كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
بعض النساء ظن بعض من يشافهها من الرجال أنها تحبب إليه، فربما اجترأت نفسه على الطمع في المغازلة فبدرت منه بادرة تكون منافية لحرمة المرأة، بله أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم اللاتي هن أمهات المؤمنين.
والخضوع: حقيقة التذلل، وأطلق هنا على الرقة لمشابهتها التذلل.
والباء في قوله: {بِالْقَوْلِ} يجوز أن تكون للتعدية بمنزلة همزة التعدية، أي لا تخضعن القول، أي تجعلنه خاضعا ذليلا، أي مفككا. وموقع الباء هنا أحسن من موقع همزة التعدية لأن باء التعدية جاءت من باء المصاحبة على ما بينه المحققون من النحاة أن أصل قولك: ذهبت بزيد، أنك ذهبت مصاحبا له فأنت أذهبته معك، ثم تنوسي معنى المصاحبة في نحو: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17]، فلما كان التفكك والتزيين للقول يتبع تفكك القائل أسند الخضوع إليهن في صورة، وأفيدت التعدية بالباء. ويجوز أن تكون الباء بمعنى "في"، أي لا يكن منكن لين في القول.
والنهي عن الخضوع بالقول إشارة إلى التحذير مما هو زائد على المعتاد في كلام النساء من الرقة وذلك ترخيم الصوت أي ليكن كلامكن جزلا.
والمرض: حقيقة اختلال نظام المزاج البدني من ضعف القوة، وهو هنا مستعار لاختلال الوازع الديني مثل المنافقين ومن كان أول الإيمان من الأعراب ممن لم ترسخ فيه أخلاق الإسلام، وكذلك من تخلقوا بسوء الظن فيرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، وقضية إفك المنافقين على عائشة رضي الله عنها شاهد لذلك. وتقدم في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} في سورة البقرة [10].
وانتصب {يَطْمَعُ} في جواب النهي بعد الفاء لأن المنهي عنه سبب في هذا الطمع.
وحذف متعلق {فَيَطْمَعَ} تنزها وتعظيما لشأن نساء النبيء صلى الله عليه وسلم مع قيام القرينة.
وعطف {وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} على {لا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} بمنزلة الاحتراس لئلا يحسبن أن الله كلفهن بخفض أصواتهن كحديث السرار.
والقول: الكلام.
والمعروف: هو الذي يألفه الناس بحسب العرف العام، ويشمل القول المعروف هيئة الكلام وهي التي سيق لها المقام، ويشمل مدلولاته أن لا ينتهزن من يكلمهن أو
يسمعنه قولا بذيئا من باب: فليقل خيرا أو ليصمت. وبذلك تكون هذه الجملة بمنزلة التذييل.
[33] {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}
{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ}
هذا أمر خصصن به وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيرا لهن. وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وأن نزول الوحي فيها وتردد النبيء صلى الله عليه وسلم في خلالها يكسبها حرمة. وقد كان المسلمون لما ضاق عليهم المسجد النبوي يصلون الجمعة في بيوت أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم كما في حديث "الموطأ" . وهذا الحكم وجوب على أمهات المؤمنين وهو كمال لسائر النساء.
وقرأ نافع وعاصم وأبو جعفر بفتح القاف. ووجها أبو عبيدة عن الكسائي والفراء والزجاج بأنها لغة أهل الحجاز في قر بمعنى: أقام واستقر، يقولون: قررت في المكان بكسر الراء من باب علم فيجيء مضارعه بفتح الراء فأصل قرن اقررن قولهم: أحسن بمعنى أحسسن في قول أبي زبيد:
سوى أن الجياد من المطايا ... أحسن به إليه شوس
وأنكر المازني وأبو حاتم أن تكون هذه لغة، وزعم أن قررت بكسر الراء في الماضي لا يرد إلا في معنى قرة العين، والقراءة حجة عليهما. والتزم النحاس قولهما وزعم أن تفسير الآية على هذه القراءة أنها من قرة العين وأن المعنى: واقررن عيونا في بيوتكن، أي لكن في بيوتكن قرة فلا تتطلعن إلى ما جاوز ذلك، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن.
وقرأ بقية العشرة {وَقَرْنَ} بكسر القاف. قال المبرد: هو من القرار، أصله: اقررن بكسر الراء الأولى فحذفت تخفيفا، وألقيت حركتها على القاف كما قالوا: ظلت ومست. وقال ابن عطية: يصح أن يكون قرن، أي بكسر القاف أمرا من الوقار، يقال: وقر فلان فلا يقر والأمر منه قر للواحد، وللنساء قرن مثل عدن، أي فيكون كناية عن ملازمة بيوتهن
مع الإيماء إلى علة ذلك بأنه وقار لهن.
وقرأ الجمهور {بِيُوتِكُنَّ} بكسر الباء. وقرأه ورش عن نافع وأبو عمرو وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء.
وإضافة البيوت إليهن لأنهن ساكنات بها أسكنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم يميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى ساكنة البيت، يقولون: حجرة عائشة، وبيت حفصة، فهذه الإضافة كالإضافة إلى ضمير المطلقات في قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وذلك أن زوج الرجل هي ربة بيته، والعرب تدعو الزوجة البيت ولا يقتضي ذلك أنها ملك لهن لأن البيوت بناها الرسول صلى الله عليه وسلم تباعا تبعا لبناء المسجد، ولذلك لما توفيت أزواج كلهن أدخلت ساحة بيوتهن إلى المسجد في التوسعة التي وسعها الخليفة الوليد بن عبد الملك في إمارة عمر بن عبد العزيز على لمدينة ولم يعط عوضا لورثتهن.
وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجهن إلا لضرورة، وجاء في الحديث أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن" يريد حاجات الإنسان. ومحمل هذا الأمر على ملازمة بيوتهن فيما عدا ما يضطر فيه الخروج مثل موت الأبوين. وقد خرجت عائشة إلى بيت أبي بكر في مرضه الذي مات فيه كما دل عليه حديثه معها في عطيته التي كان أعطاها من ثمرة نخلة وقوله لها: "وإنما هو اليوم مال وارث" رواه في "الموطأ" . وكن يخرجن من للحج وفي بعض الغزوات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن مقر النبيء صلى الله عليه وسلم في أسفاره قائم مقام بيوته في الحضر، وأبت سودة أن تخرج إلى الحج والعمرة بعد ذلك. وكل ذلك مما يفيد إطلاق الأمر في قوله: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} .
ولذلك لما مات سعد بن أبي وقاص أمرت عائشة أن يمر عليها بجنازته في المسجد لتدعو له، أي لتصلي عليه. رواه في "الموطأ" .
وقد أشكل على الناس خروج عائشة إلى البصرة في الفتنة التي تدعى: وقعة الجمل، فلم يغير عليها ذلك كثير من جلة الصحابة منهم طلحة والزبير. وأنكر ذلك عليها بعضهم مثل: عمار بن ياسر، وعلي بن أبي طالب، ولكل نظر في الاجتهاد. والذي عليه المحققون مثل أبي بكر بن العربي أن ذلك كان منها عن اجتهاد فإنها رأت أن في خروجها
إلى البصرة مصلحة للمسلمين تسعى بين فريقي الفتنة بالصلح فإن الناس تعلقوا بها وشكوا إليها ما صار إليه من عظم لفتنة ورجوا بركتها أن تخرج فتصلح بين الفريقين وظنوا أن الناس يستحيون منها فتأولت لخروجها مصلحة تفيد إطلاق القرار المأمور به في قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} يكافئ الخروج للحج. وأخذت بقوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بينهما} [الحجرات: 9] ورأت أن الأمر بالإصلاح يشملها وأمثالها ممن يرجون سماع الكلمة فكان ذلك منها عن اجتهاد. وقد أشار عليها جمع من الصحابة بذلك وخرجوا معها مثل طلحة والزبير وناهيك بهما. وهذا من مواقع اجتهاد الصحابة التي يجب علينا حملها على أحسن المخارج ونظن بها أحسن المذاهب كقولنا في تقاتلهم في صفين وكاد أن يصلح الأمر ولكن أفسده دعاة الفتنة ولم تشعر عائشة إلا والمقاتلة قد جرت بين فريقين من الصحابة يوم الجمل. ولا ينبغي تقلد كلام المؤرخين على علاته فإن فيهم من أهل الأهواء ومن تلقفوا الغث والسمين. وما يذكر عنها رضي الله عنها: أنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى يبتل خمارها فلا ثقة بصحة سنده ولو صح لكان محمله أنها أسفت لتلك الحوادث التي ألجأتها إلى الاجتهاد في تأويل الآية.
{وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى}
التبرج: إظهار المرأة محاسن ذاتها وثيابها وحليها بمرأى الرجال. وتقدم في قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} في سورة النور [60].
وانتصب {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} على المفعول المطلق وهو في معنى الوصف الكاشف أريد به التنفير من التبرج. والمقصود من النهي الدوام على الانكفاف عن التبرج وأنهن منهيات عنه. وفي تعريض بنهي غيرهن من المسلمات عن التبرج فإن المدينة أيامئذ قد بقي فيها نساء المنافقين وربما كن على بقية من سيرتهن في الجاهلية فأريد النداء على إبطال ذلك في سيرة المسلمات، ويظهر أن أمهات المؤمنين منهيات عن التبرج مطلقا حتى في الأحوال التي رخص للنساء التبرج فيها في سورة النور في بيوتهن لأن ترك التبرج كمال وتنزه عن الاشتغال بالسفاسف.
فنسب إلى أهل الجاهلية إذ كان قد تقرر بين المسلمين تحقير ما كان عليه أمر الجاهلية إلا ما أقره الإسلام.
و {الْجَاهِلِيَّةِ} : المدة التي كانت عليها العرب فبل الإسلام، وتأنيثها لتأويلها بالمدة.
والجاهلية نسبة إلى الجاهل لأن الناس الذين عاشوا فيها كانوا جاهلين بالله وبالشرائع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} في سورة آل عمران [154].
ووصفها بـ{الأولى} وصف كاشف لأنها أولى قبل الإسلام وجاء الإسلام بعدها فهو كقوله تعالى: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الْأُولَى} [النجم: 50]، وكقولهم: العشاء الآخرة، وليس ثمة جاهليتان أولى وثانية. ومن المفسرين من جعلوا وصفوا مقيدا وجعلوا الجاهلية جاهلتين فمنهم من قال: الأولى هي ما قبل الإسلام وستكون جاهلية أخرى بعد الإسلام يعني حين ترتفع أحكام الإسلام والعياذ بالله. ومنهم من قال: الجاهلية الأولى هي القديمة من عهد ما قبل إبراهيم ولم يكن للنساء وازع ولا لرجال، ووضعوا حكايات في ذلك مخلفة أو مبالغا فيها أو في عمومها، وكل ذلك تكلف دعاهم إليه حمل الوصف على قصد التقييد.
{وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} .
أريد بهذه الأوامر الدوام عليها لأنهن متلبسات بمضمونها من قبل، وليعلم الناس أن المقربين والصالحين لا ترتفع درجاتهم عند الله تعالى عن حق توجه التكليف عليهم. وفي هذا مقمع لبعض المتصوفين الزاعمين أن الأولياء إذا بلغوا المراتب العليا من الولاية سقطت عنهم تكاليف الشرعية.
وخص الصلاة والزكاة بالأمر ثم جاء المر عاما بالطاعة لأن هاتين الطاعتين البدنية والمالية هما أصل سائر الطاعات فمن اعتنى بهما حق العناية جرتاه إلى ما وراءهما، قال تعالى {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وقد بيناه في سورة العنكبوت [45].
{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} .
متصل بما قبله إذ هو تعليل لما تضمنته الآيات السابقة من أمر ونهي ابتداء من قوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النبيء مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 30] الآية. فإن موقع {إِنَّمَا} يفيد ربط ما بعدها بما قبلها لأن حرف "إن" جزءا من {إِنَّمَا} وحرف "إن" من شأنه أن يغني غناء فاء التسبب كما ينه الشيخ عبد القاهر، فالمعنى أمركن الله بما أمر ونهاكن عما نهى لأنه أراد لكن تخلية عن النقائص والتحلية بالكمالات. وهذا التعليل وقع معترضا بين الأوامر والنواهي المتعاطفة.
والتعريف في {الْبَيْتِ} تعريف العهد وهو بيت النبيء صلى الله عليه وسلم وبيوت النبيء صلى الله عليه وسلم كثيرة فالمراد هنا بالبيت هنا بيت كل واحدة من أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وكل بيت من تلك البيوت أهله النبيء صلى الله عليه وسلم وزوجه صاحبة ذلك ولذلك جاء بعده قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34], وضميرا الخطاب موجهان إلى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم على سنن الضمائر التي تقدمت. وإنما جيء بالضميرين بصيغة جمع المذكر على طريقة التغليب لاعتبار النبيء صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب لأن رب كل بيت من بيوتهن وهو حاضر الخطاب إذ هو مبلغه. وفي هذا التغليب إيماء إلى أن هذا التطهير لهن لأجل مقام النبيء صلى الله عليه وسلم لتكون قريناته مشابهات له في الزكاء والكمال، كما قال تعالى {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] يعني أزواج النبيء للنبيء صلى الله عليه وسلم، وهو نظير قوله في قصة إبراهيم: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] والمخاطب زوج إبراهيم وهو معها.
و {الرِّجْسَ} في الأصل: القذر الذي يلوث الأبدان، واستعير هنا للذنوب والنقائص الدينية لأنها تجعل عرض الإنسان في الدنيا والآخرة مرذولا مكروها كالجسم الملوث بالقذر. وقد تقدم في قوله تعالى: {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} في سورة العقود [90]. واستعير التطهير لضد ذلك وهو تجنيب الذنوب والنقائص كما يكون الجسم أو الثوب طاهرا.
واستعير الإذهاب للإنجاء والإبعاد.
وفي التعبير بالفعل المضارع دلالة على تجدد الإرادة واستمرارها، وإذا أراد الله أمرا قدره إذ لا راد لإرادته.
والمعنى: ما يريد الله لكن مما أمركن ونهاكن إلا عصمتكن من النقائص وتحليتكن بالكمالات ودوام ذلك، أي لا يريد من ذلك مقتا لكن ولا نكاية. فالقصر قصر قلب كما قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6]. وهذا وجه مجيء صيغة القصر بـ {إِنَّمَا} . والآية تقتضي أن الله عصم أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم من ارتكاب الكبائر وزكى نفوسهن.
و {أَهْلَ الْبَيْتِ} : أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم والخطاب موجه إليهن وكذلك ما قبله وما بعده لا يخالط أحدا شك في ذلك ولم يفه منها أصحاب النبيء عليه الصلاة والسلام هن المراد بذلك وأن النزول في شأنهن.
وأما ما رواه الترمذي عن عطاء بن أبي رباح عن عمر بن أبي سلمة قال: لما نزلت على النبيء: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} في بيت أم سلمة دعا فاطمة وحسنا وحسينا فجللهم بكساء وعلي خلف ظهره جللهم بكساء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" . وقال: هو حديث غريب من حديث عطاء عن عمر بن أبي سلمة ولم يسمه الترمذي بصحة ولا حسن ووسمه بالغرابة. وفي "صحيح مسلم" عن عائشة: خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرحل فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء علي فأدخله قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} . وهذا أصرح من حديث الترمذي.
فمحمله أن النبيء صلى الله عليه وسلم ألحق أهل الكساء بحكم هذه الآية وجعلهم أهل بيته كما ألحق المدينة بمكة في حكم الحرمية بقوله: "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابيتها" . وتأول البيت على معنييه الحقيقي والمجازي يصدق ببيت النسب كما يقولون: فيهم البيت والعدد، ويكون هذا من محمل القرآن على جميع محامله غير المتعارضة كما أشرنا إليه في المقدمة التاسعة. وكأن حكمة تجليلهم معه بالكساء تقوية استعارة البيت بالنسبة إليهم تقريبا لصورة البيت بقدر الإمكان في ذلك الوقت ليكون الكساء بمنزلة البيت ووجود النبيء صلى الله عليه وسلم معهم في الكساء كما هو في حديث مسلم تحقيق لكون ذلك الكساء منسوبا إليه وبهذا يتضح أن أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم هن آل بيته بصريح منسوب إليه بذلك الآية وأن فاطمة وابنيها وزوجها مجعولون أهل بيته بدعائه أو بتأويل الآية على محاملها. ولذلك هم أهل بيته بدليل السنة وكل أولئك قد أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا بعضه بالجعل الإلهي وبعضه بالجعل النبوي ومثله قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "سلمان منا أهل البيت" . وقد أستوعب ابن كثير روايات كثيرة من هذا الخبر مقتضية أن أهل البيت يشمل فاطمة وعليا وحسنا وحسينا. وليس فيها أن هذه الآية نزلت فيهم إلا حديثا واحدا نسبه ابن كثير إلى الطبري ولم يوجد في تفسيره عن أم سلمة أنها ذكر عندها علي ابن أبي طالب فقالت: فيه نزلت: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} وذكرت خبر تجليله مع فاطمة وابنيه بكساء "وذكر في مصحح طبعة "تفسير ابن كثير" أن في متن ذلك اختلافا في جميع النسخ ولم يفصله المصحح".
وقد تلقف الشيعة حديث الكساء فغصبوا وصف أهل البيت وقصروه على فاطمة
وزوجها وابنيهما عليهم الرضوان، وزعموا أن أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم لسن من أهل البيت. وهذه مصادمة للقرآن بجعل هذه الآية حشوا بين ما خوطب به أزواج النبيء. وليس في لفظ حديث الكساء ما يقتضي قصر هذا الوصف على أهل الكساء إذ ليس في قوله: "هؤلاء أهل بيتي" صيغة قصر وهو كقوله تعالى: {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي} [الحجر: 68] ليس معناه ليس لي ضيفا غيرهم، وهو يقتضي أن تكون هذه الآية مبتورة عما قبلها وما بعدها. ويظهر أن هذا التوهم من زمن عصر التابعين وأن منشأ قراءة هذه الآية على الألسن دون اتصال بينها وبين ما قبلها وما بعدها. ويدل لذلك ما رواه المفسرين عن عكرمة أنه قال: من شاء بأهلية أنها نزلت في أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وأنه قال أيضا: ليس بالذي تذهبون إليه إنما هو نساء النبيء صلى الله عليه وسلم وأنه كان يصرخ بذلك في السوق. وحديث عمر بن أبي سلمة صريح في أن الآية نزلت قبل أن يدعو النبيء الدعوة لأهل الكساء وأنها نزلت في بيت أم سلمة.
وأما ما وقع من قول عمر بن أبي سلمة أن أم سلمة قالت: وأنا معهم يا رسول الله?. فقال: "أنت على مكانك وأنت على خير" . فقد وهم فيه الشيعة فظنوا أنه منعها من أن تكون من أهل بيته، وهذه جهالة لأن النبيء صلى الله عليه وسلم إنما أراد ما سألته من الحاصل لأن الآية نزلت فيها وفي ضرائرها فليست هي بحاجة إلى إلحاقها بهم، فالدعاء لها بأن يذهب الله عنها الرجس ويطهرها دعاء بتحصيل أمر حصل وهو مناف بآداب الدعاء كما حرره شهاب الدين القرافي في الفرق بين الدعاء المأذون فيه والدعاء الممنوع منه، فكان جواب النبيء صلى الله عليه وسلم تعليما لها. وقد وقع في بعض الروايات أنه قال لأم سلمة: "إنك من أزواج النبيء" . وهذا أوضح في المراد بقوله: "إنك على خير".
ولما استجاب الله دعاءه كان النبيء صلى الله عليه وسلم يطلق أهل البيت على فاطمة وعلي وابينهما، فقد روى الترمذي عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: "الصلاة يا أهل البيت {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} ", قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
واللام في قوله: {لِيُذْهِبَ} لام جر تزاد للتأكيد غالبا بعد مادتي الإرادة والأمر، وينتصب الفعل المضارع بعدها بـ"أن" مضمرة إضمارا واجبا، ومنه قوله تعالى: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 71], وقول كثير:
أريد لأنسى حبها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان
وعن النحاس أن بعض القراء سماها "لام أن" وتقد قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [26].
وقوله: {أَهْلَ الْبَيْتِ} نداء للمخاطبين من نساء النبيء صلى الله عليه وسلم مع حضرة النبيء عليه الصلاة والسلام، وقد شمل كل من ألحق النبيء صلى الله عليه وسلم بهن بأنه من أهل وهم: فاطمة وابناها وزوجها وسلمان لا يعدو هؤلاء.
[34] {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً}
لما ضمن الله لهن العظمة أمرهن بالتحلي بأسبابها والتملي من آثارها والتزود من علم الشريعة بدراسة القرآن ليجمع ذلك اهتداءهن في أنفسهن ازدياد في الكمال والعلم، وإرشادهن الأمة إلى ما فيه صلاح لها من علم النبيء صلى الله عليه وسلم.
وفعل {اذْكُرْنَ} يجوز أن يكون من الذكر بضم الذال وهو التذكر، وهذه كلمة جامعة تشمل المعنى الصريح منه، وهو أن لا ينسين ما جاء في القرآن ولا يغفلن عن العمل به، ويشمل المعنى الكنائي وهو أن يراد مراعاة العمل بما يتلى في بيوتهن مما ينزل فيها وما يقرأه النبيء صلى الله عليه وسلم فيها، وما يبين فيها من الدين، ويشمل معنى كنائيا ثانيا وهو تذكر تلك النعمة العظيمة أن كانت بيوتهن موقع تلاوة القرآن.
ويجوز أن يكون من الذكر بكسر الذال، وهو إجراء الكلام على اللسان، أي بلغنه للناس بان يقرأن القرآن ويبلغن أقوال النبيء صلى الله عليه وسلم وسيرته. وفيه كناية عن العمل به. والتلاوة: القراءة، أي إعادة كلام مكتوب أو محفوظ، أي ما يتلوه الرسول صلى الله عليه وسلم. و {مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} بيان لما يتلى فكل ذلك متلو، وذلك القرآن، وقد بين المتلو بشيئين: هما آيات الله، والحكمة، فآيات الله يعم القرآن كله، لأنه معجز عن معارضته فكان آية على أنه من عند الله.
وعطف {وَالْحِكْمَةِ} عطف خاص على عام وهو ما كان من القرآن مواعظ وأحكاما شرعية قال تعالى بعد ذكر الأحكام التي في سورة الإسراء [39] {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} ، أي ما يتلى في بيوتهن عند نزوله، أو بقراءة النبيء صلى الله عليه وسلم ودراستهن القرآن، ليتجدد ما علمنه ويلمع لهن من أنواره ما هو مكنون لا ينضب معينه، وليكن مشاركات في تبليغ القرآن وتواتره ولم يزل أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون بعدهم
يرجعون إلى أمهات المؤمنين في كثير من أحكام النساء ومن أحكام الرجل مع أهله، كما في قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42]، أي بلغ خبر سجني وبقائي فيه.
وموقع مادة الذكر هنا موقع شريف لتحملها هذه المحامل ما لا يتحمله غيرها إلا بإطناب. قال ابن العربي: إن الله أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بتبليغ ما أنزل إليه فكان إذا قرأ على واحد أو ما اتفق سقط عنه الفرض، وكان على من تبعه أن يبلغه إلى غيره ولا يلزمه أن يذكره لجميع الصحابة.
وقد تكرر ذكر الحكمة في القرآن في مواضع كثيرة, وبيناه في سورة البقرة.
وتقدم قريبا اختلاف القراء في كسر باء "بيوت" أو ضمنها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً} تعليل للأمر وتذييل للجمل السابقة. والتعليل صالح لمحامل الأمر كلها لأن اللطف يقتضي إسداء النفع بكيفية لا تشق على المسدى إليه.
وفيما وجه إلى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم من الأمر والنهي ما هو صلاح لهن وإجراء للخير بواسطتهن، وكذلك في تيسيره إياهن لمعاشرة الرسول عليه الصلاة والسلام وجعلهن أهل بيوته، وفي إعدادهن لسماع القرآن وفهمه، ومشاهدة الهدى النبوي، كل ذلك لطف لهن هو الباعث إلى ما وجهه إليهن من الخطاب ليتلقين الخبر ويبلغنه، ولأن الخبير ، أي العليم إذا أراد أن يذهب عنهن الرجس ويطهرهن حصل مراده تاما لا خلل ولا غفلة.
فمعنى الجملة أنه تعالى موصوف باللطف والعلم كما دل عليه فعل {كَانَ} فيشمل عموم لطفه بهن وعلمه بما فيه نفعهن.
[35] {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}
ويجوز أن تكون هذه الجملة استئنافا بيانيا لأن قوله: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] بعد قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ}
[الأحزاب: 32] يثير في نفوس المسلمات أن يسألن: أهن مأجورات على ما يعملن من الحسنات وأهن مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم أم تلك خصائص لنساء النبيء عليه لصلاة والسلام، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن إذا ما ذكر مأمورات يعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها. ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم.
وروى ابن جرير والواحدي عن قتادة أن نساء دخلن على أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم فقلن: قد ذكركن الله في القرآن ولم يذكرنا بشيء ولو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله هذه الآية.
وروى النسائي وأحمد: أن أم سلمة قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم فقالت: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وروى الترمذي والطبراني: "أن أم عمارة الأنصارية أتت النبيء صلى الله عليه وسلم فقالت: ما أرى النساء يذكرن بشيء" فنزلت هذه الآية.
وقال الواحدي: "قال مقاتل: بلغني أن أسماء بنت عميص لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النبيء فقالت: هل نزل فينا شيء من القرآن? قيل: لا، فأتت النبيء صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار. قال: ومم ذلك? قالت: لأنهن لا يذكرن بالخير كما تذكر الرجال فأنزل الله هذه الآية".
فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساء، وأما ذكر الرجال فللإشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصا بالرجال إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء، فشريعة الإسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نص على تخصيصه بأحد الصنفين، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة، ولعل هذا هو وجه تعدد الصفات المذكورة لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة.
وسلك مسلك الإطناب في تعداد الأوصاف لأن المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام الناس في ذلك، على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية.
وبهذه الآثار يظهر اتصال هذه الآيات بالتي قبلها. وبه يظهر وجه تأكيد هذا الخبر
بحرف {إِنَّ} لدفع شك من شك في هذا الحكم من النساء.
والمراد بـ {الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} من اتصف بهذا المعنى المعروف شرعا. والإسلام بالمعنى الشرعي هو شهادة أن لا أله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، ولا يعتبر إسلاما إلا مع الإيمان. وذكر {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} بعده للتنبيه على أن الإيمان هو الأصل، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في البقرة [132].
والمراد بـ {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} والذين آمنو. والإيمان: أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقدر خيره وشره. وتقدم الكلام على الإيمان في أوائل سورة البقرة.
و {والقانتين والقانتات} : أصحاب القنوت وهو الطاعة لله وعبادته، وتقدم آنفا {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31]. و {الصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} من حصل منهم صدق القول وهو ضد الكذب والصدق كله حسن والكذب لا خير فيه إلا لضرورة. وشمل ذلك الوفاء بما يلتزم به من أمور الديانة كالوفاء بالعهد والوفاء بالنذر، وتقدم من قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في سورة البقرة [177].
و بـ {الصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} : أهل الصبر. والصبر محمود في ذاته لدلالته على قوة العزيمة، ولكن المقصود هنا هو تحمل المشاق في أمور الدين وتحمل المكاره في الذب عن الحوزة الإسلامية، وتقدم مستوفي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} آخر سورة آل عمران [200].
وبـ {الْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} : أهل الخشوع، وهو الخضوع لله والخوف منه وهو يرجع إلى معنى الإخلاص بالقلب فيما يعمله المكلف. ومطابقة ذلك لما يظهر من آثاره على صاحبه. والمراد: الخشوع لله بالقلب والجوارح، وتقدم في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} في سورة البقرة [45].
وبـ {الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} : من يبذل الصدقة من ماله للفقراء، وتقدم في قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} في سورة النساء [114]. وفائدة ذلك للأمة عظيمة.
وأما "الصائمون والصائمات" فظاهر ما في الصيام من تخلق برياضة النفس لطاعة الله إذ يترك المرء ما هو جبلي من الشهوة تقربا إلى الله، أي برهانا على أن رضى الله عنه
ألذ من أشد اللذات ملازمة له.
وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية وهي في الرجل أشد وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك فقال في يحيى {وَحَصُوراً} [آل عمران: 39] وقال في مريم {والَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91]، وهذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة، فالمراد: حفظ الفروج على أن تستعمل في نهي عنه شرعا، وليس المراد: حفظها عن الاستعمال أصلا وهو الرهبنة فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى.
وأما "الذاكرون والذاكرات" فهو وصف صالح لأن يكون من الذكر بكسر الذال وهو ذكر اللسان كالذي في قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقوله في الحديث: "ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي" ، ومن الذكر بضمنها كما تقدم آنفا في قوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 34]، والذي في قوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
ومفعول و {الْحَافِظَاتِ} محذوف دل عليه ما قبله من قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ} ، وكذلك مفعول و {الذَّاكِرَاتِ} .
وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها.
فالإسلام يجمع قواعد الدين الخمس المفروضة التي هي أعمال، والإيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإسلام كلها قال تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17].
والقنوت يجمع الطاعات كلها مفروضها ومسنونها، وترك المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها، وهو معنى التوبة، فالقنوت هو تمام الطاعة، فهو خير مساو للتقوى. فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم.
والصدق يجمع كل عمل هو في موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلها. ومن الصدق صدق الأفعال.
والصبر جامع لما يختص بتحمل المشاق من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإنصاف من النفس.
والخشوع: الإخلاص بالقلب الظاهر، وهو الانقياد وتجنب المعاصي. ويدخل في الإحسان وهو المفسر في حديث جبريل "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". ويدخل تحت ذلك جميع القرب والنوافل فإنها من آثار الخشوع، ويدخل فيه التوبة مما أقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها.
والتصدق يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإرفاق.
والصوم: عبادة عظيمة فلذلك خصصت بالذكر من أن الفروض منه مشمول للإسلام في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ويفي صوم النافلة، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به وفي الحديث "قال تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به".
وحفظ الفروج أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها.
وذكر الله كما علمت له محملان:
أحدهما : ذكره اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته.
قال النبيء صلى الله عليه وسلم "ما أجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكر الله فيمن عنده" ، ففي قوله: "وذكرهم الله" إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذكر الله وقد قال تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقال فيما أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم "وان ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم" . وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار.
والمحمل الثاني: الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب: أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه، وهو الذي في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحرابة والإضرار بالناس في المعاملات. ومما يوضح شموله بالشرائع كلها تقييده بـ {كَثِيراً} لأن المرء إذا ذكر الله كثيرا فقد استغرق ذكره المحملين جميع ما يذكر الله عنده.
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في
تفاصيلها.
والمغفرة: عدم المؤاخذة بما فرط من الذنوب، وقد تقدمت في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} في سورة الأعراف [23]. واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب: الفاء وثم، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتا لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات، فإذا قلت: وجدت فيهم الكريم الشجاع والشاعر كان المعنى: أنك وجدت فيهم ثلاثة أناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات. وفي الحديث: "فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة" أي أصحاب المرض والضعف والحاجة، وبخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً} [الصافات: 1- 3] فإن أوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد. ولهذا فحق جملة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} أن تكون خبرا في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل: إن المسلمين أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيم، إن المسلمات أعد الله لهن مغفرة وأجرا عظيما، وهكذا. والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل {أَعَدَّ} قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإخبار به عن كل واحد من الموصوفات والمتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر.
وأما صحة الإخبار بفعل {أَعَدَّ} عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول به {مَغْفِرَةً} فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المذنب وعدا من الله بقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 54]. وألحقت السنة بموجبات المغفرة الحج المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى.
والوجه في تفسير ذلك عندي أن تحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملا أراعي فيه الجري على سنن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإسلام كقوله:
{أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال: 4] فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب.
والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإجمال بالجمع بين أدلة الشريعة. وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرج عليه فيما رأيت سوى صاحب "الكشاف" فجعل معنى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} : إن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما، وجعل واو العطف بمعنى المعية، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات، وهذا تكلف وصنع باليد وتبعه البيضوي وكثير. ويعكر عليه أن يجمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ... وَالذَّاكِرَاتِ} على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي، فيكون الذكر القلبي شاملا للتوبة كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار، منها قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} إلى قوله: {أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} الآية في سورة الفرقان [63- 75].
[36] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً}
معظم الروايات على أن هذه الآية نزلت في شأن خطبه زينب بنت جحش على زيد بن حارثة. قال ابن عباس: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على فتاه زيد ابن حارثة زينب بنت جحش فاستنكفت وأبت وأبي وأخوها عبد الله بن جحش فأنزل الله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} الآية، فتابعته ورضيت لأن تزويج زينب يزيد بن حارثة كان قبل الهجرة فتكون هذه الآية نزلت بمكة ويمون موقعها في هذه السورة التي هي مدنية إلحقاقا لها بها لمناسبة أن تكون مقدمة لذكر تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب الذي يظهر أن وقع بعد وقعة الأحزاب وقد علم الله ذلك من قبل فقدر له الأحوال التي حصلت من بعد.
ووجود واو العطف في أول الجملة يقتضي أنها معطوفة على كلام نزل قبلها
من سورة أخرى لم نقف على تعيينه ولا تعيين السورة التي كانت الآية فيها، وهو عطف جملة على جملة لمناسبة بينهما.
وروي عن جابر بن زيد أن سبب نزول هذه الآية: أن وأم كلثوم بتت عقبة بن أبي معيط وكانت أول من هجران من النساء وأنها وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم فزوجها من زيد بن حارثة، بعد أن طلق زيد زينب بنت جحش كما سيأتي قريبا، فكرهت هي وأخوها ذلك وقالت: إنما أردت رسول الله فزوجني عبده ثم رضيت هي وأخوها بعد نزول الآية.
والمناسبة تعقيب الثناء على أهل خصال هي من طاعة الله، بإيجاب طاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم فلما أعقب ذلك بما في الاتصاف بما هو من أمر الله مما يكسب موعوده من المغفرة والأجر، وسوى في ذلك بين النساء والرجال، أعقبه بيان أ، طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمر به ويعتزم الأمر هي طاعة واجبة وأنها ملحقة بطاعة الله وأن صنفي الناس الذكور والنساء في ذلك سواء كما كانا سواء في الأحكام الماضية.
وإقحام {كَانَ} في النفي أقوى دلالة على انتفاء الحكم لأن فعل {كَانَ} لدلالته على الكون، أي الوجود يقتضي نفيه انتفاء الكون الخاص برمته كما تقدم غير مرة.
والمصدر المستفاد من {أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} في محل رفع اسم {كَانَ} المنفية وهي {كَانَ} التامة.
وقضاء الأمر تبيينه والإعلام به قال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ} [الحجر: 66].
ومعنى {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ} إذا عزم أمره ولم يجعل للمأمور خيارا في الامتثال، فهذا الأمر هو الذي يجب على المؤمنين امتثاله احترازا من نحو قوله للذين وجدهم يأبرون نخلهم: "لو تركتموها لصلحت، ثم قالوا تركناها فلم تصلح، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم". ومن نحو ما تقدم في أول السورة من همه بمصالحة الأحزاب على نصف ثمر المدينة ثم رجوعه عن ذلك لما استشار السعدين، ومن نحو أمره يوم بدر بالنزول بأدنى ماء من بدر فقال له الحباب بن النذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة? قال: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". قال: فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربوا. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي " ، فنهض بالناس. وفي الحديث أن النبيء صلى الله عليه وسلم كان في سفر وكان صائما فلما غربت الشمس قال لبلال: "انزل فاجدح لنا"، فقال: يا رسول الله لو أمسيت. ثم قال: "انزل فاجدح لنا"، فقال: يا رسول الله لو أمسيت إن عليك نهارا ثم قال: "انزل فأجدح"، فنزل فجدح له في الثالثة فشرب . فمراجعة بلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أنه علم أن الأمر غير عزم.
وذكر اسم الجلالة هنا للإيماء إلى أن طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام طاعة لله قال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80]. فالمقصود إذا قضى رسول الله أمرا كما تقدم في قوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} في سورة الأنفال [41] إذ المقصود: فإن للرسول خمسه.
و {الْخِيَرَةُ} : اسم مصدر تخير كالطيرة اسم مصدر تطير. قيل ولم يسمع في هذا الوزن غيرهما، وتقدم في قوله تعالى: {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} في سورة القصص [68].
و {مِنْ} تبعيضية. و {أَمْرِهِمْ} بمعنى شأنهم وهو جنس، أي أمورهم. والمعنى: ما كان اختيار بعض شؤونهم ملكا يملكونه بل يتعين عليهم اتباع ما قضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا خيرة لهم.
و"مؤمن ومؤمنة" لما وقعا في حيز النفي يعمان جميع المؤمنين والمؤمنات فلذلك جاء ضميرها ضمير جمع لأن المعنى: ما كان لجمعهم ولا لكل واحد منهم الخيرة كما هو شأن العموم.
وقرأ الجمهور {أَنْ تَكُونَ} بمثناة فوقية لأن فاعله مؤنث لفظا. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف وهشام وابن عمر بتحتية لأن الفاعل المؤنث غير الحقيقي يجوز في فعله التذكير ولا سيما إذا وقع الفصل بين الفعل وفاعله.
وقوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} تذييل تعميم للتحذير من مخالفة الرسول عليه الصلاة والسلام سواء فيما هو فيه الخيرة أم كان عن عمد للهوى في المخالفة.
[37] {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً
زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}.
{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} .
و {إِذْ} اسم زمان مفعول لفعل محذوف تقديره: اذكر، وله نظائر كثيرة. وهو من الذكر بضم الذال الذي هو بمعنى التذكر فلم يأمره الله بأن يذكر ذلك للناس إذ لا جدوى في ذلك لكنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرتب عليه قوله: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} . والمقصود بهذا الاعتبار بتقدير الله الأسباب لمسبباتها لتحقيق مراده سبحانه، ولذلك قال عقبه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} إلى قوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} وقوله: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب: 38].
