كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
لما نزلهم منزلة من لا يعلم ضرب مثلا لهم وللمؤمنين، فمثل الذين يجادلون في أمر البعث مع وضوح إمكانه مثل الأعمى، ومثل المؤمنين الذين آمنوا به حال البصير، وقد علم حال المؤمنين من مفهوم صفة {أَكْثَرَ النَّاسِ} لأن الأكثرين من الذين لا يعلمون يقابلهم أقلون يعلمون. والمعنى: لا يستوي الذين اهتدوا والذين هم في ضلال، فإطلاق الأعمى والبصير استعارة للفريقين اللذين تضمنهما قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57].
ونفيُ الاستواء بينهما يقتضي تفضيل أحدهما على الآخر كما قدمنا في قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الآية في سورة النساء[95]، ومن المتبادر أن الأفضل هو صاحب الحال الأفضل وهو البصير إذ لا يختلف الناس في أن البصر أشرف من العمى في شخص واحد، ونفي الاستواء بدون متعلق يقتضي العموم في متعلقاته، لكنه يخص بالمتعلقات التي يدل عليها سياق الكلام وهي آيات الله ودلائل صفاته، ويسمى مثل هذا العموم العموم العرفي، وتقدم نظيرها في سورة فاطر[19].
وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} زيادة بيان لفضيلة أهل الإيمان بذكر فضيلتهم في أعمالهم بعد ذكر فضلهم في إدراك أدلة إمكان البعث ونحوه من أدلة الإيمان. والمعنى: وما يستوي الذين آمنوا وعملوا الصالحات والمسيئون، أي في أعمالهم كما يؤذن بذلك قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} ، وفيه إيماء إلى اختلاف جز الفريقين وهذا الإيماء إدماج للتنبيه على الثواب والعقاب.
والواو في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا} عاطفة الجملة على الجملة بتقدير: وما يستوي الذين آمنوا.
والواو في قوله: {وَلا الْمُسِيءُ} عاطفة {المسيء} على {الَّذِينَ آمَنُوا} عطف المفرد على المفرد، فالعطف الأول عطف المجموع مثل قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3].
وإنما قدم ذكر الأعمى على ذكر البصير مع أن البصر أشرف من العمى بالنسبة لذات واحدة، والمشبه بالبصير أشرف من المشبه بالأعمى إذ المشبه بالبصير المؤمنون، فقد ذكر تشبيه الكافرين مراعاة لكون الأهم في المقام بيان حال الذين يجادلون في الآيات إذ هم المقصود بالموعظة.
وأما قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} فإنما رتب فيه ذكر الفريقين على عكس ترتيبه في التشبيه بالأعمى والبصير اهتماما بشرف المؤمنين.
وأعيدت "لا" النافية بعد واو العطف على النفي، وكان العطف مغنيا عنها فإعادتها لإفادتها تأكيد نفي المساواة ومقام التوبيخ يقتضي الإطناب، ولذلك تعد "لا" في مثله زائدة كما في "مغني اللبيب" ، وكان الظاهر أن تقع "لا" قبل "الذين آمنوا"، فعدل عن ذلك للتنبيه على أن المقصود عدم مساواة المسيء لمن عمل الصالحات، وأن ذكر الذين آمنوا قبل المسيء للاهتمام بالذين آمنوا ولا مقتضي للعدول عنه بعد أن قضي حق الاهتمام بالذين سبق الكلام لأجل تمثيلهم، فحصل في الكلام اهتمامان.
وقريب منه ما في سورة فاطر في أربع جمل: اثنتين قُدم فيهما جانب تشبيه الكافرين، واثنتين قدم فيهما تشبيه جانب المؤمنين، وذلك قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: 19ـ22].
و {قليلاً} حال من {أَكْثَرَ النَّاسِ} في قوله تعالى قبله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} ، و"ما" في قوله: {مَا يَتَذَكَّرُونَ} مصدرية وهي في محل رفع على الفاعلية. وهذا مؤكد لمعنى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} لأن قلة التذكر تؤول إلى عدم العلم، والقلة هنا كناية عن العدم وهو استعمال كثير، كقوله تعالى: {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88]، ويجوز أن تكون على صريح معناها ويكون المراد بالقلة عدم التمام، أي لا يعلمون فإذا تذكروا تذكروا تذكرا لا يتمنونه فينقطعون في أثنائه عن التعمق إلى استنباط الدلالة منه فهو كالعدم في عدم ترتب أثره عليه.
وقرأ الجمهور {يَتَذَكَّرُونَ} بياء الغيبة جريا على مقتضى ظاهر الكلام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف {تَتَذَكَّرُونَ} بتاء الخطاب على الالتفاف، والخطاب للذين يجادلون في آيات الله.
وكون الخطاب لجميع الأمة من مؤمنين ومشركين وأن التذكر القليل هو تذكر المؤمنين فهو قليل بالنسبة لعدم تذكر المشركين بعيد عن سياق الرد ولا يلاقي الالتفاف.
[59] {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}
لما أعطي إثبات البعث ما يحق من الحجاج والاستدلال، تهيأ المقام لاستخلاص تحقيقه كما تستخلص النتيجة من القياس، فأعلن بتحقيق مجيء {السَّاعَةَ} وهي ساعة البعث إذ {السَّاعَةَ} في اصطلاح الإسلام علم بالغلبة على ساعة البعث، فالساعة والبعث
مترادفان في المال، فكأنه قيل: إن الذي جادل فيه المجادلون سيقع لا محالة إذ انكشفت عنه شبه الضالين وتمويهاتهم فصار بينا لا ريب فيه.
وتأكيد الخبر بـ"إن"ولام الابتداء لزيادة التحقيق، وللإشارة إلى أن الخبر تحقق بالأدلة السابقة. وذلك أن الكلام موجه للذين أنكروا البعث، ولهذا لم يؤت بلام الابتداء في قوله في سورة طه[15] {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ} لأن الخطاب لموسى عليه السلام.
وجيء باسم الفاعل في {آتِيَةٌ} الذي هو حقيقة في الحال، للإيماء إلى أنها لما تحققت فقد صارت كالشيء الحاضر المشاهد. والمراد تحقيق وقوعها لا الإخبار عن وقوعها.
وجملة {لا رَيْبَ فِيهَا} مؤكدة لجملة {إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ} ، ونفي الريب عن نفس الساعة، والمراد نفيه عن إتيانها لدلالة قوله: {آتِيَةٌ} على ذلك.
ومعنى نفي الريب في وقوعها: أن دلائلها واضحة بحيث لا يعتد بريب المرتابين فيها لأنهم ارتابوا فيها لعدم الروية والتفكر، وهذا قريب من قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2].
فموقع الاستدراك الذي في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} هو ما يثيره نفي الريب عن وقوعها من أن يتساءل متسائل كيف ينفي الريب عنها والريب حاصل لكثير من الناس، فكان الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} جوابا لذلك السؤال. والمعنى: ولكن أكثر الناس يمرون بالأدلة والآيات وهم معرضون عن دلالتها فيبقون غير مؤمنين بمدلولاتها ولو تأملوا واستنبطوا بعقولهم لظهر لهم من الأدلة ما يؤمنون بعده، فلذلك نفي عنهم هنا وصف الإيمان.
وهذا الاستدراك استئناف بياني، ولولا أن "لكنَّ" يكثر أن تقع بعد واو العطف لكانت الجملة جديرة بالفصل دون عطف، فهذا العطف تحلية لفظية.
و {أَكْثَرَ النَّاسِ} هم المشركون، وهم يومئذ أكثر من المؤمنين جدا.
[60] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}
لما كانت المجادلة في آيات الله تشمل مجادلتهم في وحدانية الإلهية كما دل عليه قوله الآتي، {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ
نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [غافر: 74,73]، فجعل {لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا} نقيض ما قيل لهم: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ} ، وتشمل المجادلة في وقوع البعث كما دل عليه قوله بعد هذه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} إلى قوله: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 69]الآية، أعقب ذكر المجادلة أولا بقوله: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57]وذلك استدلال على إمكان البعث، ثم عطف عليه قوله: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية تحذيرا من الإشراك به، وأيضا لما ذكر أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بدعاء الله وحده أمرا مفرغا على توبيخ المشركين بقوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18]الخ، وتتابعت الأغراض حتى استوفت مقتضاها، عاد الكلام الآن إلى ما يشمل عبادة المؤمنين الخالصة لله تعالى وهو أيضا متصل بقوله: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر50]. فلما تقدم ذكر الدعاء بمعنييه: معنى العبادة، ومعنى سؤال المطلوب، أردف بهذا المر الجامع لكلا المعنيين.
والقول المخبر عنه بفعل {قَالَ رَبُّكُمُ} يجوز أن يراد به كلام الله النفسي، أي ما تعلقت إرادة الله تعلقا صلاحيا، بأن يقوله عند إرادة تكوينه، ويجوز أن يراد القول اللفظي ويكون التعبير بـ"قال" الماضي إخبار عن أقوال مضت في آيات قبل نزول هذه الآية مثل قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14]بخلاف قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186]فإنه نزل بعد هذه الآية، ويجوز أن يكون الماضي مستعملا في الحال مجازا، أي يقول ربكم: ادعوني.
والدعاء يطلق بمعنى النداء المستلزم للاعتراف بالمنادى، ويطلق على الطلب وقد جاء من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ما فيه صلاحية معنى الدعاء الذي في هذه الآية لما يلائم المعنيين في حديث النعمان بن بشير قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الدعاء هو العبادة" ثم قرأ {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} "رواه الترمذي. وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، فإن قوله الدعاء هو العبادة يقتضي اتحاد الحقيقتين فإذا كان الدعاء هو العبادة كانت العبادة هي الدعاء لا محالة. فالدعاء يطلق على سؤال العبد من الله حاجته وهو معناه في اللغة، ويطلق على عبادة الله على طريق الكناية لأن العبادة لا تخلو من دعاء المعبود بنداء تعظيمه والتضرع إليه،
وهذا إطلاق أقل شيوعا من الأول، ويراد بالعبادة في اصطلاح القرآن إفراد الله بالعبادة، أي الاعتراف بوحدانيته.
والاستجابة تطلق على إعطاء المسؤول لمن سأله وهو أشهر إطلاقا وتطلق على أثر قبول العبادة بمغفرة الشرك السابق وبحصول الثواب على أعمال الإيمان فإفادة الآية على مشيئة الله أو على استيفاء شروط قبول الطلب، وإعطاء خير منه في الدنيا، أو إعطاء عوض منه في الآخرة. وإفادتها على معنى إفراد الله بالعبادة، أي بأن يتوبوا عن الشرك، فترتب الاستجابة هو قبول ذلك، فإن قبول التوبة من الشرك مقطوع به.
فلما جمعت الآية بين الفعلين على تفاوت بين شيوع الإطلاق في كليهما علمنا أن في المعنى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي} ، فعلمنا أن المراد الدعاء والعبادة، وأن الاستجابة أريد بها قبول الدعاء وحصول أثر العبادة. ففعل {ادْعُونِي} مستعمل في معنييه بطريقة عموم المشترك.
وفعل {أَسْتَجِبْ} مستعمل في حقيقته ومجازه، والقرينة ما علمت وذلك من الإيجاز والكلام الجامع.
وتعريف الله بوصف الرب مضافا إلى ضمير المخاطبين لما في هذا الوصف وإضافته من الإيماء إلى وجوب امتثال أمره لأن من حق الربوبية امتثال ما يأمر به موصوفها لأن المربوب محقوق بالطاعة لربه، ولهذا لم يعرج مع هذا الوصف على تذكير بنعمته ولا إشارة إلى كمالات ذاته.
وجملة {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ} تعليل للأمر بادعاء تعليلا يفيد التحذير من إباية دعاء الله حين الإقبال على دعاء الأصنام، كما قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} [غافر: 12]وكان المشركون لا يضرعون إلى الله إلا إذا لم يتوسموا استجابة شركائهم، كما قال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ} [الإسراء: 67]. ومعنى التعليل للأمر بالدعاء بهذا التحذير: أن الله لا يحب لعباده ما يفضي بهم إلى العذاب، قال تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7]ففي الآية دليل على طلب الله من عباده أن يدعوه في حاجاتهم. ومشروعية الدعاء لا خلاف فيها بين المسلمين وإنما الخلاف في أنه ينفع في رد
القدر أو لا؟وهو خلاف بيننا وبين المعتزلة. وليس في الآية حجة عليهم لأنهم تأولوا معنى {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وتقدم قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} الآية في سورة البقرة[186]، وفي الإتيان بالموصول إيماء إلى التعليل.
و {داخرين} حال من ضمير {سَيَدْخُلُونَ} أي أذلة، دخر كمنع وفرح: صغر وذل، وتقدم قوله: {سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} في سورة النحل[48].
وقرأ الجمهور {سَيَدْخُلُونَ} بفتح التحتية وضم الخاء. وقرأه أبو جعفر ورويس عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب، أي سيدخلهم ملائكة العذاب جهنم.
[61] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}
يجوز أن يكون اسم الجلالة بدلا من {رَبُّكُمُ} في {وَقَالَ رَبُّكُمُ} [غافر: 60]اتبع {رَبُّكُمُ} بالاسم العلم ليقضى بذلك حقان: حق استحقاقه أن يطاع بمقتضى الربوبية والعبودية، وحق استحقاقه الطاعة لصفات كماله التي يجمعها اسم الذات. ولذلك لم يؤت مع وصف الرب المتقدم بشيء من ذكر نعمه وإفضاله ثم وصف الاسم بالموصول وصلته إشارة إلى بعض صفاته، وإيماء إلى وجه الأمر بعبادته، وتكون الجملة استئنافا بيانيا ناشئا عن تقوية الأمر بدعائه. ويجوز أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول صفة له ويكون الخبر قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر: 64]ويكون جملة {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ} معترضة، أو أن يكون اسم الجلالة مبتدأ والموصول خبرا.
واعتبار الجملة مستأنفة أحسن من اعتبار اسم الجلالة بدلا لأنه انسب بالتوقيف على سوء شكرهم، وبمقام تعداد الدلائل وأسعد بقوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً} [غافر: 64]، فتكون الجملة واقعة موقع التعليل لجملة {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، أي تسببوا لأنفسهم بذلك العقاب لأنهم كفروا نعمة الله إذ جعل لهم الليل والنهار.
وعلى هذه الاعتبارات كلها فقد سجلت هذه الآية على الناس تقسيمهم إلى: شاكر نعمة، وكفورها، كما سجلت عليهم الآية السابقة تقسيمهم إلى: مؤمن بوحدانية الله، وكافر بها.
وهذه الآية للتذكير بنعمة الله تعالى على الخلق كما اقتضاه لام التعليل في قوله:
{لَكُمُ} واقتضاه التذييل بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} . وأدمج في التذكير بالنعمة استدلال على انفراده تعالى بالتصرف بالخلق، والتدبير الذي هو ملازم حقيقة الإلهية.
وابتدئ الاستدلال بدلائل الأكوان العلوية وآثارها الواصلة إلى الأكوان السفلية، وهي مظهر النعمة بالليل والنهار فهما تكوينان عظيمان دالان على عظيم قدرة مكونهما ومنظمهما وجاعلهما متعاقبين، فنيطت بهما أكثر مصالح هذا العالم ومصالح أهله، فمن مصالح العالم حصول التعادل بين الضياء والظلمة، والحرارة والبرودة لتكون الأرض لائقة بمصالح من عليها فتنبت الكلأ وتنضج الثمار، ومن مصالح سكان العالم سكون الإنسان والحيوان في الليل لاسترداد النشاط العصبي الذي يعييه عمل الحواس والجسد في النهار، فيعود النشاط إلى المجموع العصبي في الجسد كله وإلى الحواس، ولولا ظلمة الليل لكان النوم غير كامل فكان عود النشاط بطيئا وواهنا ولعاد على القوة العصبية بالانحطاط والاضمحلال في أقرب وقت فلم يتمتع الإنسان بعمر طويل. ومنها انتشار الناس ولحيوان في النهار وتبين الذوات بالضياء، وبذلك تتم المساعي للناس في أعمالهم التي بها انتظام أمر المجتمع من المدن والبوادي، والحضر والسفر، فإن الإنسان مدني بالطبع، وكادح للعمل والاكتساب، فحاجته للضياء ضرورية ولولا الضياء لكانت تصرفات الناس مضطربة مختبطة.
وللتنويه بشأن إبصار الناس في الضياء وكثرة الفوائد الحاصلة لهم من ذلك أسند الإبصار إلى النهار على طريقة المجاز العقلي لقوة الملابسة بين الأفعال وزمانها، فأسند إبصار الناس إلى نفس النهار لأنه سبب بعضه وسبب كمال بعض آخر. فأما نعمة السكون في الليل فهي نعمة واحدة هي رجوع النشاط.
وفي ذكر الليل تذكير بآية عظيمة من المخلوقات وهي الشمس التي ينشأ الليل من احتجاب أشعتها عن نصف الكرة الأرضية وينشأ النهار من انتشار شعاعها على النصف المقابل من الكرة الأرضية، ولكن لما كان المقصد الأول من هذه الآية الامتنان ذكر الليل والنهار دون الشمس، وقد ذكرت الشمس في آيات أخرى كان الغرض الأهم منها الدلالة على عظيم القدرة والوحدانية كقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96].
ودلت مقابلة تعليل إيجاد الليل بعلة سكون الناس فيه، بإسناد الإبصار إلى ذات
النهار على طريقة المجاز العقلي وإنما المبصرون الناس في النهار، على احتباك إذ يفهم من كليهما أن الليل ساكن أيضا، وأن النهار خلق ليبصر الناس فيه إذ المنة بهما سواء، فهذا من بديع الإيجاز مع ما فيه من تفنن أسلوبي الحقيقة والمجاز العقلي. ولم يعكس فيقل: جعل لكم الليل ساكنا والنهار لتبصروا فيه، لئلا تفوت صراحة المراد من السكون كيلا يتوهم أن سكون الليل هو شدة الظلام فيه كما يقال: ليل ساج، لقلة الأصوات فيه.
وتقدم الكلام على الليل والنهار في سورة البقرة[164]عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، وفي مواضع أخرى.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } اعتراض هو كالتذليل لجملة {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } لأن الفضل يشمل جعل الليل والنهار وغير ذلك من النعم، ولأن {الناس} يعم المخاطبين بقوله: {جَعَلَ لَكُمُ} وغيرهم من الناس.
وتنكير {فَضْلٍ} ؤللتعظيم لأن نعم الله تعالى عظيمة جليلة ولذلك قال: {لَذُو فَضْلٍ} ولم يقل: لمتفضل، ولا لمفضل، فعدل إلى إضافة "ذو" إلى {فَضْلٍ} لتأتي التنكير المشعر بالتعظيم. وعدل عن نحو: له فضل، إلى {لَذُو فَضْلٍ} لما يدل عليه "ذو" من شرف ما يضاف هو إليه.
والاستدراك بـ {لكنَّ} ناشئ عن لازم {ذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} لأن الشأن أن يشكر الناس ربهم على فضله فكان أكثرهم كافرا بنعمه، وأي كفر للنعمة أعظم من أن يتركوا عبادة خالقهم المتفضل عليهم ويعبدوا ما لا يملك لهم نفعا ولا ضرا.
وخرج بـ {أَكْثَرَ النَّاسِ} الأقل وهم المؤمنون فإنهم أقل {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100].
والعدول عن ضمير "الناس" في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} إلى الاسم الظاهر ليتكرر لفظ الناس عند ذكر عدم الشكر كما ذكر عند التفضل عليهم فيسجل عليهم الكفران بوجه أصرح.
وقد علمت مما تقدم وجه اختلاف المنفيات في قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [غافر: 59]وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ، فقد أتبع كل غرض أريد إثباته بما يناسب حال منكريه.
[62] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}
اتصل الكلام على دلائل التفرد بالإلهية من قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
إلى قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 62ـ65]اتصال الأدلة بالمستدل عليه.
والإشارة بـ {ذلكم} إلى اسم الجلالة في قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر: 61]. وعدل عن الضمير إلى اسم الإشارة لإفادة أنه تعالى معلوم متميز بأفعاله المنفرد بها بحيث إذا ذكرت أفعاله تميز عما سواه فصار كالمشاهد المشار إليه، فكيف تلتبس إلهيته بإلهية مزعومة للأصنام فليست للذين أشركوا به شبهة تلبس عليهم ما لا يفعل مثل فعله، أي ذلكم ربكم لا غيره وفي اسم الإشارة هذا تعريض بغباوة المخاطبين الذين لبست عليهم حقيقة إلهيته.
وقوله: {اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أخبار أربعة عن اسم الإشارة، ابتدئ فيها بالاسم الجامع لصفات الإلهية إجمالا، وأردف بـ {رَبُّكُمْ} أي الذي دبر خلق ما هو خلق خاص بالبشر بأنه خالق الأشياء كلها كما خلقهم، وأردف بنفي الإلهية عن غيره فجاءت مضامين هذه الأخبار الأربعة مترتبة بطريقة الترقي، وكان رابعها نتيجة لها، ثم فرع عليها استفهام تعجيبي من انصرافهم عن عبادته إلى جانب عبادة غيره مع وضوح فساد إعراضهم عن عبادته.
و {أَنَّى} اسم استفهام عن كيفية، وأصله استفهام عن المكان فإذا جعلوا الحالة في معنى الجانب ومثار الشيء استفهموا بـ"أنى" عن الحالة ويشعر بذلك قوله تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} في سورة الأنعام[101].
و {تُؤْفَكُونَ} تصرفون، وتقدم في قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} في سورة براءة[30]، وبناؤه للمجهول لإجمال بسبب إعراضهم إذ سيبين بحاصل الجملة بعده.
[63] {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
هذه الجملة معترضة بمنزلة التعليل لمضمون الجملة التي قبلها وهو التعجيب من انصرافهم عن عبادة ربهم خالقهم وخالق كل شيء فإن في تعليل ذلك ما يبين سبب التعجيب فجيء في جانب المأفوكين بالموصول لأن الصلة تومئ إلى وجه بناء الخبر وعلته، أي أن استمرارهم على الانصراف عن العلم بوجوب الوحدانية له تعالى. فالإشارة بذلك إلى الإفك المأخوذ من فعل {تُؤْفَكُونَ} [غافر: 62]أي مثل إفككم ذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون.
فيجوز أن يكون المراد بـ {الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} المخاطبين بقوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} [غافر: 62]، ويكون الموصول وصلته إظهارا في مقام الإضمار، والمعنى: كذلك تؤفكون، أي مثل أفككم تؤفكون، ويكون التشبيه مبالغة في أن إفكهم بلغ في كنه الإفك النهاية بحيث لو أراد المقرب أن يقربه للسامعين بشبيه له لم يجد شبيها له أوضح منه وأجلي في ماهيته فلا يسعه إلا أن يشبهه بنفسه على الطريقة المألوفة المبينة في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]، وبذلك تكون صلة الموصول من قوله: {الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} إيماء إلى علة إفكهم تعليلا صريحا.
ويجوز أن يكون المراد بـ {الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} كل من جحد بآيات الله من مشركي العرب ومن غيرهم من المشركين والمكذبين فيصير التعليل المومئ إليه بالصلة تعليلا تعريضيا لأنه إذا كان الإفك شأن الذين يجحدون بآيات الله كلهم فقد شمل ذلك هؤلاء بحكم المماثلة. وصيغة المضارع لاستحضار الحالة، وذكر فعل الكون للدلالة على أن الجحد بآيات الله شأنهم وهجيراهم.
وهذا أصل عظيم في الأخلاق العلمية، فإن العقول التي تتخلق بالإنكار والمكابرة قبل التأمل في المعلومات ولا تميز بين الصحيح والفاسد.
[64] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً}
استئناف ثان بناء على أحسن الوجوه التي فسرنا بها موقع قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر: 61]كما تقدم فلذلك لم تعطف على التي قبلها لأن المقام مقام تعداد دلائل انفراده تعالى بالتصرف وبالإنعام عليهم حتى بفتضح خطلهم في الإشراك به وكفران نعمه، فذكرهم في الآية السابقة بآثار قدرته في إيجاد الأعراض القائمة بجواهر هذا العالم وهما عرضا الظلمة والنور، وفي كليهما نعم عظيمة على الناس، وذكرهم في هذه الآية بآثار خلق الجواهر في هذا العالم على كيفيات هي نعمة لهم، وفي خلق أنفسهم على صور صالحة بهم، فأما إن جعلت اسم الجلالة في قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ} الخ بدلا من {ربكم} في {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي} [غافر: 60]، فإن جملة {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً} تكون مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
والموصول وصلته يجوز أن يكون صفة لاسم الجلالة فيكون الخبر قوله: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} وهو أولى لأن المقصود إثبات إلهيته وحده بدليل ما هو مشاهد من إتقان صنعه الممزوج بنعمته. ويجوز أن يكون الموصول خبرا فيكون الخبر مستعملا في الامتنان والاعتبار. ولما كان المقصود الأول من هذه الآية الامتنان كما دل عليه قوله: {لكم} قدمت الأرض على السماء لأن الانتفاع بها محسوس وذكرت السماء بعدها كما يستحضر الشيء بضده مع قصد إيداع دلائل علم الهيئة لمن فيهم استعداد للنظر فيها وتتبع أحوالها على تفاوت المدارك وتعاقب الأجيال واتساع العلوم.
والقرار أصله، مصدر قر، إذا سكن. وهو هنا من صفات الأرض لأنه في حكم الخبر عن الأرض، فالمعنى يحتمل: أنه جعلها قارة غير مائدة ولا مضطربة فلم تكن مثل كرة الهواء مضطربة متحركة ولو لم تكن قارة لكان الناس في عناء من اضطرابها وتزلزلها، وقد يفضي ذلك بأكثرهم إلى الهلاك وهذا في معنى قوله: {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} في سورة الأنبياء[31].
ويحتمل أن المعنى جعل الأرض ذات قرار، أي قرار لكم، أي جعلها مستقرا لكم كقوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50]أي خلقها على كيفية تلائم الاستقرار عليها بأن جعلها يابسة غير سائلة ولو شاء لجعل سطح الأرض سيالا كالزئبق أو كالعجل فلا يزال الإنسان سائخا فيها يطفو تارة ويسيخ أخرى فلا يكاد يبقى على تلك الحالة، وذلك كوسط سبخة "التَّاكْمَرْتْ"1 المسماة "شط الجريد" الفاصل بين "نفطة" و "نفزاوة" من الجنوب التونسي فإن فيها مسافات إذا مشت فيها القوافل ساخت في الأرض فلا يعثر عليها ولذلك لا تسير فيها القوافل إلا بهداة عارفين بمسالك السير في علامات منصوبة، فكانت خلقه الأرض دالة على عظيم قدرة الله وعلى دقيق حكمته وعلى رحمته بالإنسان والحيوان المعمور بهما وجه الأرض.
والبناء: ما يرفع سمكه على الأرض للاتقاء من الحر والبرد والمطر والدواب. ووصف السماء بالبناء جار على طريقة التشبيه البليغ، وتقدم الكلام مستوفي عند قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} في سورة البقرة[22].
{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}
ـــــــ
1 التاكمرت كلمة بلغة البربر بمعنى السبخة.
لا جرم أن حكمة الله تعالى التي تعلقت بإيجاد ما يحف بالإنسان من العوالم على كيفية ملائمة له مدة بقاء نوعه على الأرض وتحت أديم السماء ولذلك أعقب التذكير بما مهد له من خلق الأرض والسماء، بالتذكير بأنه خلقه مستوفيا مصلحته وراحته.
وعبر عن هذا الخلق بفعل {صَوَّرَكُمْ} لأن التصوير خلق على صورة مراده تشعر بالعناية، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]فاقتضى حسن الصور فلذلك عدل في جانب خلق الإنسان عن فعل الجعل إلى فعل التصوير بقوله: {وَصَوَّرَكُمْ} فهو كقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ} [الانفطار: 8,7]ثم صرح بما اقتضاه فعل التصوير من الإتقان والتحسين بقوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} . والفاء في قوله: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} عاطفة جملة على جملة ودالة على التعقيب أي أوجد صورة الإنسان فجاءت حسنة.
وعطف على هذه العبرة والمنة منة أخرى فيها عبرة، أي خلقكم في أحسن صورة ثم أمدكم بأحسن رزق فجمع لكم بين الإيجاد والإمداد، ولما كان الرزق شهوة في ظاهره وكان مشتملا على حكمة إمداد الجسم بوسائل تجديد قواه الحيوية وكان في قوله: {رَزَقَكُمْ} إيماء إلى نعمة طول الوجود فلم يكن الإنسان من الموجودات التي تظهر على الأرض ثم تضمحل في زمن قريب وجمع له بين حسن الإيجاد وبين حسن الإمداد فجعل ما به مدد الحياة وهو الرزق من أحسن الطيبات على خلاف رزق بقية أنواع الحيوان.
{ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
موقع {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} كموقع نظيره المتقدم آنفا. وإعدة هذا تكرير للتوقيف على خطل رأيهم في عبادة غيره على طريقة التعريض، بقرينة ما تقدم في نظيره من قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [غافر: 62]، وقرينة قوله هنا: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 65].
وفرع على ما ذكر من بدائع صنعه وجزيل منه، أن أنشئ الثناء عليه بما يفيد اتصافه بعظيم صفات الكمال فقال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} ، وفعل {تَبَارَكَ} صيغة مفاعلة مستعملة مجازا في قوة ما اشتق منه الفعل. وهو مشتق من اسم جامد وهو البركة، والبركة: اسم يدل على تزايد الخير. وإظهار اسم الجلالة مع فعل {تَبَارَكَ} دون الإتيان بضمير مع تقدم اسمه، فالإظهار لتكون الجملة كلمة ثناء مستقلة.
و {رَبُّ الْعَالَمِينَ} خالق أجناس العقلاء من الناس والملائكة والجن. وهذا الوصف من تمام الإنشاء لأن في ذكر ربوبيته للعالمين وهم أشرف أجناس الموجودات استحضار لما أفاضه عليهم من خيرات الإيجاد والإمداد.
[65] {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
استئناف ثالث للارتقاء في إثبات إلهيته الحق بإثبات ما يناسبها وهو الحياة الكاملة، فهذه الجملة مقدمة لجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فإثبات الحياة الواجبة لذاته فإن الذي رب العالمين وأوجدهم على أكمل الأحوال وأمدهم بما به قوامهم على ممر الأزمان لا جرم أنه موصوف بالحياة الحق لأن مدبر المخلوقات على طول العصور يجب أن يكون موصوفا بالحياة، إذ الحياة "مع ما عرض من عسر في تعريفها عند الحكماء والمتكلمين" هي صفة وجودية تصحح لمن قامت به الإدراك والإرادة والفعل، وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} في سورة البقرة[28].
فإن كان اتصاف موصوفها بها مسبوقا بعدم فهي حياة ممكنة عارضة مثل حياة الملائكة وحياة الأرواح وحياة الإنسان وحياة الحيوان وحياة الأساريع، فتكون متفاوتة في موصوفاتها بتفاوت قوتها فيها ومتفاوتة في موصوفها الواحد بتفاوت أزمانها مثل تفاوت حياة الشخص الواحد في وقت شبابه، وحياته في وقت هرمه ومثل حياة الشخص وقت نشاطه وحياته وقت نومه، وبذلك التفاوت تصير إلى الخفوت ثم الزوال، ويظهر أثر تفاوتها في تفاوت آثارها من الإدراك والإرادة والفعل.
وإن كان اتصاف موصوفها بها أزليا غير مسبوق بعدم فهي حياة واجب الوجود سبحانه وهي حياة واجبة ذاتية. وهي الحياة الحقيقة لأنها غير معرضة للنقص ولا للزوال، فلذلك كان الحي حقيقة هو الله تعالى كما أنبأت عنه صيغة الحصر في قوله: {هُوَ الْحَيُّ} وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بحياة ما سواه من الأحياء لأنها عارضة ومعرضة للفناء والزوال.
فموقع قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} موقع النتيجة من الدليل لأن كل من سواه لا حياة له واجبة، فهو معرض للزوال فكيف يكون إلها مدبرا للعالم. وجميع ما عبد من دون الله هو بين ما لم يتصف بالحياة تماما كالأصنام من الحجارة أو الخشب أو المعادن. ومثل
الكواكب الشمس والقمر والشجر، وبين ما اتصف بحياة عارضة غير زائلة كالملائكة، وبين ما اتصف بحياة عارضة زائلة من معبودات البشر مثل "بُوذة" و "بَرْهَما" بله المعبودات من البقر والثعابين. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]أي لا يستطيع أحدهم التصرف بالإيجاد والإحياء وهو مخلوق، أي معرض للحياة {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21]فجعل نفي الحياة عنهم في الحال أو في المآل دلالة على انتفاء إلهيتهم وجعل نفي إدراك بعض المدركات عنهم دلالة على انتفاء إلهيتهم.
وبعد اتضاح الدلالة على انفراده تعالى بالإلهية فرع عليه المر بعبادته وحده غير مشركين غيره في العبادة لنهوض انفراده باستحقاق أن يعبد.
والدعاء: العبادة لأنها يلازمها السؤال والنداء في أولها وفي أثنائها غالبا، لأن الدعاء عنوان انكسار النفس وخضوعها كما تقدم آنفا عند قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] الآية وكما في قوله الآتي: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} [غافر: 74].
والإخلاص: الإفراد وتصفية الشيء مما ينافيه أو يفسده.
والدين: المعاملة. وأطلق على الطاعة وهو المراد هنا لأنها أشد أنواع المعاملة بين المطيع والمطاع. والمعنى: فإذ كان هو الحي دون الأصنام وكان لا إله غيره فاعبدوه غير مشركين معه غيره في عبادته.
ويدخل في ماهية الإخلاص دخولا أوليا ترك الرياء في العبادة لأن الرياء وهو أن يقصد المتعبد من عبادته أن يراه الناس سواء كان قصدا مجردا أو مخلوطا مع قصد التقرب إلى الله. كل ذلك لا يخلو من حصول حظ في تلك العبادة لغير الله وإن لم يكن ذلك الحظ في جوهرها. وهذا معنى في الحديث: "إن الرياء الشرك الأصغر"1.
وتقديم {له} المتعلق بمخلصين على مفعول {مُخْلِصِينَ} لأنه الأهم في هذا المقام به لأنه أشد تعلقا بمتعلقه من تعلق المفعول بعامله.
ـــــــ
1 رواه الطبراني عن شداد بن أوس قال: "كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرك الأصغر.
وعن محمد بن رافع بن خديج رفعه: "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟قال: الرياء... "الحديث.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
يجوز أن تكون إنشاء للثناء على الله كما هو شأن أمثالها في غالب مواقع استعمالها كما تقدم في سورة الفاتحة، فيجوز أن تكون متصلة بفعل {فادعوه} على تقدير قول محذوف، أي قائلين، الحمد لله رب العالمين، أو قولوا: الحمد لله رب العالمين، وقرينه المحذوف هو أن مثل هذه الجملة مما يجري على ألسنة الناس كثيرا فصارت كالمثل في إنشاء الثناء على الله. والمعنى: فاعبدوه بالعمل وبالثناء عليه وشكره. ويجوز أن تكون كلاما مستأنفا أريد به إنشاء الثناء على الله من نفسه تعليما للناس كيف يحمدونه، كما تقدم في وجوه نظيرها في سورة الفاتحة. أو جاريا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم على نحو قوله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 45]
عقب قوله: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40]
وعندي: أنه يجوز أن يكون {الْحَمْدُ} مصدرا جيء به بدلا من فعله على معنى الأمر، أي أحمدوا الله رب العالمين. وعدل به عن النصب إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات كما تقدم في أول الفاتحة.
وفصل الجملة عن الكلام الذي قبلها أسعد بالاحتمالين الأول والرابع.
[66] {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}
جملة معترضة بين أدلة الوحدانية بدلالة الآيات الكونية والنفسية ليجروا على مقتضاها في أنفسهم بأن يعبدوا الله وحده، فانتقل إلى تقرير دليل الوحدانية بخبر الوحي الإلهي بإبطال عبادة غير الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ليعمل بذلك في نفسه ويبلغ ذلك إليهم فيعلموا أنه حكم الله فيهم، وأنهم لا عذر لهم في الغفلة عنها أو عدم إتقان النظر فيها أو قصور الاستنتاج منها بعد أن جاءهم رسول من الله يبين لهم أنواعا بمختلف البيان من أدلة برهانية وتقريبية إقناعية.
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يدعوهم إلى ما يريده لنفسه فهو ممحض لهم النصيحة، وهاديهم إلى الحجة لتتظاهر الأدلة النظرية بأدلة الأمر الإلهي بحيث يقوى إبطال مذهبهم في الشرك، فإن ما نزل من الوحي تضمن أدلة عقلية وإقناعية وأوامر إلهية وزواجر
وترغيبات، وكل ذلك يحوم حول إثبات تفرد الله تعالى بالإلهية والربوبية تفردا مطلقا لا تشوبه شائبة مشاركة ولو في ظاهر الحال كما تشوب المشاركة في كثير من الصفات الأخرى في مثل الملك والملك والحمد، والنفع والضر، والكرم والإعانة وذلك كثير.
فكان قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} إبطالا لعبادة غير الله بالقول الدال على التحذير والتخويف بعد أن أبطل ذلك بدلالة الحجة على المقصود. وهذه دلالة كنائية لأن النهي يستلزم التحذير.
وذكر مجيء البينات في أثناء هذا الخبر إشارة إلى طرق أخرى من الأدلة على تفرد الله بالإلهية تكررت قبل نزول هذه الآية. وكان تقديم المسند إليه وهو ضمير {إني} على الخبر الفعلي لتقوية الحكم نحو: هو يعطي الجزيل، وكان تخصيص ذاته بهذا النهي دون تشريكهم في ذلك الغرض الذي تقدم مع العلم بأنهم منهيون عن ذلك وإلا فلا فائدة لهم في إبلاغ هذا القول فكان الرسول صلى اله عليه وسلم من حين نشأته لم يسجد لصنم قط وكان ذلك مصرفة من الله تعالى إياه عن ذلك إلهاما إلهيا إرهاصا لنبوءته.
