كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
وافتتاح الجملة ب {إِنَّ} للاهتمام بالخبر، والإتيان بالموصولات للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو أنهم يسارعون في الخيرات ويسابقون إليها وتكرير أسماء الموصولات للاهتمام بكل صلة من صلاتها فلا تذكر تبعا بالعطف. والمقصود الفريق الذين اتصفوا بصلة من هذه الصلات. ومن في قوله {مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ} للتعليل.
والإشفاق: توقع المكروه وتقدم عند قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} في سورة الأنبياء. وقد حذف المتوقع منه لظهور أنه هو الذي كان الإشفاق بسبب خشيته، أي يتوقعون غضبه وعقابه.
والمراد بالآيات الدلائل التي تضمنها القرآن ومنها إعجاز القرآن. والمعنى: أنهم لخشية ربهم يخافون عقابه، فحذف متعلق {مُشْفِقُونَ} لدلالة السياق عليه.
وتقديم المجرورات الثلاثة على عواملها للرعاية على الفواصل مع الاهتمام بمضمونها.
ومعنى {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} يعطون الأموال صدقات وصلات ونفقات في سبيل الله. قال تعالى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} الآية وقال {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}{الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} . واستعمل الإيتاء في إعطاء المال شائع في القرآن متعين أنه المراد هنا.
إنما عبر ب {مَا آتَوْا} دون الصدقات أو الأموال ليعم كل أصناف العطاء المطلوب شرعا وليعم القليل والكثير، فلعل بعض المؤمنين ليس له من المال ما تجب فيه الزكاة وهو يعطي مما يكسب.
وجملة {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} في موضع الحال وحق الحال إذا جاءت بعد جمل متعاطفة أن تعود إلى جميع الجمل التي قبلها، أي يفعلون ما ذكر من الأعمال الصالحة بقلوبهم وجوارحهم وهم مضمرون وجلا وخوفا من ربهم أن يرجعوا إليه فلا يجدونه راضيا عنهم، أو لا يجدون ما يجده غيرهم ممن يفوتهم في الصالحات، فهم لذلك يسارعون في الخيرات ويكثرون منها ما استطاعوا وكذلك كان شأن المسلمين الأولين. وفي الحديث أن أهل الصفة قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم. قال: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به، إن لكلم بكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر
بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة" .
وقال أبو مسعود الأنصاري: لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل فيصيب أحدنا المد فيتصدق به. ومما يشير إلى معنى هذه الآية قوله تعالى :{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}
وخبر {إِنَّ} جملة {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} .
وافتتح باسم الإشارة لزيادة تمييزهم للسامعين لأن مثلهم أحرياء بأن يعرفوا.
وتقدم الكلام على معنى {يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} آنفا.
ومعنى {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أنهم يتنافسون في الإكثار من أعمال الخير، فالسبق تمثيل للتنافس والتفاوت في الإكثار من الخيرات بحال السابق إلى الغاية، أو المعنى وهم محرزون لما حرصوا عليهم، فالسبق مجاز لإحراز المطلوب لأن الإحراز من لوازم السبق.
وعلى التقديرين فاللام بمعنى إلى. وقد قيل إن فعل السبق يتعدى باللام كما يتعدى بإلى. وتقديم المجرور للاهتمام ولرعاية الفاصلة.
[62] {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} .
تذييل لما تقدم من أحوال الذين من خشية ربهم مشفقون، لأنه لما ذكر ما اقتضى مخالفة المشركين لما أمروا به من توحيد الدين، وذكر بعده ما دل على تقوى المؤمنين بالخشية وصحة الإيمان والبذل ومسارعتهم في الخيرات. ذيل ذلك بأن الله ما طلب من الذين تقطعوا أمرهم إلا تكليفا لا يشق عليهم، وبأن الله عذر من المؤمنين من لم يبلغوا مبلغ من يفوتهم في الأعمال عذرا يقتضي اعتبار أجرهم على ما فاتهم إذ بذلوا غاية وسعهم. قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} .
فقوله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} خبر مراد منه لازمه وهو تسجيل التقصير على الذين تقطعوا أمرهم بينهم. وقطع معذرتهم، وتيسير الاعتذار على الذين هم من خشية ربهم مشفقون كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} مع ما في ذلك من جبر
الخواطر المنكسرة من أهل الإيمان الذين لم يلحقوا غيرهم لعجز أو خصاصة.
ولمراعاة هذا المعنى عطف قوله: {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ} وهو معنى إحاطة العلم بأحوالهم ونواياهم. فالكتاب هنا هو الأمر الذي فيه تسجيل الأعمال من حسنات وسيئات وإطلاق الكتاب عليه لإحاطته. وفي قوله: {لَدَيْنَا} دلالة على أن ذلك محفوظ لا يستطيع أحد تغييره بزيادة ولا نقصان. والنطق مستعار للدلالة، ويجوز أن يكون نطق الكتاب حقيقة بأن تكون الحروف المكتوبة فيه ذات أصواب وقدرة الله لا تحد.
وأما قوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فالمناسب أن يكون مسوقا لمؤاخذة المفرطين والمعرضين فيكون الضمير عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ} وأشباهه من الضمائر والاعتماد على قرينة السياق، وقوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} وما بعده من الضمائر. والظلم على هذا الوجه محمول على ظاهره وهو حرمان الحق والاعتداء.
ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى عموم الأنفس في قوله: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فيكون قوله: {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} من بقية التذييل، والظلم على هذا الوجه مستعمل في النقص من الحق كقوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً} فيكون وعيدا لفريق ووعدا لفريق. وهذا أليق الوجهين بالإعجاز.
[63] {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} .
إضراب انتقال إلى ما هو أغرب مما سبق وهو وصف غمرة أخرى انغمس فيها المشركون فهم في غمرة غمرت قلوبهم وأبعدتها عن أن تتخلق بخلق الذين هم من خشية ربهم مشفقون كيف وأعمالهم إلى الضد من أعمال المؤمنين تناسب كفرهم، فكل يعمل على شاكلته.
فحرف من في قوله: {مِنْ هَذَا} يوهم البدلية، أي في غمرة تباعدهم عن هذا.
والإشارة ب {هَذَا} إلى ما ذكر آنفا من صفات المؤمنين في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} إلى قوله: {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} .
و {دُونِ} تدل على المخالفة لأحوال المؤمنين، أي ليسوا أهلا للتحلي بمثل تلك المكارم.
وقوله: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} يبين هذا، أي وأعمالهم التي يعملونها غير ذلك. ويذكرني هذا قول محمد بن بشير الخارجي في مدح عروة بن زيد الخيل:
يا أيها المتمني أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد أخلى لك السبلا
أعدد فضائل أخلاق عددن له ... هل سب من أحد أو سب أو بخلا
إن تنفق المال أو تكلف مساعيه ... يشفق عليك وتفعل دون ما فعلا
ولام {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ} للاختصاص. وتقديم المجرور بها على المبدأ لقصر المسند إليه على المسند، أي لهم أعمال لا يعملون غيرها من أعمال الإيمان والخيرات.
ووصف {أَعْمَالٌ} بجملة {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} للدلالة على أنهم مستمرون عليها لا يقلعون عنها لأنهم ضروا بها لكثرة انغماسهم فيها.
وجيء بالجملة الاسمية لإفادة الدوام على تلك الأعمال وثباتهم عليها.
ويجوز أن يكون تقديم {لَهَا} على {عَامِلُونَ} لإفادة الاختصاص لقصر القلب، أي لا يعملون غيرها من الأعمال الصالحة التي دعوا إليها. ويجوز أن يكون للرعاية على الفاصلة لأن القصر قد أفيد بتقديم المسند إليه.
[67,64] {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} .
{حَتَّى} ابتدائية. وقد تقدم ذكرها في سورة الأنبياء عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} .
وحتى الابتدائية يكون ما بعدها ابتداء كلام، فليس الدال على الغاية لفظا مفردا كما هو الشأن مع حتى الجارة وحتى العاطفة، بل هي غاية يدل عليها المقام والأكثر أن تكون في معنى التفريع.
وبهذه الغاية صار الكلام تهديدا لهم بعذاب سيحل بهم يجأرون منه ولا ملجأ لهم منه. والظاهر أنه عذاب في الدنيا بقرينة قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ
لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
وإذا الأولى ظرفية فيها معنى الشرط فلذلك كان الأصل والغالب فيها أن تدل على ظرف مستقبل. وإذا الثانية فجائية داخلة على جواب شرط إذا.
والمترفون: المعطون ترفا وهو الرفاهية، أي المنعمون كقوله تعالى: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} فالمترفون منهم هم سادتهم وأكابرهم والضمير المضاف إليه عائد إلى جميع المشركين أصحاب الغمرة.
وإنما جعل الأخذ واقعا على المترفين منهم لأنهم الذين أضلوا عامة قومهم ولولا نفوذ كلمتهم على قومهم لاتبعت الدهماء الحق لأن العامة أقرب إلى الإنصاف إذا فهموا الحق بسبب سلامتهم من جل دواعي المكابرة من توقع تقلص سؤدد وزوال نعيم. وكذلك حق على قادة الأمم أن يؤاخذوا بالتبعات اللاحقة للعامة من جراء أخطائهم ومغامرتهم عن تضليل أو سوء تدبر، وأن يسألوا عن الخيبة أن ألقوا بالذين اتبعوهم في مهواة الخطر كما قال تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا}{رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} ، وقال: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} .
وتخصيص المترفين بالتعذيب مع أن شأن العذاب الإلهي إن كان دنيويا أن يعم الناس كلهم إيماء إلى أن المترفين هم سبب نزول العذاب بالعامة، ولأن المترفين هم أشد إحساسا بالعذاب لأنهم لم يعتادوا مس الضراء والآلام. وقد علم مع ذلك أن العذاب يعم جميعهم من قوله: {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} فإن الضميرين في {إِذَا هُمْ} و {يَجْأَرُونَ} عائدان إلى ما عاد إليه ضمير {مُتْرَفِيهِمْ} بقرينة قوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} فإن ذلك كان من عمل جميعهم.
ويجوز أن يكون المراد بالمترفين جميع المشركين فتكون الإضافة بيانيه ويكون ذكر المترفين تهويلا في التهديد تذكيرا لهم بأن العذاب يزيل عنهم ترفهم؛ فقد كان أهل مكة في ترف ودعة إذ كانوا سالمين من غارات الأقوام لأنهم أهل الحرم الآمن وكانوا تجبى إليهم ثمرات كل شيء وكانوا مكرمين لدى جميع القبائل، قال الأخطل:
فأما الناس ما حاشا قريشا ... فإنا نحن أفضلهم فعالا
وكانت أرزاقهم تأتيهم من كل مكان قال تعالى: { الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ
مِنْ خَوْفٍ} ، فيكون المعنى: حتى إذا أخذناهم وهم في ترفهم، كقوله: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} .
ويجوز أن يكون المراد حلول العذاب بالمترفين خاصة، أي بسادتهم وصناديدهم وهو عذاب السيف يوم بدر فإنه قتل يومئذ كبراء قريش وهم أصحاب القليب. قال شداد بن الأسود:
وماذا بالقليب قليب بدر ... من الشيزى تزين بالسنام
وماذا بالقليب قليب بدر ... من القينات والشرب الكرام
يعني ما ضمنه القليب من رجال كانت سجاياهم الإطعام والطرب واللذات.
وضمير {إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} على هذا الوجه عائد إلى غير المترفين لأن المترفين قد هلكوا فالبقية يجأرون من التلهف على ما أصاب قومهم والإشفاق أن يستمر القتل في سائرهم فهم يجأرون كلما صرع واحد من سادتهم ولأن أهل مكة عجبوا من تلك المصيبة ورثوا أمواتهم بالمراثي والنياحات.
ثم الظاهر أن المراد من هذا العذاب عذاب يحل بهم في المستقبل بعد نزول هذه الآية التي هي مكية فيتعين أن هذا عذاب مسبوق بعذاب حل بهم قبله كما يقتضيه قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} الآية.
ولذا فالعذاب المذكور هنا عذاب هددوا به. وهو إما عذاب الجوع الثاني الذي أصاب أهل مكة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته. ذلك أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي عقب سرية خالد بن الوليد إلى بني كلب التي أخذ فيها ثمامة أسيرا وأسلم فمنع صدور الميرة من أرض قومه باليمامة إلى أهل مكة وكانت اليمامة مصدر أقواتهم حتى سميت ريف أهل مكة فأصابهم جوع حتى أكلوا العلهز1 والجيف سبع سنين، وإما عذاب السيف الذي حل بهم يوم بدر.
وقيل إن هذا العذاب عذاب وقع قبل نزول الآية وتعين انه عذاب الجوع الذي أصابهم أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثم كشفه الله عنهم ببركة نبيه وسلامة المؤمنين، وذلك المذكور في سورة الدخان {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} .
ـــــــ
1 بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء آخره زاي: هو الدم المجمد يخلط بالوبر ويشوى على النار.
وقيل العذاب عذاب الآخرة. ويبعد هذا القول أنه سيذكر عذاب الآخرة في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ...} الآيات إلى قوله: {إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كما ستعلمه.
وتجيء منه وجوه من الوجوه المتقدمة لا يخفى تقريرها.
ومعنى {يجَْأَرُونَ} يصرخون ومصدره الجأر. والاسم الجؤار بضم الجيم وهو كناية عن شدة ألم العذاب بحيث لا يستطيعون صبرا عليه فيصدر منهم صراخ التأوه والويل والثبور.
وجملة {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} معترضة بين ما قبلها وما تفرع عليه من قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} وهي مقول قول محذوف، أي تقول لهم: لا تجأروا اليوم.