وهذا مبدأ المقصود من الانتقال إلى حكم إبطال التبني ودحض ما بناه المنافقون على أساسه الباطل بناء على كفر المنافقين الذين غمزوا مغامز في قضية تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش بعد أن طلقها زيد بن حارثة فقالوا: تزوج حليلة ابنه وقد نهى عن تزوج حلائل الأبناء. ولذلك ختمت هذه القصة وتوابعها بالثناء على المؤمنين بقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} [الأحزاب: 43] الآية. وبالإعراض عن المشركين والمنافقين وعن أذاهم.
وزيد هو المعني بقوله تعالى: {لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} ، فالله أنعم عليه بالإيمان والخلاص من أيدي المشركين بأن يسر دخوله في ملك رسول الله صلى الله عليه وسلم والرسول عليه الصلاة والسلام أنعم عليه بالعتق والتبني والمحبة، ويأتي التصريح باسمه العلم إثر هذه الآية في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً} وهو زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي من كلب بن وبرة وبنو كلب من تغلب. كانت خيل من بني القين بن جسر أغاروا على أبيات من بني معن خرجت به إلى قومها تزورهم فسبقته الخيل المغيرة وباعوه في سوق حباشة "بضم الحاء المهملة" بناحية مكة فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته خديجة لرسول اله صلى الله عليه وسلم "وزيد يومئذ ابن ثمان سنين" وذلك قبل البعثة، فحج ناس من كلب فرأوا زيدا بمكة فعرفوه وعرفهم فأعلموا أباه ووصفوا موضعه وعند من هو، فخرج أبوه حارثة وعمه كعب لفدائه فدخلا مكة وكلما النبيء صلى الله عليه وسلم في فدائه فأتى به النبيء صلى الله عليه وسلم إليهما فعرفهما، فقال له النبيء
عليه لصلاة والسلام: "اخترني أو اخترهما" . قال زيد: ما أنا بالذي اختار عليك أحدا فانصرف أبوه وعمه وطابت أنفسهما ببقائه، فلما رأى النبيء صلى الله عليه وسلم منه ذلك أخرجه إلى الحجر وقال: "يا من حضر اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وارثه", فصار ابنا للنبيء صلى الله عليه وسلم على حكم التبني بالجاهلية وكان يدعى: زيد بن محمد.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه أم أيمن مولاته فولدت له أسامة بن زيد وطلقها. ثم أن رسول اله صلى الله عليه وسلم زوجه زينب بنت جحش الأسدي حليف آل عبد شمس وهي ابنة عمته أميمة بنت عبد المطلب وهو يومئذ بمكة. ثم بعد أن الهجرة آخى الني صلى الله عليه وسلم بينه وبين حمزة بن عبد المطلب ولما بطل حكم التبني بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] صار يدعى: حب رسول الله. وفي سنة خمس قبل الهجرة بعد غزوة الخندق طلق زيد بن حارثة زينب بنت جحش فزوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أم كلثوم بنت عقبة بن ابي معيط وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وولدت له زيد بن زيد ورقية ثم طلقها، وتزوج درة بنت أبي لهب، ثم طلقها وتزوج هند بنت العوام أخت الزبير.
وشهد زيد بدرا والمغازي كلها. وقتل في غزوة مؤتة سنة ثمان وهو أمير على الجيش وهو ابن خمس وخمسون سنة.
وزوج زيد المذكورة في الآية هي زينب بنت جحش الأسدية وكان اسمها برة فلما تزوجها النبيء صلى الله عليه وسلم سماها زينب، وأبوها جحش من بني أسد بن خزيمة وكان أبوها حليفا لآل عبد شمس بمكة وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها زيد بن حارثة في الجاهلية ثم طلقها بالمدينة، وتزوجها النبيء صلى الله عليه وسلم سنة خمس، وتوفيت سنة عشرين من الهجرة وعمرها ثلاث وخمسون سنة، فتكون مولودة سنة ثلاث وثلاثين قبل الهجرة، أي سنة عشرين قبل البعثة.
والإتيان بفعل القول بصيغة المضارع لاستحضار صورة القول وتكريره مثل قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] وقوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود: 38] وفي ذلك تصوير لحث النبيء صلى الله عليه وسلم زيدا إلى إمساك زوجه وأن لا يطلقها، ومعاودته عليه.
والتعبير عن زيد بن حارثة هنا بالموصول دون اسمه العلم الذي يأتي في قوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ} ولما تشعر به من الصلة المعطوفة وهي {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} من تنزه النبيء صلى الله عليه وسلم عن استعمال ولائه لحمله على تطليق زوجه، فالمقصود هو الصلة الثانية وهي {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} لأن المقصود منها أن زيدا أخص الناس به, وأن الرسول عليه الصلاة والسلام
احرص على صلاحه وأنه أشار عليه بإمساك زوجه لصلاحها به، وأما صلة {أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} فهي توطئة للثانية.
واعلم أن المأثور الصحيح في هذه الحادثة: أن زيد بن حارثة بقيت عنده زينب سنين فلم تلد له فكان إذا جرى بينه وبينها ما يجري بين الزوجين تارة من خلاف أدلت عليه بسؤددها وغضت منه بولايته فلما تكرر ذلك عزم على أن يطلقها وجاء يعلم رسول الله بعزمه على ذلك لأنه تزوجها من عنده.
وروي عن علي زين العابدين: أن الله أوحى إلى النبيء صلى الله عليه وسلم أنه سينكح زينب بنت جحش. وعن الزهري: نزل جبريل على النبيء صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الله زوجه زينب بنت جحش وذلك هو ما في نفسه. وذكر القرطبي أنه مختار بكر بن العلاء القشيري1 وأبي بكر بن العربي.
والظاهر عندي: أن ذلك كان في الرؤيا كما أرى أنه قال لعائشة: "أتاني بك الملك في المنام في سرقة من حرير يقول لي: هذه امرأتك فأكشف فإذا هي أنت فأقول: أن يكن هذا من عند لله يمضه".
فقول النبيء صلى الله عليه وسلم لزيد: "أمسك عليك زوجك" توفية بحق النصيحة وهو أمر نصح وإشارة بخير لا أمر تشريع لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المقام متصرف بحق الولاء والصحبة لا بصفة التشريع والرسالة، وأداء هذه الأمانة لا يتأكد أنه كان يعلم أن زينب صائرة زوجا له لأن علم النبيء بما سيكون لا يقتضي إجراءه وإرشاده أو تشريعه بخلاف علمه أو ظنه فإن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن أبا جهل مثلا لا يؤمن ولم يمنعه ذلك أن يبلغه الرسالة ويعاوده الدعوة، ولأن رغبته في حصول شيء لا تقتضي إجراء أمره على حسب رغبته إن كانت رغبته تخالف ما يحمل الناس عليه، كما كان يرغب أن يقوم أحد يقتل عبد الله بن سعد بن أبي سرح قبل أن يسمع إعلانه بالتوبة من ارتداده حين جاء به عثمان بن عفان يوم الفتح تائبا.
ولذلك كله لا يعد تصميم زيد على طلاق زينب عصيانا للنبيء صلى الله عليه وسلم لأن أمره في ذلك كان على وجه التوفيق بينه وبين زوجه. ولا يلزم أحدا المصير إلى إشارة المشير كما اقتضاه حديث بريرة مع زوجها مغيث إذ قال لها: "لو راجعته? فقالت: يا رسول الله
ـــــــ
1 هو من المالكية، توفي سنة 344. ترجمه في "المدارك".
تأمرني? قال: لا إنما أنا أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه".
وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} يؤذن بأنه جواب عن كلام صدر من زيد بأن جاء زيدا مستشيرا في فراق زوجه، أو معلما بعزمه على فراقها.
و {أَمْسِكْ عَلَيْكَ} معناه: لازم عشرتها، فالإمساك مستعار لبقاء الصحبة تشبيها للصاحب بالشيء الممسك باليد.
وزيادة {عَلَيْكَ} للدلالة "على" على الملازمة والتمكن مثل {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] أو لتضمن {أَمْسِكْ} معنى احبس، أي ابق في بيتك زوجك، وأمره بتقوى الله تابع للإشارة بإمساكها، أي اتق الله في عشرتها كما أمر الله ولا تحد عن واجب حسن المعاشرة، أي اتق لله بملاحظة قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229].
وجملة {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} عطف على جملة {تَقُولُ} . والإتيان بالفعل المضارع في قوله: {وَتُخْفِي} للدلالة على تكرر إخفاء ذلك وعدم ذكره. والذي في نفسه علمه بأنه سيتزوج زينب وأن زيدا يطلقها وذلك سر بينه وبين ربه ليس مما يجب عليه تبليغه ولا مما للناس فائدة من علمه حتى يبلغوه، ألا ترى أنه لم يعلم عائشة ولا أباها برؤيا إتيان الملك بها في سرقة حرير إلا بعد أن تزوجها.
فما صدق "ما في نفسك" هو التزوج بزينب وهو الشيء الذي سيبديه الله لأن الله أبدى ذلك في تزويج النبيء صلى الله عليه وسلم بها ولم يكن أحد يعلم أنه سيتزوجها ولم يبد الله شيئا غير ذلك فلزم أن يكون ما أخفاه في نفسه أمر يصلح للإظهار في الخارج، أي يكون من الصور المحسوسة.
وليست جملة {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} حالا من الضمير في {تَقُولُ} كما جعله في "الكشاف" لأن ذلك مبني على توهم أن الكلام مسوق مساق العتاب على أن يقول كلاما يخالف ما هو مخفي في نفسه ولا يستقم له معنى. إذ يفضي إلى أن يكون اللائق به أن يقول له غير ذلك وهو ينافي مقتضى الاستشارة، ويفضي إلى الطعن في صلاحية زينب للبقاء في عصمة زيد، وقد استشعر هذا صاحب "الكشاف" فقال: "فإن قلت فماذا أراد الله منه أن يقول حين قال له زيد: اريد مفارقتها، وكان من الهجنة أن يقول له: أفعل فإني أريد نكاحها. قلت: كأن الذي أراد منه عز وجل أن يصمت عند ذلك أو يقول أنت أعلم بشأنك حتى لا يخالف سره في ذلك علانيته" اهـ وهو بناء على أساس كونه عتابا
وفيه وهن.
وجملة {وَتَخْشَى النَّاسَ} عطف على جملة {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ} ، أي تخفي ما سيبديه الله وتخشى الناس من إبدائه.
والخشية هنا كراهية ما يرجف به المنافقون، والكراهة من ضروب الخشية إذ الخشية جنس مقول على أفراده بالتشكيك فليست هي خشية خوف إذ خشية النبيء صلى الله عليه وسلم لم يكن يخاف أحد من ظهور تزوجه بزينب ولم تكن قد ظهرت أراجيف المنافقين بعد ولكن النبيء صلى الله عليه وسلم كان يتوسم من خبثهم وسوء طويتهم ما كان منهم في قضية الإفك، ولم تكن خشية تبلغ به مبلغ صرفه عما يرغبه بدليل أنه لم يتردد في تزوج زينب بعد طلاق زيد، ولكنها استشعار في النفس وتقدير لما سيرجفه المنافقون.
والتعريف في {النَّاسَ} للعهد، أي تخشى المنافقين، أي يؤذوك بأقوالهم.
وجملة {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} معترضة لمناسبة جريان ذكر خشية الناس، والواو اعتراضية وليست واو الحال فمعنى الآية معنى قوله تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]. وحملها على معنى الحال هو الذي حمل كثيرا من المفسرين على جعل الكلام عتابا للنبيء صلى الله عليه وسلم.
و {أَحَقُّ} اسم تفضيل مسلوب المفاضلة فهو بمعنى حقيق، إذ ليس في الكلام السابق ما يفيد وقوع إيثار خشية الناس على خشية الله ولا ما يفيد تعارضا بين الخشيتين حتى يحتاج إلى ترجيح خشية الله على خشية الناس، والمعنى: والله حقيق بأن تخشاه.
وليس في هذا التركيب ما يفيد أنه قدم خشية الناس على خشية الله لأن الله لم يكلفه شيئا فعمل بخلافه.
وبهذا تعلم أن النبيء صلى الله عليه وسلم ما فعل إلا ما يرضي الله، وقد قام بعمل الصاحب الناصح حين أمر زيدا بإمساك زوجه وانطوى على علم صالح حين خشي ما سيفترضه المنافقون من القالة إذا تزوج زينب خفية أن يكون قولهم فتنة لضعفاء الإيمان كقوله للرجلين اللذين رأياه في الليل مع زينب فأسرعا خطاهما فقال: "على رسلكما إنما هي زينب. فكبر ذلك عليهما وقالا: سبحان الله يا رسول الله. فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم خشيت أن يقذف في قلوبكما".
فمقام النبيء صلى الله عليه وسلم في الأمة مقام الطبيب الناصح في بيمارستان يحوي أصنافا من المرضى إذا رأى طعاما يجلب لما لا يصلح ببعض مرضاه أن ينهي عن إدخاله خشية أن يتناوله من المرضى من لا يصلح ذلك بمرضه ويزيد في علته أو يفضي إلى انتكاسه.
وليس في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} عتاب ولا لوم ولكنه تذكير بما حصل له من توقيه قالة المنافقين. وحمله كثير من المفسرين على معنى العتاب وليس في سياق الكلام ما يقتضيه فأحسبهم مخطئين فيه ولكنه تشجيع له وتحقير لأعداء الدين وتعليم له بأن يمضي في سبيله ويتناول ما أباح الله له ولرسله من تناول ما هو مباح من مرغوباتهم ومحباتهم إذا لم يصدهم شيء عن طاعة ربهم كما قال تعالى: {مَا كَانَ عَلَى النبيء مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب: 37, 39]، وأن عليه ان يعرض عن قول المنافقين وعلى نحو قوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3]، فهذا جوهر ما أشارت إليه الآية وليس فيها ما يشير إلى غير ذلك.
وقد رويت في هذه القصة أخبار مخلوطة، فإياك أن تتسرب إلى نفسك منها أغلوطة، فلا تصغ ذهنك إلى ما ألصقه أهل القصص بهذه الآية من تبسيط في حال النبيء صلى الله عليه وسلم حين أمر زيدا بإمساك زوجه فإن ذلك من مختلقات القصاصين، فأما أن يكون ذلك اختلافا من لقصاصين لتزيين القصة، وأما أن يكون كله أو بعضه من أراجيف المنافقين وبهتانهم فتلفقة القصاص وهو الذي نجزم به. ومما يدل لذلك انك لا تجد فيما يؤثر من أقوال السلف في تفسير هذه الآية أثرا مسندا إلى النبيء صلى الله عليه وسلم أو إلى زيد أو إلى زينب أو إلى أحد من الصحابة رجالهم ونسائهم ولكنها قصص وأخبار وقيل وقال.
ولسوء فهم الآية كبر أمرها على بعض المسلمين واستفزت كثيرا من الملاحدة وأعداء الإسلام من أهل الكتاب. وقد تصدى أبو بكر بن العربي في "الأحكام" لوهن أسانيدها وكذلك عياض في "الشفاء" .
والآن نريد أن ننقل مجرى الكلام إلى التسليم بوقوع ما روي من الأخبار الواهية السند لكي لا نترك في هذه الآية مهواة لأحد. ومجموع القصة من ذلك: أن النبيء صلى الله عليه وسلم جاء بيت زيد يسأل عنه فرأى زينب وقيل رفعت الريح ستار البيت فرأى النبيء عليه الصلاة والسلام زينب فجأة على غير قصد فأعجبه حسنها وسبح لله وأن زينب
علمت أنه وقعت منه موقع الاستحسان وأن زيدا علم ذلك وانه أحب أن يطلقها ليؤثر بها مولاه النبيء صلى الله عليه وسلم، وأنه لما اخبر النبيء صلى الله عليه وسلم بذلك قال له: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} "وهو يود طلاقها في قلبه ويعلم أنها صائرة زوجا له".
وعلى تفاوت أسانيده في الوهن ألقي إلى الناس في القصة فانتقل غثه وسمينه، وتحمل خفه ورزينه، فأخذ منه كل ما وسعه فهمه ودينه. ولو كان كله واقعا لما كان فيه مغمز في مقام النبوة.
فأما رؤية زينب في بيت زيد إن كانت عن عمد فذلك أنه استأذن في بيت زيد فإن الاستئذان واجب فلا شك أنه رأى وجهها وأعجبته ولا أحسب ذلك لأن النساء لم يكن يسترن وجوههن قال تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] "أي الوجه والكفين" وزيد كان من أشد الناس اتصالا بالنبيء، وزينب كانت ابنة عمته وزوج مولاه ومتبناه، فكانت مختلطة بأهله، وهو الذي زوجها زيدا، فلا يصح أن يكون ما رآها إلا حين جاء بيت زيد، وأن كانت الريح رفعت الستر فرأى من محاسنها وزينتها ما لم يكن يراه من قبل، فكذلك لا عجب فيه لأن رؤية الفجأة لا مؤاخذة عليها، وحصول الاستحسان عقب النظر الذي ليس بحرام أمر قهري لا يملك الإنسان صرفه عن نفسه، وهل استحسان ذات المرأة إلا كاستحسان الرياض والجنات والزهور والخيل ونحو ذلك مما سماه الله زينة إذا لم يتبعه النظار نظرة.
وأما ما خطر في نفس النبيء صلى الله عليه وسلم من مودة تزوجها فإن وقع فما هو بخطب جليل لأنه خاطر لا يملك المرء صرفه عن نفسه وقد علمت أن قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} ليس بلوم، وأن قوله: {وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} ليس فيه لوم ولا توبيخ على عدم خشية الله ولكنه تأكيد لعدم الاكتراث بخشية الناس.
وإنما تظهر مجالات النفوس في ميادين الفتوة بمقدار مصابرتها على الكمال في مقاومة ما ينشأ عن تلك المرائي من ضعف في النفوس وخور العزائم وكفاك دليلا على تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المقام هو أفضل من ترسيخ قدمه في أمثاله أنه لم يزل يراجع زيدا في إمساك زوجه مشيرا عليه بما فيه خير له وزيد يرى ذلك إشارة ونصحا لا أمرا وشرعا.
ولو صح أن زيدا علم مودة النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج زينب فطلقها زيدا لذلك دون أمر من النبيء عليه الصلاة والسلام ولا التماس لما كان عجبا فإنهم كانوا يؤثرون النبيء صلى الله عليه وسلم على
أنفسهم، وقد تنازل له دحية الكلبي عن صفية بنت حيي بعد أن صارت له في سهمه من مغانم خيبر، وقد عرض سعد بن الربيع على عبد الرحمان بن عوف أن يتنازل عن إحدى زوجتيه يختارها للمؤاخاة التي آخى النبيء صلى الله عليه وسلم بينهما.
وأما إشارة النبيء عليه الصلاة والسلام على زيد بإمساك زوجه مع علمه بأنها ستصير زوجة له فهو أداء لواجب أمانة الاستنصاح والاستشارة وقد يشير المرء بالشيء يعلمه مصلحة وهو يوقن أن إشارته لا تمتثل. والتخليط بين الحالتين تخليط بين التصرف المستند لما تقتضيه ظواهر الأحوال وبين ما في علم الله في الباطن وأشبه مقام به مقام موسى مع الخضر في القضايا الثلاث. وليس هذا من خائنة الأعين، كما توهمه من لا يحسن، لأن خائنة الأعين المذمومة ما كانت من الخيانة والكيد.
وليس هو أيضا من الكذب لأن قول النبيء عليه الصلاة والسلام لزيد {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} لا يناقض رغبته في تزوجها وإنما ينقاضه لو قال: إني أحب أن تمسك زوجك، إذ لا يخفى أن الاستشارة طلب النظر فيما هو صلاح للمستشير لا ما هو صلاح للمستشار. ومن حق المستشار أعلام المستشير بما هو صلاح له في نظر المشير، وإن كان صلاح المشير في خلافه فضلا على كون ما في هذه القصة إنما تخالف بين النصيحة وبين ما علمه الناصح من أن نصحه لا يؤثر.
فإن قلت: فما معنى ما روي في الصحيح عن عائشة أنها قالت: لو كان رسول الله كاتما شيئا من الوحي لكتم هذه الآية {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} الآية.
قلت: أرادت أن رغبة النبيء صلى الله عليه وسلم في تزوج زينب أو إعلام الله إياه بذلك كان سرا في نفسه لم يطلع عليه أحدا إذ لم يؤمر بتبليغه إلى أحد، وعلى ذلك السر انبنى ما صدر منه لزيد في قوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} . فما طلقها زيد ورام تزوجها علم ان المنافقين سيرجفون بالسوء، فلما أمره الله بذكر ذلك للأمة وتبليغ خبره بلغه ولم يكتمه مع انه ليس في كتمه تعطيل شرع ولا نقص مصلحة فلو كان كاتما لكتم هذه الآية التي هي حكاية سر في نفسه وبينه وبين ربه تعالى، ولكنه لما كان وحيا بلغه لأنه مأمور بتبليغ كل ما أنزل إليه.
واعلم أن للحقائق نصابها، وللتصرفات موانعها وأسبابها، وأن الناس قد تمتلكهم العوائد، فتحول بينهم وبين إدراك الفوائد، فإذا تفشت أحوال في عاداتهم استحسنوها ولو
ساءت، وإذا ندرت المحامد دافعوها إذا رامت مداخلة عقولهم وشاءت، وكل ذلك من تحريف الفطرة عن وضعها، والمباعدة بين الحقائق وشرعها.
ولما جاء الإسلام أخذ يغزو تلك الجيوش ليقلعها من أقاصيها، وينزلها من صياصيها، فالحسن المشروع ما تشهد الفطرة لحسنه، والقبيح الممنوع الذي أماتته الشريعة وأمرت بدفنه.
{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} .
تفريع على جملة {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} الآية، وقد طوي كلام يدل عليه السياق، وتقديره: فلم يقبل منك ما أشرت عليه ولم يمسكها.
ومعنى {قَضَى} استوفى وأتم. واسم {زَيْدٌ} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: فلما قضى منها وطرا، أي قضى الذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه، فعدل عن مقتضى الظاهر للتنويه بشأن زيد. قال القرطبي: قال السهيلي: كان يقال له زيد بن محمد فلما نزع عنه هذا الشرف حين نزل {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] وعلم الله وحشته من ذلك شرفه بخصيصة لم يكن يخص بها أحدا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن سماه في القرآن، ومن ذكره الله تعالى باسمه في الذكر الحكيم نوه غاية التنويه اهـ.
والوطر: الحاجة المهمة والنهمة قال النابغة:
فمن يكن قد قضى من خلة وطرا ... فإنني منك قضيت أوطاري
والمعنى: فلما استتم زيدا مدة معاشرة زينب فطلقها، أي فلما لم يبق له وطر منها.
ومعنى {زَوَّجْنَاكَهَا} إذنا لك بأن تتزوجها، وكانت زينب أيما فتزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام برضاها. وذكر أهل السير: أنها زوجها إياه أخوها أبو أحمد بن الضرير واسمه عبد بن جحش فلما أمره الله بتزوجها قال لزيد بن حارثة: ما أجد في نفسي أوثق منك فاخطب علي، قال زيد: فجئتها فوليتها ظهري توقيرا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقلت: يا زينب أرسل رسول الله يذكرك. فقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أوامر ربي وقامت إلى مسجدها وصلت صلاة الاستخارة فرضيت فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل فبنى بها. وكانت زينب تفخر على نساء النبيء صلى الله عليه وسلم وتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني ربي. وهذا يقتضي إن لم يتول أخوها أبو أحمد تزويجها فتكون هذه خصوصية للنبيء صلى الله عليه وسلم عند الذين يشترطون
الولي في لنكاح كالمالكية دون قول الحنفية. ولم يذكر في الروايات أن النبيء عليه الصلاة والسلام أصدقها فعده بعض أهل السير من خصوصياته صلى الله عليه وسلم فيكون في تزوجها خصوصيتان نبويتان.
وأشار إلى حكمة هذا التزويج في إقامة الشريعة وهي إبطال الحرج الذي كان يتحرجه أهل الجاهلية من أن يتزوج الرجل زوجة دعيه، فلما أبطله الله بالقول إذ قال: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4] أكد إبطاله بالفعل حتى لا يبقى أدنى أثر من الحرج أن يقول قائل: إن ذاك وإن صار حلالا فينبغي التنزه عنه لأهل الكمال، فاحتيط لانتفاء ذلك بإيقاع التزوج بامرأة الدعي من أفضل الناس وهو النبيء صلى الله عليه وسلم.
والجمع بين اللام وكي توكيد للتعليل كأنه يقول: ليست العلة غير ذلك ودلت الآية على أن الأصل في الحكام التشريعية أن تكون سواء بين النبيء صلى الله عليه وسلم والأمة حتى يدل دليل على الخصوصية.
وجملة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} تذييل لجملة {زَوَّجْنَاكَهَا} . وأمر الله يجوز أن يراد به من إباحة تزوج من كن حلائل الأدعياء، فهو معنى الأمر التشريعي فيه. ومعنى {مَفْعُولاً} أنه متبع ممتثل فلا ينزه أحد عنه، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
ويجوز أن يراد الأمر التكويني وهو ما علم أنه يكون وقدر أسباب كونه، فيكون معنى {مَفْعُولاً} واقعا. والمر من إطلاق السبب على المسبب، والمفعول هو المسبب.
وتزوج النبيء صلى الله عليه وسلم زينب من أمر الله بالمعنيين.
[38, 39] {مَا كَانَ عَلَى النبيء مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}.
استئناف لزيادة بيان مساواة النبيء صلى الله عليه وسلم للأمة في إباحة تزوج مطلقة دعيه وبيان أن ذلك لا يخل بصفة النبوة لأن تناول المباحات من سنة الأنبياء قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51]، وان النبيء إذا رام الانتفاع بمباح لميل نفسه إليه ينبغي له أن يتناوله لئلا يجاهد نفسه فيما لم يؤمر بمجاهدة النفس فيه، لأن
الأليق به أن يستبقي عزيمته ومجاهدته لدفع ما أمر بتجنبه.
وفي هذا الاستئناف ابتداء لنقض أقوال المنافقين: أن النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة ابنه.
ومعنى {فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} قدره، إذ أذنه بفعله. وتعدية فعل {فَرَضَ} باللام تدل على هذا المعنى بخلاف تعديه بحرف "على" كقوله: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: 50].
والسنة: السيرة من عمل أو خلق يلازمه صاحبه. ومضى القول في هل السنة اسم جامد أو مصدر عند قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} في سورة آل عمران [137]، وعلى الأول فانتصاب {سُنَّةَ اللَّهِ} هنا على أنه اسم وضع في موضع المصدر لدلالته على معنى فعل ومصدر. وقال في "الكشاف" كقولهم: تربا وجندلا، أي في الدعاء، أي ترب تربا. وأصله: ترب له وجندل له. وجاء على مراعاة الأصل قول المعري:
تمنت قويقا والسراة حيالها ... تراب لها من أينق وجمال
ساق مساق التعجب المشوب بغضب.
وعلى الثاني فانتصاب {سُنَّةَ} على المفعول المطلق وعلى كلا الوجهين فالفعل مقدر دل عليه المصدر أو نائبه. فالتقدير: سن الله سنته في الذين خلوا من قبل.
والمعنى: أن محمدا صلى الله عليه وسلم متبع سنة الأنبياء الذين سبقوه اتباعا لما فرض الله له كما فرض لهم، أي أباح.
والمراد بـ {الَّذِينَ خَلَوْا} : الأنبياء بقرينة سياق لفظ النبيء، أي الذين خلوا من قبل النبوة. وقد زاده بيانا قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ} ، فالأنبياء كانوا متزوجين وكان لكثير منهم عدة أزواج، وكان بعض أزواجهم أحب إليهم من بعضهن.
فإن وقفنا عند ما جاء في هذه الآية وما بينته الآثار الصحيحة فالعبرة بأحوال جميع الأنبياء.
وإن تلقينا بشيء من الإغضاء بعض الآثار الضعيفة التي ألصقت بقصة تزوج زينب كان داود عليه السلام عبرة بالخصوص فقد كانت له زوجات كثيرات وكان قد أحب أن يتزوج زوجة "أوريا" وهي التي ضرب الله لها مثلا بالخصم الذين تسوروا المحراب وتشاركوا بين يديه. وستأتي في سورة ص، وقد ذكرت القصة في "سفر الملوك" . ومحل
التمثيل بداود في أصل انصراف رغبته إلى امرأة لم تكن حلالا له فصارت حلالا له، وليس محل التمثيل فيما حف بقصة داود من لوم الله إياه على ذلك كما قال {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص: 24] الآية لأن ذلك منتف في قصة تزوج زينب.
وجملة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} معترضة بين الموصوف والصفة إن كانت جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} صفة لـ {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} , أو تذييل مثل جملة {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] إن كانت جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} مستأنفة كما سيأتي، والقول فيه مثل نظيره المتقدم آنفا.
والقدر بفتح الدال: إيجاد الأشياء على صفة مقصودة وهو مشتق من القدر بسكون الدال وهو الكمية المحددة المضبوطة، وتقدم في قوله تعالى: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} في سورة الرعد [17] وقوله: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} في سورة الحجر [21]. ولما كان من لوازم هذا المعنى أن يكون مضبوطا محكما كثرت الكناية بالقدر عن الإتقان والصدور عن العلم. ومنه حديث: "كل شيء بقضاء وقدر"، أي من الله.
واصطلح علماء الكلام: أن القدر اسم للإرادة الأزلية المتعلقة بالأشياء على ما هي عليه، ويطلقونه على الشيء الذي تعلق به القدر وهو المقدور كما في هذه الآية، فالمعنى: وكان أمر الله مقدرا على حكمة أرادها الله تعالى من ذلك الأمر، فالله لما أمر رسوله عليه الصلاة السلام بتزوج زينب التي فارقها زيد كان عالما بأن ذلك لائق برسوله عليه الصلاة والسلام كما قدر لأسلافه من الأنبياء.
وفي قوله: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} جيء بالموصول دون اسم الإشارة أو الضمير لما في هذه الصلة من إيماء إلى انتفاء الحرج عن الأنبياء في تناول المباح بأن الله أراد منهم تبليغ الرسالة وخشية الله بتجنب ما نهى عنه ولم يكفلهم إشقاق نفوسهم بترك الطيبات التي يريدونها، ولا حجب وجدانهم عن إدراك الأشياء على ما هي عليه من حسن الحسن وقبح القبيح، ولا عن انصراف الرغبة إلى تناول ما حسن لديهم إذ كان ذلك في حدود الإباحة، ولا كلفهم مراعاة أميال الناس ومصطلحاتهم وعوائدهم الراجعة إلى الحيدة بالأمور عن مناهجها فإن في تناولهم رغباتهم المباحة عونا لهم على النشاط في تبليغ رسالات الله، ولذلك عقب بقوله: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} ، أي لا يخشون أحدا خشية تقتضي فعل شيء أو تركه.
ثم أن جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ} إلى آخرها يجوز أن تكون في موضع الصفة للذين
خلوا من قبل، أي الأنبياء. وإذ قد علم أن النبيء صلى الله عليه وسلم متبع ما أذن الله له اتباعه من سنة الأنبياء قبله علم أنه متصف بمضمون جملة {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} بحكم قياس المساواة، فعلم أن الخشية التي في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37] ليست خشية خوف توجب ترك ما يكرهه الناس أو فعل ما يرغبونه بحيث يكون الناس محتسبين على النبيء عليه الصلاة والسلام ولكنها توقع أن يصدر من الناس وهم المنافقون ما يكرهه النبيء عليه الصلاة والسلام ويدل لذلك قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} ، أي الله حسيب الأنبياء لا غيره.
هذا هو الوجه في سياق تفسير هذه الآيات، فلا تسلك في معنى الآية مسلكا يفضي بك إلى توهم أن النبيء صلى الله عليه وسلم حصلت منه خشية الناس وان الله عرض به في قوله: {وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} تصريحا بعد أن عرض به تلميحا في قوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ} [الأحزاب: 37] بل النبيء عليه الصلاة والسلام لم يكترث بهم وأقدم على تزوج زينب، فكل ذلك قبل نزول هذه الآيات التي ما نزلت إلا بعد تزوج زينب كما هو صريح قوله: {زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] ولم يتأخر إلى نزول هذه الآية.
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإضمار في قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} حيث تقدم ذكره لقصد أن تكون هذه الجملة جارية مجرى المثل والحكمة.
وإذ قد كان هذا وصف الأنبياء فليس في الآية مجال الاستدراك عليها بمسألة التقية في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28].
[40] {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النبيءينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
ستئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك.
وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]. والغرض من هذا العموم قطع توهم أن يكون النبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام النبوة حتى لا يتطرق الإرجاف والاختلاق إلى أن يتزوجهن من أيامي المسلمين أصحابه مثل أم سلمة وحفصة.
و {مِنْ رِجَالِكُمْ} وصف لـ {أَحَدٍ} ، وهو احتراس لأن النبيء صلى الله عليه وسلم أبو بنات. والمقصود: نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان ولد له أولاد أو ولدان بمكة من خديجة وهم الطيب والطاهر "أو هما اسمان لواحد" والقاسم، وولد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية، وكلهم ماتوا صبيانا ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية.
والمنفي هو وصف الأبوة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وهم فيه من وهم فلا التفات إلى كونه جدا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود. ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا، أو المراد أبوة الصلب دون أبوة الرحم.
وإضافة "رجال" إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجا للكلام في صيغة التغليط والتغليظ.
وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وانه قال: {مِنْ رِجَالِكُمْ} وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمدا صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين اعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى: {وأَزْوَاجَهُ أُمَّهَاتِكُمْ} [الأحزاب: 6] كما تقدم.
واستدراك قوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ} لرفع ما قد يتوهم من نفي أبوته، من انفصال صلة التراحم والبر بينه وبين الأمة فذكروا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم، وفي برهم وتوقيرهم إياه، شأن كل نبي مع أمته.
والواو الداخلة على {لَكِنْ} زائدة و {لَكِنْ} عاطفة ولم ترد {لَكِنْ} في كلام العرب عاطفة إلا مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في "شرح التسهيل" . وحرف {لَكِنْ} مفيد الاستدراك.
وعطف صفة {وَخَاتَمَ النبيءينَ} على صفة {رَسُولَ اللَّهِ} تكميل وزيادة في التنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمة قدرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرسل أو أفضل في جميع خصائصه.
وإذا قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبي كان كونه خاتم النبيءين مقتضيا أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة
لأجل ختم النبوة به كان ذلك غضا فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به. ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه السلام صرف عيسى عن التزوج.
فلا تجعل قوله: {وَخَاتَمَ النبيءينَ} داخلا في حيز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه. وببيان الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} إذ يظهر حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97].
والآية نص في أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيءين وأنه لا نبي بعده في البشر لأن النبيءين عام فخاتم النبيءين هو خاتمهم في صفة النبوة. ولا يعكر على نصية الآية أن العموم دلالته على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصص. وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء.
وقد اجمع الصحابة على أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العنسي فصار معلوما من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإسلام ولو كان معترفا بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلهم. وهذا النوع في اختلاف بعضهم في ججية الإجماع إذ المختلف في حجيته هو الإجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة في كلام الغزالي في خاتمة كتاب "الاقتصاد في الاعتقاد" مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير. وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمه إلزاما فاحشا ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليها.
ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يثبت نبوة لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم وفي إخراجه من حظيرة الإسلام ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابية والبهائية وهما نحلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى. وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود ستة مائتين وألف وتسربت إلى العراق وكان القائم بها رجلا من أهل شيراز يدعوه اتباعه السيد علي محمد كذا اشتهر اسمه، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الأمامية. أخذ عن رجل
من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهي الطريقة الملقاة عن الحلاج. وكانت طريقته تعرف بالشيخية، ولما اظهر نحلته علي محمد هذا لقب نفسه باب العلم فغلب عليه اسم الباب. وعرفت نحلته بالبابية واعى لنفسه النبوة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه "البيان" وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 3، 4].
وكتاب "البيان" مؤلف بالعربية الضعيفة ومخلوط بالفارسية. وقد حكم عليه بالقتل سنة 1266 في تبريز.
وأما البهائية فهي شعبة من البابية تنسب إلى مؤسسها الملقب ببهاء الله واسمه ميرزا حسين علي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب. ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد إلى أدرنة ثم إلى عكا، وفيما ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوة الباب وقد التف حوله أصحاب نحلة البابية وجعلوه ليفة الباب فقام اسم لبهائية مقام اسم البابية فالبهائية هم البابية. وقد كان البهاء بني بناء في جبل الكرمل ليجعله مدفنا لرفات "الباب" وآل أمره إلى سجنته السلطنة العثمانية في سجن عكا فلبث في السجن سبع سنوات ولم يطلق من السجن إلا عند ما أعلن الدستور التركي فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أطلقوا يومئذ فرحل منتقلا في أوربا وأمريكا مدة عامين ثم عامين ثم عاد إلى حيفا فاستقر بها إلى أن توفي سنة 1340 وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإخوته فتفرقوا في الزعامة وتضاءلت نحلتهم.
فمن كان من المسلمين متبعا للبهائية أو البابية فهو خارج عن الإسلام مرتد عن دينه تجري عليه أحكام المرتد. ولا يرث مسلما ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم: إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده. ونحن كفرنا الغرابية من الشيعة لقولهم: بأن جبريل أرسل إلى علي ولكنه شبه له محمد بعلي إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب "وكذبوا" فبلغ الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهم أثبتوا الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم زعموه غير المعين من عند الله.
وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإلهي ، فبذلك فارقت الماسونية وعدت في الأديان والملل ولم تعد في الأحزاب.
وانتصب {رَسُولَ اللَّهِ} معطوفا على {أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} عطفا بالواو المقترنة بـ {لَكِنْ} لتفيد رفع النفي الذي دخل على عامل المعطوف عليه.
وقرأ الجمهور {وَخَاتَمَ النبيءينَ} بكسر تاء {خَاتَمَ} على أنه اسم فاعل من ختم. وقرأ عاصم بفتح التاء على تشبيهه بالخاتم الذي يختتم به المكتوب في أن ظهوره كان غلقا للنبوة.