و {لما} حرف أو ظرف على خلاف بينهم، وأيا ما كان فهي كلمة تفيد اقتران مضمون جملتين تليانها تشبهان جملتي الشرط والجزاء، ولذلك يدعونها "لما" التوقيتية، وحصول ذلك في الزمن الماضي، فقوله: {لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} توقيت لنهيه عن عبادة غير الله بوقت مجيء البينات، أي بينات الوحي فيما مضى وهو يقتضي أن النهي لم يكن قبل وقت مجيء البينات.
والمقصود من إسناد المنهية إلى الرسول صلى الله عليه وسلم التعريض بنهي المشركين، فإن الأمر بأن يقول ذلك لا قصد منه إلا التبليغ لهم وإلا فلا فائدة لهم في الأخبار بأن الرسول عليه الصلاة والسلام منهي عن أن يعبد الذين يدعونه من دون الله، يعني: فإذا كنت أنا منهيا عن ذلك فتأملوا في شأنكم واستعملوا أنظاركم فيه، ليسوقهم إلى النظر في الأدلة سوقا لينا خفيا لاتباعه فيما نهى عنه، كما جاء ذلك صريحا لا تعريضا في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً} [مريم: 44,43] وبني الفعل للنائب لظهور أن الناهي هو الله تعالى بقرينة مقام التبليغ والرسالة.
ومعنى الدعاء في قوله: {الَّذِينَ تَدْعُونَ} يجوز أن يكون على ظاهر الدعاء، وهو القول الذي تسأل به حاجة، ويجوز أن يكون بمعنى تعبدون كما تقدم في قوله تعالى:
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُم} [غافر: 60]فيكون العدول عن أن يقول: أن اعبد الذين تعبدون، تفننا. و"مِنْ" في قوله: {مِنْ رَبِّي} ابتدائية، وجعل المجرور بـ"من" وصف "رب" مضافا إلى ضمير المتكلم دون أن يجعل مجرورها ضميرا يعود على اسم الجلالة إظهارا في مقام الإضمار على خلاف مقتضى الظاهر لتربية المهابة في نفوس المعرض بهم ليعلموا أن هذا النهي ومجيء البينات هو من جانب سيده وسيدهم فما يسعهم إلا أن يطيعوه ولذلك عززه بإضافة الرب إلى الجميع في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي ربكم ورب غيركم فلا منصرف لكم عن طاعته.
والإسلام: الانقياد بالقول والعمل، وفعله متعد، وكثر حذف مفعوله فنزل منزلة اللازم، فأصله: أسلم نفسه أو ذاته أو وجهه كما صرح به في نحو قوله تعالى: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ}، ومن استعماله كاللازم قوله تعالى: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} في سورة آل عمران[20]وقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} في سورة البقرة[131]، وكذلك هو هنا.
[67] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
استئناف رابع بعد استئناف جملة {هُوَ الْحَيُّ} [غافر: 65]وما تفرع عليها، وكلها ناشئ بعضه عن بغض. وهذا الامتنان بنعمة الإيجاد وهو نعمة لأن الموجود شرف والمعدوم لا عناية به. وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع. وتقدم الكلام على أطوار خلق الإنسان في سورة الحج، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر.
والطفل: اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع، للمذكر والمؤنث قال تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31]وقد يطابق فيقال: طفل وطفلان وأطفال.
واللامات في قوله: {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} وما عطف عليه بـ"ثم" متعلقات بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى إلى لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها، وتقدم نظيره في سورة الحج.
وقوله: {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّى} عطف على {لِتَكُونُوا شُيُوخاً} أي للشيخوخة غاية
وهي الأجل المسمى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة. وأما الأجل المقدر للذين يهلكون قيل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أن من قبل بعض هذه الأطوار، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلا وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشد، أو يتوفى قبل أن يكون شيخا. ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف بـ"ثم" كما عطفت المجرورات الأخرى، والمعنى: أن الله قدر انقراض الأجيال وخلقها بأجيال أخرى، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته، ولما خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالما بأن من جملة الغايات في ذلك الخلق أن يبلغوا أجلا.
وبُني {قَبْلُ} على الضم على نية معنى المضاف إليه، أي من قبل ما ذكر. والأشد: القوة في البدن، وهو ما بين ثمان عشرة إلى الثلاثين وتقدم في سورة يوسف.
وشيوخ: جمع شيخ، وهو من بلغ سن الخمسين إلى الثمانين، وتقدم عند قوله تعالى: {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً} في سورة هود[72]. ويجوز في "شُيوخ" ضم الشين. وبه قرأ نافع وأبو عمر وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف. ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة، والكسائي.
وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} عطف على {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً} أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإنسان على الحالة المبينة، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخلق البديع، وعلى انفراده بالإلهية، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإلهية، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أريد منه ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل. ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل {تَعْقِلُونَ} بمفعول ولا بمجرور لأنه نزل منزلة اللازم، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل الخلق العجيب علة لأمور كثيرة.
[68] {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}
استئناف خامس ومناسبة موقعه من قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إلى قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} إلى {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67]فإن من أول ما يرجى أن يعقلوه هو ذلك التصرف البديع بخلق الحياة في الإنسان عند تكوينه بعد أن كان جثة لا حياة فيها، وخلق الموت فيه عند انتهاء أجله بعد أن كان حيا متصرفا بقوته وتدبيره.
فمعنى {يُحْيِي} يوجد المخلوق حيا. ومعنى {يُمِيتُ} أنه يعدم الحياة عن الذي كان حيا، وهذا هو محل العبرة. وأما إمكان الإحياء بعد الإماتة فمدلول بدلالة قياس التمثيل العقلي وليس هو صريح الآية. والمقصود: الامتنان بالحياة تبعا لقوله قبل هذا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} إلى قوله: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67].
وفي قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} المحسن البديعي المسمى الطباق. وفرع على هذا الخبر إخبار بأنه إذا أراد أمرا من أمور التكوين من إحياء أو إماتة أو غيرهما فإنه يقدر على فعله دون تردد ولا معالجة، بل بمجرد تعلق قدرته بالمقدور وذلك التعلق هو توجيه قدرته للإيجاد أو الإعدام. فالفاء من قوله: {فَإِذَا قَضَى} فاء تفريغ الإخبار بما بعدها على الإخبار بما قبلها.
وقول {كُنْ} تمثيل لتعلق القدرة بالمقدور بلا تأخير ولا عدة ولا معاناة وعلاج بحال من يريد إذن غيره بعمل فلا يزيد على أن يوجه إليه أمرا فإن صدور القول عن القائل أسرع أعمال الإنسان وأيسر وقد اختير لتقريب وقد اختير لتقريب ذلك أخصر فعل وهو {كُنْ} المركب من حرفين متحرك وساكن.
[69ـ72] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}
بنيت هذه السورة على إبطال جدل الذين يجادلون في آيات الله جدال التكذيب والتورك كما تقدم في أول السورة إذ كان من أولها قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]وتكرر ذلك خمس مرات فيها، فنبه على إبطال جدالهم في مناسبات الإبطال كلها إذ ابتدئ بإبطاله على الإجمال عقب الآيات الثلاث من أولها بقوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4]ثم بإبطاله بقوله: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} [غافر: 35]، ثم بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر: 56]ثم بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} .
وذلك كله إيماء إلى أن الباعث لهم على المجادلة في آيات الله هو ما اشتمل عليه القرآن من إبطال الشرك فلذلك أعقب كل طريقة من طرائق إبطال شركهم بالإنحاء على جدالهم في آيات الله، فجملة {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} مستأنفة للتعجيب
من حال انصرافهم عن التصديق بعد تلك الدلائل البينة.
والاستفهام مستعمل في التقرير وهو منفي لفظا، والمراد به: التقرير على الإثبات، كما تقدم غير مرة، منها عند قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} في سورة البقرة[260].
والرؤية علمية، وفعلها معلق عن العمل بالاستفهام بـ {أَنَّى يُصْرَفُونَ} ، و "أنى" بمعنى "كيف"، وهي مستعملة في التعجيب مثل قوله: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [آل عمران: 47]أي أرأيت عجيب انصرافهم عن التصديق بالقرآن بصارف غير بين منشؤه، ولذلك بني فعل {يُصْرَفُونَ} للنائب لأن سبب صرفهم عن الآيات ليس غير أنفسهم. ويجوز أن تكون "أنى" بمعنى "أين"، أي ألا تعجب من أين يصرفهم صارف عن الإيمان حتى جادلوا في آيات الله مع أن شبه انصرافهم عن الإيمان منتفية بما تكرر من دلائل الآفاق وأنفسهم وبما شاهدوا من عاقبة الذين جادلوا في آيات الله ممن سبقهم، وهذا كما يقول المتعجب من فعل أحد "أين يذهب بك".
وبناء فعل {يُصْرَفُونَ} للمجهول على هذا الوجه للتعجب من الصارف الذي يصرفهم وهو غير كائن في مكان غير نفوسهم.
وأبدل {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} من {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ} لأن صلتي الموصولين صادقتان على شيء واحد، فالتكذيب هو ما صدق لجدال، والكتاب: القرآن.
وعطف {وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} يجوز أن يكون على أصل العطف مقتضيا المغايرة، فيكون المراد: وبما أرسلنا به رسلنا من الكتب قبل نزول القرآن، فيكون تكذيبهم ما أرسلت به الرسل مرادا به تكذيبهم جميع الأديان كقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، ويحتمل أنه أريد به التكذيب بالبعث فلعلهم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بإثبات البعث سألوا عنه أهل الكتاب فأثبتوه فأنكر المشركون جميع الشرائع لذلك.
ويجوز أن يكون عطف مرادف فائدته التوكيد، والمراد بـ {رسلنا} محمد صلى الله عليه وسلم كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]يعني الرسول نوحا على أن في العطف فائدة زائدة على ما في المعطوف عليه وهي أن مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مواعظ وإرشاد كثيرا ليس من القرآن.
وتفرع على تكذيبهم وعيدهم بما سيلقونه يوم القيامة فقيل فسوف يعلمون، أي سوف يجدون العذاب الذي كانوا يجادلون فيه فيعلمونه. وعبر عن وجدانهم العذاب بالعلم به بمناسبة استمرارهم على جهلهم بالبعث وتظاهرهم بعد فهم ما يقوله الرسول صلى الله عليه وسلم فأنذروا
بأن ما جهلوه سيتحققونه يومئذ كقول الناس: ستعرف منه ما تجهل، قال أبو علي البصير:
فتذم رأيك في الذين خصصتهم ... دوني وتعرف منهم ما تجهل
وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لدلالة {كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ} عليه، أي يتحققون ما كذبوا به. والظرف الذي في قوله: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} متعلق بـ {يَعْلَمُونَ} أي يعلمون في ذلك الزمن. وشأن "إذ" أن تكون اسما للزمن الماضي واستعملت هنا للزمن المستقبل بقرينة "سوف" فهو إما استعمال المجاز بعلاقة الإطلاق، وإما استعارة تبعية للزمن المستقبل المحقق الوقوع تشبيها بالزمن الماضي وقد تكرر ذلك. ومنه اقترانها بـ"يوم" في نحو قوله: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4]، وقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 5,4]. وأول ما يعلمونه حين تكون الأغلال في أعناقهم أنهم يتحققون وقوع البعث.
والأغلال: جمع غُل، بضم العين، وهو حلقة من قِدٍّ أو حديد تحيط بالعنق تناط بها سلسلة من حديد، أو سير من قد يمسك بها المجرم والأسير.
والسلاسل: جمع سلسلة بكسر السينين وهي مجموع حلق غليظة من حديد متصل بعضها ببعض.
ومن المسائل ما رأيته أن الشيخ ابن عرفة كان يوما في درسه في التفسير سئل: هل تكون هذه الآية سندا لما يفعله أمراء المغرب أصلحهم الله من وضع الجناة بالأغلال والسلاسل جريا على حكم القياس على فعل الله في العقوبات كما استنبطوا بعض صور عقاب من عمل قوم لوط من الرجم بالحجارة، أو الإلقاء من شاهق. فأجاب بالمنع لأن وضع الغل في العنق ضرب من التمثيل وإنما يوثق الجاني من يده، قال: "لأنهم إنما قاسوا على فعل الله في الدنيا ولا يقاس على تصرفه في الآخرة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحراق بالنار، وقوله: "إنما يعذب بها رب العزة".
وجملة {يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ} حال من ضمير {أعناقهم} أو من ضمير {يَعْلَمُونَ} . والسحب: الجر، وهو يجمع بين الإيلام والإهانة. والحميم: أشد الحر.
و"ثم" عاطفة جملة {فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} إلى جملة {يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ} . وشأن "ثم"إذا عطفت الجمل أن تكون للتراخي الرتبي وذلك أن احتراقهم بالنار أشد في تعذيبهم من سحبهم على النار، فهو ارتقاء في وصف التعذيب الذي أجمل بقوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} واسجر بالنار حاصل عقب السحب سواء كان بتراخ أم بدونه.
والسجر: ملء التنور بالوقود لتقوية النار فيه، فإسناد فعل {يُسْجَرُونَ} إلى ضميرهم إسناد مجازي لأن الذي يسجر هو مكانهم من جهنم، فأريد بإسناد المسجور إليهم المبالغة في تعلق السجر بهم، أو هو استعارة تبعية بتشبيههم بالتنور في استقرار النار بباطنهم كما قال تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} [الحج: 20].
[73ـ76] {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ}
"ثم" هذه للتراخي الرتبي لا محالة لأن هذا القول يقال لهم قبل دخول النار، بدليل أن مما وقع في آخر القول {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} ، ودخول أبواب جهنم قبل السحب في حميمها والسجر في نارها. وهذا القيل ارتقاء في تقريعهم وإعلان خطل آرائهم بين أهل المحشر وهو أشد على النفس من ألم الجسم، ولأن هذا القول مقدمة لتسليط العذاب عليهم لاشتماله على بيان سبب العذاب من عبادة الأصنام وازدهائهم في الأرض بكفرهم ومرحهم، وهو أيضا ارتقاء في وصف أحوالهم الدالة على نكالهم إذ ارتقى من صفة جزائهم على إشراكهم وهو شيء غير مستغرب ترتبه على الشرك إلى وصف تحقيرهم آلهتهم التي كانوا يعبدونها وذلك غريب من أحوالهم وأشد دلالة على بطلان إلهية أصنامهم وهو المقصد المهم من القوارع التي سلطت عليهم في هذه السورة. فموقع المعطوف بـ"ثم" هنا كموقع المعطوف بها في قول أبي نواس:
قل إن ساد ثم ساد أبوه ... قبله ثم ساد من قبل جده
من حيث كانت سيادة جده أرسخت له سيادة أبيه وأعقبت سيادة نفسه، وهذا استعمال موجود بكثرة. وصيغ "قيل" بصيغة المضي لأنه محقق الوقوع فكأنه وقع ومضى وكذلك فعل {قَالُوا ضَلُّوا} .
والقائل لهم: ناطق بإذن الله. و"أين" للاستفهام عن مكان الشيء المجهول المكان، والاستفهام هنا مستعمل في التنبيه على الغلط والفضيحة في الموقف فإنهم كانوا يزعمون أنهم يعبدون الأصنام ليكونوا شفعاء لهم من غضب الله فلما حق عليهم العذاب فلم يجدوا شفعاء ذكروا بما كانوا يزعمونه فقيل لهم: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، فابتدروا
بالجواب قبل انتهاء المقالة طمعا في أن ينفعهم الاعتذار. فجملة {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} معترضة في أثناء القول الذي قيل لهم، ومعنى {ضَلُّوا} غابوا كقوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]أي غيبنا في التراب، ثم عرض لهم فعملوا أن الأصنام لا تفيدهم. فأضربوا عن قولهم {ضَلُّوا عَنَّا} وقالوا: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} أي لم نكن في الدنيا ندعو شيئا يغني عنا، فنفي دعاء شيء هنا راجع إلى نفي دعاء شيء يعتد به، كما تقول: حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء، إن كنت خبرته فلم تر عنده خيرا. وفي الحديث: "سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال: "ليسوا بشيء" أي ليسوا بشيء معتد به فيما يقصدهم الناس لأجله، وقال عباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تدراء ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
وتقدم عند قوله تعالى: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} في سورة العقود[68]، إذ ليس المعنى على إنكار أن يكونوا عبدوا شيئا لمنافاته لقولهم: {ضَلُّوا عَنَّا} المقتضي الاعتراف الضمني بعبادتهم.
وفسر كثير من المفسرين قولهم: {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً} أنه إنكار لعبادة الأصنام بعد الاعتراف بها لاضطرابهم من الرعب فيكون من نحو قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23]. ويجوز أن يكون لهم في ذلك الموقف مقالان، وهذا كله قبل أن يحشروا في النار هم و أصنامهم فإنهم يكونون متماثلين حينئذ كما قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} .
وجملة {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} تذييل معترض بين أجزاء القول الذي يقال لهم. ومعنى الإشارة تعجيب من ضلالهم، أي مثل ضلالهم ذلك يضل الله الكافرين. والمراد بالكافرين: عموم الكافرين، فليس هذا من الإظهار في مقام الإضمار. والتشبيه في قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} يفيد تسبيه إضلال جميع الكافرين بإضلاله هؤلاء الذين يجادلون في آيات الله، فتكون جملة {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} تذييلا، أي مثل إضلال الذين يجادلون في آيات الله يضل الله جميع الكافرين، فيكون إضلال هؤلاء الذين يجادلون مشبها به إضلال الكافرين كلهم، والتشبيه كناية عن كون إضلال الذين يجادلون في آيات الله بلغ قوة نوعه بحيث ينظر به كل ما خفي من أصناف الضلال، وهو كناية عن كون مجادلة هؤلاء في آيات الله أشد الكفر.
والتشبيه جار على أصله وهو إلحاق ناقص بكامل في وصف ولا يكون من قبيل
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143]ولا هو نظير قوله المتقدم: {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر: 63]
وقوله: {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ} تكملة القيل الذي يقال لهم حين إذ الأغلال في أعناقهم. والإشارة إلى ما هم فيه من العذاب. و"ما" في الموضعين مصدرية، أي ذلكم مسبب على فرحكم ومرحكم اللذين كانا لكم في الدنيا، والأرض: مطلقة على الدنيا.
والفرح: المسرة ورضي الإنسان على أحواله، فهو انفعال نفساني. والمرح ما يظهر على الفارح من الحركات في مشيه ونظره ومعاملته مع الناس وكلامه وتكبره فهو هيئة ظاهرية.
و {بِغَيْرِ الْحَقِّ} يتنازعه كل من {تَفْرَحُونَ} و {تَمْرَحُونَ} أي تفرحون بما يسركم من الباطل وتزدهون بالباطل فمن آثار فرحهم بالباطل تطاولهم على الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن المرح بالباطل استهزاؤهم بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31,30]. فالفرح كلما جاء منهيا عنه في القرآن فالمراد به هذا الصنف منه، كقوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [القصص: 76]لا كل فرح فإن الله امتن على المؤمنين بالفرح في قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 5,4].
وبين {تَفْرَحُونَ} و {تَمْرَحُونَ} الجناس المحرف.
وجملة {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} يجوز أن تكون استئنافا بيانيا لأنهم لما سمعوا التقريع والتوبيخ وأيقنوا بانتفاء الشفيع ترقبوا ماذا سيؤمر به في حقهم فقيل لهم: {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ} ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من جملة {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ} الخ، فإن مدلول اسم الإشارة العذاب المشاهد لهم وهو يشتمل على إدخالهم أبواب جهنم والخلود فيها.
ودخول الأبواب كناية عن الكون في جهنم لأن الأبواب إنما جعلت ليسلك منها إلى البيت ونحوه.
و {خالدين} حال مقدرة، أي مقدارا خلودكم.
وفرع عليه {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ، والمخصوص بالذم محذوف لأنه يدل عليه ذكر جهنم أي فبئس مثوى المتكبرين جهنم، ولم يتصل فعل "بئس" بتاء التأنيث لأن فاعله في الظاهر هو {مَثْوَى} لأن العبرة بإسناد فعل الذم والمدح إلى الاسم المذكور بعدهما،
وأما اسم المخصوص فهو بمنزلة البيان بعد الإجمال فهو مبتدأ خبره محذوف أو خبر مبتدأ محذوف ولذلك عد باب نعم وبئس من طرق الإطناب.
والمثوى: محل الثواء، والثواء: الإقامة الدائمة، وأوثر لفظ {مَثْوَى} دون "مدخل" المناسب لـ {ادْخُلُوا} لأن المثوى أدل على الخلود فهو أولى بمساءتهم.
والمراد بالمتكبرين: المخاطبون ابتداء لأنهم جادلوا في آيات الله عن كبر في صدورهم كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]ولأن تكبرهم من فرحهم.
وإنما عدل عن ضميرهم إلى الاسم الظاهر وهو {الْمُتَكَبِّرِينَ} للإشارة إلى أن من أسباب وقوعهم في النار تكبرهم على الرسل. وليكون لكل موصوف بالكبر حظ من استحقاق العقاب إذا لم يتب ولم تغلب حسناته على سيئاته إن كان من أهل الإيمان.
[77] {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ}
قد كان فيما سبق من السورة ما فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما تلقاه به المشركون من الإساءة والتصميم على الإعراض ابتداء من قوله في أول السورة: {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4]ثم قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} [غافر: 21]، ثم قوله: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51]ثم قوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]الآية، ففرع هنا على جميع ما سبق وما تخلله من تصريح وتعريض أن أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يلاقيه منهم، وهذا كالتكرير لقوله فيما تقدم: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]. وذلك أن نظيره المتقدم ورد بعد الوعد بالنصر في قوله: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51]ثم قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ} [غافر: 53]الآية، فلما تم الكلام على ما أخذ الله به المكذبين من عذاب الدنيا انتقل الكلام إلى ذكر ما يلقونه في الآخرة بقوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71,70]الآيات، ثم أعقبه بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} عودا إلى بدء إذ الأمر بالصبر مفرع على ما اقتضاء قوله {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ} [غافر: 5]الآيات، ثم
قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18]ثم قوله: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} [غافر: 21]وما بعده، فلما حصل الوعد بالانتصاف من مكذبي النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، أعقب بقوله: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} فإن مناسبة الأمر بالصبر عقب ذلك أن يكون تعريضا بالانتصار له ولذلك فرع على الأمر بالصبر الشرط المردد بين أن يريه بعض ما توعدهم الله به وبين أن لا يراه، فإن جواب الشرط حاصل على كلتا الحالتين وهو مضمون {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي أنهم غير مفلتين من العقاب، فلا شك أن أحد الترديدين هو أن، يرى النبي صلى الله عليه وسلم عذابهم في الدنيا.
ولهذا كان للتأكيد بـ"إنَّ" في قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} موقعه، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين استبطأوا النصر كما قال تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214]فنزلوا منزلة المتردد فيه فأكد وعده بحرف التوكيد. والتعبير بالمضارع في قوله: {يُرْجَعُونَ} لإفادته التجدد فيشعر بأنه رجوع إلى الله في الدنيا.
وقوله: {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} شرط، اقترن حرف "إنْ" الشرطية بحرف "ما" الزائدة للتأكيد ولذلك لحقت نون التوكيد بفعل الشرط. وعطف عليه {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} وهو فعل شرط ثان. وجملة {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} جواب لفعل الشرط الثاني لأن المعنى على أنه جواب له. وأما فعل الشرط الأول فجوابه محذوف دل عليه أول الكلام وهو قوله: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وتقدير جوابه: فإما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك، أو نتوفينك فإلينا يرجعون، أي فهم غير مفلتين مما نعدهم.
وتقدم نظير هذين الشرطين في سورة يونس إلا أن في سورة يونس[46] {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} وفي سورة غافر {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ، والمخالفة بين الآيتين تفنن، ولأن ما في يونس اقتضى تهديدهم بأن الله شهيد على ما يفعلون، أي على ما بفعله الفريقان من قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43]فكانت الفاصلة حاصلة بقوله: {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، وأما هنا فالفاصلة معاقبة للشرط فاقتضت صوغ الرجوع بصيغة المضارع المختتم بواو ونون، على أن {مَرْجِعُهُمْ} معرف بالإضافة فهو مشعر بالمرجع المعهود وهو مرجعهم في الآخرة بخلاف قوله: {يُرْجَعُونَ} المشعر برجوع متجدد كما علمت.
والمعنى: أنهم واقعون في قبضة قدرتنا في الدنيا سواء كان ذلك في حياتك مثل
عذاب يوم بدر أو بعد وفاتك مثل قتلهم يوم اليمامة، وأما عذاب الآخرة فذلك مقرر لهم بطريق الأولى، وهذا كقوله: {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42].
وتقديم المجرور في قوله: {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} للرعاية على الفاصلة وللاهتمام.
[78] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ}
ذكرنا عند قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} في أول هذه السورة[4]أن من صور مجادلتهم في الآيات إظهارها عدم الاقتناع بمعجزة القرآن فكانوا يقترحون آيات كما يريدون لقصدهم إفحام الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما انقضى تفصيل الإبطال لضلالهم بالأدلة البينة والتذكير بالنعمة والإنذار بالترهيب والترغيب وضرب الأمثال بأحوال الأمم الكذبة ثم بوعد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالنصر وتحقيق الوعد، أعقب ذلك بتثبيت الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ما كان شأنه إلا شن الرسل من قبله أن لا يأتوا بالآيات من تلقاء أنفسهم ولا استجابة لرغائب معانديهم ولكنها الآيات عند الله يظهر ما شاء منها بمقتضى إرادته الجارية على وفق علمه وحكمته، وفي ذلك تعريض بالرد على المجادلين في آيات الله، ونبيه لهم على خطأ ظنهم أن الرسل تنتصب لمناقشة المعاندين.
فالمقصود الأهم من هذه الآية هو قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} وأما قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} الخ فهو كمقدمة للمقصود لتأكيد العموم من قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، وهو مع ذلك يفيد بتقديمه معنى مستقلا من رد مجاملتهم فإنهم كانوا يقولون: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]ويقولون: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8]فدمغت مزاعمهم بما هو معلوم بالتواتر من تكرر بعثة الرسل في العصور والأمم الكثيرة.
وقد بعث الله رسلا وأنبياء لا يعلم عددهم إلا الله تعالى لأن منهم من أعلم الله بهم نبيه صلى الله عليه وسلم ومنهم من لم يعلمه بهم إذ لا كمال في الإعلام بمن لم يعلمه بهم، والذين أعلمه بهم منهم من قصه في القرآن، ومنهم من أعلمه بهم بوحي غير القرآن فورد ذكر بعضهم في الآثار الصحيحة بتعيين أو بدون تعيين، ففي الحديث: "أن الله بعث نبيا اسمه عبُّود عبداً
أسود" وفي الحديث: "ذكر حَنظلة بن صفوان نَبيُ أهل الرس، وذكر خالد بن سنان بني1 عَبس، وفي الحديث: "أن نبيا لسعته نملة فأحرق قريتها فعوتب في ذلك" . ولا يكاد الناس يحصون عددهم لتباعد أزمانهم وتكاثر أممهم وتقاصي أقطارهم مما لا تحيط به علوم الناس ولا تستطيع إحصاءه أقلام المؤرخين وأخبار القصاصين وقد حصل من العلم ببعضهم وبعض أممهم ما فيه كفاية لتحصيل العبرة في الخير والشر، والترغيب والترهيب.
وقد جاء في القرآن تسمية خمسة عشر رسولا وهم: نوح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى، وهارون، وعيسى، ويونس، ومحمد صلى الله عليه وسلم واثنا عشر نبيا وهم: داود وسليمان وأيوب وزكريا ويحيى وإلياس واليسع وإدريس وآدم وذو الكفل، وذو القرنين، ولقمان، ونبيئة وهي مريم. وورد بالإجمال دون تسمية صاحب موسى المسمى في السنة خضراء ونبي بني إسرائيل وهو صمويل، وتبع.
وليس المسلمون مطالبين بأن يعلموا غير محمد صلى الله عليه وسلم ولكن الأنبياء ذكروا في القرآن بصريح وصف النبوة يجب الإيمان بنبوتهم لمن قرأ الآيات التي ذكروا فيها وعدتهم خمس وعشرون بين رسول ونبي، وقد اشتمل قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} إلى قوله: {وَلُوطاً} [الأنعام: 83ـ86]على أسماء ثمانية عشر منهم وذكر أسماء سبعة آخرين في آيات أخرى وقد جمعها من قال:
حتم على كل ذي التكليف معرفة ... بأنبياء على التفصيل قد علموا
في تلك حجتنا منهم ثمانية ... من بعد عشر ويبقى سبعة وهم
إدريس هود شعيب صالح وكذا
... ذو الكفل آدم بالمختار قد ختموا
واعلم أن في كون يوسف رسولا ترددا بينته عند قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} في هذه السورة[34]، وأن في نبوة الخضر ولقمان وذي القرنين ومريم ترددا. واخترت إثبات نبوتهم لأن الله ذكر في بعضهم أنه خاطبهم، وذكر في بعضهم أنه أوتى الحكمة وقد اشتهرت في النبوة، وفي بعضهم أنه كلمته الملائكة. ولا يجب الإيمان إلا بوقوع الرسالة والنبوة على الإجمال.
ولا يجب على الأمة الإيمان بنبوة رسالة معين إلا محمد صلى الله عليه وسلم، أو من بلغ العلم بنبوته بين المسلمين مبلغ اليقين لتوتره مثل موسى وعيسى وإبراهيم ونوح.
ـــــــ
1 في المطبوعة"بني".
ولكن من اطلع على ذكر نبوة نبي بوصفه ذلك في القرآن صريحا وجب1 عليه الإيمان بما علمه.
وما ثبت بأخبار الآحاد لا يجب الإيمان به لأن الاعتقادات لا تجب بالظن ولكن ذلك تعليم لا وجوب اعتقاد. وتنكير {رُسُلاً} مفيد للتعظيم والتكثير، أي أرسلنا رسلا عددهم كثير وشأنهم عظيم.
وعطف {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ} الخ بالواو دون الفاء يفيد استقلال هذه الجملة بنفسها لما فيها من معنى عظيم حقيق بأن لا يكون تابعا لغيره، ويكتفي في الدلالة على ارتباط الجملتين بموقع إحداهما متن الأخرى.
والآية: المعجزة، وإذن الله: هو أمر التكوين الذي يخلق الله به خارق العادة ليجعله علامة على صدق الرسول. ومعنى إتيان الرسول بآية: هو تحديه إلى قومه بأن الله سيؤيده بآية يعينها مثل قول صالح عليه السلام: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً} [الأعراف: 73]وقول موسى عليه السلام لفرعون: {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ} [الشعراء: 30]الآية.
وقول عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِراً بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]وقوله محمد صلى الله عليه وسلم: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23].
فالباء في بـ {بِآيَةٍ} باء التعدية لفعل {أَنْ يَأْتِيَ} وأما الباء في بـ {بِإِذْنِ اللَّهِ} فهي باء السببية دخلت على مستثنى من أسباب محذوفة في الاستثناء المفرغ، أي ما كان له أن يأتي بآية بسبب من الأسباب إذن الله تعالى. وهذا إبطال لما يتوركون به من المقترحات والتعلات.
وفرع عليه قول: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي فإذا جاء أمر الله بإظهار الرسول آية ظهر صدق الرسول وكان ذلك قضاء من الله تعالى لرسوله بالحق على مكذبيه، فإذن الله هو أمره التكويني بخلق آية وظهورها.
وقوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} الأمر: القضاء والتقدير، كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]وقوله: {أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة: 52]وهو الحدث القاهر للناس كما في قول عمر لما قال له أبو قتادة يوم حنين "ما شأن الناس" حين انهزموا وفروا قال عمر: "أمر الله". وفي العدول عن: إذن الله، إلى {أَمْرُ اللَّهِ} تعريض بأن ما سيظهره الله من الإذن لمحمد صلى الله عليه وسلم هي آيات عقاب لمعانديه، فمنها: آية الجوع سبع
ـــــــ
1في المطبوعة"وجيء".
سنين حتى أكلوا الميتة، وآية السيف يوم بدر إذ استأصل صناديد المكذبين من أهل الطائف، وآية الأحزاب التي قال عنها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]ثم قال: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} [الأحزاب: 25ـ27].
وفي إيثار {قُضِيَ بِالْحَقِّ} بالذكر دون غيره من نحو: ظهر الحق، أو تبين الصدق، ترشيح لما في قوله: {أَمْرُ اللَّهِ} من التعريض بأنه أمر انتصاف من المكذبين. ولذلك عطف عليه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي خسر الذين جادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق.
والخسران: مستعار لحصول الضر لمن أراد النافع، كخسارة التاجر الذي أراد الربح فذهب رأس ماله، وقد تقدم معناه غير مرة، منها قول تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في أوائل سورة البقرة[16].
و {هُنَالِكَ} أصله اسم إشارة إلى المكان، واستعير هنا للإشارة إلي الزمان المعبر عنه بـ"إذا" في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} .
وفي هذه الاستعارة نكتة بديعية وهي الإيماء إلى أن المبطلين من قريش ستأتيهم الآية في مكان من الأرض وهو مكان بدر وغيره من مواقع إعمال السيف فيهم فكانت آيات محمد صلى الله عليه وسلم حجة على معانديه أقوى من الآيات السماوية نحو الصواعق أو الريح، وعن الآيات الأرضية نحو الغرق والخسف لأنها كانت مع مشاركتهم ومداخلتهم حتى يكون انغلابهم أقطع لحجتهم وأخزى لهم نظير آية عصا موسى مع عصي السحرة.
[79ـ80] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}
انتقال من الامتنان على الناس بما سخر لأجلهم من نظام العوالم العليا والسفلى، وبما منحهم من الإيجاد وتطوره وما في ذلك من الألطاف بهم وما أدمج فيه من الاستدلال على انفراده تعالى بالتصرف فكيف ينصرف عن عبادته الذين أشركوا به آلهة أخرى، إلى الامتنان بما سخر لهم من الإبل لمنافعهم الجمة خاصة وعامة، فالجملة استئناف سادس.
والقول في افتتاحها كالقول في افتتاح نظائرها السابقة باسم الجلالة أو بضميره.
والأنعام: الإبل، والغنم، والمعز، والبقر. والمراد هنا: الإبل خاصة لقوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً} وقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} وكانت الإبل غالب مكاسبهم.
والجَعْل: الوضع والتكمين والتهيئة، فيحمل في كل مقام على ما يناسبه وفائدة الامتنان استدلال على دقيق الصنع وبليغ الحكمة كما دل عليه قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 81]أي في ذلك كله.
واللام في {لكم} لام التعليل، أي لأجلكم وهو امتنان مجمل يشمل بالتأمل كل ما في الإبل لهم من منافع وهم يعلمونها إذا تذكروها وعدوها. ثم فصل ذلك الإجمال بعض التفصيل بذكر المهم من النعم التي في الإبل بقوله: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} إلى {تُحْمَلُونَ} . فاللام في {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} لام كي وهي متعلقة بـ {جعل} أي لركوبكم.
و"مِنْ" في الموضعين هنا للتبعيض وهي صفة لمحذوف يدل عليه "من" أي بعضا منها، وهو ما أعد للأسفار من الرواحل. ويتعلق حرف "من" بـ {تَرْكَبُوا} ، وتعلق "من" التبعيضية بالفعل تعلق ضعيف وهو الذي دعا التفتزاني إلى القول بأن "من" في مثله اسم بمعنى بعض، وتقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في سورة البقرة[8].
وأريد بالركوب هنا الركوب للراحة من تعب الرجلين في الحاجة القريبة بقرينة مقابلته بقوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} .
وجملة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} في موضع الحال من {الأنعام} ، أو عطف على المعنى من جملة {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} لأنها في قوة أن يقال: تكبون منها، على وجه الاستئناف لبيان الإجمال الذي في {جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} ، وعلى الاعتبارين فهي في حيز ما دخلت عليه لام كي فمعناها: ولتأكلوا منها.
وجملة {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} عطف على جملة {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ، والمعنى أيضا على اعتبار التعليل كأنه قيل: ولتجتنبوا منافعها المجعولة لكم وإنما غير أسلوب التعليل تفننا في الكلام وتنشيطا للسامع لئلا يتكرر حرف التعليل تكرارات كثيرة.
والمنافع: جمع منفعة، وهي مفعلة من النفع، وهي: الشيء الذي ينتفع به، أي يستصلح به.
فالمنافع في هذه الآية أريد بها ما قابل منافع أكل لحومها في قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} مثل الانتفاع بأورباها وألبانها وأثمانها وأعواضها في الديات والمهور، وكذلك الانتفاع بجلودها باتخاذها وغيرها وبالجلوس عليها، وكذلك الانتفاع بجمال مرآها في العيون في المسرح والمراح، والمنافع شاملة للركوب الذي في قوله: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} ، فذكر المنافع بعد {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} تعميم بعد تخصيص كقوله تعالى: {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18]بعد قوله: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} [طه: 18]، فذكر هنا الشائع المطروق عندهم ثم ذكر مثيلة في الشيوع وهو الأكل منها، ثم عاد إلى عموم المنافع، ثم خص من المنافع الأسفار فإن اشتداد الحاجة إلى الأنعام فيها تجعل الانتفاع بركوبها للسفر في محل الاهتمام. ولما كانت المنافع ليست منحصرة في أجزاء الأنعام جيء في متعلقها بحرف "في" دون "من" لأن "في" للظرفية المجازية بقرينة السياق فتشمل كل ما يعد كالشيء المحوي في الأنعام، كقول سبرة بن عمرو الفقعسي من شعراء الحماسة يذكر ما أخذه من الإبل في دية قريب:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر
وأنبأ فعل {لتبلغوا} أن الحاجة التي في الصدور حاجة في مكان بعيد يطلبها صاحبها. والحاجة: النية والعزيمة.
