كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
هذه الآية أيضا نظير ما في سورة البقرة إلا أنه عبر في هذه الآية بقوله: {اسْكُنُوا} وفي سورة البقرة [58] بقوله: {ادْخُلُوا} لأن القولين قيلا لهم، أي قيل لهم: ادخلوا واسكنوها، ففرق ذلك على القصتين على عادة القرآن في تغيير أسلوب القصص استجدادا لنشاط السامع.
وكذلك اختلاف التعبير في قوله هنا: {وَكُلُوا} وقوله في سورة البقرة [58] {فكلوا} فانه قد قيل لهم بما يرادف فاء التعقيب، كما جاء في سورة البقرة، لأن التعقيب معنى زائد على مطلق الجمع الذي تفيده واو العطف، واقتصر هنا على حكاية انه قيل لهم، وكانت آية البقرة أولى بحكاية ما دلت عليه فاء التعقيب، لأن آية البقرة سيقت مساق التوبيخ فناسبها ما هو أدل على المنة، وهو تعجيل الانتفاع بخيرات القرية.وآيات الأعراف سيقت لمجرد العبرة بقصة بني إسرائيل.
ولأجل هذا الاختلاف ميزت آية البقرة بإعادة الموصول وصلته في قوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً} [البقرة: 59] وعوض عنه هنا بضمير الذين ظلموا لان القصد في آية البقرة بيان سبب إنزال العذاب عليهم مرتين أشير إلى أولاهما بما يومئ إليه الموصول من علة الحكم، والى الثانية بحرف السببية، واقتصر هنا على الثاني.
وقد وقع في سورة البقرة [59] لفظ {فَأَنْزَلْنَا} ووقع هنا لفظ {فَأَرْسَلْنَا} ولما قيد كلاهما بقوله: {مِنَ السَّمَاءِ} كان مفادهما واحدا، فالاختلاف لمجرد التفنن بين القصتين.
وعبر هنا {بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ} وفي البقرة [59] {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} لأنه لما اقتضى الحال في القصتين تأكيد وصفهم بالظلم وأدي ذلك في البقرة بقوله: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ، استثقلت إعادة لفظ الظلم هنالك ثالثة، فعدل عنه إلى ما يفيد مفاده، وهو الفسق، وهو أيضا أعم، فهو انسب بتذييل التوبيخ، وجيء هنا بلفظ {يَظْلِمُونَ} لئلا يفوت تسجيل الظلم عليهم مرة ثالثة، فكان تذييل آية البقرة أنسب بالتغليط في ذمهم لان مقام التوبيخ يقتضيه.
ووقع في هذه الآية {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} ولم يقع لفظ {مِنْهُمْ} في سورة البقرة، ووجه زيادتها هنا التصريح بأن تبديل القول لم يصدر من جميعهم، وأجمل ذلك في سورة البقرة لان آية البقرة لما سيقت مساق التوبيخ ناسب إرهابهم بما يوهم أن الذين فعلوا ذلك هم جميع القوم لان تبعات بعض القبيلة تحمل على جماعتها.
وقدم في سورة البقرة قوله: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} على قوله: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة: 58] وعكس هنا وهو اختلاف في الإخبار لمجرد التفنن، فان كلا القولين واقع قدم أو أخر.
وذكر في البقرة [58] {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً} ولم يذكر وصف رغدا هنا وإنما حكي في سورة البقرة لان زيادة المنة ادخل في تقوية التوبيخ.
وجملة {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لان قوله: {تَُغْفِرْ لَكُمْ} في مقام الامتنان بإعطاء نعم كثيرة مما يثير سؤال سائل يقول: وهل الغفران هو قصارى جزائهم? فأجيب بأن بعده زيادة الأجر على الإحسان، أي على الامتثال.
وفي نظير هذه الآية من سورة البقرة ذكرت جملة {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} معطوفة بالواو على تقدير: قلنا لهم ذلك وقلنا لهم سنزيد المحسنين، فالواو هنالك لحكاية الاقوال، فهي من الحكاية لا من المحكي أي قلنا وقلنا سنزيد.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب {تَُغْفِرْ} بمثناة فوقية مبنيا للمجهول، و {خَطِيئَاتِكُمْ} بصيغة جمع السلامة للمؤنث وقرأه ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: {نَغْفِرْ} بالنون مبنيا للفاعل وخطيئاتكم بصيغة جمع المؤنث السالم أيضا وقرأه أبو عمرو {نَغْفِرْ} بالنون و {خَطَايَاكُمْ} بصيغة جمع التكسير، مثل آية البقرة، وقرأ ابن عامر: {تَُغْفِرْ} بالفوقية وخطيئتكم بالإفراد.
والاختلاف بينها وبين آية البقرة في قراءة نافع ومن وافقه: تفنن في حكاية القصة.
[163] {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .
غير أسلوب الخبر عن بني إسرائيل هنا: فابتدئ ذكر هذه القصة بطلب أن يسال سائل بني إسرائيل الحاضرين عنها، فنعلم من ذلك أن لهذه القصص الآتية شأنا غير شأن القصص الماضية، ولا أحسب ذلك إلا من أجل أن هذه القصة ليست مما كتب في توراة اليهود ولا في كتب أنبيائهم، ولكنها مما كان مرويا عن أحبارهم، ولذلك افتتحت بالأمر بسؤالهم عنها، لإشعار يهود العصر النبوي بأن الله أطلع نبيه عليه الصلاة والسلام عليها،
وهو كانوا يكتمونها، وذلك أن الحوادث التي تكون مواعظ للامة فيما اجترحته من المخالفات والمعاصي تبقي لها عقب الموعظة أثرا قد تعير الأمة به، ولكن ذلك التعبير لا يؤبه به في جانب ما يحصل من النفع لها بالموعظة، فالأمة في خويصتها لا يهتم قادتها ونصحاؤها إلا بإصلاح الحال، وان كان في ذكر بعض تلك الأحوال غضاضة عندها وامتعاض، فإذا جاء حكم التاريخ العام بين الأمم تناولت الأمم أحوال تلك الأمة بالحكم لها وعليها، فبقيت حوادث فلتاتها مغمزا عليها ومعرة تعير بها.وكذلك كان شأن اليهود لما أضاعوا ملكهم ووطنهم وجاوروا أمما أخرى فأصبحوا يكتمون عن أولئك الجيرة مساوي تاريخهم، حتى أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم فعلمه من أحوالهم ما فيه معجزة لأسلافهم، وما بقي معرة لاخلافهم، وذلك تحد لهم، ووخز على سوء تلقيهم الدعوة المحمدية بالمكر والحسد.
فالسؤال هنا في معنى التقرير لتقريع بني إسرائيل وتوبيخهم وعد سوابق عصيانهم، أي ليس عصيانهم إياك ببدع فان ذلك شنشنة قديمة فيهم، وليس سؤال الاستفادة لان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اعلم بذلك من جانب ربه تعالى.وهو نظير همزة الاستفهام التقريري فوزان {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} وزان: أعدوتم في السبت، فان السؤال في كلام العرب على نوعين اشهرهما أن يسأل السائل عما لا يعلمه ليعلمه، والآخر أن يسأل على وجه التقرير حين يكون السائل يعلم حصول المسؤول عنه، ويعلم المسؤول أن السائل عالم وانه إنما سأله ليقرره.
وجملة {وَاسْأَلْهُمْ} عطف على جملة {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} [الأعراف: 161] واقعة معترضة بين قصص الامتنان وقصص الانتقام الآتية في قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ} [الأعراف: 168]، ومناسبة الانتقال إلى هذه القصة أن في كلتا القصتين حديثا يتعلق بأهل قرية من قرى بني إسرائيل.
وتقدم ذكر القرية عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} الآية من سورة البقرة [65].
وهذه القرية قيل أيلة وهي المسماة اليوم العقبة وهي مدينة على ساحل البحر الأحمر قرب شبه جزيرة طورسينا، وهي مبدأ أرض الشام من جهة مصر، وكانت من مملكة إسرائيل في زمان داود عليه السلام، ووصفت بأنها حاضرة البحر بمعنى الاتصال بالبحر والقرب منه، لان الحضور يستلزم القرب، وكانت أيلة متصلة بخليج من البحر
الأحمر وهو القلزم.
وقيل هي طبرية وكانت طبرية تدعى بحيرة طبرية، وقد قال المفسرون: أن هذه القصة التي أشير إليها في هذه الآية كانت في مدة داود.
وأطلقت القرية على أهلها بقرينة قوله: {إِذْ يَعْدُونَ} أي أهلها.
والمراد السؤال عن اعتدائهم في السبت بقرينة قوله {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} الخ فقوله: {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} بدل اشتمال من القرية وهو المقصود بالحكم، فتقدير الكلام: واسألهم إذ يعدو أهل القرية في السبت.و {إِذْ} فيه اسم زمان للماضي، وليست ظرفا.
والعدوان الظلم ومخالفة الحق، وهو مشتق من العدو بسكون الدال وهو التجاوز.
والسبت علم لليوم الواقع بعد يوم الجمعة، وتقدم عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ} في سورة النساء[154].
واختيار صيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم.
وتعدية فعل {يَعْدُونَ} إلى {فِي السَّبْتِ} مؤذن بأن العدوان لأجل يوم السبت، نظرا إلى ما دلت عليه صيغة المضارع من التكرير المقتضي أن عدوانهم يتكرر في كل سبت، ونظرا إلى أن ذكر وقت العدوان لا يتعلق به غرض البليغ ما لم يكن لذلك الوقت مزيد اختصاص بالفعل فيعلم أن الاعتداء كان منوطا بحق خاص بيوم السبت، وذلك هو حق عدم العمل فيه، إذ ليس ليوم السبت حق في شريعة موسى سوى انه يحرم العمل فيه، وهذا العمل هو الصيد كما تدل عليه بقية القصة.
وهدف {فِي} للظرفية لان العدوان وقع في شأن نقض حرمة السبت.
وقوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ} ظرف ل {يَعْدُونَ} أي يعدون حين تأتيهم حيتانهم.
والحيتان جمع حوت، وهو السمكة، ويطلق الحوت على الجمع فهو مما استوى فيه المفرد والجمع مثل فلك، وأكثر ما يطلق الحوت على الواحد، والجمع حيتان.
وقوله {شُرَّعاً} وهو جمع شارع، صفة للحوت الذي هو المفرد، قال ابن عباس: أي ظاهرة على الماء، يعني انها قريبة من سطح البحر آمنة من أن تصاد، أي أن الله ألهمها ذلك لتكون آية لبني إسرائيل على أن احترام السبت من العمل فيه هو من أمر الله،
وقال الضحاك {شُرَّعاً} متتابعة مصطفة، أي فهو كناية عن كثرة ما يرد منها يوم السبت.
وأحسب أن ذلك وصف من شرعت الإبل نحو الماء أي دخلت لتشرب، وهي إذا شرعها الرعاة تسابقت إلى الماء فاكتظت وتراكمت وربما دخلت فيه، فمثلت هيئة الحيتان، في كثرتها في الماء بالنعم الشارعة إلى الماء وحسن ذلك وجود الماء في الحالتين وهذا أحسن تفسيرا.
والمعنى: أنهم يعدون في السبت ولم يمتثلوا أمر الله بترك العمل فيه، ولا اتعظوا بآية إلهام الحوت أن يكون آمنا فيه.
وقوله: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ} يجوز أن يكون لفظ سبت مصدر سبت إذا قطع العمل بقرينة ظاهر قوله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ} فانه مضارع سبت، فيتطابق المثبت والمنفي فيكون المعنى: انهم إذا حفظوا حرمة السبت، فأمسكوا عن الصيد في يوم السبت، جاءت الحيتان يومئذ شرعا آمنة، وإذا بعثهم الطمع في وفرة الصيد فأعدوا له، آلاته وعزموا على الصيد لم تأتهم.
ويجوز أن يكون لفظ {سَبْتِهِمْ} بمعنى الاسم العلم لليوم المعروف بهذا الاسم من أيام الاسبوع، وأضافته إلى ضميرهم اختصاصه بهم بما أنهم يهود، تعريضا بهم لاستحلالهم حرمة السبت فإن الاسم العلم قد يضاف بهذا القصد، كقول أحد الطائين:
علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ... بأبيض ماضي الشفرتين يمان
وقول ربيعة بن ثابت الأسدي:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم1
وعلى الوجهين يجوز في قوله: {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ} أن يكون المعنى والأيام التي لا يحرم العمل فيها، أي أيام الأسبوع، لا تأتي فيها الحيتان، وان يكون المعنى وأيام السبوت التي استحلوها فلم يكفوا عن الصيد فيها ينقطع فيها إتيان الحيتان، ولا يخفى أن لا يثار هذا الأسلوب في التعبير عن السبت خصوصية بلاغية، ترمي إلى إرادة كلا المعنيين.
ـــــــتـ
1 يزيد سليم هو ابن أسيد السلمي والي مصر لأبي جعفر المنصور ويزيد بن حاتم الأزدي من آل المهلب بن أبي صفر أمير مصر وأفريقية لأبي جعفر المنصور
فالمقصود من الآية الموعظة والعبرة وليست منة عليهم، وقرينته قوله تعالى: {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} أي نمتحن طاعتهم بتعريضهم لداعي العصيان وهو وجود المشتهى الممنوع.
وجملة {كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال من يقول: ما فائدة هذه الآية مع علم الله بأنهم لا يرعوون عن انتهاك حرمة السبت.
والإشارة إلى البلوى الدال عليها {نَبْلُوهُمْ} أي مثل هذا الابتلاء العظيم نبلوهم وقد تقدم القول في نظيره من قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
وأصل البلوى الاختبار والبلوى إذا أسندت إلى الله تعالى كانت مجازا عقليا أي ليبلو الناس تمسكهم بشرائع دينهم.
والباء للسببية و"ما" مصدرية، أي بفسقهم، أي توغلهم في العصيان أضرارهم على الزيادة منه، فإذا عرض لهم داعيه خفوا إليه ولم يرقبوا أمر الله تعالى.
[166,164] {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ}.
جملة {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ} عطف على قوله: {إِذْ يَعْدُونَ} والتقدير: واسأل بني إسرائيل إذ قالت أمة منهم، فإذ فيه اسم زمان للماضي، وليست ظرفا، ولها حكم {إِذْ} اختها، المعطوفة هي عليها، فالتقدير: واسألهم عن وقت قالت أمة، أي عن زمن قول أمة منهم، والضمير المجرور بمن عائد إلى ما عاد إليه ضمير {اسْأَلْهُمْ} وليس عائدا إلى القرية، لأن المقصود توبيخ بني إسرائيل كلهم، فان كان هذا القول حصل في تلك القرية كما ذكروه المفسرون كان غير منظور إلى حصوله في تلك القرية، بل منظورا إليه بأنه مظهر آخر من مظاهر عصيانهم وعتوهم وقلة جدوى الموعظة فيهم، وان ذلك شأن معلوم منهم عند علمائهم وصلحائهم، ولذلك لما عطفت هذه القصة أعيد معها لفظ اسم الزمان فقيل {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ} ولم يقل: وقالت أمة.
والأمة الجماعة من الناس المشتركة في هذا القول، قال المفسرون: أن أمة من بني إسرائيل كانت دائبة على القيام بالموعظة والنهي عن المنكر، وأمة كانت قامت بذلك ثم أيست من اتعاظ الموعوظين وأيقنت أن قد حقت على الموعوظين المصمين آذانهم كلمة العذاب، وأمة كانت سادرة في غلوائها، لا ترعوي عن ضلالتها، ولا ترقب الله في أعمالها.
وقد أجملت الآية مما كان من الأمة القائلة إيجازا في الكلام، اعتمادا على القرينة لأن قولهم: {اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} يدل على أنهم كانوا منكرين على الموعوظين.وانهم ما علموا أن الله مهلكهم إلا بعد أن مارسوا أمرهم، وسبروا غورهم، ورأوا أنهم لا تغني معهم العظات، ولا يكون ذلك إلا بعد التقدم لهم بالموعظة.وبقرينة قوله بعد ذلك: {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} إذ جعل الناس فريقين، فعلمنا أن القائلين من الفريق الناجي، لأنهم ليسوا بظالمين.وعلمنا أنهم ينهون عن السوء.
وقد تقدم ذكر الوعظ عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء [63] وعند قوله آنفا: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في هذه السورة [145].
واللام في {لِمَ تَعِظُونَ} للتعليل، فالمستفهم عنه من نوع العلل، والاستفهام إنكاري في معنى النفي، فيدل على انتفاء جميع العلل التي من شأنها أن يوعظ لتحصيلها.وذلك يفضي إلى اليأس من حصول اتعاظهم، والمخاطب بـ {تَعِظُونَ} أمة أخرى.
ووصف القوم بان الله مهلكهم: مبني على أنهم تحققت فيهم الحال التي اخبر الله بأنه يهلك أو يعذب من تحققت فيه، وقد أيقن القائلون بأنها قد تحققت فيهم وأيقن المقول لهم بذلك حتى جاز أن يصفهم القائلون للمخاطبين بهذا الوصف الكاشف لهم بأنهم موصوفون بالمصير إلى أحد الوعيدين.
واسما الفاعل في قوله: {مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} مستعملان في معنى الاستقبال بقرينة المقام، وبقرينة التردد بين الإهلاك والعذاب، فإنها تؤذن بان أحد الأمرين غير معين الحصول، لأنه مستقبل ولكن لا يخلو حالهم عن أحدهما.
وفصلت جملة {قَالُوا} لوقوعها في سياق المحاورة، كما تقدم غير مرة أي قال المخاطبون ب {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} الخ.
والمعذرة بفتح الميم وكسر الذال مصدر ميمي لفعل اعتذر على غير قياس،
ومعنى اعتذر اظهر العذر بضم العين وسكون الذال والعذر السبب الذي تبطل به المؤاخذة بذنب أو تقصير، فهو بمنزلة الحجة التي يبديها المؤاخذ بذنب.ليظهر انه بريء مما نسب إليه، أو متأول فيه، ويقال: عذره إذا قبل عذره وتحقق براءته، ويعدى فعل الاعتذار بإلى لما فيه من معنى الإنهاء والإبلاغ.
وارتفع {مَعْذِرَةً} على أنه خبر لمبتدأ محذوف دل عليه قول السائلين: {لِمَ تَعِظُونَ} والتقدير موعظتنا معذرة منا إلى الله.
وبالرفع قرأ الجمهور، وقرأه حفص عن عاصم بالنصب على المفعول لأجله أي وعظناهم لأجل المعذرة.
وقوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} علة ثانية للاستمرار على الموعظة أي رجاء لتأثير الموعظة فيهم بتكرارها.
فالمعنى: أن صلحاء القوم كانوا فريقين، فريق منهم أيس من نجاح الموعظة وتحقق حلول الوعيد بالقوم، لتوغلهم في المعاصي، وفريق لم ينقطع رجاؤهم من حصول أثر الموعظة بزيادة التكرار، فأنكر الفريق الأول على الفريق الثاني استمرارهم على كلفة الموعظة، واعتذر الفريق الثاني بقولهم: {مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} فالفريق الأول أخذوا بالطرف الراجح الموجب للظن، والفريق الثاني أخذوا بالطرف المرجوح جمعا بينه وبين الراجح لقصد الاحتياط، ليكون لهم عذرا عند الله أن سألهم لماذا أقلعتم عن الموعظة ولما عسى أن يحصل من تقوى الموعوظين بزيادة الموعظة.فاستعمال حرف الرجاء في موقعه، لأن الرجاء يقال على جنسه بالتشكيك فمنه قوي ومنه ضعيف.
وضمير {نَسُوا} عائد إلى {قَوْماً} والنسيان مستعمل في الإعراض المفضي إلى النسيان كما تقدم عند قوله تعالى {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} في سورة الأنعام[44].
و {الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} هم الفريقان المذكوران في قوله آنفا: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} إلى قوله: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} ، و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم القوم المذكورون في قوله: {قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ} إلخ.
والظلم هنا بمعنى العصيان، وهو ظلم النفس وظلم حق الله تعالى في عدم الامتثال لأمره.
و {بَئِيسٍ} قرأه نافع وأبو جعفر بكسر الباء الموحدة مشبعة بياء تحتية ساكنة وبتنوين
السين على أن اصله بئس بسكون الهمزة فخففت الهمزة ياء مثل قولهم ذيب في ذئب.
وقرأه ابن عامر {بَئِيسٍ} بالهمزة الساكنة وإبقاء التنوين على أن أصله بئيس.
وقرأه الجمهور بئيس بفتح الموحدة وهمزة مكسورة بعدها تحتية ساكنة وتنوين السين على أنه مثال مبالغة من فعل بؤس بفتح الموحدة وضم الهمزة إذا أصابه البؤس، وهو الشدة من الضر.أو على انه مصدر مثل عذير ونكير.
وقرأه أبو بكر عن عاصم {بَئِيسٍ} بوزن صقيل، على أنه اسم للموصوف بفعل البؤس مبالغة، والمعنى، على جميع القراءات: أنه عذاب شديد الضر.
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} تقدم القول في نظيره قريبا.
وقد أجمل هذا العذاب هنا، فقيل هو عذاب غير المسخ المذكور بعده وهو عذاب أصيب به الذين نسوا ما ذكروا به، فيكون المسخ عذابا ثانيا أصيب به فريق شاهدوا العذاب الذي حل بإخوانهم، وهو عذاب أشد، وقع بعد العذاب البيس، أي أن الله اعذر إليهم فابتدأهم بعذاب الشدة فلما لم ينتهوا وعتوا سلط عليهم عذاب المسخ.
وقيل العذاب البئس هو المسخ، فيكون قوله: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} بيانا لإجمال العذاب البئس، ويكون قوله {فَلَمَّا عَتَوْا} بمنزلة التأكيد لقوله: {فَلَمَّا نَسُوا} صيغ بهذا الأسلوب لتهويل النسيان والعتو، ويكون المعنى: أن النسيان، وهو الإعراض، وقع مقارنا للعتو.
و {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} و {مَا نُهُوا عَنْهُ} ما صدقهما شيء واحد، فكان مقتضى الظاهر أن يقال: فلما نسوا وعتوا عما نهوا عنه وذكروا به قلنا لهم الخ فعدل عن مقتضى الظاهر إلى هذا الأسلوب من الإطناب لتهويل أمر العذاب، وتكثير أشكاله، ومقام التهويل من مقتضيات الإطناب وهذا كإعادة التشبيه في قول لبيد:
فننازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع أسنامها
ولكن أسلوب الآية أبلغ وأوفر فائدة، وأبعد عن التكرير اللفظي، فما في بيت لبيد كلام بليغ، وما في الآية كلام معجز.
و"العتو" تقدم عند قوله تعالى {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} في هذه السورة [77].
وقوله {قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} تقدم القول في نظيره عند قوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} في سورة البقرة [65]، ولأجل التشابه بين الآيتين، وذكر العدو في السبت فيهما، وذكره هنا في الأخبار عن القرية، جزم المفسرون بأن الذين نسوا ما ذكروا به وعتوا عما نهوا عنه هم أهل هذه القرية، وبان الأمة القائلة {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً} هي أمة من هذه القرية فجزموا بأن القصة واحدة، وهذا وإن كان لا ينبو عنه المقام كما أنه لا يمنع تشابه فريقين في العذاب، فقد بينت أن ذلك لا ينافي جعل القصة في معنى قصتين من جهة الاعتبار.
[167] {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
عطف على جملة {وَاسْأَلْهُمْ} [الأعراف: 163] بتقدير اذكر، وضمير {عَلَيْهمْ} عائد إلى اليهود المتقدم ذكرهم بالضمير الراجع إليهم بدلالة المقام في قوله تعالى {وَاسْأَلْهُمْ} [الأعراف: 163] كما تقدم بيان ذلك كله مستوفى عند قوله {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ} [الأعراف: 163] فالمتحدث عنهم بهذه الآية لا علاقة لهم بأهل القرية الذين عدوا في السبت.
و {تَأَذَّنَ} على اختلاف إطلاقاته ومما فيه هنا مشتق من الإذن وهو العلم، يقال أذن أي علم، وأصله العلم بالخبر لأن مادة هذا الفعل وتصاريفه جائية من الإذن، اسم الجارحة التي هي آلة السمع، فهذه التصاريف مشتقة من الجامد نحو استحجر الطين أي صار حجرا، واستنسر البغاث أي صار نسرا.فتأذن: بزنة تفعل الدالة على مطاوعة فعل، والمطاوعة مستعملة في معنى قوة حصول الفعل، فقيل هو هنا بمعنى أفعل كما يقال توعد بمعنى أوعد فمعنى {تَأَذَّنَ رَبُّكَ} أعلم وأخبر ليبعثن، فيكون فعل أعلم معلقا عن العمل بلام القسم، والى هذا مال الطبري، قال ابن عطية وهذا قلق من جهة التصريف إذ نسبة تأذن إلى الفاعل غير نسبة أعلم ويتبين ذلك من التعدي وغيره.وعن مجاهد: {تَأَذَّنَ} تألى قال في الكشاف معناه عزم ربك، لأن العازم على الأمر يحدث نفسه به أراد أن إشرابه معنى القسم ناشئ عن مجاز فأطلق التأذن على العزم لان العازم على الأمر يحدث به نفسه، فهو يؤذنها بفعله فتعزم نفسه، ثم أجرى مجرى فعل القسم مثل علم
الله، وشهد الله.ولذلك أجيب بما يجاب به القسم.قال ابن عطية وقادهم إلى هذا القول دخول اللام في الجواب وأما اللفظة فبعيدة عن هذا وعن ابن عباس {تَأَذَّنَ رَبُّكَ} قال ربك يعني أن الله أعلن ذلك على لسان رسله.
وحاصل المعنى: أن الله أعلمهم بذلك وتوعدهم به وهذا كقوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} في سورة إبراهيم [7].
ومعنى البعث الإرسال وهو هنا مجاز في التقييض والإلهام وهو يؤذن بأن ذلك في أوقات مختلفة وليس ذلك مستمرا يوما فيوما، ولذلك اختير فعل {لَيَبْعَثَنَّ} دون نحو ليلزمنهم، وضمن معنى التسليط فعدي بعلى كقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا} [الاسراء: 5] وقوله: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} [الأعراف: 133].
و {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} غاية لما في القسم من معنى الاستقبال، وهي غاية مقصود منها جعل أزمنة المستقبل كله ظرفا للبعث، لإخراج ما بعد الغاية، وهذا الاستغراق لأزمنة البعث أي أن الله يسلط عليهم ذلك في خلال المستقبل كله، والبعث مطلق لا عام.
و {يَسُومُهُمْ} يفرض عليهم، وحقيقة السوم انه تقدير العوض الذي يستبدل به الشيء، واستعمل مجازا في المعاملة اللازمة بتشبيهها بالسوم المقدر للشيء، وقد تقدم في سورة البقرة [49] {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} وتقدم في هذه السورة نظيره، فالمعنى يجعل سوء العذاب كالقيمة لهم فهو حظهم.
وسوء العذاب أشده لأن العذاب كله سوء فسوءه الأشد فيه.
والآية تشير إلى وعيد الله إياهم بأن يسلط عليهم عدوهم كلما نقضوا ميثاق الله تعالى، وقد تكرر هذا الوعيد من عهد موسى عليه السلام إلى هلم جرا كما في سفر التثنية في الثامن والعشرين ففيه إن لم تحرص لتعمل بجميع كلمات هذا الناموس....ويبددك الله في جميع الشعوب وفي تلك الأمم لا تطمئن وترتعب ليلا ونهارا ولا تأمن على حياتك وفي سفر يوشع الإصحاح 23 لتحفظوا وتعملوا كل المكتوب في سفر شريعة موسى ولكن إذا رجعتم ولصفتم ببقية هؤلاء الشعوب اعلموا يقينا أن الله يجعلهم لكم سوطا على جنوبكم وشوكا في أعينكم حتى تبيدوا حينما تتعدون عهد الرب إلهكم.
وأعظم هذه الوصايا هي العهد باتباع الرسول الذي يرسل إليهم، كما تقدم، ولذلك كان قوله: { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} معناه ما داموا على
إعراضهم وعنادهم وكونهم أتباع ملة اليهودية مع عدم الوفاء بها، فإذا أسلموا وآمنوا بالرسول النبي الأمي فقد خرجوا عن موجب ذلك التأذن ودخلوا فيما وعد الله به المسلمين.
ولذلك ذيل هذا بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ} أي لهم، والسرعة تقتضي التحقق، أي أن عقابه واقع وغير متأخر، لأن التأخر تقليل في التحقق إذ التأخر استمرار العدم مدة ما.
وأول من سلط عليهم بختنصر ملك بابل، ثم توالت عليهم المصائب فكان أعظمها خراب أرشليم في زمن ادريانوس انبراطور رومة ولم تزل المصائب تنتابهم وينفس عليهم في فترات معروفة في التاريخ.
وأما قوله: {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فهو وعد بالإنجاء من ذلك إذا تأبوا واتبعوا الإسلام، أي لغفور لمن تاب ورجع إلى الحق، وفيه إيماء إلى أن الله قد ينفس عليهم في فترات من الزمن لأن رحمة الله سبقت غضبه، وقد ألم بمعنى هذه الآية قوله تعالى {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [الاسراء: 4, 8].
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} .
عطف قصة على قصة وهو عود إلى قصص الإخبار عن أحوالهم، فيجوز أن يكون الكلام إشارة إلى تفرقهم بعد الاجتماع، والتقطيع التفريق، فيكون محمودا مثل {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} [لأعراف: 160]، ويكون مذموما، فالتعويل على القرينة لا على لفظ التقطيع.
فالمراد من الأرض الجنس أي في أقطار الأرض.
و {أُمَماً} جمع أمة بمعنى الجماعة، فيجوز أن يكون المراد هنا تقطيعا مذموما أي تفريقا بعد اجتماع أمتهم فيكون إشارة إلى اسر بني إسرائيل عندما غزا مملكة إسرائيل شلمناصر ملك بابل، ونقلهم إلى جبال أنشور وارض بابل سنة 721 قبل الميلاد.ثم أسر بختنصر مملكة يهوذا وملكها سنة 578 قبل الميلاد، ونقل اليهود من ارشليم ولم يبق إلا الفقراء والعجز.ثم عادوا إلى ارشليم سنة 530 وبنوا البيت المقدس إلى أن أجلاهم طيطوس الروماني وخرب بيت المقدس في أوائل القرن الثاني بعد الميلاد، فلم تجتمع أمتهم بعد ذلك فتمزقوا أيدي سبأ.
ووصف الأمم بأنهم {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} إيذان بان التفريق شمل المذنبين وغيرهم، وان الله جعل للصالحين منزلة إكرام عند الأمم التي حلوا بينها كما دل عليه قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} .
وشمل قوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ} كل من لم يكن صالحا على اختلاف مراتب فقدان الصلاح منهم.
و {الصَّالِحُونَ} هم المتمسكون بشريعة موسى والمصدقون للأنبياء المبعوثين من بعده والمؤمنون بعيسى بعد بعثته.وأن بني إسرائيل كانوا بعد بعثة عيسى غير صالحين إلا قليلا منهم: الذين آمنوا به، وزادوا بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعدم إيمانهم به، بعدا عن الصلاح إلا نفرا قليلا منهم مثل عبد الله بن سلام، ومخيريق.
وانتصب {دُونَ ذَلِكَ} على الظرفية وصفا لمحذوف دل عليه قوله: {مِنْهُمُ} أي ومنهم فريق دون ذلك، ويجوز أن تكون "من" بمعنى بعض اسما عند من يجوز ذلك، فهي مبتدأ، و {دُونَ} خبر عنه.
ويحتمل أن تكون الآية تشير إلى تفريقهم في الأرض في مدة ملوك بابل، وانهم كانوا في مدة إقامتهم ببابل {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} مثل دانيال وغيره، ومنهم دون ذلك، لان التقسيم بمنهم مشعر بوفرة كلا الفريقين.
وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ} أي أظهرنا مختلف حال بني إسرائيل في الصبر والشكر، أو في الجزع والكفر، بسبب الحسنات والسيئات، فهي جمع حسنة وسيئة بمعنى التي تحسن والتي تسوء، كما تقدم في قوله {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} [لأعراف: 131] وعلى هذا يكون الحسنات
والسيئات تفصيلا للبلوى، فالحسنات والسيئات من فعل الله تعالى، أي بالتي تحسن لفريق الصالحين وبالتي تسوء فريق غيرهم، توزيعا لحال الضمير المنصوب في قوله: {بَلَوْنَاهُمْ} .
وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} استئناف بياني أي رجاء أن يتوبوا أي حين يذكرون مدة الحسنات والسيئات، أو حين يرون حسن حال الصالحين وسوء حال من هم دون ذلك، على حسب الوجهين المتقدمين.
والرجوع هنا الرجوع عن نقض العهد وعن العصيان، وهو معنى التوبة.هذا كله جري على تأويل المفسرين الآية في معنى {قَطَّعْنَاهُمُ} .
ويجوز عندي أن يكون قوله: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً} ، عودا إلى أخبار المنن عليهم، فيكون كالبناء على قوله {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} [الأعراف: 160]، فيكون تقطيعا محمودا.والمراد بالأرض: أرض القدس الموعودة لهم أي لكثرناهم فعمروها جميعها، فيكون ذكر الأرض هنا دون آية {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً} [الأعراف: 160]للدلالة على أنهم عمروها كلها، ويكون قوله {مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ} إنصافا لهم بعد ذكر أحوال عدوان جماعاتهم وصم آذانهم عن الموعظة، وقوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ} إشارة إلى أن الله عاملهم مرة بالرحمة ومرة بالجزاء على أعمال دهمائهم.
[170,169] {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.
جملة {فَخَلَفَ} تفريع على قوله : {وَقَطَّعْنَاهُمُ} أن كان المراد تقطيعهم في بلاد أعدائهم وإخراجهم من مملكتهم، فتكون الآية مشيرة إلى عودة بني إسرائيل إلى بلادهم في عهد الملك كورش ملك الفرس في حدود سنة 530 قبل الميلاد، فانه لما فتح بلاد آشور أذن لليهود الذين أسرهم بختنصر أن يرجعوا إلى بلادهم فرجعوا وبنوا بيت المقدس بعد خرابه على يد نحميا و عزرا كما تضمنه سفر نحميا وسفر عزرا، وكان من جملة ما احيوه انهم أتوا بسفر شريعة موسى الذي كتبه عزرا وقرأوه على الشعب في أورشليم فيكون المراد بالخلف ما أوله ذلك الفل من بني إسرائيل الذين
رجعوا من اسر الآشوريين.والمراد بإرث الكتاب إعادة مزاولتهم التوراة التي أخرجها إليهم عزرا المعروف عند أهل الإسلام باسم عزيز، ويكون أخذهم عرض الأدنى اخذ بعض الخلف لا جميعه، لان صدر ذلك الخلف كانوا تائبين وفيهم أنبياء وصالحون.
وإن كان المراد من تقطيعهم في الأرض أمما تكثيرهم والامتنان عليهم، كان قوله: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} تفريعا على جميع القصص المتقدمة التي هي قصص أسلافهم، فيكون المراد بالخلف من نشأ من ذرية أولئك اليهود بعد زوال الأمة وتفرقها، منهم الذين كانوا عند ظهور الإسلام وهم اليهود الذين كانوا بالمدينة وإلى هذا المعنى في "الخلف" نحا المفسرون.
والخلف بسكون اللام من يأتي بعد غيره سابقه في مكان أو عمل أو نسل، يبينه المقام أو القرينة، ولا يغلب فيمن يخلف في أمر سيء، قاله النضر بن شميل، خلافا لكثير من أهل اللغة إذ قالوا: الأكثر استعمال الخلف بسكون اللام فيمن يخلف في الشر، وبفتح اللام فيمن يخلف في الخير، وقال البصريون: يجوز التحريك والإسكان في الرديء وأما الحسن فبالتحريك فقط.
وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي خالف، والخلف مأخوذ من الخلف ضد القدام لأن من يجيء بعد قوم فكأنه جاء من ورائهم، ولا حد لآخر الخلف، بل يكون تحديده بالقرائن، فلا ينحصر في جيل ولا في قرن، بل قد يكون الخلف ممتدا.قال تعالى بعد ذكر الأنبياء: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم: 59] فيشمل من خلفهم من ذرياتهم من العرب واليهود وغيرهم، فانه ذكر من أسلافهم إدريس وهو جد نوح.
و {وَرِثُوا} مجاز في القيام مقام الغير كما تقدم في قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا} في هذه السورة [43] وقوله فيها: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا} [الأعراف: 100].فهو بمعنى الخلفية، والمعنى: فخلف من بعدهم خلف في إرث الكتاب، وهذا يجري على كلا القولين في تخصيص الخلف لأنه بيان للفعل لا لاسم الخلف.
وجملة {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} حال من ضمير {وَرِثُوا} ، والمقصود هو ذم الخلف بأنهم يأخذون عرض الأدنى ويقولون سيغفر لنا، ومهد لذلك بأنهم ورثوا الكتاب ليدل على انهم يفعلون ذلك عن علم لا عن جهل، وذلك أشد مذمة كما قال تعالى:
{وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
ومعنى الأخذ هنا الملابسة والاستعمال فهو مجاز أي: يلابسونه، ويجوز كونه حقيقة كما سيأتي.
والعرض بفتح العين وفتح الراء الأمر الذي يزول ولا يدوم، ويراد به المال، ويراد به أيضا ما يعرض للمرء من الشهوات والمنافع.
والأدنى الأقرب من المكان، والمراد به هنا الدنيا، وفي اسم الإشارة إيماء إلى تحقير هذا العرض الذي رغبوا فيه كالإشارة في قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
وقد قيل: أخذ عرض الدنيا أريد به ملابسة الذنوب، وبذلك فسر سعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والطبري، فيشمل كل ذنب، ويكون الأخذ مستعملا في المجاز وهو الملابسة، فيصدق بالتناول باليد وبغير ذلك، فهو من عموم المجاز، وقيل عرض الدنيا هو الرشا وبه فسر السدي، ومعظم المفسرين، فيكون الأخذ مستعملا في حقيقته وهو التناول، وقد يترجح هذا التفسير بقوله: {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ} كما سيأتي.
والقول في {وَيَقُولُونَ} هو الكلام اللساني، يقولون لمن ينكر عليهم ملابسة الذنوب وتناول الشهوات، لأن ما بعد يقولون يناسبه الكلام اللفظي، ويجوز أن يكون الكلام النفساني، لأنه فرع عنه، أي قولهم في أنفسهم يعللونها به حين يجيش فيها وازع النهي، فهو بمنزلة قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] وذلك من غرورهم في الدين.
وبناء فعل {يُغْفَرُ} على صيغة المجهول لأن الفاعل معروف، وهو الله، إذ لا يصدر هذا الفعل إلا عنه، وللدلالة على أنهم يقولون ذلك على وجه العموم لا في خصوص الذنب الذي أنكر عليهم، أو الذي تلبسوا به حين القول، ونائب الفاعل محذوف لعلمه من السياق، والتقدير: سيغفر لنا ذلك، أو ذنوبنا، لأنهم يحسبون أن ذنوبهم كلها مغفورة {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً} كما تقدم في سورة البقرة [80]، أي يغفر لنا بدون سبب المغفرة وهو التوبة كما يعلم من السياق، وهو جزمهم بذلك عقب ذكر الذنب دون ذكر كفارة أو نحوها.
وقوله {لَنَا} لا يصلح للنيابة عن الفاعل لأنه ليس في معنى المفعول، إذ فعل
المغفرة يتعدى لمفعول واحد، وأما المجرور بعده باللام فهو في معنى المفعول لأجله يقال غفر الله لك ذنبك، كما قال تعالى {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] فلو بني شرح للمجهول لما صح أن يجعل {لَكَ} نائبا عن الفاعل.
وجملة {وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} معطوفة على جملة {يَأْخُذُوهُ} لأن كلا الخبرين يوجب الذم، واجتماعهما أشد في ذلك.
وجملة {وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} معطوفة على التي قبلها، واستعير إتيان العرض لبذله لهم أن كان المراد بالعرض المال، وقد يراد به خطور شهوته في نفوسهم أن كان المراد بالعرض جميع الشهوات والملاذ المحرمة، واستعمال الإتيان في الذوات أنسب من استعماله في خطور الأعراض والأمور المعنوية، لقرب المشابهة في الأول دون الثاني.
والمعنى: أنهم يعصون، ويزعمون أن سيئاتهم مغفورة، ولا يقلعون عن المعاصي.
وجملة {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ} جواب عن قولهم {سَيُغْفَرُ لَنَا} إبطالا لمضمونه، لان قولهم {سَيُغْفَرُ لَنَا} يتضمن أنهم يزعمون أن الله وعدهم بالمغفرة على ذلك.والجملة معترضة في أثناء الإخبار عن الصالحين وغيرهم.والمقصود من هذه الجملة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم ليحجهم بها، فهم المقصود بالكلام، كما تشهد به قراءة {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب.