[41, 42] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً [41] وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}
إقبال على مخاطبة المؤمنين بأن يشغلوا ألسنتهم بذكر الله وتسبيحه، أي أن يمسكوا عن مماراة المنافقين أو عن سبهم فيما يرجفون به في قضية تزوج زينب فأمر المؤمنين أن يعتاضوا عن ذلك بذكر الله وتسبيحه خيرا لهم، وهذا كقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200], أي خيرا من التفاخر بذكر آبائكم وأحسابكم، فذلك أنفع لهم وأبعد عن أن تثور بين المسلمين والمنافقين ثائرة فتنة في المدينة، فهذا من نحو قوله لنبيه {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48] ومن نحو قوله: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]، فأمروا بتشغيل ألسنتهم وأوقاتهم بما يعود بنفعهم وتجنب ما عسى أن يوقع في مضرة.
وفيه تسجيل على لمنافقين بأن خوضهم في ذلك بعد هذه الآية علامة على النفاق لأن المؤمنين لا يخالفون أمر ربهم.
والجملة استئناف ابتدائي متصل بما قبله للمناسبة التي أشرنا إليها.
والذكر: ذكر اللسان وهو المناسب لموقع الآية بما قبلها وبعدها.
والتسبيح: يجوز أن يراد به الصلوات النوافل فليس عطف {وَسَبِّحُوهُ} على {اذْكُرُوا اللَّهَ} من عطف الخاص على العام.
ويجوز أن يكون المأمور به من التسبيح قول: سبحان الله، فيكون عطف {وَسَبِّحُوهُ} على {اذْكُرُوا اللَّهَ} من عطف الخاص على العام اهتماما بالخاص لأن معنى التسبيح التنزيه عما لا يجوز على الله من النقائص فهو من أكمل الذكر لاشتماله على جوامع الثناء والتجميد، ولأن في التسبيح إيماء إلى التبرؤ مما يقوله المنافقون في حق النبيء صلى الله عليه وسلم فيكون في معنى قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] فإن كلمة: سبحان الله، يكثر أن تقال في مقام
التبرؤ من نسبة ما لا يليق إلى أحد كقول النبيء صلى الله عليه وسلم "سبحان الله المؤمن لا ينجس" . وقول هند بنت عتبة حين أخذ على النساء البيعة "أن لا يزنين": سبحان الله أتزني الحرة.
والبكرة: أول النهار. والأصيل: العشي الوقت الذي بعد العصر. وانتصبا على الظرفية التي يتنازعها الفعلان {اذْكُرُوا اللَّهَ... وَسَبِّحُوهُ} .
والمقصود من البكرة والأصل إعمار أجزاء النهار بالذكر والتسبيح بقدر المكنة لأن ذكر طرفي الشيء يكون كناية على استيعابه كقول طرفة:
لكالطول المرخى وثنياه باليد
ومنه قولهم: المشرق والمغرب، كناية عن الأرض كلها، والرأس والعقب كناية الجسد كله، والظهر والبطن كذلك.
وقدم البكرة على الأصيل لأن البكرة أسبق من الأصيل لا محالة. وليس الأصيل جديرا بالتقديم في الذكر كما قدم لفظ {تُمْسُونَ} في قوله في سورة الروم {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] لأن كلمة المساء تشمل أول الليل فقدم لفظ {تُمْسُونَ} هنالك رعيا لاعتبار الليل أسبق في حساب أيام الشهر عند العرب وفي الإسلام وليست كذلك كلمة الأصيل.
[43] {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً}
تعليل للأمر بذكر الله وتسبيحه بأن ذلك مجلبة لانتفاع المؤمنين بجزاغءالله على ذلك بأفضل منه من جنسه وهو صلاته وصلاة ملائكته. والمعنى: أنه يصلي عليكم وملائكته إذا ذكرتموه ذكرا بكرة وأصيلا.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} لإفادة التقوي وتحقيق الحكم. والمقصود تحقيق ما تعلق بفعل {يُصَلِّي} من قول {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} .
والصلاة: الدعاء والذكر بخير، وهي من الله الثناء. وأمره بتوجيه رحمته في الدنيا والآخرة ،أي اذكروه ليذكركم لقوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] وقوله في الحديث القدسي: "فإن ذكروني في نفسه ذكرتهم في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم" .
وصلاة الملائكة: دعاؤهم للمؤمنين فيكون دعاؤهم مستجابا عند الله فيزيد الذاكرين على ما أعطاهم بصلاته تعالى عليهم. ففعل {يُصَلِّي} مسند إلى الله والى ملائكته لأن حرف العطف يفيد تشريك المعطوف والمعطوف عليه في العامل، فهو عامل واحد له معمولان فهو يستعمل في القدر المشترك الصالح لصلاة الله تعالى وصلاة الملائكة الصادق في كل بما يليق به بحسب لوازم معنى الصلاة التي تتكيف بالكيفية المناسبة لمن أسندت إليه.
ولا حاجة إلى دعوى استعمال المشترك في معنييه على أنه لا مانع منه على الأصح، ولا إلى دعوى عموم المجاز. واجتلاب {يُصَلِّي} بصيغة المضارع لإفادة تكرر الصلاة وتجددها كلما تجدد الذكر والتسبيح، أو إفادة تجددها بحسب أسباب أخرى من أعمال المؤمنين وملاحظة إيمانهم.
وفي إيراد الموصول إشارة إلى أنه تعالى معروف عندهم بمضمون الصلة بحسب غالب الاستعمال: فأما لأن المسلمين يعلون على وجه الأجمال أنهم لا يأتهم خير لا من جانب الله تعالى فكل تفصيل لذلك الإجمال دخل في علمهم، ومنه أنه يصلي عليهم ويأمر ملائكته بذلك، وإما أن يكون قد سبق لهم علم بذلك تفصيلا من قبل: فبعض آيات القرآن كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] فقد علم المسلمون أن استغفار الملائكة للمؤمنين بأمر من الله تعالى لقوله تعالى: {مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ} [يونس: 3]، والدعاء لأحد الشفاعة له، على أن جملة صلة الموصول أن ملائكته يصلون على المؤمنين. وذلك معلوم من آيات كثيرة، وقد يكون ذلك بإخبار النبيء صلى الله عليه وسلم المؤمنين فيما قبل نزول هذه الآية، ويؤيد هذا المعنى قوله بعده {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} كما يأتي قريبا.
واللام في قوله: {لِيُخْرِجَكُمْ} متعلقة بـ {يُصَلِّي} . فعلم أن هذه الصلاة جزاء عاجل حاصل وقت ذكرهم وتسبيحهم.
والمراد بـ {الظُّلُمَاتِ} : الضلالة، وبـ {النور} : الهدى، وبإخراجهم من الظلمات: دوام ذلك والاستزادة منه لأنهم لما كانوا مؤمنين كانوا قد خرجوا من الظلمات إلى النور {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} [مريم: 76].
وجملة {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} تذييل.
ودل بالإخبار عن رحمته بالمؤمنين بإقحام فعل {كَانَ} وخبرها لما تقتضيه {كَانَ} من ثبوت ذلك الخبر له تعالى تحقيقه وأنه شأن من شؤونه المعروف بها في آيات كثيرة.
ورحمته بالمؤمنين أعم من صلاته عليهم لأنها تشمل إسداء النفع إليهم وإيصال الخير لهم بالأقوال والأفعال والألطاف.
[44] {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً}
أعقب الجزاء العاجل الذي أنبأ عنه قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] بذكر جزاء آجل وهو ظهور أثر الأعمال التي عملوها في الدنيا وأثر الجزاء الذي عجل لهم عليها من الله في كرامتهم يوم يلقون ربهم.
فالجملة تكملة للتي قبلها لإفادة صلاة الله وملائكته واقعة في الحياة الدنيا وفي الدار الآخرة.
والتحية: الكلام الذي يخاطب به عند ابتداء الملاقاة إعرابا عن السرور باللقاء من دعاء ونحوه. وهذا الاسم في الأصل مصدر حياه، إذا قال له: أحياك الله، أي أطال حياتك. فسمى به كلام المعرب عن ابتغاء الخير للملاقى أو الثناء عليه لأن غلب أن يقولوا: أحياك الله عند ابتداء الملاقاة فأطلق اسمها على كل دعاء وثناء يقال عند الملاقاة. وتحية الإسلام: سلام عليك أو السلام عليكم، دعاء بالسلامة والأمن، أي من المكروه لأن السلامة أحسن ما يبتغى في الحياة. فإذا أحياه الله ولم يسلمه كانت الحياة ألما وشرا، ولذلك كانت تحية المؤمنين يوم القيامة السلام بشارة بالسلامة مما يشاهده الناس من الأهوال المنتظرة. وكذلك تحية أهل الجنة فيما بينهم تلذذا باسم ما هم فيه من السلامة من أهوال أهل النار، وتقدم في قوله: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} في سورة يونس [10].
وإضافة التحية إلى ضمير المؤمنين من إضافة اسم المصدر إلى مفعوله، أي تحية يحيون بها.
ولقاء الله: الحضور إلى حضرة قدسه للحساب في المحشر. وتقدم تفصيل الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة [223]. وهذا اللقاء عام لجميع الناس كما قال تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [التوبة: 77] فميز
الله المؤمنين يومئذ بالتحية كرامة لهم.
وجملة {وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً} حال من ضمير الجلالة، أي يحييهم يوم يلقونه وقد أعد لهم أجرا كريما. والمعنى: ومن رحمته بهم أن بدأهم بما فيه بشارة بالسلامة وقد أعد لهم أجرا كريما إتماما لرحمته بهم.
والأجر: الثواب. والكريم: النفيس في نوعه، وقد تقدم عند قوله تعالى {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29]. والأجر الكريم: نعيم الجنة.
[45، 46] {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} .
هذا النداء الثالث للنبيء صلى الله عليه وسلم فإن الله لما أبلغه بالنداء الأول ما هو متعلق بأزواجه وما تخلل ذلك من التكليف والتذكير، ناداه بأوصاف أودعها سبحانه فيه للتنويه بشأنه وزيادة رفعة مقداره وبين له أركان رسالته، فهذا الغرض هو وصف تعلقات رسالته بأحوال أمته وأحوال الأمم السالفة.
وذكر له هنا خمسة أوصاف هي: شاهد. ومبشر. ونذير. وداع إلى الله. وسراج منير. فهذه الأوصاف ينطوي إليها وتنطوي على مجامع الرسالة المحمدية فلذلك اقتصر عليها من بين أوصافه الكثيرة.
والشاهد: المخبر عن حجة المدعي ودفع دعوى المبطل، فالرسول صلى الله عليه وسلم شاهد بصحة ما هو صحيح من الشرائع وبقاء ما هو صالح للبقاء منها ويشهد ببطلان ما ألصق بها وبنسخ ما لا ينبغي بقاؤه من أحكامها بما أخبر عنهم في القرآن والسنة، قال تعالى: {مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة: 48]. وفي حديث الحشر: "يسأل كل رسول هو بلغ? فيقول: نعم. فيقول الله: من يشهد لك? فيقول: محمد وأمته"... الحديث.
ومحمد صلى الله عليه وسلم شاهد أيضا على أمته بمراقبة جريهم على الشريعة في حياته وشاهد عليهم في عرصات القيامة، قال تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41] فهو شاهد على المستجيبين لدعوته وعلى المعرضين عنها، وعلى من استجاب للدعوة ثم بدل. وفي حديث الحوض: "ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا رأيتهم وعرفتهم
اختلجوا دوني فأقول: يا رب أصيحابي أصيحابي. فيقال لي: أنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول تبا وسحقا لمن أحدث بعدي" يعني: أحدثوا الكفر وهم أهل الردة كما في بعض روايات الحديث: "إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم" . فلا جرم كان وصف الشاهد أشمل هذه الأوصاف للرسول صلى الله عليه وسلم بوصف كونه رسولا لهذه الأمة، وبوصف كونه خاتما للشرائع ومتمما لمراد الله من بعثة الرسل.
والمبشر: المخبر بالبشرى والبشارة. وهي الحادث المسر لمن يخبر به والوعد بالعطية، والنبيء صلى الله عليه وسلم مبشر لأهل الإيمان والمطيعين بمراتب فوزهم. وقد تضمن هذا الوصف ما اشتملت عليه الشريعة من الدعاء إلى الخير من الأوامر وهو قسم الامتثال من قسمي التقوى، فإن التقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، والمأمورات متضمنة المصالح فهي مقتضية بشارة فاعليها بحسن الحال في العاجل والآجل.
وقدمت البشارة على النذارة لأن النبيء صلى الله عليه وسلم غلب عليه التبشير لأنه رحمة للعالمين، ولكثرة عدد المؤمنين في أمته.
والنذير: مشتق من لإنذار وهو الإخبار بحلول حادث مسيء أو قرب حلوله، والنبيء عليه الصلاة والسلام منذر للذين يخالفون عنه دينه من كافرين به ومن أهل العصيان بمتفاوت مؤاخذتهم على عملهم.
وانتصب {شَاهِداً} على الحال من كاف الخطاب وهي حال مقدرة، أي أرسلناك مقدرا أن تكون شاهدا على الرسل والأمم في الدنيا والآخرة. ومثل سيبويه للحال المقدرة بقوله: مررت برجل معه صقر صائدا به.
وجيء في جانب النذارة بصيغة فعيل دون اسم الفاعل لإدارة الاسم فإن النذير في كلامهم اسم للمخبر بحلول العدو بديار القوم. ومن الأمثال: أنا النذير العريان، أي الآتي بخبر حلول العدو بديار القوم. والمراد بالعريان أنه ينزع عنه قميصه ليشير به من مكان مرتفع فيراه من لا يسمع نداءه، فالوصف بنذير تمثيل بحال نذير القوم كما قال: {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46] للإيماء إلى تحقيق ما أنذرهم به حتى كأنه قد حل بهم وكأن المخبر عنه مخبر عن أمر قد وقع؛ وهذا لا يؤديه الا اسم النذير، ولذلك كثر في القرآن الوصف بالنذير وقل الوصف بمنذر. وفي الصحيح: أن رسول الله لما أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] خرج حتى صعد الصفا, فنادى: يا
صباحاه "كلمة ينادي بها من يطلب النجدة" فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي? قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فهذا يشير إلى تمثيل الحالة التي استخلصها بقوله: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". وما في {بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ} من معنى التقريب.
وشمل اسم النذير جوامع ما في الشريعة من النواهي والعقوبات وهو قسم الاجتناب من قسم التقوى فإن المنهيات متضمنة مفاسد فهي مقتضية تخويف المقدمين على فعلها من سوء الحال في العاجل والآجل.
والداعي إلى الله هو الذي يدعو لناس إلى ترك عبادة غير الله ويدعوهم إلى اتباع ما يأمرهم به الله. وأصل دعاه إلى فلان: أنه دعاه إلى الحضور عنده. يقال: أدع فلانا إلي. ولما علم أن الله تعالى منزه من جهة يحضرها الناس عنده تعين أن معنى الدعاء إليه الدعاء إلى ترك الاعتراف بغيره "كما يقولون: أبو مسلم الخرساني يدعو إلى الرضى من آل البيت" فشمل هذا الوصف أصول الاعتقاد في شريعة الإسلام مما يتعلق بصفات الله لأن دعوة الله دعوة إلى معرفته وما يتعلق بصفات الدعاة إليه من الأنبياء والرسل والكتب المنزلة عليهم.
وزيادة {بِإِذْنِهِ} ليفيد أن الله أرسله داعيا إليه ويسر له الدعاء إليه مع ثقل أمر هذا الدعاء وعظم خطره وهو ما كان استشعره النبيء صلى الله عليه وسلم في مبدأ الوحي من الخشية إلى أن أنزل عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1،2], ومثله قوله تعالى لموسى: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 68]، فهذا إذن خاص وهو الإذن بعد الإحجام المقتضي للتيسير، فأطلق اسم الإذن على التيسير على وجه المجاز المرسل. ونظيره قوله تعالى خطابا لعيسى عليه السلام: {وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي} [المائدة: 110] وقوله حكاية عن عيسى {فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
وقوله: {وَسِرَاجاً مُنِيراً} تشبيه بليغ بطريقة الحالية وهو طريق جميل، أي أرسلناك كالسراج المنير في الهداية الواضحة التي لا لبس فيها والتي لا تترك للباطل شبهة إلا فضحتها وأوقفت الناس على دخائلها، كما يضيء السراج الوقاد ظلمة المكان. وهذا الوصف يشمل ما جاء به النبيء صلى الله عليه وسلم من البيان وإيضاح الاستدلال وانقشاع ما كان قبله من الأديان من مسالك للتبديل والتحريف فشمل ما في الشريعة من أصول الاستنباط والتفقه في الدين والعلم، فإن العلم يشبه بالنور فناسبه السراج المنير. وهذا وصف شامل لجميع
الأوصاف التي وصف بها آنفا فهو كالفذلكة وكالتذييل.
ووصف السراج بـ {مُنِيراً} مع أن الإنارة من لوازم السراج هو كوصف الشيء بالوصف المشتق من لفظه في قوله: شعر شاعر، وليل أليل لإفادة قوة معنى الاسم في الموصوف به الخاص فإن هدى النبيء صلى الله عليه وسلم هو أوضح الهدى. وإرشاد أبلغ إرشاد.
روى البخاري في كتاب "التفسير" من صحيحه في الكلام على سورة الفتح عن عطاء بن يسار أن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: "أن هذه الآية التي في القرآن: {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} قال في التوراة: يا أيها النبيء إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح "أو ويغفر" ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله ويفتح "أو فيفتح" به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا" اهـ.
وقول عبد الله بن عمرو في التوراة يعني بالتوراة: أسفار التوراة وما معها من أسفار الأنبياء إذ لا يوجد مثل ذلك فيما رأيت من الأسفار الخمسة الأصلية من التوراة. وهذا الذي حدث به عبد الله بن عمرو ورأيت مقاربه في سفر النبيء أشعياء من الكتب المعبر عنها تغليبا وهي الكتب المسماة بالعهد القديم؛ وذلك في الإصحاح الثاني والأربعين منه بتغيير بقليل "أحسب أنه من اختلاف الترجمة أو من تفسيرات بعض الأحبار وتأويلاتهم"، ففي الإصحاح الثاني والأربعين منه "هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، وفتيلة خامدة لا تطفأ، إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر1 شريعته أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للأمم لنفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن، الجالسين في الظلمة، أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر".
ـــــــ
1 الجزائر: جزيرة العرب، لقوله في هذا السفر في هذا "الإصحاح" : "والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها "قيدار"." فإن قيدار اسم ابن إسماعيل كما في سفر التكوين. فأراد: نسل قيدار وهم الإسماعيليون وهم الأميون.
وإليك نظائر صفته التي في التوراة من صفاته في القرآن {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} نظيرها هذه الآية وحرزا للأميين " {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً} سورة الجمعة [2]" أنت عبدي ورسولي " {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} سورة الكهف [1]" سميتك المتوكل "{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} سورة الأحزاب [3]" ليس بفظ غليظ "{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} "سورة آل عمران [159]" ولا صخاب في الأسواق "{وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} سورة لقمان [19]" ولا يدفع السيئة بالسيئة " {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} سورة فصلت [34]" ولكن يعفو ويصفح " {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} سورة العقود [13]" ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله "{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} سورة المائدة [3]" ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا " {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} في سورة البقرة [7] في ذكر الذين كفروا مقابلا لذكر المؤمنين في قوله قبله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} الآية [2]".
ولنذكر هنا ما في سفر أشعياء ونقحم فيه بيان مقابلة كلماته بالكلمات التي جاءت في حديث عبد الله بن عمرو.
جاء في "الإصحاح" الثاني والأربعين من سفر أشعياء: هو ذا عبدي "أنت عبدي" الذي أعضده مختاري "ورسولي" الذي سرت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم لا يصيح "ليس بفظ" ولا يرفع "ولا غليظ" ولا يسمع في الشارع صوته "ولا صخاب في الأسواق" قصبة مرفوضة لا يقصف "ولا يدفع السيئة بالسيئة" وفتيلة خامدة لا يطفأ "يعفو ويصفح" إلى الأمان يخرج الحق "وحرزا" لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض "ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء" وتنتظر الجزائر شريعته "للأميين" أنا الرب قد دعوتك بالبر فأمسك بيدك "سميتك المتوكل" وأحفظك "ولن يقبضه الله" واجعلك عهدا للشعب أرسلناك شاهدا "ونورا للأمم" "مبشرا" لنفتح عيون العمي "ونفتح به أعينا عميا" لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن "وآذانا صما" الجالسين في الظلمة "وقلوبا غلفا". أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا أعطيه لآخر" "بأن يقولوا لا إله إلا الله".
[47] {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} .
عطف على جملة {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ} [الأحزاب: 45] عطف الإنشاء على الخبر لا محالة
وهي أوضح دليل على صحة عطف الإنشاء على الخبر إذ لا يتأتى فيها تأويل مما تأوله المانعون لعطف الإنشاء على الخبر وهم الجمهور والزمخشري والتفتزاني مما سنذكره إن شاء الله عند قوله تعالى: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة الصف [11- 13]، فالجملة المعطوف عليها إخبار عن النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه أرسله متلبسا بتلك الصفات الخمسة. وهذا أمر له بالعمل بصفة المبشر، فلاختلاف مضمون الجملتين عطفت هذه على الأولى.
والفضل: العطاء الذي يزيده المعطي زيادة على العطية. فالفضل كناية عن العطية أيضا لأنه لا يكون فضلا إلا إذا كان زائدا على العطية. والمراد أن لهم ثواب أعمالهم الموعود بها وزيادة من عند ربهم قال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26].
ووصف {كَبِيراً} مستعار للفائق في نوعه. قال ابن عطية: قال لي أبي رضي الله عنه1: هذه أرجى آية عندي في كتاب الله لان الله قد أمر نبيه أن يبشر المؤمنين بأن لهم عنده فضلا كبيرا. وقد بين الله تعالى الفضل الكبير ما هو في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22] فالآية التي في هذه السورة خبر والآية التي في حم عسق تفسير لها ا هـ.
[48] {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً}
جاء في مقابلة قوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 47] بقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} تحذيرا له من موافقتهم فيما يسألون منه وتأيدا لفعله معهم حين استأذنه المنافقون في الرجوع عن الأحزاب فلم يأذن لهم فنهي عن الإصغاء إلى ما يرغبونه فيترك ما احل له من التزوج، أو فيعطي الكافرين من الأحزاب ثمر النخل صلحا أو نحو ذلك والنهي مستعمل في معنى الدوام على الانتهاء.
وعلم من مقابلة أمر التبشير للمؤمنين بالنهي عن طاعة الكافرين والمنافقين أن الكافرين والمنافقين هم متعلق الإنذار من قوله: {وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] لأن وصف
ـــــــ
1 هو أبو بكر بن غالب بن عطية القيسي الغرناطي المالكي مفتي غرناطة، توفي بها سنة 518.
"بشيرا" قد أخذ متعلقه فقد صار هذا ناظرا إلى قوله: {وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45]
وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} يجوز أن يكون فعل {وَدَعْ} مرادا به أن لا يعاقبهم فيكون {وَدَعْ} مستعملا في حقيقته وتكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى مفعوله، أي دع أذاك إياهم. ويجوز أن يكون {وَدَعْ} مستعمله مجازا في عدم الاكتراث وعدم الاهتمام فيما يقولونه مما يؤدي ويكون إضافة أذاهم من إضافة المصدر إلى فاعله، أي لا تكترث بما يصدر منهم من أذى إليك فإنك أجل من الاهتمام بذلك، وهذا من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه. واكثر المفسرين اقتصرو ا على هذا الاحتمال الأخير. والوجه: الحمل على كلا المعنيين، فيكون الأمر بترك أذاهم صادقا بالإعراض عما يؤذون به النبيء صلى الله عليه وسلم من أقوالهم وصادقا بالكف عن الإضرار بهم، أي أن يترفع النبيء صلى الله عليه وسلم عن مؤاخذتهم على ما يصدر منه في شأنه، وهذا إعراض عن أذى خاص لا عموم له، فهو بمنزلة المعرف بلام العهد، فليست آيات القتال بناسخه له.
وهذا يقتضي انه يترك أذاهم ويكلهم إلى عقاب اجل وذلك من معنى قوله: {شَاهِداً} [الأحزاب: 45] لأنه يشهد عليهم بذلك كقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَأَبْصِرْهُمْ} [الصافات: 174، 175].
والتوكل: الاعتماد وتفويض التدبير إلى الله. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159] وقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} في سورة العقود [23]، أي أعتمد على الله في تبليغ الرسالة وفي كفايته إياك شر عدوك، فهذا ناظر إلى قوله: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46].
وقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} تذييل لجملة {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} .
والمعنى: فإن الله هو الوكيل الكافي في الوكالة، أي المجزي من توكل عليه ما وكله عليه فالباء تأكيد، وتقدم قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} في سورة النساء [81]. والتقدير: كفى الله. و {وَكِيلاً} تمييز.
فقد جاءت هذه الجمل الطلبية مقابلة وناظرة للجمل الإخبارية من قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً} إلى {وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 45, 46] فقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 47] ناظرا إلى قوله: {وَمُبَشِّراً} [الأحزاب: 45].
وقوله: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} ناظر إلى قوله: {وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] لأنه جاء في
مقابلة بشارة المؤمنين كما تقدم.
وقوله: {وَدَعْ أَذَاهُمْ} ناظر إلى قوله: {شَاهِداً} [الأحزاب: 45] كما علمت. وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ناظر إلى قوله: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ} [الأحزاب: 46]. وأما قوله: {وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 46] فلم يذكر له مقابل في هذه المطالب إلا انه لما كان كالتذييل للصفات كما تقدم ناسب أن يقابله ما هو تذييل للمطالب، وهو قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} . وهذا اقرب من بعض ما في "الكشاف" من وجوه المقابلة ومن بعض ما للآلوسي فانظرهما واحكم.
[49] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}
جاءت هذه الآية تشريعا لحكم المطلقات قبل البناء بهن أن لا تلزمهن عدة بمناسبة حدوث طلاق زيد بن حارثة زوجه زينب بنت جحش لتكون الآية مخصصة لآيات العدة من سورة البقرة فإن الأحزاب نزلت بعد البقرة وليخصص بها أيضا آية العدة في سورة الطلاق النازلة بعدها لئلا يظن ظان أن العدة من آثار العقد على المرأة سواء دخل بها الزوج أم لم يدخل. قال ابن العربي: وأجمع علماء الأمة على أن لا عدة على المرأة إذا يدخل بها زوجها لهذه الآية.
والنكاح: هو العقد بين الرجل والمرأة لتمون زوجها بواسطة وليها. وهو حقيقة في العقد لأن أصل النكاح حقيقة هو الضم والإلصاق فشبه عقد الزواج بالالتصاق والضم بما فيه من اعتبار انضمام الرجل والمرأة فصارا كشيئين متصلين. وهذا كما سمي كلاهما زوجا ولا يعرف في كلام العرب إطلاق النكاح على غير معنى العقد دون معنى الوطء ولذلك يقولون: نكحت المرأة فلانا، أي تزوجته كما يقولون : نكح فلان امرأة. وزعم كثير من مدوني في اللغة ان النكاح حقيقة في إدخال شئ في أخر فأخذوا منه انه حقيقة في الوطء ودرج على ذلك الأزهري والجوهري والزمخشري، وهو بعيد،وعلى ما بنوه أخطأ المتنبي في استعماله إذ قال:
أنكحت صم حصاها خف يعمله ... تغشمرت بي إليك السهل والجبلا
ولا حجة في كلامه, ولذلك تأوله أبو العلاء المعري في معجز أحمد بأنه أراد جمعت بين صم الحصى وخف ليعملة
وتعليق الحكم في العدة بالمؤمنات جرى على الغالب لأن نساء المؤمنين يومئذ لم يكن مؤمنات وليس فيهن كتابيات فينسحب هذا الحكم على الكتابية كما شملها حكم الاعتداد إذا وقع مسيسها بطرق القياس.
والمس والمسيس : كناية عن الوطء، كما سمي ملامسة في قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]. والعدة بكسر العين : هي في الأصل أسم هيئة من العد بفتح العين وهو الحساب فأطلقت العدة على الشيء المعدود، يقال: جاء عدة رجال، وقال تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة [184]. وغلب إطلاق هذا اللفظ في لسان الشرع على المدة المحددة لانتظار المرأة زواجا ثانيا لأن انتظارها مدة معدودة الأزمان إما بالتعيين وإما بما يحدث فيها من طهر أو وضع حمل فصار أسم جنس ولذلك دخلت عليه {مِنْ} التي تدخل على النكرة المنفية لإفادة العموم،أي فما لكم عليهن من جنس العدة.
والخطاب فيه {لَكُمْ} للأزواج اللذين نكحوا المؤمنات وجعلت العدة لهم،أي لأجلهم لأن المقصد منها راجع إلى نفع الأزواج بحفظ أنسابهم ولأنهم يملكون مراجعة الأزواج مادمن في مدة العدة كما أشار إليه قوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]. وقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً} [البقرة: 228].ومع ذلك هي حق أوجبه الشرع فلو رام الزوج إسقاط العدة عن المطلقة لم يكن له ذلك لان ما تتضمنه العدة من حفظ النسب مقصد من أصول مقاصد التشريع فلا يسقط بالإسقاط.
ومعنى: {تَعْتَدُّونَهَا} تعدونها عليهن،أي تعدون أيامها عليهن،كما يقال: اعتدت المرأة، إذا قضت أيام عدتها.
فصيغت الافتعال ليست للمطاوعة ولكنها بمعنى الفعل مثل : اضطر.ومحاولة حمل صيغة المطاوعة على معروف معناها تكلف.
ويشبه هذا من راجع المعتدة في مدة عدتها ثم طلقها قبل ان يمسها فأن المراجعة تشبه النكاح وليست عينه إذ لا تفتقر إلى إيجاب وقبول. وقد اختلف الفقهاء في اعتدادها من ذلك الطلاق فقال مالك والشافعي في أحد قوليه وجمهور الفقهاء: إنها تنشئ عدة مستقبلة من طلقها ولا تبنى على عدتها التي كانت فيها لأن الزوج نقض
تلك العدة بالمراجعة ولعل مالك نظر إلى أن المسيس بعد المراجعة قد يخفى أمره بخلاف البناء بالزوجة في النكاح فلعله أنما أوجب استئناف العدة لهذه التهمة احتياطا للأنساب. وقال عطاء بن أبي رباح والشافعي في أحد قوليه وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي والحسن وأبو قلابة وقتادة والزهري: تبني على عدتها الأولى التي راجعها فيها لأن طلاقه بعد المراجعة دون أن يمسها بمنزلة إرداف طلاق ثان على المرأة وهي في عدتها فأن الطلاق المردف لا اعتداد له بخصوصه. ونسب القرطبي إلى داود الظاهري انه قال: المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل ان يمسها أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة لأنها مطلقة قبل الدخول بها ا هـ. وهو غريب وكلام ابن حزم في "المحلى" صريح في إنها تبتدئ العدة فلعله من قول ابن حزم وليس مذهب داود،وكيف لو راجعها بعد يوم أو يومين من تطليقها فبماذا تعرف براءة رحمها.
وفاء التفريع في قوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ} لأن حكم التمتيع مقرر من سورة البقرة [236] في قوله: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} الخ. والمتعة: عطية يعطيها الزوج للمرأة إذا طلقها. وقد تقدم قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] فلذلك جيء بالأمر بالتمتيع مفرعا على الطلاق قبل المسيس.
وقد جعل الله التمتيع جبرا لخاطر المرأة المنكسر بالطلاق وتقدم فى سورة البقرة أن المتعة حق للمطلقة سواء سمى لها صداق أم لم يسم بحكم آية سورة الأحزاب لأن الله أمر بالتمتيع للمطلقة قبل البناء مطلقا فكان عمومها في الأحوال كعمومها في الذوات،وليست آية البقرة بمعارضة لهذه الآية إذ ليس فيها تقييد بشرط يقتضي تخصيص المتعة بالتي لم يسم لها صداق لأنها نازلة في رفع الحرج عن الطلاق قبل البناء وقبل تسمية الصداق, ثم أمرت بالمتعة لتينك المطلقتين فالجمع بين الآيتين ممكن.
والسراح الجميل: هو الخلي عن الأذى والإضرار ومنع الحقوق.
[50] {يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ
الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
{يَا أَيُّهَا النبيء إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} .
نداء رابع خوطب به النبيء صلى الله عليه وسلم في شأن خاص به هو بيان ما أحل له من الزوجات والسراري وما يزيد عليه وما لا يزيد مما بعضه تقرير لتشريع له سابق وبعضه تشريع له للمستقبل،ومما بعضه يتساوى فيه النبيء عليه الصلاة والسلام مع الأمة وبعضه خاص به أكرمه الله بخصوصيته مما هو توسعه عليه،أو مما روعي في تخصيصه به علو درجته.
ولعل المناسبة لورودها عقب الآيات التي قبلها أنه لما خاض المنافقون في تزوج النبيء صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وقالوا: تزوج من كانت حليلة متبناه، أراد الله أن يجمع في هذه الآية من يحل للنبيء تزوجهن حتى لا يقع الناس في تردد ولا يفتنهم المرجفون. ولعل ما حدث من استنكار بعض النساء أن تهدي المرأة نفسها لرجل كان من مناسبات اشتمالها على قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} الآية، ولذلك جمعت الآية تقرير ما هو مشروع وتشريع ما لم يكن مشروعا لتكون جامعه للأحوال، وذلك أوعب وأقطع للتردد والاحتمال.
فأما تقرير ما هو مشروع فذلك من قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} إلى قوله: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} ، وأما تشريع ما لم يكن مشروعا فذلك من قوله {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى قوله {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
فقوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} خبر مراد به التشريع. ودخول حرف "إن" عليه لا ينافي إرادة التشريع إذ موقع "إن" هنا مجرد الاهتمام،ولاهتمام يناسب كلا من قصد الإخبار وقصد الإنشاء،ولذلك عطفت على مفعول {أَحْلَلْنَا} معطو فات قيدت بأوصاف لم يكن شرعها معلوما من قبل وذلك في قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} وما عطف عليه باعتبار تقييدهن بوصف {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} ، وفي قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا} باعتبار تقيدها بوصف الإيمان وتقييدها بـ"إن وهبت نفسها للنبيء وأراد النبيء أن يستنكحها". هذا تفسير الآية على ما درج عليه المفسرون على اختلاف قليل بين أقوالهم.
وعندي: أن الآية امتنان وتذكير بنعمة على النبيء صلى الله عليه وسلم. وتأخذ من الامتنان الإباحة ويؤخذ من ظاهر قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] الاقتصار على اللاتي في عصمته منهن وقت نزول الآية ولتكون هذه الآية تمهيدا لقوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} الخ.
وسيجيء ما لنا في معنى قوله: {مِنْ بَعْدُ} وما لنا في موقع قوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} .
ومعنى {أَحْلَلْنَا لَكَ} الإباحة له، ولذلك جاءت مقابلته بقوله عقب تعداد المحللات له {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} .
وإضافة أزواج إلى ضمير النبيء صلى الله عليه وسلم تفيد أنهن الأزواج اللاتي في عصمته فيكون الكلام إخبارا لتقرير تشريع سابق ومسوقا مساق الامتنان،ثم هو تمهيد لما سيتلوه من التشريع الخاص بالنبيء صلى الله عليه وسلم من قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} إلى قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52]. وهذا هو الوجه عندي في تفسير هذه الآية.
وحكى أبن الفرس عن الضحاك وابن زيد أن المعنى بقوله: {أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أن الله احل أن يتزوج كل امرأة يصدقها مهرها فأباح له كل النساء،وهذا بعيد ن مقتضى إضافة أزواج إلى ضميره. وعن التعبير بـ {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} بصيغة المضي. وأختلف أهل التأويل في محمل هذا الوجه مع قوله تعالى في آخر الآية: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} فقال قوم: هذه ناسخة لقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} ولو تقدمت عليها في النلاوة. وقال آخرون: هي منسوخة بقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} .
و {اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} صفه لـ {أَزْوَاجَكَ} ، أي وهن النسوة اللاتي تزوجتهن على حكم النكاح الذي يعم الأمة فالماضي في قوله: {آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} مستعمل في حقيقته. وهؤلاء فيهن من هن من قراباته وهن القرشيات منهن: عائشة، وحفصة، وسودة، وأم سلمة، وأم حبيبة، وفيهن من لسن كذلك وهن جويرية من بني المصطفى، وميمونة بنت الحارث من بني هلال، وزينب أم المساكين من بني هلال، وكانت يومئذ متوفاة، وصفية بنت حيي الإسرائيلية.
وعطف على هؤلاء نسوة أخر وهن ثلاث أصناف:
"الصنف الأول" : ما ملكت يمينه مما أفاء الله عليه، أي مما أعطاه الله من الفيء وهو ما ناله المسلمون من العدو بغير قتال ولكن تركه العدو، أو مما أعطي للنبيء صلى الله عليه وسلم مثل مارية القبطية أم أبنه إبراهيم فقد أفاءها الله عليه إذ وهبها إليه المقوقس صاحب مصر وإنما وهبها إليه هدية لمكان نبوته فكانت بمنزلة الفيء لأنها ما لوحظ فيها إلا قصد المسألة من جهة الجوار إذ لم تكون له مع الرسول صلى الله عليه وسلم سابق صحبة ولا معرفة والمعروف أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يتيسر غير مارية القطبية. وقيل أيضا: إنه تسرى جارية أخرى وهبت له زوجه زينب ابنة جحش ولم يثبت. وقيل أيضا: إنه تسرى ريحانة من سبي قريضة اصطفاها لنفسه ولا تشملها هذه الآية لأنها ليست من الفيء ولكن من المغنم إلا أن يراد بـ {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} المعنى الأعم للفيء وهو ما يشمل الغنيمة. وهذا الحكم يشركه فيه كثيرا من الأمة من كل من أعطاه أميره شيئا من القيء، كما قال تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] فمن أعطاه الأمير من هؤلاء الأصناف أمة من الفيء حلت له.
وقوله: {مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} وصف لما ملكت يمينك وهو هنا وصف كاشف لأن المراد به مارية القطبية، أو هي وريحانة إن ثبت أنه تسراها.