والصدور أطلق على العقول اتباعا للمتعارف الشائع كما يطلق القلوب على العقول.
وأعقب الامتنان بالأنعام بالامتنان بالفلك لمناسبة قوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} فقال: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} ، وهو انتقال من الامتنان بجعل الأنعام، إلى الامتنان بنعمة الركوب في الفلك في البحار والأنهار فالمقصود هو قوله: {وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} . وأما قوله: {وَعَلَيْهَا} فهو تمهيد له وهو اعتراض بالواو الاعتراضية تكريرا للمنة، على أنه قد يشمل حمل الأثقال على الإبل كقوله تعالى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} [النحل: 7]فيكون إسناد الحمل إلى ضمير الناس تغليبا.
ووجه الامتنان بالفلك أنه امتنان بما ركب الله في الإنسان من تدبير والذكاء الذي توصل به إلى المخترعات النافعة بحسب مختلف العصور والأجيال، كما تقدم في سورة البقرة[164]عند قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} الآيات، وبينا هنالك أن العرب كانوا يركبون البحر الأحمر في التجارة ويركبون الأنهار أيضا قال
النابغة يصف الفرات:
يظل من خوفه الملاح معتصما ... بالخيزرانة بعد الأين والنجد
والجمع بين السفر بالإبل والسفر بالفلك جمع لطيف، فإن الإبل سفائن البر، وقديما سموها بذلك، قاله الزمخسري في تفسير سورة المؤمن.
وإنما قال: {وَعَلَى الْفُلْكِ} ولم يقل: وفي الفلك، كما قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ} [العنكبوت: 65] لمزاوجة والمشاكلة مع {وَعَلَيْهَا} ، وإنما أعيد حرف "على" في الفلك لأنها هي المقصودة بالذكر وكان ذكر {وَعَلَيْهَا} كالتوطئة لها فجاءت على مثالها.
وتقديم المجرورات في قوله: {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} وقوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ} لرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بما هو المقصود في السياق. وتقديم {لَكُمُ} على {الْأَنْعَامَ} مع أن المفعول أشد اتصالا بفعله من المجرور لقصد الاهتمام بالمنعم عليهم.
وأما تقديم المجرورين في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} فللاهتمام بالمنعم عليهم والمنعم بها لأنه الغرض الأول من قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} .
[81] {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}
عطف على جملة {لَكُمُ الْأَنْعَامَ} [غافر: 79]أي الله الذي يريكم آياته. وهذا انتقال من متعدد الامتنان بما تقدم من قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [غافر: 61] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَاراً} [غافر: 64] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [غافر: 67] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} [غافر: 79]، فإن تلك ذكرت في معرض الامتنان تذكيرا بالشكر، فنبه هنا على أن في تلك المنن آيات دالة على ما يجب لله من الوحدانية والقدرة والحكمة.
ولذلك كان قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} مفيدا مفاد التذليل لما في قوله: {آياته} من العموم لأن الجمع المعرف بالإضافة من صيغ العموم، أي يريكم آياته في النعم المذكورات وغيرها من كل ما يدل على وجوب توحيده وتصديق رسله ونبذ المكابرة فيما يأتونهم به من آيات صدقهم.
وقد جيء في جانب إراءة الآيات بالفعل المضارع لدلالته على التجدد لأن الإنسان كلما انتفع بشيء من النعم علم ما في ذلك من دلالة على وحدانية خالقها وقدرته
وحكمته. والإراءة هنا بصرية، عبر بها عن العلم بصفات الله إذ كان طريق ذلك العلم هو مشاهدة تلك الأحوال المختلفة فمن تلك المشاهدة ينتقل العقل إلى الاستدلال، وفيه إشارة إلى أن دلالة وجود الخالق ووحدانيته وقدرته برهانية تنتهي إلى اليقين والضرورة.
وإضافة الآيات إلى ضمير الجلالة لزيادة التنويه بها، والإرشاد إلى إجادة النظر العقلي في دلائلها، وأما كونها جائية من لدن الله وكون إضافتها من الإضافة إلى ما هو في معنى الفاعل، فذلك أمر مستفاد من إسناد فعل {يريكم} إلى ضميره تعالى. وفرع على إراءة الآيات استفهام إنكاري عليهم من أجل إنكارهم ما دلت عليه تلك الآيات.
و"أي" اسم استفهام يطلب به تمييز شيء عن مشاركة فيما يضاف إليه "أي"، وهو هنا مستعمل في إنكار أن يكون شيء من آيات الله يمكن أن ينكر دون غيره من الآيات فيفيد أن جميع الآيات صالح للدالة على وحدانية الله وقدرته لا مساغ لادعاء خفائه وأنهم لا عذر لهم في عدم الاستفادة من إحدى الآيات. والأكثر في استعمال "أي" إذا أضيف إلى اسم مؤنث اللفظ أن لا تلحقها هاء التأنيث اكتفاء بتأنيث ما تضاف إليه لأن الغالب في الأسماء التي ليست بصفات أن لا يفرق بين مذكرها ومؤنثها بالهاء نحو حمار فلا يقال للمؤنث حمارة. و"أي" اسم ويزيد بما فيه من الإبهام فلا يفسره إلا المضاف إليه فلذلك قال هنا: {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ} دون: فأيَّة آيات الله، لأن إلحاق علامة التأنيث بـ"أي" في مثل هذا قليل، ومن غير الغالب تأنيث "أي" في قول الكميت:
بأي كتاب أم بأية سنة ... ترى حبهم عارا علي وتحسب
[82ـ83] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}
تفريغ هذا الاستفهام عقب قوله: {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 81]، يقتضي أنه مساوق للتفريغ الذي قبله وهو {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81]فيقتضي أن السير المستفهم عنه بالإنكار على تركه هو سير تحصل فيه آيات ودلائل على وجود الله ووحدانيته وكلا التفريعين متصل بقوله: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80]، فذلك هو مناسبة الانتقال إلى التذكير بعبرة آثار الأمم التي استأصلها الله
تعالى لما كذبت رسله وجحدت آياته ونعمه.
وحصل بذلك تكرير الإنكار الذي في قوله قبل هذا: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [غافر: 21]الآية، فكان ما تقدم انتقالا عقب آيات الإنذار والتهديد، وكان هذا انتقالا عقب آيات الامتنان والاستدلال، وفي كلا الانتقالين تذكير وتهديد ووعيد. وهو يشير إلى أنهم إن لم يكونوا ممن تزعهم النعم عن كفران مسديها كشأن أهل النفوس الكريمة فليكونوا ممن يرعهم الخوف من البطش كشأن أهل النفوس اللئيمة فليضعوا أنفسهم حيث يختارون من إحدى الخطتين.
والقول في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ} مثل القول في نظيره السابق في هذه السورة، وخولف في عطف جملة {أَفَلَمْ يَسِيرُوا} بين هذه الآية فعطفت بالفاء للتفريغ لوقوعها بعدما يصلح لأن يفرع عنه إنكار عدم النظر في عاقبة الذين من قبلهم بخلاف نظيرها الذي قبلها فقد وقع بعد إنذارهم بيوم الآزفة.
وجملة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} معترضة والفاء للتفريغ على قوله: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} وهو كقوله تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [صّ: 57]وقول عنترة:
ولقد نزلتِ فلا تظني غيره ... مني بمنزلة المحب المكرم
وفائدة هذا الاعتراض التعجيل بإفادة أن كثرتهم وقوتهم وحصونهم وجناتهم لم تغن عنهم من بأس الله شيئا.
وجملة {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الآية مفرعة على جملة {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} أي كانوا كذلك إلى أن جاءتهم رسل الله إليهم بالبينات فلم يصدقوهم فرأوا بأسنا. وجعلها في "الكشاف" جارية مجرى البيان ولتفسير لقوله: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} ، وما سلكته أنا أحسن وموقع الفاء يؤيده.
وأما في "لما" من معنى التوقيت أفادت معنى أن الله لم يغير ما بهم من النعم العظمى حتى كذبوا رسله.
وجواب "لما" جملة {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} وما عطف عليها.
واعلم أن المفسرين ذهبوا في تفسير هذه الآية طرائق قددا ذكر بعضها الطبري عن بعض سلف المفسرين. وأنهاها "صاحب الكشاف" إلى ست، ومال صاحب "الكشاف" إلى
إحداها، وأبو حيان إلى أخرى ولا حاجة إلى جلب ذلك.
والطريقة التي يرجح سلوكها هي أن هنا ضمائر عشرة هي ضمائر جمع الغائبين وأن بعضها عائد لا محالة على {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وأن وجه النظم أن تكون الضمائر متناسقة غير مفككة فلذا يتعين أن تكون عائدة إلى معاد واحد، فالذين "فرحوا بما عندهم من العلم" هم "الذين جاءتهم رسلهم بالبينات"، وهم "الذين حاق بهم ما كانوا به يستهزئون"، والذين رأوا بأس الله، فما بنا إلا أن نبين معنى {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} .
فالفرح هنا مكنى به آثاره وهي الازدهاء كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ} [القصص: 76]أي بما أنت فيه مكنى به هنا عن تمسكهم بما هم عليه، فالمعنى: أنهم جادلوا الرسل وكابروا الأدلة وأعرضوا عن النظر. وما عندهم من العلم هو معتقداتهم الموروثة عن أهل الضلالة من أسلافهم.
قال مجاهد: "قالوا لرسلهم: "نحن أعلم منكم لن نبعث ولن نعذب" اهـ. وإطلاق العلم على اعتقادهم تهكم وجري على حسب معتقدهم وإلا فهو جهل. وقال السدي: "فرحوا بما عندهم من العلم بجهلهم" يعني فهو من قبيل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148].
وحاق بهم: أحاط، بقال: حاق يحيق حيقا، إذا أحاط، وهو هنا مستعار للشدة التي لا تنفيس بها لأن المحيط بشيء لا يدع له مفرجا.
و {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} هو الاستئصال والعذاب. والمعنى: أن رسلهم أوعدوهم بالعذاب فاستهزؤوا بالعذاب، أي بوقوعه وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أن الاستهزاء بوعيد الرسل كان شنشنة لهم، وفي الإتيان بـ {يَسْتَهْزِئُونَ} مضارعا إفادة لتكرر استهزائهم.
[84ـ85] {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا}
موقع جملة {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} من قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 83]كموقع جملة {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} من قوله: {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ} [غافر: 82]لأن إفادة "لما" معنى التوقيت يثير معنى توقيت انتهاء ما قبلها، أي دام دعاء الرسل إياهم ودام تكذيبهم واستهزاؤهم إلى رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده.
والبأس: الشدة في المكروه، وهو جامع لأصناف العذاب كقوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: 43,42]فذلك البأس بمعنى البأساء، ألا ترى إلى قوله: {تضرعوا} وهو هنا يقول: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} . فالبأس هنا العذاب الخارق للعادة المنذر بالفناء فإنهم لما رأوه علموا أنه العذاب الذي أنذروه. وفرع عليه قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، أي حين شاهدوا العذاب لم ينعهم الإيمان لأن الله لا يقبل الإيمان عند نزول عذابه.
وعُدل عن أن يقال: فلم ينفعهم، إلى قوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ} لدلالة فعل الكون على أن خبره مقرر الثبوت لاسمه، فلما أريد نفي ثبوت النفع إياهم بعد فوات وقته اجتلب لذلك نفي فعل الكون الذي خبره {ينفعهم} . والمعنى أن الإيمان بعد رؤية بوارق العذاب لا يفيد صاحبه مثل الإيمان عند الغرغرة ومثل الإيمان عند طلوع الشمس من مغربها كما جاء في الحديث الصحيح وسيأتي بيان هذا عقبه.
{سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ}
انتصب {سُنَّتَ اللَّهِ} على النيابة عن المفعول المطلق لأن {سُنَّتَ} اسم مصدر السن، وهو آت بدلالة من فعله، والتقدير: سن الله ذلك سنة، فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال من يسأل لماذا لم ينفعهم الإيمان وقد آمنوا، فالجواب أن ذلك تقديره قدره الله للأمم السالفة أعلمهم به وشرطه عليهم فهي قديمة في عبادة لا ينفع الكافر الإيمان إلا قبل ظهور البأس ولم يستثن من ذلك إلا قوم يونس قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 98].
وهذا حكم الله في البأس بمعنى العقاب الخارق للعادة والذي هو آية بينة، فأما البأس الذي هو معتاد والذي هو آية خفية مثل عذاب بأس السيف الذي نصر الله به رسوله يوم بدر ويوم فتح مكة، فإن من يؤمن عند رؤيته مثل أبي سفيان بن حرب حين رأى جيش
الفتح، أو بعد أن ينجو منه مثل إيمان قريش يوم الفتح بعد رفع السيف عنهم، فإيمانه كامل خالد بن الوليد، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد ارتداده.
ووجه عدم قبول الإيمان عند حلول عذاب الاستئصال وقبول الإيمان عند نزول بأس السيف أن عذاب الاستئصال مشارفة للهلاك والخروج من عالم الدنيا فإيقاع الإيمان عنده لا يحصل المقصد من إيجاب الإيمان وهو أن يكون المؤمنون حزبا وأنصارا لدينه وأنصار لرسله، وماذا يغني إيمان قوم لم يبق فيهم إلا رمق ضعيف من حياة، فإيمانهم حينئذ بمنزلة اعتراف أهل الحشر بذنوبهم وليست ساعة عمل، قال تعالى في شأن فرعون: {إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 91,90]، أي فلم يبق وقت لاستدراك عصيانه وإفساده، وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً} [الأنعام: 158]فأشار قوله: {أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَاخَيْراً} إلى حكمة عدم انتفاع أحد بإيمانه ساعتئذ. وإنما كان ما حل بقوم يونس حالا وسيطا بين ظهور البأس وبين الشعور به عند ظهور علاقاته كما بيناه في سورة يونس.
وجملة {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} كالفذلكة لقوله: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} ، وبذلك آذنت بانتهاء الغرض من السورة. و {هُنَالِكَ} اسم إشارة إلى مكان، استعير للإشارة إلى الزمان، أي خسروا وقت رؤيتهم بأسنا إذ انقضت حياتهم وسلطانهم وصاروا إلى ترقب عذاب خالد مستقبل.
والعدول عن ضمير {الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [غافر: 21]إلى الاسم الظاهر وهو {الْكَافِرُونَ} إيماء إلى أن سبب خسرانهم هو الكفر بالله وذلك إعذار للمشركين من قريش.
أسلوب سورة غافر
أسلوبها أسلوب المحاجة والاستدلال على صدق القرآن وأنه منزل من عند الله، وإبطال ضلالة المكذبين وضرب مثلهم بالأمم المكذبة، وترهيبهم من التمادي في ضلالهم وترغيبهم في التبصر ليهتدوا. وافتتحت بالحرفين المقطعين من حروف الهجاء لأن أول أغراضها أن القرآن من عند الله ففي حرفي الهجاء رمز إلى عجزهم عن معارضته بعد أن تحداهم، لذلك فلم يفعلوا، كما تقدم في فاتحة سورة البقرة. وفي ذلك الافتتاح تشويق إلى تطلع ما يأتي بعده للاهتمام به.
وكان في الصفات التي أجريت على اسم منزل القرآن إيماء إلى أنه لا يشبه كلام البشر لأنه كلام العزيز العليم، وإيماء إلى تيسير إقلاعهم الاستهلال. ثم تخلص من الإماء والرمز إلى صريح وصف ضلال المعاندين وتنظيرهم بسابقيهم من الأمم التي استأصلها الله.
وخص بالذكر أعظم الرسل السالفين وهو موسى مع أمة من أعظم الأمم السالفة وهم أهل مصر وأطيل ذلك لشدة مماثلة حالهم لحال المشركين من العرب في الاعتزاز بأنفسهم، وفي قلة المؤمنين منهم مثل آل فرعون، وتخلل ذلك ثبات موسى وثبات مؤمن آل فرعون إيماء إلى التنظير بثبات محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، ثم انتقل إلى الاستدلال على الوحدانية وسعة القدرة على إعادة الأموات. وختمت بذكر أهل الضلال من الأمم السالفة الذين أوبقهم الإعجاب برأيهم وثقتهم بجهلهم فصمت آذانهم عن سماع حجج الحق، وأعمالهم عن النظر في دلائل الكون فحسبوا أنهم على كمال لا ينقصهم ما به حاجة إلى الكمال، فحاق بهم العذاب، وفي هذا رد العجز على الصدر. وخوف الله المشركين من الانزلاق في مهواة الأولين بأن سنة الله في عبادة الإمهال ثم المؤاخذة، فكان ذلك كلمة جامعة للغرض أذنت بانتهاء الكلام فكانت محسن الختام.
وتخلل في ذلك كله من المستطردات والانتقالات بذكر ثناء الملأ الأعلى عل المؤمنين وثنائهم على الكافرين، وذكر ما هم صائرون إليه من العذاب والندامة، وتمثيل الفارق بين المؤمنين والكافرين، وتشويه حال الكافرين في الآخرة، وتثبيت المؤمنين على إيمانهم وأن الله نصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والآخرة، وأمرهم بالصبر والتوكل، وأن شأن الرسول صلى الله عليه وسلم كشأن الرسل من قبله في لقيان التكذيب وفي أنه يأتي بالآيات التي أجراها الله على يديه دون مقترحات المعاندين.
المجلد الخامس والعشرون
سورة فصلت...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة فصلت
تسمى حم السجدة بإضافة حم إلى السجدة كما قدمناه في أول سورة المؤمن، وبذلك ترجمت في صحيح البخاري وفي جامع الترمذي لأنها تميزت عن السور المفتتحة بحروف حم بأن فيها سجدة القرآن. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن خليل بن مرة1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينام حتى يقرأ: تبارك، وحم السجدة2.
وسميت في معظم مصاحف المشرق والتفاسيرسورة السجدة، وهو اختصار قولهم حم السجدة وليس تمييزا لها بذات السجدة. وسميت هذه السور في كثير من التفاسير سورة فصلت
واشتهرت تسميتها في تونس والمغرب سورة فصلت لوقوع كلمة {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} في أولها فعرفت بها تمييزا لها من السور المفتتحة بحروف حم. كما تميزت سورة المؤمن باسم سورة غافر عن بقية السور المفتتحة بحروف حم.
وقال الكواشي: وتسمى سورة المصابيح لقوله تعالى فيها {وَ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت:3]، وتسمى سورة الأقوات لقوله تعالى {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10]
وقال الكواشي في التبصرة: تسمى سجدة المؤمن ووجه هذه التسمية قصد تمييزها عن سورة الم السجدة المسماة سورة المضاجع فأضافوا هذه إلى السورة التي قبلها وهي
ـــــــ
1 هو خليل بن مرة الضبعي "بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة" البصري الرقي, روى عن عطاء وقتادة, وروى عنه الليث وابن وهب وأحمد بن حنبل. قال البخاري: هو منكر الحديث توفي سنة ستين ومائة.
2 المعروف هو حديث الترمذي عن جابر: "كان رسول الله لا ينام حتى يقرأ {الم تَنْزِيلُ} و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ولا منافات بين الحديثين.
سورة المؤمن، كما ميزوا سورة المضاجع باسم سجدة لقمان لأنها واقعة بعد سورة لقمان.
وهي مكية بالاتفاق نزلت بعد سورة غافر وقبل سورة الزخرف، وعدت الحادية والستين في ترتيب نزول السور. وعدت آيها عند أهل المدينة وأهل مكة ثلاثا وخمسين، وعند أهل الشام والبصرة اثنتين وخمسين، وعند أهل الكوفة أربع وخمسين.
أغراضها
التنويه بالقرآن والإشارة إلى عجزهم عن معارضته. وذكر هديه، وأنه معصوم من أن يتطرقه الباطل، وتأييده بما أنزل إلى الرسل من قبل الإسلام. وتلقى المشركين له بالإعراض وصم الآذان. وإبطال مطاعن المشركين فيه وتذكيرهم بأن القرآن نزل بلغتهم فلا عذر لهم أصلا في عدم انتفاعهم بهديه. وزجر المشركين وتوبيخهم على كفرهم بخالق السماوات والأرض مع بيان ما في خلقها من الدلائل على تفرده بالإلهية.
وإنذارهم بما حل بالأمم المكذبة من عذاب الدنيا ووعيدهم بعذاب الآخرة وشهادة سمعهم وأبصارهم وأجسادهم عليهم وتحذيرهم من القرناء المزينين لهم الكفر من الشياطين والناس وأنهم سيندمون يوم القيامة على اتباعهم في الدنيا وقوبل ذلك بما للموحدين من الكرامة عند الله.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفعهم بالتي هي أحسن وبالصبر على جفوتهم وأن يستعيذ بالله من الشيطان وذكرت دلائل تفرد الله بخلق المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر. ودلائل إمكان البعث وأنه واقع لا محالة ولا يعلم وقته إلا الله تعالى وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بتأييد الله إياهم بتنزل الملائكة بالوحي، وبالبشارة للمؤمنين وتخلل ذلك أمثال مختلفة في ابتداء خلق العوالم وعبر في تقلبات أهل الشرك. والتنويه بإيتاء الزكاة.
[1] {حم}
القول في الحروف الواقعة فاتحة هذه السورة كالقول في {ألم} .
[2-4] {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ}
افتتح الكلام باسم نكرة لما في التنكير من التعظيم. والوجه أن يكون {تَنْزِيلُ}
مبتدأ سوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التعظيم فكانت بذلك كالموصوفة وقوله {مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} خبر عنه. وقوله {كتاب} بدل من {تنزيل} فحصل من المعنى: أن التنزيل من الله كتاب، وأن صفته فصلت آياته، موسوما بكونه قرآنا عربيا، فحصل من هذا الأسلوب أن القرآن منزل من الرحمان الرحيم مفصلا عربيا.
ولك أن تجعل قوله {مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في موضع الصفة للمبتدأ وتجعل قوله {كتاب} خبر المبتدأ، وعلى كلا التقديرين هو أسلوب فخم وقد مضى مثله في قوله تعالى {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: من الآية2].
والمراد: أنه منزل، فالمصدر بمعنى المفعول كقوله {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193,192] وهو مبالغة في كونه فعل الله تنزيله، تحقيقا لكونه موحى به وليس منقولا من صحف الأولين. وتنكير {تنزيل} و {كتاب} لإفادة التعظيم
والكتاب: اسم لمجموع حروف دالة على ألفاظ مفيدة وسمي القرآن كتابا لأن الله أوحى بألفاظه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يكتب ما أحي إليه، ولذلك اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم كتابا يكتبون له كل ما ينزل عليه من القرآن وإيثار الصفتين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} على غيرهما من الصفات العلية للإيماء إلى أن هذا التنزيل رحمة من الله بعباده ليخرجهم من الظلمات إلى النور كقوله تعالى {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ} وقوله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الانبياء:107] وقوله {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51]
والجمع بين صفتي {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} للإيماء إلى أن الرحمة صفة ذاتية لله تعالى، وأن متعلقها منتشر في المخلوقات كما تقدم في أول سورة الفاتحة والبسملة.
وفي ذلك إيماء إلى استحماق الذين أعرضوا عن الاهتداء بهذا الكتاب بأنهم أعرضوا عن رحمة، وأن الذين اهتدوا به هم أهل المرحمة لقوله بعد ذلك {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44]
ومعنى {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} بينت، والتفصيل: التبيين والإخلاء من الالتباس. والمراد: أن آيات القرآن واضحة الأغراض لا تلتبس إلا على مكابر في دلالة كل آية على المقصود منها، وفي مواقعها وتمييز بعضها عن بعض في المعنى باختلاف فنون المعاني التي تشتمل
عليها، وقد تقدم في طالعة سورة هود.
ومن كمال تفصيله أنه كان بلغة كثيرة المعاني، واسعة الأفنان، فصيحة الألفاظ، فكانت سالمة من الالتباس الدلالة، وانغلاق الألفاظ، مع وفرة المعاني غير المتنافية في قلة التراكيب، فكان وصفه بأنه عربي من مكملات الإخبار عنه بالتفصيل. وقد تكرر التنويه بالقرآن من هذه الجهة كقوله {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195] ولهذا فرع عليه ذم الذين أعرضوا عنه بقوله هنا {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} وقوله هنالك {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء:201]
والقرآن: الكلام المقروء المتلو. وكونه قرآنا من صفات كماله، وهو أنه سهل الحفظ، سهل التلاوة، كما قال تعالى {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: من الآية22] ولذلك كان شأن الرسول صلى الله عليه وسلم حفظ القرآن عن ظهر قلب، وكان شأن المسلمين اقتداء به في ذلك على حسب الهمم والمكنات، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى تفضيل المؤمنين بما عندهم من القرآن.
وكان يوم أحد يقدم في لحد شهدائه من كان أكثرهم أخذا للقرآن تنبيها على فضل حفظ القرآن زيادة على فضل تلك الشهادة.
وانتصب {قرآنا} على النعت المقطوع للاختصاص بالمدح وإلا لكان مرفوعا على أنه خبر ثالث أو صفة للخبر الثاني، فقوله {قرآنا} مقصود بالذكر للإشارة إلى هذه الخصوصية التي اختص بها من بين سائر الكتب الدينية، ولولا ذلك لقال: كتاب فصلت آياته عربي كما قال في سورة الشعراء {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
ولك أن تجعله منصوبا على حال.
وقوله {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} صفة ل {قرآنا} ظرف مستقر، أي كائنا لقوم يعلمون باعتبار ما أفاده قوله {قُرْآناً عَرَبِيّاً} من معنى وضوح الدلالة وسطوع الحجة، أو يتعلق {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} بقوله {تنزيل} أو بقوله {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} على معنى أ، فوائد تزيله وتفصيله لقوم يعلمون دون غيرهم فكأنه لم ينزل إلا لهم،أي فلا بدع إذا أعرض عن فهمه المعاندون فإنهم قوم لا يعلمون، وهذا كقوله تعالى {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس: من الآية101] وقوله {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} وقوله {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2] وقوله {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]
والبشير: اسم للمبشر وهو المخبر بخبر يسر المخبر. والنذير: المخبر بأمر مخوف، شبه القرآن بالبشير فيما اشتمل عليه من الآيات المبشرة للمؤمنين الصالحين، وبالنذير فيما فيه من الوعيد للكافرين وأهل المعاصي، فالكلام تشبيه بليغ. وليس {بشيرا} أو {نذيرا} اسمي فاعل لأنه لو أريد ذلك لقيل: مبشرا ومنذرا. والجمع بين {بشيرا} على أنه حال ثانية من {كتاب} أو صفة ل {قرآنا} ، وصفة الحال في معنى الحال، فالأولى كونه حالا ثانية.
وجيء بقوله {نذيرا} معطوفا بالواو للتنبيه على اختلاف موقع كل من الحالين فهو بشير لقوم وهم الذين اتبعوه ونذير لآخرين، وهم المعرضون عنه، وليس هو جامعا بين البشارة والنذارة لطائفة واحدة فالواو هنا كالواو في قوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: من الآية5] بعد قوله {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:5].
وتفريغ {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ} على ما ذكر من صفات القرآن. وضمير {أَكْثَرُهُمْ} عائد إلى معلوم من المقام وهم المشركون كما هي عادة القرآن في غير موضع. والمعنى: فأعرض أكثر هؤلاء عما في القرآن من الهدى فلم يهتدوا، ومن البشارة فلم يعنوا بها، ومن النذارة فلم يحذروها، فكانوا في أشد الحماقة، إذ لم يعنوا بخير، ولا حذروا الشر، فلم يأخذوا بالحيطة لأنفسهم وليس عائدا {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لأن الذين يعلمون لا يعرض أحد منهم.
والفاء في قوله {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} للتفريغ على الإعراض، أي فهم لا يلقون أسماعهم للقرآن فضلا عن تدبره، وهذا إجمال لإعراضهم.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} دون أن يقول: فلا يسمعون لإفادة تقوي الحم وتأكيده.
[5] {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ}
عطف {وقالوا} على {فَأَعْرِضْ} [فصلت:4] أو حال من {أَكْثَرُهُمْ} [فصلت:4]، أو عطف على {لا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 4] أو حال من ضميره، والمعنى: أنهم أعرضوا مصرحين بقلة الاكتراث وبالانتصاب للجفاء والعداء. وهذا تفصيل للأعراض عما
وصف به القرآن من الصفات التي شأنها أن تقربهم إلى تلقيه لا أن يبعدوا ويعرضوا وقد جاء بالتفصيل بأقوالهم التي حرمتهم من الانتفاع بالقرآن واحدا واحدا كما ستعلمه.
والمراد بالقلوب: العقول، حكي بمصطلح كلامهم قولهم إذ يطلقون القلب على العقل.
والأكنة: جمع كنان مثل: غطاء وأغطية وزنا ومعنى، أثبتت لقلوبهم أغطية على طريقة التخييل، وشبهت القلوب بالأشياء المغطاة على طريقة الاستعارة المكنية. ووجه الشبه حيلولة وصول الدعوة إلى عقولهم كما يحول الغطاء والغلاف دون تناول ما تحته. وما يدعوهم إليه يعم كل ما دعاهم إليه من المدلولات وأدلتها، ومنها دلالة معجزة القرآن وما تتضمنه من دلالة أمية الرسول صلى الله عليه وسلم من نحو قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48]
وجعلت القلوب في أكنة لإفادة حرف {في} معنى إحاطة الظرف بالمظروف. وكذلك جعل الوقر في القلوب لإفادة تغلغله في إدراكهم.
و"من" في قوله {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} بمعنى "عن" مثل قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وقوله {قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [الانبياء:97]، والمعنى: قلوبنا في أكنة فهي بعيدة عما تدعونا إليه لا ينفذ إليها.
والوقر بفتح الواو: ثقل السمع وهو الصم، وكأن اللغة أخذته من الوقر بكسر الواو، وهو الحمل لأنه يثقل الدابة عن التحرك، فأطلقوه على عدم تحرك السمع عند قرع الصوت المسموع، وشاع ذلك حتى ساوى الحقيقة ففتحوا له الواو تفرقة بين الحقيقة والمجاز، كما فرقوا بين العض الحقيقي وعظ الدهر بأن صيروا ضاده ظاء. وقد تقدم ذكر الأكنة والوقر في قوله {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام:25] في الأنعام وفي سورة[الإسراء:46]
والحجاب: الساتر للمرئي من حائط أو ثوب. أطلقوا اسم الحجاب على ما يمنع نفوسهم أن يأخذوا بالدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من كراهية دينه وتجافي تقلده بجامع أن الحجاب يحول بين الرائي والمرئي فلا ينظر أحدهما الآخر ولا يصل إليه، ومرادهم البراءة منه. مثل نبو قلوبهم عن تقبل الإسلام واعتقاده بحال ما هو في أكنة، وعدم تأثر أسماعهم بدعوته بصم الآذان. وعدم التقارب بين ما هم عليه وما هو عليه بالحجاب
الممدود بينه وبينهم فلا تلاقي ولا ترائي.
وقد جمعوا بين الحالات الثلاث في التمثيل للمبالغة في أنهم لا يقبلون ما يدعوهم إليه.
واجتلاب حرف {من} في قوله {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} لتقوية معنى الحجب بين الطرفين وتمكن لازمة الذي هو بعد المسافة التي بين الطرفين لأن {من} هذه زائدة لتأكيد مضمون الجملة. وضمير {بيننا} عائد إلى ما عاد إليه ضميره {أكثرهم} [فصلت:4ُ]
وعطف {وبينك} تأكيد لأن واو العطف مغنية عنه وأكثر استعمال {بين} أن يكون معطوفا عليه مثله كقوله تعالى {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38].
وقد جعل ابن مالك "من" الداخلة على "قبل" و"بعد" زائدة فيكون "بين" مقيسا على "قبل" و"بعد" لأن الجميع ظروف. وهذا القول المحكي عنهم في القرآن ب {قالوا} يحتمل أن يكون القرآن حكاه عنهم بالمعنى، فجمع القرآن بإيجازه وبلاغته ما أطالوا به الجدال وأطنبوا في اللجاج، ويحتمل بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ظاهر ما في سيرة ابن إسحاق، وزعم أنهم قالوه استهزاء وأن الله حكاه في سورة الكهف..
ويحتمل أن يكونوا تلقفوه مما سمعوه في القرآن من وصف قلوبهم وسمعهم وتباعدهم كقوله {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: من الآية25] في سورة الإسراء، فإن يورة الإسراء معدودة في النزول قبل سورة فصلت وكذلك قوله تعال {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} [الاسراء:45] في سورة الإسراء أيضا، فجمعوا ذلك وجادلوا به الرسول. فيكون ما في هذه الآية من البلاغة قد اقتبسوه من آيات أخرى. قيل: إن قائلة أبو جهل في مجمع من قريش فلذلك أسند القول إليهم جميع لأنهم مشائعون له.
وقد جاء في حكاية أقوالهم ما فيه تفصيل ما يقابل ما ذكر قبله من صفات القرآن وهي {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} فإن كونه تنزيلا من الرحمان الرحيم يستدعي تفهمه والانتفاع بما فيه، فقوبل بقولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وكونه فصلت آياته يستدعي تلقيها والاستماع إليها فقوبل بقولهم {فِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أي فلا نسمع تفصيليه، وكونه قرآنا عربيا أشد إلزاما لهم بفهمه فقوبل ذلك بما يقطع هذه الحجة وهو {مِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي يصل كلامه إليهم ولا يتطرق جانبهم، فهذه تفاصيل إعراضهم عن صفات القرآن.
وقولهم {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} تفريع على تأييسهم الرسول من قبولهم دعوته وجعل قولهم هذا مقابل وصف القرآن بأنه بشير ونذير لظهور أنه تعين كونه نذيرا لهم بعذاب عظيم لأنهم أعرضوا فحكي ما فيه تصريحهم بأنهم لا يعبأون بنذارته فإن كان له أذى فليؤذهم به وهذا كقول فرعون {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ}
وحذف مفعولا "اعمل" و {عاملون} ليعم كل ما يمكن عمله كل مع الآخر ما يناسبه.
والأمر في قوله {فاعمل} مستعمل في التسوية كقول عنترة بن الأخرس المعني:
أطل حمل الشناءة لي وبغضي ... وعش ما شئت فانظر من تضير
وكقوله تعالى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]
والخبر في قولهم {إِنَّنَا عَامِلُونَ} مستعمل في التهديد.
[7,6] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ}
استئناف ابتدائي هو تلقين الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجيب قولهم {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] المفرع على قولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] إلى آخره جواب المتبرئ من أن يكون له حول وقوة ليعمل في إلجائهم إلى الإيمان لما أبوه إذ ما هو إلا بشر مثلهم في البشرية لا حول له على تقليب القلوب الضالة، إلى الهدى، وما عليه إلا أن يبلغهم ما أوحى الله إليه. وهذا الخبر يفيد كناية عن تفويض المر في العمل بجزائهم إلى الله تعالى كأنه يقول: وماذا أستطيع أن أعمل معكم فإني رسول من الله فحسابكم على الله.
فصيغة القصر في {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تفيد قصرا إضافيا، أي أنا مقصور على البشرية دون التصرف في قلوب الناس.
وبين ما تميز به عنهم على وجه الاحتراس من أن يتلقفوا قوله {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تلقف من حصل على اعتراف خصمه بنهوض حجته بما يثبت الفارق بينه وبينهم في البشرية، وهو مضمون جملة {يُوحَى إِلَيَّ} وذلك للتسجيل عليهم إبطال زعمهم المشهور المكرر أن كونه بشرا مانع من إرساله عن الله تعالى لقولهم {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً}
[الفرقان: 7]، ونحوه مما تكرر في القرآن. ومثل هذا الاحتراس ما حكاه الله عن قول الكفار لرسلهم {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [ابراهيم:11,10]
وحرصا على إبلاغ الإرشاد إليهم بين له ما يوحى إليه بقوله {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إعادة لما أبلغهم إياه غير مرة، شأن القائم بهدي الناس أن لا يغادر فرصة لإبلاغهم الحق إلا انتهزها. ونظيره ما جاء في محاورة موسى وفرعون {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء 23-28].
و {أنما} مفتوحة الهمزة، وهي أخت {إنما} المكسورة وإنما تفتح همزتها إذا وقعت معمولة لما قبلها ولم تكن في الابتداء كما تفتح همزة "أن" وتكسر همزة "إن" لأن "إنما" أو "أنما" مركبان من "إن" أو "أن" مع "ما" الكافة الزائدة للدلالة على معنى "ما" و"إلا" حتى ذهب وهل بعضهم أن "ما" التي معها هي النافية اغترارا بأن معنى القصر إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه مثل "ما" و"إلا" ولا ينبغي التردد في كون "أنما" المفتوحة الهمزة مفيدة القصر مثل أختها المكسورة الهمزة وبذلك جزم الزمخشري في تفسير سورة الأنبياء، وما رده أبو حيان عليه إنما هو مجازفة، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الانبياء:108]
فقوله {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إدماج للدعوة إلى الحق في خلال الجواب حرصا على الهدي.
وكذلك التفريع بقوله {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} فإنه إتمام لذلك الإدماج بتفريع فائدته عليه لأن إثبات أن الله إله واحد إنما يقصد منه إفراده بالعبادة ونبذ الشرك. هذا هو الوجه في توجيه ارتباط {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} بقولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] الخ.
وموقع {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أنه نائب فاعل {يُوحَى إِلَيَّ} ، أي يوحى إلي معنى المصدر المنسبك من {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} وهو حصر صفة الله تعالى في أنه واحد، أي دون شريك.
ومماثلته لهم: المماثلة في البشرية فتفيد تأكيد كونه بشرا.