والاستفهام للتقرير المقصود منه التوبيخ، وهذا التقرير لا يسعهم إلا الاعتراف به لأنه صريح كتابهم، في الإصحاح الرابع من السفر الخامس لا تزيدوا على الكلام الذي أوصيكم به ولا تنقصوا منه لكي تحفظوا وصايا الرب ولا يجدون في الكتاب أنهم يغفر لهم، وإنما يجدون فيه التوبة كما في الإصحاح من سفر التثنية، وكما في سفر الملوك الأول في دعوة سليمان حين بنى الهيكل في الإصحاح الثامن.فقولهم {سَيُغْفَرُ لَنَا} تقول على الله بما لم يقله.
والميثاق: العهد، وهو وصية موسى التي بلغها إليهم عن الله تعالى في مواضع كثيرة، وإضافة الميثاق إلى الكتاب على معنى "في" أو على معنى اللام أي الميثاق المعروف به، والكتاب توراة موسى، وان لا يقولوا هو مضمون ميثاق الكتاب فهو على حذف حرف الجر قبل "أن" الناصبة، والمعنى: بأن لا يقولوا، أي بانتفاء قولهم على الله
غير الحق، ويجوز كونه عطف بيان من ميثاق، فلا يقدر حرف جر، والتقدير: ميثاق الكتاب انتفاء قولهم على الله الخ.
وفعل {وَدَرَسُوا} عطف على {يُؤْخَذْ} ، لان يؤخذ في معنى المضي، لأجل دخول لم عليه، والتقدير: ألم يؤخذ ويدرسوا، لان المقصود تقريرهم بأنهم درسوا الكتاب، لا الإخبار عنهم بذلك كقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 6, 14] والتقدير: ونخلقكم أزواجا ونجعل نومكم سباتا، إلى آخر الآية.
والمعنى: أنهم قد أخذ عليهم الميثاق بأن لا يقولوا على الله إلا الحق، وهم عالمون بذلك الميثاق لأنهم درسوا ما في الكتاب فبمجموع الأمرين قامت عليهم الحجة.
وجملة {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} حالية من ضمير {يَأْخُذُونَ} أي: يأخذون ذلك ويكذبون على الله ويصرون على الذنب وينبذون ميثاق الكتاب على علم في حال أن الدار الآخرة خير مما تعجلوه.وفي جعل الجملة في موضع الحال تعريض بأنهم يعلمون ذلك أيضا فهم قد خيروا عليه عرض الدنيا قصدا، وليس ذلك عن غفلة صادفتهم فحرمتهم من خير الآخرة، بل هم قد حرموا أنفسهم، وقرينة ذلك قوله: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} المتفرع على قوله: {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وقد نزلوا في تخيرهم عرض الدنيا بمنزلة من لا عقول لهم فخوطبوا بـ {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بالاستفهام الإنكاري، وقد قرئ بتاء الخطاب، على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ليكون أوقع في توجيه التوبيخ إليهم مواجهة، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وابن ذكوان، وحفص عن عاصم، ويعقوب، وأبي جعفر، وقرأ البقية بياء الغيبة، فيكون توبيخهم تعريضيا.
وفي قوله: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} كناية عن كونهم خسروا خير الآخرة بأخذهم عرض الدنيا بتلك الكيفية لان كون الدار الآخرة خيرا مما أخذوه يستلزم أن يكون ما أخذوه قد أفات عليهم خير الآخرة.
وفي جعل الآخرة خير للمتقين كناية عن كون الذين أخذوا عرض الدنيا بتلك الكيفية لم يكونوا من المتقين، لأن الكناية عن خسرانهم خير الآخرة مع إثبات كون خير الآخرة للمتقين تستلزم أن الذين أضاعوا خير الآخرة ليسوا من المتقين، وهذه معان كثيرة جمعها قوله: {وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} وهذا من حد الإعجاز العجيب.
ووقعت جملة {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} إلى آخرها عقب التي قبلها: لأن مضمونها مقابل حكم التي قبلها إذ حصل من التي قبلها أن هؤلاء الخلف الذين أخذوا عرض.الأدنى قد فرطوا في ميثاق الكتاب، ولم يكونوا من المتقين، فعقب ذلك ببشارة من كانوا ضد أعمالهم، وهم الآخذون بميثاق الكتاب والعاملون ببشارته بالرسل، وآمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفأولئك يستكملون أجرهم لأنهم مصلحون.فكني عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بإقامة الصلاة، لأن الصلاة شعار دين الإسلام، حتى سمي أهل الإسلام أهل القبلة، فالمراد من هؤلاء هم من آمن من اليهود بعيسى في الجملة وان لم يتبعوا النصرانية، لأنهم وجدوها مبدلة محرفة فبقوا في انتظار الرسول المخلص الذي بشرت به التوراة والإنجيل، ثم آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم حين بعث: مثل عبد الله بن سلام.
ويحتمل أن المراد بالذين يمسكون بالكتاب: المسلمون: ثناء عليهم بأنهم الفائزون في الآخرة وتبشيرا لهم بأنهم لا يسلكون بكتابهم مسلك اليهود بكتابهم.
وجملة {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} خبر عن الذين يمسكون، والمصلحون هم، والتقدير: إنا لا نضيع أجرهم لأنهم مصلحون، فطوي ذكرهم اكتفاء بشمول الوصف لهم وثناء عليهم على طريقة الإيجاز البديع.
[171] {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
عاد الكلام إلى العبرة بقصص بني إسرائيل مع موسى عليه السلام، لأن قصة رفع الطور عليهم من أمهات قصصهم، وليست مثل قصة القرية الذين اعتدوا في السبت، ولا مثل خبر إيذانهم بمن يسومهم سوء العذاب.فضمائر الجمع كلها هنا مراد بها بنو إسرائيل الذين كانوا مع موسى، بقرينة المقام.
والجملة معطوفة على الجمل قبلها.
و {إِذْ} متعلقة بمحذوف تقديره: واذكر إذ نتقنا الجبل فوقهم.
والنتق الفصل والقلع.والجبل الطور.
وهذه آية أظهرها الله لهم تخويفا لهم، لتكون مذكرة لهم، فيعقب ذلك أخذ العهد عليهم بعزيمة العمل بالتوراة، فكان رفع الطور معجزة لموسى عليه السلام تصديقا له فيما
سيبلغهم عن الله من أخذ أحكام التوراة بعزيمة ومداومة والقصة تقدمت في سورة البقرة [63] عند قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ} .
والظلة السحابة، وجملة {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ} مقولة لقول محذوف يدل عليه نظم الكلام، وحذف القول في مثله شائع كثير، وتقدم نظيرها في سورة البقرة.
وعدي {وَاقِعٌ} بالباء: للدلالة على أنهم كانوا مستقرين في الجبل فهو إذا ارتفع وقع ملابسا لهم ففتتهم، فهم يرون أعلاه فوقهم وهم في سفحه، وهذا وجه الجمع بين قوله: {فَوْقَهُمْ} وبين باء الملابسة، وجعل بعض المفسرين الباء بمعنى "على".
وجملة {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} مقول قول محذوف، وتقدم تفسير نظيرها في سورة البقرة.
[174,172] {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
هذا كلام مصروف إلى غير بني إسرائيل، فانهم لم يكونوا مشركين والله يقول: {أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ} فهذا انتقال بالكلام إلى محاجة المشركين من العرب، وهو المقصود من السورة ابتداء ونهاية، فكان هذا الانتقال بمنزلة رد العجز على الصدر.جاء هذا الانتقال بمناسبة ذكر العهد الذي أخذ الله على بني إسرائيل في وصية موسى، وهو ميثاق الكتاب، وفي يوم رفع الطور، وهو عهد حصل بالخطاب التكويني أي بجعل معناه في جبلة كل نسمة وفطرتها، فالجملة معطوفة على الجمل السابقة عطف القصة على القصة، والمقصود به ابتداء هم المشركون.
وتبدل أسلوب القصة واضح إذ اشتملت هذه القصة على خطاب في قوله: {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى آخر الآية، وإذ صرح فيها بمعاد ضمير الغيبة وهو قوله {مِنْ بَنِي آدَمَ} فعموم الموعظة تابع لعموم العظة.فهذا ابتداء لتقريع المشركين على الإشراك، وما ذكر بعده إلى آخر السورة مناسب لأحوال المشركين.
و {وَإِذْ} اسم للزمن الماضي، وهو هنا مجرد عن الظرفية، فهو مفعول به لفعل "اذكر"
محذوف.
وفعل {أَخَذَ} يتعلق به {مِنْ بَنِي آدَمَ} وهو معدى إلى ذرياتهم، فتعين أن يكون المعنى: أخذ ربك كل فرد من أفراد الذرية، من كل فرد من أفراد بني آدم، فيحصل من ذلك أن كل فرد من أفراد بني آدم أقر على نفسه بالمربوبية لله تعالى.
و"من" في قوله: {مِنْ بَنِي آدَمَ } وقوله: {ظُهُورِهِمْ} ابتدائية فيهما.
والذريات جمع ذرية والذرية اسم جمع لما يتولد من الإنسان، وجمعه هنا للتنصيص على العموم.
وأخذ العهد على الذرية المخرجين من ظهور بني آدم يقتضي أخذ العهد على الذرية الذين في ظهر آدم بدلالة الفحوى، وإلا لكان أبناء آدم الأدنون ليسوا مأخوذا عليهم العهد مع أنهم أولى بأخذ العهد عليهم في ظهر آدم.
ومما يثبت هذه الدلالة أخبار كثيرة رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جمع من أصحابه، متفاوتة في القوة غير خال واحد منها عن متكلم، غير أن كثرتها يؤيد بعضها بعضا، وأوضحها ما روى مالك في الموطأ في ترجمة النهي عن القول بالقدر بسنده إلى عمر بن الخطاب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن هذه الآية {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّاتَهُمْ} فقال: "أن الله تعالى خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه حتى استخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية فقال خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون" وساق الحديث بما لا حاجة إليه في غرضنا ومحمل هذا الحديث على أنه تصريح بمدلول الفحوى المذكور، وليس تفسيرا لمنطوق الآية، وبه صارت الآية دالة على أمرين، أحدهما صريح وهو ما أفاده لفظها، وثانيهما مفهوم وهو فحوى الخطاب.وجاء في الآية أن الله أخذ على الذريات العهد بالإقرار بربوبية الله ولم يتعرض لذلك في الحديث، وذكر فيه أنه ميز بين أهل الجنة وأهل النار منهم، ولعل الحديث اقتصار على بيان ما سأل عنه السائل فيكون تفسيرا للآية تفسير تكميل لما لم يذكر فيها، أو كان في الحديث اقتصار من أحد رواته على بعض ما سمعه.
والأخذ مجاز في الإخراج والانتزاع قال الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} [الأنعام: 46] الآية.
وقوله: {مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل {مِنْ بَنِي آدَمَ} أبدل بعض من كل، وقد أعيد حرف الجر مع البدل للتأكيد كما تقدم في قوله تعالى {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} في سورة الأنعام [99].
والإشهاد على الأنفس يطلق على ما يساوي الإقرار أو الحمل عليه، وهو هنا الحمل على الإقرار، واستعير لحالة مغيبة تتضمن هذا الإقرار يعلمها الله لاستقرار معنى هذا الاعتراف في فطرتهم.والضمير في أشدهم عائد على الذرية باعتبار معناه لأنه اسم يدل على جمع.
والقول في {قَالُوا بَلَى} مستعار أيضا لدلالة حالهم على الاعتراف بالربوبية لله تعالى.
وجملة {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} مقول لقول محذوف هو بيان لجملة {أَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أي قررهم بهذا القول وهو من أمر التكوين.والمعنى واحد لأن الذرية لما أضيف إلى ضمير بني آدم كان على معنى التوزيع.
والاستفهام في {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} تقريري، ومثله يقال في تقرير من يظن به الإنكار أو ينزل منزلة ذلك فلذلك يقرر على النفي استدراجا له حتى إذا كان عاقدا قلبه على النفي ظن أن المقرر يطلبه منه فاقدم على الجواب بالنفي، فأما إذا لم يكن عاقدا قلبه عليه فانه يجيب بإبطال النفي فيتحقق انه بريء من نفي ذلك، وعليه قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ} [الاحقاف: 34] تنزيلا لهم منزلة من يظنه ليس بحق لأنهم كانوا ينكرونه في الدنيا، وقد تقدم عند قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} في سورة الأنعام [130].
والكلام تمثيل حال من أحوال الغيب، من تسلط أمر التكوين الإلهي على ذوات الكائنات وأعراضها عند إرادة تكوينها، لا تبلغ النفوس إلى تصورها بالكنه، لأنها وراء المعتاد المألوف، فيراد تقريبها بهذا التمثيل، وحاصل المعنى: أن الله خلق في الإنسان من وقت تكوينه إدراك أدلة الوحدانية، وجعل في فطرة حركة تفكير الإنسان التطلع إلى إدراك ذلك وتحصيل إدراكه إذا جرد نفسه من العوارض التي تدخل على فطرته فتفسدها.
وجملة {قَالُوا بَلَى} جواب عن الاستفهام التقريري، وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة كما تقدم في قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة
البقرة [30].
وأطلق القول أما حقيقة فذلك قول خارق للعادة، وأما مجازا على دلالة حالهم على أنهم مربوبون لله تعالى، كما أطلق القول على مثله في قوله تعالى {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] أي ظهرت فيهما آثار أمر التكوين.وقال أبو النجم:
قالت له الطير تقدم راشدا ... إنك لا ترجع إلا حامدا
فهو من المجاز الذي كثر في كلام العرب.
و {بَلَى} حرف جواب لكلام فيه معنى النفي، فيقتضي إبطال النفي وتقرير المنفي، ولذلك كان الجواب بها بعد النفي أصرح من الجواب بحرف "نعم" لأن نعم تحتمل تقرير النفي وتقرير المنفي، وهذا معنى ما نقل عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال: لو قالوا نعم لكفروا أي لكان جوابهم محتملا للكفر، ولما كان المقام مقام إقرار كان الاحتمال فيه تفصيا من الاعتراف.
وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب: ذرياتهم، بالجمع، وقرأ الباقون ذريتهم، بالإفراد.
وقولهم {شَهِدْنَا} تأكيد لمضمون {بَلَى} والشهادة هنا أيضا بمعنى الإقرار.
ووقع {أَنْ تَقُولُوا} في موقع التعليل لفعل الأخذ والإشهاد، فهو على تقدير لام التعليل الجارة، وحذفها مع أن جار على المطرد الشائع.والمقصود التعليل بنفي أن يقولوا {إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} لا بإيقاع القول، فحذف حرف النفي جريا على شيوع حذفه مع القول، أو هو تعليل بأنهم يقولون ذلك، أن لم يقع إشهادهم على أنفسهم كما تقدم عند قوله تعالى {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ} في سورة الأنعام [156].
وقرأ الجمهور: أن تقولوا بتاء الخطاب وقد حول الأسلوب من الغيبة إلى الخطاب، ثم من خطاب الرسول إلى خطاب قومه، تصريحا بأن المقصود من قصة أخذ العهد تذكير المشركين بما أودع الله في الفطرة من التوحيد، وهذا الأسلوب هو من تحويل الخطاب عن مخاطب إلى غيره، وليس من الالتفاف لاختلاف المخاطبين.وقرأه أبو عمرو، وحده: بياء الغيبة، والضمير عائد إلى ذريات بني آدم.
والإشارة ب {هَذَا} إلى مضمون الاستفهام وجوابه وهو الاعتراف بالربوبية لله تعالى
على تقديره بالمذكور.
والمعنى: أن ذلك لما جعل في الفطرة عند التكوين كانت عقول البشر منساقة إليه، فلا يغفل عنه أحد منهم فيعتذر يوم القيامة، إذا سئل عن الإشراك، بعذر الغفلة، فهذا إبطال للاعتذار بالغفلة، ولذلك وقع تقدير حرف نفي أي أن لا تقولوا الخ.
وعطف عليه الاعتذار بالجهل دون الغفلة بأن يقولوا: إننا اتبعنا آباءنا وما ظننا الإشراك إلا حقا، فلما كان في أصل الفطرة العلم بوحدانية الله بطل الاعتذار بالجهل به، وكان الإشراك أما عن عمد وأما عن تقصير وكلاهما لا ينهض عذرا، وكل هذا إنما يصلح لخطاب المشركين دون بني إسرائيل.
ومعنى {وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ} كنا على دينهم تبعا لهم لأننا ذرية لهم، وشأن الذرية الاقتداء بالآباء وإقامة عوائدهم فوقع إيجاز في الكلام وأقيم التعليل مقام المعلل.
و {مِنْ بَعْدِهِمْ} نعت لذرية لما تؤذن به ذرية من الخلفية والقيام في مقامهم.والاستفهام في: {أَفَتُهْلِكُنَا} إنكاري، والإهلاك هنا مستعار للعذاب، والمبطلون الآخذون بالباطل، وهو في هذا المقام الإشراك.
وفي هذه الآية دليل على أن الإيمان بالإله الواحد مستقر في فطرة العقل، لو خلي ونفسه، وتجرد من الشبهات الناشئة فيه من التقصير في النظر، أو الملقاة إليه من أهل الضلالة المستقرة فيهم الضلالة، بقصد أو بغير قصد، ولذلك قال الماتريدي والمعتزلة: أن الإيمان بالإله الواحد واجب بالعقل، ونسب إلى أبي حنيفة والى الماوردي وبعض الشافعية من أهل العراق، وعليه انبتت مؤاخذة أهل الفترة على الإشراك، وقال الأشعري: معرفة الله واجبة بالشرع لا بالعقل تمسكا بقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الاسراء: 15] ولعله أرجع مؤاخذة أهل الفترة على الشرك إلى التواتر بمجيء الرسل بالتوحيد.
وجملة {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} معترضة بين القصتين، والواو اعتراضية، وتسمى واو الاستئناف أي مثل هذا التفصيل نفصل الآيات أي آيات القرآن، وتقدم نظير هذا عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} في سورة الأنعام [55].وتفصيلها بيانها وتجريدها من الالتباس.
وجملة {وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} عطف على جملة: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ} فهي في
موقع الاعتراض، وهذا إنشاء ترجي رجوع المشركين إلى التوحيد، وقد تقدم القول في تأويل معنى الرجاء بالنسبة إلى صدوره من جانب الله تعالى عند قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} في سورة البقرة [21].
والرجوع مستعار للإقلاع عن الشرك، شبه الإقلاع عن الحالة التي هم متلبسون بها بترك من حل في غير مقره الموضع الذي هو به ليرجع إلى مقره، وهذا التشبيه يقتضي تشبيه حال الإشراك بموضع الغربة لأن الشرك ليس من مقتضى الفطرة فالتلبس به خروج عن أصل الخلقة كخروج المسافر عن موطنه، ويقتضي أيضا تشبيه حال التوحيد بمحل المرء وحيه الذي يأوي إليه، وقد تكرر في القرآن إطلاق الرجوع على إقلاع المشركين عن الشرك كقوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 26, 28] أي يرجعون عن الشرك، وهو تعريض بالعرب لأنهم المشركون من عقب إبراهيم، وبقرينة قوله {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف:29]، فإني استقريت من اصطلاح القرآن أنه يشير بهؤلاء إلى العرب.
[176,175] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ}
أعقب ما يفيد أن التوحيد جعل في الفطرة بذكر حالة اهتداء بعض الناس إلى نبذ الشرك في مبدأ أمره ثم تعرض وساوس الشيطان له بتحسين الشرك.
ومناسبتها للتي قبلها إشارة العبرة من حال أحد الذين أخذ الله عليهم العهد بالتوحيد والامتثال لأمر الله، وأمده الله بعلم يعينه على الوفاء بما عاهد الله عليه في الفطرة، ثم لم ينفعه ذلك كله حين لم يقدر الله له الهدى المستمر.
وشأن القصص المفتتحة بقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ} أن يقصد منها وعظ المشركين
بصاحب القصة بقرينة قوله: {ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ} الخ، ويحصل من ذلك أيضا تعليم مثل قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} [يونس: 71] {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ} [الشعراء:69] { نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} [القصص: 3] ونظائر ذلك فضمير {عَلَيْهِمْ} راجع إلى المشركين الذين وجهت إليهم العبر والمواعظ من أول هذه السورة، وقصت عليهم قصص الأمم مع رسلهم، على أن توجيه ضمائر الغيبة إليهم أسلوب متبع في مواقع كثيرة من القرآن، كما قدمناه غير مرة فهذا من قبيل رد العجز على الصدر.
ومناسبة فعل التلاوة لهم أنهم كانوا قوما تغلب عليهم الأمية فأراد الله أن يبلغ إليهم من التعليم ما يساوون به حال أهل الكتاب في التلاوة، فالضمير المجرور بعلى عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون، وكثيرا ما يجيء ضمير جمع الغائب في القرآن مرادا به المشركون كقوله {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ:1]
والنبأ الخبر المروي.
وظاهر اسم الموصول المفرد أن صاحب الصلة واحد معين، وأن مضمون الصلة حال من أحواله التي عرف بها، والأقرب أن يكون صاحب هذا النبإ ممن للعرب إلمام بمجمل خبره.
فقيل المعنى به أمية بن أبي الصلت الثقفي، وروي هذا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، بأسانيد كثيرة عند الطبري، وعن زيد بن أسلم، وقال القرطبي في التفسير هو الأشهر، وهو قول الأكثر ذلك أن أمية بن أبي الصلت الثقفي كان ممن أراد اتباع دين غير الشرك طالبا دين الحق، ونظر في التوراة والإنجيل فلم ير النجاة في اليهودية ولا النصرانية، وتزهد وتوخى الحنيفية دين إبراهيم وأخبر أن الله يبعث نبيا في العرب، فطمع أن يكونه، ورفض عبادة الأصنام وحرم الخمر وذكر في شعره أخبارا من قصص التوراة، ويروى أنه كانت له إلهامات ومكاشفات وكان يقول:
كل دين يوم القيامة عند ... الله إلا دين الحنيفية زور
وله شعر كثير في أمور الإلهية، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أسف أن لم يكن هو الرسول المبعوث في العرب، وقد اتفق أن خرج إلى البحرين قبل البعثة وأقام هنالك ثمان سنين ثم رجع إلى مكة فوجد البعثة وتردد في الإسلام، ثم خرج إلى الشام ورجع بعد وقعة بدر فلم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم حسدا، ورثى من قتل من ا لمشركين يوم بدر، وخرج إلى الطائف
بلاد قومه فمات كافرا.وكان يذكر في شعره الثواب والعقاب واسم الله وأسماء الأنبياء، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم "كاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وروي عن أمية أنه قال لما مرض مرض موته أنا أعلم أن الحنيفية حق ولكن الشك يداخلني في محمد".
فمعنى {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} أن الله ألهم أمية كراهية الشرك، وألقى في نفسه طلب الحق، ويسر له قراءة كتب الانبياء، وحبب إليه الحنيفية، فلما انفتح له باب الهدى وأشرق نور الدعوة المحمدية كابر وحسد وأعرض عن الإسلام، فلا جرم أن كانت حاله أنه انسلخ عن جميع ما يسر له، ولم ينتفع به عند إبان الانتفاع، فكان الشيطان هو الذي صرفه عن الهدى فكان من الغاوين، إذ مات على الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقال سعيد بن المسيب نزلت في أبي عامر بن صيفي الراهب واسمه النعمان الخزرجي، وكان يلقب بالراهب في الجاهلية لأنه قد تنصر في الجاهلية ولبس المسوح وزعم أنه على الحنيفية، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة دخل على النبي فقال يا محمد ما الذي جئت به قال: "جئت بالحنيفية دين إبراهيم" قال فإني عليها فقال النبي "لست عليها لأنك أدخلت فيها ما ليس منها" فكفر وخرج إلى مكة يحرض المشركين على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويخرج معهم، إلى أن قاتل في حنين بعد فتح مكة فلما انهزمت هوازن يئس وخرج إلى الشام فمات هنالك.
وذهب كثير من المفسرين إلى أنها نزلت في رجل من الكنعانيين وكان في زمن موسى عليه السلام يقال له بلعام بن باعور، وذكروا قصته فخلطوها وغيروها واختلفوا فيها، والتحقيق أن بلعام هذا كان من صالحي أهل مدين وعرافيهم في زمن مرور بني إسرائيل على ارض مؤاب ولكنه لم يتغير عن حال الصلاح، وذلك مذكور في سفر العدد من التوراة في الإصحاحات 22-23-24 فلا ينبغي الالتفات إلى هذا القول لاضطرابه واختلاطه.
والإيتاء هنا مستعار للإطلاع وتيسير العلم مثل قوله {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} 1 [البقرة: 251].
والآيات دلاءل الوحدانية التي كرهت إليه الشرك وبعثته على تطلب الحنبفبة بالنسبة
ـــــــ
1 في المطبوعة: {وآتاه الله العلم والحكمة} وهو غلط, والمثبت هو الموافق للقرآن الكريم.
لأمية بن أبي الصلت، أو دلائل الإنجيل على صفة محمد صلى الله عليه وسلم بالنسبة للراهب أبي عامر بن صيفي.
والانسلاخ حقيقته خروج جسد الحيوان من جلده حينما يسلخ عنه جلده، والسلخ إزالة جلد الحيوان الميت عن جسده، واستعير في الآية للانفصال المعنوي، وهو ترك التلبس بالشيء أو عدم العمل به، ومعنى الانسلاخ عن الآيات الإقلاع عن العمل بما تقتضيه، وذلك أن الآيات أعلمته بفساد دين الجاهلية.
وأتبعه بهمزة قطع وسكون المثناة الفوقية بمعنى لحقة غير مفلت كقوله {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ} [طه: 78] وهذا أخص من اتبعه بتشديد المثناة ووصل الهمزة.
والمراد بالغاوين: المتصفين بالغي وهو الضلال {فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} أشد مبالغة في الاتصاف بالغواية من أن يقال: وغوى أو كان غاويا، كما تقدم عند قوله تعالى {قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام [56].
ورتبت أفعال الانسلاخ والاتباع والكون من الغاوين بفاء العطف على حسب ترتيبها في الحصول، فانه لما عاند ولم يعمل بما هداه الله إليه حصلت في نفسه ظلمة شيطانية مكنت الشيطان من استخدامه وإدامة إضلاله، فالانسلاخ عن الآيات أثر من وسوسة الشيطان، وإذا أطاع المرء الوسوسة تمكن الشيطان من مفاده، فسخره وأدام إضلاله، وهو المعبر عنه بـ {أَتْبَعَهُ} فصار بذلك في زمرة الغواة المتمكنين من الغواية.
وقوله تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أفاد أن تلك الآيات شأنها أن تكون سببا للهداية والتزكية، لو شاء الله له التوفيق وعصمه من كيد الشيطان وفتنته فلم ينسلخ عنها، وهذه عبرة للموفقين ليعلموا فضل الله عليهم في توفيقهم، فالمعنى: ولو شئنا لزاد في العمل بما آتيناه من الآيات فلرفعه الله بعمله.
والرفعة مستعارة لكمال النفس وزكائها، لأن الصفات الحميدة تخيل صاحبها مرتفعا على من دونه، أي ولو شئنا لاكتسب بعمله بالآيات فضلا وزكاء وتميزا بالفضل، فمعنى لرفعناه ليسرنا له العمل بها الذي يشرف به.
وقد وقع الاستدراك على مضمون قوله {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} بذكر ما يناقض تلك المشيئة الممتنعة، وهو الاستدراك بأنه انعكست حاله فأخلد إلى الأرض، أي ركن
ومال إلى الأرض، والكلام تمثيل لحال المتلبس بالنقائص والكفر بعد الإيمان والتقوى، بحال من كان مرتفعا عن الأرض فنزل من اعتلاء إلى أسفل فبذكر الأرض علم أن الإخلاد هنا ركون إلى السفل أي تلبس بالنقائص والمفاسد.
واتباع الهوى ترجيح ما يحسن لدى النفس من النقائص المحبوبة، على ما يدعو إليه الحق والرشد، فالاتباع مستعار للاختيار والميل، والهوى شاع في المحبة المذمومة الخاسرة عاقبتها.
وقد تفرع على هذه الحالة تمثيله بالكلب اللاهث، لأن اتصافه بالحالة التي صيرته شبيها بحال الكلب اللاهث تفرع على إخلاده إلى الأرض واتباع هواه، فالكلام في قوة أن يقال: ولكنه أخلد إلى الأرض فصار في شقاء وعناد كمثل الكلب إلخ.
واستعمال القرآن لفظ المثل بعد كاف التشبيه مألوف بانه يراد به تشبيه الحالة بالحالة، وتقدم قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} في سورة البقرة [17]، فلذلك تعين أن التشبيه هنا لا يخرج عن المتعارف في التشبيه المركب، فهذا الضال تحمل كلفة اتباع الدين الصالح وصار يطلبه في حين كان غير مكلف بذلك في زمن الفترة فلقي من ذلك نصبا وعناء، فلما حان حين اتباع الحق ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم تحمل مشقة العناد والإعراض عنه في وقت كان جديرا فيه بان يستريح من عنائه لحصول طلبته فكانت حالته شبيهة بحالة الكلب الموصوف باللهث، فهو يلهث في حالة وجود أسباب اللهث من الطرد والإرهاب والمشقة وهي حالة الحمل عليه، وفي حالة الخلو عن ذلك السبب وهي حالة تركه في دعة ومسالمة والذي ينبه على هذا المعنى هو قوله {أَوْ تَتْرُكْهُ} .
وليس لشيء من الحيوان حالة للتشبيه بها في الحالتين غير حالة الكلب اللاهث لأنه يلهث إذا أتعب وإذا كان في دعة فاللهث في أصل خلقته.
وهذا التمثيل من مبتكرات القرآن فان اللهث حالة تؤذن بحرج الكلب من جراء عسر تنفسه عن اضطراب باطنه وان لم يكن لاضطراب باطنه سبب آت من غيره فمعنى {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ} أن تطارده وتهاجمه.مشتق من الحمل الذي هو الهجوم على أحد لقتاله، يقال حمل فلان على القوم حملة شعواء أو حملة منكرة، وقد أغفل المفسرون توضيحه وأغفل الراغب في مفردات القرآن هذا المعنى لهذا الفعل.
فهذا تشبيه تمثيل مركب منتزعة فيه الحالة المشبهة والحالة المشبه بها من متعدد،
ولما ذكر {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} في شق الحالة المشبه بها، تعين أن يكون لها مقابل في الحالة المشبهة، وتتقابل أجزاء هذا التمثيل بأن يشبه الضال بالكلب ويشبه شقاؤه واضطراب أمره في مدة البحث عن الدين بلهث الكلب في حالة تركه في دعة، تشبيه المعقول بالمحسوس، ويشبه شقاؤه في إعراضه عن الدين الحق عند مجيئه بلهث الكلب في حالة طرده وضربه تشبيه المعقول بالمحسوس.وقد أغفل هذا الذين فسروا هذه الآية فقرروا التمثيل بتشبيه حالة بسيطة بحالة بسيطة في مجرد التشويه أو الخسة، فيؤول إلى أن الغرض من تشبيهه بالكلب إظهار خسة المشبه، كما درج عليه في الكشاف، ولو كان هذا هو المراد لما كان لذكر {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} كبير جدوى بل يقتصر على انه لتشويه الحالة المشبه بها لتكتسب الحالة المشبهة تشويها، وذلك تقصير في حق التمثيل.
والكلب حيوان من ذوات الأربع ذو أنياب وأظفار كثير النبح في الليل قليل النوم فيه كثير النوم في النهار، يألف من يعاشره يحرس مكانه من الطارقين الذين لا يألفهم، ويحرس الأنعام التي يعاشرها، ويعدو على الذئاب ويقبل التعليم لأنه ذكي.
ويلهث إذا أتعب أو اشتد عليه الحر، ويلهث بدون ذلك لان في خلقته ضيقا في مجاري النفس يرتاح له باللهث.
وجملة {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} في موضع الحال من الكلب.والخطاب في {تَحْمِلْ} و {تَتْرُكْهُ} لمخاطب غير معين، والمعنى أن يحمل عليه حامل أو يتركه تارك.
واللهث سرعة التنفس مع امتداد اللسان لضيق النفس، وفعله بفتح الهاء وبكسرها، ومضارعه بفتحها لا غير، والمصدر اللهث بفتح اللام والهاء ويقال اللهاث بضم اللام لأنه من الأدواء.وليس بصوت.
{ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
جملة مبينة لجملة {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} الآيتين، والمثال الحال أي ذلك التمثيل مثل للمشركين المكذبين بالقرآن، تشبيه بليغ.لأن حالة الكلب المشتبه شبيهة بحال المكذبين وليست عينها.
والإشارة بذلك إلى {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} وهو صاحب القصة، هو مثل المشركين
لأنهم شابهوه في أنهم أوتوا القرآن فكذبوا به، فكانت حالهم كحال ذلك المكذب، والأظهر أن تكون الإشارة إلى المثل في قوله: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} أي حال الكلب المذكورة كحال المشركين المكذبين في أنهم كانوا يودون معرفة دين إبراهيم، ويتمنون مساواة أهل الكتاب في العلم والفضل، فكانوا بذلك في عناء وحيرة في الجاهلية فلما جاءهم رسول منهم بكتاب مبين انتقلوا إلى عناء معاندته كقوله تعالى: {أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ} [الأنعام: 157] وهذا تأويل ما روي عن عبادة ابن الصامت أن آية {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} إلى آخرها نزلت في قريش.
وفرع على ذلك الأمر بقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} أي اقصص هذه القصة وغيرها، وهذا تذييل للقصة الممثل بها يشملها وغيرها من القصص التي في القرآن، فان في القصص تفكرا وموعظة فيرجى منه تفكرهم وموعظتهم، لأن الأمثال واستحضار النظائر شانا عظيما في اهتداء النفوس بها وتقريب الأحوال الخفية إلى النفوس الذاهلة أو المتغافلة، لما في التنظير بالقصة المخصوصة من تذكر مشاهدة الحالة بالحواس، بخلاف التذكير المجرد عن التنظير بالشيء المحسوس.
[177] {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ }.
جملة مستأنفة لأنها جعلت إنشاء ذم لهم.بأن كانوا في حالة شنيعة وظلموا أنفسهم.
والظلم هنا على حقيقته فانهم ظلموا أنفسهم بما أحلوه بها من الكفر الذي جعلهم مذمومين في الدنيا ومعذبين في الآخرة.
وتقديم المفعول للاختصاص، أي ما ظلموا إلا أنفسهم، وشأن العاقل أن لا يؤذي نفسه وفيه إزالة تبجحهم بأنهم لم يتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم ظنا منهم أن ذلك يغيظه ويغيظ المسلمين، وإنما يضرون أنفسهم.
وجملة {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} يجوز أن تكون معطوفة على الصلة باعتبار أنهم معروفون بمضمون هذه الجملة عند النبي والمسلمين، ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {سَاءَ مَثَلاً الْقَوْمُ} فتكون تذييلا للجملة التي قبلها إخبارا عنهم بأنهم في تكذيبهم، وانتفاء تفكرهم من القصص ما ظلموا إلا أنفسهم.
وقوله: {كَانُوا يَظْلِمُونَ} أقوى في إفادة وصفهم بالظلم من أن يقال: وظلموا أنفسهم، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} في سورة الأنعام [75].
[178] {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
هذه الجملة تذييل للقصة والمثل وما أعقبا به من وصف حال المشركين، فان هذه الجملة تحصل ذلك كله وتجري مجرى المثل، وذلك أعلى أنواع التذييل، وفيها تنويه بشأن المهتدين وتلقين للمسلمين للتوجه إلى الله تعالى بطلب الهداية منه والعصمة من مزالق الضلال، أي فالذين لم يهتدوا إلى الحق بعد أن جاءهم دلت حالهم على أن الله غضب عليهم فحرمهم التوفيق.
والهداية حقيقتها إبانة الطريق، وتطلق على مطلق الإرشاد لما فيه النفع سواء اهتدى المهدي إلى ما هدي إليه أم لم يهتد، قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الانسان:3] وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
ثم قد علم أن الفعل الذي يسند إلى الله تعالى إنما يراد به أتقن أنواع تلك الماهية وأدومها، ما لم تقم القرينة على خلاف ذلك، فقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ} يعنى به من يقدر الله اهتداءه، وليس المعنى من يرشده الله بالأدلة أو بواسطة الرسل، وقد استفيد ذلك من القصة المذيلة فانه قال فيها {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} فإيتاء الآيات ضرب من الهداية بالمعنى الأصلي، ثم قال فيها: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [لأعراف: 175] وقال: {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 176] وقال: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف: 176] فعلمنا أن الله أرشده، ولم يقدر له الاهتداء، فالحالة التي كان عليها قبل أن يخلد إلى الأرض ليست حالة هدى، ولكنها حالة تردد وتجربة، كما تكون حالة المنافق عند حضوره مع المسلمين إذ يكون متلبسا بمحاسن الإسلام في الظاهر، ولكنه غير مبطن لها كما قدمناه عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} في سورة البقرة [17]، فتعين أن يكون المعنى هنا: من يقدر الله له أن يكون مهتديا فهو المهتدي.
والقصر المستفاد من تعريف جزأى الجملة {فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قصر حقيقي ادعائي باعتبار الكمال واستمرار الاهتداء إلى وفاة صاحبه، وهي مسألة الموافاة عند الأشاعرة، أي وأما غيره فهو وإن بان مهتديا فليس بالمهتدي لينطبق هذا على حال الذي أوتي الآيات فانسلخ منها وكان الشأن أن يرفع بها.
وبهذا تعلم أن قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ} ليس من باب قول أبي النجم:
وشعري شعري
وقول النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله" لأن ذلك فيما ليس في مفاد الثاني منه شيء زائد على مفاد ما قبله بخلاف ما في الآية فان فيها القصر.
وكذلك القول في {وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} وزيد في جانب الخاسرين الفصل باسم الإشارة لزيادة الاهتمام بتمييزهم بعنوان الخسران تحذيرا منه، فالقصر فيه مؤكد.
وجمع الوصف في الثاني مراعاة لمعنى "من" الشرطية، وإنما روعي معنى من الثانية دون الأولى لرعاية الفاصلة ولتبين أن ليس المراد بـ"من" الأولى مفردا.
وقد علم من مقابلة الهداية بالإضلال، ومقابلة المهتدي بالخاسر أن المهتدي فائز رابح فحذف ذكر ربحه إيجازا.
والخسران استعير لتحصيل ضد المقصود من العمل كما يستعار الربح لحصول الخير من العمل كما تقدم عند قوله تعالى {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في هذه السورة [9]، وفي قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في سورة البقرة [16].
[179] {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} .
عطف على جملة {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف: 175]، والمناسبة أن صاحب القصة المعطوف عليها انتقل من صورة الهدى إلى الضلال لأن الله لما خلقه خلقه ليكون من أهل جهنم، مع مالها من المناسبة للتذييل الذي ختمت به القصة وهو قوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} [الأعراف: 178] الآية.
وتأكيد الخبر بلام القسم وبقد لقصد تحقيقه لأن غرابته تنزل سامعه خالي الذهن منه منزلة المتردد في تأويله، ولأن المخبر عنهم قد وصفوا بـ {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} إلى قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ، والمعنى بهم المشركون وهم ينكرون أنهم في ضلال ويحسبون انهم يحسنون صنعا، وكانوا يحسبون أنهم أصحاب أحلام وأفهام ولذلك قالوا
للرسول صلى الله عليه وسلم في معرض التهكم {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5].
والذرء الخلق وقد تقدم في قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} في سورة الأنعام [136].
واللام في {لِجَهَنَّمَ} للتعليل، أي خلقنا كثيرا لأجل جهنم.
وجهنم مستعملة هنا في الأفعال الموجبة لها بعلاقة المسببية، لأنهم خلقوا لأعمال الضلالة المفضية إلى الكون في جهنم، ولم يخلقوا لأجل جهنم لأن جهنم لا يقصد إيجاد خلق لتعميرها، وليست اللام لام العاقبة لعدم انطباق حقيقتها عليها، وفي الكشاف جعلهم لإغراقهم في الكفر، وانهم لا يأتي منهم إلا أفعال أهل النار، مخلوقين للنار دلالة على تمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار، وهذا يقتضي أن تكون الاستعارة في {ذَرَأْنَا} وهو تكلف راعى به قواعد الاعتزال في خلق أفعال العباد وفي نسبة ذلك إلى الله تعالى.
وتقديم المجرور على المفعول في قوله: {لِجَهَنَّمَ كَثِيراً} ليظهر تعلقه ب {ذَرَأْنَا} .
