كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
ولما كان ظاهر قوله : {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} يوهم أنهم قد يشفعون فلا تقبل شفاعتهم وليس ذلك مرادا لأن المراد أنهم لا يجرأون على الشفاعة عند الله فلذلك عقب بالاستثناء بقوله : {إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} ، وذلك ما اقتضاه قوله: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28] وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة 225] أي إلا من بعد أن يأذن الله لأحدهم في الشفاعة ويرضى بقبولها في المشفوع له.
فالمراد ب {لمن َْ يَشَاءُ} من يشاؤه الله منهم، أي فإذا أذن لأحدهم قبلت شفاعته. واللام في قوله {لمن َْ يَشَاءُ} هي اللام التي تدخل بعد مادة الشفاعة على المشفوع له فهي متعلقة بشفاعتهم عن حد قوله تعالى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} ، وليست اللام متعلقة ب {يَأْذَنَ اللَّهُ} ومفعول يأذن محذوف دل علي قوله: {لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ} ، وتقديره: أن يأذنهم الله.
ويجوز أن تكون اللام لتعدية {يَأْذَنَ} إذ أريد به معنى يستمع، أي أن يظهر لمن يشاء منهم أنه يقبل منه. ومعنى ذلك أن الملائكة لا يزالون يتقربون بطلب إلحاق المؤمنين بالمراتب العليا كما دل عليه قوله تعالى {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُ} [غافر:8] وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى:5] فإن الاستغفار دعاء والشفاعة توجه أعلى، فالملائكة يعلمون إذ أراد الله استجابة دعوتهم في بعض المؤمنين أذن لأحدهم أن يشفع له عند الله فيشفع فتقبل شفاعته، فهذا تقريب كيفية الشفاعة. ونظيره ما ورد في حديث شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في موقف الحشر.
وعطف {وَيَرْضَى} على {لِمَنْ يَشَاءُ} للإشارة إلى أن إذن الله بالشفاعة يجري على حسب إرادته إذا كان المشفوع له أهلا لن يشفع له. وفي هذا الإبهام تحريض للمؤمنين أن يجتهدوا في التعرض لرضى الله عنهم ليكونوا أهلا للعفو عما فرطوا فيه من الأعمال.
[27،28] {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى [27] وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} .
{إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} .
اعتراض واستطراد لمناسبة ذكر الملائكة وتبعا لما ذكر آنفا من جعل المشركين اللات والعزى ومناة بنات لله بقوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} إلى قوله: {أَلَكُمُ الذَّكَر ُ
وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم :19] ثني إليهم عنان الرد والإبطال لزعمهم أن الملائكة بنات الله جمعا بين رد باطلين متشابهين، وكان مقتضى الظاهر أن يعبر عن المردود عليهم بضمير الغيبة تبعا لقوله {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 28]، فعدل عن الإضمار إلى الإظهار بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التوبيخ لهم والتحقير لعقائدهم إذ كفروا بالآخرة وقد تواتر على ألسنة الرسل وعند أهل الأديان المجاورين لهم من اليهود والنصارى والصابئة، فالموصولية هنا مستعملة في التحقير والتهكم نظير حكاية الله عنهم {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] إلا أن التهكم المحكي هنالك تهكم المبطل بالمحق لأنهم لا يعتقدون وقوع الصلة، وأما التهكم هنا فهو تهكم المحق بالمبطل لأن مضمون الصلة ثابت لهم.
والتسمية مطلقة هنا على التوصيف لأن الاسم قد يطلق على اللفظ الدال على المعنى وقد يطلق على المدلول المسمى ذاتا كان أو معنى كقول لبيد:
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
أي السلام عليكما، وقوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] وقوله تعالى {عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً} [ الإنسان:18] أي توصف بهذا الوصف في حسن مآبها، وقوله تعالى {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، أي ليس لله مثيل وقد مر بيانه مستوفي عند تفسير {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في أول الفاتحة[:1].
والمعنى: أنهم يزعمون الملائكة إناثا وذلك توصيف قال تعالى {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف: 19] وكانوا يقولون الملائكة بنات الله من سروات الجن قال تعالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء:26] وقال {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً} [الصافات: 158].
والتعريف في {الْأُنْثَى} تعريف الجنس الذي هو في معنى المتعدد والذي دعا إلى هذا النظم مراعاة الفواصل ليقع لفظ {الْأُنْثَى} فاصلة كما وقع لفظ {الْأُولَى} ولفظ {يَرْضَى} ولفظ {شَيْئاً} .
وجملة {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} حال من ضمير {يسَمُّونَ} ، أي يثبتون للملائكة صفات الأنثى في حال انتفاء علم منهم بذلك وإنما هو تخيل وتوهم إذ العلم لا يكون إلا عن دليل لهم فنفي العلم مراد به نفيه ونفي الدليل على طريقة الكناية.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} .
موقع هذه الجملة ذو شعب: فإن فيها بيانا لجملة {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} وعودا إلى جملة {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} ، وتأكيدا لمضمونها وتوطئة لتفريع {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم:29].
واستعير الاتباع للأخذ بالشيء واعتقاد مقتضاه أي ما يأخذون في ذلك إلا بدليل الظن المخطئ.
وأطلق الضن على الاعتقاد المخطئ كما هو غالب إطلاقه مع قرينة قوله عقبه {وإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} وتقدم نظيره آنفا.
وأظهر لفظ {الظَّنَّ} دون ضميره لتكون الجلة مستقلة بنفسها فتسير مسير الأمثال.
ونفي الإغناء معناه نفي الإفادة، أي لا يفيد شيئا من الحق فحرف {من} بيان وهو مقدم على المبين أعني شيئا.
و {شَيْئاً} منصوب على المفعول به ل {يُغْنِي} .
والمعنى: أن الحق حقائق الأشياء على ما هي عليه وإدراكها هو العلم المعرف بأنه تصور المعلوم على ما هو عليه والظن لا يفيد ذلك الإدراك بذاته فلو صادف الحق فذلك على وجه الصدفة والاتفاق، وخاصة الظن المخطئ كما هنا.
[29،30] {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى}.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} .
بعد أن وصف مداركهم الباطلة وضلالهم فرع عليه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم ذلك لأن ما تقدم من وصف ضلالهم كان نتيجة إعراضهم عن ذكر الله وهو التولي عن الذكر فحق أن يكون جزاؤهم عن ذلك الإعراض إعراضا عنهم فإن الإعراض والتولي مترادفان أو متقاربان فالمراد ب {مَنْ تَوَلَّى} الفريق الذين أعرضوا عن القرآن وهم المخاطبون آنفا بقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىْ} [النجم:2] وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [لنجم:19] والمخبر عنهم بقوله {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} الخ وقوله {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [النجم: 27] الخ.
والإعراض والتولي كلاهما مستعمل هنا في مجازه؛ فأما الإعراض فهو مستعار لترك المجادلة أو لترك الاهتمام بسلامتهم من العذاب وغضب الله، وأما التولي فهو مستعار لعدم الاستماع أو لعدم الامتثال.
وحقيقة الإعراض: لفت الوجه عن الشيء لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد لأن الكاره لشيء يصرف عنه وجهه.
وحقيقة التولي: الإدبار والانصراف، وإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإرشاد وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بإدامة دعوتهم للإيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال.
وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء[63] وقوله {وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} في سورة الأنعام[106]، فضم إليه ما هنا.
وما صدق {مَنْ تَوَلَّى} القوم الذين تولوا وإنما جرى الفعل على صيغة المفرد مراعاة للفظ {مَنْ} ألا ترى قوله {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ} بضمير الجمع.
وجيء بالاسم الظاهر في مقام الإضمار فقيل {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} دون: فأعرض عنهم لما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإعراض عنهم ومن ترتب توليهم عن ذكر الله على ما سبق وصفه من ضلالهم إذ لم يتقدم وصفهم بالتولي عن الذكر وإنما تقدم وصف أسبابه.
والذكر المضاف إلى ضمير الجلالة هو القرآن.
ومعنى {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} كناية عن عدم الإيمان بالحياة الآخرة كما دل عليه قوله {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} لأنهم لو آمنوا بها على حقيقتها لأرادوها ولو ببعض أعمالهم.
وجملة {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} اعتراض وهو استئناف بياني بين به سبب جهلهم بوجود الحياة الآخرة لأنه لغرابته مما يسأل عنه السائل وفيه تحقير لهم وازدراء بهم بقصور معلوماتهم.
وهذا الاستئناف وقع معترضا بين الجمل وعلتها في قوله {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية.
وأعني حاصل قوله :{وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} .
وقوله: {ذَلِكَ} :إشارة إلى المذكور في الكلام السابق من قوله: {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} استعير للشيء الذي لم يعلموه اسم الحد الذي يبلغ إليه السائر فلا يعلم ما بعده من البلاد.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} .
تعليل لجملة وهو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والخبر مستعمل في معنى أنه متولي حسابهم وجزائهم على طريقة الكناية، وفيه وعيد للضالين. والتوكيد المفاد ب {إِنَّ} وبضمير الفعل راجع إلى المعنى الكنائي، وأما كونه تعالى أعلم بذلك فلا مقتضى لتأكيدها لما كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم. والمعنى: هو أعلم منك بحالهم.
وضمير الفصل مفيد القصر وهو قصر حقيقي. والمعنى: أنت لا تعلم دخائلهم فلا تتحسر عليهم.
وجملة {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} تتميم، وفيه وعد للمؤمنين وبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم. والباء في ب {مَنْ ضَلَّ} في ب {مَنِ اهْتَدَى} لتعدية صفتي {أَعْلَمُ} وهي للملابسة، أي هو أشهد علما ملابسا لمن ضل عن سبيله، أي ملابسا لحال هذا المقام، وأما ذكر المهتدين فتتميم.
[31 -32] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [31] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [31] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} .
عطف على قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} الخ فبعد أن ذكر أن لله أمور الدارين بقوله {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [لنجم:25] انتقل إلى أهم ما يجزي في
الدارين من أحوال الناس الذين هم أشرف ما على الأرض بمناسبة قوله : {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [لنجم: 30] المراد به الإشارة إلى الجزاء وهو إثبات لوقوع البعث والجزاء.
فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله: {وَمَا فِي الْأَرْضِ} لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله : {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} الآية مقترنا بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر.
فيجوز أن يتعلق قوله: {لِيَجْزِيَ} بما في الخبر من معنى الكون المقدر في الجار والمجرور المخبر به عن{مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي كائن ملكا لله كونا علته أن يجزي الذين أساءوا والذين أحسنوا من أهل الأرض، وهم الذين يصدر منهم الإساءة والإحسان فاللام في قوله {ليجزي} لام التعليل، جعل الجزاء علة لثبوت ملك الله لما في السماوات والأرض.
ومعنى هذا التعليل أن من الحقائق المرتبطة بثبوت ذلك الملك ارتباطا أوليا في التعقل والاعتبار لا في إيجاد، فأن ملك الله لما في السماوات وما في الأرض ناشىء عن إيجاد الله تلك المخلوقات والله حين أوجدها عالم إن لها حياتين وإن لها أفعالا حسنة وسيئة في الحياة الدنيا وعالم أنه مجزيها على أعمالها بما يناسبها جزاء خالدا في الحياة الآخرة فلا جرم كان الجزاء غاية لإيجاد على الأرض فاعتبر هو العلة في إيجادهم وهي علة باعثة يحتمل أن يكون معها غيرها لأن العلة الباعثة يكمن تعددها في الحكمة.
ويجوز أن يتعلق بقوله: {أَعْلَمُ} من قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [النجم: 30]، أي من خصائص علمه الذي لا يعزب عنه شيء أن يكون علمه مرتبا عليه الجزاء.
والباء في قوله: {بِمَا عَمِلُوا} وقوله: {بِالْحُسْنَى} لتعديد فعلي {لِيَجْزِيَ} و {يَجْزِي} فما بعد الباءين في معنى مفعول الفعلين، فهما داخلتان على الجزاء وقوله: {بِمَا عَمِلُوا} حين إذ تقديره: بمثل ما عملوا، أي جزاء عاملا مماثلا لما عملوا، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ.
وقوله: {بِالْحُسْنَى} أي بالمثوبة الحسنى، أي بأفضل مما عملوا، وفيه إشارة مضاعفة الحسنات كقوله {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل:89]. والحسنى: صفة لموصوف محذوف يدل عليه {يَجْزِي} وهي المثوبة بمعنى الثواب.
وجاء ترتيب التفصيل لجزاء المسيئين والمحسنين على وفق ترتيب إجماله الذي في قوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} على طريقة اللف والنشر المرتب.
وقوله: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ} الخ صفة {الَّذِينَ أَحْسَنُوا} ، أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإثم والفواحش، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات، وذلك جامع التقوى. وهذا تنبيه على أن اجتناب ما ذكر يعد من الإحسان لأن الفعل السيئات ينافي وصفهم بالذين احسنوا فانهم إذا آتوا بالحسنات كلها ولم يتركوا السيئات كان فعلهم السيئات غير إحسان ولو تركوا السيئات وتركوا الحسنات كان تركهم الحسنات السيئات.
وقرأ الجمهور {كَبَائِرَ الْأِثْمِ} بصيغة جمع كبيرة . وقرأه حمزة والكسائي {كَببيرَ الْأِثْمِ} بصيغة الإفراد والتذكير لأن اسم الجنس يستوي فيه المفرد والجمع.
والمراد بكبائر الإثم: الآثام الكبيرة فيما شرع الله وهي ما شدد دين التحذير منه أو ذكر وعيدا بالعذاب أو وصف على فاعله حدا.
قال إمام الحرمين: الكبائر كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين وبرقة ديانته.
وعطف الفواحش يقتضي أن المعطوف بها مغاير للكبائر ولكنها مغايرة بالعموم والخصوص الوجهي، فالفواحش أخص من الكبائر وهي أقوى إثما.
والفواحش: الفعلات التي يعد الذي فعلها متجاوزا الكبائر مثل الزنى والسرقة وقتل الغيلة، وقد تقدم في تفسير ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [لأعراف: 33] الآية وفي سورة النساء[ 13] في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} .
واستثناء اللمم استثناء منقطع لأن اللمم ليس من كبائر الإثم ولا من الفواحش.
فالاستثناء بمعنى الاستدراك. ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر
منها في الدين، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإثم فلذلك حق الاستدراك، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة: أما العمة فلكي لا يعامل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يفل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم ولينصرف اهتمام إلى تجنب الكبائر. فهذا الاستدراك بشارة لهم، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم. وقد أخطأ وضاح اليمن في قوله الناشىء عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته:
فما نولت حتى تضرعت عندها ... وأنبأتها ما رخص الله في اللمم
واللمم: الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم، وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفي منهم بعدم الإكثار من ارتكابه. وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر. بالكبائر.
فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة. سمي: اللمم، وهو اسم مصدر ألم بالمكان إلماما إذا حل به ولم يطل المكث، ومن أبيات الكتاب:
قريشي منكم وهواي معكم ... وإن كانت زيارتكم لماما
وقد قيل إن هذه الآية نزلت في رجل يسمى نبهان التمار كان له دكان يبيع فيه تمرا أي بالمدينة فجاءته امرأة تشتري تمرا فقال لها: إن داخل الدكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها على نفسها فأبت فندم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته أي غصبا عليها إلا الجماع" ، فنزلت هذه الآية، أي فتكون هذه الآية مدنية ألحقت بسورة النجم المكية كما تقدم في أول السورة.
والمعنى: أن الله تجاوز له لأجل توبته. ومن المفسرين من فسر اللمم بالهم بالسيئة ولا يفعل فهو إلمام مجازي.
وقوله {إِن َّرَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} تعليل لاستثناء اللمم من اجتنابهم كبائر الإثم والفواحش شرطا في ثبوت وصف {الَّذِينَ أَحْسَنُوا} لهم.
وفي بناء الخبر على جعل المسند إليه: {رَبُّكَ} دون الاسم العلم إشعار بأن سعة المغفرة رفق بعباده الصالحين شأن الرب مع مربوبه الحق.
وفي إضافة "رب" إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم دون ضمير الجماعة إيماء إلى أن هذه العناية بالمحسنين من أمته قد حصلت لهم ببركته.
والواسع: الكثير المغفرة، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحل فيه قال تعالى {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً} وتقدم في سورة غافر [7].
{هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمَْجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .
الخطاب للمؤمنين، ووقوعه عقب قوله {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} ينبئ عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير موجه لليهود كما في أسباب النزول للواحدي وغيره. وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري. قال: كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون: هو صديق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد" ، فأنزل الله هذه الآية. وعبد الله بن لهيعة ضعفه ابن معين وتركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي. وقال الذهبي: العمل على تضعيفه، قلت: لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال: فانزل الله هذه الآية، وإنما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذا بعموم قوله {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الخ، حجة عليهم، وإلا فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة.
وقال ابن عطية: حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم. وكأن الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عما لو أخذهم به لأحرجهم فقوله {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} نظير قوله {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [لأنفال: 66] الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} .
فينبغي أن تحل جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إلى آخرها استئنافا بيانيا} لجملة {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} لما تضمنته جملة {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} من الامتنان، فكأن السامعين لما يسمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم، ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيرا من بله ما اطلعتم عليه" .
وقوله {إِذْ أَنْشَأَكُمْ} ظرف متعلق ب {أَعْلَمُ} أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم.
والمعنى: أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الأمم. وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإسراء من قول موسى لمحمد عليهما السلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة إن أمتك لا تطيق ذلك وأني جربت بني إسرائيل أي وهم أشد من أمتك قوة، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقررفي علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء:28]، فإن إنشاء أصل الإنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إن المرأة خلقت من ضلع أعوج" .
وقوله {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو مقتضى قوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
والأجنة: جمع جنين، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث.
و {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه.
وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيرا باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار.
وجملة {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} اعتراض بين جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} وجملة {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [لنجم:33] الخ، والفاء لتفريع الاعتراض، وهو تحذير للمؤمنين من العجب بأعمالهم الحسنة عجبا يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحد على غيره بالثناء عليه بعمله.
و {تُزَكُّوا} مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جهله، أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة.
فقوله {أَنْفُسَكُمْ} صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله {فَلا تُزَكُّوا} إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل: ركب القوم دوابهم.
والمعنى: لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولا تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها، أو إظهارها للناس، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]. وعن الكلبي ومقاتل: كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع {أَنْفُسَكُمْ} إلى معنى قومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] أي ليسلم بعضكم على بعض. والمعنى: فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيره ذلك.
وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم. ومنه حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم عطية رحمة الله عليك أبا السائب كنية عثمان بن مظعون فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك أن الله أكرمه" ، فقالت: إذا لم يكرمه الله فمن يكرمه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي" . قالت أم عطية: فلا أزكي أحدا بعد ما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون: إذ أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيرا ولا أزكي على الله أحدا.
وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال: سميت ابنتي برة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الاسم. وسميت برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم" ، قالوا: بم نسميها? قال: "سموها زينب" .
وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس، أي طهارتها وصلاحها، تفويضا بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفة الموافقة لظواهرهم وبين أنواعها بون. وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخبرة واتهام القرائن والبوارق.
فلا يدخل في هذا النهي الإخبار عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثلما أريد من قوله تعالى {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن
ومرادهم منه واضح.
ووقعت جملة {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} موقع البيان لسبب النهي أو لأهم أسبابه، أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها. وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير لا أزكي على الله أحدا أي لا أزكي أحدا معتليا حق الله، أي متجاوزا قدري.
[33-35] {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} .
الفاء لتفريع الاستفهام التعجيبي على قوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [لنجم: 31] إذ كان حال هذا الذي تولى وأعطى قليلا وأكدا جهلا بأن للإنسان ما سعى، وقد حصل في وقت نزول الآية المتقدمة أو قبلها حادث أنبأ عن سوء الفهم لمراد الله من عباده مع أنه واضح لمن صرف حق فهمه. ففرع على ذلك كله تعجيب من انحراف أفهامهم.
فالذي تولى وأعطى قليلا هو هنا ليس فريقا مثل الذي عناه قوله {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [لنجم: 29] بل هو شخص بعينه. واتفق المفسرون والرواة على أن المراد به هنا معين، ولعل ذلك وجه التعبير عنه بلفظ {الَّذِي} دون كلمة {مَنْ} لأن {الَّذِي} أظهر في الإطلاق على الواحد المعين دون لفظ {مَنْ} .
واختلفوا في تعيين هذا {الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلاً} ، فروى الطبري والقرطبي عن مجاهد وابن زيد أن المراد به الوليد بن المغيرة قالوا: كان يجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويستمع إلى قراءته وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعظه فقارب أن يسلم فعاتبه رجل من المشركين لم يسموه وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار كان ينبغي أن تنصرهم فكيف يفعل بآبائك فقال : إني خشيت عذاب الله فقال: اعطني شيئا وأنا أحمل عنك كل عذاب كان عليك فأعطاه ولعل ذلك كان عندهم التزاما يلزم ملتزمه وهم لا يؤمنون بجزاء الآخرة فلعله تفادى من غضب الله في الدنيا ورجع إلى الشرك ولما سأله الزيادة بخل عنه وتعاسر وأكدى.
وروى القرطبي عن السدي: أنها نزلت في العاصي بن وائل السهمي، وعن محمد بن كعب: نزلت في أبي جهل، وعن الضحاك: نزلت في النضر بن الحارث.
ووقع في أسباب النزول للواحدي والكشاف أنها نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي السرح حين صد عثمان بن عفان عن نفقة في الخير كان ينفقها أي قبل أن يسلم عبد الله بن سعد رواه الثعلبي عن قوم.قال ابن عطية: وذلك باطل وعثمان منزه عن مثله, أي عن أن يصغي إلى ابن أبي سرح فيما صده. فأشار قوله تعالى {الَّذِي تَوَلَّى} إلى أنه تولى عن النظر في الإسلام بعد أن قاربه.
وأشار قوله {وَأَعْطَى قَلِيلاً وَأَكْدَى} إلى ما أعطاه للذي يحمله عنه العذاب.
وليس وصفه ب {تَوَلَّى} داخلا في التعجيب ولكنه سيق مساق الذم، ووصف عطاؤه بأنه قليل توطئة لذمه بأنه مع قلة ما أعطاه قد شح به فقطعه. وأشار قوله {وَأَكْدَى} إلى بخله وقطعه العطاء يقال: أكدى الذي يحفر، إذا اعترضته كدية أي حجر لا يستطيع إزالته. وهذه مذمة ثانية بالبخل زيادة على بعد الثبات على الكفر فحصل التعجيب من حال الوليد كله تحقيرا لعقله وأفن رأيه. وقيل المراد بقوله {وَأَعْطَى قَلِيلاً} أنه أعطى من قبله وميله للإسلام قليلا وأكدى، أي انقطع بعد أن اقترب كما يكدى حافر البئر إذا اعترضته كدية.
والاستفهام في {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} إنكاري على توهمه أن استئجار أحد ليتحمل عنه عذاب الله ينجيه من العذاب، أي ما عنده علم الغيب. وهذا الخبر كناية عن خطئه فيما توهمه.
والجملة استئناف بياني للاستفهام التعجيبي من قوله {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} الخ.
وتقديم {َعِنْدَهُ} وهو مسند على {عِلْمُ الْغَيْبِ} وهو مسند إليه للاهتمام بهذه العندية العجيب ادعاؤها، والإشارة إلى بعده عن هذه المنزلة.
وعلم الغيب: معرفة العوالم المغيبة، أي العلم لاصل من أدلة فكأنه شاهد الغيب بقرينة قوله {فَهُوَ يَرَى} .
وفرع على هذا التعجيب قوله {فَهُوَ يَرَى} أي فهو يشاهد أمور الغيب، بحيث عاقد على التعارض في حقوقها. والرؤية في قوله {فَهُوَ يَرَى} بصرية ومفعولها محذوف، والتقدير: فهو يرى الغيب.
والمعنى: أنه آمن نفسه من تبعة التولي عن الإسلام ببذل شيء لمن تحمل عنه تبعة
توليه كأنه يعلم الغيب ويشاهد أن ذلك يدفع عنه العقاب، فقد كان فعله ضغثا على إبالة لأنه ظن أن التولي جريمة، وما بذل المال إلا لأنه توهم أن الجرائم تقبل الحمالة في الآخرة.
وتقديم الضمير المسند إليه على فعله المسند دون أن يقول: فيرى، لإفادة تقوي الحكم، نحو: هو يعطي الجزيل. وهذا التقوي بناء على ما أظهر من اليقين بالصفقة التي عاقد عليها وهو أدخل في التعجيب من حاله.
[36-38] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى [36] وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [37] أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} .
{أَمْ} لإضراب الانتقال إلى متعجب منه وإنكار عليه آخر وهو جهله بما عليه أن يعلمه الذين يخشون الله تعالى من علم ما جاء على ألسنة الرسل الأولين فإن كان هو لا يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فهلا تطلب ما أخبرت به رسل من قبل، طالما ذكر هو وقومه أسمائهم وشرائعهم في الجملة، وطالما سأل هو وقومه أهل الكتاب عن أخبار موسى، فهلا سأل عما جاء عنهم في هذا الغرض الذي يسعى إليه وهو طلب النجاة من عذاب الله فينبئه العاملون، فإن مآثر شريعة إبراهيم مأثور بعضها عند العرب، وشريعة موسى معلومة عند اليهود. فالاستفهام المقدر بعد {أَمْ} إنكار مثل الاستفهام المذكور قبلها في قوله {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ} والتقدير: بل ألم ينبأ بما في صحف موسى الخ.
و {صُحُفِ وَمُوسَى} . : هي التوراة، وصحف {إِبْرَاهِيمَ} : صحف سجل فيها ما أوحى الله إليه، وهي المذكورة في سورة الأعلى[18، 19] {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} . وروى ابن حيان والحاكم عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكتب التي أنزلت على الأنبياء فذكر له منها عشرة صحائف أنزلت على إبراهيم، أي أنزل عليه ما هو مكتوب فيها.
وإنما خص هذه الصحف بالذكر لأن العرب يعرفون إبراهيم وشريعته ويسمونها الحنيفية وربما ادعى بعضهم أنه على إثارة منها مثل: زيد بن عمرو بن نفيل.
وأما صحف موسى فهي مشتهرة عند أهل الكتاب، والعرب يخالطون اليهود في خيبر وقريظة والنضير وتيما، ويخالطون نصارى نجران، وقد قال الله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48].
وتقديم {صُحُفِ وَمُوسَى} لأنها اشتهرت بسعة ما فيها من الهدى والشريعة، وأما صحف إبراهيم فكان المأثور منها أشياء قليلة. وقدرت بعشر صحف، أي مقدار عشر ورقات بالخط القديم، تسع الورقة قرابة أربع آيات من آي القرآن بحيث يكون مجموع ملفي صحف إبراهيم مقدار أربعين آية.
وإنما قدم في سورة الأعلى صحف إبراهيم على صحف موسى مراعاة لوقوعهما بدلا من الصحف الأولى فقدم في الذكر أقدمها.
وعندي أن تأخير صحف إبراهيم ليقع ما بعدها هنا جامعا لما احتوت عليه صحف إبراهيم فتكون صحف إبراهيم هي الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم الذكورة في قوله في سورة البقرة [124] {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} أي بلغهن إلى قومه ومن آمن به، ويكون قوله هنا {الَّذِي وَفَّى} وفي معنى قوله {فَأَتَمَّهُنَّ} في سورة البقرة[124].
ووصف إبراهيم بذلك تسجيل على لمشركين بأن إبراهيم بلغ ما أوحي إليه إلى قومه وذريته ولكن العرب أهملوا ذلك واعتاضوا عن الحنفية بالإشراك.
وحذف متعلق {وَفَّى} ليشمل توفيات كثيرة منها ما في قوله تعالى {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} وما في قوله تعالى {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [الصافات: 105].
وقوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} يجوز أن يكون بدلا من ما في صحف موسى وإبراهيم بدل مفصل من مجمل، فتكون "أن" مخففة من الثقيلة. والتقدير: أم لم ينبأ بأنه لا تزر وازرة وزر أخرى.
ويجوز أن تكون "أن" تفسيرية فسرت ما في صحف موسى وإبراهيم لأن ما من الصحف شيء مكتوب والكتابة فيها معنى القول دون حروفه فصلح ما في صحف موسى لأن تفسره "أن" التفسيرية. وقد ذكر القرطبي عند تفسير قوله تعالى {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] في هذه السورة عن السدي عن أبي صالح قال هذه الحروف التي ذكر الله تعالى من قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ} إلى قوله {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [لنجم:56] كل هذه في صحف إبراهيم وموسى.و {تَزِرُ} من مضارع وزر، إذا فعل وزرا.
وتأنيث {وَازِرَةٌ} بتأويل:نفس،وكذلك تأنيث {أخْرَى} ، ووقع نفس
و{أخْرَى}، في سياق النفي يفيد العموم فيشم نفي ما زعمه الوليد ابن المغيرة من تحمل الرجل عنه عذاب الله.
وهذا مما كان في صحف إبراهيم، ومنه ما حكى الله في قوله {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87، 89].
وحكي في التوراة عن إبراهيم أنه قال في شأن قوم لوط أفتهلك البار مع الآثم .
وأما نظيره في صحف موسى ففي التوراة1 لا يقتل الآباء عن الأولاد لا يقتل الأولاد عن الآباء كل إنسان بخطيئته يقتل . وحكى الله عن موسى قوله {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155]. وعموم لفظ {وِزْرَ} يقتضي إطراد الحكم في أمور الدنيا وأمور الآخرة.
وأما قوله في التوراة2 أن الله قال أفتقد الأبناء بذنوب الآباء إلى الجيل الثالث فذلك في ترتيب المسببات على الأسباب الدنيوية وهو تحذير.
وليس حمل المتسبب في وزر غيره حملا زائدا على وزره من قبيل تحمل وزر الغير، ولكنه من قبيل زيادة العقاب لأجل تضليل الغير، قال تعالى {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: 25]. وفي الحديث "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها، ذلك أنه أول من سن القتل"
[39] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .
عطف على جملة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم:38] فيصح أن تكون عطفا على المجرور بالباء فتكون "أن" مخففة من الثقيلة، ويصح أن تكون عطفا على {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فتكون {أَنْ} تفسيرية، وعلى كلا الاحتمالين تكون {أَنْ} تأكيدا لنظيرتها في المعطوف عليها.
وتعريف {الإنسان} تعريف الجنس، ووقوعه في سياق النفي يفيد العموم، والمعنى: لا يختص به إلا ما سعاه.
ـــــــ
1 سفر التثنية إصحاح 24.
2 سفر الخروج إصحاح 20.
والسعي: العمل والاكتساب، وأصل السعي: المشي، فأطلق على العمل مجازا مرسلا أو كناية. والمراد هنا عمل الخير بقرينة ذكر لام الاختصاص وبأن جعل مقابلا لقوله {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38].
والمعنى: لا تحصل لأحد فائدة عمل إلا ما عمله بنفسه، فلا يكون عمل غيره، ولام الاختصاص يرجع أن المراد ما سعاه من الأعمال الصالحة، وبذلك يكون ذكر هذا تتميما لمعنى {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} احتراسا من أن يخطر بالبال أن المدفوع عن غير فاعله هو الوزر، وإن الخير ينال غير فاعله.
ومعنى الآية محكي في القرآن عن إبراهيم في قوله عنه {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:89].
وهذه الآية حكاية عن شرعي إبراهيم وموسى، وإذ قد تقرر أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، تدل هذه الآية على أن عمل أحد لا يجزئ عن أحد فرضا أو نفلا على العين، وأما تحمل أحد حمالة لفعل فعله غيره مثل ديات القتل الخطأ فذلك من المؤاساة المفروضة.
واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ومحملها: فعن عكرمة أن قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} حكاية عن شريعة سابقة فلا تلزم في شريعتنا يريد أن شريعة الإسلام نسخت ذلك فيكون قبول عمل أحد عن غيره من خصائص هذه الأمة.
وعن الربيع بن أنس أنه تأول الإنسان في قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} ب الإنسان الكافر، وأما المؤمن فله سعيه وما يسعى له غيره.
ومن العلماء من تأول الآية على أنها نفت أن تكون للإنسان فائدة ما عمله غيره، إذا لم يجعل الساعي عمله لغيره. وكأن هذا ينحو إلى أن استعمال {سَعَى} في الآية من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه العقليين. ونقل ابن الفرس: أن من العلماء من حمل الآية على ظاهرها وأنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، ويؤخذ من كلام ابن الفرس أن ممن قال بذلك الشافعي في أحد قوليه بصحة الإجارة على الحج.
واعلم أن أدلة لحاق ثواب بعض العمال إلى غير من عملها ثابتة على الجملة وإنما تتردد الأنظار في التفصيل أو التعميم، وقد قال اله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] وقد بيناه في
تفسير سورة الطور. وقال تعالى {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف:70]، فجعل أزواج الصالحين المؤمنات وأزواج الصالحات المؤمنين يتمتعون في الجنة مع أن التفاوت بين الأزواج في الأعمال ضروري وقد بيناه في تفسير سورة الزخرف.
وفي حديث مسلم "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعوا له" وهو عام في كل ما يعمله الإنسان، ومعيار عمومه الاستثناء فالاستثناء دليل عن أن المستثنيات الثلاثة هي من عمل الإنسان. وقال عياض في الإكمال هذه الأشياء لما كان هو سببها فهي من اكتسابه. قلت: وذلك في الصدقة الجارية وفي العلم الذي بثه ظاهر، وأما في دعاء الولد الصالح لأحد أبويه فقال النووي لأن الولد من كسبه. قال الأبي: الحديث "ولد الرجل من كسبه"1 فاستثناء هذه الثلاثة متصل.
وثبتت أخبار صحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن عمل أحد عن آخر يجزى عن المنوب عنه، ففي الموطأ حديث الفضل بن عباس أن امرأة من خثعم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة أفيجزئ أن أحج عنه? قال: "نعم حجي عنه". وفي قولها: لا يثبت على الرحلة دلالة على أن حجها عنه كان نافلة.
وفي كتاب أبي داود حديث بريدة أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفيجزئ أو يقضي عنها أن أصوم عنها? قال: "نعم" . قالت: وإنها لم تحج أفيجزئ أو يقضي أن أحج عنها? قال: "نعم" .
وفيه أيضا حديث ابن عباس أن رجلا قال: يا رسول الله إن أمي توفيت أفينفعها إن تصدقت عنها? قال: "نعم" .
وفي حديث عمرو بن العاص وقد اعتق أخوه هشام عن أبيهم العاص بن وائل عبيدا فسأل عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يفعل مثل فعل أخيه فقال له: "لو كان أبوك مسلما فأعتقتم عنه أو تصدقتم عنه أو حججتم عنه بلغه ذلك" .
وروي أن عائشة أعتقت عن أخيها عبد الرحمن بعد موته رقابا واعتكفت عنه.
ـــــــ
1 رواه أبو داود.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر وابن عباس أنهما أفتيا امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بمسجد قباء ولم تف بنذرها أن تصلي عنها بمسجد قباء.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد ابن عبادة أن يقضي نذرا نذرته أمه، قيل كان عتقا، وقيل صدقة، وقيل نذرا مطلقا.
وقد كانت هذه الآية وما ثبت من الأخبار مجالا لأنظار الفقهاء في الجمع بينهما والأخذ بظاهر الآية وفي الاقتصار على نوع ما ورد فيه الإذن من النبي صلى الله عليه وسلم أو القياس عليه.
ومما يجب تقديمه أن تعلم أن التكاليف الواجبة على العين فرضا أو سنة مرتبة المقصد من مطالبة المكلف بها ما يحصل بسببها من تزكية نفسه ليكون جزءا صالحا فإذا قام بها غيره عنه فات المقصود من مخاطبة أعيان المسلمين بها، وكذا اجتناب المنهيات لا تتصور فيها النيابة لأن الكف لا يقبل التكرر فهذا النوع ليس للإنسان فيه إلا ما سعى ولا تجزىء فيه نيابة غيره عنه في أدائها فأما الإيمان فأمره بين لأن ماهية الإيمان لا يتصور فيها التعدد بحيث يؤمن أحد عن نفسه ولا يؤمن من غيره لأنه إذا اعتقد اعتقادا جازما فقد صار ذلك إيمانه. قال ابن الفرس في أحكام القرآن: أجمعوا على أنه لا يؤمن أحد عن أحد.
وأما ما عدا الإيمان من شرائع الإسلام الواجبة فأما ما هو منها من عمل الأبدان فليس للإنسان إلا ما سعى منه ولا يجزئ عنه سعي غيره لأن المقصود من الأمور العينية المطالب بها المرء بنفسه هو ما فيها من تزكية النفس وارتياضها على الخير كما تقدم آنفا.
ومثل ذلك الرواتب من النوافل والقربات حتى يصلح الإنسان ويرتاض على مراقبة ربه بقلبه وعمله والخضوع له تعالى ليصلح بصلاح الأفراد صلاح مجموع الأمة والنيابة تفيت هذا المعنى.
فما كان من أفعال الخير غير معين بالطلب كالقرب النافلة فإن فيه مقصدين مقصد ملحق بالمقصد الذي في الأعمال المعينة بالطلب، ومقصد تكثير الخير في جماعة المسلمين بالأعمال والأقوال الصالحة وهذا الاعتبار الثاني لا تفيته النيابة.
والتفرقة بين ما كان من عمل الإنسان ببدنه وما كان من عمله بماله لا أراه فرقا مؤثرا في هذا الباب، فالوجه اطراد القول في كلا النوعين بقبول النيابة أو بعدم قبولها:
من صدقات وصيام ونوافل الصلوات وتجهيز الغزاة للجهاد غير المتعين على المسلم المجهز بكسر الهاء ولا على المجهز بفتح الهاء، والكلمات الصالحة في قراءة القرآن وتسبيح وتحميد ونحوهما وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وبهذا يكون تحرير محل ما ذكره ابن الفرس من الخلاف في نقل عمل أحد إلى غيره.
قال النووي الدعاء يصل ثوابه إلى الميت وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما. وكذلك قضاء الدين اه. وحكى ابن الفرس مثل ذلك، والخلاف بين علماء الإسلام فيما عدا ذلك.
وقال مالك: يتطوع عن الميت فيتصدق عنه أو يعتق عنه أو يهدي عنه، وأما من كان من القرب الواجبة مركبا من عمل البدن وإنفاق المال مثل الحج والعمرة والجهاد فقال الباجي: حكى القاضي عبد الوهاب عن المذهب أنها تصح النيابة فيها وقال ابن القصار: لا تصح النيابة فيها. وهو المشتهر من قول مالك ومبنى اختلافهما أن مالكا كره أن يحج أحد عن أحد إلا أنه إن أوصى بذلك نفذت وصيته ولا تسقط الفرض.
ورجح الباجي القول بصحة النيابة في ذلك بأن مالكا أمضى الوصية بذلك، وقال: لا يستأجر له إلا من حج عن نفسه فلا يحج عنه صرورة، فلوا أن حج الأجير على وجه النيابة عن الموصي لما اعتبرت صفة المباشر بالحج. قال ابن الفرس: أجاز مالك الوصية بالحج الفرض، ورأى أنه إذا أوصى بذلك فهو من سعيه. والمحرر من مذهب الحنفية صحة النيابة في الحج لغير القادر بشرط دوام عجزه إلى الموت فإن زال عجزه وجب عليه الحج بنفسه، وقد ينقل عن أبي حنيفة غير ذلك في كتب المالكية.