"الصنف الثاني" : نساء من قريب قراباته صلى الله عليه وسلم من جهة أبيه أو جهة أمه مؤمنات مهاجرات. وأغنى قوله: {هَاجَرْنَ مَعَكَ} عن وصف الإيمان لأن الهجرة لا تكون إلا بعد الإيمان، فأباح الله للنبيء عليه الصلاة والسلام أن يتزوج من يشاء من نساء هذا الصنف بعقد النكاح المعروف فليس له أن يتزوج في المستقبل امرأة من غير هذا الصنف المشروط بشرط القرابة بالعمومة أو الخؤولة وشرط الهجرة. وعندي : أن الوصفين ببنات عمه وعماته وبنات خاله وخالاته، وبأنهن هاجرن معه غير مقصود بهما الاحتراز عمن لسن كذلك ولكنه وصف كاشف مسوق للتنويه بشأنهن.
وخص هؤلاء النسوة من عموم المنع تكريما لشأن القرابة والهجرة التي هي بمنزلة القرابة لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [لأنفال: 72]. وحكم الهجرة انقضى بفتح مكة. وهذا الحكم يتجاذبه الخصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم والتعميم، لأمته الذين تكون لهم قرابة بالمرأة كهذه القرابة تزوج أمثالها، والمرأة التي لم تستوف هذا الوصف لا يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام تزوجها، وهو الذي درج عليه
الجمهور، ويؤيده خبر روي عن أم هانئ بنت أبي طالب. وقال أبو يوسف: يجوز لرجال أمته نكاح أمثالها. وباعتبار عدم تقيد نساء الرسول صلى الله عليه وسلم بعدد يكون هذا الطلاق خاصا به دون أمته إذ لا يجوز لغيره تزوج أكثر من أربع.
وبنات عم النبيء صلى الله عليه وسلم هن بنات أخوة أبيه مثل: بنات العباس وبنات أبي طالب وبنات أبي لهب. وأما بنات حمزة فإنهن بنات أخ من الرضاعة لا يحللن له وبنات عماته هن بنات عبد المطلب مثل زينب بنت جحش التي هي بنت أميمة بنت عبد المطلب.
وبنات خاله هن بنات عبد مناف بن زهره وهن أخوال النبيء صلى الله عليه وسلم عبد يغوث ابن وهب أخو آمنة ولم يذكروا أن له بنات، كما أني لم أقف على ذكر خالة لرسول الله فيما رأيت من كتب الأنساب والسير. وقد ذكر في "الإصابة" فريعة بنت وهب وذكروا هالة بنت وهب الزهرية إلا أنها لكونها زوجة عبد المطلب وابنتها صفية عمة رسول الله فقد دخلت من قبل في بنات عمه.
وإنما أفرد لفظ "عم" وجمع لفظ "عمات" لأن العم في استعمال كلام العرب يطلق على أخي الأب ويطلق على أخي الجد وأخي جد الأب وهكذا فهم يقولون: هؤلاء بنو عم أو بنات عم، إذا كانوا لعم واحد أو لعدة أعمام، ويفهم المراد من القرائن. قال الراجز انشده الأخفش:
ما برئت من ريبة وذم ... في حربنا إلا بنات العم
وقال رؤبة بن العجاج:
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
فأما لفظ "العمة" فإنه لا يراد به الجنس في كلامهم، فإذا قالوا: هؤلاء بنو عمة، أرادوا أنهم بنو عمة معنية، فجيء في الآية: {عَمَّاتِكَ} جمعا لئلا يفهم منه بنات عمة معينة. وكذلك القول في إفراد لفظ "الخال" من قوله: {بَنَاتِ خَالِكَ} وجمع الخالة في قوله: {وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} .
وقال قوم: المراد ببنات العم وبنات العمات: نساء قريش، والمراد ببنات الخال: النساء الزهريات، وهو اختلاف نظري محض لا ينبني عليه عمل لأن النبيء قد عرفت أزواجه.
وقوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} صفه عائده إلى {بَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ
خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ} كشأن الصفة الواردة بعد مفردات وهو شرط تشريع لم يكن مشروطا من قبل.
والمعية في قوله: {اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} معية المقارنة في الوصف المأخوذ في فعل {هَاجَرْنَ} فليس يلزم أن يكن قد خرجن مصاحبات له في طريقه إلى الهجرة.
"الصنف الثالث" : امرأة تهب نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم أي تجعل نفسها هبة له دون مهر، وكذلك كان النساء قبل الإسلام يفعلن مع عظماء العرب، فأباح الله للنبيء أن يتخذها زوجه له بدون مهر إذا شاء النبيء صلى الله عليه وسلم ذلك، فهذه حقيقة لفظ {وَهَبَتْ} ، فالمراد من الهبة: تزويج نفسها بدون عوض، أي بدون مهر، وليست هذه من الهبة التي تستعمل في صيغ النكاح إذا قارنها ذكر صداق لأن ذلك اللفظ مجاز في النكاح بقرينة ذكر الصداق ويصح اخذ النكاح به عندنا وعند الحنفية خلافا للشافعي.
فقوله: {وَامْرَأَةً} عطف على {أَزْوَاجَكَ} . والتقدير: وأحللنا لك امرأة مؤمنة.
والتنكير في {امْرَأَةً} للنوعية: والمعنى: ونعلمك أنا أحللنا لك امرأة مؤمنة بقيد أن تهب نفسها لك وأن تريد أن تتزوجها فقوله: {للنبيء} في الموضعين إظهار في مقام الإضمار. والمعنى: إن وهبت نفسها لك وأردت أن تنكحها. وهذا تخصيص من عموم قوله: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فإذا وهبت امرأة نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وأراد نكاحها جاز له ذلك بدون ذينك الشرطين ولأجل هذا وصفت {امْرَأَةً} بـ {مُؤْمِنَةً} ليعلم عدك اشتراط عدا الإيمان. وقد عدة زينب خزيمة الهلالية وكانت تدعى بالجاهلية أم المساكين اللاتي وهبنا أنفسهن ولم تلبث عنده زينب هذه إلا قليلا فتوفيت وكان تزوجها سنة ثلاث من الهجرة فليست مما شملته الآية. ولم يثبت أن النبيء صلى الله عليه وسلم تزوج غيرها ممن وهبت نفسها إليه وهن: أم شريك بنت جابر الدوسية واسمها عزية، وخولة بنت حكيم عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسها فقالت عائشة: أما تستحيي المرأة أن تهب نفسها للرجل، وامرأة أخرى عرضت نفسها على النبيء صلى الله عليه وسلم. روى ثابت البناني عن أنس قال: "جاءت امرأة إلى رسول الله فعرضت عليه نفسها فقالت : يا رسول الله ألك حاجة بي? فقالت ابنة أنس - وهي تسمع إلى رواية أبيها -: ما أقل حياءها واسأوتاه واسواتاه. فقال أنس: هي خير منك رغبت في النبيء فعرضت عليه نفسها". وعن سهل بن سعد أن امرأة عرضت نفسها على النبيء صلى الله عليه وسلم فلم يجبها. فقال رجل: "يا رسول الله زوجنيها، إلى أن قال له، ملكناكها بما معك من القرآن" فهذا
الصنف حكمه خاص بالنبيء صلى الله عليه وسلم ذلك أنه نكاح مخالف لسنة النكاح لأنة بدون مهر وبدون ولي.
وقد ورد أن النسوة اللاتي وهبن أنفسهن للنبيء صلى الله عليه وسلم أربع هن: مميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة الأنصارية الملقبة أم المساكين، وأم شريك بنت جابر الأسدية أو العامرية، و خولة بنت حكيم بنت الأوقص السلمية. فأما الأوليان فتزوجهما النبيء صلى الله عليه وسلم وهما من أمهات المؤمنين.
ومعنى {وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} أنها ملكته نفسها تمليكا شبيها بملك اليمين ولهذا عطفت على {مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} وأردف بقوله: {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أي خاصة لك أن تتخذها زوجه بتلك الهبة، أي دون مهر وليس لبقية المؤمنين ذلك. ولهذا لما وقع في حديث سهل بن سعد المتقدم أن امرأة وهبت نفسها للنبيء صلى الله عليه وسلم وعلم الرجل الحاضر أن النبيء عليه الصلاة والسلام لا حاجة له بها سئل النبيء عليه الصلاة والسلام أن يزوجه إياها علما منه بأن تلك الهبة لا مهر معها ولم يكن للرجل ما يصدقها إياه، وقد علم النبيء صلى الله عليه وسلم منه ذلك فقال له: ما عندك ? قال: ما عندي شيء. قال: اذهب فالتمس ولو خاتما من حديد فذهب ثم رجع فقال: لا والله ولا خاتم من حديد، ولمن هذا إزاري فلها نصفه. قال سهل: ولم يكن له رداء فقال النبيء: "وما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء وأن لبسته لم يكن عليك منه شيء - ثم قال له - ماذا معك من القرآن? فقال: معي سورة كذا وسورة كذا لسور يعددها. فقال النبيء صلى الله عليه وسلم: ملكناكها بما معك من القرآن" .
وفي قوله: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} إظهار في مقام الإضمار لأن مقتضى الظاهر أن يقال: إن وهبت نفسها لك. والغرض من هذا الظهار ما في لفظ {النبيء} من تزكية فعل المرأة التي تهب نفسها بأنها راغبة لكرامة النبوة.
وقوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} جملة معترضة بين جملة {إِنْ وَهَبَتْ} وبين {خَالِصَةً} وليس مسوقا للتقييد إذ لا حاجة إلى ذكر إرادة نكاحها فإن هذا معلوم من معنى الإباحة، وإنما جيء بهذا الشرط لدفع توهم أن يكون قبوله هبتها نفسها له واجبا عليه كما كان عرف أهل الجاهلية. و جوابه محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير: إن أراد أن يستنكحها فهي حلال له، فهذا شرط مستقل و ليس شرطا في الشرط الذي قبله.
والعدول عن الإضمار في قوله: {إِنْ أَرَادَ النبيء} بأن يقال: إن أراد أن يستنكحها
لما في إظهار لفظ {النبيء} من التفخيم و التكريم.
وفائدة الاحتراز بهذا الشرط الثاني إبطال عادة العرب في الجاهلية وهي أنهم كانوا إذا وهبت المرأة نفسها للرجل تعين عليه نكاحها و لم يجز له ردها فابطل الله هذا الالتزام بتخيير النبيء عليه الصلاة والسلام في قبول هبة المرأة نفسها له وعدمه, وليرفع التعيير عن المرأة الواهبة بأن الرد مأذون به.
والسين والتاء في {يَسْتَنْكِحَهَا} ليستا للطلب بل هما لتأكيد الفعل كقول النابغة:
وهم قتلوا الطائى بالحجر عنوة ... أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي بنو حن قتلوا أبا جابر الطائى فصارت أم جابر المزوجة بأبي جابر زوجة بني حن، أي زوجة رجل منهم. وهي مثل السين والتاء في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195].
فتبين من جعل جملة {إِنْ أَرَادَ النبيء أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} معترضة أن هذه الآية لا يصح التمثيل بها لمسألة اعتراض الشرط على الشرط كما وقع في رسالة الشيخ تقي الدين السبكي المجعولة لاعتراض الشرط على الشرط وتبعه السيوطي من الفن السابع من كتاب "الأشباه والنظائر النحوية" ، ويلوح من كلام صاحب "الكشاف" استشعار عدم صلاحية الآية لاعتبار الشرط في الشرط فأخذ يتكلف لتصوير ذلك.
وانتصب {خَالِصَةً} على الحال من {امْرَأَةً} ، أي خالصة لك تلك المرأة، أي هذا الصنف من النساء. والخلوص معنى به عدم المشاركة، أي مشاركة بقية الأمة في هذا الحكم إذ مادة الخلوص تجمع معاني التجرد من المخالطة. فقوله: {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} لبيان حال من ضمير الخطاب في قولة: {لَكَ} ما في الخلوص من الأجمال في نسبته. وقد دل وصف {امْرَأَةً} بأنها {مُؤْمِنَةً} أن المرأة غير المؤمنة لا تحل للنبيء علية الصلاة والسلام بهبة نفسها. ودل ذلك بدلالة لحن الخطاب أنة لا يحل للنبيء صلى الله عليه وسلم تزوج الكتابيات بلة المشركات، وحكى إمام الحرمين في ذلك خلافا. قال أبن العربي: والصحيح عندي تحريمها عليه. وبهذا يتميز علينا، فأن ما كان من جانب الفضائل والكرامة فحضه فيه أكثر وإذا كان لا تحل له من لم تهاجر لنقصانها فضل الهجرة فأخرى أن لا تحل له الكتابية الحرة.
{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} .
جملة معترضة بين جملة {مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وبين قولة {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أو هي حال سببي من المؤمنين، أي حال كونهم قد علمنا ما نفرض عليهم.
والمعنى: أن المؤمنين مستمر ما شرع لهم من قبل في أحكام الزواج وما ملكت أيمانهم، فلا يشملهم ما عين لك من الأحكام الخاصة المشروعة فيما تقدم آنفا، أي قد علمنا أن ما فرضناه عليهم في ذلك هو اللائق بحال عموم الأمة دون ما فرضناه لك خاصة.
و {مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ} موصل وصلته، وتعدية {فَرَضْنَا} بحرف "على" المقتضي للتكليف والإيجاب للإشارة إلى أن من شرائع أزواجهم وما ملكت أيمانهم ما يودون أن يخفف عنك كن عدد الزوجات وإيجاب المهور والنفقات، فإذا سمعوا ما خص به النبيء صلى الله عليه وسلم من التوسعة في تلك الأحكام ودوا أن يلحقوا به في ذلك فسجل الله عليهم أنهم باقون على ما سبق شرعة لهم في ذلك. والإخبار بأن الله قد علم ذلك كناية عن بقاء تلك الإحكام لأن معناه أنا لم نفعل عن ذلك، أي لك نبطله بل عن علم خصصنا نبينا بما خصصناه به في ذلك الشأن، فلا يشمل ما أحللناه له بقية المؤمنين.
وظرفية {فِي} مجازية لأن المظروف هو الأحكام الشرعية لا ذوات الأزواج وذوات ما ملكته الأيمان.
{لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
تعليل لما شرعه الله تعالى في حق نبيه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة من التوسعة بالازدياد من عدد الأزواج وتزو ج الواهبات أنفسهن دون مهر، وجعل قبول هبتها موكولا لأرادته، وبما أبقى له من مساواته أمته فيما عدى ذلك منت الإباحة فلم يضيق عليه، وهذا تعليم وامتنان.
والحرج: الضيق, والمراد هنا أدنى الحرج ما في التكليف من بعض الحرج الذي لا تخلوا عنه التكاليف، وأما الحرج القوي فمنفي عنه وعن أمته. ومراتب الحرج متفاوتة، ومناط ما ينفى عن الأمة منها وما لا ينفى، وتقديرات أحوال انتفاء بعضها للضرورة هو ميزان التكليف الشرعي فالله أعلم بمراتبها واعلم بمقدار تحرج عباده وذلك مبين في مسائل العزيمة والرخصة من علم الأصول، وقد حرر ملاكه شهاب الدين القرافي في الفرق الرابع عشر من كتابه "أنواء البروق". وقد أشبعنا القول في تحقيق ذلك في كتابنا
المسمى "مقاصد الشريعة الإسلامية".
واعلم أن النبيء صلى الله عليه وسلم سلك في الأخذ بهذه التوسعات التي رفع الله بها قدره مسلك الكمال من عباده وهو أكملهم فلم ينتفع لنفسه بشيء منها فكان عبدا شكورا كما قال في حديث استغفاره ربه في اليوم استغفارا كثيرا.
والتذييل بجملة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} تذييل لما شرعه من الأحكام للنبيء صلى الله عليه وسلم لا للجملة المتعرضة، أي أن ما أردناه من نفي الحرج عنك هو من متعلقات صفتي الغفران والرحمة اللتين هما من تعلقات الإرادة والعلم فهما ناشئان عن صفات الذات، فلذلك جعل اتصاف الله بهما أمرا متمكنا بما دل عليه فعل {كَانَ} المشي إلى السابقية والرسوخ كما علمته في مواضع كثيرة.
[51] {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً}.
{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} .
استئناف بياني ناشئ عن قولة {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} [الأحزاب: 50] فإنه يثير في النفس تطلبا لبيان مدى هذا التحليل. والجملة خبر مستعمل في إنشاء تحليل الإرجاء والإيواء لمن يشاء النبيء صلى الله عليه وسلم.
والإرجاء حقيقته: التأخير إلى وقت مستقبل. يقال: أرجأت الأمر وأرجيته مهموزا ومخففا، إذا أخرته.
وفعله ينصرف إلى الأحوال لا الذوات فإذا عدي فعله إلى أسم ذات تعيين انصرافه إلى وصف من الأوصاف المناسبة والتي تراد منها، فإذا قلت: أرجأت غريمي، كان المراد: أنك أخرت قضاء دينه إلى وقت يأتي.
والإيواء: حقيقة جعل الشيء آويا، أي راجعا إلى مكانه. يقال: آوى ،إذا رجع حيث فارق، وهو هنا مجاز في مطلق الاستقرار سواء كان بعد إبعاد أم بدونه، وسواء كان بعد سيق استقرار بالمكان أم لم يكن.
ومقابلة الإرجاء بالإيواء تقتضي أن الإرجاء مراد منه ضد الإيواء أو أن الإيواء ضد
الإرجاء وبذلك تنشأ احتمالات في المراد من الإرجاء والإيواء صريحهما وكنايتهما.
فضمير {مِنْهُنَّ} عائد إلى النساء المذكورات ممن هن في عصمته ومن أحل الله له نكاحهن غيرهن من بنات عمه وعماته وخله وخالاته، والواهبات أنفسهن فتلك أربعة أصناف:
الصنف الأول: وهن اللآء في عصمة النبيء عليه الصلاة والسلام فهن متصلن به فإرجاء هذا الصنف يتصرف إلى تأخير الاستماع إلى وقت مستقبل يريده والإيواء ضده. فيتعين أن يكون الإرجاء منصرفا إلى القسم فوسع الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن أباح له أن يسقط حق بعض نسائه في المبيت معهن فصار حق المبيت حقا له لا لهن بخلاف بقية المسلمين،و على هذا جرى قول مجاهد وقتادة وأبي رزين قاله الطبري.
وقد كانت إحدى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم أسقطت عنه حقها في المبيت وهي سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبيء صلى الله عليه وسلم يقسم لعائشة بيومها ويوم سودة وكان ذلك قبل نزول هذه الآية ولما نزلت هذه الآية صار النبيء عليه الصلاة و السلام مخيرا في القسم لأزواجه.وهذا قول الجمهور، قال أبو بكر بن العربي: وهو الذي ينبغي أن يعول عليه.وهذا تخيير للنبيء صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يأخذ لنفسه به تكرما منه على أزواجه. قال الزهري. ما علمنا أن رسول الله أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن. قال أبو بكر بن العربي: وهو المعنى المراد. وقال أبو رزين العقيلي1: أرجأ ميمونة وسودة وجويرية وأم حبيبة وصفية، فكان يقسم لهن ما شاء، أي دون مساواة لبقية أزواجه. وضعفه ابن العربي.
وفسر الإرجاء بمعنى التطليق، والإيواء بمعنى الإبقاء في العصمة، فيكون إذنا له بتطليق من يشاء تطليقها وإطلاق الإرجاء على التطليق غريب.
وقد ذكروا أقوالا أخر و أخبارا في سبب النزول لم تصح أسانيدها فهي آراء لا يوثق بها. ويشمل الإرجاء الصنف الثاني وهن ما ملكت يمينه وهو حكم أصلي إذ لا يجب للإماء عدل في المعاشرة ولا في المبيت.
ويشمل الإرجاء الصنف الثالث وهن: بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته،فالإرجاء تأخير تزوج من يحل منهن، والإيواء العقد على إحداهن،والنبيء صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 أبو رزين بفتح الراء اسمه: لقيط. ويقال له العقيلي أو العامري وهو من بني المنتفق. وله صحبة.
لم يتزوج واحدة بعد نزول هذه الآية،وذلك إرجاء العمل بالإذن فيهن إلى غير أجل معين.
وكذلك إرجاء الصنف الرابع اللآء وهبن أنفسهن، سواء كان ذلك واقعا بعد نزول الآية أم كان بعضه بعد نزولها فإرجاؤهن عدم قبول نكاح الواهبة، عبر عنه الإرجاء إبقاء على أملها أن يقبلها في المستقبل، وإيوائهن قبول هبتهن.
قرأ نافع وحمزة و الكسائي وحفص عن عاصم وأبو جعفر وخلف {تُرْجِي} بالياء التحتية في آخره مخفف "ترجئ" المهموز. وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب {تُرْجِي} بالهمز في آخره. وقال الزجاج: الهمز أجود وأكثر. والمعنى واحد.
واتفق الرواة على أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يستعمل مع أزواجه ما أبيح له أخذا منه بأفضل الأخلاق، فكان يعدل في القسم بين نسائه إلا أن سودة وهبت يومها لعائشة طلبا لمسرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: {وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} فهذا لبيان أن هذا التخيير لا يوجب استمرار ما أخذ به من الطرفين المخير بينهما، أي لا يكون عمله بالعزل لازم الدوام بمنزلة الظهار والإيلاء، بل أذن الله أن يرجع إلى من يعزلها منهن،فصرح هنا الإرجاء شامل للعزل.
ففي الكلام جملة مقدرة دل عليها قوله: {ابْتَغَيْتَ} إذ هو يقتضي أنه ابتغى إبطال عزلها فمفعول {ابْتَغَيْتَ} محذوف دل عليه قوله: {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} كما هو مقتضى المقابلة بقوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} ، فإن العزل والإرجاء مؤداهما واحد.
والمعنى: فإن عزلت بالإرجاء إحداهن فليس العزل بواجب استمراره بل لك أن تعيدها إن ابتغيت العود إليها،أي فليس هذا كتخيير الرجل زوجه فتختار نفسها المقتضي أنها تبين منه. و متعلق الجناح محذوف دل عليه قوله: {ابْتَغَيْتَ} أي ابتغيت إيوائها فلا جناح عليك من إيوائها.
و{مَنْ} يجوز أن تكون شرطية وجملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} جواب الشرط.و يجوز أن تكون موصولة مبتدأ فإن الموصول يعامل معاملة الشرط في كلامهم بكثرة إذا قصد منه العموم فلذلك يقترن خبر الموصول العام بالفاء كثيرا كقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، وعليه فجملة {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} خبر المبتدأ اقتران بالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ومفعول {عَزَلْتَ} محذوف عائد إلى {مَنْ} أي التي ابتغيتها ممن عزلتهن وهو من حذف العائد المنصوب.
{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً}
الإشارة إلى شيء مما تقدم و هو أقربه،فيجوز أن تكون الإشارة إلى معنى التفويض المستفاد من قوله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى الابتغاء المتضمن له فعل {ابْتَغَيْتَ} أي فلا جناح عليك في ابتغائهن بعد عزلهن ذلك أدنى لأن تقرأ أعينهن.والابتغاء: الرغبة والطلب، والمراد هنا ابتغاء معاشرة من عزلهن.
فعلى الأول يكون المعنى أن في هذا التفويض جعل الحق في اختيار أحد الأمرين بيد النبيء صلى الله عليه وسلم ولم يبقى حقا لهن فإذا عين لإحداهن حالة من الحالين رضيته به لأنه يجعل الله تعالى على حكم قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36] فقرت أعين جميعهن بما عينت لكل واحدة لأن الذي يعلم أنه لاحق له في شيء كان راضيا بما أوتي منه، وإن علم أن له حقا حسب إنما يؤتاه أقل من حقه وبالغ في استيفائه. وهذا التفسير مروي عن قتاده وتبعه الزمخشري وأبن العربي والقرطبي وابن عطية، وهذا يلائم قوله: {وَيَرْضَيْنَ} ولا يلائم قوله: {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنّ} لأن قرة العين إنما تكون بالأمر المحبوب، وقوله: {وَلا يَحْزَنَّ} لأن الحزن من الأمر المكدر ليس باختياري كما قال النبيء صلى الله عليه وسلم: "فلا تلمني فيما لا أملك" .
وعلى الوجه الثاني يكون المعنى: ذلك الابتغاء بعد العزل أقرب لأن تقر أعين اللاتي كنت عزلتهن. ففي هذا الوجه ترغيب للنبيء صلى الله عليه وسلم في اختيار عدم عزلهن عن القسم وهو المناسب لقوله: {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ} كما علمت آنفا، ولقوله: "ويرضين كلهن"، ولما فيما ذكر من الحسنات الوافرة التي يرغب النبيء صلى الله عليه وسلم في تحصيلها لا محالة وهي إدخال المسرة على المسلم وحصول الرضا بين المسلمين مما يعزز الاخوة الإسلامية المرغوب فيها. ونقل قريب من هذا المعنى عن ابن عباس ومجاهد واختاره أبو علي الجبائي وهو الأرجح لأن قرة العين لا تحصل على مضض ولأن الحط في الحق يوجب الكدر. ويؤده أن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يأخذ إلا به ولم يحفظ عنه أنه آثر إحدى أزواجه
بليلى سوى ليلة سودة التي وهبتها لعائشه أستمر ذلك إلى وفاته صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في الصحيح أنه كان في مرضه الذي توفي فيه يطاف به كل يوم على بيوت أزواجه وكان مبدأ شكواه في بيت ميمونة إلى أن جاءت نوبه ليلة عائشة فأذن له أزواجه أن يمرض في بيتها رفقا به.
وروى عنه صلى الله عليه وسلم انه قال حين قسم لهن "اللهم هذه قسمتي فيما أملك فلا تلمني فيما لا املك" , ولعل ذلك كان قبل نزول التفويض إليه بهذه الآية.
وفي قوله: {وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} إشارة إلى أن المراد الرضا الذي يتساوين فيه وإلا لم يكن للتأكيد بـ {كُلُّهُنَّ} نكتة زائدة فالجمع بين ضميرهن في قوله: {كُلُّهُنَّ} يومئ إلى رضا متساو بينهن.
وضميرا {أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ} عائده إلى "من" في قوله: {مِمَّنْ عَزَلْتَ} . وذكر {وَلا يَحْزَنَّ} بعد ذكر {أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ} مع ما في قرة العين من تضمن معنى انتفاء الحزن بالإيماء إلى ترغيب النبيء صلى الله عليه وسلم في ابتغاء بقاء جميع نسائه في مواصلته لأن في عزل بعضهن حزنا للمعزولات وهو بالمؤمنين رؤوف لا يحب أن يحزن أحدا.
و {كُلُّهُنَّ} توكيد لضمير {يَرْضَيْنَ} أو يتنازعه الضمائر كلها.
والإيتاء: الإعطاء، وغلب على إعطاء الخير إذا لم يذكر مفعوله الثاني أو ذكر غير معين كقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]، فإذا ذكر مفعوله الثاني فالغالب أنه ليس بسوء. ولا أره يستعمل في إعطاء السوء فلا تقول: آتاه سجنا وآتاه ضربا، إلا في مقام التهكم أو المشاكلة، فما هنا من القبيل الأول، ولهذا يبعد تفسيره بأنهن ترضين بما أذن الله فيما لرسوله من عزلهن وإرجائهن. وتوجيهه في "الكشاف" تكلف.
والتذييل بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً} كلام جامع لمعنى الترغيب والتحذير ففيه ترغيب للنبيء صلى الله عليه وسلم في الإحسان أزواجه وإمائه والمتعرضات للتزوج به، وتحذير لهن من إضمار عدم الرضا بما يلقينه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي إجراء صفتي {عَلِيماً حَلِيماً} على اسم الجلالة إيماء إلى ذلك فمناسبة صفة العلم لقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} ظاهرة, و مناسبة صفة الحليم باعتبار أن المقصود ترغيب الرسول صلى الله عليه وسلم في أليق الأحوال بصفة الحليم لأن همه صلى الله عليه وسلم التخليق بخلق الله
تعالى وقد أجرى الله عليه صفات من صفاته مثل رؤوف رحيم ومثل شاهد. وقالت عائشة رضي الله عنها: ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا أختار أيسرهما ما لم يكن إثما. ولهذا لم يأخذ رسول الله بهذا التخير في النساء اللاتي كن في معاشرته وأخذ به في الواهبات أنفسهن مع الإحسان إليهن بالقول والبذل فأن الله كتب الإحسان على كل شيء. وأخذ به في ترك التزوج من بنات عمه وعماته وخاله وخالاته لأن ذلك لا حرج فيه عليهن.
[52] {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} .
موقع هذه الآية في المصحف عقب التي قبلها يدل على أنها كذلك نزلت وأن الكلام متصل بعضه ببعض ومنتظم هذا النظم البديع، على أن حذف ما أضيفت إليه {بَعْدُ} ينادي على أنه حذف معلوم دل عليه الكلام السابق فتأخرها في النزول عن الآيات التي قبلها وكونها متصلة بها وتتمة لها مما لا ينبغي أن يتردد فيه، فتقدير المضاف إليه المحذوف لا يخلو: إما أن يؤخذ من ذكر الأصناف قبلة، أي من بعد الأصناف المذكورة بقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} [الأحزاب: 50] الخ. وإما أن يكون مما يقتضيه الكلام من الزمان، أي من بعد هذا الوقت، والأول الراجح.
و {بَعْدُ} يجوز أن يكون بمعنى "غير" كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] وهو استعمال كثير في اللغة، وعليه فلا ناسخ لهذه الآية من القرآن ولا هي ناسخة لغيرها، ومما يؤيد هذا المعنى التعبير بلفظ الأزواج في قوله: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي غيرهن وعلى هذا المحمل حمل الآية ابن عباس فقد روى الترمذي عنه قال: "نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات" فقال: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} فأحل الله المملوكات المؤمنات {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا للنبيء} [الأحزاب: 50]. ومثل هذا مروي عن أبي بن كعب وعكرمة والضحاك. ويجوز أن يكون {بَعْدُ} مراد به الشيء المتأخر عن غيره وذلك حقيقة معنى البعدية فيتعين تقدير لفظ يدل على شيء سابق.
وبناء {بَعْدُ} على الضم يقتضي تقدير كضاف إليه محذوف يدل عليه الكلام السابق
على ما درج عليه ابن مالك في الخلاصة وحققه ابن هشام في "شرحه على قطر الندى" ، فيجوز أن يكون التقدير: من بعد من ذكرن على الوجهين في معنى البعدية فيقدر: من غير من ذكرن، أو يقدر من بعد من ذكرن،فتنشأ احتمالات أن يكون المراد أصناف من ذكرن أو أعداد من ذكرن "وكن تسعا"، أو من اخترتهن.
ويجوز أن يقدر المضاف إليه وقتا، أي بعد اليوم أو الساعة، أي الوقت الذي نزلت فيه الآية فيكون نسخا لقوله: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَك} إلى قوله: {خَالِصَةً لَكَ} [الأحزاب: 50].
وأما ما رواه الترمذي عن عائشة أنها قالت: "ما مات رسول الله حتى أحل الله له النساء". وقال حديث حسن. "وهو مقتض أن هذه الآية منسوخة" فهو يقتضي أن ناسخها من السنة لا من القرآن لأن قولها: ما مات، يؤذن بأن ذلك كان آخر حياته فلا تكون هذه الآية التي نزلت مع سورتها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بخمس سنين ناسخه للإباحة التي عنتها عائشة فالإباحة إباحة تكريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى الطحاوي مثل حديث عائشة عن أم سلمة.
و {النِّسَاءُ} : إذ أطلق في مثل هذا المقام غلب في معنى الأزواج، أي الحرائر دون الإماء كما قال النابغة:
حذارا على أن لا تنال مقادتي ... ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
أي لا تحل لك الأزواج من بعد من ذكرن.
وقوله: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ} أصلة: تتبدل بتاءين حذفت إحداهما تخفيفا، يقال: بدل وتبدل، ومادة البل تقتضي شيئين: يعطي أحدهما عوضا عن أخذ الآخر فالتبديل يتعدى إلى الشيء المأخوذ بنفسه وإلى الشيء المعطى بالباء أو بحرف {مِنْ} ، وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} في سورة البقرة [108].
والمعنى: أن من حصلت في عصمتك من الأصناف المذكورة لا يحل لك أن تطلقها، فكني بالتبديل عن الطلاق لأنه لازمه في العرف الغالب لأن المرء لا يطلق إلا وهو يعتاض عن المطلقة امرأة أخرى، وهذه الكناية متعينة هنا لأنه لو أريد صريح التبدل لخالف آخر الآية أولها وسابقتها فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أحلت له الزيادة على النساء اللاتي
عنده إذا كانت المزيدة من الأصناف الثلاثة السابقة وحرم عليه ما عداهن، فإذا كانت المستبدلة إحدى نساء من الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرم علية استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف الثلاثة لم يستقم أن يحرم عليه استبدال واحدة منهن بعينها لأن تحريم ذلك ينافي إباحة الأصناف ولا قائل بالنسخ في الآيتين، وإذا كانت المستبدلة من غير الأصناف الثلاثة كان تحريمها عاما في سائر الأحوال فلا محصول لتحريمها في خصوص حال إبدالها في غيرها فتمحض أن يكون الاستبدال مكنى به عن الطلاق وملاحظا فيه نية الاستبدال. فالمعنى أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبيحت له الزيادة على النساء اللاتي حصلن في عصمته أو يحصلن من الأصناف الثلاثة ولم يبح له تعويض قديمة بحادثة.
والمعنى: ولا أن تطلق امرأة منهن تريد بطلاقها أن تتبدل بها زوجا أخرى.
وضمير {بِهِنَّ} عائد إلى ما أضيف إليه {بَعْدُ} المقدر وهن الأنصاف الثلاثة.
والمعنى: ولا أن تبدل بامرأة حصلت في عصمتك أو ستحصل امرأة غيرها.
فالباء داخلة على المفارقة.
و {مِنْ} مزيدة على المفعول الثاني لـ {تَبَدَّلَ} لقصد إفادة العموم. والتقدير: ولا أن تبدل بهن أزواجا آخر، فأختص هذا الكلام بالأزواج من الأصناف الثلاثة وبقيت السراري خارجة بقوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} . وأما التي تهب نفسها فهي إن أراد النبيء صلى الله عليه وسلم أن ينكحها فقد انتظمت في سلك الزواج، فشملها حكمهن، وإن لم يرد أن ينكحها فقد بقيت أجنبية لا تدخل في تلك الأصناف.
وقرأ الجمهور {لا يَحِلُّ} بياء تحتية على اعتبار التذكير لأن فاعله جمع غير صحيح فيجوز فيه اعتبار الأصل. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بفوقية على اعتبار التأنيث بتأويل الجماعة وهما وجهان في الجمع غير السالم.
وجملة {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} في موضع الحال والواو واوه، وهي حال من ضمير {تَبَدَّلَ} . و {لَوْ} للشرط المقطوع بانتفائه وهي للفرض والتقدير. وتسمى وصلية، فتدل على انتفاء ما هو دون المشروط بالأولى، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في آل عمران [91].
والمعنى: لا يحل لك النساء من بعد بزيادة على نسائك وبتعويض إحداهن بجديدة في كل حلة حتى في حالة إعجاب حسنهن إياك.
وفي هذا إيذان بأن الله لما أباح لرسوله الأصناف الثلاثة أراد اللطف له وأن لا يناكد رغبته إذا أعجبته امرأة لكنه حدد له أصنافا معينة وفيهن غناء.
وقد عبرة عن هذا المعنى عائشة رضي الله عنها بعبارة شيقة إذ قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم: ما أرى ربك إلا يسارع في هواك.وأكدت هذه المبالغة بالتذييل من قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً} أي علما بجري كل شيء على نحو ما حدده أو على خلافه، فهو يجازي على حسب ذلك. وهذا وعد النبيء صلى الله عليه وسلم بثواب عظيم على ما حدد له من هذا الحكم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} منقطع. والمعنى: لكن ما ملكت يمينك حلال في كل حال. والمقصود من هذا الاستدراك دفع توهم أن يكون المراد من لفظ {النِّسَاءُ} في قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ} ما يرادف لفظ الإناث دون استعماله العرفي بمعنى الأزواج كما تقدم.
[53] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ}.
لما بين الله في الآيات السابقة آداب النبيء صلى الله عليه وسلم مع أزواجه فقاه في هذه الآية بآداب الأمة معهن، و صدر بالإشارة إلى قصة هي سبب نزول هذه الآية.وهي ما في "صحيح البخاري" و غيره عن أنس بن مالك قال: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب ابنة جحش صنع طعاما بخبز ولحم ودعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأى ذلك قام فلما قام قام من قام وقعد ثلاثة نفر، فجاء النبيء ليدخل فإذا القوم جلوس، فجعل النبيء صلى الله عليه وسلم يخرج ثم يرجع فانطلق إلى حجرة عائشة... فتقرى حجر
نسائه كلهن يسلم عليهن ويسلمن عليه ويدعون له، ثم إنهم قاموا فانطلقت فجئت فأخبرت النبيء صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل فذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء} إلى قوله: {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} .
وفي حديث آخر في الصحيح عن أنس أيضا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له: "يا رسول الله يدخل عليك البر و الفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب"، فأنزل الله آية الحجاب. وليس بين الخبرين تعارض لجواز أن يكون قول عمر كان قبل البناء بزينب بقليل ثم عقبته قصة وليمة زينب فنزلت الآية بإثرها.
وابتدئ شرع الحجاب بالنهي عن دخول بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم إلا لطعام دعاهم إليه لأن النبيء عليه الصلاة و السلام له مجلس يجلس في المسجد فمن كان له مهم عنده يأتيه هنالك.
وليس ذكر الدعوة إلى طعام تقييدا لإباحة دخول بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم لا يدخلها إلا المدعو إلى طعام و لكنه مثال للدعوة و تخصيص بالذكر كما جرى في القضية التي هي سبب النزول فيلحق به كل دعوة تكون من النبيء صلى الله عليه وسلم وكل إذن منه بالدخول إلى بيته لغير قصد أن يطعم معه كما كان يقع ذلك كثيرا. ومن ذلك قصة أبي هريرة حين استقرأ من عمر آية من القرآن وهو يطمع أن يدعوه عمر إلى الغداء ففتح عليه الآية فإذا رسول الله قائم على رأس أبي هريرة وقد عرف ما به فانطلق به إلى بيته و أمر له بعس من لبن ثم ثان ثم ثالث، وإنما ذكر الطعام إدماجا لتبيين آدابه، ولذلك ابتدئ بقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} مع إنه لم يقع مثله في قصة سبب النزول.
وقرأ الجمهور {بُيُوتَ} بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء، وقد تقدم في سورة النساء وغيرها.