ومعنى خلق الكثير لأعمال الشر المفضية إلى النار: أن الله خلق كثيرا فجعل في نفوسهم قوى من شأنها إفساد ما أودعه في الناس من استقامة الفطرة المشار إليها في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وهي قوى الشهوة والغضب فخلقها أشد سلطانا على نفوسهم من القوة الفطرية المسماة الحكمة فجعلت الشهوة والغضب المسمين بالهوى تغلب قوة الفطرة، وهي الحكمة والرشاد، فترجح نفوسهم دواعي الشهوة والغضب فتتبعها وتعرض عن الفطرة، فدلائل الحق قائمة في نفوسهم ولكنهم ينصرفون عنها لغلبة الهوى عليهم فبحسب خلقه نفوسهم غير ذات عزيمة على مقاومة الشهوات: جعلوا كأنهم خلقوا لجهنم وكأنهم لم تخلق فيهم دواعي الحق في الفطرة.
والجن خلق غير مرئي لنا، وظاهر القرآن أنهم عقلاء وأنهم مطبوعون على ما خلقوا لأجله من نفع أو ضر، وخير أو شر، ومنهم الشياطين، وهذا الخلق لا قبل لنا بتفصيل نظامه ولا كيفيات تلقيه لمراد الله تعالى منه.
وقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ} حال أو صفة لخصوص الإنس، لأنهم الذين لهم: قلوب،
وعقول، وعيون وآذان، ولم يعرف للجن مثل ذلك، وقد قدم الجن على الإنس في الذكر، ليتعين كون الصفات الواردة من بعد صفات للإنس وبقرينة قوله: {بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ} .
و {الْقُلُوبُ} اسم لموقع العقول في اللغة العربية وقد تقدم عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} في سورة البقرة [7].
والفقه تقدم عند قوله: {لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} في سورة الأنعام [65].
ومعنى نفي الفقه والإبصار والسمع عن آلاتها الكائنة فيهم أنهم عطلوا أعمالها بترك استعمالها في أهم ما تصلح له: وهو معرفة ما يحصل به الخير الأبدي، ويدفع به الضر الأبدي، لأن آلات الإدراك والعلم خلقها الله لتحصيل المنافع ودفع المضارع، فلما لم يستعملوها في جلب أفضل المنافع ودفع أكبر المضار، نفي عنهم عملها على وجه العموم للمبالغة، لأن الفعل في حيز النفي يعم، مثل النكرة، فهذا عام أريد به الخصوص للمبالغة لعدم الاعتداد بما يعلمون من غير هذا، فالنفي استعارة بتشبيه بعض الموجود بالمعدوم كله.
وليس في تقديم الأعين على الآذان مخالفة لما جرى عليه اصطلاح القرآن من تقديم السمع على البصر لتشريف السمع يتلقى ما أمر الله به كما تقدم عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] لأن الترتيب في آية سورة الأعراف هذه سلك طريق الترقي من القلوب التي هي مقر المدركات إلى آلات الإدراك الأعين ثم الآذان فللآذان المرتبة الأولى في الارتقاء.
وجملة {أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ} مستأنفة لابتداء كلام بتفظيع حالهم فجعل ابتداء كلام ليكون أدعى للسامعين.وعرفوا بالإشارة لزيادة تمييزهم بتلك الصفات، وللتنبيه على أنهم بسببها أحرياء بما سيذكر من تسويتهم بالأنعام أو جعلهم أضل من الأنعام، وتشبيهم بالأنعام في عدم الانتفاع بما ينتفع به العقلاء فكأن قلوبهم وأعينهم وآذانهم، قلوب الأنعام وأعينها وآذانها، في أنها لا تقيس الأشياء على أمثالها ولا تنتفع ببعض الدلائل العقلية فلا تعرف كثيرا مما يفضي بها إلى سوء العاقبة.
و"بل" في قوله: {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} للانتقال والترقي في التشبيه في الضلال وعدم الانتفاع بما يمكن الانتفاع به، ولما كان وجه الشبه المستفاد من قوله: {كَالأَنْعَامِ} يؤول إلى معنى الضلال، كان الارتقاء في التشبيه بطريقة اسم التفضيل في الضلال.
ووجه كونهم أضل من الأنعام: أن الأنعام لا يبلغ بها ضلالها إلى إيقاعها في مهاوي الشقاء الأبدي لأن لها إلهاما تتفصى به عن المهالك كالتردي من الجبال والسقوط في الهوات، هذا إذا حمل التفضيل في الضلال على التفضيل في جنسه وهو الأظهر، وإن حمل على التفضيل في كيفية الضلال ومقارناته كان وجهه أن الأنعام قد خلق إدراكها محدودا لا يتجاوز ما خلقت لأجله، فنقصان انتفاعها بمشاعرها ليس عن تقصير منها، فلا تكون بمحل الملامة، وأما أهل الضلالة فانهم حجزوا أنفسهم عن مدركاتهم، بتقصير منهم وإعراض عن النظر والاستدلال فهم أضل سبيلا من الأنعام.
وجملة {أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} تعليل لكونهم أضل من الأنعام وهو بلوغهم حد النهاية في الغفلة، وبلوغهم هذا الحد أفيد بصيغة القصر الادعاءي إذ ادعي انحصار صفة الغفلة فيهم بحيث لا يوجد غافل غيرهم لعدم الاعتداد بغفلة غيرهم كل غفلة في جانب غفلتهم كلا غفلة لأن غفلة هؤلاء تعلقت بأجدر الأشياء بأن لا يغفل عنه، وهو ما تقضي الغفلة عنه بالغافل إلى الشقاء الأبدي فهي غفلة لا تدارك منها، وعثرة لا لعى لها.
والغفلة عدم الشعور بما يحق الشعور به، وأطلق على ضلالهم لفظ الغفلة بناء على تشبيه الإيمان بأنه أمر بين واضح يعد عدم الشعور به غفلة، ففي قوله: {هُمُ الْغَافِلُونَ} استعارة مكنية ضمنية، والغفلة من روادف المشبه به، وفي صف {الْغَافِلُونَ} استعارة مصرحة بأنهم جاهلون أو منكرون.
وقد وقع التدرج في وصفهم بهذه الأوصاف من نفي انتفاعهم، بمداركهم ثم تشبيههم بالانعام، ثم الترقي إلى أنهم أضل من الأنعام، ثم قصر الغفلة عليهم.
[180] {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
هذا خطاب للمسلمين، فتوسطه في خلال مذام المشركين لمناسبة أن أفظع أحوال المعدودين لجنهم هو حال إشراكهم بالله غيره، لأن في ذلك إبطالا لأخص الصفات بمعنى الإلهية: وهي صفة الوحدانية وما في معناها من الصفات نحو الفرد، الصمد.وينضوي تحت الشرك تعطيل صفات كثيرة مثل الباعث الحسيب والمعيد، ونشأ عن عناد أهل الشرك إنكار صفة الرحمان.
فعقبت الآيات التي وصفت ضلال إشراكهم بتنبيه المسلمين للإقبال على دعاء الله
بأسمائه الدالة على عظيم صفات الإلهية، والدوام على ذلك وأن يعرضوا عن شغب المشركين وجدالهم في أسماء الله تعالى.
وقد كان من جملة ما يتورك به المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أن أنكروا اسمه تعالى الرحمان، وهو إنكار لم يقدمهم عليه جهلهم بان الله موصوف بما يدل عليه وصف "رحمان" من شدة الرحمة، وإنما أقدمهم عليه ما يقدم كل معاند من تطلب التغليظ والتخطئة للمخالف، ولو فيما يعرف انه حق، وذكر ابن عطية، وغيره.أنه روي في سبب نزول قوله تعالى {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} أن أبا جهل سمع بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فيذكر الله في قراءته ومرة يقرأ فيذكر الرحمان فقال أبو جهل محمد يزعم أن الإله واحد وهو إنما يعبد آلهة كثيرة فنزلت هذه الآية.
فعطف هذه الآية على التي قبلها عطف الأخبار عن أحوال المشركين وضلالهم، والغرض منها قوله {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} .
وتقديم المجرور المسند على المسند إليه لمجرد الاهتمام المفيد تأكيد استحقاقه إياها، المستفاد من اللام، والمعنى أن اتسامه بها أمر ثابت، وذلك تمهيد لقوله {فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} ، وقد التزم مثل هذا التقديم في جميع الآي التي في هذا الغرض مثل قوله في سورة الإسراء [110] {فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وسورة طه [8] {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وفي سورة الحشر [24] {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، وكل ذلك تأكيد للرد على المشركين أن يكون بعض الأسماء الواردة في القرآن أو كلام النبي صلى الله عليه وسلم أسماء لله تعالى بتخييلهم أن تعدد الاسم تعدد للمسمى تمويها على الدهماء.
والأسماء هي الألفاظ المجعولة أعلاما على الذات بالتخصيص أو بالغلبة فاسم الجلالة وهو"الله" علم على ذات الإله الحق بالتخصيص، شأن الإعلام، و"الرحمان" و"الرحيم" اسمان لله بالغلبة، وكذلك كل لفظ مفرد دل على صفة من صفات الله، وأطلق إطلاق الإعلام نحو الرب، والخالق، والعزيز، والحكيم، والغفور، ولا يدخل في هذا ما كان مركبا إضافيا نحو ذو الجلال، ورب العرش، فان ذلك بالأوصاف أشبه، وأن كان دالا على معنى لا يليق إلا بالله نحو {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]
والحسنى مؤنث الأحسن، وهو المتصف بالحسن الكامل في ذاته، المقبول لدى العقول السليمة المجردة عن الهوى، وليس المراد بالحسن الملائمة لجميع الناس لان الملائمة وصف إضافي نسبي، فقد يلائم زيدا ما لا يلائم عمرا، فلذلك فالحسن صفة ذاتية
للشيء الحسن.
ووصف الأسماء {الْحُسْنَى} : لأنها دالة على ثبوت صفات كمال حقيقي، أما بعضها فلأن معانيها الكاملة لم تثبت إلا لله نحو الحي، والعزيز، والحكيم، والغني، وأما البعض الآخر فلأن معانيها مطلقا لا يحسن الاتصاف بها إلا في جانب الله نحو المتكبر، والجبار، لأن معاني هذه الصفات وأشباهها كانت نقصا في المخلوق من حيث أن المتسم بها لم يكن مستحقا لها لعجزه أو لحاجته، بخلاف الإله لأنه الغني المطلق، فكان اتصاف المخلوق بها منشأ فساد في الأرض وكان اتصاف الخالق بها منشأ صلاح، لأنها مصدر العدالة والجزاء القسط.
والتفريع في قوله {فَادْعُوهُ بِهَا} تفريع عن كونها أسماء له، وعن كونها حسنى، أي فلا حرج في دعائه بها لأنها أسماء متعددة لمسمى واحد، لا كما يزعم المشركون، ولأنها حسنى فلا ضير في دعاء الله تعالى بها.وذلك يشير إلى أن الله يدعى بكل ما دل على صفاته وعلى أفعاله.
وقد دلت الآية على أن كل ما دل على صفة لله تعالى وشأن من شؤونه على وجه التقريب للأفهام بحسب المعتاد يسوغ أن يطلق منه اسم لله تعالى ما لم يكن مجيئه على وجه المجاز نحو {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] أو يوهم معنى نقص في متعارف الناس نحو الماكر من قوله {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54].
وليست أسماء الله الحسنى منحصرة في التسعة والتسعين الواردة في الحديث الصحيح عن الأعرج، وعن أبي رافع، وعن همام بن منبه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة" لأن الحديث الصحيح ليس فيه ما يقتضي حصر الأسماء في ذلك العدد، ولكن تلك الأسماء ذات العدد لها تلك المزية، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا فقال يا حنان يا منان ولم يقع هذان الاسمان فيما روي من التسعة والتسعين، وليس في الحديث المروي بأسانيد صحية مشهورة تعيين الأسماء التسعة والتسعين، ووقع في جامع الترمذي من رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الأعرج، عن أبي هريرة بعد قوله: "دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمان الرحيم" إلى آخرها فعين صفات لله تعالى تسعا وتسعين وهي المشهورة بين الذين تصدوا لبيانها، قال الترمذي هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث ولا نعلم في شيء من الروايات لها إسناد صحيح ذكر الأسماء إلا
في هذا الحديث.
وتعيين هذه الأسماء لا يقتضي أكثر من أن مزيتها أن من أحصاها وحفظها دخل الجنة، فلا يمنع أن تعد لله أسماء أخرى.وقد عد ابن برجان الأشبيلي في كتابه في أسماء الله الحسنى مائة واثنين وثلاثين اسما مستخرجة من القرآن والأحاديث المقبولة.وذكر القرطبي: أن له كتابا سماه الأسنى في شرح الأسماء الحسنى ذكر فيه من الأسماء ما ينيف على مائتي اسم، وذكر أيضا أن أبا بكر بن العربي ذكر عدة من أسمائه تعالى مثل متم نوره، وخير الوارثين، وخير الماكرين، ورابع ثلاثة، وسادس خمسة، والطيب، والمعلم إلخ.
ولا تخفى سماجة عد نحو رابع ثلاثة، وسادس خمسة فإنها وردت في القرآن في سياق المجاز الواضح ولا مناص من تحكيم الذوق السليم، وليس مجرد الوقوف عند صورة ظاهرة من اللفظ، وذكر ابن كثير في تفسيره عن كتاب الأحوذي في شرح الترمذي لعله يعني عاضة الأحوذي ان بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله تعالى ألف اسم ولم أجده في نسخ عارضة الأحوذي لابن العربي، ولا ذكره القرطبي وهو من خاصة تلاميذه ابن العربي، والموجود في كتاب أحكام القرآن له أنه حضره منها مائة وستة وأربعون اسما وساقها في كتاب الأحكام، وسقط واحد منها في المطبوعة، وذكر انه أبلغها في كتابه الأمد أي الأمد الأقصى في شرح الأسماء إلى مائة وستة وسبعين اسما.
قال ابن عطية واختلف في الاسم الذي يقتضي مدحا خالصا ولا تتعلق به شبهة ولا اشتراك إلا أنه لم يرد منصوصا هل يطلق ويسمى الله به فنص الباقلاني على جواز ذلك ونص أبي الحسن الأشعري على منع ذلك، والفقهاء والجمهور على المنع، والصواب: أن لا يسمى الله تعالى إلا باسم قد أطلقته الشريعة وأن يكون مدحا خالصا لا شبهة فيه ولا اشتراك أمر لا يحسنه، إلا الأقل من أهل العلوم، فإذا أبيح ذلك تسور عليه من يظن بنفسه، الإحسان، فأدخل في أسماء الله ما لا يجوز إجماعا. واختلف في الأفعال التي في القرآن نحو {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] {وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران: 54] ونحو ذلك هل يطلق منها اسم الفاعل، فقالت فرقة: لا يطلق ذلك بوجه، وجوزت فرقة أن يقال ذلك مقيدا بسببه نحو الله ماكر بالذين يمكرون بالدين، وأما إطلاق ذلك دون تقييد فممنوع إجماعا.
والمراد من ترك {الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} الإمساك عن الاسترسال في محاجتهم لظهور أنهم غير قاصدين معرفة الحق، أو ترك الإصغاء لكلامهم لئلا يفتنوا عامة المؤمنين بشبهاتهم، أي اتركوهم ولا تلغبوا أنفسكم في مجادلتهم فإني سأجزيهم وقد تقدم معنى "ذر" عند قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً} في سورة الأنعام [70].
والإلحاد الميل عن وسط الشيء إلى جانبه، وإلى هذا المعنى ترجع مشتقاته كلها، ولما كان وسط الشيء يشبه به الحق والصواب، استتبع ذلك تشبيه العدول عن الحق إلى الباطل بالإلحاد، فأطلق الإلحاد على الكفر والإفساد، ويعدى حينئذ بفي لتنزيل المجرور بها منزلة المكان للالحاد، والاكثر أن يكون ذلك عن تعمد للإفساد، ويقال لحد وألحد والأشهر ألحد.
وقرأ من عدا حمزة يلحدون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد المهموز وقرأه حمزة وحده: بفتح الياء والحاء، من لحد المجرد.
وإضافة الأسماء إلى الله تؤذن بان المقصود أسماؤه التي ورد في الشرع ما يقتضي تسميته بها.
ومعنى الإلحاد في أسماء الله جعلها مظهرا من مظاهر الكفر، وذلك بإنكار تسميته تعالى بالأسماء الدالة على صفات ثابتة له وهو الأحق بكمال مدلولها فانهم أنكروا الرحمان، كما تقدم، وجعلوا تسميته به في القرآن وسيلة للتشنيع ولمز النبي عليه الصلاة والسلام بأنه عدد الآلهة، ولا أعظم من هذا البهتان والجور في الجدال فحق بان يسمى إلحادا لأنه عدول عن الحق بقصد المكابرة والحسد.
وهذا يناسب أن يكون حرف "في" من قوله: {فِي أَسْمَائِهِ} مستعملا في معنى التعليل كقول النبي صلى الله عليه وسلم "دخلت امرأة النار في هرة" الحديث وقول عمر بن أبي ربيعة:
وعصيت فيك أقاربي فتقطعت ... بيني وبينهم عرى أسبابي
وقد جوز المفسرون احتمالات أخرى في معنى الإلحاد في أسمائه: منها ثلاثة ذكرها الفخر وأنا لا أراها ملاقية لإضافة الأسماء إلى ضميره تعالى، كما لا يخفى عن الناظر فيها.
وجملة {سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} تتنزل منزلة التعليل للأمر بترك الملحدين،
فلذلك فصلت، أي لا تهتموا بإلحادهم ولا تحزنوا له، لأن الله سيجزيهم بسوء صنيعهم، وسمي إلحادهم عملا لأنه من أعمال قلوبهم وألسنتهم.
و"ما" موصولة عامة أي سيجزون بجميع ما يعملونه من الكفر، ومن جملة ذلك إلحادهم في أسمائه.
والسين للاستقبال وهي تفيد تأكيد.
وقيل: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} دون ما عملوا أو ما يعملون للدلالة على أن ذلك العمل سنة لهم ومتجدد منهم.
[183,181] {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}.
عطف على جملة {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} [لأعراف: 179] الآية، والمقصود: التنويه بالمسلمين في هديهم واهتدائهم، وذلك مقابلة لحال المشركين في ضلالهم، أي عرض عن المشركين فإن الله أغناك عنهم بالمسلمين، فما صدق "الأمة" هم المسلمون بقرينة السياق كما في قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يعتلق بعض النفوس حمامها
يريد نفسه فأنها بعض النفوس. روى الطبري عن قتادة قال بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ الآية "هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها".
وقوله: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . وبقية ألفاظ الآية عرف تفسيرها من نظره المتقدمة في هذه السورة.
والذين كذبوا بالآيات هم المشركون الذين كذبوا بالقرآن.وقد تقدم وجه تعدية فعل التكذيب بالباء ليدل على معنى الإنكار عند قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} في سورة الأنعام [57].
والاستدراج مشتق من الدرجة بفتحتين وهي طبقة من البناء مرتفعة من الأرض بقدر ما ترتفع الرجل للارتقاء منها إلى ما فوقها تيسيرا للصعود في مثل العلو أو الصومعة أو البرج، وهي أيضا واحدة الأعواد المصفوفة في السلم يرتقى منها إلى التي فوقها، وتسمى هذه الدرجة مرقاة، فالسين والتاء في فعل الاستدراج للطلب، أي طلب منه أن
يتدرج، أي صاعدا أو نازلا، والكلام تمثيل لحال القاصد إبدال حال أحد إلى غيرها بدون إشعاره، بحال من يطلب من غيره أن ينزل من درجة إلى أخرى بحيث ينتهي إلى المكان الذي لا يستطيع الوصول إليه بدون ذلك، وهو تمثيل بديع يشتمل على تشبيهات كثيرة فانه مبني على تشبيه حسن الحال برفعة المكان وضده بسفالة المكان، والقرينة تعين المقصود من انتقال إلى حال أحسن أو أسوا.
ومما يشير إلى مراعاة هذا التمثيل في الآية قوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ولما تضمن الاستدراج معنى الإيصال إلى المقصود علق بفعله مجرور بمن الابتدائية أي مبتدئا استدراجهم من مكان لا يعلمون أنه مفض بهم إلى المبلغ الضار، فـ {حَيْثُ} هنا للمكان على أصلها، أي من مكان لا يعلمون ما يفضي إليه، وحذف مفعول يعلمون لدلالة الاستدراج عليه، والتقدير لا يعلمون تدرجه، وهذا مؤذن بأنه استدراج عظيم لا يظن بالمفعول به أن يتفطن له.
والإملاء إفعال وهو الإمهال، وهمزة هذا المصدر منقلبة عن واو، مشتق من الملاوة مثلثة الميم وهي مدة الحياة يقال أملاه وملاه إذا أمهله وأخره، كلاهما بالألف دون همز فهو قريب من معنى عمره، ولذلك يقال في الدعاء بالحياة ملاك الله.
واللام في قوله {لَهُمْ} هي اللام التي تسمى: لام التبيين، ولها استعمالات كثيرة فيها خفاء ومرجعها: إلى أنها يقصد منها تبيين اتصال مدخولها بعامله لخفاء في ذلك الاتصال، فان اشتقاق أملى من الملو اشتقاق غير مكين لأن المشتق منه ليس فيه معنى الحدث فلم يجيء منه فعل مجرد فاحتيج إلى اللام لتبيين تعلق المفعول بفعله.
وأما قولهم أملى للبعير بمعنى أطال له في طوله في المرعى فهو جاء من هذا المعنى بضرب من المجاز أو الاستعارة.
فجملة {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في موضع العلة للجملتين قبلها، فإن الاستدراج والإملاء ضرب من الكيد، وكيد الله متين أي قوي لا انفلات منه للمكيد.
وموقع {إِنَّ} هنا موقع التفريع والتعليل، كما قال عبد القاهر: إنها تغني في مثل هذا الموقع غناء الفاء، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} في سورة آل عمران [96]، أي: يكون ذلك الاستدراج وذلك الإملاء بالغين ما أردناه بهم لأن كيدي قوي.
ولما كان {وَأُمْلِي} معطوفا على {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} ، فهو مشارك له في الدخول تحت حكم الاستقبال، أي: وسأملي لهم.
والمغايرة بين فعلي نستدرج وأملي في كون ثانيهما بهمزة المتكلم، وأولهما بنون العظمة مغايرة اقتضتها الفصاحة من جهة ثقل الهمزة بين حرفين متماثلين في النطق في سنستدرجهم وللتفنن والاكتفاء بحصول معنى التعظيم الأول.
و"الكيد" لم يضبط تحديد معناه في كتب اللغة، وظاهرها أنه يرادف المكر والحيلة، وقال الراغب ضرب من الاحتيال، وقد يكون مذموما وممدوحا وإن كان يستعمل في المذموم أكثر وهو يقتضي أن الكيد أخص من الاحتيال وما ذلك إلا لأنه غلب استعماله في الاحتيال على تحصيل ما لو اطلع عليه المكيد لاحترز منه، فهو احتيال فيه مضرة ما على المفعول به، فمراد الراغب بالمذموم المذموم عند المكيد لا في نفس الأمر وقال ابن كمال باشا الكيد الأخذ على خفاء ولا يعتبر فيه إظهار الكائد خلاف ما يبطنه.
ويتحصل من هذه التدقيقات: أن الكيد أخص من الحيلة ومن الاستدراج.
ووقوع جملة {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} موقع التعليل يقتضي أن استدراجهم والإملاء لهم كيد، فيفيد أنه استدراج إلى ما يكرهونه وتأجيل لهم إلى حلول ما يكرهونه، لأن مضمون الجملة الثانية على هذا شامل لمضمون الجملة السابقة مع زيادة الوصف، المتين، ما لو حمل الكيد على معنى الأخذ على خفاء بقطع النظر عن إظهار خلاف ما يخفيه فان جملة أن كيدي متين لا تفيد التعليل الاستدراج والإملاء بأنهما من فعل من يأخذ على خفاء دون تلوين أخذه بما يغر المأخوذ، فكأنه قال سنستدرجهم من حيث لا يعلمون كائدين لهم، أن كيدي متين.
وإطلاقه هنا جاء على طريقة التمثيلية بتشبيه الحال التي يستدرج الله بها المكذبين مع تأخير العذاب عنهم إلى أمد هم بالغوه، بحال من يهيئ أخذا لعدوه مع إظهار المصانعة والمحاسنة ليزيد عدوه غرورا، وليكون وقوع ضر الأخذ به أشد وأبعد عن الاستعداد لتلقيه.
والمتين القوي، وحقيقته القوي المتن أي الظهر، لأن قوة متنه تمكنه من الأعمال الشديدة، ومتن كل شيء عموده وما يتماسك به.
[184] {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
لما كان تكذيبهم بالآيات منبعثا عن تكذيبهم من جاء بها، وناشئا عن ظن أن آيات الله لا يجيء بها البشر وأن من يدعي أنه مرسل من الله مجنون، عقب الإخبار عن المكذبين، ووعيدهم بدعوتهم للنظر في حال الرسول، وانه ليس بمجنون كما يزعمون.
واستعمال العرب همزة الاستفهام مع حروف العطف المشركة في الحكم استعمال عجيب تقدم بيانه عند قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} في سورة البقرة [87].
والجملة مستأنفة، وهي ابتداء كلام في محاجتهم وتنبيههم بعد الإخبار عنهم بأنهم مستدرجون ومملى لهم.
الاستفهام للتعجيب من حالهم والإنكارعليهم و"ما" في قوله: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} نافية كما يؤذن به دخول "من" على منفى ما لتأكيد الاستغراق.
وفعل {يَتَفَكَّرُوا} منزل منزلة اللازم فلا يقدر له متعلق للاستغناء عن ذلك بما دل عليه النفي في قوله: {مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي ألم يكونوا من المفكرين أهل النظر، والفعل المعلق عن العمل لا يقدر له مفعول ولا متعلق.
والمقصود من تعليق الفعل هو الانتقال من علم الظان إلى تحقيق الخبر المظنون وجعله قضية مستقلة، فيصير الكلام بمنزلة خبرين خبر من جانب الظان ونحوه، وخبر من جانب المتكلم دخل في قسم الواقعات فنحو قوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} [الانبياء: 65] هو في قوة أن يقال: لقد علمت لا ينطقون ما هؤلاء ينطقون، أي ذلك علمك وهذا علمي، وقوله هنا: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} في قوة: أو لم يتفكروا صاحبهم غير مجنون، ما بصاحبهم من جنة.فتعليق أفعال القلب ضرب من ضروب الإيجاز، وأحسب هذا هو الغرض من أسلوب التعليق لم ينبه عليه علماء المعاني، وان خصائص العربية لا تنحصر.
و"الصاحب" حقيقته الذي يلازم غيره في حالة من سفر أو نحوه، ومنه قوله تعالى: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ} [يوسف: 41]، وسميت الزوجة صاحبة، ويطلق مجازا على الذي له مع غيره حادث عظيم وخبر، تنزيلا لملازمة الذكر منزلة ملازمة الذات ومنه قول أبي معبد الخزاعي لامرأته، أم معبد، لما أخبرته بدخول النبي صلى اله عليه وسلم بيتها في طريق الهجرة ووصفت له هديه وبركته "هذا صاحب قريش"، وقول الحجاج في بعض خطبه لأهل
العراق "ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم الغدر واستنبطتم الكفر" يريد أنهم الذين قاتلوه بالأهواز فمعنى كونهم أصحابه انه كثر اشتغاله بهم وقول الفضل بن عباس اللهبي:
كل له نية في بغض صاحبه ... بنعمة الله نقليكم وتقلونا
فوصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه صاحب الذين كذبوا بالآيات: هو بمعنى الذي اشتغلوا بشأنه ولزموا الخوض في أمره، وقد تكرر ذلك في القرآن كقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]
والجنة بكسر الجيم اسم للجنون وهو الخبال الذي يعتري الإنسان من اثر مس الجن إياه في عرف الناس، ولذلك علقت الجنة بفعل الكون المقدر، بحرف الباء الدال على الملابسة.وإنما أنكر عليهم وعجب من إعراضهم عن التفكر في شأن الرسول عليه الصلاة والسلام انه غير مجنون، ردا عليهم وصفهم إياه بالجنون {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} [الدخان: 14] وهذا كقوله تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22]
وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} استئناف بياني لجواب سائل منهم يقول: فماذا شأنه، أو هي تقرير لحكم جملة {مَا بِصَاحِبِهِمْ} من جنة ففصلت لكمال الاتصال بينهما المغنى عن العطف.
والنذير المحذر من شيء يضر، وأصله الذي يخبر القوم بقدوم عدوهم، ومنه المثل أنا النذير العريان يقال أنذر نذارة بكسر النون مثل بشارة فهو منذر ونذير.
وهذا مما جاء فيه فعيل في موضع مفعل، مثل الحكيم، بمعنى المحكم، وقول عمرو بن معد يكرب.
أمن ريحانة الداعي السميع أي المسمع.
والمبين اسم فاعل من أبان إذا أوضح، ووقوع هذا الوصف عقب الإخبار بنذير يقتضي أنه وصف للخبر، فالمعنى أنه النذير المبين لنذارته بحيث لا يغادر شكا في صدقه ولا في تصوير الحال المحذر منها، فالغرض من اتباع "النذير" بوصف "المبين" التعريض بالذين لم ينصاعوا لنذارته، ولم يأخذوا حذرهم من شر ما حذرهم منه، وذلك يقطع عذرهم.
ويجوز جعل {مُبِينٌ} خبرا ثانيا عن ضمير صاحبهم، والمعنى أنه نذير وأنه مبين
فيما يبلغه من نذارة وغيرها.
والقصر المستفاد من النفي والاستثناء قصر موصوف على صفة، وهو يقتضي انحصار أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم في النذارة والبيان، وذلك قصر إضافي، هو قصر قلب، أي هو نذير مبين لا مجنون كما يزعمون، وفي هذا استغباء أو تسفيه لهم بان حاله لا يلتبس بحال المجنون للبون الواضح بين حال النذارة البينة وحال هذيان المجنون.فدعوا هم جنونه: أما غباوة منهم بحيث التبست عليهم الحقائق المتمايزة، وأما مكابرة وعناد وافتراء على الرسول.
[185] {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}.
ترق في الإنكار والتعجيب من حالهم في إعراضهم عن النظر في حال رسولهم، إلى الإنكار والتعجيب من إعراضهم عن النظر فيما هو أوضح من ذلك وأعم، وهو ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء مما هو آيات من آيات وحدانية الله تعالى التي دعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان بها.والمناسبة بين الكلامين: أن دعوة الرسول إلى التوحيد وإبطال الشرك هو من أكبر بواعثهم على تكذيبه {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [صّ:5]
وعدي فعل "النظر" إلى متعلقه بحرف الظرفية لأن المراد التأمل بتدبر وهو التفكر كقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذريات:21] وتقول نظرت في شأني، فدل بحرف الظرفية على أن هذا التفكر عميق متغلغل في أصناف الموجودات، وهي ظرفية مجازية.
والملكوت الملك العظيم، وقد مضى عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في سورة الأنعام [75].
وأضافته إلى السماء والأرض بيانية أي الملك الذي هو السماوات والأرض أي ملك الله لهما، فالمراد السماء بمجموعها والأرض بمجموعها الدالين على عظم ملك الله تعالى.
وعطف {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} على {مَلَكُوتِ} فقسم النظر إلى نظر في عظيم
ملك الله تعالى، وإلى نظر في مخلوقاته ودقائق أحوالها الدالة على عظيم قدرة الله تعالى، فالنظر إلى عظمة السماوات والأرض دليل على عظم ملك الله تعالى فهو الحقيق بالإلهية دون غيره، والنظر إلى المخلوقات دليل على عظم قدرته تعالى، وأنه المنفرد بالصنع فهو الحقيق بالإلهية، فلو نظروا في ذلك نظر اعتبار لعلموا أن صانع ذلك كله ليس إلا إله واحد، فلزال إنكارهم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشرك.
وقوله {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} معطوف على {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} .
و {أَنْ} هذه هي أن المفتوحة الهمزة المشددة النون خففت، فكان اسمها ضمير شأن مقدرا.وجملة: عسى أن يكون إلخ خبر ضمير الشأن.
و {أَنْ} التي بعد عسى مصدرية هي التي تزاد بعد عسى غالبا في الاستعمال.
واسم {يَكُونَ} ضمير شأن أيضا محذوف لأن ما بعد {يَكُونَ} غير صالح لأن يعتبر اسما لكان، والمعنى ألم ينظروا في توقع قرب أجلهم.
وصيغ الكلام على هذا النظم لإفادة تهويل الأمر عليهم وتخويفهم، بجعل متعلق النظر من معنى الإخبار للدلالة على أنه أمر من شأنه أن يخطر في النفوس، وأن يتحدث به الناس، وأنه قد صار حديثا وخبرا فكأنه أمر مسلم مقرر.
وهذا موقع ضمير الشان حيثما ورد، ولذلك يسمى: ضمير القصة اعتدادا بأن جملة خبره قد صارت شيئا مقررا ومما يقصه الناس ويتحدثون به.
ومعنى النظر في توقع اقتراب الأجل، التخوف من ذلك.
والأجل المضاف إلى ضمير المكذبين هو أجل الأمة لا أجل الأفراد، لأن الكلام تهديد بأجل غير متعارف، نبههم إلى التفكر في توقع حلول الاستئصال بهم وإهلاكهم كما هلك المكذبون من قبلهم، لأنهم إذا تفكروا في أن صاحبهم ليس بمجنون حصل لهم العلم بأنه من العقلاء فما كان العاقل بالذي يحدث لقومه حادثا عظيما مثل هذا ويحدث لنفسه عناء كهذا العناء لغير أمر عظيم جاء به، وما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله، وإذا نظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء علموا أن الله الملك الأعظم، وانه خالق المخلوقات، فأيقنوا بأنه الإله الواحد، فآل ذلك إلى تصديق الرسول عليه الصلاة والسلام وإبطال معتقدهم تعدد الآلهة أو آل في أقل
الاحتمالات إلى الشك في ذلك، فلا جرم أن يفضي بهم إلى النظر في توقع مصير لهم مثل ما صار إليه المكذبون من قبلهم.
ويجوز أن يكون المراد بالأجل مجيء الساعة، وانقراض هذا العالم، فهو أجلهم وأجل غيرهم من الناس فيكون تخويفا من يوم الجزاء.
ومن بديع نظم هذه الآيات: أنه لما أريد التبصر والتفكر في ثبوت الحقائق والنسب في نفس الأمر جيء مع فعلى القلب بصيغة القضية والخبر في قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} [الأعراف: 184] وقوله: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} ولما أريد التبصر والتفكر في صفات الذات جعل فعل القلب متعلقا بأسماء الذوات في قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} .
ثم فرع على التهديد والوعيد توبيخهم والإنكار عليهم بطريقة الاستفهام التعجبي المفيد للاستعباد بقوله {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فهو تعجيب مشوب باستبعاد للإيمان بما أبلغ إليهم الله بلسان رسوله عليه الصلاة والسلام، وما نصب لهم من الآيات في أصناف المخلوقات، فإن ذلك كله قد بلغ منتهى البيان قولا ودلالة بحيث لا مطمع أن يكون غيره أدل منه.
و"أي" هنا اسم أشرب معنى الاستفهام، وأصله اسم مبهم يفسره ما يضاف هو إليه، وهو اسم لحصة متميزة عما يشاركها في نوع من جنس أو صفة، فإذا أشرب "أي" معنى الاستفهام كان للسؤال عن تعيين مشارك لغيره في الوصف المدلول عليه بما تضاف إليه "أي" طلبا لتعيينه، فالمسؤول عنه بها مساو لمماثل له معروف فقوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} سؤال عن الحديث المجهول المماثل للحديث المعروف بين السائل والمسؤول وسيأتي الكلام على "أي" عند قوله تعالى {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} في سورة القلم[القلم:5, 6].
والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار، أي لا يؤمنون بشيء من الحديث بعد هذا الحديث.
وحقيقة الحديث أنه الخبر والقصة الحادثة {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذريات: 24]، ويطلق مجازا على الأمر الذي من شأنه أن يصير حديثا وهو أعم من المعنى الحقيقي.
فـ "الحديث" هنا أن حمل على حقيقته جاز أن يراد به القرآن كما في قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] فيكون الضمير في قوله: {بَعْدَهُ} بمعنى بعد ا لقرآن، أي بعد نزوله، وجاز أن يراد به دعوى محمد صلى الله عليه وسلم الرسالة من عند الله، وكلا الاحتمالين يناسب قوله: {أو لم يتفكروا ما بصاحبكم من جنة} [الأعراف: 184].
والباء في قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ} على هذا باء التعدية لتعدية فعل {يُؤْمِنُونَ} ، وإن حمل على المجاز شمل القرآن وغيره من دلائل المصنوعات باعتبار أنها من شأنها أن يتحدث الناس بها كما في قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6] فيكون الضمير في قوله: {بَعْدَهُ} عائدا على معنى المذكور أي ما ذكر من ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، وأفرد الضمير لتأويله بالمذكور كما في قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} في سورة النساء [4] أي فبأي شيء يستدل عليهم غير ما ذكر بعد أن لم ينتفعوا بدلالة ما ذكر ولم يؤمنوا له فلا يرجى منهم إيمان بعد ذلك.
والباء على هذا الوجه للسببية متعلقة ب {يُؤْمِنُونَ}. و {بَعْدَهُ} هنا مستعارة لمعنى غير لأن الظروف الدالة على المباعدة والمفارقة تستعمل استعمال المغاير قال تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]، وحمل بعد على حقيقتها هنا يحوج إلى تأويل، ويخرج الكلام عن سواء السبيل.
[186] {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }.
هذه الجملة تعليل للإنكار في قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ، لإفادة أن ضلالهم أمر قدر الله دوامه فلا طمع لأحد في هديهم، ولما كان هذا الحكم حاقا على من اتصف بالتكذيب، وعدم التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم النظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله، وفي توقع اقتراب استئصالهم، كان المحكوم عليهم بعدم الاهتداء فريقا غير معروف للناس وإنما ينفرد الله بعلمه ويطلع عليه رسوله عليه الصلاة والسلام، وينكشف بعض ذلك عند موت بعضهم على الشرك، وهذه هي المسألة الملقبة بالموافاة عند علماء الكلام.
وعطف جملة {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} على جملة {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ} للإشارة إلى استمرار ضلالهم وانتفاء هديهم في المستقبل كما وقع في الماضي.
وتفسير {وَيَذَرُهُمْ فِي} تقدم عند قوله تعالى: {وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا} في سورة الأنعام وتفسير {طُغْيَانِهِمْ} و {يَعْمَهُونَ} تقدم عند قوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15].
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر،: {يَذَرُهُمْ} بالنون وبالرفع، على أنه عطف جملة على جملة {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} على طريقة الالتفات من الغيبة إلى التكلم.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف: بالياء التحتية والجزم، على أنه عطف على موضع {فَلا هَادِيَ لَهُ} وهو جواب الشرط.
وقرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب: بالياء التحتية وبالرفع والوجه ظاهر.
[187] {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }.
استئناف ابتدائي يذكر به شيء من ضلالهم ومحاولة تعجيزهم النبي صلى الله عليه وسلم بتعيين وقت الساعة.
ومناسبة هذا الاستئناف هي التعرض لتوقع اقتراب أجلهم في قوله: {وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ} [لأعراف: 185] سواء أفسر الأجل بأجل إذهاب أهل الشرك من العرب في الدنيا، وهو الاستئصال، أم فسر بأجلهم وأجل بقية الناس وهو قيام الساعة، فإن للكلام على الساعة مناسبة لكلا الأجلين.
وقد عرف من شنشنة المشركين إنكارهم، البعث وتهكمهم بالرسول عليه الصلاة والسلام من أجل إخباره عن البعث {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} [سبأ: 7, 8]، وقد جعلوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة ووقتها تعجيزا له، لتوهمهم أنه لما أخبرهم بأمرها فهو يدعي العلم بوقتها {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 30,29].
فالسائلون هم المشركون، وروي ذلك عن قتادة، والضمير يعود إلى الذين كذبوا بآياتنا، وقد حكي عنهم مثل هذا السؤال في مواضع من القرآن كقوله تعالى في سورة
النازعات {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات:42] وقوله: { عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ:1, 3] يعنى البعث والساعة، ومن المفسرين من قال: المعني بالسائلين اليهود أرادوا امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن الساعة، وهذا لا يكون سبب نزول الآية لأن هذه السورة مكية، قيل كلها وقيل أن آيتين منها نزلتا بالمدينة، ولم يعدوا هذه الآية، فيما اختلف في مكان نزوله والسور التي حكي فيها مثل هذا السؤال مكية أيضا نازلة قبل هذه السورة.
والساعة معرفة باللام علم بالغلبة في اصطلاح القرآن على وقت فناء هذا العالم الدنيوي والدخول في العالم الأخروي، وتسمى: يوم البعث، ويوم القيامة.