وجوز الشافعي الحج عن الميت ووصية الميت بالحج عنه. قال أبن الفرس: وللشافعي في أحد قوليه أنه لا يجوز واحتج بقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} اه.
ومذهب احمد بن حنبل جوازه ولا تجب عليه إعادة الحج إن زال عذره.
وأما القرب غير الواجبة وغير الرواتب من جميع أفعال البر والنواف؛ فأما الحج عن غير المستطيع فقال الباجي: قال ابن الجلاب في التفريع يكره أن يستأجر من يحج عنه فإن فعل ذلك لم يفسخ وقال ابن القصاب: يجوز ذلك في الميت دون المعضوب وهو العاجز عن النهوض. وقال ابن حبيب قد جاءت الرخصة في ذلك عن الكبير الذي لا
ينهض وعن الميت أنه يحج عنه ابنه وإن لم يوص به.
وقال الأبي في شرح مسلم: ذكر أن الشيخ ابن عرفة عام حج اشترى حجة للسلطان أبي العباس الحفصي على مذهب المخالف، أي خلافا لمذهب مالك.
وأما الصلاة والصيام فسئل مالك عن الحج عنة الميت فقال: أما الصلاة والصيام والحج عنه فلا نرى ذلك. وقال في المدونة: يتطوع عنه بغير هذا أحب إلي: يهدى عنه، أو يعتق عنه. قال الباجي: ففصل بينها وبين النفقات.
وقال الشافعي في أحد قوله: لا يصله ثواب الصلوات التطوع وسائر التطوعات. قال صاحب التوضيح من الشافعية: وعندنا يجوز الاستنابة في حجة التطوع على أصح القولين، وقال أحمد: يصله ثواب الصلوات وسائر التطوعات.
والمشهور من مذهب الشافعي: أن قراءة القرآن وإهداء ثوابها للميت لا يصله ثوابها، وقال أحمد بن حنبل وكثير من أصحاب الشافعي يصله ثوابها.
وحكى ابن الفرس عن مذهب مالك: أن من قرأ ووهب ثوان قراءته لميت جاز ذلك ووصل للميت أجره ونفعه فما ينسب إلى مالك من عدم جواز إهداء ثواب القراءة في كتب المخالفين غير محرر.
وقد ورد في حديث عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوذ نفسه بالمعوذات فلما ثقل به المرض كنت أنا أعوذ بهما وأضع يده على جسده رجاء بركتها فهل قراءة المعوذتين إلا نيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يفعله بنفسه، فإذا صحت النيابة في التعوذ والتبرك بالقرآن فلماذا لا تصح في ثواب القراءة.
وأعلم أن هذا كله في تطوع أحد عن أحد بقربة، وأما الاستئجار على النيابة في القرب: فأما الحج فقد ذكروا فيه جواز الاستئجار بوصية، أو بغيرها، لأن الإنفاق من مقومات الحج، ويظهر أن كل عبادة لا يجوز أخذ فاعلها أجرة على فعلها كالصلاة والصوم لا يصح الاستئجار على الاستنابة فيها، وأن القرب التي يصح أخذ الأخذ عليها يصح الاستئجار على النيابة فيها مثل قراءة القرآن، فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم فعل الذين أخذوا أجرا على رقية الملدوغ بفاتحة الكتاب.
وإذا علمت هذا كله فقوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} وهو حكم كان في شريعة سالفة، فالقائلون بأنه لا ينسحب علينا لم يكن فيما ورد من الأخبار بصحة
النيابة في الأعمال في ديننا معارض لمقتضى الآية، والقائلون بأن شرع غيرنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، منهم من أعمل عموم الآية وتأول الأخبار المعارضة لها بالخصوصية، ومنهم جعلها مخصصة للعموم، أو ناسخة، ومنهم من تأول ظاهر الآية بأن المراد ليس له ذلك حقيقة بحيث يعتمد على عمله، أو تأول السعي بالنية. وتأول اللام في قوله {لِلْإِنْسَانِ} بمعنى على، أو ليس عليه سيئات غيره.
وفي تفسير سورة الرحمان من الكشاف: أن عبد الله بن طاهر قال للحسين بن الفضل: أشكلت علي ثلاث آيات.فذكر له منها قوله تعالى {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} فما بال الأضعاف، أي قوله تعالى {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كثيرة} [البقرة:245]، فقال الحسين: معناه أنه ليس له إلا ما سعى عدلا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا1.
[40، 41] {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى [40] ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} ,
يجوز أن تكون عطفا على جملة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [لنجم:38] فهي من تمام تفسير {مَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ} [ النجم:36، 37] فيكون تغيير الأسلوب إذ جيء في هذه الآية بحرف {أَنَّ} المشددة لاقتضاء المقام عن يقع الإخبار عن سعي الإنسان بأنه يعلن به يوم القيامة وذلك من توابع أن ليس له إلا ما سعى، فلما كان لفظ {وَأَنَّ سَعْيَهُ} صالحا للوقوع اسما لحرف {أَنَّ} زال مقتضىاجتلاب ضمير الشأن فزال مقتضي "أن" المخففة. وقد يكون مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم ما حكاه الله عنه من قوله: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87].
ويجوز أن لا يكون في قوله مضمون قوله {وَأَنَّ سَعْيَهُ} مشمولا لما في صحف موسى وإبراهيم فعطفه على"ما" الموصولة من قوله : {بما َفِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ} [النجم:36،37]، عطف المفرد على المفرد فيكون معمولا لباء الجر في قوله: {فِي صُحُفِ مُوسَى} الخ, والتقدير: لم ينبأ بأن سعي الإنسان سوف يرى، أي لا بد أن يرى، أي يجازى عليه، أي لم ينبأ بهذه الحقيقة الدينية وعليه فلا نتطلب ثبوت مضمون هذه الجملة في شريعة إبراهيم عليه السلام.
و {سَوْفَ} حرف استقبال والأكثر أن يراد به المستقبل البعيد.
ـــــــ
1 انظر: ما يأتي عند قوله تعالى : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} في سورة [الرحمن: 29]
ومعنى {يُرَى} : يشاهد عند الحساب كما في قوله تعالى {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49] فيجوز أن تجسم الأعمال فتصير مشاهدة وأمور الآخرة مخالفة لمعتاد أمور الدنيا. ويجوز أن تجعل علامات على الأعمال يعلن بها عنها كما في قوله تعالى {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8] وما في الحديث "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة فيقال: هذه غدرة فلان" فيقدر مضاف تقديره: وأن عنوان سعيه سوف يرى.
ويجوز أن يكون ذلك بإشهار العمل والسعي كما في قوله تعالى {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} [لأعراف: 49] الآية، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من سمع بأخيه فيما يكره سمع الله به سامع خلقه يوم القيامة" ، فتكون الرؤية مستعارة للعلم لقصد تحقق العلم وإشهاره.
وحكمة ذلك تشريف المحسنين بحسن السمعة وانكسار المسيئين بسوء الأحدوثة.
وقوله {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} وهو المقصود من الجملة.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن حصول الجزاء أهم من إظهاره أو إظهار المجزي عنه.
وضمير النصب في قوله {يُجْزَاهُ} عائد إلى السعي، أي يجزى عليه، أو يجزى به فحذف حرف الجر ونصب على نزع الخافض فقد كثر أن يقال: جزاه عمله، وأصله: جزاه على عمله أو جزاه بعمله.
والأوفى: اسم تفضيل من الوفاء وهو التمام والكمال, والتفضيل مستعمل هنا في القوة، وليس المراد تفضيله على غيره. والمعنى: أن الجزاء على الفعل من حسن أو سيء موافق للمجزي عليه, قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 173] وقال {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] وقال {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} [النور: 39] وقال {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} [الإسراء: 63].
وانتصب {الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} على المفعول المطلق المبين للنوع.
وقد حكى الله عن إبراهيم {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء:87].
[42] {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} .
القول في موقعها كالقول في موقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم:40] سواء، فيجوز أن تكون هذه الجملة معطوفة على جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} فتكون تتمة لما في صحف موسى وإبراهيم، ويكون الخطاب في قوله {إِلَى رَبِّكَ} التفاتا من الغيبة إلى الخطاب والمخاطب غير معين فكأنه قيل: وأن إلى ربه المنتهى، وقد يكون نظيرها من كلام إبراهيم ما حكاه الله عنه بقوله {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات:99].
ويجوز أنها ليست مما اشتملت عليه صحف موسى وإبراهيم ويكون عطفها عطف مفرد على مفرد، فيكون المصدر المنسبك من {أَنَّ} ومعمولها مدخولا للباء، أي لم ينبأ بأن إلى ربك المنتهى، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وعليه فلا نتطلب لها نظيرا من كلام إبراهيم عليه السلام.
ومعنى الرجوع إلى الله الرجوع إلى حكمه المحض الذي لا تلابسه أحكام هي في الظاهر من تصرفات المخلوقات مما هو شأن أمور الدنيا، فالكلام على حذف مضاف دل عليه السياق.
والتعبير عن الله بلفظ {رَبِّكَ} تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم والتعريض بالتهديد لمكذبيه لأن شأن الرب الدفاع عن مربوبه.
وفي الآية معنى آخر وهو أن يكون المنتهى مجازا عن انتهاء السير، بمعنى الوقوف، لأن الوقوف انتهاء سير السائر، ويكون الوقوف تمثيلا لحال المطيع لأمر الله تشبيها لأمر الله الذي تحدد به الحوائط على نحو قول أبي الشيص:
وقف الهوي بي حيث أنت فليس لي ... متأخر عنه ولا متقدم
كما عبر عن هذا المعنى بالوقوف عند الحد في قوله تعالى {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 229]. والمعنى: التحذير من المخالفة لما أمر الله ونهى.
وفي الآية معنى ثالث وهو انتهاء دلالة الموجودات على وجود الله ووحدانيته لأن الناظر إلى الكائنات يعلم أن وجودها ممكن غبر واجب فلا بد لها من موجود، فإذا خليت الوسوسة للناظر أن يفرض للكائنات موجدا مما يبدو له من نحو الشمس أو القمر أو النار لما يرى فيها من عظم الفاعلية، لم يلبث أن يظهر له أن ذلك المفروض لا يخلو من تغير يدل على حدوثه فلا بد له من محدث أوجد فإذا ذهب الخيال يسلسل مفروضات الإلهية
كما في قصة إبراهيم {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] الآيات لم يجد العقل بدا من الانتهاء إلى وجوب وجود صانع لممكنات كلها، وجوده غير ممكن بل واجب، وأن يكون متصفا بصفات الكمال وهو الإله الحق, فالله هو المنتهى الذي ينتهي إليه استدلال العقل، ثم إذا لا ح له دليل وجود الخالق وأفضى به إلى إثبات أنه واحد لأنه لو كان متعددا لكان كل من المتعدد غير كامل الإلهية إذ لا يتصرف أحد المتعدد فيما قد تصرف فيه الآخر، فكان كل واحد محتاجا إلى الآخر ليرضى بإقراره على إيجاد ما أوجده، وإلا لقدر على نقض ما فعله، فيلزم أن يكون كل واحد من المتعدد محتاجا إلى من يسمح له بالتصرف، قال تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91] وقال {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء:42] وقال {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فانتهى العقل لا محالة إلى منتهى.
[43] {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} .
انتقال من الاعتبار بأحوال الآخرة إلى الاعتبار بأحوال الدنيا وضمير {هُوَ} عائد إلى {رَبُّكَ} من قوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النجم:42].
والضحك: أثر سرور النفس، والبكاء: أثر الحزن، وكل من اضحك والبكاء من خواص الإنسان وكلاهما خلق عجيب دال على انفعال عظيم في النفس.
وليس لبقية الحيوان ضحك ولا بكاء وما ورد من إطلاق ذلك على الحيوان فهو كالتخيل أو التشبيه كقول النابغة:
بكاء حماقة تدعو هديلا ... مطوقة على فنن تغني
ولا يخلو الإنسان من حالي حزن وسرور لأنه إذا لم يكن حزينا مغموما كان مسرورا لأن الله خلق السرور والانشراح ملازما للإنسان بسبب سلامة مزاجه وإدراكه لأنه إذا كان سالما كان نشيط الأعصاب وذلك النشاط تنشأ عنه المسرة في الجملة وإن كانت متفاوتة في الضعف والقوة، فذكر الضحك والبكاء يفيد الإحاطة بأحوال الإنسان بإيجاز ويرمز إلى أسباب الفرح والحزن ويذكر بالصانع الحكيم، ويبشر إلى أن الله هو المتصرف في الإنسان لأنه خلق أسباب فرحه ونكده وألهمه إلى اجتلاب ذلك بما في مقدوره وجعل حدا عظيما من ذلك خارجا على مقدور الإنسان وذلك لا يمتري فيه أحد إذا تأمل وفيه ما يرشد إلى
الإقبال على طاعة الله والتضرع إليه ليقدر للناس أسباب الفرح، ويدفع عنهم أسباب الحزن وإنما جرى ذكر هذا في هذا المقام لمناسبة أن الجزاء الأوفى لسعي الناس: بعضه سار لفريق وبعضه محزن لفريق آخر.
وأفاد ضمير الفصل قصرا لصفة خلق أسباب الضحك والبكاء على الله تعالى لإبطال الشريك في التصرف فتبطل الشركة في الإلهية، وهو قصر إفراد لأن المقصود نفي تصرف غير الله تعالى وإن كان هذا القصر بالنظر إلى نفس الأمر قصرا حقيقيا لإبطال اعتقاد أن الدهر متصرف.
وإسناد الإضحاك والإبكاء إلى الله تعالى لأنه خالق قوتي الضحك والبكاء في الإنسان، وذلك خلق عجيب ولأنه خالق طبائع الموجودات التي تجلب أسباب الضحك والبكاء من سرور وحزن.
ولم يذكر مفعول {ضْحَكَ وَأَبْكَى} لأن القصد إلى الفعلين لا إلى مفعوليهما فالفعلان منزلان منزلة اللازم، أي أوجد الضحك والبكاء.
ولما كان هذا الغرض من إثبات انفراد الله تعالى بالتصرف في الإنسان بما يجده الناس في أحوال أنفسهم من خروج أسباب الضحك والبكاء على قدرتهم تعين أن المراد: أضحك وأبكى في الدنيا, ولا علاقة لهذا بالمسرة والحزن الحاصلين في الآخرة.
وفي الاعتبار بخلق الشيء وضده إشارة دقائق حكمة الله تعالى.
وفي هذه الآية محسن الطباق بين الضحك والبكاء وهما ضدان.
وتقديم الضحك على البكاء لأن فيه امتنانا بزيادة التنبيه على القدرة وحصل بذلك مراعاة الفاصلة.
وموقع هذه الجملة في عطفها مثل موقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [لنجم:40] في الاحتمالين، فإن كانت مما شملته صحف إبراهيم كانت حكاية لقوله {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80].
[44] {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} .
انتقل من الاعتبار بانفراد الله بالقدرة على إيجاد أسباب المسرة والحزن وهما حالتان لا تخلو عن إحداهما نفس الإنسان إلى العبرة بانفراده تعالى بالقدرة على الإحياء والإماتة,
وهما حالتان لا يخلو الإنسان عن إحداهما فإن الإنسان أول وجوده نطفة ميتة ثم علقة ثم مضغة قطعة ميتة وإن كانت فيها مادة الحياة إلا أنها لم تبرز مظاهر الحياة فيها ثم ينفخ فيه الروح ثم يصير إلى حياة وذلك بتدبير الله تعالى وقدرته.
ولعل المقصود هو العبرة بالإماتة لأنها أوضح عبرة وللرد عليهم قولهم {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24] وأن عطف {وَأَحْيَا} تتميم واحتراس كما في قوله : {الذَِّي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2]. ولذلك قدم {أمَاتَ} على {أَحْيَا} مع الرعاية على الفاصلة كما تقدم في {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [لنجم:43].
وموقع الجملة كموقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} . [النجم:43]. فإن كان مضمونها مما شملته صحف إبراهيم كان المحكي بها من كلام إبراهيم ما حكاه الله عنه بقوله {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء:81].
وفعلا {أَمَاتَ وَأَحْيَا} منزلان منزلة اللازم كما تقدم في قوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] إظهارا لبديع القدرة على هذا الصنع الحكيم مع التعريض بالاستدلال على كيفية البعث وإمكانه حيث إحالة المشركون, وشاهده في خلق أنفسهم.
وضمير الفصل للقصر على نحو قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] ردا على أهل الجاهلية الذين يسندون الإحياء والإماتة إلى الدهر فقالوا {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية:24]. فليس المراد الحياة الآخرة لأن المتحدث عنهم لا يؤمنون بها, ولأنها مستقبلة والمتحدث عنه ماض.
وفي هذه الآية محسن الطباق أيضا لما بين الحياة والموت من التضاد.
[46،45] {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} .
هذه الآية وإن كانت مستقلة بإفادة أن الله خالق الأزواج من الإنسان خلقا بديعا من نطفة فيصير إلى خصائص نوعه وحسبك بنوع الإنسان تفكيرا أو مقدرة وعملا، وذلك ما لا يجهله المخاطبون فما كان ذكره إلا تمهيدا وتوطئة لقوله {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم:47] على نحو قوله تعالى {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] وباعتبار استقلالها بالدلالة على عجيب تكوين نسل الإنسان, وعطفت عليها جملة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم:47] وإلا لكان مقتضى الظاهر أن يقال: إن عليه النشأة الأخرى بدون عطف وبكسر همزة "إن".
ومناسبة الانتقال إلى هذه الجملة أن فيها كيفية ابتداء الحياة.
والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى من خصوص الإنسان لأن سياق الكلام للاعتبار ببديع صنع الله وذلك أشد اتفاقا في خلقة الإنسان, ولأن اعتبار الناس بما في أحوال أنفسهم أقرب وأمكن ولأن بعض الأزواج من الذكور والإناث لا يتخلق من نطفة بل من بيض وغيره.
ولعل وجه ذكر الزوجين والبدل منه {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} دون أن يقول: وأنه خلقه, أي الإنسان من نطفة, كما قال {فَلْيَنْظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق:5،6] الآية أمران:
أحدهما : إدماج الامتنان في أثناء ذكر الانفراد بالخلق بنعمة أن خلق لكل إنسان زوجة كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: 21] الآية.
الثاني: الإشارة إلى أن لكلا الزوجين حظا من النطفة التي منها يخلق الإنسان فكانت لذكر نطفة وللمرأة نطفة كما ورد في الحديث الصحيح "أنه إذا سبق ماء الرجل أشبه المولود أباه وإن سبق ماء المرأة أشبه المولود أمه" , وبهذا يظهر أن لكل من الذكر والأنثى نطفة وإن كان المتعارف عند الناس قبل القرآن أن النطفة هي ماء الرجل إلا أن القرآن يخاطب الناس بما يفهمون ويشير إلى ما لا يعلمون إلى أن يفهمه المتدبرون.
وحسبك ما وقع بيانه بالحديث المذكور آنفا.
والنطفة: فعلة مشتقة من: نطف الماء, إذا قطر, فالنطفة ماء قليل وسمي ما منه النسل نطفة بمعنى منطوف, أي مصبوب فماء الرجل مصبوب, وماء المرأة أيضا مصبوب فإن ماء المرأة يخرج مع بويضة دقيقة تتسرب مع دم الحيض وتستقر في كيس دقيق فإذا باشر الذكر الأنثى انحدرت تلك البيضة من الأنثى واختلطت مع ماء الكر في قرارة الرحم.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ نُطْفَةٍ} ابتدائية فإن خلق الإنسان آت وناشئ بواسطة النطفة, فإذا تكونت النطفة وأمنيت ابتدأ خلق الإنسان.
و {تَمَنَّى} تدفق وفسروه بمعنى تقذف أيضا.
وقيل أن {تَمَنَّى} بمعنى تراق، وجعلوا تسمية الوادي الذي بقرب مكة منى لأنه تراق به دماء البدن من الهدايا. ولم يذكر أهل اللغة في معاني مني أو أمنى أن منها الإراقة. وهذا من مشكلات اللغة.
ثم إن {تَمَنَّى} يحتمل أنه مضارع أمنى بهمزة التعدية وسقطت في المضارع فوزنه تأفعل، ويحتمل أنه مضارع منى مثل رمى فوزنه: تفعل.
وبني فعل {تَمَنَّى} إلى المجهول لأن النطفة تدفعها قوة طبيعية في الجسم خفية فكان فاعل الإمناء مجهولا لعدم ظهوره.
وعن الأخفش {تَمَنَّى} تقدر، يقال: منى الماني، أي قدر المقدر. والمعنى: إذا قدر لها، أي قدر لها أن تكون مخلقة كقوله تعالى: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5].
والتقييد ب {إِذَا تُمْنَى} لما في اسم الزمان من الإيذان بسرعة الخلق عند دفق النطفة في رحم المرأة فإنه عند التقاء النطفتين يبتدىء تخلق النسل فهذه إشارة خفيفة إلى أن البويضة التي هي نطفة المرأة حاصلة في الرحم فإذا أمنيت علها نطفة الذكر أخذت في التخلق إذ لم يعقها عائق.
ثم لما في فعل {تَمَنَّى} من الإشارة إلى أن النطفة تقطر وتصب على شيء آخر لأن الصب يقتضي مصبوبا عليه فيشير إلى التخلق إنما يحصل من انصباب النطفة على أخرى, فعند اختلاط المائين يحصل تخلق النسل فهذا سر التقييد بقوله: {إِذَا تُمْنَى} .
وفي الجمع بين الذكر والأنثى محسن الطباق لما بين الذكر والأنثى من شبه التضاد.
ولم يؤت في هذه الجملة بضمير الفصل كما في اللتين قبلها لعدم الداعي إلى القصر إذ لا ينازع أحد في أن الله خالق الخلق وموقع جملة {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} إلى آخرها كموقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [لنجم:40].
[47] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى}.
كان مقتضى الظاهر من التنظير أن يقدم قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى } [لنجم:48] على قوله: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} لما في قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} من الامتنان وإظهار الاقتدار المناسبين لقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ} [لنجم:43، 45] الخ. إذ ينتقل من نعمة الخلق إلى نعمة الرزق كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء:78،79] وقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} [الروم:40] ولكن عدل عن ذلك على طريقة تشبه الاعتراض ليقرن بين البيانين ذكر قدرته على النشأتين.
ومما يشابه هذا ما قاله الواحدي في شرح قول المتنبي في سيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضاء وثغرك باسم
أنه لما أنشد هذين البيتين أنكر عليه سيف الدولة تطبيق عجزي البيتين على صدريهما وقال: ينبغي أن تطبق عجز الأول على الثاني وعجز الثاني على الأول ثم قال له: وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله:
كأني لم أركب جوادا للذة ... ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم اسبإ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد إجفال
ووجه الكلام في البيتين على ما قاله أهل العلم بالشعر أن يكون عجز الأول على الثاني والثاني على الأول أي مع نقله كلمة للذة من صدر الأول إلى الثاني, وكلمة ولم أقل من صدر الثاني إلى الأول ليستقيم الكلام فيكون ركوب الخيل مع المر للخيل بالكر وسبأ الخمر مع تبطن الكاعب فقال أبو الطيب أطال الله عز مولانا إن صح أن الذي استدرك هذا على امرئ القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطأت أنا, ومولانا يعرف أن البزاز لا يعرف الثوب معرفة الحائك لأن البزاز يعرف جملته والحائك يعرف جملته وتفصيله, وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد وقرن السماحة في شراء الخمر الأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء, وإنما لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى ليجانسه, ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوسا وعينه من أن تكون باكية قلت: ووجهك وضاء, لأجمع بين الضدين في المعنى اه.
ولو أن أبا الطيب شعر بهذه الآية لذكرها لسيف الدولة فكانت له أقوى حجة من تأويله شعر امرئ القيس.
وجملة {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} تحقيق لفعله إياها شبها بالحق الواجب على المحقوق به بحيث لا يتخلف فكأنه حق واجب لأن الله وعد بحصول بما اقتضته الحكمة الإلهية لظهور أن الله لا يكرهه شيء, فالمعنى: أن الله أراد النشأة الأخرى كقوله تعالى :{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنعام: 12].
و {النَّشْأَةَ} : المرة من الإنشاء, أي الإيجاد والخلق.
و {الْأُخْرَى} مؤنث الأخير, أي النشأة التي لا نشأة بعدها, وهي مقابل النشأة الأولى التي يتضمنها قوله تعالى : {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم:45]. وهذه المقابلة هي مناسبة ذكر هذه النشأة الأخرى.
وقرأ الجمهور {النَّشْأَةَ} بوزن الفعلة وهو اسم مصدر أنشأ, وليس مصدرا, إذ ليس نشأ المجرد بمعتد وإنما يقال: أنشأ.
وقرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {النَّشْأَةَ} بألف بعد الشين المفتوحة بوزن الفعالة وهو من أوزان المصادر لكنه مقيس في مصدر الفعل المضموم العين في الماضي نحو الجزالة والفصاحة. ولذلك فالنشاءة بالمد مصدر سماعي مثل الكآبة. ولعل مدتها من قبيل الإشباع مثل قول عنترة:
ينباع من ذفرى غصوب جسرة
أي: نبع.
وتقديم الخبر على اسم {أَنَّ} للاهتمام بالتحقيق الذي أفادته {عَلَى} تنبيها على زيادة تحقيقه بعد أن حقق بما في "أن"من التوكيد.
[48] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} .
ومعنى {أَغْنَى} جعل غنيا, أي أعطى ما به الغنى, والغنى التمكن من الانتفاع بما يحب الانتفاع به.
ويظهر أن معنى {أقنى} ضد معنى {أَغْنَى} رعيا لنظائره التي زاوجت بين الضدين من قوله: {أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [لنجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [لنجم: 44,] و {الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [لنجم: 45] , ولذلك فسره ابن زيد والأخفش وسليمان التميمي بمعنى أرضى.
وعن مجاهد وقتادة والحسن: أقنى: أخدم, فيكون مشتقا من القن وهو العبد أو المولود في الرق فيكون زيادة على الإغناء. وقيل: أقنى: أعطى القنية. وهذا زيادة في الغنى. وعن ابن عباس: أقنى: أرضى, أي أرضى الذي أغناه بما أعطاه, أي أغناه حتى أرضاه فيكون زيادة في الامتنان.
والإتيان بضمير الفصل لقصر صفة الإغناء والإقناء عليه تعالى دون غيره وهو قصر ادعائي لمقابلة ذهول الناس عن شكر نعمة الله تعالى بإسنادهم الأرزاق لوسائله العادية,
مع عدم التنبه إلى أن الله أوجد مواد الإرزاق وأسبابها وصرف موانعها, وهذا نظير ما تقدم من القصر في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2].
وموقع جملة {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} كموقع جملة {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [لنجم:40].
[49] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} .
فهذه الجملة لا يجوز اعتبارها معطوفة على جملة {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [لنجم:38} إذ لا تصح لأن تكون مما في صحف موسى وإبراهيم لأن الشعرى لم تعبد في زمن إبراهيم ولا في زمن موسى عليهما السلام فيتعين أ تكون معطوفة على "ما" الموصولة من قوله :{بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [لنجم: 36،37 ] الخ.
الشعرى: اسم نجم من نجوم برج الجوزاء شديد الضياء ويسمى: كلب الجبار, لأن برج الجوزاء يسمى الجبار عند العرب أيضا, وهو من البروج الربيعية, أي التي تكون مدة حلول الشمس فيها في فصل الربيع.
وسميت الجوزاء لشدة بياضها في سواد الليل تشبيها له بالشاة الجوزاء وهي الشاة السوداء التي وسطها أبيض.
وبرج الجوزاء ذو كواكب كثيرة ولكثير منها أسماء خاصة والعرب يتخيلون مجموع نجومها في صورة رجل واقف بيده عصا وعلى وسطه سيف, فلذلك سموه الجبار. وربما تخيلوها صورة امرأة فيطلقون على وسطها اسم المنطقة.
ولم أقف على وجه تسميتها الشعرى, وسميت كلب الجبار تخيلوا الجبار صائدا والشعرى يتبعه كالكلب وربما سموا الشعرى يد الجوزاء, وهو أبهر نجم برج الجوزاء, وتوصف الشعرى باليمانية لأنها إلى جهة اليمن. وتوصف بالعبور بفتح العين لأنهم يزعمون أنها زوج كوكب سهيل وأنهما كانتا متصلين وأن سهيلا انحدر نحو اليمن فتبعته الشعرى وعبرت نهر المجرة, فلذلك وصفت بالعبور فعول بمعنى فاعلة, وهو احتراز عن كوكب آخر ليس من كوكب الجوزاء يسمونه الشعرى الغميضاء بالغين المعجمة والصاد المهملة بصيغة تصغير وذكروا لتسميته قصة.
والشعرى تسمى المرزم كمنبر ويقال: مرزم الجوزاء لأن نؤه يأتي بمطر بارد في
فصل الشتاء فاشتق له اسم آلة الرزم وهو شدة البرد فإنهم كنوا ريح الشمال أم رزم.
وكان كوكب الشعرى عبدته خزاعة والذي سن رجل من سادة خزاعة يكنى أبا كبشة. واختلف في اسمه ففي تاج العروس عن الكلبي أن اسمه جزء بجيم وزاي وهمزة. وعن الدارقطني أنه وجز بواو وجيم وزاي بن غالب بن عامر بن الحاررث بن غبشان كذا في التاج , والذي في جمهرة ابن حزم أن الحارث هو غبشان الخزاعي. ومنهم من يقال: أن اسم أبي كبشه عبد الشعرى. ولا أحسب إلا أن هذا وصف غلب عليه بعد أن اتخذ الشعرى معبودا له ولقومه, ولم يعرج ابن حزم في الجمهرة على ذكر أبي كبشة.
والذي عليه الجمهور أن الشعرى لم يعبدها من العرب الا خزاعة. وفي تفسير القرطبي عن السدي أن حمير عبدوا الشعرى.
وكانت قريش تدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا كبشة خيل لمخالفته إياهم في عبادة الأصنام. وكانوا يصفونه بابن أبي كبشة. وقيل لأن أبا كبشة كان من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه يعرضون أو يموهون على دهمائهم بأنه يدعو إلى عبادة الشعرى يريدون التغطية على الدعوة إلى توحيد الله تعالى فمن ذلك قولهم لما أراهم انشقاق القمر سحركم ابن أبي كبشة وقول أبي سفيان للنفر الذين كانوا معه في حضرة هرقل لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخاف ملك بني الأصفر.
قال ابن أبي الأصبع في هذه الآية من البديع محسن التنكيت وهو أن يقصد المتكلم إلى شيء بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه فقوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} خص الشعرى بالذكر دون غيرها من النجوم لأن العرب كان ظهر فيهم رجل يعرف بأبي كبشة عبد الشعرى ودعا خلقا إلى عبادتها.
وتخصيص الشعرى بالذكر في هاته السورة أنه تقدم ذكر اللات والعزى ومناة وهي معبودات وهمية لا مسميات لها كما قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [لنجم: 23] وأعقبها بإبطال إلهية الملائكة وهي من الموجودات المجردات الخفية, أعقب ذلك بإبطال عبادة الكواكب وخزاعة أجوار لأهل مكة فلما عبدوا الشعرى ظهرت عبادة الكواكب في الحجاز, وإثبات أنها مخلوقة لله تعالى دليل على إبطال إلهيتها لأن المخلوق لا يكون إلها, وذلك مثل قوله تعالى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] مع ما في لفظ الشعرى من مناسبة فواصل هذه السورة.
والإتيان بضمير الفصل يفيد قصر مربوبية الشعرى على الله تعالى وذلك كناية عن كونه رب ما يعتقدون أنه من تصرفات الشعرى, أي هو رب تلك الآثار ومقدرها وليست الشعرى ربة تلك الآثار المسندة إليها في مزاعمهم, وليس لقصر كون رب الشعرى على الله تعالى دون غيره لأنهم لم يعتقدوا أن للشعرى ربا غير الله ضرورة أن منهم من يزعم أن الشعرى ربة معبودة ومنهم من يعتقد أنها تتصرف بقطع النظر عن صفتها.
[50-52 ] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [50] وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى [51] وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} .
لما استوفي ما يستحقه مقام النداء على باطل أهل الشرك من تكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم وطعنهم في القرآن, ومن عبادة الأصنام, وقولهم في الملائكة, وفاسد معتقدهم في أمور الآخرة, وفي المتصرف في الدنيا, وكان معظم شأنهم في هذه الضلالات شبيها بشأن أمم الشرك البائدة نقل الكلام إلى تهديدهم بخوف أن يحل بهم ما حل بتلك الأمم البائدة فذكر من تلك الأمم أشهرها عند العرب وهم: عاد, وثمود, وقوم نوح, وقوم لوط.
فموقع هذه الجملة كموقع الجمل التي قبلها في احتمال كونها زائدة على ما في صحف موسى وإبراهيم ويحتمل كونها مما شملته الصحف المذكورة فإن إبراهيم كان بعد عاد وثمود وقوم نوح, وكان معاصرا للمؤتفكة عالما بهلاكها.
ولكون هلاك هؤلاء معلوما لم تقرن الجملة بضمير الفصل.
ووصف عاد ب {الْأُولَى} على اعتبار عاد اسما للقبيلة كما هو ظاهر. ومعنى كونها أولى لأنها أول العرب ذكروا وهم أول العرب البائدة وهم أول أمة أهلكت بعد قوم نوح.
وأما القول بأن عادا هذه لما هلكت خلفتها أمة أخرى ترف بعاد إرم أو عاد الثانية كانت في زمن العماليق فليس بصحيح.
ويجوز أن يكون {الْأُولَى} وصفا كاشفا, أي عادا السابقة. وقيل {الْأُولَى} صفة عظمة, أي الأولى في مراتب الأمم قوة وسعة, وتقدم التعريف بعاد في سورة الأعراف.
وتقدم ذكر ثمود في سورة الأعراف أيضا.
وتقدم ذكر نوح وقومه في سورة آل عمران وفي سورة الأعراف.
وإنما قدم في الآية ذكر عاد وثمود على ذكر قوم نوح مع أن هؤلاء أسبق لأن عادا
وثمودا أشهر في العرب وأكثر ذكرا بينهم وديارهم في بلاد العرب.
وقرأ الجمهور {عَاداً الْأُولَى} بإظهار تنوين {عَاداً} وتحقيق همزة {الْأُولَى} وقرأ ورش عن نافع وأبو عمرو {عاد لولى} بحذف همزة {الأولى} بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفة وإدغام نون التنوين من {عَاداً} {لولى} . وقرأه قالون عن نافع بإسكان همزة {الْأُولَى} بعد نقل حركتها إلى اللام المعرفةط {عاد لؤلى} على لغة من يبدل الواو الناشئة عن إشباع الضمة همزا, كما قرئ {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} [الفتح:29].
وقرأ الجمهور {وَثَمُودَا} بالتنوين على إطلاق اسم جد القبيلة عليها. وقرأه عاصم وحمزة بدون تنوين على إرادة اسم القبيلة.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} تعليل لجملة {أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} إلى آخرها, وضمير الجمع في {إِنَّهُمْ كَانُوا} يجوز أن يعود إلى قوم نوح, أي كانوا أظلم وأطغى من عاد وثمود. ويجوز أن يكون عائد إلى عاد وثمود وقوم نوح والمعنى: أنهم أظلم وأطغى من قومك الذين كذبوك فتكون تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الرسل من قبله لقوا من أممهم أشد مما لقيه محمد صلى الله عليه وسلم, وفيه إيماء إلى أن الله مبق على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فلا يهلكها لأنه قدر دخول بقيتها في الإسلام ثم أبنائها.
وضمير الفصل في قوله: {كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} لتقوية الخبر.
[53،54] {وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى [ 53] فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} .
والمؤتفكة صفة لموصوف محذوف يدل عليه اشتقاق الوصف كما سيأتي, والتقدير: القرى المؤتفكة, وهي قرى قوم لوط الأربع وهي سدوم و عمورة و آدمة و صبوييم. ووصفت في سورة براءة بالمؤتفكات لأن وصف جمع المؤنث يجوز أن يجمع وأن يكون بصيغة المفرد المؤنث. وقد صار هذا الوصف غالبا عليها بالغلبة.
وذكرت القرى باعتبار ما فيها من السكان تفننا ومراعاة للفواصل.
ويجوز أن تكون المؤتفكة هنا وصفا للأمة, أي لأمة لوط ليكون نظيرا لذكر عاد وثمود وقوم نوح كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} في سورة الحاقة [9]. والائتفاك: الانقلاب, يقال: أفكها فاتفكت. والمعنى: التي خسف بها فجعل عاليها سافلها, وقد تقدم ذكرها في سورة براءة.
وانتصب {َالْمُؤْتَفِكَةَ} مفعول {أهْوَى} أي أسقط أي جعلها هاوية.
والإهواء: الإسقاط, يقال: أهواه فهوى, ومعنى ذلك: أنه رفعها في الجو ثم سقطت أو أسقطها في باطن الأرض وذلك من أثر زلازل وانفجارات أرضية بركانية.
ولكون {المؤتفكة} علما انتفى أن يكون بين {الْمُؤْتَفِكَةَ} و {أَهْوَى} تكرير. وتقديم المفعول للاهتمام بعبرة انقلابها.
وغشاها: غطاها وأصابها من أعلى.
و {مَا غَشَّى} فاعل {غَشَّاهَا} , و"ما" موصولة, وجيء بصلاتها من مادة وصيغة الفعل الذي أسند إليها, وذلك لا يفيد خبرا جديدا زائدا على مفاد الفعل.
والمقصود منه التهويل كأن المتكلم أراد أن يبين بالموصول والصلة وصف فاعل الفعل فلم يجد لبيانه أكثر من إعادة الفعل إذ لا يستطاع وصفه. والذي غشاها هو مطر من الحجارة المحماة, وهي حجارة بركانية قذفت من فوهات كالآبار كانت في بلادهم ولم تكن ملتهبة من قبل قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان:40] وقال: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]. وفاضت عليها مياه غمرت بلادهم فأصبحت بحرا ميتا.
وأفاد العطف بفاء التعقيب في قوله: {فَغَشَّاهَا} إن ذلك كان بعقب أهوائها.
[55] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} .
تفريع فذلكة لما ذكر من أول السورة: مما يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كقوله {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} إلى قوله {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [لنجم:2- 18] ومما يشمله ويشمل غيره من قوله: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} إلى قوله: {هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [لنجم:43- 49] فإن ذلك خليط من نعم وضدها على نوع الإنسان وفي مجموعها نعمة تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بمنافع الاعتبار بصنع الله. ثم من قوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [لنجم:50] إلى هنا. فتلك نقم من الضالين والظالمين لنصر رسل الله, وذلك نعمة على جميع الرسل ونعمة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم وهي بشارته بأن الله سينصره, فجميع ما عدد من النعم على أقوام والنقم عن آخرين هو نعم محضة للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
و"أي" اسم استفهام يطلب به تمييز متشارك في أمر يعم بما يميز البعض عم البقية
من حال يختص به مستعمل هنا في التسوية كناية عم تساوي ما عدد من الأمور في أنها نعم على الرسول صلى الله عليه وسلم إذ ليس لواحد من هذه المعدودات نقص عن نظائره في النعمة كقول فاطمة بنت الخرشب وقد سئلت: أي بنيك أفضل ثكلتهم إن كنت أدري أيهما أفضل , أي إن كنت أدري جواب السؤال, وكقول الأعشى:
باشجع أخاذ على الدهر حكمه ... فمن أي ما تأتي الحوادث أفرق
والمقصود من هذا الاستفهام تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بهذه النعم.
