم الحاء مضارع حض، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {تَحَاضُّونَ} بفتح الحاء وألف بعدها مضارع حاض بعضهم بعضا، وأصله تتحاضون فحذفت إحدى التاءين اختصارا للتخفيف أي تتمالؤون على ترك الحض على الإطعام.
والتراث: المال الموروث، أي الذي يخلفه الرجل بعد موته لوارثه وأصله: وراث بواو في أوله بوزن فعال من مادة ورث بمعنى مفعول مثل الدقاق، والحطام، أبدلت واوه تاء على غير قياس كما فعلوا في تجاه، وتخمة، وتهمة، وتقاة وأشباهها.
والأكل: مستعار للانتفاع بالشيء انتفاعا لا يبقي منه شيئا. وأحسب أن هذه الاستعارة من مبتكرات القرآن إذ لم أقف على مثلها في كلام العرب.
وتعريف التراث عوض عن المضاف إليه. أي تراث اليتامى وكذلك كان أهل الجاهلية يمنعون النساء والصبيان من أموال مورثيهم.
وأشعر قوله: {تأكلون} بأن المراد التراث الذي لا حق لهم فيه، ومنه يظهر وجه إيثار لفظ التراث دون إن يقال: وتأكلون المال لأن التراث مال مات صاحبه وأكله يقتضي أن يستحق ذلك المال عاجز عن الذب عن ماله لصغر أو أنوثة.
واللم: الجمع، ووصف الأكل به وصف بالمصدر للمبالغة، أي أكلا جامعا مال الوارثين إلى مال الآكل كقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2].
والجم: الكثير، يقال: جم الماء في الحوض، إذا كثر، وبئر جموم بفتح الجيم: كثيرة الماء، أي حبا كثيرا، ووصف الحب بالكثرة مراد به الشدة لأن الحب معنى من المعاني النفسية لا يوصف بالكثرة التي هي وفرة عدد أفراد الجنس.
فالجم مستعار لمعنى القوي الشديد، أي حبا مفرطا، وذلك محل ذم حب المال، لأن إفراد حبه يوقع في الحرص على اكتسابه بالوسائل غير الحق. كالغصب والاختلاس
والسرقة وأكل الأمانات.
[21-26] {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} .
{كَلَّا} .
زجر وردع عن الأعمال المعدودة قبله، وهي عدم إكرامهم اليتيم وعدم حضهم على طعام المسكين، وأكلهم التراث الذي هو مال غير آكله، وعن حب المال حبا جما.
{إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً، وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي، فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} .
استئناف ابتدائي انتقل به من تهديدهم بعذاب الدنيا الذي في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6]، الآيات إلى الوعيد بعذاب الآخرة. فإن استخفوا بما حل بالأمم قبلهم أو أمهلوا فأخر عنهم العذاب في الدنيا فإن عذابا لا محيص لهم عنه ينتظرهم يوم القيامة حين يتذكرون قسرا فلا ينفعهم التذكر، ويندمون ولات ساعة مندم.
فحاصل الكلام السابق أن الإنسان الكافر مغرور ينوط الحوادث بغير أسبابها، ويتوهمها على غير ما بها ولا يصغي إلى دعوة الرسل فيستمر طول حياته في عماية، وقد زجروا عن ذلك زجرا مؤكدا.
وأتبع زجرهم إنذارا بأنهم يحين لهم يوم يفيقون فيه من غفلتهم حين لا تنفع الإفاقة.
والمقصود من هذا الكلام هو قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} وقوله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر:27]، وأما ما سبق من قوله: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ} إلى قوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} ، فهو توطئة وتشويق لسماع ما يجيء بعده وتهويل لشأن ذلك اليوم وهو الوقت الذي عرف بإضافة جملة {دُكَّتِ الْأَرْضُ} وما بعدها من الجمل وقد عرف بأشراط حلوله وبما يقع فيه من هول العقاب.
والدك: الحطم والكسر.
والمراد بالأرض الكرة التي عليها الناس، ودكها حطمها وتفرق أجزائها الناشى عن
فساد الكون الكائنة عليه الآن، وذلك بما يحدثه الله فيها من زلازل كما في قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] الآية.