و {أَيَّانَ} اسم يدل على السؤال عن الزمان وهو جامد غير متصرف مركب من "أي" الاستفهامية و"آن" وهو الوقت، ثم خففت "أي" وقلبت همزة أن ياء ليتأتى الإدغام فصارت أيان بمعنى أي زمان، ويتعين الزمان المسؤول عنه بما بعد "أيانط، ولذلك يتعين أن يكون اسم معنى لا اسم ذات، إذ لا يخبر بالزمان عن الذات، وأما استعمالها اسم شرط لعموم الأزمنة فذلك بالنقل من الاستفهام إلى الشرط كما نقلت "متى" من الاستفهام إلى الشرطية، وهي توسيعات في اللغة تصير معاني متجددة.وقد ذكروا في اشتقاق "أيان" احتمالات يرجعون بها إلى معاني أفعال، وكلها غير مرضية، وما ارتأيناه هنا أحسن منها.
فقوله: {أَيَّانَ} خبر مقدم لصدارة الاستفهام، و {مُرْسَاهَا} مبتدأ مؤخر، وهو في الأصل مضاف إليه أن إذ الأصل أي أن آن مرسى الساعة.
وجملة {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} في موضع نصب بقول محذوف دل عليه فعل {يَسْأَلونَكَ} ، والتقدير: يقولون أيان مرساها، وهو حكاية لقولهم بالمعنى، ولذلك كانت الجملة في معنى البدل عن جملة {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} .
والمرسى مصدر ميمي من الإرساء وهو الإقرار يقال رسا الجبل ثبت وأرساه أثبته وأقره، والإرساء الاستقرار بعد السير كما قال الأخطل:
وقال رائدهم أرسوا نزاولها
ومرسى السفينة استقرارها بعد المخر قال تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41]، وقد أطلق الإرساء هنا استعارة للوقوع تشبيها لوقوع الأمر الذي كان مترقبا أو متردد
فيه بوصول السائر في البر أو البحر إلى المكان الذي يريده.
وقد أمر الله رسوله بجوابهم جواب جد وإغضاء عن سوء قصدهم بالسؤال التهكم، إظهارا لنفي الوصمة عن وصف النبوءة من جراء عدم العلم بوقت الساعة، وتعليما للذين يترقبون أن يحصل من جواب الرسول عن سؤال المشركين علم للجميع بتعيين وقت الساعة فإذا أمر الساعة مما تتوجه النفوس إلى تطلبه فقد ورد في الصحيح أن رجلا من المسلمين سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله متى الساعة فقال رسول الله: "ماذا أعددت لها" فقال: ما أعددت لها كبير عمل إلا أني أحب الله ورسوله فقال: "أنت مع من أحببت".
وعلم الساعة هو علم تحديد وقتها كما ينبي عنه السؤال وقوله: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} ، فإضافة علم إلى ضمير الساعة على تقدير مضاف بينهما أي علم وقتها، والإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله.وظرفية "عند" مجازية استعملت في تحقيق تعلق علم الله بوقتها.
والحصر حقيقي: لأنه الاصل، ولما دل عليه توكيده بعد في قوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} ، والقصر الحقيقي يشتمل على معنى الإضافي وزيادة لأن علم الساعة بالتحديد مقصور على الله تعالى.
والتعريف بوصف الرب وأضافته إلى ضمير المتكلم إيماء إلى الاستدلال على استئثار الله تعالى بعلم وقت الساعة دون الرسول المسؤول ففيه إيماء إلى خطإهم وإلى شبهة خطإهم.
و"التجلية" الكشف، والمراد بها ما يشمل الكشف بالإخبار والتعيين، والكشف بالإيقاع، وكلاهما منفي الإسناد عن غير الله تعالى، فهو الذي يعلم وقتها، وهو الذي يظهرها إذا أراد، فإذا أظهرها فقد أجلاها.
واللام في قوله: {لِوَقْتِهَا} للتوقيت كالتي في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] ومعنى التوقيت، قريب من معنى "عند"، والتحقيق: أن معناه ناشيء عن معنى لام الاختصاص.
ومعنى اللام يناسب أحد معنيي الإجلاء، وهو الاظهار، لأنه الذي إذا حصل تم كشف أمرها وتحقق الناس أن القادر على إجلائها كان عالما بوقت حلولها.
وفصلت جملة {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} لأنها تتنزل من التي قبلها منزلة التأكيد والتقرير.
وقدم المجرور وهو {لِوَقْتِهَا} على فاعل {يُجَلِّيهَا} الواقع استثناء مفرغا للاهتمام به تنبيها على أن تجلية أمرها تكون عند وقت حلولها لأنها تأتي بغتة.
وجملة {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معترضة لقصد الإفادة بهولها، والإيماء إلى حكمة إخفائها.
وفعل {ثَقُلَتْ} يجوز أن يكون لمجرد الإخبار بشدة، أمرها كقوله: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} .
ويجوز أن يكون تعجيبا بصيغة فعل بضم العين فتقدر الضمة ضمة تحويل الفعل للتعجيب، وإن كانت هي ضمة أصلية في الفعل، فيكون من قبيل قوله: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5].
والثقل مستعار للمشقة كما يستعار العظم والكبر، لأن شدة وقع الشيء في النفوس ومشقته عليها تخيل لمن حلت به انه حامل شيئا ثقيلا، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] أي شديدا تلقيه وهو القرآن.ووصف الساعة بالثقل باعتبار ما هو مظروف في وقتها من الحوادث، فوصفها بذلك مجاز عقلي، والقرينة واضحة، وهي كون الثقل بمعنى الشدة لا يكون وصفا للزمان، ولكنه وصف للأحداث فإذا أسند إلى الزمان، فإسناده إليه إنما هو باعتباره ظرفا للأحداث، كقوله: {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77].
وثقل الساعة أي شدتها هو عظم ما يحدث فيها من الحوادث المهولة في السماوات والأرض، من تصادم الكواكب، وانخرام سيرها، ومن زلازل الأرض وفيضان البراكين، والبحار، وجفاف المياه، ونحو ذلك مما ينشأ عن اختلال النظام الذي كان عليه سير العالم وذلك كله يحدث شدة عظيمة على كل ذي إدراك من الموجودات.
ومن بديع الإيجاز تعدية فعل {ثَقُلَتْ} بحرف الظرفية الدال على مكان حلول الفعل، وحذف ما حقه أن يتعدى إليه وهو حرف "إلى" الذي يدل على ما يقع عليه الفعل،
ليعم كل ما تحويه السماوات والأرض مما يقع عليه الثقل بمعنى الشدة.
وجملة {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} مستأنفة جاءت تكملة للإخبار عن وقت حلول الساعة، لأن الإتيان بغتة يحقق مضمون الإخبار عن وقتها بأنه غير معلوم إلا لله وبأن الله غير مظهره لأحد، فدل قوله: {لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} على أن انتفاء إظهار وقتها انتفاء متوغل في نوعه بحيث لا يحصل العلم لأحد بحلولها بالكنه ولا بالإجمال، وأما ما ذكر لها من أمارات في حديث سؤال جبريل عن أماراتها فلا ينافي إتيانها بغتة، لأن تلك الأمارات ممتدة الأزمان بحيث لا يحصل معها تهيؤ للعلم بحلولها.
و"البغتة" مصدر على زنة المرة من البغت وهو المفاجأة أي الحصول بدون تهيؤ له، وقد مضى القول فيها عند قوله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} في سورة الأنعام [31].
وجملة {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} مؤكدة لجملة {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ} ومبينة لكيفية سؤالهم فلذينك فصلت.
وحذف متعلق السؤال لعلمه من الجملة الأولى.
و {حَفِيٌّ} فعيل فيجوز أن يكون بمعنى فاعل مشتقا من حفي به مثل غني فهو غني إذا أكثر السؤال عن حاله تلطفا ويكون المعنى كأنك اكثرت السؤال عن وقتها حتى علمته، فيكون وصف حفي كناية عن العالم بالشيء لأن كثرة السؤال تقتضي حصول العلم بالمسؤول عنه، وبهذا المعنى فسر في الكشاف فهو من الكناية بالسؤال عن طلب العلم لأن السؤال سبب العلم كقول السموأل أو عبد الملك ابن عبد الرحيم الحارثي أو غيرهما:
سلي أن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
وقول عامر بن الطفيل:
طلقت أن لم تسألي أي فارس ... حليلك إذ لاقى صداء وخثعها
وقول أنيف من زبان النبهاني:
فلما التقينا بين السيف بيننا ... لسائلة عنا حفي سؤالها
ويجوز أن يكون مشتقا من أحفاه إذا ألح عليه في فعل، فيكون فعيلا بمعنى مفعل
مثل حكيم، أي كانك ملح في السؤال عنها، أي ملح على الله في سؤال تعيين وقت الساعة كقوله تعالى: {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} [محمد: 37].
وقوله: {كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} حال من ضمير المخاطب في قوله: {يَسْأَلونَكَ} معترضة بين {يَسْأَلونَكَ} ومتعلقه.
ويتعلق قوله: {عَنْهَا} على الوجهين بكل من {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ} و {حَفِيٌّ} على نحو من التنازع في التعليق.
ويجوز أن يكون {حَفِيٌّ} مشتقا من حفي به كرضي بمعنى بالغ في الإكرام فيكون مستعملا في صريح معناه، والتقدير كأنك حفي بهم أي مكرم لهم وملاطف فيكون تهكما بالمشركين، أي يظهرون لك أنك كذلك ليستنزلوك للخوض معهم في تعيين وقت الساعة، روي عن ابن عباس: كأنك صديق لهم، وقال قتادة: قالت قريش لمحمد: أن بيننا قرابة فأسر إلينا متى الساعة فقال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} وعلى هذا الوجه يتعلق {عَنْهَا} بـ {يَسْأَلونَكَ} وحذف متعلق {حَفِيٌّ} لظهوره.
وبهذا تعلم أن تأخير {عَنْهَا} للإيفاء بهذه الاعتبارات.
وفي الآية إشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتعلق همته بتعيين وقت الساعة، إذ لا فائدة له في ذلك، ولأنه لو اهتم بذلك لكان في اهتماه تطلبا لإبطال الحكمة في اخفائها، وفي هذا إشارة إلى أن انتفاء علمه بوقتها لا ينافي كرامته على الله تعالى بأن الله أعطاه كمالا نفسيا يصرفه عن تطلب ذلك، ولو تطلبه لأعلمه الله به، كما صرف موسى عليه السلام عن الاستمرار على كراهية الموت حين حل أجله كيلا ينزع روحه وهو كاره، وهذه سرائر عالية بين الله وبين الصالحين من عباده.
وأكدت جملة الجواب الأولى بقوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} تأكيدا لمعناها ليعلم أن ذلك الجواب لا يرجى غيره وأن الحصر المشتمل عليه قوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} حصر حقيقي ثم عطف على جملة الجواب استدراك عن الحصر في قوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} تأكيدا لكونه حصرا حقيقيا، وإبطالا لظن الذين يحسبون أن شان الرسل أن يكونوا عالمين بكل مجهول، ومن ذلك وقت الساعة بالنسبة إلى أوقاتهم يستطيعون إعلام الناس فيستدلون بعدم علم الساعة على عدم صدق مدعي الرسالة، وهذا الاعتقاد ضلالة ملازمة للعقول الأفنة، فانها تتوهم الحقائق على غير ما هي عليه، وتوقن بما يخيل إليها،
وتجعله أصولا تبني عليها معارفها ومعاملاتها، وتجعلها حكما في الأمور إثباتا ونفيا، وهذا فرط ضلالة، وانه لضغث على إبالة بتشديد الباء وتخفيفها، وقد حكي التاريخ القديم شاهدا مما قلناه وهو ما جاء في سفر دانيال من كتب الأنبياء الملحقة بالتوراة أن بختنصر ملك بابل رأى رؤيا أزعجته وتطلب تعبيرها، فجمع العرافين والمنجمين والسحرة وأمرهم أن يخبروه بصورة ما رآه في حلمه من دون أن يحكيه لهم، فلما أجأبوه بأن هذا ليس في طاقة أحد من البشر ولا يطلع على ما في ضمير الملك إلا الآلهة، غضب، واغتاظ، وأمر بقتلهم، وأنه أحضر دانيال النبي وكان من جملة أسرى بني إسرائيل في بابل وهدده بالقتل أن لم ينبئه بصورة رؤياه، ثم بتعبيرها، وأن دانيال استنظره مدة، وأنه التجأ إلى الله بالدعاء هو وأصحابه عزريا و ميشاييل و حننيا فدعوا الله لينقذ دانيال من القتل، وأن الله أوحى إلى دانيال بصورة ما رآه الملك فأخبر دانيال الملك بذلك، ثم عبر له، فنال حظوة لديه انظر الإصحاح الثاني من سفر دانيال.
[188] {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هذا ارتقاء في التبرؤ من معرفة الغيب ومن التصرف في العالم، وزيادة من التعليم للامة بشيء من حقيقة الرسالة والنبوة، وتمييز ما هو من خصائصها عما ليس منها.
والجملة مستأنفة ابتدائية قصد من استئنافها الاهتمام بمضمونها، كي تتوجه الأسماع إليها، ولذلك أعيد الأمر بالقول مع تقدمه مرتين في قوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأعراف: 187] للاهتمام باستقلال المقول، وأن لا يندرج في جملة المقول المحكي قبله، وخص هذا المقول بالإخبار عن حال الرسول عليه الصلاة والسلام نحو معرفة الغيب ليقلع من عقول المشركين توهم ملازمة معرفة الغيب لصفة النبوة، إعلانا للمشركين بالتزام أنه لا يعلم الغيب، وأن ذلك ليس بطاعن في نبوته حتى يستيئسوا من تحديه بذلك، وإعلاما للمسلمين بالتمييز بين ما تقتضيه النبوة وما لا تقتضيه، ولذلك نفي عن نفسه معرفة أحواله المغيبة، فضلا على معرفة المغيبات من أحوال غيره إلا ما شاء الله.
في تفسير البغوي، عن ابن عباس: أن أهل مكة قالوا يا محمد إلا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب فترتحل
منها إلى التي قد أخصبت، فأنزل الله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فيكون هذا من جملة ما توركوا به مثل السؤال عن الساعة، وقد جمع رد القولين في قرن.
ومعنى الملك هنا الاستطاعة والتمكن، وقد تقدم في بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [المائدة: 76] في سورة المائدة، والمقصود منه، هنا: ما يشمل العلم بالنفع والضر لأن المقام لنفي معرفة الغيب، ولأن العلم بالشيء هو موجب توجه النفس إلى عمله.
وقدم النفع في الذكر هنا على الضر: لأن النفع أحب إلى الإنسان، وعكس في آية المائدة لأن المقصود تهوين أمر معبوداتهم، وأنها لا يخشى غضبها.
وإنما عطف قوله: {وَلا ضَرّاً} مع أن المرء لا يتطلب إضرار نفسه لأن المقصود تعميم الأحوال إذ لا نعدو أحوال الإنسان عن نافع وضار فصار ذكر هذين الضدين مثل ذكر المساء والصباح وذكر الليل والنهار والشر والخير وسيأتي مزيد بيان لهذا عند قوله تعالى: { وَلا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} في سورة الفرقان [3] وجعل نفي أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا مقدمة لنفي العلم بالغيب، لأن غاية الناس من التطلع إلى معرفة الغيب هو الإسراع إلى الخيرات المستقبلة بتهيئة أسبابها وتقريبها، والى التجنب لمواقع الأضرار، فنفي أن يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، يعم سائر أنواع الملك وسائر أنواع النفع والضر، ومن جملة ذلك العموم ما يكون منه في المستقبل، وهو من الغيب.
والاستثناء من مجموع النفع والضر، والأولى جعله متصلا، أي إلا ما شاء الله أن يملكنيه بان يعلمنيه ويقدرني عليه، فان لم يشأ ذلك لم يطلعني على مواقعه وخلق الموانع من أسباب تحصيل النفع، ومن أسباب اتقاء الضر، وحمله على الاتصال يناسب ثبوت قدرة للعبد بجعل الله تعالى وهي المسماة بالكسب، فإذا أراد الله أن يوجه نفس الرسول عليه الصلاة والسلام إلى معرفة شيء مغيب اطلعه عليه لمصلحة الأمة أو لإكرام الأمة له كقوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} إلى قوله: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [لأنفال: 44].
وقوله: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الخ تكملة للتبرؤ من معرفة الغيب، سواء منه ما كان يخص نفسه وما كان من شؤون غيره.
فحصل من مجموع الجملتين انه لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، في عالم الشهادة وفي عالم الغيب، وأنه لا يعلم شيئا من الغيب، مما فيه نفعه وضره وما عداه.
والاستدلال على انتفاء علمه بالغيب بانتفاء الاستكثار من الخير، وتجنب السوء، استدلال بأخص ما لو علم المرء الغيب لعلمه، أول ما يعلم وهو الغيب الذي يهم نفسه، ولأن الله لو أراد اطلاعه على الغيب لكان القصد من ذلك إكرام الرسول، صلى الله عليه وسلم فيكون اطلاعه على ما فيه راحته أول ما ينبغي اطلاعه عليه، فإذا انتفى ذلك كان انتفاء غيره أولى.
ودليل التالي، في هذه القضيه الشرطية، هو المشاهدة من فوات خيرات دنيوية لم يتهيأ لتحصيلها وحصول أسواء دنيوية، وفيه تعريض لهم إذ كانوا يتعرضون له بالسوء.
وجملة {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} من تمام القول المأمور به وهي مستأنفة استئنافا بيانيا، ناشئا عن التبرؤ من أن يملك لنفسه نفعا أو ضرا لأن السامعين يتوهمون ما نفاه عن نفسه أخص صفات النبي فمن شأنهم أن يتعجبوا من نفيه ذلك عن نفسه وهو يقول إنه رسول الله إليهم، ويسألوا عن عمله ما هو بعد أن نفى عنه ما نفى، فبين لهم أن الرسالة منحصرة في النذارة على المفاسد وعواقبها والبشارة بعواقب الانتهاء عنها واكتساب الخيرات.
وإنما قدم وصف النذير على وصف البشير، هنا: لأن المقام خطاب المكذبين المشركين، فالنذارة أعلق بهم من البشارة.
وتقدم الكلام على النذير البشير عند قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في سورة البقرة[119].
وقوله: {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يتنازع تعلقه كل من نذير وبشير: لأن الانتفاع بالأمرين يختص بالذين تهيئوا إلى الإيمان بأن يتأملوا في الآيات وينهوا من أنفسهم ويقولوا الحق على آبائهم، دون الذين جعلوا ديدنهم التكذيب والإعراض والمكابرة، فالمضارع مراد به الحال والاستقبال كما هو شأنه، ليشمل من تهيأ للإيمان حالا ومالا، وأما شموله لمن آمنوا فيما مضى فهو بدلالة فحوى الخطاب إذ هم أولى، وهذا على حد قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات:45].
وفي نظم الكلام على هذا الأسلوب من التنازع، وإيلاء وصف "البشير" بـ "قوم
يؤمنون"، إيهام أن البشارة خاصة بالمؤمنين، وأن متعلق النذارة المتروك ذكره في النظم هو الأضداد المؤمنين، أي المشركين، وهذا المعنى مقصود على نحو قوله تعالى: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [لاحقاف: 12].
وهذه المعاني المستتبعات مقصودة من القرآن، وهي من وجوه إعجازه لأن فيها استفادة معان وافرة من ألفاظ وجيزة.
[190,189] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
جملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، عاد بها الكلام إلى تقرير دليل التوحيد وإبطال الشرك من الذي سلف ذكره في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [لأعراف: 172] الآية، وليست من القول المأمور به في قوله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً} [لأعراف: 188] لأن ذلك المقول قصد منه إبطال الملازمة بين وصف الرسالة وعلم الرسول بالغيب، وقد تم ذلك، فالمناسب أن يكون الغرض الآخر كلاما موجها من الله تعالى إلى المشركين لإقامة الحجة عليهم بفساد عقولهم في إشراكهم وإشراك آبائهم.
ومناسبة الانتقال جريان ذكر اسم الله في قوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 128] وضمير الخطاب في {خَلَقَكُمْ} للمشركين من العرب لأنهم المقصود من هذه الحجج والتذكير، وإن كان حكم هذا الكلام يشمل جميع البشر.وقد صدر ذلك بالتذكير بنعمة خلق النوع المبتدأ يخلق أصله وهو آدم وزوجه حواء تمهيدا للمقصود.
وتعليق الفعل باسم الجمع، في مثله، في الاستعمال يقع على وجهين: أحدهما أن يكون المراد الكل المجموعي، أي جملة ما يصدق عليه الضمير، أي خلق مجموع البشر من نفس واحدة فتكون النفس هي نفس آدم الذي تولد منه جميع البشر.
وثانيهما أن يكون المراد الكل الجميعي أي خلق كل أحد منكم من نفس واحدة، فتكون النفس هي الأب، أي أبو كل واحد من المخاطبين على نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] وقوله: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة:39].
ولفظ {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وحده يحتمل المعنيين، لأن في كلا الخلقين امتنانا، وفي كليهما اعتبارا واتعاظا.
وقد جعل كثير من المفسرين النفس الواحدة آدم وبعض المحققين منهم جعلوا الأب لكل أحد، وهو المأثور عن الحسن، وقتادة، ومشى عليه الفخر، والبيضاوي وابن كثير، والاصم، وابن المنير، والجباءي.
ووصفت النفس بواحدة على أسلوب الإدماج بين العبرة والموعظة، لأن كونها واحدة أدعى للاعتبار إذ ينسل من الواحدة أبناء كثيرون حتى ربما صارت النفس الواحدة قبيلة أو أمة ففي هذا الوصف تذكير بهذه الحالة العجيبة الدالة على عظم القدرة وسعة العلم حيث بثه من نفس واحدة رجالا كثيرا ونساء، وقد تقدم القول في ذلك في طالعة سورة النساء.
والذي يظهر لي أن في الكلام استخداما في ضميري {تَغَشَّاهَا} وما بعده إلى قوله : {فِيمَا آتَاهُمَا} وبهذا يجمع تفسير الآية بين كلا الرأيين.
و"من" في قوله: {نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} ابتدائية.
وعبر في جانب الأنثى بفعل جعل، لأن المقصود جعل الأنثى زوجا للذكر، لا الإخبار عن كون الله خلقها، لأن ذلك قد علم من قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} .
و"من" في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا} للتبعيض، والمراد: من نوعها، وقوله: {مِنْهَا} صفة لـ {زَوْجَهَا} قدمت على الموصوف للاهتمام بالامتنان بان جعل الزوج وهو الانثى من نوع ذكرها وهذه الحكمة مطردة في كل زوجين من الحيوان.
وقوله: {لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} تعليل لما أفادته "من" التبعيضية.
والسكون مجاز في الاطمئنان والتأنس أي: جعل من نوع الرجل زوجه ليألفها ولا يجفو قربها، ففي ذلك منة الإيناس بها، وكثرة ممارستها لينساق إلى غشيانها، فلو جعل الله التناسل حاصلا بغير داعي الشهوة لكانت نفس الرجل غير حريصة على الاستكثار من نسله، ولو جعله حاصلا بحالة ألم لكانت نفس الرجل مقلة منه، بحيث لا تنصرف إليه إلا للاضطرار بعد التأمل والتردد، كما ينصرف إلى شرب الدواء ونحوه المعقبة منافع، وفرع عنه بفاء التعقيب ما يحدث عن بعض سكون الزوج إلى زوجه وهو الغشيان.
وصيغت هذه الكناية بالفعل الدال على التكلف لإفادة قوة التمكن من ذلك لأن التكلف يقتضي الرغبة.
وذكر الضمير المرفوع في فعلي {يَسْكُنَ} و"تغشى": باعتبار كون ما صدق المعاد، وهو النفس الواحدة، ذكرا.وأنث الضمير المنصوب في {تَغَشَّاهَا} ، والمرفوع في {حَمَلَتْ} ، ومرت: باعتبار كون ما صدق المعاد وهو زوجها أنثى: وهو عكس بديع في نقل ترتيب الضمائر.
ووصف الحمل بـ {خَفِيفاً} إدماج ثان، وهو حكاية للواقع، فان الحمل في مبدئه لا تجد منه الحامل ألما، وليس المراد هنا حملا خاصا، ولكنه الخبر عن كل حمل في أوله، لأن المراد بالزوجين جنسهما، فهذه حكاية حالة تحصل منها عبرة أخرى، وهي عبرة تطور الحمل كيف يبتدئ خفيفا كالعدم، ثم يتزايد رويدا رويدا حتى يثقل، وفي الموطأ قال مالك وكذلك أي كالمريض غير المخوف والمريض المخوف الحامل في أول حملها بشر وسرور وليس بمرض ولا خوف، لأن الله تبارك وتعالى قال في كتابه {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] وقال {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} .
وحقيقة المرور: الاجتياز، ويستعار للتغافل وعدم الاكتراث للشيء كقوله تعالى: { فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس: 12] أي: نسى دعاءنا، وأعرض عن شكرنا لأن المار بالشيء لا يقف عنده ولا يسائله، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72].
وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105]
فمعنى {فَمَرَّتْ بِهِ} لم تتفطن له، ولم تفكر في شأنه، وكل هذا حكاية للواقع، وهو إدماج.
والأثقال ثقل الحمل وكلفته، يقال أثقلت الحامل فهي مثقل وأثقل المريض فهو مثقل، والهمزة للصيرورة مثل أورق الشجر، فهو كما يقال أقربت الحامل فهي مقرب إذا قرب أبان وضعها.
وقد سلك في وصف تكوين النسل مسلك الإطناب: لما فيه من التذكير بتلك
الأطوار، الدالة على دقيق حكمة الله وقدرته، وبلطفه بالإنسان.
وظاهر قوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} أن كل أبوين يدعوان بذلك، فان حمل على ظاهره قلنا لا يخلو أبواب مشركان من أن يتمنيا أن يكون لهما من الحمل مولود صالح، سواء نطقا بذلك أم أضمراه في نفوسهما، فإن مدة الحمل طويلة، لا تخلو أن يحدث هذا التمني في خلالها، وإنما يكون التمني منهم على الله، فإن المشركين يعترفون لله بالربوبية، وبأنه هو خالق المخلوقات ومكونها، ولا حظ للآلهة إلا في التصرفات في أحوال المخلوقات، كما دلت عليه محاجات القرآن لهم نحو قوله تعالى : {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [يونس: 34] وقد تقدم القول في هذا عند قوله تعالى {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} في الأنعام [1].
وإن حمل {دَعَوَا} على غير ظاهره فتأويله أنه مخصوص ببعض الأزواج الذين يخطر ببالهم الدعاء.
وإجراء صفة {رَبَّهُمَا} المؤذنة بالرفق والإيجاد، للإشارة إلى استحضار الأبوين هذا الوصف عند دعائهما الله، أي يذكر انه باللفظ أو ما يفيد مفاده، ولعل العرب كانوا إذا دعوا بصلاح الحمل قالوا: ربنا آتانا صالحا.
وجملة {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً} مبينة لجملة {دَعَوَا اللَّهَ} .
و {صَالِحاً} وصف جرى على موصوف محذوف، وظاهر التذكير أن المحذوف تقديره: "ذكرا" وكان العرب يرغبون في ولادة الذكور وقال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] أي الذكور.
فالدعاء بأن يؤتيا ذكرا، وأن يكون صالحا، أي نافعا: لأنهم لا يعرفون الصلاح الحق، وينذران: لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين.
ومعنى {فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً} لما أتى من أتاه منهم ولدا صالحا وضمير {جَعَلا} للنفس ألواحدة وزوجها، أي جعل الأبوان المشركان.
و"الشرك" مصدر شركه في كذا، أي جعلا لله شركة، والشركة تقتضي شريكا أي جعلا لله شريكا فيما آتاهما الله، والخبر مراد منه مع الإخبار التعجيب من سفه آرائهم، إذ لا يجعل رشيد الرأي شريكا لأحد في ملكه وصنعه بدون حق، فلذلك عرف المشروك فيه بالموصولية فقيل {فِيمَا آتَاهُمَا} دون الإضمار بأن يقال: جعلا له شركا فيه: لما تؤذن به
الصلة من فساد ذلك الجعل، وظلم جاعله، وعدم استحقاق المجعول شريكا لما جعل له، وكفران نعمة ذلك الجاعل، إذ شكر لمن لم يعطه، وكفر من أعطاه، وإخلاف الوعد المؤكد.
وجعل الموصول "ما" دون "من" باعتبار أنه عطية، أو لأن حالة الطفولة أشبه بغير العاقل.
وهذا الشرك لا يخلو عنه أحد من الكفار في العرب، وبخاصة أهل مكة، فإن بعض المشركين يجعل ابنه سادنا لبيوت الأصنام، وبعضهم يحجر ابنه إلى صنم ليحفظه ويرعاه، وخاصة في وقت الصبا، وكل قبيلة تنتسب إلى صنمها الذي تعبده، وبعضهم يسمى ابنه: عبد كذا، مضافا إلى اسم صنم كما سموا تعبده، وبعضهم يسمى ابنه: عبد كذا، مضافا إلى اسم صنم كما سموا عبد العزى، وعبد شمس، وعبد مناة، وعبد ياليل، وعبد ضخم، وكذلك امرؤ القيس، وزيد مناءة، لأن الإضافة على معنى التمليك والتعبيد، وقد قال أبو سفيان، يوم أحد: اعل هبل وقالت امرأة الطفيل لزوجها الطفيل بن عمرو الدوسي حين أسلم وأمرها بأن تسلم لا نخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا ذو الشرى ضم.
وجملة {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: تنزه الله عن إشراكهم كله: ما ذكر منه آنفا من إشراك الوالدين مع الله فيما آتاهما، وما لم يذكر من أصناف إشراكهم.
وموقع فاء التفريع في قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ} موقع بديع، لأن التنزيه عما أحدثوه من الشرك يترتب على ما قبله من انفراده بالخلق العجيب، والمنن العظيمة، فهو متعال عن إشراكهم لا يليق به ذلك، وليس له شريك بحق، وهو إنشاء تنزيه غير مقصود به مخاطب.
وضمير الجمع في قوله: {يُشْرِكُونَ} عائد إلى المشركين الموجودين لأن الجملة كالنتيجة لما سبقها من دليل خلق الله إياهم.
وقد روى والترمذي: وأحمد حديثا عن سمرة بن جندب، في تسويل الشيطان لحواء أن تسمي ولدها عبد الحارث، والحارث اسم إبليس، قال الترمذي حديث حسن غريب، ووسمه ابن العربي في أحكام القرآن، بالضعف، وتبعه تلميذه القرطبي تفسيرا لها، وليس فيه على ضعفه انه فسر به الآية ولكن الترمذي جعله في باب تفسير سورة الأعراف من سننه.
وقال بعض المفسرين: الخطاب في {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} لقريش خاصة،
والنفس الواحدة هو قصي بن كلاب تزوج امرأة من خزاعة فلما آتاهما الله أولادا أربعة ذكورا سمى ثلاثة منهم عبد مناف، وعبد العزى، وعبد الدار، وسمى الرابع "عبدا" بدون إضافة وهو الذي يدعى بعبد قصي.
وقرأ نافع، وعاصم في رواية أبي بكر عنه، وأبو جعفر: شركا بكسر الشين وسكون الراء أي اشتراكا مع الله، والمفعول الثاني لفعل جعلا محذوف للعلم به، أي جعلا له الأصنام شركا، وقرأ بقية العشرة شركاء بضم الشين جمع شريك، والقراءتان متحدتان معنى.
وفي جملة {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} محسن من البديع وهو مجيء الكلام متزنا على ميزان الشعر، من غير أن يكون قصيدة، فان هذه الجملة تدخل في ميزان الرمل.
وفيها الالتفات من الخطاب الذي سبق في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وليس عائد إلى ما قبله، لأن ما قبله كان بصيغة المثنى خمس مرات من قوله: {دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} إلى قوله: {فِيمَا آتَاهُمَا} .
[192,191] {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}.
هذه الآيات الثلاث كلام معترض بين الكلامين المسوقين لتوبيخ المشركين وإقامة الحجة عليهم، مخاطب بها النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمون، للتعجيب من عقول المشركين، وفيه تعريض بالرد عليهم لأنه يبلغ مسامعهم.
والاستفهام مستعمل في التعجيب والإنكار.
وصيغة المضارع في {يُشْرِكُونَ} دالة على تجدد هذا الإشراك منهم.ونفي المضارع في قوله: {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} للدلالة على تجدد نفي الخالقية عنهم.
وأصل معنى التجدد، الذي يدل عليه المسند الفعلي، هو حدوث معنى المسند للمسند إليه، وانه ليس مجرد ثبوت وتقرر، فيعلم منه: أنهم لا يخلقون في الاستقبال، وانهم ما خلقوا شيئا في الماضي، لأنه لو كان الخلق صفة ثابتة لهم لكان متقررا في الماضي والحال والاستقبال.
وضمير الغيبة في {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} يجوز عندي: أن يكون عائدا إلى ما عاد إليه
ضمير {يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190]، أي: والمشركون يخلقون، ومعنى الحال زيادة تفظيع التعجيب من حالهم لإشراكهم بالله أصنافا لا تخلق شيئا في حال أن المشركين يخلقون يوما فيوما، أي يتجدد خلقهم، والمشركون يشاهدون الأصنام جاثمة في بيوتها ومواضعها لا تصنع شيئا فصيغة المضارع دالة على الاستمرار بقرينة المقام.
ودلالة المضارع على الاستمرار والتكرر دلالة ناشئة عن معنى التجدد الذي في أصل المسند الفعلي، وهي دلالة من مستتبعات التركيب بحسب القرائن المعينة لها ولا توصف بحقيقة ولا مجاز لذلك، ومعنى تجدد مخلوقيتهم: هو أن الضمير صادق بأمة وجماعة، فالمخلوقية لا تفارقهم لأنها تتجدد آنا فآنا بازدياد المواليد، وتغير أحوال المواجيد، كما قال تعالى: {خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] فتكون جملة {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} حالا من ضمير {أَيُشْرِكُونَ} .
والمفسرون أعادوا ضمير {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} على { مَا لا يَخْلُقُ} ، أي الأصنام، ولم يبينوا معنى كون الأصنام مخلوقة وهي صور نحتها الناس، وليست صورها مخلوقة لله، فيتعين أن المراد أن مادتها مخلوقة وهي الحجارة.
وجعلوا إجراء ضمائر العقلاء في قوله: {وَهُمْ} وقوله: {يُخْلَقُونَ} وما بعده على الأصنام وهي جمادات لأنهم نزلوا منزلة العقلاء، بناء على اعتقاد المحجوجين فيهم، ولا يظهر على لهذا التقدير وجه الإتيان بفعل يخلقون بصيغة المضارع لأن هذا الخلق غير متجدد.
والضمير المجرور باللام في {لَهُمْ نَصْراً} عائد إلى المشركين، لأن المجرور باللام بعد فعل الاستطاعة ونحوه هو الذي لأجله يقع الفعل مثل {لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [العنكبوت: 17].
وجملة {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} عطف على جملة {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} فتكون صلة ثانية.
والقول في الفعلين من {يَسْتَطِيعُونَ - وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} كالقول في {مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} .
وتقديم المفعول في {وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} للاهتمام بنفي هذا النصر عنهم، لأنه أدل على عجز تلك الآلهة لان من يقصر في نصر غيره لا يقصر في نصر نفسه لو قدر.
والمعنى: أن الأصنام لا ينصرون من يعبدونهم إذا احتاجوا لنصرهم ولا ينصرون أنفسهم أن رام أحد الاعتداء عليها.
والظاهر أن تخصيص النصر من بين الأعمال التي يتخيلون أن تقوم بها الأصنام مقصود منه تنبيه المشركين على انتفاء مقدرة الأصنام على نفعهم، إذ كان النصر أشد مرغوب لهم، لأن العرب كانوا أهل غارات وقتال وترات، فالانتصار من أهم الأمور لديهم قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يّس: 74, 75] وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 81, 82]، قال أبو سفيان يوم أحد أعل هبل وقال أيضا لنا العزى ولا عزى لكم وأن الله أعلم المسلمين بذلك تعريضا بالبشارة بأن المشركين سيغلبون قال: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12] وأنهم سيمحقون الأصنام ولا يستطيع أحد الذب عنها.
[193] {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ}.
يجوز أن يكون عطفا على جملة {أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} [الأعراف: 191] زيادة في التعجيب من حال المشركين بذكر تصميمهم على الشرك على ما فيه من سخافة العقول ووهن الدليل، بعد ذكر ما هو كاف لتزييفه.
فضمير الخطاب المرفوع في {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ} موجه إلى المسلمين مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وضمير جمع الغائب المنصوب عائد إلى المشركين كما عاد ضمير {أَيُشْرِكُونَ} فبعد أن عجب الله المسلمين من حال أهل الشرك أنبأهم بأنهم لا يقبلون الدعوة إلى الهدى.
ومعنى ذلك انه بالنظر إلى الغالب منهم، وإلا فقد آمن بعضهم بعد حين وتلاحقوا بالإيمان، عدا من ماتوا على الشرك.
وهذا الوجه هو الأليق بقوله تعالى بعد ذلك: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198] الآية ليكون المخبر عنهم في هذه الآية غير المخبر عنهم في الآية الآتية، لظهر تفاوت الموقع بين {لا يَتَّبِعُوكُمْ} وبين {لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198].
ويجوز أن تكون جملة {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى} إلخ معطوفة على جملة الصلة في قوله: {لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [الأعراف: 191] فيكون ضمير الخطاب في {تَدْعُوهُمْ} خطابا للمشركين الذين كان الحديث عنهم بضمائر الغيبة من قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الأعراف: 190] إلى هنا، فمقتضى الظاهر أن يقال: وإن يدعوهم إلى الهدى لا يتبعوهم، فيكون العدول عن طريق الغيبه إلى طريق الخطاب التفاتا من الغيبة إلى الخطاب توجها إليهم بالخطاب لأن الخطاب أوقع في الدمغ بالحجة.
و {الْهُدَى} على هذا الوجه ما يهتدى إليه، والمقصود من ذكره أنهم لا يستجيبون إذا دعوتموهم إلى ما فيه خيرهم فيعلم أنهم لو دعوهم إلى غير ذلك لكان عدم اتباعهم دعوتهم أولى.
وجملة {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} مؤكدة لجملة {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} فلذلك فصلت.
و {سَوَاءٌ} اسم للشيء المساوي غيره أي ليس أولى منه في المعنى المسوق له الكلام والهمزة التي بعد {سَوَاءٌ} يقال لها همزة التسوية، وأصلها همزة الاستفهام استعملت في التسوية، كما تقدم عند قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} في سورة البقرة [6]، أي سواء دعوتكم إياهم وصمتكم عن الدعوة.
و"على" فيها للاستعلاء المجازي وهي بمعنى العندية أي: سواء عندهم.وإنما جعل الأمران سواء على المخاطبين ولم يجعلا سواء على المدعوين فلم يقل سواء عليهم، وإن كان ذلك أيضا سواء عليهم لان المقصود من الكلام هو تأييس المخاطبين من استجابة المدعوين إلى ما يدعونهم إليه لا الإخبار وان كان المعنيان متلازمين كما أنهما في قوله {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] متلازمان فإن الإنذار وعدمه سواء: على المشركين، وعلى المؤمنين، ولكن الغرض هنالك بيان انعدام انتفاعهم بالهدى.
وهذا هو القانون للتفرقة بين ما يصح أن يسند فيه فعل التسويه إلى جانبين وبين ما يتعين أن يسند فيه إلى جانب واحد إذا كانت التسوية لا تهم إلا جانبا واحدا، كما في قوله تعالى: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] فانه يتعين أن تجعل التسوية بالنسبة للمخاطبين، ولا يحسن أن يقال سواء علينا وكقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [ابراهيم: 21] فانه يتعين أن تكون التسوية بالنسبة إلى المتكلمين.
ووقع قوله {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} معادل {أَدَعَوْتُمُوهُمْ} مع اختلاف الأسلوب بين الجملتين بالفعلية والاسمية، فلم يقل أم صمتم، ففي تفسير القرطبي، عن ثعلب: أن ذلك لأنه رأس آية أي لمجرد الرعاية على الفاصلة قال: وصامتون وصمتم عند سيبويه واحد، أي الفعل والوصف المشتق منه سواء يريد لا تفاوت بينهما في أصل المعنى لأن ما بعد همزة التسوية لما كان في قوة المصدر لم يكن فيه اثر للفرق بين الفعل والاسم إذ التقدير: سواء عليكم دعوتكم إياهم وصمتكم عنهم، فيكون العدول إلى الجملة الاسمية ليس له مقتض من البلاغة بل هما عند البليغ سيان، ولكن العدول إلى الاسمية من مقتضى الفصاحة، لأن الفواصل والأسجاع من أفانين الفصاحة، وفيهما تظهر براعة الكلام إذ يكون فيه إيفاء بحق الفاصلة مع السلامة من التكلف، كما تظهر براعة الشاعر في توفيته بحق القافية إذا سلم مع ذلك من التكلف، قال المرزوقي في ديباجة شرحه على الحماسة والقافية يجب أن تكون كالموعود به المنتظر يتشوقها المعنى بحقه، واللفظ بقسطه، وإلا كانت قلقة في مقرها مجتلبة لمستغن عنها.