وهذا القول كلام نفسي أعلمهم الله به لتخويفهم من عذاب لا يغني عنهم حين حلوله جؤار إذا لا مجيب لجؤارهم ولا مغيث لهم منه إذ هو عذاب خارج عن مقدور الناس لا يطمع أحد في تولي كشفه. وهذا تأييس لهم من النجاة من العذاب الذي هددوا به. وإذا كان المراد بالعذاب الآخرة فالقول لفظي والمقصود منه قطع طماعيتهم في النجاة.
والنهي عن الجؤار مستعمل في معنى التسوية. وورود النهي في معنى التسوية مقيس على ورود الأمر في التسوية. وعثرت على اجتماعهما في قوله تعالى: {فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} .
وجملة {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} تعليل للنهي المستعمل في التسوية، أي لا تجأروا إذ لا جدوى لجؤاركم إذ لا يقدر مجير أن يجيركم من عذابنا، فموقع إن إفادة التعليل لأنها تغني غناء فاء التفريع.
وضمن {تُنْصَرُونَ} معنى النجاة فعدي الفعل بمن، أي لا تنجون من عذابنا. فثم مضاف محذوف بعد من وحذف المضاف في مثل هذا المقام شائع في الاستعمال. وتقديم المجرور للاهتمام بجانب الله تعالى ولرعاية الفاصلة.
وقوله: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} استئناف. والخبر مستعمل في التنديم والتلهيف. وإنما لم تعطف الجملة على ملة {إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ} لقصد إفادة معنى بها غير التعليل إذ لا كبير فائدة في الجمع بين علتين.
والآيات هنا هي آيات القرآن بقرينة تتلى إذ التلاوة القراءة.
والنكوص: الرجوع من حيث أتى، وهو الفرار. والأعقاب: مؤخر الأرجل. والنكوص هنا تمثيل للإعراض وذكر الأعقاب ترشيح للتمثيل. وقد تقدم في قوله تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ} في سورة الأنفال.
وذكر فعل {كُنْتُمْ} للدلالة على أن ذلك شأنهم. وذكر المضارع للدلالة على التكرر فذلك خلق منهم معاد مكرور.
وضمير به يجوز أن يكون عائدا على الآيات لأنها في تأويل القرآن فيكون {مُسْتَكْبِرِينَ} بمعنى معرضين استكبارا ويكون الباء بمعنى عن، أو ضمن {مُسْتَكْبِرِينَ} معنى ساخرين فعدي بالباء للإشارة إلى تضمينه.
ويجوز أيضا أن يكون الضمير للبيت أو المسجد الحرام وإن لم يتقدم له ذكر لأنه حاضر في الأذهان فلا يسمع ضمير لم يتقدم له معاد إلا ويعلم أنه المقصود بمعونة السياق لا سيما وقد ذكر تلاوة الآيات عليهم. وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوا عليهم آيات القرآن في المسجد الحرام إذ هو مجتمعهم. فتكون الباء للظرفية. وفيه إنحاء عليهم في استكبارهم، وفي كون استكبارهم في ذلك الموضع الذي أمر الله أن يكون مظهرا للتواضع ومكارم الأخلاق، فالاستكبار في الموضع الذي شأن القائم فيه أن يكون قانتا لله حنيفا أشنع استكبار.
وعن منذر بن سعيد البلوطي الأندلسي قاضي قرطبة أن الضمير في قوله به للنبي صلى الله عليه وسلم والباء حينئذ للتعدية، وتضمين مستكبرين معنى مكذبين لأن استكبارهم هو سبب التكذيب. و {سَامِرَاً} حال ثانية من ضمير المخاطبين، أي حال كونكم سامرين. والسامر: اسم لجمع السامرين، أي المتحدثين في سمر الليل وهو ظلمته، أو ضوء قمره. وأطلق السمر على الكلام في الليل، فالسامر كالحاج والحاضر والجامل بمعنى الحجاج والحاضرين وجماعة الجمال. وعندي أنه يجوز أن يكون {سَامِرَاً} مرادا منه مجلس السمر حيث يجتمعون للحديث ليلا ويكون نصبه على نزع الخافض، أي في سامركم، كما قال تعالى: {وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ} .
و {تَهْجُرُونَ} بضم التاء وسكون الهاء وكسر الجيم في قراءة نافع مضارع أهجر: إذ
قال الهجر بضم الهاء وسكون الجيم وهو اللغو والسب والكلام السيء. وقرأ بقية العشرة بفتح التاء من هجر إذا لغا. والجملة في موضع الصفة لسامرا، أي في حال كونكم متحدثين هجرا وكان كبراء قريش يسمرون حول الكعبة يتحدثون بالطعن في الدين وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
[70,68] {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}
الفاء لتفريع الكلام على الكلام السابق وهو قوله: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} إلى قوله: {سَامِراً تَهْجُرُونَ} . وهذا التفريع معترض بين جملة {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} وجملة {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} .
والمفرع استفهامات عن سبب إعراضهم واستمرار قلوبهم في غمرة إلى أن يحل بهم العذاب الموعودونه.
وهذه الاستفهامات مستعملة في التخطئة على طريق المجاز المرسل لأن اتضاح الخطأ يستلزم الشك في صدوره عن العقلاء فيقتضي ذلك الشك السؤال عن وقوعه من العقلاء.
ومآل معاني هذه الاستفهامات أنها إحصاء لمثار ضلالهم وخطئهم لذلك خصت بذكر أمور من هذا القبيل. وكذلك احتجاج عليهم وقطع لمعذرتهم وإيقاظ لهم بأن صفات الرسول كلها دالة على صدقه.
فالاستفهام الأول عن عدم تدبرهم فيما يتلى عليهم من القرآن وهو المقصود بالقول أي الكلام، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} . والتدبر: إعمال النظر العقلي في دلالات الدلائل على ما نصت له. وأصله أنه من النظر في دبر الأمر، أي فيما منه للمتأمل بادئ ذي بدء. وقد تقدم عند قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} في سورة النساء.
والمعنى: أنهم لو تدبروا قول القرآن لعلموا أنه الحق بدلالة إعجازه وبصحة
أغراضه، فما كان استمرار عنادهم إلا لأنهم لم يدبروا القول. وهذا أحد العلل التي غمرت بهم في الكفر.
والاستفهام الثاني هو المقدر بعد أم وقوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} . فأم حرف إضراب انتقالي من استفهام إلى غيره وهي أم المنقطعة بمعنى بل ويلزمها تقدير استفهام بعدها لا محالة، فقوله: {جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ} تقديره: بل أجاءهم. والمجيء مجاز في الإخبار والتبليغ وكذلك الإتيان.
وما الموصولة صادقة على دين. والمعنى: أجاءهم دين لم يأت آباءهم الأولين وهو الدين الداعي إلى توحيد الإله وإثبات البعث، ولذلك كانوا يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} . ولهذا قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} .
ثم إنه إن كان المراد ظاهر معنى الصلة وهي {مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ} من أن الدين الذي جاءهم لا عهد لهم به تعين أن يكون في الكلام تهكم بهم إذ قد أنكروا دينا جاءهم ولم يسبق مجيئه لآباءهم. ووجه التهكم أن شأن كل رسول جاء بدين أن يكون دينه أنفا ولو كان للقوم مثله لكان مجيئه تحصيل حاصل.
وإن كان المراد من الصلة أنه مخالف لما كان عليه آباؤهم لأن ذلك من معنى: لم يأت آباءهم، كان الكلام مجرد تغليط، أي لا اتجاه لكفرهم به لأنه مخالف لما كان عليه آباؤهم إذ لا يكون الدين إلا مخالفا للضلالة ويكون في معنى قوله تعالى: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} .
وأما الاستفهام الثالث المقدر بعد أم الثانية في قوله: {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} فهو استفهام عن عدم معرفتهم الرسول بناء على ان عدم المعرفة به هو أحد احتمالين في شأنهم إذ لا يخلون عن أحدهما، فأما كونهم يعرفونه فهو المظنون بهم فكان الأجدر بالاستفهام وهو عدم معرفتهم به إذ تفرض كما يفرض الشيء المرجوح لأنه محل الاستغراب المستلزم للتغليط؛ فإن رميهم الرسول بالكذب وبالسحر والشعر يناسب أن لا يكونوا يعرفونه من قبل إذ العارف بالمرء لا يصفه بما هو منه بريء ولذلك تفرع على عدم
معرفتهم إنكارهم إياه، أي إنكارهم صفاته الكاملة.
فتعليق ضمر ذات الرسول ب {مُنْكِرُونَ} هو من باب إسناد الحكم إلى الذات والمراد صفاتها مثل {حُرِّمَتْ عَلَيكُم أُمَّهَاتُكُم} . وهذه الصفات هي الصدق والنزاهة عن السحر وأنه ليس في عداد الشعراء.
ولله در أبي طالب في قوله:
لقد علموا أن ابننا لا مكذب ... لدينا ولا يعزى لقول الأباطل
وقال تعالى فيما أمر به رسوله: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} أي القرآن {أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ} قوله: {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} ، وهو الاستفهام الرابع، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذبا.
والجنة: الجنون، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن.
والجنة يطلق على الجن وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} . ويطلق الجنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة. وتقدم عند قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ} في سورة الأعراف. وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتانا. وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام. ثم قد نقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهوبل.
والحق: الثابت في الواقع ونفس الأمر، يكون في الذوات وأوصافها. وفي الأجناس. وفي المعاني. وفي الأخبار. فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه السلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط.
فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع
ذلك من الشرائع النازلة بمكة كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم، والاعتراف للفاضل بفضله، وزجر الخبيث عن خبثه، وأخوة المسلمين بعضهم لبعض، والمساواة بينهم في الحق، ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين. ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان. والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم. فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال: {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} . ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسل حق نقضا لإنكارهم صدقه. ولقولهم هو مجنون كان ما بعد بل نقضا لقولهم.
وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير {أَكْثَرهُمْ} يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} فيكون المعنى: أكثر المشركين من قريش كارهون للحق. وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلفوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع. ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} إلى قوله: {لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} .
وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافا لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة. فكان المعنى: بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم فأما أكثرهم فكراهية للحق وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم.
وتقديم المعمول في قوله: {لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية.
[71] {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} عطف هذا الشرط الامتناعي على جملة {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} زيادة في التشنيع على أهوائهم فإنها مفضية إلى فساد العالم ومن فيه وكفى بذلك فظاعة وشناعة.
والحق هنا هو الحق المتقدم في قوله: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} وهو الشيء الموافق للوجود الواقعي ولحقائق الأشياء. وعلم من قوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} أن كراهة أكثرهم للحق ناشئة عن كون الحق مخالفا أهواءهم فسجل عليهم أنهم أهل هوى. والهوى شهوة ومحبة لما يلائم غرض صاحبه، وهو مصدر بمعنى المفعول. وإنما يجري الهوى على شهوة دواعي النفوس أعني شهوات الأفعال غير التي تقتضيها الجبلة، فشهوة الطعام والشراب ونحوهما مما تدعو إليه الجبلة ليست من الهوى وإنما الهوى شهوة ما لا تقتضيه الفطرة كشهوة الظلم وإهانة الناس، أو شهوة ما تقتضيه الجبلة لكن يشتهى على كيفية وحالة لا تقتضيها الجبلة لما يترتب على تلك الحالة من فساد وضر مثل شهوة الطعام المغصوب وشهوة الزنا، فمرجع معنى الهوى إلى المشتهى الذي لا تقتضيه الجبلة.
والاتباع: مجاز شائع في الموافقة، أي لو وافق الحق ما يشتهونه. ومعنى موافقة الحق الأهواء أن تكون ماهية الحق موافقة لأهواء النفوس. فإن حقائق الأشياء لها تقرر في الخارج سواء كانت موافقة لما يشتهيه الناس أم لم تكن موافقة له: فمنها الحقائق الوجودية وهي الأصل فهي متقررة في نفس الأمر مثل كون الإله واحدا، وكونه لا يلد وكونه البعث واقعا للجزاء، فكونها حقا هو عين تقررها في الخارج.
ومنها الحقائق المعنوية الموجودة في الاعتبار فهي متقررة في الاعتبارات. وكونها حقا هو كونها جارية على ما يقتضيه نظام العالم مثل كون الوأد ظلما، وكون القتل عدوانا، وكون القمار أخذ مال بلا حق لآخذه في أخذه، فلو فرض أن يكون الحق في أضداد هذه المذكورات لفسدت السماوات والأرض وفسد من فيهن، أي من في السماوات والأرض من الناس.
ووجه الملازمة بين فساد السماوات والأرض وفساد الناس وبين كون الحق جاريا على أهواء المشركين في الحقائق هو أن أهواءهم شتى؛ فمنها المتفق، وأكثرهم مختلف، وأكثر اتفاق أهوائهم حاصل بالشرك، فلو كان الحق الثابت في الواقع موافقا لمزاعمهم لاختلت أصول انتظام العوالم.
فإن مبدأ الحقائق هو حقيقة الخالق تعالى، فلو كانت الحقيقة هي تعدد الآلهة لفسدت العوالم بحكم قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقد تقدم تفصيله في سورة الأنبياء. وذلك أصل الحق وقوامه وانتقاضه انتقاض لنظام السماوات والأرض كما تقدم. وقد قال الله تعالى في هذه السورة: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} الآية، فمن هواهم الباطل أن جعلوا من كمال الله أن يكون له ولد.
ثم ننتقل بالبحث إلى بقية حقائق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الحق لو فرض أن يكون الثابت نقيض ذلك لتسرب الفساد إلى السماوات والأرض ومن فيهن. فلو فرض عدم البعث للجزاء لكان الثابت أن لا جزاء على العمل؛ فلم يعمل أحد خيرا إذ لا رجاء في ثواب. ولم يترك أحد شرا إلا إذ لا خوف من عقاب فيغمر الشر الخير والباطل الحق وذلك فساد لمن في السماوات والأرض قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} .