والاستقامة: كون الشيء قويما، أي غير ذي عوج وتطلق مجازا على كون الشيء حقا خالصا ليست فيه شائبة تمويه ولا باطل.
وعلى كون الشخص صادقا في معاملته أو عهده غير خالط به شيئا من الحيلة أو الخيانة، فيقال: فلان رجل مستقيم، أي صادق الخلق، وإن أريد صدقة مع غيره يقال: استقام له، أي استقام لأجله، أي لأجل معاملته منه. ومنه قوله تعالى {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7] والاستقامة هنا بهذا المعنى، وغنما عدي بحرف "إلى" لأنها كثيرا ما تعاقب اللام، يقال: ذهبت له وذهبت إليه، والأحسن أن إيثار "إلى" هنا لتضمين "استقيموا" معنى: توجهوا، لأن التوحيد توجه، أي صرف الوجه إلى الله دون غيره، كما حكى عن إبراهيم {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79]
أو ضمن "استقيموا" معنى: أنيبوا، أي توبوا من الشرك كما دل عليه عطف {واستغفروه} .
والاستغفار: طلب العفو عما فرط من ذنب أو عصيان وهو مشتق من الغفر وهو الستر.
والمعنى: فاخلصوا إلى الله في عبادته ولا تشركوا به غيره واسألوا منه الصفح عما فرط منكم من الشرك والعناد.
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}
وعيد للمشركين بسوء الحال والشقاء في الآخرة يجوز أن يكون من جملة القول الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله فهو معطوف على جملة {إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ}
ويجوز أن يكون كلاما معترضا من جانب الله تعالى فتكون الواو اعتراضية بين جملة {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ} وجملة {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} [فصلت:9] أي أجبهم بقولك: أنا بشر مثلكم يوحي إلي ونحن أعتدنا لهم الويل والشقاء إن لم يقبلوا ما تدعوهم إليه، فيكون هذا إخبارا من الله تعالى.
وذكر المشركين إظهار في مقام الإضمار ويستفاد تعليق الوعيد على استمرارهم على الكفر من الإخبار عن الويل بكونه ثابتا للمشركين والموصوفين بالذين لا يؤتون الزكاة وبأنهم كافرون بالبعث لأن تعليق الحكم بالمشتق يؤذن بعلية ما منه الاشتقاق، ولأن الموصول يؤذن بالإيماء إلى وجه بناء الخبر.
فأما كون الشرك وإنكار البعث موجبين للويل
فظاهر، وأما كون عدم إيتاء الزكاة موجبا للويل فذلك لأنه حمل عليهم ما قارن الإشراك وإنكار البعث من عدم الانتفاع بالأعمال التي جاء بها الإسلام، فذكر ذلك هنا لتشويه كفرهم وتفظيع شركهم وكفرانهم بالبعث بأنهما يدعوانهم إلى منع الزكاة، أي إلى القسوة على الفقراء الضعفاء وإلى الشح بالمال وكفى بذلك تشويها في حكم الأخلاق وحكم العرف فيهم لأنهم يتعيرون باللؤم، ولكنهم يبذلون المال في غير وجهه ويحرمون منه مستحقيه.
ويعلم من هذا أن مانع الزكاة من المسامين له حظ من الويل الذي استحقه المشركون لمنعهم الزكاة في ضمن شركهم، ولذلك رأي أبو بكر قتال ما نعي الزكاة ممن لم يرتدوا عن الإسلام ومنعوا الزكاة مع المرتدين، ووافقه جميع أصحاب رسول صلى الله عليه وسلم.
ف {الزكاة} في الآية هي الصدقة لوقوعها مفعول {يؤتون} ، ولم تكن يومئذ زكاة مفروضة في الإسلام غير الصدقة دون تعيين نصب ولا أصناف الأرزاق المزكاة، وكانت الصدقة مفروضة على الجملة، ولبعض الصدقة ميقات وهي الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم قال تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:12].
وجملة {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} إما حال من ضمير {يؤتون} وإما معطوفة على الصلة.
وضمير {هُمْ كَافِرُونَ} ضمير فصل لا يفيد هنا إلا توكيد الحكم ويشبه أن يكون هنا توكيدا لفظيا لا ضمير فصل ومثله قوله {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} في سورة يوسف، وقوله {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} في سورة طه.[14]
وتقديم {بِالْآخِرَةِ} على متعلقة وهو {كافرون} لإفادة الاهتمام.
[8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}
استئناف بياني نشأ عن الوعيد الذي توعد به المشركون بعد أن أمروا بالاستقامة إلى الله واستغفاره عما فرط منهم، كأن سائلا يقول: فإن اتعظوا وارتدعوا فماذا يكون جزاؤهم، فأفيد ذلك وهو أنهم حينئذ يكونون من زمرة {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} ، وفي هذا تنويه بشأن المؤمنين.
وتقديم {لهم} للاهتمام بهم.
والأجر: الجزاء النافع، عن العمل الصالح، أو هو ما يعطونه من نعيم الجنة.
والممنون: مفعول من المن، وهو ذكر النعمة للمنعم عليه بها، والتقدير غير ممنون به عليهم، وذلك كناية عن كونهم أعطوه شكرا لهم على ما أسلفوه من عمل صالح فإن الله غفور شكور، يعني: أن الأنعام عليهم في الجنة ترافقه الكرامة والثناء فلا يحسون بخجل العطاء، وهو من قبيل قوله تعالى {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264] فأجرهم بمنزلة الشيء المملوك لهم الذي لم يعطيه إياهم أحد وذلك تفضل من الله، وقريب منه قول لبيد:
غضف كواسب لا يمن طعامها
أي تأخذ طعامها بأنفسها فلا منة لأحد عليها.
{قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
بعد أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب المشركين بأنه بشر يوحى إليه فما يملك إلجاءهم إلى الإيمان أمره عقب ذلك بمعاودة إرشادهم إلى الحق على طريقة الاستفهام عن كفرهم بالله، مدمجا في ذلك تذكيرهم بالأدلة الدالة على أن الله واحد، بطريقة التوبيخ على إشراكهم به في حين وضوح الدلائل على انفراده بالخلق واتصافه بتمام القدرة والعلم.
فجملة {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} إلى آخرها استئناف ابتدائي ثان هو جواب ثان عن مضمون ولهم {إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5].
وهمزة الاستفهام المفتتح بها الكلام مستعملة في التوبيخ فقوله {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ} كقوله في سورة البقرة {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}
وفي الافتتاح بالاستفهام وحرفي التوكيد تشويق لتلقي ما بعد ذلك لدلالة ذلك على أن أمرا مهما سيلقى إليهم، وتوكيد الخبر ب"إن" ولام الابتداء بعد الاستفهام التوبيخي أو التعجيبي استعمال وارد كثيرا في الكلام الفصيح، ليكون الإنكار لأمر محقق، وهو هنا مبني على أنهم يحسبون أنهم مهتدون وعلى تجاهلهم الملازمة بين الانفراد بالخلق وبين استحقاق الإفراد بالعبادة فأعلموا بتوكيد أنهم يكفرون، وبتوبيخهم على ذلك، فالتوبيخ المفاد من الاستفهام مسلط على تحقيق كفرهم بالله، وذلك من البلاغة بالمكانة العليا، واحتمال أن يكون التوكيد مسلطا على التوبيخ والإنكار قلب لنظام الكلام.
ومجيء فعل "تكفرون" بصيغة المضارع لإفادة أن تجدد كفرهم يوما فيوما مع سطوع الأدلة التي تقتضي الإقلاع عنه أمر أحق بالتوبيخ. ومعنى الكفر به الكفر بانفراد بالإلهية، فلما أشركوا معه آلهة كانوا واقعين في إبطال إلهيته لأن التعدد ينافي حقيقة الإلهية فكأنهم أنكروا وجوده لأنهم لما أنكروا صفات ذاته فقد تصوره على غير كنهة.
وأدمج في هذا الاستدلال بيان خلق هذه العوالم، فمحل الاستدلال هو صلة الموصول، وأما ما تعلق بها إدماج.
و{الأرض} : هي الكرة الأرضية بما فيها من يابس وبحار، أي خلق جرمها. واليومان: تثنية يوم، وهو الحصة التي بين طلوع الشمس من المشرق وطلوعها ثانية. والمراد: في مدة تساوي يومين مما عرفه الناس بعد خلق الأرض لأن النور والظلمة اللذان يقدر اليوم بظهورهما على الأرض لم يظهرا إلا بعد خلق الأرض، وقد تقدم ذلك في سورة الأعراف.
وإنما ابتدئ بذكر خلق الأرض لأن آثاره أظهر للعيان وهي في متناول الإنسان، فلا جرم أن كانت الحجة عليهم بخلق الأرض أسبق نهوضا. ولأن النعمة بما تحتوي عليه الأرض أقوى وعم فيظهر قبح الكفران بخالقها أوضح وأشنع.
وعطف {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً} على {لتكفرون} تفسير لكفرهم بالله. وكان مقتضى الظاهر أن في التفسير لا يعطف فعدل إلى عطفه ليكون مضمونة مستقلا بذاته.
والأنداد: جمع ند بكسر النون وهو المثل. والمراد: أنداد في الإلهية.
والتعبير عن الجلالة بالموصول دون الاسم العلم لما تؤذن به الصلة من تعليل التوبيخ، لأن الذي خلق الأرض هو المستحق للعبادة.
والإشارة ب {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} إلى "الذي خلق الأرض في يومين" وفي الإشارة نداء على بلادة رأيهم إذ لم يتفطنوا إلى أن الذي خلق الأرض هو رب العالمين لأنه خالق الأرض وما فيها، ولا إلى أن ربوبيته تقتضي انتفاء الند والشريك، وإذا كان هو رب العالمين فهو ري ما دون العالمين من الأجناس التي هي أحط من العقلاء كالحجارة والأخشاب التي منها صنع أصنامهم.
وجملة {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} معترضة بين المعطوفات على الصلة.
{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}
عطف على فعل الصلة لا على معمول الفعل، فجملة {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} الخ صلة ثانية في المعنى، ولذلك جيء بفعل آخر غير فعل "خلق" لأن هذا الجعل تكوين آخر حصل بعد خلق الأرض وهو خلق أجزاء تتصل بها إما من جنسها كالجبال وإما من غير جنسها كالأقوات ولذلك أعقب بقوله {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} بعد قوله {فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9].
والرواسي: الثوابت، وهو صفة للجبال لأن الجبال حجارة لا تنتقل بخلاف الرمال والكثبان، وهي كثيرة في بلاد العرب. وحذف الموصوف لدلالة الصفة عليه كقوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ} [الشورى:32] أي السفن الجواري. وقد تقدم تفسيره عند قوله تعالى {وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} [الانبياء: 31] في سورة الأنبياء.
ووصف الرواسي ب {مِنْ فَوْقِهَا} لاستحضار الصورة الرائعة لمناظر الجبال، فمنها الجميل المنظر المجلل بالخضرة أو المكسو بالثلوج، ومنها الرهيب المرأى مثل جبال النار البراكين ، والجبال المعدنية السود.
{وَبَارَكَ فِيهَا} جعل فيها البركة. والبركة: الخير النافع، وفي الأرض خيرات كثيرة فيها رزق الإنسان وماشيته، وفيها التراب والحجارة والمعادن، وكلها بركات.
و {قدر} جعل قدرا، أي مقدارا، قال تعالى {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق: 3]. والمقدار: النصاب المحدود بالنوع أو الكمية، فمعنى {قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أنه خلق في الأرض القوى التي تنشأ منها الأقوات وخلق أصول أجناس الأقوات وأنواعها من الحب للحبوب، والكلأ والكمأة، والنوى للثمار، والحرارة التي يتأثر بها تولد الحيوان من الدواب والطير، وما يتولد منه الحيتان ودواب البحار والأنهار.
ومن التقدير: تقدير كل نوع بما يصلح له من الأوقات من حر أو برد أو اعتدال. وأشار إلى ذلك قوله {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتاً} [نوح:17] ويأتي القول فيه، وقوله {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] وقوله {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً} [النحل: 80] الآية.
وجمع الأقوات مضافا إلى ضمير الأرض يفيد العموم، أي جميع أقواتها وعمومه
باعتبار تعدد المقتاتين، فللدواب أقوات، وللطير أقوات، وللوحوش أقوات، وللزواحف أقوات، وللحشرات أقوات، وجعل للإنسان جميع تلك الأقوات مما استطاب منها كما أفاده قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} ومضى الكلام عليه في سورة البقرة[29].
وقوله {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} فذلكة لمجموع مدة خلق الأرض جرمها، وما عليها من رواسي، وما قيها من القوى، فدخل في هذه الأربعة الأيام اليومان اللذان في قوله {فِي يَوْمَيْنِ} فكأنه قيل: في يومين آخرين فتلك أربعة أيام، فقوله {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} فذلكة، وعدل عن ذلك إلى ما في نسج الآية لقصد الإيجاز واعتمادا على ما يأتي بعده من قوله {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:12] ، فلو كان اليومان اللذان قضى فيهما خلق السماوات زائدين على ستة أيام انقضت في خلق الأرض وما عليها لصار مجموع الأيام ثمانية، وذلك ينافي الإشارة إلى عدة أيام الأسبوع، فإن اليوم السابع يوم فراغ من التكوين. وحكمة التمديد للخلق أن يقع على صفة كاملة متناسبة.
و {سواء} قرأه الجمهور بالنصب على الحال من {أيام} أي كاملة لا نقص فيها ولا زيادة. وقرأه أبو جعفر مرفوعا على الابتداء بتقدير: هي سواء. وقرأه يعقوب مجرورا على الوصف ل {أيام} .
و {للسائلين} يتنازعه كل من أفعال {جعل} ، و {بارك} ، و {قدر} فيكون {للسائلين} جمع سائل بمعنى الطالب للمعرفة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، أي بينا ذلك للسائلين ويجوز أن يكون ل {السائلين} متعلقا بفعل {قَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} فيكون المراد بالسائلين الطالبين للقوت.
[11] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}
{ثم} للترتيب الرتبي، وهي تدل على أن مضمون الجملة المعطوفة أهم مرتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها، فأن خلق السماوات أعظم من خلق الأرض، وعوالمها أكثر وأعظم، فجيء بحرف الترتيب الرتبي بعد أن قضي حق الاهتمام بذكر خلق الأرض حتى يوفى المقتضيان حقهما. وليس هذا بمقتض أن الإرادة تعلقت بخلق السماء بعد تمام خلق الأرض ولا مقتضيا أن خلق السماء وقع بعد خلق الأرض كما سيأتي.
والاستواء: القصد إلى الشيء توا لا يعترضه شيء آخر. وهو تمثيل لتعلق إرادة الله تعالى بإيجاد السماوات، وقد تقدم في قوله تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} في سورة البقرة[29] وربما كان في قوله {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} إشارة إلى أنه تعالى توجهت إرادته لخلق السماوات والأرض توجها واحدا ثم اختلف زمن الإرادة التنجيزي بتحقيق ذلك فتعلقت إرادته تنجيزا بخلق السماء ثم بخلق الأرض، فعبر عن تعلق الإرادة تنجيزا لخلق السماء بتوجه الإرادة إلى السماء، وذلك التوجه عبر عنه بالاستواء. ويدل لذلك قوله {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ففعل {ائتيا} أمر للتكوين.
والدخان: ما يتصاعد من الوقود عند التهاب النار فيه. وقوله {وَهِيَ دُخَانٌ} تشبيه بليغ، أي وهي مثل الدخان، وقد ورد في الحديث "أنها كانت عماء". وقيل: أراد بالدخان هنا شيئا مظلما، وهو الموافق لما في سفر التكوين من قولها "وعلى وجه الغمر ظلمة" وهو بعيد عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن في الوجود من الحوادث إلا العماء، والعماء: سحاب رقيق، أي رطوبة دقيقة وهو تقريب للعنصر الأصلي الذي خلق الله منه الموجودات، وهو الذي يناسب كون السماء مخلوقة قبل الأرض.
ومعنى {وَهِيَ دُخَانٌ} أن أصل السماء هو ذلك الكائن المشبه بالدخان، أي أن السماء كونت من ذلك الدخان كما تقول: عمدت إلى هاته النخلة وهي نواة فاخترت لها أخصب تربة، فتكون مادة السماء موجودة قبل وجود الأرض.
وقوله {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ} تفريع على فعل {اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} فيكون القول موجها إلى السماء والأرض حينئذ، أي قبل خلق السماء لا محالة وقبل خلق الأرض، لأنه جعل القول لها مقارنا القول للسماء، وهو قول تكوين. أي تعلق القدرة بالسماء والأرض، أي بمادة تكوينهما وهي الدخان لأن السماء تكونت من العماء بجمود شيء منه سمي جلدا فكانت منه السماء وتكون مع السماء الماء وتكونت الأرض بيبس ظهر في ذلك الماء كما جاء الإصحاح الأول من سفر التكوين من التوراة.
والإتيان في قوله {ائتيا} أصله: المجيء والإقبال ولما كان معناه الحقيقي غير مراد لأن السماء والأرض لا يتصور أن يأتيا، ولا يتصور منهما طواعية أو كراهية إذ ليستا من أهل العقول والادراكات، ولا يتصور أن الله يكرهما على ذلك لأنه يقتضي خروجهما عن قدرته بادئ ذي بدء تعين الصرف عن المعنى الحقيقي وذلك بأحد وجهين لهما من
البلاغة المكانة العليا:
الوجه الأول: أن يكون الإتيان مستعارا لقبول التكوين كما استعير للعصيان الإدبار في قوله تعالى {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى} [النازعات:22] وقول النبي صلى الله عليه وسلم لمسيلمة حين امتنع من الإيمان والطاعة في وفد قومه بني حنيفة "لئن أدبرت ليعقرنك الله" ، وكما يستعار النفور والفرار للعصيان.
فمعنى {ائتيا} امتثلا أمر التكوين. وهذا الامتثال مستعار للقبول وهو من بناء المجاز على المجاز وله مكانة في البلاغة، والقول على هذا الوجه مستعار لتعلق القدرة بالمقدور كما في قوله {أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: من الآية82].
وقوله {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} كناية عن عدم البد من قبول الأمر وهو تمثيل لتمكن القدرة من إيجادهما على وفق إرادة الله تعالى فكلمة {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} جارية مجرى الأمثال. و {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} مصدران وقعا حالين من ضمير {ائتيا} أي طائعين أو كارهين.
والوجه الثاني: أن تكون جملة {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} مستعملة تمثيلا لهيئة تعلق قدرة الله تعالى لتكوين السماء والأرض لعظمة خالقهما بهيئة صدور الأمر من آمر مطاع للعبد المأذون بالحضور لعمل شاق أن يقول له: ائت لهذا العمل طوعا أو كرها، لتوقع إبائه من الإقدام على ذلك العمل، وهذا من دون مراعاة مشابهة أجزاء الهيئة المركبة المشبهة لأجزاء الهيئة المشبه بها، فلا قول ولا مقول، وإنما هو تمثيل، ويكون {طَوْعاً أَوْ كَرْهاً} على هذا من تمتم الهيئة المشبهة. والمقصود على كلا الاعتبارين تصوير عظمة القدرة الإلهية ونفوذها في المقدورات دقت أو جلت.
وأما قوله {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} فيجوز أن يكون قول السماء والأرض مستعارا لدلالة سرعة تكونهما لشبههما بسرعة امتثال المأمور المطيع عن طواعية فإنه لا يتردد ولا يتلكأ على طريقة المكنية والتخييل من باب قول الراجز الذي لا يعرف تعيينه:
امتلأ الحوض وقال: قطني
وهو كثير، ويجوز أن يكون تمثيلا لهيئة تكون السماء والأرض عند تعلق قدرة الله تعالى بتكوينهما بهيئة المأمور بعمل تقلبه عن طواعية. وهما اعتباران متقاربان، إلا أن القول، والإتيان، والطوع، على الاعتبار الأول تكون مجازات، وعلى الاعتبار الثاني
تكون حقائق وإنما المجاز في التركيب على ما هو معلوم من الفرق بين المجاز المفرد والمجاز المركب في فن البيان.
وإنما جاء قوله {طائعين} بصيغة الجمع لأن لفظ السماء يشتمل على سبع سماوات كما قال تعالى إثر هذا {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت:12] فالامتثال صادر عن جمع، وأما كونه بصيغة جمع المذكر فلأن السماء والأرض ليس لهما تأنيث حقيقي. وأما كونه بصيغة جمع العقلاء فذلك ترشيح للمكنية المتقدمة مثل قوله تعالى {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف:4].
{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}
تفريع على قوله {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا}
والقضاء: الإيجاد الإبداعي لأن فيه معنى الإتمام والحكم، فهو يقتضي الابتكار والإسراع، كقول أبي ذؤيب الهذلي:
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السابغ تبع
وضمير {فقضاهن} عائد إلى السماوات على اعتبار تأنيث لفظها، وهذا تفنن.
وانتصب {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} على أنه حال من ضمير {قضاهن} أو عطف بيان له، وجوز أن يكون مفعولا ثانيا ل"قضاهن" لتضمين "قضاهن" معنى صيرهن، وهذا كقوله في سورة البقرة {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ}
وكان خلق السماوات في يومين قبل أربعة الأيام التي خلقت فيها الأرض وما فيها. وقد بينا في سورة البقرة أن الأظهر أن خلق السماء كان قبل خلق الأرض وهو المناسب لقواعد علم الهيئة. وليس في هذه الآية ما يقتضي ذلك. وإنما كانت مدة خلق السماوات السبع أقصر من مدة خلق الأرض مع أن عوالم السماوات أعظم وأكثر لأن الله خلق السماوات بكيفية أسرع فلعل خلق السماوات كان بانفصال بعضها عن بعض وتفرقع أحجامها بعضها عن خروج بعض آخر منه، وهو الذي قربه حكماء اليونان الأقدمون بما سموه صدور العقول العشرة بعضها عن بعض وكانت سرعة انبثاق بعضها عن بعض
معلولة لأحوال مناسبة لما تركبت به من الجواهر. وأما خلق الأرض فالأشبه أنه بطريقة التولد المبطئ لأنها تكونت من العناصر الطبيعية فكان تولد بعضها عن بعض أيضا. {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31]. وهذه الأيام كانت هي مبدأ الاصطلاح على ترتيب أيام الأسبوع وقد خاض المفسرون في تعيين مبدأ هذه الأيام، فأما كتب اليهود ففيها أن مبدأ هذه الأيام هو الأحد وأن سادسها هو يوم الجمعة وأن يوم السبت جعله الله خلوا من الخلق ليوافق طقوس دينهم الجاعلة يوم السبت يوم راحة للناس ودوابهم اقتداء بإنهاء خلق العالمين. وعلى هذا الاعتبار جرى العرب في تسمية الأيام ابتداء من الأحد الذي هو بمعنى أول أو واحد، واسمه في العربية القديمة أول وذلك سرى إليهم من تعاليم اليهود أو من تعاليم أسبق كانت هي الأصل الأصيل لاصطلاح الأمتين. والذي تشهد له الأخبار من السنة أن خلق آدم يوم الجمعة وأنه آخر أيام الأسبوع، وأنه خير أيام الأسبوع وأفضلها، وأن اليهود والنصارى اختلفوا في تعيين اليوم الأفضل من الأسبوع، وأن الله هدى إليه المسلمين. قال النبي صلى الله عليه وسلم "فهذا اليوم" أي الجمعة "هو اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله إليه فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد" . ولا خلاف في أن الله خلق آدم بعد تمام خلق السماء والأرض فتعين أن يكون يوم خلقه هو اليوم السابع. وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:" أن الله ابتدأ الخلق يوم السبت ". وقد ضعفه البخاري وابن المديني بأنه من كلام كعب الأحبار حدث به أبا هريرة وإنما اشتبه على بعض رواة سنده فظنه مرفوعا.
ولهذه تفصيلات ليس وراءها طائل وإنما ألممنا به هنا لئلا يعرو التفسير عنها فيقع من يراها في غيرة في حيرة وإنما مقصد القرآن العبرة.
{وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً}
{وأوحى} عطف على {فقضاهن} .
والوحي: الكلام الخفي، ويطلق الوحي على حصول المعرفة في نفس من يراد حصولها عنده دون قول، ومنه قوله تعالى حكاية عن زكريا {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} [مريم: 11]أي أومأ إليهم بما دل على معنى: سبحوا بكرة وعشيا. وقول أبي دؤاد:
يرمون بالخطب الطول وتارة ... وحي الملاحظ خيفة الرقباء
ثم يتوسع فيه فيطلق على إلهام الله تعالى المخلوقات لما تتطلبه مما فيه صلاحها كقوله {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً} [النحل:68] أي جبلها على إدراك ذلك وتطلبه، ويطلق على تسخير الله تعالى بعض مخلوقاته لقبول أثر قدرته كقوله {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة:1] إلى قوله {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5]
والوحي في السماء يقع على جميع هذه المعاني من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازاته، فهو أوحى في السماوات بتقدير نظم جاذبيتها، وتقادير سير كواكبها، وأوحى فيها بخلق الملائكة فيها، وأوحى إلى الملائكة بما يتلقونه من الأمر بما يعلمون، قال تعالى {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الانبياء:27] وقال {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الانبياء:20]
و {أمرها} بمعنى شأنها، وهو يصدق بكل ما هو من ملابساتها من سكانها وكواكبها وتماسك جرمها والجاذبية بينها وبين ما يجاورها. وذلك مقابل قوله في خلق الأرض {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت:10]
وانتصب {أمرها} على نزع الخافض، أي بأمرها أو على تضمين أوحى معنى قدر أو أودع.
ووقع الالتفات من طريق الغيبة إلى طريق التكلم في قوله {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} تجديدا لنشاط السامعين لطول استعمال طريق الغيبة ابتداء من قوله {بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9] مع إظهار العناية بتخصيص هذا الصنع الذي ينفع الناس دينا ودنيا وهو خلق النجوم الدقيقة والشهب بتخصيصه بالذكر من بين عموم {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} فما السماء الدنيا إلا من جملة السماوات، وما النجوم، والشهب إلا من جملة أمرها
والمصابيح جمع مصباح, وهو ما يوقد بالنار في الزيت للإضاءة وهو مشتق من الصباح لأنهم يحاولون أن يجعلوه خلفا عن الصباح. والمراد بالمصابيح: النجوم استعير لها المصابيح لما يبدو من نورها.
وانتصب {حفظا} على أنه مفعول لأجله لفعل محذوف دل عليه فعل {زينا} . والتقدير: وجعلناها حفظا. والمراد: حفظا للسماء من الشياطين المسترقة للسمع. وتقدم الكلام على نظيره في سورة الصافات.
{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}
الإشارة إلى المذكور من قوله {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت:10] إلى قوله {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً} والتقدير: وضع الشيء على مقدار معين، وتقدم نظيره في سورة يس. وتقدم وجه إيثار وصفي {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} بالذكر.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}
بعد أن قرعتهم الحجة لتي لا تترك للشك مسربا إلى النفوس بعدها في أن الله منفرد بالإلهية لأنه منفرد بإيجاد العوالم كلها. وكان ثبوت الوحدانية من شأنه أن يزيل الريبة في أن القرآن منزل من عند الله لأنهم ما كفروا به إلا لأجل إعلانه بنفي الشريك عن الله تعالى، فلما استبان ذلك كان الشأن أن يفيئوا إلى تصديق الرسول والإيمان بالقرآن، وأن يقلعوا عن إعراضهم المحكي عنهم بقوله في أول السورة {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:4] الخ، فلذلك جعل استمرارهم على الإعراض بعد تلك الحجج أمرا مفروضا كما يفرض المحال، فجيء في جانبه بحرف "إن" الذي الأصل فيه أن يقع في الموقع الذي لا جزم فيه بحصول الشرط كقوله تعالى {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} [الزخرف:5] في قراءة من قرأ بكسر همزة "إن".
فمعنى {فَإِنْ أَعْرَضُوا} إن استمروا على إعراضهم بعد ما هديتهم بالدلائل البينة وكابروا فيها، فالفعل مستعمل في معنى الاستمرار كقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136]
والإنذار: التخويف، وهو هنا تخويف بتوقع عقاب مثل عقاب الذين شابهوهم في الإعراض خشية أن يحل بهم ما حل بأولئك، بناء على أن المعروف أن تجري أفعال الله على سنن واحد، وليس هو وعيدا لأن قريشا لم تصبهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، وإن كانوا قد ساووهما في التكذيب والإعراض عن الرسل وفي التعللات التي تعللوا بها من قولهم {لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [المؤمنون:24] وأمهل الله قريشا حتى آمن كثير
منهم واستأصل كفارهم بعذاب خاص.
وحقيقة الصاعقة: نار تخرج مع البرق تحرق ما تصيبه، وتقدم ذكرها في قوله تعالى {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} [البقرة:19] في سورة البقرة. وتطلق على الحادثة المبيرة السريعة الإهلاك، ولما أضيفت صاعقة هنا إلى عاد وثمود، وعاد لم تهلكهم الصاعقة وإنما أهلكهم الريح وثمود أهلكوا بالصاعقة فقد استعمل الصاعقة هنا في حقيقته ومجازه، أو هو من عموم المجاوز والمقتضي لذلك على الاعتبارين قصد الإيجاز، وليقع الإجمال ثم التفصيل بعد بقوله {فَأَمَّا عَادٌ} [فصلت:15] إلى قوله {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129].
و {إذ} ظرف للماضي، والمعنى مثل صاعقتهم حين جاءتهم الرسل إلى آخر الآيات. روى ابن إسحاق في سيرته أن عتبة بن ربيعة كلم النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من خلاف قومه فتلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت:13] الآية، فأمسك عتبة على فم النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: ناشدتك الله والرحم.
وضمير {جاءتهم} عائد إلى عاد وثمود باعتبار عدد كل قبيلة منهما. وجمع الرسل هنا من باب إطلاق صيغة الجمع على الاثنين مثل قوله تعالى {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم:4]، والقرينة واضحة وهو استعمال غير عزيز، وإنما جاءهم رسولان هود وصالح.
وقوله {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} تمثيل لحرص رسول كل منهم على هداهم بحيث لا يترك وسيلة يتوسل بها إلى إبلاغهم الدين إلا توسل بها. فمثل ذلك بالمجيء إلى كل منهم تارة من أمامه وتارة من خلفه لا يترك له جهة، كما يفعل الحريص على تحصيل أمر أن يتطلبه ويعيد تطلبه ويستوعب مظان وجوده أو مظان سماعه، وهذا التمثيل نظير الذي في قوله تعالى حكاية الشيطان {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} [الأعراف: 17]
وإنما اقتصر في هذه الآية على جهتين ولم تستوعب الجهات الأربع كما مثل حال الشيطان في وسوسته لأن المقصود هنا تمثيل الحرص فقط وقد حصل، والمقصود في الحكاية عن الشيطان تمثيل الحرص مع التلهف تحذيرا منه وإثارة لبغضه في نفوس الناس.
و {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} تفسير لجملة {جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ} لتضمن المجيء معنى الإبلاغ بقرينة كون فاعل المجيء متصفا بأنهم رسل، فتكون "أن" تفسيرية ل {جاءتهم} بهذا التأويل
كقول الشاعر:
إن تحملا لي خف محملها ... تستوجبا منة عندي بها ويدا
أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا أحدا
إذ فسر الحاجة بأن يقرأ السلام على أسماء لأنه أراد بالحاجة الرسالة، وهذا جري على رأي الزمخشري والمحققين من عدم اشتراط تقدم جملة فيها معنى القول دون حروفه بل الاكتفاء بتقدم ما أريد به معنى القول ولو لم يكن جملة خلافا لما أطال به صاحب مغني اللبيب من أبحاث لا يرضاها الأريب، أو لما يتضمنه عنوان {الرسل} من إبلاغ رسالة.
{قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
حكاية جواب عاد وثمود لرسوليهم فقد كان جوابا متماثلا لأنه ناشئ عن تفكير متماثل وهو أن تفكير الأذهان القاصرة من شأنه أن يبنى على تصورات وهمية وأقيسة تخييلية وسفسطائية، فإنهم يتصورون صفات الله تعالى وأفعاله على غير كنهها ويقيسونها على أحوال المخلوقات، ولذلك يتماثل في هذا حال أهل الجهالة كما قال تعالى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:52,53]، أي بل هم متماثلون في الطغيان، أي الكفر الشديد فتملي عليهم أوهامهم قضايا متماثلة.
ولكون جوابهم جرى في سياق المحاورة أتت حكاية قولهم غير معطوفة بأسلوب المقاولة، كما تقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] فإن قول الرسل لهم: لا تعبدوا إلا الله قد حكي بفعل فيه دلالة على القول، وهو فعل {جاءتهم} كما تقدم آنفا.
فقولهم {لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} يتضمن إبطال رسالة البشر عن الله تعالى.
ومفعول {شاء} محذوف دل عليه السياق، أي لو شاء ربنا أن يرسل إلينا لأنزل ملائكة من السماء مرسلين إلينا، وهذا حذف خاص هو غير حذف مفعول فعل المشيئة الشائع في الكلام لأن ذلك فيما إذا كان المحذوف مدلولا عليه بجواب {لو} كقوله تعالى {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام:149] ونكتته الإبهام ثم البيان، وأما الحذف في الآية فهو للاعتماد على قرينة السياق والإيجاز وهو حذف عزيز لمفعول فعل المشيئة، ونظيره
قول المعري:
وإن شئت فازعم أن من فوق هرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد
وتضمن كلامهم قياسا استثنائيا تركيبه: لو شاء ربنا أن يرسل رسولا لأرسل ملائكة ينزلهم من السماء لكنه لم ينزل إلينا ملائكة فهو لم يشأ أن يرسل إلينا رسولا. وهذا إيماء إلى تكذيبهم الرسل ولهذا فرعوا عليه قولهم { فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي جاحدون رسالتكم وهو أيضا كناية عن التكذيب.
[16,15] {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ}
بعد ن حكي عن عاد وثمود ما اشترك فيه الامتنان من المكابرة والإصرار على الكفر فصل هنا بعض ما اختصت به كل أمة منهما من صورة الكفر، وذكر من ذلك ما له مناسبة لما حل بكل أمة منهما من العذاب.
والفاء تفريع على جملة {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14] المقتضية أنهم رفضوا دعوة رسوليهم ولم يقبلوا إرشادهما واستدلالهما.
و {أما} حرف شرط وتفصيل، وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} في سورة البقرة [26] والمعنى: فأما عاد فمنعهم قبول الهدى استكبارهم.
والاستكبار: المبالغة في الكبر، أي التعاظم واحتقار الناس، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل: استجاب، والتعريف في {الأرض} للعهد، أي أرضهم المعهودة. وإنما ذكر من مساويهم الاستكبار لأن تكبرهم هو الذي صرفهم عن اتباع رسولهم وعن توقع عقاب الله.
وقوله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} زيادة تشنيع لاستكبارهم، فإن الاستكبار لا يكون بحق إذ لا مبرر للكبر بوجه من الوجوه لأن جميع الأمور المغريات بالكبر من العلم والمال والسلطان والقوة وغير ذلك لا تبلغ الإنسان مبلغ الخلو عن النقص وليس للضعيف الناقص حق في
الكبر ولذلك كان الكبر من خصائص الله تعالى. وهم قد اغتروا بقوة أجسامهم وعزة أمتهم وادعوا أنهم لا يغلبهم أحد، وهو معنى قولهم {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} فقولهم ذلك هو سبب استكبارهم لأنه أورثهم الاستخفاف بمن عداهم، فلما جاءهم هود بإنكار ما هم عليه من الشرك والطغيان عظم عليهم ذلك لأنهم اعتادوا العجب بأنفسهم وأحوالهم فكذبوا رسولهم.
فلما كان اغترارهم بقوتهم هو باعثهم على الكفر قولهم {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} دليلا عليه خص بالذكر. وإنما عطفت بالواو مع أنه كالبيان لقوله {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} إشارة إلى استقلاله بكونه موجب الإنكار عليهم، لأن قولهم ذلك هو بمفرده منكر من القول فذكر بالعطف على فعل "استكبروا" لأن شأن العطف أن يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، ويعلم أنه باعثهم على الاستكبار بالسياق.
وجملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} جملة معترضة، والواو اعتراضية. والرؤية علمية، والاستفهام إنكاري، والمعنى: إنكار عدم علمهم بأن الله أشد منهم قوة حيث أعرضوا عن رسول ربهم وعن إنذاره إياهم إعراض من لا يكترث بعظمة الله تعالى لأنهم لو حسبوا لذلك حسابه لتوقعوا عذابه فلأقبلوا على دلائل صدق رسوله. وإجراء وصف {الَّذِي خَلَقَهُمْ} على اسم الجلالة لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الإنكار عليهم لجهلهم بأن الله أقوى منهم فإن كونهم مخلوقين معلوم لهم بالضرورة، فكان العلم به كافيا في الدلالة على أنه أشد منهم قوة، وأنه حقيق بأن يحسبوا لغضبه حسابه فينظروا في أدلة صدق رسوله إليهم.
وضمير {هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ} ضمير فصل، وهو مفيد تقوية الحكم بمعنى وضوحه، وإذا كان ذلك الحكم محققا كان عدم علمهم بمقتضاه أشنع وعذرهم في جهله منتفيا.
والقوة حقيقتها: حالة في الجسم يتأتى بها أن يعمل الأعمال الشاقة، وتطلق على لازم ذلك من القدرة ووسائل الأعمال، وقد تقدم بيان إطلاقها في قوله تعالى {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ} [لأعراف: من الآية145] والمراد بها هنا معناها الحقيقي والكنائي والمجازي، فهو مستعمل في حقيقته تصريحا وكناية، ومجازه لما عندهم من وسائل تذليل صعاب الأمور لقوة أجسامهم وقوة عقولهم. والعرب تضرب المثل بعاد في أصالة آرائهم فيقولون أحلام عاد قال النابغة:
أحلام عاد وأجسام مطهرة ... من المعقة الآفات والإثم
ويقولون في وصف الأشياء التي يقل صنع أمثالها عادية يقولون: بئر عادية، وبناء عادي.