والتحقيق أن الجملة الاسمية دلت على ثبوت الوصف المتضمنة، مع عدم تقييد بزمان ولا إفادة تجدد، بخلاف الفعلية، وهو صريح كلام الشيخ في دلائل الإعجاز، والسكاكي في المفتاح، لكن كلام الزمخشري في هذه الآية ينادي على أن جملة {أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} دالة على استمرار صمتهم، وكذلك كلام السكاكي في إبداء الفرق بين الجملتين في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] وفي قوله تعالى: {قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] مع قوله عقبه: {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14]، وظاهر كلام الشيرازي في شرح المفتاح أن الثبوت يستلزم الاستمرار، وقال الشارح التفتازاني، في شرح المفتاح: الحق أن الجملة الاسمية التي تكون عدولا عن الفعلية تفيد الدوام الذي هو كالثبوت، وفسر في شرح تلخيص المفتاح الثبوت بمقارنة الدوام وأما السيد في شرح المفتاح، وحاشيته على المطول، فقد جعل الجملة الاسمية قد يقصد بها الدوام إثباتا ونفيا بحسب المقامات.
وعندي أن الجملة الاسمية لا تفيد أكثر من الثبوت المقابل للتجدد، وأما الاستمرار والدوام فهو معنى كنائي لها يحتاج في استفادته إلى القرينة المعينة وهي منفية هنا، فالمعنى: سواء عليكم أدعوتموهم دعوة متجددة أم لازمتم الصمت، وليس المعنى على الدوام، وقد احتاج صاحب الكشاف إلى بيانه بطريقة الدقة بإيراد السؤال والجواب على
عادته، وأياما كان فالعدول عن الجملة الفعلية في معادل التسوية اقتضاه الحال البلاغي خلافا لثعلب.
[194] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
هذه الجملة على الوجه الأول في كون المخاطب، بقوله: { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} [لأعراف: 193] الآية النبي عليه الصلاة والسلام والمسلمين أن تكون استئنافا ابتدائيا انتقل به إلى مخاطبة المشركين، ولذلك صدر بحرف التوكيد لأن المشركين ينكرون مساواة الأصنام إياهم في العبودية، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
والمراد بالذين تدعون من دون الله: الأصنام، فتعريفها بالموصول لتنبيه المخاطبين على خطإ رأيهم في دعائهم إياها من دون الله، في حين هي ليست أهلا لذلك، فهذا الموصول كالموصول في قول عبدة بن الطبيب:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
ويجيء على الوجه الثاني في الخطاب السابق: أن تكون هذه الجملة بيانا وتعليلا لجملة {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ} [لأعراف: 193] أي لأنهم عباد أي مخلوقون.
و"العبد" اصله المملوك، ضد الحر، كما في قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] وقد أطلق في اللسان على المخلوق: كما في قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} [مريم:93] ولذلك يطلق العبيد على الناس، والمشهور أنه لا يطلق إلا على المخلوقات من الآدميين فيكون إطلاق العباد على الأصنام كإطلاق ضمير جمع العقلاء عليها بناء على الشائع في استعمال العرب يومئذ من الإطلاق، وجعله صاحب الكشاف إطلاق تهكم واستهزاء بالمشركين، يعني أن قصارى أمرهم بأن يكونوا أحياء عقلاء فلو بلغوا تلك الحالة لما كانوا إلا مخلوقين مثلكم، قال ولذلك ابطل أن يكونوا عبادا بقوله عقبه: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ} [الأعراف: 195] إلى آخره.
والأحسن عندي أن يكون إطلاق العباد عليهم مجازا بعلاقة الإطلاق عن التقييد روعي في حسنة المشاكلة التقديرية لأنه لما ماثلهم بالمخاطبين في المخلوقية وكان المخاطبون عباد الله أطلق العباد على مماثليهم مشاكلة.
وفرع على المماثلة أمر التعجيز بقوله: {فَادْعُوهُمْ} فانه مستعمل في التعجيز باعتبار ما تفرع عليه من قوله {فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} المتضمن إجابة الأصنام إياهم، لأن نفس الدعاء ممكن ولكن استجابته لهم ليست ممكنة، فإذا دعوهم فلم يستجيبوا لهم تبين عجز الآلهة عن الاستجابة لهم، وعجز المشركين عن تحصيلها مع حرصهم على تحصيلها لإنهاض حجتهم، فآل ظهور عجز الأصنام عن الاستجابة لعبادها إلى إثبات عجز المشركين عن نهوض حجتهم لتلازم العجزين قال تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} [فاطر: 14].
والأظهر أن المراد بالدعوة المأمور بها الدعوة للنصر والنجدة كما قال وذاك المازنى إذا استجدوا لم يسألوا من دعائهم لأية حرب أم بأي مكان.
وبهذا يظهر أن أمر التعجيز كتابة عن ثبوت عجز الأصنام عن إجابتهم، وعجز المشركين عن إظهار دعاء للأصنام تعقبه الاستجابة.
والأمر باللام في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} أمر تعجيز للأصنام، وهو أمر الغائب فان طريق أمر الغائب هو الأمر.
ومعنى توجيه أمر الغائب السامع أنه مأمور بأن يبلغ الأمر للغائب.
وهذا أيضا كناية عن عجز الأصنام عن الاستجابة لعجزها عن تلقي التبليغ من عبدتها.
وحذف متعلق صادقين لظهوره السياق أي صادقين في نسبة الآلهة للأصنام.
[195] {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ}
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} تأكيد لما تضمنته الجملة قبلها من أمر التعجيز وثبوت العجز لأنه إذا انتفت عن الأصنام أسباب الاستجابة تحقق عجزها عن الإجابة وتأكد معنى أمر التعجيز المكنى به عن عجز الأصنام وعجز عبدتها، والاستفهام إنكاري وتقديم المسند على المسند إليه للاهتمام بانتفاء الملك الذي دلت عليه اللام كالتقديم في قول حسان:
له همم لا منتهى لكبارها
ووصف الأرجل ب {يَمْشُونَ} والأيدي ب {يَبْطِشُونَ} والأعين ب {يُبْصِرُونَ} والآذان ب {يَسْمَعُونَ} أما لزيادة تسجيل العجز عليهم فيما يحتاج إليه الناصر، وأما لأن بعض تلك الأصنام كانت مجعولة على صور الآدميين مثل هبل، وذي الكفين، وكعيب في صور الرجال، ومثل سواع كان على صورة امرأة، فإذا كان لأمثال أولئك صور أرجل وأيد وأعين وآذان فإنها عديمة العمل الذي تختص به الجوارح، فلا يطمع طامع في نصرها، وخص الأرجل والأيدي والأعين والآذان، لأنها آلات العلم والسعي والدفع للنصر، ولهذا لم يذكر الألسن لما علمت من أن الاستجابة مراد بها النجدة والنصرة ولم يكونوا يسألون عن سبب الاستنجاد، ولكنهم يسرعون إلى الالتحاق بالمستنجد.
والمشي انتقال الرجلين من موضع انتقالا متواليا.
والبطش الأخذ باليد بقوة، والإضرار باليد بقوة، وقد جاء مضارعه بالكسر والضم على الغالب.وقراءة الجمهور بالكسر، وقرأ أبو جعفر: بضم الطاء، وهما لغتان.
و {أَمْ} حرف بمعنى أو يختص يعطف الاستفهام، وهي تكون مثل "أو" لأحد الشيئين أو الأشياء، وللتمييز بين الأشياء، أو الإباحة أي الجمع بينها، فإذا وقعت بعد همزة الاستفهام المطلوب بها التعيين كانت مثل "أو" التي للتخيير كقوله تعالى {قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] أي عينوا أحدهما وإن وقعت بعد استفهام غير حقيقي كان بمعنى "أو" التي للإباحة، وتسمى، حينئذ، منقطعة ولذلك يقولون إنها بمعنى "بل" الانتقالية وعلى كل حال فهي ملازمة لمعنى الاستفهام فكلما وقعت في الكلام قدر بعدها استفهام، فالتقدير هنا، بل ألهم أيد يبطشون بها بل ألهم أعين يبصرون بها بل ألهم آذان يسمعون بها.
وترتيب هذه الجوارح الأربع على حسب ما في الآية ملحوظ فيه أهميتها بحسب الغرض، الذي هو النصر والنجدة، فان الرجلين تسرعان إلى الصريخ قبل التأمل، واليدين تعملان عمل النصر وهو الطعن والضرب، وأما الأعين والآذان فإنهما وسيلتان لذلك كله فأخرا وإنما قدم ذكر الأعين هنا على خلاف معتاد القرآن في تقديم السمع على البصر كما سبق في أول سورة البقرة لأن الترتيب هنا كان بطريق الترقي.
{قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} .
إذن من الله لرسوله بأن يتحداهم بأنهم أن استطاعوا استصرخوا أصنامهم لتتألب على
الكيد للرسول عليه السلام، والمعنى ادعوا شركاءكم لينصركم علي فتستريحوا مني.
والكيد الإضرار الواقع في صورة عدم الإصرار كما تقدم عند قوله تعالى آنفا: {وأملي لهم أن كيدي متين} .
والأمر والنهي في قوله {كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ} للتعجيز.
وقوله {فَلا تُنْظِرُونِ} تفريع على الأمر بالكيد، أي فإذا تمكنتم من إضراري فأعجلوا ولا تؤجلوني.
وفي هذا التحدي تعريض بأنه سيبلغهم وينتصر عليهم ويستأصل آلهتهم وقد تحداهم بأتم أحوال النصر وهي الاستنصار بأقدر الموجودات في اعتقادهم، وأن يكون الأضرار به خفيا، وأن لا يتلوم له ولا ينتظر، فإذا لم يتمكنوا من ذلك كان انتفاؤه أدل على عجزهم وعجز آلهتهم.
وحذفت ياء المتكلم من {كِيدُونِ} في حالتي الوقف والوصل، في قراءة الجمهور غير أبي عمرو، وأما {تُنْظِرُونِ} فقرأه الجميع: بحذف الياء إلا يعقوب أثبتها وصلا ووقفا، وحذف ياء المتكلم بعد نون الوقاية جد فصيح.
[197,196] {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ}.
هذا من المأمور بقوله، وفصلت هذه الجملة عن جملة {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} لوقوعها موقع العلة لمضمون التحدي في قوله: {ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ} الآية الذي هو تحقق عجزهم عن كيده، فهذا تعليل لعدم الاكتراث بتألبهم عليه واستنصارهم بشركائهم، ولثقته بأنه منتصر عليهم بما دل عليه الأمر والنهي التعجيزيان.والتأكيد لرد الإنكار.
والولي الناصر والكافي وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14].
وإجراء الصفة لاسم الله بالموصولية لما تدل عليه الصلة من علاقات الولاية، فإن إنزال الكتاب عليه وهو أمي دليل اصطفائه وتوليه.
والتعريف في الكتاب للعهد، أي الكتاب الذي عهدتموه وسمعتموه وعجزتم عن
معارضته وهو القرآن، أي المقدار الذي نزل منه إلى حد نزول هذه الآية.
وجملة {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} معترضة والواو اعتراضية.
ومجيء المسند فعلا مضارعا لقصد الدلالة على استمرار هذا التولي وتجدده وانه سنة إلهية، فكما تولى النبي يتولى المؤمنين أيضا، وهذه بشارة للمسلمين المستقيمين على صراط نبيهم صلى الله عليه وسلم بان ينصرهم الله كما نصر نبيه وأولياءه.
والصالحون هم الذين صلحت أنفسهم بالإيمان والعمل الصالح.
وجملة: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} عطف على جملة: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} ، وسلوك طريق الموصولية في التعبير عن الأصنام للتنبيه على خطا المخاطبين في دعائهم إياها من دون الله مع ظهور عدم استحقاقها للعبادة، بعجزها عن نصر اتباعها وعن نصر أنفسها والقول في: {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} كالقول في نظيره السابق آنفا.
وأعيد لأنه هنا خطاب للمشركين، وهنالك حكاية عنهم للنبي والمسلمين، و إبانة المضادة بين شأن ولي المؤمنين وحال أولياء المشركين وليكون الدليل مستقلا في الموضعين مع ما يحصل في تكريره من تأكيد مضمونه.
[198] {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ}.
عطف على جملة {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 197] الآية أي قل للمشركين: وإن تدعوا الذين تدعون من دون الله إلى الهدى لا يسمعوا.
والضمير المرفوع للمشركين، والضمير المنصوب عائد إلى الذين تدعون من دونه، أي الأصنام.
والهدى على هذا الوجه ما فيه رشد ونفع للمدعو.وذكر {إِلَى الْهُدَى} لتحقيق عدم سماع الأصنام، وعدم إدراكها، لأن عدم سماع دعوة ما ينفع لا يكون إلا لعدم الادإدراك.
ولهذا خولف بين قوله هنا: {لا يَسْمَعُوا} وقوله في الآية السابقة: {لا يَتَّبِعُوكُمْ} لأن الأصنام لا يتأتى منها الاتباع، إذ لا يتأتى منها المشي الحقيقي ولا المجازي أي الامتثال.
والخطاب في قوله: {وَتَرَاهُمْ} لمن يصلح أن يخاطب فهو من خطاب غير المعين.
ومعنى ينظرون إليك على التشبيه البليغ، أي تراهم كأنهم ينظرون إليك، لأن صور كثير من الأصنام كان على صور الأناسي وقد نحتوا لها أمثال الحدق الناظرة إلى الواقف أمامها قال في الكشاف لأنهم صوروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه.
[199] {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}.
أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين وعظتهم وإقامة الحجة عليهم وبعثتهم على التأمل والنظر في دلائل وحدانية الله وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم وهدى دينه وكتابه وفضح ضلال المشركين وفساد معتقدهم والتشويه بشركائهم، وقد تخلل ذلك كله لتسجيل بمكابرتهم، والتعجيب منهم كيف يركبون رؤوسهم، وكيف يناوون بجانبهم، وكيف يصمون أسماعهم، ويغمضون أبصارهم عما دعوا إلى سماعه وإلى النظر فيه، ونظرت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم، وكفروا نعمة الله فحل بهم ما حل من أصناف العذاب، وأنذر هؤلاء بأن يحل بهم ما حل بأولئك، ثم أعلن باليأس من ارعوائهم، وبانتظار ما سيحل بهم من العذاب بأيدي المؤمنين، وبتثبيت الرسول والمؤمنين وتبشيرهم والثناء على ما هم عليه من الهدى، فكان من ذلك كله عبرة للمتبصرين، ومسلاة للنبي وللمسلمين، وتنويه بفضلهم وإذ قد كان من شأن ذلك أن يثير في أنفس المسلمين كراهية أهل الشرك وتحفزهم للانتقام منهم ومجافاتهم والإعراض عن دعائهم إلى الخير، لا جرم شرع في استئناف غرض جديد، يكون ختاما لهذا الخوض البديع، وهو غرض أمر الرسول والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم، وبأن يسعوهم من عفوهم والدأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} الآيات.
والأخذ حقيقته تناول شيء للانتفاع به أو لاضراره، كما يقال: أخذت العدو من تلأبيبه، ولذلك يقال في الأسير أخيذ، ويقال للقوم إذا أسروا أخذوا واستعمل هنا مجازا فاستعير للتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها، فيشبه ذلك التلبس واختياره على تلبس آخر بأخذ شيء من بين عدة أشياء، فمعنى خذ العفو: عامل به واجعله وصفا ولا تتلبس بضده.وأحسب استعارة الأخذ للعرف من مبتكرات القرآن ولذلك ارجع أن البيت المشهور وهو:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
هو لأبي الأسود الدؤلي، وأنه اتبع استعمال القرآن، وأن نسبته إلى أسماء بن خارجة الفزازي أو إلى حاتم الطائي غير صحيحة.
والعفو الصفح عن ذنب المذنب وعدم مؤاخذته بذنبه وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] وقوله {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] في سورة البقرة، والمراد به هنا ما يعم العفو عن المشركين وعدم مؤاخذتهم بجفائهم ومساءتهم الرسول والمؤمنين.
وقد عمت الآية صور العفو كلها: لأن التعريف في العفو تعريف الجنس فهو مفيد للاستغراق إذا لم يصلح غيره من معنى الحقيقة والعهد، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعفو ويصفح وذلك بعدم المؤاخذة بجفائهم وسوء خلقهم، فلا يعاقبهم ولا يقابلهم بمثل صنيعهم كما قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، ولا يخرج عن هذا العموم من أنواع العفو أزمانه وأحواله إلا ما أخرجته الأدلة الشرعية مثل العفو عن القاتل غيلة، ومثل العفو عن انتهاك حرمات الله، والرسول أعلم بمقدار ما يخص من هذا العموم وقد يبينه الكتاب والسنة وألحق به ما يقاس على ذلك المبين، وفي قوله: {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} ضابط عظيم لمقدار تخصيص الأمر بالعفو.
ثم العفو عن المشركين المقصود هنا أسبق أفراد هذا العموم إلى الذهن من بقيتها ولم يفهم السلف من الآية غير العموم ففي صحيح البخاري عن ابن عباس قال قدم عيينة بن حصن المدينة فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس وكان الحر ابن قيس من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمرو ومشاورته، فقال عيينة لابن أخيه لك وجه عند هذا الأمير فاستأذن لي عليه فاستأذن الحر لعيينة فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال هيه يا بن الخطاب ما تعطينا الجزل.ولا تحكم بيننا بالعدل فغضب عمر حتى هم أن يوقع به فقال له الحر يا أمير المؤمنين أن الله قال لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} وإن هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقافا عند كتاب الله وفيه عن عبد الله بن الزبير قال ما أنزل الله ذلك إلا في أخلاق الناس ومن قال أن هذه الآية نسختها آيات القتال فقد وهم: لأن العفو باب آخر، وأما القتال فله أسبابه ولعله أراد من النسخ ما يشمل معنى البيان أو التخصيص في اصطلاح
أصول الفقه.
و {الْعُرْفِ} اسم مرادف للمعروف من الأعمال وهو الفعل الذي تعرفه النفوس أي لا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض لها في ضده، وقد دل على مرادفته للمعروف قول النابغة:
فلا النكر معروف ولا العرف ضايع
فقابل النكر بالعرف، وقد تقدم بيانه عند قوله تعالى: {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} في سورة آل عمران [110].
والأمر يشمل النهي عن الضد، فان النهي عن المنكر أمر بالمعروف، والأمر بالمعروف نهي عن المنكر، لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فالاجتزاء بالأمر بالعرف عن النهي عن المنكر من الإيجاز، وإنما اقتصر على الأمر بالعرف هنا: لأنه الأهم في دعوة المشركين لأنه يدعوهم إلى أصول المعروف واحدا بعد واحد، كما ورد في حديث معاذ بن جبل حين أرسله إلى أهل اليمن فانه أمره أن يدعوهم إلى شهادة أن لا اله إلا الله ثم قال فان هم طاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات ولو كانت دعوة المشركين مبتدأه بالنهي عن المنكر لنفروا ولمل الداعي لان المناكير غالبة عليهم ومحدقة بهم ويدخل في الأمر بالعرف الاتسام به والتخلق بخلقه: لأن شأن الأمر بشيء أن يكون متصفا بمثله، وإلا فقد تعرض للاستخفاف على أن الأمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود:
يا أيها الرجل المعلم غيره ... هلا لنفسك كان ذا التعليم
على أن خطاب القرآن الناس بأن يأمروا بشيء يعتبر أمرا للمخاطب بذلك الشيء وهي المسألة المترجمة في أصول الفقه بأن الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء.
والتعريف في {الْعُرْفِ} كالتعريف في {الْعَفْوَ} يفيد الاستغراق.
وحذف مفعول الأمر لإفادة عموم المأمورين {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25]، أمر الله رسوله بأن يأمر الناس كلهم بكل خير وصلاح فيدخل في هذا العموم المشركون دخولا أوليا لأنهم سبب الأمر بهذا العموم أي لا يصدنك إعراضهم عن إعادة إرشادهم وهذا كقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وعِظْهُم} [النساء: 63].
والإعراض: إدارة الوجه عن النظر للشيء، مشتق من العارض وهو الخد، فان الذي
يلتفت لا ينظر إلى الشيء وقد فسر ذلك في قوله تعالى {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الاسراء: 83] وهو، هنا، مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد، شبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به لأن شأن العلم به أن تترتب عليه المؤاخذة.
و"الجهل" هنا ضد الحلم والرشد، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم لأن التعريف فيه للاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك، إذ اتخاذ الحجر إلها سفاهة لا تعدلها سفاهة، ثم يشمل كل سفيه رأي.وكذلك فهم منها الحر بن قيس في الخبر المتقدم آنفا وأقره عمر بن الخطاب على ذلك الفهم.
وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفوا عن اعتداء فتدخل في {خُذِ الْعَفْوَ} ، أو إغضاء عما لا يلائم فتدخل في {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} ، أو فعل خير واتساما بفضيلة فتدخل في {وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} كما تقدم من الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء، وهذا معنى قول جعفر بن محمد: في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها وهي صالحة لأن يبين بعضها بعضا فان الأمر يأخذ العفو يتقيد بوجوب الأمر بالعرف، وذلك في كل ما لا يقبل العفو والمسامحة من الحقوق، وكذلك الأمر بالعرف يتقيد بأخذ العفو وذلك بأن يدعو الناس إلى الخير بلين ورفق.
[200] {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وهذا الأمر مراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء وهو شامل لأمته.
"إما" هذه هي إن الشرطية اتصلت بها "ما" الزائدة التي تزاد على بعض الأسماء غير أدوات الشروط فتصيرها أدواتها، نحو مهما فان أصلها ما، ونحو اذ ما و أينما و أيا نما و حيثما و كيفما فلا جرم أن "ما" إذا اقترنت بما يدل على الشرط أكتسبته قوة شرطية فلذلك كتبت "إماط هذه على صورة النطق بها ولم تكتب مفصولة النون عن "ما" والنزغ النخس والغرز، كذا فسره في الكشاف وهو التحقيق، وأما الراغب وابن عطية فقيداه بأنه دخول شيء في شيء لإفساده قلت وقريب منه الفسخ بالسين وهو الغرز بإبرة أو نحوها للوشم قال ابن عطية وقلما يستعمل في غير فعل الشيطان {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي} [يوسف: 100].
وإطلاق النزغ هنا على وسوسة الشيطان استعارة: شبه حدوث الوسوسة الشيطانية في النفس بنزغ الإبرة ونحوها في الجسم بجامع التأثير الخفي، وشاعت هذه الاستعارة بعد نزول القرءان حتى صارت كالحقيقة.
والمعنى أن ألقى إليك الشيطان ما يخالف هذا الأمر بأن سول لك الأخذ بالمعاقبة أو سول لك ترك أمرهم بالمعروف غضبا عليهم أو يأسا من هداهم، فاستعذ بالله منه ليدفع عنك حرجه ويشرح صدرك لمحبة العمل بما أمرت به.
والاستعاذة مصدر طلب العوذ فالسين والتاء فيها للطلب، والعوذ الالتجاء إلى شيء يدفع مكروها عن الملتجئ، يقال: عاذ بفلان، وعاذ بالحرم، وأعاذه إذا منعه من الضر الذي عاذ من أجله.
فأمر الله بدفع وسوسة الشيطان بالعوذ بالله، والعوذ بالله هو الالتجاء إليه بالدعاء بالعصمة، أو استحضار ما حدده الله له من حدود الشريعة، وهذا أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الالتجاء إلى الله فيما عسر عليه، فان ذلك شكر على نعمة الرسالة والعصمة، فان العصمة من الذنوب حاصلة له، ولكنه يشكر الله بإظهار الحاجة إليه لإدامتها عليه، وهذا مثل استغفار الرسول عليه الصلاة والسلام في قوله في حديث صحيح مسلم إنه ليغان على قلبي فاستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة.فالشيطان لا ييأس من إلقاء الوسوسة للأنبياء لأنها تنبعث عنه بطبعه، وإنما يترصد لهم مواقع خفاء مقصده طمعا في زلة تصدر عن أحدهم، وإن كان قد علم أنه لا يستطيع إغواءهم، ولكنه لا يفارق رجاء حملهم على التقصير في مراتبهم، ولكنه إذا ما هم بالوسوسة شعروا بها فدفعوها، ولذلك علم الله رسوله عليه الصلاة والسلام الاستعانة على دفعها بالله تعالى.روى الدار قطني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة" قالوا وأنت يا رسول الله، قال "وأنا ولكن الله أعانني عليه فأسلم". روي قوله فأسلم بفتح الميم بصيغة الماضي والهمزة أصلية: صار الشيطان المقارن له مسلما، وهي خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي بضم الميم بصيغة المضارع، والهمزة للمتكلم، أي فأنا أسلم من وسوسته وأحسب أن سبب الاختلاف في الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم نطق به موقوفا عليه.وهذا الأمر شامل للمؤمنين وحظ المؤمنين منه أقوى لأن نزغ الشيطان إياهم أكثر فان النبي صلى الله عليه وسلم مؤيد بالعصمة فليس للشيطان عليه سبيل.
وجملة {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} في موقع العلة للأمر بالاستعاذة من الشيطان بالله على ما
هو شأن حرف "إن" إذا جاء في غير مقام دفع الشك أو الإنكار، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكر ذلك ولا يتردد فيه، والمراد.التعليل بلازم هذا الخبر، وهو عوذه مما استعاذه منه، أي: أمرناك بذلك لأن ذلك يعصمك من وسوسته لأن الله سميع عليم.
و {السميع} : العالم بالمسموعات، وهو مراد منه معناه الكنائي، أي عليم بدعائك مستجيب قابل للدعوة، كقول أبي ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني لامره ... سميع فما أدري أرشد طلابها
أي ممتثل، فوصف {سَمِيعٌ} كناية عن وعد بالإجابة.
وإتباعه بوصف {عَلِيمٌ} زيادة في الإخبار بعموم علمه تعالى بالأحوال كلها لأن وصف {سَمِيعٌ} دل على أنه يعلم استعاذة الرسول عليه الصلاة والسلام ثم أتبعه بما يدل على عموم العلم، وللإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم بمحل عناية الله تعالى فهو يعلم ما يريد به الشيطان عدوه، وهذا كناية عن دفاع الله عن رسوله كقوله: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] وأن أمره بالاستعاذة وقوف عند الأدب والشكر وإظهار الحاجة إلى الله تعالى.
[201] {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
هذا تأكيد وتقرير للأمر بالاستعاذة من الشيطان، فتتنزل جملة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا} إلى آخرها منزلة التعليل للأمر بالاستعاذة من الشيطان إذا جس بنزغ الشيطان، ولذلك افتتحت بان التي هي لمجرد الاهتمام لا لرد تردد أو إنكار، كما افتتحت بها سابقتها في قوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيكون الأمر بالاستعاذة حينئذ قد علل بعلتين أولاهما أن الاستعاذة بالله منجاة للرسول عليه الصلاة والسلام من نزغ الشيطان والثانية أن في الاستعاذة بالله من الشيطان تذكرا الواجب مجاهدة الشيطان والتيقظ لكيده، وأن ذلك التيقظ سنة المتقين، فالرسول عليه الصلاة والسلام مأمور بمجاهدة الشيطان: لأنه متق، ولأنه يبتهج بمتابعة سيرة سلقه من المتقين كما قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
وقد جاءت العلة هنا أعم من المعلل: لأن التذكر أعم من الاستعاذة.
ولعل الله ادخر خصوصية الاستعاذة لهذه الأمة، فكثر في القرآن الأمر بالاستعاذة من
الشيطان وكثر ذلك في أقوال النبي، صلى الله عليه وسلم وجعل للذين قبلهم بالتذكر، كما ادخر لنا يوم الجمعة.
و"التَّقْوَى" تقدم بيانها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] في سورة البقرة، والمراد بهم: الرسل وصالحوا أممهم، لأنه أريد جعلهم قدوة وأسوة حسنة.
و"المس" حقيقته وضع اليد على الجسم، واستعير للإصابة أو لأدنى الإصابة.
والطائف هو الذي يمشي حول المكان ينتظر الإذن له، فهو النازل بالمكان قبل دخوله المكان، أطلق هنا على الخاطر الذي يخطر في النفس يبعث على فعل شيء نهى الله عن فعله شبه ذلك الخاطر في مبدإ جولاته في النفس بحلول الطائف قبل أن يستقر.
وكانت عادة العرب أن القادم إلى أهل البيت، العائذ برب البيت، المستأنس للقرى يستأنس، فيطوف بالبيت، ويستأذن، كما ورد في قصة النابغة مع النعمان بن المنذر حين أنشد أبياته التي أولها:
أصم أم يسمع رب القبه
وتقدمت في أول سورة الفاتحة، ومن ذلك طواف القادمين إلى مكة بالكعبة تشبها بالوافدين على الملوك فلذلك قدم الطواف على جميع المناسك وختمت بالطواف أيضا، فلعل كلمة طائف تستعمل في معنى الملم الخفي قال الأعشى:
وتصبح عن غب السرى وكأنها ... ألم بها من طائف الجن أو لق
وقال تعالى {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم:19].
وقراءة الجمهور: {طَائِفٌ} ، بألف بعد الطاء وهمزة بعد الألف، وقراءة ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب: طيف بدون ألف بعد الطاء وبياء تحتية ساكنة بعد الطاء، والطيف خيال يراك في النوم وهو شائع الذكر في الشعر.
وفي كلمة "إذا" من قوله {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} مع التعبير بفعل {مَسَّهُمْ } الدال على إصابة غير مكينة، إشارة إلى أن الفزع إلى الله من الشيطان، عند ابتداء إلمام الخواطر الشيطانية بالنفس، لأن تلك الخواطر إذا أمهلت لم تلبث أن تصير عزما ثم عملا.
والتعريف في {الشَّيْطَانِ} يجوز أن يكون تعريف الجنس: أي من الشياطين، ويجوز
أن يكون تعريف العهد والمراد به إبليس باعتبار أن ما يوسوس به جنده وأتباعه، هو صادر عن أمره وسلطانه.
والتذكر استحضار المعلوم السابق، والمراد: تذكروا أوامر الله ووصاياه، كقوله: {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] ويشمل التذكر تذكر الاستعاذة لمن أمر بها من الأمم الماضية، أن كانت مشروعة لهم، ومن هذه الأمة، فالاقتداء بالذين اتقوا يعم سائر أحوال التذكر للمأمورات.
والفاء لتقريع الإبصار على التذكر.وأكد معنى فاء التعقيب بـ"إذا" الفجائية الدالة على حصول مضمون جملتها دفعة بدون تريث، أي تذكروا تذكر ذوي عزم فلم تتريث نفوسهم أن تبين لها الحق الوازع عن العمل بالخواطر الشيطانية فابتعدت عنها، وتمسكت بالحق، وعملت بما تذكرت، فإذا هم ثابتون على هداهم وتقواهم.
وقد استعير الإبصار للاهتداء كما يستعار ضده العمى للضلال، أي: فإذا هم مهتدون ناجون من تضليل الشيطان، لان الشيطان أراد إضلالهم فسلموا من ذلك ووصفهم باسم الفاعل دون الفعل للدلالة على أن الإبصار ثابت لهم من قبل، وليس شيئا متجددا، ولذلك اخبر عنهم بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبات.
[202] {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ}.
عطف على جملة {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا} [الأعراف: 201] عطف الضد على ضده، فان الضدية مناسبة يحسن بها عطف حال الضد على ضده، فلما ذكر شان المتقين في دفعهم طائف الشياطين، ذكر شان أضدادهم من أهل الشرك والضلال، كما وقعت جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] من جملة {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} في سورة البقرة[2,3].
وجعلها الزجاج عطفا على جملة {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف:192] أي ويمدونهم في الغي، يريد أن شركاءهم لا ينفعونهم بل يضرونهم بزيادة الغي.والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خرب و وهو ذكر بزيادة الغي.
والإخوان جمع أخ على وزن فعلان مثل جمع خرب وهو ذكر الحبارى على خربان.
وحقيقة الأخ المشارك في بنوة الأم والأب أو في بنوة أحدهما ويطلق الأخ مجازا على الصديق الودود ومنه ما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقول أبي بكر للنبي صلى الله عليه وسلم لما خطب النبي منه عائشة إنما أنا أخوك فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أخي وهي حلال لي" ويطلق الأخ على القرين كقولهم أخو الحرب، وعلى التابع الملازم كقول عبد بني الحسحاس.
أخوكم ومولى خيركم وحليفكم ... ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا
أراد أنه عبدهم، وعلى النسب والقرب كقولهم أخو العرب وأخو بني فلان.
فضمير {وَإِخْوَانِهِمْ} عائد إلى غير مذكور في الكلام، إذ لا يصح أن يعود إلى المذكور قبله قريبا: لان الذي ذكر قبله {الذين اتقوا} فلا يصح أن يكون الخبر، وهو {يَمُدُّونَهُمْ فِي} متعلقا بضمير يعود إلى {الْمُتَّقِينَ} ، فتعين أن يتطلب السامع لضمير {وَإِخْوَانِهِمْ} معادا غير ما هو مذكور في الكلام بقربه، فيحتمل أن يكون الضمير عائدا على معلوم من السياق وهم الجماعة المتحدث عنهم في هذه الآيات أعني المشركين المعنيين بقوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً} إلى قوله {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} [الأعراف: 190, 192] فيرد السامع الضمير إلى ما دل عليه السياق بقرينة تقدم نظيره في أصل الكلام، ولهذا قال الزجاج: هذه الآية متصلة في المعنى بقوله: {وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} [الأعراف:192]، أي وإخوان المشركين، أي أقاربهم ومن هو من قبيلتهم وجماعة دينهم، كقوله تعالى: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156] أي يمد المشركون بعضهم بعضا في الغي ويتعاونون عليه فلا مخلص لهم من الغي.
ويجوز أن يعود الضميران إلى الشيطان المذكور آنفا باعتبار إرادة الجنس أو الأتباع، كما تقدم، فالمعنى وإخوان الشياطين أي أتباعهم كقوله: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الاسراء: 27] أما الضميران المرفوعان في قوله {يَمُدُّونَهُمْ} وقوله: {لا يُقْصِرُونَ} فهما عائدان إلى ما عاد إليه ضمير {إِخْوَانِهِمْ} أي الشياطين، وإلى هذا مال الجمهور من المفسرين، والمعنى: وإخوان الشياطين يمدهم الشياطين في الغي، فجملة يمدونهم خبر عن {إِخْوَانُهُمْ} وقد جرى الخبر على غير من هو له ولم يبرز فيه ضمير من هو له حيث كان اللبس مأمونا وهذا كقول يزيد بن منقذ:
وهم إذا الخيل جالوا في كواثبها ... فوارس الخيل لا ميل ولا قزم
فجملة جالوا خبر عن الخيل وضمير جالوا عائد على ما عاد عليه ضمير وهم لا عن الخيل.وقوله فوارس خبر ضمير الجمع.
ويجوز أن يكون المراد من الإخوان الأولياء ويكون الضميران للمشركين أيضا، أي وإخوان المشركين وأوليائهم، فيكون "الإخوان" صادقا بالشياطين كما فسر قتادة، لأنه إذا كان المشركون إخوان الشياطين، كما هو معلوم، كان الشياطين إخوانا للمشركين لأن نسبة الإخوة تقتضي جانبين، وصادقا بعظماء المشركين، فالخبر جار على من هو له، وقد كانت هذه المعاني مجتمعة في هذه الآيات بسبب هذا النظم البديع.
وقرأ نافع، وأبو جعفر: {يمُدُّونَهُمْ} بضم الياء وكسر الميم من الإمداد وهو تقوية الشيء بالمدد والنجدة كقوله: {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء:133]، وقرأه البقية: يمدونهم بفتح الياء وضم الميم من مد الحبل يمده إذا طوله، فيقال: مد له إذا أرخى له كقولهم مد الله في عمرك وقال أبو علي الفارسي في كتاب الحجة عامة ما جاء في التنزيل مما يستحب أمددت على أفعلت كقوله: {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] و {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22] و{أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36]، وما كان بخلافه يجيء على مددت قال تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15]}.فهذا يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر من القراء والوجه في قراءة من قرأ يمدونهم أي بضم الياء انه مثل {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] أي هو استعارة تهكمية والقرينة قوله في الغي كما أن القرينة في الآية الأخرى قوله {بِعَذَابٍ} وقد علمت أن وقوع أحد الفعلين أكثر في أحد المعنيين لا يقتضي قصر إطلاقه على ما غلب إطلاقه فيه عند البلغاء وقراءة الجمهور يمدونهم بفتح التحتية تقتضي أن يعدى فعل {يَمُدُّونَهُمْ} إلى المفعول باللام، يقال مد له إلا أنه كثرت تعديته بنفسه على نزع الخافض كقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} وقد تقدم في سورة البقرة[15].
والغي الضلال وقد تقدم آنفا.
و"في" من قوله: {يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} على قراءة نافع وأبي جعفر استعارة تبعية بتشبيه الغي بمكان المحاربة، وأما على قراءة الجمهور فالمعنى: وإخوانهم يمدون لهم في الغي من مد للبعير في الطول.
أي يطيلون لهم الحبل في الغي، تشبيها لحال أهل الغواية وازديادهم فيها بحال النعم المطال لها الطول في المرعى وهو الغي، وهو تمثيل صالح لاعتبار تفريق التشبيه في
أجزاء الهيئة المركبة، وهو أعلى أحوال التمثيل ويقرب من هذا التمثيل قول طرفة:
لعمرك أن الموت ما أخطا الفتى ... لكا لطول المرخى وثنياه باليد
وعليه جرى قولهم: مد الله لفلان في عمره، أو في أجله، أو في حياته والإقصار الإمساك عن الفعل مع قدره الممسك على أن يزيد.
و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي أي وأعظم من الإمداد لهم في الغي انهم لا يألونهم جهدا في الازدياد من الإغواء، فلذلك تجد إخوانهم اكبر الغاوين.
[203] {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي}
معطوفة على جملة {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] والمناسبة أن مقالتهم هذه من جهالتهم والآية يجوز أن يراد بها خارق العادة أي هم لا يقنعون بمعجزة القرآن فيسألون آيات كما يشاءون مثل قولهم فجر لنا من الأرض ينبوعا وهذا المعنى هو الذي شرحناه عند قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} في سورة الأنعام[109].وروي هذا المعنى عن مجاهد، والسدي، والكلبي ويجوز أن يراد بآية أية من القرآن يقترحون فيها مدحا لهم ولأصنامهم، كما قال الله عنهم: {قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] روي عن جابر بن زيد وقتادة: كان المشركون إذا تأخر الوحي يقولون للنبي هلا أتيت بقرآن من عندك يريدون التهكم.
و {لَوْلا} حرف تحضيض مثل "هلا".
والاجتباء الاختيار، والمعنى: هلا اخترت آية وسألت ربك أن يعطيكما، أي هلا أتيتنا بما سألناك غير آية القرآن فيجيبك الله إلى ما اجتبيت، ومقصدهم من ذلك نصب الدليل على أنه بخلاف ما يقول لهم إنه رسول الله، وهذا من الضلال الذي يعتري أهل العقول السخيفة في فهم الأشياء على خلاف حقائقها وبحسب من يتخيلون لها ويفرضون.
والجواب الذي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يجيب به وهو قوله: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} صالح للمعنيين، فالاتباع مستعمل في معنى الاقتصار والوقوف عند الحد، أي لا اطلب آية غير ما أوحى الله إلي، ويعضد هذا ما في الحديث الصحيح أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من الأنبياء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" ويكون المعنى: إنما انتظر ما يوحى إلي ولا أستعجل نزول القرآن إذا تأخر نزوله فيكون الاتباع متعلقا بالزمان.
{هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
مستأنفة لابتداء كلام في التنويه بشأن القرآن منقطعه عن المقول للانتقال من غرض إلى غرض بمنزلة التذييل لمجموع أغراض السورة، والخطاب للمسلمين.
ويجوز أن تكون من تمام القول المأمور بأن يجيبهم به، فيكون الخطاب للمشركين ثم وقع التخلص لذكر المؤمنين بقوله {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} .
والإشارة ب {هَذَا بَصَائِرُ} إلى القرآن، ويجوز أن تكون الإشارة إلى ما تقدم من السورة أو من المحاجة الأخيرة منها، وأفراد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور.