وكذا لو كان الحق حسن الاعتداء والباطل قبح العدل لارتمى الناس بعضهم على بعض بالإهلاك جهد المستطاع فهلك الضرع والزرع قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} ، وهكذا الحال في أهوائهم المختلفة. ويزيد أمرها فسادا بأن يتبع الحق كل ساعة هوى مخالفا للهوى الذي اتبعه قبل ذلك فلا يستقر نظام ولا قانون.
وهذا المعنى ناظر إلى معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} .
والظاهر أن من في قوله: {وَمَنْ فِيهِنَّ} صادقة على العقلاء من البشر والملائكة. ففساد البشر على فرض أن يكون جاريا على أهواء المشركين ظاهر مما قررناه.
وأما فساد الملائكة فلأن من أهواء المشركين زعمهم أن الملائكة بنات الله فلو كان الواقع أن حقيقة الملائكة بنوة الله لأفضى ذلك إلى أنهم آلهة لأن المتولد من جنس يجب
أن يكون مماثلا لما تولد هو منه إذ الولد نسخة من أبيه فلزم عليه ما يلزم على القول بتعدد الآلهة. وأيضا لو لم يكن من فصول حقيقة الملائكة أنهم مسخرون لطاعة الله وتنفيذ أوامره لفسدت حقائقهم فأفسدوا ما يأمرهم الله بإصلاحه وبالعكس فتنتقض المصالح.
ويجوز أن يكون من صادقا على المخلوقات كلها على وجه التغليب في استعمال من. ووجه الملازمة ينتظم بالأصالة مع وجه الملازمة بين تعدد الآلهة وبين فساد السماوات والأرض ثم يسري إلى اختلاف مواهي الموجودات فتصبح غير صالحة لما خلقت عليه، فيفسد العالم. وقد كان بعض الفلاسفة المتأخرين فرض بحثا في إمكان فناء العالم وفرض أسبابا إن وجد واحدا منها في هذا العالم، وعد من جملتها أن تحدث حوادث جوية تفسد عقول البشر كلهم فيتألبون على إهلاك العالم فلو أجرى الله النظام على مقتضى الأهواء من مخالفة الحق لما هو عليه في نفس الأمر كما يشتهون لعاد ذلك بالفساد على جميع العالم فكانوا مشمولين لذلك الفساد لأنهم من جملة ما في السماوات والأرض، فناهيك بأفن آراء لا تميز بين الضر والنافع لأنفسهما. وكفى بذلك شناعة لكراهيتهم الحق وإبطالا لزعمهم أن ما جاه به الرسول تصرفات مجنون.
{بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} إبطال لما اقتضاه الفرض في قوله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ} أي بل لم يتبع الحق أهواءهم فأبلغنا إليهم الحق على وجهه بالقرآن الذي هو ذكر لهم يوقظ عقولهم من سباتها. كأنه يذكر عقولهم الحق الذي نسيته بتقادم الزمان على ضلالات آبائهم التي سنوها لهم فصارت أهواء لهم ألفوها فلم يقبلوا انزياحا عنها وأعرضوا عن الحق بأنه خالفها، فجعل إبلاغ الحق لهم بالأدلة بمنزلة تذكير الناسي شيئا طال عهده به كما قال عمر بن الخطاب في كتابه إلى أبي موسى الأشعري فإن الحق قديم قال تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} .
وعدي فعل {أَتَيْنَاهُمْ} بالباء لأنه استعمل مجازا في الإرسال والتوجيه.
والذكر يجوز أن يكون مصدرا بمعنى التذكير. ويجوز أن يكون اسما للكلام الذي يذكر سامعيه بما غفل عنه وهو شأن الكتب الربانية. وإضافة الذكر إلى ضميرهم لفظية من الإضافة إلى مفعول المصدر.
والفاء لتفريع إعراضهم على الإتيان بالذكر إليهم، أي فتفرع على الإرسال إليهم
بالذكر إعراضهم عنه. والمعنى: أرسلنا إليهم القرآن ليذكرهم.
وقيل: إضافة الذكر إلى ضميرهم معنوية، أي الذكر الذي سألوه حين كانوا يقولون: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} فيكون الذكر على هذا مصدرا بمعنى الفاعل، أي ما يتذكرون به. والفاء على هذا الوجه فاء فصيحة، أي فها قد أعطيناهم كتابا فأعرضوا عن ذكرهم الذي سألوه كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي من رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ} ، وقول عباس ابن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسان
وقوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} .
والتعبير عن إعراضهم بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات إعراضهم وتمكنه منهم. وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكرهم ليكون إعراضهم عنه محل عجب.
[72] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
أم عاطفة على {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} وهلى للانتقال إلى استفهام آخر عن دواعي إعراضهم عن الرسول واستمرار قلوبهم في غمرة.
والاستفهام المقدر هنا إنكاري، أي ما تسألهم خرجا فيعتذروا بالإعراض عنك لأجله شحا بأموالهم. وهذا في معنى قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} على سبيل الفرض، والتقدير: إن كنت سألتكم أجرا فقد رددته عليكم فماذا يمنعكم من اتباعي. وقوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} كل ذلك على معنى التهكم. وأصرح منهما قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} .
وهذا الانتقال كان إلى غرض نفي أن يكون موجب إعراضهم عن دعوة الرسول جائيا من قبله وتسببه بعد أن كانت الاستفهامات السابقة الثلاثة متعلقة بموجبات الإعراض الجائية من قبلهم، فالاستفهام الذي في قوله: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً} إنكاري إذ لا يجوز أن يصدر عن الرسول ما يوجب إعراض المخاطبين عن دعوته فانحصرت تبعة الإعراض
فيهم.
والخرج: العطاء المعين على الذوات أو على الأرضين كالإتاوة، وأما الخراج فقيل هو مرادف الخرج وهو ظاهر كلام جمهور اللغويين. وعن ابن الأعرجي: التفرقة بينهما بأن الخرج بالإتاوة على الذوات والخراج الإتاوة على الأرضين.
وقيل الخرج: ما تبرع به المعطي والخراج: ما لزمه أوداؤه. وفي الكشاف: والوجه أن الخرج أخص من الخراج يريد أن الخرج أعم كما أصلح عبارته صاحب الفرائد في نقل الطيبي كقولك خراج القرية وخرج الكردة1 زيادة اللفظ لزيادة المعنى، ولذلك حسنت قراءةمن قرأ {خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير اه.
وهذا الذي ينبغي التعويل عليه لأن الأصل في اللغة عدم الترادف.
هذا وقد قرأ الجمهور {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} . وقرأ ابن عامر {خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ} . وقرأ حمزة والكسائي وخلف {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} .فأما قراءة الجمهور فتوجيهها على اعتبار ترادف الكلمتين أنها جرت على التفنن في الكلام تجنبا لإعادة اللفظ في غير المقام المقتضي إعادة اللفظين مع قرب اللفظين بخلاف قوله تعالى: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فإن لفظ أجر أعيد بعد ثلاثة ألفاظ.
وأما على اعتبار الفرق الذي اختاره الزمخشري فتوجيهها باشتمالها على التفنن وعلى محسن المبالغة.
وأما قراءة ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف فتوجيهها على طريقة الترادف أنهما وردتا على اختيار المتكلم في الاستعمال مع حسن المزاوجة بتماثل اللفظين. ولا توجهان على طريقة الزمخشري.
قال صاحب الكشاف: ألزمهم الله الحجة في هذه الآيات أي قوله: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} إلى هنا وقطع معاذيرهم وعللهم بأن الذي أرسل إليهم رجل معروف أمره وحاله، مخبور سره وعلنه، خليق بأن يجتبي مثله للرسالة من بين ظهرانيهم، وأنه لم
ـــــــ
1 الكرده – بضم الكاف وسكون الراء – الأرض ذات الزرع.
قال الهمذاني في "حاشيته" لا تعرفها العرب وإنما هي من كلام الكرد.
يعرض1 له حتى يدعي بمثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، ولم يجعل ذلك سلما إلى النيل من دنياهم واستعطاء أموالهم، ولم يدعهم إلا إلى دين الإسلام الذي هو الصراط المستقيم مع إبراز المكنون من أدوائهم وهو إخلالهم بالتدبر والتأمل، واستهتارهم بدين الآباء الضلال من غير برهان، وتعللهم بأنه مجنون بعد ظهور الحق وثبات التصديق من الله بالمعجزات والآيات النيرة، وكراهتهم للحق وإعراضهم عما فيه حظهم من الذكر اه.
وجملة: {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} معترضة تكميلا للغرض بالثناء على الله والتعريف بسعة فضله. ويفيد تأكيدا لمعنى {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} .
[74,73] {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}
أعقب تنزيه الرسول عما افتروه عليه بتنزيه الإسلام عما سموه به من الأباطيل والتنزيه بإثبات ضد ذلك وهو أنه صراط مستقيم، أي طريق لا التواء فيه ولا عقبات، فالكلام تعريض بالذين اعتقدوا خلاف ذلك. وإطلاق الصراط المستقيم عليه من حيث إنه موصل إلى ما يتطلبه كل عاقل من النجاة وحصول الخير، فكما أن السائر إلى ما طلبته لا يبلغها إلا بطريق، ولا يكون بلوغه مضمونا ميسورا إلا إذا كان الطريق مستقيما فالنبي صلى الله عليه وسلم لما دعاهم إلى الإسلام دعاهم إلى السير في طريق موصل بلا عناء.
والتأكيد بإن واللام باعتبار أنه مسوق للتعريض بالمنكرين على ما دعاهم إليه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك التوكيد في قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} . والتعبير فيه بالموصول وصلته إظهار في مقام الإضمار حيث عدل عن أن يقول: وإنهم عن الصراط لناكبون. والغرض منه ما تنبئ به الصلة من سبب تنكبهم عن الصراط المستقيم أن سببه عدم إيمانهم بالآخرة.
وتقدم قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} في سورة الحجر.
والتعريف في {الصِّرَاطِ} أي هم ناكبون عن الصراط من حيث هو حيث لم يتطلبوا طريق نجاة فهم ناكبون عن الطريق بله الطريق المستقيم ولذلك لم يكن التعريف
ـــــــ
1 فعل ملتزم بناؤه للنائب. ومعناه لم يكن مجنونا.
في قوله: {عَنِ الصِّرَاطِ} للعهد بالصراط المذكور لأن تعريف الجنس أتم في نسبتهم إلى الضلال بقرينة أنهم لا يؤمنون بالآخرة التي هي غاية العامل من عمله فهم إذن ناكبون عن كل صراط موصل إذ لا همة لهم في الوصول.
والناكب: العادل عن شيء، المعرض عنه، وفعله كنصر وفرح. وكأنه مشتق من المنكب وهو جانب الكتف لأن العادل عن شيء يولي وجهه عنه بجانبه.
[75] {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
عطف على جملة {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} وما بينهما اعتراضات باستدلال عليهم وتنديم وقطع لمعاذيرهم، أي ليسوا بحيث لو استجاب الله جؤارهم عند نزول العذاب بهم وكشف عنهم العذاب لعادوا إلى ما كانوا فيه من الغمرة والأعمال السيئة لأنها صارت سجية لهم لا تتخلف عنهم. وهذا في معنى قوله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} .
ولو هنا داخلة على الفعل الماضي المراد منه الاستقبال بقرينة المقام إذ المقام للإنذار والتأييس من الإغاثة عند نزول العذاب الموعود به، وليس مقام اعتذار من الله عن عدم استجابته لهم أو عن إمساك رحمته عنهم لظهور أن ذلك لا يناسب مقام الوعيد والتهديد. وأما مجيء هذا الفعل بصيغة المضي فذلك مراعاة لما شاع في الكلام من مقارنة لو لصيغة الحاضر لأن أصلها أن تدل على الامتناع في الماضي ولذلك كان الأصل عدم جزم الفعل بعدها.
واللجاج بفتح اللام: الاستمرار على الخصام وعدم الإقلاع عن ذلك، يقال: لج يلج ويلج بكسر اللام وفتحها في المضارع على اختلاف حركة العين في الماضي.
والطغيان: أشد الكبر. والعمه: التردد في الضلالة. وفي طغيانهم متعلق بيعمهون قدم عليه للاهتمام بذكره، وللرعي على الفاصلة. وفي للظرفية المجازية المراد منها معنى السببية. وتقدم قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة.
[77,76] {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}
استدلال على مضمون قوله: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي
طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
بسابق إصرارهم على الشرك والإعراض عن الالتجاء إلى الله وعدم الاتعاظ بأن ما حل بهم من العذاب هو جزاء شركهم.
والجملة المتقدمة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يعلم صدقه فلم يكن بحاجة إلى الاستظهار عليه. ولكنه لما كان متعلقا بالمشركين وكان بحيث يبلغ أسماعهم وهم لا يؤمنون بأنه كلام من لا شك في صدقه، كان المقام محفوفا بما يقتضي الاستدلال عليهم بشواهد أحوالهم فيما مضى؛ ولذلك وقع قبله {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} ، ووقع بعده {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} . والتعريف في قوله: {بِِالْعَذَابِ} للعهد، أي بالعذاب المذكور آنفا في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} الخ. ومصب الحال هو ما عطف على جملتها من قوله: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} ، فلا تتوهمن أن إعادة ذكر العذاب هنا تدل على أنه عذاب آخر غير المذكور آنفا مستندا إلى أن إعادة ذكر الأول لا طائل تحتها. وهذه الآية في معنى قوله في سورة الدخان: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} إلى قوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} . والمعنى فلم يكن حظهم حين أخذناهم بالعذاب إلا العويل والجوار دون التوبة والاستغفار.