و {إِنَاهُ} بكسر الهمزة و بالقصر: إما مصدر أنى الشيء إذا حان، يقال: أنى يأني قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16].و مقلوبه: آن. وهو بمعناه. والمعنى: غير منتظرين حضور الطعام، أي غير سابقين إلى البيوت و قبل تهيئته.
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} استثناء من عموم الأحوال التي يقتضيها الدخول المنهي عنه،أي إلا حال أن يؤذن لكم.
وضمن {يُؤْذَنَ} معنى تدعون فعدي بـ {إِلَى} فكأنه قيل: إلا أن تدعوا إلى طعام فيؤذن لكم لأن الطفيلي قد يؤذن له إذا استأذن وهو غير مدعو فهي حالة غير مقصودة من الكلام.
فالكلام متضمن شرطين هما: الدعوة، والإذن،فإن الدعوة قد تتقدم على الإذن وقد يقترنان كما في حديث أنس بن مالك.
و {غَيْرَ نَاظِرِينَ} حال من ضمير {لَكُمْ} فهو قيد في متعلق المستثنى فيكون قيدا في قيد فصارت القيود المشروطة ثلاثة.
و {نَاظِرِينَ} اسم فاعل من نظر بمعنى انتظر،كقوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ} [يونس: 102] الآية.
ومعنى ذلك: لا تحضروا البيوت للطعام قبل تهيئة الطعام للتناول فتقعدوا تنتظرون نضجه. وعن ابن عباس نزلت في ناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبيء فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثم يأكلون ولا يخرجون ا هـ. وقد يقتضي أن ذلك تكرر قبل قضية النفر الذين وليمة البناء بزينب فتكون تلك القضية خاتمة القضايا، فكني بالانتظار عن مبادرة الحضور قبل إبان الأكل. ونكتة هذه الكناية تشويه السبق بالحضور بجعله نهما وجشعا وإن كانوا قد يحضرون لغير ذلك، وبهذا تعلم أن ليس النهي متوجها إلى صريح الانتظار.
وموقع الاستدراك لرفع توهم أن التأخر عن إبان الطعام أفضل فأرشد الناس إلى أن تأخر الحضور عن إبان الطعام لا ينبغي بل التأخر ليس من الأدب لأنه يجعل صاحب الطعام في انتظار،وكذلك البقاء بعد انقضاء الطعام فإنه تجاوز لحد الدعوة لأن الدعوة لحضور شيء تقتضي مفارقة المكان عند انتهائه لأن تقييد الدعوة بالغرض المخصوص يتضمن تحديدها بانتهاء ما دعي لأجله، وكذلك الشأن في كل دخول لغرض من مشاورة أو محادثة أو سمر أو نحو ذلك وكل ذلك يتحدد بالعرف وما لا يثقل على صاحب المحل، فإن كان محل لا يختص به أحد كدار الشورى والنادي فلا تحديد فيه.
و {طَعِمْتُمْ} معناه أكلتم، يقال: طعم فلان فهو طاعم، إذا أكل.
والانتشار: افتعال من النشر، وهو إبداء ما كان مطويا، أطلق على الخروج مجازا وتقدم في قوله: {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} في سورة الفرقان [47].
والواو في {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ} عطف على {نَاظِرِينَ} وما بينهما من الاستدراك وما تفرع عليه اعتراض بين المتعاطفين. وزيادة حرف النفي قبل {مُسْتَأْنِسِينَ} لتأكيد النفي كما هو الغالب في العطف على المنفي وفي تصدير المنفي نحو قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] الآية وقوله: {لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] ثم قوله: {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات: 11].
والاستئناس: طلب الأنس مع الغير. واللام في {لِحَدِيثٍ} للعلة، أي ولا مستأنسين لأجل حديث يجري بينكم.
والحديث: الخبر عن أمر حدث، فهو في الأصل صفة حذف موصوفها ثم غلبت على معنى الموصوف فصار بمعنى الإخبار عن أمر حدث، وتوسع فيه فصار الإخبار عن شيء ولو كان أمرا قد مضى. ومنه سمي ما يروى عن النبيء صلى الله عليه وسلم حديثا كما يسمى خبرا، ثم توسع فيه فصار يطلق على كلام يجري بين الجلساء في جد أو فكاهة، و منه قولهم: حديث خرافة، وقول كثير:
أخذنا باكتراث الأحاديث تبيينا ... .... البيت
واستئناس الحديث: تسمعه والعناية بالإصغاء، قال النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا ... يوم الجليل على مستأنس وحد
أي كأني راكب ثورا وحشيا منفردا تسمع صوت الصائد فأسرع الهروب.
وإضافة {بُيُوتَ النبيء} على معنى لام الملك لأن تلك البيوت ملك له ملكها بالعطية من الذين كانت ساحة المسجد ملكا لهم من الأنصار، و بالفيء لقبور المشركين التي كانت ثمة، فإن المدينة فتحت بكلمة الإسلام فأصبحت دارا للمسلمين. ومصير تلك البيوت بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم مصير تركته كلها فإنه لا يورث وما تركته ينتفع منه أزواجه وآله بكفايتهم حياتهم ثم يرجع ذلك للمسلمين كما قضى به عمر بين علي والعباس فيما كان للنبيء صلى الله عليه وسلم من فدك ونخل بني النضير، فكان لأزواج النبيء صلى الله عليه وسلم حق السكنى في بيوتهن بعده حتى توفاهن الله من عند آخرتهن، فلذلك أدخلها الخلفاء في المسجد حين توسعته في زمن الوليد ابن عبد الملك وأمير المدينة يومئذ عمر بن عبد العزيز. ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ولم يعط ورثتهن شيئا ولا سألوه. وإضافتها إلى ضميرهن في قوله: {مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنّ} [الأحزاب: 34] على معنى لام الاختصاص لا لام الملك.
قال حماد بن زيد و إسماعيل بن أبي حكيم: هذه الآية أدب أدب الله به الثقلاء. وقال ابن أبي عائشة: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ومعنى الثقل فيه هو إدخال أحد القلق والغم على غيره من جراء عمل لفائدة العامل أو لعدم الشعور بما يلحق غيره من الحرج من جراء ذلك العمل. وهو من مساوي الخلق لأنه إن كان من عمد كان ضرا بالناس وهو منهي عنه لأنه من الأذى وهو ذريعة للتباغض عند نفاذ صبر المضرور فإن النفوس متفاوتة في مقدار تحمل الأذى،ولأن المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه فعليه إذا أحس بان قولة أو فعله يدخل الغم على غيره أن يكف عن ذلك ولو كان يجتني منه منفعة لنفسه إذ لا يضر بأحد لينتفع غيره إلا أن يكون لمن يأتي بالعمل حق على الآخر فإن له طلبه مع أن مأمور بحسن التقاضي، وإن كان إدخاله الغم على غيره عن غباوة وقلة تفطن له فإن مذموم في ذاته وهو يصل إلى حد يكون الشعور به بديهيا.
وللحكماء والشعراء أقوال كثيرة في الثقلاء طفحت بها كتب أدب الأخلاق.
ومعاملة الناس النبيء صلى الله عليه وسلم بهذا الخلق أشد بعدا عن الأدب لأن للنبيء صلى الله عليه وسلم أوقاتا لا تخلو ساعة منها عن الاشتغال بصلاح الأمة ويجب أن لا يشغل أحد أوقاته إلا بأذنه،ولذلك قال تعالى {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} .
والأمر في قوله: {فَادْخُلُوا} للندب لأن إجابة الدعوة إلى الوليمة سنة، وتقييد النهي بقوله: {غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} للتنزيه لأن الحضور قبل تهيؤ الطعام غير مقتضى للدعوة ولا يتضمنه الإذن فهو تطفل.
والأمر في قوله: {فَانْتَشِرُوا} للوجوب لأن دخول المنزل بغير إذن حرام، وأنما جاز بمقتضى الدعوة للأكل فهو إذن مقيد المعنى بالغرض المأذون لأجله فإذا انقضى السبب المبيح للدخول عاد تحريم الدخول إلى أصله، إلا أنه نظري قد يغفل عنه لأن أصله مأذون فيه والمأذون فيه شرعا لا يتقيد بالسلامة إلا إذا تجاوز الحد المعروف تجاوزا بينا. وعطف {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} راجع إلى هذا الأمر بقوله: {فَانْتَشِرُوا} فلذلك ذكر عقبه فإن استدامة المكث في معنى الدخول، فذكر بإثارة وحصل تفنن في الكلام.
وفي هذه الآية دليل على أن طعام الوليمة وطعام الضيافة ملك للمتضيف وليس ملكا للمدعوين ولا للأضياف لأنهم إنما أذن لهم في الأكل منه خاصة ولم يملكوه فلذلك لا
يجوز لأحد رفع شيء من ذلك الطعام معه.
وجملة {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} استئناف ابتدائي للتحذير ودفع الاغترار بسكوت النبيء صلى الله عليه وسلم أن يحسبوه رضي بما فعلوا. فمناط التحذير قوله: {ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء} فإن أذى النبيء صلى الله عليه وسلم مقرر في نفوسهم أنه عمل مذموم لأن النبيء عليه الصلاة و السلام أعز خلق في نفوس المؤمنين وذلك يقتضي التحرز مما يؤذيه أدنى أذى. ومناط دفع الاغترار قوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} فإن السكوت قد يظنه الناس رضى وإذنا وربما تطرق إلى أذهان بعضهم أن جلوسهم لو كان محظورا لما سكت عليه النبيء صلى الله عليه وسلم فأرشد الله إلى أن السكوت الناشئ عن سبب هو سكوت لا دلالة له على الرضى وأنه إنما سكت حياء من مباشرتهم بالإخراج فهو استحياء خاص من عمل خاص. وإنما كان ذلك مؤذيا النبيء صلى الله عليه وسلم لأن فيه ما يحول بينه وبين التفرغ لشؤون النبوة من تلقي الوحي أو العبادة أو تدبير أمر الأمة أو التأخر عن الجلوس في مجلسه لنفع المسلمين ولشؤون ذاته وبينه و أهله.واقتران الخبر بحرف {إِنَّ} للاهتمام به. ولك أن تجعله من تنزيل غير المتردد لأن حال النفر الذين أطالوا الجلوس والحديث في بيت النبيء عليه الصلاة والسلام وعدم شعورهم بكراهيته ذلك منهم حين دخل البيت فلما وجدهم خرج، فغفلوا عما في خروج النبيء صلى الله عليه وسلم من البيت من إشارة إلى كراهيته بقاءهم. تلك حالة من يظن ذلك مأذونا فيه فخوطبوا بهذا الخطاب تشديدا في التحذير واستفاقة من التغرير.
وإقحام فعل {كَانَ} لإفادة تحقيق الخبر.
وصيغ {يُؤْذِي} بصيغة المضارع دون اسم الفاعل لقصد إفادة أذى متكرر،والتكرير كناية عن الشدة.
والأذى: ما يكدر مفعوله ويسيء من قول أو فعل. وتقدم في قوله تعالى {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} في آل عمران [111]، وهو مراتب متفاوتة في أنواعه.
والتفريع في قوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} تفريع على مقدر دلت عليه القصة. والتقدير: فيهم بإخراجكم فيستحيي منكم إذ ليس الاستحياء مفرعا على الإيذاء ولا هو من لوازمه.
ودخول {مِنَ} المتعلقة بـ {يَسْتَحْيِي} على ضمير المخاطبين على تقدير مضاف،أي يستحيي من إعلامكم بأنه يؤذيه.
وتعدية المشتقات من مادة الحياء إلى الذوات شائع يساوي الحقيقة لأن الاستحياء
يختلف باختلاف الذوات، فقولك: أردت أن أفعل كذا فاستحيت من فلان، يجوز أن تكون الحقيقة هي التعليق بذات فلان وأن تكون هي التعليق بالأحوال الملابسة له التي هي سبب الاستحياء لأجل ملابستها له. ولك أن تقول: استحييت أن أفعل كذا بمرأى فلان. وعلى التقدير الأول تكون {مِنْ} للتعليل، وعلى التقدير الثاني تكون {مِنْ} للابتداء. وظاهر كلام "الكشاف" يقتضي أن: استحييت من فلان مجاز أو توسع، وأن: استحييت من فعل كذا لأجل فلان هو الحقيقة. وظاهر كلام صاحب "الكشاف" عكس ذلك والأمر هين.
وصيغ فعل {يَسْتَحْيِي} بصيغة المضارع لأنه مفرع على {يُؤْذِي النبيء} ليدل على ما دل عليه المفرع هو عليه.
وفي هذه الآية دليل على أن سكوت النبيء صلى الله عليه وسلم على الفعل الواقع بحضرته إذا كان تعديا على حق لذاته لا يدل سكوته فيه على جواز الفعل لأن له أن يسامح في حقه، ولكن يؤخذ الحظر أو الإباحة في مثله من أدلة أخرى مثل قوله تعالى هنا: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء} ولذلك جزم علماؤنا بأن من آذى النبيء صلى الله عليه وسلم بالصراحة أو الالتزام يعزر على ذلك بحسب مرتبة الأذى والقصد إليه بعد توقيفه على الخفي منه وعدم التوبة مما تقبل في مثله التوبة منه. ولم يجعلوا في إعراض النبيء عليه الصلاة والسلام عن مؤاخذة من آذاه في حياته دليلا على مشروعية تسامح الأمة في ذلك لأنه كان له أن يعفو عن حقه لقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [المائدة: 13] وقوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. فهذا ملاك الجمع بين الإيذاء والاستحياء والحق في هذه الآية،تولى الله تعالى الذب عن حق رسوله وكفاه مؤونة المضض الداعي إليه حياؤه. وقد حقق هذا المعنى وما يحف به القاضي أبو الفضل عياض في تضاعيف القسم الرابع من كتابه "الشفاء" .
فإن قلت: ورد في الحديث عن أنس أن النبيء صلى الله عليه وسلم خرج من البيت ليقوم الثلاثة الذين قعدوا يتحدثون،فلماذا لم يأمرهم بالخروج بدلا من خروجه هو. قلت: لأن خروجه غير صريح في كراهيته جلوسهم لأنه يحتمل أن يكون لغرض آخر، ويحتمل أن يكون لقصد انفضاض المجلس فكان من واجب الألمعية أن يخطر ببالهم أحد الاحتمالين فيتحفزوا للخروج فليس خروجه عنهم بمناف لوصف حيائه صلى الله عليه وسلم.
وجملة {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} معطوفة على جملة {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ}
والمعنى: أن ذلك سوء أدب مع النبيء صلى الله عليه وسلم فإذا كان يستحيي منكم فلا يباشركم بالإنكار ترجيحا منه للعفو عن حقه على المؤاخذة به فإن الله لا يستحيي من الحق لأن أسباب الحياء بين الخلق منتفية عن الخالق سبحانه: {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
وصيغة الجملة المعطوفة على بناء الجملة الاسمية مخالفة للمعطوفة هي عليها فلم يقل: ولا يستحيي الله من الحق،للدلالة على أن هذا الوصف ثابت دائم لله تعالى لأن الحق من صفاته،فانتفاء ما يمنع تبليغه هو أيضا من صفاته لأن كل صفة يجب اتصاف الله بها فإن ضدها يستحيل عليه تعالى.
والتعريف في {الْحَقِّ} تعريف الجنس المراد منه الاستغراق مثل التعريف في {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الفاتحة: 2]. والمعنى: والله لا يستحيي من جميع أفراد جنس الحق.
و {الْحَقِّ} : ضد الباطل.فمنه حق الله وحق الإسلام،وحق الأمة جمعاء في مصالحها وإقامة آدابها،وحق كل فرد من أفراد الأمة فيما هو من منافعه ودفع الضر عنه.
ويشتمل حق النبيء صلى الله عليه وسلم في بيته وأوقاته، وبهذا العموم في الحق صارت الجملة بمنزلة التذييل.
و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الْحَقِّ} ليست مثل {مِنَ} التي في قوله: {فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} لأن {مِنَ} هذه متعنية لكونها للتعليل إذ الحق لا يستحيي من ذاته فمعنى "إن الله لا يستحيي من الحق" أنه لا يستحيي لبيانه وإعلانه.
وقد أفاد قوله: {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} أن من واجبات دين الله على الأمة أن لا يستحيي أحد من الحق الإسلامي في إقامته، وفي معرفته إذا حل به ما يقتضي معرفته،وفي إبلاغه وهو تعليمه،وفي الأخذ به،إلا فيما يرجع إلى الحقوق الخاصة التي يرغب أصحابها في إسقاطها أو التسامح فيها مما لا يغمص حقا راجعا إلى غيره لأن الناس مأمورون بالتخلق بصفات الله تعالى اللائقة بأمثاهم بقدر الإمكان.
وهذا المعنى فهمته أم سليم وأقرها النبيء صلى الله عليه وسلم على فهمها، فقد جاء في الحديث الصحيح: "عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى النبيء فقالت: يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق فهل على المرأة من غسل إذا احتلمت? فقال رسول الله: نعم إذا رأت الماء" . فهي لم تستح في السؤال عن الحق المتعلق بها والنبيء صلى الله عليه وسلم لم يستح في
إخبارها بذلك. ولعلها لم تجد من يسأل لها أو لم تر لزاما أن تستنيب عنها من يسأل لها عن حكم يخص ذاتها. وقد رأى علي ابن أبي طالب الجمع بين طلب الحق وبين الاستحياء، ففي "الموطأ" عن المقداد بن الأسود أن علي بن أبي طالب أمره أن يسأل له رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل إذا دنا من أهله فخرج منه المذي ماذا عليه? قال علي: فإن ابنة رسول الله وأنا أستحيي أن أسأله الحديث.
على أن بين قضية أم سليم وقضية علي تفاوتا من جهات في مقتضى الاستحياء لا تخفى على المتبصر.
واعلم أن في ورود {يُؤْذِي} هنا ما يبطل المثال الذي أورده ابن الأثير في كتاب "المثل السائر" شاهدا على أن الكلمة قد تروق السامع في كلام ثم تكون هي بعينها مكروهة للسامع. وجاء بكلمة {يُؤْذِي} في هذه الآية، ونظيرها "تؤذي" في قول المتنبي:
تلذ له المروءة وهي تؤذي
وزعم أن وجودها في البيت يحط من قدر المعنى الشريف الذي تضمنه البيت وأحال في الجزم بذلك على الطبع السليم، ولا أحسب هذا الحكم إلا غضبا من ابن الأثير لا تسوغه صناعة ولا يشهد به ذوق، ولقد صرف أئمة الأدب همهم إلى بحث شعر المتنبي ونقده فلم يعد عليه أحد منهم هذا منتقدا، مع اعتراف ابن الأثير بأن معنى البيت شريف فلم يبقى له إلا أن يزعم أن كراهة هذا اللفظ فيه راجعة إلى أمر لفظي من الفصاحة، وليس في البيت شيء من الإخلال بالفصاحة وكأنه أراد أن يقفي على قدم الشيخ عبد القاهر فيما ذكر في الفصل الذي جعله ثانيا من كتاب "دلائل الإعجاز" فإن ما انتقده الشيخ في ذلك الفصل من مواقع بعض الكلمات لا يخلو من رجوع نقده إياه إلى أصول الفصاحة أو أصول تناسب معاني الكلمات بعضها مع بعض في نظم الكلام، وشتان ما بين الصنعتين.
{وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} .
عطف على جملة {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء} فهي زيادة بيان للنهي عن دخول البيوت النبوية وتحديد لمقدار الضرورة التي تدعو إلى دخولها أو الوقوف بأبوابها.
وهذه الآية هي شارعة حكم حجاب أمهات المؤمنين، وقد قيل: إنها نزلت في ذي القعدة سنة خمسة.
وضمير {سَأَلْتُمُوهُنَّ} عائد إلى الأزواج المفهوم من ذكر البيوت في قوله: {بُيُوتَ
النبيء} فإن للبيوت رباتهن وزوج الرج هي ربة البيت، قال مرة بن محكان التميمي:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة ... ضمي إليك رجال الحي واغربا
وقد كانوا لا يبنى الرجل بيتا إلا إذا أراد التزوج. وفي حديث ابن عمر: كنت عزبا أبيت في المسجد. ومن أجل ذلك سمو الزفاف بناء. فلا جرم كانت المرأة والبيت متلازمين فدلت البيوت على الأزواج بالالتزام. ونظير هذا قولة تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً عُرُباً أَتْرَاباً لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 34- 38] فإن ذكر الفرش يستلزم أن للفراش امرأة، فلما ذكر البيوت هنا تبادر أن للبيوت ربات.
والمتاع: ما يحتاج إلى الانتفاع به مثل عارية الأواني ونحوها، ومثل سؤال العفاة ويلحق بذلك ما هو أولى بالحكم من سؤال عن الدين أو عن القرآن، وقد كانوا يسألون عائشة عن مسائل الدين.
والحجاب: الستر المرخى على باب البيت.
وكانت الستور مرخاة على أبواب بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم الشارعة إلى المسجد. وقد ورد ما يبين ذلك في حديث الوفاة حين خرج النبيء صلى الله عليه وسلم على الناس وهم في الصلاة فكشف الستر ثم أرخى الستر.
و {مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} متعلق بـ {فَاسْأَلوهُنَّ} فهو قيد في السائل والمسؤول المتعلق ضميراهما بالفعل الذي تعلق به المجرور. و {مِنْ} ابتدائية. والوراء: مكان الخلف وهو مكان نسبي باعتبار المتجه إلى جهة،فوراء الحجاب بالنسبة للمتجهين إليه فالمسؤولية مستقبلة حجابها والسائل من وراء حجابها والعكس.
والإشارة بـ {ذَلِكُمْ} إلى المذكور، أي السؤال المقيد بكونه من وراء حجاب.
واسم التفضيل في قوله: {أَطْهَرُ} مستعمل للزيادة دون التفضيل.
والمعنى: ذلك أقوى طهارة لقلوبكم وقلوبهن فإن قلوب الفريقين طاهرة بالتقوى وتعظيم حرمات الله وحرمة النبيء صلى الله عليه وسلم ولكن لما كانت التقوى لا تصل بهم إلى درجة العصمة أراد الله أن يزيدهم منها بما يكسب المؤمنين مراتب من الحفظ الإلهي من الخواطر الشيطانية بقطع أضعف أسبابها وما يقرب أمهات المؤمنين من مرتبة العصمة الثابتة لزوجهن صلى الله عليه وسلم فإن الطيبات للطيبين بقطع الخواطر الشيطانية بقطع دابرها ولو بالفرض.
وأيضا فأن الناس أوهاما وظنونا سوأى تتفاوت مراتب نفوس الناس فيها صرامة فيها صرامة، ووهنا، ووفاقا وضعفا، كما وقع في قضية الإفك المتقدمة في سورة النور فكان شرع حجاب أمهات المؤمنين قاطعا لكل تقول وإرجاف أو بغير عمد.
ووراء هذه الحكم كلها حكمه أخرى سامية وهي زيادة تقرير أمومتهن للمؤمنين في قلوب المؤمنين التي هي أمومة جعلية شرعية. بحيث أن ذلك المعنى الجعلي الروحي وهو كونهن فلانة أو فلانة فيصبحن غير متصورات إلا بعنوان الأمومة فلا يزال ذلك المعنى الروحي ينمي في النفوس،ولا تزال الصورة الحسية تتضاءل من القوة المدركة حتى يصبح معنى أمهات المؤمنين معنى قريبا في النفوس من حقائق المجردات كالملائكة، وهذه حكمة من حكم الحجاب الذي سنة الناس لملوكهم في القدم ليكون ذلك أدخل لطاعتهم في نفوس الرعية.
وبهذه الآية مع الآية التي تتقدمها من قوله: {يَا نِسَاءَ النبيء لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32] تحقق معنا الحجاب لأمهات المؤمنين المركب من ملازمتهن بيوتهن وعدم ظهور شيء من ذواتهن حتى الوجه والكفين، وهو حجاب خاص بهن لا يجب على غيرهن، وكان المسلمون يقتدون بأمهات المؤمنين ورعا وهم متفاوتون في ذلك على حسب العادات، ولمت أنشد النميري عند الحجاج قوله:
يخمرن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنح الليل معتجرات
قال الحجاج: وهكذا المرأة الحرة المسلمة.
ودل قوله: {لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أن الأمر متوجه لرجال الأمة ولنساء النبيء صلى الله عليه وسلم على السواء. وقد ألحق بأزواج النبيء عليه السلام ببنته فاطمة فلذلك لما خرجوا بجنازتها جعلوا عليها قبة حتى دفنت، وكذلك قبة على زينب بنت جحش في خلافة عمر بن الخطاب.
{وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} .
لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه يؤذيه أتبع بالنهي عن أذك النبيء صلى الله عليه وسلم نهيا عاما، فالخطاب في {لَكُمْ} للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيء إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الآية.
والواو عاطف جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً} وجملة {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنّ} [الأحزاب: 55].
ودلت جملة {مَا كَانَ لَكُمْ} على الحظر المؤكد لأن {مَا كَانَ لَكُمْ} نفي للاستحقاق الذي دلت عليه اللام، وإقحام فعل {كَانَ} لتأكيد انتفاء الإذن. وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم
وتضمنت هذه الآية حكمين:
أحدهما: تحريم أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأذى: قول بقال له، أو فعل يعامل به، من شأنه أن يغضبه أو يسوء لذاته.
والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفا. والمعنى: أن أذى النبيء صلى الله عليه وسلم محظور على المؤمنين. وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب "الشفاء" لعياض.
والحكم الثاني: تحريم أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس بقوله: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} وهو تقرير لحكم أمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
وقد حكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية: منها أن رجلا قال: لو مات محمد تزوجت عائشة، أي قال بمسمع ممن نقله عنه فقيل هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المضنون بقائل ذلك. وقيل هو من المؤمنين، أي خطر ذلك في نفسه قاله القرطبي. وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيد الله. وقال ابن عباس: كانت هفوة منه وتاب وكفر بالحج ماشيا وبإعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة. وقال ابن عطية: هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك، أي أن حمل على ظاهر صدور القول منه فأما أن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك. وأقول لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة ابن عبيد الله. وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فأن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفي على الناس فكيف يتفرد بروايته من أنفرد. وان كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي أطلع على ما
في قلبه، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب. فإن كانة لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عقب هذه الآيات {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [الأحزاب: 60] الآية. وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم للمؤمنين حكم دائم في حياة النبيء عليه الصلاة والسلام أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد، لأن ثبوت ذلك في حياته قد علم من قوله: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6].
وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبيء عليه الصلاة والسلام تعين أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطلاق لأن النبيء صلى الله عليه وسلم أزواجه غير محتمل شرعا لقوله: {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} [الأحزاب: 52].
وأكد ظرف "بعد" بإدخال {مِنْ} الزائدة عليه، ثم أكد عمومه بظرف {أَبَداً} ليعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيدا وتحذيرا بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} ،فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله} . والإشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبيء صلى الله عليه وسلم وتزوج أزواجه، أي ذلكم المذكور.
والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام.
وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف لأنه عظيم في الشناعة. وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبيء صلى الله عليه وسلم إثما عظيما عند الله، أن الله جعل نساء النبيء عليه الصلاة والسلام أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمه، وذلك إثم عظيم.
وأعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعادة منه فقال لها: الحقي بأهلك ، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر هم بعقابه فقال له عمر: إن رسول الله لم يدخل بها.
والمرويات في هذا الباب ضعيفة. والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنين
وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجا فإنما هو مراكنة ووعد ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال لها: هبي لي نفسك "أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها" فقالت: ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك. فقال لها: لقد استعذت بمعاذ. فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر لأبي بكر أو قول من قال لعمر: إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد.
وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبيء صلى الله عليه وسلم. إمام الحرمين والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها. على أنه يظهر أن الإضافة في قوله: {أَزْوَاجَهُ} بمعنى لام العهد، أي الأزواج اللائي في شأنهن هذه الآيات من قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] فهن اللاء ثبت لهن حكم الأمهات.
وبعد فإن البحث في هذه المسألة تفقه لا يبنى عليه عمل.
{إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً}
كلام جامع تحريضا وتحذيرا ومنبئ عن وعيد، فإن ما قبله قد حوى أمرا ونهيا، وإذ كان الامتثال متفاوتا في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسبا لتنبيههم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء، فالمراد من {شَيْئاً} الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم.والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله: {بِكُلِّ شَيْءٍ} . وإظهار لفظ {شَيْءٍ} هنا دون إضمار لأن الإضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانيا هو غير المذكور أولا، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة،فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم.
[55] {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} .
تخصيص من عموم الأمر بالحجاب الذي اقتضاه قوله: {فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ
حِجَابٍ} [الأحزاب: 53].
وإنما رفع الجناح عن نساء النبيء صلى الله عليه وسلم تنبيها على أنهن مأمورات بالحجاب كما أمر رجال المسلمين بذلك معهن فكان المعنى: لا جناح عليهن ولا عليكم، كما أن معنى {فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أنهن أيضا يجبن من وراء حجاب كما تقدمت الإشارة إلية بقوله: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53].
والظرفية المفادة من حرف {فِي} مجازية شائعة في مثله، يقال: لا جناح عليك في كذا، فهو كالحقيقة فلا تلاحظ فيه الاستعارة، والمجرور مقدر فيه مضاف تقديره: في رؤية آبائهن إياهن، وإنما رجح جانبهن هنا لأنه في معنى الإذن، لأن الرجال مأمورون بالاستئذان كما أقتضته آية سورة النور والإذن يصدر منهن فلذلك رجح هنا جانبهن فأضيف الحكم إليهن.
والنساء أسم جمع: امرأة لا مفرد له من لفظه في كلامهم، وهن الإناث البالغات أو المراهقات.
والمراد بـ {نِسَائِهِنَّ} جميع النساء، فإضافته إلى ضمير الأزواج اعتبار بالغالب لأن الغالب أن تكون النساء اللاتي يدخلن إلى أمهات المؤمنين نساء اعتدن أن يدخلن عليهن، والمراد جميع النساء.
ولم يذكر من أصناف الأقرباء والأعمام ولا الأخوال لأن ذكر أبناء الإخوان وأبناء الأخوات يقتضي اتحاد الحكم،من أنه لما رفع الحرج عنهن في الأعمام والأخوال كذلك،وأما قرابة الرضاعة فمعلومة من السنة فأريد الاختصار هنا إذ المقصود التنبيه على تحقيق الحجاب ليفضي إلى قوله: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} .
والتفت من الغيبة إلى خطابهن {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} لتشريف نساء النبيء صلى الله عليه وسلم بتوجيه الخطاب الإلهي إليهن.
والشهيد: الشاهد مبالغة في الفعل.
[56] {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}.
أعقبت أحكام معاملة أزواج النبيء عليه الصلاة والسلام بالثناء عليه وتشريف مقامه إيماء إلى أن تلك الأحكام جارية على مناسبة عظمة مقام النبيء عليه الصلاة والسلام عند الله تعالى، وإلى أن لأزواجه من ذلك التشريف حظا عظيما. ولذلك كانت صيغة الصلاة عليه التي علمها للمسلمين مشتملة على ذكر أزواجه كما سيأتي قريبا، وليجعل ذلك تمهيدا لأمر المؤمنين بتكرير ذكر النبيء صلى الله عليه وسلم بالثناء والدعاء والتعظيم، وذكر صلاة الملائكة مع صلاة الله ليكون مثالا لصلاة أشرف المخلوقات على الرسول لتقريب درجة صلاة المؤمنين التي يؤمرون بها عقب ذلك،والتأكيد للاهتمام. ومجيء الجملة الاسمية لتقوية الخبر،وافتتاحها باسم الجلالة لإدخال المهابة والتعظيم في هذا الحكم،والصلاة من الله والملائكة تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} في هذه السورة [43]. وهذه صلاة خاصة هي مما شمله قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} لأن عظمة مقام النبيء يقتضي عظمة الصلاة عليه.
وجملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} هي المقصودة وما قبلها توطئة لها وتمهيدا لأن الله لما حذر المؤمنين من كل ما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام أعقبه بأن ذلك ليس هو أقصى حظهم من معاملة رسولهم أن يتركوا أذاه بل حظهم أكبر من ذلك وهو أن يصلوا، عليه ويسلموا، وذلك هو إكرامهم لرسول الله عليه الصلاة والسلام فيما بينهم وبين ربهم فهو يدل على وجوب إكرامه في أقوالهم وأفعالهم بحضرته بدلالة الفحوى، فجملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بمنزلة النتيجة الواقعة بعد التمهيد. وجئ في صلاة الله وملائكته بالمضارع الدال على التجديد والتكرير ليكون أمر المؤمنين بالصلاة عليه والتسليم عقب ذلك مشيرا إلى تكرير ذلك منهم إسوة بصلاة الله وملائكته.
والأمر بالصلاة عليه معناه: إيجاد الصلاة،وهي الدعاء،فالأمر يؤول إلى إيجاد أقوال فيها دعاء وهو مجمل في الكيفية.
والصلاة: ذكر بخير، وأقوال تجلب الخير، فلا جرم كان الدعاء هو أشهر مسميات الصلاة،فصلاة الله: كلامه الذي يقدر به خيرا لرسوله صلى الله عليه وسلم لأن حقيقة الدعاء في جانب الله معطل لأن الله هو الذي يدعوه الناس،وصلاة الملائكة والناس: استغفار ودعاء بالرحمات.
وظاهر الأمر أن الواجب كل كلام فيه دعاء للنبيء صلى الله عليه وسلم ولكن الصحابة لما نزلت هذه الآية سألوا النبيء صلى الله عليه وسلم عن كيفية هذه الصلاة قالوا: "يا رسول الله هذا السلام عليك
قد علمناه فكيف نصلي عليك ?" يعنون أنهم علموا السلام عليه من صيغة بث السلام بين المسلمين وفي التشهد فالسلام بين المسلمين صيغته: السلام عليكم. والسلام في التشهد هو "السلام عليك أيها النبيء ورحمة الله وبركاته" أو "السلام على النبيء ورحمته الله وبركاته". فقال رسول الله: قولوا: "اللهم صل على محمد وعلى أزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد" . هذه رواية مالك في "الموطأ" عن أبي حميد الساعدي.
وروي أيضا عن أبي مسعود الأنصاري بلفظ "وعلى آل محمد" "عن أزواجه وذريته في الموضعين" وبزيادة "في العالمين"، قبل: "إنك حميد مجيد. والسلام كما قد علمتم". وهما أصح ما روي كما قال أبو بكر بن العربي. وهناك روايات خمس أخرى متقاربة المعنى وفي بعضها زيادة وقد استقصاها ابن العربي في "أحكام القرآن" . ومرجع صيغها إلى توجه إلى الله بأن يفيض خيرات على رسوله صلى الله عليه وسلم لأن معنى الصلاة الدعاء، ودعاء المؤمنين ليتوجب إلا إلى الله.
وظاهر صيغة الأمر مع قرينة السياق يقتضي وجوب أن يصلي المؤمن على النبيء صلى الله عليه وسلم، إلا أنه كان مجملا في العدد فمحمله محمل الأمر المجمل أن يفيد المرة لأنها ضرورية لإيقاع الفعل ولمقتضى الأمر. ولذلك اتفق فقهاء الأمة على أن واجبا على كل مؤمن أن يصلي على النبيء صلى الله عليه وسلم مرة في العمر فجعلوا وقتها العمر كالحج. وقد اختلفوا فيما زاد على ذلك في حكمه ومقداره، ولا خلاف في استحباب الإكثار من الصلاة عليه وخاصة عند وجود أسبابها. قال الشافعي وإسحاق ومحمد بن المواز من المالكية واختاره أبو بكر بن العربي من المالكية: إن الصلاة عليه فرض في الصلاة فمن تركها بطلت صلاته. قال إسحاق: ولو كان ناسيا.
وظاهر حكاياتهم عن الشافعي أن تركها إنما يبطل الصلاة إذا كان عمدا وكأنهم جعلوا ذلك بيانا للإجمال الذي في الأمر من جهة الوقت والعدد، فجعلوا الوقت هو إيقاع الصلاة للمقارنة بين الصلاة والتسليم وراد في التشهد، فتكون الصلاة معه على نحو ما استدل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من قوله: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإذا كان هذا مأخذهم فهو ضعيف لأن الآية لم ترد في مقام أحكام الصلاة، وإلا فليس له أن يبين مجملا بلا دليل.
وقال جمهور العلماء: هي في الصلاة مستحبة وهي في التشهد الأخير وهو الذي
جرى عليه الشافعية أيضا. قال الخطابي: ولا أعلم للشافعي فيها قدوة وهو مخالف لعمل السلف قبله،وقد شنع عليه في هذه المسألة جدا.وهذا تشهد ابن مسعود الذي علمه النبيء صلى الله عليه وسلم والذي اختاره الشافعي ليس فيه الصلاة على النبيء كذلك كل من روى التشهد عن رسول الله. قال ابن عمر: كان أبو بكر يعلمنا التشهد على المنبر كما تعلمون الصبيان في الكتاب، وعلمه أيضا على المنبر عمر، وليس في شيء من ذلك ذكر الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم. قلت: فمن قال إنها سنة في الصلاة فإنما أراد المستحب.
وأما حديث "لا صلاة لمن لم يصل علي فقد ضعفه أهل الحديث كلهم.
ومن أسباب الصلاة عليه أن يصلي عليه من جرى ذكره عنده، وكذلك في افتتاح الكتب والرسائل، وعند الدعاء، وعند سماع الأذان، وعند انتهاء المؤذن، وعند دخول المسجد،وفي التشهد الأخير.
وفي التوطئة للأمر بالصلاة على النبيء بذكر الفعل المضارع في {يَصِلُونَ} إشارة إلى الترغيب في الإكثار من الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم تأسيا بصلاة الله وملائكته.
واعلم أنا لم نقف على أن أصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون على النبيء كلما ذكر اسمه ولا أن يكتبوا الصلاة عليه إذا كتبوا اسمه ولم نقف على تعيين مبدأ كتابة ذلك بين المسلمين.