والبصائر جمع بصيرة وهي ما به اتضاح الحق وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة الأنعام [104]، وهذا تنويه بشأن القرآن وأنه خير من الآيات التي يسألونها، لأنه يجمع بين الدلالة على صدق الرسول بواسطة دلالة الإعجاز وصدوره عن الأمي، وبين الهداية والتعليم والإرشاد، والبقاء على العصور.
وإنما جمع "البصائر" لأن في القرآن أنواعا من الهدى على حسب النواحي التي يهدي إليها، من تنوير العقل في إصلاح الاعتقاد، وتسديد الفهم في الدين، ووضع القوانين للمعاملات والمعاشرة بين الناس، والدلالة على طرق النجاح والنجاة في الدنيا، والتحذير من مهاوي الخسران.
وأفرد الهدى والرحمة لأنهما جنسان عامان يشملان أنواع البصائر فالهدى يقارن البصائر والرحمة غاية للبصائر، والمراد بالرحمة ما يشمل رحمة الدنيا وهي استقامة أحوال الجماعة وانتظام المدنية ورحمة الآخرة وهي الفوز بالنعيم الدائم كقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وقوله {مِنْ رَبِّكُمْ} ترغيب للمؤمنين وتخويف للكافرين.
و {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يتنازعه "بصائر" و"هدى" و"رحمة" لأنه إنما ينتفع به المؤمنون فالمعنى هذا بصائر لكم وللمؤمنين، {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خاصة إذ لم يهتدوا، وهو تعريض بان غير المؤمنين ليسوا أهلا للانتفاع به وانهم لهوا عن هديه بطلب خوارق العادات.
[204] {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.
يؤذن العطف بان الخطاب بالأمر في قوله: {فَاسْتَمِعُوا - وَأَنْصِتُوا} وفي قوله: {لَعَلَّكُمْ} تابع للخطاب في قوله: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ} الخ، فقوله {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ} من جملة ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بان يقوله لهم وذلك إعادة تذكير للمشركين تصريحا أو تعريضا بان لا يعرضوا عن استماع القرآن وبأن يتأملوه ليعلموا أنه آية عظيمة، وأنه بصائر وهدى ورحمة، لمن يؤمن به ولا يعاند، وقد علم من أحوال المشركين انهم كانوا يتناهون عن الإنصات إلى القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت:26].
وذكر اسم القرآن إظهار في مقام الإضمار، لأن القرآن تقدم ذكره بواسطة اسم الإشارة فنكتة هذا الإظهار: التنويه بهذا الأمر، وجعل جملته مستقلة بالدلالة غير متوقفة على غيرها، وهذا من وجوه الاهتمام بالكلام ومن دواعي الإظهار في مقام الإضمار استقريته من كلام البلغاء.
والاستماع الإصغاء وصيغة الافتعال دالة على المبالغة في الفعل والإنصات الاستماع مع ترك الكلام فهذا مؤكد لا تسمعوا.مع زيادة معنى.وذلك مقابل قولهم: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26]، ويجوز أن يكون الاستماع مستعملا في معناه المجازي، وهو الامتثال للعمل بما فيه كما تقدم آنفا في قوله: {وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا} [الأعراف: 198] ويكون الإنصات جامعا لمعنى الإصغاء وترك اللغو.
وهذا الخطاب شامل للكفار على وجه التبليغ، وللمسلمين على وجه الإرشاد لأنهم أرجى للانتفاع بهديه لأن قبله قوله: {وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 203].
ولا شبهة في أن هذه الآية نزلت في جملة الآيات التي قبلها وعلى مناسبتها، سواء أريد بضمير الخطاب بها المشركون والمسلمون معا، أم أريد المسلمون تصريحا والمشركون تعريضا، أم أريد المشركون للاهتداء والمسلمون بالأحرى لزيادته.
فالاستماع والإنصات المأمور بهما هما المؤديان بالسامع إلى النظر والاستدلال، والاهتداء بما يحتوي عليه القرآن من الدلالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم المقضي إلى الإيمان به، ولما جاء به من إصلاح النفوس، فالأمر بالاستماع مقصود به التبليغ واستدعاء النظر والعمل بما فيه، فالاستماع والإنصات مراتب بحسب مراتب المستمعين.
فهذه الآية مجملة في معنى الاستماع والإنصات وفي مقتضى الأمر من قوله: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} ، يبين بعض إجمالها سياق الكلام والحمل على ما يفسر سببها من قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت:26]، ويحال بيان مجملها فيما زاد على ذلك على أدلة أخرى.وقد اتفق علماء الأمة على أن ظاهر الآية بمجرده في صور كثيرة مؤول، فلا يقول أحد منهم بأنه يجب على كل مسلم إذا سمع أحدا يقرأ القرآن أن يشتغل بالاستماع وينصت، إذ قد يكون القارئ يقرأ بمحضر صانع في صنعته فلو وجب عليه الاستماع لأمر بترك عمله، ولكنهم اختلفوا في محمل تأويلها: فمنهم من خصها بسبب رأوا انه سبب نزولها، فرووا عن أبي هريرة أنها نزلت في قراءة الإمام في الجهر، وروى بعضهم أن رجلا من الأنصار صلى وراء النبي صلى الله عليه وسلم صلاة جهرية فكان يقرأ في الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يقرأ فنزلت هذه الآية في أمر الناس بالاستماع لقراءة الإمام.وهؤلاء قصروا أمر الاستماع على قراءة خاصة دل عليها سبب النزول عندهم على نحو يقرب من تخصيص العام بخصوص سببه، عند من يخصص به، وهذا تأويل ضعيف لأن نزول الآية على هذا السبب لم يصح، ولا هو مما يساعد عليه نظم الآي التي معها، وما قالوه في ذلك إنما هو تفسير وتأويل وليس فيه شيء مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من أبقى أمر الاستماع على إطلاقه القريب من العموم، ولكنهم تأولوه على أمر الندب، وهذا الذي يؤخذ من كلام فقهاء المالكية، ولو قالوا المراد من قوله قرئ قراءة خاصة وهي أن يقرأه الرسول عليه الصلاة والسلام على الناس لعلم ما فيه والعمل به للكافر والمسلم، لكان أحسن تأويلا.
وفي تفسير القرطبي عن سعيد ابن المسيب: كان المشركون يأتون رسول الله إذا صلى فيقول بعضهم لبعض لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه فأنزل الله تعالى جوابا لهم {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} .
على أن ما تقدم من الإخبار في محمل سبب نزول هذه الآية لا يستقيم لأن الآية مكية وتلك الحوادث حدثت في المدينة.أما استدلال أصحاب أبي حنيفة على ترك قراءة
المأموم إذا كان الإمام مسرا بالقراءة فالآية بمعزل عنه إذ لا يتحقق في ذلك الترك معنى الإنصات.
ويجب التنبه إلى أن ليس في الآية صيغة من صيغ العموم لأن الذي فيها فعلان هما "قرئ" و"استمعوا" والفعل لا عموم له في الإثبات.
ومعنى الشرط المستفاد من "إذا" يقتضي إلا عموم الأحوال أو الأزمان دون القراءات.وعموم الأزمان أو الأحوال لا يستلزم عموم الأشخاص بخلاف العكس كما هو بين.
[205] {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ}.
إقبال بالخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم فيما يختص به، بعد أن أمر بما أمر بتبليغه من الآيات المتقدمة، والمناسبة في هذا الانتقال إن أمر الناس باستماع القرآن يستلزم أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقراءة القرآن عليهم قراءة جهرية يسمعونها، فلما فزع الكلام من حظ الناس نحو قراءة الرسول عليه الصلاة والسلام، أقبل على الكلام في حظ الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وغيره، وهو التذكر الخاص به، فأمر بأن يذكر الله ما استطاع وكيفما تسنى له وفي أوقات النهار المختلفة، فجملة {وَاذْكُرْ رَبَّكَ} معطوفة على الجمل السابقة من قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ} [الأعراف: 196] إلى هنا.
والنفس اسم للقوة التي بها الحياة، فهي مرادفة الروح، وتطلق على الذات المركبة من الجسد والروح، ولكون مقر النفس في باطن الإنسان أطلقت على أمور باطن الإنسان من الإدراك والعقل كما في قوله تعالى حكاية عن عيسى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي} [المائدة: 116] وقد مضى في سورة المائدة ومن ذلك يتطرق إلى إطلاقها على خويصة المرء، ومنه قوله في الحديث القدسي في صحيح البخاري "وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم" فقابل قوله في نفسه بقوله في ملإ.
والمعنى: اذكر ربك وأنت في خلوتك كما تذكره في مجامع الناس.
والذكر حقيقة في ذكر اللسان، وهو المراد هنا، ويعضده قوله {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وذلك يشمل قراءة القرآن وغير القرآن من الكلام الذي فيه تمجيد الله وشكره ونحو ذلك، مثل كلمة التوحيد والحوقلة والتسبيح والتكبير والدعاء ونحو ذلك.
و"التضرع" التذلل ولما كان التذلل يستلزم الخطاب بالصوت المرتفع في عادة العرب كني بالتضرع عن رفع الصوت مرادا به معناه الأصلي والكنائي، ولذلك قوبل بالخفية في قوله: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} في أوائل هذه السورة [55] وقد تقدم.
وقوبل التضرع هنا بالخيفة وهي اسم مصدر الخوف، فهو من المصادر التي جاءت على صيغة الهيئة وليس المراد بها الهيئة، مثل الشدة، ولما كانت الخيفة انفعالا نفسيا يجده الإنسان في خاصة نفسه كانت مستلزمة للتخافت بالكلام خشية أن يشعر بالمرء من يخافه، فلذلك كني بها هنا عن الإسرار بالقول مع الخوف من الله، فمقابلتها بالتضرع طباق في معنيي اللفظين الصريحين ومعنييهما الكناءين، فكأنه قيل تضرعا وإعلانا وخيفة وإسرارا.
وقوله: {وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} هو مقابل لكل من التضرع والخيفة وهو الذكر المتوسط بين الجهر والإسرار، والمقصود من ذلك استيعاب أحوال الذكر باللسان، لأن بعضها قد تكون النفس أنشط إليه منها إلى البعض الآخر.
والغدو اسم لزمن الصباح وهو النصف الأول من النهار.
والآصال جمع أصيل وهو العشي وهو النصف الثاني من النهار إلى الغروب.
والمقصود استيعاب أجزاء النهار بحسب المتعارف فأما الليل فهو زمن النوم، والأوقات التي تحصل فيها اليقظة خصت بأمر خاص مثل قوله تعالى {قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل:2] على أنها تدخل في عموم قوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} .
فدل قوله: {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} على التحذير من الغفلة عن ذكر الله ولأحد للغفلة، فإنها تحدد بحال الرسول، صلى الله عليه وسلم وهو أعلم بنفسه، فان له أوقاتا يتلقى فيها الوحي وأوقات شؤون جبلية كالطعام.
وهذا الأمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، وكل ما خص به الرسول عليه الصلاة والسلام من الوجوب يستحسن للامة اقتداؤهم به فيه إلا ما نهوا عنه مثل الوصال في الصوم.
وقد تقدم أن نحو {وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} أشد في الانتفاء وفي النهي من نحو: ولا تغفل، لأنه يفرض جماعة يحق عليهم وصف الغافلين فيحذر من أن يكون في زمرتهم وذلك أبين للحالة المنهي عنها.
[206] {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}.
تتنزل منزلة العلة للأمر بالذكر، ولذلك صدرت {إِنَّ} التي هي لمجرد الاهتمام بالخبر، لا لرد تردد أو إنكار، لأن المخاطب منزه عن أن يتردد في خبر الله تعالى، فحرف التوكيد في مثل هذا المقام يغني غناء فاء التفريع، ويفيد التعليل كما تقدم غير مرة، والمعنى: الحث على تكرر ذكر الله في مختلف الأحوال، لأن المسلمين مأمورون بالاقتداء بأهل الكمال من الملإ الأعلى، وفيها تعريض بالمشركين المستكبرين عن عبادة الله بأنهم منحطون عن تلك الدرجات.
والمراد ب {الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} الملائكة، ووجه جعل حال الملائكة علة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر: أن مرتبة الرسالة تلحق صاحبها من البشر برتبة الملائكة، فهذا التعليل بمنزلة أن يقال: اذكر ربك لان الذكر هو شأن قبيلك، كقول ابن دارة سالم بن مسافع:
فإن تتقوا شرا فمثلكم اتقى ... وإن تفعلوا خيرا فمثلكم فعل
فليس في هذا التعليل ما يقتضي أن يكون الملائكة افضل من الرسل، كما يتوهمه المعتزلة لأن التشبه بالملائكة من حيث كان الملائكة أسبق في هذا المعنى لكونه حاصلا منهم بالجبلة فهم مثل فيه، ولا شبهة في أن الفريق الذين لم يكونوا مجبولين على ما جبلت عليه الملائكة، إذا تخلقوا بمثل خلق الملائكة، كان سموهم إلى تلك المرتبة أعجب، واستحقاقهم الشكر والفضل له أجدر.
ووجه العدول عن لفظ الملائكة إلى الموصولية: ما تؤذن به الصلة من رفعة منزلتهم، فيتذرع بذلك إلى إيجاد المنافسة في التخلق بأحوالهم.
و {عِنْدَ} مستعمل مجازا في رفعة المقدار، والحظوة الإلهية.
وقوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} ليس المقصود به التنويه بشأن الملائكة لأن التنويه بهم يكون بأفضل من ذلك، وإنما أريد به التعريض بالمشركين وأنهم على النقيض من أحوال الملائكة المقربين، فخليق بهم أن يكونوا بعداء عن منازل الرفعة والمقصود هو قوله: {وَيُسَبِّحُونَهُ} أي ينزهونه بالقول والاعتقاد عن صفات النقص، وهذه الصلة هي المقصودة من التعليل للأمر بالذكر.
واختيار صيغة المضارع لدلالتها على التجديد والاستمرار، أو كما هو المقصود وتقديم المعمول من قوله: {وَلَهُ يَسْجُدُونَ} للدلالة على الاختصاص أي ولا يسجدون لغيره، وهذا أيضا تعريض بالمشركين الذين يسجدون لغيره، والمضارع يفيد الاستمرار أيضا.
وهنا موضع سجود من سجود القرآن، وهو أولها في ترتيب الصحف، وهو من المتفق على السجود فيه بين علماء الأمة، ومقتضى السجدة هنا أن الآية جاءت للحض على التخلق بأخلاق الملائكة في الذكر، فلما أخبرت عن حالة من أحوالهم في تعظيم الله وهو السجود لله، أراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن ببادر بالتشبه بهم تحقيقا للمقصد الذي سبق هذا الخبر لأجله.
وأيضا جرى قبل ذلك ذكر اقتراح المشركين أن يأتيهم النبي صلى الله عليه وسلم بآية كما يقترحون فقال الله له: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي} [الأعراف: 203] وبأن يأمرهم بالاستماع للقرآن وذكر أن الملائكة يسجدون الله شرع الله عند هذه الآية سجودا ليظهر إيمان المؤمنين بالقرآن وجحود الكافرين به حين سجد المؤمنون ويمسك المشركون الذين يحضرون مجالس نزول القرآن وقد دل استقراء مواقع سجود القرآن أنها لا تعدو أن تكون إغاظة للمشركين أو اقتداء بالأنبياء أو المرسلين كما قال ابن عباس في سجدة، {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} [صّ: 24] أن الله تعالى قال: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، فداود ممن أمر محمد صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي به.
المجلد التاسع
سورة الأنفال...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الأنفال
عرفت بهذا الاسم من عهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: روى الواحدي في "أسباب النزول" عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاصي فأخذت سيفه فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اذهب القيض" بفتحتين الموضع الذي تجمع فيه الغنائم" فرجعت في ما لا يعلمه إلا الله قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت قريبا حتى نزلت سورة الأنفال.
وأخرج البخاري، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس سورة الأنفال قال نزلت في بدر" فباسم الأنفال عرفت بين المسلمين وبه كتبت تسميتها في المصحف حين كتبت أسماء السور في زمن الحجاج، ولم يثبت في تسميتها حديث، وتسميتها سورة الأنفال من أنها افتتحت بآية فيها اسم الأنفال، ومن أجل أنها ذكر فيها حكم الأنفال كما سيأتي.
وتسمى أيضا سورة بدر ففي "الإتقان" أخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: "سورة الأنفال" قال "تلك سورة بدر".
وقد اتفق رجال الأثر كلهم على أنها نزلت في غزوة بدر: قال ابن إسحاق أنزلت في أمر بدر سورة الأنفال بأسرها، وكانت غزوة بدر في رمضان من العام الثاني للهجرة بعد عام ونصف من يوم الهجرة، وذلك بعد تحويل القبلة بشهرين، وكان ابتداء نزولها قبل الانصراف من بدر فإن الآية الأولى منها نزلت والمسلمون في بدر قبل قسمة مغانمها، كما دل عليه حديث سعد بن أبي وقاص والظاهر أنها استمر نزولها إلى ما بعد الانصراف من بدر.
وفي كلام أهل أسباب النزول ما يقتضي أن آية {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ
فِيكُمْ ضَعْفاً} إلى {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] نزلت بعد نزول السورة بمدة طويلة، كما روي عن ابن عباس، وسيأتي تحقيقه هنالك.
وقال جماعة من المفسرين إن آيات {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} – إلى - {لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 64, 65] نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل ابتداء القتال، فتكون تلك الآية نزلت قبل نزول أول السورة.
نزلت هذه السورة بعد سورة البقرة، ثم قيل هي الثانية نزولا بالمدينة، وقيل نزلت البقرة ثم آل عمران ثم الأنفال، والأصح أنها ثانية السور بالمدينة نزولا بعد سورة البقرة.
وقد بينت في المقدمات أن نزول سورة بعد أخرى لا يفهم منه أن التالية تنزل بعد انقضاء نزول التي قبلها، بل قد يبتدأ نزول سورة قبل انتهاء السورة التي ابتدئ نزولها قبل، ولعل سورة الأنفال قد انتهت قبل انتهاء نزول سورة البقرة، لأن الأحكام التي تضمنتها سورة الأنفال من جنس واحد وهي أحكام المغانم والقتال، وتفننت إحكام سورة البقرة أفانين كثيرة: من أحكام المعاملات الاجتماعية، ومن الجائز أن تكون البقرة نزلت بعد نزولها بقليل سورة آل عمران، وبعد نزول آل عمران بقليل نزلت الأنفال، فكان ابتداء نزول الأنفال قبل انتهاء نزول البقرة وآل عمران.
وفي "تفسير ابن عطية "عند قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} من هذه السورة[33] قالت فرقة نزلت هذه الآية كلها بمكة قال ابن أبزى نزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} بمكة إثر قولهم: {أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ونزل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] عند خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ونزل قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ} [الأنفال: 34] بعد بدر.
وقد عدت السورة التاسعة والثمانين في عداد نزول سور القرآن في رواية جابر بن زيد عن ابن عباس، وإنها نزلت بعد سورة آل عمران وقبل سورة الأحزاب.
وعدد آيها، في عد أهل المدينة. وأهل مكة وأهل البصرة: ست وسبعون، وفي عد أهل الشام سبع وسبعون، وفي عد أهل الكوفة خمس وسبعون.
ونزولها بسبب اختلاف أهل بدر في غنائم يوم بدر وأنفاله، وقيل بسبب ما سأله بعض الغزاة النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم من الأنفال، كما سيأتي عند تفسير أول آية منها.
أغراض هذه السورة
ابتدأت ببيان أحكام الأنفال وهي الغنائم وقسمتها ومصارفها.
والأمر بتقوى الله في ذلك وغيره.
والأمر بطاعة الله ورسوله، في أمر الغنائم وغيرها.
وأمر المسلمين بإصلاح ذات بينهم، وان ذلك من مقومات معنى الإيمان الكامل.
وذكر الخروج إلى غزوة بدر وبخوفهم من قوة عددهم وما لقوا فيها من نصر. وتأييد من الله ولطفه بهم.
وامتنان الله عليهم بان جعلهم أقوياء.
ووعدهم بالنصر والهواية أن اتقوا بالثبات للعدو، والصبر.
والأمر بالاستعداد لحرب الأعداء.
والأمر باجتماع الكلمة والنهي عن التنازع.
والأمر بان يكون قصد النصرة للدين نصب أعينهم.
ووصف السبب الذي أخرج المسلمين إلى بدر.
وذكر مواقع الجيشين، وصفات ما جرى من القتال.
وتذكير النبي صلى الله عليه وسلم بنعمة الله عليه إذ أنجاه من مكر المشركين به بمكة وخلصه من عنادهم، وان مقامه بمكة كان أمانا لأهلها فلما فارقهم فقد حق عليهم عذاب الدنيا بما اقترفوا من الصد عن المسجد الحرام.
ودعوة المشركين للانتهاء عن مناوأة الإسلام وإيذانهم بالقتال.
والتحذير من المنافقين.
وضرب المثل بالأمم الماضية التي عاندت رسل الله ولم يشكروا نعمة الله.
وأحكام العهد بين المسلمين والكفار وما يترتب على نقضهم العهد، ومتى يحسن السلم.
وأحكام الأسرى.
وأحكام المسلمين الذين تخلفوا في مكة بعد الهجرة. وولايتهم وما يترتب على تلك الولاية.
[1] {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
افتتاح السورة ب {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ} مؤذن بأن المسلمين لم يعلموا ماذا يكون في شأن المسمى عندهم {الأَنْفَالِ} وكان ذلك يوم بدر، وأنهم حاوروا رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك، فمنهم من يتكلم بصريح السؤال، ومنهم من يخاصم أو يجادل غيره بما يؤذن حاله بأنه يتطلب فهما في هذا الشأن، وقد تكررت الحوادث يومئذ: ففي "صحيح مسلم"، و"جامع الترمذي" عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر أصبت سيفا لسعيد بن العاصي فأتيت به النبي فقلت نفلنيه فقال "ضعه في القبض" ، ثم قلت نفلنيه فقال "ضعه حيث أخذته"، ثم قلت نفلنيه فقال "ضعه من حيث أخذته" ، فنزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ} " وفي "أسباب النزول" للواحدي، و"سيرة ابن إسحاق" عن عبادة بن الصامت، أنه سئل عن الأنفال فقال: فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفتا في النفل يوم بدر فانتزعه الله من أيدينا حين ساءت فيه أخلاقنا فرده على رسوله فقسمه بيننا على بواء يقول على السواء، وروى أبو داود، عن ابن عباس، قال لما كان يوم بدر ذهب الشبان للقتال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت الغنيمة جاء الشبان يطلبون نفلهم فقال الشيوخ لا تستأثرون علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتم لكنا ردءا لكم واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَنْفَالِ}.
والسؤال حقيقته الطلب، فإذا عدي ب"عن" فهو طلب معرفة المجرور ب"عن" وإذا عدي بنفسه فهو طلب إعطاء الشيء، فالمعنى، هنا: يسألونك معرفة الأنفال، أي معرفة حقها فهو من تعليق الفعل باسم ذات والمراد حالها بحسب القرينة مثل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وإنما سألوا عن حكمها صراحة وضمنا في ضمن سؤالهم الأثرة ببعضها.
ومجيء الفعل بصيغة المضارع دال على تكرر السؤال، إما بإعادته المرة بعد الأخرى من سائلين متعددين، وإما بكثرة السائلين عن ذلك حين المحاورة في موقف واحد.
ولذلك كان قوله: {يَسْأَلُونَكَ} مؤذنا بتنازع بين الجيشين في استحقاق الأنفال، وقد
كانت لهم عوائد متبعة في الجاهلية في الغنائم والأنفال أرادوا العمل بها وتخالفوا في شأنها فسألوا وضمير جمع الغائب إلى معروف عند النبي وبين السامعين حين نزول الآية.
و"الأنفال" جمع نفل – بالتحريك - والنفل مشتق من النافلة وهي الزيادة في العطاء، وقد أطلق العرب في القديم الأنفال على الغنائم في الحرب كأنهم اعتبروها زيادة على المقصود من الحرب لان المقصود الأهم من الحرب هو إبادة الأعداء، ولذلك ربما كان صناديدهم يأبون أخذ الغنائم كما قال عنترة:
يخبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأقوالهم في هذا كثيرة، فإطلاق الأنفال في كلامهم على الغنائم مشهور قال عنترة:
إنا إذا احمرا الوغى نروي القنا ... ونعف عند مقاسم الأنفال
وقد قال في القصيدة الأخرى:
أعف عند المغنم
فعلمنا أنه يريد من الأنفال المغانم وقال أوس بن حجر الأسدي وهو جاهلي:
نكصتم على اعقابكم ثم جئتمو ... ترجون أنفال الخميس العرمرم
ويقولون نفلني كذا يريدون أغنمني، حتى صار النفل يطلق على ما يعطاه المقاتل من المغنم زيادة على قسطه من المغنم لمزية له في البلاء والغناء أو على ما يعثر عليه من غير قتيله وهذا صنف من المغانم.
فالمغانم، إذن، تنقسم إلى: ما قصد المقاتل أخذه من مال العدو مثل نعمهم ومثل ما على القتلى من لباس وسلاح بالنسبة إلى القاتل، وفيما ما لم يقصده المقاتلون مما عثروا عليه مثل لباس قتيل لم يعرف قاتله. فاحتملت الأنفال في هذه الآية أن تكون بمعنى المغانم مطلقا، وأن تكون بمعنى ما يزاد للمقاتل على حقه من المغنم فحديث سعد بن أبي وقاص كان سؤالا عن تنفيل بمعنى زيادة وحديث ابن عباس حكى وقوع اختلاف في قسمة المغنم بين من قاتل ومن لم يقاتل، على أن طلب من لم يقاتلوا المشاركة في المغنم يرجع إلى طلب تنفيل، فيبقى النفل في معنى الزيادة، ولأجل التوسع في ألفاظ أموال الغنائم تردد السلف في المعني من الأنفال في هذه الآية وسئل ابن عباس عن الأنفال فلم يزد على أن قال: الفرس من النفل والدرع من النفل كما في "الموطأ"، وروي عنه أنه
قال: والسلب من النفل كما في "كتاب أبي عبيد" وغيره.
وقد أطلقوا النفل أيضا على ما صار في أيدي المسلمين من أموال المشركين بدون انتزاع ولا افتكاك كما يوجد الشيء لا يعرف من غنمه، وكما يوجد القتيل عليه ثيابه لا يعرف قاتله، فيدخل بهذا الإطلاق تحت جنس الفيء كما سماه الله تعالى في سورة الحشر[6, 7] بقوله: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} - إلى قوله -: {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وذلك مثل أموال بني النضير التي سلموها قبل القتال وفروا.
وبهذا تتحصل في أسماء الأموال المأخوذة من العدو في القتال ثلاثة أسماء: المغنم، والفيء وهما نوعان والنفل وهو صورة من صور القسمة وكانت متداخلة، فلما استقر أمر الغزو في المسلمين خص كل اسم بصنف خاص قال القرطبي في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] الآية، ولا تقتضي اللغة هذا التخصيص أي تخصيص اسم الغنيمة بمال الكفار إذا أخذه المسلمون على وجه الغلبة والقهر ولكن عرف الشرع قيد اللفظ بهذا النوع فسمى الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين "أي لمعنيين مختلفين" غنيمة وفيئا يعني وأما النفل فهو اسم لنوع من مقسوم الغنيمة لا لنوع من المغنم.
والذي استقر عليه مذهب مالك أن النفل ما يعطيه الإمام من الخمس لمن يرى إعطاءه إياه، ممن لم يغنم ذلك بقتال.
فالأنفال في هذه الآية قال الجمهور: المراد بها ما كان زائدا على المغنم، فيكون النظر فيه لأمير الجيش يصرفه لمصلحة المسلمين، أو يعطيه لبعض أهل الجيش لإظهار مزية البطل، أو لخصلة عظيمة يأتي بها، أو للتحريض على النكاية في العدو. فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين: "من قتل قتيلا فله سلبه" وقد جعلها القرآن لله وللرسول، أي لما يأمر به الله رسوله أو لما يراه الرسول صلى الله عليه وسلم، قال مالك في "الموطأ" ولم يبلغنا أن رسول الله قال من قتل قتيلا فله سلبه إلا يوم حنين، ولا بلغنا عن الخلفاء من بعده "يعني مع تكرر ما يقتضيه فأراد ذلك أن تلك قضية خاصة بيوم حنين".
فالآية محكمة غير منسوخة بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فيكون لكل آية منهما حكمها إذ لا تداخل بينهما قال القرطبي وهو ما حكاه المازري عن كثير من أصحابنا.
وعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والضحاك، وقتادة وعطاء: أن المراد بالأنفال في هذه الآية الغنا ثم مطلقا. وجعلوا حكمها هنا أنها جعلت لله وللرسول أي أن يقسمها الرسول صلى الله عليه وسلم بحسب ما يراه، بلا تحديد ولا اطراد، وان ذلك كان في أول قسمة وقعت ببدر كما في حديث ابن عباس، ثم نسخ ذلك بآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية إذ كان قد عين أربعة الأخماس للجيش، فجعل لله وللرسول المذكور في سورة الحشر غير منسوخ ولا ناسخ، فلذلك قال مالك والجمهور: لا نفل إلا من الخمس على الاجتهاد من الإمام وقال مالك: "إعطاء السلب من التنفيل"، وقال مجاهد: الأنفال هي خمس المغانم وهو المجعول لله والرسول ولذي القربى.
واللام في قوله: {لِلَّهِ} على القول الأول في معنى الأنفال: لام الملك، لأن النفل لا يحسب من الغنائم، وليس هو من حق الغزاة فهو بمنزلة مال لا يعرف مستحقه، فيقال هو ملك لله ولرسوله، فيعطيه الرسول لمن شاء بأمر الله أو باجتهاده، وهذا ظاهر حديث سعد بن أبي وقاص في "الترمذي" إذ قال له رسول الله عليه الصلاة والسلام سألتني هذا السيف - معنى السيف الذي تقدم ذكره في حديث مسلم - ولم يكن لي وقد صار لي فهو لك".
وأما على القول الثاني، الجامع لجميع المغانم، فاللام للاختصاص، أي: الأنفال تختص بالله والرسول، أي حكمها وصرفها، فهي بمنزلة "إلى". تقول هذا لك أي إلى حكمك مردود، وان أصحاب ذلك القول رأوا أن المغانم لم تكن في أول الأمر مخمسة بل كانت تقسم باجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ثم خمست بآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية.
وعطف "وللرسول" على اسم الله لان المقصود: الأنفال للرسول صلى الله عليه وسلم يقسمها فذكر اسم الله قبل ذلك للدلالة على أنها ليس حقا للغزاة وإنما هي لمن يعينه الله الخمس، وجعل أربعة الأخماس حقا للمجاهدين. يعني وبقي حكم الفيء بوحيه فذكر اسم الله لفائدتين: أولاهما: أن الرسول إنما يتصرف في الأنفال بإذن الله توفيقا أو تفويضا. والثانية: لتشمل الآية تصرف أمراء الجيوش في غيبة الرسول أو بعد وفاته صلى الله عليه وسلم لأن ما كان حقا لله كان التصرف فيه لخلفائه.
واختلف الفقهاء في حكم الأنفال اختلافا ناشئا عن اختلاف اجتهادهم في المراد من الآية، وهو اختلاف يعذرون عليه لسعة الإطلاق في أسماء الأموال الحاصلة للغزاة فقال
مالك والشافعي وأبو حنيفة وسعيد بن المسيب: النفل إعطاء بعض الجيش أو جميعه زيادة على قسمة أخماسهم الأربعة من المغنم فأنما يكون ذلك من خمس المغنم المجعول للرسول صلى الله عليه وسلم ولخلفائه وأمرائه جمعا بين هذه الآية وبين قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] الآية فلا نفل إلا من الخمس المجعول لاجتهاد أمير الجيش وعلة ذلك تجنب إعطاء حق أحد لغيره ولأنه يفضي إلى إيقاد الإحن في نفوس الجيش وقد يبعث الجيش على عصيان الأمير، ولكن إذا رأى الإمام مصلحة في تنقيل بعض ا لجيش ساغ له ذلك من الخمس الذي هو موكول إليه كما سيأتي في آية المغانم لذلك قال مالك لا يكون التنفيل قبل قسمة المغنم وجعل ما صدر من النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين من قوله : "من قتل قتيلا فله سلبه" خصوصيه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو ظاهر، لأن طاعة الناس للرسول أشد من طاعتهم لمن سواه لأنهم يؤمنون بأنه معصوم عن الجور وبأنه لا يتصرف إلا بإذن الله قال مالك في "الموطأ" ولم يبلغنا أن رسول الله فعل ذلك غير يوم حنين ولا أن أبا بكر وعمر فعلاه في فتوحهما.
وإنما اختلفت الفقهاء: في أن النفل هل يبلغ جميع الخمس أو يخرج من خمس الخمس، فقال مالك من الخمس كله ولو استغرقه، وقال سعيد بن المسيب، وأبو حنيفة والشافعي: النفل من خمس الخمس. والخلاف مبني على اختلافهم في أن خمس المغنم أهو مقسم على من سماه القرآن أم مختلط، وسيجيء ذلك في آية المغانم. والحجة لمالك حديث ابن عمر في "الموطأ" أنهم غزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فغنموا إبلا كثيرة فكانت سهمانهم اثني عشر بعيرا ونقلوا بعيرا بعيرا فأعطي النفل جميع أهل الجيش وذلك أكثر من خمس الخمس، وقال جماعة يجوز التنفيل من جميع المغنم وهؤلاء يخصصون عموم آية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41] بآية {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} أي فالمغانم المخمسة ما كان دون النفل، والقول الأول أسد وأجرى على الأصول وأوفق بالسنة والمسألة تبسط في الفقه وليس من غرض المفسر إلا الإلمام بمعاقدها من الآية.
وتفريع {فَاتَّقُوا اللَّهَ} على جملة {الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} لأن في تلك الجملة رفعا للنزاع بينهم في استحقاق الأنفال، أو في طلب التنفيل، فلما حكم بأنها ملك لله ورسوله أو بأن أمر قسمتها موكول لله، فقد وقع ذلك على كراهية كثير منهم ممن كانوا يحسبون أنهم أحق بتلك الأنفال ممن أعطيها، تبعا لعوائدهم السالفة في الجاهلية فذكرهم الله بأن قد وجب الرضى بما يقسمه الرسول منها، وهذا كله من المقول.
وقدم الأمر بالتقوى لأنها جامع الطاعات.
وعطف الأمر بإصلاح ذات البين لأنهم اختصموا واشتجروا في شأنها كما قال عبادة بن الصامت: "اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا" فأمرهم الله بالتصافح، وختم بالأمر بالطاعة، والمراد بها هنا الرضى بما قسم الله ورسوله أي الطاعة التامة كما قال تعالى: {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء: 65].
والإصلاح: جعل الشيء صالحا، وهو مؤذن بأنه كان غير صالح، فالأمر بالإصلاح دل على فساد ذات بينهم، وهو فساد التنازع والتظالم.
و{ذَاتَ} يجوز أن تكون مؤنث "ذو" الذي هو بمعني صاحب فتكون ألفها مبدلة من الواو. ووقع في كلامهم مضافا إلى الجهات وإلى الأزمان وإلى غيرهما، يجرونه مجرى الصفة لموصوف يدل عليه السياق كقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} في سورة الكهف[18]، على تأويل جهة وتقول: لقيته ذات ليلة، ولقيته ذات صباح، على تأويل المقدر ساعة أو وقت، وجرت مجرى المثل في ملازمتها هذا الاستعمال، ويجوز أن تكون "ذات" أصلية الألف كما يقال: أنا أعرف ذات فلان، فالمعنى حقيقة الشيء وماهيته، كذا فسرها الزجاج والزمخشري، فهو كقول ابن رواحة:
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
فتكون كلمة مقحمة لتحقيق الحقيقة، جعلت مقدمة، وحقها التأخير لأنها للتأكيد مثل المعنى في قولهم جاءني بذاته ومنه يقولون: ذات اليمين وذات الشمال، تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
فالمعنى: أصلحوا بينكم، ولذا ف"ذات" مفعول به على أن "بين" في الأصل ظرف فخرج عن الظرفية، وجعل اسما متصرفا، كما قرئ {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] برفع {بَيْنَكُمْ} في قراءة جماعة. فأضيفت إليه ذات فصار المعنى: أصلحوا حقيقة بينكم أي اجعلوا الأمر الذي يجمعكم صالحا غير فاسد، ويجوز مع هذا أن ينزل فعل {أَصْلِحُوا} منزلة الفعل اللازم فلا يقدر له مفعول قصدا للأمر بإيجاد الصلاح لا بإصلاح شيء فاسد، وتنصب ذات على الظرفية لإضافتها إلى ظرف المكان والتقدير: وأوجدوا الصلاح بينكم كما قرأنا {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] بنصب بينكم أي لقد وقع التقطيع بينكم.
واعلم أني لم أقف على استعمال "ذات بين" في كلام العرب فأحسب أنها من
مبتكرات القرآن.
وجواب شرط {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} دلت عليه الجمل المتقدمة من قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} إلى أخرها، لأن الشرط لما وقع عقب تلك الجمل كان راجعا إلى جميعها على ما هو المقرر في الاستعمال، فمعنى الشرط بعد تلك الجمل الإنشائية: إنا أمرناكم بما ذكر إن كنتم مؤمنين لأنا لا نأمر بذلك غير المؤمنين، وهذا إلهاب لنفوسهم على الامتثال، لظهور أن ليس المراد: فإن لم تكونوا مؤمنين فلا تتقوا الله ورسوله، ولا تصلحوا ذات بينكم، ولا تطيعوا الله ورسوله، فإن هذا معنى لا يخطر ببال أعل اللسان ولا يسمح بمثله الاستعمال.
وليس الإتيان في الشرط {بِأَنَّ} تعريضا بضعف إيمانهم ولا بأنه مما يشك فيه من لا يعلم ما تخفي صدورهم، بناء على أن شأن {إن} عدم الجرم بوقوع الشرط بخلاف إذا على ما تقرر في المعاني، ولكن اجتلاب {إن} في هذا الشرط للتحريض على إظهار الخصال التي يتطلبها الإيمان وهي: التقوى الجامعة لخصال الدين، وإصلاح ذات بينهم، والرضى بما فعله الرسول، فالمقصود التحريض على أن يكون إيمانهم في أحسن صوره ومظاهره، ولذلك عقب هذا الشرط بجملة القصر في قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] كما سيأتي.
[2] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}.
موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد {إِنَّمَا} من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جمل الأمر الثلاث السابقة، وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من {إِنَّمَا} أن من لم يجل قلبه إذا ذكر الله، ولم تزده تلاوة آيات الله إيمانا مع إيمانه، ولم يتوكل على الله، ولم يقم الصلاة، ولم ينفق، لم يكن موصوفا بصفة الإيمان، فهذا ظاهر مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لا ينقضه إلا خلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال: 4] فتعين أن القصر ادعاءي بتنزيل الإيمان الذي عدم الواجبات العظيمة منزلة العدم،
وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه، فهو استعارة مكنية: شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن، وطوي ذكر المشبه به ورمز إليه بذكر لازمه وهو حصر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به، ويئول هذا إلى معنى: إنما المؤمنون الكاملون الإيمان، فالتعريف في {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} تعريف الجنس المفيد قصرا ادعائيا على أصحاب هذه الصفات مبالغة، وحرف "أل" فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال.
وقد تكون جملة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال سائل يثيره الشرط وجزاؤه المقدر في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل، وهل يمترى في أنهم مؤمنون، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطا هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته.
وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافين صح تحميل الآية إياهما توفيرا لمعاني الكلام المعجز فإن علة الشيء مما يسال عنه، وإن بيان العلة مما يصح كونه استئنافا بيانيا.
وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وان اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين، والاعتبارات البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحققه حق تحققه.
والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها، فانه لما كان الكلام واردا مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها.
والذكر حقيقته التلفظ باللسان، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها، فالمراد من قوله: {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شؤونه، مثل أمره ونهيه، لأن ذلك لابد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته.
والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه.
وقد جاء فعل وجل في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فرح، وصدي، وهوي، وروي.
وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين.
وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالا بديعا ليناسب معنى الوجل، فذكر الله يكون: بذكر اسمه، وبذكر عقابه، وعظمته، وبذكر ثوابه ورحمته، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كمل المؤمنين، لأنه يحصل معه استحضار جلال الله وشدة باسه وسعة ثوابه، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقع حلول بأسه، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله تعالى وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه، ولذلك روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه".
وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبي صلى الله عليه وسلم من غنائم بدر وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك، ناسب الاقتصار على وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله، والوجل حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب فطوى ذكره هنا اعتمادا على استلزام الوجل إياه لأن من الوجل أن يجل، من فوات الثواب أو نقصانه.
{وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًَا}
التلاوة: القراءة واستظهار ما يحفظه التالي من كلام له أو لغيره يحكيه لسامعه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في البقرة[102].
وآيات الله القرآن، سميت آيات لأن وحيها إلى النبي الأمي صلى الله عليه وسلم وعجز قومه، خاصتهم وعامتهم عن الإتيان بمثلها فيه دلالة على صدق من جاء بها فلذلك سميت آيات، ويسمى القرآن كله آية أيضا باعتبار دلالة جملته على صدق محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذلك في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وإسناد فعل زيادة الإيمان إلى آيات الله لأنها سبب تلك الزيادة للإيمان باعتبار حال من أحوالها، وهو تلاوتها لاعتبار مجرد وجودها في صدر غير المتلوة عليه. وهذا الإسناد من المجاز العقلي إذ جعلت الآيات بمنزلة فاعل الزيادة في الإيمان.
فإنه لما لم يعرف الفاعل الحقيقي لزيادة الإيمان، إذ تلك الزيادة كيفية نفسية
عارضة، لليقين لا يعرف فاعل انقداحها في العقل، وغاية ما يعرف أن يقال: ازداد إيمان فلان، أو ازداد فلان إيمانا، بطريق ما يدل على المطاوعة، ولا التفات في الاستعمال إلى أن الله هو خالق الأحوال كلها إذ ليس ذلك معنى الفاعل الحقيقي في العرف، ولو لوحظ ذلك لم ينقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز عقليين وإنما الفاعل الحقيقي هو من يأتي الفعل ويصنعه كالكاتب للكتابة والضارب بالسيف للقتل.
والإيمان: تصديق النفس بثبوت نسبة شيء لشيء، أو بانتفاء نسبة شيء عن شيء، تصديقا جازما لا يحتمل نقيض تلك النسبة، وقد اشتهر اسم الإيمان شرعا في اليقين بالنسبة المقتضية وجود الله ووجود صفاته التي دلت عليها الأدلة العقلية أو الشرعية، والمقتضية مجيء رسول الله مخبرا عن الله الذي أرسله وثبوت صفات الرسول عليه الصلاة والسلام التي لا يتم معنى رسالته عن الله بدونها: مثل الصدق فيما يبلغ عن الله، والعصمة عن اقتراف معصية الله تعالى.
ومعنى زيادة الإيمان: قوة اليقين في نفس الموقن على حسب شدة الاستغناء عن استحضار الأدلة في نفسه، وعن إعادة النظر فيها، ودفع الشك العارض للنفس، فإنه كلما كانت الأدلة أكثر وأقوى وأجلى مقدمات كان اليقين أقوى، فتلك القوة هي المعبر عنها بالزيادة، وتفاوتها تدرج في الزيادة. ويجوز أن تسمى قلة التدرج في الأدلة نقصا لكنه نقص عن الزيادة، وذلك مع مراعاة وجود أصل حقيقة الإيمان، لأنها لو نقصت عن اليقين لبطلت ماهية الإيمان، وقد أشار البخاري إلى هذا بقوله: "باب زيادة الإيمان ونقصانه فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص" فلو أن نقص الأدلة بلغ بصاحبه إلى انخرام اليقين لم يكن العلم الحاصل له إيمانا، حتى يوصف بالنقص، فهذا هو المراد من وصف الإيمان بالزيادة، في القرآن وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو بين. ولم يرد عن الشريعة ذكر نقص الإيمان، وذلك هو الذي يريده جمهور علماء الأمة إذا قالوا الإيمان يزيد كما قال مالك بن أنس الإيمان يزيد ولا ينقص، وهي عبارة كاملة، وقد يطلق الإيمان على الأعمال التي تجب على المؤمن وهو إطلاق باعتبار كون تلك الأعمال من شرائع الإيمان، كما أطلق على الصلاة اسم الإيمان في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ولكن الاسم المضبوط لهذا المعنى هو اسم "الإسلام" كما يفصح عنه حديث سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام والإحسان، فالإيمان قد يطلق على الإسلام وهو بهذا الاعتبار يوصف بالنقص والزيادة باعتبار الإكثار من الأعمال والإقلال، ولكنه ليس المراد في هذه الآية ولا
في نظائرها من آيات الكتاب وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يريده بعض علماء الأمة فيقول: الإيمان يزيد وينقص، ولعل الذي ألجأهم إلى وصفه بالنقص هو ما اقتضاه الوصف بالزيادة. وهذا مذهب أشار إليه البخاري في قوله "باب من قال إن الإيمان هو العمل". وقال الشيخ ابن أبي زيد "وأن الإيمان قول باللسان وإخلاص بالقلب وعمل بالجوارح يزيد بزيادة الأعمال وينقص بنقص الأعمال فيكون فيها النقص وبها الزيادة"، وهو جار على طريقة السلف من إقرار ظواهر ألفاظ القرآن والسنة، في الأمور الاعتقادية ولكن وصف الإيمان بالنقص لا داعي إليه لعدم وجود مقتضيه لعدم وصفه بالنقص في القرآن والسنة ولهذا قال مالك الإيمان يزيد ولا ينقص.
وكيفية تأثير تلاوة الآيات في زيادة الإيمان: أن دقائق الإعجاز التي تحتوي عليها آيات القرآن تزيد كل آية تنزل منها أو تتكرر على الأسماع سامعها يقينا بأنها من عند الله، فتزيده استدلالا على ما في نفسه، وذلك يقوي الإيمان حتى يصل إلى مرتبة تقرب من الضرورة على نحو ما يحصل في تواتر الخبر من اليقين بصدق المخبرين، ويحصل مع تلك الزيادة زيادة في الإقبال عليها بشراشر القلوب ثم في العمل بما تتضمنه من أمر أو نهي، حتى يحصل كمال التقوى، فلا جرم كان لكل آية تتلى على المؤمنين زيادة في عوارض الإيمان من قوة اليقين وتكثير الأعمال فهذا وصف راسخ للآيات ويجوز أن تفسر زيادة الإيمان عند تلاوة الآيات بأنها زيادة إدراك للمعاني المؤمن بها، كما فسرت زيادة الإيمان بالنسبة إلى الأعمال، التي تجب على المؤمن إذ تلك الإدراكات تعلقات بعضها حسي وبعضها عقلي.
وحظ المقام المتعلق بأحكام الأنفال من هذه الزيادة هو أن سماع آيات حكم الأنفال يزيد إيمان المؤمنين قوة، بنبذ الشقاق والتشاجر الطارئ بينهم في أنفس الأموال عندهم، وهو المال المكتسب من سيوفهم، فإنه أحب أموالهم إليهم. وفي الحديث "وجعل رزقي تحت ظل رمحي"1" وبذلك تتضح المناسبة بين ذكر حكم الأنفال، وتعقيبه بالأمر بالتقوى وإصلاح ذات البين والطاعة، ثم تعليل ذلك بأن شأن المؤمنين ازدياد إيمانهم عند تلاوة آيات الله.
{وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
ـــــــ
"1" ذكره البخاري تعليقا فقال: ويذكر عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
صلة ثالثة ل {الْمُؤْمِنُونَ} أو حال منه، وجعلت فعلا مضارعا للدلالة على تكرر ذلك منهم، ووصفهم بالتوكل على الله وهو الاعتماد على الله في الأحوال والمساعي ليقدر للمتوكل تيسيرا مرة ويعوضه عن الكسب المنهي عنه بأحسن منه من الحلال المأذون فيه. وتقدم تفسير التوكل عند قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران[159].
ومناسبة هذا الوصف للغرض: انهم أمروا بالتخلي عن الأنفال، والرضى بقسمة الرسول صلى الله عليه وسلم فيها، فمن كان قد حرم من نفل قتيله يتوكل على الله في تعويضه بأحسن منه.
وتقديم المجرور في قوله: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} إما للرعاية على الفاصلة فهو من مقتضيات الفصاحة مع ما فيه من الاهتمام باسم الله، وإما للتعريض بالمشركين، لأنهم يتوكلون على إعانة الأصنام، قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً} [مريم: 81] فيكون الكلام مدحا للمؤمنين، وتعريضا بذم المشركين، ثم فيه تحذير من أن تبقى في نفوس المؤمنين آثار من التعلق بما نهوا عن التعلق به، لتوهمهم أنهم إذا فوتوه فقد أضاعوا خيرا من الدنيا.
[3] {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.
وصفهم بأنهم الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله جاء بإعادة الموصول، كما أعيد في قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في سورة البقرة[4]، وذلك للدلالة على الانتقال، في وصفهم، إلى غرض آخر غير الغرض الذي اجتلب الموصول الأول لأجله، وهو هنا غرض محافظتهم على ركني الإيمان: وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فلا علاقة للصلة المذكورة هنا بأحكام الأنفال والرضى بقسمها، ولكنه مجرد المدح، وعبر في جانب الصلاة بالإقامة للدلالة على المحافظة عليها وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في سورة البقرة[3]. وجيء بالفعلين المضارعين في {يُقِيمُونَ} و {يُنْفِقُونَ} للدلالة على تكرر ذلك وتجدده.
واعلم أن مقتضى الاستعمال في الخبر بالصلات المتعاطفة، التي موصولها خبر عن مبتدأ أن تعتبر خبرا بعدة أشياء فهي بمنزلة أخبار متكررة، ومقتضى الاستعمال في الأخبار المتعددة أن كل واحد منها يعتبر خبرا مستقلا عن المبتدأ فلذلك تكون كل صلة من هذه الصلات بمنزلة خبر عن المؤمنين وهي محصور فيها المؤمنون أي حالهم فيكون المعنى،
إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، إنما المؤمنون الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا. وهكذا فمتى اختلت صفة من هذه الصفات اختل وصف الإيمان عن صاحبها، فلذلك تعين أن يكون المراد من القصر المبالغة الآيلة إلى معنى قصر الإيمان الكامل على صاحب كل صلة من هذه الصلات، وعلى صاحب الخبرين، لظهور أن أصل الإيمان لا يسلب من أحد ذكر الله عنده فلا يجل قلبه فإن أدلة قطعية من أصول الذين تنافي هذا الاحتمال فتعين تأويل {الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 2] على إرادة أصحاب الإيمان الكامل.
[4] {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}.
جملة مؤكدة لمضمون جملة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ} [الأنفال: 2] إلى آخرها ولذلك فصلت.
وعرف المسند إليه بالإشارة لوقوعه عقب صفات لتدل الإشارة على أنهم أحرياء بالحكم المسند إلى اسم الإشارة من أجل تلك الصفات، فكان المخبر عنهم قد تميزوا للسامع بتلك الصفات فصاروا بحيث يشار إليهم.
وفي هذه الجملة قصر آخر يشبه القصر الذي قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ} [الأنفال: 2] حيث قصر الإيمان مرة أخرى على أصحاب تلك الصفات ولكنه قرن هنا بما فيه بيان المقصور وهو أنهم المؤمنون الأحقاء بوصف الإيمان.
والحق أصله مصدر حق بمعنى ثبت واستعمل استعمال الأسماء للشيء الثابت الذي لا شك فيه قال تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122].
ويطلق كثيرا، على الكامل في نوعه، الذي لا سترة في تحقق ماهية نوعه فيه، كما يقول أحد لابنه البار به: أنت ابني حقا، وليس يريد أن غيره من أبنائه ليسوا لرشده ولكنه يريد أنت بنوتك واضحة وآثارها، ويطلق الحق على الصواب والحكمة فاسم الحق يجمع معنى كمال النوع.
ولكل صيغة قصر: منطوق ومفهوم، فمنطوقها هنا أن الذين جمعوا ما دلت عليه تلك الصلات هم مؤمنون حقا، ومفهومها أن من انتفى عنه أحد مدلولات تلك الصلات لم
يكن مؤمنا حقا أي لم يكن مؤمنا كاملا، وليس المقصود أن من ثبتت له إحداها كان مؤمنا كاملا، إذا لم يتصف ببقية خصال المؤمنين الكاملين، فمعنى أولئك هم المؤمنون حقا: أن من كان على خلاف ذلك ليس بمؤمن حقا أي كاملا.
وهذا تأويل للكلام دعا إليه الجمع بين عديد الأدلة الواردة في الكتاب والسنة القولية والفعلية من ثبوت وصف الإيمان لكل من أيقن بأن الله منفرد بالإلهية وأن محمدا رسول الله إلى الناس كافة، فتلك الأدلة بلغت مبلغ التواتر المعنوي المحصل للعلم الضروري بأن الإخلال بالواجبات الدينية لا يسلب صفة الإيمان والإسلام عن صاحبه، فليس حمل القصر على الادعائي هنا مجرد صنع اليد، أو ذهاب مع الهوى على أن شأن الاتصاف ببعض صفات الفضائل أن يتناسق مع نظائرها فمن كان بحيث إذا ذكر الله وجل قلبه لابد أن يكون بحيث إذا تليت عليه آيات الله زادته إيمانا، فهذا تحقيق معنى القصرين.
ومما يزيد هذا المعنى وضوحا ما روى الطبراني، عن الحارث بن مالك الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحارث بن مالك الأنصاري يا حارث كيف أصبحت مؤمنا حقا قال اعلم ما تقول -أو أنظر ما تقول- إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك قال عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون، وكأني أسمع عواء أهل النار، فقال له يا حارث عرفت فالزم ثلاثا وهو حديث ضعيف وأن كثرت طرقه.
فقول الحارث "أصبحت مؤمنا حقا" ظاهر في أنه أراد منه مؤمنا كاملا وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك" ظاهر في أنه سأله عن ما كان به إيمانه كاملا ولم يسأله عن أصل ماهية الإيمان لأنه لم يكن يشك في أنه من عداد المؤمنين.
ومن هذا المعنى ما ذكره القرطبي وغيره أن رجلا سأل الحسن البصري فقال له يا أبا سعيد أمؤمن أنت فقال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والجنة والنار والبعث والحساب، فأنا به مؤمن، وإن كنت تسألني عن قول الله تبارك وتعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} [الأنفال: 2-4] فوالله ما أدري أنا منهم أم لا؟
وانتصب {حَقّاً} على أنه مفعول مطلق صفة لمصدر محذوف دل عليه {الْمُؤْمِنُونَ} أي إيمانا حقا، أو على أنه مؤكد لمضمون جملة {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ} أي ثبوت الإيمان لهم حق لا شبهة فيه، وهو تحقيق لمعنى القصر بما هو عليه من معنى المبالغة،
وليس تأكيدا لرفع المجاز عن القصر حتى يصير بالتأكيد قصرا حقيقيا، بل التأكيد بمعنى المبالغة اعتمادا على القرائن، والأحسن أن يكون منصوبا على الحال من ضمير {هُمُ} فيكون المصدر مؤولا باسم الفاعل كما هو الشأن في وقوع المصدر حالا مثل {أن تأتيهم الساعة بغتة} ، أي محققين إيمانهم بجلائل أعمالهم، وقد تقدم مثل هذا المصدر في قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً} في سورة النساء[122].
وجملة: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ} خبر ثان عن اسم الإشارة.
واللام للاستحقاق، أي درجات مستحقة لهم، وذلك استعارة للشرف والكرامة عند الله، لأن الدرجات حقيقتها ما يتخذ من بناء أو أعواد لإمكان تخطي الصاعد إلى مكان مرتفع منقطع عن الأرض، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في سورة البقرة [228]، وفي غير موضع، وتستعار الدرجة لعناية العظيم ببعض من يصطفيهم فتشبه العناية بالدرجة تشبيه معقول بمحسوس، لأن الدنو من العلو عرفا يكون بالصعود إليه في الدرجات، فشبه ذلك الدنو بدرجات وقوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} قرينة المجاز.
ويجوز أن تستعار الدرجة هنا لمكان جلوس المرتفع كدرجة المنبر كما في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] والقرينة هي.
وقد دل قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} على الكرامة والشرف عند الله تعالى في الدنيا بتوجيه عنايته في الدنيا، وفي الآخرة بالنعيم العظيم.
وتنوين {دَرَجَاتٌ} للتعظيم لأنها مراتب متفاوتة.
والرزق اسم لما يرزق أي يعطى للانتفاع به، ووصفه بكريم بمعنى النفيس فهو وصف حقيقي للرزق، وفعله كرم بضم العين، والكرم في كل شيء الصفات المحمودة في صنفه أو نوعه كما في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل [29]، ومنه إطلاق الكرم على السخاء والجود، والوصف منه كريم، وتصح إرادته هنا على أن وصف الرزق به مجاز عقلي، أي كريم رازقه، فان الكريم يرزق بوفرة وبغير حساب.
[5, 6] {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ}.
تشبيه حال بحال، وهو متصل بما قبله، إما بتقدير مبتدأ محذوف، هو اسم إشارة
لما ذكر قبله، تقديره: هذا الحال كحال ما أخرجك ربك من بيتك بالحق ووجه الشبه هو كراهية المؤمنين في بادئ الأمر لما هو وخير لهم في الواقع وإما بتقدير مصدر لفعل الاستقرار الذي يقتضيه الخبر بالمجرور في قوله: {الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1] إذ التقدير: استقرت لله والرسول استقرارا كما أخرجك ربك، أي فيما يلوح إلى الكراهية والامتعاض في بادئ الأمر، ثم نوالهم النصر والغنيمة في نهاية الأمر، فالتشبيه تمثيلي وليس مراعى فيه تشبيه بعض أجزاء الهيئة المشبهة ببعض أجزاء الهيئة المشبه بها، أي أن ما كرهتموه من قسمة الأنفال على خلاف مشتهاكم سيكون فيه خير عظيم لكم، حسب عادة الله تعالى بهم في أمره ونهيه، وقد دل على ما في الكلام من معنى مخالفة مشتهاهم قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 1] كما تقدم، مع قوله في هذه الجملة {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ}.
فجملة: {وَإِنَّ فَرِيقاً} في موضع الحال والعامل فيها {أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} ، هذا وجه اتصال كاف التشبيه بما قبلها على ما الاظهر، وللمفسرين وجوه كثيرة بلغت العشرين قد استقصاها ابن عادل، وهي لا تخلو من تكلف، وبعضها متحد المعنى، وبعضها مختلفه، وأحسن الوجوه ما ذكره ابن عطية ومعناه قريب مما ذكرنا وتقديره بعيد منه.
والمقصود من هذا الأسلوب: الانتقال إلى تذكيرهم بالخروج إلى بدر وما ظهر فيه من دلائل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين.
و {مَا} مصدرية. والإخراج: أما مراد به الأمر بالخروج للغزو، وأما تقدير الخروج لهم وتيسيره.
والخروج مفارقة المنزل والبلد إلى حين الرجوع إلى المكان الذي خرج منه، أو إلى حين البلوغ إلى الموضع المنتقل إليه.
والإخراج من البيت: هو الإخراج المعين الذي خرج به النبي صلى الله عليه وسلم غازيا إلى بدر.
والباء في {بِالْحَقِّ} للمصاحبة أي إخراجا مصاحبا للحق، والحق هنا الصواب، لما تقدم آنفا من أن اسم الحق جامع لمعنى كمال كل شيء في محامد نوعه.
والمعنى أن الله أمره بالخروج إلى المشركين ببدر أمرا موافقا للمصلحة في حال كراهة فريق من المؤمنين ذلك الخروج.
وقد أشار هذا الكلام إلى السبب الذي خرج به المسلمين إلى بدر، فكان بينهم وبين
المشركين يوم بدر، وذلك أنه كان في أوائل رمضان في السنة الثانية للهجرة إن قفلت عير لقريش فيها أموال وتجارة لهم من بلاد الشام، راجعة إلى مكة، وفيها أبو سفيان بن حرب في زهاء ثلاثين رجلا من قريش، فلما بلغ خبر هذه العير رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إليها فانتدب بعضهم وتثاقل بعض، وهم الذين كرهوا الخروج، ولم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تثاقلوا ومن لم يحضر ظهرهم أي رواحلهم فسار وقد اجتمع من المسلمين ثلاثمائة وبضعة عشر خرجوا يوم ثمانية من رمضان، وكانوا يحسبون أنهم لا يلقون حربا وأنهم يغيرون على العير ثم يرجعون، وبلغ أبا سفيان خبر خروج المسلمين فأرسل صارخا يستصرخ قريشا لحماية العير، فتجهز منهم جيش، ولما بلغ المسلمون وادي ذفران بلغهم خروج قريش لتلقي العير، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين فأشاروا عليه بالمضي في سبيله وكانت العير يومئذ فاتتهم، واطمأن أبو سفيان لذلك فأرسل إلى أهل مكة يقول إن الله نجى عيركم فارجعوا، فقال أبو جهل لا نرجع حتى نرد بدرا "وكان بدر موضع ماء فيه سوق للعرب في كل عام" فنقيم ثلاثا، فننحر الجزر ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتتسامع العرب بنا وبمسيرنا فلا يزالوا يهابوننا ويعلموا أن محمدا لم يصب العير، وأنا قد أعضضناه، فسار المشركون إلى بدر وتنبكت عيرهم على طريق الساحل وأعلم الله النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فأعلم المسلمين، فاستشارهم وقال: "العير أحب إليكم أم النفير" ، فقال أكثرهم العير أحب الينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعاد استشارتهم فأشار أكثرهم قائلين: عليك بالعير فإنا خرجنا للعير فظهر الغضب على وجهه، فتكلم أبو بكر، وعمر، والمقداد بن الأسود، وسعد ابن عبادة، وأكثر الأنصار، ففوضوا إلى رسول الله ما يرى أن يسير إليه صلى الله عليه وسلم فأمرهم حينئذ أن يسيروا إلى القوم ببدر فساروا، وكان النصر العظيم الذي هز به الإسلام رأسه.
فهذا ما أشار إليه قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} وذلك أنهم خرجوا على نية التعرض للعير، وأن ليس دون العير قتال، فلما أخبرهم عن تجمع قريش لقتالهم تكلم أبو بكر فأحسن، وتكلم عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن الأسود فقال يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ولكن أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى "بَرْك الغماد" بفتح باء برك وغين الغماد ومعجمة مكسورة موضع باليمن بعيدا جدا عن مكة لجادلنا معك من دونه حتى تبلغه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا
علي أيها الناس" وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا يومئذ "إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فانك في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا" فكان رسول الله يتخوف أن يكون الأنصار لا يرون نصره إلا ممن دهمه بالمدينة، وأن ليس عليهم أن يسير بهم من بلادهم، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي قال له سعد بن معاذ " والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال أجل قال: فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا أنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء لعل الله يريك بنا ما تقربه عينك فسر بنا على بركة الله " فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال سيروا وابشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين" - أي ولم يخص وعد النصر، بتلقي العير فقط - فما كان بعد ذلك إلا أن زال من نفوس المؤمنين الكارهين للقتال ما كان في قلوبهم من الكراهية، وقوله و {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} في موضع الحال من الإخراج الذي أفادته، {مَا} المصدرية، وهؤلاء هم الذين تثاقلوا وقت العزم على الخروج من المدينة، والذين اختاروا العير دون النفير حين استشارة وادي ذفران، لأن ذلك كله مقترن بالخروج لأن الخروج كان ممتدا في الزمان، فجملة الحال من قوله: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} حال مقارنة لعاملها وهو {أَخْرَجَكَ}.
وتأكيد خبر كراهية فريق من المؤمنين بإن ولام الابتداء مستعمل في التعجيب من شأنهم بتنزيل السامع غير المنكر لوقوع الخبر منزلة المنكر لأن وقوع ذلك مما شأنه أن لا يقع، إذ كان الشأن اتباع ما يحبه الرسول صلى الله عليه وسلم أو التفويض إليه، وما كان ينبغي لهم أن يكرهوا لقاء العدو. ويستلزم هذا التنزيل التعجيب من حال المخبر عنهم بهذه الكراهية فيكون تأكيد الخبر كناية عن التعجيب من المخبر عنهم.
وجملة {يُجَادِلُونَكَ} حال من {فَرِيقاً} فالضمير لفريق باعتبار معناه لأنه يدل على جمع. وصيغة المضارع لحكاية حال المجادلة زيادة في التعجيب منها، وهذا التعجيب كالذي في قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا} من قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 74] إذ قال {يُجَادِلُنَا} ولم يقل "جادلنا".
وقوله: {بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} لوم لهم على المجادلة في الخروج الخاص، وهو الخروج
للنفير وترك العير، بعد أن تبين أي ظهر أن الله قدر لهم النصر، وهذا التبين هو بين في ذاته سواء شعر به كلهم أو بعضهم فانه بحيث لا ينبغي الاختلاف فيه، فانهم كانوا عربا أذكياء، وكانوا مؤمنين أصفياء، وقد أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بان الله ناصرهم على إحدى الطائفتين: طائفة العير أو طائفة النفير، فنصرهم إذن مضمون ثم أخبرهم بأن العير قد أخطاتهم، وقد بقي النفير، فكان بينا أنهم إذا لقوا النفير ينصرهم الله عليه، ثم رأوا كراهية النبي صلى الله عليه وسلم لما اختاروا العير، فكان ذلك كافيا في اليقين بأنهم إذا لقوا المشركين ينتصرون عليهم لا محالة، ولكنهم فضلوا غنيمة العير على خضد شوكة أعدائهم ونهوض شوكتهم بنصر بدر، فذلك معنى تبين الحق أي رجحان دليله في ذاته، ومن خفي عليه هذا التبيين من المؤمنين لم يعذره الله في خفائه عليه.
ومن هذه الآية يؤخذكم مؤاخذة المجتهد إذا قصر في فهم ما هو مدلول لأهل النظر، وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم من سؤال الذي سأله عن ضالة الإبل بعد أن سأله عن ضالة الغنم فأجابه هي لك أو لأخيك أو للذئب .فلما سأله بعد ذلك عن ضالة الإبل تمعر وجهه وقال مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها وروى مالك، في "الموطأ"، أن أبا هريرة مر بقوم محرمين فاستفتوه في لحم صيد وجدوا أناسا أحلة يأكلونه فأتاهم بالأكل منه ثم قدم المدينة فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك فقال له عمر بم أفتيتهم قال أفتيتهم بأكله فقال: "لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك".
وجملة: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} في موضع الحال من الضمير المرفوع في {يُجَادِلُونَكَ} أي حالتهم في وقت مجادلتهم إياك تشبه حالتهم لو ساقهم سائق إلى الموت، والمراد بالموت الحالة المضادة للحياة وهو معنى تكرهه نفوس البشر، ويصوره كل عقل بما يتخيله من الفظاعة والبشاعة كما تصوره أبو ذؤيب في صورة سبع في قوله:
وإذا المنية أنشبت أظفارها
وكما تخيل، تأبط شرا الموت طامعا في اغتياله فنجا منه حين حاصره أعداؤه في جحر في جبل:
فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة والموت خزيان ينظر
فقوله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} تشبيه لحالهم، في حين المجادلة في اللحاق بالمشركين، بحال من يجادل ويمانع من يسوقه إلى ذات الموت.
وهذا تفسير أليق بالتشبيه لتحصل المخالفة المطلقة بين الحالة المشبهة والحالة المشبه بها، وإلا فإن أمرهم بقتال العدو الكثير العدد، وهم في قلة، إرجاء بهم إلى الموت إلا أنه موت مظنون، وبهذا التفسير يظهر حسن موقع جملة {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} أما المفسرون فتأولوا الموت في الآية بأنه الموت المتيقن فيكون التخالف بين المشبه والمشبه به تخالفا بالتقييد.
وجملة: {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} حال من ضمير {يُسَاقُونَ} ومفعول {يَنْظُرُونَ} محذوف دل عليه قوله: {إِلَى الْمَوْتِ} أي: وهم ينظرون الموت، لأن حالة الخوف من الشيء المخوف إذا كان منظورا إليه تكون أشد منها لو كان يعلم أنه يساق إليه ولا يراه، لأن للحس من التأثير على الإدراك ما ليس لمجرد التعقل، وقريب من هذا المعنى قول جعفر بن علبة:
يرى غمرات الموت ثم يزورها
وفي عكسه في المسرة قوله تعالى: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 50].
[7, 8] {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}.
الأحسن أن تكون {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ} معطوفا على {كَمَا أَخْرَجَكَ} [الأنفال: 5] عطف المفرد على المفرد فيكون المعطوف مشبها به التشبيه المفاد بالكاف والمعنى: كإخراجك الله من بيتك وكوقت يعدكم الله إحدى الطائفتين الآية واسم الزمان إذ أضيف إلى الجملة كانت الجملة في تأويل المفرد فتؤول بمصدر، والتقدير: وكوقت وعد الله إحدى الطائفتين، ف {إِذْ} اسم زمان متصرف مجرور بالعطف على مجرور كاف التشبيه، وجعل صاحب "الكشاف" {إِذْ} مفعولا لفعل "اذكر" محذوف شان {إِذْ} الواقعة في مفتتح القصص، فيكون عطف جملة الأمر المقدر على جملة {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ} [الأنفال: 1] والمناسبة هي أن كلا القولين فيه توقيفهم على خطإ رأيهم وأن ما كرهوه هو الخير لهم.
و"الطائفة" الجماعة من الناس، وتقدم عند قوله: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء [102].
وجملة: {أَنَّهَا لَكُمْ} في تأويل مصدر، هو بدل اشتمال من إحدى الطائفتين، أي: يعدكم مصير إحدى الطائفتين لكم، أي كونها معطاة لكم، وهو إعطاء النصر والغلبة عليها بين قتل وأسر وغنيمة.
واللام للملك وهو هنا ملك عرفي، كما يقولون كان يوم كذا لبني فلان على بني فلان، فيعرف أنه كان لهم غلبة حرب وهي بالقتل والأسر والغنيمة.
{وَتَوَدُّونَ} إما عطف على {يَعِدُكُمُ} أي إذ يقع الوعد من الله والود منكم، وإما في موضع الحال والواو واو الحال، أي بعدكم الله إحدى الطائفتين في حال ودكم لقاء الطائفة غير ذات الشوكة وهذا الود هو محل التشبيه الذي أفاده عطف {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} مجرور الكاف في قوله: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5] فهو مما شبه به حال سؤالهم عن الأنفال سؤالا مشوبا بكراهية صرف الأنفال عن السائلين عنها الرائمين أخذها.
و"الود" المحبة و {ذَاتِ الشَّوْكَةِ} صاحبة الشوكة ووقع {ذَاتِ} صفة لمقدر تقديره الطائفة غير ذات الشوكة، أي الطائفة التي لا تستطيع القتال.
و {الشَّوْكَةِ} أصلها الواحدة من الشوك وهو ما يخرج في بعض النبات من أعواد دقيقة تكون محددة الأطراف كالإبر، فإذا نزغت جلد الإنسان أدمته أو آلمته، وإذا علقت بثوب أمسكته، وذلك مثل ما في ورق العرفج، ويقال هذه شجرة شائكة، ومن الكناية عن ظهور الشر قولهم: "إن العوسج قد أورق"، وشوكة العقرب البضعة التي في ذنبها تلسع بها.
وشاع استعارة الشوكة للبأس، يقال: فلان ذو شوكة، أي ذو بأس يتقى كما يستعار القرن للباس في قولهم: أبدى قرنه، والناب أيضا في قولهم: كشر عن نابه، وذلك من تشبيه المعقول بالمحسوس أي تودون الطائفة التي لا يخشى بأسها تكون لكم أي ملككم فتأخذونهم.
وقد أشارت الآية إلى ما في قصة بدر حين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بانصراف عير قريش نحو الساحل وبمجيء نفيرهم إلى بدر، وأخبرهم أن الله وعدهم إحدى الطائفتين، أي إما العير وإما النفير وعدا معلقا على اختيارهم إحداهما، ثم استشارهم في الأمر أيختارون اللحاق بالعير أم يقصدون نفير قريش، فقال الناس: إنما خرجنا لأجل
العير، وراموا اللحاق بالعير واعتذروا بضعف استعدادهم وأنهم يخرجوا لمقاتلة جيش، وكانت العير لا تشتمل إلا على أربعين رجلا وكان النفير فيما قيل يشمل على ألف رجل مسلح، فذلك معنى قوله تعالى: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} أي تودون غنيمة بدون حرب، فلما لم يطمعوا بلقاء الجيش وراموا لقاء العير كانوا يودون أن تحصل لهم غنيمة العير ولعل الاستشارة كانت صورية أمر الله بها نبيه لتثبيت المسلمين لئلا تهن قوتهم النفسية إن أعلموا بأنهم سيلقون ذات الشوكة.
وقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} عطف على جملة {وَتَوَدُّونَ} على احتمالي أن واوها للعطف أو للحال، والمقصود من الإخبار بهذه الجمل الثلاث إظهار أن ما يدودونه ليس فيه كمال مصلحتهم، وأن الله اختار لهم ما فيه كمال مصلحتهم، وإن كان يشق عليهم ويرهبهم فانهم لم يطلعوا على الأصح بهم. فهذا تلطف من الله بهم.
والمراد من الإرادة هنا إرادة خاصة وهي المشيئة والتعلق التنجيزي للإرادة التي هي صفة الذات. فهذا كقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] أي يسر بكم.
ومعنى {يُحِقَّ الْحَقَّ}: يثبت ما يسمى الحق وهو ضد الباطل يقال: حق الشيء، إذا ثبت، قال تعالى: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19].
والمراد بالحق، هنا: دين الحق، وهو الإسلام، وقد أطلق عليه اسم الحق في مواضع كثيرة من القرآن كقوله: {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29] الآية.
وإحقاقه باستئصال معانديه، فأنتم تريدون نفعا قليلا عاجلا، وأراد الله نفعا عظيما في العاجل والأجل، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وفي قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} جناس الاشتقاق. وفيه دلالة على أن أصل مادة الحق هو فعل حق. وأن أصل مادة الباطل هي فعل بطل. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم للذين قالوا في التشهد السلام على الله فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الله هو السلام.
وكلمات الله ما يدل على مراده وعلى كلامه النفسي، حقيقه من أقوال لفظية يخلقها خلقا غير متعارف ليفهمها أحد البشر ويبلغها عن الله، مثل القرآن، أو مجازا من أدلة غير لفظية، مثل ما يخاطب به الملائكة المحكي في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ: 23] وفسره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا للذي قال، الحق وهو العلي الكبير.
والجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم، فقوله: {بِكَلِمَاتِهِ} يعم أنواع الكلام الذي يوحي به الله الدال على إرادته تثبيت الحق، مثل آيات القرآن المنزلة في قتال الكفار وما أمر به الملائكة من نصرتهم المسلمين يوم بدر.
والباء في {بِكَلِمَاتِهِ} للسببية، وذكر هذا القيد للتنويه بإحقاق هذا الحق وبيان أنه مما أراد الله ويسره وبينه للناس من الأمر، ليقوم كل فريق من المأمورين بما هو حظه من بعض تلك الأوامر، وللتنبيه على أن ذلك واقع لا محالة لأن كلمات الله لا تختلف كما قال تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15]، ولمدح هذا الإحقاق بأنه حصل بسبب كلمات الله.
وقطع دابر الشيء إزالة الشيء كله إزالة تأتي على آخر فرد منه يكون في مؤخرته من ورائه وتقدم في قوله: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} في سورة الأنعام [45].
والمعنى: أردتم الغنيمة وأراد الله إظهار أمركم وخضد شوكة عدوكم وان كان ذلك يحرمكم الغنى العارض فأن أمنكم واطمئنان بالكم خير لكم وأنتم تحسبون أن لا تستطيعوا هزيمة عدوكم.
واللام في قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} لام التعليل، وهي متعلقة بقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي إنما أراد ذلك وكون أسبابه بكلماته لأجل تحقيقه الحق وإبطاله الباطل.
وإذ قد كان محصول هذا التعليل هو عين محصول المعلل في قوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} وشان العلة أن تكون مخالفة للمعلل، ولو في الجملة، إذ فائدة التعليل إظهار الغرض الذي يقصده الفاعل من فعله، فمقتضى الظاهر أن لا يكون تعليل الفعل بعين ذلك الفعل، لأن السامع لا يجهل أن الفاعل المختار ما فعل فعلا إلا وهو مراد له، فإذا سمعنا من كلام البليغ تعليل الفعل بنفس ذلك لفعل كان ذلك كناية عن كونه ما فعل ذلك الفعل إلا لذات الفعل، لا لغرض آخر زائد عليه، فإفادة التعليل حينئذ معنى الحصر حاصلة من مجرد التعليل بنفس المعلل.
والحصر هنا من مستتبعات التركيب، وليس من دلالة اللفظ، فافهمه فإنه دقيق وقد
وقعت فيه غفلات.
ويجوز أن يكون الاختلاف بين المعلل والعلة بالعموم والخصوص أي يريد الله أن يحق الحق في هذه الحادثة لأنه يريد إحقاق الحق عموما.
وأما قوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} فهو ضد معنى قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} وهو من لوازم معنى ليحق الحق، لأنه إذا حصل الحق ذهب الباطل كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء: 18]، ولما كان الباطل ضد الحق لزم من ثبوت أحدهما انتفاء الآخر. ومن لطائف عبد الله بن عباس أنه قال لعمر بن أبي ربيعة كم سنك فقال ابن أبي ربيعة ولدت يوم مات عمر بن الخطاب فقال ابن عباس: " أي حق رفع وأي باطل وضع" أي في ذلك اليوم، ففائدة قوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} التصريح بأن الله لا يرضى بالباطل، فكان ذكر بعد قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} بمنزلة التوكيد لقوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} لأن ثبوت الشيء قد يؤكد بنفي ضده كقوله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [الأنعام: 140].
ويجيء في قوله: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} من معنى الكلام، ومن جناس الاشتقاق، ما جاء في قوله: {أن يحق الحق} ثم في مقابلة قوله: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} – بقوله -: {وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} محسن الطباق.
{وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} شرط اتصالي. و {لَوْ} اتصالية تدل على المبالغة في الأحوال، وهو عطف على {يُرِيدُ اللَّهُ}، أو على {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} أي يريد ذلك لذلك لا لغيره، ولا يصد مراده ما للمعاندين من قوة بأن يكرهه المجرمون وهم المشركون.
والكراهية هنا كناية عن لوازمها، وهي الاستعداد لمقاومة المراد من تلك الإرادة، فان المشركين، بكثرة عددهم، يريدون إحقاق الباطل، وإرادة الله تنفذ بالرغم على كراهية المجرمين، وأما مجرد الكراهة فليس صالحا أن يكون غاية للمبالغة في أحوال نفوذ مراد الله تعالى إحقاق الحق: لأنه إحساس قاصر على صاحبه، ولكنه إذا بعثه على مدافعة الأمر المكروه كانت أسباب المدافعة هي الغاية لنفوذ الأمر المكروه على الكاره.
وتقدم الكلام على {لَوْ} الاتصالية عند قوله تعالى: {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91] وقوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً} في سورة البقرة [170].
[9] {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}.
يتعلق ظرف {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} بفعل {يُرِيدُ اللَّهُ} [الأنفال: 7] لأن إرادة الله مستمر تعلقها بأزمنة منها زمان استغاثة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ربهم على عدوهم، حين لقائهم مع عدوهم يوم بدر، فكانت استجابة لله لهم بإمدادهم بالملائكة، من مظاهر إرادته تحقيق الحق فكانت الاستغاثة يوم القتال في بدر وإرادة الله أن يحق الحق حصلت في المدينة يوم وعدهم الله إحدى الطائفتين، ورشح لهم أن تكون إحدى الطائفتين ذات الشوكة، وبين وقت الإرادة ووقت الاستغاثة مدة أيام، ولكن لما كانت الإرادة مستمرة إلى حين النصر يوم بدر صح تعليق ظرف الاستغاثة بفعلها، لأنه اقتران ببعضها في امتدادها، وهذا أحسن من الوجوه التي ذكروها في متعلق هذا الظرف أو موقعه.
وقد أشارت الآية إلى دعاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب قال نظر نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام [لا]"1" تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم ألتزمه من ورائه فقال يا نبي الله كفاك مناشدة ربك فانه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} أي فأنزل الله في حكاية تلك الحالة. وعلى هذه الرواية يكون ضمير {تَسْتَغِيثُونَ} مرادا به النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بضمير الجماعة لأنه كان يدعو لأجلهم، ولأنه كان معلنا بدعائه وهو يسمعونه، فهم بحال من يدعون، وقد جاء في "السيرة" أن المسلمين لما نزلوا ببدر ورأوا كثرة المشركين استغاثوا الله تعالى فتكون الاستغاثة في جميع الجيش والضمير شاملا لهم.
والاستغاثة: طلب الغوث، وهو الإعانة على رفع الشدة والمشقة ولما كانوا يومئذ في شدة ودعوا بطلب النصر على العدو القوي كان دعاؤهم استغاثة.
{فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} أي وعدكم بالإغاثة.
ـــــــ
"1 " زيادة من "سنن الترمذي" 5/ 269. كتاب "تفسير القرآن" "9" باب, ومن سورة الأنفال, رقم "3081".
وفعل استجاب يدل على قبول الطلب، والسين والتاء فيه للمبالغة أي تحقيق المطلوب وقوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} هو الكلام المستجاب به ولذلك قدره في "الكشاف" بأن أصله بأني ممدكم أي فحذف الجار وسلط عليه {اسْتَجَابَ} فنصب محله.
وأرى أن حرف "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون إذا وقعت بعد "ما" فيه معنى القول دون حروفه أن تكون مفيدة للتفسير مع التأكيد كما كانت تفيد معنى المصدرية مع التأكيد. فمن البين أن "أن" المفتوحة الهمزة مركبة من "أن" المفتوحة الهمزة المخففة النون المصدرية في الغالب، يجوز أن يعتبر تركيبها من "أن" التفسيرية إذا وقعت بعد ما فيه معنى القول دون حروفه، وذلك مظنة أن التفسيرية، واعتضد بما في "اللسان" من قول القراء "إذا جاءت "أن" بعد القول وما تصرف من القول كانت حكاية فلم يقع عليها أي القول فهي مكسورة. وإن كانت تفسيرا للقول نصبتها ومثله: قد قلت لك كلاما حسنا أن أباك شريف، فحت أن لأنها فسرت الكلام قلت ووقوع "أن" موقع التفسير كثير: في الكلام، وفي القرآن، ومنه قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الآية، ومن تأمل بإنصاف وجد متانة معنى قوله: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} في كون أن تفسيرية، دون كونها مجرورة بحرف جر محذوف، مع أن معنى ذلك الحرف غير بين.
والإمداد إعطاء المدد وهو الزيادة من الشيء النافع.
وقرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب: بفتح الدال من {مُرْدِفِينَ} أي يرد فهم غيرهم من الملائكة. وقرأ البقية: بكسر الدال أي تكون الألف رادفا لغيرهم قبلهم.
والإرداف الاتباع والإلحاق فيكون الوعد بألف وبغيرها على ما هو متعارف عندهم من إعداد نجدة للجيش عند الحاجة تكون لهم مددا، وذلك أن الله أمدهم بآلاف من الملائكة بلغوا خمسة آلاف كما تقدم في سورة آل عمران، ويجوز أن يكون المراد بألف هنا مطلق الكثرة فيفسره قوله: {بِثَلاثَةِ آلافٍ} في سورة آل عمران [124]، وهم مردفون بألفين، فتلك خمسة آلاف وكانت عادتهم في الحرب إذا كان الجيش عظيما أن يبعثوا طائفة منه ثم يعقبوها بأخرى لأن ذلك أرهب للعدو.
ويوجه سيوفهم، وحلول الملائكة في المسلمين كان بكيفية يعلمها الله تعالى: أما
بتجسيم المجردات فيراهم من أكرمه الله برؤيهم، وأما بإراءة الله الناس ما ليس من شانه أن يرى عادة.
[10] {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
عطف على {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] فالضمير المنصوب في قوله: {جَعَلَهُ} عائد إلى القول الذي تضمنه {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ} [الأنفال: 7] أي ما جعل جوابكم بهذا الكلام إلا ليبشركم، وإلا فقد كان يكفيكم أن يضمن لكم النصر دون أن يبين أنه بإمداد من الملائكة.
وفائدة التبشير بإمداد الملائكة أن يوم بدر كان في أول يوم لقي فيه المسلمون عدوا قويا وجيشا عديدا، فبشرهم الله بكيفية النصر الذي ضمه لهم بأنه بجيش من الملائكة، لأن النفوس أميل إلى المحسوسات، فالنصر معنى من المعاني يدق إدراكه وسكون النفس لتصوره بخلاف الصور المحسوسة من تصوير مدد الملائكة ورؤية أشكال بعضهم.
وتقدم القول في نظير هذه الآية في سورة آل عمران إلا لتعرض لما بين الآيتين من اختلاف في ترتيب النظم وذلك في ثلاثة أمور:
أحدها: أنه قال في آل عمران [126] {إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ} وحذف {لَكُمْ} هنا دفعا لتكرير لفظه لسبق كلمة {لَكُمْ} قريبا في قوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: 9] فعلم السامع أن البشرى لهم، فأغنت {لَكُمْ} الأولى، بلفظها ومعناها، عن ذكر {لَكُمْ} مرة ثانية، ولأن آية آل عمران سيقت مساق الامتنان والتذكير بنعمة النصر في حين القلة والضعف، فكان تقييد {بُشْرَى} بأنها لأجلهم زيادة في المنة أي: جعل الله ذلك بشرى لأجلكم كقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] وأما آية الأنفال فهي مسوقة مساق العتاب على كراهية الخروج إلى بدر في أول الأمر، وعلى اختيار أن تكون الطائفة التي تلاقيهم غير ذات الشوكة، فجرد {بُشْرَى} عن أن يعلق به {لَكُمْ} إذ كانت البشرى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يترددوا من المسلمين، وقد تقدم ذلك في آل عمران.
ثانيها: تقديم المجرور هنا في قوله: {بِهِ قُلُوبُكُمْ} وهو يفيد الاختصاص، فيكون المعنى: ولتطمئن به قلوبكم لا بغيره، وفي هذا الاختصاص تعريض بما اعتراهم من الوجل من الطائفة ذات الشوكة وقناعتهم بغنم العروض التي كانت مع العير، فعرض لهم
بأنهم لم يتفهموا مراد الرسول صلى الله عليه وسلم، حين استشارهم، وأخبرهم بان العير سلكت طريق الساحل فكان ذلك كافيا في أن يعلموا أن الطائفة الموعود بها تمحضت أنها طائفة النفير. وكان الشأن أن يظنوا بوعد الله أكمل الأحوال، فلما أراد الله تسكين روعهم، وعدهم بنصرة الملائكة علما بأنه لا يطمئن قلوبهم إلا ذلك. وجعل الفخر: التقديم هنا لمجرد الاهتمام بذلك الوعد، وذلك من وجوه التقديم لكنه وجه تأخيره في آل عمران بما هو غير مقبول.
ثالثها: أنه قال في سورة آل عمران [126] {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} فصاغ الصفتين العليتين في صيغة النعت، وجعلهما في هذه الآية في صيغة الخبر المؤكد، إذ قال: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فنزل المخاطبين منزلة من يتردد في أنه تعالى موصوف بهاتين الصفتين: وهما العزة، المقتضية أنه إذا وعد بالنصر لم يعجزه شيء، والحكمة. فما يصدر من جانبه يجب غوص الأفهام في تبين مقتضاءه، فكيف لا يهتدون إلى أن الله لما وعدهم الظفر بإحدى الطائفتين وقد فاتتهم العير أن ذلك آيل إلى الوعد بالظفر بالنفير.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا جعلت كالأخبار بما ليس بمعلوم لهم.
[11] {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}.
لقد أبدع نظم الآيات في التنقل من قصة إلى أخرى من دلائل عناية الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، فقرنها، في قرن زمانها، وجعل ينتقل من إحداها إلى الأخرى بواسطة إذ الزمانية، وهذا من أبدع التخلص، وهو من مبتكرات القرآن فيما أحسب.
ولذلك فالوجه أن يكون هذا الظرف مفعولا فيه لقوله: {وَمَا النَّصْرُ} [الأنفال: 10] فإن إغشاءهم النعاس كان من أسباب النصر، فلا جرم أن يكون وقت حصوله ظرفا للنصر.
والغشي والغشيان كون الشيء غاشيا أي غاما ومغطيا، فالنوم يغطي العقل.
والنعاس النوم غير الثقيل، وهو مثل السنة.
وقرأ نافع، وأبو جعفر: {يُغْشِيكم} ، بضم التحتية وسكون الغين وتخفيف الشين بعدها ياء مضارع أغشاه وبنصب {النُّعَاسَ} والتقدير إذ يغشيكم الله النعاس، والنعاس
مفعول ثان ليغشى بسبب تعدية الهمزة وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو: بفتح التحتية وفتح الشين بعدها ألف، وبرفع النعاس، على أن يغشاكم مضارع غشي والنعاس فاعل. وقرأه الباقون: بضم التحتية وفتح العين وتشديد الشين، ونصب النعاس، على أنه مضارع غشاه المضاعف والنعاس مفعول ثان.
فإسناد الإغشاء أو التغشية إلى الله لأنه الذي قدر أن يناموا في وقت لا ينام في مثله الخائف، ولا يكون عاما سائر الجيش فهو نوم منحهم الله إياه لفائدتهم.
وإسناد الغشي إلى النعاس حقيقة على المتعارف، وقد علم أنه من تقدير الله بقوله: {أَمَنَةً مِنْهُ}.
و"الأمنة" الأمن، وتقدم في آل عمران، وهو منصوب على المفعول لأجله على قراءة من نصب "النعاس"، وعلى الحال على قراءة من رفع "النعاس".
وإنما كان "النعاس" أمنا لهم لأنهم لما ناموا زال أثر الخوف من نفوسهم في مدة النوم فتلك نعمة، ولما استيقظوا وجدوا نشاطا، ونشاط الأعصاب يكسب صاحبه شجاعة ويزيل شعور الخوف الذي هو فتور الأعصاب.
وصيغة المضارع في {يُغشيكم} لاستحضار الحالة.
و"من" في قوله: {مِنْهُ} للابتداء المجازي، وهو وصف لأمنه لإفادة تشريف ذلك النعاس وأنه وارد من جانب القدس، فهو لطف وسكينة ورحمة ربانية، ويتأكد به إسناد الإغشاء إلى الله، على قراءة من نصبوا "النعاس"، تنبيها على أنه إسناد مخصوص، وليس الإسناد الذي يعم المقدورات كلها، وعلى قراءة من رفعوا "النعاس" يكون وصف الأمنة بأنها منه ساريا إلى الغشي فيعلم أنه غشي خاص قدسي، وليس مثل سائر غشيان النعاس فهو خارق للعادة كان كرامة لهم وقد حصل ذلك للمسلمين يوم بدر كما هو صريح هذه الآية وحصل النعاس يوم أحد لطائفة من الجيش قال تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} وتقدم في سورة آل عمران [154]. وفي "صحيح البخاري" عن أبي طلحة قال: "كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد حتى سقط سيفي من يدي مرارا".
وذكر الله منة أخرى جاءت في وقت الحاجة: وهي أنه أنزل عليهم المطر يوم بدر، فإسناد هذا الإنزال إلى الله تعالى للتنبيه على أنه أكرمهم به وذلك لكونه نزل في وقت
احتياجهم إلى الماء، ولعله كان في غير الوقت المعتاد فيه نزول الأمطار في أفقهم، قال أهل السير: كان المسلمون حين اقتربوا من بدر راموا أن يسبقوا جيش المشركين إلى ماء بدر، وكان طريقهم دهساء أي رملا لينا، تسوخ فيه الأرجل فشق عليهم إسراع السير إلى الماء وكانت أرض طريق المشركين ملبدة، فلما أنزل الله المطر تلبدت الأرض فصار السير أمكن لهم، واستوحلت الأرض للمشركين فصار السير فيها متعبا، فأمكن للمسلمين السبق إلى الماء من بدر ونزلوا عليه وادخروا ماء كثيرا من ماء المطر، وتطهروا وشربوا، فذلك قوله تعالى: {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}.
و"الرجز" القذر، والمراد الوسخ الحسي وهو النجس والمعنوي المعبر عنه في كتب الفقه بالحدث، والمراد الجنابة، وذلك هو الذي يعم الجيش كله فلذلك قال: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، وإضافته إلى الشيطان لأن غالب الجيش لما ناموا احتلموا فأصبحوا على جنابة وذلك قد يكون خواطر الشيطان يخيلها للنائم ليفسد عليه طهارته بدون اختيار طمعا في تثاقله عن الاغتسال حتى يخرج وقت صلاة الصبح، ولأن فقدان الماء يلجئهم إلى البقاء في تنجس الثياب والأجساد والنجاسة تلائم طبع الشيطان.
وتقدير المجرور في قوله: {عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} للرعاية على الفاصلة، لأنها بنيت على مد وحرف بعده في هذه الآيات والتي بعدها مع ما فيه من الاهتمام بهم.
وقوله: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} أي يؤمنكم بكونكم واثقين بوجود الماء لا تخافون عطشا وتثبيت الأقدام هو التمكن من السير في الرمل، بأن لا تسوخ في ذلك الدهس الأرجل، لأن هذا المعنى هو المناسب حصوله بالمطر.
و"الربط" حقيقته شد الوثاق على الشيء وهو مجاز في التثبيت وإزالة الاضطراب ومنه قولهم فلان رابط الجأش وله رباطة جأش.
و {عَلَى} مستعارة لتمكن الربط فهي ترشيح للمجاز.
[12, 13] {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}.
{إِذْ} طرف متعلق بقوله: {فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ}
[الأنفال: 9].
وجعل الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم تلطفا به، إذ كانت هذه الآية في تفصيل عمل الملائكة يوم بدر وما خاطبهم الله به فكان توجيه الخطاب بذلك إلى النبي صلى اله عليه وسلم أولى لأنه أحق من يعلم مثل هذا العلم ويحصل العلم للمسلمين تبعا له، وأن الذي يهم المسلمين من ذلك هو نصر الملائكة إياهم وقد حصل الإعلام بذلك من آية {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من استغاث الله. ولذلك عرف الله هنا باسم الرب وإضافته إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم ليوافق أسلوب {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] ونما فيه من التنويه بقدر نبيه صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه فعل ذلك لطفا به ورفعا لشأنه.
والوحي إلى الملائكة المرسلين: إما بطريق إلقاء هذا الأمر في نفوسهم بتكوين خاص، وإما بإبلاغهم ذلك بواسطة.
و {أَنِّي مَعَكُمْ} قيل هو في تأويل مصدر وذلك المصدر مفعول يوحي، أي يوحي إليهم ثبوت معيته لهم، فيكون المصدر، منصوبا على المفعول به ليوحي، بهذا التأويل وقيل على تقدير باء الجر.
وأنت على ذكر مما قدمناه قريبا في قوله تعالى: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ} [الأنفال: 9] من تحقيق أن تكون "أن" المفتوحة الهمزة المشددة النون مفيدة معنى "أن" التفسيرية، إذا وقعت معمولة لما فيه معنى القول دون حروفه.
والمعية حقيقتها هنا مستحيلة فتحمل على اللائقة بالله تعالى أعني المعية المجازية، فقد يكون معناها توجيه عنايته إليهم وتيسير العمل لهم، وقد تكرر إطلاق "مع" بمثل هذا في القرآن كقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4].
وإيحاء الله إلى الملائكة بهذا مقصود منه تشريفهم وتشريف العمل الذي سيكلفون به، لأن المعية تؤذن إجمالا بوجود شيء يستدعي المصاحبة، فكان قوله لهم: {أَنِّي مَعَكُمْ} مقدمة للتكليف بعمل شريف ولذلك يذكر ما تتعلق به المعية لأنه سيعلم من بقية الكلام، أي أني معكم في عملكم الذي أكلفكم به.
ومن هنا ظهر موقع فاء الترتيب في قوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} من حيث ما دل عليه {أَنِّي مَعَكُمْ} من التهيئة لتلقي التكليف بعمل عظيم وإنما كان هذا العمل بهذه المثابة لأنه إبدال للحقائق الثابتة باقتلاعها ووضع أضدادها لأنه يجعل الجبن شجاعة، والخوف إقداما
والهلع ثباتا، في جانب المؤمنين، ويجعل العزة رعبا في قلوب المشركين، ويقطع أعناقهم وأيديهم بدون سبب من أسباب القطع المعتادة فكانت الأعمال التي عهد للملائكة عملها خوارق عادات.
والتثبيت هنا مجاز في إزالة الاضطراب النفساني مما ينشأ عن الخوف ومن عدم استقرار الرأي واطمئنانه.
وعرف المثبتون بالموصول لما تومئ إليه صلة {آمَنُوا} من كون إيمانهم هو الباعث على هذه العناية، فتكون الملائكة بعناية المؤمنين لأجل وصف الإيمان.
وتثبيت المؤمنين إيقاع ظن في نفوسهم بأنهم منصورون ويسمى ذلك إلهاما وتثبيتا، لأنه إرشاد إلى ما يطابق الواقع، وإزالة للاضطراب الشيطاني، وإنما يكون خيرا إذا كان جاريا على ما يحبه الله تعالى بحيث لا يكون خاطرا كاذبا، وإلا صار غرورا، فتشجيع الخائف حيث يريد الله منه الشجاعة خاطر ملكي وتشجيعه حيث ينبغي أن يتوفى ويخاف خاطر شيطاني ووسوسة، لأنه تضليل عن الواقع وتخذيل.
ولم يسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الملائكة بل أسنده الله إلى نفسه وحده بقوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} لأن أولئك الملائكة المخاطبين كانوا ملائكة نصر وتأييد فلا يليق بقواهم إلقاء الرعب، لأن الرعب خاطر شيطاني ذميم، فجعله الله في قلوب الذين كفروا بواسطة أخرى غير الملائكة.
وأسند إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا إلى الله على طريقة الإجمال دون بيان لكيفية إلقائه، وكل ما يقع في العالم هو من تقدير الله على حسب إرادته. وأشار ذلك إلى أنه رعب شديد قدره الله على كيفية خارقة للعادة، فإن خوارق العادات قد تصدر من القوى الشيطانية بإذن الله وهو ما يسمى في اصطلاح المتكلمين بالإهانة وبالاستدراج، ولا حاجة إلى قصد تحقير الشيطان بإلقاء الرعب في قلوب المشركين كما قصد تشريف الملائكة لأن إلقاء الرعب في قلوب المشركين يعود بالفائدة على المسلمين، فهو مبارك أيضا. وإنما كان إلقاء الرعب في قلوب المشركين خارق عادة لأن أسباب ضده قائمة، وهي وفرة عددهم وعدتهم، وأقدامهم على الخروج إلى المسلمين، وحرصهم على حماية أموالهم التي جاءت بها العير.
فجملة: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا} مستأنفة استئنافا ابتدائيا إخبارا لهم بما
يقتضي التخفيف عليهم في العمل الذي كلفهم الله به بأن الله كفاهم تخذيل الكافرين بعمل آخر غير الذي كلف الملائكة بعمله، فليست جملة {سَأُلْقِي} مفسرة لمعنى {أَنِّي مَعَكُمْ}.
ولم يقل سنلقي لئلا يتوهم أن للملائكة المخاطبين سببا في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا كما علمت آنفا.
وتفريع {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} على جملة {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} المفرعة هنا أيضا على جملة {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} في المعنى، يؤذن بما اقتضته جملة {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} من تخفيف عمل الملائكة عليهم بعض التخفيف الذي دل عليه إجمالا قوله: {أَنِّي مَعَكُمْ} كما تقدم {فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} ، على الظرفية لأضربوا.
و {الْأَعْنَاقِ} أعناق المشركين وهو بين من السياق. واللام فيه والمراد بعض الجنس بالقرينة للجنس أو عوض عن المضاف إليه بقرينة قوله بعد {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ}.
والبنان اسم جمع بنانة وهي الإصبع وقيل طرف الإصبع، وإضافة كل إليه لاستغراق أصحابها.
وإنما خصت الأعناق والبنان لأن ضرب الأعناق إتلاف لأجساد المشركين وضرب البنان يبطل صلاحية المضروب للقتال، لأن تناول السلاح إنما يكون بالأصابع، ومن ثم كثر في كلامهم الاستغناء بذكر ما تتناوله اليد أو ما تتناوله الأصابع، عن ذكر السيف، قال النابغة:
وأن تلادي أن نظرت وشكتي ... ومهري وما ضمت إلي الأنامل
يعني سيفه. وقال آبو الغول الطهوي:
فدت نفسي وما ملكت يميني ... فوارس صدقت فيهم ظنوني
يريد السيف ومثل ذلك كثير في كلامهم فضرب البنان يحصل به تعطيل عمل اليد فإذا ضربت اليد كلها فذلك أجدر.
وضرب الملائكة يجوز أن يكون مباشرة بتكوين قطع الأعناق والأصابع بواسطة فعل الملائكة على كيفية خارقة للعادة وقد ورد في بعض الآثار عن بعض الصحابة ما يشهد لهذا المعنى، فإسناد الضرب حقيقة. ويجوز أن يكون بتسديد ضربات المسلمين وتوجيه
المشركين إلى جهاتها فإسناد الضرب إلى الملائكة مجاز عقلي لأنهم سببه، وقد قيل: الأمر بالضرب للمسلمين، وهو بعيد، لأن السورة نزلت بعد انكشاف الملحمة.
وجملة {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} تعليل لأن الباء في قوله: {بِأَنَّهُمْ} باء السببية فهي تفيد معنى التعليل ولهذا فصلت الجملة.
والمخاطب بهذه الجملة: إما الملائكة، فتكون من جملة الموحى به إليهم إطلاعا لهم على حكمة فعل الله تعالى، لزيادة تقريبهم، ولا يريبك إفراد كاف الخطاب في اسم الإشارة لأن الأصل في الكاف مع اسم الإشارة الإفراد والتذكير، وإجراؤها على حسب حال المخاطب بالإشارة جائز وليس بالمتعين، وإما من تبلغهم الآية من المشركين الأحياء بعد يوم بدر ولذا فالجملة معترضة للتحذير من الاستمرار على مشاقة الله ورسوله. والقول في إفراد الكاف هو إذ الخطاب لغير معين والمراد نوع خاص ويجوز أن يكون المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم.
والمشار إليه ما أمروا به من ضرب الأعناق وقطع البنان.
وإفراد اسم الإشارة بتأويله بالمذكور، وتقدم غير مرة.
والمشاقة العداوة بعصيان وعناد، مشتقة من الشق بكسر الشين وهو الجانب، هو اسم بمعنى المشقوق أي المفرق، ولما كان المخالف والمعادي يكون متباعدا عن عدوه فقد جعل كأنه في شق آخر، أي ناحية أخرى، والتصريح بسبب الانتقام تعريض للمؤمنين ليستزيدوا من طاعة الله ورسوله، فإن المشيئة لما كانت سبب هذا العقاب العظيم فيوشك ما هو مخالفة للرسول بدون مشاقة أن يوقع في عذاب دون ذلك، وخليق بان يكون ضدها وهو الطاعة موجبا للخير.
وجملة: {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} تذييل يعم كل من يشاقق الله ويعم أصناف العقائد.
والمراد من قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الكناية عن عقاب المشاقين وبذلك يظهر الارتباط بين الجزاء وبين الشرط باعتبار لازم الخبر وهو الكناية عن تعلق مضمون ذلك الخبر بمن حصل منه مضمون الشرط كقول عنترة:
إن تغد في، دوني القناع فإنني ... طب بأخذ الفارس المستلئم
ريد فأني لا يخفى علي من يستر وجهه مني وأني أتوسمه وأعرفه.
[14] {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ}.
الخطاب في {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} للمشركين الذين قتلوا، والذي قطعت بنانهم أي يقال لهم هذا الكلام حيث تضرب أعناقهم وبنانهم بأن يلقى في نفوسهم حينما يصابون إن أصابتهم كانت لمشاقتهم الله ورسوله فإنهم كانوا يسمعون توعد الله إياهم بالعذاب والبطش كقوله: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] وقوله: {وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: 34] ونحو ذلك وكانوا لا يخلون من اختلاج الشك نفوسهم، فإذا رأوا القتل الذي لم يألفوه، ورأى الواحد منهم نفسه مضروبا بالسيف، ضربا لا يستطيع له دفاعا، علم أن وعيد الله تحقق فيه، فجاش في نفسه أن ذلك لمشاقته الله ورسوله، ولعلهم كانوا يرون إصابات تصيبهم من غير مرئي، فجملة {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ} مقول قول محذوف تقديره: قائلين، هو حال من ضمير {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12].
واسم الإشارة راجع إلى الضرب المأخوذ من قوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12] وهو مبتدأ وخبره محذوف، فإما أن يقدر ذلك هو العقاب الموعود، وإما أن يكون مما دل عليه قوله: {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فالتقدير ذلك بأنكم شاققتم الله ورسوله.
وتفريع {فَذُوقُوهُ} على جملة: {ذَلِكُمْ} بما قدر فيها تفريع للشمالة على تحقيق الوعيد، فصيغة الأمر مستعملة في الشماتة والإهانة. وموقعي {فَذُوقُوهُ} اعتراض بين الجملة والمعطوف في قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ} ، والاعتراض يكون بالفاء كما في قول النابغة:
ضباب بني الطوالة فاعلميه ... ولا يغررك نأيي واغترابي
قالوا وفي قوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} للعطف على المعقول فهو من جملة القول، والتعريف في {الْكَافِرِينَ} للاستغراق وهو تذييل.
والمعنى: ذلكم، أي ضرب الاعتناق، عقاب الدنيا، وأن لكم عذاب النار في الآخرة مع جميع الكافرين، والذوق مجاز في الإحساس والعلاقة الإطلاق.
وقوله: {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} عطف على الخبر المحذوف أي ذلكم العذاب وأن عذاب النار لجميع الكافرين.
[15, 16] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
لما ذكر الله المسلمين بما أيدهم يوم بدر بالملائكة والنصر من عنده، وأكرمهم بأن نصرهم على المشركين الذين كانوا أشد منهم وأكثر عددا وعددا وأعقبه بأن أعلمهم أن ذلك شأنه مع الكافرين به اعترض في خلال ذلك بتحذيرهم من الوهن والقرار. فالجملة معترضة بين جملة {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال: 12] وبين جملة {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [الأنفال: 17] الآية وفي هذا تدريب للمسلمين على الشجاعة والإقدام والثبات عند اللقاء وهي خطة محمودة عند العرب لم يزدها الإسلام إلا تقوية قال الحصين بن الحمام:
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وقد قيل إن هذه الآية نزلت في قتال بدر، ولعل مراد هذا القائل أن حكمها نزل يوم بدر ثم أثبتت في سورة الأنفال النازلة بعد الملحمة، أو أراد أنها نزلت قبل الآيات التي صدرت بها سورة الأنفال ثم رتبت في التلاوة في مكانها هذا، والصحيح أنها نزلت بعد وقعة بدر كما سيأتي.
واللقاء غلب استعماله في كلامهم على مناجزة العدو في الحرب.
فالجملة استئناف ابتدائي، والمناسبة واضحة، وسيأتي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} في هذه السورة[45]، وأصل اللقاء أنه الحضور لدى الغير.
والزحف أصله مصدر زحف من باب منع إذا انبعث من مكانه متنقلا على مقعدته يجرر جيله كما يزحف الصبي.
ثم أطلق على مشي المقاتل إلى عدوه في ساحة القتال زحف لأنه يدنو إلى العدو باحتراس وترصد فرصة فكأنه يزحف إليه.
ويطلق الزحف على الجيش الدهم، أي الكثير عدد الرجال، لأنه لكثرة الناس فيه يثقل تنقله فوصف بالمصدر، ثم غلب إطلاقه حتى صار معنى من معاني الزحف ويجمع على زحوف.
وقد اختلفت طرق المفسرين في تفسير المراد من لفظ {زَحْفاً} في هذه الآية فمنهم من فسره بالمعنى المصدري أي المشي في الحرب وجعله وصفا لتلاحم الجيشين عند القتال لأن المقاتلين يدبون إلى أقرانهم دبيبا ومنهم من فسره بمعنى الجيش الدهم الكثير العدد، وجعله وصفا لذات الجيش.
وعلى كلا التقديرين فهو: إما حال من ضمير {لَقِيتُمُ} وإما من {الَّذِينَ كَفَرُوا}، فعلى التفسير الأول هو نهي عن الانصراف من القتال فرارا إذا التحم الجيشان، سواء جعلت زحفا حالا من ضمير {لَقِيتُمُ} أو من {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، لأن مشي أحد الجيشين يستلزم مشي الآخر.
وعلى التفسير الثاني فإن جعل حالا من ضمير لقيتم كان نهيا عن الفرار إذا كان المسلمون جيشا كثيرا، ومفهومه أنهم إذا كانوا قلة فلا نهي، وهذا المفهوم مجمل يبينه قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} – إلى – {مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 65, 66]، وإن جعل حالا من الذين كفروا كان المعنى إذا لقيتموهم وهم كثيرون فلا تفروا، فيفيد النهي عن الفرار إذا كان الكفار قلة بفحوى الخطاب ويؤول إلى معنى لا تولوهم الأدبار في كل حال.
وهذه الآية عند جمهور أهل العلم نزلت بعد انقضاء وقعة بدر، وهو القول الذي لا ينبغي التردد في صحته كما تقدم آنفا، فإن هذه السورة نزلت بسبب الاختلاف في أنفال الجيش من أهل بدر عند قسمة مغانم بدر، وما هذه الآية إلا جزء من هذه السورة فحكم هذه الآية شرع شرعه الله على المسلمين بسبب تلك الغزوة لتوقع حدوث غزوات يكون جيش المسلمين فيها قليلا كما كان يوم بدر، فنهاهم الله عن التقهقر إذا لاقوا العدو.
فأما يوم بدر فلم يكن حكم مشروع في هذا الشأن فان المسلمين وقعوا في الحرب بغتة وتولى الله نصرهم.
وحكم هذه الآية باق غير منسوخ عند جمهور أهل العلم، وروي هذا عن ابن عباس، وبه قال ملك، والشافعي، وجمهور أهل العلم، لكنهم جعلوا عموم هذه الآية مخصوصا بآية {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً} إلى قوله: {إِذْنِ اللَّهِ} [الأنفال: 65, 66].
والوجه في الاستدلال أن هذه الآية اشتملت على صيغ عموم في قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ
يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} – إلى - قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} وهي من جانب آخر مطلقة في حالة اللقاء من قوله: {إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً} فتكون آيات {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} - إلى قوله -: {يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 65, 66] مخصصة لعموم هاته الآية بمقدار العدد ومقيدة لإطلاقها اللقاء بقيد حالة ذلك العدد وروي عن أبي سعيد الخدري، وعطاء، والحسن، ونافع، وقتادة، والضحاك: أن هذه الآية نزلت قبل وقعة بدر. وقالوا إن حكمها نسخ بآية الضعفاي آية {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الآية وبهذا قال أبو حنيفة، ومثال القولين واحد بالنسبة لما بعد يوم بدر، ولذلك لم يختلفوا في فقه هذه الآية إلا ما روي عن عطاء كما سيأتي والصحيح هو الأول كما يقتضيه سياق انتظام آي السورة ولو صح قول أصحاب الرأي الثاني للزم أن تكون هذه الآية قد نزلت قبل الشروع في القتال يوم بدر ثم نزلت سورة الأنفال فألحقت الآية بها، وهذا ما لم يقله أحد من أصحاب الأثر.
وذهب فريق ثالث إلى أن قوله تعالى: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} الآية محكم عام في الأزمان، لا يخصص بيوم بدر ولا بغيره، ولا يختص بعدد دون عدد. ونسب ابن الفرس، عن النحاس، إلى عطاء بن أبي رباح، وقال ابن الفرس قال أبو بكر بن العربي هو الصحيح لأنه ظاهر القرآن والحديث ولم يذكر أين قال ابن العربي ذلك، وأنا لم أقف عليه.
ولم يستقر من عمل جيوش المسلمين، في غزواتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الأمراء الصالحين في زمن الخلفاء الراشدين، ما ينضبط به مدى الإذن أو المنع من الفرار. وقد انكشف المسلمون يوم أحد فعنفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] وما عفا عنهم إلا بعد أن استحقوا الاثم، ولما انكشفوا عند لقاء هوازن يوم حنين عنفهم الله بقوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} إلى قوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} في سورة براءة[25-27] وذكر التوبة يقتضي سبق الإثم.
ومعنى {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} لا توجهوا إليهم أدباركم يقال ولى وجهه فلانا إذا أقبل عليه بوجهه ومنه قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] فيعدى فعل ولى إلى مفعولين بسبب التضعيف، "ومجرده ولي" إذا جعل شيئا واليا أي قريبا فيكون ولى المضاعف مثل قرب المضاعف، فهذا نظم هذا التركيب.
و"الأدبار" جمع دبر وهو ضد قبل الشيء وجهه وما يتوجه إليك منه عند إقباله على شيء وجعله أمامه، ودبره ظهره وما تراه منه حين انصرافه وجعله إياك وراءه، ومنه يقال استقبل واستدبر وأقبل وأدبر، فمعنى توليتهم الأدبار صرف الأدبار إليهم، أي الرجوع عن استقبالهم، وتولية الأدبار كناية عن الفرار من العدو بقرينة ذكره في سياق لقاء العدو، فهو مستعمل في لازم معناه مع بعض المعنى الأصلي، وإلا فان صرف الظهر إلى العدو بعد النصر لا بد منه وهو الانصراف إلى المعسكر، إذ لا يفهم أحد النهي عن إرادة الوجه عن العدو، وإلا للزم أن يبقي الناس مستقبلين جيش عدوهم، فلذلك تعين أن المفاد من قوله: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ} النهي عن الفرار قبل النصر أو القتل.
وعبر عن حين الزحف بلفظ اليوم في قوله: {يَوْمَئِذٍ} أي يوم الزحف أي يولهم يوم الزحف دبره أي حين الزحف.
ومن ثم استثني منه حالة التحرف لأجل الحيلة الحربية والانحياز إلى فئة من الجيش للاستنجاد بها أو لإنجادها.
والمستثنى يجوز أن يكون ذاتا مستثنى من الموصول في قوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ} والتقدير: إلا رجلا متحرفا لقتال، فحذف الموصوف وبقيت الصفة، ويجوز أن يكون المستثنى حالة من عموم الأحوال دل عليها الاستثناء أي إلا في حال تحرفه لقتال.
و"التحرف" الانصراف إلى الحرف، وهو المكان البعيد عن وسطه فالتحرف مزايلة المكان المستقر فيه والعدول إلى أحد جوانبه، وهو يستدعي تولية الظهر لذلك المكان بمعنى الفرار منه.
واللام للتعليل أي إلا في حال تحرف أي مجانبة لأجل القتال، أي لأجل أعماله إن كان المراد بالقتال الاسم، أو لأجل إعادة المقاتلة إن كان المراد بالقتال المصدر، وتنكير قتال يرجح الوجه الثاني، فالمراد بهذا التحرف ما يعبر عنه بالفر لأجل الكر فإن الحرب كر وفر، وقال عمرو بن معد يكرب:
ولقد أجمع رجلي بها ... حذر الموت وإني لفرور
ولقد أعطفها كارهة ... حين للنفس من الموت هرير
كل ما ذلك خلق ... وبكل أنا في الروع جدير
والتحيز طلب الحيز فيعل من الحوز، فأصل إحدى ياءيه الواو، فلما اجتمعت الواو
والياء وكانت السابقة ساكنة قلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء، ثم اشتقوا منه تحيز فوزنه تفيعل وهو مختار صاحب "الكشاف" جريا على القياس بقدر الإمكان، وجوز التفتازاني أن يكون وزنه تفعل بناء على اعتباره مشتقا من الكلمة الواقع فيها الإبدال والإدغام وهي الحيز، ونظره بقولهم: "تدير" بمعنى الإقامة في الدار، فإن الدار مشتقة من الدوران ولذلك جمعت على دور، إلا أنه لما كثر في جمعها ديار وديرة عوملت معاملة ما عينه ياء، فقالوا من ذلك تدير بمعنى أقام في الدار وهو تفعل من الدار، واحتج بكلام ابن جني والمرزوقي في "شرح الحماسة"، يعني ما قال ابن جني في "شرح الحماسة" عند قول جابر بن حريش:
إذ لا تخاف حدوجنا قذف النوى ... قبل الفساد إقامة وتديرا
"التدير تفعل من الدار وقياسه تدور إلا أنه لما كثر استعمالهم ديار أنسوا بالياء ووجدوا جانبها أو طاحسا وألين مسا فاجتروا عليها فقالوا تدير وما قال المرزوقي الأصل في تدير الواو ولكنهم بنوه على ديار لإلفهم له بكثرة تردده في كلامهم".
فمعنى {مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} أن يكون رجع القهقرى ليلتحق بطائفة من أصحابه فيتقوى بهم.
والفئة الجماعة من الناس، وقد تقدم في سورة البقرة[249] في قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ} وتطلق على مؤخرة الجيش لأنها يفيء إليها من يحتاج إلى إصلاح أمره أو من عرض له ما يمنعه من القتال من مرض أو جراحة أو يستنجد بهم، فهو تول لمقصد القتال، وليس المراد أن ينحاز إلى جماعة مستريحين لأن ذلك من الفرار. ويدخل في معنى التحيز إلى الفئة الرجوع إلى مقر أمير الجيش للاستنجاد بفئة أخرى، وكذلك القفول إلى مقر أمير المصر الذي وجه الجيش للاستمداد بجيش آخر إذا رأى أمير الجيش ذلك من المصلحة كما فعل المسلمون في فتح إفريقية وغيره في زمن الخلفاء، ولما انهزم أبو عبيد بن مسعود الثقفي يوم الجسر بالقادسية، وقتل هو ومن معه من المسلمين، قال عمر بن الخطاب: هلا تحيز إلي فأنا فئته.
و{بَاءَ} رجع. والمعنى أن لله غضب عليه في رجوعه ذلك فهو قد رجع ملابسا لغضب الله تعالى عليه. ومناسبة "باء" هنا أنه يشير إلى أن سبب الغضب عليه هو ذلك البوء الذي باءه. وهذا غضب الله عليه في الدنيا المستحق الذم وغيره مما عسى أن يحرمه عناية الله تعالى في الدنيا. ثم يترتب عليه المصير إلى عذاب جهنم، وهذا يدل على أن
توليه الظهر إلى المشركين كبيرة عظيمة. فالآية دالة على تحريم التولي عن مقابلة العدو حين الزحف.
والذي أرى في فقه هذه الآية أن ظاهر الآية هو تحريم التولي على آحادهم وجماعتهم إذا التقوا مع أعدائهم في ملاحم القتال والمجالدة، بحيث إن المسلمين إذا توجهوا إلى قتال المشركين أو إذا نزل المشركون لمقاتلتهم وعزموا على المقاتلة. فإذا التقى الجيشان للقتال وجب على المسلمين الثبات والصبر للقتال، ولو كانوا أقل من جيش المشركين، فإما أن ينتصروا وإما أن يستشهدوا وعلى هذا فللمسلمين النظر قبل اللقاء هل هم بحيث يستطيعون الثبات وجهه أولا، فان وقت المجالدة يضيق عن التدبير، فعلى الجيش النظر في عدده وعدده ونسبة ذلك من جيش عدوهم، فإذا أزمعوا الزحف وجب عليهم الثبات، وكذلك يكون شأنهم في مدة نزولهم بدار العدو، فإذا رأوا للعدو نجدة أو ازدياد قوة نظروا في أمرهم هل يثبتون لقتاله أو ينصرفون بإذن أميرهم، فإما أن يأمرهم بالكف عن متابعة ذلك العدو وإما أن يأمرهم بالاستنجاد والعودة إلى قتال العدو كما صنع المسلمون في غزوة أفريقية الأولى وهذا هو الذي يشهد له قوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] وما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قام في الناس فقال: يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف . ولعل حكمة ذلك أن يمضي المسلمون في نصر الدين. وعلى هذا الوجه يكون لأمير الجيش، إذا رأى المصلحة في الانجلاء عن دار العدو وترك قتالهم، أن يغادر دار الحرب ويرجع إلى مقره، إذا أمن أن يلحق به العدو، وكان له من القوة ما يستطيع به دفاعهم إذا لحقوا به، فذلك لا يسمى تولية أدبار، بل هو رأي ومصلحة، وهذا عندي هو محمل ما روى أبو داود والترمذي، عن عبد الله بن عمر: أنه كان في سرية بعثها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فحاص الناس حيصة فكنت فيمن حاص فلما برزنا قلنا كيف نصنع إذا دخلنا المدينة وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ثم قلنا لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فان كان لنا توبة أقمنا وإن كان غير ذلك ذهبنا قال "فجلسنا لرسول الله قبل صلاة الفجر فلما خرج قمنا إليه فقلنا نحن الفرارون، فاقبل إلينا فقال لا بل انتم العكارون" أي الذين يكرون يعني أن فراركم من قبيل الفر للكر يقال للرجل إذا ولى عن الحرب ثم كر راجعا إليها عكر أو اعتكر "وأنا فئة المسلمين" يتأول لهم أن فرارهم من قبيل قوله تعالى: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} قال ابن عمر "فدنونا فقبلنا يده". فيفهم منه أن فرار ابن عمر وأصحابه لم يكن في وقت مجالدتهم المشركين، ولكنه قال انسلالا لينحازوا