وقيل: هذا عذاب آخر سابق للعذاب المذكور آنفا فيتركب هذا على التفاسير المتقدمة أنه عذاب الجوع الأول أو عذاب الجوع الثاني بالنسبة لعذاب يوم بدر.
والاستكانة: مصدر بمعنى الخضوع مشتقة من السكون لأن الذي يخضع يقطع الحركة أمام من خضع له، فهو افتعال من السكون للدلالة على تمكن السكون وقوته. وألفه ألف الافتعال مثل الاضطراب، والتاء زائدة كزيادتها في استعاذة.
وقيل الألف للإشباع، أي زيدت في الاشتقاق فلازمت الكلمة. وليس ذلك من الإشباع الذي يستعمله المستعملون شذوذا كقول طرفة:
ينباع من ذفري غضوب جسرة
أي ينبع. وأشار في الكشاف إلى الاستشهاد على الإشباع في نحوه إلى قول ابن هرمة:
وأنت من الغوائل حين ترمي ... ومن ذم الرجال بمنتزاح
أراد: بمنتزح، فأشبع الفتحة.
ويبعد أن يكون {اسْتَكَانُوا} استفعالا من الكون من جهتين: جهة مادته فإن معنى الكون فيه غير وجيه، وجهة صيغته لأن حمل السين والتاء فيه على معنى الطلب غير واضح.
والتعبير بالمضارع في {يَتَضَرَّعُونَ} لدلالته على تجدد انتفاء تضرعهم. والتضرع: الدعاء بتذلل، وتقدم في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} في سورة الأنعام. والقول في جملة {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} كالقول في: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} .
وإذا من قوله: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً} مثل إذا التي تقدمت في قوله: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِْْْْْ} الخ.
وفتح الباب تمثيل لمفاجأتهم بالعذاب بعد أن كان محجوزا عنه حسب قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} . وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} .
شبهت هيئة إصابتهم بالعذاب بعد أن كانوا في سلامة وعافية بهيئة ناس في بيت مغلق عليهم ففتح عليهم باب البيت من عدو مكروه، أو تقول: شبهت هيئة تسليط العذاب عليهم بهيئة فتح باب اختزن فيه العذاب فلما فتح الباب انهال العذاب عليهم. وهذا كما مثل بقوله وفار التنور وقولهم: طفحت الكأس بأعمال فلان، وقوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} وقول علقمة:
فحق لشاس من نداك ذنوب
ومنه قول الكتاب: فتح باب كذا على مصراعيه، تمثيلا لكثرة ذلك وأفاض عليه سجلا من الإحسان، وقول أبي تمام:
من شاعر وقف الكلام ببابه ... واكتن في كنفي ذراه المنطق
ووصف {بَابَاً} بكونه {ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} دون أن يضاف باب إلى عذاب فيقال: باب عذاب كما قال تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} لأن {ذَا عَذَابٍ} يفيد من شدة انتساب العذاب إلى الباب ما لا تفيده إضافة باب إلى عذاب، وليتأتى بذلك وصف {عَذَابٍ} بشديد بخلاف قوله: {سَوْطَ عَذَابٍ} فقد استغني عن وصفه بشديد بأنه معمول لفعل صب الدال على الوفرة.
والمراد بالعذاب الشديد عذاب مستقبل. والأرجح: أن المراد به عذاب السيف يوم بدر. وعن مجاهد: أنه عذاب الجوع.
وقيل: عذاب الآخرة. وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون الباب حقيقة وهو باب من أبواب جهنم كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} .
والإبلاس: شدة اليأس من النجاة. قال: أبلس، إذا ذل ويئس من التخلص، وهو ملازم للهمزة ولم يذكروا له فعلا مجردا. فالظاهر أنه مشتق من البلاس كسحاب وهو المسح، وأن أصل أبلس صار ذا بلاس. وكان شعار من زهدوا في النعيم. يقال: لبس المسوح، إذا ترهب.
وهنا انتهت الجمل المعترضة المبتدأة بجملة: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} وما تفرع عليها من قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} إلى قوله: {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} .
[78] {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}
هذا رجوع إلى غرض الاستدلال على انفراد الله تعالى بصفات الإلهية والامتنان بما منح الناس من نعمة لعلهم يشكرون بتخصيصه بالعبادة، وذلك قد انتقل عنه من قوله: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} فانتقل إلى الاعتبار بآية فلك نوح عليه السلام فأتبع بالاعتبار بقصص أقوام الرسل عقب قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} فالجملة إما معطوفة على جملة {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} والغرض واحد وما بينهما انتقالات.
وإما مستأنفة رجوعا إلى غرض الاستدلال والامتنان وقد تقدمت الإشارة إلى هذا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} .
وفي هذا الانتقال من أسلوب إلى أسلوب ثم الرجوع إلى الغرض تجديد لنشاط الذهن وتحريك للإصغاء إلى الكلام وهو من أساليب كلام العرب في خطبهم وطوالهم. وسماه السكاكي: قرى الأرواح، وجعله من آثار كرم العرب.
وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} تذكير بواحدانية الله تعالى.
والأظهر أن يكون ضمير الجلالة مسندا واسم الموصول مسندا إليه لأنهم علموا أن
منشئا أنشأ لهم السمع والأبصار، فصاحب الصلة هو الأولى بأن يعتبر مسندا إليه وهم لما عبدوا غيره نزلوا منزلة من جهل أنه الذي أنشأ لهم السمع فأتى لهم بكلام مفيد لقصر القلب أو الإفراد، أي الله الذي أنشأ ذلك دون أصنامكم. والخطاب للمشركين على طريقة الالتفات، أو لجميع الناس، أو للمسلمين، والمقصود منه التعريض بالمشركين.
والإنشاء: الإحداث، أي الإيجاد.
وجمع الأبصار والأفئدة باعتبار تعدد أصحابها. وأما إفراد السمع فجرى على الأصل في إفراد المصدر لأن أصل السمع أنه مصدر. وقيل: الجمع باعتبار المتعلقات فلما كان البصر يتعلق بأنواع كثيرة من الموجودات وكانت العقول تدرك أجناسا وأنواعا جمعا بهذا الاعتبار. وأفراد السمع لأنه لا يتعلق إلا بنوع واحد وهو الأصوات.
وانتصب {قَلِيلَاً} عل الحال من ضمير {لَكُمْ} . وما مصدرية. والتقدير: في حال كونكم قليلا شكركم. فإن كان الخطاب للمشركين فالشكر مراد به التوحيد، أي فالشكر الصادر منكم قليل بالنسبة إلى تشريككم غيره معه في العبادة؛ وإن كان الخطاب لجميع الناس فالشكر عام في كل شكر نعمة وهو قليل بالنسبة لقلة عدد الشاكرين، لأن أكثر الناس مشركون كما قال تعالى: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} . وإن كان الخطاب للمسلمين والمقصود التعريض بالمشركين فالشكر عام وتقليله تحريض على الاستزادة منه ونبذ الشرك.
[79] {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
هو على شاكلة قوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ} .
والذرء: البث. وتقدم في سورة الأنعام. وهذا امتنان بنعمة الإيجاد والحياة وتيسير التمكن من الأرض وإكثار النوع لأن الذرء يستلزم ذلك كله. وهذا استدلال آخر على انفراد الله تعالى بالإلهية إذ قد علموا أنه لا شريك له في الخلق فكيف يشركون معه الإلهية أصنافا هم يعلمون أنها لا تخلق شيئا، وهو أيضا استدلال على البعث لأن الذي أحيا الناس عن عدم قادر على إعادة إحيائهم بعد تقطع أوصالهم.
وقوبل الذرء بضده وهو الحشر والجمع، فإن الحشر يجمع كل من كان على الأرض من البشر، وفيه محسن الطباق.
والمقصود من هذه المقابلة الرد على منكري البعث، فتقديم المجرور في {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} تعريض بالتهديد بأنهم محشورون إلى الله فهو يجازيهم.
[80] {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} هو من أسلوب {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} . وأعقب ذكر الحشر بذكر الإحياء لأن إحياء إدماجا للاستدلال على إمكان البعث في الاستدلال على عموم التصرف في العالم.
وأما ذكر الإماتة فلمناسبة التضاد، ولأن فيها دلالة على عظيم القدرة والقهر. ولما كان من الإحياء خلق الإيقاض ومن الإماتة خلق النوم كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ} الآية عطف على ذلك أن بقدرته اختلاف الليل والنهار لتلك المناسبة، ولأن في تصريف الليل والنهار دلالة على عظيم القدرة، والعلم دلالة على الانفراد بصفات الإلهية وعلى وقوع البعث كما قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} .
واللام في: {لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} للملك، أي بقدرته تصريف الليل والنهار، فالنهار يناسب الحياة ولذلك يسمى الهبوب في النهار بعثا، والليل يناسب الموت ولذلك سمى الله النوم وفاة في قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ} .
وتقديم المجرور للقصر، أي له اختلاف الليل والنهار لا لغيره، أي فغيره لا تحق له الإلهية.
ولما كانت هذه الأدلة تفيد من نظر فيها علما بأن الإله واحد وأن البعث واقع وكان المقصودون بالخطاب قد أشركوا به ولم يهتدوا بهذه الأدلة جعلوا بمنزلة غير العقلاء فأنكر عليهم عدم العقل بالاستفهام الإنكاري المفرع على الأدلة الأربعة بالفاء في قوله أفلا تعقلون.
وهذا تذييل راجع إلى قوله: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} وما بعده.
[83,81] {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ,قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}{لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}
هذا إدماج لذكر أصل آخر من أصول الشرك وهو إحالة البعث بعد الموت. وبل للإضراب الإبطالي إبطالا لكونهم يعقلون، وإثبات لإنكارهم البعث مع بيان ما بعثهم على إنكاره وهو تقليد. والمعنى: أنهم لا يعقلون الأدلة لكنهم يتبعون أقوال آبائهم.
والكلام جرى على طريقة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة لأن الكلام انتقل من التقريع والتهديد إلى حكاية ضلالهم فناسب هذا الانتقال مقام الغيبة لما في الغيبة من الإبعاد فالضمير عائد إلى المخاطبين.
والقول هنا مراد به ما طابق الاعتقاد لأن الأصل في الكلام مطابقة اعتقاد قائله، فالمعنى: بل ظنوا مثل ما ظن الأولون.
والأولون: أسلافهم في النسب أو أسلافهم في الدين من الأمم المشركين.
وجملة: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا} إلخ. بدل مطابق من جملة: {قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} تفصيل لإجمال المماثلة، فالضمير الذي مع {قَالُوا} الثاني عائد إلى ما عاد إليه ضمير {قَالُوا} الأول وليس عائدا على {الْأَوَّلُونَ} . ويجوز جعل قالوا الثاني استئنافا بيانيا لبيان {مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} ويكون الضمير عائدا إلى {الْأَوَّلُونَ} . والمعنى واحد على التقديرين. وعلى كلا الوجهين فإعادة فعل {قَالُوا} من قبيل إعادة الذي عمل به في المبدل منه. ونكتته هنا التعجيب من هذا القول.
وقرأ الجمهور: {أَإِذَا مِتْنَا} بهمزتين على أنه استفهام عن الشرط. وقرأه ابن عامر بهمزة واحدة على صورة الخبر والاستفهام مقدر في جملة: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} .
وقرأ الجمهور: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} بهمزتين على تأكيد همزة الاستفهام الأولى بإدخال مثلها على جواب الشرط. وقرأه نافع وأبو جعفر بدون همزة استفهام ووجود همزة الاستفهام داخلة على الشرط كاف في إفادة الاستفهام عن جوابه.
والاستفهام إنكاري، وإذا ظرف لقوله: {لَمَبْعُوثُونَ} .
والجمع بين ذكر الموت والكون ترابا وعظاما لقصد تقوية الإنكار بتفظيع إخبار القرآن بوقوع البعث، أي الإحياء بعد ذلك التلاشي القوي.
وأما ذكر حرف إن في قولهم: {أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} فالمقصود منه حكاية دعوى البعث
بأن الرسول الذي يدعيها بتحقيق وتوكيد مع كونها شديدة الاستحالة، ففي حكاية توكيد مدعيها زيادة في تفظيع الدعوى في وهمهم.
وجملة: {لَقَدْ وُعِدْنَا} إلخ تعليل للإنكار وتقوية له. وقد جعلوا مستند تكذيبهم بالبعث أنه تكرر الوعد به في أزمان متعددة فلم يقع ولم يبعث واحد من آبائهم.
ووجه ذكر الآباء دفع ما عسى أن يقول لهم قائل: إنكم تبعثون قبل أن تصيروا ترابا وعظاما، فأعدوا الجواب بأن الوعد بالبعث لم يكن مقتصرا عليهم فيقعوا في شك باحتمال وقوعه بهم بعد موتهم وقبل فناء أجسامهم بل ذلك وعد قديم وعد به آباؤهم الأولون وقد مضت أزمان وشوهدت رفاتهم في أجداثهم وما بعث أحد منهم.
وجملة: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} من القول الأول وهي مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال يثيره قولهم: {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} وهو أن يقول سائل: فكيف تمالأ على هذه الدعوى العدد من الدعاة في عصور مختلفة مع تحققهم عدم وقوعه، فيجيبون بأن هذا الشيء تلقفوه عن بعض الأولين فتناقلوه.
والإشارة في قوله: {لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا} إلى ما تقدم في قولهم: {أَإِذَا مِتْنَا} إلى آخره، أي هذا المذكور من الكلام. وكذلك اسم الإشارة الثاني {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . وصيغة القصر بمعنى: هذا منحصر في كونه من حكايات الأولين. وهو قصر إضافي لا يعدو كونه من الأساطير إلى كونه واقعا كما زعم المدعون.