و {دَكّاً دَكّاً} يجوز أن يمون أولهما منصوبا علي المفعول المطلق المؤكد لفعله. ولعل تأكيده هنا لأن هذه الآية أول آية ذكر فيها دك الجبال، وإذ قد كان أمرا خارقا للعادة كان المقام مقتضيا تحقيق وقوعه حقيقة دون مجاز ولا مبالغة، فأكد مرتين هنا ولم يؤكد نظيره في قوله: {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} في [سورة الحاقة: 14] ف {دكا} الأول مقصود به رفع احتمال المجاز عن {دُكَّتَا} الدك أي هو دك حقيقي، و {دكا} الثاني منصوبا على التوكيد اللفظي لدكا الأول لزيادة تحقيق إرادة مدلول الدك الحقيقي لأن دك الأرض العظيمة أمر عجيب فلغرابته اقتضى اثباته زيادة تحقيق لمعناه الحقيقي.
وعلى هذا درج الرضي قال: ويستثنى من منع تأكيد النكرات "أي تأكيدا لفظيا" شيء واحد وهو جواز تأكيدها إذا كانت النكرة حكما لا محكوما عليه كقوله صلى الله عليه وسلم "فنكاحها باطل باطل باطل" . ومثله قوله تعالى: {دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً} فهو مثل: ضرب ضرب زيد اه.
وهذا يلائم ما في وصف دك الأرض في سورة الحاقة بقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة:14]، ودفع المنافاة بين هذا وبين ما في سورة الحاقة.
ويجوز أن يكون مجموع المصدرين في تأويل مفرد منصوب على المفعول المطلق المبين للنوع. وتأويله. أنه دك يعقب بعضه بعضا كما تقول: قرأت الكتاب بابا بابا وبهذا المعنى فسر صاحب "الكشاف" وجمهور المفسرين من بعده، وبعض المفسرين سكت عن بيانه قال الطيبي قال ابن الحاجب: لعله قاله في "أماليه على المقدمة الكافية" وفي نسختي منها نقص ولا أعرف غيرها بتونس ولا يوجد هذا الكلام في "إيضاح المفصل" بينت له حسابه بابا بابا، أي مفصلا. والعرب تكرر الشيء مرتين فتستوعب تفصيل جنسه باعتبار المعنى الذي دل عليه لفظ المكرر، فإذا قلت: بينت له الكتاب بابا بابا فمعناه بينته له مفصلا باعتبار أبوابه اه.
قلت: هذا الوجه أوفى بحق البلاغة فإنه معنى زائد على التوكيد والتوكيد حاصل بالمصدر الأول.
وفي "تفسير الفخر": وقيل: فبسطتا بسطة واحدة فصارتا أرضا لا ترى فيها أمتا
وتبعه البيضاوي يعني: أن الدك كناية عن التسوية لأن التسوية من لوازم الدك، أي صارت الجبال مع الأرض مستويات لم يبق فيها نتوء.
ولك أن تجعل صفه واحدة مجازا في تفرد الدكة بالشدة التي لا ثاني مثلها، أي دكة لا نظير لها بين الدكات في الشدة من باب قولهم: هو وحيد قومه، ووحيد دهره، فلا يعارض قوله: {دَكّاً دَكّاً} بهذا التفسير. وفيه تكلف إذ لم يسمع بصيغة فاعل فلم يسمع: هو واحد قومه.
وأما قوله تعالى: {وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} فـ {صفا} الأول حال من {الملك} .
و {صفا} الثاني لم يختلف المفسرون في أنه من التكرير المراد به الترتيب والتصنيف، أي صفا بعد صف، أو صنفا من الملائكة دون صنف، قيل: ملائكة كل سماء يكونون صفا حول الأرض على حدة.
قال الرضي وأما تكرير المنكر من قولك، قرأت الكتاب سورة سورة، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} فليس في الحقيقة تأكيدا إذ ليس الثاني لتقرير ما سبق بل هو لتكرير المعنى لأن الثاني غير الأول معنى. والمعنى: جميع السور وصفا مختلفة اهـ. وشذ من المفسرين من سكت عنه. ولا يحتمل حمله على أنه مفعول مؤكد لعامله إذ لا معنى للتأكيد.
وإسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي، أي جاء قضاؤه، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء.