والذي يبدوا أنهم كانوا يصلون على النبيء إذا تذكروا بعض شؤونه كما كانوا يترحمون على الميت إذا ذكروا بعض محاسنه. وفي "السيرة الحلبية" : "لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترى عمر من الدهش ما هو معلوم وتكلم أبو بكر بما هو معلوم قال عمر إنا لله وإنا إليه راجعون صلوات الله على رسوله وعند الله نحتسب رسوله" وروى البخاري في باب: متى يحل المعتمر: عن أسماء بنت أبي بكر أنها كانت تقول كلما مرت بالحجون "صلى الله على رسوله محمد وسلم لقد نزلنا معه ههنا ونحن يومئذ خفاف" إلى آخره.
وفي باب ما يقول عند دخول المسجد من "جامع الترمذي" حديث فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة الكبرى قالت: كان رسول الله إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك قال الترمذي: حديث
حسن وليس إسناده بمتصل.
ومن هذا القبيل ما ذكره ابن الأثير في "التاريخ الكامل" في حوادث سنة خمس وأربعين ومائة: أن عبد الله بن مصعب بن ثابت رثى محمدا النفس الزكية بأبيات منها:
والله لو شهد النبيء محمد ... صلى الإله على النبيء وسلما
ثم أحدثت الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم في أوائل الكتب في زمن هارون الرشيد ذكر ذلك ابن الأثير في "الكامل" في سنة إحدى وثمانين ومائة، وذكره عياض في "الشفاء" ، ولم يذكرا صيغة التصلية. وفي "المخصص" لابن سيده في ذكر الخف والنعل: إن أبا محلم بعث إلى حذاء بنعل ليحذوها وقال له: "ثم سن شفرتك وسن رأس الإزميل ثم سم باسم الله وصل على محمد ثم أنحها" إلى أخره.
ولا شك أن إتباع اسم النبيء صلى الله عليه وسلم بالصلاة عليه في كتب الحديث والتفسير وغيرها كان موجودا في القرن الرابع وقد وقفت على قطعة عتيقة من تفسير يحيى بن سلام البصري مؤرخ نسخها سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة فإذا فيها الصلاة على النبيء عقب ذكره اسمه.
وأحسب أن الذين سنوا ذلك هم أهل الحديث قال النووي في مقدمة شرحه على "صحيح مسلم" "يستحب لكاتب الحديث إذا مر ذكر الله أن يكتب عز وجل، أو تعالى، أو سبحانه وتعالى، أو تبارك وتعالى، أو جل ذكره، أو تبارك اسمه، أو جلت عظمته، أو ما أشبه ذلك، وكذلك يكتب عند ذكر النبيء" صلى الله عليه وسلم "بكاملها لا رامزا إليها ولا مقتصرا على بعضها، ويكتب ذلك وإن لم يكن مكتوبا في الأصل الذي ينقل منه فإن هذا ليس رواية وإنما هو دعاء. وينبغي للقارئ أن يقرأ كل ما ذكرناه وإن لم يكن مذكورا في الأصل الذي يقرأ منه ولا يسأم من تكرر ذلك، ومن أغفل ذلك حرم خيرا عظيما" ا هـ.
وقوله: {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} القول فيه كالقول في {صَلُّوا عَلَيْهِ} حكما ومكانا وصفه فإن صفته حددت بقول النبيء صلى الله عليه وسلم: "والسلام كما قد علمتم" فإن المعلوم هو صيغته التي في التشهد "السلام عليك أيها النبيء ورحمه الله وبركاته". وكان ابن عمر يقول فيه بعد وفاة النبيء صلى الله عليه وسلم "السلام على النبيء ورحمه الله وبركاته" والجمهور أبقوا لفظه على اللفظ الذي كان في حياة النبيء عليه الصلاة والسلام رعيا لما ورد عن النبيء عليه الصلاة والسلام أنه حي يبلغه تسليم أمته عليه.
ومن أجل هذا المعنى أبقيت له صيغة التسليم على الأحياء وهي الصيغة التي يتقدم فيها لفظ التسليم على المتعلق به لأن التسليم على الأموات يكون بتقديم المجرور على لفظ السلام. وقد قال رسول الله للذي سلم فقال: عليك السلام يا رسول الله فقال له: "إن عليك السلام تحية الموتى، فقل: السلام عليك".
والتسليم مشهور في التحية بالسلام، والسلام فيه بمعنى الأمان والسلامة وجعل تحية في الأولين عند اللقاء مبادأة بالتأمين من الاعتداء والثار ونحو ذلك إذ كانوا إذ اتقوا أجدا توجسوا خيفة أن يكون مضمرا شرا لملاقيه،فكلاهما يدفع ذلك الخوف بالإخبار بأنه ملق على ملاقيه سلامة وأمنا.ثم شاع ذلك حتى صار هذا اللفظ دالا على الكرامة والتلطف، قال النابغة:
أتاركة تدللها قطام ... وضنا بالتحية والسلام
ولذلك كان قوله تعالى: {وَسَلِّمُوا} غير مجمل ولا محتاج إلى بيان فلم يسأل عنه الصحابة النبيء صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا السلام قد عرفناه، وقال لهم: والسلام كما قد علمتم، أي كما قد علمتم من صيغة السلام بين المسلمين ومن ألفاظ التشهيد في الصلاة.
وإذا قد كانت صيغة السلام معروفة كان المأمور به هو ما يماثل تلك الصيغة أعني أن نقول: السلام على النبيء أو عليه السلام، وأن ليس ذلك بتوجه إلى الله تعالى بأن يسلم على النبيء بخلاف التصلية لما علمت مما اقتضى ذلك فيها.
والآية تضمنت الأمر بشيئين: الصلاة على النبيء صلى الله عليه وسلم والتسليم عليه، ولم تقتض جمعهما في كلام واحد وهما مفرقان في كلمات التشهد فالمسلم مخير بين أن يقرن بين الصلاة والتسليم بأن يقول: صلى الله على محمد والسلام عليه، أو أن يقول: اللهم صل على محمد والسلام على محمد، فيأتي في جانب التصلية بصيغة طلب ذلك من الله،وفي جانب التسليم بصيغة إنشاء السلام بمنزلة التحية له، وبين أن يفرد الصلاة ويفرد التسليم وهو ظاهر الحديث الذي رواه عياض في "الشفاء" أن النبيء صلى الله عليه وسلم قال: "لقيت جبريل فقال لي: أبشرك أن الله يقول: من سلم عليك سلمت عليه ومن صلى عليك صليت عليه" . وعن النووي أنه قال بكراهة إفراد الصلاة والتسليم، وقال ابن حجر: لعله أراد خلاف الأولى. وفي الاعتذار والمعتذر عنه نظر إذ لا دليل على ذلك.
وأما أن يقال: اللهم سلم على محمد، فليس بوارد فيه مسند صحيح ولا حسن عن
النبيء صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه إلا بصيغة إنشاء السلام مثل ما في التحية، ولكنهم تسامحوا في حالة الاقتران بين التصلية والتسليم فقالوا: صلى الله عليه وسلم، لقصد الاختصار فيما نرى. وقد استمر عليه عمل الناس من أهل العلم والفضل وفي حديث أسماء بنت أبي بكر المتقدم أنها قالت "صلى الله على محمد وسلم".
ومعنى تسليم الله عليه إكرامه وتعظيمه فإن السلام كناية عن ذلك.
وقد استحسن أئمة السلف أن يجعل الدعاء بالصلاة مخصوصا بالنبيء صلى الله عليه وسلم. وعن مالك: لا يصلى على غير نبينا من الأنبياء. يريد أن تلك هي السنة، وروي مثله عن ابن عباس، وروي عن عمر بن عبد العزيز: أن الصلاة خاصة بالنبيءين كلهم.
وأما التسليم في الغيبة فمقصور عليه وعلى الأنبياء والملائكة لا يشركهم فيه غيرهم من عباد الله الصالحين لقوله تعالى: {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79]، وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 130]، {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 120]، {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109].
وانه يجوز إتباع آلهم وأصحابهم وصالحي المؤمنين إياهم في ذلك دون استقلال.هذا الذي استقر عليه اصطلاح أهل السنة ولم يقصدوا بذلك تحريما ولكنه اصطلاح وتمييز لمراتب رجال الدين، كما قصروا الرضى على الأصحاب وأئمة الدين، وقصروا كلمات الإجلال نحو : تبارك وتعالى،وجل جلاله،على الخالق دون الأنبياء والرسل.
وأما الشيعة فإنهم يذكرون التسليم على علي وفاطمة وآلهما، وهو مخالف لعمل السلف فلا ينبغي اتباعهم فيه لأنهم قصدوا به الغض من الخلفاء والصحابة.
وانتصب {تَسْلِيماً} على أنه مصدر مؤكد لـ {سَلِّمُوا} وإنما لم يؤكد الأمر بالصلاة عليه بمصدر فيقال: صلوا عليه صلاة، لأن الصلاة غلب إطلاقها على معنى الاسم دون المصدر، وقياس المصدر التصلية ولم يستعمل في الكلام لأنه اشتهر في الإحراق، قال تعالى: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94]، على أن الأمر بالصلاة عليه قد حصل تأكيده بالمعنى لا بالتأكيد الاصطلاحي فإن التمهيد له بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيء} مشير إلى التحريض على الاقتداء بشأن الله وملائكته.
[57] {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً}.
لما أرشد الله المؤمنين إلى تناهي مراتب حرمة النبيء صلى الله عليه وسلم وتكريمه وحذرهم مما قد يخفي على بعضهم من خفي الأذى في جانبه بقوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النبيء} [الأحزاب: 53] وقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: 53] الآية، وعلمهم كيف يعاملونه معاملة التوقير والتكريم بقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] وقوله: {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً} [الأحزاب: 53] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبيء} [الأحزاب: 56] الآية، وعلم أنهم قد امتثلوا أو تعلموا أردف ذلك بوعيد قوم أتسمو بسمات المؤمنين وكان من دأبهم السعي فيما يؤذي الرسول عليه الصلاة والسلام فأعلم الله المؤمنين بأن أولئك ملعونون في الدنيا والآخرة ليعلم المؤمنين أن أولئك ليس من الإيمان في شئ في شيء وأنهم منافقون لأن مثل هذا الوعيد لا يعهد إلا للكافرين.
فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأنه يخطر الأذى كثير ممن يسمع الآيات السابقة أن يتساءلوا عن حال قوم قد علم منهم قلة التحرز من أذى الرسول صلى الله عليه وسلم بما لا يليق بتوقيره.
وجئ باسم الموصول للدلالة على أنهم عرفوا بأن إيذاء النبيء صلى الله عليه وسلم من أحوالهم المختصة بهم، ولدلالة الصلة على أن أذى النبيء صلى الله عليه وسلم هو علة لعنهم وعذابهم.
واللعن: الإبعاد عن الرحمة وتحقير الملعون. في الدنيا محقرون عند المسلمين ومحرومون من لطف الله وعنايته وهم في الآخرة محقرون بالإهانة في الحشر وفي الدخول في النار.
والعذاب المهين: هو عذاب جهنم في الآخرة وهو مهين لأنه عذاب مشيب بتحقير وخزي.
والقرن بين أذى الله ورسوله للإشارة إلى أن أذى الرسول صلى الله عليه وسلم يغضب الله تعالى فكأنه أذى لله.
وفعل {يُؤْذُونَ} معدى إلى أسم الله على معنى المجاز المرسل في اجتلاب غضب الله وتعديته إلى الرسول حقيقة. فاستعمل {يُؤْذُونَ} في معنييه المجازي والحقيقي.
ومعنى هذا قول النبيء صلى الله عليه وسلم "من آذاني فقد آذى الله" وأذى الرسول عليه الصلاة والسلام يحصل بالإنكار عليه فيما يفعله، وبالكيد له، وبأذى أهله مثل المتكلمين في
الإفك، والطاعنين أعماه، كالطعن في إمارة زيد وأسامة،والطعن في أخذه صفية لنفسه. وعن ابن عباس "أنها نزلت في الذين طعنوا في اتخاذ النبيء صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيي لنفسه".
[58] {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} .
ألحقت حرمة المؤمنين بحرمة الرسول صلى الله عليه وسلم تنويها بشأنهم، وذكروا على حدة للإشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وهذا من الاستطراد معترض بين أحكام حرمة النبيء صلى الله عليه وسلم وآداب أزواجه وبناته المؤمنات.
وعطف {الْمُؤْمِنَاتِ} على {الْمُؤْمِنِينَ} للتصريح بمساواة الحكم وأن كان ذلك معلوما من الشريعة، لوزع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
والمراد بالأذى: أذى القول بقرينه قوله: {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً} لأن البهتان من أنواع الأقوال وذلك تحقير لأقوالهم، وأتبع ذلك التحقير بأنه أثم مبين. والمراد بالمبين العظيم القوي، أي جرما من أشد الجرم، وهو وعيد بالعقاب عليه.
وضمير {اكْتَسَبُوا} عائد إلى المؤمنين والمؤمنات على سبيل التغليب،والمجرور في موضع الحال. وهذا الحال لزيادة تشنيع ذلك الأذى بأنه ظلم وكذب.
وليس المراد بالحال تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا، بعمل أي أن يسبوا بعمل ذميم اكتسبوه لأن الجزاء على ذلك ليس موكولا لعموم الناس ولكنه موكول إلي ولاة لأمور كما قال تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]. وقد نهى النبيء صلى الله عليه وسلم عن الغيبة وقال: "هي أن تذكر أخاك بما يكره. فقيل: وإن كان حقا. قال: إن كان غير حق فذلك البهتان" فأما تغيير المنكر فلا يصحبه أذى.
وما صدق الموصول في قوله: {مَا اكْتَسَبُوا} سيئا، أي بغير ما اكتسبوا من سيئ. ومعنى {احْتَمَلُوا} كلفوا أنفسهم حملا، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} في سورة النساء [112].
[59] {يَا أَيُّهَا النبيء قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}
أتبع النهي عن أذى المؤمنات بأن أمرن باتقاء أسباب الأذى لأن من شأن المطالب السعي في تذليل وسائلها كما قال تعالى {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الإسراء: 19] وقال أبو الأسود:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليبس
وهذا يرجع إلى قاعدة التعاون على إقامة المصالح وإماتة المفاسد. وفي الحديث: "رحم الله والدا أعان ولده على بره". وهذا الحديث ضعيف السند لكنه صحيح المعنى لأن بر الوالدين مطلوب،فالإعانة عليه إعانة على وجود المعروف والخير.
وابتدئ بأزواج النبيء صلى الله عليه وسلم وبناته لأنهن أكمل النساء، فذكرهن من ذكر بع أفراد العام للاهتمام به.
والنساء: اسم جمع للمرأة لا مفرد له من فضله، وقد تقد آنفا عند قوله تعالى: {وَلا نِسَائِهِنَّ} [الأحزاب: 55]. فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين بل المراد الإناث المؤمنات، وإضافته إلى المؤمنين على معنى "من" أي النساء من المؤمنين.
والجلابيب: جمع جلباب وهو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه على عذاريها وينسدل سائره على كتفيها وظهرها، تلبسه عند الخروج والسفر.
وهيئات ليس الجلابيب مختلفة باختلاف أحوال النساء تبينها العادات. والمقصود هو ما دل عليه قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} .
والإدناء: التقريب، وهو كناية عن اللبس والوضع، أي يضعن عليهن جلابيبهن، وقال بشار:
ليلة تلبس البياض من الشهر ... وأخرى تدني جلابيب سودا
فقابل بـ"تدنى" تلبس فالإدناء هنا اللبس.
وكان لبس الجلباب من شعار الحرائر فكانت الإماء لا يلبسن الجلابيب. وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكن لا يلبسنها في الليل وعند الخروج إلى المناصع، وما كن يخرجن إليها إلا ليلا فأمرن بلبس الجلابيب في كل الخروج
ليعرف أنهن حرائر فلا يتعرض إليهن شباب الدعار يحسبهن إماء أو يتعرض إليهن المنافقون استخفافا بهن بالأقوال التي تخجلهن فيتأذين من ذلك وربما يسببن الذين يؤذونهن فيحصل أذى من الجانبين. فهذا من سد الذريعة.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى الإدناء المفهوم من {يُدْنِينَ} ، أي ذلك اللباس أقرب إلى يعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن. وكان عمر بن الخطاب مدة خلافته يمنع الإماء من التقنع كي لا يلتبسن بالجرائر ويضرب من تتقنع منهن بالدرة ثم زال ذلك بعده،فذلك قول كثير:
هن الحرائر لا ربات أخمرة ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور
والتذليل بقوله: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإسلامي، والتذييل يقتضي إنهاء الغرض.
[60, 61] {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً}.
انتقال من زجر قوم عرفوا بأذى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك للعلم بأن لا ينفع في أولئك وعيد الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالبعث،وأولئك هم المنافقون الذين أبتدئ التعريض بهم من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {عَظِيماً} [الأحزاب: 53]، ثم من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} إلى قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 57- 59].
وصرح هنا بما كني عنه في الآيات السالفة إذ عبر عنه بالمنافقين فعلم أن الذين يؤذون الله ورسوله هم المنافقون ومن لف لفهم.
و {َالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قد ذكرناهم في أول السورة وهم المنطوون على النفاق أو التردد في الإيمان.
و {الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} : هم المنافقون، فالأوصاف الثلاثة لشيء واحد قاله أبو رزين.
وجملة {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} استئناف ابتدائي. وحذف مفعول {يَنْتَهِ} لظهوره، أي لم ينتهوا عن أذى الرسول والمؤمنين.
والإرجاف: إشاعة الأخبار. وفيه معنى كون الأخبار كاذبة أو مسيئة لأصحابها يعيدونها في المجالس ليطمئن السامعون لها مرة بعد مره بأنها صادقه لأن الإشاعة إنما تقصد للترويج بشيء غير واقع أو مما لا يصدق به لاشتقاق ذلك من الرجف والرجفان وهو الاضطراب والتزلزل.
فالمرجفون قوم يتلقون الأخبار فيحدثون بها في مجالس ونواد ويخبرون بها من يسأل ومن لا يسأل. ومعنى الإرجاف هنا: أنهم يرجفون بما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين والمسلمات، ويتحدثون عن سرايا المسلمين فيقولون: هزموا أو أسرع فيهم القتل أو نحو ذلك لإيقاع الشك في نفوس الناس والخوف وسوء ضن بعضهم ببعض. وهم من المنافقين والذين في قلوبهم مرض واتباعهم وهم الذين قال الله فيهم {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} في سورة النساء [83].
فهذه الأوصاف لأصناف من الناس. كان أكثر المرجفين من اليهود وليسوا من المؤمنين لأن قوله عقبه {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لا يساعد أن فيهم مؤمنين.
واللام في {لَئِنْ} موطئة للقسم، فالكلام بعدها قسم محذوف. والتقدير: والله لئن لم ينته.
وللام في {لَنُغْرِيَنَّكَ} لام جواب القسم، وجواب القسم دليل على جواب الشرط.
والإغراء: الحث والتحريض على فعل. ويتعدى فعله بحرف "على" والباء، والأكثر أن تعديته بـ"على" تفيد حثا على الفعل مطلقا في حد ذاته وأن تعديته بالباء تفيد حثا على الإيقاع بشخص لأن الباء للملابسة. فالمغرى علية ملابس لذات المجرور بالباء،أي واقعا عليها. فلا يقال: أغريته به، إذا حرضه على إحسان إليه.
فالمعنى: لنغرينك بعقوبتهم، أي بأن تغري المسلمين بهم كما دل عليه قوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} فإذا حل ذلك بهم انجلوا عن المدينة فائزين بأنفسهم وأموالهم وأهليهم.
واختير عطف جملة {لا يُجَاوِرُونَكَ} بـ {ثُمَّ} دون الفاء للدلالة على تراخي انتفاء المجاورة عن الإغراء بهم تراخي رتبة لأن الخروج من الأوطان أشد على النفوس مما
يلحقها من ضر في الأبدان كما قال تعالى: {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191] أي وفتنة الإخراج من بلدهم أشد عليهم من القتل.
واستثناء {إِلَّا قَلِيلاً} لتأكيد نفي المجاورة وأنه ليس على طريقة المبالغة أي لا يبقون معك في المدينة إلا مدة قليلة، وهي ما بين نزول الآية والإيقاع بهم. و {قَلِيلاً} صفة لمحذوف دل عليه {يُجَاوِرُونَكَ} أي جوارا قليلا، وقلته باعتبار مدة زمنه. وجعله صاحب "الكشاف" صفه لزمن محذوف فإن وقوع ضميرهم في حيز النفي يقتضي إفرادهم، وعموم الأشخاص يقتضي عموم أزمانها فيكون منصوبا على الوصف لاسم الزمان وليس هو ظرفا.
و {مَلْعُونِينَ} حال مما تضمنه {قَلِيلاً} من معنى الجوار. فالجوار مصدر يتحمل ضمير صاحبه لأن أصل المصدر أن يضاف إلى فاعله، والتقدير: إلا جوارهم ملعونين. وجعل صاحب "الكشاف" {مَلْعُونِينَ} مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحال كما في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53]. وبون ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه.والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه.
واللعن: الإبعاد والطرد.وتقدم قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} في سورة الحجر [35]، وهو مستعمل هنا كناية عن الإهانة والتجنب في المدينة، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلا فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفا من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبيءصلى الله عليه وسلم، ففي قوله: {مَلْعُونِينَ} إيجاز بديع.
وقوله: {أَيْنَمَا ثُقِفُوا} ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلق بـ {مَلْعُونِينَ} لأن {مَلْعُونِينَ} حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة، فأفاد عموم أمكنة المدينة. و {أَيْنَمَا} : اسم زمان متضمن معنى الشرط. والثقف: الظفر والعثور على العدو بدون قصد. وقد مهد لهذا الفعل قوله: {مَلْعُونِينَ} كما تقدم.
ومعنى {أُخِذُوا} أمسكوا. والأخذ: الإمساك والقبض، أي أسروا، والمراد: أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبيء صلى الله عليه وسلم بهم.
والتقتيل: قوة القتل. والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف
نوعه وأيضا هو شديد في كونه سريعا لا إمهال لهم فيه.
و {تَقْتِيلاً} مصدر مؤكد لعامله،أي قتلوا قتلا شديدا شاملا. فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير {قُتِّلُوا} ، لرفع احتمال المجاز في عموم القتل، فالمعنى: قتلوا قتلا شديدا لا يفلت منه أحد.
وبهذا الوعيد انكف المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبيء صلى الله عليه وسلم قتل منهم أحدا ولا أنهم خرج منهم أحد.
وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فردا صالحا أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبيء صلى الله عليه وسلم. "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" . ولهذا شرعت استتابة المرتد قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة، وشرعت دعوة الكفار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإسلام قبل شروع في غزوهم فإن أسلموا وإلا عرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم الذمة انتفاعا للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم.
وأما قتل القاتل عمدا فشرع فيه مجاراة لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بغض الأمة بعضا، إذا لا دواء لتلك العلة إلا القصاص. ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله. ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الدين يحاربون الله ورسوله: إن "أو" فيها للتنويع لا للتخير فقال: يكون الجزاء بقدر جرم المحارب وكثرة مقامه في فساده. وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله.
[62] {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} .
انتصب {سُنَّةَ اللَّهِ} على أنه مفعول مطلق نائب عن فعله. والتقدير: سن الله إغراءك بهم سنته في أعداء الأنبياء السالفين وفي الكفار المشركين الذين قتلوا وأخذوا في غزوة بدر وغيرها.
وحر {فِي} للضرفية المجازية, شبهت السنة التي عوملوا بها بشيء في وسطهم كناية عن تغلغله فيهم وتناولة جميعهم ولو جاء الكلام على غير المجاز لقيل: سنة الله مع الذين خلوا.
و {الَّذِينَ خَلَوْا} الذين مضوا وتقدموا. والأظهر أن المراد بهم من سبقوا من أعداء النبيء صلى الله عليه وسلم الذين أذنه الله بقتلهم مثل الذين قتلوا من يهود قريضة. وهذا أظهر لأن ما أصاب أولئك أوقع في الموعظة إذ كان هذان الفريقان على ذكر من المنافقين وقد شهدوا بعضهم وبلغهم خبر بعض.
ويحتمل أيضا أن يشمل {الَّذِينَ خَلَوْا} الأمم السالفة الذين غضب الله عليهم لأذاهم رسلهم فاستأصلهم الله تعالى مثل قوم فرعون وأضرابهم.
وذيل بجملة {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} لزيادة تحقيق أن العذاب حائق بالمنافقين وأتباعهم إن لم ينتهوا عما هم فيه وأن الله لا يخالف سنته لأنها مقتضى حكمته وعلمه فلا تجري متعلقاتها إلا على سنن واحد.
والمعنى: لن تجد لسنن الله مع الذين خلوا من قبل ولا مع الحاضرين ولا مع الآتين تبديلا. وبهذا العموم الذي أفاده وقوع النكرة في سياق النفي تأهلت الجملة لأن تكون تذييلا.
[63] {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} .
لما كان تهديد المنافقين بعذاب الدنيا يذكر بالخوض في عذاب الآخرة: خوض المكذبين الساخرين، وخوض المؤمنين الخائفين، وأهل الكتاب، اتبع ذلك بهذا.
فالجملة معترضة بين جملة {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} [الأحزاب: 60] وبين جملة {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} [الأحزاب: 64] لتكون تمهيدا لجملة {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} .
وتكرر في القرآن ذكر سؤال الناس عن الساعة, والسائلون أصناف:
منهم المكذبون بها وهم أكثر السائلين وسؤالهم تهكم واستدلال بإبطائها على عدم وجودها في أنظارهم السقيمة قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] وهؤلاء هم الذين كثر في القرآن إسناد السؤال إليهم معبرا عنهم بضمير الغيبة كقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} [الأعراف: 187]
وصنف مؤمنون مصدقون بأنها واقعة لكنهم يسألون عن أحوالها وأهوالها، وهؤلاء
هم الذين في قوله تعالى: {والذين آمنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقّ} [الشورى: 18].
وصنف مؤمنون يسألون عنها محبة لمعرفة المغيبات، وهؤلاء نهوا عن الاشتغال بذلك كما في الحديث: "أن رجلا سأل رسول الله: متى الساعة ? فقال النبيء صلى الله عليه وسلم: "ماذا أعددت لها ? فقال الرجل: والله يا رسول الله ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم سوى أنى أحب الله ورسوله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت" .
وصنف يسأل اختيار للنبيء صلى الله عليه وسلم لعله يجيب بما يخالف ما في علمهم فيجعلونه حجه بينهم على انتفاء نبوءته ويلعنونه في دهمائهم ليقتلعوا من نفوسهم ما عسى أن يخالطها من النظر في صدق الدعوة المحمدية. وهؤلاء اليهود نظير سؤالهم عن أهل الكهف وعن الروح.
فـ {النَّاسُ} هنا يعم جميع الناس وهو عموم عرفي، أي جميع الناس الذين من شأنهم الاشتغال بالسؤال عنها إذ كثير من الناس يسأل عن ذلك.وأهل هذه الأصناف الأربعة موجودين بالمدينة حين نزول هذه الآية.
وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في سورة الأعراف [187].
والخطاب في قوله: {وَمَا يُدْرِيكَ} للرسول صلى الله عليه وسلم. و {مَا} استفهام ما صدقها شيء.
و {يُدْرِيكَ} من أداره، إذا أعلمه. والمعنى: أي شيء يجعل لك دارية. و {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} مستأنفة لإنشاء رجاء.
و {لَعَلَّ} معلفة فعل الإدراء عن العمل، أي في المفعول الثاني والثالث وأما المفعول الأول فهو كاف الخطاب.
والمعنى: أي شيء يدريك الساعة بعيدة أو قريبة لعلها تكون بعيدا، ففي الكلام إحتباك.
والأظهر أن {قَرِيباً} خبر {تَكُونُ} وأن فعل الكون ناقص وجيء بالخبر غير مقترن بعلامة التأنيث مع أنه متحمل لضمير المؤنث لفظا "فأن أسم الفاعل كالفعل في اقترانه بعلامة التأنيث إن كان متحملا لضمير مؤنث لفظي" فقيل: إنما لم يقترن بعلاقة التأنيث لأن ضمير الساعة جرى عليها بعد تأويلها بالشيء أو اليوم. والذي أختاره جمع من
المحققين مثل أبي عبيدة والزجاح وابن عطية أن {قَرِيباً} في مثل هذه الآية ليس خبر عن فعل الكون ولكنه ظرف له وهم يعنون أن فعل الكون تام وأن {قَرِيباً} ظرف زمان لوقوعه. والتقدير: تقع في زمان قريب، فيلزم لفظ "قريب" الإفراد والتذكير على نية زمان أو وقت،وقد يكون ظرف زمان كما ورد في ضده وهو لفظ "بعيد" في قوله:
وإن تمس ابنة السهمي منا ... بعيدا لا تكلمنا كلاما
وقد أشار إلى جواز الوجهين في " الكشاف" . وهذان الوجهان وإن تأتيا هنا لا يتأتيان في نحو قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56].
ويقترن "قريب" و"بعيد" بعلامة التأنيث ونحوها من العلامات الفرعية عند إرادة التوصيف. وكل هذه اعتبارات من توسعهم في الكلام. وتقدم قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وفي الأعراف فضمه إلى ما هنا.
[64, 65] {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} .
هذا حظ الكافرين من وعيد الساعة، وهذه لعنة الآخرة قفيت بها لعنة الدنيا في قوله: {مَلْعُونِينَ} [الأحزاب: 61]، ولذلك عطف عليها {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} فكانت لعنة الدنيا مقترنة بالأخذ والتقتيل ولعنة الآخرة مقترنة بالسعير.
والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً} إلى قوله: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 60- 62] تثير في نفوس السامعين السؤل عن الاقتصار على لعنهم وتقتيلهم في الدنيا، وهل ذلك منتهى ما عوقبوا به أو لهم نم ورائه عذاب? فكان قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ} الخ جوابا عن ذلك.
وحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو منظور به إلى السامعين من الكافرين.
والتعريف في {الْكَافِرِينَ} يحتمل أن يكون للعهد، أي الكافرين الذين كانوا شاقوا النبيء صلى الله عليه وسلم وآذوه وأرجفوا في المدينة وهم المنافقون ومن ناصرهم من المشركين في وقعة الأحزاب ومن اليهود.ويحتمل أن يكون التعريف للاستغراق,أي كل كافر.
وعلى الوجهين فصيغة المضي في فعل {لَعَنَ} مستعملة في تحقيق الوقوع،شبه المحقق حصوله بالفعل الذي حصل فأستعير له صيغة الماضي مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} .
[النحل: 1] لأن اللعن إنما يقع في الآخرة وهو مستقبل.وأما حالهم في الدنيا فمثل أحوال المخلوقات يتمتعون برحمة الله في الدنيا من حياة ورزق وملاذ كما هو صريح الآيات والأخبار النبوية, قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران: 196, 197]. وقد يكون في ظاهر الآية متمسك للشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله بانتفاء نعمة الله عن الكافرين خلافا للماتريدي والقاضي أبي بكر الباقلاني والمعتزله ولكنه متمسك ضعيف لأن التحقيق أن الخلاف بينه وبينهم خلاف لفظي يرجع إلى أن حقيقة النعمة ترجع إلى ما لا يعقب ألما.
والسعير: النار الشديدة الإيقاد. وهو فعيل بمعنى مفعول، أي مسعورة.
وأعيد الضمير على السعير في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} مؤنثا لأن {سَعِيراً} من صفات النار والنار مؤنثة في الاستعمال.
وجملة {لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} حال من ضمير {خَالِدِينَ} أي خالدين في حالة انتفاء الولي والنصير عنهم فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون.
[66] {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولاَ} .
{يَوْمَ} ظرف يجوز أن يتعلق بـ {لا يَجِدُونَ} [الأحزاب: 65] أي إن وجدوا أولياء ونصراء في الدنيا من يهود قريضة وخيبر في يوم الأحزاب فيوم تقلب وجوههم في النار لا يجدون وليا يرثى لهم ولا نصيرا يخلصهم. وتكون جملة {يَقُولُونَ} حلا من ضمير {يَقُولُونَ} .
ويجوز أن يتعلق الظرف بفعل {يَقُولُونَ} حلا من ضمير {لا يَجِدُونَ} .
ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف تقديره: أذكر على طريقة نظائره من ظروف كثيرة واردة في القرآن، وتكون جملة {يَقُولُونَ} حالا من الضمير في {وُجُوهُهُمْ} .
والتقليب: شدة القلب. والقلب: تغيير وضع الشيء على غير الجهة التي كان عليها.
والمعنى: يوم تقلب ملائكة العذاب وجوههم في النار بغير اختيار منهم، أو يجعل الله ذلك التقلب في وجوههم لتنال النار جميع الوجه كما يقلب الشواء على المشوى
لينضج على سواء، ولو كان لفح النار مقتصرا على أحد جانبي الوجه لكان للجانب الآخر بعض الراحة.
وتخصيص الوجوه بالذكر من بين سائر الأعضاء لأن حر النار يؤذي الوجوه أشد مما يؤذي بقية الجلد لأن مقر الحواس الرقيقة: العيون والأفواه والآذان والمنافس كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24].
وحرف {يَا} في قوله: {يَا لَيْتَنَا} للتنبيه لقصد إسماع من يرثى لحالهم مثل {يَا حَسْرَتَنَا} [الأنعام: 31]. والتمني هنا كناية عن التندم على ما فات،وكذلك نحو {يَا حَسْرَتَنَا} أي أن الحسرة غير مجدية.
وقد علموا يومئذ أن ما كان يأمرهم به النبيء صلى الله عليه وسلم هو تبليغ عن مراد الله منهم وأنهم إذ عصوه فقد عصوا الله تعالى فتمنوا يومئذ أن لا يكونوا عصوا الرسول المبلغ عن الله تعالى.
والألف في آخر قوله: {الرَّسُولا} لرعاية الفواصل التي بنيت عليها السورة فإنها بنيت على فاصلة الألف وهي ألف الإطلاق إجراء للفواصل مجرى القوافي التي تلحقها ألف الإطلاق.وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {وَيظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [10] في هذه السورة، وتقدمت وجوه القراءات في إثباتها في الوصل أو حذفها.
[67، 68] {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} .
عطف على جملة {يَقُولُونَ} [الاحزاب: 66] فهي حال. وجيء بها في صيغة الماضي لأن هذا القول كان متقدما على قولهم {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا} [الاحزاب: 66]، فذلك التمني نشأ لهم وقت أن مسهم العذاب، وهذا التنصل والدعاء اعتذروا به حين مشاهدة العذاب وحشرهم مع رؤساهم إلى جهنم، قال تعالى {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38]. فدل على أن ذلك قبل أن يمسهم العذاب بل حين رصفوا ونسقوا قبل أن يصب عليهم العذاب ويطلق إليهم حر النار.
والابتداء بالنداء ووصف الربوبية إظهار للتضرع والابتهال.
والسادة: جمع سيد. قال أبو علي: وزنة فعلة، أي كملة لكن على غير قياس لأن صيغة فعلة تطرد في جمع فاعل لا في جمع فيعل، فقلبت الواو ألفا لانفتاحها وانفتاح ما قبلها. وأما السادات فهو جمع الجمع بزيادة ألف وتاء بزنة جمع المؤنث السالم. والسادة: عظماء القوم والقبائل مثل الملوك.
وقرأ الجمهور {سَادَتَنَا} . وقرأ ابن عامر ويعقوب {سَاادَتَنَا} بألف بعد الدال وبكسر التاء لأنه جمع بألف وتاء مزيدتين على بناء مفرده. وهو جمع الجمع الذي هو سادة.
والكبراء: جمع كبير وهو عظيم العشيرة،وهم دون السادة فإن كبيرا يطلق على رأس العائلة فيقول المرء لأبيه: كبيري، ولذلك قوبل قولهم {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب: 66] بقولهم {أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} .
وجملة {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} خبر مستعمل في الشكاية والتذمر، وهو تمهيد لطلب الانتصاف من سادتهم وكبراءهم. فالمقصود الإفضاء إلى جملة {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} . ومقصود من هذا الخبر أيضا الاعتذار والتنصل من تبعة ضلالهم بأنهم مغرورون مخدوعون، وهذا الاعتذار مردود عليهم بما أنطقهم الله به من الحقيقة إذ قالوا: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} . فيتجه عليهم أن يقال لهم: لماذا أطعتموهم حتى يغروكم، وهذا شأن الدهماء أن يسودوا عليهم من يعجبون بأضغاث أحلامه،ويغرون بمسعول كلامه،ويسيرون على وقع أقدامه، حتى إذا اجتنبوا ثمار أكمامه، وذاقوا مرارة طعمه وحرارة أوامه، عادوا عليه باللائمة وهم الأحقاء بملامه.
وحرف التوكيد لمجرد الاهتمام لا لرد إنكار،وتقديم قولهم: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا} اهتمام بما فيه من تعليل لمضمون قولهم {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} لأن كبراءهم ما تأتي لهم إضلالهم إلا بتسبب طاعتهم العمياء إياهم واشتغالهم بطاعتهم عن النظر والاستدلال فيما يدعونهم إليه من فساد ووخامة مغبة، وبتسبب وضعهم أقوال سادتهم وكبراءهم موضع الترجيح على ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وانتصب {السَّبِيلا} على نزع الخافض لأن أضل لا يتعدى بالهمزة إلا إلى مفعول واحد قال تعالى: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان: 29]. وظاهر "الكشاف" أنه يتعدى إلى مفعولين، فيكون "ضل" المجرد يتعدى إلى مفعول واحد. تقول: ضللت الطريق، و"أضل" بالهمزة إلى مفعولين. وقاله ابن عطية.
والقول في ألف {السَّبِيلا} كالقول في ألف {الرَّسُولا} [الأحزاب: 66].
وإعادة النداء في قولهم {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} تأكيد للضراعة والابتهال وتمهيدا لقبول سؤلهم حتى إذا قبل سؤلهم طمعوا في التخلص من العذاب الذي ألقوه على كاهل كبرائهم.
والضعف بكسر الضاد: العدد المماثل للمعدود،فالأربعة ضعف الاثنين.ولما كان العذاب معنى من المعاني لا ذاتا كان معنى تكرير العدد فيه مجازا في القوة والشدة.
وتثنية {ضِعْفَيْنِ} مستعملة في مطلق التكرير كناية عن شدة العذاب كقوله تعالى: { ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] فإن البصر لا يخسأ في نظرتين، ولذلك كان قوله هنا: {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ} مساويا لقوله: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} في سورة الأعراف [38]. وهذا تعريض بإلقاء تبعة الضلال عليهم،وأن العذاب الذي أعد لهم يسلط على أولئك الذين أضلوهم.