ولما كانت القوة تستلزم سعة القدرة أسند القوة إلى الله تعالى بمعنى أن قدرته تعالى لا يستعصي عليها شيء تتعلق به إرادته تعالى، وهذا المراد هنا في قوله {أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي هو أوسع قدرة من قدرتهم فإطلاق القوة على قدرة الله تعالى بمعنى كمال القدرة، أي عموم تأثيرها وتعلقها بالممكنات على وفق الإرادة لا يستعصي على تعلق قدرته شيء ممكن، وكمال غناه عن التأثير للغير، وتقدم عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ} في سورة الأنفال [25].
وجملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} معترضة بين الجمل المتعاطفة، والواو فيها اعتراضية.
وقوله {وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} يحتمل أن المراد بالآيات معجزات رسولهم هود فلم يؤمنوا بها وأصروا على العناد ولم يذكر القرآن لهود آيات سوى أنه أنذرهم عذابا يأتيهم من السماء، قال تعالى { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الاحقاف:24] فذلك من تكذيبهم بأوائل الآيات.
ويحتمل أن المراد بالآيات دلائل الوحدانية التي في دعوة رسولهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم كقوله {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً} [لأعراف:69]
وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء:134,132]
ودل فعل {كانوا} على أن التكذيب بالآيات متأصل فيهم. ودلت صيغة المضارع في قوله {يجحدون} أن الجحد متكرر فيهم متجدد.
ورتب على ذلك وصف عقابهم بأن الله أرسل عليهم ريحا فأشارت الفاء إلى أن عقابهم كان مسببا على حالة كفرهم بصفتها فإن باعث كفرهم كان اغترارهم بقوتهم، فأهلكهم الله بما لا يترقب الناس الهلاك به فإن الناس يقولون للشيء الذي لا يؤبه به: هو ريح، ليريهم أن الله شديد القوة وأنه يضع القوة في الشيء الهين مثل الريح ليكون عذابا وخزيا، أي تحقيرا كما قال {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ، وأي خزي أشد من أن تتراماهم الريح في الجو كالريش، وأن تلقيهم هلكى على التراب عن بكرة أبيهم فيشاهدهم المارون بديارهم جثثا صرعى قد
تقلصت جلودهم وبليت أجسامهم كأنهم أعجاز نخل خاوية.
والريح: تموج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عادا هو الريح الدبور، وهو الذي يهب من جهة دبر الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور".
وإنما كانت الريح التي أصابت عادا بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قويا، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة، وتسمى الطاقة الذرية، وقد نسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة.
والصرصر: الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة، أي دوي في هبوبها من شدة سرعة تنقلها. وتضعيف عينة للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كب. وأصله صر، أي صاح، وهو وصف لا يؤنث لفظه لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث.
والنحسات بفتح النون وسكون الحاء: جمع نحس بدون تأنيث لأنه مصدر لفعل نحس كعلم، كقوله تعالى {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر:19].
وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء. ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من "نحس" إذا أصابه النحس إصابة سوء أو ضر شديد.
وضده البخت في أوهام العامة. ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان، فالنحس يعرض له من سوء خلقه مزاجه أو من تفريطة أو من فساد بيئته أو قومه، والبخت يعرض من جراء عكس ذلك. وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاء من الله على عمل خير أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية. وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطيرة ومن التشاؤم والتيمن، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تطلع الحدثان من طوالع الكواكب والأيام عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلة العقيدة. وكل ذلك أبطله الإسلام، أي كشف بطلانه، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإسلام.
فمعنى وصف الأيام بالنحسات: أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح،
وهي ثمانية أيام كما جاء في قوله تعالى {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} [الحاقة:7] فالمراد: أن تلك الأيام بخصوصها كانت نحسا وأن نحسها عليهم دون غيرهم من أهل الأرض لأن عادا هم المقصودون بالعذاب. وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حل بها سوء في تلك الأيام. ووصفت تلك الأيام بأنها {نحسات} لأنها لم يحدث فيها إلا السوء لهم من إصابة آلام الهشم المحقق إفضاؤه إلى الموت، ومشاهدة الأموات من ذويهم، وموت أنعامهم، واقتلاع نخيلهم.
وقد اخترع أهل القصص تسمية ثمانية نصفها آخر شهر شباط ونصفها شهر آذار تكثر فيها الرياح غالبا دعوها أيام الحسوم ثم ركبوا على ذلك أنها الموصوفة بحسوم في قوله تعالى في سورة الحاقة {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} ، فزعموا أنها الأيام الموافقة لأيام الريح التي أصابت عادا، ثم ركبوا على ذلك أنها أيام نحس من كل عام وكذبوا على بعض السلف مثل ابن عباس أكاذيب في ذلك وذلك ضغث على إبالة، وتفنن في أوهام الضلالة. وجمع {نحسات} بالألف والتاء لأنه صفة لجمع غير العاقل وهو {أيام} .
واللام في {لنذيقهم} للتعليل وهي متعلقة ب"أرسلنا". والإذاقة تخييل لمكنية، شبه العذاب بطعام هيئ لهم على وجه التهكم كما سمى عمرو بن كلثوم الغرة قرى في قوله:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
والإذاقة: تخييل من ملائمات الطعام المشبه به.
والخزي: الذل. وإضافة {عذاب} إلى {الخزي} من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل مقابلته بقوله {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} أي أشد إخزاء من إخزاء عذاب الدنيا، وذلك باعتبار أن الخزي وصف للعذاب من باب الوصف بالمصدر أو اسم المصدر للمبالغة في كون ذلك العذاب مخزيا للذي يعذب به ومعنى كون العذاب مخزيا: أنه سبب خزي فوصف العذاب بأنه خزي بمعنى مخز من باب المجاز العقلي، ويقدر قبل الإضافة: لنذيقهم عذابا خزيا، أي مخزيا، فلما أريدت إضافة الموصوف إلى صفته قيل: {عَذَابَ الْخِزْيِ} ، للمبالغة أيضا لأن إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف حتى جعلت الصفة بمنزلة شخص آخر يضاف إليه الموصوف وهو قريب من محسن التجريد
فحصلت مبالغتان في قوله {عَذَابَ الْخِزْيِ} ، مبالغة الوصف بالمصدر، ومبالغة إضافة الموصوف إلى الصفة.
وجملة {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} احتراس لئلا يحسب السامعون أ، حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإهلاك بالريح فعئف عليه الإخبار بأن عذاب الآخرة أخزى، أي لهم ولكل من عذب عذابا في الدنيا لغضب الله عليه. وأخزى: اسم تفضيل جرى على غير قياس، وقياسه أن يقال: أشد إخزاء، لأنه لا يقال: خزاه، بمعنى أخزاه، أي أهانه، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال.
وجملة {وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} تذييل، أي لا ينصرهم من يدافع العذاب عنهم، ولا من يشفع لهم، ولا من يخرجهم منه بعد مهلة.
[17] {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
بقية التفصيل الذي في قوله {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا} [فصلت:15].
ولما كان الأمتين واحدا في عدم قبول الإرشاد من جانب الله تعالى كما أشار إليه قوله تعالى {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت:14] كان الإخبار عن ثمود بأن الله هداهم مقتضيا أنه هدى عادا مثل ما هدى ثمود وأن عادا استحبوا العمى على الهدى مثل ما استحبت ثمود. والمعنى: وأما ثمود فهديناهم هداية إرشاد برسولنا إليهم وتأييده بآية الناقة التي أخرجها لهم من الأرض.
فالمراد بالهداية هنا: الإرشاد التكليفي، وهي غير ما في قوله {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر:37] فإن تلك الهداية التكوينية لمقابلته بقوله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر:33]. واستحبوا العمى معناها: أحبوا، فالسين والتاء للمبالغة مثلهما في قوله {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [فصلت:15]، أي كان العمى محبوبا لهم. والعمى: هنا مستعار للضلال في الرأي، أي اختاروا الضلال بكسبهم. وضمن "استحبوا" معنى: فضلوا، وهيأ لهذا التضمين اقترانه بالسين والتاء للمبالغة لأن المبالغة في المحبة تستلزم التفضيل على بقية المحبوبات فلذلك عدي "استحبوا" بحرف {على} ، أي رجحوا
باختيارهم. وتعليق {عَلَى الْهُدَى} بفعل "استحبوا" لتضمينه معنى: فضلوا وآثروا.
وفرع عليه {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} وكان العقاب مناسبا للجرم لأنهم استحبوا الضلال الذي هو مثل العمى، فمن يستحبه فشأنه أن يحب العمى، فكان جزاؤهم بالصاعقة لأنها تعمي أبصارهم في حين تهلكهم قال تعالى {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة:20].
والأخذ: مستعار للإصابة المهلكة لأنها اتصال بالمهلك يزيله من الحياة فكأنه أخذ باليد.
والصاعقة: الصيحة التي تنشأ في كهربائية السحاب الحامل للماء فتنقدح منها نار تهلك ما تصيبه. وإضافة {صاعقة} إلى {العذاب} لدلالة على أنها صاعقة تعرف بطريق الإضافة إذ لا يعرف بها إلا ما تضاف إليه، أي صاعقة خارقة لمعتاد الصواعق، فهي صاعقة مسخرة من الله لعذاب ثمود، فإن أصل معنى الإضافة أنها بتقدير لام الاختصاص فتعريف المضاف لا طريق له إلا بيان اختصاصه بالمضاف إليه.
و {العذاب} هو: الإهلاك بالصعق، ووصف ب {الهون} كما وصف العذاب بالخزي في قوله {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت:16]، أي العذاب الذي هو سبب الهون. و {الهون} : الهوان وهو الذل، ووجه كونه هونا أنه إهلاك فيه مذلة بيناه في مهلك عاد.
أي أخذتهم الصاعقة بسبب كسبهم في اختيارهم البقاء على الضلال بإعراضهم عن دعوة رسولهم وعن دلالة آياته.
ويعلم من قوله في شأن عاد {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت:16] أن ثمود عذابا في الآخرة لأن المتين تماثلتا في الكفر فلم يذكر ذلك هنا اكتفاء بذكره فيما تقدم. وهذا محسن الاكتفاء، وهو محسن يرجع إلى الإيجاز.
[18] {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}
الأظهر أنه عطف على التفصيل في قوله {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا} [فصلت:15] وما عطف عليه من قوله {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت:17] لأن موقع هاته الجملة المتضمنة إنجاء المؤمنين من العذاب بعد أن ذكر عذاب عاد وعذاب ثمود يشير إلى أن المعنى إنجاء الذين آمنوا من قوم عاد وقوم ثمود، فمضمون هذه الجملة فيه معنى استثناء
من عموم أمتي عاد وثمود فيكون لها حم الاستثناء الوارد بعد جمل متعاقبة أنه يعود إلى جميعها فإن جملتي التفصيل هما المقصود، قال تعالى {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود:58] وقال {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} [هود:66] وقد بينا في سورة هود كيف أنجى الله هودا والذين آمنوا معه، وصالحا والذين آمنوا معه. وقوله {وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي كان سنتهم اتقاء الله والنظر فيما ينجي من غضبه وعقابه، وهو أبلغ في الوصف من أن يقال: والمتقين.
[21-19] { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}
لما فرغ من موعظة المشركين بحال الأمم المكذبة من قبلهم وإنذارهم بعذاب يحل بهم في الدنيا كما حل بأولئك ليكون لهم ذلك عبرة فإن لاستحضار المثل والنظائر أثرا في النفس تعتبر به ما لا تعتبر بتوصف المعني العقلية، انتقل إلى إنذارهم بما سيحل بهم في الآخرة فجملة {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} الآيات، معطوفة على جملة {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت:13] الآيات. والتقدير: وأنذرهم يوم نحشر أعداء الله إلى النار. ودل على هذا المقدر قوله {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} الخ، أي وأنذرهم يوم عقاب الآخرة.
وأعداء الله: هم مشركو قريش لأنهم أعداء رسوله صلى الله عليه وسلم قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] يعني المشركين لقوله بعده {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} ولأنها نزلت في قضية كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش يعلمهم بتهيؤ النبي صلى الله عليه وسلم لغزو مكة ولقوله في آخر هذه الآيات {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ} [فصلت:28] بعد قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]
ولا يجوز أن يكون المراد ب {أَعْدَاءِ اللَّهِ} جميع الكفار من الأمم بحيث يدخل المشركون من قريش دخول البعض في العموم لأن ذلك
المحمل لا يكون له موقع رشيق في المقام لأن الغرض من ذكر ما أصاب عادا وثمود هو تهديد مشركي مكة بحلول عذاب مثله في الدنيا لأنهم قد علموه ورأوا آثاره فللتهديد بمثله موقع لا يسعهم التغافل عنه، وأما عذاب عاد وثمود في الآخرة فهو موعود به في المستقبل وهم لا يؤمنون به فلا يناسب أن يجعل موعظة لقريش بل الأجدر أن يقع إنذار قريش رأسا بعذاب يعذبونه في الآخرة، ولذلك أطيل وصفه لتهويله ما لم يطل بمثله حين التعرض لعذاب عاد في الآخرة بقوله {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت:16] المكتفي به عن ذكر عذاب ثمود. ولهذا فليس في قوله {أَعْدَاءُ اللَّهِ} إظهار في مقام الإضمار من ضمير عاد وثمود. ويجوز أن يكون {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} مفعولا لفعل "واذكر" محذوفا مثل نظائره الكثيرة.
والحشر: جمع الناس في مكان لمقصد. ويتعلق قوله {إلى النار} ب {يحشر} لتضمين {يحشر} معنى: نرسل، أي نرسلهم إلى النار.
والفاء في قوله {فَهُمْ يُوزَعُونَ} عطف وتفريع على {يحشر} لأن الحشر يقتضي الوزع إذ هو من لوازمه عرفا، إذ الحشر يستلزم كثرة عدد المحشورين وكثرة العدد تستلزم الاختلاط وتداخل بعضهم في بعض فلا غنى لهم عن الوزع لتصفيفهم ورد بعضهم عن بعض.
والوزع: كف بعضهم عن بعض ومنعهم من الفوضى، وتقدم في سورة النمل، وهو كناية عن كثرة المحشورين. وقرأ نافع ويعقوب {يحشر} بنون العظمة مبنيا للفاعل ونصب {أعداء} . وقرأه الباقون بياء الغائب مبنيا للنائب.
و {حتى} ابتدائية وهي مفيدة لمعنى الغاية فهي حرف انتهاء في المعنى وحرف ابتداء في اللفظ، أي أن ما بعدها جملة مستأنفة.
و {إذا} ظرف لمستقبل متضمن معنى الشرط وهو متعلق بجوابه، و {ما} زائدة للتوكيد بعد {إذا} تفيد توكيد معنى {إذا} من الارتباط بالفعل الذي بعد {إذا} سواء كانت شرطية كما في هذه الآية أم كانت لمجرد الظرفية كقوله تعالى {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} ويظهر أن ورود {ما} بعد {إذا} يقوي معنى الشرط في {إذا} ، ولعله يكون معنى الشرط حينئذ نصا احتمالا. وضمير المؤنث الغائب في {جاءوها} عائد إلى {النار} أي إذا وصلوا إلى جهنم.
وجملة {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} الخ يقتضي كلام المفسرين أنها جواب {إذا} ، فاقتضى الارتباط بين شرطها وجوابها وتعليقها بفعل الجواب. واستشعروا أ، الشهادة عليهم تكون قبل أن يوجهوا إلى النار، فقدروا فعلا محذوفا تقديره: وسئلوا عما كانوا يفعلون فأنكروا فشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، يعني: سألهم خزنة النار.
وأحسن من ذلك أن نقول: إن جواب {إذا} محذوف للتهويل وحذف مثله كثير في القرآن، ويكون جملة {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ} إلى آخرها مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن مفاد {حتى} من الغية لأن السائل يتطلب ماذا حصل بين حشرهم إلى النار وبين حضورهم عند النار فأجيب بأن {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} إلى قوله {الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ويتضمن ذلك أنهم حوسبوا على أعمالهم وأنكروها فشهدت عليهم جوارحهم وأجسادهم.
أو أن يكون جواب {إذا} قوله {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [فصلت:24] الخ.
وجملة {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ} وما عطف عليها معترضة بين الشرط وجوابه. وشهادة جوارحهم وجلودهم عليهم: شهادة تكذيب وافتضاح لأن كون ذلك شهادة يقتضي أنهم لما رأوا النار اعتذروا بإنكار بعض ذنوبهم طمعا في تخفيف العذاب وإلا فقد علم الله ما كانوا يصنعون وشهدت به الحفظة وقرئ عليهم كتابهم، وما أحضروا للنار إلا وقد تحققت إدانتهم، فما كانت شهادة جوارحهم إلا زيادة خزي لهم وتحسيرا وتنديما على سوء اعتقادهم في سعة علم الله.
وتخصيص السمع والأبصار والجلود بالشهادة على هؤلاء دون بقية الجوارح لأن للسمع اختصاصا بتلقي دعوة النبي صلى الله عليه وسلم وتلقي آيات القرآن، فسمعهم يشهد عليهم بأنهم كانوا يصرفونه عن سماع ذلك كما حكى الله عنهم بقوله {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ولأن للأبصار اختصاصا بمشاهدة دلائل المصنوعات الدالة على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير فذلك دليل وحدانيته في إلهيته، وشهادة الجلود لأن الجلد يحوي جميع الجسد لتكون شهادة الجلود عليهم شهادة على أنفسها فيظهر استحقاقها للحرق بالنار لبقية الأجساد دون اقتصار على حرق موضع السمع والبصر. ولذلك اقتصروا في توجيه الملامة على جلودهم لأنها حاوية لجميع الحواس والجوارح، وبهذا يظهر وجه الاقتصار على شهادة السمع والأبصار والجلود هنا بخلف آية سورة النور {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24] لأن آية النور تصف الذين يرمون
المحصنات وهم الذين اختلقوا تهمة الإفك ومشوا في المجامع يشيعونها بين الناس ويشيرون بأيديهم إلى من اتهموه إفكا.
وغنما قالوا لجلودهم {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} دون أن يقلوه لسمعهم وأبصارهم لأن الجلود مواجهة لهم يتوجهون إليها بالملامة. وإجراء ضمائر السمع والبصر والجلود بصيغتي ضمير جمع العقلاء لأن التحاور معها صيرها بحالة العقلاء يومئذ. ومن غريب التفسير قول من زعموا أن الجلود أريد بها الفروج ونسب هذا للسدى والفراء، وهو تعنت في محمل الآية لا داعي إليه بحال، وعلى هذا التفسير بنى أحمد الجرجاني في كتاب كنايات الأدباء فعد الجلود من الكنايات عن الفروج وعزاه لأهل التفسير فجازف في التعبير.
والاستفهام في قولهم {لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} مستعمل في الملامة وهم يحسبون أن جلودهم لكونها جزءا منهم لا يحق لهم شهادتها عليهم لأنها تجر العذاب إليها.
واستعمال الاستفهام عن العلة في معرض التوبيخ كثير كقوله تعالى {فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [آل عمران:66] وقول الجلود {أَنْطَقَنَا اللَّهُ} اعتذار بأن الشهادة جرت منها بغير اختيار.وهذا النطق من خوارق العادات كما هو شأن العالم الأخروي. وقولهم {الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} تمجيد لله تعالى ولا علاقة له بالاعتذار، والمعنى: الذي أنطق كل شيء له نطق من الحيوان واختلاف دلالة أصواتها على وجدانها، فعموم {كُلَّ شَيْءٍ} مخصوص بالعرف.
{وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
يجوز أن تكون هذه الجملة والتي عطفت عليها من تمام ما أنطق الله به جلودهم قتفي على مقالتها تشهيرا بخطئهم في إنكارهم البعث والمصير إلى الله لزيادة التنديم والتحسير، وهذا ظاهر كون الواو في أول الجملة واو العطف فيكون التعبير بالفعل المضارع في قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} لاستحضار حالتهم فإنهم ساعتئذ في قبضة تصرف الله مباشرة. وأما رجوعهم بمعنى البعث فإنه قد مضى بالنسبة لوقت إحضارهم عند جهنم، أو يكون المراد بالرجوع الرجوع إلى ما ينتظرهم من العذاب.
ويجوز أن تكون هذه الجملة وما بعدها اعتراضا بين جملة {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} وجملة {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [فصلت:24] موجها من جانب الله
تعالى إلى المشركين الأحياء لتذكيرهم بالبعث عقب ذكر حالهم في القيامة انتهازا لفرصة الموعظة السابقة عند تأثير بسماعها.
ويكون فعل {ترجعون} مستعملا في الاستقبال على أصله، والكلام استدلال على إمكان البعث.
قال تعالى {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [قّ:15]
وتقديم متعلق {ترجون} عليه للاهتمام ورعاية الفاصلة.
[23,22] {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
قل من تصدى من المفسرين لبيان اتصال هذه الآيات الثلاث بما قبلها، ومن تصدى منهم لذلك لم يأت بما مقنع، وأولى كلام في ذلك كلام ابن عطية ولكنه وجيز وغير محرر وهو وبعض المفسرين ذكروا سببا لنزولها فزادوا بذلك إشكالا وما أبانوا انفصالا. ولنبدأ بما يقتضيه نظم الكلام، ثم نأتي على ما روي في سبب نزولها بما لا يفضي إلى الانفصام.
فيجوز أن تكون جملة {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} بتمامها معطوفة على جملة {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: 21] الخ فتكون مشمولة للاعتراض متصلة بالتي قبلها على كلا التأويلين السابقين في التي قبلها. ويجوز أن تكون مستقلة عنها: إما معطوفة على جملة {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} الآيات، وإما معترضة بين تلك الجملة وجملة {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [فصلت: 24] وتكون الواو اعتراضيه، ومناسبة الاعتراض ما جرى من ذكر شهادة سمعهم وأبصارهم وجلودهم عليهم. فيكون الخطاب لجميع المشركين الأحياء في الدنيا، أو للمشركين في يوم القيامة.
وعلى هذه الوجوه فالمعنى: ما كنتم في الدنيا تخفون شرككم وتسترون منه بل كنتم تجهرون به وتفخرون باتباعه فماذا لومكم على جوارحكم وأجسادكم أن شهدت عليكم بذلك فإنه كان أمرا مشهورا فالاستتار مستعمل في الإخبار مجازا لأن حقيقة الاستتار إخفاء الذوات والذي شهدت به جوارحهم هو اعتقاد الشرك والأقوال الداعية إليه. وحرف {ما} نفي بقرينة قوله بعده {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ} الخ، ولابد من تقدير حرف جر
يتعدى به فعل {تسترون} إلى {أن يشهد} وهو محذوف على الطريقة المشهورة في حذف حرف الجر مع "أن". وتقديره: بحسب ما يدل عليه الكلام وهو هنا يقدر حرف من، أي ما كنتم تستترون من شهادة سمعكم وأبصاركم وجلودكم، أي ما كنتم تسترون من تلك الشهود، وما كنتك تتقون شهادتها، إذ لا تحسبون أن ما أنتم عليه ضائر إذ أنتم لا تؤمنون بوقوع يوم الحساب.
فأما ما ورد في سبب نزول الآية فهو حديث الصحيحين وجامع الترمذي بأسانيد يزيد بعضها على بعض إلى عبد الله بن مسعود قال كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي1 قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم فتكلموا بكلام لم أفهمه، فقال أحدهم: أترون الله يسمع ما نقول، فقال الآخر: يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا، قال عبد الله: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} إلى قوله {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وهذا بظاهره يقتضي أن المخاطب به نفر معين في قضية خاصة مع الصلاحية لشمول من عسى أن يكون صدر منهم مثل هذا العمل للتساوي في التفكير. ويجعل موقعها بين الآيات التي قبلها وبعدها غريبا، فيجوز أن يكون نزولها صادف الوقت الموالي لنزول التي قبلها، ويجوز أن تكون نزلت في وقت آخر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضعها في موضعها هذا لمناسبة ما في الآية التي قبلها من شهادة سمعهم وأبصارهم.
ومع هذا فهي آية مكية إذ لم يختلف المفسرون في أ، السورة كلها مكية. وقال ابن عطية: يشبه أن يكون هذا بعد فتح مكة فالآية مدنية، ويشبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلا بها عند إخبار عبد الله إياه اه. وفي كلامه الأول مخالفة لما جزم به هو وغيره من المفسرين أن السورة كلها مكية، وكيف يصح كلامه ذلك وقد ذكر غيره أن النفر الثلاثة هم: عبدياليل الثقفي وصفوان وربيعة ابنا أمية بن خلف، فأما عبديليل فأسلم وله صحبة عند ابن إسحاق وجماعة، وكذلك صفوان بن أمية، وأما ربيعة بن أمية فلا يعرف له إسلام فلا يلاقي ذلك أن تكون الآية نزلت بعد فتح مكة. وأحسن ما في كلام ابن عطية
ـــــــ
1 الشك من أبي معمر راوي هذا الحديث عن ابن مسعود وجزم وهب بن ربيعة راويه عن ابن مسعود بقوله: ثقفي وقرشيان, وعن الثعلبي: أن الثقفي عبد يالليل بن مسعود الثقفي والقرشيين ربيعة بن أمية وصفوان بن أمية. وهما ختنان لعبد ياليل.
طرفة الثاني وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الآية متمثلا بها فإن ذلك يؤول قول ابن مسعود فأنزل الله تعالى الآية، ويبين وجه قراءة النبي صلى الله عليه وسلم إياها عندما أخبره ابن مسعود: بأنه قرأها تحقيقا لمثال من صور معنى الآية، وهو أن مثل هذا النفر ممن يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وذلك قاض بأن هؤلاء النفر كانوا مشركين يومئذ، والآية تحق على من مات منهم كافرا مثل ربيعة بن أمية بن خلف.
وعلى بعض احتمالات فيما ذكر يكون فعل {تستترون} مستعملا في حقيقته أي تستترون بأعمالكم عن سمعكم وأبصاركم وجلودكم, وذلك توبيخ كناية عن أنهم ما كانوا يرون ماهم عليه قبيحا حتى يستتروا منه وعلى بعض الا حتمالات فيما ذكر يكون فعل {تستترون} مستعملا في حقيقته ومجازه، ولا يعوزك توزيع أصناف هذه الاحتمالات بعضها مع بعض في كل تقدير تفرضه. وحاصل معنى الآية على جميع الاحتمالات: أن الله عليم بأعمالكم ونياتكم لا يخفى عليه شيء منها إن جهرتم أو سترتم وليس الله بحاجة إلى شهادة جوار حكم عليكم وما أوقعكم في هذا الضر إلا سوء ظنكم بجلال الله.
{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ} الإشارة إلى الظن المأخوذ من فعل {ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ} ويستفاد من الإشارة إليه تمييزه أكمل تمييز وتشهير شناعته للنداء على ضلالهم.
وأتبع اسم الإشارة بالبدل بقوله {ظنكم} لزيادة بيانه ليتمكن ما يعقبه من الخبر، والخبر هو فعل {أرداكم} وما تفرع عليه.
و {الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ} صفة ل{ظنكم}. والإتيان بالموصول لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر وه {أرداكم} وما تفرع عليه، أي الذي ظننتم بربكم ظنا باطلا. والعدول عن اسم الله العلم إلى {بربكم} للتنبيه على ضلال ظنهم، إذ ظنوا خفاء بعض أعمالهم عن علمه مع أنه ربهم وخلقهم فكيف يخلقهم وتخفى عنه أعمالهم، وهو يشير إلى قوله {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] ففي وصف {بربكم} إيماء إلى هنا المعنى.
والإرادء: الإهلاك، يقال: ردي كرضي، إذا هلك، أي مات، والإرداء مستعار للإيقاع في سوء الحالة وفي الإتيان بالمسند فعلا إفادة قصر، أي ما أرداكم إلا ظنكم ذلك، وهو قصر إضافي، أي لم تردكم شهادة جوارحكم حتى تلوموها بل أرداكم ظنكم أن الله لا يعلم أعمالكم فلم تحذروا عقابه.
وقوله {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} تمثيل لحالهم إذ يحسبون أنهم وصلوا إلى معرفة ما يحق أن يعرفوه من شؤون الله ووثقوا من تحصيل سعادتهم، وهم ما عرفوا الله حق معرفته فعاملوا الله بما لا يرضاه فاستحقوا العذاب من حيث ظنوا النجاة، فشبه حالهم بحال التاجر الذي استعد للربح فوقع في الخسارة.
والمعنى: أنه نعي عليهم سوء استدلالهم وفساد قياسهم في الأمور الإلهية، وقياسهم الغائب على الشاهد، تلك الأصول التي استدرجتهم في الضلالة فأحالوا رسالة البشر عن الله ونفوا البعث، ثم أثبتوا شركاء لله في الإلهية، وتفرع لهم من ذلك كله قطع نظرهم عما وراء الحياة الدنيا وأمنهم من التبعات في الحياة الدنيا، فذلك جماع قوله تعالى {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وأعلم أن أسباب الضلال في العقائد كلها إنما تأتي على الناس من فساد التأمل وسرعة الإيقان وعدم التمييز بين الدلائل الصائبة والدلائل المشابهة وكل ذلك بفضي إلى الوهم المعبر عنه بالظن السيئ، أو الباطل. وقد ذكر الله مثله في المنافقين وأن ظنهم هو ظن أهل الجاهلية فقال {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران:154] فليحذر المؤمنون من الوقوع في مثل هذه الأوهام فيبوءوا ببعض ما نعي على عبدة الأصنام.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" يريد الظن الذي لا دليل عليه. و"أصبحتم" بمعنى: صرتم، لأن أصبح يكثر أن تأتي بمعنى: صار.
[24] {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ}
تفريع على جواب {إذا} على كلا الوجهين المتقدمين، أو تفريع على جملة {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} [فصلت:21]، أو هو جواب {إذا} ، وما بينهما اعتراض على حسب ما يناسب الوجوه المتقدمة. والمعنى على جميع الوجوه: أن حاصل أمرهم أنهم قد زج بهم في النار فإن صبروا واستسلموا فهم باقون في النار، وإن اعتذروا لم ينفعهم العذر ولم يقبل منهم تنصل.
وقوله {فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} دليل جواب الشرط لأن كون النار مثوى لهم ليس مسببا على حصول صبرهم وإنما هو من باب قولهم: إن قبل ذلك فذاك، أي فهو على ذلك الحال، فالتقدير: فإن يصبروا فلا يسعهم إلا الصبر لأن النار مثوى لهم.
ومعنى {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} إن يسألوا العتبى بضم العين وفتح الموحدة مقصورا اسم مصدر الإعتاب وهي رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. وفي المثل ما مسيء من أعتب أي من رجع عما أساء به فكأنه لم يسيء. وقلما استعملوا المصدر الأصلي بمعنى الرجوع استغناء عنه باسم المصدر وهو العتبى. والعاتب هو اللائم، والسين والتاء فيه للطلب لأن المرء لا يسأل أحدا أن يعاتبه وإنما يسأله ترك المعاتبة، أي يسأله الصفح عنه فإذا قبل منه ذلك قيل: أعتبه أيضا، وهذا من غريب تصاريف هذه المادة في للغة ولهذا كادوا أن يميتوا مصدر: أعتب بمعنى رجع وأبقوه في معنى قبل العتبى، وهو المراد في قوله تعالى {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي أن الله لا يعتبهم، أي لا يقبل منهم.
[25] {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت:25]
عطف على جملة {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} [فصلت:19] وذلك أنه حكي قولهم المقتضي إعراضهم عن التدبر في دعوة الإيمان ثم ذكر كفرهم بخالق الأكوان بقوله {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9]
ثم ذكر مصيرهم في الآخرة بقوله {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} ثم عقب ذلك بذكر سبب ضلالهم الذي نشأت عنه أحوالهم بقوله {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} وتخلل بين ما هنالك وما هنا أفانين من المواعظ والدلائل والمنن والتعاليم والقوارع والإيقاظ.
وقيض: أتاح وهيأ شيئا للعمل في شيء. والقرناء جمع: قرين، وهو الصاحب الملازم، والقرناء هنا: هم الملازمون لهم في الضلالة: إما في الظاهر مثل دعاة الكفر وأئمته، وإما في باطن النفوس مثل شياطين الوسواس الذين قال الله فيهم {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} ويأتي في سورة الزخرف [36]. ومعنى تقييضهم لهم: تقديرهم لهم، أي خلق المناسبات التي يتسبب عليها تقارن بعضهم مع بعض لتناسب أفكار الدعاة والقابلين كما يقول الحكماء استفادة القابل من المبدأ تتوقف على المناسبة بينهما. فالتقييض بمعنى التقدير عبارة جامعة لمختلف المؤثرات والتجمعات التي توجب التآلف والتحاب بين الجماعات، ولمختلف الطبائع المكونة في نفوس بعض الناس فيقتضي بعضها جاذبية الشياطين إليها وحدوث الخواطر السيئة فيها. والإحاطة بهذا المقصود أوثر التعبير هنا ب {قيضنا} دون غيره من نحوه: بعثنا، وأرسلنا.
والتزيين: التحسين، وهو يشعر بأن المزين غير حسن في ذاته. و {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} يستعار للأمور المشاهدة، وما خلفهم يستعار للأمور المغيبة. والمراد ب {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمور الدنيا، أي زينوا لهم ما يعملونه في الدنيا من الفساد مثل عبادة الأصنام، وقتل النفس بلا حق، وأكل الأموال، والعدول على الناس باليد واللسان، والميسر، وارتكاب الفواحش، والوأد. فعودوهم باستحسان ذلك كله لما فيه من موافقة الشهوات والرغبات العارضة القصيرة المدى، وصرفوهم عن النظر فيما يحيط بأفعالهم تلك من المفاسد الذاتية الدائمة.
والمراد ب {ما خلفهم} الأمور المغيبة عن الحس من صفات الله، وأمور الآخرة من البعث والجزاء مثل لشرك بالله ونسبة الولد إليه، وظنهم أنه يخفى عليه مستور أعمالهم، وإحالتهم بعثة الرسل، وإحالتهم البعث والجزاء.
ومعنى تزيينهم هذا لهم تلقينهم تلك العقائد بالأدلة السفسطائية مثل قياس الغائب على الشاهد، ونفي الحقائق التي لا تدخل تحت المدركات الحسية كقولهم {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الصافات:17,16].
و {حَقَّ عَلَيْهِمُ} أي تحقق فيهم القول وهو وعيد الله إياهم بالنار على الكفر، فالتعريف في {القول} للعهد. وفي هذا العهد إجمال لأنه وإن كان قد ورد في القرآن ما يعهد منه هذا القول مثل قوله {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] وقوله {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} و [الصافات:31]، فإنه يمكن أن لا تكون الآيات المذكورة قد سبقت هذه الآية.
وقوله {فِي أُمَمٍ} حال من ضمير {عليهم} ، أي حق عليهم حالة كونهم في أمم أمثالهم قد سبقوهم.
والظرفية هنا مجازية، وهي بمعنى التبعيض، أي هم من أمم قد خلت من قبلهم حق عليهم القول. ومثل هذا الاستعمال قول عمرو بن أذينة:
إن تك عن أحسن الصنيعة مأفو ... كا ففي آخرين قد أفكوا
أي فأنت من جملة آخرين قد صرفوا عن أحسن الصنيعة. و{من} في قوله {مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} بيانية، فيجوز أن يكون بيانا ل"أمم"، أي من أمم من البسر ومن الشياطين فيكون مثل قوله تعالى {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأملأن لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 85,84] وقوله {قَالَ ادْخُلُوا فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ} [الأعراف:38] ويجوز أن يكون بيانا ل {قرناء} أي ملازمين لهم ملازمة خفية وهي ملازمة الشياطين لهم بالوسوسة وملازمة أئمة الكفر لهم بالتشريع لهم ما لم يأذن به الله.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} يجوز أن تكون بيانا للقول مثل نظيرتها {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات:31] في سورة الصافات، ويجوز أن تكون مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن جملة {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} والمعنيان متقاربان.
[26] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
عطف على الجملة. {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] عطف القصة على القصة، ومناسبة التخلص إليه أن هذا القول مما ينشأ عن تزيين قرنائهم من الإنس، أو هو عطف على جملة {فَزَيَّنُوا لَهُمْ} [فصلت: من الآية25]
وهذا حكاية لحال أخرى من أحوال إعراضهم عن الدعوة المحمدية بعد أن وصف إعراضهم في أنفسهم انتقل إلى وصف تلقينهم الناس أساليب الإعراض، فالذين كفروا هنا هم أئمة الكفر يقولون لعامتهم: لا تسمعوا لهذا القرآن، فإنهم علموا أن القرآن كلام هو أكمل الكلام شريف معان وبلاغة تراكيب وفصاحة ألفاظ، وأيقنوا أن كل من يسمعه وتداخل نفسه جزالة ألفاظه وسمو أغراضه قضى له فهمه أنه حق إتباعه، وقد أدركوا ذلك بأنفسهم ولكنهم غالبتهم محبة الدوام على سيادة قومهم فتمالؤوا ودبروا تدبير لمنع الناس من استماعه، وذلك خشية من أن ترق قلوبهم عند سماع القرآن فصرفوهم عن سماعه.
وهذا من شأن دعاة الضلال والباطل أن يكموا أفواه الناطقين بالحق والجة، بما يستطيعون من تخويف وتسويل، وترهيب وترغيب ولا يدعوا الناس يتجادلون بالحجة ويتراجعون بالأدلة لأنهم يوقنون أن حجة خصومهم أنهض، فهم يسترونها ويدافعونها لا بمثلها ولكن بأساليب من البهتان والتضليل، فإذا أعيتهم الحيل ورأوا بوارق الحق تخفق خشوا أن يعم نورها الناس الذين فيهم بقية من خير ورشد عدلوا إلى لغو الكلام ونفخوا في أبواق اللغو والجعجعة لعلهم يغلبون بذلك على حجج الحق ويغمرون الكلام القول الصالح باللغو، وكذلك شأن هؤلاء.