وأما إسناده إلى الملك فإما حقيقة، أو على معنى الحضور وأيا ما كان فاستعمال جاء من استعمال اللفظ في مجازه وحقيقته، أو في مجازيه.
والملك: اسم جنس وتعريفه تعريف الجنس فيرادفه الاستغراق، أي والملائكة.
والصف: مصدر صف الأشياء إذا جعل الواحد حذو الآخر، ويطلق على الأشياء المصفوفة ومنه قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف: 4]، وقوله: {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً} في [سورة طه: 64].
واستعمال {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} كاستعمال مجيء الملك، أي أحضرت جهنم وفتحت أبوابها فكأنها جاء بها جاء والمعنى: أظهرت لهم جهنم قال تعالى: {حَتَّى إِذَا
جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، وقال {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات:36] وورد في حديث مسلم عن ابن مسعود يرفعه "أن لجهنم سبعين ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها" وهو تفسير لمعنى {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . وأمور الآخرة من خوارق العادات.
وإنما اقتصر على ذكر جهنم لأن المقصود في هذه السورة وعيد الذين لم يتذكروا وإلا فإن الجنة أيضا محضرة يومئذ قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء:90-91].
و {يَوْمَئِذٍ} الأول متعلق بفعل {جيء} . والتقدير: وجيء يوم تدك الأرض دكا دكا إلى آخره.
و {يَوْمَئِذٍ} الثاني بدل من {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ} والمعنى: يوم تدك الأرض دكا إلى آخره يتذكر الإنسان. والعامل في البدل والمبدل منه معا فعل {يتذكر} . وتقديمه للاهتمام مع ما في الإطناب من التشويق ليحصل الإجمال ثم التفصيل مع حسن إعادة ما هو بمعنى {إذا} لزيادة الربط لطول الفصل بالجمل التي أضيف إليها {إذا} .
و {الإنسان} : هو الإنسان الكافر، وهو الذي تقدم ذكره في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ} [الفجر: 15] الآية فهو إظهار في مقام الإضمار لبعد معاد الضمير.
وجملة {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} معترضة بين جملة {يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ} وجملة {يقول} الخ.
و {أنى} اسم استفهام بمعنى: أين له الذكرى ، وهو استفهام مستعمل في الإنكار والنفي، والكلام على حذف مضاف، والتقدير: وأين له نفع الذكرى.
وجمله {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي} الخ يجوز أن يكون قولا باللسان تحسرا وتندما فتكون الجملة حالا من {الإنسان} أو بدل اشتمال من جملة {يتذكر} فإن تذكره مشتمل على تحسر وندامة. ويجوز أن يكون قوله في نفسه فتكون الجملة بيانا لجملة {يتذكر} .
ومفعول {قدمت} محذوف للإيجاز.
واللام في قوله: {لحياتي} تحتمل معنى التوقيت، أي قدمت عند أزمان حياتي فيكون المراد الحياة الأولى التي قبل الموت. وتحتمل أن يكون اللام للعلة، أي قدمت
الأعمال الصالحة لأجل أن أحيا في هذه الدار. والمراد: الحياة الكاملة السالمة من العذاب لأن حياتهم في العذاب حياة غشاوة وغياب قال تعالى: {ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى} [الأعلى:13].
وحرف النداء في قوله: {يَا لَيْتَنِي} للتنبيه اهتماما بهذا التمني في يوم وقوع.
والفاء في قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} رابطة لجملة {لا يُعَذِّبُ} الخ بجملة {دُكَّتِ الْأَرْضُ} لما في {إذا} من معنى الشرط.
والعذاب: اسم مصدر عذب.
والوثاق: اسم مصدر أوثق.
وقرأ الجمهور {يُعَذِّبُ} بكسر الذال {يُوثِقُ} بكسر الثاء على أن {أَحَدٌ} في الموضعين فاعل {يُعَذِّبُ ، و يُوثِقُ} . وأن عذابه من إضافة المصدر إلى مفعوله فضمير {عَذَابَهُ} عائد إلى الإنسان في قوله: {يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ} وهو مفعول مطلق مبين للنوع على معنى التشبيه البليغ، أي عذابا مثل عذابه، وانتفاء المماثلة في الشدة، أي يعذب عذابا هو أشد عذاب يعذبه العصاة، أي عذابا لا نظير له في أصناف عذاب المعذبين على معنى قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115]. والمراد في شدته.