فالمعنى أنك لا تحصل لك مرية في واحدة من آلاء ربك فإنها سواء في الإنعام, والخطاب بقوله: {رَبُّكَ} الأظهر أنه للنبي صلى الله عليه وسلم وهو مناسب لذكر الآلاء والموافق لإضافة "رب" إلى ضمير المفرد المخاطب في عرف القرآن.
وجوزوا أن يكون الخطاب في قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ} لغير معين من الناس, أي المكذبين أي باعتبار أنه لا يخلو شيء مما عدد سابقا عن نعمة لبعض الناس أو باعتبار عدم تخصيص الآلاء بما سبق ذكره بل المراد جنس الآلاء كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:16].
والآلاء: النعم, وهو جمع مفرده: إلى, بكسر الهمزة وبفتحها مع فتح اللام مقصورا, ويقال: إلى, وألي, بسكون اللام فيهما وآخره ياء متحركة, ويقال: ألو, بهمز مفتوحة بعدها لام ساكنة وآخره واو متحركة مثل: دلو.
والتماري: التشكك وهو تفاعل من المرية فإن كان الخطاب بقوله: {رَبُّكَ} للنبي صلى الله عليه وسلم كان {تَتَمَارَى} مطاوع ماراه مثل التدافع مطاوع دفع في قول المنخل:
فدفعتها فتدافعت ... مشي القطاة إلى الغدير
والمعنى: فبأي آلاء ربك يشككونك, وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [لنجم:12] , أي لا يستطيعون أن يشككوك في حصول آلاء ربك التي هي نعم النبوة والتي منها رؤية جبريل عند سدرة المنتهى. فالكلام مسوق لتأييس المشركين من الطمع في الكف عنهم.
وإن كان الخطاب لغير معين كان {تَتَمَارَى} تفاعلا مستعملا في المبالغة في حصول الفعل, ولا يعرف فعل مجرد للمراء, وإنما يقال:امترى, إذا شك.
[56] {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} .
استئناف ابتدائي أو فذلكة لما تقدم على اختلاف الاعتبارين في مرجع اسم الإشارة فإن جعلت اسم الإشارة راجعا إلى القرآن فإنه لحضوره في الأذهان ينزل منزلة شيء محسوس حاضر بحيث يشار إليه, فالكلام انتقال اقتضابي تنهية لما قبله وابتداء لما بعد اسم الإشارة على أسلوب قوله تعالى: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [ابراهيم: 52].
والكلام موجه إلأى المخاطبين بمعظم ما في هذه السورة فلذلك اقتصر على وصف الكلام بأنه نذير, دون أن يقول: نذير وبشير, كما قال في الآية الأخرى {إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْم يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:188].
والإنذار بعضه صريح مثل قوله: {ليَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} [لنجم:31] الخ, وبعضه تعريض كقوله: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [لنجم:50] وقوله: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [لنجم:42].
وإن جعلت اسم الإشارة عائدا إلى ما تقدم من أول السورة بتأويله بالمذكور, أو إلى ما لم ينبأ به الذي تولى وأعطى قليلا, ابتداء من قوله: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [لنجم:36] إلى هنا على كلام التأويلين المتقدمين, فتكون الإشارة إلى الكلام المتقدم تنزيلا لحضوره في السمع منزلة حضوره في المشاهدة بحيث يشار إليه.
و النذير حقيقته المخبر عن حدوث حدث مضر بالمخبر بالفتح , وجمعه: نذر, هذا هو الأشهر فيه. ولذلك جعل ابن جريج وجمع من المفسرين الإشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد.
ويطلق النذير على الإنذار وهو خبر المخبر على طريقة المجاز العقلي. قال أبو القاسم الزجاجي: يطلق النذير على الإنذار يريد أنه اسم مصدر ومنه قوله تعالى: {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17] أي إنذاري وجمعه نذر أيضا, ومنه قوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] , أي بالمنذرين. وإطلاق نذير على ما هو كلام وهو القرآن أو بعض آياته مجاز عقلي, أو استعارة على رأي جمهور أهل اللغة وهو حقيقة على رأي الزجاجي.
والمراد بالنذر الأولى: السالفة, أي أن معنى هذا الكلام من معاني الشرائع الأولى كقول النبي "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت"
أي من كلام الأنبياء قبل الإسلام.
[ 57،58] { أَزِفَتِ الْآزِفَةُ [57] لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} .
تتنزل هذه الجملة من التي قبلها منزلة البيان للإنذار الذي تضمنه قوله {هَذَا نَذِيرٌ} [لنجم: 56].
فالمعنى: هذا نذير بآزفة قربت, وفي ذكر فعل القرب فائدة أخرى زائدة على البيان وهي أن المنذر به دنا وقته, فإن: أزفت معناه: قرب وحقيقته القرب المكان, واستعير لقرب الزمان لكثرة ما يعاملون الزمان معاملة المكان.
والتنبيه على قرب المنذر به من كمال الإنذار للبدار بتجنب الوقوع فيما ينذر به.
وجيء لفعل {أَزِفَتِ} بفاعل من مادة الفعل للتهويل على السامع لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تعيين هذه المحادثة التي أزفت, ومعلوم أنها من الأمور المكروهة لورود ذكرها عقب ذكر الإنذار.
وتأنيث {َالْآزِفَةِ} بتأويل الوقعة, أو الحادثة كما يقال: نزلت به نازلة, أو وقعت الواقعة, وغشيته غاشية, والعرب يستعملون التأنيث دلالة على المبالغة في النوع, ولعلهم راعوا أن الأنثى مصدر كثرة النوع.
والتعريف في {الْآزِفَة} تعريف الجنس, ومنه زيادة تهويل بتمييز هذا الجنس من بين الأجناس لأن في استحضاره زيادة تهويل لأنه حقيق بالتدبر في المخلص منه نظير التعريف في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2] , وقولهم: أرسلها العراك.
والكلام يحتمل آزفة في الدنيا من جنس ما أهلك به عاد وثمود وقوم نوح فهي استئصالهم يوم بدر, ويحتمل آزفة وهي القيامة. وعلى التقديرين فالقرب مراد به التحقق وعدم الانقلاب منها كقوله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [ القمر:1] وقوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} [المعارج:6،7].
وجملة {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ {الْآزِفَة} مستأنفة بيانية أو صفة ل {الْآزِفَة} و {كَاشِفَةٌ} يجوز أن يكون مصدر بوزن فاعلة كالعافية, وخائنة الأعين وليس لوقعتها كاذبة. والمعنى ليس لها كشف.
ويجوز أن يكون اسم فاعل قرن بهاء التأنيث للمبالغة مثل راوية, وباقعةو وداهية,
أي ليس لها كاشف قوي الكشف فضلا عمن دونه.
والكشف يجوز أن يكون بمعنى التعرية مراد به الإزالة مثل ويكشف الضر, وذلك ضد ما يقال: غشية الضر.
فالمعنى: لا يستطيع أحد إزالة وعيدها غير الله, وقد أخبر بأنها واقعة بقوله: {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} كناية عن تحقيق وقوعها.
ويجوز أن يكون الكشف بمعنى إزالة الخفاء, أي لا يبين وقت الآزفة أحد له قدرة على البيان على نحو قوله تعالى {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف:187] فالمعنى: أن الله هو العالم بوقتها لا يعلمه أحد إلا إذا شاء أن يطلع عليه أحدا من رسله أو ملائكته.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي غير الله, و{مِنْ} مزيدة للتوكيد, وهو متعلق بالكون الذي ينوى في خبر ليس في قوله {لَهَا} .
[59،61] {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ [59] وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ [60] أَنْتُمْ سَامِدُونَ} .
تفريع على {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم:56] وما عطف عليه وبين به من بيان أو صفة, فرع عليه استفهام إنكار وتوبيخ.
والحديث: الكلام والخبر.
والإشارة إلى ما ذكر من الإنذار بأخبار الذين كذبوا الرسل, فالمراد بالحديث بعض القرآن بما في قوله {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة:81].
ومعنى العجب هنا الاستبعاد والإحالة كقوله {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود: 73] , أو كناية عن الإنكار.
والضحك: ضحك الاستهزاء.
والبكاء مستعمل في لازمه من خشية الله كقوله تعالى {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:109].
ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين حيث حلوا بحجر ثمود في غزوة تبوك "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل ما أصابهم , أي ضارعين لله أن لا يصيبكم مثل ما أصابهم أو خاشعين أن يصيبكم مثل ما أصابهم،" أي
ضارعين الله أن لا يصيبهم مثل ما أصابهم أو خاشين أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والمعنى: ولا تخشون سوء عذاب الإشراك فتقلعوا عنه.
{سَامِدُونَ} : من السمود وهو ما في المرء من الإعجاب بالنفس, يقال: سمد البعير, إذا رفع رأسه في سيره, مثل به حال المتكبر المعرض عن النصح المعجب بما هو فيه بحال البعير في نشاطه.
وقيل السمود: الغناء بلغة حمير, والمعنى: فرحون بأنفسكم تتغنون بالأغاني لقلة الاكتراث بما تسمعون من القرآن كقوله {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [لأنفال:35] على أحد تفسيرين.
وتقديم المجرور للقصر, أي هذا الحديث ليس أهلا لأن تقابلوه بالضحك والاستهزاء والتكذيب ولا لأن لا يتوب سامعه, أي لو قابلتم بفعلكم كلاما غيره لكان لكم شبهة في فعلكم, فأما مقابلتكم هذا الحديث بما فعلتم فلا عذر لكم فيها.
[62] {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} .
تفريع على الإنكار والتوبيخ المفرعين على الإنذار بالوعيد, فرع عليه أمرهم بالسجود لله لأن ذلك التوبيخ من شأنه أن يعمق في قلوبهم فيكفهم عما هم فيه من البطر والاستخفاف بالداعي إلى الله. ومقتضى تناسق الضمائر أن الخطاب في قوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} موجه إلى المشركين.
والسجود يجوز أن يراد به الخشية كقوله تعالى {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6]. والمعنى: أمرهم بالخضوع إلى الله والكف عن تكذيب رسوله وعن إعراضهم عن القرآن لأن ذلك كله استخفاف بحق الله وكان عليهم لما دعوا إلى الله أن يتدبروا وينظروا في دلائل صدق الرسول والقرآن.
ويجوز أن يكون المراد سجود الصلاة والأمر به كناية عن المر بأن يسلموا فإن الصلاة شعار الإسلام, ألا ترى إلى قوله تعالى {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:42،43], أي من الذين شأنهم الصلاة. وقد جاء نظيره الأمر بالركوع في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ} [المرسلات:48] فيجوز فيه المحملان.
وعطف على ذلك أمرهم بعبادة الله لأنهم إذا خضعوا له حق الخضوع عبدوه وتركوا عبادة الأصنام وقد كان المشركون يعبدون الأصنام بالطواف حولها ومعرضين عن عبادة الله, ألا ترى أنهم عمدوا إلى الكعبة فوضعوا فيها الأصنام ليكون طوافهم بالكعبة طوافا بما فيها من الأصنام.
أو المراد: واعبدوا العبادة الكاملة وهي التي يفرد بها لأن إشراك غيره في العبادة التي يستحقها إلا هو كعدم العبادة إذ الإشراك إخلال كبير بعبادة الله قال تعالى {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36].
وقد ثبت في ا?بار الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ النجم فسجد فيها أي عند قوله {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} وسجد من كان معه من المسلمين والمشركين إلا شيخا مشركا هو أمية بن خلف أخذ كفا من تراب أو حصى فرفعه إلى جهته. قال: يكفيني هذا. وروي أن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود كانا يسجدان عند هذه الآية في القراءة في الصلاة.
وفي أحكام ابن العربي أن ابن عمر سجد فيها, وفي الصحيحين والسنن عن زيد بن ثابت قال قرأت: النجم عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها. وفي سنن ابن ماجه عن أبي الدرداء سجدت مع النبي صلى الله عليه وسلم إحدى عشرة سجدة ليس فيها من المفصل شيء. وعن أبي بن كعب: كان آخر فعل النبي صلى الله عليه وسلم ترك السجود في المفصل. وعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل منذ تحول إلى المدينة, وسورة النجم من المفصل.
واختلف العلماء في السجود عند هذه الآية فقال مالك: سجدة النجم ليست من عزائم القرآن أي ليست مما يسن السجود عندها. هذا مراده بالعزائم وليس المراد أن من سجود القرآن عزائم ومنه غيره عزائم ف عزائم وصف كاشف ولم ير سجود القرآن في شيء من المفصل، ووافقه أصحابه عدا أبن وهب قرآها من عزائم السجود، هي وسجدة سورة الانشقاق وسجدة سورة العلق مثل قول أبي حنيفة. وفي المنتقى : أنه قول ابن وهب وابن نافع.
وقال أبو حنيفة: هي من عزائم السجود. ونسب ابن العربي في أحكام القرآن مثله إلى الشافعي، وهو المعروف في كتب الشافعية والحنابلة.
وإنما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها وإن كان الأمر في قوله {فَاسْجُدُوا} مفرعا على خطاب
المشركين بالتوبيخ، لأن المسلمين أولى بالسجود لله وليعضد الأمر القوي بالفعل ليبادر به المشركون. وقد كان ذلك مذكرا للمشركين بالسجود لله فسجدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نسخ السجود فيها بعد ذلك فلم يروا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، ولخبر زيد بن ثابت وأبي بن كعب وعمل معظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القمراسمها بين السلف سورة اقتربت الساعة. ففي حديث أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بقاف واقتربت الساعة في الفطر والأضحى، وبهذا الاسم عنون لها البخاري في كتاب التفسير.
وتسمى سورة القمر وبذلك ترجمها الترمذي. وتسمى سورة اقتربت حكاية لأول كلمة فيها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعن مقاتل: أنه استثنى منها قوله تعالى {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} إلى قوله : {وَأَمَرُّ} [القمر: 44،46] قال: نزل يوم بدر ولعل ذلك من أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية يوم بدر.
وهي السورة السابعة والثلاثون في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد، نزلت بعد سورة الطارق وقبل سورة ص.
وعدد آيها خمس وخمسون باتفاق أهل العدد.
وسبب نزولها ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك قال سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله {سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1،2].
وفي أسباب النزول للواحدي بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: انشق القمر على عهد محمد صلى الله عليه وسلم فقالت قريش هذا سحر ابن أبي كبشة سحركم، فسألوا السفار، فقالوا نعم قد رأينا، فأنزل الله عز وجل {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:1] الآيات
وكان نزولها في حدود سنة خمس قبل الهجرة ففي الصحيح أن عائشة قالت:
أنزل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46].
وكانت عقد عليها في شوال قبل الهجرة بثلاث سنين، أي في أواخر سنة أربع قبل الهجرة بمكة، وعائشة يومئذ بنت ست سنين، وذكر بعض المفسرين أن انشقاق القمر كان سنة خمس قبل الهجرة وعن ابن عباس كان بين نزول آية {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر:45] وبين بدر سبع سنين.
أغراض هذه السورة
تسجيل مكابرة المشركين في الآيات المبينة، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن مكابرتهم.
وإنذارهم باقتراب القيامة وبما يلقونه حين البعث من الشدائد.
وتذكيرهم بما لقيته الأمم أمثالهم من عذاب الدنيا لتكذيبهم رسل الله وأنهم سيلقون مثل ما لقي أولئك إذ ليسوا خيرا من كفار الأمم الماضية.
وإنذارهم بقتال يهزمون به، ثم لهم عذاب الآخرة وهو أشد.
وإعلامهم بإحاطة الله علما بأفعالهم وأنه مجازيهم شر الجزاء ومجاز المتقين خير الجزاء. وإثبات البعث، ووصف بعض أحواله.
وفي خلال ذلك تكرير التنويه بهدي القرآن وحكمته.
[1 ] {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .
من عادة القرآن أن ينتهز الفرصة لإعادة الموعظة والتفكير حين يتضاءل تعلق النفوس بالدنيا، وتفكر فيما بعد الموت وتعير آذانها لداعي الهدى. فتتهيأ لقبول الحق في رمضان ذلك على تفاوت في استعدادها وكم كان مثل هذا الانتهاز سببا في إيمان قلوب قاسي، فإذا أظهر الله الآيات على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد صدقه شفع ذلك بإعادة التذكير كما قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59].
وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت شاهدة على المشركين بظهور آية كبرى ومعجزة من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهي معجزة انشقاق القمر. ففي صحيح البخاري و
جامع الترمذي عن أنس بن مالك قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر. زاد الترمذي عنه فانشق القمر بمكة فرقتين، فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} إلى قوله :{سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:2].
وفي رواية الترمذي عن ابن مسعود قال بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر.
وظاهره أن ذلك في موسم الحج. وفي سيرة الحلبي كان ذلك ليلة أربع عشرة أي في أواخر ليالي منى ليلة النفر. وفيها اجتمع المشركون بمنى وفيهم الوليد بن المغيرة، وأبو جهل، والعاصي بن وائل، والعاصي بن هشام، والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق القمر فرقتين فانشق القمر.
والعمدة في هذا التأويل على حديث عبد الله بن مسعود في الصحيح قال: انشق القمر ونحن مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر فرقتين فرقة فوق الجبل وفرقة دونه فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "اشهدوا واشهدوا" . زاد في رواية الترمذي عنه يعني واقتربت الساعة وانشق القمر. قلت: وعن ابن عباس نصف على أبي قبيس ونصف على قعيقعان.
وروي ثله عن علي بن أبي طالب وابن عباس وابن عمر وحذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وجبير بن مطعم، وهؤلاء لم يشهدوا انشقاق القمر لأن من عدا عليا وابن عباس وابن عمر لم يكونوا بمكة ولم يسلموا إلا بعد الهجرة ولكنهم ما تكلموا إلا عن يقين.
وكثرة رواة هذا الخبر تدل على أنه كان خبرا مستفيضا. وقال في شرح المواقف : هو متواتر. وفي عبارته تسامح لعدم توفر شرط التواتر. ومراده: أنه مستفيض.
وظاهر بعض الروايات لحديث ابن مسعود عند الترمذي أن الآية نزلت قبل حصول انشقاق القمر الواقع بمكة لما سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم آية أو سألوه انشقاق القمر فأراهم انشقاق القمر وإنما يحصل عند اقتراب الساعة. وروي هذا عن الحسن وعطاء وهو المعبر عنه بالخسوف في سورة القيامة[7، 8] {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} الآية.
وهذا لا ينافي وقوع انشقاق القمر الذي سأله المشركون ولكنه غير المراد في هذه الآية لكنه مؤول بما في روايته عند غير الترمذي.
ولحديث انس بن مالك أن الآية نزلت بعد انشقاق القمر.
وعلى جميع تلك الروايات فانشقاق القمر الذي هو معجزة حصل في الدنيا. وفي البخاري عن ابن مسعود أنه قال خمس قد مضين اللزام والروم والبطشة والقمر والدخان. وعن الحسن وعطاء أن انشقاق القمر يكون عند القيامة واختاره القشيري، وروي عن البلخي. وقال الماوردي: هو قول الجمهور، ولا يعرف ذلك للجمهور.
وخبر انشقاق القمر معدود في مباحث المعجزات من كتب السيرة و دلائل النبوة .
وليس لفظ هذه الآية صريحا في وقوعه ولكنه ظاهر الآية يقتضيه كما في الشفاء.
فإن كان نزول هذه الآية واقعا بعد حصول الانشقاق كما اقتضاه حديث ابن مسعود في جامع الترمذي فتصدير السورة ب {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} للاهتمام بالموعظة كما قدمناه آنفا إذ قد تقرر المقصود من تصديق المعجزة.
فجعلت تلك المعجزة وسيلة للتذكير باقتراب الساعة على طريقة الإدماج بمناسبة أن القمر كائن من الكائنات السماوية ذات النظام المساير لنظام الجو الأرضي فلما حدث تغير في نظامه لم يكن مألوفا ناسب تنبيه الناس للاعتبار بإمكان اضمحلال هذا العالم، وكان فعل الماضي مستعملا في حقيقته. وروي أن حذيفة بن اليمان قرأ وقد {انْشَقَّ الْقَمَرُ} .
وإن كان نزولها قبل حصول الانشقاق كما اقتضاه حديث أنس بن مالك فهو إنذار باقتراب الساعة وانشقاق القمر الذي هو من أشراط الساعة ومع الإيماء إلى أن الانشقاق سيكون معجزة لما يسألوه المشركون. ويرجح هذا المحمل قوله تعالى عقبه {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر2] كما سيأتي هنالك.
وإذ قد حمل معظم السلف من المفسرين ومن خلفهم هذه الآية على أن انشقاق القمر حصل قبل نزولها أو بقرب نزولها فبنا أن نبين إمكان حصول هذا الانشقاق مسايرين للاحتمالات الناشئة عن روايات الخبر عن الانشقاق إبطالا لجحد الملحدين، وتقريبا لفهم المصدقين.
فيجوز أن يكون قد حدث خسف عظيم في كرة القمر أحدثت في وجهه هوة لاحت للناظرين في صورة شقه إلى نصفين بينهما سواد حتى يخيل أنه منشق إلى قمرين، فالتعبير عنه بالانشقاق مطابق للواقع لأن الهوة انشقاق وموافق لمرأى الناس لأنهم رأوه كأنه مشقوق.
ويجوز أن يكون قد حصل في الأفق بين سمت القمر وسمت الشمس مرور جسم سماوي من نحو بعض المذنبات حجب ضوء الشمس عن وجه القمر بمقدار ضل ذلك الجسم على نحو ما يسمى بالخسوف الجزئي، وليس في لفظ أحاديث أنس بن مالك عند مسلم والترمذي، وابن مسعود وابن عباس عند البخاري ما يناكد ذلك.
ومن الممكن أن يكون الانشقاق حدثا مركبا من خسوف نصفي في القمر على عادة الخسوف فحجب نصف القمر، والقمر على سمت أحد الجبلين قد حصل في الجو ساعة إذ سحاب مائي أنعكس في بريق مائه صورة القمر مخسوفا بحيث يخالطه الناظر نصفا آخر من القمر دون كسوف طالعا على جهة ذلك الجبل، وهذا من غرائب حوادث الجو. وقد عرفت حوادث من هذا القبيل بالنسبة لأشعة الشمس ويجوز أن يحدث مثلها بالنسبة لضوء القمر على أنه نادر جدا وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ} في سورة الأعراف.[171].
ويؤيد هذا ما أخرجه الطبراني وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: سحر القمر فنزلت {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} الآية فسماه ابن عباس كسوفا تقريبا لنوعه.
وهذا الوجه لا ينافي كون الانشقاق معجزة لأن حصوله في وقت سألهم من النبي صلى الله عليه وسلم آية وإلهام الله إياهم أن يسألوا ذلك في حين تقدير الله كاف في كونه آية صدق. أو لأن الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن يتحداهم به قبل حصوله دليل على أنه مرسل من الله إذ لا قبل للرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة أوقات ظواهر التغيرات للكواكب. وبهذا الوجه يظهر اختصاص ظهور ذلك بمكة دون غيرها من العالم، وإما على الوجه الأول فإنما لم يشعر به غير أهل مكة من الأرض لأنهم لم يكونوا متأهبين إليه إذ كان ذلك ليلا وهو وقت غفلة أو نوم ولأن القمر ليس ظهوره في حد واحد لأهل الأرض فإن مواقيت طلوعه تختلف باختلاف البلدان في ساعات الليل والنهار وفي مسامته السماء.
قال ابن كيسان: هو على التقديم والتأخير. وتقديره: انشق القمر واقتربت الساعة، أي لأن الأصل في ترتيب الأخبار أن يجري على ترتيبها في الوقوع وأن كان العطف بالواو لا يقتضي ترتيبا في الوقوع.
{وَانْشَقَّ} مطاوع شقه، والشق: فرج وتفرق بين أديم جسم ما بحيث لا تنفصل قطعة مجموع ذلك الجسم عن البقية، ويسمى أيضا تصدعا كما يقع في عود أو جدار.
فإطلاق الانشقاق على حدوث هوة في سطح القمر إطلاق حقيقي وإطلاقه على انطماس بعض ضوئه استعارة، وإطلاقه على تفرقة نصفين مجاز مرسل.
والاقتراب أصله صيغة مطاوعة، أي قبول فعل الفاعل، وهو هنا للمبالغة في القرب فإن حمل على حقيقة القرب فهو قرب اعتباري، أي قرب حلول الساعة فيما يأتي من الزمان قربا نسبيا بالنسبة لما مضى من الزمان ابتداء من خلق السماء والأرض على نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة كهاتين" وأشار بسباته والوسطى فإن تحديد المدة من وقت خلق العالم أو من وقت خلق الإنسان أمر لا قبل للناس به وما يوجد في كتب اليهود مبني على الحسد والتوهمات، قال ابن عطية: وكل ما يروى من التحديد في عمر الدنيا فضعيف واهن اه.
وفائدة هذا الاعتبار أن يقبل الناس على نبذ الشرك وعلى الاستكثار من الأعمال الصالحات واجتناب الآثام لقرب يوم الجزاء.
والساعة: علم بالغلبة على وقت فناء هذا العالم. ويجوز أن يراد بالساعة ساعة معهودة أنذروا بها في آيات كثيرة وهي ساعة استئصال المشركين بسيوف المسلمين.
وأن حمل القرب على المجاز، أي الدلالة على الإمكان، فالمعنى: اتضح للناس ما كانوا يجدونه محالا من فناء العالم فإن لحصول المثل والنظائر إقناعا بإمكان أمثالها التي هي أقوى منها.
وعطف {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} عطف جملة على جملة.
والخبر مستعمل في لازم معناه وهو الموعظة إن كانت الآية نزلت بعد انشقاق القمر كما تقدم لأن علمهم بذلك حاصل فليسوا بحاجة إلى لإفادتهم حكم هذا الخبر وإنما هم بحاجة إلى التذكير بأن من أمارات حلول الساعة أن يقع خسف في القمر بما تكررت موعظتهم به كقوله تعالى {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامه:7،8] الآية إذ ما يأمنهم أن يكون ما وقع من انشقاق القمر أمارة على اقتراب الساعة فما الانشقاق إلا نوع من الخسف فإن أشراط الساعة وعلاماتها غير محدودة الأزمنة في القرب والبعد من مشروطها.
[2] {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} .
يجوز أن يكون تذييلا للإخبار بانشقاق القمر فيكون المراد ب {آيَةٍ} في قوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً} القمر. فقد جاء في بعض الآثار: أن المشركين لما رأوا انشقاق القمر قالوا: هذا سحر محمد بن أبي كبشة وفي رواية قالوا: قد سحر محمد القمر، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا من ذكر أحوال تكذيبهم ومكابرتهم وعلى كلا الوجهين فإن وقوع آية، وهو نكرة في سياق الشرط يفيد العموم.
وجيء بهذا الخبر في صورة الشرط للدلالة على أن هذا ديدنهم ودأبهم.
وضمير {يَرَوْا} عائد إلى ضمير غير مذكور في الكلام دال عليه المقام وهو المشركون، كما جاء في مواضع كثيرة من القرآن، مع أن قصة انشقاق القمر وطعنهم فيها مشهور يومئذ معروفة أصحابه، فهم مستمرون عليه كلما رأوا آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ووصف {مُسْتَمِرٌّ} يجوز أن يكون مشتقا من فعل مر الذي هو مجاز في الزوال والسين والتاء للتقوية في الفعل، أي لا يبقى القمر منشقا. ويجوز أن يكون مشتقا من المرة بكسر الميم، أي القوة، والسين والتاء للطلب، أي طلب لفعله مرة، أي قوة، أي تمكننا. والمعنى: هذا سحر معروف متكرر، أي معهودا منه مثله.
[3 ] {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ و وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} .
{وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} .
وهذا إخبار عن حالهم فيما مضى بعد أن أخبر عن حالهم في المستقبل بالشرط الذي في قوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُو} [القمر:2]. ومقابلة ذلك بهذا فيه شبه احتباك كأنه قيل: وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا: سحر، وقد رأوا الآيات وأعرضوا وقالوا: سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وسيكذبون ويتبعون أهواءهم.
وعطف {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} عطف العلة على المعلول لأن تكذيبهم لا دافع لهم إليه إلا اتباع ما تهواه أنفسهم من بقاء حالهم على ما ألفوه وعهدوه واشتهر دوامه.
وجمع الأهواء دون أن يقول واتبعوا الهوى كما قال {إِنْ يَتَّبِعُون إلاالظن} [الأنعام: 116] حيث إن الهوى اسم جنس يصدق بالواحد والمتعدد، فعدل عن الإفراد إلى الجمع لمزاوجة ضمير الجمع المضاف إليه، وللإشارة إلى أن لهم أصنافا متعددة من الهواء: من حب الرئاسة، ومن حسد المؤمنين على ما آتاهم الله، ومن حب اتباع ملة آبائهم، ومن
محبة أصنامهم، وإلف لعوائدهم، وحفاظ على أنفتهم.
{وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} .
هذا تذييل للكلام السابق من قوله: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} إلى قوله: {أَهْوَاءَهُمْ} [القمر:2،3] فهو اعتراض بين جملة {وَكَذَّبُوا} وجملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} [القمر: 4]، والواو اعتراضية وهو جار مجرى المثل.
و {كُلِّ} من أسماء العموم. وأمر: اسم يدل على جنس عال ومثله شيء، وموجود، وكائن، ويتخصص بالوصف كقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83] وقد يتخصص بالعقل أو العادة كما تخصص شيء في قوله تعالى عن ريح عاد {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] أي من الأشياء القابلة للتدمير. وهو هنا يعم الأمور ذوات التأثير، أي تتحقق آثار مواهيها وتظهر خصائصها ولو اعترضتها عوارض تعطل حصول آثارها حينا كعوارض مانعة من ظهور خصائصها، أو مدافعات يراد منها إزالة نتائجها فإن المؤثرات لا تلبث أن تتغلب على تلك الموانع والمدافعات في فرص تمكنها من ظهور الآثار والخصائص.
والكلام تمثيل شبهت حال التردد آثار الماهية بين ظهور وخفاء إلى إبان التمكن من ظهور آثارها، بحالة سير السائر إلى المكان المطلوب في مختلف الطرق بين بعد وقرب إلى أن يستقر في المكان المطلوب. وهي تمثيلية مكنية لأن التركيب الذي يدل على الحال المشبهة بها حذف ورمز إليه بذكر شيء من روادف معناه وهو وصف مستقر.
ومن هذا المعنى قوله تعالى: {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:67] وقد أخذه الكميت بن زيد في قوله:
فالآن صرت إلى أمي ... ة والأمور إلى مصائر
فالمراد بالاستقرار الذي في قوله: {مُسْتَقِرٌّ} من الاستقرار في الدنيا.
وفي هذا تعريض بالإيماء إيماء إلى أن أمر دعوة محمد صلى الله عليه وسلم سيرسخ ويستقر بعد تقلقله.
ومستقر: بكسر القاف اسم فاعل من استقر، أي قر، والسين والتاء للمبالغة مثل السين والتاء في استجاب.
وقرأ الجمهور برفع الراء من {مُسْتَقِرّ} . وقرأه أبو جعفر بخفض الراء على جعل {أَمْرٍ} عطفا على الساعة. والتقدير: واقترب كل أمر. وجعل {مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1] صفة {أمر} .
والمعنى: أن إعراضهم عن الآيات وافتراءهم عليها بأنها سحر ونحوه وتكذيبهم الصادق وتمالؤهم على ذلك لا يوهن وقعها في النفوس ولا يعوق إنتاجها. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم صائر إلى مصير أمثاله الحق من الانتصار والتمام واقتناع الناس به وتزايد أتباعه، وأن اتباعهم أهواءهم واختلاق معاذيرهم صائر إلى مصير أمثاله الباطلة من الانخذال والافتضاح وانتقاص الأتباع.
وقد تضمن هذا التذييل بإجماله تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديدا للمشركين واستدعاء لنظر المترددين.
[4،5] {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَر [4] حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} .
عطف على جملة {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 3] أي جاءهم في القرآن من أنباء الأمم ما فيه مزدجر لهؤلاء، أو أريد بالأنباء الحجج الواردة في القرآن، أي جاءهم ما هو أشد في الحجة من انشقاق القمر. و {مِنَ الْأَنْبَاءِ} بيان ما فيه مزدجر قدم على المبين و {مِنْ} بيانية.
والمزدجر: مصدر ميمي، وهو مصاغ بصيغة اسم المفعول الذي فعله زائد على ثلاثة أحرف. وازدجره بمعنى زجره، ومادة الافتعال فيه للمبالغة. والدال بدل من تاء الافتعال التي تبدل بعد الزاي إلا مثل ازداد، أي ما فيه مانع لهم من ارتكاب ما ارتكبوه. والمعنى: ما هو زاجر لهم فجعل الازدجار مظروفا فيه مجازا للمبالغة في ملازمته له على طريقة التجريد كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] أي هو أسوة.
و {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} بدل من {مَا} ، أي جاءهم حكمة بالغة.
والحكمة: إتقان الفهم وإصابة العقل. والمراد هنا الكلام الذي يتضمن الحكمة ويفيد سامعه حكمة، فوصف الكلام بالحكمة مجاز عقلي كثير الاستعمال، وتقدم في سورة البقرة،
[269] {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} .
والبالغة: الواصلة، أي واصلة إلى المقصود مفيدة لصاحبها.
وفرع عليه قوله: {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} ، أي جاءهم ما فيه مزدجر فلم يغن ذلك، أي لم يحصل فيه الإقلاع عن ضلالهم.
و {مَا} تحتمل النفي، أي لا تغني عنهم النذر بعد ذلك. وهذا تمهيد لقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر: 6]، فالمضارع للحال والاستقبال، أي ما هي مغنية، ويفيد بالفحوى أن تلك الأنباء لم تغن عنهم فيما مضى بطريق الأحرى، لأنه إذا كان ما جاءهم من الأنباء لا يغني عنهم من الانزجار شيئا في الحال والاستقبال فهو لم يغن عنهم فيما مضى إذ لو أغنى عنهم لارتفع اللوم عليهم.
ويحتمل أن تكون {مَا} استفهامية للإنكار، أي ماذا فيد النذر من أمثالهم المكابرين المصرين، أي لا غناء لهم في تلك الأنباء، ف {مَا} على هذا في محل نصب على المفعول المطلق ل {تُغْنِ} [القمر:]، وحذف ما أضيف إليه {مَا} [البقرة: 17]. والتقدير: فأي غناء تغني النذر وهو المخبر بما يسوء، فإن الأنباء تتضمن إرسال الرسل من الله منذرين لقومهم فما أغنوهم ولم ينتفعوا بهم ولأن الأنباء فيها الموعظة والتحذير من مثل صنيعهم فيكون. فالمراد ب {النُّذُرُ} آيات القرآن، جعلت كل آية كالنذير: وجمعت على نذر، ويجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار اسم مصدر، وتقدم عنه قوله تعالى {هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} في آخر سورة النجم[56].
[6-8 ] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ نكر [6] خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ [ 7 ] مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} .
تفريع على {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5]، أي أعرض عن مجادلتهم فإنهم لا تفديهم النذر كقوله {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [لنجم: 29]، أي أنك قد بلغت فما أنت بمسؤول عن استجابتهم كما قال تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات:54]. وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمين له بأنه ما قصر في أداء الرسالة. ولا تعلق لهذه الآية بأحكام قتالهم إذ لم يكن السياق له ولا حدثت دواعيه يومئذ فلا وجه للقول بأنها منسوخة.
{يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} .
استئناف بياني لأن المر بالتولي مؤذن بغضب ووعيد فمن شأنه أن يثير في نفس السامع تساؤلا عن مجمل هذا الوعيد. وهذا الاستئناف وقع معترضا بين جملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ} [القمر: 4] وجملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [القمر: 9].
وإذ قد كان المتوعد به شيئا يحصل يوم القيامة قدم الظرف على عامله وهو {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} ليحصل بتقديمه إجمال يفصله بعض التفصيل ما يذكر بعده، فإذا سمع السامع هذا الظرف علم أنه ظرف لأهوال تذكر بعده هي تفصيل ما أجمله قوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} من الوعيد بحيث لا يحسن وقع شيء مما في هذه الجملة هذا الموقع غير هذا الظرف، ولولا تقديمه لجاء الكلام غير موثوق العرى، وانظر كيف جمع فيما بعد قوله: {يوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} كثيرا من الأهوال آخذ بعضها بحجز بعض بحسن اتصال ينقل كل منها ذهن السامع إلى الذي بعده من غير شعور بأنه يعدد له أشياء.
وقد عد سبعة من مظاهر الأهوال.
أولها : دعاء الداعي فإنه مؤذن بأنهم محضرون إلى الحساب، لأن مفعول {يَدْعُ} محذوف بتقدير: يدعوهم الداعي بدلالة ضمير {عَنْهُمُ} على تقدير المحذوف.
الثاني : أنه يدعو إلى شيء عظيم لأن ما في لفظ {شَيْءٍ} من الإبهام يشعر بأنه مهول، وما في تنكيره من التعظيم يجسم ذلك الهول.
وثالثها: وصف شيء بأنه {نُكُرٍ} ، أي موصوف بأنه تنكره النفوس وتكرهه.
والنكر بضمتين: صفة، وهذا الوزن قليل في الصفات، ومنه قولهم: روضة أنف، أي جديدة لم ترعها الماشية، ورجل شلل، أي خفيف سريع في الحاجات، ورجل سجح بجيم قبل الحاء، أي سمح، وناقة أجد: قوية موثقة فقار الظهر، ويجوز إسكان عين الكلمة فيها للتخفيف وبه قرأ ابن كثير هنا.
ورابعها : {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} أي ذليلة ينظرون من طرف خفي لا تثبت أحداقهم في وجوه الناس، وهي نظرة الخائف المفتضح وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما.
وخامسها : تشبيههم بالجراد المنتشر في الاكتظاظ واستتار بعضهم ببعض من شدة الخوف زيادة على ما يفيده التشبيه من الكثرة والتحرك.
وسادسها : وصفهم بمهطعين، والمهطع: الماشي سريعا مادا عنقه، وهي مشية مذعور غير ملتف إلى شيء، يقال: هطع وأهطع.
وسابعها : قولهم: {هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} وهو قول من أثر ما في نفوسهم من خوف. و {عَسِرٌ} : صفة مشبهة من العسر وهو الشدة والصعوبة. ووصف اليومب {عَسِرٌ} وصف مجازي عقلي باعتبار كونه زمانا لأمور عسر شديدة من شدة الحساب وانتظار العذاب.
وأبهم {شَيْءٍ نُكُرٍ} للتهويل، وذلك هو أهوال الحساب وإهانة الدفع ومشاهدة ما أعد لهم من العذاب.
وانتصب {خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ} على الحال من الضمير المقدر في {يَدْعُ الدَّاعِ} وإما من ضمير {يَخْرُجُونَ} مقدما على صاحبه.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وعاصم وأبو جعفر {خُشَّعاً} بصيغة جمع خاشع. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {خُشَّعاً} بصيغة اسم الفاعل. قال الزجاج: لك في أسماء الفاعلين إذا تقدمت على الجماعة التوحيد والتذكير نحو خاشعا أبصارهم. ولك التوحيد والتأنيث نحو قراءة ابن مسعود {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} ولك الجمع نحو {بْصَارُهُمْ} اه.
و {أَبْصَارِهِمْ} فاعل {خُشَّعاً} ولا ضير في كون الوصف الرافع للفاعل على صيغة الجمع لأن المحضور هو لحاق علامة الجمع والتثنية للفعل إذا كان فاعله الظاهر جمعا أو مثنى، وليس الوصف كذلك، كما نبه عليه الرضي على إنه إذا كان الوصف جمعا مكسرا، وكان جاريا على موصوف هو جمع، فرفع الاسم الظاهر الوصف المجموع أولى من رفعه بالوصف المجموع المفرد على ما اختاره المبرد وابن مالك كقول امرئ القيس:
وقوفا بها صبحي على مطيهم
وشاهد هذا القراء.