فقولهم {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} تحذيرا واستهزاء بالقرآن، فاسم الإشارة مستعمل في التحقير كما فيما حكي عنهم {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الانبياء: 36]
وتسميتهم إياه بالقرآن حكاية لما يجري على ألسنة المسلمين من تسمية بذلك. وتعدية فعل {تسمعوا} باللام لتضمينه معنى: تطمئنوا أو تركنوا.
واللغو: القول الذي لا فائدة فيه، ويسمى الكلام الذي لا جدوى له لغوا، وهو واوي اللام، فأصل {والغوا} : والغووا استثقلت الضمة على الواو فحذفت والتقى ساكنان فحذف أولهما وسكنت الواو الثانية سكونا حيا، والواو علامة الجمع. وهذا الجاري على ظاهر كلام الصحاح والقاموس وفي الكشاف أنه يقال: لغي يلغى، كما يقال: لغا يلغو فهو إذن واوي ويائي فمعنى {وَالْغَوْا فِيهِ} قولوا أقوالا لا معنى لها أو تكلموا كلاما غير مراد منه إفادة أو المقصود إحداث أصوات تغمر صوت النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن. ولما كان المقصود بتخلل أصواتهم صوت القارئ حتى لا يفقهه السامعون عدي اللغو بحرف "في" الظرفية لإفادة إيقاع لغوهم في خلال صوت القارئ وقوع المظروف في الظرف على وجه المجاز وأدخل حرف الظرفية على اسم القرآن دون اسم شيء من أحواله مثل صوت أو كلام ليشمل كل ما يخفى ألفاظ القرآن أو يشكك في معانيها أو نحو ذلك. وهذا نظم له مكانة من البلاغة.
قال ابن عباس كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان أبو جهل وغيره يطردون الناس عنه ويقولون لهم: لا تسمعوا له والغوا فيه، فكانوا يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز وما يحضرهم من الأقوال لما استمعوا إلى قراءة أبي بكر وكان رقيق القراءة: إنا نخاف أن يفتن أبناءنا ونساءنا.
ومعنى {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} رجاء أن تغلبوا محمدا بصرف من يتوقع أن يتبعه إذا سمع قراءته. وهذا مشعر بأنهم كانوا يجدون القرآن غالبهم إذ كان الذين يسمعونه يداخل قلوبهم فيؤمنون، أي فإن لم تفعلوا فهو غالبكم.
[28,27] {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت:28]
دلت الفاء على أن ما بعدها مفرع عما قبلها: فإما أن يكون تفريغا على آخر ما تقدم وهو قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26] الآية، وإما أن يكون مفرعا على جميع ما تقدم ابتداء من قوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ}
[فصلت: 5] الآية وقوله {فَإِنْ أَعْرَضُوا} [فصلت: 13] الآية وقوله {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} [فصلت: 19] الآية وقوله {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت: 25] الآية وقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا} [فصلت: 26] الخ. وعلى كلا الوجهين يتعين أن يكون المراد ب {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا: المشركين الذين الكلام عنهم.
ف {الَّذِينَ كَفَرُوا} إظهار في مقام الإضمار لقصد ما في الموصول من الإيماء إلى عل إذاقة العذاب، أي لكفرهم المحكي بعضه فيما تقدم وإذاقة العذاب: تعذيبهم، استعير له الإذاقة على طريق المكنية والتخييلة. والعذاب الشديد عن ابن عباس: أنه عذاب يوم بدر فهو عذاب الدنيا.
وعطف {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} عن ابن عباس: لنجزينهم أسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة.
و {أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} منصوب على نزع الخافض. والتقدير: على أسوأ ما كانوا يعملون، ولك أن تجعله منصوبا على النيابة عن المفعول المطلق تقديره: جراء مماثلا أسوأ الذي كانوا يعملون.
وأسوأ: اسم تفضيل مسلوب المفاضلة، وإنما أريد به السيئ، فصيغ بصيغة التفضيل للمبالغة في سوءه. وإضافته إلى {الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} من إضافة البعض إلى الكل وليس من إضافة اسم التفضيل إلى المفضل عليه.
والإشارة ب {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ} إلى ما تقدم وهو الجزاء والعذاب الشديد على أسوا أعمالهم. وأعداء الله: هم المشركون الذين تقدم ذكرهم بقوله تعالى {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ} [فصلت: من الآية19]
والنار عطف بيان من {جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ}
و {دَارُ الْخُلْدِ} النار. فقوله {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} جاء بالظرفية بتنزيل النار منزلة ظرف لدار الخلد وما دار الخلد إلا عين النار. وهذا من أسلوب التجريد ليفيد مبالغة معنى الخلد في النار. وهو معدود من المحسنات البديعية، ومنه قوله تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: من الآية21] وقول أبي حامد العتابي:
وفي الرحمان للضعفاء كافي
أي والرحمان كاف للضعفاء.
و {الخلد} : طول البقاء، وأطلق في اصطلاح القرآن على البقاء المؤبد الذي لا نهاية له.
وانتصب {جزاء} على الحال من {دَارُ الْخُلْدِ} والباء للسببية. و"ما" مصدرية، أي جزء بسبب كونهم يجحدون بآياتنا.
وصيغة المضارع في {يجحدون} دالة على تجدد الجحود حينا فحينا وتكرره. وعدي فعل {يجحدون} بالباء لتضمينه معنى: يكذبون. وتقديم {بآياتنا} للاهتمام وللرعاية على الفاصلة.
[29] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29]
عطف على الجملة {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت: من الآية28]، أي ويقولون في جهنم، فعدل عن صيغة الاستقبال إلى صيغة المضي للدلالة على تحقيق وقوع هذا القول وهو في معنى قوله تعالى {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]فالقائلون {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} هم عامة المشركين، كما يدل عليه قوله {الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} . ومعنى {أرنا} عين لنا، وهو كناية عن إرادة انتقامهم منهم ولذلك جزم {نجعلهما} في جواب الطلب على تقدير: إن ترناهما نجعلهما تحت أقدامنا. والجعل تحت الأقدام: الوطء بالأقدام والرفس، أي نجعل آحادهم تحت أقدام آحاد جماعتنا، فإن الدهماء أكثر من القادة فلا يعوزهم الانتقام منهم. وكان الوطء بالأرجل من كيفيات الانتقام والامتهان، قال ابن وعلة الجرمي:
ووطئنا وطأ على حنق ... وطأ المقيد نابت الهرم
وإنما طلبوا أن يروهما لأن المضلين كانوا في دركات من النار أسفل من دركات أتباعهم فلذلك لم يعرفوا أين هم.
والتعليل {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} توطئة لاستجابة الله تعالى لهم أن يريهموهما لأنهم علموا من غضب الله عليهم أنه أشد غضبا على الفريقين المضلين فتوسلوا بعزمهم على الانتقام منهم إلى تيسير تمكينهم من الانتقام منهم. والأسفلون: الذين هم أشد حقارة من
حقارة هؤلاء الذين كفروا، أي ليكونوا أحقر منا جزاء لهم، فالسفالة مستعارة للإهانة والحقارة.
وقرأ الجمهور {أرنا} بكسر الراء. وقرأه ابن كثير وابن عامر والسوسي عن أبي عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب بسكون الراء للتخفيف من ثقل الكسرة، كما قالوا: فخذ في فخذ. وعن الخليل إذا قلت: أرني ثوبك بكسر الراء، فالمعنى: رصرنيه، وإذا قلته بسكون الراء فهو استعطاء، معناه: أعطنيه. وعلى هذا يكون معنى قراءة ابن كثير وابن عامر ومن وافقهما: مكنا من الذين أضلانا كي نجعلهما تحت أقدامنا، أي ائذن لنا بإهانتهما وخزيهما.
وقرأ ابن كثير {اللذين} بتشديد النون من اسم الموصول وهي لغة، وتقدم في قوله تعالى {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} [النساء: من الآية16] في سورة النساء.
[32,30] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}
بعد استيفاء الكلام على ما أصاب الأمم الماضية المشركين المكذبين من عذاب الدنيا وما أعد لهم من عذاب الآخرة مما فيه عبرة للمشركين الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم بطريق التعريض، ثم أنذروا بالتصليح بما سيحل بهم في الآخرة، ووصف بعض أهواله، تشوف السامع إلى معرفة حظ المؤمنين ووصف حالهم فجاء قوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} الخ، بيانا للمترقب وبشرى للمتطلب، فالجملة استئناف بياني ناشئ عما تقدم من قوله {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} [فصلت:19] إلى قوله {مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد منظور فيه إلى إنكار المشركين ذلك، ففي توكيد الخبر زيادة قمع لهم.
ومعنى {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أنهم صدعوا بذلك ولم يخشوا أحدا بإعلانهم التوحيد، فقولهم تصريح بما في اعتقادهم لأن المراد بهم قالوا ذلك عن اعتقاد، فإن الأصل في الكلام الصدق وهو مطابقة الخبر وما في الوجود الخارجي.
وقوله {رَبُّنَا اللَّهُ} يفيد الحصر بتعريف المسند إليه والمسند، أي لا رب لنا إلا الله، وذلك جامع لأصل الاعتقاد الحق لأن الإقرار بالتوحيد يزيل المانع من تصديق
الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به إذ لم يصد المشركين عن الإيمان بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه أمرهم بنبذ عبادة غير الله، ولأن التكذيب بالبعث تلقوه من دعاة الشرك.
والاستقامة حقيقتها: عدم الاعوجاج والميل، والسين والتاء فيها للمبالغة في التقويم، فحقيقة استقام: استقل غير مائل ولا منحن. وتطلق الاستقامة بوجه الاستعارة على ما يجمع معنى حسن العمل والسيرة على الحق والصدق قال تعالى {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] وقال {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: من الآية1121]، ويقال: استقامت البلاد للملك، أي أطاعت، ومنه قوله تعالى {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7]. ف {استقاموا} هنا يشمل معنى الوفاء بما كلفوا به وأول ما يشمل من ذلك أن يثبتوا على أصل التوحيد، أي لا يغيروا ولا يرجعوا عنه.
ومن معنى هذه الآية ما روي في صحيح مسلم عن سفيان الثقفي قال قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم.
وعن أبي بكر {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} لم يشركوا بالله شيئا. وعن عمر: استقاموا على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعالب. وقال عثمان: ثم أخلصوا العمل لله. وعن علي ثم أدوا الفرائض. فقد تولى تفسير هذه الآية الخلفاء الاربعة رضي لله عنهم. وكل هذه الأقوال ترجع إلى معنى الاستقامة في الإيمان وآثاره، وعناية هؤلاء الأربعة أقطاب الإسلام ببيان الاستقامة مشير إلى أهميتها في الدين.
وتعريب المسند إليه بالموصولية دون أن يقال: إن المؤمنين ونحوه لما في الصلة من الإيمان إلى أنها سبب ثبوت المسند للمسند إليه فيفيد أن تنزل الملائكة عليهم بتلك الكرامة مسبب على قولهم {رَبُّنَا اللَّهُ} واستقامتهم فإن الاعتقاد الحق والإقبال على العمل الصالح هما سبب الفوز.
و {ثم} التراخي الرتبي لأن الاستقامة زائدة في المرتبة على الإقرار بالتوحيد لأنها تشمله وتشمل الثبات عليه والعمل بما يستدعيه، ولأن الاستقامة دليل على أن قولهم {رَبُّنَا اللَّهُ} كان قولا منبعثا عن اعتقاد الضمير والمعرفة الحقيقة.
وجمع قوله {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أصلي الكمال الإسلامي، فقوله {قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} مشير إلى الكمال النفساني وهو معرفة الحق للاهتداء به، ومعرفة الخير لأجل العمل به، فالكمال علم يقيني وعمل صالح، فمعرفة الله بالإلهية هي أساس العلم اليقيني.
وأشار قوله {اسْتَقَامُوا} إلى أساس الأعمال الصالحة وهو الاستقامة على الحق، أي أن
يكون وسطا غير مائل إلى طرفي الإفراط والتفريط قال تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]
وقال {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143] على أن كمال الاعتقاد راجع إلى الاستقامة، فالاعتقاد الحق أن لا يتوغل في جانب النفي إلى حيث ينتهي إلى التعطيل، ولا يتوغل في جانب الإثبات إلى حيث ينتهي إلى التشبيه والتمثيل بل يمشي على الخط المستقيم الفاصل بين التشبيه والتعطيل، ويستمر كذلك فاصلا بين الجبري والقدري، وبين الرجاء والقنوط، وفي الأعمال بين الغلو والتفريط.
وتنزل الملائكة على المؤمنين يحتمل أن يكون في وقت الحشر كما دل عليه قولهم {الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ، وكما يقتضيه كلامهم لهم لأن ظاهر الخطاب أنه حقيقة، فذلك مقابل قوله {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت:19] فأولئك تلاقيهم الملائكة بالوزع، والمؤمنون تتنزل عليهم الملائكة بالأمن.
وذكر التنزل هنا للتنويه بشأن المؤمنين أن الملائكة ينزلون من علوياتهم لأجلهم فأما أعداء الله فهم يجدون الملائكة حضرا في المحشر يزعونهم وليسوا يتنزلون لأجلهم فثبت للمؤمنين بهذا كرامة ككرامة الأنبياء والمرسلين إذ ينزل الله عليهم الملائكة. والمعنى: أنه يتنزل على كل مؤمن ملكان هما الحافظان اللذان كانا يكتبان أعماله في الدنيا. ولتضمن {تتنزل} معنى القول وردت بعده "أن" التفسيرية. والتقدير: يقولون لا تخافوا ولا تحزنوا.
ويجوز أن يكون تنزل الملائكة عليهم في الدنيا، وهو تنزل خفي يعرف بحصول آثاره في نفوس المؤمنين ويكون الخطاب ب {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} بمعنى إلقائهم في روعهم عكس وسوسة الشياطين القرناء بالتزيين، أي يلقون في أنفس المؤمنين ما يصرفهم عن الخوف والحزن ويذكرهم بالجنة فتحل فيهم السكينة فتنشرح صدورهم بالثقة بحلولها، ويلقون في نفوسهم نبذ ولاية من ليسوا من حزب الله، فذلك مقابل قوله {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت:25] الآية فإنه تقييض في الدنيا. وهذا يقتضي أن المؤمنين الكاملين لا يخافون غير الله، ولا يحزنون على ما يصيبهم، ويوقنون أن كل شيء بقدر، وهم فرحون بما يترقبون من فضل الله.
وعلى هذا المعنى فقوله {الَّتِي كُنْتُمْ} تعتبر "كان" فيه مزيدة للتأكيد، ويكون المضارع في {تُوعَدُونَ} ، على أصل استعماله للحال والاستقبال، ويكون قولهم {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} أيبدأ لهم في الدنيا ووعدا بنفعهم في الآخرة.
و {لا} ناهية، والمقصود من النهي عن الخوف: النهي عن سببه، وهو توقع الضر، أي لا تحسبوا أن الله معاقبكم، فالنهي كناية عن التأمين من جانب الله تعالى لأنهم إذا
تحققوا الأمن زال خوفهم، وهذا تطمين من الملائكة لأنفس المؤمنين.
والخوف:غم في النفس ينشأ عن ظن حصول مكروه شديد. والحزن: غم في النفس ينشأ عن وقوع مكروه بفوات نفع أو حصول ضر.
وألحقوا بتأمينهم بشارتهم، لأن وقع النعيم في النفس موقع المسرة إذا لم يخالطه توقع المكروه.
ووصف الجنة ب {الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} تذكير لهم بأعمالهم التي وعدوا عليها بالجنة، وتعجيل لهم بمسرة الفوز برضى الله، وتحقيق وعده، أي التي كنتم توعدونها في الدنيا.
وفي ذكر فعل الكون تنبيه على أنهم متأصلون في الوعد بالجنة وذلك من سابق إيمانهم وأعمالهم. وفي التعبير بالمضارع في {توعدون} إفادة أنهم قد تكرر وعدهم بها، وذلك بتكرر الأعمال الموعود لأجلها وبتكرر الوعد في مواقع التذكير والتبشير.
وقول الملائكة {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} تعريف بأنفسهم للمؤمنين تأنيسا لهم.
فإن العلم بأن المتلقي صاحب قديم يزيد نفس القادم انشراحا وأنسا ويزيل عنه دهشة القدوم، يخفف عنه من حشمة الضيافة، ويزيل عنه وحشة الاغتراب، أي نحن الذي كنا في صحبتكم في الدنيا، إذ كانوا يكتبون حسناتهم ويشهدون عند الله بصلاتهم كما في حديث " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي? فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناه وهم يصلون". وقد حفظوا العهد فكانوا أولياء المؤمنين في الآخرة، وقد جيء بهذا القول معترضا بين صفات الجنة ليتحقق المؤمنون أن بشارتهم بالجنة بشارة محب يفرح لحبيبه بالخير ويسعى ليزيده.
واعلم أن قوله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إشارة إلى مقابلة قوله في المشركين {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} [فصلت: 25] فكما قيض للكفار قرناء في الدنيا قيض للمؤمنين ملائكة يكونون قرناءهم في الدنيا وكما أنطق أتباعهم باللائمة عليهم أنطق الملائكة بالثناء على المؤمنين. وهذه الآية تقتضي أن هذا الصنف من الملائكة خاص برفقة المؤمنين وولائهم ولا حظ للكافرين فيهم، فإن كان الحفظة من خصائص المؤمنين ظاهر، وإن كان الحفظة موكلين على المؤمنين والكافرين
كما مشى عليه الجمهور وهو ظاهر قوله تعالى {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 9-12] فهذا صنف من الملائكة موكل بحفظ المؤمنين في الدنيا، وهم غير الحفظة، وقد يكون هذا الصنف من الملائكة هو المسمى بالمعقبات في قوله تعالى {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} حسب ما تقدم في سورة الرعد [11]
وقد دلت عدة آثار متفاوتة في القبول على أن الملائكة الذين لهم علاقة بالناس عموما أو بالمؤمنين خاصة أصناف كثيرة. وعن عثمان أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: كم من ملك على الإنسان، فذكر له عشرين ملكا. ولعل وصف الملائكة المتنزلين بأنهم أولياء يقتضي أن عملهم مع المؤمن عمل صلاح وتأييد مثل إلهام الطاعات ومحاربة الشياطين ونحو ذلك، وبذلك تتم مقابلة تنزلهم على المؤمنين بذكر تقييض القرناء للكافرين، وهذا أحسن.
وجملة {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} عطف على {الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} وما بينهما جملة كما بينته آنفا.
ومعنى {مَا تَدْعُونَ} ما تتمنون. يقال: ادعى، أي تمنى، وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} في سورة يس[57] والمعنى: لكم فيها ما تشتهونه مما يقع تحت الحس وما تتمنونه في نفوسكم من كل ما يخطر بالبال مما يجول في الخيال، فما يدعون غير ما تشتهيه أنفسهم. ولهذه المغايرة أعيد {لكم} ليؤذن باستقلال هذا الوعد عن سابقه، فلا يتوهم أن العطف عطف تفسير أو عطف عام على خاص.
والنزل بضم النون وضم الزاي: ما يهيأ للضيف من القرى، وهو مشتق من النزول لأنه كرامة النزيل، وهو هنا مستعار لما يعطونه من الرغائب سواء كانت رزقا أم غيره. ووجه الشبه سرعة إحضاره كأنه مهيأ من قبل أن يشتهوه أو يتمنوه.
{مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} صفة {نزلا} ، و {من} ابتدائية.
وانتصب {نزلا} على الحال من {مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} و {ما تدعون} حال كونه كالنزل المهيأ للضيف، أي تعطونه كما يعطي النزل للضيف.
وأوثرت صفتا "الغفور الرحيم" هنا للإشارة إلى أن الله غفر لهم أو لأكثرهم اللمم وما تابوا منه، وأنه رحيم بهم لأنهم كانوا يحبونه ويخافونه ويناصرون دينه.
[33] {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
ليس هذا من حكاية خطاب الملائكة للمؤمنين في الآخرة وإنما هو موجه من الله فالأظهر أنه تكملة للثناء على {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت:30] ، واستقاموا، وتوجيه لاستحقاقهم تلك المعاملة الشريفة، وقمع للمشركين إذ تقرع أسماعهم، أي كيف لا يكونون بتلك المثابة وقد قالوا أحسن القول وعملوا أحسن العمل. وذكر هذا الثناء عليهم بحسن قولهم عقب ذكر مذمة المشركين ووعيدهم على سوء قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت:26] ، مشعر لا محالة بان بين الفريقين بونا بعيدا، طرفاه: الحسن المصرح به، والأسوأ المفهوم بالمقابلة، أي فلا يستوي الذين قالوا أحسن القول وعملوا أصلح العمل مع الذين قالوا أسوأ القول وعملوا أسوأ العمل، ولهذا عقب بقوله {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34].
والواو إما عاطفة على جملة {إن الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت: 30] أو حالية من {الَّذِينَ قَالُوا} والمعنى: أنهم نالوا ذلك إذ أحسن منهم قولا وعملا. و"من" استفهام مستعمل في النفي، أي لا أحد أحسن قولا من هذا الفريق كقوله {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [النساء:125] الآية في سورة النساء.
{مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} : كل أحد ثبت له مضمون هذه الصلة. والدعاء إلى شيء: أمر غيرك بالإقبال على شيء، ومنه قولهم: الدعوة العباسية والدعوة العلوية، وتسمية الواعظ عند بني عبيد بالداعي لأنه يدعو إلى التشيع لآل علي بن أبي طالب. فالدعاء إلى الله: تمثيل لحال الآمر بإفراد الله بالعبادة ونبذ الشرك بحال من يدعو أحدا بالإقبال إلى شخص، وهذا حال المؤمنين حين أعلنوا التوحيد وهو ما وصفوا به آنفا في قوله {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} كما علمت وقد كان المؤمنون يدعون المشركين إلى توحيد الله، وسيد الداعين إلى الله هو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله {مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} :"من" فيه تفضيلية لاسم {أحسن} ، والكلام على حذف مضاف تقديره: من قول من دعا إلى الله. وهذا الحذف كالذي في قول النابغة:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أي لا تزيد مخافتي على مخافة وعل، ومنه قوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}
الآية في سورة البقرة.[177]
والعمل الصالح: هو العمل الذي يصلح عامله في دينه ودنياه صلاحا لا يشوبه فساد، وذلك العمل الجاري على وفق ما جاء به الدين، فالعمل الصالح: هو ما وصف به المؤمنون آنفا في قوله {ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: من الآية30].
وأما {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فهو ثناء على المسلمين بأنهم افتخروا بالإسلام واعتزوا به بين المشركين ولم يتستروا بالإسلام.
والاعتزاز بالدين عمل صالح ولكنه خص بالذكر لأنه أريد به غيظ الكافرين. ومثال هذا ما وقع يوم أحد حين صاح أبو سفيان: اعل هبل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم قولوا "الله أعلى وأجل"فقال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قولوا الله مولانا ولا مولى لكم" .
وإنما لم يذكر نظير هذا القول في الصلة المشيرة إلى سبب تنزل الملائكة على المؤمنين بالكرامة وهي {الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: من الآية30] لأن المقصود من ذكرها هنا الثناء عليهم بتفاخرهم على المشركين بعزة الإسلام، وذلك من آثار تلك الصلة فلا حاجة إلى ذكره هنالك بخلاف موقعه هنا.
وفي هذه الآية منزع عظيم لفضيلة علماء الدين الذين بينوا السنن ووضحوا أحكام الشريعة واجتهدوا في التوصل إلى مراد الله تعالى من دينه ومن خلقه. وفيها أيضا منزع لطيف لتأييد قول الماتريدي وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن سحنون: أن المسلم يقول: أنا مؤمن ولا يقول إن شاء الله، خلافا لقول الأشعري وطائفة من علماء القيروان وعلى رأسهم محمد بن عبدوس فنقل أنه كان يقول: أنا مؤمن إن شاء الله. وقد تطاير شرر هذا الخلاف بين علماء القيروان مدة قرن. والحق أنه خلاف لفظي كما بينه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد ونقله عياض في المدارك ووافقه. وذكرنا لمسألة مفصلة عند قوله تعالى {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا} في سورة العراف وبذلك فلا حجة في هذه الآية لأحد الفريقين وإنما الحجة في آية سورة العراف على الماتريدي ومحمد بن سحنون. والقول في قوله {وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} كالقول في {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ} [فصلت :30]
[34] {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}
عطف هذه الجملة له موقع عجيب، فإنه يجوز أن يكون عطفا على جملة {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] الخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمهم، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمح الصفة مقارن له، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} [غافر:58] فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض. ويجوز أن تكون عطفا على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]
الواقعة بعد جملة { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت:5] إلى قوله {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: من الآية5] فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق فهو بحل من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} الآية.
فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأولاها تبادرا إلى الأذهان حسنة الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جم المنافع في الآخرة والدنيا، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقى به المشركون دعوة الإسلام لأن الصفح من الإحسان، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة.
فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض، وهو الذي عنه بعطف القصة على القصة، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية.
وقد علمت غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالبا تفضيل أحدهما على مقابلة بحسب دلالة السياق كقوله تعالى {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18]. وقول الأعشى:
ما يجعل الجد الضنون الذي ... جنب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما ... يقذف بالبوصي والماهر
فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، دون إعادة {لا} النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [غافر:58]، فإعادة
{لا} النافية تأكيد لأختها السابقة. وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام، تقديره: وما تستوي الحسنة والسيئة ولا السيئة والحسنة. فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوي السيئة، والمراد الثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة. وذلك هو الاستواء في الخصائص، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين: جنس الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجاز، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر.
وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الخلاق في قوله {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ، فيشبه أن يكون إيثار نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئة للانتقال إلى قوله {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ،. وقوله {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ،. يجري موقعه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} .
فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبة أن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشاد من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى. وهي على الوجه الثاني من وجهي موقع جملة {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصد من المقدمة، فمضمونها ناشئ عن مضمون التي قبلها.
وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ،. مفصولة غير معطوفة.
وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأن منتهى الكمال البشري خلقه كما قال "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقالت عائشة لما سئلت عن خلقه "كان خلقه القرآن" لأنه أفضل الحكماء. والإحسان كما ذاتي ولكنه قد يكون تركه محمودا في الحدود ونحوها فذلك معنى خاص. والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم، ولذلك قالت عائشة ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله فيغضب
لله وتخلق الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40].
وروى عياض في الشفاء وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابن جرير في تفسيره لما نزل قوله تعالى {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف:199] سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العلم، فأتاه فقال: "يا محمد إن الله يأمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك" .
ومفعول {ادفع} محذوف دل عليه انحصار المعنى بين السيئة والحسنة، فلما أمر بأن تكون الحسنة مدفوعا به تعين أن المدفوع هو السيئة، فالتقدير: ادفع السيئة بالتي هي أحسن كقوله {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} في سورة الرعد[22] وقوله {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} في سورة المؤمنين،[96].
و {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} هي الحسنة، وإنما صيغت بصيغة التفضيل ترغيبا في دفع السيئة بها لأن ذلك يشق على النفس فإن الغضب من سوء المعاملة من طباع النفس وهو يبعث على حب الانتقام من المسيء فلما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجازي السيئة بالتي هي بالحسنة أشير إلى فضل ذلك. وقد ورد في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويصفح. وقد قيل: إن ذلك وصفه في التوراة.
وفرع على هذا الأمر قوله {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} لبيان ما في ذلك الأمر من الصلاح ترويضا على التخلق بذلك الخلق الكريم، وهو أن تكون النفس مصدرا للإحسان. ولما كانت الآثار الصالحة تدل على صلاح مثارها. وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالدفع بالتي هي أحسن أردفة بذكر بعض محاسنه وهو أن يصير العدو كالصديق، وحسن ذلك ظاهر مقبول فلا جرم أن يدل حسنه على حسن سببه.
ولذكر المثل والنتائج عقب الإرشاد شان ظاهر في تقرير الحقائب وخاصة التي قد لا تقبلها النفوس لأنها شاقة عليها، والعداوة مكروهة والصداقة والولاية مرغوبة، فلما كان الإحسان لمن أساء يدينه من الصداقة أو يكسبه إياها كان ذلك من شواهد مصلحة الأمر بالدفع بالتي هي أحسن.
و {إذا} للمفاجأة، وهي كناية عن سرعة ظهور أثر الدفع بالتي هي أحسن في انقلاب العدو صديقا.
وعدل ذكر العدو معرفا بلام الجنس إلى ذكر باسم الموصول ليتأتى تنكير عداوة للنوعية وهو أصل التنكير فيصدق بالعداوة القوية ودونها، كما أن ظرف
{بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ} يصدق بالبين القريب والبين البعيد، أعني ملازمة العداوة أو طروها.
وهذا تركيب من أعلى طرف البلاغة لأنه يجمع أحوال العداوات فيعلم أن الإحسان ناجح في اقتلاع عداوة المحسن إليه للمحسن على تفاوت مراتب العداوة قوة وضعفا، وتمكنا وبعدا، ويعلم أنه ينبغي أن يكون الإحسان للعدو قويا بقدر تمكن عداوته ليكون أنجع في اقتلاعها. ومن الأقوال المشهورة: النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.
والتشبيه في قوله {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} تشبيه في زوال العداوة ومخالطة شوائب المحبة، فوجه الشبه هو المصافاة والمقاربة وهو معنى متفاوت الأحوال، أي مقول على جنسه بالتشكيك على اختلاف تأثر النفس بالإحسان وتفاوت قوة العداوة قبل الإحسان، ولا يبلغ مبلغ المشبه به إذ من النادر أن يصير العدو وليا حميما، فإن صاره فهو لعوارض غير داخلة تحت معنى الإسراع الذي آذنت به "إذا" الفجائية. والعداوة التي بين المشركين وبين النبي صلى الله عليه وسلم عداوة في الدين، فالمعنى: فإذا الذي بينك وبينه عداوة لكفره، فلذلك لا تشمل الآية من آمنوا بعد الكفر فزالت عدواتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لأجل إيمانهم كما زالت عداوة عمر رضي الله عنه بعد إسلامه حتى قال يوما للنبي صلى الله عليه وسلم: لأنت أحب إلي من نفسي التي بين جنبي، وكما زالت عداوة هند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ قالت للنبي صلى الله عليه وسلم ما كان أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك واليوم ما أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم "وأيضا"، أي وستزيدين حبا.
وعن مقاتل: أنه قال: هذه الآية نزلت في أبي سفيان كان عدوا للنبي صلى الله عليه وسلم في لجاهلية فصار بعد إسلامه وليا مصافيا. وهو وإن كان كما قالوا فلا أحسب أن الآية نزلت في ذلك لأنها نزلت في اكتساب المودة بالإحسان.
والولي: اسم مشتق من الولاية بفتح الواو، والولاء، وهو: الحليف والناصر، وهو ضد العدو، وتقدم في غير آية من القرآن.
والحميم: القريب والصديق. ووجه الجمع بين {وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أنه جمع خصلتين كلتاهما لا تجتمع مع العداوة وهما خصلتا الولاية والقرابة.
[35] {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] عطف على جملة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] ، أو حال من {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وضمير {يلقاها} عائد إلى {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} باعتبار تعلقها بفعل "ادفع"، أي
بالمعاملة والمدافعة التي هي أحسن، فأما مطلق الحسنة فقد يحصل لغير الذين صبروا.
وهذا تحريض على الارتياض بهذه الخصلة بإظهار احتياجها إلى قوة عزم وشدة مراس للصبر على ترك هوى النفس في حب الانتقام، وفي ذلك تنويه بفضلها بأنها تلازمها خصلة الصبر وهي في ذاتها خصلة حميدة وثوابها جزيل كما علم من عدة آيات في القرآن، وحسبك قوله تعالى {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:2,3]
فالصابر مرتاض بتحميل المكاره وتجرع الشدائد وكظم الغيظ فيهون عليه ترك الانتقام.
و {يلقاها} يجعل لاقيا لها، أي كقوله تعالى {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الانسان: 11] وهو مستعار للسعي لتحصيلها لأن التحصيل على الشيء بعد المعالجة والتخلق يشبه السعي لملاقاة أحد فيلقاه. وجيء في {يلقاها} بالمضارع في الموضعين باعتبار أن المأمور بالدفع بالتي هي أحسن مأمور بتحصيل هذا الخلق في المستقبل، وجيء في الصلة وهي {الَّذِينَ صَبَرُوا} بالماضي للدلالة على أن الصبر خلق سابق فيهم هو العون على معاملة المسيء بالحسنى، ولهذه النكتة عدل عن أن يقال: إلا الصابرون، لنكتة كون الصبر سجية فيهم متأصلة. ثم زيد في التنويه بها بأنها ما تحصل إلا لذي حظ عظيم.
والحظ: النصيب من الشيء مطلقا، وقيل: خاص بالنصيب من خير، والمراد هنا: نصيب الخير، بالقرينة أو بدلالة الوضع، أي ما يحصل دفع السيئة بالحسنة إلا لصاحب نصيب عظيم من الفضائل، أي من الخلق الحسن والاهتداء والتقوى.
فتحصل من هذين أن التخلق بالصبر شرط في الاضطلاع بفضيلة دفع السيئة بالتي هي أحسن، وأنه ليس وحده شرطا فيها بل وراءه شروط أخر يجمعها قوله {حَظٍّ عَظِيمٍ} أي من الأخلاق الفاضلة، والصبر من جملة الحظ العظيم لأن الحظ العظيم أعم من الصبر، وإنما خص الصبر بالذكر لأنه أصلها ورأس أمرها وعمودها.
وفي إعادة فعل {وما يلقاها} دون اكتفاء بحرف العطف إظهار لمزيد الاهتمام بهذا الخبر بحيث لا يستتر من صريحة شيء تحت العطف. وأفاد {ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} الحظ العظيم من الخبر سجيته وملكته كما اقتضته إضافة {ذو} . وحاصل ما أشار إليه الجملتان أن مثلك من يتلقى هذه الوصية وما هي بالأمر الهين لكل أحد.
[36] {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
عطف على جملة {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت:35]، فبعد أن أرشد إلى ما هو عون على تحصيل هذا الخلق المأمور به وهو دفع السيئة بالتي هي أحسن، وبعد أن شرحت فائدة العمل بها بقوله {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] صرف العنان هنا إلى التحذير من عوائقها التي تجتمع كثرتها في حقيقة نزغ الشيطان، فأمر بأنه إن وجد في نفسه خواطر تصرفه عن ذلك وتدعوه إلى دفع السيئة بمثلها فإن ذلك نزع من الشيطان دواؤه أن تستعيذ بالله منه فقد ضمن الله له أن يعيذه إذا استعاذة لأنه أمره بذلك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم.
وفائدة هذه الاستعاذة تجديد داعية العصمة المركوزة في نفس النبي صلى الله عليه وسلم لأن الاستعاذة بالله من الشيطان استمداد للعصمة وصقل لزكاء النفس مما قد يقترب منها من الكدرات. وهذا سر من الاتصال بين النبي صلى الله عليه وسلم وربه وقد أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم "إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" ، فبذلك تسلم نفسه من أن يغشاها شيء من الكدرات ويلحق به في ذلك صالحو المؤمنين.
وفي الحديث القدسي عند الترمذي "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه" .
ثم يلتحق بذلك بقية المؤمنين على تفاوتهم كما دل عليه حديث ابن مسعود عند الترمذي قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان" .والنزغ: النخس، وحقيقته: مس شديد للجلد بطرف عود أو إصبع، فهو مصدر، وهو هنا مستعار لاتصال القوة الشيطانية بخواطر الإنسان تأمره بالشر وتصرفه عن الخير، وتقدم في قوله تعالى {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأعراف:200] في سورة الأعراف وإسناد {ينزغنك} إلى {نزع} مجاز عقلي من باب: جد جده، و {من} ابتدائية.
ويجوز أن يكون المراد بالنزغ هنا: النازغ، وهو الشيطان، وصف بالمصدر للمبالغة، و{من} بيانية، أي ينزغنك النازغ الذي هو الشيطان. والمبالغة حاصلة
على التقديرين مع اختلاف جهتها.
وجيء في هذا الشرط ب"إن" التي الأصل فيها عدم الجزم بوقوع الشرط ترفيعا لقدر النبي صلى الله عليه وسلم فإن نزغ الشيطان له إنما يفرض كما يفرض المحال، ألا ترى إلى قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فجاء في ذلك الشرط بحرف "إذا" التي الأصل فيها الجزم بوقوع الشرط أو بغلبة وقوعه. و"ما" زائدة بعد حرف الشرط لتوكيد الربط بين الشرط وجوابه وليست لتحقيق حصول الشرط فإنها تزداد كثيرا بعد "إن" دون أن تكون دالة على الجزم بوقوع فعل الشرط.
وضمير الفصل في قوله {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} لتقوية الحكم وهو هنا حكم كنائي لأن المقصود لازم وصف السميع العليم وهو مؤاخذة من تصدر منهم أقوال وأعمال في أذى النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له ممن أمر بأن يدفع سيئاتهم بالتي هي أحسن. والمعنى: فإن سول لك الشيطان أن لا تعامل أعداءك بالحسنة وزين لك الانتقام وقال لك: كيف تحسن إلى أعداء الدين، وفي الانتقام منهم قطع كيدهم للدين، فلا تأخذ بنزغه وخذ بما أمرناك واستعذ بالله من أن يزلك الشيطان فإن الله لا يخفى عليه أمر أعدائك وهو يتولى جزاءهم.