وهذا بالنسبة لبني الإنسان وأما عذاب الشياطين فهو أشد لأنهم أشد كفرا و {أحد} يستعمل في النفي لاستغراق جنس الإنسان فأحد في سياق النفي يعم كل أحد قال تعالى: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار:19] فانحصر الأحد المعذب بكسر الذال في فرد وهو الله تعالى.
وقرأه الكسائي ويعقوب بفتح ذال {يُعَذِّبُ} وفتح ثاء {يُوثِقُ} مبنيين للنائب. وعن أبي قلابة قال حدثني من أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {يُعَذِّبُ ، و يُوثِقُ} بفتح الذال وفتح الثاء. قال الطبري: وإسناده واه وأقول أغنى عن تصحيح إسناده تواتر القراءة به في بعض الروايات العشر وكلها متواترة.
والمعنى: لا يعذب أحد مثل عذاب ما يعذب به ذلك الإنسان المتحسر يومئذ، ولا يوثق أحد مثل وثاقه. ف {أحد} هنا بمنزلة {أَحَداً} في قوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115].
والوثاق بفتح الواو اسم مصدر أوثق وهو الربط ويجعل للأسير والمقود إلى القتل. فيجعل لأهل النار وثاق يساقون به إلى النار قال تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ} [غافر:71-72] الآية.
وانتصاب {وثاقه} كانتصاب {عذابه} على المفعولية المطلقة لمعنى التشبيه.
[27-30] {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} .
لما استوعب ما اقتضاه المقام من الوعيد والتهديد والإنذار ختم الكلام بالبشارة للمؤمنين الذين تذكروا بالقرآن واتبعوا هديه على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة والعكس فإن ذلك يزيد رغبة الناس في فعل الخير ورهبتهم من أفعال الشر.
واتصال هذه الآية بالآيات التي قبلها في التلاوة وكتابة المصحف الأصل فيه أن تكون نزلت مع الآيات التي قبلها في نسق واحد. وذلك يقتضي أن هذا الكلام يقال في الآخرة. فيجوز أن يقال يوم الجزاء فهو مقول قول محذوف هو جواب "إذا" {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ} [الفجر:21] الآية وما بينهما مستطرد واعتراض.
فهذا قول يصدر يوم القيامة من جانب القدس من كلام الله تعالى أو من كلام الملائكة: فإن كان من كلام الله تعالى كان قوله: {إِلَى رَبِّكِ} إظهارا في مقام الإضمار بقرينة تفريع {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} عليه. ونكتة هذا الإظهار ما في وصف {رب} من الولاء والاختصاص، وما في إضافته إلى ضمير النفس المخاطبة من التشريف لها.
وإن كان من قول الملائكة فلفظ {ربك} جرى على مقتضى الظاهر، وعطف {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} عطف تلقين بصدر من كلام الله تعالى تحقيقا لقول الملائكة {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} .
والرجوع: إلى الله مستعار للكون في نعيم الجنة التي هي دار الكرامة عند الله بمنزلة دار المضيف قال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] بحيث شبهت الجنة بمنزل للنفس المخاطبة لأنها استحقته بوعد الله على أعمالها الصالحة فكأنها كانت مغتربة عنه في الدنيا فقيل لها: ارجعي إليه، وهذا الرجوع خاص غير مطلق الحلول في الآخرة.
ويجوز أن تكون الآية استئنافا ابتدائيا جرى على مناسبة ذكر عذاب الإنسان المشرك فتكون خطابا من الله تعالى لنفوس المؤمنين المطمئنة.
والأمر في {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} مراد منه تقييده بالحالين بعده وهما {رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} وهو من استعمال الأمر في الوعد والرجوع مجاز أيضا، والإضمار في قوله: {فِي عِبَادِي} وقوله: {جَنَّتِي} التفات من الغيبة إلى التكلم.