والعدول عن الإضمار إلى اسم الإشارة الثاني لقصد زيادة تمييزه تشهيرا بخطئه في زعمهم.
والأساطير: جمع أسطورة وهي الخبر الكاذب الذي يكسى صفة الواقع مثل الخرافات والروايات الوهمية لقصد التلهي بها. وبناء الأفعولة يغلب فيما يراد به التلهي مثل: الأعجوبة والأضحوكة والأرجوحة والأحدوثة وقد مضى قريبا.
[85,84] {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}
استئناف استدلال عليهم في إثبات الوحدانية لله تعالى عاد به الكلام متصلا بقوله: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} .
والاستفهام تقريري، أي أجيبوا عن هذا، ولا يسعهم إلا الجواب بأنها لله. والمقصود: إثبات لازم جوابهم وهو انفراده تعالى بالوحدانية.
و {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} شرط حذف جوابه لدلالة الاستفهام عليه، تقديره: فأجيبوني عن السؤال. وفي هذا الشرط توجيه لعقولهم أن يتأملوا فيظهر لهم أن الأرض لله وأن من فيها لله فإن كون جميع ذلك لله قد يخفى لأن الناس اعتادوا نسبة المسببات إلى أسبابها المقارنة والتصرفات إلى مباشريها فنبهوا بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } إلى التأمل، أي إن كنتم تعلمون علم اليقين، ولذلك عقب بقوله: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ، أي يجيبون عقب التأمل جوابا غير بطيء. وانظر ما تقدم في تفسير قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} في سورة الأنعام.
ووقعت جملة: {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} جوابا لإقرارهم واعترافهم بأنها لله. والاستفهام إنكاري إنكار لعدم تذكيرهم بذلك، أي تفطن عقولهم لدلالة ذلك على انفراده تعالى بالإلهية. وخص بالتذكر لما في بعضه من خفاء الدلالة والاحتياج إلى النظر.
[87,86] {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}
تكرير الأمر بالقول وإن كان المقول مختلفا دون أن تعطف جملة {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} لأنها وقعت في سياق التعداد فناسب أن يعاد الأمر بالقول دون الاستغناء بحرف العطف. والمقصود وقوع هذه الأسئلة متتابعة دفعا أهم بالحجة، ولذلك لم تعد في السؤالين الثاني والثالث جملة {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} اكتفاء بالافتتاح بها.
وقرأ الجمهور {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} بلام جارة لاسم الجلالة على أنه حكاية لجوابهم المتوقع بمعناه لا بلفظه، لأنهم لما سئلوا بمن التي هي للاستفهام عن تعيين ذات المستفهم عنه كان مقتضى الاستعمال أن يكون الجواب بذكر اسم ذات المسؤول عنه، فكان العدول عن ذلك إلى الجواب عن كون السماوات السبع والعرش مملوكة لله عدولا إلى جانب المعنى دون اللفظ مراعاة لكون المستفهم عنه لوحظ بوصف الربوبية والربوبية تقتضي الملك. ونظير هذا الاستعمال ما أنشده القرطبي وصاحب المطلع1
ـــــــ
1 المطلع تفسير للقرآن اسمه "مطلع المعاني ومنبع المباني" لحسام الذين محمد بن عثمان العليا بادي السمرقندي كان حيا سنة / 628/ه.
إذا قيل: من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد ? قلت: لخالد
ولم أقف على من سبقهما بذكر هذا البيت ولعلهما أخذاه من تفسير الزجاج ولم يعزواه إلى قائل ولعل قائله حذا به حذو استعمال الآية.
وأقول: إن الأجدر أن نبين وجه صوغ الآية بهذا الأسلوب فأرى أن ذلك لقصد التعريض بأنهم يحترزون عن أن يقولوا: رب السماوات السبع الله، لأنهم أثبتوا مع الله أربابا في السماوات إذ عبدوا الملائكة فهم عدلوا عما فيه نفي الربوبية عن معبوداتهم واقتصروا على الإقرار بأن السماوات ملك لله لأن ذلك لا يبطل أوهام شركهم من أصلها؛ ألا ترى أنهم يقولون في التلبية في الحج لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك. ففي حكاية جوابهم بهذا اللفظ تورك عليهم، ولذلك ذيل حكاية جوابهم بالإنكار عليهم انتفاء اتقائهم الله تعالى.
وقرأه أبو عمرو ويعقوب سيقولون لله بدون لام الجر وهو كذلك في مصحف البصرة وبذلك كان اسم الجلالة مرفوعا على أنه خبر من في قوله: {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ} والمعنى واحد.
ولم يؤت مع هذا الاستفهام بشرط {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ونحوه كما جاء في سابقه لأن انفراد الله تعالى بالربوية في السماوات والعرش لا يشك فيه المشركون لأنهم لم يزعموا إلهية أصنامهم في السماوات والعوالم العلوية.
وخص وعظهم عقب جوابهم بالحث على تقوى الله لأنه لما تبين من الآية التي قبلها أنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بأن الله مالك الأرض ومن فيها وعقبت تلك الآية بحظهم على التذكير ليظهر لهم أنهم عباد الله لا عباد الأصنام. وتبين من هذه الآية أنه رب السماوات وهي أعظم من الأرض وأنهم لا يسعهم إلا الاعتراف بذلك ناسب حثهم على تقواه لأنه يستحق الطاعة له وحده وان يطيعوا رسوله فإن التقوى تتضمن طاعة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
وحذف مفعول {تَتَّقُونَ} لتنزيل الفعل منزلة القاصر لأنه دال على معنى خاص وهو التقوى الشاملة لامتثال المأمورات واجتناب المنهيات.
[89,88] {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}
قد عرفت آنفا نكتة تكرير القول.
والملكوت: مبالغة في الملك بضم الميم. فالملكوت: الملك المقترن بالتصرف في مختلف الأنواع والعوالم لذلك جاء بعده {كُلَّ شَيءٍ} .
واليد: القدرة. ومعنى {يُجِيرُ} يغيث ويمنع من يشاء من الأذى. ومصدره الإجارة فيفيد معنى الغلبة، وإذا عدي بحرف الاستعلاء أفاد أن المجرور مغلوب على أن لا ينال المجار بأذى، فمعنى {لَا يُجَارُ عَلِيهِ} لا يستطيع أحد أن يمنع أحدا من عقابه، فيفيد معنى العزة التامة.
وبني فعل {يُجَارُ عَلَيهِ} للمجهول لقصد انتفاء الفعل عن كل فاعل فيفيد العموم مع الاختصار.
ولما كان تصرف الله هذا خفيا يحتاج إلى تدبر العقل لإدراكه عقب الاستفهام بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} كما عقب الاستفهام الأول بمثله حثا لهم على علمه والاهتداء إليه.
ثم عقب بما يدل على أنهم إذا تدبروا علموا فقيل: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} .
وقرأ الجمهور: {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} بلام الجر داخلة على اسم الجلالة مثل سالفه. وقرأه أبو عمرو ويعقوب بدون لام وقد علمت ذلك في نظيره السابق.
وأنى يجوز أن تكون بمعنى من أين كما تقدم في سورة آل عمران {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} والاستفهام تعجيبي. والسحر مستعار لترويج الباطل بجامع تخيل ما ليس بواقع واقعا. والمعنى: فمن أين اختل شعوركم فراج عليكم الباطل. فالمراد بالسحر ترويج أئمة الكفر عليهم الباطل حتى جعلوهم كالمسحورين.
[90] {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
إضراب لإبطال أن يكونوا مسحورين، أي بل ليس الأمر كما خيل إليهم، فالذي أتيناهم به الحق يعني القرآن. والباء للتعدية كما يقال: ذهب به. أي أذهبه. وهذا كقوله آنفا: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} .
والعدول عن الخطاب من قوله: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} إلى الغيبة التفات لأنهم الموجه إليهم الكلام في هذه الجملة. والحق هنا: الصدق فلذلك قوبل بنسبتهم إلى الكذب فيما رموا به القرءان من قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . وفي
مقابلة الحق بكاذبون محسن الطباق.
وتأكيد نسبتهم إلى الكذب بإن واللام لتحقيق الخبر.
وقد سلكت في ترتيب هذه الأدلة طريقة الترقي؛ فابتدئ بالسؤال عن مالك الأرض ومن فيها لأنها أقرب العوالم لإدراك المخاطبين ثم ارتقى إلى الاستدلال بربوبية السماوات والعرش، ثم ارتقي إلى ما هو أعم وأشمل وهو تصرفه المطلق في الأشياء كلها ولذلك اجتلبت فيه أداة العموم وهي كل.
[92,91] {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
أتبع الاستدلال على إثبات الوحدانية لله تعالى بالاستدلال على انتفاء الشركاء له في الإلهية. وقدمت النتيجة على القياس لتجعل هي المطلوب فإن النتيجة والمطلوب متحدان في المعنى مختلفان بالاعتبار، فهي باعتبار حصولها عقب القياس تسمى نتيجة، وباعتبار كونها دعوى مقام عليها الدليل وهو المقياس تسمى مطلوبا كما في علم المنطق. ولتقديمها نكتة أن هذا المطلوب واضح النهوض لا يفتقر إلى دليل إلا لزيادة الاطمئنان فقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} هو المطلوب وقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} إلى آخر الآية هو الدليل. وتقديم هذا المطلوب على الدليل أغنى عن التصريح بالنتيجة عقب الدليل. وذكر نفي الولد استقصاء للرد على مختلف عقائد أهل الشرك من العرب فإن منهم من توهم أنه ارتقى عن عبادة الأصنام فعبدوا الملائكة وقالوا: هم بنات الله.
وإنما قدم نفي الولد على نفي الشريك مع أن أكثر المشركين عبدة أصنام لا عبدة الملائكة نظرا إلى أن شبهة عبدة الملائكة أقوى من شبهة عبدة الأصنام لأن الملائكة غير مشاهدين فليست دلائل الحدوث بادية عليهم كالأصنام، ولأن الذي زعموهم بنات الله أقرب للتمويه من الذين زعموا الحجارة شركاء لله، فقد أشرنا إلى ذلك آنفا عند قوله تعالى: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} الآية.
وإذن حرف جواب وجزاء لكلام قبلها ملفوظ أو مقدر. والكلام المجاب هنا هو ما تضمنه قوله: {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} فالجواب ضد ذلك النفي. وإذ قد كان هذا الضد أمرا مستحيل وقوع تعين أن يقدر له شرط على وجه الفرض والتقدير، والحرف المعد
لمثل هذا الشرط هولو الامتناعية، فالتقدير: ولو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق.
وبقاء اللام في صدر الكلام الواقع بعد إذن دليل على أن المقدر شرط لو لأن اللام تلزم جواب لو ولأن غالب مواقع إذن أن تكون جواب لو فلذلك جاز حذف الشرط هنا لظهور تقديره.
وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى: {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} في سورة النساء.
فقوله: {إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} استدلال على امتناع أن يكون مع الله آلهة.
وإنما لم يستدل على امتناع أن يتخذ الله ولدا لأن الاستدلال على ما بعده مغن عنه لأن ما بعده أعم منه وانتفاء الأعم يقتضي انتفاء الأخص فإنه لو كان لله ولدا لكان الأولاد آلهة لأن ولد كل موجود إنما يتكون على مثل ماهية أصله كما دل عليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي له.
والذهاب في قوله: {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ} مستعار للاستقلال بالمذهوب به وعدم مشاركة غيره له فيه. وبيان انتظام هذا الاستدلال أنه لو كان مع الله آلهة لاقتضى ذلك أن يكون الآلهة سواء في صفات الإلهية وتلك الصفات كمالات تامة فكان كل إله خالقا لمخلوقات لثبوت الموجودات الحادثة وهي مخلوقة، فلا جائز أن تتوارد الآلهة على مخلوق واحد لأن ذلك: إما لعجز عن الانفراد بخلق بعض المخلوقات وهذا لا ينافي إلهية، وإما تحصيل للحاصل وهو محال، فتعين أن ينفرد كل إله بطائفة من المخلوقات. ولنفرض أن تكون مخلوقات كل إله مساوية لمخلوقات غيره بناء على أن الحكمة تقتضي مقدارا معينا من المخلوقات يعلمها الإله الخالق لها؛ فتعين أن لا تكون للإله الذي لم يخلق طائفة من المخلوقات ربوبية على ما لم يخلقه وهذا يفضي إلى نقص في كل من الآلهة وهو يستلزم المحال لأن الإلهية تقتضي الكمال لا النقص. ولا جرم أن تلك المخلوقات ستكون بعد خلقها معرضة للزيادة والنقصان والقوة والضعف بحسب ما يحف بها عن عوارض الوجود التي لا تخلو عنها المخلوقات كما هو مشاهد في مخلوقات الله تعالى الواحد. ولا مناص عن ذلك لأن خالق المخلوقات أودع فيها خصائص ملازمة لها كما اقتضته حكمته، فتلك المخلوقات مظاهر لخصائصها لا محالة فلا جرم أن ذلك يقتضي تفوق مخلوقات بعض الآلهة على مخلوقات بعض آخر بعوارض من التصرفات والمقارنات لازمة لذلك، لا جرم يستلزم ذلك كله لازمين باطلين:
أولهما أن يكون كل إله مختصا بمخلوقاته فلا يتصرف فيها غيره من الآلهة ولا يتصرف هو في مخلوقات غيره، فيقتضي ذلك أن كل إله من الآلهة عاجز عن التصرف في مخلوقات غيره. وهذا يستلزم المحال لأن العجز نقص والنقص ينافي حقيقية الإلهية. وهذا دليل برهاني على الوحدانية لأنه أدى إلى استحالة ضدها. فهذا معنى قوله تعالى: {لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} .