وقوله {يَقُولُ الْكَافِرُونَ} إظهار في مقام الإضمار لوصفهم بهذا الوصف الذميم وفيه تفسير الضمائر السابقة.
والأجداث: جمع جدث وهو القبر، وقد جعل الله خروج الناس إلى الحشر من مواضع دفنهم في الأرض، كما قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] فيعاد خلق كل ذات من التراب الذي فيه بقية من أجزاء الجسم وهي ذرات يعلمها الله تعالى.
والجراد: اسم جمع واحدة جرادة وهي حشرة ذات أجنحة أربعة مطوية على جنبيها وأرجل أربعة، أصفر اللون.
والمنتشر: المنبث على وجه الأرض. والمراد هنا الدبي وهو فراخ الجراد قبل أن تظهر له الأجنحة لأنه يخرج من ثقب في الأرض هي مبيضات أصوله فإذا تم خلقه خرج من الأرض يزحف بعضه فوق بعض قال تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4] وهذا التشبيه تمثيلي لأنه تشبيه هيئة خروج الناس من القبور متراكمين بهيئة خروج الجراد متعاظلا يسير غير ساكن.
[9] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} .
استئناف بياني ناشئ عن قوله {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:4] فإن من أشهرها تكذيب قوم نوح رسولهم، وسبق الإنباء به في القرآن في السور النازلة قبل هذه السورة. والخبر مستعمل في التذكير وليفرع عليه ما بعده. فالمقصود النعي عليهم عدم ازدجارهم بما جاءهم من الأنباء بتعداد بعض المهم من تلك الأنباء.
وفائدة ذكر الظرف {قَبْلِهِمْ} تقرير تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، أي أن هذه شنشنة أهل الضلال كقوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} [فاطر: 4] ألا ترى أنه ذكر في تلك الآية قوله {مِنْ قَبْلِكَ} نظير ما هنا مع ما في ذلك من التعريض بأن هؤلاء معرضون.
واعلم أنه يقال: كذب، إذا قال قولا يدل على التكذيب، ويقال كذب أيضا، إذا اعتقد أن غيره كاذب قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} [الأنعام: 33] في قراءة الجمهور بتشديد الذال، والمعنيان محتملان هنا، فإن كان فعل {كُذِّبَتْ} هنا مستعملا في معنى القول بالتكذيب، فإن قوم نوح شافهوا نوحا بأنه كاذب، وإن كان مستعملا في اعتقادهم كذبه، فقد دل على اعتقادهم إعراضهم عن إنذاره وإهمالهم الانضواء إليه عندما أنذرهم بالطوفان.
وعرف {قَوْمِ نُوحٍ} بالإضافة إلى اسمه إذ لم تكن للأمة في زمن نوح اسم يعرفون به.
وأسند التكذيب إلى جميع القوم لأن الذين صدقوه عدد قليل فإنه ما آمن به إلا قليل كما تقدم في سورة هود.
والفاء في قوله: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} لتفريع الإخبار بتفصيل تكذيبهم إياه بأنهم قالوا: {مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} ، على الإخبار بأنهم كذبوه على الإجمال، وإنما جيء بهذا الأسلوب لأنه لما كان المقصود من الخبر الأول تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم فرع عليه الإخبار بحصول المشابهة بين تكذيب قوم نوح رسولهم وتكذيب المشركين محمدا صلى الله عليه وسلم في أنه تكذيب لمن أرسله الله واصطفاه بالعبودية الخاصة، وفي أنه تكذيب مشوب ببهتان إذ قال كلا الفريقين لرسوله: مجنون، ومشوب ببذاءة إذ آذى كلا الفريقين رسولهم وازدجروه. فمحل التفريع هو وصف نوح بعبودية الله تكريما له، والإخبار عن قومه بأنهم افتروا عليه وصفه بالجنون، واعتدوا عليه بالأذى والازدجار. فأصل تركيب الكلام: كذبت قبلهم قوم نوح فقالوا: مجنون وازدجر. ولما أريد الإيماء إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء جعل ما بعد التسلية مفرعا بفاء التفريع ليظهر قصد استقلال ما قبله ولولا ذلك لكان الكلام غنيا عن الفاء إذ كان يقول: كذبت قوم نوح عبدنا.
وأعيد فعل {كَذَّبُوا} لإفادة توكيد التكذيب، أي هو تكذيب قوي كقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء:130] وقوله: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63]، وقول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
وقد نبه على ذلك ابن جني في إعراب هذا البيت من ديوان الحماسة، وذكر أن أبا علي الفارسي نحا غير هذا الوجه ولم يبينه.
وحاصل نظم الكلام يرجع إلى معنى: أنه حصل فعل فكان حصوله على صفة خاصة أو طريقة خاصة.
ويجوز أن يمون فعل {كُذِّبَتْ} مستعملا في معنى: إنهم اعتقدوا كذبه، فتفريع {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} عليه تفريع تصريحهم بتكذيبه على اعتقادهم كذبه. فيكون فعل {كذبوا} مستعملا في معنى غير الذي استعمل فيه فعل {كُذِّبَتْ} ، والتفريع ظاهر على هذا الوجه.
وهذا الوجه يتأتى في قوله تعالى : {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي} في سورة سبأ. [45].
ويجوز أن يكون قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} إخبارا عن تكذيبهم بتفرد الله بالإلهية حين تلقوه من الأنبياء الذين كانوا قبل نوح ولم يكن قبله رسول وعلى هذا الوجه يكون التفريع ظاهرا.
و {وَازْدُجِرَ} معطوف على {قَالُوا} وهو افتعل من الزجر. وصيغة الافتعال هنا للمبالغة مثلها: افتقر واضطر.
ونكتة بناء الفعل للمجهول هنا التوصل إلى حذف ما يسند إليه فعل الازدجار المبني للفاعل وهو ضمير {قَوْمِ نُوحٍ} ، فعدل عن أن يقال: وازدجروه، إلى قوله {وَازْدُجِرَ} محاشاة للدال على ذات نوح وهو ضمير من أن يقع مفعولا لضميرهم. ومرادهم أنهم ازدجروه، أي نهوه عن ادعاء الرسالة بغلظة قال تعالى {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [لأعراف: 66] وقال: {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشعراء:116] وقال : {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود:38].
[10،14] {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [10] فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [11] فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [12] وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ [13] تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [14].
تفريع على {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ} [القمر:9] وما تفرع عليه.
والمغلوب مجاز، شبه يأسه من أجابتهم لدعوته بحال الذي قاتل أو صارع فغلبه مقاتله، وقد حكى الله تعالى في سورة نوح كيف سلك مع قومه وسائل الإقناع بقبول دعوته فأعيته الحيل.
و {أَنِّي} بفتح الهمزة على تقدير باء الجر محذوفة، أي دعا بأني مغلوب، أي بمضمون هذا الكلام في لغته.
وحذف متعلق {فَانْتَصِرْ} للإيجاز وللرعي على الفاصلة والتقدير: فانتصر لي، أي انصرني.
وجملة {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} إلى آخرها مفرعة على جملة {فَدَعَا رَبَّهُ} ، ففهم من التفريع أن الله استجاب دعوته وأن إرسال هذه المياه عقاب لقوم نوح. وحاصل المعنى: فأرسلنا عليهم الطوفان بهذه الكيفية المحكمة السريعة.
وقرأ الجمهور {فَفَتَحْنَا} بتخفيف التاء. وقرأه ابن عامر بتشديدها على المبالغة. والفتح بمعنى شدة هطول المطر.
وجملة {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} مركب تمثيلي لهيئة اندفاق الأمطار من الجو بهيئة خروج الجماعات من أبواب الدار على طريقة:
وسالت بأعناق المطي الأباطح
والمنهمر: المنصب، أي المصبوب يقال: همر الماء إذا صبه، أي نازل بقوة.
والتفجير: إسالة الماء، يقال: تفجر الماء، إذا سال، قال تعالى {حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الإسراء:9].
وتعدية {وَفَجَّرْنَا} إلى اسم الأرض تعدية مجازية إذ جعلت الأرض من كثرة عيونها كأنها عين تتفجر. وفي هذا إجمال جيء من أجله بالتمييز له بقوله {عُيُوناً} لبيان هذه النسبة، وقد جعل هذا ملحقا بتمييز النسبة لأنه محول عن المفعول إذ المعنى: وفجرنا عيون الأرض، وهو مثل المحول عن الفاعل في قوله تعالى {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} [مريم: 4]، أي شيب الرأس إذ لا فرق بينهما، ونكتة ذلك واحدة. قال في المفتاح: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال للرأس إذ وازن اشتعل شيب الرأس، واشتعل الرأس شيبا وازن اشتعلت النار في بيتي واشتعل في بيتي نارا اه.
والتقاء الماء: تجمع ماء الأمطار مع ماء عيون الأرض فالالتقاء مستعار للاجتماع، شبه الماء النازل من السماء والماء الخارج من الأرض بطائفتين جاءت كل واحدة من مكان فالتقتا في مكان واحد كما يلتقي الجيشان.
والتعريف في {الْمَاءُ} للجنس. وعلم من إسناد الالتقاء أنهما نوعان من الماء ماء المطر وماء العيون.
و {على} من قوله: {عَلَى أَمْرٍ} يجوز أن تكون بمعنى في كقوله تعالى :{و َدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15]، وقول الفرزدق:
على حالة لو أن في البحر حاتما ... على جوده لظن بالماء حاتم
والظرفية مجازية. ويجوز أن تكون {عَلَى} للاستعلاء المجازي، أي ملابسا لأمر قد قدر ومتمكنا منه.
ومعنى التمكن: شدة المطابقة لما قدر، وأنه لم يحد عنه قيد شعرة.
والأمر: الحال والشأن وتنوينه للتعظيم.
ووصف الأمر بأنه {قدْ قُدِرَ} ، أي أتقن وأحكم بمقدار، يقال: قدره بالتخفيف إذا ضبطه وعينه كما قال تعالى :{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] ومحل {عَلَى أَمْر} النصب على الحال من الماء.
وأكتفي بهذا الخبر عن بقية المعنى. وهو طغيان الطوفان عليهم اكتفاء بما أفاده تفريع {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء السماء} كما تقدم انتقالا إلى وصف إنجاء نوح من ذلك الكرب العظيم، فجملة {وَحَمَلْنَاهُ} معطوفة على التفريع عطف احتراس.
والمعنى: فأغرقناهم ونجيناه.
و {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} صفة السفينة، أقيمت مقام الموصوف هنا معوضا عن أن يقال: وحملناه على الفلك لأن في هذه الصفة بيان متانة هذه السفينة وإحكام صنعها. وفي ذلك إظهار لعناية الله بنجاة نوح ومن معه فإن الله أمره بصنع السفينة وأوحى إليه كيفية صنعها ولم تكن تعرف سفينة قبلها، قال تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود:37] وعادة البلغاء إذا احتاجوا لذكر صفة بشيء وكان ذكرها دالا على موصوفها أن يستغنوا عن ذكر الموصوف إيجازا كما قال تعالى :{أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} [سبأ: 11]، أي دروعا سابغات.
والحمل: رفع الشيء على الظهر أو الرأس لنقله {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7] وله مجازات كثيرة.
والألواح: جمع لوح وهو القطعة المسواة من الخشب.
والدسر: جمع دسار، وهو المسمار.
وعدي فعل {حملنا} إلى ضمير نوح دون من معه من قومه لأن هذا الحمل كان إجابة
لدعوته ولنصره فهو المقصود الأول من هذا الحمل، وقد أشار إلى ذلك قوله تعالى {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [الأعراف: 72] وقوله: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28] ونحوه من الآيات الدالة على أنه المقصود بالانجاء وأن نجاة قومه بمعيته، وحسبك قوله تعالى في تذييل هذه الآية {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} فإن الذي كان كفر هو نوح كفر به قومه.
و{عَلَى} للاستعلاء المجازي وهو التمكن كقوله تعالى: {إِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} ، وإلا فإن استقراره في السفينة كائن في جوفها كما قال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة:11] {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} [هود:40].
والباء في {بِأَعْيُنِنَا} للملابسة.
وأعين: جمع عين بإطلاقه المجازي، وهو الاهتمام والعناية، كقول النابغة:
علمتك ترعاني بعين بصيرة
وقال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
وجمع العين لتقوية المعنى لأن الجمع أقوى من المفرد، أي بحراسات منا وعنايات. ويجوز أن يكون الجمع باعتبار أنواع العنايات بتنوع آثارها. وأصل استعمال لفظ العين في مثله تمثيل بحال الناظر إلى الشيء المحروس مثل الراعين كما يقال للمسافر عين الله عليك ثم شاع ذلك حتى ساوى الحقيقة فجمع بذلك الاعتبار. وتقدم في سورة هود.
و {جَزَاءُ} مفعول لأجله ل {فَتَحْنَا} وما عطف عليه، أي: فعلنا ذلك كله جزاء لنوح. و {مَنْ كَانَ كُفِرَ} هو نوح فإن قومه كفروا به، أي لم يؤمنوا بأنه رسول وكان كفرهم به منذ جاءهم بالرسالة فلذلك أقحم هنا فعل {كَانَ} ، أي لمن كفر منذ زمان مضى وذلك ما حكي في سورة نوح[5،9] بقوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} إلى قوله: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} .
وحذف متعلق {كَفَرَ} لدلالة الكلام عليه. وتقديره: كفر به، أو لأنه نصح لهم ولقي في ذلك أشد العناء فلم يشكروا له بل كفروه فهو مكفور فيكون من باب قوله تعالى: {وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152].
[15] {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
ضمير المؤنث عائد إلى {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ، أي السفينة. والترك كناية عن الإبقاء وعدم الإزالة، قا ل تعالى {وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً} في سورة الذاريات [37]، وقال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} في سورة البقرة [17]، أي أبقينا سفينة نوح محفوظة من البلى لتكون آية يشهدها الأمم الذين أرسلت إليهم الرسل متى أراد واحد من الناس رؤيتها ممن هو بجوار مكانها تأييدا للرسل وتخويفا بأول عذاب عذبت به الأمم أمة كذبت رسولها فكانت حجة دائمة مثل ديار ثمود.
ثم أخذت تتناقص حتى بقي منها أخشاب شهدها صدر الأمة الإسلامية فلم تضمحل حتى رآها ناس من جميع الأمم بعد نوح فتواتر خبرها بالمشاهدة تأييدا لتواتر الطوفان بالأخبار المتواترة. وقد ذكر القرآن أنها استقرت على جبل الجودي فمنه نزل نوح ومن معه وبقيت السفينة هنالك لا ينالها أحد، وذلك من أسباب حفظها عن الاضمحلال. واستفاض الخبر بأن الجودي جبيل قرب قرية تسمى باقردى بكسر القاف وسكون الراء ودال مفتوحة مقصورا من جزيرة ابن عمر قرب الموصل شرقي دجلة.
وفي صحيح البخاري قال قتادة: لقد شهدها صدر هذه الأمة قال تعالى في سورة العنكبوت[15] {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ، وقد تقدم ذلك مفصلا هنالك.
والآية: الحجة. وأصل الآية الأمارة التي يصطلح عليها شخصان فأكثر {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [آل عمران: 41].
وإن ما قال هنا {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} وقال في سورة العنكبوت [15] {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} لأن ذكرها في سورة القمر ورد بعد ذكر كيفية صنعها وحدوث الطوفان وحمل نوح في السفينة. فأخبرت بأنها أبقيت بعد تلك الأحوال، فالآية في بقاءها، وفي سورة العنكبوت ورد ذكر السفينة ابتداء فأخبر بأن الله جعلها آية إذ أوحى إلى نوح بصنعها، فالآية في إيجادها وهو المعبر عنه ب {جَعَلْنَاهَا} .
وفرع على إبقاء السفينة آية استفهام عمن يتذكر بتلك الآية وهو استفهام مستعمل في معنى التحضيض على التذكر بهذه الآية واستقصاء خبرها مثل الاستفهام في قول طرفة:
إذ القوم قالوا من فتى... البيت
والتحضيض موجه إلى جميع من تبلغه هذه الآيات. و {مِنْ} زائدة للدلالة على عموم الجنس في الإثبات على الأصح من القولين.
و {مدكر} أصله: مذتكر مفتعل من الذكر بضم الذال، وهو التفكر في الدليل فقلبت تاء الافتعال دالا لتقارب مخرجيهما، وأدغم الذال في الدال لذلك، وقراءة هذه الآية مروية بخصوصها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وتقدم في سورة يوسف [45] {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} .
[16] { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ }.
تفريع على القصة بما تضمنته من قوله: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ} [القمر: 11] إلى آخره. و"كيف" للاستفهام عن حالة العذاب. وهو عذاب قوم نوح بالطوفان. والاستفهام مستعمل في التعجيب من شدة هذا العذاب الموصوف. والجملة في معنى التذييل وهو تعريض بتهديد المشركين أن يصيبهم عذاب جزاء تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم وإعراضهم وأذاهم كما أصاب قوم نوح.
وحذف ياء المتكلم من {نَذْرٍ} وأصله: نذري. وحذفها في الكلام في الوقف فصيح وكثر في القرآن عند الفواصل.
والنذر: جمع نذير الذي هو اسم مصدر أنذر كالنذارة وتقدم آنفا في هذه السورة وإنما جمعت لتكرر النذارة من الرسول لقومه طلبا لإيمانهم.
[71 ] وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
لما كانت هذه النذارة بلغت القرآن والمشركون معرضون عن استماعه حارمين أنفسهم من فوائده ذيل خبرها بتنويه شأن القرآن بأنه من عند الله وأن الله يسره وسهله لتذكر الخلق بما يحتاجونه من التذكير مما هو هدى وإرشاد. وهذا التيسير ينبئ بعناية الله به مثل قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] تبصرة للمسلمين ليزدادوا إقبالا على مدارسته وتعريضا بالمشركين عسى أن يرعووا عن صدودهم عنه كما أنبأ عنه قوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وتأكيد الخبر باللام وحرف التحقيق مراعى فيه حال المشركين الشاكين في أنه من عند الله.
والتيسير: إيجاد اليسر في شيء، من فعل كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة:185].
أو قول كقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان:58].
واليسر: السهولة، وعدم الكلفة في تحصيل المطلوب من شيء. وإذ كان القرآن كلاما فمعنى تيسيره يرجع إلى تيسير ما يراد من الكلام وهو فهم السامع المعاني التي عناها المتكلم به دون كلفة على السامع ولا إغلاق كما يقولون: يدخل للإذن بلا إذن. وهذا اليسر يحصل من جانب الألفاظ وجانب المعاني؛ فأما من جانب الألفاظ فذلك بكونها في أعلى درجات فصاحة الكلمات وفصاحة التراكيب، أي فصاحة الكلام، وانتظام مجموعها، بحيث يخف حفظها على الألسنة.
وأما من جانب المعاني فبوضوح انتزاعها من التراكيب ووفرة ما تحتوي عليه التراكيب منها من مغازي الغرض المسوقة هي له. وبتولد معان من معان أخر كلما كرر المتدبر تدبره في فهمها.
ووسائل ذلك لا يحيط بها الوصف وقد تقدم بسطها في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير ومن أهمها إيجاز اللفظ ليسرع تعلقه بالحفظ، وإجمال المدلولات لتذهب نفوس السامعين في انتزاع المعاني منها كل مذهب يسمح به اللفظ والغرض والمقام، ومنها الإطناب بالبيان إذا كان في المعاني بعض الدقة والخفاء.
ويتأتى ذلك بتأليف نظم القرآن بلغة هي أفصح لغات البشر وأسمح ألفاظا وتراكيب بوفرة المعاني وبكون تراكيبه أقصى ما تسمح به تلك اللغة، فهو خيار من خيار من خيار. قال تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
ثم يكون المتلقين له أمة هي أذكى الأمم عقولا وأسرعها أفهاما وأشدها وعيا لما تسمعه، وأطولها تذكرا له. دون نسيان، وهي على تفاوتهم في هذه الخلال تفاوت اقتضته سنة الكون لا ينكاد حالهم في هذا التفاوت ما أراده الله من تيسيره للذكر، لأن الذكر جنس من الأجناس المقول عليها بالتشكيك إلا أنه إذا اجتمع أصحاب الأفهام على مدارسته وتدبره بدت لمجموعهم معان لا يحصيها والواحد منهم وحده.
وقد فرض الله على علماء القرآن تبيينه تصريحا كقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وتعريضا كقوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] فإن هذه الأمة أجدر بهذا الميثاق.
وفي الحديث "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه
بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده" .
واللام في قوله {لِلذِّكْرِ} متعلقة ب {يَسَّرْنَا} وهي ظرف لغو غير مستقر، وهي لام تدل على أن الفعل تعلقت به فعل لانتفاع مدخول هذه اللام به فمدخولها لا يراد منه مجرد تعليل فعل الفاعل كما هو معنى التعليل المجرد ومعنى المفعول لأجله المنتصب بإضمار لام التعليل البسيطة، ولكن يراد أن مدخول هذه اللام علة خاصة مراعاة في تحصيل فعل الفاعل لفائدته، فلا يصح أن يقع مدخول هذه اللام مفعولا لأن المفعول لأجله علة بالمعنى الأعم ومدخول هذه اللام علة خاصة فالمفعول لأجله بمنزلة سبب الفعل وهو كمدخول باء السببية في نحو {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، ومجرور هذه اللام بمنزلة مجرور باء الملابسة في نحو {نْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون:20]، وهو أيضا شديد الشبه بالمفعول الأول في باب كسا وأعطى، فهذه اللام من القسم الذي سماه ابن هشام في مغني اللبيب: شبه التمليك. وتبع في ذلك ابن مالك في شرح التسهيل.
وأحسن من ذلك تسمية ابن مالك إياه في شرح كافيته وفي الخلاصة معنى التعدية. ولقد أجاد في ذلك لأن مدخول هذا اللام قد تعدى إليه الفعل الذي تعلقت به اللام تعدية مثل تعدية الفعل المتعدي إلى المفعول، وغفل ابن هاشم عن هذا التدقيق، وهو المعنى الخامس من معاني اللام الجارة في مغنى اللبيب وقد مثله بقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [الشورى:11]، ومثل له ابن مالك في شرح التسهيل بقوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً} [مريم: 5]، ومن الأمثلة التي تصلح له قوله تعالى {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يّس:72] وقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل:7] وقوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل:10]، ألا ترى أن مدخول اللام في هذه الأمثلة دال على المتنفعين بمفاعيل أفعالها فهم مثل أول المفعولين من باب كسا.
وإنما بسطنا القول في هذه اللام لدقة معناها وليتضح معنى قوله تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} .
وأصل معاني لام الجر هو التعليل وتنشأ من استعمال اللام في التعليل المجازي معان شاعت فساوت الحقيقة فجعلها النحويون معاني مستقلة لقصد الإيضاح.
والذكر: مصدر ذكر الذي هو التذكر العقلي لا اللساني، والذي يرادفه الذكر بضم
الذال اسما للمصدر، فالذكر هو تذكر ما في تذكره نفع ودفع ضر، وهو الاتعاظ والاعتبار.
فصار معنى {يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} أن القرآن سهلت دلالته لأجل انتفاع الذكر بذلك التيسير، فجعلت سرعة ترتيب التذكر على سماع القرآن بمنزلة منفعة للذكر لأنه يشيع ويروج بها كما ينتفع طالب شيء إذا يسرت له وسائل تحصيلية، وقربت له أباعدها. ففي قوله {يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} استعارة مكنية ولفظ {يَسَّرْنَا} تخييل. ويؤول المعنى إلى: يسرنا القرآن للمتذكرين.
وفرع على هذا المعنى قوله: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} . والقول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا، إلا أن بين الادكارين فرقا دقيقا، فالادكار السالف ادكار اعتبار عن مشاهدة آثار الأمة البائدة، والادكار هنا ادكار عن سماع مواعظ القرآن البالغة وفهم معانيه والاهتداء به.
[18 -20] {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ [18] نَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ [19] تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِر} .
موقع هذه الجملة كموقع جملة {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [القمر:9] فكان مقتضى الظاهر أن تعطف عليها، وإنما فصلت عنها ليكون في الكلام تكرير التوبيخ والتهديد والنعي عليهم عقب قوله: {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَر حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:4،5]. ومقام التوبيخ والنعي يقتضي التكرير.
والحكم على عاد بالتكذيب عموم عرفي بناء على أن معظمهم كذبوه وما آمن به إلا نفر قليل قال تعالى {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود: 58].
وفرع على التذكير بتكذيب عاد قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} قبل أن يذكر في الكلام ما يشعر بأن الله عذبهم فضلا عن وصف عذابهم.
فالاستفهام مستعمل في التشويق للخبر الوارد بعده وهو مجاز مرسل لأن الاستفهام يستلزم طلب الجواب والجواب يتوقف على صفة العذاب وهي لما تذكر فيحصل الشوق إلى معرفتها وهو أيضا مكنى به عن تهويل ذلك العذاب.
وفي هذا الاستفهام إجمال لحال العذاب وهو إجمال يزيد التشويق إلى ما يبينه بعده
من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} الآية، ونظيره قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1] ثم قوله {عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2] الآية.
وعطف {وَنُذُرِ} على {عَذَابِي} بتقدير مضاف دل عليه المقام، والتقدير: وعاقبة نذري، أي إنذاراتي لهم، أي كيف كان تحقيق الوعيد الذي أنذرهم.
ونذر: جمع نذير بالمعنى المصدري كما تقدم في أوائل السورة وقد علمت بما ذكرنا أن جملة {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} هذه ليست تكرير لنظيرها السابق في خبر قوم نوح، ولا اللاحق في آخر قصة عاد للاختلاف الذي علمته بين مفادها ومفاد مماثلها وأن اتحدت ألفاظهما.
والبليغ يتفطن للتغاير بينهما فيصرفه عن توهم أن تكون هذه تكريرا فإنه لما لم يسبق وصف عذاب عاد لم يستقم أن يكون قوله: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} تعجيبا من حالة عذابهم.
وقوله: {وَنُذُرِ} موعظة من تحقق وعيد الله إياهم، وقد أشار الفخر إلى هذا وقفينا عليه ببسط وتوجيه. وأصل السؤال عن تكرير هذه الجملة أثناء قصة عاد هنا أورده في كتاب درة التنزيل وغرة التأويل المنسوب إلى الفخر وإلى الراغب إلا أن كلام الفخر بالتفسير أجدر بالتعويل مما في درة التنزيل.
وجملة {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} الخ بيان للإجمال الذي في قوله {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} . وهو في صورة جواب الاستفهام الصوري. وكلتا الجملتين يفيد تعريضا بتهديد المشركين بعذاب على تكذيبهم.
وجملة البيان إنما اتصف حال العذاب دون حال الإنذار، أو حال رسولهم وهو اكتفاء لأن التكذيب يتضمن مجيء نذير إليهم وفي مفعول {كُذِّبَتْ} المحذوف إشعار برسولهم الذي كذبوه وبعث الرسول وتكذيبهم إياه بتضمن الإنذار لأنهم لما كذبوه حق عليهم إنذارهم.
وتعدية إرسال الريح إلى ضميرهم هي كإسناد التكذيب إليهم بناء على الغالب وقد أنجى الله هودا والذين معه كما علمت آنفا أو هو عائد إلى المكذبين بقرينة قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ} .
والصرصر: الشديدة القوية يكون لها صوت، وتقدم في سورة فصلت.
وأريد ب {يَوْمِ نَحْسٍ} أول أيام الريح التي أرسلت على عاد إذ كانت سبعة أيام إلا يوما كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] في سورة فصلت وقوله {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} في سورة الحاقة [7].
والنحس: سوء الحال.
وإضافة {يَوْمِ} إلى {نَحْسٍ} من إضافة الزمان إلى ما يقع فيه كقولهم يوم تحلاق اللمم، ويوم فتح مكة. وإنما يضاف اليوم إلى النحس باعتبار المنحوس، فهو يوم نحس للمعذبين ويوم نصر للمؤمنين ومصائب قوم عند قوم فوائد.. وليس في الأيام يوم يوصف بنحس أو بسعد لأن كل يوم تحدث فيه نحوس لقوم وسعود لآخرين، وما يروى من أخبار في تعيين بعض أيام السنة للنحس هو من أغلاط القصاصين فلا يلقي المسلم الحق إليها سمعه.
واشتهر بين كثير من المسلمين التشاؤم يوم الأربعاء. وأصل ذلك أنجز لهم من عقائد مجوس الفرس، ويسمون الأربعاء التي في آخر الشهر الأربعاء التي لا تدور ، أي لا تعود، أرادوا بهذا الوصف ضبط معنى كونها آخر الشهر لئلا يظن أنه جميع النصف الأخير منه وإلا فأية مناسبة بين عدم الدوران وبين الشؤم، وما من يوم من الأيام إلا وهو يقع في الأسبوع الأخير من الشهر ولا يدور في ذلك الشهر.
ومن شعر بعض المولدين من الخراسانيين:
لقاؤك للمبكر فأل سوء ... ووجهك أربعاء لا تدور
وانظر ما تقدم في سورة فصلت.
و {مُسْتَمِرٌّ} : صفة {نَحْسٍ} ، أي نحس دائم عليهم فعلم من الاستمرار أنه أبادهم إذ لو نجوا لما كان النحس مستمرا. وليس {مُسْتَمِرٌّ} صفة ل {يَوْمِ} إذ لا معنى لوصفه بالاستمرار.
والكلام في اشتقاق مستمر تقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2].
ويجوز أن يكون مشتقا من مر الشيء قاصرا، إذا كان مرا، والمرارة مستعارة للكراهية والنفرة فهو وصف كاشف لأن النحس مكروه.
والنزع: الإزالة بعنف لئلا يبقى اتصال بين المزال وبين ما كان متصلا به، ومنه نزع الثياب.
والأعجاز: جمع عجز: وهو أسفل الشيء، وشاع إطلاق العجز على آخر الشيء لأنهم يعتبرون الأجسام منتصبة على الأرض فأولاها ما كان إلى السماء وآخرها ما يلي الأرض.
وأطلق الأعجاز هنا على أصول النخل لأن أصل الشجرة هو في آخرها مما يلي الأرض.
وشبه الناس المطروحون على الأرض بأصول النخيل المقطوعة التي تقلع من منابتها لموتها إذ تزول فروعها ويتحات ورقها فلا يبقى إلا الجذوع الأصلية فلذلك سميت أعجازا.
و {مُنْقَعِرٍ} : اسم فاعل انقعر مطاوع قعره، أي بلغ قعره بالحفر يقال: قعر البئر إذا انتهى إلى عمقها، أي كأنهم أعجاز نخل قعرت دواخله وذلك يحصل لعود النخل إذا طال مكثه مطروحا.
ومنقعر: وصف النخل روعي في إفراده وتذكيره صورة لفظ نخل دون عدد مدلوله خلافا لما في قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وقوله: {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [الرحمن: 11].
قال القرطبي: قال أبو بكر ابن الأنباري سأل المبرد بحضرة إسماعيل القاضي1 عن ألف مسألة من جملتها، قيل له: ما الفرق بين قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَة} [الأنبياء:81] و {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} [يونس:12] وقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} ؟ فقال كل ما ورد عليك من هذا الباب فإن شأت رددته إلى اللفظ تذكيرا أو إلى المعنى تأنيثا اه.
وجملة {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} في موضع الحال من {الناس} ووجه الوصف ب {مُنْقَعِرٍ} الإشارة إلى أن الريح صرعتهم صرعا تفلقت منه بطونهم وتطايرت أمعاؤهم
ـــــــ
1 إسماعيل بن حماد البصري فقيه المالكية بالعراق، وقاضي الجماعة ببغداد، توفي سنة 282هـ له أحكام القرآن.
وأفئدتهم فصاروا جثثا فرغى. وهذا تفضيع لحالهم ومثلة لهم لتخويف من يراهم.
[21] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} .
تكرير لنظيره السابق عقب قصة قوم نوح لأن مقام التهويل والتهديد يقتضي تكرير ما يفيدهما. و {كيف} هنا استفهام على حالة العذاب، وهي الحالة الموصوفة في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} إلى {مُنْقَعِرٍ} [القمر:19،20]، والاستفهام مستعمل في التعجيب.
[22] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
تكرير لنظيره السابق في خبر قوم نوح.
[23 -25] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ [23] فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [24] أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [25].
القول في موقع جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} كالقول في موقع جملة {كَذَّبَتْ عَادٌ} [القمر: 18]. وكذلك القول في إسناد حكم التكذيب إلى ثمود وهو اسم القبيلة معتبر في الغالب الكثير. فإن صالحا قد آمن به نفر قليل كما حكاه الله عنهم في سورة الأعراف.
وثمود: ممنوع من الصرف باعتبار العلمية والتأنيث المعنوي، أي على تأويل الاسم بالقبيلة.
والنذر: جمع نذير الذي هو اسم مصدر أنذر، أي كذبوا بالإنذارات التي أنذرهم الله بها على لسان رسوله. وليس النذر هنا بصالح لحمله على جمع النذير بمعنى المنذر لأن فعل التكذيب إذا تعدى إلى الشخص المنسوب إلى الكذب تعدى إلى اسمه بدون حرف قال تعالى: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} [سبأ: 45] وقال: {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ} [الفرقان: 37] وقال: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ} [الحج: 42]، وإذا تعدى إلى الكلام المكذب تعدى إليه بالباء قال: {وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57] وقال: {وَكَذَّبَ بِه قَوْمُكَ} [الأنعام:66] وقال {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} [الأعراف:40] وقال: {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [آل عمران: 11]. وهذا بخلاف قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء:141].
والمعنى: أنهم كذبوا إنذارات رسولهم، أي جحدوها ثم كذبوا رسولهم، فلذلك
فرع على جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} قوله: {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} إلى قوله: {بلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} ولو كان المراد بالنذر جمع النذير وأطلق على نذيرهم لكان وجه النظم أن تقع جملة {فَقَالُوا أَبَشَراً} إلى آخرها غير معطوفة بالفاء لأنها تكون حينئذ بيانا لجملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} .
والمعنى: أن صالحا جاءهم بالإنذارات فجحدوا بها وكانت شبهتهم في التكذيب ما أعرب عنه قولهم {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} إلى آخره، فهذا القول يقتضي كونه جوابا عن دعوة وإنذار، وإنما فصل تكذيب ثمود وأجمل تكذيب عاد لقصد بيان المشابهة بين تكذيبهم ثمود وتكذيب قريش إذ تشابهت أقوالهم.
والقول في انتظام الجملة {فَقَالُوا أَبَشَراً} الخ بعد جملة {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} كالقول في جملة {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر:9] بعد جملة {فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ} . [القمر:9].
به صالحا وهذا قول قالوه لرسولهم لما أنذرهم بالنذر لأن قوله {كُذِّبَتْ} يومئذ بمخبر إذ التكذيب يقتضي وجود مخبر. وهو كلام شافهوا وهو الذي عنوه بقولهم {أَبَشَراً مِنَّا} الخ. وعدلوا عن الخطاب إلى الغيبة.
وانتصب {أَبَشَراً} على المفعولية ل {نَتَّبِعُهُ} على طريقة الاشتغال، وقد لاتصاله بهمزة الاستفهام لأن حقها التصدير واتصلت به دون أن تدخل على نتبع، لأن محل الاستفهام الإنكاري هو كون البشر متبوعا لا اتباعه له ومثله {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وهذا من دقائق مواقع أدوات الاستفهام كما بين في علم المعاني.
والاستفهام هنا الإنكاري، أنكروا أن يرسل الله إلى الناس بشرا مثلهم، أي لو شاء الله لأرسل ملائكة.
ووصف {بَشَراً} ب {وَاحِدَةً} : إما بمعنى أنه منفرد في دعوته لا أتباع له ولا نصراء، أي ليس ممن يخشى، أي بعكس قول أهل مدين {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91].
وأما بمعنى أنه أن من جملة آحاد الناس، أي ليس من أفضلنا.
وإما بمعنى أنه منفرد في ادعاء الرسالة لا سلف له فيها كقول أبي محجن الثقفي:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا ... سكن المدينة من مزارع فوم
يريد لا يناظرني في ذلك أحد.
وجملة {إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} تعليل لإنكار أن يتبعوا بشرا منهم تقديره: أنتبعك
وأنت بشر واحد منا.
و"إذن" حرف جواب هي رابطة الجملة بالتي قبلها. والضلال: عدم الاهتداء إلى الطريق، أرادوا: إنا إذن مخطئون في أمرنا.
وَ {السُعُرٍ} : الجنون، يقال بضم العين وسكونها.
وفسر أبن عباس السعر بالعذاب على أنه جمع سعير. وجملة {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} تعليل للاستفهام الإنكاري.
و {أُلْقِيَ} حقيقته: رمي من اليد إلى الأرض وهو هنا مستعار لإنزال الذكر من السماء قال تعالى {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5].
و"في" للظرفية المجازية، جعلوا تلبسهم بالضلال والجنون كتلبس المظروف بالظرف.
و {مِنْ بَيْنِنَا} حال من ضمير {عَلَيْهِ} ، أي كيف يلقي عليه الذكر دونا، يريدون أن فيهم من هو أحق منه بأن يوحي إليه حسب مدارك عقول الجهلة الذين يقيسون الأمر بمقاييس قصور أفهامهم ويحسبون أن أسباب الأثرة في العادات هي أسبابها في الحقائق.
وحرف {مِنْ} في قوله: {مِنْ بَيْنِنَا} بمعنى الفصل كما سماه ابن مالك وإن أباه ابن هشام أي مفصولا من بيننا كقوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220].
و {بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} إضراب عن ما أنكروه بقولهم {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} أي لم ينزل الذكر عليه من بيننا بل هو كذاب فيما ادعاه، بطر متكبر.
و {الْأَشِرُ} بكسر الشين وتخفيف الراء: أسم فاعل أشر، إذ فرح وبطر، والمعنى: هو معجب بنفسه مدع ما ليس فيه.
[26] {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} .
مقول قول محذوف دل عليه السياق تقديره: قلنا لنذيرهم الذي دل عليه قوله {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر:23] فإن النذر تقتضي نذيرا بها وهو المناسب لقوله بعده {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر:27] وذلك مبني على أن قوله آنفا {فَقَالُوا أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} [القمر: 25] كلام أجابوا به نذارة صالح إياهم المقدرة من قوله تعالى {كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِالنُّذُرِ} [القمر:23]، وبذلك أنتظم الكلام أتم انتظام.
وقرأ الجمهور {سَيَعْلَمُونَ} بياء الغيبة. وقرأ ابن عامر وحمزة {سَيَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب وهي تحتمل أن يكون هذا حكاية كلام من الله لصالح على تقدير: قلنا له: قل لهم، ففيه حذف قول. ويحتمل أن يكون خطابا من الله لهم بتقدير: قلنا لهم ستعلمون. ويحتمل أن يكون خطابا للمشركين على جعل الجملة معترضة.
والمراد من قوله {غَداً} الزمن المستقبل القريب كقولهم في المثل: إن مع اليوم غدا، أي إن مع الزمن الحاضر زمنا مستقبلا. يقال في تسلية النفس من ظلم ظالم ونحوه، وقال الطرماح:
وقبل غد يا ويح قلبي من غد ... إذا راح أصحابي ولست برائح
يريد يوم موته. والمراد به في الآية يوم نزول عذابهم المستقرب.