وقال بعض أهل التأويل: نزلت في معين. فعن الضحاك: أنها نزلت في عثمان ابن عفان لما تصدق ببئر رومة. وعن بريدة: أنها نزلت في حمزة حين قتل. وقيل: نزلت في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة. وهذه الأقوال تقتضي أن هذه الآية مدنية، والاتفاق على أن السورة مكية إلا ما رواه الداني عن بعض العلماء أنها مدنية، وهي على هذا منفصلة عما قبلها كتبت هنا بتوقيف خاص أو نزلت عقب ما قبلها للمناسبة.
وعن ابن عباس وزيد بن حارثة وأبي بن كعب وابن مسعود: أن هذا يقال عند البعث لترجع الأرواح في الأجساد، وعلى هذا فهي متصلة بقوله: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ} [الفجر:21] الخ كالوجه الذي قبل هذا، والرجوع على هذا حقيقة والرب مراد به صاحب النفس وهو الجسد.
وعن زيد بن حارثة وأبي صالح يقال: هذا للنفس عند الموت. وقد روى الطبري عن سعيد بن جبير قال: قرأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} فقال أبو بكر: ما أحسن هذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أما إن الملك سيقولها عند الموت" . وعن زيد بن حارثة أن هذا يقال لنفس المؤمن عند الموت تبشر بالجنة.
والنفس: تطلق على الذات كلها كما في قوله تعالى: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] وقوله: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] وتطلق على الروح التي بها حياة الجسد كما في قوله: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف:53].
وعلى الإطلاقين توزع المعاني المتقدمة كما لا يخفى.
و {الْمُطْمَئِنَّةُ} : اسم فاعل من اطمأن إذا كان هادئا غير مضطرب ولا منزعج، فيجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد ولا اضطراب بال فيكون
ثناء على هذه النفس ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة.
وفعله من الرباعي المزيد وهو بوزن أفعلل. والأصح أنه مهموز اللام الأولى وأن الميم عين الكلمة كما ينطق به وهذا قول أبي عمرو. وقال سيبويه: أصل الفعل: طأمن فوقع فيه قلب مكاني فقدمت الميم على الهمزة فيكون أصل مطمئنة عنده مطأمنه ومصدره اطئمنان وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة [260] وقوله: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} في سورة النساء [103].
ووصف {النَّفْسُ} ب {الْمُطْمَئِنَّةُ} ليس وصفا للتعريف ولا للتخصيص، أي لتمييز المخاطبين بالوصف الذي يميزهم عمن عداهم فيعرفون أنهم المخاطبون المأذونون بدخول الجنة لأنهم لا يعرفون أنهم مطمئنون إلا بعد الإذن لهم بدخول الجنة، فالوصف مراد به الثناء والإيماء إلى وجه بناء الخبر. وتبشير من وجه الخطاب إليهم بأنهم مطمئنون آمنون. ويجوز أن يكون للتعريف أو التخصيص بأن يجعل الله إلهاما في قلوبهم يعرفون به أنهم مطمئنون.
والاطمئنان: مجاز في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح فيهم حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخائل الرضى والسعادة نحوهم ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء.
وقد فسر الاطمئنان: بيقين وجود الله ووحدانيته، وفسر باليقين بوعد الله، وبالاخلاص في العمل، ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة، وفسر بتبشيرهم بالجنة، أي قبل ندائهم ثم نودوا بأن يدخلوا الجنة.
والرجوع يحتمل الحقيقية والمجاز كما عملت من الوجوه المتقدمة في معنى الآية.
والراضية: التي رضت بما أعطيته من كرامة وهو كناية عن إعطائها كل ما تطمح إليه.
والمرضية: اسم مفعول وأصله: مرضيا عنها، فوقع فيه الحذف والإيصال فصار نائب فاعل بدون حرف الجر، والمقصود من هذا الوصف زيادة الثناء مع الكناية عن الزيادة في إفضاء الإنعام لأن المرضي عنه يزيده الراضي عنه من الهبات والعطايا فوق ما
رضي به هو.
وفرع على هذه البشرى الإجمالية تفصيل ذلك بقوله: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي} فهو تفصيل بعد الإجمال لتكرير إدخال السرور على أهلها.
والمعنى: ادخلي في زمرة عبادي. والمراد العباد الصالحون بقرينة مقام الإضافة مع قرنه بقوله: {جنتي} . ومعنى هذا كقوله تعالى: {لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت:9].