وثاني اللازمين أن تصير مخلوقات بعض الآلهة أوفر أو أقوى من مخلوقات إله آخر بعوارض تقتضي ذلك من آثار الأعمال النفسانية وآثار الأقطار والحوادث كما هو المشاهد في اختلاف أحوال مخلوقات الله تعالى الواحد، فلا جرم أن ذلك يفضي إلى اعتزاز الإله الذي تفوقت مخلوقاته على الإله الذي تنحط مخلوقاته، وهذا يقتضي أن يصير بعض تلك الإلهة أقوى من بعض وهو مناف للمساواة في الإلهية. وهذا معنى قوله تعالى: {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
وهذا الثاني بناء على المعتاد من لوازم الإلهية في أنظار المفكرين، وإلا فيجوز اتفاق الآلهة على أن لا يخلقوا مخلوقات قابلة للتفاوت بأن لا يخلقوا إلا حجارة أو حديدا مثلا: إلا أن هذا ينافي الواقع في المخلوقات.
ويجوز اتفاق الآلهة أيضا على أن لا يعتز بعضهم على بعض بسبب تفاوت ملكوت كل على ملكوت الآخر بناء على ما اتصفوا به من الحكمة المتماثلة التي تعصمهم عن صدور ما يؤدي إلى اختلال المجد الإلهي؛ إلا أن هذا المعنى لا يخلو من المصانعة وهي مشعرة بضعف المقدرة. فبذلك كان الاستدلال الذي في هذه الآية برهانيا، وهو مثل الاستدلال الذي في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} إلا أن هذا بني على بعض لزوم النقص في ذات الآلهة وهو ما لا يجوزه المردود عليهم، والآخر بني على لزوم اختلال أحوال المخلوقات السماوية والأرضية وهو ما تبطله المشاهدة.
أما الدليل البرهاني الخالص على استحالة تعدد الآلهة بالذات فله مقدمات أخرى قد وفى أئمة علم الكلام بسطها بما لا رواج بعده لعقيدة الشرك. وقد أشار إلى طريقة منها المحقق عمر القزويني1 في هذا الموضع من حاشيته على الكشاف ولكنه انفرد بادعاء مأخوذ من الآية وليس كما ادعى. وقد ساقه الشهاب الآلوسي فإن شئت فتأمله.
ـــــــ
1 هو عمر بن عبد الرحمن القزويني الفارسي المتوفى / 745/ ه. له حاشية على الكشاف تدعى بين أهل العلم باسم الكشف. ولم يسميها مؤلفها بهذا الاسم. أخذ عن شرف الدين الطيبي.
ولما اقتضى هذا الدليل بطلان قولهم عقب الدليل بتنزيه الله تعالى عن أقوال المشركين بقوله تعالى: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} وهو بمنزلة نتيجة الدليل. وما يصفونه به هو ما اختصوا بوصفهم الله به من الشركاء في الإلهية ومن تعذر البعث عليه ونحو ذلك وهو الذي جرى فيه غرض الكلام.
وإنما أتبع الاستدلال على انتفاء الشريك بقوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} المراد به عموم العلم وإحاطته بكل شيء كما أفادته لام التعريف في {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} من الاستغراق الحقيقي، أي عالم كل مغيب وكل ظاهر، لدفع توهم أن يقال: إن استقلال كل إله بما خلق قد لا يفضي إلى علو بعض الآلهة على بعض، لجواز أن لا يعلم أحد من الآلهة بمقدار تفاوت ملكوته على ملكوت الآخر فلا يحصل علو بعضهم على بعض لاشتغال كل إله بملكوته. ووجه الدفع أن الإله إذا جاز أن يكون غير خالق لطائفة من المخلوقات التي خلقها غيره لئلا تتداخل القدر في مقدورات واحدة لا يجوز أن يكون غير عالم بما خلقه غيره لأن صفات العلم لا تتداخل، فإذا علم أحد الآلهة مقدار ملكوت شركائه فالعالم بأشدية ملكوته يعلو على من هو دونه في الملكوت، فظهر أن قوله: {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} من تمام الاستدلال على انتفاء الشركاء، ولذلك فرع عنه بالفاء قوله: {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف {عَالِمُ الْغَيْبِ} برفع {عَالِمُ} على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو من الحذف الشائع في الاستعمال إذا أريد الإخبار عن شيء بعد أن أجريت عليه أخبار أو صفات.
وقرأه ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم ويعقوب بجر عالم على الوصف لاسم الجلالة في قوله: {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} .
وما مصدرية. والمعنى: فتعالى عن إشراكهم، أي هو أعظم من أن يكون موصوفا بكونه مشاركا في وصفه العظيم، أي هو منزه من أن يكون موصوفا بكونه مشاركا في وصفه العظيم، أي هو منزه عن ذلك.
[95,93] {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} .
آذنت الآيات السابقة بأقصى ضلال المشركين وانتفاء عذرهم فيما دانوا به الله وبغضب الله عليهم لذلك، وأنهم سواء في ذلك مع الأمم التي عجل الله لها العذاب في
الدنيا وادخر لها عذابا آخر في الآخرة، فكان ذلك نذارة لهم بمثله وتهديدا بما سيقولونه وكان مثارا لخشية النبي صلى الله عليه وسلم أن يحل العذاب بقومه في حياته والخوف من هوله فلقن الله نبيه أن يسأل النجاة من ذلك العذاب. وفي هذا التلقين تعريض بأن الله منجيهم من العذاب بحكمته، وإيماء إلى أن الله يري نبيه حلول العذاب بمكذبيه كما هو شأن تلقين الدعاء كما في قوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} الآية.
فهذه الجملة استئناف بياني جوابا عما يختلج في نفس رسول الله عليه الصلاة والسلام. وقد تحقق ذلك فيما حل بالمشركين يوم بدر ويوم حنين، فالوعيد المذكور هنا وعيد بعقاب في الدنيا كما يقتضيه قوله: {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
وذكر في هذا الدعاء لفظ رب مكررا تمهيدا للإجابة لأن وصف الربوبية يقتضي الرأفة بالمربوب.
وأدخل بعد حرف الشرط ما الزائدة للتوكيد فاقترن فعل الشرط بنون التوكيد لزيادة تحقيق ربط الجزاء بالشرط.
ونظيره في تكرير المؤكدات بين الشرط وجوابه قول الأعشى:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا ... إنا كذلك ما نحفى وننتعل
أي فاعلمي حقا أنا نحفى تارة وننتعل اخرى لأجل ذلك، أي لأجل إخفاء الخطى لا للأجل وجدان نعل مرة وفقدانها أخرى كحال أهل الخصاصة.
وقد تقدم في قوله: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} في آخر الأعراف.
والمعنى: إذا كان ما يوعدون حاصلا في حياتي فأنا أدعوكم أن لا تجعلوني فيهم حينئذ.
واستعمال حرف الظرفية من قوله: {فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يشير إلى أنه أمر ان يسأل الكون في موضع غير موضع المشركين، وقد تحقق ذلك بالهجرة إلى المدينة فالظرفية هنا حقيقية، أي بينهم.
والخبر الذي هو قوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} مستعمل في إيجاد الرجاء بحصول وعيد المكذبين في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا فلا حاجة إلى إعلام الرسول بقدرة الله على ذلك.
وفي قوله: {أَنْ نُرِيَكَ} إيماء إلى أنه في منجاة من أن يلحقه ما يوعدون به وأنه
سيراه مرأى عين دون كون فيه. وقد يبدو أن هذا وعد غريب لأن المتعارف أن يكون العذاب سماويا فإذا نجى الله منه بعض رسله مثل لوط فإنه يبعده عن موضع العذاب ولكن كان عذاب هؤلاء غير سماوي فتحقق في مصرع صناديدهم يوم بدر بمرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقف رسول الله على القليب قليب بدر وناداهم بأسمائهم واحدا واحدا وقال لهم: "لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا". وبهذا القصد يظهر موقعي حرفي التأكيد إن واللام من إصابة محز الإعجاز.
{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} لما أنبأ الله رسوله عليه الصلاة والسلام بما يلمح له بأنه منجز وعيده من الذين كذبوه فعلم الرسول والمسلمون أن الله ضمن لهم النصر أعقب ذلك بأن أمره بأن يدفع مكذبيه بالتي هي أحسن وأن لا يضيق بتكذيبهم صدره فلذلك دفع السيئة بالحسنة كما هو أدب الإسلام. وسيأتي بيانه في سورة فصلت عند قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} .
وقوله: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} خبر مستعمل كناية عن كون الله يعامل أصحاب الإساءة لرسوله بما هم أحقاء به من العقاب لأن الذي هو أعلم بالأحوال يجري عمله على مناسب تلك الأحوال بالعدل وفي هذا تطمين لنفس الرسول صلى الله عليه وسلم.
وحذف مفعول {يَصِفُونَ} وتقديره: بما يصفونك، أي مما يضيق به صدرك، وذلك تعهد بأنه يجازيهم على ما يعلم منهم فرب أحد يبدو منه السوء ينطوي ضميره على بعض الخير فقد كان فيهم من يحدب على النبي في نفسه، ورب أحد هو بعكسه كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} .
و {الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} مراد بها الحسنة الكاملة، فاسم التفضيل للمبالغة مثل قوله: {السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ} .
والتخلق بهذه الآية هو أن المؤمن الكامل ينبغي له أن يفوض أمر المعتدين عليه إلى الله فهو يتولى الانتصار لمن توكل عليه وأنه إن قابل السيئة بالحسنة كان انتصار الله أشفى لصدره وأرسخ في نصره، وماذا تبلغ قدرة المخلوق تجاه قدرة الخالق، وهو الذي هزم الأحزاب بلا جيوش ولا فيالق.
وهكذا كان خلق النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان لا ينتقم لنفسه وكان يدعو ربه. وذكر في
المدارك في ترجمة عبد الله بن غانم: أن رجلا يقال له ابن زرعة كان له جاه ورئاسة، وكان ابن غانم حكم عليه بوجه حق ترتب عليه، فلقي ابن غانم في موضع خال فشتمه فأعرض عنه ابن غانم، فلما كان بعد ذلك لقيه بالطريق فسلم ابن زرعة على ابن غانم فرد عليه ابن غانم ورحب به ومضى معه إلى منزله وعمل له طعاما فلما أراد مفارقته قال لابن غانم: يا أبا عبد الرحمان اغفر لي واجعلني في حل مما كان من خطابي فقال له ابن غانم: أما هذا فلست أفعله حتى أوقفك بين يدي الله تعالى، وأما أن ينالك مني في الدنيا مكروه أو عقوبة فلا.
[98,97] {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}
الظاهر أن يكون المعطوف مواليا للمعطوف هو عليه، فيكون قوله: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} متصلا بقوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} فلما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يفوض جزاءهم إلى ربه أمره بالتعوذ من حيلولة الشياطين داعية الغضب والانتقام في نفس النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون {الشَّيَاطِينِ} مستعملا في حقيقته. والمراد من همزات الشياطين: تصرفاتهم بتحريك القوى التي في نفس الإنسان أي في غير أمور التبليغ مثل تحريك القوة الغضبية كما تأول الغزالي في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: "ولكن الله أعانني عليه فأسلم" . ويكون أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام بالتعوذ من همزات الشياطين مقتضيا تكفل الله تعالى بالاستجابة كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} ، أو أن يكون أمره بالتعوذ من همزات الشياطين مرادا به الاستمرار على السلامة منهم. قال في الشفاء: الأمة مجتمعة أي مجمعة على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من الشيطان لا في جسمه بأنواع الأذى، ولا على خاطره بالوساوس.
ويجوز أن تكون جملة {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} عطفا على جملة {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} بأن أمره الله بأن يلجأ إليه بطلب الوقاية من المشركين وأذاهم، فيكون المراد من الشياطين المشركين فإنهم شياطين الإنس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ} ويكون هذا في معنى قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} إلى قوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فيكون المراد: أعوذ بك من همزات القوم الظالمين أو من
همزات الشياطين منهم.
والهمز حقيقته: الضغط باليد والطعن بالإصبع ونحوه، ويستعمل مجازا بمعنى الأذى بالقول أو بالإشارة، ومنه قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} .
ومحمله هنا عندي على المعنى المجازي على كلا الوجهين في المراد من الشياطين. وهمز شياطين الجن ظاهر، وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له.
ومعنى التعوذ من همزهم: التعوذ من آثار ذلك فإن من ذلك أن يغمزوا بعض سفهائهم إغراء لهم بأذاه، كما وقع في قصة إغرائهم من أتى بسلا جزور فألقاه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته حول الكعبة. وهذا الوجه في تفسير الشياطين هو الأليق بالغاية في قوله: {حتى إذا جاء أحدهم الموت} كما سيأتي.
وأما قوله: {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} فهو تعوذ من قربهم لأنهم إذا اقتربوا منه لحقه أذاهم.
[100,99] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} .
حتى ابتدائية وقد علمت مفادها غير مرة، وتقدمت في سورة الأنبياء؛ ولا تفيد أن مضمون ما قبلها مغيا بها فلا حاجة إلى تعليق حتى بيصفون. والوجه أن حتى متصلة بقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} . فهذا انتقال إلى وصف ما يلقون من العذاب في الآخرة بعد أن ذكر عذابهم في الدنيا فيكون قوله هنا: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} وصفا أنفا لعذابهم في الآخرة. وهو الذي رجحنا به أن يكون ما سبق ذكره من العذاب ثلاث مرات عذابا في الدنيا لا في الآخرة. فإن حملت العذاب السابق الذكر على عذاب الآخرة كان ذلك إجمالا وكان قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} إلى آخره تفصيلا له.
وضمائر الغيبة عائدة إلى ما عادت عليه الضمائر السابقة من قوله: {قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} إلى ما هنا وليست عائدة إلى الشياطين.