وتبيينه في قوله :{إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} [القمر: 27] الخ، أي حين يرون المعجزة وتلوح لهم بوارق العذاب يعلمون أنهم الكذابون الأشرون لا صالح. وعلى الوجه الثاني في ضمير {سَيَعْلَمُونَ} يكون الغد مرادا به: يوم انتصار المسلمين في بدر ويوم فت مكة، أي سيعلمون من الكذاب المماثل للكذاب في قصة ثمود.
[27،29] {إنا مرسلوا ِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [27] وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [28] فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} .
هذه الجملة بيان لجملة {سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر:26] باعتبار ما تضمنه الجملة المبينة بفتح الياء من الوعيد وتقريب زمانه وإن فيه تصديق الرسول الذي كذبوه.
وضمير {لَهُمْ} جار على مقتضى الظاهر على قراءة الجمهور {سَيَعْلَمُونَ} بياء الغائبة، وإما على قراءة ابن عامر وحمزة {سَيَعْلَمُونَ} بتاء الخطاب فضمير {لَهُمْ} التفات.
وإرسال الناقة إشارة إلى قصة معجزة صالح أنه أخرج لهم ناقة من صخرة وكانت تلك المعجزة مقدمة الأسباب التي عجل لهم العذاب لأجلها، فذكر هذه القصة في جملة
البيان توطئة وتمهيد.
والإرسال مستعار لجعلها آيه لصالح. وقد عرف خلق خوارق العادات لتأييد الرسل باسم الإرسال في القرآن كما قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59] فشبهت الناقة بشاهد أرسله الله لتأييد رسوله. وهذا مؤذن بأن في هذه الناقة معجزة وقد سماها الله آية في قوله حكاية عنهم وعن صالح {فأت بآية إ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ} [الشعراء:154،155] الخ.
و {فِتْنَةً لَهُمْ} حال مقدر، أي تفتنهم فتنة هي مكابرتهم في دلالتها على صدق رسولهم، وتقدير معنى الكلام: إنا مرسلوا الناقة آية لك وفتنة لهم.
وضمير {لَهُمْ} عائد إلى المكذبين منهم بقرينه إسناد التكذيب كما تقدم. واسم الفاعل من قوله {مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} مستعمل في الاستقبال مجازا بقرينه قوله {مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} ، مستعمل في الاستقبال مجازا بقرينة قوله: {فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} فعدل على أن يقال: سنرسل، إلى صيغة اسم الفاعل الحقيقية في الحال لتقريب زمن الاستقبال من زمن الحال.
والارتقاب: الانتظار، ارتقب مثل: رقب، وهو أبلغ دلالة من رقب، لزيادة المبني فيه.
وعدي الارتقاب إلى ضميرهم على تقدير مضاف يقتضيه الكلام لأنه لا يرتقب ذواتهم وإنما يرتقب أحوالا تحصل لهم. وهذه طريقة إسناد أو تعليق المشتقات التي معانيها لا تسند إلى الذوات فتكون على تقدير مضاف اختصارا في الكلام اعتمادا على ظهور المعنى. وذلك مثل إضافة التحريم والتحليل إلى الذوات إلى الذوات في قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} المائدة:3]. والمعنى: فأرتقب ما يحصل لهم من الفتنة عند ظهور الناقة.
والاصطبار: الصبر القوي، وهو كالارتقاب أيضا أقوى دلالة من الصبر، أي أصبر صبرا لا يعتريه ملل ولا ضجر، أي أصبر على تكذيبهم ولا تأيس من النصر عليهم، وحذف متعلق {أصطبر} ليعم كل حال تستدعي الضجر. والتقدير: وأصطبر على أذاهم وعلى ما تجده في نفسك من أنتظار النصر.
وجملة {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} معطوفة على جملة {إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ} باعتبار إن الوعد بخلق آية الناقة يقتضي كلاما محذوفا، تقديره: فأرسلنا لهم الناقة وقلنا نبئهم إن الماء قسمة بينهم على طريقة العطف والحذف في قوله: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ
اضْرِ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَق} [الشعراء:63] وإن كان حرف العطف مختلفا، ومثل هذا الحذف كثير في إيجاز القرآن.
والتعريف في {الْمَاءُ} للعهد، أي ماء القرية الذي يستقون منه، فإن لكل محلة ينزلها قوم ماءا لسقياهم وقال تعالى {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} [القصص:23].
وأخبر عن الماء بأنه {قِسْمَةٌ} . والمراد مقسوم فهو من الإخبار للمصدر للتأكيد والمبالغة.
وضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى المعلوم من المقام بعد ذكر الماء إذ من المتعارف أن الماء يستقي من أهل القرية لأنفسهم وماشيتهم، ولما ذكرت الناقة علم أنها لا تستغني عن الشرب فغلب ضمير العقلاء على ضمير الناقة الواحدة وإن لم يكن للناقة مالك خاص أمر الله لها بنوبة في الماء. وقد جاء في آية سورة الشعراء [155] {قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} وهذا مبدأ الفتنة، فقد روي أن الناقة كانت في يوم شربها تشرب ماء البئر كله فشحوا بذلك وأضمروا حلدها عن الماء فأبلغهم صالح أن الله ينهاهم عن أن يمسوها بسوء.
والمحتضر بفتح الضاد اسم مفعول من الحضور وهو ضد الغيبة. والمعنى: محتضر عنده فحذف المتعلق لحضوره. وهذا من جملة ما أمر رسولهم بأن ينبئهم به، أي لا يحضر القوم في يوم شرب الناقة، وهي بإلهام الله لا تحضر في أيام شرب القوم. والشرب بكسر الشين: نوبة الاستقاء من الماء. فنادوا صاحبهم الذي أغروه بقتلها وهو قدار بضم القاف وتخفيف الدال بن سالف. ويعرف عند العرب بأحمر، قال زهير:
فتنتج لكم غلمان أشأم كلهم ... كأحمر عاد ثم ترضع فتفطم
يريد أحمر ثمود لأن ثمودا إخوة عاد ولم أقف على سبب وصفه بأحمر وأحسب أنه لبياض وجهه . وفي الحديث "بعثت إلى الأحمر والأسود" ، وكان قدار من سادتهم وأهل العزة منهم، وشبه النبي صلى الله عليه وسلم بأبي زمعة يعني الأسود بن المطلب بن أسد في قوله فانتداب لها رجل ذو منعة في قومه كأبي زمعة أي فأجاب نداءهم فرماها بنبل فقتلها.
وعبر بصاحبهم للإشارة إلى أنهم راضون بفعله إذ هم مصاحبون له وممالئون.
وداؤهم إياه نداء الإغراء بالناقة وإنما نادوه لأنه مشتهر بالإقدام وقلة المبالاة بعزته.
و {تَعَاطَى} مطاوع عاطاه وهو مشتق من: عطا يعطو، إذا تناول. وصيغة تفاعل
تقتضي تعداد الفاعل، شبه تخوف القوم من تلتها لما أنذرهم به رسولهم من الوعيد وترددهم في الإقدام على قتلها بالمعاطاة فكل واحد حين يحجم عن مباشرة ذلك ويشير بغيره كأنه يعطي ما بيده إلى يد غيره حتى أخذه قدار.
وعطف {فَعَقَرَ} بالفاء للدلالة على سرعة إتيانه ما دعوه لأجله.
والعقل: أصله ضرب البعير بالسيف على عراقيبه ليسقط إلى الأرض جاثيا فيتمكن الناحر من نحره، قال أبو طالب:
ضروب بنصل السيف سوق سمائها ... إذا عدموا زادا فإنك عاقر
وغلب إطلاقه على قتل البعير كما هنا إذ ليس المراد أنه عقرها بل قتلها بنبله.
[30] {كَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} .
القول فيه كالقول في نظيره الواقع في قصة قوم نوح فليس هو تكريرا ولكنه خاص بهذه القصة.
[31 ]{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} .
جواب قوله {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرَِ} [القمر:30] فهو مثل موقع قوله :{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19] في قصة عاد كما تقدم.
والصيحة: الصاعقة وهي المعبر عنها بالطاغية في سورة الحاقة، وفي سورة الأعراف بالرجفة، وهي صاعقة عظيمة خارقة للعادة أهلكتهم، ولذلك وصفت ب {واحِدَةً} للدلالة على أنها خارقة للعادة إذ أتت على قبيلة كاملة وهم أصحاب الحجر.
و {كَانُوا} بمعنى: صاروا، وتجيء "كَانَ" بمعنى "صار" حين يراد بها كون متحدد لم يكن من قبل.
والهشيم : ما يبس وجف من الكلأ ومن الشجر، وهو مشتق من الهشم وهو الكسر لأن اليابس من ذلك يصير سريع الانكسار. والمراد هنا شي خاص منه وهو ما جف من أغصان العضاة والشوك وعظيم الكلأ كانوا يتخذون منه حظائر لحفظ أغنامهم من الريح والعادية ولذلك أضيف الهشيم إلى المحتضر. وهو بكسر الظاء المعجمة: الذي يعمل الحظيرة ويبنيها، وذلك أضيف الهشيم ويلقيه على الأرض ليرصفه بعد ذلك سياجا
لحظيرته فالمشبه به هو الهشيم المجموع في الأرض قبل أن يسيج ولذلك قال {كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} ولم يقل: كهشيم الحظيرة، لأن المقصود بالتشبيه حالته قبل أن يرصف ويصفف وقبل أن تتخذ منه الحظيرة.
والمحتظر: مفتعل من الحظيرة، أي متكلف عمل الحظيرة.
والقول في تعدية {أَرْسَلْنَا} إلى ضمير {ثَمُود} كالقول في {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} . [القمر:19].
[32 ]{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
تكرير ثان بعد نظيرته السافلين في قصة قوم نوح وقصة عاد تذييلا لهذه القصة كما ذيلت بنظيريه القصتان السالفتان اقتضى التكرير مقام الامتنان والحث على التدبر بالقرآن لأن التدبر فيه يأتي بتجنب الضلال ويرشد إلى مسالك الاهتداء. فهذا أهم من تكرير {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:30] فلذلك أوثر.
[33،35] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ [33] أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ [34] نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} .
القول في مفرداته كالقول في نظائره، وقصة قوم لوط تقدمت في سورة الأعراف وغيرها.
وعرف قوم لوط بالإضافة إليه إذ لم يكن لتلك الأمة اسم يعرفون به عند العرب.
ولم يحك هنا ما تلقى به قوم لوط كما حكي في القصص الثلاث قبل هذه، وقد حكي ذلك في سورة الأعراف وفي سورة هود وفي سورة الحجر لأن سورة القمر بنيت على تهديد المشركين عن إعراضهم عن الاتعاظ بآيات الله التي شاهدوها وآثار آياته على الأمم الماضية التي علموا أخبارها وشهدوا آثارها، فلم يكن ثمة مقتض لتفصيل أقوال تلك الأمم إلا ما كان منها مشابها لأقوال المشركين في تفضيله ولم تكن أقوال قوم لوط بتلك المثابة، فلذلك أقتصر فيها على حكاية ما هو مشترك بينهم وبين المشركين وهو تكذيب رسولهم وإعراضهم عن نذره. والنذر تقدم.
وجملة {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} استئناف بياني ناشئ عن الإخبار عن قوم لوط بأنهم كذبوا بالنذر.
وكذلك جملة {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} . وجملة {كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} .
والحاصب: الريح التي تحصب، أي ترمي بالحصباء ترفعها من الأرض لقوتها، وتقدم في قوله تعالى {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} في سورة العنكبوت.[40].
والاستثناء حقيقي لأن آل لوط من جملة قومه.
وآل لوط: قرابته وهم بناته، ولوط داخل بدلالة الفحوى. وقد ذكر في آيات أخرى أن زوجة لوط لم ينجها الله ولم يذكر ذلك هنا اكتفاء بمواقع ذكره وتنبيها على أن من لا يؤمن بالرسول لا يعد من آله، كما قال {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].
وذكر {بِسِحْرٍ} ، أي في وقت السحر للإشارة إلى إنجائهم قبيل حلول العذاب بقومهم لقوله بعده {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} .
وانتصب {نِعْمَةَ} على الحال من ضمير المتكلم، أي إنعاما منا.
وجملة {ذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} معترضة، وهي استئناف بياني عن جملة {نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} باعتبار ما معها من الحال، أي إنعاما لأجل أنه شكر، ففيه إيماء بأن إهلاك غيرهم لأنهم كفروا، وهذا تعريض بإنذار المشركين وبشارة للمؤمنين.
وفي قوله {مِنْ عِنْدِنَا} تنويه بشأن هذه النعمة لأن ظرف {عنْدَ} يدل على الادخار والاستئثار مثل {لَدُنْ} في قوله {منْ لَدُنَّا} . فذلك أبلغ من أن يقال: نعمة منا أو أنعمنا.
[36 ]{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} .
عطف على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً} . [القمر:34].
وتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق يقصد منه تأكيد الغرض الذي سيقت القصة جله وهو موعظة قريش الذين أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتماروا بالنذر.
والبطشة: المرة من البطش، وهو أخذ بعنف لعقاب ونحوه، وتقدم في قوله :{أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا} في آخر الأعراف[195] وهي هنا تمثيل للإهلاك السريع مثل قوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} في سورة الدخان.[16].
والتماري: تفاعل من المراء وهو الشك. وصيغة المفاعلة للمبالغة. وضمن
{َتَمَارَى} معنى: كذبوا فعدي بالباء، وتقدم عند قوله تعالى {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى} في سورة النجم.[55].
[37 ] { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} .
إجمال لما ذكر في غير هذه السورة في قصة قوم لوط أنه نزل به ضيف فرام قومه الفاحشة بهم وعجز لوط عن دفع قومه إذ اقتحموا بيته وأن الله أعمى أعينهم فلم يروا كيف يدخلون.
والمراودة: محاولة رضى الكاره شيئا بقبول ما كرهه، وهي مفاعلة من راد يرود رودا، إذا ذهب ورجع في أمر، مثلت هيئة من يكرر المراجعة والمحاولة بهيئة المنصرف ثم الراجع. وضمن {رَاوَدُوهُ} معنى دفعوه وصرفوه فعدي ب {عَنْ} .
وأسند المراودة إلى ضمير قوم لوط وإن كان المراودون نفرا منهم لأن ما راودوا عليه هو راد جميع القوم بقطع النظر عن تعيين من يفعله.
ويتعلق قوله {عن ضيفه} بفعل {رَاوَدُوهُ} بفلعل بتقدير مضاف، أي عن تمكينهم من ضيوفه.
وقوله: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} مقول قول محذوف دل عليه سياق الكلام للنفر الذين طمسنا أعينهم {ذُوقُوا عَذَابِي} وهو العمى، أي ألقى الله في نفوسهم أن ذلك عقاب لهم.
واستعمل الذوق في الإحساس بالعذاب مجازا مرسلا بعلاقة التقييد في الإحساس.
وعطف النذر على العذاب باعتبار أن العذاب تصديق للنذر، أي ذوقوا مصداق نذري، وتعدية فعل {ذوقوا} إلى {نذْرٍ} بتقدير مضاف، أي وآثار نذري.
والقول في تأكيده بلام القسم تقدم، وحذفت ياء المتكلم من قوله {وَنَذَرَ} تخفيفا.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [38] القول في تأكيده بلام القسم تقدم آنفا في نظيره.
والبكرة: أول النهار وهو وقت الصبح، وقد جاء في الآية الأخرى قوله {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81]، فذكر {كْرَةً} للدلالة على تعجيل العذاب لهم.
والتصبيح: الكون في زمن الصباح وهو أول النهار.
والمستقر: الثابت الدائم الذي يجري على قوة واحدة لا يقلع حتى استأصلهم.
والعذاب: هو الخسف ومطر الحجارة وهو مذكور في سورة الأعراف وسورة هود.
[39 ] {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} .
تفريع قول محذوف خوطبوا به مراد به التوبيخ؛ إما بأن ألقي في روعهم عند حلول العذاب، بأن ألقى الله في أسماعهم صوتا.
والخطاب لجميع الذين أصابهم العذاب المستقر، وبذلك لم تكن هذه الجملة تكريرا. وحذفت ياء المتكلم من قوله {ونَذْرٍ} تخفيفا.
والقول في استعمال الذوق هنا كالذوق في سابقه.
وفائدة الإعلام بما قيل لهم من قوله: {وفذقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} في الموضعين أن يتجدد عند استماع كل نبإ من ذلك إدكار لهم واتعاظ وإيقاظ استيفاء لحق التذكير القرآني.
[40] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
تكرير ثالث تنويها بشأن القرآن للخصوصية التي تقدمت في المواضع التي كرر فيها نظيره وما يقاربه وخاصة في نظيره الموالي هو له. ولم يذكر هنا {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر:30] اكتفاء بحكاية التنكيل لقوم لوط في التعريض بتهديد المشركين.
[41،42] .
لما كانت عدوة موسى عليه السلام غير موجهة إلى أمة القبط، وغير مراد منها التشريع لهم. ولكنها موجهة إلى فرعون وأهل دولته الذين بأيديهم تسير أمور المملكة الفرعونية، ليسمحوا بإطلاق بني إسرائيل من الاستعباد، ويمكنوهم من الخروج مع موسى خص بالنذر هنا آل فرعون، أي فرعون وآله لأنه يصدر عن رأيهم، ألا ترى أن فرعون لم يستأثر برد دعوة موسى بل قال لمن حوله :{أَلا تَسْتَمِعُونَ} [الشعراء:25] وقال {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الشعراء:35] وقالوا: {أَرْجِهْ وَأَخَاهُ} [الشعراء:36] الآية، ولذلك لم يكن أسلوب الإخبار عن فرعون ومن معه مماثلا لأسلوب الإخبار عن قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط
إذ صدر الإخبار عن أولئك بجملة {كذِّبَتْ} وخولف في الإخبار عن فرعون فصدر بجملة {وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} وإن كان مآل هذه الأخبار الخمسة متماثلا.
والآل: القرابة، ويطلق مجازا على من له شدة اتصال بالشخص كما في قوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46]. وكان الملوك الأقدمون ينوطون وزارتهم ومشاورتهم بقرابتهم لأنهم يأمنون كيدهم.
والنذر: جمع نذير: اسم مصدر بمعنى الإنذار. ووجه جمعه أن موسى كرر إنذارهم.
والقول في تأكيد الخبر بالقسم كالقول في نظائره المتقدمة.
وإسناد التكذيب إليهم بناء على ظاهر حالهم وإلا فقد آمن منهم رجل واحد كما في سورة غافر.
وجملة {كَذَّبُوا بِآياتِنَا كُلِّهَا} بدل اشتمال من جملة {جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} لأن مجيء النذر إليهم ملابس للآيات، وظهور الآيات مقارن لتكذيبهم بها فمجيء النذر مشتمل على التكذيب لأنه مقارن مقارنه.
وقوله {بِآيَاتِنَا} إشارة إلى آيات موسى المذكورة في قوله تعالى {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ} وهي تسع آيات منها الخمس المذكورة في آية الأعراف والأربع الأخر، هي: انقلاب العصا حية، وظهور يده بيضاء، وسنو القحط، وانفلاق البحر بمرأى من فرعون وآله، ولم ينجع ذلك في تصميمهم على اللحاق ببني إسرائيل.
وتأكيد {يَاتِنَا} ب {كُلَّهَا} إشارة إلى كثرتها وأنهم لم يؤمنوا بشيء منها. وتكذيبهم بآية انفلاق البحر تكذيب فعلي لأن موسى لم يتحدهم بتلك الآية وقوم فرعون لما رأوا تلك الآية عدوها سحرا وتوهموا البحر أرضا فلم يهتدوا بتلك الآية.
والأخذ: مستعار للانتقام، وقد تقدم عند قوله تعالى {أوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} في سورة النحل. [47،46].
وهذا الأخذ: هو إغراق فرعون ورجال دولته وجنده الذين خرجوا لنصرته كما تقدم في الأعراف.
وانتصب {أخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} على المفعولية المطلقة مبينا لنوع الأخذ بأفضع ما هو
معروف للمخاطبين من أخذ الملوك والجبابرة.
والعزيز: الذي لا يغلب. والمقتدر: الذي لا يعجز.
وأريد بذلك أنه أخذ لم يبق على العدو أي إبقاء بحيث قطع دابر فرعون وآله.
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} .
هذه الجملة كالنتيجة لحاصل القصص عن الأمم التي كذبت الرسل من قوم نوح فمن ذكر بعدهم ولذلك فصلت ولم تعطف.
وقد غير أسلوب الكلام من كونه موجها للرسول صلى الله عليه وسلم إلى توجيهه للمشركين لينتقل عن التعريض إلى التصريح اعتناء بمقام الإنذار والإبلاغ.
والاستفهام في قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} يجوز أن يكون على حقيقته، ويكون من المحسن البديعي الذي سماه السكاكي سوق المعلوم مساق غيره وسماه أهل الأدب من قبله ب تجاهل العارف. وعدل السكاكي عن تلك التسمية وقال لوقوعه في كلام الله تعالى نحو قوله : {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] وهو هنا للتوبيخ كما في قول ليلى ابنة طريف الخارجية ترثي أخاها الوليد بن طريف الشيباني:
أيا شجر الخابور مالك مورقا ... كأنك لم تجزع على ابن طريف
الشاهد في قولها: كأنك لم تجزع الخ.
والتوبيخ على تخطئتهم في عدم العذاب الذي حل بأمثالهم حتى كأنهم يحسبون كفارهم خيرا من الكفار الماضين المتحدث عن قصصهم، أي ليس لهم خاصية تربأ بهم عن أن يلحقهم ما لحق الكفار الماضين. والمعنى: أنكم في عدم اكتراثكم بالموعظة بأحوال المكذبين السابقين لا تخلون عن أن أحد الأمرين الذي طمأنكم من أن يصيبكم مثلما أصابهم.
و {أَمْ} للإضراب الانتقالي. وما يقدر بعدها من استفهام مستعمل في الإنكار. والتقدير: بل ما لكم براءة في الزبر حتى تكونوا آمنين من العقاب.
وضمير {كُفَّارُكُمْ} لأهل مكة وهم أنفسهم الكفار، فإضافة لفظ كفار إلى ضميرهم إضافة بيانية لأن المضاف صنف من جنس من أضيف هو إليه فهو على تقدير {مِنْ} .
البيانية. والمعنى: الكفار منكم خير من الكفار السالفين. أي أأنتم الكفار خير من أولئك الكفار.
والمراد بالأخيرية انتفاء الكفر، أي خير عند الله الانتقام الإلهي وادعاء فارق بينهم وبين أولئك.
والبراءة: الخلاص والسلامة مما يضر أو يشق أو يكلف كلفة. والمراد هنا: الخلاص من المؤاخذة والمعاقبة.
{وَالزُّبُرِ} : جمع زبور، وهو الكتاب، وزبور بمعنى مزبور، أي براءة كتبت في كتب الله السالفة.
والمعنى: ألكم براءة في الزبر أن كفاركم لا ينالهم العقاب الذي نال أمثالهم من الأمم السابقة.
و {فِي لزُّبُرِ} صفة {بَرَاءَةٌ} ، أي كائنة في الزبر، أي مكتوبة في صحائف الكتب.
وأفاد هذا الكتاب ترديد النجاة من العذاب بين الأمرين: إما الاتصاف بالخير الإلهي المشار إليه بقوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، وإما المسامحة والعفو عما يقترفه المرء من السيئات المشار إليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" .
والمعنى انتفاء كلا الأمرين عن المخاطبين فلا مأمن لهم من حلول العذاب بهم كما حل بأمثالهم.
والآية تؤذن بارتقاب عذاب ينال المشركين في الدنيا دون العذاب الأكبر، وذلك عذاب الجوع الذي في قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10] كما تقدم، وعذاب السيف يوم بدر الذي في قوله تعالى {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16].
[44، 45] {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ [44] سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} .
{أَمْ} منقطعة لإضراب انتقالي. والاستفهام المقدر بعد {أَمْ} مستعمل في التوبيخ، فإن كانوا قد صرحوا بذلك فظاهر، وإن كانوا لم يصرحوا به فهو إنباء بأنهم سيقولونه.
وعن ابن عباس: أنهم قالوا ذلك يوم بدر. ومعناه: أن هذا نزل قبل يوم بدر لأن قوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} إنذار بهزيمتهم، يوم بدر هو مستقبل بالنسبة لوقت نزول الآية لوجود علامة الاستقبال.
وغير أسلوب الكلام من الخطاب الموجه إلى المشركين بقوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ} [القمر: 43] الخ إلى أسلوب الغيبة رجوعا إلى الأسلوب الجاري من أول السورة في قوله {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} [القمر: 2] بعد أن قضي حق الإنذار بتوجيه الخطاب إلى المشركين في قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43].
والكلام بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعريض بالنذارة للمشركين مبني على أنهم تحدثهم نفوسهم بذلك وأنهم لا يحسبون حالهم وحال الأمم التي سيقت إليهم قصصها متساوية، أي نحن منتصرون على محمد صلى الله عليه وسلم لأنه ليس رسول الله فلا يؤيده الله.
و {جَمِيعٌ} اسم للجماعة الذين أمرهم واحد، وليس هو بمعنى الإحاطة، ونظيره ما وقع في خير عمر وعلي وعباس رضي الله عنهم في قضية ما تركه النبي صلى الله عليه وسلم من أرض فدك. قال لهما ثم جئتماني وأمركما جميع وكلمتكما واحدة، وقول لبيد:
عريت وكان بها الجميع فأكبروا ... منها وغودر نؤيها وثمامها
والمعنى: بل أيدعون أنهم يغالبون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأنهم غالبون لأنهم جميع لا يغلبون.
ومنتصر: وصف {جَمِيعٌ} جاء بالإفراد مراعاة للفظ {جَمِيعٌ} وإن كان معناه متعددا.
وتغيير أسلوب الكلام من الخطاب إلى الغيبة مشعر بأن هذا هو ظنهم واغترارهم، وقد روي أن أبا جهل قال يوم بدر: نحن ننتصر اليوم من محمد وأصحابه. فإذا صح ذلك كانت الآية من الإعجاز المتعلق بالإخبار بالغيب.
ولعل الله تعالى ألقى في نفوس المشركين هذا الغرور بأنفسهم وهذا الاستخفاف بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه ليشغلهم عن مقاومته باليد ويقصرهم على تطاولهم عليه بالألسنة حتى تكثر أتباعه وحتى يتمكن من الهجرة والانتصار بأنصار الله.
فقوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جواب عن قولهم {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فلذلك لم تعطف الجملة على التي قبلها. وهذا بشارة لرسوله صلى الله عليه وسلم بذلك وهو يعلم أن الله
منجز وعده ولا يزيد ذلك الكافرين إلا غرورا فلا يعيروه جانب اهتمامهم وأخذ العدة لمقاومته كما قال تعالى في نحو ذلك {وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [لأنفال: 44].
والتعريف في {الْجَمْعِ} أي الجمع المعهود من قوله {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} والمعنى: سيهزم جمعهم. وهذا معنى قول النحاة: اللام عوض عن المضاف إليه.
والهزم: الغلب، والسين لتقريب المستقبل، كقوله {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ} [آل عمران: 12]. وبني الفعل للمجهول لظهور أن الهازم المسلمون.
و {يُوَلُّونَ} : يجعلون غيرهم يلي، فهو يتعدى بالتضعيف إلى مفعولين، وقد حذف مفعوله الأول هنا للاستغناء عنه إذ الغرض الإخبار عنهم بأنهم إذا جاء الوغى يفرون ويولونكم الأدبار.
و {الدبر} : الظهر، وهو ما أدبر، أي كان وراء، وعكسه القبل.
والآية إخبار بالغيب، فإن المشركين هزموا يوم بدر، وولوا الأدبار يومئذ، وولوا الأدبار في جمع آخر وهو جمع الأحزاب في غزوة الخندق ففر بليل كما مضى في سورة الأحزاب وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج لصف القتال يوم بدر تلا هذه الآية قبل القتال، إيماء إلى تحقيق وعد الله بعذابهم في الدنيا.
وأفرد الدبر، والمراد الجمع لأنه جنس يصدق بالمتعدد، أي يولي كل أحد منهم دبره، وذلك لرعاية الفاصلة ومزاوجة القرائن، على أن انهزام الجمع انهزامة واحدة ولذلك الجيش جهة تول واحدة، وهذا الهزم وقع يوم بدر.
روي عن عكرمة أن عمر بن الخطاب قال: لما نزلت {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} جعلت أقول: أي جمع يهزم? فلما كان يوم بدر رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع، ويقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} اه، أي لم يتبين له المراد بالجمع الذي سيهزم ويولي الدبر فإنه لم يكن يومئذ قتال ولا كان يخطر لهم ببال.
[46] {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} .
{بَلِ} للإضراب الانتقالي، وهو انتقال من الوعيد بعذاب الدنيا كما حل بالأمم قبلهم إلى الوعيد بعذاب الآخرة. قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ
الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:21]، وعذاب الآخرة أعظم فلذلك قال {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} وقال في الآية الأخرى {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:127] وفي الآية الأخرى {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت: 16].
والساعة: علم بالغلبة في القرآن على يوم الجزاء.
والموعد: يوم الوعد، وهو هنا وعد سوء، أي وعيد. والإضافة على معنى اللام أي موعد لهم. وهذا إجمال بالوعيد، ثم عطف عليه ما يفصله وهو {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ } . ووجه العطف أنه أريد جعله خبرا مستقلا.
و {أَدْهَى} : اسم تفضيل من دهاه إذا أصابه بداهية، أي الساعة أشد إصابة بداهية الخلود في النار من داهية عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
وأمر: أي أشد مرارة. واستعيرت المرارة للإحساس بالمكروه على طريقة تشبيه المعقول الغائب بالمحسوس المعروف.
وأعيد اسم {وَالسَّاعَةُ} في قوله {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى ُ} دون أن يؤتى بضميرها لقصد التهويل، ولتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسير المثل.
[47، 48] {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ [47] يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} .
هذا الكلام بيان لقوله {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]. واقتران الكلام بحرف {إِن} لفائدتين: إحداهما الاهتمام بصريحه الإخباري، وثانيهما تأكيد ما تضمنه من التعريض بالمشركين، لأن الكلام وإن كان موجها للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يشك في ذلك فإن المشركين يبلغهم ويشيع بينهم وهم لا يؤمنون بعذاب الآخرة فكانوا جديرين بتأكيد الخبر في جانب التعريض فتكون {إِن} مستعملة في غرضيها من التوكيد والاهتمام.
والتعبير عنهم ب {الْمُجْرِمِينَ} إظهار في مقام الإظمار لإلصاق وصف الإجرام بهم.
والضلال: يطلق على ضد الهدى ويطلق على الخسران، وأكثر المفسرين على أن المراد به هنا المعنى الثاني. فعن ابن عباس: المراد الخسران في الآخرة، لأن الظاهر أن {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ} طرف للكون في ضلال وسعر على نحو قوله تعالى {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات:6، 8] وقوله {وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] فلا يناسب أن يكون الضلال ضد الهدى.
ويجوز أن يكون {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} ظرفا للكون الذي في خبر {إِن} ، أي كائنون في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار، فالمعنى: أنهم في ضلال وسعر يوم القيامة وَ {سُعُرٍ} جمع سعير، وهو النار، وجمع السعير لأنه قوي شديد.
والسحب: الجر، وهو في النار أشد من ملازمة المكان لأن به يتجدد مماسة نار أخرى فهو أشد تعذيبا.
وجعل السحب على الوجوه إهانة لهم.
و {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} مقول قول محذوف، والجملة مستأنفة. والذوق مستعار للإحساس.
وصيغة الأمر مستعملة في الإهانة والمجازاة.
والمس مستعمل في الإصابة على طريقة المجال المرسل.
و سقر: علم على جهنم، وهو مشتق من السقر بسكون القاف وهو التهاب في النار، ف {سَقَرَ} وضع علما لجهنم، ولذلك فهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث، لأن جهنم اسم مؤنث معنى اعتبروا فيه أن مسماه نار والنار مؤنثة.
والآية تتحمل معنى آخر، وهو أن يراد بالضلال ضد الهدى وأن الإخبار عن المجرمين بأنهم ليسوا على هدى، وأن ما هم فيه باطل وضلال، وذلك في الدنيا، وأن يراد بالسعر نيران جهنم وذلك في الآخرة فيكون الكلام على التقسيم.
أو يكون السعر بمعنى الجنون، يقال: سعر بضمتين وسعر بسكون العين، أي جنون، من قول العرب ناقة مسعورة، أي شديدة السرعة كأن بها جنونا كما تقدم عند قوله تعالى {إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} في هذه السورة [24].
وروي عن ابن عباس وفسر به أبو على الفارسي قائلا: لأنهم أن كانوا في السعير لم يكونوا في ضلال لأن الأمر قد كشف لهم وإنما وصف حالهم في الدنيا، وعليه فالضلال والسعر حاصلان لهم في الدنيا.
[49] {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} .
استئناف وقع تذييلا لما قبله من الوعيد والإنذار والاعتبار بما حل بالمكذبين، وهو أيضا توطئة لقوله {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ} [القمر:50] الخ.
والمعنى: إنا خلقنا وفعلنا كل ما ذكر من الأفعال وأسبابها وآلاتها وسلطناهم على مستحقيه لأنا خلقنا كل شيء بقدر، أي فإذا علمتم هذا فانتبهوا إلى أن ما أنتم عليه من التكذيب والإصرار مماثل لما كانت عليه الأمم السالفة.
واقتران الخبر بحرف {إن} يقال فيه ما قلناه في قوله {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47].
والخلق أصله: إيجاد ذات بشكل مقصود فهو حقيقة في إيجاد الذوات، ويطلق مجازا على إيجاد المعاني التي تشبه الذوات في التميز والوضوح كقوله تعالى {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} [العنكبوت: 17].
فإطلاقه في قوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
و {شَيْءٍ} معناه موجود من الجواهر والأعراض، أي خلقنا كل الموجودات جوارها وأعراضها بقدر.
والقدر: بتحريك الدال مرادف القدر بسكونها وهو تحديد الأمور وضبطها.
والمراد: أن خلق الله الأشياء مصاحب لقوانين جارية على الحكمة، وهذا المعنى قد تكرر في القرآن كقوله في سورة الرعد [8] {وكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} ومما يشمله عموم بكل شيء خلق جهنم للعذاب.
وقد أشار إلى أن الجزاء من مقتضى الحكمة قوله تعالى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [الحجر:86،86] وقوله { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان:38-40] فترى هذه الآيات وأشباهها تعقب ذكر كون الخلق كله لحكمة بذكر الساعة ويوم الجزاء. فهذا وجه تعقيب آيات الإنذار والعقاب المذكورة في هذه السورة بالتذييل بقوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} بعد قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر:43] وسيقول {وَلَقَدْ
أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} . [البقرة:51].
فالباء في {بِقَدَرٍ} للملابسة، والمجرور ظرف مستقر، فهو في حكم المفعول الثاني لفعل {خَلَقْنَاهُ} لأنه مقصود بذاته، إذ ليس المقصود الإعلام بأن كل شيء مخلوق لله، فإن ذلك لا يحتاج إلى الإعلام به بله تأكيده بل المقصود إظهار معنى العلم والحكمة في الجزاء كما في قوله تعالى في سورة الرعد[8] {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} .
ومما يستلزمه معنى القدر أن كل شيء مخلوق هو جار على وفق علم الله وإرادته لأنه خالق أصول الأشياء وجاعل القوى فيها لتنبعث عنها آثارها ومتولداتها، فهو عالم بذلك ومريد لوقوعه. وهذا قد سمي بالقدر في اصطلاح الشريعة كما جاء في حديث جبريل الصحيح في ذكر ما يقع به الإيمان "وتؤمن بالقدر خيره وشره" .
وأخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت {يوَم يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:48، 49]. ولم يذكر راوي الحديث معنى القدر الذي خاصم فيه كفار قريش فبقي مجملا ويظهر أنهم خاصموا جدلا ليدفعوا عن أنفسهم التعنيف بعبادة الأصنام كما قالوا : {ولَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20]، أي جدلا للنبي صلى الله عليه وسلم بموجب ما يقوله من أن كل كائن بقدر الله جهلا منهم بمعاني القدر.
قال عياض في الإكمال ظاهره أن المراد بالقدر هنا مراد الله ومشيئته وما سيق به قدره من ذلك، وهو دليل مساق القصة التي نزلت بسببها الآية اه. وقال الباجي في المنتقى: يحتمل من جهة اللغة معاني: أحدها: أن يكون القدر ههنا بمعنى مقدر لا يزاد عليه ولا ينقص كما قال تعالى {جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3].
والثاني: أن المراد أنه بقدرته، كما قال {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:4].
والثالث: بقدر، أي نخلقه في وقته، أي نقدر له وقتا نخلقه فيه اه.
قلت: وإذا كان لفظ {قُدِرَ} جنسا، ووقع معلقا بفعل متعلق بضمير {كُلِّ شَيْءٍ} الدال على العموم كان ذلك اللفظ عاما للمعاني كلها فكل ما خلقه الله فخلقه بقدر، وسبب النزول لا يخصص العموم، ولا يناكد موقع هذا التذييل، على أن السلف كانوا يطلقون
سبب النزول على كل ما نزلت الآية للدلالة عليه ولو كانت الآية سابقة على ما عدوه من السبب.
واعلم أن الآية صريحة في أن كل ما خلقه الله كان بضبط جاريا على حكمته، وأما تعيين ما خلقه الله مما ليس مخلوقا له من أفعال العبادة مثلا عند القائلين بخلق العباد أفعالهم كالمعتزلة والقائلين بكسب العبد كالأشعرية، فلا حجة بالآية عليهم لاحتمال أن يكون مصب الإخبار هو مضمون {خَلَقْنَاهُ} أو مضمون {بِقَدَرٍ} ، ولاحتمال عموم {كُلِّ شَيْءٍ} للتخصيص، ولاحتمال المراد بالشيء ما هو، وليس نفي حجية هذه الآية على إثبات القدر الذي هو محل النزاع بين الناس بمبطل ثبوت القدر من أدلة أخرى.
وحقيقة القدر الاصطلاحي خفية فإن مقدار تأثر الكائنات بتصرفات الله تعالى وبتسبب أسبابها ونهوض موانعها لم يبلغ علم الإنسان إلى كشف غوامضة ومعرفة ما مكن الله الإنسان من تنفيذ لما قدره الله، والأدلة الشرعية والعقلية تقتضي أن العمال الصالحة والأعمال السيئة سواء في التأثر لإرادة الله تعالى وتعلق قدرته إذا تعلقت بشيء، فليست نسبة آثار الخير إلى الله دون نسبة أثر الشر إليه إلا أدبا مع الخالق لقنه الله عبيده، ولولا أنها منسوبة في التأثر لإرادة الله تعالى لكانت التفرقة بين أفعال الخير وأفعال الشر في النسبة إلى الله ملحقة باعتقاد المجوس بأن للخير إلها وللشر إلها، وذلك باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم "وتؤمنوا بالقدر خيره وشره" ، وقوله "القدرية مجوس هذه الأمة" رواه أبو داود بسنده إلى ابن عمر مرفوعا.
وانتصب {كُلِّ شَيْءٍ} على المفعولية ل {خَلَقْنَاهُ} على طريقة الاشتغال، وتقديمه على {خَلَقْنَاهُ} ليتأكد مدلوله بذكر اسمه الظاهر ابتداء، وذكر ضميره ثانيا، وذلك هو الذي يقتضي العدول إلى الاشتغال في فصيح الكلام العربي فيحصل توكيد للمفعول بعد أن حصل تحقيق نسبة الفعل إلى فاعله بتحقيق حرف {إِنَّ} المفيد لتوكيد الخبر وليتصل قوله {بقدر} بالعامل فيه وهو {خَلَقْنَاهُ} ، لئلا يلتبس بالنعت لشيء لو قيل: إنا خلقنا كل شيء بقدر، فيظن أن المراد: أنا خلقنا كل شيء مقدر فيبقى السامع منتظرا لخبر {إِنَّ} .