فالظرفية حقيقة وتؤول إلى معنى المعية كقوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وإضافة "جنة" إلى ضمير الجلالة إضافة تشريف كقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
وهذه الإضافة هي مما يزيد الالتفات إلى ضمير التكلم حسنا بعد طريقة الغيبة بقوله: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} .
وتكرير فعل {وَادْخُلِي} فلم يقل: فادخلي جنتي في عبادي للاهتمام بالدخول بخصوصه تحقيقا للمسرة لهم.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البلدسميت هذه السورة في ترجمتها عن "صحيح البخاري" "سورة لا أقسم" وسميت في المصاحف وكتب التفسير "سورة البلد". وهو إما على حكاية اللفظ الواقع في أولها لإرادة البلد المعروف وهو مكة.
وهي مكية وحكى الزمخشري والقرطبي الاتفاق عليه واقتصر عليه معظم المفسرين وحكى ابن عطية عن قوم: أنها مدنية. ولعل هذا قول من فسر قوله: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] أن الحل الإذن له في القتال يوم الفتح وحمل {وَأَنْتَ حِلٌّ} على معنى: وأنت الآن حل، وهو يرجع إلى ما روى القرطبي عن السدي وأبي صالح وعزي لابن عباس. وقد أشار في "الكشاف" إلى إبطاله بأن السورة نزلت بمكة بالاتفاق، وفي رده بذلك مصادرة، فالوجه أن يورد بأن في قوله: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} إلى قوله: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:5-11] ضمائر غيبة يتعين عودها إلى الإنسان في قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] وإلا لخلت الضمائر عن معاد. وحكى في الإتقان قولا أنها مدنية إلا الآيات الأربع من أولها.
وقد عدت الخامسة والثلاثين في عدد نزول السور، نزلت بعد سورة ق وقبل سورة الطارق.
وعدد آيها عشرون آية.
أغراضها
حوت من الأغراض التنويه بمكة. وبمقام النبي صلى الله عليه وسلم بها. وبركته فيها وعلى أهلها.
والتنويه بأسلاف النبي صلى الله عليه وسلم من سكانها الذين كانوا من الأنبياء مثل إبراهيم
وإسماعيل أو من أتباع الحنيفية مثل عدنان ومضر كما سيأتي.
والتخلص إلى ذم سيرة أهل الشرك. وإنكارهم البعث. وما كانوا عليه من التفاخر المبالغ فيه، وما أهملوه من شكر النعمة على الحواس، ونعمة النطق، ونعمة الفكر، ونعمة الإرشاد فلم يشكروا ذلك بالبذل في سبل الخير وما فرطوا فيه من خصال الإيمان وأخلاقه.
ووعيد الكافرين وبشارة الموقنين.
[1-4] {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ، وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} .
ابتدئت بالقسم تشويقا لما يرد بعد وأطيلت جملة القسم زيادة في التشويق.
و {لا أُقْسِمُ} معناه: أقسم. وقد تقدم ذلك غير مره منها ما في سورة الحاقة.
وتقدم القول في هل حرف النفي مزيد أو هو مستعمل في معناه كناية عن تعظيم أمر المقسم به.
والإشارة ب"هذا" مع بيانه بالبلد، إشارة إلى حاضر في أذهان السامعين كأنهم يرونه لأن رؤيته متكررة لهم وهو بلد مكة، ومثله ما في قوله: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل:91]. وفائدة الإتيان باسم الإشارة تمييز المقسم به أكمل تمييز لقصد التنويه به.
والبلد: جانب من متسع من أرض عامرة كانت كما هو الشائع أم غامرة كقول رؤبة بن العجاج:
بل بلد ملء الفجاج قتمه
وأطلق هنا على جانب من الأرض مجعولة فيه بيوت من بناء وهو بلدة مكة والقسم بالبلدة مع أنها لا تدل على صفة من صفات الذات الإلهية ولا من صفات أفعاله كناية عن تعظيم الله تعالى إياه وتفضيله.
وجملة {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} معترضة بين المتعاطفات المقسم بها والواو اعتراضية. والمقصود من الاعتراض يختلف باختلاف محمل معنى {وَأَنْتَ حِلٌّ} فيجوز