ووصف اللعن بالكثرة كما وصف العذاب بالضعفين إشارة إلى أن الكبراء استحقوا عذابا لكفرهم وعذابا لتسببهم في كفر أتباعهم.
فالمراد بالكثير الشديد القوي، فعبر عنه بالكثير لمشاكلة معنى التثنية في قوله: {ضِعْفَيْنِ} المراد به الكثرة.
وقد ذكر في الأعراف جوابهم من قبل الجلالة بقوله: {قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ} [الأعراف: 38] يعني أن الكبراء استحقوا مضاعفة العذاب لضلالهم وإضلالهم وأن أتباعهم أيضا استحقوا العذاب لضلالهم ولتسويد سادتهم وطاعتهم العمياء إياهم.
[69] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} .
لما تقضى وعيد الذين يؤذون الرسول عليه الصلاة والسلام بالتكذيب ونحوه من الأذى المنبعث عن كفرهم من المشركين والمنافقين من قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57] حذر المؤمنين مما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم بتنزيههم عن أن يكونوا مثل قوم نسبوا إلى رسولهم ما هو أذى له وهم لا يعبأون بما في ذلك من إغضابه الذي فيه غضب الله تعالى. ولما كان كثير من الأذى قد يحصل عن غفلة
أصحابه عما يوجه فيصدر عنهم من الأقوال ما تجيش به خواطرهم قبل التدبر فيما يحف بذلك من الاحتمالات التي تقلعه وتنفيه ودون التأمل فيما يترتب عليه من الواجبات.وكذلك يصدر عنهم من الأعمال ما فيه ورطة لهم قبل التأمل في مغبة عملهم،نبه الله المؤمنين كي لا يقعوا في مثل تلك العنجهية لأن مدارك العقلاء في التنبيه إلى معاني الأشياء وملازماتها متفاوتة المقادير، فكانت حرية بالإيقاظ والتحذير. وفائدة التشبيه تشويه الحالة المشبهة لأن المؤمنين قد تقرر في نفوسهم قبح ما أوذي به موسى عليه السلام بما سبق من القرآن كقوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] الآية.
والذين آذوا موسى هم طوائف من قومه ولم يكن قصدهم أذاه ولكنهم أهملوا واجب كمال الأدب والرعاية مع أعظم الناس بينهم. وقد حكى الله عنهم ذلك إجمالا وتفصيلا بقوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} الآية "فلم يكن هذا الأذى من قبيل التكذيب لأجل قوله: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} والاستفهام في قوله: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} إنكاري". فكان توجيه الخطاب للمؤمنين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يراعى فيه المشابهة بين الحالين في حصول الإذابة.
فالذين آذوا موسى قالوا مرة {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] فآذوه بالعصيان وبضرب من التهكم. وقالوا مرة {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] فنسبوه إلى الطيش والسخرية ولذلك قال لهم {أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67]. وفي التوراة في الإصحاح الرابع عشر من الخروج "وقالوا لموسى فإذا بنا حتى أخرجتنا من مصر فإنه خير لنا أن نخدم المصريين من أن نموت في البرية". وفي الإصحاح السادس عشر "وقالوا لموسى وهارون إنكما أخرجتمانا إلى هذا القفر لكي تميتا كل هذا الجمهور بالجوع". وفي الحديث "إن موسى كان رجلا حيا ستيرا فقال فريق من قومه: ما نراه يستتر إلا من عاهة فيه. فقال قوم: به برص وقال قوم: هو آدر" ونحو هذا، وكان قريبا من هذا قول المنافقين: إن محمدا تزوج مطلقة ابنة زيد بن حارثة.
وقد دلت هذه الآية على وجوب توقير النبيء صلى الله عليه وسلم وتجنب ما يؤذيه وتلك سنة الصحابة والمسلمين وقد عرضت فلتات من بعض أصحابه الذين لم يبلغوا قبلها كمال التخلق بالقرآن مثل الذي قال له لما حكم بينه وبين الزبير في ماء شراح الحرة: أن كان ابن عمتك يا رسول الله. ومثل التميمي خرفوص الذي قال في قسمة مغانم حنين: "هذه
قسمة ما أريد بها وجه الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر" .
واعلم أن محل التشبيه هو قوله: {كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى} دون ما فرع عليه من قوله: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} وإنما ذلك إدماج وانتهاز للمقام بذكر براءة موسى مما قالوا، ولا اتصال له بوجه التشبيه لأن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يؤذ إيذاء يقتضي ظهور براءته مما أوذي به.
ومعنى "برأه" أظهر براءته عيانا لأن موسى كان بريئا مما قالوه من قبل أن يؤذوه بأقوالهم فليس وجود البراءة منه متفرعة على أقوالهم ولكن الله أظهرها عقب أقوالهم فإن الله أظهر براءته من التغرير بهم إذ أمرهم بدخول أريحا فثبت قلوبهم وافتتحوها وأظهر براءته من الاستهزاء بهم إذ أظهر معجزته حين ذبحوا البقرة التي أمرهم بذبحها فتبين من قتل النفس التي ادارأوا فيها.
وأظهر سلامته من البرص والأدرة حين بدا لهم عريانا لما انتقل الحجر الذي عليه ثيابه. ومعنى: "برأه مما قالوا" برأه من مضمون قولهم لا من نفس قولهم لأن قولهم قد حصل وأوذي به وهذا كما سموا السبة القالة. ونظيره قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80]، أي ما دل عليه مقاله وهو قوله: {لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] أي نرثه ماله وولده.
وجملة {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} في آخر الكلام ومفيدة سبب عناية الله بتبرئته.
والوجيه صفة، أي ذو الوجاهة. وهي الجاه وحسن القبول عند الناس. يقال: وجه الرجل، بضم الجيم، وجاهة فهو وجيه. وهذا الفعل مشتق من الاسم الجامد وهو الوجه الذي للإنسان، فمعنى كونه وجيها عند الله أنه مرضي عنه مقبول له مستجاب الدعوة.
وقد تقدم قوله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة آل عمران [45]، فضمه إلى هنا. وذكر فعل {كَانَ} دال على تمكن وجاهته عند الله تعالى.
وهذا تسفيه للذين آذوه بأنهم آذوه بما هو مبرأ منه،وتوجيه لتنزيه الله إياه بأنه مستأهل لتلك التبرئة لأنه وجيه عند الله وليس بخامل.
[71,70] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} .
بعد أن نهى الله المسلمين عما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم وربأ بهم عن أن يكونوا مثل الذين آذوا رسولهم وجه إليهم بعد ذلك نداء بأن يتسموا بالتقوى وسداد القول لأن فائدة النهي عن المناكر التلبس بالمحامد، والتقوى جماع الخير في العمل والقول. والقول السديد مبث الفضائل.
وابتداء الكلام بنداء الذين آمنوا للاهتمام به واستجلاب الإصغاء إليه. ونداؤهم بالذين آمنوا لما فيه من الإيماء إلى أن الإيمان يقتضي ما سيؤمرون به. ففيه تعريض بأن الذين يصدر منهم ما يؤذي النبيء صلى الله عليه وسلم قصدا ليسوا من المؤمنين في باطن الأمر ولكنهم منافقون، وتقديم الأمر بالتقوى مشعر بأن ما سيؤمرون به من سديد القول هو من شعب التقوى كما هو من شعب الإيمان.
والقول: الكلام الذي يصدر من فم الإنسان يعبر عما في نفسه.
والسديد: الذي يوافق السداد.والسداد: الصواب والحق ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمتها بحيث إذا اندفع أصابها، فشمل القول السديد الأقوال الواجبة والأقوال الصالحة النافعة مثل ابتداء السلام وقول المؤمن للمؤمن الذي بحبه: إني أحبك.
والقول يكون بابا عظيما من أبواب الخير ويكون كذلك من أبواب الشر. وفي الحديث: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم" ، وفي الحديث الآخر: "رحم الله امرأ قال خيرا فغنم أو سكت فسلم" ، وفي الحديث الآخر: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت" .
ويشمل القول السديد ما هو تعبير عن إرشاد من أقوال الأنبياء والعلماء والحكماء، وما هو تبليغ لإرشاد غيره من مأثور أقوال الأنبياء والعلماء. فقراءة القرآن على الناس من القول السديد، ورواية حديث: "الرسول صلى الله عليه وسلم من القول السديد. وفي الحديث: "نضر الله أمرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها" وكذلك نشر أقوال الصحابة والحكماء وأئمة الفقه. ومن القول السديد تمجيد الله والثناء عليه مثل التسبيح. ومن القول السديد الأذان والإقامة قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} في سورة فاطر [10]. فبالقول السديد
تشيع الفضائل والحقائق بين الناس فيرغبون في التخلق بها، وبالقول السيئ تشيع الضلالات والتمويهات فيغتر الناس بها ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. والقول السديد يشمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولما في التقوى والقول السديد من وسائل الصلاح جعل للآتي بهما جزاء بإصلاح الأعمال ومغفرة الذنوب. وهو نشر على عكس اللف، فإصلاح الأعمال جزاء على القول السديد لأن أكثر ما يفيده القول السديد إرشاد الناس إلى الصلاح أو اقتداء الناس بصاحب القول السديد.
وغفران الذنوب جزاء على التقوى لأن عمود التقوى اجتناب الكبائر وقد غفر الله للناس الصغائر باجتناب الكبائر وغفر لهم الكبائر بالتوبة،والتحول عن المعاصي بعد الهم بها ضرب من مغفرتها.
ثم إن ضميري جمع المخاطب لما كانا عائدين على الذين آمنوا كانا عامين لكل المؤمنين في عموم الأزمان سواء كانت الأعمال أعمال القائلين قولا سديدا أو أعمال غيرهم من المؤمنين الذين يسمعون أقوالهم فإنهم لا يخلون من فريق يتأثر بذلك القول فيعملون بما يقتضيه على تفاوت بين العاملين، وبحسب ذلك التفاوت يتفاوت صلاح أعمال القائلين قولا سديدا والعاملين به من سامعيه،وكذلك أعمال الذي قال القول السديد في وقت سماعه قول غيره. وفي الحديث: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" ، فظهر أن إصلاح الأعمال متفاوت وكيفما كان فإن صلاح المعمول من آثار سداد القول، وكذلك التقوى تكون سببا لمغفرة ذنوب المتقي ومغفرة ذنوب غيره لأن من التقوى الانكفاف عن مشاركة أهل المعاصي في معاصيهم فيحصل بذلك انكفاف كثير منهم عن معاصيهم تأسيا أو حياء فتتعطل بعض المعاصي،وذلك ضرب من الغفران فإن اقتدى فاهتدى فالأمر أجدر.
وذكر {لَكُمْ} مع فعلي {يُصْلِحْ} {يَغْفِرْ} للدلالة على العناية بالمتقين أصحاب القول السديد كما في قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1].
وجملة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} عطف على جملة {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي وتفوزوا فوزا عظيما إذا أطعتم الله بامتثال أمره. وإنما صيغت الجملة في صيغة الشرط وجوابه لإفادة العموم في المطيعين وأنواع الطاعات فصارت الجملة بهذين العمومين في قوة التذييل. وهذا نسج من نظم الكلام وهو
إفادة غرضين بجملة واحدة.
[72] {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} .
استئناف ابتدائي أفاد الأنباء على سنة عظيمة من سنن الله تعالى في تكوين العالم وما فيه وبخاصة الإنسان ليرقب الناس في تصرفاتهم ومعاملاتهم مع ربهم ومعاملات بعضهم مع بعض بمقدار جريهم على هذه السنة ورعيهم تطبيقا فيكون عرضهم أعمالهم على معيارها مشعرا لهم بمصيرهم ومبينا سبب تفضيل بعضهم على بعض واصطفاء بعضهم من بين بعض.
وموقع هذه الآية عقب ما قبلها وفي آخر هذه السورة يقتضي أن لمضمونها ارتباطا بمضمون ما قبلها،ويصلح عونا لاكتشاف دقيق معناها وإزالة ستور الرمز عن المراد منها،ولو بتقليل الاحتمال،والمصير إلى المآل.
والافتتاح بحرف التوكيد للاهتمام بالخبر أو تنزيله لغرابة شأنه منزلة ما قد ينكره السامع.
وافتتاح الآية بمادة العرض، وصوغها في صيغة المضي، وجعل متعلقها السماوات والأرض والجبال والإنسان يومئ إلى أن متعلق هذا العرض كان في صعيد واحد فيقتضي أنه عرض أزلي في مبدأ التكوين عند تعلق القدرة الربانية بإيجاد الموجودات الأرضية وإيداعها فصولها المقومة لمواهبها وخصائصها ومميزاتها الملائمة لوفائها بما خلقت لأجله كما حمل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172] الآية.
واختتام الآية بالعلة من قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73] إلى نهاية السورة يقتضي أن للأمانة المذكورة في هذه الآية مزيد اختصاص بالعبرة في أحوال المنافقين والمشركين من بين نوع الإنسان في رعي الأمانة وإضاعتها.
فحقيق بنا أن نقول: إن هذا العرض كان في مبدأ تكوين العالم ونوع الإنسان لأنه لما ذكرت فيه السماوات والأرض والجبال مع الإنسان علم أن المراد بالإنسان نوعه لأنه لو أريد بعض أفراده ولو في أول النشأة لما كان في تحمل ذلك الفرد الأمانة،بتعذيب المنافقين والمشركين،ولما كان في تحمل بعض أفراده دون بعض الأمانة حكمة
مناسبة لتصرفات الله تعالى.
فتعريف {الْأِنْسَانُ} تعريف الجنس،أي نوع الإنسان.
والعرض: حقيقته إحضار شيء لآخر ليختاره أو يقبله ومنه عرض الحوض على الناقة، أي عرضه عليها أن تشرب منه، وعرض المجندين على الأمير لقبول من تأهل منهم. وفي حديث ابن عمر: "عرضت على رسول الله وأنا ابن أربع عشرة فردني وعرضت عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني". وتقدم عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} في سورة هود [18]، وقوله: {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً} في سورة الكهف [48].
فقوله: {عَرَضْنَا} هنا استعارة تمثيلية لوضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الأشياء،وعدم وضعه في بقية الأشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السماوات والأرض والجبال ووضعها في الإنسان بحالة من يعرض شيئا على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية، أو تمثيل لتعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال لإناطة ما عبر عنه بالأمانة بها وصلاحية الإنسان لذلك، فشهبت حالة تعلق علم الله بمخالفة قابلية السماوات والأرض والجبال بحمل الأمانة لقابلية الإنسان ذلك بعرض شيء على أشياء لاستظهار مقدار صلاحية أحد تلك الأشياء للتلبس بالشيء المعروض عليها.
وفائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات. فتخصيص {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف {الْجِبَالِ} على {الْأَرْضِ} وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصار عظمتها إذ الأبصار لا ترى الكرة الأرضية كما قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
وقرينة الاستعارة حالية وهي عدم صحة تعلق العرض والإباء بالسماوات والأرض والجبال لانتفاء إدراكها فأنى لها أن تختار وترفض وكذلك الإنسان باعتبار كون المراد كمه جنسه وماهيته لأن الماهية لا تفاوض ولا تختار كما يقال : الطبيعة عمياء،أي لا اختيار لها،أي للجبلة وإنما تصدر منها آثارا قسرا.
ولذلك فأفعال {عَرَضْنَا ، أَبَيْنَ ، يَحْمِلْنَهَا ، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ، وَحَمَلَهَا} أجزاء للمركب
التمثيلي. وهذه الأجزاء صالحة لأن يكون كل منها استعارة مفردة بأن يشبه إيداع الأمانة في الإنسان وصرفها عن غيره بالعرض، ويشبه عدم مصحح مواهي السماوات والأرض والجبال لإيداع الأمانة فيها بالإباء، ويشبه الإيداع بالتحميل والحمل،ويشبه عدم التلاؤم بين مواهي السماوات والأرض والجبال بالعجز عن قبول تلك الكائنات إياها وهو المعبر عنه بالإشفاق،ويشبه التلاؤم ومصحح القبول لإيداع وصف الأمانة في الإنسان بالحمل للثقل.
ومثل هذه الاستعارات كثير في الكلام البليغ. وصلوحية المركب التمثيلي للانحلال بأجزائه إلى استعارات معدود من كمال بلاغة ذلك التمثيل.
وقد عدت هذه الآية من مشكلات القرآن وتردد المفسرون في تأويلها ترددا دل على الحيرة في تقويم معناها.ومرجع ذلك إلى تقويم معنى العرض على السماوات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، ومعرفة معنى الإباء والإشفاق.
فأما العرض فقد استبانت معانيه بما علمت من طريقة التمثيل. وأما الأمانة فهي ما يؤتمن عليه ويطالب بحفظه والوفاء دون إضاعة ولا إجحاف، وقد اختلف فيها المفسرون على عشرين قولا وبعضها متداخل في بعض ولنبتدئ بالإلمام بها ثم نعطف إلى تمحيصها وبيانها.
فقيل: الأمانة الطاعة، وقيل: الصلاة، وقيل: مجموع الصلاة والصوم والاغتسال، وقيل: جميع الفرائض، وقيل الانقياد إلى الدين، وقيل: حفظ الفرج، وقيل: الأمانة التوحيد، أو دلائل الوحدانية، أو تجليات الله بأسمائه، وقيل: ما يؤتمن عليه ومنه الوفاء بالعهد، ومنه انتفاء الغش بالعمل، وقيل: الأمانة العقل، وقيل: الخلافة، أي خلافة الله في الأرض التي أودعها الإنسان كما قال تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] الآية.
وهذه الأقوال ترجع إلى أصناف: صنف الطاعات والشرائع، وصنف العقائد، وصنف ضد الخيانة، وصنف العقل، وصنف خلافة الأرض.
ويجب أن يطرح منها صنف الشرائع لأنها ليست لازمة لفطرة الإنسان فطالما خلت أمم عن التكليف بالشرائع وهم أهل الفتر فتسقط ستة أقوال وهي ما في الصنف الأول.
ويبقى سائر الأصناف لأنها مرتكزة في طبع الإنسان وفطرته.
فيجوز أن تكون الأمانة أمانة الإيمان، أي توحيد الله، وهي العهد الذي أخذه الله على جنس بني آدم وهو الذي في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} وتقدم في سورة الأعراف [172]. فالمعنى: أن الله أودع في نفوس الناس دلائل الوحدانية فهي ملازمة للفكر البشري فكأنها عهد الله لهم به وكأنه أمانة ائتمنهم عليها لأنه أودعها في الجبلة ملازمة لها، وهذه الأمانة لم تودع في السماوات والأرض والجبال لأن هذه الأمانة من قبيل المعارف والمعارف من العلم الذي لا يتصف به إلا من قامت به صفة الحياة لأنها مصححة الإدراك لمن قامت به، ويناسب هذا المحمل قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الأحزاب: 73]، فإن هذين الفريقين خالون من الإيمان بوحدانية الله.
ويجوز أن تكون الأمانة هي العقل وتسميته أمانة تعظيم لشأنه ولأن الأشياء النفسية تودع عند من يحتفظ بها.
والمعنى: أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودع العقل من بين الموجودات العظيمة لأن خلقته ملائمة لأن يكون عاقلا فإن العقل يبعث على التغير والانتقال من حال إلى حال ومن مكان إلى غيره، فلو جعل ذلك في سماء من السماوات أو في الأرض أو في جبل من الجبال أو جميعها لكان سببا في اضطراب العوالم واندكاكها. وأقرب الموجودات التي تحمل العقل أنواع الحيوان ما عدا الإنسان فلو أودع فيها العقل لما سمحت هيئات أجسامها بمطاوعة ما يأمرها العقل به.فلنفرض أن العقل يسول للفرس أن لا ينتظر علفه أو سومه وأن يخرج إلى حناط يشتري منه علفا، فإنه لا يستطيع في الإفهام ثم لا يتمكن من تسليم العوض بيده إلى فرس غيره. وكذلك إذا كانت معاملته مع أحد من نوع الإنسان.
ومناسبة قوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 73] الآية لهذا المحمل نظير مناسبته للمحمل الأول.
ويجوز أن تكون الأمانة ما يؤتمن عليه،وذلك أن الإنسان مدني بالطبع مخالط لبني جنسه فهو لا يخلو عن ائتمان أو أمانة فكان الإنسان متحملا لصفة الأمانة بفطرته والناس متفاوتون في الوفاء لما ائتمنوا عليه كما في الحديث: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" أي إذا انقرضت الأمانة كان انقراضها علامة على اختلال الفطرة، فكان في جملة
الاختلالات المنذرة بدنو الساعة مثل تكوير الشمس وانكدار النجوم ودك الجبال.
والذي بين هذا المعنى قول حذيفة: "حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الأخر،حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة، وحدثنا عن رفعها فقال: ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت1، ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل2 كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون ولا يكاد أحد يؤدي الأمانة فيقال : إن في بني فلان رجلا أمينا ويقال للرجل: ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" أي من أمانة لأن الإيمان من الأمانة لأنه عهد الله.
ومعنى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال يندرج في معنى تفسير الأمانة بالعقل، لأن الأمانة بهذا المعنى من الأخلاق التي يجمعها العقل ويصرفها، وحينئذ فتخصيصها بالذكر للتنبيه على أهميتها في أخلاق العقل.
والقول في حمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض مثل القول في العقل لأن تلك الخلافة ما هيأ الإنسان لها إلا العقل كما أشار إليه قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] ثم قوله: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31] فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانها ووضع الموجودات فيها في مواضعها، واستعمالها فيما استعدت إليه غرائزها.
وبقية الأمور التي فسر بها بعض المفسرون الأمانة يعتبر تفسيرها من قبيل ذكر الأمثلة الجزئية للمعاني الكلية.
والمتبادر من هذه المحامل أن يكون المراد بالأمانة حقيقتها المعلومة وهي الحفاظ على ما عهد به ورعيه والحذار من الإخلال به سهوا أو تقصيرا فيسمى تفريطا وإضاعة،أو عمدا فيسمى خيانة وخيسا لأن هذا المحمل هو المناسب لورود هذه الآية في ختام السورة التي ابتدئت بوصف خيانة المنافقين واليهود وإخلالهم بالعهود وتلونهم مع النبيء صلى الله عليه وسلم قال
ـــــــ
1 الوكت: الشية في الشيء من غير لونه.
2 المجل: نفاخة في الجلد مرتفعة يكون ما تحتها فارغاً مثل ما يقع في أكف العملة بالفؤوس من ارتفاعات في الجلد.
تعالى: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15] وقال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23]. وهذا المحمل يتضمن أيضا أقرب المحامل بعده وهو أن يكون هي العقل لأن قبول الأخلاق فرع منه.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} محلها اعتراض بين جملة {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} والمتعلق بفعلها وهو {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} [الأحزاب: 73] الخ. ومعناها استئناف بياني لأن السامع خبر أن الإنسان تحمل الأمانة يترقب معرفة ما كان من حسن قيام الإنسان بما حمله وتحمله وليست الجملة تعليلية لأن تحمل الأمانة لم يكن باختيار الإنسان فكيف يعلل بأن حمله الأمانة من أجل ظلمه وجهله.
فمعنى {كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} أنه قصر في الوفاء بحق ما تحمله تقصيرا: بعضه من غمد وهو المعبر منه بوصف ظلوم، وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء وهو المعبر عنه بكونه جهولا،فظلوم مبالغة في الظلم وكذلك جهول مبالغة في الجهل.
والظلم: الاعتداء على حق الغير وأريد به هنا الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة، وهو حق الوفاء بالأمانة.
والجهل: انتفاء العلم بما يتعين علمه، والمراد به هنا انتفاء علم الإنسان بمواقع الصواب فيها تحمل به، فقوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} مؤذن بكلام محذوف يدل هو عليه إذ التقدير: وحملها الإنسان فلم يف بها إنه كان ظلوما جهولا، فكأنه قيل: فكان ظلوما جهولا، أي ظلوما، أي في عدم الوفاء بالأمانة لأنه إجحاف بصاحب الحق في الأمانة أيا كان، وجهولا في عدم تقدير قدر إضاعة الأمانة من المؤاخذة المتفاوتة المراتب في التبعة بها،ولولا هذا التقدير لم يلتئم الكلام لأن الإنسان لم يحمل الأمانة باختياره بل فطر على تحملها.
ويجوز أن يراد {ظَلُوماً جَهُولاً} في فطرته، أي في طبع الظلم،والجهل فهو معرض لهما ما لم يعصمه وازع الدين، فكان من ظلمه وجهله أن أضاع كثير من الناس الأمانة التي حملها.
ولك أن تجعل ضمير {إِنَّهُ} عائدا على الإنسان وتجعل عمومه مخصوصا بالإنسان الكافر تخصيصا بالعقل لظهور أن الظلوم الجهول هو الكافر.
أو تجعل في ضمير {إِنَّهُ} استخداما بأن يعود إلى الإنسان مرادا به الكافر وقد أطلق
لفظ الإنسان في مواضع كثيرة من القرآن مرادا به الكافر كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم: 66] الآية وقوله: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] الآيات.
وفي ذكر فعل {كَانَ} إشارة إلى أن ظلمه وجهله وصفان متأصلان فيه لأنهما الغالبان على أفراده الملازمان لها كثرة أو قلة.
فصيغتا المبالغة منظور فيهما إلى الكثرة والشدة في أكثر أفراد النوع الإنساني والحكم الذي يسلط على الأنواع والأجناس والقبائل يراعى فيه الغالب وخاصة في مقام التحذير والترهيب.وهذا الإجمال يبينه قوله عقبه: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ} إلى قوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 73] فقد جاء تفصيله بذكر فريقين: أحدهما: مضيع للأمانة والآخرة مراع لها.
ولذلك أثنى الله على الذين وفوا بالعهود والأمانات فقال في هذه السورة {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً} [الأحزاب: 15] وقال فيها: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] وقال {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54] وقال في ضد ذلك {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} [البقرة: 27] إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 26, 27].
[73] {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً}.
متعلق بقوله: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] لأن المنافقين والمشركين والمؤمنين من أصناف الإنسان. وهذه اللام للتعليل المجازي المسماة لام العاقبة. وقد تقدم القول فيها غير مرة إحداها قوله تعالى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} في آل عمران [178].
والشاهد الشائع فيها هو قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وعادة النحاة وعلماء البيان يقولون: إنها في معنى فاء التفريع: وإذ قد كان هذا عاقبة لحمل الإنسان الأمانة وكان فيما تعلق به لام التعليل إجمال تعين أن هذا يفيد بيانا لما أجمل في قوله: {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جهولاً} [الأحزاب: 72] كما قدمناه آنفا، أي فكان الإنسان فريقين: فريقا ظالما جاهلا، وفريقا راشد عالما.
والمعنى: فعذب الله المنافقين والمشركين على عدم الوفاء بالأمانة التي تحملوها في أصل الفطرة وبحسب الشريعة، وتاب على المؤمنين فغفر من ذنوبهم لأنهم وفوا بالأمانة التي تحملوها. وهذا مثل قوله فيما مر: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب: 24] أي كما تاب كلى المؤمنين بأن يندموا على ما فرط من نفاقهم فيخلصوا الإيمان فيتوب الله عليهم وقد تحقق ذلك في كثير منهم.
وإظهار اسم الجلالة في قوله: {وَيَتُوبُ اللَّهُ} وكان الظاهر إضماره لزيادة العناية بتلك التوبة لما في الإظهار في مقام الإضمار من العناية.
وذكر المنافقات والمشركات والمؤمنات مع المنافقين والمشركين والمؤمنين في حين الاستغناء عن ذلك بصيغة الجمع التي شاع في كلام العرب شموله للنساء نحو قولهم: حل ببني فلان مرض يريدون وبنسائهم.
فذكر النساء في الآية إشارة إلى أن لهن شأنا كان في حوادث غزوة الخندق من إعانة لرجالهن على كيد المسلمين وبعكس ذلك حال نساء المسلمين.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} بشارة للمؤمنين والمؤمنات بأن الله عاملهم بالغفران وما تقتضيه صفة الرحمة.
المجلد الثاني والعشرون
سورة سبأ...
سورة سبأ
هذا اسمها الذي اشتهرت به في كتب السنة وكتب التفسير وبين القراءة ولم أقف على تسميتها في عصر النبوة. ووجه تسميتها به أنها ذكرت فيها أهل سبأ.
وهي مكية وحكي اتفاق أهل التفسير عليه. وعن مقاتل أن آية: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} إلى قوله: {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6] نزلت بالمدينة. ولعله بناء على تأويلهم أهل العلم إنما يراد بهم أهل الكتاب الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام. والحق أن الذين أوتوا العلم هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعزي ذلك إلى ابن عباس أو هم أمة محمد، قاله قتادة، أي لأنهم أوتوا بالقرآن علما كثيرا قال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]، على أنه لا مانع من التزام أنهم علماء أهل الكتاب قبل أن يؤمنوا لأن المقصود الاحتجاج بما هو مستقر في نفوسهم الذي أنبأ عنه إسلام طائفة منهم كما نبينه عند قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الخ.
ولابن الحصار أن سورة سبا مدنية لما رواه الترمذي: عن فروة بن مسيك العطيفي المرادي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال: وأنزل في سبأ ما أنزل. فقال رجل: يا رسول الله: وما سبأ? الحديث. قال ابن الحصار: هاجر فروة سنة تسع بعد فتح الطائف. وقال ابن الحصار: يحتمل أن يكون قوله "وأنزل" حكاية عما تقدم نزوله قبل هجرة فروة، أي أن سائلا سأل عنه لما قرأه أو سمعه من هذه السورة أو من سورة النمل.
وهي السورة الثامنة والخمسون في عداد السور، نزلت بعد سورة لقمان سورة الزمر كما في المروي عن جابر بن زيد واعتمد عليه الجعبري كما في "الإتقان"، وقد تقدم في سورة الإسراء أن قوله تعالى فيها: {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} إلى قوله: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 90- 92] إنهم عَنَوا
قوله تعالى في هذه السورة: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ} [سبأ: 9] فاقتضى أن سورة سبأ نزلت قبل سورة الإسراء وهو خلاف ترتيب جابر بن زيد الذي يعد الإسراء متممة الخمسين. وليس يتعين أن يكون قولهم: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} معنياً به هذه الآية لجواز أن يكون النبيء صلى الله عليه وسلم هددهم بذلك في موعظة أخرى.
وعدد آيها أربع وخمسون في عد الجمهور،وخمس وخمسون في عد أهل الشام.
أغراض هذه السورة
من أغراض هذه السورة إبطال قواعد الشرك وأعظمها إشراكهم آلهة مع الله وإنكار البعث فابتدئ بدليل على انفراده تعالى بالإلهية عن أصنامهم ونفي أن تكون الأصنام شفعاء لعُبّادها.
ثم موضوع البعث، وعن مقاتل: أن سبب نزولها أن أبا سفيان لما سمع قوله تعالى: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} [الأحزاب: 73] الآية الأخيرة من سورة الأحزاب. قال لأصحابه: كأن محمدا يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا، فأنزل الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: 3] الآية. وعليه فما قبل الآية المذكورة من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 1، 2] تمهيد للمقصود من قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} .
واثبات إحاطة علم الله بما في السماوات وما في الأرض فما يخبر به فهو واقع ومن ذلك إثبات البعث والجزاء.
وإثبات صدق النبيء صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به، وصدق ما جاء به القرآن وأن القرآن شهدت به علماء أهل الكتاب.
وتخلل ذلك بضروب من تهديد المشركين وموعظتهم بما حل ببعض الأمم المشركين من قبل. وعرض بأن جعلهم لله شركاء كفران لنعمة الخالق فضرب لهم المثل بمن شكروا نعمة الله واتقوه فأوتوا خير الدنيا والآخرة وسخرت لهم الخيرات مثل داود وسليمان، وبمن كفروا بالله فسلط عليه الأزراء في الدنيا وأعد لهم العذاب في الآخرة مثل سبأ، وحذروا من الشيطان، وذكروا بأن ما هم فيه من قرة العين يقربهم إلى الله، وأنذروا بما
سيلقون يوم الجزاء من خزي وتكذيب وندامة وعدم النصير وخلود في العذاب، وبشر المؤمنون بالنعيم المقيم.
[1] {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} .
افتتحت السورة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} للتنبيه على أن السورة تتضمن من دلائل تفرده بالإلهية واتصافه بصفات العظمة ما يقتضي إنشاء الحمد له والإخبار باختصاصه به. فجملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هنا يجوز كونها إخبارا بأن جنس الحمد مستحق لله تعالى فتكون اللام في قوله: {لِلَّهِ} لام الملك. ويجوز أن تكون إنشاء ثناء على الله على وجه تعليم الناس أن يخصوه بالحمد فتكون اللام للتبيين لأن معنى الكلام: أحمد الله.
وقد تقدم الكلام على {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة، وتقدم الكلام على تعقيبه باسم الموصول في أول سورة الأنعام وأول سورة الكهف.
وهذه إحدى سور خمس مفتتحة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وهن كلها مكية وقد وضعت في ترتيب القرآن في أوله ووسطه، والربع الأخير، فكانت أرباع القرآن مفتتحة بالحمد لله كان ذلك بتوفيق من الله أو توقيف.
واقتضاء صلة الموصول أن ما في السماوات والأرض ملك لله تعالى يجعل هذه الصلة صالحة لتكون علة لإنشاء الثناء عليه لأن ملكه لما في السماوات وما في الأرض ملك حقيقي لأن سببه إيجاد تلك المملوكات وذلك الإيجاد عمل جميل يستحق صاحبه الحمد، وأيضا هو يتضمن نعما جمة. وهي أيضا يقتضي حمد المنعم، لأن الحمد يكون للفضائل والفواضل، فما في السماوات فإن منه مهابط أنوار حقيقية ومعنوية، فيها هدى حسي ونفساني، واليه معارج للنفوس في مراتب الكمالات التي بها استقامة السير، وإزالة الغير، ونزول الغيوث بالمطر. وما في الأرض منه مسارح أنظار المتفكرين، ومنابت أرزاق المرتزقين، وميادين نفوس السائرين.
وفي هذه الصلة تعريض بكفران المشركين الذين حمدوا أشياء ليس لها في هذه العوالم أدنى تأثير ولا لها بما تحتوي عليه أدنى شعور، ونسوا حمد مالكها وسائر ما في السماوات والأرض.
وجملة {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} عطف على الصلة، أي والذي له الحمد في الآخرة، وهذا إنباء بأنه مالك الأمر كله في الآخرة.
وفي هذا التحميد براعة استهلال الغرض من السورة. وتقديم المجرور لإفادة الحصر، أي لا حمد في الآخرة إلا له، فلا تتوجه النفوس إلى حمد غيره لأن الناس يومئذ في عالم الحق فلا تلتبس عليهم الصور.
واعلم أن {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وإن اقتضت قصر الحمد عليه تعالى قصرا مجازيا للمبالغة كما تقدم في سورت الفاتحة بناء على أن حمد غير الله للاعتداد بأن نعمة الله جرت على يديه، فلما شاع ذلك في جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وأريد إفادة أن الحمد لله مقصور عليه تعالى في الآخرة حقيقة غيرت صيغة الحمد المألوفة إلى صيغة {لَهُ الْحَمْدُ} لهذا الاعتبار، وهذا نظير معنى قوله تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]، فالمعنى: أن قصر الحمد عليه في الآخرة أحق لأن التصرفات يومئذ مقصورة عليه لا يلتبس فيها تصرف غيره بتصرفه.
ولما نيط حمده في الدنيا والآخرة بما اقتضى مرجع التصرفات إليه في الدارين أعقب ذلك بصفتي {الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}، لأن الذي أوجد أحوال النشأتين هو العظيم الحكمة الخبير بدقائق الأشياء وأسرارها. فالحكمة: إتقان التصرف بالإيجاد وضده،والخبرة تقتضي العلم بأوائل الأمور وعواقبها.
والقرن بين الصفتين هنا لأن كل واحدة تدل على معنى أصلي ومعنى لزومي، وهما مختلفان، فالمعنى الأصلي للحكيم أنه متقن التصرف والصنع لأن الحكيم مشتق من الإحكام وهو الإتقان، وهو يستلزم العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه، والخبير هو العليم بدقائق الأشياء وظواهرها بالأولى بحيث لا يفوته شيء منها،وهو يستلزم التمكن من تصريفها، ففي التتميم بهذين الوصفين إيماء إلى أن المقصود من الجملة قبله استحماق الذين اقبلوا في شؤونهم على آلهة باطلة.
[2] {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }.
بيان لجملة {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] لأن العلم بما ذكر هنا هو العلم بذواتها
وخصائصها وأسبابها وعللها وذلك عين الحكمة والخبرة، فإن العلم يقتضي العمل، وإتقان العمل بالعلم.
وخص بالذكر في متعلق العلم ما يلج وما يخرج من الأرض دون ما يدب على سطحها، وما ينزل وما يعرج إلى السماء دون ما يجول في أرجائها لأن ما ذكر لا يخلو عن أن يكون دابا وجائلا فيهما والذي يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها يعلم ما يدب عليها وما يزحف فوقها، والذي يعلم ما ينزل من السماء وما يعرج يعلم ما في الأجواء والفضاء من الكائنات المرئية وغيرها ويعلم سير الكواكب ونظامها.
والولوج: الدخول والسلوك مثل ولوج المطر في أعماق الأرض وولوج الزريعة. والذي يخرج من الأرض، النبات والمعادن والدواب المستكنة في بيوتها ومغاراتها، وشمل ذلك من يقبرون في الأرض وأحوالهم، والذي ينزل من السماء: المطر والثلج والرياح، والذي يعرج فيها ما يتصاعد في طبقات الجو من الرطوبات البحرية ومن العواطف الترابية، ومن العناصر التي تتبخر في الطبقات الجوية فوق الأرض، وما يسبح في الفضاء وما يطير في الهواء وعروج الأرواح عند مفارقة الأجساد قال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
واعلم أن كلمتي {يَلِجُ} و {يَخْرُجُ} أوضح ما يعبر به عن أحوال جميع الموجودات الأرضية بالنسبة إلى اتصالها بالأرض، وأن كلمتي {يَنْزِلُ} و {يَعْرُجُ} أوضح ما يعبر به عن أحوال الموجودات السماوية بالنسبة إلى اتصالها بالسماء، من كلمات اللغة التي تدل على المعاني الموضوعة للدلالة عليها دلالة مطابقية على الحقيقة دون المجاز ودون الكناية، ولذلك لم يعطف السماء على الأرض في الآية فلم يقل: يعلم ما يلج في الأرض والسماء، وما يخرج منهما، ولم يكتفي بإحدى الجملتين عن الأخرى. وقد لاح لي أن هذه الآية ينبغي أن تجعل من الإنشاء مثل ما اصطلح على تسميته بصراحة اللفظ. ولذلك ألحقها بكتابي: "أصول الإنشاء والخطابة" بعد تفرق نسخه بالطبع، وسيأتي نظير هذه في أول سورة الحديد.