[37] {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
عطف على جملة {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت:9] الآية عطف القصة فإن المقصود من ذكر خلق العوالم أنها دلائل على انفراد الله بالإلهية، فلذلك أخبر هنا عن المذكورات في هذه الجملة بأنها من آيات الله انتقالا في أفانين الاستدلال فإنه انتقال من الاستدلال بذوات من مخلوقاته إلى الاستدلال بأحوال من أحوال تلك المخلوقات،فابتدئ ببعض الأحوال السماوية وهي حال الليل والنهار، وحال طلوع الشمس وطلوع القمر، ثم ذكر بعده بعض الأحوال الأرضية بقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39].
ويدل لهذا الانتقال أنه من أسلوب الغيبة من قوله {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} إلى قوله {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} إلى أسلوب خطابهم رجوعا إلى خطابهم الذي في قوله {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ} [فصلت: 9].
بالعبادة وليس فيه أن هؤلاء الناس من العرب، على أن هدي القرآن لا يختص بالعرب بل شيوع دين الصائبة في البلاد المجاورة لهم كاف في التحذير من السجود للشمس والقمر.
وقد كان العرب يحسبون دين الإسلام دين الصابئة فكانوا يقولون لمن أسلم: صبأ، وكانوا يصفون النبي صلى الله عليه وسلم بالصابئ، فإذا لم يكن النهي في قوله {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ} نهي إقلاع بالنسبة للذين يسجدون للشمس والقمر، فهو نهي تحذير لمن لم يسجد لهما أن لا يتبعوا من يعبدونهما. ووقوع قوله {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} بعد النهي عن السجود للشمس والقمر يفيد مفاد الحصر لأن النهي بمنزلة النفي، ووقوع الإثبات بعده بمنزلة مقابلة النفي بالإيجاب، فإنه بمنزلة النفي والاستثناء في إفادة الحصر كما تراه في قول السموأل أو عبد الملك الحارثي:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
فكأنه قيل: لا تسجدوا إلا لله، أي دون الشمس والقمر.
فجملة {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} إلى قوله {تعبدون} معترضة بين جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} وبين جملة {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} [فصلت: 38]
وفي هذه الآية موضع سجود من سجود التلاوة، فقال مالك وأصحابه عدا ابن وهب: السجود عند قوله تعالى {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} وهو قول علي بن أبي طالب وابن مسعود، وروي عن الشافعي. وقال أبو حنيفة والشافعي في المشهور عنه وابن وهب: هي عند قوله {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وهو عن ابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب.
[38] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] الفاء للتفريع على نهيهم عن السجود للشمس والقمر وأمرهم بالسجود لله وحده، أي فإن استكبروا أن يتبعوك وصمموا على السجود للشمس والقمر، أو فإن استكبروا عن الاعتراف بدلالة الليل والنهار والشمس والقمر على تفرد الله بالإلهية فيعم ضمير {استكبروا} جميع المشركين فالله غني عن عبادتهم إياه.
والاستكبار: قوة التكبر، فالسين والتاء للمبالغة وأصل السين والتاء المستعملين للمبالغة هما السين والتاء للحسبان، أي عدوا أنفسهم ذوي كبر شديد من فرط تكبرهم.
وجملة {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} دليل جواب الشرط. والتقدير: فإن تكبروا عن السجود لله فهو غني عن سجودهم، لأن له عبيدا أفضل منهم لا يفترون عن التسبيح له بإقبال دون سآمة. والمراد بالتسبيح: كل ما يدل على تنزيه الله تعالى عما لا يليق به بإثبات أضداد ما لا يليق به أو نفي ما لا يليق، وذلك بالأقوال قال تعالى {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى: 5]، أو بالأعمال قال {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50-49]
وذلك ما يقتضيه قوله {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} من كون ذلك التسبيح قولا وملا وليس مجرد اعتقاد.
والعندية في قوله {عِنْدَ رَبِّكَ} عندية تشريف وكرامة كقوله في سورة الأعراف {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [لأعراف:206] وهؤلاء الملائكة هم العامرون للعوالم العليا التي جعلها الله مشرفة بأنها لا يقع فيها إلا الفضيلة فكانت بذلك أشد اختصاصا به تعالى من أماكن غيرها قصدا لتشريفها.
والسآمة: الضجر والملل من الإعياء. وذكر الليل والنهار هنا لقصد استيعاب الزمان، أي يسبحون له الزمان كله.
وجملة {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} في موضع الحال وهو أوقع من محمل العطف لأن كون الإخبار عنهم مقيدا بهذه الحال أشد في إظهار عجيب حالهم إذ شأن العمل الدائم أن يسلم منه عامله.
[39] {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت:39]
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ}
عطف على جملة {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37]، وهذا استدلال بهذا الصنع العظيم على أنه تعالى منفرد بفعله فهو دليل إلهيته دون غيره لأن من يفعل ما لا يفعله غيره هو الإله الحق وإذا كان كذلك لم يجز أن يتعدد لكون من لا يفعل مثل فعله ناقص القدرة، والنقص ينافي الإلهية كما قال {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ} [النحل: 17].
والخطاب في قوله {أنك} لغير معين ليصلح لكل سامع.
والخشوع: التذلل، وهو مستعار لحال الأرض إذا كانت مقحطة لا نبات عليها لأن حالها في تلك الخصاصة كحال المتذلل، وهذا من تشبيه المحسوس بالمعقول باعتبار ما يتخيله الناس من مشابهة اختلاف حالي القحولة والخصب بحالي التذلل والازدهاء.
والاهتزاز حقيقته: مطاوعة هزه، إذا حركه بعد سكونه فتحرك. وهو هنا مستعار لربو وجه الأرض بالنبات، شبه حال إنباتها وارتفاعها بالماء والنبات بعد أن كانت منخفضة خامدة بالاهتزاز.
ويؤخذ من مجموع ذلك أن هذا التركيب تمثيل، شبه حال قحولة الأرض ثم إنزال الماء عليها وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب والإنبات البهيج بحال شخص كان كاسف البال رث اللباس فأصابه شيء من الغنى فلبس الزينة واختال في مشيته زهوا، ولذا يقال: هز عطفيه، إذا اختال في مشيته.
وفي قوله {خاشعة} و {اهتزت} مكنية بأن شبهت بشخص كان ذليلا ثم صار مهتزا لعطفيه ورمز إلى المشبه بهما بذكر رديفيهما. فهذا من أحسن التمثيل وهو الذي يقبل تفريق أجزائه في أجزاء التشبيه.
وعطف {وربت} على {اهتزت} لأن المقصود من الاهتزاز هو ظهور النبات عليها وتحركه. والمقصود بالربو: انتفاخها بالماء واعتلاؤها.
وقرأ أبو جعفر { وربأت} بهمزة بعد الموحدة من "ربأ" بالهمز، إذا ارتفع.
وقرأ أبو جعفر "وربأت" بهمزة بعد الموحدة من "ربأ" بالهمز، إذا ارتفع.
{إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
إدماج لإثبات البعث في أثناء الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق والتدبير، ووقوعه على عادة القرآن في التفنن وانتهاز فرص الهدى إلى الحق.
والجملة استئناف ابتدائي والمناسبة مشابهة الإحياءين، وحرف التوكيد لمراعاة إنكار المخاطبين إحياء الموتى.
وتعريف المسند إليه بالموصولية لما في الموصول من تعليل الخبر، وشبه إمداد الأرض بماء المطر الذي هو سبب انبثاق البزور التي في باطنها التي تصير نباتا بإحياء الميت، فأطلق على ذلك {أحياها} على طريق الاستعارة التبعية، ثم ارتقي من ذلك إلى جعل ذلك الذي سمي إحياء لأنه شبيه الإحياء دليلا على إمكان إحياء الموتى بطريقة قياس
الشبه، وهو المسمى في المنطق قياس التمثيل بحجة قطعية، بل هو إقناعي ولكنه هنا يصير حجة لأن المقيس عليه وإن كان أضعف من المقيس إذ المشبه لا يبلغ قوة المشبه به، فالمشبه به حيث كان لا يقدر على فعله إلا الخالق الذي اتصف بالقدرة التامة لذاته فقد تساوى فيه قويه وضعيفه، وهم كانوا يحيلون إحياء الأموات استنادا للاستبعاد العادي، فلما نظر إحياء الأموات بإحياء الأرض المشبه تم الدليل الاقناعي المناسب لشبهتهم الإقناعية. وقد أشار إلى هذا تذييله بقوله {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
[40] {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40]
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا}
ستئناف ابتدائي قصد به تهديد الذين أهملوا الاستدلال بآيات الله على توحيده.
وقوله {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} مراد به الكناية عن الوعيد تذكيرا لهم بإحاطة علم الله بكل كائن، وهو متصل المعنى بقوله آنفا {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ} [فصلت: 22] الآية.
والإلحاد حقيقته: الميل عن الاستقامة، والآيات تشمل الدلائل الكونية المتقدمة في قوله {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] وقوله {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} [فصلت: 37] الخ. وتشمل الآيات القولية المتقدمة في قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26] فالإلحاد في الآيات مستعار للعدول والانصراف عن دلالة الآيات الكونية على ما دلت عليه. والإلحاد في الآيات القولية مستعار للعدول عن سماعها وللطعن في صحتها وصرف الناس عن سماعها.
وحرف {في} من قوله {فِي آيَاتِنَا} للظرفية المجازية لإفادة تمكن إلحادهم حتى كأنه مظروف في آيات الله حيثما كانت أو كلما سمعوها. ومعنى نفي خفائهم: نفي خفاء إلحادهم لا خفاء ذواتهم إذ لا غرض في العلم بذواتهم.
{أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
تفريع على الوعيد في قوله {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} لبيان أن الوعيد بنار جهنم تعريض بالمشركين بأنهم صائرون إلى النار، وبالمؤمنين بأنهم آمنون من ذلك. والاستفهام تفريع مستعمل في التنبيه على تفاوت المرتبتين.
وكني بقوله {يَأْتِي آمِناً} أن ذلك الفريق مصيره الجنة إذ لا غاية للآمن إلا أنه في نعيم. وهذه كناية تعريضية بالذين يلحدون في آيات الله.
وفي الآية محسن الاحتباك، إذ حذف مقابل "من يلقى في النار" وهو: من يدخل الجنة، وحذف مقابل {أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً} وهو: من يأتي خائفا، وهم أهل النار.
{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
الجملة تذييل لجملة {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} الخ، كما دل عليه قوله عقبه {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت: 41] الآية، أي لا يخفى علينا إلحادهم ولا غيره من سيئ أعمالهم. وإنما خص الإلحاد بالذكر ابتداء لأنه أشنع أعمالهم ومصدر أسوئها.
والأمر في قوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} مستعمل في التهديد, أو في الإغراء المكنى به عن التهدي.
وجملة: {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وعيد بالعقاب على أعمالهم على وجه الكناية.
وتوكيده ب"إن" لتحقيق معنييه الكنائي والصريح، وهو تحقيق إحاطة علم الله بأعمالهم لأنهم كانوا شاكين في ذلك كما تقدم في قصة الثلاثة الذين نزل فيهم قوله تعالى {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} [فصلت: 22] الآية.
ولبصير: العليم بالمبصرات.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
أعقب تهديدهم على الإلحاد في آيات الله على وجه العموم بالتعرض إلى إلحادهم في آيات القرآن وهو من ذكر الخاص بعد العام للتنويه بخصال القرآن وأنه ليس بعرضة لأن يكفر به بل هو جدير بأن يتقبل بالاقتداء والاهتداء بهديه، فلهذه الجملة اتصال في المعنى
بجملة {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} واتصال في الموقع بجملة {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ}
وتحديد هذين الاتصالين اختلفت فيه آراء المفسرين، وعلى اختلافهم فيهما جرى اختلافهم في موقعها من الإعراب وفي موقع أجزائها من تصريح وتقدير.
فجعل صاحب الكشاف قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} بدلا من قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} وهو يريد أنه إبدال المفرد من المفرد بدلا مطابقا أو بدل اشتمال، وأنه بتكرير العامل وهو حرف {إن} وأن كانت إعادة العامل مع البدل غير مشهور إلا في حرف الجر كما قال الرضي، فكلام الزمخشري في المفصل يقتضي الإطلاق، وإن كان أتى بمثالين عاملهما حرف جر.
وعلى هذا لقول لا يقدر خبر لأن الخبر عن المبدل منه خبر عن البدل وهو قوله {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40]
وعن أبي عمرو بن العلاء والكسائي وعمرو بن عبيد ما يقتضي إنهم يجعلون جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} جملة مستقلة لأنهم جعلوا ل {إن} خبرا. فأما أبو عمرو فقال: خبر {إن} قوله {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44]
حكي أن بلال بن أبي بردة سئل في مجلس أبي عمرو بن العلاء عن خبر {إن} فقال: لم أجد لها نفاذا، فقال له أبو عمرو: إنه منك لقريب {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} وهو يقتضي جعل الجمل التي بين اسم {إن} وخبرها جملا معترضة وهي نحو سبع. وأما الكسائي وعمرو بن عبيد فقدروا خبرا لاسم {إن} فقال الكسائي: الخبر محذوف دل عليه قوله قبله {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ} [فصلت: 40] فنقدر الخبر: يلقون في النار، مثلا. وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن الخبر، فقال عيسى: أجدت يا أبا عثمان. ويجئ على قول هؤلاء أن تكون الجملة بدلا من جملة {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} بدل اشتمال إن أريد بالآيات في قوله {فِي آيَاتِنَا} مطلق الآيات، أو بدلا مطابقا إن أريد بالآيات آيات القرآن.
وقيل الخبر قوله {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43] أي ما يقال لك فيهم إلا ما قد قلنا للرسل من قبلك في مكذبيهم، أو ما يقولون إلا كما قاله الأمم للرسل من قبلك، وما بينهما اعتراض.
والكفر بالقرآن يشمل إنكار كل ما يوصف به القرآن من دلائل كونه من عند الله وما اشتمل عليه مما خالف معتقدهم ودين شركهم وذلك بالاختلافات التي يختلفونها كقولهم: سحر، وشعر، وقول كاهن، وقول جنون ولو نشاء لقلنا مثل هذا، وأساطير الأولين، وقلوبنا في أكنة، وفي آذاننا وقر.
والأظهر أن تكون جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} الخ واقعة موقع التعليل للتهديد بالوعيد في قوله {لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 4] والمعنى: لأنهم ما أوصي إلى الرسل من قوله.
وموقع {إن} موقع فاء التعليل. وخبر {إن} محذوف دل عليه سياق الكلام.
والأحسن أن يكون تقديره بما يدل عليه جملة الحال من جلالة الذكر ونفاسته، فيكون التقدير: خسروا الدنيا والآخرة، أو استفهموا أنفسهم أو نحو ذلك مما تذهب إليه نفس السامع البليغ، ففي هذا الحذف توفير للمعاني وإيجاز في اللفظ يقوم مقام عدة جمل، وحذف خبر {إن} إذا دل عليه دليل وارد في الكلام. وأجازه سيبويه في باب ما يحسن السكوت عليه من هذه الحرف الخمسة، وتبعه الجمهور، وخالفه الفراء فشرطه بتكرر {إن} . ومن الحذف قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية في سورة الحج، [25] وأنشد سيبويه:
يا ليت أيام الصبا رواجعا
إذ روي بنصب رواجعا على الحال فلم يذكر خبر ليت
وذكر أن العرب بقولون "إن مالا وإن ولدا" أي إن لهم، وقول الأعشى:
إن محلا وإن مرتحلا
أي أن لنا في الدنيا حلولا ولنا عنها مرتحلا، إذ ليس بقية البيت وهو قوله:
وإن في السفر إذ مضوا مهلا
ما يصح وقوعه خبرا عن "إن" الأولى. وقال جميل:
وقالوا نراها يا جميل تنكرت
وغيرها الواشي فقلت لعلها وقال الجاحظ في البيان في باب من الكلام المحذوف: عن الحسن أن المهاجرين قالوا يا رسول الله إن الأنصار آوونا ونصرونا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تعرفون ذلك لهم"
قالوا: نعم، قال فإن ذلك ليس في الحديث غير هذا يريد فإن ذلك شكر ومكافأة اه. وفي المقامة الثالثة والأربعين حسبك يا شيخ فقد عرفت فنك، واستبنت أنك أي أنك أبو زيد. وقد مثل في شرح التسهيل لحذف خبر {إن} بهذه الآية.
وجملة {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ} الخ في موضع الحال من الذكر، أي كفروا به في حاله هذا، ويجوز أن تكون الجملة عطفا على جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} على تقدير خبر {إن} المحذوف. وقد أجري على القرآن ستة أوصاف ما منها واحد إلا وهو كمال عظيم:
الوصف الأول: نه ذكر، أي يذكر الناس كلهم بما يغفلون عنه مما في الغفلة عنه فوات فوزهم.
الوصف الثاني من معنى الذكر: إنه ذكر للعرب وسمعة حسنة لهم بين الأمم يخلد لهم مفخرة عظيمة وهو كونه بلغتهم ونزل بينهم كما قال تعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] وفي قوله {لَمَّا جَاءَهُمْ} إشارة إلى هذا المعنى الثاني.
الوصف الثالث: أنه كتاب عزيز، والعزيز النفيس، وأصله من العزة وهي المنعة لأن الشيء النفيس يدافع عنه ويحمى عن النبذ فإنه بين الإتقان وعلو المعاني ووضوح الحجة ومثل ذلك يكون عزيزا، والعزيز أيضا: الذي يغلب ولا يغلب، وكذلك حجج القرآن.
الوصف الرابع: أنه لا يتطرقه الباطل ولا يخالطه صريحه ولا ضمنيه، أي لا يشتمل على الباطل بحال. فمثل ذلك ب {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} والمقصود استيعاب الجهات تمثيلا لحال انتفاء الباطل عنه في ظاهره وفي تأويله بحال طرد المهاجم ليضر بشخص يأتيه من بين يديه فإن صده خاتله فأتاه من خلفه، وقد تقدم في قوله تعالى {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [لأعراف: 17].
فمعنى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ} لا يوجد فيه ولا يداخله، وليس المراد أنه لا يدعى عليه الباطل.
الوصف الخامس: أنه مشتمل على الحكمة وهي المعرفة الحقيقة لأنه تنزيل من حكيم، ولا يصدر عن الحكيم إلا الحكمة {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} فإن كلام الحكيم يأتي محكما متقنا رصينا لا يشوبه الباطل.
الوصف السادس: أنه تنزيل من حميد، والحميد هو المحمود حمدا كثيرا، أي
مستحق الحمد الكثير، فالكلام المنزل منه يستحق الحمد وإنما يحمد الكلام إذ يكون دليلا للخيرات وسائقا إليها لا مطعن في لفظه ولا في معناه، فيحمده سامعه كثيرا لأنه يجده مجبلة للخير الكثير، ويحمد قائله لا محالة خلافا للمشركين.
وفي إجراء هذه الوصاف إيماء إلى حماقة الذين كفروا بهذا القرآن وسفاهة آرائهم إذ فرطوا فيه ففرطوا في أسباب فوزهم في الدنيا وفي الآخرة ولذلك جيء بجملة الحال من الكتاب عقب ذكر تكذيبهم إياه فقال {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} الآيات.
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت:43]
{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ}
استئناف بياني جواب لسؤال يثيره قوله {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40]، وقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت: 41] وما تخلل ذلك من الوصاف فيقول سائل: فما بال هؤلاء طعنوا فيه? فأجيب بان هذه سنة الأنبياء مع أممهم لا يعدمون معاندين جاحدين يكفرون بما جاءوا به. وإذا بنيت على ما جوزته سابقا أن يكون جملة {مَا يُقَالُ} خبر {إن} [فصلت: 41] كانت خبرا وليست استئنافا.
وهذا تسلية لنبي صلى الله عليه وسلم بطريق الكناية وأمر له بالصبر على ذلك كما صبر من قبله من الرسل بطريق التعريض ولهذا الكلام تفسيران:
أحدهما: أن ما يقوله المشركون في القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم هو دأب أمثاله المعاندين من قبلهم فما صدق {مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ} هو مقالات الذين كذبوهم، أي تشابهت قلوب المكذبين فكانت مقالاتهم متماثلة قال تعالى {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات: 53]
التفسير الثاني: ما قلنا لك إلا ما قلناه للرسل من قبلك، فأنت لم تكن بدعا من الرسل فيكون لقومك بعض العذر في التكذيب ولكنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، فما صدق {مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ} هو الدين والوحي فيكون من طريقة قوله تعالى {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى:18] وكلا المعنيين وارد في القرآن فيحمل الكلام على كليهما.
وفي التعبير ب {ما} الموصولة وفي حذف فاعل القولين في قوله {مَا يُقَالُ}
وقوله {مَا قَدْ قِيلَ} نظم متين حمل الكلام هذين المعنيين العظيمين، وفي قوله {إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ} تشبيه بليغ. والمعنى: إلا مثل ما قد قيل للرسل.
واجتلاب المضارع في {مَا يُقَالُ} لإفادة تجدد هذا القول منهم وعدم ارعوائهم عنه مع ظهور ما شأنه أن يصدهم عن ذلك.
واقتران الفعل ب{قد} لتحقيق أنه قد قيل للرسل مثل ما قالت المشركون للرسول صلى الله عليه وسلم فهو تأكيد للازم الخبر وهو لزوم الصبر على قولهم. وهو منظور فيه إلى حال المردود عليهم إذ حسبوا أنهم جابهوا الرسول بما لم يخطر ببال غيرهم، وهذا على حد قوله تعالى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:52,53]
{إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}
تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعد بأن الله يغفر له. ووقوع هذا الخبر عقب قوله {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} يومئ إلى أن هذا الوعد جزاء على ما لقيه من الأذى في ذات الله وأن الوعيد للذين آذوه، فالخبر مستعمل في لازمه.
ومعنى المغفرة له: التجاوز عما يلحقه من الحزن بما يسمع من المشركين من أذى كثير. وحرف {إن} فيه لإفادة التعليل والتسبب لا للتأكد.
وكلمة {ذو} مؤذنة بأن المغفرة والعقاب كليهما من شأنه تعالى وهو يضعهما بحكمته في المواضع المستحقة لكل منهما.
ووصف العقاب ب {أليم} دون وصف آخر للإشارة إلى أنه مناسب لما عوقبوا لأجله فإنهم آلموا نفس النبي صلى الله عليه وسلم بما عصوا وآذوا.
وفي جملة {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} محسن الجمع ثم التقسيم، فقوله {مَا يُقَالُ لَكَ} يجمع قائلا ومقولا له فكان الإيماء بوصف "ذو مغفرة" إلى المقول له، ووصف {ذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} إلى القائلين، وهو جار على طرقة اللف والنشر المعكوس وقرينة ترد كلا إلى مناسبه.
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت:44]
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}
اتصال نظم الكلام من أول السورة إلى هنا وتناسب تنقلاته بالتفريع والبيان والاعتراض والاستطراد يقتضي أن قوله {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا} إلى آخره تنقل في درج إثبات أن قصدهم العناد فيما يتعللون به ليوجهوا إعراضهم عن القرآن والانتفاع بهديه بما يختلفونه عليه من الطعن فيه والتكذيب به، وتكلف الأعذار الباطلة ليتستروا بذلك من الظهور في مظهر المنهزم المحجوج، فأخذ ينقض دعاويهم عروة عروة، إذ ابتدئت السورة بتحديهم بمعجزة القرآن بقوله {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} إلى قوله {فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [فصلت:1-4] فهذا تحد لهم ووصف للقرآن بصفة الإعجاز.
ثم أخذ في لإبطال معاذيرهم ومطاعنهم بقوله {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] فإن قولهم ذلك قصدوا به أن حجة القرآن غير مقنعة لهم إغاظة منهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم تمالئهم على الإعراض بقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26]
وهو عجز مكشوف بقوله {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} [فصلت: 40] وبقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت: 41] الآيات. فأعقبها بأوصاف كمال القرآن التي لا يجدون مطعنا فيها بقوله {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] الآية.
وإذ قد كانت هذه المجادلات من أول السورة إلى هنا إبطالا لتعللاتهم، وكان عماده على أن القرآن عربي مفصل الدلالة المعروفة في لغتهم حسبما ابتدئ الكلام بقوله {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3]
وانتهي هنا بقوله {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [41,42] فقد نهضت الحجة عليهم بدلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه الجهة فانتقل إلى حجة أخرى عمادها الفرض والتقدير أن يكون قد جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم بقرآن من لغة أخرى غير لغة العرب.
ولذلك فجملة {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} معطوفة على جملة {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ
عَزِيزٌ} [فصلت: 41] على الاعتبارين المتقدمين آنفا في موقع تلك الجملة.
ومعنى الآية متفرع على ما يتضمنه قوله {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3] وقوله {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110] من التحدي بصفة الأمية كما علمت آنفا، أي لو جئناهم بلون آخر من معجزة الأمية فأنزلنا على الرسول قرآنا أعجميا، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم علم بتلك اللغة من قبل، لقلبوا معاذيرهم فقالوا: لولا بينت آياته بلغة نفهمها وكيف يخاطبنا بكلام أعجمي. فالكلام جار على طريقة الفرض كما هو مقتضى حرف {لو} الامتناعية. وهذا إبانه على أن هؤلاء القوم لا تجدي معهم الحجة ولا ينقطعون عن المعاذير لأن جدالهم لا يريدون به تطلب الحق وما هو إلا تعنت لترويج هواهم.
ومن هذا النوع في الاحتجاج قوله تعالى {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:198,199] أي لو نزلناه بلغة العرب على بعض الأعجمين فقرأه عليهم بالعربية، لاشتراك الحجتين في صفة الأمية في اللغة المفروض إنزال الكتاب بها، إلا أن تلك الآية بينت على فرض أن ينزل هذا القرآن على رسول لا يعرف العربية، وهذه الآية بنيت على فرض أن ينزل القرآن على الرسول العربي صلى الله عليه وسلم بلغة غير العربية. وفي هذه الآية إشارة إلى عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم للعرب والعجم فلم يكن عجبا أن يكون الكتاب المنزل عليه بلغة غير العرب لولا أن في إنزاله بالعربية حكمة علمها الله، فإن الله لما اصطفى الرسول صلى الله عليه وسلم عربيا وبعثه بين أمة عربية كان أحق اللغات بأن ينزل بها كتابه إليه العربية، إذ لو نزل كتابة بغير العربية لاستوت لغات الأمم كلها في استحقاق نزول الكتاب بها فأوقع ذلك تحاسد بينها بخلاف العرب إذ كانوا في عزلة عن الأمم، فلا جرم رجحت العربية لأنها لغة الرسول صلى الله عليه وسلم ولغة القوم المرسل بينهم فلا يستقيم أن يبقى القوم الذين يدعوهم لا يفقهون الكتاب المنزل إليهم.
ولو تعددت الكتب بعدد اللغات لفاتت معجزة البلاغة الخاصة بالعربية لأن العربية أشرف اللغات وأعلاها خصائص وفصاحة وحسن أداء للمعاني الكثيرة بالألفاظ الوجيزة. ثم العرب هم الذين يتولون نشر هذا الدين بين الأمم وتبيين معاني القرآن لهم.
ووقع في تفسير الطبري عن سعيد بن جبير أنه قال: قالت قريش: لولا أنزل هذا القرآن أعجميا وعربيا? فأنزل الله {فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} بهمزة واحدة على غير مذهب
الاستفهام اه. ولا أحسب هذا تأويلا لسعيد ابن جبير لأنه لم يسنده إلى راو، ولم يرو عن غير فرأى أن الآية تنبئ عن جواب كلام صدر عن المشركين المعبر عنهم بضمير {لقالوا} .
وسياق الآية ولفظها ينبو عن هذا المعنى، وكيف و {لو} الامتناعية تمتنع من تحمل هذا التأويل وتدفعه.
وأما ما ذكره في الكشاف أنهم كانوا لتعتنهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم? فقيا: لو كان كما يقترحون لم يتركوا الاعتراض والتعنت، وقالوا: لولا فصلت آياته الخ. فلم نقف على من ذكر مثله من المفسرين وأصحاب أسباب النزول وما هو إلا من صنف ما روى عن سعيد. ولو كلن كذلك لكان نظم الآية: وقالوا لولا فصلت آياته، ولم يكن على طريقة "لو" وجوابها. ولا يظن بقريش أن يقولوا ذلك إلا إذا كان على سبيل التهكم والاستهزاء.
وضمير {جعلناه} عائد إلى {الذكر} في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} [فصلت: 41].
وقوله {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} بقية ما يقولونه على فرض أن يجعل القرآن أعجميا، أي أنهم لايخلون من الطعن في القرآن على كل تقدير.
و {لولا} حرف تحضيض.
ومعنى {فصلت} هنا: بينت ووضحت، أي لولا جعلت آياته عربية نفهمها.
والواو في قوله {وعربي} للعطف بمعنى المعية. والمعنى: وكيف يلتقي أعجمي وعربي، أي كيف يكون اللفظ أعجميا والمخاطب به عربيا كأنهم يقولون: أيلقى لفظ أعجمي إلى مخاطب عربي.
ومعنى {قرآنا} كتابا مقروءا. وورد في الحديث تسمية كتاب داود عليه السلام قرآنا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن داود يسر له القرآن فكان يقرأ القرآن كله في حين يسرج له فرسه" أو كما قال.
والأعجمي: المنسوب إلى أعجم، والأعجم مشتق من العجمة وهي الإفصاح، فالأعجم: الذي لا يفصح باللغة العربية، وزيادة الياء فيه للوصف نحو: أحمري ودواري. فالأعجمي من صفات الكلام.
وأفرد {وعربي} على تأويله بجنس السامع، والمعنى: أكتاب عربي لسامعين عرب
فكان حق {عربي} أن يجمع ولكنه أفرد لأن مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب والمرسل إليهم، فاعتبر فيه الجنس دون أن ينظر إلى إفراد، أو جمع وحاصل معنى الآية: أنها تؤذن بكلام مقدر داخل في صفات الذكر، وهو أنه بلسان عربي بلغتكم إتماما لهديكم فلم تؤمنوا به وكفرتم وتعللتم بالتعللات الباطلة فلو جعلناه أعجميا لقلتم: هلا بينت لنا حتى نفهمه.
{قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ}
هذا جواب تضمنه قوله {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43] أي ما يقال من الطعن في القرآن، فجوابه: أن ذلك الذكر أو الكتاب للذين آمنوا هدى وشفاء، أي أن تلك الخصال العظيمة للقرآن حرمهم كفرهم الانتفاع بها وانتفع بها المؤمنون فكان لهم هديا وشفاء. وهذا ناظر إلى ما حكاه عنهم من قولهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] فهو إلزام لهم بحكم على أنفسهم.
وحقيقة الشفاء: زوال المرض وهو مستعار هنا للبصارة بالحقائق وانكشاف الالتباس من النفس كما يزول المرض عند حصول الشفاء، يقال: شفيت نفسه، إذا زال حرجه، قال قيس بن زهير:
شفيت النفس من حمل بن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
ونظيره قولهم: شفي غليله، وبرد غليله، فإن الكفر كالداء في النفس لأنه يوقع في العذاب ويبعث على السيئات.
وجملة {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} الخ معطوفة على جملة {هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً} فهي مستأنفة استئنافا ابتدائيا، أي وأما الذين لا يؤمنون فلا تتخلل آياته نفوسهم لأنهم كمن في آذانهم وقر دون سماعه، وهو ما تقدم في حكاية قولهم {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] ولهذا الاعتبار كان معنى الجملة متعلقا بأحوال القرآن مع الفريق غير المؤمن من غير تكلف لتقدير جعل الجملة خبرا عن القرآن.
ويجوز أن تكون الجملة خبرا ثانيا عن ضمير الذكر، أي القرآن، فتكون من مقول وكذلك جملة {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً}
والإخبار عنه ب {وقر} و {عمي} تشبيه بليغ ووجه الشبه هو عدم الانتفاع به مع سماع ألفاظه، والوقر: داء فمقابلته بالشفاء من محسن الطباق.
وضمير {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} يتبادر أنه عائد إلى الذكر أو الكتاب كما عاد ضمير
{هو} {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً} والعمى: عدم البصر، وهو مستعار هن لضد الاهتداء فمقابلته بالهدى فيها محسن الطباق.
والإسناد إلى القرآن على هذا الوجه في معاد الضمير بأنه عليهم عمى من الإسناد المجازي لأن عنادهم في قبوله كان سببا لضلالهم فكان القرآن سبب سبب، كقوله تعالى {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125]
ويجوز أن يكون ضمير {وهو} ضمير شأن تنبيها على فظاعة ضلالهم.
وجملة {عَلَيْهِمْ عَمىً} خبر ضمير الشأن، أي وأعظم من الوقر أن عليهم عمى، أي على أبصارهم عمى كقوله {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7].
وإنما علق العمى بالكون على ذواتهم لأنه لما كان عمى مجازيا تعين أن مصيبته علة أنفسهم كلها لا على أبصارهم خاصة البصائر أشد ضرا من عمى الأبصار كقوله تعالى {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
وجملة {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} خبر ثالث عن {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} والكلام تمثيل لحال إعراضهم عن الدعوة عند سماعها بحال من ينادى من مكان بعيد لا يبلغ إليه في مثله صوت المنادي على نحو قوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ} كما تقدم في سورة البقرة.[171] وتقول العرب لمن لا يفهم: أنت تنادى من مكان بعيد. والإشارة ب {أولئك} إلى {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} لقصد التنبيه على أن المشار إليهم بعد تلك الوصاف أحرياء بما سيذكر بعدها من الحكم من أجلها نظير {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5]
ويتعلق {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ب {ينادون} . وإذا كان النداء من مكان بعيد كان المنادى بالفتح في مكان بعيد لا محالة كما تقدم في تعلق {مِنَ الْأَرْضِ} بقوله {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ} [الروم: 25] أي دعاكم من مكانكم في الأرض، وبذلك يجوز أن يكون {مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} ظرفا مستقرا في موضع الحال من ضمير {ينادون} وذلك غير متأت في قوله {إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ}
[45] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ}
اعتراض بتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب المشركين وكفرهم بالقرآن بأنه ليس بأوحد في ذلك فقد أوتي موسى فاختلف الذين دعاهم في ذلك، فمنهم من آمن به ومنهم من كفر.
والمقصود الاعتبار بالاختلاف في التوراة فإنه أشد من الاختلاف في القرآن فالاختلاف في التوراة كان على نوعين: اختلاف فيها بين مؤمن بها وكافر، فقد كفر بدعوة موسى فرعون وقومه وبعض بني إسرائيل مثل قارون ومثل الذين عبدوا العجل في مغيب موسى للمناجاة، واختلاف بين المؤمنين بها اختلافا عطلوا به بعض أحكامها كما قال تعالى {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} [البقرة: 253]، وكلا الاختلافين موضع عبرة وأسوة لاختلاف المشركين في القرآن. وهذا ما عصم الله القرآن من مثله إذ قال {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] فالتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم بهذا أوقع، وهذا ناظر إلى قوله آنفا {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: 43] على الوجه الثاني من معنييه بذكر فرد من أفراد ذلك العموم وهو الأعظم الأهم.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}
هذا متعلق بالذين كذبوا بالقرآن من العرب لأن قوله {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن اله أخر القضاء بينهم وبين المؤمنين إلى أجل اقتضته حكمته، فأما قوم موسى فقد قضى بينهم باستئصال قوم فرعون، وبتمثيل الآشوريين باليهود بعد موسى، وبخراب بيت المقدس، وزوال ملك إسرائيل آخرا. وهذا الكلام داخل في إتمام التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في استبطاء النصر.
والكلمة هي كلمة الإمهال إلى يوم القيامة بالنسبة لبعض المكذبين، والإمهال إلى يوم بدر بالنسبة لمن صرعوا ببدر.
والتعبير عن الجلالة بلفظ {ربك} لما في معنى الرب من الرأفة به والانتصار له، ولما في الإضافة إلى ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم من التشريف. وكلا الأمرين تعزيز للتسلية.
ولك أن تجعل كلمة "بين" دالة على أخرى مقدرة على سبيل إيجاز الحذف. والتقدير: بينهم وبين المؤمنين، أي بما يظهر به انتصار المؤمنين،فإنه يكثر أن يقال: بين كذا وبين كذا، قال تعالى {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ: 54].
ومعنى {سبقت} أي تقدمت في علمه على مقتضى حكمته وإرادته.
والأجل المسمى: جنس يصدق بكل ما أجل به عقابهم في علم الله. وأما ضمير {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} فهو خاص بالمشركين الشاكين في البعث والشاكين في أن الله ينصر رسوله والمؤمنين.
والريب: الشك، فوصف {شك} ب {مريب} من قبيل الإسناد المجازي لقصد المبالغة بأن اشتق له من اسمه وصف كقولهم: ليل أليل! وشعر شاعر.
[46] {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46]
هذا من مكملات التسلية ومن مناسبات ذكر الأجل المسمى. وفيه معنى التذييل لأن {من} في الموضعين مفيدة للعموم سواء اعتبرت شرطية أو موصولة. ووجود الفاء في الموضعين: إما لأنهما جوابان للشرط، وإما لمعاملة الموصول معاملة الشرط وهو استعمال كثير.والمعنى: أن الإمهال إعذار لهم ليتداركوا أمرهم.
وتقدم قريب من هذه الآية في سورة الزمر، كما تقدم نظير {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} لفظا في سورة غافر.
وحرف "على" مؤذن بمؤاخذة وتحمل أعباء كما أن اللام في قوله {فلنفسه} مؤذن بالعطاء.
والخطاب في {ربك} للرسول صلى الله عليه وسلم، وفيه ما تقدم من تعزيز تسليته عند قوله آنفا {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [فصلت: 45] من العدول إلى لفظ الرب المضاف إلى ضمير المخاطب.