ولقصد إدماج التهديد بما سيشاهدون من عذاب أعد لهم فيندمون على تفريطهم في مدة حياتهم.
وضمير الجمع في {ارْجِعُونِ} تعظيم للمخاطب. والخطاب بصيغة الجمع لقصد التعظيم طريقة عربية، وهو يلزم صيغة التذكير فيقال في خطاب المرأة إذا قصد تعظيمها: أنتم. ولا يقال: أنتن. قال العرجي:
فإن شئت حرمت النساء سواكم ... وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا
فقال: سواكم. وقال جعفر بن علبة الحارثي من شعراء الحماسة:
فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ... لشيء ولا أني من الموت أفرق
فقال: بعدكم، وقد حصل لي هذا باستقراء كلامهم ولم أر من وقف عليه.
وجملة الترجي في موضع العلة لمضمون {ارْجِعُونِ} .
والترك هنا مستعمل في حقيقته وهو معنى التخلية والمفارقة. وما صدق ماتركت عالم الدنيا. ويجوز أن يراد بالترك معناه المجازي وهو الإعراض والرفض، على أن يكون ما صدق الموصول الإيمان بالله وتصديق رسوله، فذلك هو الذي رفضه كل من يموت على الكفر، فالمعنى: لعلي أسلم وأعمل صالحا في حالة إسلامي الذي كنت رفضته، فاشتمل هذا المعنى على وعد بالامتثال واعتراف بالخطأ فيما سلف. وركب بهذا النظم الموجز قضاء لحق البلاغة.
وكلا ردع للسامع ليعلم إبطال طلبة الكافر.
وقوله: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} تركيب يجري مجرى المثل وهو من مبتكرات القرآن. وحاصل معناه: أن قول المشرك {رَبِّ ارْجِعُونِ} الخ لا يتجاوز أن يكون كاملا صدر من لسانه لا جدوى له فيه، أي لا يستجاب طلبه به.
فجملة {هُوَ قَائِلُهَا} وصف لكلمة، أي هي كلمة هذا وصفها. وإذ كان من المحقق أنه قائلها لم يكن في وصف كلمة به فائدة جديدة فتعين أن يكون الخبر مستعملا في معنى أنه لا وصف لكلمته غير كونها صدرت من في صاحبها.
وبذلك يعلم أن التأكيد بحرف إن لتحقيق المعنى الذي استعمل له الوصف.
والكلمة هنا مستعمل في الكلام كقول النبي صلى الله عليه وسلم: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة
لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
وكما في قولهم: كلمة الشهادة وكلمة الإسلام. وتقدم قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ} في سورة براءة.
والوراء هنا مستعار للشيء الذي يصيب المرء لا محالة ويناله وهو لا يظنه يصيبه. شبه ذلك بالذي يريد اللحاق بالسائر فهو لاحقه، وهذا كقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} قوله: من ورائهم جهنم وقوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} . وتقدم قوله: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} .
وقال لبيد:
أليس ورائي أن تراخت منيتي ... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
والبرزخ: الحاجز بين مكانين. قيل: المراد به في هذه الآية القبر، وقيل: هو بقاء مدة الدنيا. وقيل: هو عالم بين الدنيا والآخرة تستقر فيه الأرواح فتكاشف على مقرها المستقبل. وإلى هذا مال الصوفية. وقال السيد في التعريفات: البرزخ العالم المشهود بين عالم المعاني المجردة وعالم الأجسام المادية، أعني الدنيا والآخرة ويعبر به عن عالم المثال اه، أي عند الفلاسفة القدماء.
ومعنى {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أنهم غير راجعين إلى الحياة إلى يوم البعث.
فهي إقناط لهم لأنهم يعلمون ان يوم البعث الذي وعدوه لا رجوع بعده إلى الدنيا فالذي قال لهم {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} هو الذي أعلمهم بما هو البعث.
[104,101] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}
تفريع على قوله: {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فإن زمن النفخ في الصور هو يوم البعث. فالتقدير: فإذا جاء يوم يبعثون، ولكن عدل عن ذلك إلى {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} تصوير لحالة يوم البعث.
والصور: البوق الذي ينفخ فيه النافخ للتجمع والنفير، وهو مما ينادى به للحرب وينادى به للصلاة عند إليهود كما جاء في حديث بدء الأذان من صحيح البخاري. وتقدم ذكر الصور عند قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ} في سورة الأنعام.
وأسند نفخ إلى الجمهور لأن المعتنى به هو حدوث النفخ لا تعيين النافخ. وإنما ينفخ فيه بأمر تكوين من الله تعالى، أو ينفخ فيه أحد الملائكة وقد ورد أنه الملك إسرافيل.
والمقصود التفريغ الثاني في قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} إلى آخره لأنه مناط بيان الرد على قول قائلهم: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} المردود إجمالا بقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} فقدم عليه ما هو كالتمهيد له وهو قوله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} إلى آخره مبادرة بتأييسهم من أن تنفعهم أنسابهم أو استنجادهم.
والأظهر أن جواب إذا هو قوله الآتي: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} كما سيأتي وما بينهما كله اعتراض نشأ بعضه عن بعض.
وضمير بينهم عائد إلى ما عادت عليه ضمائر جمع الغائبين قبله وهي عائدة إلى المشركين.
ومعنى نفي الأنساب نفي آثارها من النجدة والنصر والشفاعة لأن تلك في عرفهم من لوازم القرابة. فقوله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} كناية عن عدم النصير.
والتساؤل: سؤال بعضهم بعضا. والمعنى به التساؤل المناسب لحلول يوم الهول، وهو أن يسأل بعضهم المعونة والنجدة، كقوله تعالى: {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} .
وأما إثبات التساؤل يومئذ في قوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} فلذلك بعد يأسهم من وجود نصير أو شفيع. وفي البخاري: أن رجلا هو نافع بن الأزرق الخارجي قال لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} وقال: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فقال ابن عباس: أما قوله: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ} فهو في النفخة الأولى فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الآخرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون اه. يريد اختلاف الزمان وهو قريب مما قلناه.
وذكر من {ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} في هذه الآية إدماج للتنويه بالمؤمنين وتهديد المشركين لأن المشركين لا يجدون في موازين الأعمال الصالحة شيئا، قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} . وتقدم الكلام على نظير قوله: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} في أول سورة الأعراف.
والخسارة: نقصان مال التجارة وتقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في سورة الأنعام، وقوله: {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} في أول الأعراف. وهي هنا تمثيل لحال خيبتهم فيما كانوا يأملونه من شفاعة أصنامهم وأن لهم النجاة في الآخرة أو من أنهم غير صائرين إلى البعث، فكذبوا بما جاء به الإسلام وحسبوا أنهم قد أعدوا لأنفسهم الخير فوجدوا ضده فكانت نفوسهم مخسورة كأنها تلفت منهم، ولذلك نصب أنفسهم على المفعول بخسروا. واسما الإشارة لزيادة تمييز الفريقين بصفاتهم.
وجملة {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} في موضع الحال من {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}. ومعنى {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} تحرق. واللفح: شدة إصابة النار.
والكالح: الذي به الكلوح وهو تقلص الشفتين وظهور الأسنان من أثر تقطب أعصاب الوجه عند شدة الألم.
[107,105] {ألم أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}
جملة {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} مقول قول محذوف، أي يقال لهم يومئذ. وهذا تعرض لبعض ما يجري يومئذ. والآيات: آيات القرآن بقرينة قوله: {تُتْلَى عَلَيْكُمْ} وقوله: {فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} حملا على ظاهر اللفظ.
والتلاوة: القراءة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} في البقرة، وقوله: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} في سورة
الأنفال. والاستفهام إنكار.
والغلب حقيقته: الاستيلاء والقهر. وأطلق هنا على التلبس بالشقوة دون التلبس بالسعادة. ومفعول {غَلَبَتْ} محذوف يدل عليه {شِقْوَتُنَا} لأن الشقوة تقابلها السعادة، أي غلبت شقوتنا السعادة. والمجرور بعلى بعد مادة الغلب هو الشيء المتغالب عليه كما في الحديث قال النساء: غلبنا عليك الرجال؛ مثلت حالة اختيارهم لأسباب الشقوة بدل أسباب السعادة بحالة غائرة بين السعادة والشقاوة على نفوسهم. وإضافة الشقوة إلى ضميرهم لا اختصاصها بهم حين صارت غالبة عليهم.
والشقوة بكسر الشين وسكون القاف في قراءة الجمهور. وهي زنة الهيئة من الشقاء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف شقاوتنا بفتح الشين وبألف بعد القاف وهو مصدر على صيغة الفعالة مثل الجزالة والسذاجة. وزيادة قوله: {قَومَاً} ليدل على إن الضلالة من شيمتهم وبها قوام قوميتهم كما تقدم عند قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة وعند قوله: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في آخر سورة يونس.
وهم ظنوا أنهم إن أخرجوا من النار رجعوا إلى الإيمان والعمل الصالح فالتزموا لله بانهم لا يعودون إلى الكفر والتكذيب.
وحذف متعلق {عُدْنَا} لظهوره من المقام إذ كان إلقاؤهم في النار لأجل الإشراك والتكذيب كما دل عليه قولهم: {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} .
والظلم في {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} هو تجاوز العدل، والمراد ظلم آخر بعد ظلمهم الأول وهو الذي ينقطع عنده سؤال العفو.
[111,108] {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} {اخْسَأُوا} زجر شتم بأنهم خاسئون، ومعناه عدم استجابة طلبهم. وفعل خسأ من باب منع ومعناه ذل. ونهوا عن خطاب الله والمقصود تأييسهم من النجاة مما هم فيه.
وجملة {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} إلى آخرها استئناف قصد منه إغاظتهم بمقابلة حالهم يوم العذاب بحال الذين أنعم الله عليهم، وتحسيرهم على ما كانوا يعاملون به
المسلمين.
والإخبار في قوله: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي} إلى قوله: {سِخْرِيّاً} مستعمل في كون المتكلم عالما بمضمون الخبر بقرينة أن المخاطب يعلم أحوال نفسه. وتأكيد الخبر ب {إِنَّ} وضمير الشأن للتعجيل بإرهابهم.
وجملة {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ} خبر إن الأولى لزيادة التأكيد. وتقدم نظيره في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} في سورة الكهف.
والسخري بضم السين في قراءة نافع والكسائي وأبي جعفر وخلفن وبكسر السين في قراءة الباقين، وهما وجهان ومعناهما واحد عند المحقيقن من أئمة اللغة لا فرق بينهما، خلافا لأبي عبيدة والكسائي والفراء الذين جعلوا المكسور مأخوذا من سخر بمعنى هزأ، والمضموم مأخوذا من السخرة بضم السين وهي الاستخدام بلا أجر. فلما قصد منه المبالغة في حصول المصدر أدخلت ياء النسبة كما يقال لك الخصوصية لمصدر الخصوص.
وسلط الاتخاذ على المصدر للمبالغة كما يوصف بالمصدر. والمعنى: اتخذتموهم مسخورا بهم، فنصب {سِخْرِيّاً} على أنه مفعول ثان ل {اتَّخَذْتُمُوهُمْ} .
و {حَتَّى} ابتدائية ومعنى {حَتَّى} الابتدائية معنى فاء السببية فهي استعارة تبعية. شبه التسبب القوي بالغاية فاستعملت فيه {حَتَّى} . والمعنى: أنكم لهوتم عن التأمل فيما جاء به القرآن من الذكر لأنهم سخروا منهم لأجل أنهم مسلمون فقد سخروا من الدين الذي كان اتباعهم إياه سبب السخرية بهم فكيف يرجى من هؤلاء التذكر بذلك الذكر وهو من دواعي السخرية بأهله. وتقدم الكلام على فعل سخر عند قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} في سورة الأنعام، وقوله: {يَسْخَرُونَ مِنْهُمْ} في سورة براءة.
فإسناد الإنساء إلى الفريق مجاز عقلي لأنهم سببهن أو هو مجاز بالحذف بتقدير: حتى أنساكم السخري بهم ذكري، والقرينة على الأول معنوية وعلى الثاني لفظية.
وقوله: {أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ} قرأه الجمهور بفتح همزة {أَنَّ} على معنى المصدرية والتأكيد أي جزيتهم بأنهم. وقرأه حمزة والكسائي بكسر همزة {أَنَّ} على التأكيد فقط فتكون استئنافا بيانيا للجزاء.
وضمير الفصل للاختصاص، أي هم الفائزون لا أنتم.
وقوله: {بِمَا صَبَرُوا} إدماج للتنويه بالصبر، والتنبيه على أن سخريتهم بهم كانت سببا في صبرهم الذي أكسبهم الجزاء. وفي ذلك زيادة تلهيف للمخاطبين بأن كانوا هم السبب في ضر أنفسهم ونفع من كانوا يعدونهم أعداءهم.
[114,112] {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
قرأ الجمهور: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ} بصيغة الماضي فيتعين أن هذا القول يقع عند النفخ في الصور وحياة الأموات من الأرض، فالأظهر أن يكون هو جواب {إِذَا} في قوله فيما سبق {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} . والتقدير: قال الله لهم إذا نفخ في الصور: كم لبثتم في الأرض عدد سنين، وما بينهما اعتراضات نشأت بالتفريع والعطف والحال والمقاولات العارضة في خلال ذلك كما علمته مما تقدم في تفسير تلك الآي. وليس من المناسب أن يكون هذا القول حاصلا بعد دخول الكافرين النار، والمفسرون الذين حملوه على ذلك تكلفوا ما لا يناسب انتظام المعاني.
وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائيقل بصيغة الأمر. والخطاب للملك الموكل بإحياء الأموات.