[50] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}
عطف على قوله {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] فهو داخل في التذييل، أي خلقناه كل شيء بعلم، فالمقصود منه وما يصلح له معلوم لنا فإذا جاء وقته الذي أعددناه
حصل دفعة واحدة لا يسبقه اختبار ولا نظر ولا بداء. وسياتي تحقيقه في آخر تفسير هذه الآية.
والغرض من هذا تحذيرهم من أن يأخذهم العذاب بغتة في الدنيا عند وجود ميقاته وسبق إيجاد أسبابه ومقوماته التي لا يتفطنون لوجودها، وفي الآخرة بحلول الموت ثم بقيام الساعة.
وعطف هذا عقب {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر:49] مشعر بترتيب مضمونه على مضمون المعطوف عليه في التنبيه والاستدلال حسب ما هو جار في كلام البلغاء من مراعاة ترتب معاني الكلام بعضها على بعض حتى قال جماعة من أئمة اللغة: الفراء وثعلب والربعي وقطرب وهشام وأبو عمرو الزاهد: إن العطف بالواو يفيد الترتيب، وقال ابن مالك: الأكثر إفادته الترتيب.
والأمر في قوله {وَمَا أَمْرُنَا} يجوز أن يكون بمعنى الشأن، فيكون المراد به الشأن المناسب لسياق الكلام، وهو شأن الخلق والتكوين، أي وما شأن خلقنا الأشياء.
ويجوز أن يكون بمعنى الإذن فيراد به أمر التكوين وهو المعبر عنه بكلمة {كُنْ} والمآل واحد.
وعلى الاحتمالين فصفة {وَاحِدَةً} وصف لموصوف محذوف دل عليه الكلام وهو خبر عن أمرنا. والتقدير: إلا كلمة واحدة، وهي كلمة {كُنْ} كما قال تعالى {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
والمقصود الكناية عن أسرع ما يمكن من السرعة، أي وما أمرنا إلا كلمة واحدة. وذلك في تكوين العناصر والبسائط وكذلك في تكوين المركبات لأن أمر التكوين يتوجه إليها بعد أن تسبقه أوامر تكوينية بإيجاد أجزائها، فلكل مكون منها أمر تكوين يخصه هو كلمة واحدة فتبين أن أمر الله التكويني كلمة واحدة ولا ينافي هذا قوله : {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [قّ:38] ونحوه، فخلق ذلك قد انطوى على مخلوقات كثيرة لا يحصر عددها كما قال تعالى {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] فكل خلق منها يحصل بكلمة واحدة كلمح البصر على أن بعض المخلوقات تتولد منه أشياء وآثار فيعتبر تكوينه عند إيجاد أوله.
وصح الإخبار عن "أمر" وهو مذكر ب {وَاحِدَةً} وهو مؤنث باعتبار أن ما صدق الأمر هنا هو أمر التسخير وهو الكلمة، أي كلمة "كُنْ".
وقوله: {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} في موضع الحال من {أَمْرِنَا} باعتبار الإخبار عنه بأنه كلمة واحدة، أي حصول مرادنا بأمرنا كلمح بالبصر، وهو تشبيه في سرعة الحصول، أي ما أمرنا إلا كلمة واحدة سريعة التأثير في المتعلقة هي به كسرعة لمح البصر.
وهذا التشبيه في تقريب الزمان أبلغ ما جاء في الكلام العربي وهو أبلغ من قول زهير:
فهن ووادي الرس كاليد للفم
وقد جاء في سورة النحل[77] {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} فزيد هنالك {أوْ هُوَ أَقْرَبُ} لأن المقام للتحذير من مفاجأة الناس بها قبل أن يستعدوا لها فهو حقيق بالمبالغة في التقريب، بخلاف ما في هذه الآية فإنه لتمثيل أمر الله وذلك يكفي فيه مجرد التنبيه إذ لا يترددالسامع في التصديق به.
وقد أفادت هذه الآية إحاطة علم الله بكل موجود وإيجاد الموجودات بحكمة، وصدورها عن إرادة وقدرة.
واللمح: النظر السريع واخلاس النظر، يقال: لمح البصر، ويقال: لمح البرق كما يقال: لمع البرق. ولما كان لمح البصر أسرع من لمح البرق قال تعالى: {لَمْحٍ بِالْبَصَرِ} كما قال في سورة النحل [77] {إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} .
[51] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
التفت من طريق الغيبة إلى الخطاب ومرجع الخطاب هم المشركون لظهور أنهم المقصود بالتهديد، وهو تصريح بما تضمنه قوله {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر:43] فهو بمنزلة النتيجة لقوله: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} إلى كلمة {كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} . [القمر:49، 50].
وهذا الخبر مستعمل في التهديد بالإهلاك وبأنه يفاجئهم قياسا على إهلاك الأمم السابقة، وهذا المقصد هو الذي لأجله أكد الخبر بلام القسم وحرف "قد" أما إهلاك من قبلهم فهو معلوم لا يحتاج إلى تأكيد. ولك أن تجعل مناط التأكيد إثبات أن إهلاكهم كان لأجل شركهم وتكذيبهم الرسل.
وتفريع {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} قرينة على إرادة المعنيين فإن قوم نوح بقوا أزمانا فما أقلعوا عن إشراكهم حتى أخذهم الطوفان بغتة. وكذلك عاد وثمود كانوا غير مصدقين بحلول العذاب
بهم فلما حل بهم العذاب بغتة، وقوم فرعون خرجوا مقتفين موسى وبنى إسرائيل واثقين بأنهم مدركوهم واقتربوا منهم وظنوا أنهم تمكنوا منهم فما راعهم إلا أن أنجى الله بني إسرائيل وانطبق البحر على الآخرين.
والمعنى : فكما أهلكنا أشياعكم نهلككم، وكذلك، كان فإن المشركين لما حلوا ببدر وهم أوفر عددا وعددا كانوا واثقين بأنهم منقذون غيرهم وهازموهم المسلمين فقال أبو جهل وقد ضرب فرسه وتقدم إلى الصف اليوم ننتصر من محمد وأصحابه فلم تجل الخيل جولة حتى شاهدوا صناديدهم صرعى ببدر : أبا جهل وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأمية ين خلف وغيرهم في سبعين رجلا ولم تقم لهم بعد ذلك قائمة.
والأشياع : جمع شيعة. والشيعة : الجماعة الذين يؤيدون من يضافون إليه وتقدم في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} في آخر سورة الأنعام [159].
وأطلق الأشياع هنا على الأمثال والأشياء في الكفر على طريق الاستعارة بتشبيههم وهم منقرضون بأشياع موجودين.
وفرع على هذا الإنذار قوله {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} وتقدم نظيره في هذه السورة.
[52] {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} .
يجوز أن يكون الضمير المرفوع في قوله {فعلوه} عائدا إلى {أَشْيَاعَكُمْ} [القمر:51] والمعنى : أهلكناهم بعذاب الدنيا وهيأنا لهم عذاب الآخرة فكتب في صحائف الأعمال كل ما فعلوه من الكفر وفروعه فالكتابة في الزبر وقعت هنا كناية عن لازمها وهو المحاسبة به فيما بعد وعن لازم لازمها وهو العقاب بعد المحاسبة.
وهذا الخبر مستعمل في التعريض بالمخاطبين بأنهم إذا تعرضوا لما يوقع عليهم الهلاك في الدنيا فليس ذلك قصارى عذابهم فإن بعده حسابا عليه في الآخرة يعذبون به وهذا كقوله تعالى {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47].
ويجوز عندي أن يكون الضمير عائدا إلى الجمع من قوله {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] إلى {المجرمين} في قوله {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُر} [القمر: 47] الخ، والمعنى كل شيء فعله المشركون من شرك وأذى للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معدود عليهم مهيأ عقابهم عليه لأن الإخبار عن إحصاء أعمال الأمم الماضية قد أغنى عنه الإخبار عن
إهلاكهم، فالأجدر تحذير الحاضرين من سوء أعمالهم.
و {الزبر} : جمع زبور وهو الكتاب مشتق من الزبر، وهو الكتابة، وجمعت الزبر لأن لكل واحد كتاب أعماله، قال تعالى {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتَابَكَ} [الإسراء: 13،14] الآية.
وعموم {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} مراد به خصوص ما كان من الأفعال عليه مؤاخذة في الآخرة.
[53] {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ} .
هذا كالتذييل لقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر:52] فكل صغير وكبير أعم من كل شيء فعلوه، والمعنى: كل شيء حقير أو عظيم مستطر، أي مكتوب مسطور، أي في علم الله تعالى، أي كل ذلك يعلمه الله ويحاسب عليه، فمستطر: اسم مفعول من سطر إذا كتب سطورا قال تعالى {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور:2].
وهذا كقوله تعالى { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} الأنعام: 59] وقوله: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [سبأ:3].
فالصغير: مستعار للشيء الذي لا شأن له ولا يهتم به الناس ولا يؤاخذ عليه فاعله، أو لا يؤاخذ عليه مؤاخذة عظيمة. والكبير: مستعار لضده ويدخل في ذلك ما له شأن من الصلاح وما له شأن من الفساد وما هو دون ذلك، وذلك أفضل الأعمال الصالحة وما دونه من الأعمال الصالحة، وكذلك كبائر الإثم والفواحش وما دونها من اللمم والصغائر.
والمستطر: كناية عن علم الله به وذلك كناية عن الجزاء عليه مكان ذلك جامعا للتبشير والإنذار.
[54،55] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ [54] فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} .
استئناف بياني لأنه لما ذكر أن كل صغير وكبير مستطر على إرادة أنه معلوم ومجازا عليه وقد علم جزاء المجرمين من قوله: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ} [القمر:47] كانت نفس السامع بحيث تتشوف إلى مقابل ذلك من جزاء المتقين وجريا على عادة القرآن من
تعقيب النذارة بالبشارة والعكس.
وافتتاح هذا الخبر بحرف {إن} للاهتمام به.
و {في} من قوله {فِي جَنَّاتِ} للظرفية المجازية التي هي بمعنى التلبس القوي كتلبس المظروف بالظرف، والمراد في نعيم جنات ونهر فإن للجنات والأنهار لذات متعارفة من اللهو والأنس والمحادثة، واجتناء الفواكه، ورؤية الجداول وخرير الماء، وأصوات الطيور، وألوان السوابح.
وبهذا الاعتبار عطف نهر على {جنات} إذ ليس المراد الإخبار بأنهم ساكنون جنات فإن ذلك يغني عن قوله بعد {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} ، ولا أنهم منغمسون في أنهار إذ لم يكن ذلك مما يقصده السامعون.
ونهر: بفتحتين لغة في نهر بفتح فسكون. والمراد به اسم الجنس الصادق المتعدد لقوله تعالى {مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف:43]، وقوله {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} إما في محل الحال من المتقين وإما في محل الخبر الثاني {إن} .
والمقعد: مكان القعود. والقعود هنا بمعنى الإقامة المطمئنة كما في قوله تعالى {اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
والصدق: أصله مطابقة الخبر للواقع ثم شاعت له استعمالات نشأت عن مجاز أو استعارة ترجع إلى معنى مصادفة أحد الشيء على ما يناسب كمال أحوال جنسه، فيقال: هو رجل صدق، أي تمام رجلة، وقال تأبط شرا:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
أي ابن العم حقا، أي موف بحق القرابة.
وقال تعالى {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرائيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:93] وقال في دعاء لإبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] ويسمى الحبيب الثابت المحبة صديقا وصديقا.
فمقعد صدق، أي مقعد كامل في جنسه مرضي للمستقر فيه فلا يكون فيه استفزاز ولا زوال، وإضافة {مقعد} إلى {صدق} من إضافة الموصوف إلى صفته للمبالغة في تمكن الصفة منه.
والمعنى: هم في مقعد يشمل كل ما يحمده القاعد فيه.
والمليك: فعيل بمعنى المالك مبالغة وهو أبلغ من ملك، ومقتدر:أبلغ من قادر وتنكيره وتنكير مقتدر للتعظيم.
والعندية عندية تشريف وكرامة، والظرف خبر بعد خبر.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرحمنوردت تسميتها بسورة الرحمن بأحاديث منها ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله قال خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقرأ سورة الرحمن الحديث.
وفي تفسير القرطبي أن قيس بن عاصم المنقري قال للنبي صلى الله عليه وسلم اتل علي ما أنزل عليك، فقرأ عليه سورة الرحمن، فقال: أعدها، فأعادها ثلاثا، فقال: إن له لحلاوة الخ.
وكذلك سميت في كتب السنة وفي المصاحف.
وذكر في الإتقان : أنها تسمى عروس القرآن لما رواه البيهقي في شعب الإيمان عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لكل شيء عروس وعروس القرآن سورة الرحمن" . وهذا لا يعدوا أن يكون ثناء على هذه السورة وليس هو من التسمية في شيء كما روي أن سورة البقرة فسطاطا القرآن1.
ووجه تسميه هذه السورة بسورة الرحمن أنها ابتدئت باسمه تعالى {الرحمن} [الرحمن:1].
ـــــــ
1 الطاهر أن معنى : لكل شيء عروس ، أي لكل جنس أو نوع واحد من جنسه يزيد تقول العرب : عرائس الإبل لكرائمها فإن العروس تكون مكرمة مزينة مرعية من جمع الأهل بالخدمة والكرامة. ووصف سورة الرحمن بالعروس تشبيه ما تحتوي عليه من ذكر الحبرة والنعيم في الجنة بالعروس في المسرة والبذخ ، تشبه معقول بمحسوس ومن أمثال العرب : لا عطر بعد عروس على أحد تفسيرين للمثل أو تشبيه ما كثر فيها من تكرير {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} بما يكثر على العروس من الحلي في كل ما تلبسه.
وقد قيل: إن سبب نزولها قول المشركين المحكي في قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] في سورة الفرقان، فتكون تسميتها باعتبار إضافة سورة إلى الرحمن على معنى إثبات وصف الرحمن.
وهي مكية في قول جمهور الصحابة والتابعين، وروى جماعة عن ابن عباس أنها مدنية نزلت في صلح القضية عندما أبى سهيل بن عمرو أن يكتب في رسم الصلح {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
ونسب إلى ابن مسعود أيضا أنها مدنية. وعن ابن عباس: أنها مكية سوى آية منها هي قوله: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29] والأصح أنها مكية كلها وهي في مصحف ابن مسعود أول المفصل. وإذا صح أن سبب نزولها قول المشركين {وما الرحمن} تكون نزلت بعد سورة الفرقان.
وقيل سبب نزولها قول المشركين {إنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} المحكي في سورة النحل [103]. فرد الله عليهم بأن الرحمن هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن.
وهي من أول السور نزولا فقد أخرج أحمد في مسنده بسند جيد عن أسماء بنت أبي بكر قالت: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يصلي نحو الركن قبل أن يصدع بما يؤمر والمشركون يسمعون يقرأ {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . وهذا يقتضي أنها نزلت قبل سورة الحجر. وللاختلاف فيها لم تحقق رتبتها في عداد نزول سور القرآن. وعدها الجعبري ثامنة وتسعين بناء على قول بأنها مدنية وجعلها بعد سورة الرعد وقبل سورة الإنسان.
وإذ كان الأصح إنها مكية وأنها نزلت قبل سورة الحج وقبل سورة النحل وبعد سورة الفرقان، فالوجه أن تعد ثالثة وأربعين بعد سورة الفرقان وقبل سورة فاطر.
وعد أهل المدينة ومكة آيها سبعا وسبعين، وأهل الشام والكوفة ثمانا وسبعين لأنهم عدوا الرحمن آية، وأهل البصرة ستا وسبعين.
أغراض هذه السورة
ابتدئت بالتنويه بالقرآن قال في الكشاف : أراد الله أن يقدم في عدد آلائه أول شيء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه وأصناف نعمائه وهي نعمة الدين فقدم من نعمة الدين ما هو أعلى مراتبها وأقصى مراقبها وهو إنعامه بالقرآن وتنزيله وتعليمه، وأخر ذكر
خلق الإنسان عن ذكره ثم أتبعه إياه ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان اه.
وتبع ذلك من التنويه بالنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله هو الذي علمه القرآن ردا على مزاعم المشركين الذين ويقولون: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103]، وردا على مزاعمهم أن القرآن أساطير الأولين أو أنه سحر أو كلام كاهن أو شعر.
ثم التذكير بدلائل قدرة الله تعالى في ما أتقن صنعه مدمجا في ذلك التذكير بما في ذلك كله من نعم الله على الناس.
وخلق الجن وإثبات جزائهم.
والموعظة بالفناء وتخلص من ذلك إلى التذكير بيوم الحشر والجزاء. وختمت بتعظيم الله والثناء عليه.
وتخلل ذلك إدماج التنويه بشأن العدل، والأمر بتوفية أصحاب الحقوق حقوقهم، وحاجة الناس إلى رحمة الله فيما خلق لهم، ومن أهمها نعمة العلم ونعمة البيان، وما أعد من الجزاء للمجرمين ومن الثواب والكرامة للمتقين ووصف نعيم المتقين.
ومن بديع أسلوبها افتتاحها الباهر باسمه {الرحمن} وهي السورة الوحيدة المفتتحة باسم من أسماء الله لم يتقدمه غيره.
ومنه التعداد في مقام الامتنان والتعظيم بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إذ تكرر فيها إحدى وثلاثين مرة وذلك أسلوب عربي جليل كما سنبينه.
[2،1] {الرَّحْمَنِ} [1] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} .
هذه آية واحدة عند جمهور العادين. ووقع في المصاحف التي برواية حفص عن عاصم علامة آية عقب كلمة {الرحمن} ، إذ عدها قراء الكوفة آية فلذلك عد أهل الكوفة آي هذه السورة ثمانا وسبعين. فإذا جعل اسم {الرحمن} آية تعين أن يكون اسم الرحمن : إما خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو الرحمن، أو مبتدأ خبره محذوف يقدر بما يناسب المقام.
ويجوز أن يكون واقعا موقع الكلمات التي يراد لفظها للتنبيه على غلط المشركين إذ أنكروا هذا الاسم قال تعالى {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} كما تقدم في سورة الفرقان [60]، فيكون موقعه شبيها بموقع الحروف المقطعة التي يتهجى بها في أوائل بعض السور على
أظهر الوجوه في تأويلها وهو التعريض بالمخاطبين بأنهم أخطأوا في إنكارهم الحقائق.
وافتتح باسم {الرحمن} فكان فيه تشويق جميع السامعين إلى الخبر الذي يخبر به عنه إذ كان المشركون لا يألفون هذا الاسم قال تعالى: {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60]، فهم إذا سمعوا هذه الفاتحة ترقبوا ما سيرد من الخبر عنه، والمؤمنون إذا طرق أسماعهم هذا الاسم استشرفوا لما سيرد من الخبر المناسب لوصفه هذا مما هم متشوقون إليه من آثار رحمته.
على أنه قد قيل: إن هذه السورة نزلت بسبب قول المشركين في النبي صلى الله عليه وسلم {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] أي يعلمه القرآن فكان الاهتمام بذكر الذي يعلم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أقوى من الاهتمام في التعليم.
وأوثر استحضار الجلالة باسم {الرحمن} دون غيره من الأسماء لأن المشركين يأبون ذكره فجمع في هذه الجملة بين ردين عليهم مع ما للجملة الاسمية من الدلالة على ثبات الخبر، ولأن معظم هذه السورة تعداد للنعم والآلاء فافتتاحها باسم {الرحمن} براعة استهلال.
وقد أخبر عن هذا الاسم بأربعة أخبار متتالية غير متعاطفة رابعها هو جملة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] كما سيأتي، ففضل جملتي {خلق ُ الإنسان} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4] عن جملة {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} خلاف مقتضى الظاهر. لنكتة التعديد للتبكيت.
وعطف عليها أربعة أخر بحرف عطف من قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} إلى قوله: {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 6، 10 ] وكلها دالة على تصرفات الله ليعلمهم أن الاسم الذي استنكروه هو اسم الله وأن المسمى واحد.
وجيء بالمسند فعلا مؤخرا عن المسند إليه لإفادة التخصيص، أي علم القرآن لا بشر علمه وحذف المفعول الأول لفعل {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} لظهوره، والتقدير: علم محمدا صلى الله عليه وسلم لأنهم ادعوا أنه معلم وإنما أنكروا أن يكون معلمه القرآن هو الله تعالى وهذا تبكيت أول.
وانتصب {الْقُرْآنِ} على أنه مفعول ثان لفعل {علم} ، وهذا الفعل هنا معدى إلى مفعولين فقط لأنه ورد على أصل ما يفيده التضعيف من زيادة مفعول آخر مع فاعل فعله
المجرد، وهذا المفعول هنا يصلح أن يتعلق به التعليم إذ هو اسم لشيء متعلق به التعليم وهو القرآن، فهو كقول معن بن أوس:
أعلمه الرماية كل يوم
وقوله تعالى {عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ} سورة العقود [110] في سورة العقود وقوله {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} في سورة يس [69] ولا يقال: علمته زيدا صديقا، وإنما يقال: أعلمته زيدا صديقا، ففعل علم إذا ضعف كان بمعنى تحصيل التعليم بخلافه إذ عدي بالهمزة فإنه يكون لتحصيل الإخبار والأنباء.
وقد عدد الله في هذه السورة نعما عظيمة على الناس كلهم في الدنيا، وعلى المؤمنين خاصة في الآخرة وقدم أعظمها وهو نعمة الدين لأن به صلاح الناس في الدنيا، وباتباعهم إياه يحصل لهم الفوز في الآخرة. ولما كان دين الإسلام أفضل الأديان، وكان هو المنزل للناس في هذا الإبان، وكان متلقى من أفضل الوحي والكتب الإلهية وهو القرآن، قدمه في الأعلام وجعله مؤذنا بما يتضمنه من الدين ومشيرا إلى النعم الحاصلة بما بين يديه من الأديان كما قال : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأنعام:92].
ومناسبة اسم {الرحمن} لهذه الاعتبارات منتزعة من قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} . [الأنبياء: 108]
{والقرآن} : اسم غلب على الوحي اللفظي الذي أوحي به إلى محمد صلى الله عليه وسلم للإعجاز بسورة منه وتعبد ألفاظه.
[3] {خلق وَخُلِقَ الإنسان} .
خبر ثان، والمراد ب الإنسان جنس الإنسان وهذا تمهيد للخبر الآتي وهو {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . [ الرحمن:4]
وهذه قضية لا ينازعون فيها ولكنهم لما أعرضوا عن موجبها وهو إفراد الله تعالى بالعبادة، سيق لهم الخبر بها على أسلوب التعديد بدون عطف كالذي يعد للمخاطب مواقع أخطائه وغفلته، وهذا تبكيت ثان.
ففي خلق الإنسان دلالتان: أولاهما: الدلالة على تفرد الله تعالى بالإلهية،
وثانيتهما الدلالة على نعمة الله على الإنسان.
والخلق: نعمة عظيمة لأن فيها تشريفا للمخلوق بإخراجه من غياهب ألعدم إلى مبرز الوجود في الأعيان، وقدم خلق الإنسان على خلق السماوات والأرض لما علمت آنفا من مناسبة إردافه بتعليم القرآن.
ومجيء المسند فعلا بعد المسند إليه يفيد تقوي الحكم. ولك أن تجعله للتخصيص بتنزيلهم منزلة من ينكر أن الله خلق الإنسان لأنهم عبدوا غيره.
[4] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} .
خبر ثالث تضمن الاعتبار بنعمة الإبانة عن المراد والامتنان بها بعد الامتنان بنعمة الإيجاد، أي علم جنس الإنسان أن يبين عما في نفسه ليفيده غيره ويستفيد هو.
والبيان: الإعراب عما في الضمير من المقاصد والأغراض وهو النطق وبه تميز الإنسان عن بقية أنواع الحيوان فهو من أعظم النعم.
وأما البيان من غير النطق من إشارة وإيماء ولمح النظر فهو أيضا من مميزات الإنسان وإن كان دون بيان النطق.
ومعنى تعليم الله الإنسان البيان: أنه خلق فيه الاستعداد لعم ذلك وأهمله وضع اللغة للتعارف، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} في سورة البقرة [31].
وفي الإشارة إلى أن نعمة البيان أجل النعم على الإنسان، فعد نعمة التكاليف الدينية وفيه تنويه بالعلوم الزائدة في بيان الإنسان وهي خصائص اللغة وآدابها.
ومجيء المسند فعلا بعد المسند إليه لإفادة تقوي الحكم.
وفيه من التبكيت ما علمته آنفا، ووجه أنهم لم يشكروه على نعمة البيان إذ صرفوا جزءا كبيرا من بيانهم فيما يلهيهم عن إفراد الله بالعبادة وفيما ينازعون الله به من يدعوهم إلى الهدى.
[5] {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} .
جملة هي خبر رابع عن الرحمن وإلا كان ذكره هنا بدونه مناسبة فينقلب اعتراضا. ورابط الجملة بالمبتدأ تقديره: بحسبانه، أي حسبان الرحمان وضبطه.
وهذا استدلال على التفرد بخلق كوكب الشمس وكرة القمر وامتنان بما أودع فيهما من منافع للناس، ونظام سيرهما الذي به تدقيق نظام معاملات الناس واستعدادهم لما يحتاجون إليه عند تغيرات أجوائهم وأرزاقهم. ويتضمن الامتنان بما في ذلك من منافعهم، وفي كون هذا الخبر جاريا على أسلوب التعديد ما قد علمت آنفا من التبكيت، ووجهه أنهم غفلوا عما في نظام الشمس والقمر من الحكمة وما يدل عليه ذلك النظام من تفرد الله بتقديره، فاشتغل بعضهم بعبادة الشمس وبعضهم بعبادة القمر كما قال تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت:37].
وجيء بهذه الجملة اسمية للتهويل بالابتداء باسم الشمس والقمر، وللدلالة على أن حسبانهما ثابت لا يتغير منذ بدء الخلق مؤذن بحكمة الخالق. واستغني بجعل اسم الشمس والقمر مسندا إليهما عن تفكيك المسند إلى مسندين: أحدهما يدل على الاستدلال، والآخر يدل على الامتنان، كما وقع في قوله: {خَلَقَ الإنسان} {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:4].
والحسبان: مصدر حسب بمعنى عد مثل الغفران.
والباء للملابسة وهي ظرف مستقر هو خبر عن الشمس والقمر، والتقدير: كائنان بحسبان، أي بملابسة حسبان أي لحساب الناس مواقع سيرهما.
وإسناد هذه الملابسة إلى الشمس والقمر مجازي عقلي لأن الشمس والقمر سبب لتلبس الناس بحسابهما كما تقول: أنت بعناية مني، جعلت عنايتك ملابسة للمخاطب ملابسة اعتبارية، وقوله تعالى {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وقد تقدم في قوله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5]. والحسبان كناية عن انتظام سيرهما انتظاما مطردا لا يختل حساب الناس له والتوقيت به.
واقتصر على ذكر الشمس والقمر دون بقية الكواكب وإن كان فيها حسبان الأنواع، والحر والبرد، مثل الجوزاء، والشعرى، ومنزلة الأسد، والثريا، لأن هذين الكوكبين هما الباديان لجميع الناس لا يحتاج تعقل أحوالهما إلى تعليم توقيت مثل الكواكب الأخرى.
ولأن السورة هذه بنيت على ذكر الأمور المزدوجة والشمس والقمر مزدوجان في معارف عموم لناس فالشمس: كوكب سماوي لأنه أعلى من الأرض والأرض تدور حوله
وداخله في النظام الشمسي. والقمر: كوكب أرضي لأنه دون الأرض وتابع لها كبقية أقمار الكواكب فذكر الشمس والقمر كذكر السماء والأرض، والمشرق، والمغرب، والبحرين.
[6 ] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} .
عطف على جملة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] عطف الخبر على الخبر للوجه الذي تقدم لأن سجود الشمس والقمر لله تعالى وهو انتقال من الامتنان بما في السماء من المنافع إلى الامتنان بما في الأرض، وجعل لفظ {النجم} واسطة الانتقال لصلاحيته لأنه يراد منه نجوم السماء وما يسمى نجما من نبات الأرض كما يأتي.
وعطفت جملة {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ولم تفصل فخرجت من أسلوب تعداد الأخبار إلى أسلوب عطف بعض الأخبار على بعض لأن الأخبار الواردة بعد حروف العطف لم يقصد بها التعداد إذ ليس فيها تعريض بتوبيخ المشركين، فالإخبار بسجود النجم والشجر أريد به الإيقاظ إلى ما في هذا من الدلالة على عظيم القدرة دلالة رمزية، ولأنه لما اقتضى المقام جمع النظائر من المزاوجات بعد ذكر الشمس والقمر كان ذلك مقتضيا سلوك طريقة لوصل بالعطف بجامع التضاد.
وجعلت الجملة مفتتحة بالمسند إليه لتكون على صورة فاتحة الجملة التي عطفت عليها. وأتي بالمسند فعلا مضارعا للدلالة على تجدد هذا السجود وتكرره على معنى قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد:15].
و{النجم} يطلق: اسم جمع على نجوم السماء قال تعالى :{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [لنجم:1] ويطلق مفردا فيجمع على نجوم، قال تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]. وعن مجاهد تفسيره هنا بنجوم السماء.
ويطلق النجم على النبات والحشيش الذي لا سوق له فهو متصل بالتراب. وعن ابن عباس تفسير النجم في هذه الآية بالنبات الذي لا ساق له. والشجر: النبات الذي له ساق وارتفاع عن وجه الأرض. وهذان ينتفع بهما الإنسان والحيوان.
فحصل من قوله: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} بعد قوله: {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] قرينتان متوازيتان في الحركة والسكون وهذا من المحسنات البديعية الكاملة.
والسجود: يطلق على وضع الوجه على الأرض بقصد التعظيم، ويطلق الوقوع على الأرض مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق، أو استعارة ومنه قولهم نخلة ساجدة إذا أمالها حملها، فسجود نجوم السماء نزولها إلى جهات غروبها، وسجود نجم الأرض التصاقه بالتراب كالساجد، وسجود الشجر تطأطؤه بهبوب الرياح ودنو أغصانه للجانين لثماره والخابطين لورقه، ففعل {يسجدان} مستعمل في معنيين مجازيين وهما الدنو للمتناول والدلالة على عظمة الله تعالى بان شبه ارتسام ظلالهما على الأرض بالسجود كما قال تعالى {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد:15] في سورة الرعد [15]، وكما قال امرؤ القيس:
يكب على الأذ ... قان وح الكنهبل
فقال: على الأذقان، ليكون الانكباب مشبها بسقوط الإنسان على الأرض بوجهه ففيه استعارة مكنية، وذكر الأذقان تخيل، وعليه يكون فعل {يسجدان} هنا مستعملا في مجازه، وذلك يفيد أن الله خلق في الموجودات دلالات عدة على أن الله موجدها ومسخرها، ففي جميعها دلالات عقلية، وفي بعضها أو معظمها دلالات أخرى رمزية وخيالية لتفيد منها العقول المتفاوتة في الاستدلال.
[9 -7] {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [7] أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ [8] وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} .
اطرد في هذه الآية أسلوب المقابلة بين ما يشبه الضدين بعد مقابلة ذكر الشمس والقمر بذكر النجم والشجر، فجيء بذكر خلق السماء وخلق الأرض.
وعاد الكلام إلى طريقة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي كما في قوله: {الرَّحْمَنِ عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:1، 2]، وهذا معطوف على الخبر فهو في معناه.
رفع السماء يقتضي خلقها.وذكر رفعها لأنه محل العبرة بالخلق العجيب. ومعنى رفعها: خلقها مرفوعة بغير أعمدة كما يقال للخياط: وسع جيب القميص، أي خطه واسعا على أن في مجرد الرفع إيذانا بسمو المنزلة وشرفها لأن فيها منشأ أحكام الله ومصدر قضائه، ولأنها مكان الملائمة، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وتقديم السماء على الفعل الناصب له زيادة في الاهتمام بالاعتبار بخلقها.
و {الميزان} : أصله اسم آلة وزن، والوزن تقدير تعادل الأشياء وضبط مقادير ثقلها وهو مفعال من الوزن، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8]، في سورة الأعراف، وشاع إطلاق الميزان على العدل باستعارة لفظ الميزان للعدل علة وجه تشبيه المعقول بالمحسوس.
والميزان هنا مراد به العدل، مثل الذي في قوله تعالى {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد:25] لأنه الذي وضعه الله أي عينه لإقامة نظام لخلق، فالوضع هنا مستعار بالجعل فهو كالإنزال في قوله {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} . ومنه قول أبي طلحة الأنصاري وإن أحب أموالي إلي بئر حاء وأنها صدقة لله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله أي أجعلها وعينها لما يدلك الله عليه فإطلاق الوضع في الآية بعد ذكر رفع السماء مشاكلة ضدية، وإيهام طباق مع قوله {رفعها} ففيه محسنان بديعيان.
وقرن ذلك مع رفع السماء تنويها بشأن العدل بأن نسب إلى العالم العلوي وهو عالم الحق والفضائل، وأنه نزل إلى الأرض من السماء أي هو مما أمر الله به، ولذلك تكرر ذكر العدل مع ذكر خلق السماء كما في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ} [يونس: 5] في سورة يونس، وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] في سورة الحجر، وقوله {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} في سورة [الدخان: 38،39]. وهذا يصدق القول المأثور: بالعدل قامت السماوات والأرض. وإذ قد كان الأمر بإقامة العدل من أهم ما أوصى الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم قرن ذكر جعله بذكر خلق السماء فكأنه قيل ووضع فيها الميزان.
و {أن} في قوله {ألا تطغوا} يجوز أن تكون تفسيرية لأن فعل وضع الميزان فيه معنى أمر الناس بالعدل. وفي الأمر معنى القول دون حروفه فهو حقيق بأن يأتي تفسيره بحرف {أن} التفسيرية. فكان النهي عن إضاعة العدل في أكثر المعاملات تفسيرا لذلك. فتكو {لا} ناهية.
ويجوز أن تكون {أن} مصدرية بتقدير لام الجر محذوفة قبلها. والتقدير: لئلا تطغوا في الميزان، وعلى كلا الاحتمالين يراد بالميزان ما يشمل العدل ويشمل ما به تقدير الأشياء الموزونة ونحوها في البيع والشراء، أي من فوائد تنزيل الأمر بالعدل أن تجتنبوا الطغيان في إقامة الوزن في المعاملة. وتكون {لا} نافية، وفعل {تطغوا} منصوبا ب {أن} .
المصدرية ولفظ {الميزان} يسمح بإرادة المعنيين على طريقة استعمال المشترك في معنييه. وفي لفظ الميزان وما قارنه من فعل {وضع} وفعلي {لا تطغوا} و {أقيموا} وحرف الباء في قوله {بالقسط} وحرف {في} من قوله {في الميزان} ولفظ {القسط} ، كل هذه تظاهرت على إفادة هذه المعاني وهذا من إعجاز القرآن.
والطغيان: دحض الحق عمدا وأحتقارا لأصحابه، فمعنى الطغيان في العدل الاستخفاف بإضاعته وضعف الوازع عن الظلم. ومعنى الطغيان في وزن المقدرات تطفيفه.
و {في} من قوله: {في الميزان} ظرفية مجازية تفيد النهي عن أقل طغيان على الميزان، أي ليس النهي عن إضاعة الميزان كله بل النهي عن كل طغيان يتعلق به على نحو الظرفية قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5]، أي ارزقوهم من بعضها وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:
سبرة بن عمرو الفقعسي ... ونشرب في أثمانها ونقامر
إذ أراد أنهم يشربون الخمر ببعض أثمان إبلهم ويقامرون، أي أن لهم فيها منافع أخرى وهي العطاء والأكل منها لقوله في صدر البيت:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} عطف على جملة {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} على احتمال قول المعطوف عليها تفسيرية.
وعلى جملة {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} على احتمال قول المعطوف عليها تعليلا.
والإقامة: جعل الشيء قائما، وهو تمثيل للإتيان به على أكمل ما يريد له وقد تقدم عند قوله {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في سورة البقرة[3].
والوزن حقيقته: تحقيق تعادل الأجسام في الثقل، وهو هنا مراد به ما يشمل تقدير الكميات وهو الكيل والمقياس.
والقسط: العدل وهو معرب من الرومية وأصله قسطاس ثم اختصر في العربية فقالوا مرة: قسطاس، ومرة: وتقدم في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في سورة الأنبياء[47].
والباء للمصاحبة.والمعنى: اجعلوا العدل ملازما لما تقومونه من أموركم كما قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] وكما قال: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8]، فيكون قوله {بالقسط} ظرفا مستقرا في موضع الحال أو الباء للسببية، أي رعوا في إقامة التمحيص ما يقتضيه العدل فيكون قوله {بالقسط} ظرفا لغوا متعلقا، وقد كان المشركون يعهدون إلى التطفيف في الوزن كما جاء في قوله تعالى {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين:1،3]. فلما كان التطفيف سنة من سنن المشركين تصدت للآية للتنبيه عليه، ويجيء على الاعتبارين تفسير قوله: {وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} فإن حمل الميزان فيه على معنى العدل كان المعنى النهي عن التهاون بالعدل لغفلة أو تسامح بعد أن نهى عن الطغيان فيه، ويكون إظهار لفظ الميزان في مقام ضميره تنبيها على شدة عناية الله بالعدل، وإن حمل فيه على آلة الوزن كان المعنى النهي عن غبن الناس في الوزن لهم كما قال تعالى في سورة المطففين [3 ] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} .
والإخسار: جعل الغير خاسرا والخسارة النقص.
فعلى حمل الميزان على معنى العدل يكون الإخسار جعل صاحب الحق خاسرا مغبونا؛ ويكون {الميزان} منصوبا على نزع الخافض، وعلى حمل الميزان على معنى آلة الوزن يكون الإخسار بمعنى النقص، أي لا تجعلوا الميزان ناقصا كما قال تعالى: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84]، وقد علمت هذا النظم البديع في الآية الصالح لهذه المحامل.
[10-12] {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ [10] فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ [11] وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ والريحان} .
عطف على {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن:7] وهو مقابله في المزاوجة والوضع يقابل الرفع، فحصل محسن الطباق مرتين، ومعنى {وضعها} خفضها لهم، أي جعلها تحت أقدامهم وجنوبهم لتمكينهم من الانتفاع بها بجميع ما لهم فيها من منافع ومعالجات.
واللام في {للأنام} للأجل. والأنام: اختلفت أقوال أهل اللغة والتفسير فيه، فلم يذكره الجوهري ولا الراغب في مفردات القرآن ولا ابن الأثير في النهاية ولا أبو البقاء الكفوي في الكليات. وفسره الزمخشري بقوله الخلق وهو كل ما ظهر على وجه
الأرض من دابة فيها روح. وهذا مروي عن ابن عباس وجمع من التابعين. وعن ابن عباس أيضا: أنه الإنسان فقط. وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه.
وسياق الآية يرجح أن المراد به الإنسان، لأنه في مقام الامتنان والاعتناء بالبشر كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29].
والظاهر أنه اسم غير مشتق وفيه لغات: أنام كسحاب، وأنام كساباط، وأنيم كأمير.
وجملة {فِيهَا فَاكِهَةٌ} إلى آخرها مبنية لجملة {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} وتقديم {فيها} على المبتدأ للاهتمام بما تحتوي عليه الأرض.