ولما كان من جملة أحوال ما في الأرض أعمال الناس وأحوالهم من عقائد وسير ومما يعرج في السماء العمل الصالح والكلم الطيب أتبع ذلك بقوله: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي الواسع الرحمة والواسع المغفرة. وهذا إجمال قصد منه حث الناس على طلب أسباب الرحمة والمغفرة المرغوب فيهما فإن من رغب في تحصيل شيء بحث عن
وسائل تحصيله وسعى إليها. وفيه تعريض بالمشركين أن يتوبوا عن الشرك فيغفر لهم ما قدموه.
[3] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}.
كان ذكر ما يلج في الأرض وما يخرج منها مشعرا بحال الموتى عند ولوجهم القبور وعند نشرهم منها كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات: 25، 26] وقال: {يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ} [ق: 44]، وكان ذكر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها موميا إلى عروج الأرواح عند مفاقرة الأجساد ونزول الأرواح لترد إلى الأجساد التي تعاد يوم القيامة، فكان ذلك مع ما تقدم من قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} [سبأ: 1] مناسبة للتخلص إلى ذكر إنكار المشركين الحشر لأن إبطال زعمهم من أهم مقاصد هذه السورة، فكان التخلص بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} ، فالواو اعتراضية للاستطراد وهي في الأصل واو عطف الجملة المعترضة على ما قبلها من الكلام. ولما لم تفد إلا التشريك في الذكر دون الحكم دعوها بالواو الاعتراضية وليست هنا للعطف لعدم التناسب بين الجملتين وإنما جاءت المناسبة من أجزاء الجملة الأولى فكانت الثانية استطرادا واعتراضا، وتقدم آنفا ما قيل: إن هذه المقالة كانت سبب نزول السورة.
وتعريف المسند إليه بالموصولية لأن هذا الموصول صار كالعلم بالغبة على المشركين في اصطلاح القرآن وتعرف المسلمين.
و {السَّاعَةُ} : علَم بالغلبة في القرآن على يوم القيامة وساعة الحشر.
وعبر عن انتفاء وقوعها بانتفاء إتيانها على طريق الكناية لأنها لو كانت واقعة لأتت، لأن وقوعها هو إتيانها.
وضمير المتكلم المشارك مراد به جميع الناس.
ولقد لقن الله نبيئه صلى الله عليه وسلم الجواب عن قول الكافرين بالإبطال المؤكد على عادة إرشاد
القرآن في انتهاز الفرص لتبليغ العقائد.
و {بَلَى} حرف جواب مختص بإبطال النفي فهو حرف إيجاب لما نفاه كلام قبله وهو نظير "بل" أو مركب من "بل" وألف زائدة، أو هي ألف تأنيث لمجرد تأنيث الكلمة مثل زيادة تاء التأنيث في ثمة وربة، لكن {بَلَى} حرف يختص بإيجاب النفي فلا يكون عاطفا و بل يجاب به الإثبات والنفي وهو عاطف، وتقدم الكلام على {بَلَى} عند قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} في سورة البقرة [81].
وأكد ما اقتضاه {بَلَى} من إثبات إتيان الساعة بالقسم على ذلك للدلالة على ثقة المتكلم بأنها آتية وليس ذلك لإقناع المخاطبين وهو تأكيد يروع السامعين المكذبين.
وعُدِّي إتيانها إلى ضمير المخاطبين من بين جميع الناس دون:لتأتينا، ودون أن يجرد عن التعدية لمفعول، لأن المراد إتيان الساعة الذي يكون عنده عقابهم كما يقال: وأتاكم العدو، وأتاك أتاك اللاحقون، فتعلقه بضمير المخاطبين قرينة على أنه كناية عن إتيان مكروه فيه عذاب.
وفعل {أَتَى} يرد كثيرا في معنى حلول المكروه مثل {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] و {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ} [الزمر: 25] و {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158]، وقول النابغة:
فلتأتينك قصائد وليدفعَن ... جيشا إليك قوادم الأكوار
وقوله:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
ومن هذا ينتقلون إلى تعدية فعل {أَتَى} بحرف "على" فيقولون: أتى على كذا، إذا استأصله. ويكثر في غير ذلك استعمال فعل "جاء"، وقد يكون للمكروه نحو {وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ} [يونس: 22].
{عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}.
{عَالِمُ الْغَيْبِ} خبر ثان عن ضمير الجلالة في قوله: {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [سبأ: 1] في قراءة من قرأه بالرفع، وصفة لـ {رَبَِّي} المقسم به في قراءة من قرأه بالجر وقد اقتضت ذكره مناسبة تحقيق إتيان الساعة فإن وقتها وأحوالها من الأمور المغيبة في علم الناس.
وفي هذه الصفة إتمام لتبين سعة علمه تعالى فبعد أن ذكرت إحاطة علمه بالكائنات ظاهرها وخفيها جليلها ودقيقها في سورة البقرة أتبع بإحاطة علمه بما سيكون أنه يكون ومتى يكون.
والغيب تقدم في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] على معان ذكرت هنالك.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر ورويس عن يعقوب: {عَالِمُ الْغَيْبِ} بصيغة اسم الفاعل، وبرفع: {عَالِمُ} على القطع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وخلف وروح عن يعقوب بصيغة اسم الفاعل أيضا ومجرورا على الصفة لاسم الجلالة في قوله: {رَبِّي} .
وقرأ حمزة الكسائي: {عَلاَّمِ} بصيغة المبالغة وبالجر على النعت. وقد تكرر في القرآن إتباع ذكر الساعة بذكر انفراده تعالى بعلمها لأن الكافرين بها جعلوا من عدم العلم بها دليلا سفسطائيا على أنها ليست بواقعة ولذلك سماها القرآن الواقعة في قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 1، 2].
والعزوب: الخفاء. ومادته تحوم حول معاني البعد عن النظر وفي مضارعه ضم العين وكسرها. قرأ الجمهور بكسر الزاي، وقرأه الكسائي بكسر الزاي ومعنى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ} : لا يعزب عن علمه. وقد تقدم في سورة يونس: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [61].
وتقدم مثقال الحبة في سورة الأنبياء: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [47].
وأشار بقوله: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} إلى تقريب معنى إمكان الحشر لأن الكافرين أحالوه بعلة أن الأجساد تصير رفاتا وترابا فلا تمكن إعادتها فنبهوا إلى أن علم الله محيط بأجزائها.
ومواقع تلك الأجزاء في السماوات وفي الأرض وعلمه بها تفصيلا يستلزم القدرة في على تسخيرها للتجمع والتحاق كل منها بعديله حتى تلتئم الأجسام من الذرات التي كانت مركبة منها في آخر لحظات حياتها التي عقبها الموت وتوقف الجسد بسبب الموت عن اكتساب أجزاء جديدة. فإذا عدت الأرض على أجزاء ذلك الجسد ومزقته كل ممزق كان الله عالم بكل جزء فإن الكائنات لا تضمحل ذراتها فتمكن إعادة أجسام جديدة تنبثق من ذرات الأجسام الأولى وتنفخ فيها أرواحها. فالله قادر على تسخيرها للاجتماع بقوى يحدثها الله تعالى لجمع المتفرقات أو تسخير ملائكة لجمعها من أقاصي الجهات في الأرض والجو أو السماء على حسب تفرقها، أو تكون ذرات منها صالحة لأن تتفتق عن
أجسام كما تتفتق الحبة عن عرق الشجرة، أو بخلق جاذبية خاصة بجذب تلك الذرات بعضها إلى بعض ثم يصور منها جسدها، وإلى هذا المعنى يشير قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] ثم تنمو تلك الأجسام سريعا فتصبح في صور أصولها التي كانت في الحياة الدنيا.
وانظر قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} في سورة القمر [6، 7]، وقوله: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} في سورة القارعة [4] فإن الفراش وهو فراخ الجراد تنشأ من البيض مثل الدود ثم لا تلبث إلا قليلا حتى تصير جرادا وتطير. ولهذا سمى الله ذلك البعث نشأة لأن فيه إنشاء جديدا وخلقا معادا وهو تصوير تلك الأجزاء بالصورة التي كانت ملتئمة بها حين الموت ثم إرجاع روح كل جسد إليه بعد تصويره بما سمي بالنفخ فقال: {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 47] وقال: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [ق: 15، 16] الآية. أي فذلك يشبه خلق آدم من تراب الأرض وتسويته ونفخ الروح فيه وذلك بيان مقنع للمتأمل لو نصبو أنفسهم للتأمل.
وأشار بقوله: {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} إلى ما لا يعلمه إلا الله من العناصر والقوى الدقيقة أجزاؤها الجليلة آثارها، وتسييرها بما يشمل الأرواح التي تحل في الأجسام والقوى التي تودعها فيها.
[4، 5] {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [5]}.
لام التعليل تتعلق بفعل: {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] دون تقييد الإتيان بخصوص المخاطبين بل المراد ما شملهم وغيرهم لأن جزاء الذين آمنوا لا علاقة له بالمخاطبين فكأنه قيل: لتأتين الساعة ليجزي الذين آمنوا ويجزي الذين سعوا في لآياتنا معجزين، وهم المخاطبون، وضمير "يجزي" عائد إلى: {عَالِمِ الْغَيْبِ} [سبأ: 3].
والمعنى: أن الحكمة في إيجاد الساعة للبعث والحشر هي جزاء الصالحين على صلاح اعتقادهم وأعمالهم، أي جزاء صالحا مماثلا، وجزاء المفسدين جزاء سيئا، وعلم نوع الجزاء من وصف الفريقين من أصحابه.
والإتيان باسم الإشارة لكل فريق للتنبيه على أن المشار إلية جدير بما سيرد بعد اسم
الإشارة من الحكم لأجل ما قبل أسم الإشارة من الأوصاف.
فجملة: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} ابتدائية معترضة بين المتعاطفين.
وجملة: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ} ابتدائية أيضا.
وقوله: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} عطف على {الَّذِينَ آمَنُوا} وتقدير الكلام. ليجزى الذين آمنوا والذين سعوا بما يليق بكل فريق.
والمعنى: أن عالم الإنسان يحتوي على صالحين متفاوت صلاحهم، وفاسدين متفاوت فسادهم، وقد انتفع الناس بصلاح الصالحين واستضروا بفساد المفسدين وربما عطل هؤلاء منافع أولئك وهذب أولئك من إفساد هؤلاء وانقضى كل فريق بما عمل لم يلق المحسن جزاء على إحسانه ولا المفسد جزاء إفساده، فكانت حكمة خالق الناس مقتضية إعلامهم بما أراد منهم وتكليفهم أن يسعوا في الأرض صلاحا، ومقتضية ادخار جزاء الفريقين كليهما، فكان من مقتضاها إحضار الفريقين للجزاء على أعمالهم. وإذ قد شوهد أن لم يحصل في هذه الحياة عامنا أنت بعد هذه الحياة حياة أبدية يقارنها الجزاء العادل، لأن ذلك هو اللائق بحكمة مرشد الحكماء تعالى، فهذا مما يدل عليه العقل السليم وقد أعلمنا خالق الخلق على ذلك بلسان رسوله ورسله صلى الله عليه وسلم فتوافق العقل والنقل، وبطل الدجل والدخل.
وجُعل جزاء الذين آمنوا مغفرة، أي تجاوزوا عن آثامهم، ورزقا كريما وهو ما يرزقون من النعيم على اختلاف درجاتهم في النعيم وابتداء مدته فإنهم آيلون إلى المغفرة والرزق الكريم.
ووصف بالكريم، أي النفيس في نوعه كما تقدم عند قوله تعالى: {كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29].
وقوبل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بـ {الَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} لأن السعي في آيات الله يساوي معنى كفروا بها وبذلك يشمل عمل السيئات وهو سيئة من السيئات، ألا ترى أنه عبر عنهم بعد ذلك بقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} [سبأ: 7] الخ.
ومعنى: {سَعَوْا فِي آيَاتِنَا} اجتهدوا بالصد عنها ومحاولة إبطالها: فالسعي مستعار للجد في فعل ما، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ
أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} في سورة الحج [51]. وآيات الله هنا: القرآن كما يدل عليه قوله بعد: {الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} [سبأ: 6].
و {مُعَاجِزِينَ} مبالغة في معجزين، وهو تمثيل: شبهت حالهم في مكرهم بالنبيء صلى الله عليه وسلم بحال من يمشي مشيا سريعا ليسبق غيه ويعجزه. العذاب: عذاب جهنم. والرجز: أسوأ العذاب وتقدم في قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} في سورة البقرة [59]. و {مِنْ} بيانيه فإن العذاب نفسه رجز.
وقرأ الجمهور: {مُعَاجِزِينَ} بصيغة المفاعلة تمثيل لحالا لحل ضنهم النجاة والانفلات من تعذيب الله إياهم بإنكارهم البعث والرسالة بحال من يسابق غيره ويعاجزه، أي يحاول عجزه عن لحاقه.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده: {مُعْجِزِينَ} بصيغة اسم الفاعل عن عجز بتشديد الجيم، ومعناه: مثبطين الناس عن اتباع آيات الله أو معجزين من آمن بآيات الله بالطعن والجدال.
وقرأ الجمهور: {أَلِيمٍ} بالجر صفة لـ {رِجْزٍ} . وقرأه ابن كثير وحفص ويعقوب بالرفع صفة لـ {عَذَابٌ} ، وهما سواء في المعنى.
[6] {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .
عطف على: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ: 4] وهو مقابل جزاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فالمراد بالذين سعوا في الآيات الذين كفروا، عدل عن جعل اسم الموصول {كَفَرُوا} [سبأ: 3] لتصلح الجملة أن تكون تمهيدا لإبطال قول المشركين في الرسول صلى الله عليه وسلم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 8]، لأن قولهم ذلك كناية عن بطلان ما جاءهم به من القرآن في زعمهم فكان جديرا بأن يمهد لإبطاله بشهادة أهل العلم بأن ما جاء به الرسول هو الحق دون غيره من باطل أهل الشرك الجاهلين، فعطف هذه الجملة من عطف الأغراض، وهذه طريقة في إبطال شبه أهل الضلالة والملاحدة بأن يقدم قبل ذكر الشبه ما يقابلها من إبطالها وربما سلك أهل الجدل طريقه أخرى هي تقديم الشبه ثم الكرور عليها بالإبطال وهي طريقة عضد الدين في كتاب "المواقف"، وقد كان بعض أشياخنا يحكي انتقاد كثير من أهل العلم طريقته فلذلك خالفها
التفتزاني في كتاب "المقاصد".
والحق أن الطريقتين جادتان وقد سُلكتا في القرآن.
ويجوز أن تكون جملة: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} عطفا على جملة: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} [سبأ: 5] فبعد أن أوردت جملة: {وَالَّذِينَ سَعَوْا} لمقابلة جملة: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [سبأ: 4] الخ اعتبرت مقصودا من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} للإشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيبا للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى.
والرؤية علمية. واختير فعل الرؤية هنا دون "ويَعْلَمُ" للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العلم بالمرئيات التي علمها ضروري، ومفعولا {يَرَى} {الَّذِي أُنْزِلَ} و {الْحَقَّ} . وضمير {هُوَ} فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصرا إضافيا، أي لا ما يقوله المشركون مما يعرضون به القرآن، ويجوز أيضا أن يفيد قصرا حقيقيا ادعائيا، أي قصر الحقية المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل.
و {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخبارا عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 83]، فهذا تحد للمشركين وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وليس احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبئ صلى الله عليه وسلم ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذ تبعا لعامتهم.
وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم.
والأظهر أن المراد من: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مَن آمنوا بالنبيء صلى الله عليه وسلم من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن. وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فضا غليظا حتى إذا أسلم رق قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإسلام. وهذا
ما أعرب عنه قول بي خراش الهذلي خالطا فيه الجد بالهزل:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل
فإنهم كانوا إذا لقوا النبيء صلى الله عليه وسلم أشرقت عليهم أنوار النبوة فملأتهم حكمة وتقوى. وقد قال النبئ صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: "لو كنتم في بيوتكم كما تكونون عندي لصافحتكم الملائكة بأجنحتها". وبفضل ذلك ساسوا الأمة وافتتحوا الممالك وأقاموا العدل بين الناس مسلمهم وذمِّيِّهم ومعاهَدهم وملأوا أعين ملوك الأرض مهابة. وعلى هذا المحمل حمل: {الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} في سورة الحج [54] ويؤيده قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ} في سورة الروم [56].
وجملة: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} في موضع المعطوف على المفعول الثاني لـ {يَرَى} . والمعنى: يرك الذين أتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هاديا إلى العزيز الحميد، وهو من عطف الفعل على الاسم الذي فيه مادة الاشتقاق وهو {الحْقَّ} فإن المصدر في قوة الفعل لأنه إما مشتق أو هو أصل الاشتقاق. والعدول عن الوصف إلى صيغة المضارع لإشعارها بتجدد الهداية وتكررها. وإيثار وصفي {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} هنا دون بقية الأسماء الحسنى إيماء إلى أن بقية المؤمنين حين يؤمنون بأن القرآن هو الحق والهداية استشعروا من الإيمان أنه صراط يبلغ به إلى العزة قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، ويبلغ إلى الحمد، أي الخصال الموجبة للحمد، وهي الكمالات من الفضائل والفواضل.
[7، 8] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [7] أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ [8]}.
انتقال إلى قولة أخرى من شناعة أهل الشرك معطوفة على: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} [سبأ: 3]. وهذا القول قائم مقام الاستدلال على القول الأول لأن قولهم: {لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} دعوى وقولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} مستند تلك الدعوى، ولذلك حكي بمثل الأسلوب الذي حكيت به الدعوى في المسند والمسند إليه.
وأدمجوا في الاستدلال التعجيب من الذي يأتي بتقيض دليلهم، ثم إرداف ذلك
التعجيب بالطعن في المتعجب به.
والمخاطب بقولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ} غير مذكور لأن المقصود في الآية الاعتبار بشناعة القول ولا غرض يتعلق بالمقول لهم. فيجوز أن يكون قولهم هذا تقاولا بينهم، أو يقوله بعضهم لبعض، أو يقول كبراؤهم لعامتهم ودهمائهم. ويجوز أن يكون قول كفار مكة للواردين عليهم في الموسم. وهذا الذي يؤذن به فعل: {نَدُلُّكُمْ} من أنه خطاب لمن يبلغهم قول النبيء صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام مستعمل في العرض مثل قوله تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18]، وهو عرض مكنى به من التعجيب، أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال.
والمعنى: تسمعون منه ما سمعناه منه فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء. وقد كان المشركون هيأوا ما يكون جوابا للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعى أنه رسول من الله إلى الناس، وعن الوحي الذي يبلغه عن الله كما ورد في خبر الوليد بن المغيرة إذ قال لقريش: إنه قد حضر هذا الموسم وأن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ويرد قولكم بعضه بعضا، فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأيا نقول به. قال: بل أنتم قولوا أسمع، قالوا: نقول كاهن? قال لا والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا يسجعه. قالوا فنقول مجنون? قال ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه فما هو بخنقه ولا تخلجه ولا وسوسته، قالوا فنقول شاعر? قال: لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقلوا: فنقول ساحر? قال: ما هو بنفثه ولا عقده، قالوا: فما نقول يا أبا شمس? قال: إن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزجه وبين المرء وعشيرته.
فلعل المشركين كانوا يستقبلون الواردين على مكة بهاته المقالة: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} طمعا منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبسا باستحالة هذا الخلق الجديد.
ويرجح ذلك إتمامها بالاستفهام: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} .
ثم إن كان التقاول بين المشركين بعضهم لبعض، فالتعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بـ {رَجُلِ} منكر من كونه معروفا بينهم وعن أهل بلدهم، قصدوا من تنكيره أنه لا يعرف تجاهلا منهم. قال السكاكي كأن لم يكونوا يعرفون منه إلا أنه رجل ما.
وإن كان قول المشركين موجها إلى الواردين مكة في الموسم، كان التعبير بـ {رَجُلٍ} جرا على مقتضى الظاهر لأن الواردين لا يعرف النبيء صلى الله عليه وسلم ولا دعوته فيكون كقول أبي ذر قبل إسلامه لأخيه: "اذهب فاستعلم لنا خبر هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي".
ومعنى: {نَدُلُّكُمْ} نعرفكم ونرشدكم. وأصل الدلالة الإرشاد إلى الطريق الموصل إلى مكان مطلوب. وغالب استعمال هذا الفعل أن يكون إرشاد من يطلب معرفة، وبذلك فالآية تقتضي أن هذا القول يقولونه للذين يسألونهم عن خبر رجل ظهر بينهم يدعي النبوة فيقولون: هل ندلكم على رجل يزعم كذا، أي ليس بنبي بل مفتر أو مجنون، فمورد الاستفهام هو ما تضمنه قولهم: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} ، أي هل تريدون أن ندلكم على من هذه صفته، أي وليس من صفته أنه نبيء بل هو: إما كاذب أو غير عاقل.
والإنباء: الإخبار عن أمر عظيم، وعظمة هذا القول عندهم عظمة إقدام قائله على ادعاء وقوع ما يرونه محال الوقوع.
وجملة: {إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} هي المنبَّأ به.ولما كان الإنباء في معنى القول لأنه إخبار صح أن يقع بعده ما هو من قول المنبأ. فالتقدير من جهة المعنى: يقول إنكم لفي خلق جديد، ولذلك اجتلبت "إنّ" المكسورة الهمزة دون المفتوحة لمراعاة حكاية القول.
وهذه حكاية ما نبَّأ به لأن المنبئ إنما نبأ بأن الناس يصيرون في خلق جديد.
وأما شبه الجملة وهو قوله: {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فليس مما نَبَّأ به الرجل وإنما هو اعتراض في كلام الحاكين تنبيها على استحالة ما يقوله هذا الرجل على أنه لازم لإثبات الخلق الجديد لكل الأموات. وليس {إِذَا} بمفيد شرطا للخلق الجديد لأنه ليس يلزم للخلق الجديد أن يتقدمه البلى، ولكن المراد أنه يكون البلى حائلا دون الخلق الجديد المنبَّأ به.
وتقديم هذا الاعتراض للاهتمام به ليتقرر في أذهان السامعين لأنه مناط الإحالة في زعمهم، فإن إعادة الحياة للأموات تكون بعد انعدام أجزاء الأجساد، وتكون بعد تفرقها
تفرقاً قريباً من العدم، وتكون بعد تفرق ما، وتكون مع بقاء الأجساد على حالها بقاء متفاوتا في الصلابة والرطوبة، وهم أنكروا إعادة الحياة في سائر الأحوال ولكنهم خصوا في كلامهم الإعادة بعد التمزق كل ممزق، أي بعد اضمحلال الأجساد أو تفرقها الشديد، لقوة استحالة إرجاع الحياة إليها بعدئذ.
والتمزيق: تفكيك الأجزاء المتلاصقة بعضها عن بعض بحيث تصير قطعا متباعدة.
والممزَّق: مصدر ميمي لمزَّقه مثل المسرَّح للتسريح.
و {كُلَّ} على الوجهين مستعملة في معنى الكثرة كقوله تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} [يونس: 97] وقول النابغة:
بها كل ذيال ... ... ... ... ... ... ...
وقد تقدم غير مرة.
والخلق الجديد: الحديث العهد بالوجود،أي في خلق غير الخلق الأول الذي أبلاه الزمان، فجديد فعيل من جد بمعنى قطع. فأصل معنى جديد مقطوع وأصله وصف للثوب الذي ينسجه الناسج فإذا أتمه قطعه من المنوال. أريد به أنه بحدثان قطعه فصار كناية عن عدم لبسه، ثم شاع ذلك فصار الجديد وصفا بمعنى الحديث العهد، وتنوسي معنى المفعولية منه فصار وصفا بمعنى الفاعلية، فيقال: جَدَّ الثوب بالرقع، بمعنى: كان حديث عهد بنسج. ويشبه أن يكون "جَدّ" اللازم مطاوعا لـ"جَدَّه" المتعدي كما كان "جَبَر العظمُ" مطاوعا لـ"جَبَر" كما في قول العجاج:
قد جبر الدِّينَ الإله فجبر
وبهذا يحق الجمع بين قول البصريين الذين اعتبروا جديدا فعيلا بمعنى فاعل، وقول الكوفيين بأنه فعيل بمعنى مفعول، وعلى هذين الاعتبارين يجوز أن يقال: ملحفة جديد كما قال: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [الأعراف: 56].
ووصف الخلق الجديد باعتبار أن المصدر بمنزلة اسم الجنس يكون قديما فهو إذن بمعنى الحاصل بالمصدر، ويكون جديدا فهو بمنزلة اسم الفاعل فوصف بالجديد ليتمحض لأحد احتماليه، والظرفية من قوله: {فِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} مجازية في قوة التلبس بالخلق الجديد تلبسا كتلبس المظروف بالظرف.
وجملة: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} في موضع صفة ثانية لـ {رَجُل} أتوا بها استفهامية لتشريك المخاطبين معهم في ترديد الرجل بين هذين الحالين.
وحذفت همزة فعل {أَفْتَرَى} لأنها همزة وصل فسقطت لأن همزة الاستفهام وصلت بالفعل فسقطت همزة الوصل في الدرج.
وجعلوا حال الرسول صلى الله عليه وسلم دائرا بين الكذب والجنون بناء على أنه إن كان ما قاله من البعث قاله عن عمد وسلامة عقل فهو في زعمهم مفتر لأنهم يزعمون ان ذلك لا يطابق الواقع لأنه محال في نظرهم القاصر،وإن كان قاله بلسانه لإملاء عقل مختل فهو مجنون وكلام المجنون لا يوصف بالافتراء. وإنما رددوا حاله بين الأمرين بناء على أنه أخبر عن تلقي وحي من الله فلم يبق محتملا لقسم ثالث وهو أن يكون متوهما أو غالطا كما لا يخفى.
وقد استدل الجاحظ بهذه الآية لرأيه في أن الكلام يصفه العرب بالصدق إن كان مطابقا للواقع مع اتقاد المتكلم لذلك، وبالكذب أن كان غير مطابق للواقع ولا للاعتقاد، وما سوى هذين الصنفين لا يوصف بصدق ولا كذب بل هو واسطة بينهما وهو الذي يخالف الواقع ويوافق اعتقاد المتكلم أو يخالف الاعتقاد الواقع أو يخالفهما معا أو لم يكن لصاحبه اعتقاد ومن هذا الصنف الأخير كلام المجنون.
ولا يصح أن تكون هذه الآية دليلا له لأنها حكت كلام المشركين في مقام تمويههم وضلالهم أو تضليلهم فهو من السفسفطة، ثم إن الافتراء أخص من الكذب لأن الافتراء كان من عمد فمقابلته بالجنون لا تقتضي أن كلام المجنون ليس من الكذب بل إنه ليس من الافتراء.
والافتراء: الاختلاق وإيجاد خبر لا مخبر له. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103].
وقد رد الله عليهم استدلالهم بما أشار إلى أنهم ضالون أو مضلون، وواهمون أو موهمون فأبطل قولهم بحذافره بحرف الإضراب، ثم بجملة: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلاَلِ الْبَعِيدِ} . فقابل ما وصفوا به الرسول صلى الله عليه وسلم بوصفين: أنهم في العذاب وذلك مقابل قولهم: {أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} لأن الذي يكذب على الله يسلط الله عليه عذابه، وأنهم في الضلال البعيد، وذلك مقابل قولهم: {بِهِ جِنَّةٌ} .
وعدل عن أن يقال: بل أنتم في العذاب والضلال إلى: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ} إدماجا لتهديدهم.
و {الضَّلاَل} : خطأ الطريق الموصل إلى المقصود. و {الْبَعِيد} وصف به الضلال باعتبار كونه وصفا لطريق الضال، فإسناد وصفه إلى الضلال مجازي لأنه صفة مكان الضلال وهو الطريق الذي حاد عن المكان المقصود، لأن الضال كلما توغل مسافة في الطريق المضلول فيه ازداد بعدا عن المقصود فاشتد ضلاله وعسر خلاصه، وهو مع ذلك ترشيح للإسناد المجازي.
وقوله: {فِي الْعَذَابِ} إدماج يصف به حالهم في الآخرة مع وصف حالهم في الدنيا.
والظرفية بمعنى الإعداد لهم فحصل في حرف الظرفية مجازان إذ جعل العذاب والضلال لتلازمهما كأنهما حاصلان معا، فهذا من استعمال الموضوع للواقع فيما ليس بواقع تنبيها على تحقيق وقوعه.
[9] {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ [9]}.
الفاء لتفريع ما بعدها على قوله: {بَلْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ} [سبأ: 8] الخ لأن رؤية مخلوقات الله في السماء والأرض من شأنها أن تهديهم لو تأملوا حق التأمل.
والاستفهام للتعجب الذي يخالطه إنكار على انتفاء تأملهم فيما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من المخلوقات العظيمة الدالة على أن الذي قدر على خلق تلك المخلوقات من عدم هو قادر على تجديد خلق الإنسان بعد العدم.
والرؤية البصرية بقرينة تعليق {إِلَى} . فمعنى الاستفهام عن انتفائها منهم انتفاء آثارها من الاستدلال بأحوال الكائنات السماوية والأرضية على إمكان البعث، فشبه وجود الرؤية بعدمها واستعير له حرف النفي. والمقصود: حثهم على التأمل والتدبر ليتداركوا علمهم بما أهملوه. وهذا كقوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا
بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمّىً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ} [الروم: 8].
والمراد بـ {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ما يستقبله كل أحد منهم من الكائنات السماوية والأرضية، وبـ {مَا خَلْفَهُمْ} ما هو وراء كل أحد منها فإنهم لو شاءوا لنظروا إليه بأن يلتفتوا إلى ما وراءهم، وذلك مثل أن ينظروا النصف الشمالي من الكرة السماوية في الليل ثم ينظروا النصف الجنوبي منها فيروا كواكب ساطعة بعضها طالع من مشرقه وبعضها وبعضها هاو إلى مغربه وقمرا مختلف الأشكال باختلاف الأيام، وفي النهار بأن ينظروا إلى الشمس بازغة وآفلة،وما يقارن ذلك من إسفار وأصيل وشفق. وكذلك النظر إلى جبال الأرض وبحارها وأوديتها وما عليها من أنواع الحيوان واختلاف أصنافه.
و {مِن} في قوله: {مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} تبعيضية.
والسماء والأرض أطلقتا على محوياتهما كما أطلقت القرية على أهلها في قوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
وجملة {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ} اعتراض بالتهديد فمناسبة التعجيب الإنكاري بما يذكرهم بقدرة صانع تلك المصنوعات العظيمة على عقاب الذين أشركوا معه غيره والذين ضيقوا واسع قدرته وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم وما يخطر في عقولهم ذكر الأمم التي أصابها عقاب بشيء من الكائنات الأرضية كالخسف أو السماوية كإسقاط كسف من الأجرام السماوية مثل ما أصاب قارون من الخسف وما أصاب أهل الأيكة من سقوط الكسف.
وقرأ الكسائي وحده نخسبهم بإدغام الفاء في الباء، قال أبو علي: وذلك لا يجوز لأن الباء أضعف في الصوت من الفاء فلا تدغم الفاء في الباء، وإن كانت الباء تدغم في الفاء كقولك: اضرب فلانا، وهذا كما تدغم الباء في الميم كقولك: اضرب مالكا، ولا تدغم الميم في الباء كقولك: اضمم بكرا، لأن الباء انحطت عن الميم بفقد الغثة التي في الميم، وهذا رد للرواية بالقياس وهو غصب.
والكسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة الجمهور، وهو القطعة من الشيء. وقد تقدم في قوله تعالى: {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} في سورة الإسراء [92].
وقرأ الجمهور: {نَخْسِفْ} و {نُسْقِطْ} بنون العظمة. وقرأها حمزة والكسائي وخلف بياء الغائب على الالتفات من مقام التكلم إلى مقام الغيبة، ومعاد الضميرين معروف من سياق الكلام.
وجملة: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} تعليل للتعجيب الإنكاري باعتبار ما يتضمنه من الحث على التأمل والتدبر كما تقدم آنفا، فموقع حرف التوكيد هنا لمجرد التعليل، كقول بشار:
إن ذاك النجاح في التبكير
ولك أن تجعل الجملة تذييلا. والمشار إليه هو ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض، أي من الكائنات فيهما.
والآية: الدليل. والتعريف للجنس،فالمفرد المعرف مساو للجمع، أي لآيات كثيرة.
والمنيب: الراجع بفكره إلى البحث عما فيه كماله النفساني وحسن مصيره في الآخرة فهو يقدر المواعظ حق قدرها ويتلقاها بالشك في الحالة التي وعظ من أجلها فيعاود النظر حتى يهتدي ولا يرفض نصح الناصحين وإرشاد المرشدين مترديا برداء المتكبرين فهو لا يخلو من النظر في دلائل قدرة الله، ومن أكبر المنيبين المؤمنون مع رسولهم.
[10، 11] {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ [10] أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [11]}.
مناسبة الانتقال من الكلام السابق إلى ذكر داود خفية. فقال ابن عطية: ذكر الله نعمته على داود وسليمان احتجاجا على ما منح محمد، أي لا تستعبدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديما.
وقال الزمخشري عند قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [سبأ: 9] لأن المنيب لا يخلوا من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به اهـ. فقال الطيبي: فيه إشارة إلى نظام بيان هذه الآية بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} لأنه كالتخلص منه إليه، لأن من المنيبين المتفكرين في آيات الله قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] اهـ يريد الطيبي أن داود من أشهر المُثل في المنيبين بما أشتهر به من انقلاب حاله بعد أن كان راعيا غليظا إلى أن اصطفاه الله نبيا وملكا صالحا مصلحا لأمة عظيمة، فهو مثل المنيبين كما قال تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} وقال {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [ص: 24]، فلإنابته وتأويبه أنعم الله عليه بنعم الدنيا والآخرة وباركه وبارك نسله.وفي ذكر فضله عبر للناس بحسن عناية الله بالمنيبين تعريضا بضد ذلك للذين لم يعتبروا بآيات الله، وفي هذا
إيماء إلى بشارة النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيؤول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود، وذلك الإيماء أوضح في قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} الآية في سورة ص.[17]. وسمي الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصا، والوجه أن يسميه استطرادا أو اعتراضا وإن كان طويلا، فأن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعد ما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة كما سننبه عليه عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20].
وتقديم التعريف بداود عليه السلام عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} في سورة النساء [163] وعند قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} في سورة الأنعام [84].
و"مِن" في قوله: {مِنَّا} ابتدائية متعلقة بـ {آتَيْنَا} ، أي من لدنا ومن عندنا، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داود، كقوله تعالى: {رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57]. وتنكير {فَضْلاً} لتعظيمه وهو فضل النبوة وفضل الملك، وفضل العناية بإصلاح الأمة، وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سعة النعمة عليه، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حسن الصوت، وطول العمر في الصلاح وغير ذلك.
وجملة: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} مقول قول محذوف، وحذف القول استعمال شائع، وفعل القول المحذوف جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لجملة: {آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً} .
هذا الأسلوب الذي نظمت عليه الآية من الفخامة وجلالة الخالق وعظم شأن داود مع وفرة المعاني وإيجاز الألفاظ وإفادة معنى المعية بالواو دون لو ما كانت حرف عطف.
والأمر في: {أَوِّبِي مَعَهُ} أمر تكوين وتسخير.
والتأويب: الترجيع، أي ترجيع الصوت، وقيل التأويب بمعنى التسبيح لغة حبشية فهو من المعرب باللغة العبرية، وتقدم ذكر تسبيح الجبال مع داود في سورة الأنبياء.
و {الطَّيْرَ} منصوب بالعطف على المنادى لأن المعطوف المعرف على المنادى يجوز نصبه ورفعة والنصب أرجح عند يونس وأبو عمرو وعيسى ابن عمر والجرمي وهو أوجه، وجوز أن يكون {وَالطَّيْرَ} مفعولا معه لِـ {أَوِّبِي} ،والتقدير: أوبى معه ومع الطير، فيفيد أن الطير تأوب معه أيضا.
وإلانة الحديد: تسخيره لأصابعه حينما يلوي حلق الدروع ويغمز المزامير.
و {أَن} تفسيرية لما في {أَلَنَّا لَهُ} من معنى: أشعرناه بتسخير الحديد ليقدم على صنعه فمان في {أَلَنَّا} معنى: وأوحينا إليه: {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} .
و {الْحَدِيد} : تراب معدني إذا صهر بالنار امتزج بعضه ببعض ولان وأمكن تطريقه وتشكيله فإذا برد تصلب. وتقدم تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} في سورة الإسراء [50].
و {سَابِغَاتٍ} صفة لموصوف محذوف لظهوره من المقام إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف.
ومعنى: {قَدِّرْ} اجعله على تقدير والتقدير: جعل الشيء على مقدار مخصوص.
و {السَّرْد} : صنع درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تشد شقق الدرع بعضها ببعض كالخياطة للثوب، والدرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة. قال أبو ذويب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبَّعُ
ويقال لناسج الدروس: سرد وزاد بالسين والزاي، وقال المعري يصف درعاً:
وداود قين السابغات أذالها ... وتلك أضاة صانها المرء تبع
فلما سخر الله له ما أستصعب على غيره أتبعه بأمره بالشكر بأن يعمل صالحا لأن الشكر يكون بالعمل الذي يرضي المشك والمنعم.
وضمير {اعْمَلُوا} لداود وآله كقوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132] أو له وحده على وجه التعظيم.
وقوله: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} موقع "إنّ" فيه موقع فاء التسبب كقول بشار:
إنّ ذاك النجاح في التبكير
وقد تقدم غير مرة.
والبصير: المطلع العليم، وهو هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح.
[12] {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