والمراد بنفي الظلم عن الله تعالى لعبيده: أنه لا يعاقب من ليس منهم بمجرم، لأن الله لا وضع للناس شرائع وبين الحسنات والسيئات، ووعد وأوعد فقد جعل ذلك قانونا، فصار العدول عنه إلى عقاب من ليس بمجرم ظلما إذا الظلم هو الاعتداء على حق الغير في القوانين المتلقاة من الشرائع الإلهية أو القوانين الوضعية المستخرجة من العقول الحكيمة. وأما صيغة "ظلام" المقتضية المبالغة في الظلم فهي معتبرة قبل دخول النفي على الجملة التي وقعت هي فيها كأنه قيل: ليعذب الله المسيء لكان ظلاما له وما هو بظلام، وهذا معنى قول علماء المعاني: إن النفي إذا توجه إلى كلام مقيد قد يكون النفي نفيا للقيد وقد يكون القيد قيدا في النفي ومثلوه بهذه الآية. وهذا استعمال دقيق في الكلام البليغ في نفي
الوصف المصوغ بصيغة المبالغة من تمام عدل الله تعالى أن جعل كل درجات الظلم في رتبة الظلم الشديد.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ}
كانوا إذا أنذروا بالبعث وساعته استهزأوا فسألوا عن وقتها، وكان ذلك مما يتكرر منهم، قال تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [الأعراف: 187] فلما جرى ذكر دليل إحياء الموتى وذكر إلحاد المشركين في دلالته بسؤالهم عنها استهزاء انتقل الكلام إلى حكاية سؤالهم تمهيدا للجواب عن ظاهره وتقديم المجرور على متعلقه لإفادة الحصر، أي إلى الله يفوض علم الساعة لا إلي، فهو قصر قلب. ورد عليهم بطريق الأسلوب الحكيم، أي الأجدر أن تعلموا أن لا يعلم أحد متى الساعة وأن تؤمنوا بها وتستعدوا لها. ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم وسأله رجل من المسلمين: متى الساعة? فقال له: "ماذا أعددت لها" ، أي استعدادك لها أولى بالاعتناء من أن تسأل عن وقتها.
والرد: الإرجاع وهو مستعمل لتفويض علم ذلك إلى الله والتبرؤ من أن يكون للمسؤول علم به، فكأنه جيء بالسؤال إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرده إلى الله. وفي حديث موسى مع الخضر في الصحيح فعاتب الله موسى أن لم يرد العلم إليه وقال تعالى {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} [النساء: 83] الآية. وعطف جملة {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} وما بعدها توجيه لصرف العلم بوقت الساعة إلى الله بذكر نظائر لا يعلمها الناس، وليس علم الساعة بأقرب منها فإنها أمور مشاهدة ولا يعلم تفصيل حالها إلا الله، أي فليس في عدم العلم بوقت الساعة حجة على تكذيب من أنذر بها، لأنهم قالوا { مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يّس: 48]، أي أن لم تبين لنا وقته فلست بصادق. فهذا وجه ذكر تلك النظائر، وهي ثلاثة أشياء:
أولها: علم ما تخرجه أكمام النخيل من الثمر بقدره، وجودته، وثباته أو سقوطه، وضمير {أكمامها} راجع إلى الثمرات. والأكمام: جمع كم بكسر الكاف وتشديد الميم
وهو وعاء الثمر وهو الجف الذي يخرج من النخلة محتويا على طلع الثمر.
ثانيها: حمل الأنثى من الناس والحيوان، ولا يعلم التي تلقح من التي لا تلقح إلا الله.
ثالثها: وقت وضع الأجنة فإن الإناث تكون حوامل مثقلة ولا يعلم وقت وضعها باليوم والساعة إلا الله.
وعدل عن إعادة حرف {ما} مرة أخرى للتفادي من ذكر حرف واحد ثلاث مرات لأن تساوي هذه المنفيات الثلاثة في علم الله تعالى. وفي كون أزمان حصولها سواء بالنسبة للحال وللاستقبال يسد علينا باب ادعاء الجمهور الفرق بين {ما} و"لا" في تخليص المضارع لزمان الحال مع حرف {ما} وتخليصه للاستقبال مع حرف "لا". ويؤيد رد ابن مالك عليهم فإن الحق في جانب قول ابن مالك.
وحرف {من} بعد مدخولي {ما} في الموضعين لإفادة عموم النفي ويسمى حرفا زائدا.
والباء في {بعلمه} للملابسة. وتقدم نظيره في سورة فاطر.
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم {ثمرات} بالجمع. وقرأه الباقون {ثمرة} واحدة الثمرات.
{وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ}
عطف على الجملة قبلها فإنه لما تضمن قوله {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} إبطال شبهتهم بأن عدم بيان وقتها يدل على انتفاء حصولها، وأتبع ذلك بنظائر لوقت الساعة مما هو جار في الدنيا دوما عاد الكلام إلى شأن الساعة على وجه الإنذار مقتضيا إثبات وقوع الساعة بذكر بعض ما يلقونه في يومها.
و {يوم} متعلق بمحذوف شائع حذفه في القرآن، تقديره: واذكر يوم يناديهم.
والضمير في {ينادي} عائد إلى {ربك} في قوله {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} والنداء كناية عن الخطاب العلني كقوله {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} وقد تقدم الكلام على النداء عند قوله تعالى {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} في آل عمران، وقوله {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} في سورة الأعراف [43].
وجملة {أَيْنَ شُرَكَائِي} يصح أن يكون مقول قول محذوف كما صرح به في آية أخرى {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] وحذف القول ليس بعزيز.
ويصح أن تكون مبينة لما تضمنه {يناديهم} من معنى الكلام المعلن به. وجاءت جملة {قَالُوا آذَنَّاكَ} غير معطوفة لأنها جارية على طريقة حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ} إلى قوله {مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30].
و {آذناك} أخبرناك وأعلمناك. وأصل هذا لا فعل مشتق من الاسم الجامد وهو الأذن بضم الهمزة وسكون الذال وقال تعالى {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الانبياء: 109]، وقال الحارث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء
وصيغة الماضي في {آذناك} إنشاء فهو بمعنى الحال مثل: بعت وطلقت، أي نأذنك ونقر بأنه ما منا من شهيد.
والشهيد يجوز أن يكون بمعنى المشاهد، أي المبصر، أي ما أحد منا يرى الذين كنا ندعوهم شركاءك الآن، أي لا نرى واحدا من الأصنام التي كنا نعبدها فتكون جملة {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ} في موضع الحال، والواو واو الحال. ويجوز أن يكون الشهيد بمعنى الشاهد، أي ما منا أحد يشهد أنهم شركاؤك، فيكون ذلك اعترافا بكذبهم فيما مضى، وتكون جملة {وَضَلَّ عَنْهُمْ} معطوفة على جملة {قَالُوا آذَنَّاكَ} أي قالوا ذلك ولم يجدوا واحدا من أصنامهم. وفعل {آذناك} معلق عن العمل لورود النفي بعده.
{وضل} : حقيقته غاب عنهم، أي لم يجدوا ما كانوا يدعونهم من قبل في الدنيا، قال تعالى {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف: 28] فالمراد هنا: غيبة أصنامهم عنهم وعدم وجودها في تلك الحضرة بقطع النظر عن كونها ملقاة في جهنم أو بقيت في العالم الدنيوي حين فنائه. وإذ لم يجدوا ما كانوا يزعمونه فقد علموا أنهم لا محيص لهم، أي لا ملجأ لهم من العذاب الذي شاهدوا إعداده، فالظن هنا بمعنى اليقين.
والمحيص مصدر ميمي أو اسم مكان من: حاص يحيص، إذا هرب، أي ما لهم مفر من النار.
{لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت:50]
{لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} اعتراض بين أجزاء الوعيد. والمعنى: وعلموا ما لهم من محيص. وقد كانوا إذا أصابتهم نعماء كذبوا بقيام الساعة فجملة {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} إلى قوله {قنوط} تمهيد لجملة {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا} إلخ...
وموقع هذه الآيات عقب قوله {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ} [فصلت: 47] إلخ يقتضي مناسبة في النظم داعية إلى هذا الاعتراض فتلك قاضية بأن الإنسان المخبر عنه بأنه لا يسأم من دعاء الخير وما عطف عليه هو من صنف الناس الذين جرى ذكر قصصهم قبل هذه الآية وهم المشركون، فإما أن يكون المراد فريقا من نوع الإنسان، فيكون تعريف {الإنسان} تعريف الجنس العام لكن عمومه عرفي بالقرينة وهو الممثل له في علم المعاني بقولك: جمع الأمير الصاغة. وإما أن يكون المراد إنسانا معينا من هذا الصنف فيكون التعريف تعريف العهد. كما أن الإخبار عن الإنسان بأنه يقول: ما أظن الساعة قائمة، صريح أن المخبر عنه من المشركين معينا كان أو عاما عموما عرفيا. فقيل المراد بالإنسان: المشركون كلهم، وقيل أريد به مشرك معين، قيل هو الوليد بن المغيرة، وقيل عتبة بن ربيعة. وأيا ما كان فالإخبار عن الإنسان كافر.
ومحمل الكلام البليغ يرشد إلى أن إناطة هذه الأخبار بصنف من المشركين أو بمشرك معين بعنوان إنسان يومئ بأن للجبلة الإنسانية أثرا قويا في الخلق الذي منه هذه العقيدة إلا من عصمه الله بوازع الإيمان. فأصل هذا الخلق أمر مرتكز في نفس الإنسان، وهو التوجه إلى طلب الملائم والنافع ونسيان ما عسى أن يحل به من المؤلم والضار، فبذلك يأنس بالخير إذا حصل له فيزداد من السعي لتحصيله ويحسبه كالملازم الذاتي فلا يتدبر في معطيه حتى يشكره ويسأله المزيد تخضعا، وينسى ما عسى أن يطرأ عليه من الضر
فلا يستعد لدفعه عن نفسه بسؤال الفاعل المختار أن يدفعه عنه ويعيذه منه. فأما أن الإنسان لا يسأم من دعاء الخير فمعناه: أنه لا يكتفي، فأطلق على الاكتفاء والاقتناع السآمة. وهي الملل على وجه الاستعارة بتشبيه استرسال الإنسان في طلب الخير على الدوام بالعمل الدائم الذي شأنه أن يسأم منه عامله فنفي السآمة عنه رمز للاستعارة.
وفي الحديث لو أن لابن آدم واديين من ذهب لأحب لهما ثالثا، ولو أن له ثلاثة لأحب لهما رابعا، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب ، وقال تعالى {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]
والدعاء: أصله الطلب بالقول، وهو هنا مجاز في الطلب مطلقا فتكون إضافته إلى الخير من إضافة المصدر إلى ما في معنى المفعول، أي الدعاء بالخير أو طلب الخير.ويجوز أن يكون الدعاء استعارة مكنية، شبه الخير بعاقل يسأله الإنسان أن يقبل عليه، فإضافة الدعاء من إضافة المصدر إلى مفعوله.
وأما أن الإنسان يئوس قنوط إن مسه الشر فذلك من خلق قلة صبر الإنسان على ما يتعبه ويشق عليه فيضجر إن لحقه شر ولا يوازي بين ما كان فيه من خير فيقول: لئن مسني الشر زمنا لقد حل بي الخير أزمانا، فمن الحق أن أتحمل ما أصابني كما نعمت بما كان لي من خير، ثم لا ينتظر إلى حين انفراج الشر عنه وينسى الإقبال على سؤال الله أن يكشف عنه الضر بل ييأس ويقنط غضبا وكبرا ولا ينتظر معاودة الخير ظاهرا عليه أثر اليأس بانكسار وحزن. واليأس فعل قلبي هو: اعتقاد عدم حصوله المأيوس منه.
والقنوط: انفعال يدني من أثر اليأس وهو انكسار وتضاؤل. ولم يذكر هنا أنه ذو دعاء لله كما ذكر في قوله الآتي: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] لأن المقصود أهل الشرك وهم إنما ينصرفون إلى أصنامهم.
وقد جاءت تربية الشريعة للأمة على ذم القنوط، قال تعالى حكاية عن إبراهيم {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56] وفي الحديث انتظار الفرج بعد الشدة عبادة.
فالآية وصفت خلقين ذميمين: أحدهما خلق البطر بالنعمة والغفلة عن شكر الله عليها. وثانيهما اليأس من رجوع النعمة عند فقدها. وفي نظم الآية لطائف من البلاغة.
الأولى: التعبير عن دوام طلب النعمة بعدم السآمة كما علمته.
الثانية: التعبير عن محبة الخير بدعاء الخير.
الثالثة: التعبير عن إضافة الضر بالمس الذي هو أضعف إحساس الإصابة قال تعالى {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} [الزمر: 61]
الرابعة: اقتران شرط مس الشر ب {إن} التي من شأنها أن تدخل على النادر وقوعه فإن إصابة الشر الإنسان نادرة بالنسبة لما هو مغمور به من النعم.
الخامسة: صيغة المبالغة في {يئوس} .
السادسة: إتباع {يئوس} ب {قنوط} الذي هو تجاوز إحساس اليأس إلى ظاهر البدن بالانكسار، وهو من شدة يأسه، فحصلت مبالغتان في التعبير عن يأسه بأنه اعتقاد في ضميره وانفعال في سحناته.
فالمشرك يتأصل فيه هذا الخلق ويتزايد باستمرار الزمان: والمؤمن لا تزال تربية الإيمان تكفه عن هذا الخلق حتى يزول منه أو يكاد.
ثم بينت الآية خلقا آخر في الإنسان وهو أنه إذا زال عنه كربه وعادت إليه النعمة نسي ما كان فيه من الشدة ولم يتفكر في لطف الله به فبطر النعمة، وقال: قد استرجعت خيراتي بحيلتي وتدبيري، وهذا الخير حق لي حصلت عليه، ثم إذا كان من أهل الشرك وهم المتحدث عنهم تراه إذا سمع إنذار النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الساعة أو هجس في نفسه هاجس عاقبة هذه الحياة قال لمن يدعوه إلى العمل ليوم الحساب أو قال في نفسه {مَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} ولئن فرضت قيام الساعة على احتمال ضعيف فإني سأجد عند الله المعاملة بالحسنى لأني من أهل الثراء والرفاهية في الدنيا فكذلك سأكون يوم القيامة. وهذا من سوء اعتقادهم أن يحسيوا أحوال الدنيا مقارنة لهم في الآخرة، كما حكى الله تعالى عن العاصي بن وائل حين اقتضاه خباب بن الأرث مالا له عنده من أجر صناعة سيف فقال له: حتى تكفر بمحمد? فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك، فقال: أو إني لميت فمبعوث? قال: نعم. فقال: لئن بعثني الله فسيكون لي مالي فأقضيك، فأنزل الله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} الآيات في سورة مريم.[77]
ولعل قوله {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} إنما هو على سبيل الاستهزاء كما في مقاله العاصي بن وائل. وذكر إنكار البعث هنا إدماج بذكر أحوال الإنسان المشترك في عموم أحوال الإنسان.
وجيء في حكاية قوله {وَلَئِنْ رُجِعْتُ} بحرف "إن" الشرطية التي يغلب وقوعها في الشرط المشكوك وقوعه لأنه جعل رجوعه إلى الله أمرا مفروضا ضعيف الاحتمال. وأما
والإذاقة: مجاز في مطلق الإصابة في الحس لإطماعهم أنها إصابة خفيفة كإصابة الذوق باللسان. وهذا تجريد للمجاز كما أن وصفه بالغليظ تجريد ثان فحصل من ذلك ابتداء مطمع وانتهاء مؤيس.
{وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}
هذا وصف وتذكير بضرب آخر من طغيان النفس الإنسانية غير خاص بأهل الشرك بل هو منبث في جميع الناس على تفاوت، إلا من عصم الله. وهو توصيف لنزق النفس الإنساني وقلة ثباته فإذا أصابته السراء طغا وتكبر ونسي شكر ربه نسيانا قليلا أو كثيرا وشغل بلذاته، وإذا أصابته الضراء لم يصبر وجزع ولجأ إلى ربه يلح بسؤال كشف الضر عنه سريعا. وفي ذكر هذا الضرب تعرض لفعل الله وتقديره الخلتين السراء والضراء. وهو نقد لسلوك الإنسان في الحالتين وتعجيب من شأنه. ومحل النقد والتعجيب من إعراضه ونأيه بجانبه واضح، وأما محل الانتقاد والتعجيب من أنه ذو دعاء عريض عندما يمسه الشر فهو من حيث لم يتذكر الإقبال على دعاء ربه إلا عندما يمسه الشر وكان الشأن أن لا يغفل عن ذلك في حال النعمة فيدعو بدوامها ويشكر ربه عليها وقبول شكره لأن تلك الحالة أولى بالعناية من حالة مس الضر.
وأما ما تقدم من قوله {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} إلى قوله {للحسنى} فهو وصف لضرب آخر أشد، وهو خاص بأهل الشرك لما وقع فيه من قوله {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [فصلت:50] فليس قوله {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} إلخ تكريرا مع قوله {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ} [فصلت: 49] الآية فهذا التفنن في وصف أحوال الإنسان مع ربه هو الذي دعا إلى ما اشتمل عليه قوله {وَإِذَا أَنْعَمْنَا} من بعض التكرير لما ذكر في الضرب المتقدم لزيادة تقريره، وللإشارة إلى اختلاف الحالتين باعتبار الشرك وعدمه مع اتحادهما في مثار الجملة الإنسانية، وباعتبار ما قدره الله للإنسان.
والإعراض: الانصراف عن شيء، وهو مستعار هنا للغفلة عن شكر المنعم أو التعمد لترك الشكر.
ومتعلق فعل {أعرض} محذوف لدلالة السياق عليه، والتقدير: أعرض عن دعائنا.
والنأي: البعد، وهو هنا مستعار لعدم التفكر في المنعم عليه، فشبه عدم اشتغاله بذلك بالبعد.
والجانب للإنسان: منتهى جسمه من إحدى الجهتين اللتين ليستا قبالة وجهه وظهره، ويسمى الشق، والعطف بكسر العين، والباء للتعدية. والمعنى: أبعد جانبه، كناية عن إبعاد نفسه، أي ولى معرضا غير ملتفت بوجهه إلى الشيء الذي ابتعد هو عنه.
ومعنى {مَسَّهُ الشَّرُّ} أصابه شر بسبب عادي. وعدل عن إسناد إصابة الشر إلى الله تعليما للأدب مع الله كما قال إبراهيم {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء:78] إلخ. ثم قال {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] فلم يقل: وإذا أمرضني، وفي ذلك سر وهو أن النعم والخير مسخران للإنسان في أصل وضع خلقته فهما الغالبان عليه لأنهما من مظاهر ناموس بقاء النوع. وأما الشرور والأضرار فإن معظمها ينجر إلى الإنسان بسوء تصرفه وبتعرضه إلى ما حذرته منه الشرائع والحكماء الملهمون فقلما يقع فيهما الإنسان إلا بعمله وجرأته.
والدعاء: الدعاء لله بكشف الشر عنه. ووصفه بالعريض استعارة لأن العرض بفتح العين ضد الطول، والشيء العريض هو المتسع مساحة العرض، فشبه الدعاء المتكرر الملح فيه بالثوب أو المكان العريض. وعدل عن أن يقال: فداع، إلى {ذو دعاء} لما تشعر به كلمة {ذو} من ملازمة الدعاء له وتملكه منه.
والدعاء إلى الله من شيم المؤمنين وهم متفاوتون في الإكثار منه والإقلال على تفاوت ملاحظة الحقائق الإلهية. وتوجه المشركين إلى الله بالدعاء هو أقوال تجري على ألسنتهم توارثوها من عادات سالفة من أزمان تدينهم بالحنيفية قبل أن تدخل عليهم عبادة الأصنام وتتأصل فيهم فإذا دعوا الله غفلوا عن منافاة أقوالهم لعقائد شركهم.
[52] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
استئناف ابتدائي متصل بقوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ} إلى قوله {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [فصلت: من الآية45] فهذا انتقال إلى المجادلة في شأن القرآن رجع به إلى الغرض الأصلي من هذه السورة وهو بيان حقية القرآن وصدقه وصدق من جاء به.وهذا استدعاء ليعملوا النظر في دلائل صدق القرآن مثل إعجازه وانتساقه وتأييد بعضه بعضا وكونه مؤيدا للكتب قبله، وكون تلك الكتب مؤيدة له.
والمعنى: ما أنتم عليه من إنكار صدق القرآن ليس صادرا عن نظر وتمحيص يحصل اليقين وإنما جازفتم به قبل النظر فلو تأملتم لاحتمل أن ينتج لكم التأمل أنه من عند الله وأن لا يكون من عنده، فإذا فرض الاحتمال الأول فقد أقحمتم أنفسكم في شقاق قوي. وهذا من الكلام المنصف واقتصر فيه على ذكر الحالة المنطبقة على صفاتهم تعريضا بأن ذلك هو الطرف الراجح في هذا الإجمال كأنه يقول: كما أنكم قضيتم بأنه ليس من عند الله وليس ذلك معلوما بالضرورة فكذلك كونه من عند الله فتعالوا فتأملوا في الدلائل، فهم لما أنكروا أن يكون من عند الله وصدوا أنفسهم وعامتهم عن الاستماع إليه والتدبير فيه فقد أعملوا شهوات أنفسهم وأهملوا الأخذ بالحيطة لهم بأن يتدبروه حتى يكونوا على بينة من أمرهم في شأنه، وهو إذا تدبروه لا يلبثون أن يعلموا صدقه، فاستدعاهم الله إلى النظر بطريق تجويز أن يكون من عند الله فإنه إذا جاز ذلك وكانوا قد كفروا به دون تأمل كانوا قد قضوا على أنفسهم بالضلال الشديد، وإذا كانوا كذلك فقد حقت عليهم كلمات الوعيد.
و {إن} الشرطية شأنها أن تدخل على الشرط المشكوك فيه، فالإتيان بها إرخاء للعنان معهم لاستنزال طائر إنكارهم حتى يقبلوا على التأمل في دلائل صدق القرآن. ويشبه أن يكون المقصود بهذا الخطاب والتشكيك أولا دهماء المشركين الذين لم ينظروا في دلالة القرآن أو لم يطيلوا النظر ولم يبلغوا به حد الاستدلال.
وأما قادتهم وكبراؤهم وأهل العقول منهم فهم يعلمون أنه من عند الله ولكنهم غلب عليهم حب الرئاسة على أنهم متفاوتون في هذا العلم إلى أن يبلغ بعضهم إلى حد قريب من حالة الدهماء ولكن القرآن ألقى بينهم هذا التشكيك تغليبا ومراعاة لاختلاف درجات المعاندين ومجاراة لهم ادعاءهم أنهم لم يهتدوا نظرا لقولهم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5].
و {ثم} في قوله {ثُمَّ كَفَرْتُمْ} للتراخي الرتبي لأن الكفر بما هو من عند الله أمره أخطر من كون القرآن من عند الله.
و {من} الأولى للاستفهام وهو مستعمل في معنى النفي، أي لا أضل ممن هو في شقاق بعيد إذا تحقق الشرط.
و {من} الثانية موصولة وما صدقها المخاطبون بقوله {كَفَرْتُمْ بِهِ} فعدل عن الإضمار إلى طريق الموصول لما تأذن به الصلة من تعليل أنهم أضل الضالين بكونهم
شديدي الشقاق، وذلك كناية عن كونهم أشد الخلق عقوبة لما هو معلوم من أن الضلال سبب للخسران.
والشقاق: العصيان. والمراد: عصيان أمر الله لظهور أن القرآن من عنده على هذا الفرض بيننا.
والبعيد: الواسع المسافة، واستعير هنا للتشديد في جنسه، ومناسبة هذه الاستعارة للضلال لأن الضلال أصله عدم الاهتداء إلى الطريق، وأن البعد مناسب للشقاق لأن المنشق قد فارق المنشق عنه فكان فراقه بعيدا لا رجاء معه للدنو، وتقدم في قوله {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] في سورة البقرة.
وفعل {أرأيتم } معلق عن العمل لوجود الاستفهام بعده، والرؤية علمية.
[53] {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}
أعقب الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين ما فيه تخويفهم من عواقب الشقاق على تقدير أن يكون القرآن من عند الله وهم قد كفروا به إلى آخر ما قرر آنفا، بأن وعد رسوله صلى الله عليه وسلم على سبيل التسلية والبشارة بأن الله سيغمر المشركين بطائفة من آياته ما يتبينون به أن القرآن من عند الله حقا فلا يسعهم إلا الإيمان به، أي أن القرآن حق بين غير محتاج إلى اعترافهم بحقيته، وستظهر دلائل حقيته في الآفاق البعيدة عنهم وفي قبيلتهم وأنفسهم فتتظاهر الدلائل على أنه الحق فلا يجدوا إلى إنكارها سبيلا، والمراد: أنهم يؤمنون به يومئذ مع جمع من يؤمن به.
وفي هذا الوعد للرسول صلى الله عليه وسلم تعريض بهم إذ يسمعونه على طريقة: فاسمعي يا جارة.
فموقع هذه الجملة بصريحها وتعريضها من الجملة التي قبلها موقع التعليل لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم ما أمر به، والتعليل راجع إلى إحالتهم على تشكيكهم في موقفهم للطعن في القرآن.وقد سكت عما يترتب على ظهور الآيات في الآفاق وفي أنفسهم المبينة أن القرآن حق لأن ما قبله من قوله {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت:52] ينبئ عن تقديره، أي لا يسمعهم إلا
الإيمان بأنه حق فمن كان منهم شاكا من قبل عن قلة تبصر حصل له العلم بعد ذلك، ومن كان إنما يكفر عنادا واحتفاظا بالسيادة افتضح بهتانه وسفهه جيرانه. وكلاهما قد أفات بتأخير الإيمان خيرا عظيما من خير الآخرة بما أضاعه من تزود ثواب في مدة كفره ومن خير الدنيا بما فاته من شرف السبق بالإيمان والهجرة كما قال تعالى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10].
وفي هذه الآية طرف من الإعجاز بالإخبار عن الغيب إذ أخبرت بالوعد بحصول النصر له ولدينه وذلك بما يسر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ولخلفائه من بعده في آفاق الدنيا والمشرق والمغرب عامة وفي باحة العرب خاصة من الفتوح وثباتها وانطباع الأمم بها ما لم تتيسر أمثالها لأحد من ملوك الأرض والقياصرة والأكاسرة على قلة المسلمين إن نسب عددهم إلى عدد الأمم التي فتحوا آفاقها بنشر دعوة الإسلام في أقطار الأرض، والتاريخ شاهد بأن ما تهيأ للمسلمين من عجائب الانتشار والسلطان على الأمم أمر خارق للعادة، فيتبين أن دين الإسلام هو الحق وأن المسلمين كلما تمسكوا بعرى الإسلام لقوا من نصر الله أمرا عجيبا يشهد بذلك السابق واللاحق، وقد تحداهم الله بذلك في قوله {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]
ثم قال {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43]
ولم يقف ظهور الإسلام عند فتح الممالك والغلب على الملوك والجبابرة، بل تجاوز ذلك إلى التغلغل في نفوس الأمم المختلفة فتقلدوه دينا وانبثت آدابه وأخلاقه فيهم فأصلحت عوائدهم ونظمهم المدنية المختلفة التي كانوا عليها فأصبحوا على حضارة متماثلة متناسقة وأوجدوا حضارة جديدة سالمة من الرعونة وتفشت لغة القرآن فتخاطبت بها الأمم المختلفة الألسن وتعارفت بواسطتها. ونبغت فيهم فطاحل من علماء الدين وعلماء العربية وأئمة الأدب العربي وفحول الشعراء ومشاهير الملوك الذين نشروا الإسلام في الممالك بفتوحهم.
فالمراد بالآيات في قوله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا} ما يشمل الدلائل الخارجة عن القرآن وما يشمل آيات القرآن فإن من جملة معنى رؤيتها رؤية ما يصدق أخبارها ويبين نصحها إياهم بدعتها إلى خير الدنيا والآخرة.
والآفاق: جمع أفق بضمتين وتسكن فاؤه أيضا هو: الناحية من الأرض المتميزة عن غيرها، والناحية من قبة السماء.
وعطف {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، أي وفي أفق أنفسهم، أي مكة وما حولها على حذف مضاف.
والأحسن أن يكون في الآفاق على عمومه الشامل لأفقههم، ويكون معنى {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أنهم يرون آيات صدقه في أحوال تصيب أنفسهم، أي ذواتهم مثل الجوع الذي دعا عليهم به النبي صلى الله عليه وسلم ونزل فيه قوله تعالى {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان:10]
ومثل ما شاهدوه من مصارع كبرائهم يوم بدر وقد توعدهم به القرآن بقوله {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان:16] وأية عبرة أعظم من مقتل أبي جهل يوم بدر رماه غلامان من الأنصار وتولى عبد الله بن مسعود ذبحه وثلاثتهم من ضعفاء المسلمين وهو ذلك الجبار العنيد. وقد قال عند موته: لو غير أكار قتلني، ومن مقتل أبي بن خلف يومئذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم وقد كان قال له بمكة: "أنا أقتلك" وقد أيقن بذلك فقال لزوجه ليلة خروجه إلى بدر: والله لو بصق علي لقتلني.
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
عطف على إعلام الرسول بما سيظهر من دلائل صدق القرآن وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة لتثبيت الرسول وشرح صدره بأن الله تكفل له بظهور دينه ووضوح صدقه في سائر أقطار الأرض وفي أرض قومه، على طريقة الاستفهام التقريري تحقيقا لتيقن النبي صلى الله عليه وسلم بكفالة ربه بحيث كانت مما يقرر عليها كناية عن اليقين بها، فالاستفهام تقريري.
والمعنى:تكفيك شهادة ربك بصدقك فلا تلتفت لتكذيبهم، وهذا على حد قوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء:166]
وقوله {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} [النساء: 79] فهذا وجه في موقع هذه الآية.
وهنالك وجه آخر أن يكون مساقها مساق تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يستشهد بالله على أن القرآن من عند الله، فيكون موقعها موقع القسم بإشهاد الله، وهو قسم غليظ فيه معنى نسبة المقسم عليه إلى أنه مما يشهد الله به فيكون الاستفهام إنكاريا إنكارا لعدم الاكتفاء بالقسم بالله، وهو كناية عن القسم، وعن عدم تصديقهم بالقسم، فيكون معنى الآية قريبا من معنى قوله تعالى {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الرعد: 43] وقوله تعالى {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً} [العنكبوت: 52]
وليس معنى الآية إنكارا على المشركين أنهم لم يكتفوا بشهادة الله على صدق القرآن ولا على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم غير معترفين بأن الله شهد بذلك فلا يظهر توجه الإنكار إليهم.
ولقد دلت كلمات المفسرين في تفسير هذه الآية على تردد في استخراج معناها من لفظها.
وقوله {أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} بدل اشتمال من {بربك} والتقدير: أو لم يكفهم ربك علمه بكل شيء، أي فهو يحقق ما وعدك من دمغهم بالحجة الدالة على صدقك، أو فمن استشهد به فقد صدق لأن الله لا يقر من استشهد به كاذبا فلا يلبث أن يأخذه.
وفي الآية على الوجه الثاني من وجهي قوله {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} إشارة إلى أن الله لا يصدق من كذب عليه فلا يتم له أمر وهو معنى قول أئمة أصول الدين: إن دلالة المعجزة على الصدق أن تغيير الله العادة لأجل تحدي الرسول صلى الله عليه وسلم قائم مقام قوله: صدق عبدي فيما أخبر به عني.
[54] {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ}
تذييلان للسورة وفذلكتان افتتحا بحرف التنبيه اهتماما بما تضمناه. فأما التذييل الأول فهو جماع ما تضمنته السورة من أحوال المشركين المعاندين إذ كانت أحوالهم المذكورة فيها ناشئة عن إنكارهم البعث فكانوا في مأمن من التفكير فيما بعد هذه الحياة، فانحصرت مساعيهم في تدبير الحياة الدنيا وانكبوا على ما يعود عليهم بالنفع فيها.
وضمير {إنهم} عائد إليهم كما عاد ضمير الجمع في {سنريهم} .[فصلت:53]
وأما التذييل الثاني فهو جامع لكل ما تضمنته السورة من إبطال لأقوالهم وتقويم لاعوجاجهم، لأن ذلك كله من آثار علم الله تعالى بالغيب والشهادة. وتأكيد الجملتين بحرف التأكيد مع أن المخاطب بهما لا يشك في ذلك لقصد الاهتمام بهما واستدعاء النظر لاستخراج ما تحويانه من المعاني والجزئيات.
والمرية بكسر الميم وهو الأشهر فيها واتفقت عليه القراءات المتواترة، وبكسر الميم وهو لغة مثل: خفية وخفية. والمرية: الشك. وحرف الظرفية مستعار لتمكن الشك بهم حتى كأنهم مظروفون فيه. و {من} ابتدائية وتعدى بها أفعال الشك إلى الأمر المشكوك فيه بتنزيل متعلق الفعل منزلة مثار الفعل بتشبيه المفعول بالمنشإ كأن الشك جاء من مكان هو
المشكوك فيه.
وفي تعليقه بذات الشيء مع أن الشك إنما يتعلق بالأحكام مبالغة على طريقة إسناد الأمور إلى الأعيان والمراد أوصافها، فتقدير {فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} في مرية من وقوع لقاء ربهم وعدم وقوعه كقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] أي في ريب من كونه منزلا.وأطلق الشك على جزمهم بعدم وقوع البعث لأن جزمهم خلي عن الدليل الذي يقتضيه، فكان إطلاق الشك عليه تعريضا بهم بأن الأولى بهم أن يكونوا في شك على الأقل.
ووصف الله بالمحيط مجاز عقلي لأن المحيط بكل شيء هو علمه فأسندت الإحاطة إلى اسم الله لأن "المحيط" صفة من أوصافه وهو العلم.
وبهاتين الفذلكتين آذن بانتهاء الكلام فكان من براعة الختام.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الشورىاشتهرت تسميتها عند السلف حم عسق، وكذلك ترجمها البخاري في كتاب التفسير والترمذي في جامعه، وكذلك سميت في عدة من كتب التفسير وكثير من المصاحف. وتسمى سورة الشورى بالألف واللام كما قالوا سورة المؤمن ، وبذلك سميت في كثير من المصاحف والتفاسير، وربما قالوا سورة شورى بدون ألف ولام حكاية للفظ القرآن. وتسمى سورة عسق بدون لفظ {حم} لقصد الاختصار. ولم يعدها في الإتقان في عداد السور ذات الاسمين فأكثر. ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء في تسميتها.
وهي مكية كلها عند الجمهور، وعدها في الإتقان في عداد السور المكية، وقد سبقه إلى ذلك الحسن بن الحصار في كتابه في الناسخ والمنسوخ كما عزاه إليه في الإتقان.
وعن ابن عباس وقتادة استثناء أربع آيات أولاها قوله {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] إلى آخر الأربع الآيات.
وعن مقاتل استثناء قوله تعالى {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24]. رؤي أنها نزلت في الأنصار وهي داخلة في الآيات الأربع التي ذكرها ابن عباس. وفي أحكام القرآن لابن الفرس عن مقاتل: أن قوله تعالى {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] الآية نزل في أهل الصفة فتكون مدنية، وفيه عنه أن قوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} إلى قوله {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41,39] نزل بالمدينة.
نزلت بعد سورة الكهف وقبل سورة إبراهيم وعدت التاسعة والستين في ترتيب نزول السور عند الجعبري المروي عن جابر بن زيد. وإذا صح أن آية {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] نزلت في انحباس المطر عن أهل مكة كما قال مقاتل تكون
السورة نزلت في حدود سنة ثمان بعد البعثة، ولعل نزولها استمر إلى سنة تسع بعد أن آمن نقباء الأنصار ليلة العقبة فقد قيل: إن قوله {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] أريد به الأنصار قبل الهجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وعدت آيها عند أهل المدينة ومكة والشام والبصرة خمسين، وعند أهل الكوفة ثلاثا وخمسين.
أغراض هذه السورة
أول أغراضها الإشارة إلى تحدي الطاعنين في أن القرآن وحي من الله بأن يأتوا بكلام مثله، فهذا التحدي لا تخلو عنه السور المفتتحة بالحروف الهجائية المقطعة، كما تقدم في سورة البقرة. واستدل الله على المعاندين بأن الوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كالوحي إلى الرسل من قبله لينذر أهل مكة ومن حولها بيوم الحساب. وأن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تعارض قدرته ولا يشك في حكمته، وقد خضعت له العوالم العليا ومن فيها وهو فاطر المخلوقات فهو يجتبي من يشاء لرسالته فلا بدع أن يشرع للأمة المحمدية من الدين مثل ما شرع لمن قبله من الرسل، وما أرسل الله الرسل إلا من البشر يوحي إليهم فلم يسبق أن أرسل ملائكة لمخاطبة عموم الناس مباشرة. وأن المشركات بالله لا حجة لهم إلا تقليد أئمة الكفر الذين شرعوا لهم الإشراك وألقوا إليهم الشبهات. وحذرهم يوم الجزاء واقتراب الساعة وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب مع إدماج التعريض بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة، وأنهم لو تدبروا لعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي عن الله من تلقاء نفسه لأن الله لا يقره على أن يقول عليه ما لم يقله. وذكرت دلائل الوحدانية وما هو من تلك الآيات نعمة على الناس مثل دليل السير في البحر وما أوتيه الناس من نعم الدنيا.
وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله هو متولي جزاء المكذبين وما على الرسول صلى الله عليه وسلم من حسابهم من شيء فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم. ونبههم إلى أنه لا يبتغي منهم جزاء على نصحه لهم وإنما يبتغي أن يراعوا أواصر القرابة بينه وبينهم. وذكرهم نعم الله عليهم، وحذرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم، وحرضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة والمبادرة إلى ذلك قبل الفوات، فقد فاز المؤمنون المتوكلون، ونوه بجلائل أعمالهم وتجنبهم التعرض لغضب الله عليهم. وتخلل ذلك تنبيه على آيات كثيرة من آيات انفراده تعالى بالخلق والتصرف المقتضي إنفراده بالإلهية إبطالا