ولما كان قوله: {وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} يتضمن وضعا وعلة لذلك الوضع كانت الجملة المبينة له مشتملة على ما فيه العبرة والامتنان.
والفاكهة: اسم لما يؤكل تفكها لا قوت مشتقة من فكه كفرح، إذا طابت نفسه بالحديث والضحك، قال تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} [الواقعة:65] لأن أكل ما يلذ للأكل وليس بضروري له إنما يكون في حال الانبساط.
والفاكهة: مثل الثمار والنقول من لوز وجوز وفستق.
وعطف على الفاكهة النخل وهو شجر التمر وهو أهم شجر الفاكهة عند العرب الذين نزل القرآن فيهم، وهو يثمر أصنافا من الفاكهة من رطب وبسر ومن تمر وهو فاكهة وقوت.
ووصف النخل {ذَاتُ الْأَكْمَامِ} وصف للتحسين فهو اعتبار بأطوار ثمر النخل، وامتنان بجماله وحسنه كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل:6] فامتن بمنافعها وبحسن منظرها.
و {الأكمام} : جمع كم بكسر الكاف وهو وعاء ثمر النخلة ويقال له: الكفرى، فليست الأكمام مما ينتفع به فتعين ن ذكرها مع النخل للتحسين.
و {الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} : هو الحب الذي لنباته سنابل ولها ورق وقصب فيصير تبنا، وذلك الورق والقصب هو العصف، أي الذي تعصفه الرياح وهذا وصف لحب الشعير والحنطة وبهما قوام حياة معظم الناس وكذلك ما أشبههما من نحو السلت والأرز.
وسمي العصف عصفا لأن الرياح تعصفه, أي تحركه ووصف الحب بأنه {ذُو
الْعَصْفِ} للتحسين وللتذكير بمنة جمال الزرع حين ظهوره في سنبله في حقوله نظير وصف النخل بذات الأكمام ولأن الموصوف ووصفه أقوات البشر وحيوانهم.
وقرأ الجمهور {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} برفع {الحب} ورفع {الريحان} ورفع {ذو} , وقرأه حمزة والكسائي وخلف برفع {الحب} و {ذو} وبجر {الريحان} عطفا على {العصف} . وقرأه ابن عامر بنصب الأسماء الثلاثة وعلامة نصب {ذُو الْعَصْفِ} الألف. وكذلك كتب في مصحف الشام عطفا على {الأرض} أو هو على الاختصاص.
{والريحان} : ما له رائحة ذكية من الأزهار والحشائش وهو فعلان من الرائحة, وإنما سمي به ما له رائحة طيبة. وهذا اعتبار وامتنان بالنبات المودعة فيه الأطياب مثل الورد والياسمين وما يسمى بالريحان الأخضر.
[13] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
الفاء للتفريع على ما تقدم من المنن المدمجة من دلائل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وحقية وحي القرآن, ودلائل عظمة الله تعالى وحكمته باستفهام عن تعيين نعمة من نعم الله يأتي لهم إنكارها, وهو تذييل لما قبله.
و"أي" استفهام عن تعيين واحد من الجنس الذي تضاف إليه وهي هنا مستعملة في التقرير بذكر ضد ما يقربه مثل قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]. وقد بينته عند قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في سورة الأنعام[130], أي لا يستطيع أحد منكم أن يجحد نعم الله.
والآلاء: النعم جمع: إلي بكسر الهمزة وسكون اللام, وألي بفتح الهمزة وسكون اللام وياء في آخره ويقال ألو بواو عوض الياء وهو النعمة.
وضمير المثنى في {رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} خطاب لفريقين من المخاطبين بالقرآن. والوجه عندي أنه خطاب للمؤمنين والكافرين الذين ينقسم إليهما جنس الإنسان المذكور في قوله {وَخُلِقَ الإنسان} الرحمن3] وهم المخاطبون بقوله: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن:8] الآية والمنقسم إليهما الأنام المتقدم ذكره, أي أن نعم الله على الناس لا يجحدها كافر بله المؤمن, وكل فريق يتوجه إليه الاستفهام بالمعنى الذي يناسب حاله.
والمقصود الأصلي: التعريض بالمشركين وتوبيخهم على أن أشركوا في العبادة مع المنعم غير المنعم, والشهادة عليهم بتوحيد المؤمنين, والتكذيب مستعمل في الجحود والإنكار.
وقيل التثنية جرت على طريقة في الكلام العربي أن يخاطبوا الواحد بصيغة المثنى كقوله تعالى {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [قّ:24] ذكر ذلك الطبري والنسفي.
ويجوز أن تكون التثنية قائمة مقام تكرير اللفظ لتأكيد المعنى مثل: لبيك وسعديك, ومعنى هذا أن الخطاب لواحد وهو الإنسان.
وقال جمهور المفسرين: هو خطاب للإنس والجن, وهذا بعيد لأن القرآن نزل لخطاب الناس ووعظهم ولم يأت لخطاب الجن, فلا يتعرض القرآن لخطابهم, وما ورد في القرآن من وقوع اهتداء نفر من الجن بالقرآن في سورة الأحقاف وفي سورة الجن يحمل على أن الله كلف الجن باتباع ما يتبين لهم في إدراكهم, وقد يكلف الله أصنافا بما هم أهل له دون غيرهم, كما كلف أهل العلم بالنظر في العقائد وكما كلفهم بالاجتهاد في الفروع ولم يكلف العامة بذلك, فما جاء في القرآن من ذكر الجن فهو في سياق الحكاية عن تصرفات الله فيهم وليس لتوجيه العمل بالشريعة.
وأما ما رواه الترمذي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه فقرأ عليهم سورة الرحمان وهم ساكتون فقال لهم "لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن مردودا منكم, كنت كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد". قال الترمذي: هو حديث الغريب. وفي سنده زهير بن محمد وقد ضعفه البخاري وأحمد ابن حنبل.
وهذا الحديث لو صح فليس تفسيرا لضمير التثنية لأن الجن سمعوا ذلك بعد نزوله فلا يقتضي أنهم المخاطبون به وإنما كانوا مقتدين بالذين خاطبهم الله, وقلي الخطاب للذكور والإناث وهو بعيد.
والتكذيب مستعمل في معنى الجحد والإنكار مجازا لتشنيع هذا الجحد.
وتكذيب الآلاء كناية عن الإشراك بالله في الإلهية. والمعنى: فبأي نعمة من نعم الله عليكم تنكرون إنها نعمة عليكم فأشركتم فيها غيره بله إنكار جميع نعمه إذ تعبدون غيره دواما.
[14، 15] {خَلَقَ الإنسان مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [14] وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ}
هذا انتقال إلى الاعتبار بخلق الله الإنسان وخلقه الجن.
والقول في مجيء المسند كالقول في قوله : {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن:2].
والمراد ب الإنسان آدم وهو أصل الجنس وقوله: {من صلصال} تقدم نضيره في سورة الحجر[2].
والصلصال: الطين اليابس.
والفخار: الطين المطبوخ بالنار ويسمى الخزف. وظاهر كلام المفسرين أن قوله: {كالفخار} صفة ل {صلصال} . وصرح بذلك الكواشي في تلخيص التبصرة ولم يعرجوا على فائدة هذا الوصف. والذي يظهر لي أن يكون كالفخار حالا من {الإنسان} , أي خلقه من صلصال فصار الإنسان كالفخار في صورة خاصة وصلابة.
ومعنى أنه صلصال يابس يشبه يبس الطين المطبوخ والمشبه غير المشبه به, وقد عبر عنه بالحمأ المسنون, والطين اللازب, والتراب.
{والجان} : الجن والمراد به إبليس وما خرج عنه من الشياطين, وقد حكى الله عنه قوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76].
والمارج: هو المختلط وهو اسم فاعل بمعنى اسم المفعول مثل دافق, وعيشة راضية, أي خلق الجان من خليط من نار, أي مختلط بعناصر أخرى إلا أن النار أغلب عليه كما كان التراب أغلب على تكوين الإنسان مع ما فيه من عنصر النار وهو الحرارة الغريزية والمقصود هنا هو خلق الإنسان بقرينة تذييله بقوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن:16] وإنما قرن بخلق الجان إظهارا لكمال النعمة في خلق الإنسان من مادة لينة قابلة للتهذيب والكمال وصدور الرفق بالموجودات التي معه على وجه الأرض.
وهو أيضا تذكير وموعظة بمظهر من مظاهر قدرة الله وحكمته في خلق نوع الإنسان وجنس الجان.
وفيه إيماء إلى ما سبق في القرآن النازل قبل هذه السورة من تفضيل الإنسان على الجان إذ أمر الله الجان بالسجود للإنسان, وما ينطوي من ذلك من وفرة مصالح الإنسان
على مصالح الجان, ومن تأهله لعمران العالم لكونه مخلوقا من طينته إذ الفضيلة تحصل من مجموع أوصاف لا من خصوصيات مفردة.
[16] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
هذا توبيخ على عدم الاعتراف بنعم الله تعالى, جيء فيه بمثل ما جيء به في نظيره الذي سبقه ليكون التوبيخ بكلام مثل سابقه, وذلك تكرير من أسلوب التوبيخ ونحوه أن يكون بمثل الكلام السابق, فحق هذا أن يسمى بالتعداد لا بالتكرار, لأنه ليس تكرارا لمجرد التأكيد, فالفاء في قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا} هنا تفريع على قوله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن:17] لأن ربوبيته تقتضي الاعتراف له بنعمة الإيجاد والإمداد وتحصل من تماثل الجمل المكررة فائدة التأكيد والتقرير أيضا فيكون للتكرير غرضان كما قدمناه في الكلام على أول السورة.
وفائدة التكرير توكيد التقرير بما لله تعالى من نعم على المخاطبين وتعريض توبيخهم على الإشراك بالله أصناما لا نعمة لها على حد, وكلها دلائل على تفرد الإلهية. وعن ابن قتيبة أن الله عدد في هذه السورة نعماء, وذكر خلقه آلاءه ثم أتبع كل خلة وصفها, ونعمة وضعها بهذه, وجعلها فاصلة بين كل نعمتين لينبههم على النعم ويقررهم بها اه. وقال الحسين بن الفضل1: التكرير طرد للغفلة وتأكيد للحجة.
وقال الشريف المرتضى في مجالسه وآماله المسمى الدرر والغرر: وهذا كثير في كلام العرب وأشعارهم, قال مهلهل بن ربيعة يرثي أخاه كليبا:
على أن ليس عدلا من كليب ... إذا طرد اليتيم عن الجزور
وذكر المصراع الأول ثمان مرات في أوائل أبيات متتابعة. وقال الحارث بن عياد:
قربا مربط النعامة مني ... لحقت حرب وائل عن حبال
ثم كرر قوله: قربا مربط النعامة مني, في أبيات كثيرة من القصيد.
وهكذا القول في نظائر قوله: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} المذكور هنا إلى ما في آخر السورة.
ـــــــ
1 الحسين بن الفضل بن عمير البجلي الكوفي النيسابوري توفي سنة 282هـ وعمره مائة وأبع سنين له "تفسير القرآن" .
[17] {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} .
استئناف ابتدائي فيه بيان لجملة {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن:5] وعطف {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} لأجل ما ذكرته آنفا من مراعاة المزاوجة.
وحذف المسند إليه على الطريقة التي سماها السكاكي بإتباع الاستعمال الوارد على تركه أو ترك نظائره وتقدم غير مرة.
والمشرق: جهة شروق الشمس، والمغرب: جهة غروبها وتثنية المشرقين والمغربين باعتبار أن الشمس تطلع في فصلي الشتاء والربيع من سمت وفي فصلي الصيف والخريف من سمت آخر وبمراعاة وقت الطول ووقت القصر وكذلك غروبها وهي فيما بين هذين المشرقين والمغربين ينتقل طلوعها وغروبها في درجات متقاربة فقد يعتبر ذلك فيقال: المشارق والمغارب كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} في سورة المعارج[40].
ومن زعم أن تثنية المشرقين لمراعاة مشرق الشمس والقمر وكذلك تثنية المغربين لم يغص على معنى كبير.
وعلى ما فسر به الجمهور {المشرقين} و {المغربين} بمشرقي الشمس ومغربيها فالمراد ب {المشرقين} النصف الشرقي من الأرض، وب {المغربين} النصف الغربي منها.
وربوبية الله تعالى بالمشرقين والمغربين بمعنى الخلق والتصرف.
[18] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
تكرير كما علمت آنفا.
[19،20] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [19] بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} .
خبر آخر عن {الرحمن} قصد منه العبرة بخلق البحار والأنهار، وذلك خلق عجيب دال على عظمة قدرة الله وعلمه وحكمته.
ومناسبة ذكره عقب ما قبله أنه لما ذكر أنه سبحانه رب المشرقين ورب المغربين وكانت الأبحر والأنهار في جهات الأرض ناسب الانتقال إلى الاعتبار بخلقهما وبالامتنان بما أودعها من منافع الناس.
والمرج: له معان كثيرة، وأولها في هذا الكلام أنه الإرسال من قولهم مرج الدابة إذ أرسلها ترعى في المرج، وهو الأرض الواسعة ذات الكلأ الذي لا مال له، أي: تركها تكذب حيث تشاء.
والمعنى: أرسل البحرين لا يحبس ماءهما عن الجري حاجز. وهذا تهيئة لقوله بعد {يَلْتَقِيَانِ* بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} .
والمراد: أنه خلقهما ومرجهما، لأنه ما مرجهما إلا عقب أن خلقها.
ويلتقيان: يتصلان بحيث يصب أحدهما في الآخر.
والبحر: الماء الغامر جزءا عظيما من الأرض يطلق على الماء المالح والعذب.
والمراد تثنية نوعي البحر وهما البحر الملح والبحر العذب. كما في قوله تعالى :{وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12]. والتعريف تعريف العهد الجنسي.
فالمقصود ما يعرفه العرب من هذين النوعين وهما نهر الفرات وبحر العجم المسمى اليوم بالخليج الفارسي. والتقاؤهما انصباب ماء الفرات في الخليج الفارسي. في شاطىء البصرة، والبلاد التي على الشاطىء العربي من الخليج الفارسي تعرف عند العرب ببلاد البحرين لذلك.
والمراد بالبرزخ الذي بينهما: الفاصل بين الماءين الحلو والملح بحيث لا يتغير أحد البحرين طعم الآخر بجواره. وذلك بما في كل ماء منهما من خصائص تدفع عنه اختلاط الآخر به. وهذا من مسائل الثقل النوعي.وذكر البرزخ تشبيه بليغ، أي بينهما مثل البرزخ وهو معنى {لا يبغيان} ، أي لا يبغي أحدهما على الآخر، أي لا يغلب عليه فيفسد طعمه فاستعير لهذه الغلبة لفظ البغي الذي حقيقته الاعتداء والتظلم.
ويجوز أن تكون التثنية تثنية بحرين ملحين معينين، والتعريف حينئذ تعريف العهد الحضوري، فالمراد: بحران معروفان للعرب. فالأظهر أن المراد:البحر الأحمر الذي عليه شطوط تهامة مثل: جدة وينبع النخل، وبحر عمان وهو بحر العرب الذي عليه حضرموت وعدن من بلاد اليمن: والبرزخ: الحاجز الفاصل، والبرزخ الذي بين هذين البحرين هو مضيق باب المندب
حيث يقع مرسى عدن ومرسى زيلع.
ولما كان في خلق البحرين نعم على الناس عظيمة منها معروفة عند جميعهم فإنهم يسيرون فيهما كما قال تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ} [النحل: 14] وقال: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [يونس: 22] واستخراج سمكه والتطهر بمائه. ومنها معروفة عند العلماء وهي ما لأملاح البحر من تأثير في تنقية هواء الأرض واستجلاب الأمطار وتلقي الأجرام التي تنزل من الشهب وغير ذلك.
وجملة {يلتقيان} وجملة {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حالان من {البحرين} .
وجملة {لا يبغيان} مبينة لجملة {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} .
[12] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
تكرير كما علمته مما تقدم، ووقع هنا اعتراضا بين أحوال البحرين.
[22 ] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} .
حال ثالثة. ثم إن كان المراد بالبحرين: بحرين معروفين من البحار الملحة تكون {من} في قوله {منهما} ابتدائية لأن الؤلؤ والمرجان يكونان في البحر الملح.
وإن كان المراد بالبحرين: البحر الملح، والبحر العذاب كانت "من" في قوله {منهما} للسببية كما في قوله تعالى: ٍ {فَمِنْ نَفْسِكَ} {النساء: 79]، في سورة النساء، أي يخرج اللؤلؤ والمرجان بسببهما، أي بسبب مجموعهما، أما اللؤلؤ فأجوده ما كان في مصب الفرات على خليج فارس، قال الرماني: لما كان الماء العذب كاللقاح للماء الملح في إخراج اللؤلؤ، قيل: يخرج منهما كما يقال: يتخلق الولد من الذكر والأنثى، وقد تقدم بيان تكون اللؤلؤ في البحار في سورة الحج.
وقال الزجاج: قد ذكرهما الله فإذا خرج من أحدهما شيء فقد خرج منهما وهو كقوله تعالى {ألَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} [نوح:15، 16]، والقمر في السماء الدنيا. وقال أبو علي الفارسي: هو من باب حذف المضاف، أي من أحدهما كقوله تعالى {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أي من أحدهما.
و {المرجان} : حيوان بحري ذو أصابع دقيقا ينشأ لينا ثم يتحجر ويتلون بلون الحمرة ويتصلب كلما طال مكثه في البحر فيستخرج منه كالعروق تتخذ منه حلية ويسمى بالفارسية بسذ. وقد تتفاوت البحار في الجيد من مرجانها. ويوجد ببحر طبرقة على البحر المتوسط في شمال البلاد التونسية.
و {المرجان} : لا يخرج من ملتقى البحرين الملح والعذب بل من البحر الملح.
وقيل: المرجان أصغر لصغار الدر، واللؤلؤ كباره فلا إشكال في قوله منهما.
وقرأ نافع وأبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب {يخرج} بضم الياء وفتح الراء على البناء للمجهول. وقرأ الباقون {يخرج} بفتح الياء وضم الراء لأنهما إذا أخرجهما الغواصون فقد خرجا.
وبين قوله {مرج} وقوله {والمرجان} الجناس المذيل.
[23 ] {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} تكرير لنظيره المتقدم أولا.
[24] {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ}
الجملة عطف على جملة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] لأن هذا من أحوال البحرين وقد أغنت إعادة لفظ البحر عن ذكر ضمير البحرين الرابط لجملة الحال بصاحبها.
واللام للملك وهو ملك تسخير السير فيها قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} [الشورى:32،34]. فالمعنى: أن الجواري في البحر في تصرفه تعالى، قال تعالى :{وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65].
والإخبار عن الجواري بأنها له للتنبيه على أن إنشاء البحر للسفن لا يخرجها عن ملك الله.
والجواري صفة لموصوف محذوف دل عليه متعلقه وهو قوله {في البحر} والتقدير: السفن الجواري إذ لا يجري في البحر غير السفن.
وكتب في المصحف الإمام {الجوار} براء في آخره دون ياء وقياس رسمه أن يكون
سورة الواقعة
...والكلام: إنشاء ثناء على الله تعالى مبالغ فيه بصيغة التفعل التي إذا كان فعلها غير صادر من اثنين فالمقصود منها المبالغة.
والمعنى: وصفه تعالى بكمال البركة، والبركة: الخير العظيم والنفع، وقد تطلق البركة على علو الشأن، وقد تقدم ذلك في أول سورة الفرقان.
والاسم ما دل على ذات سواء كان علما مثل لفظ الله أو كان صفة مثل الصفات العلى وهي الأسماء الحسنى، فأي اسم قدرت من أسماء الله فهو دال على ذات الله تعالى.
واسند {تبارك} إلى {اسم} وهو ما يعرف به المسمى دون أن يقول: تبارك ربك، كما قال {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان:1] وكما قال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون:14] قصد المبالغة في قوله تعالى بصفة البركة على طريقة الكناية لأنها أبلغ من التصريح كما هو مقرر في علم المعاني، وأطبق عليه البلغاء لأنه إذا كان اسمه قد تبارك فإن ذاته تباركت لا محالة لأن الاسم دال على المسمى، وهذا على طريقة قوله تعالى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] فإنه إذا كان التنزيه متعلقا باسمه فتعلق التنزيه بذاته أولى ومنه قوله تعالى {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} [المدثر: 4] على التأويل الشامل، وقول عنترة:
فشككت في الرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم
أراد فشككته بالرمح.
وأما قوله: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:96] فهو يحتمل أن يكون من قبيل {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] على أن المراد أن يقول كلاما فيه تنزيه لله فيكون من قبيل قوله {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، [الفاتحة:1] ويحتمل زيادة الباء فيكون مساويا لقوله :{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1].
وهذه الكناية من دقائق الكلام كقولهم: لا يتعلق الشك بأطرافه وقول...:
يبيت بنجاة من اللؤم بيتها ... إذا ما بيوت بالملامة حلت
ونظير هذا في التنزيه أن القرآن يقرأ ألفاظه من ليس بمتوضئ ولا يمسك المصحف إلا المتوضئ عند جمهور الفقهاء.
فذكر {اسم} في قوله: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} مراعى فيه أن ما عدد من شؤون الله
سورة الحديد
...ففي قوله {سبح} تعريض بالمشركين الذين أهملوا أهم التسبيح وهو تسبيحه عن الشريك والند.
واللام في قوله {لله} لام التبيين. وفائدتها زيادة بيان ارتباط المعمول بعامله لأن فعل التسبيح متعد بنفسه لا يحتاج إلى التعدية بحرف، قال تعالى {فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ} [ الإنسان:26]، فاللام هنا نظيره اللام في قولهم: شكرت لك، ونصحت لك، وقوله تعالى {نُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30]، وقولهم سقيا لك ورعيا لك، وأصله: سقيك ورعيك.
و {ماَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يعم الموجودات كلها فإن {ما} اسم موصول يعم العقلاء وغيرهم، أو هو خاص بغير العقلاء فجرى هنا على التغليب، وكلها دال على تنزيه الله تعالى عن الشريك فمنها دلالة بالقول كتسبيح الأنبياء والمؤمنين، ومنها دلالة بالفعل كتسبيح الملائكة، ومنها دلالة بشهادة الحال كما تنبئ به أحوال الموجودات من الافتقار إلى الصانع المنفرد بالتدبير، فإن جعل عموم و {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مخصوصا بمن يتأنى منهم النطق بالتسبيح وهم العقلاء كان إطلاق التسبيح على تسبيحهم حقيقة.
وإن حمل العموم على ظاهره لزم تأويل فعل {سبح} بما يشمل الحقيقة والمجاز فيكون مستعملا في حقيقته وجازه.
والعزيز: الذي لا يغلب، وهذا الوصف ينفي وجود الشريك في الإلهية.
و {الحكيم} الموصوف بالحكمة، وهي وضع الأفعال حيث يليق بها، وهي أيضا العلم الذي لا يخطئ ولا يتخلف ولا يحول دون تعلقه بالمعلومات حائل، وتقدما في سورة البقرة. وهذا الوصف يثبت أن أفعاله تعالى جارية على تهيئة المخلوقات لما به إصابة ما خلقت لأجله، فلذلك عززها الله بإرشاده بواسطة الشرائع.
[2] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
استئناف ابتدائي بذكر صفة عظيمة من صفات الله التي متعلقها أحوال الكائنات في السماوات والأرض وخاصة أهل الإدراك منهم.
ومضمون هذه الجملة يؤذن بتعليل تسبيح الله تعالى لأن من له ملك العوالم العليا والعالم الدنيوي حقيق بأن يعرف الناس صفات كماله.
وأفاد تعريف المسند قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداء
المجلد الثامن والعشرون
سورة المجادلة...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المجادلة
سميت هذه السورة في كتب التفسير وفي المصاحف وكتب السنة سورة المجادلة بكسر الدال أو بفتحه كما سيأتي. وتسمى سورة قد سمع وهذا الاسم مشتهر في الكتاتيب في تونس، وسميت في مصحف أبي بن كعب سورة الظهار.
ووجه تسميتها سورة المجادلة لأنها افتتحت بقضية مجادلة امرأة أوس بن الصامت لدى النبي صلى الله عليه وسلم في شأن مظاهرة زوجها.
ولم يذكر المفسرون ولا شاركوا كتب السنة ضبطه بكسر الدال أو فتحها. وذكر الخفاجي في "حاشية البيضاوي" عن "الكشف" أن كسر الدال هو المعروف ولم أدر ما أراد الخفاجي بالكشف الذي عزا إليه هذا، فكشف القزويني على الكشاف لا يوجد فيه ذلك، ولا في تفسير المسمى الكشف والبيان للثعلبي. فلعل الخفاجي رأى ذلك في الكشف الذي ينقل عنه الطيبي في مواضع تقريرات لكلام الكشاف وهو غير معروف في عداد شروح الكشاف ، وكسر الدال أظهر لأن السورة افتتحت بذكر التي تجادل في زوجها فحقيقة أن تضاف إلى صاحبة الجدال، وهي التي ذكرها الله بقوله: {الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1]. ورأيت في نسخة من حاشية محمد الهمذاني على الكشاف المسماة توضيح المشكلات، بخط مؤلفها جعل علامة كسرة تحت دال المجادلة. وأما فتح الدال فهو مصدر مأخوذ من فعل {تجادلك} كما عبر عنها بالتحاور في قوله {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
وهذه السورة مدنية قال ابن عطية بالإجماع. وفي تفسير القرطبي عن عطاء: أن العشر الأولى منها مدني وباقيها مكي. وفيه عن الكلبي أنها مدنية إلا قوله تعالى: {مَا
يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية نزلت بمكة.
وهي السورة المائة وثلاث من عداد نزول سور القرآن نزلت بعد سورة المنافقين وقبل سورة التحريم.
والذي يظهر أن سورة المجادلة نزلت قبل سورة الأحزاب لأن الله تعالى قال في سورة الأحزاب {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 4]، وذلك يقتضي أن تكون هذه الآية نزلت بعد إبطال حكم الظهار بما في سورة المجادلة لأن قوله: {ما جعل} يقتضي إبطال التحريم بالمظاهرة. وإنما أبطل بآية سورة المجادلة. وقال السخاوي: نزلت سورة المجادلة بعد سورة المنافقين وقبل سورة الحجرات.
وآيها في عد أهل المدينة وأهل مكة إحدى وعشرون، وفي عد أهل الشام والبصرة والكوفة إثنتان وعشرون.
أغراض هذه السورة
الحكم في قضية مظاهرة أوس بن الصامت من زوجه خولة.
وإبطال ما كان في الجاهلية من تحريم المرأة إذا ظاهر منها زوجها وإن عمله المخالف لما أراده الله وأنه من أوهامهم وزورهم التي كبتهم الله بإبطالها. وتخلص من ذلك إلى ضلالات المنافقين ومنها مناجاتهم بمرأى المؤمنين ليغيضوهم ويحزنوهم.
ومنها موالاتهم اليهود. وحلفهم على الكذب. وتخلل ذلك التعرض بآداب مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم. وشرع التصدق قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم. والثناء على المؤمنين في مجافاتهم اليهود والمشركين. وأن الله ورسوله وحزبهما هم الغالبون.
[1 ] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} .
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويها بالمرأة التي وجهت شكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصر في طلب العدل في حقها وفي بنيها. ولم ترض بعنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصر ولا روية، وتعليما لنساء الأمة الإسلامية، ورجالها واجب الذود عن مصالحها.
تلك هي قضية المرأة خولة أو خويلة مصغرا أو جميلة بنت مالك بنت ثعلبة أو بنت دليج مصغرا العوفية. وربما قالوا: الخزرجية، وهي من بني عوف بن مالك بن الخزرج. من بطون الأنصار مع زوجها أوس بن الصامت الخزرجي أخي عبادة بن الصامت.
قيل: إن سبب حدوث هذه القضية أن زوجها رآها وهي تصلي وكانت حسنة الجسم، فلما سلمت أرادها فأبت فغضب وكان قد ساء خلقه فقال لها: أنت علي كظهر أمي.
قال ابن عباس وكان هذا في الجاهلية تحريما للمرأة مؤبدا أي وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره الناس عليه فاستقر مشروعا فجاءت خولة رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت له ذلك، فقال لها: "حرمت عليه"، فقالت للرسول صلى الله عليه وسلم: إن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا، فقال "ما عندي في أمرك شيء"، فقالت: يا رسول الله ما ذكر طلاقا. وإنما هو أبو ولدي وأحب الناس إلي فقال: "حرمت عليه" فقالت: أشكو إلى الله فاقتي ووجدي. كلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمت عليه هتفت وشكت إلى الله، فأنزل الله هذه الآيات.
وهذا الحديث رواه داود في كتاب الظهار مجملا بسند صحيح. وأما تفصيل قصته فمن روايات أهل التفسير وأسباب النزول يزيد بعضها على بعض، وقد استقصاها الطبري بأسانيده عن ابن عباس وقتادة وأبي العالية ومحمد بن كعب القرظي وكلها متفقة على أن المرأة المجادلة هي خولة أو خويلة أو جميلة، وعلى أن زوجها أوس بن الصامت.
وروى الترمذي وأبو داود حديثا في الظهار في قصة أخرى منسوبة إلى سلمة بن صخر البياضي تشبه قصة خولة أنه ظاهر من امرأته ظهارا موقنا برمضان ثم غلبته نفسه فوطئها واستفتى في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخر القصة، إلا أنهما لم يذكرا أن الآية نزلت في ذلك.
وإنما نسب ابن عطية إلى النقاش أن الآية نزلت بسبب قصة سلمة ولا يعرف هذا لغيره. وأحسب أن ذلك اختلاط بين القصتين وكيف يصح ذلك وصريح الآية أن السائلة امرأة والذي في حديث سلمة بن صخر أنه هو السائل.
و {قد} أصله حرف تحقيق للخبر، فهو من حروف توكيد الخبر ولكن الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو لا يخامره تردد في أن الله يعلم ما قالته المرأة التي جادلت في زوجها.
فتعين أن حرف {قد} هنا مستعمل في التوقع، أي الإشعار بحصول ما يتوقعه السامع. قال في الكشاف لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجادلة كان يتوقعان أن يسمع الله لمجادلتها وشكواها وينزل في ذلك ما يفرج عنها اهـ.
ومعنى التوقع الذي يؤذن به حرف {قد} في مثل هذا يؤول إلى تنزيل الذي يتوقع حصوله أمر لشدة استشرافه له منزلة المتردد الطالب فتحقيق الخبر من تخريج الكلام على مختلف مقتضى الظاهر لنكتة كما قالوا في تأكيد الخبر ب"إن" في قوله تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27] إنه جعل غير السائل كالسائل حيث قدم إليه ما يلوح أليه بالخبر فيستشرف له استشراف الطالب المتردد. ولهذا جزم الرضي في شرح الكافية بأن {قد} لا بد فيها من معنى التحقيق. ثم يضاف إليه بعض المواضع معان أخرى.
والسماع في قول: {سمع} معناه الاستجابة للمطلوب وقبوله بقرينة دخول {قد} التوقعية عليه فإن المتوقع هو استجابة شكواها.
وقد استحضرت المرأة بعنوان الصلة تنويها بمجادلتها وشكواها لأنها دلت على توكلها الصادق على رحمة ربها بها وبأبنائها وبزوجها.
والمجادلة: الاحتجاج والاستدلال، وتقدمت في قوله: {يجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} في سورة الأنفال. [6].
والاشتكاء مبالغة في الشكوى وهي ذكر ما آذاه، يقال: شكى وتشكى واشتكى وأكثرها مبالغة: اشتكى والأكثر أن تكون الشكاية لقصد طلب إزالة الضر الذي يشتكي منه بحكم أو نصر أو إشارة بحيلة خلاص.
وتعلق فعل التجادل بالكون في زوجها على نية مضاف معلوم من المقام في مثل هذا أي في شأن زوجها وقضيته كقوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74 ]،وقوله: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} [المؤمنون: 27] وهو من المسألة الملقبة في أصول الفقه بإضافة التحليل والتحريم إلى الأعيان في نحو {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3].
والتحاور تفاعل من حار، إذا أجاب فالتحاور حصول الجواب من جانبين فاقتضت مراجعة بين شخصين.
والسماع في قوله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} مستعمل في معناه الحقيقي المناسب لصفات الله إذ لا صارف يصرف عن الحقيقة. وكون الله تعالى عالما بما جرى من المحاورة معلوم لا يراد من الإخبار به إفادة الحكم، فتعين صرف الخبر إلى إرادة الاعتناء بذلك التحاور والتنويه به وبعظيم منزلته لاشتماله على ترقب النبي صلى الله عليه وسلم ما ينزله عليه وحي، وترقب المرأة الرحمة، وإلا فإن المسلمين يعلمون أن الله عالم بتحاورهما.
وجملة {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} في موضع الحال من ضمير {تجادلك} . وجيء بصيغة المضارع لاستحضار مقارنة علم الله لتحاورهما زيادة في التنويه بشأن ذلك التحاور.
وجملة {اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تذييل لجملة {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} أي أن الله عالم بكل صوت وبكل مرئي. ومن ذلك محاورة المجادلة ووقوعها عند النبي صلى الله عليه وسلم. وتكرير اسم الجلالة في موضع إضماره ثلاث مرات لتربية المهابة وإثارة تعظيم منته تعالى ودواعي شكره.
[ 2] {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
تتنزل جملة {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} وما يتم أحكامها منزلة البيان لجملة {قدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1 ] و الآية لأن فيها مخرجا مما بحق بالمجادلة من ضر بظهار زوجها، وإبطالا له، ولها أيضا موقع الاستئناف البياني لجملة {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} يثير سؤالا في النفس أن تقول: فماذا نشأ عن استجابة الله لشكوى المجادلة فيجاب بما فيه المخرج لها منه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يظهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء والهاء مفتوحتين بدون ألف بعد الظاء على أن أصله: يتظهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب مخرجيهما، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو جعفر وخلف {يظاهرون} بفتح الياء وتشديد الظاء والألف بعدها على أن أصله: يتظاهرون، فأدغمت التاء كما تقدم، وقرأ عاصم {يظاهرون} بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء على أنه مضارع ظاهر.
ولم يأت مصدره إلا على وزن الفعال ووزن المفاعلة. يقال: صدر منه ظهار
ومظاهرة، ولم يقولوا في مصدره بوزن التظهر فقرأ نافع قد استغنى فيها عن مصدره بمصدر مرادفه.
ومعناه أن يقول الرجل لزوجه: أنت علي كظهر أمي. وكان هذا قولا يقولونه في الجاهلية يريدون به تأبيد تحريم نكاحا وبت عصمته. وهو مشتق من الظهر ضد البطن لأن الذي يقول لامرأته أنت علي كظهر أمي يريد ذلك أنه حرمها على نفسه. كما أن أمه حرام عليه، فإسناد تركيب التشبيه إلى ضمير المرأة على تقدير حالة من حالاتها، وهي حالة الاستمتاع المعروف، سلكوا في هذا التحريم مسلك الاستعارة المكنية بتشبيه الزوجة حين يقربها زوجها بالراحلة، وإثبات الظهر لها تخيل للاستعارة، ثم تشبيه ظهر زوجته بظهر أمه، أي في حالة من أحواله، وهي حالة الاستمتاع المعروف. وجعل المشبه ذات الزوجة. والمقصود أخص أحوال الزوجة وهو حال قربانها فآل إلى إضافة الأحكام إلى الأعيان.
فالتقدير: قربانك كقربان ظهر أمي، أي اعتلائها الخاص. ففي هذه الصيغة حدث ومجيء حروف لفظ ظهر في صيغة ظهار أو مظاهرة يشير إلى صيغة التحريم التي هي "أنت علي كظهر أمي" إيماء إلى تلك الصيغة على نحو ما يستعمل في النحت وليس هو من النحت لأن النحت يشتمل على حروف من عدة كلمات.
قال المفسرون وأهل اللغة كان الظهار طلاقا في الجاهلية يقتضي تأييد التحريم.
وأحسب أنه كان طلاقا عند أهل يثرب وما حولها لكثرة مخالطتهم اليهود ولا أحسب أنه كان معروفا عند العرب في مكة وتهامة ونجد وغيرها ولم أقف على ذلك في كلامهم. وحسب أن لم يذكر في القرآن إلا في المدني هنا وفي سورة الأحزاب.
والذي يلوح لي أن أهل يثرب ابتدعوا هذه الصيغة للمبالغة في التحريم، فإنهم كانوا قبل الإسلام ممتزجين باليهود متخلقين بعوائلهم وكان اليهود يمنعون أن يأتي الرجل امرأته من جهة خلفها كما تقدم في قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} في سورة البقرة [223] الصيغة تغليظا من التحريم وهي أنها كأمه، بل كظهر أمه. فجاءت صيغة شنيعة فظايعة.
وخذوا من صيغة أنت علي كظهر أمي أصرح ألفاظها وأخصها بغرضها وهو لفظ ظهر فاشتقوا منه الفعل بزناة متعددة، يقول: ظاهر من امرأته، وظهر مثل ضاعف وضعف، ويدخلون عليهما تاء المطاوعة. فيقولون: تظاهر منها وتظهر، وليس هذا من
قبيل النحت نحو: بسمل، وهلل، لعدم وجود حرف من الكلمات الموجودة في الجملة كلها.
والخطاب في قوله: {منكم} يجوز أن يكون للمسلمين، فيكون ذكر هذا الوصف لتعميم بيانا لمدلول الصلة من قوله: {الَّذِينَ يَظْهَرُونَ} لئلا يتوهم إرادة معين بالصلة.
و {من} بيانية كشأنها بعد الأسماء المبهمة فعلم أن هذا الحكم تشريع عام لكل مظاهر. وليس خصوصية لخولة ولا لأمثالها من النساء ذوات الخصاصة وكثرة الأولاد.
وأما {من} في قوله: {مِنْ نِسَائِهِمْ} فابتدائية متعلقة بـ {يظهرون} بتضمنه معنى البعد إذ هو كان طلاقا والطلاق يبعد أحد الزوجين عن الآخر، فاجتلب له حرف الابتداء. كما يقال: خرج من البلد.
وقد تبين أن المتعارف في صيغة الظهار أن تشتمل على ما يدل على الزوجة والظهر والأم دون التفات إلى ما يربط هذه الكلمات الثلاثة من دون الربط من أفعال وحروف نحو: أنت علي كظهر أمي، وأنت مني مثل ظهر أمي أو كوني لي كظهر أمي، أو نحو ذلك.
فأما إذا فقد بعض الألفاظ الثلاثة أو جميعها. نحو: وجهك علي كظهر أمي. أو كجنب أمي، أو كظهر جدتي، أو ابنتي، من كل كلام يفيد تشبيه الزوجة، أو إلحاقها بإحدى النساء من محارمه بقصد تحريم قربانها، فذلك كله من الظهار في أشهر أقوال مالك وأقوال أصحابه وجمهور الفقهاء، ولا ينتقل إلى صيغة الطلاق أو التحريم لأن الله أراد التوسعة على الناس وعدم المؤاخذة.
ولم يشر القرآن إلى اسم الظهر ولا إلى اسم الأم إلا مراعاة للصيغة المتعارفة بين الناس يومئذ بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد عن تلك الكلمات الثلاث تجردا واضحا.
والصور عديدة وليست الإحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى وليس من مهيع التفسير.
وجملة {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} . خبر عن {الذين} ، أي ليس أزواجهم أمهات لهم كقول أحدهم: أنت علي كظهر أمي، أي لا تصير الوزج لذلك أما لقائل تلك المقالة.
وهذا تمهيد لإبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة، بما يشير إلى أن الأمومة حقيقية ثابتة لا تصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء، كما قال تعالى في سورة الأحزاب {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} ولذلك أعقب هنا بقوله: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} أي فليست الزوجات المظاهر منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين: أنت علي كظهر أمي، فلا يحرمن عليهم، فالقصر في الآية حقيقي، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثر إيجاده.
وجملة {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} الخ واقعة موقع التعليل لجملة {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} ، وهو تعليل للمقصود من هذا الكلام. أعني إبطال التحريم بلفظ الظهار، إذ كونهن غير أمهاتهم ضروري لا يحتاج إلى التعليل.
وزيد صنيعهم ذما كقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} توبيخا لهم على صنيعهم، أي هو مع كونه لا يوجب تحريم المرأة هو قول منكر، أي فبيح لما فيه من تعريض حرمة الأم بتخيلات شنيعة تخطر بمخيلة السامع عندما يسمع قول المظاهر: أنت علي كظهر أمي. وهي حالة يستلزمها ذكر الظهر في قوله: "كظهر أمي".
وأحسب أن الفكر الذي أملى صيغة الظهار على أول من نطق بها كان مليئا بالغضب الذي يبعث على بذيء الكلام مثل قولهم: امصص بظر أمك في المشاتمة، وهو أيضا قول زور لأنه كذب إذ لم يحرمها الله. وقد قال تعالى في سورة الأحزاب [4]: {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} .
وتأكيد الخبر بـ {إن} واللام، للاهتمام بأيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنزلوا منزلة من يتردد في كونه منكرا أو زورا، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعا في شرع قديم ولا في شريعة الإسلام، وأنه شيء وضعه أهل الجاهلية كما نبه عليه عدة مع تكذيب أكاذيب الجاهلية في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ} . وقد تقدم في سورة الأحزاب [4].
وبعد هذا التوبيخ عطف عليه جملة {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ} كناية عن عدم مؤاخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته. وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية: أن حكم إيقاعه الحرمة كما صرح به ابن راشد القفصي في اللبلاب لقوله بعده {وَتِلْكَ
حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة:4] إن إيقاع الظهار معصيته، ولكونه معصية فسر ابن عطية قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} . وبذلك فسر القرطبي قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} . وقال ابن الفرس: هو حرام لا يحل إيقاعه. ودل على تحريمه ثلاثة أشياء:
أحدها: تكذيب الله تعالى من فعل ذلك.
الثاني: أنه سماه منكرا وزورا، والزور الكذب وهو محرم بإجماع.
الثالث: إخباره تعالى عنه بأنه يعفو عمه ويغفر ولا يعفى ويغفر لا على المذنبين.
وأقوال فقهاء الحنفية تدل على أن الظهار معصية ولم يصفه أحد من المالكية ولا الحنفية بأنه كبيرة. ولا حجة في وصفه في الآية بزور، لأن الكذب لا يكون كبيرة إلا إذا أفضى إلى مضرة.
وعد السبكي في "جمع الجوامع" الظهار من جملة الكبائر وسلمه المحلي. والكاتبون قالوا بأن الله سماه زورا والزور كبيرة فكون الظهار كبيرة قول الشافعية، وفيه نظر فإنهم يعدوا الكذب على الإطلاق كبيرة. وإنما عدوا شهادة الزور كبيرة.
وأعقب {لعفو} بقوله: {غفور} فقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} في معنى: إن الله عفا عنها وغفر لهم لأنه عفو غفور، يغفر هذا وما هو أشد.
والعفو: الكثير العفو، والعفو عدم المؤاخذة بالفعل أي عفو عن قولهم: الذي هو منكر وزور.
والغفور: الكثير الغفران والغفران الصفح عن فاعل فعل من شأنه أن يعاقبه عليه، فذكر وصف {غفور} بعد وصف "عفو" تتميم لتمجيد الله إذ لا ذنب في المظاهرة حيث لم يسبق فيها نهي، ومع ما فيه من مقابلة شيئين وهما {منكرا} و {زورا} ، بشيئين هما "عفو غفور".
وتأكيد الخبر في قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} لمشاكلة تأكيد مقابله في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} .
وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} يدل على أن المظاهرة بعد نزول هذه الآية منهي عنها وسنذكر ذلك.
وقد أومأ قوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إلى أن مراد الله في هذا الحكم
التوسعة عل الناس، فعلمنا أن مقصد الشريعة الإسلامية أن تدور أحكام الظهار على محور التخفيف والتوسعة، فعلى هذا الاعتبار يجب أن يجري الفقهاء فيما يفتون. ولذلك لا ينبغي أن تلاحظ فيه قاعدة الأخذ بالأحوط ولا قاعدة سد الذريعة، بل يجب أن نسير وراء ما أضاء لنا قوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
وقد قال مالك في "المدونة" : لا يقبل المظاهر ولا يباشر ولا ينظر إلى صدر ولا إلى شعر وقال الباجي في "المنتقى" : فمن أصابنا من حمل ذلك على التحريم ومنهم من حمله على الكراهية لئلا يدعوه إلى الجماع. وبه قال الشافعي وعبد الملك.
قلت: وهذا هو الوجه لأن القرآن ذكر المسيس وهو حقيقة شرعية في الجماع. وقال ما لك لو تظاهر على أربع نسوة بلفظ واحد في مجلس واحد لم تجب عليه إلا كفارة واحدة عند مالك قولا واحدا. وعند أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليهما.
والمقصود من هذه الآية إبطال تحريم المرأة التي يظاهر منها زوجها. وتحميق أهل الجاهلية الذين جعلوا الظهار محرما على المظاهر زوجه التي ظاهر منها.
وجعل الله الكفارة فدية لذلك وزجرا ليكف الناس عن هذا القول.
ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم "من قال لصاحبه: تعال أقامرك فليتصدق" أي من جرى ذلك عن لسانه بعد أن حرم الله الميسر.
[3] {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
عطف على جملة {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة:2] أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال: فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة، فيكون عطفا على جملة الخبر من قوله: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} {المجادلة:2].
و {ثم} عاطفة جملة {يعودون} على جملة {يظهرون} ، وهي للتراخي الرتبي تعريضا بالتخطئة لهم بأن عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعد أن انقطع ذلك بالإسلام. وذلك عقل بفعل {يعودون} ما يدل على قولهم لفظ الظهار.
والعود: الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه. وأصله: الرجوع إلى المكان الذي
غادره، وهو هنا عود مجازي.
ومعنى {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار. وهذا يقتضي أن المظاهر لا يكون مظاهرا إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أولى. وبهذا فسر الفراء. وروي عن علي بن طلحة عن أبن عباس بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفوا عنه. غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادلة يدفع هذا الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال الأوس بن الصامت: "أعتق رقبة" كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التفكير واجب على المظاهر من أول مرة ينطلق فيها بلفظ الظهار.
ويتحمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم، أي لا يحبون الفراق ويرمون العود إلى المعاشرة. وهذا تأويل أتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري وبكير بن الأشج وأبا العالية. وفي الموطأ قال مالك في قول الله عز وجل و {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال سمعت: أن تفسير ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه.
وأقوال أبي حنيفة والشافعي والليث تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به.
وعليه فقد استعمل فعل {يعودون} في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عودا بالفعل لم يكن لاشتراط التفكير قبل المسيس معنى، فانتظم من هذا معنى: ثم يريدون العود إلى ما حرموا على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] أي إذا أرتم القيام، وقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل:98] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" .
وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه و رسول الله يجادلني ويقول: "اتقي الله. فإنه أبن عمك"? فما برحت حتى نزل القرآن. فقال:"يعتق رقبة". قالت: لا يجد. قال:"فيصوم شهرين
متتابعين". قالت: إنه شيخ كبير ما به من صيام. قال: "فليطعم ستين مسكينا". قالت: ما عنده شيء يتصدق به. فأتى ساعتئذ بعرق من تمر قلت: يا رسول الله فإني أعينه بعرق آخر. قال: "قد أحسنت اذهبي فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى أبن عمك". قال أبو داود في هذا: إنها كفرت عنه من غير أن تستأمر
والمراد {بِمَا قَالُوا} ما قالوا بلفظ الظهار وهو ما حرموه على أنفسهم من الاستمتاع المفاد من لفظ: أنت علي كظهر أمي، لأن:أنت علي في معنى: قربانك ونحوه علي كمثله من ظهر أمي ومنه قوله تعالى: : {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم:80] أي مالا وولدا في قوله تعالى: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]، وقوله1: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} [آل عمران:183] أي قولكم حتى يأتينا بقربان تأكله النار. ففعل القول في هذا وأمثاله ناصب لمفرد لوقعه في خلال جملة مقولة، وإيثار التعبير عن المعنى الذي وقع التحريم له. فلفظ الظهار بالموصول وصلته هذه إيجاز وتنزيه للكلام عن التصريح به. فالمعنى ثم يرمون أن يرجعوا للاستمتاع لأزواجهم بعد أن حرموا على أنفسهم.
وفهم من قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أن من لم يرد العود إلى امرأته لا يخلوا حاله: فإما أن يريد طلاقها فله أن يوقع عليها طلاقا آخر لأن الله أبطل أن يكون الظهار طلاقا، وإما أن لا يريد طلاقا ولا عودا. فهذا قد صار ممتنعا من معاشرة زوجه مضرا بها فله حكم الإيلاء الذي في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] الآية. وقد كانوا يجعلون الظهار إيلاء كما في قصة سلمة بنت صخر البياضي. ثم الزرقي في كتاب أبي داود قال: كنت امرأ أصيب من النساء ما لا يصيب غيري فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئا يتابع بي بتحية في أوله مضمونة ثم مثناة فوقية ثم ألف ثم تحتية، والظاهر أنها مكسورة. والتتايع الوقوع في الشر فالباء في قوله: "بي" زائدة للتأكيد حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان. الحديث.
واللام في قوله: {لِمَا قَالُوا} بمعنى "إلى" كقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] ونظيره قوله: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28]. وأحسب أن أصل اللام هو التعليل، وهو أنها في مثل هذه المواضع إن كان الفعل الذي تعلقت به ليس فيه معنى المجيء حملت اللام فيه على معنى التعليل وهو الأصل نحو {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5]، وما يقع فح حرف "إلى" من ذلك مجاز بتنزيل من يفعل الفعل لأجله
منزلة من يجيء الجائي إليه، وإن كان الفعل الذي تعلقت به اللام فيه معنى المجيء مثل فعل العود فإن تعلق اللام به يشير إلى إرادة معنى في ذلك الفعل بتمجز أو تضمين يناسبه حرف التعليل نحو قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} [الرعد: 2] أي جريه المستمر لقصده أجلا يبلغه. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام:28] أي عاودوا فعله ومنه ما في هذه الآية.
وفي "الكشاف" في قوله تعالى: {كل ٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة الزمر[5] أنه ليس مثل قوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} في سورة لقمان[29] أي أنه ليس من تعاقب الحرفين ولا يسلك هذه الطريقة إلا ضيق العطن، ولكن المعنيين أعني الاستعلاء والتخصيص كلاهما ملائم لصحة الغرض لأن قوله: {إلى أجل} معناه يبلغه، وقوله: {لأجل} يريد لإدراك أجل تجعل الجري مختصا بالإدراك اهـ.
فيكون التقدير على هذا الوجه ثم يريدون العود لأجل ما قالوا، أي لأجل رغبتهم في أزواجهم، فيصير متعلق فعل {يعودون} مقدرا يدل عليه الكلام، أي يعودون لما تركوه من العصمة، ويصير الفعل في معنى: يندمون على الفراق.
وتحصل من هذا أن كفارة الظهار شرعت إذا قصد المظاهر الاستمرار على معاشرة زوجه، تحلة ما قصده من التحريم، وتأديبا له على هذا القصد الفاسد والقول الشنيع.
وبهذا يكون محمل قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} على أنه من قبل أن يمس زوجه مس استمتاع قبل أن يكفر وهو كناية عن الجماع في اصطلاح القرآن، كما قال: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237]
ولذلك جعلت الكفارة عتق رقبة لأنه يفتدي بتلك الرقبة رقبة زوجه.
وقد جعلها الله تعالى موعظة بقوله: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} . واسم الإشارة في قوله: {ذلكم} عائد إلى تحرير رقبة. والوعظ: التذكير بالخير والتحذير من الشر بترغيب أو ترهيب، أي فرض الكفارة تنبيه لكم لتتفادوا مسيس المرأة التي طلقت أو تستمر على مفارقتها مع الرغبة في العود إلى معاشرتها لئلا تعودوا إلى الظهار. ولم يسم الله ذلك كفارة هنا وسماها النبي صلى الله عليه وسلم كفارة كما في حديث سلمة بن صخر البياضي في جامع الترمذي وإنما الكفارة من نوع العقوبة في أحد قولين عن مالك وهو قول الشافعي حكاه عنه أبن العربي في "الأحكام" .
فالمظاهر ممنوع من الاستمتاع بزوجته المظاهر منها، أي ممنوع من علائق الزوجية، وذلك يقتضي تعطيل العصمة ما لم يكفر لأنه ألزم نفسه ذلك فإن استمتع بها قبل الكفارة كلها فليتب إلى الله وليستغفر وتتعين عليه الكفارة ولا تتعدد الكفارة بسبب الاستمتاع قبل التذكير لأنه سبب واحد فلا يضر تكرر مسببه، وإنما جعلت الكفارة زجرا ولذلك لم يكن وطأ المظاهر امرأته قبل الكفارة زنى. وقد روى أبو داود والترمذي حديث سلمة بن صخر البياضي أنه ظاهر من امرأته ثم وقع عليها قبل أن يكفر فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة واحدة، وهو قول جمهور العلماء. وعن مجاهد وعبد الرحمن بن مهدي أن عليه كفارتين.
وتفاصيل أحكام الظهار في صيغته وغير ذلك مفصلة في كتب الفقه.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تدييل لجملة {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} ، أي والله عليم بجميع ما تعلمونه من هذا التفكير وغيره.
[4] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} .
رخصة لمن لم يجد عتق رقبة أن ينتقل إلى صيام شهرين متتابعين لأنه لما لم يجد رقبة يعتاض بفكها عن فك عصمة الزوجة نقل إلى كفارة فيها مشقة النفس بالصبر على لذة الطعام والشراب ليدفع ما التزمه بالظهار من مشقة الصبر على ابتعاد حليلته فكان الصوم درجة ثانية قريبة من درجة تحرير الرقبة في المناسبة.
وأعيد قيد {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} للدلالة على أنه لا يكون المس إلا بعد انقضاء الصيام فلا يضن أن مجرد شروعه في الصيام كاف في العود إلى الاستمتاع.
{فمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ} ، أي لعجزه أو ضعفه رخص الله أن ينتقل إلى إطعام ستين مسكينا عوضا عن الصيام فالإطعام درجة ثالثة يدفع عن ستين مسكينا ألم الجوع عوضا عما كان التزامه على نفسه من مشقة الابتعاد عن لذاته، وإنما حددت بستين مسكينا إلحاقا لهذا بكفارة فطر يوم من رمضان عمدا بجامع أن كليهما كفارة عن صيام فكانت الكفارة متناسبة مع المكفر عنه مرتبة ترتيبا مناسبا.
وقد أجمل مقدار الطعام في الآية اكتفاء بتسميته إطعاما في حمل على ما يقصده الناس من الطعام وهو الشبع الواحد كما هو المتعرف في فعل طعم. فحمله علماؤنا على ما به شبع الجائع فيقدر في كل قوم بحسب ما به شبع معتاد الجائعين. وعن مالك رحمه الله في ذلك روايتان إحداهما أنه مد واحد لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم والثانية أنه مدان أو ما يقرب من المدين وهو مد بمد هشام بن إسماعيل المخزومي أمير المدينة وقدره مدان إلا ثلث مد قال: أشهب: قلت لمالك: أيختلف الشبع عندنا وعندكم? قال: نعم الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر أي لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأهل المدينة بالبركة. وقوله هذا يقتضي أن يكون الإطعام في المدينة مدا بمد النبي صلى الله عليه وسلم مثل كفارة الفطر في رمضان فكيف جعله مالك مقدرا بمدين أو بمد وثلثين، وقال: لو أطعم مدا ونصف مد أجزأه، فتعين أن تضعيف المقدار في الإطعام مراعى فيه معنى العقوبة على ما صنع، وإلا فلا دليل عليه من نص ولا قياس. قال أبو الحسن القابسي إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا فهذا مما ثبت بعمل أهل المدينة.
وقدر أبو حنيفة الشبع بمدين بمد النبي صلى الله عليه وسلم فلعله راعى الشبع في معظم الأقطار غير المدينة، وقدره الشافعي بمد واحد لكل مسكين قياسا على ما ثبت في السنة في كفارة الإفطار وكفارة اليمين.
ولم يذكر مع الإطعام قيد {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} اكتفاء بذكره مع تحرير الرقبة وصيام الشهرين ولأنه بدل عن الصيام ومجزأ لمثل أيام الصيام. هذا قول جمهور الفقهاء.
وعن أبي حنيفة أن الإطعام لا يشترط فيه وقوعه من قبل أن يتماسا.
ثم أن وقع المسيس قبل الكفارة أو قبل إتمامها لم يترتب على ذلك إلا أنه آثم إذ لا يمكن أن يترتب عليه أثر آخر، وهذا ما بينه حديث سلمة بن صخر الذي شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع على امرأته بعد أن ظاهر منها، فأمره بأن لا يعود إلى مثل ذلك حتى يكفر. وهذا قول جمهور الفقهاء، وقال مجاهد عليه كفارتان.
وصريح الآية أن تتابع الصيام شرط في التكفير وعليه فلو أفطر في خلاله دون عذر وجب عليه إعادته.
ولا يمس امرأته حتى يتم الشهران متتابعين فإن مسها في خلال الشهرين أثم ووجب
عليه إعادة الشهرين. وقال الشافعي: إذا كان الوطء ليلا لم يبطل التتابع لأن الليل ليس محلا للصوم، وهذا هو الجاري على القياس وعلى مقتضى حديث سلمة بن صخر.
وأما كونه آثما بالمسيس قبل تمام الكفارة فمسألة أخرى فمن العجب قول أبي بكر ابن العربي في كلام الشافعي أنه كلام من لم يذق طعم الفقه لأن الوطء الواقع في خلال الصوم ليس بالمحل المأذون فيه بالكفارة فإنه وطء تعد فلا بد من الامتثال للأمر بصوم لا يكون في أثنائه وطء اهـ.
والمسكين: الشديد الفقر، وتقدم في سورة براءة.
والظاهر إن كان قادرا على بعض خصال الكفارة وأبى أن يكفر انقلب ظهاره إيلاء. فإن لم ترض المرأة بالبقاء على ذلك فله أجل الإيلاء فإن انقضى الأجل طلقت عليه امرأته إن طلبت الطلاق. وإن كان عاجزا عن خصال الكفارة كلها كان العاجز عن الوطء بعد وقوعه منه فتبقى العصمة بين المتظاهر وامرأته ولا يقربها حتى يكفر.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة سلمة بن صخر من أموال بيت المال فحق على ولاة الأمور أن يدفعوا عن العاجز كفارة ظهاره فإن تعذر ذلك فالظاهر أن الكفارة ساقطة عنه، وأنه يعود إلى مسيس امرأته، وتبقى الكفارة ذنبا عليه في ذمته لأن الله أبطل طلاق الظهار.
{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
الإشارة إلى ما ذكر من الأحكام، أي ذلك المذكور لتؤمنوا بالله ورسوله، أي لتؤمنوا إيمانا كاملا بالامتثال لما أمركم الله ورسوله فلا تشوبوا أعمال الإيمان بأعمال أهل الجاهلية، وهذا زيادة في تشنيع الظهار. وتحذير للمسلمين من إيقاعه فيما بعد، أو ذلك النقل من حرج الفراق بسبب قول الظهار إلى الرخصة في عدم الاعتداد به وفي الإخلاص منه بالكفارة، لتيسير الإيمان عليكم فهذا في معنى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].
و {لتؤمنوا} خبر عن اسم الإشارة، واللام للتعليل. ولما كان المشار إليه هو صيام شهرين أو إطعام ستين مسكينا عوضا عن تحرير رقبة كان ما علل به تحرير رقبة منسحبا على الصيام والإطعام، وما علل به الصيام والإطعام منسحبا على تحرير رقبة، فأفاد أن كلا من تحرير رقبة وصيام شهرين وإطعام ستين مسكينا مشتمل على كلتا العلتين وهما الموعظة والإيمان بالله ورسوله.
والإشارة في {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} إلى ما أشير إليه ب {ذلك} ، وجيء له باسم الإشارة التأنيث نظرا للإخبار عنه بلفظ {حدود} إذ هو جمع يجوز تأنيث إشارته كما يجوز تأنيث ضميره ومثله قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} في سورة البقرة[229].
وجملة {و َلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تتميم لجملة {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} ، أي ذلك الحكم وهو إبطال التحريم بالظهار حكم الإسلام. وأما ما كانوا عليه فهو من آثار الجاهلية فهو ستة قوم لهم عذاب أليم على الكفر وما تولد منه من الأباطيل، فالظهار شرع الجاهلية. وهذا كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، لأنه وضعه المشركون ولم يكن من الحنيفية.
[5] {إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.
{إنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} .
لما جرى ذكر الكافرين وجرى ذكر الكافرين وجرى ذكر حدود الله وكان في المدينة منافقون من المشركين نقل الكلام إلى تهديدهم وإيقاظ المسلمين للاحتزاز منهم.
والمحادة: المشاقة والمعاداة، وقد أوثر هذا الفعل هنا لوقوع الكلام عقب ذكر حدود الله، فإن المحادة مشتقة من الحد لأن كل واحد من المعتادين كأنه في حد مخالف لحد الآخر، مثل ما قيل أن العداوة مشتقة عدوة الوادي لأن كلا من المعتاديين يشبه من هو من الآخر في عدوة أخرى.
وقيل: اشتقت المشاقة من الشقة لأن كلا من المتخالفين كأنه في شقة غير شقة الآخر.
والمراد بهم الذين يحادون رسول الله صلى الله عليه وسلم المرسل بدين الله فمحادته محادة لله.
والكبت: الخزي والإذلال وفعل {كتبوا} مستعمل في الوعيد أي سيكبتون، فعبر عنه بالمضي تنبيها على تحقيق وقوعه لصدوره عمن لا خلاف في خبره مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] ولأنه مؤيد بتنظيره بما وقع لأمثالهم. وقرينة ذلك تأكيد الخبر بـ {أن} لأن الكلام لو كان إخبارا عن كبت وقع لم يكن ثم مقتضى لتأكيد الخبر إذ لا ينازع أحد فيما وقع، ويزيد ذلك وضوحا قوله: {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني الذين حادوا الله في
غزوة الخندق. وتقدم ذكرها في سورة الأحزاب. وما كان من المنافقين فيها فالمراد بصلة {مِنْ قَبْلِهِمْ} من كان من قبلهم من أهل النفاق وهم يعرفونهم.
{وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ}
معترضة بين جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وجملة {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي لا عذر لهم في محادة الله ورسوله فإن مع الرسول صلى الله عليه وسلم آيات القرآن بينه على صدقه.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
عطف على جملة {كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}، أي لهم بعد الكبت عذاب مهين في الآخرة.
وتعريف {الكافرين} تعريف الجنس ليستغرق كل الكافرين.
ووصف عذابهم بالمهين لمناسبة وعيدهم بالكبت الذي هو الذل والإهانة.
[6] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
يجوز أن يكون {يوم} ظرفا متعلقا بالكون المقدر في خبر المبتدأ من {لِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5]
ويجوز أن يكون متعلقا ب{مهين}، ويجوز أن يكون منصوبا على المفعول به لفعل تقديره: اذكر تنويها بذلك اليوم وتهويلا عليهم وهذا كثير في أسماء الزمان التي وقعت في القرآن. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} في سورة البقرة. [30]
وضمير الجمع عائد إلى {الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [المجادلة:5]. ولذلك أتي بلفظ المشمول وهو {جميعا} حالا من الضمير.
وقوله: {فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} تهديد بفضح نفاقهم يوم البعث. وفيه كناية عن الجزاء على أعمالهم.
وجملة {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} في موضع الحال من {ما عملوا} .
والمقصود من الحال هو ما عطف عليه من قوله: {ونسوه} لأن ذلك محل العبرة.
وبه تكون الحالة مؤسسة لا مؤكدة لعاملها، وهو{ينبئهم}، أي علمه الله علما مفصلا من الآن. وهم نسوه، وذلك تسجيا عليهم بأنهم متهاونون بعظيم الأمر وذلك من الغرور، أي نسو في الدنيا بله الآخرة فإذا أنبئوا به عجبوا قال تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً} [الكهف: 49] .
وجملة {و َاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} تذييل. والشهيد: العالم بالأمور المشاهدة.
[7 ] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
استئناف ابتدائي هو تخلص من قوله تعالى: {أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ} [المجادلة: 6]إلى ذكر علم الله بأحوال المنافقين وأحلافهم اليهود. فكان المنافقون يناجي بعضهم بعض ليري للمسلمين مودة بعض المنافقين لبعض فإن المنافقين بتناجيهم يظهرون أنهم طائفة أمرها واحد وكلمتها واحدة، وهم وإن كانوا يظهرون الإسلام يحبون أن بدرت من أحدهم بادرة تنم بنفاقه، فلا يقدم المؤمنون على أذاه لعلمهم بأن له بطانة تدافع عنه.وكانوا إذا مر بهم المسلمون نظروا إليهم فحسب المارون لعل حدثا حدث من مصيبة، وكان المسلمون يومئذ على توقع حرب مع المشركين في كل حين فيتوهمون أن من مناجاة المتناجين حديث عن قرب العدو أو عن هزيمة للمسلمين في السريا التي يخرجون فيها، فنزلت هذه الآيات لإشعار المنافقين بعلم الله بماذا يتناجون، وأنه مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخيلتهم ليكفوا عن الكيد للمسلمين.
فهذه الآية تمهيد لقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8] الآية.
و {ألم تر} من الرؤية العلمية لأن علم الله لا يرى وسد المصدر مسد المفعول. والتقدير: ألم تر الله عالما.
و {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يعم المبصرات والمسموعات فهو أعلم من قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6]لاختصاصه بعلم المشاهدات لأن الغرض المفتتح به هذه الجملة وهو علم المسموعات.
وجملة {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ} إلا آخرها بدل البعض من الكل فإن معنى قوله: {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} . وقوله: {إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} وقوله: {إ ِلَّا هُوَ معهُمْ} ، أنه مطلع على ما يتناجون فيه فكأنه تعالى نجي معهم.
و {ما} نافية. و {يكون} مضارع "كان" التامة، و {من} زائدة في النفي لقصد العموم، و {نجوى} في معنى فاعل {يكون} .
وقرأ الجمهور {يكون} بياء الغائب لأن تأنيث {نجوى} غير تحقيقي، فيجوز فيه جرى فعله على أصل التذكير ولا سيما وقد فصل بينه وبين فاعله بحرف {من} الزائدة. وقرأه أبو جعفر بتاء المؤنث رعيا لصورة تأنيث لفظه.
والنجوى: أسم مصدر ناجاه، إذا ساره. و{ثلاثة} مضاف إليه {نجوى} . أي ما يكون تناجي ثلاثة من الناس إلا الله مطلع عليهم كرابع لهم، ولا خمسة إلا كسادس لهم، ولا أدنى ولا أكثر إلا هو كواحد منهم. وضمائر الغيبة عائدة إلى {ثلاثة} وإلى {خمسة} وإلى {ذلك} و {أكثر} .
والمقصود من هذا الخبر والإنذار والوعيد وتخصيص عددي الثلاثة والخمسة بالذكر لأن بعض المتناجين الذين نزلت الآية بسببهم كانوا حلفا بعضها من ثلاثة وبعضها من خمسة. وقال الفراء: المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود.
وفي الكشاف عن ابن عباس نزلت في ربيعة وحبيب ابني عمرو بن عمير من ثقيف وصفوان بن أمية السلمي حليف بني أسد كانوا يتحدثون فقال أحدهم: أترى أن الله يعلم ما نقول? فقال الآخر: يعلم بعضا ولا يعلم بعضا. وقال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كله. اهـ. ولم أر هذا في غير الكشاف ولا مناسبة لهذا بالوعيد في قوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فإن أولئك الثلاثة كانوا مسلمين وعدوا في الصحابة وكأن هذا تخليط من الراوي بين سبب نزول آية {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} في سورة فصلت[22]. كما في صحيح البخاري وبين هذه الآية. وركبت أسماء ثلاثة آخرين كانوا بالمدينة لأن الآية مدنية فآية النجوى فإنما هي في تناجي المنافقين أو فيهم وفي اليهود عن ابن عباس.
والاستثناء في {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} {إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} مفرع من
أكوان وأحوال دل عليها قوله تعالى: {ما يكون} والجمل التي بعد حرف استثناء في مواضع أحوال. والتقدير: ما يكون في نجوى ثلاثة في حال من علم غيرهم بهم واطلاعه عليهم إلا حالة الله مطلع عليهم.
وتكرير حرف النفي في المعطوفات على المنفي أسلوب عربي وخاصة حيث كان مع كل من المعاطيف استثناء.
وقرأ الجمهور {ولا أكثر} بنصب {أكثر} عطفا على لفظ {نجوى} . وقرأه يعقوب بالرفع عطفا على محل {نجوى} لأنه مجرور بحرف جر زائد.
و {أينما} مركب من {أين} التي هي ظرف مكان {وما} الزائدة. ???وأضيف {أين} إلى جملة {كانوا} ، أي في أي مكان كانوا فيه، ونظيره قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ} في سورة الحديد: [4]
و {ثم} للتراخي الرتبي لأن إنباءهم بما تكلموا وما عملوه في الدنيا في يوم القيامة أدل على سعة علم الله من علمه بحديثهم في الدنيا لأن معظم علم العالمين يعتريه النسيان في مثل ذلك الزمان من الطول وكثرة تدبير الأمور في الدنيا والآخرة.
وفي هذا وعيد لهم بأن نجواهم إثم عظيم فنهي عنه ويشمل هذا تحذير من يشاركهم.
وجملة {نَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لجملة {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} فأغنت {إن} غناء فاء السببية كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
وتأكيد الجملة بـ {إن} للاهتمام به وإلا فإن المخاطب لا يتردد في ذلك. وهذا التعريض بالوعيد يدل على أن النهي عن التناجي كان سابقا على نزول هذه الآية والآيات بعدها.
[8] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ
الرَّسُولِ}
إن كانت هذه الآية والآيتان اللتان بعدها نزلت مع الآية التي قبلها حسبما يقتضيه ظاهر ترتيب التلاوة كان قوله تعالى: {نهُوا عَنِ النَّجْوَى} مؤذنا بأنه سبق نهي عن النجوى قبل نزول هذه الآيات، وهو ظاهر قول مجاهد وقتادة نزلت في قوم من اليهود والمنافقين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التناجي بحضرة المؤمنين فلم ينتهوا، فنزلت فتكون الآيات الأربع نزلت لتوبيخهم وهو ما اعتمدناه آنفا.
وإذا كانت نزلت بعد الآية التي قبلها بفترة كان المراد النهي الذي أشار إليه قوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [المجادلة: 7]كما تقدم، بأن لم ينتهوا عن النجوى بعد أن سمعوا الوعيد عليها بقوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، فالمراد بـ {الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} هم الذين عنوا بقوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7]الآية.
و {ثم} في قوله: {ثم يعودون} للتراخي الرتبي لأن عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنه أعظم من ابتداء النجوى لأن ابتداءها كان إثما لما اشتملت عليه نجواهم من نوايا سيئة نحو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين فأما عودتهم إلى النجوى بعد أن نهوا عنها فقد زادوا به تمردا على النبي صلى الله عليه وسلم ومشاقة للمسلمين.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا اقتضاه استمرار المنافقين على نجواهم.
والاستفهام في قوله: {ألمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} تعجيبي مراد به توبيخهم حين يسمعونه.
والرؤية بصرية بقرينة تعديتها بحرف {إلى} .
والتعريف في النجوى تعريف العهد لأن سياق الكلام من نوع خاص من النجوى. وهي النجوى التي تحزن الذين آمنوا كما ينبئ عنه قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة:
10 ].
ويجوز أن يكون النهي عن جنس النجوى في أول الأمر يعم كل نجوى بمرأى من الناس سدا للذريعة، قال الباجي في المنتقى: روي عن النهي عن تناجي اثنين أو أكثر دون واحد أنه كان في بدء الإسلام فلما فشا الإسلام وآمن الناس زال هذا الحكم لزوال سببه.
قال ابن العربي في أحكام القرآن عند قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} الآية [114] الآية في سورة النساء. إن الله تعالى أمر عباده بأمرين عظيمين: أحدعما الإخلاص وهو أن يستوي ظاهر المرء وباطنه، والثاني النصيحة لكتاب الله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالنجوى خلاف هذين الأصلين وبعد هذا فلم يكن بد للخلق من أمر يختصون به في أنفسهم ويخص به بعضهم بعضا فرخص ذلك بصفة الأمر بالمعروف والصدقة وإصلاح ذات البين إهـ.
وفي الموطأ حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى إثنان دون واحد". زاد في رواية مسلم "إلا بإذنه فإن ذلك يحزنه" .
واختلف في محمل هذا النهي على التحريم أو على الكراهة وجمهور المالكية على أنه للتحريم قال ابن العربي في القبس فإن كان قوله مخافة أن يحزنه من قول النبي صلى الله عليه وسلم فقد انحسم التأويل، وإن كان من قول الراوي فهو أولى من تأويل غيره. وقال ابن قاسم: سمعت مالكا يقول: لا يتناجى أربعة دون واحد. وأما تناجي جماعة دون جماعة فإنه أيضا مكروه أو محرم اهـ. وحكى النووي الإجماع على جواز تناجي جماعة دون جماعة واحتج له ابن التين بحديث ابن مسعود قال قأتيته يعني النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ملأ فساررته. وحديث عائشة قصة فاطمة دال على الجواز.
وقال ابن عبد البر: لا يجوز لأحد أن يدخل على المتناجين في حال تناجيهما.
وألحق بالتناجي أن يتكلم رجلان بلغة لا يعرفها ثالث معهما.
والقول في استعمال {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} في معناه المجازي وتعديته باللام نظير القول في قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة:3].
وكذلك القول في موقع {ثم} عاطفة الجملة.
وصيغة المضارع في {يعودون} دالة على التجدد، أي يكررون العدد بحيث يريدون بذلك العصيان وقلة الاكتراث بالنهي فإنهم لو عادوا إلى النجوى مرة أو مرتين لاحتمل حالهم أنهم نسوا.
و"وما نهو عنه" هو النجوى، فعدل عن الإتيان بضمير النجوى، فعدل عن الإتيان بضمير النجوى إلى الموصول وصلته لما تؤذن به الصلة من التعليل لما بعدها من الوعيد بقوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} على ما في الصلة من التسجيل على سفههم.
وقرأ الجمهور {يتناجون} بصيغة التفاعل من ناجي المزيد. وقرأه حمزة ورويس ويعقوب و {ينتجون} بصيغة الافتعال من نجا الثلاثي المجرد أي سار غيره، والافتعال يرد بمعنى المفاعلة مثل اختصموا واقتتلوا.
والإثم: المعصية وهو ما يشتمل عليه تناجيهم من كلام لكفر وذم المسلمين.
و {العدوان} بضم العين: الظلم وهو ما يدبرونه من الكيد للمسلمين.
ومعصية الرسول مخالفة ما يأمرهم به ومن جملة ذلك أنه نهاهم عن النجوى وهم يعودون لها.
والياء للملابسة، أي يتناجون ملابسين الإثم والعدوان ومعصية الرسول وهذه الملابسة متفاوتة. فملابسة الإثم والعدوان ملابسة المتناجي في شأنه لفعل المناجين. وملابسة معصية الرسول صلى الله عليه وسلم ملابسة المقارنة للفعل، لأن نجواهم بعد أن نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عنها معصية وفي قوله: {نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} وقوله: {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} دلالة على أنهم منافقون لا يهود لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ينهى اليهود عن أحوالهم. وهذا يرد قول من تأول الآية على اليهود وهو قول مجاهد وقتادة، بل الحق ما في ابن عطية عن ابن عباس أنها نزلت في المنافقين.
[7] {وإذَا جاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} .
بعد أن ذكر حالهم في اختلاء بعضهم ببعض ذكر حال نياتهم الخبيثة عند الحضور في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم يتتبعون سوء نياتهم من كلمات يتبادر منها للسامعين أنها صالحة فكانوا إذا دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم يخفتون لفظ السلام عليكم لأنه شعار الإسلام ولما فيه من معنى جمع السلامة يعدلون عن ذلك ويقولون: أنعم صباحا، وهي تحية العرب في الجاهلية لأنهم لا يحبوا أن يتركوا عوائد الجاهلية. نقله ابن عطية عن ابن عباس.
فمعنى {بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} ، بغير لفظ السلام، فإن الله حياه بذلك بخصوصه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56]. وحياه به في عموم الأنبياء بقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل: 59] وتحية الله هي التحية الكاملة.
وليس المراد من هذه الآية ما ورد في حديث: أن اليهود كانوا إذا حيوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: السام عليك، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرد عليهم بقوله "وعليكم". فإن ذلك وارد في قوم معروف أنهم من اليهود. وما ذكر أول هذه الآية لا يليق حمله على أحوال اليهود كما علمت آنفا ولو حمل ضمير {جاءوك} على اليهود لزم عليه تشتيت الضمائر.
أما هذه الآية ففي أحوال المنافقين، وهذا مثل ما كان بعضهم يقول للنبي صلى الله عليه وسلم {رَاعِنَا} [ البقرة:104] تعلموها من اليهود وهم يريدون التوجيه بالرعونة فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104] ولم يرد منه نهي اليهود.
ومعنى {يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} يقول بعضهم لبعض على نحو قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61] وقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور:12]، أي ظن بعضهم ببعض خيرا، أي يقول بعضهم لبعض.
ويجوز أن يكون المراد بـ {أنفسهم} مجامعهم كقوله تعالى: {وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} ، أي قل لهم خاليا بهم سترا عليهم من الافتضاح. وتقدم في سورة النساء [63]و {لولا} للتحضيض، أي هلا يعذبنا الله بسبب كلامنا الذي نتناجى به من ذم النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، أي يقولون ما معناه لو كان محمدا نبيا لعذبنا الله بما نقوله من السوء فيه ومن الذم وهو ما لخصه الله من قولهم بكلمة {لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} فإن {لولا} للتحضيض مستعملة كناية عن جحد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، أي لو كان نبيا لغضب الله علينا فلعذبنا الآن بسبب قولنا له.
وهذا خاطر من خواطر أهل الضلالة المتأصلة فيهم، وهي توهمهم أن شأن الله تعالى كشأن البشر في إسراع الانتقام والاهتزاز مما لا يرضاه ومن المعاندة. وفي الحديث "لا أحد أصبر على أذى يسمعه من الله، يدعون له ندا وهو يرزقهم على أنهم لجحودهم بالبعث والجزاء يحسبون أن عقاب الله تعالى يظهر في الدنيا". وهذا من الغرور قال تعالى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت:23] ولذلك قال تعالى ردا على كلامهم {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي كافيهم من العذاب جهنم فإنه عذاب.
وأصل {يصلونها} يصلون بها، فضمن معنى يذوقونها أو يحسونها وقد تكرر هذا الاستعمال في القرآن.