وجملة {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} تفريع على جملة {لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لما تضمنته من ترددهم في تقدير مدة لبثهم في الأرض. وأرى في تفسير ذلك أنهم جاءوا في كلامهم بما كان معتادهم في حياتهم في الدنيا من عدم ضبط حساب السنين إذ كان علم موافقة السنين القمرية للسنين الشمسية تقوم به بنو كنانة الذين بيدهم النسيء ويلقبون بالنسأة، قال الكناني:
ونحن الناسئون على معد ... شهور الحل نجعلها حراما
والمفسرون جعلوا المراد من العادين الملائكة أو الناس الذين يتذكرون حساب مدة المكث. ولكن القرطبي قال: أي سل الحساب الذين يعرفون ذلك فإنا نسيناه.
وقوله: {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} قرأه الجمهور كما قرأوا الذي قبله فهو حكاية للمحاورة فلذلك لم يعطف فعل {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} وهي طريقة حكاية المحاورات كما في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة. وقرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بصيغة الأمر كالذي قبله.
والاستفهام عن عدد سنوات المكث في الأرض مستعمل في التنبيه ليظهر لهم خطؤهم إذ كانوا يزعمون أنهم إذا دفنوا في الأرض لا يخرجون منها.
وانتصب {عَدَدَ سِنِينَ} على التمييز ل {كَمْ} الاستفهامية والتمييز إنما هو {سِنِينَ} . وإضافة لفظ {عَدَدَ} إليه تأكيد لمضمون {كَمْ } لأن {كَمْ} اسم استفهام عن العدد فذكر لفظ {عَدَدَ} معها تأكيد لبعض مدلولها.
وجوابهم يقتضي أنهم كانوا في الأرض وأنهم لم يتذكروا طول مدة مكثهم على تفاوت فيها. والظاهر أن المراد بقولهم: {يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} أنهم قدروا مدة مكثهم في باطن الأرض بنحو يوم من الأيام المعهودة لديهم في الدنيا كما دل عليه قوله تعالى في سورة الروم: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ} .
ولم يعرج المفسرون على تبيين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره في الظاهر. والذي لاح لي في ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضي جيء به في قالب السؤال عن مدة مكثهم في الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياء وهو ما كانوا ينكرونه، وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات. وهي حالة لا تقتضي مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم مما قدروه من الحياة بعد أن بقوا قرونا كثيرة، فذلك أدل وأظهر في سعة القدرة الإلهية وأدخل في إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانهم فيما هو أكثر علة استحالة عود الحياة إليهم.
وقد دل على هذا قوله في آخر الآية: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} وقد ألجأهم الله إلى إظهار اعتقادهم قصر المدة التي بقوها زيادة في تشويه خطأهم فإنهم لما أحسوا أنفسهم أنهم صاروا أحياء كحياتهم الأولى وعاد لهم تفكيرهم القديم الذي ماتوا عليه، وكانوا يتوهمون أنهم إذا فنيت أجسادهم لا تعود إليهم الحياة أوهمهم كمال أجسادهم أنهم ما مكثوا في الأرض إلا زمنا يسيرا لا يتغير في مثله الهيكل الجثماني فبنوا على أصل شبهتهم الخاطئة خطأ آخر.
وأما قولهم: {فاسْأَلِ الْعَادِّينَ} فهو اعتراف بأنهم لم يضبطوا مدة مكثهم فأحالوا السائل على من يضبط ذلك من الذين يظنونهم لم يزالوا أحياء لأنهم حسبوا أنهم بعثوا والدنيا باقية وحسبوا أن السؤال على ظاهره فتبرأوا من عهدة عدم ضبط الجواب.
وأما رد الله عليهم بقوله: {إِنَّ لَبِثْتٌمْ إِلا قَلِيلاً} فهو يؤذن بكلام محذوف على طريقة
دلالة الاقتضاء، لأنهم قد لبثوا أكثر من يوم أو بعض يوم بكثير فكيف يجعل قليلا، فتعين أن يقول {إِنَّ لَبِثْتٌمْ إِلا قَلِيلاً} لا يستقيم أن يكون جوابا لكلامهم إلا بتقدير: قال بل لبثتم قرونا، كما في قوله في الذي مر على قرية {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ} . ولذلك تعين أن يكون التقدير: قال بل لبثتم قرونا، وأن لبثتم إلا قليلا فيما عند الله {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} .
وقرينة ذلك ما تفيده لو من الامتناع في قوله: {لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كنتم تعلمون لعلمتم أنكم ما لبثتم إلا قليلا، فيقتضي الامتناع أنهم ما علموا أنهم لبثوا قليلا مع أن صريح جوابهم يقتضي أنهم علموا لبثا قليلا، فالجمع بين تعارض مقتضى جوابهم ومقتضى الرد عليهم إنما يكون باختلاف النسبة في قلة مدة المكث إذا نسبت إلى ما يراعى فيها، فهي إذا نسبت إلى شبهتهم في إحالة البعث كانت طويلة وقد وقع البعث بعدها فهذا خطأ منهم، وهي إذا نسبت إلى ما يترقبهم من مدة العذاب كانت مدة قليلة وهذا إرهاب لهم.
[115] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}
هذا من تمام القول المحكي فيه: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ} مفرع على ما قبله. فرع الاستفهام عن حسبانهم أن الخلق لأجل العبث على إظهار بطلان ما زعموه من إنكار البعث. والاستفهام تقرير وتوبيخ لأن لازم إنكارهم البعث أن يكون خلق الناس مشتملا على عبث فنزلوا منزلة من حسب ذلك فقرروا ووبخوا أخذا لهم بلازم اعتقادهم. وأدخلت أداة الحصر بعد حسب فجعلت الفعل غير ناصب إلا مفعولا واحدا وهو المصدر المستخلص من {أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ} . وتقدير: أفحسبتم خلقنا إياكم لأجل العبث، وذلك أن أفعال الظن والعلم نصبت مفعولين غالبا لأن أصل مفعوليها مبتدأ وخبر، أي اسم ذات واسم صفة فاحتياجها إلى المفعول الثاني من باب احتياج المبتدأ إلى الخبر لئلا تنعدم الفائدة في المبتدأ مجردا عن خبره، وبذلك فارقت بقية الأفعال المتعدية باحتياجها إلى منصوبين لأن معناها لا يتعلق بالذوات، فقولك: ظننت زيدا قائما، إنما هو في الحقيقة: ظننت قيام زيد، فمفعولها هو المصدر وحقه أن يكون خبرا مضافا إلى ضمير
مبتدئه كما قال الرضي: يعني أن العرب استعملوها بمفعولين كراهية لجعل المصدر مفعولا به كأنهم تجنبوا اللبس بين المفعول به والمفعول المطلق، وهذا كما استعملوا أفعال الكون مسندة إلى اسم الذوات ثم أتوا بعد اسم الذات باسم وصفها ولم يأتوا باسم الوصف من أول وهلة ولذلك إذا أوقعوا بعدها حرف المصدر اكتفوا به عن المفعولين، ولم يسمع عنهم أنهم نصبوا بها مصدرا صريحا، فإذا وقع مفعول أفعال الظن اسم معنى وهو المصدر الصريح أو المنسبك وحذف الفائدة فاجتزأت بالمصدر كقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} .
وحيث كانت أنما مركبة من أن المفتوحة الهمزة ومن ما الكافة فوقوعها بعد فعل الحساب بمنزلة وقوع المصدر، ولولا أن لكان الكلام: أحسبتمونا خالقينكم عبثا.
وانتصب {عَبَثَاً} على الحال من ضمير الجلالة مؤولا باسم الفاعل. والعبث: العمل الذي لا فائدة فيه. وكلما تضاءلت الفائدة كان لها حكم العدم فلو لم يكن خلق البشر في هذه الحياة مرتبا عليه مجازاة الفاعلين على أفعالهم لكان خالقه قد أتى في فعله بشيء عديم الفائدة فكان فيه حظ من العبث.
وبيان كونه عبثا أنه خلق الخلق فأحسن المحسن وأساء المسيء ولم يلق كل جزاءه لكان ذلك إضاعة لحق المحسن وإغضاء عما حصل من فساد المسيء فكان ذلك تسليطا للعبث. وليس معنى الحال أن يكون عاملها غير مفارق لمدلولها بل يكفي حصول معناها في بعض أكوان عاملها.
وأما قوله: {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} فهم قد حسبوا ذلك حقيقة بلا تنزيل وهذا من تمام الإنكار.
وقرأ الجمهور: {تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتح الجيم، أي أن الله يرجعهم قهرا.وقرأه حمزة والكسائي وخلف بفتح التاء وكسر الجيم، أي يرجعون طوعا أو كرها.
[116] {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} تفرع على ما تقدم بيانه من دلائل الوحدانية والقدرة والحكمة ظهور أن الله هو الملك الذي ليس في اتصافه بالملك شائبة من معنى الملك، فملكه الملك الكامل في حقيقته، الشامل في نفاذه.
والتعريف في {المَلِكُ} للجنس.
والحق: ما قابل الباطل، ومفهوم الصفة يقتضي أن ملك غيره باطل، أي فيه شائبة الباطل لا من وجهة الجور والظلم لأنه قد يوجد ملك لا جور فيه ولا ظلم كملك الأنبياء والخلفاء الراشدين وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخلفاء والأمراء، بل من جهة أنه ملك غير مستكمل حقيقة المالكية فإن كل من ينسب إليه الملك عدا الله تعالى هو مالك من جهة ومملوك من جهة لما فيه من نقص واحتياج؛ فهو مملوك لما يتطلبه من تسديد نقصه بقدر الحاجة ومن استعانة بالغير لجبر احتياجه فذلك ملك باطل لأنه ادعاء ملك غير تام.
وجملة تعالى يجوز ان تكون خبرا قصد منه التذكير والاستنتاج مما تقدم من الدلائل المبينة لمعنى تعاليه وأن تكون إنشاء ثناء عليه بالعلو.
والتعالي: مبالغة في العلو. وأتبع ذلك بما هو دليل عليه وهو انفراده بالإلهية وذلك وصف ذاتي، وبأنه مالك أعظم المخلوقات أعني العرش وذلك دليل عظمة القدرة.
و {الكَرِيمِ} بالجر صفة العرش. وكرم الجنس أن يكون مستوفيا فصائل جنسه كما في قوله تعالى: {إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} في سورة النمل.
[117] {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
لما كان أعظم ما دعا الله إليه توحيده وكان أصل ضلالة المشركين إشراكهم أعقب وصف الله بالعلو العظيم والقدرة الواسعة ببيان أن الحساب الواقع بعد البعث ينال الذين دعوا مع الله آلهة دعوى لا عذر لهم فيها لأنها عرية عن البرهان أي الدليل، لأنهم لم يثبتوا لله الملك الكامل إذ أشركوا معه آلهة ولم يثبتوا ما يقتضي له عظيم التصرف إذ أشركوا معه تصرف آلهة. فقوله: {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} حال من {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} ، وهي حال لازمة لأن دعوى الإله مع الله لا تكون إلا عرية عن البرهان. ونظير هذا الحال قوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} .
والقصر في قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} قصر حقيقي. وفيه إثبات الحساب وأنه لله وحده في تخطئتهم وتهديدهم.
ويجوز أن يكون القصر إضافيا تطمينا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن الله لا يؤاخذه باستمرارهم على
الكفر كقوله: {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} وقوله: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} وهذا أسعد بقوله: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} .
ويدل على ذلك تذييله بجملة: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} . وفيه ضرب من رد العجز على الصدر إذ افتتحت السورة ب {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وختمت ب {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وهو نفي الفلاح عن الكافرين ضد المؤمنين.
[118] {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}
عطف على جملة:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ}الخ باعتبار قوله: {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} . فإن المقصود من الجملة خطاب النبي صلى الله عليه وسلم بأن يدعو ربه بالمغفرة والرحمة. وفي حذف متعلق {اغْفِرْ وَارْحَمْ} تفويض الأمر إلى الله في تعيين المغفور لهم والمرحومين، والمراد من كانوا من المؤمنين. ويجوز أن يكون المعنى اغفر لي وارحمني، بقرينة المقام.
وأمره بأن يدعو بذلك يتضمن وعدا بالإجابة.
وهذا الكلام مؤذن بانتهاء السورة فهو من براعة المقطع.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النورسميت هذه السورة سورة النور من عهد النبي صلى الله عليه وسلم. روي عن مجاهد قال رسول الله: "علموا نساءكم سورة النور" ولم أقف على إسناده. وعن حارثة بن مضر: كتب إلينا عمر بن الخطاب أن تعلموا سورة النساء والأحزاب والنور. وهذه تسميتها في المصاحف وكتب التفسير والسنة، ولا يعرف لها اسم آخر. ووجه التسمية أن فيها آية: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
وهي مدنية باتفاق أهل العلم ولا يعرف مخالف في ذلك. وقد وقع في نسخ تفسير القرطبي عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية. في المسألة الرابعة كلمة وهي مكية يعني الآية. فنسب الخفاجي في حاشيته على تفسير البيضاوي وتبعه الآلوسي، إلى القرطبي أن تلك الآية مكية مع أن سبب نزولها الذي ذكره القرطبي صريح في أنها نزلت بالمدينة كيف وقد قال القرطبي في أول هذه السورة: مدنية بالإجماع. ولعل تحريفا طرأ على النسخ من تفسير القرطبي وأن صواب الكلمة وهي محكمة أي غير منسوخ حكمها فقد وقعت هذه العبارة في تفسير ابن عطية، قال وهي محكمة قال ابن عباس: تركها الناس. وسيأتي أن سبب نزول قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية. قضية مرثد ابن أبي مرثد مع عناق. ومرثد بن أبي مرثد استشهد في صفر سنة ثلاث للهجرة في غزوة الرجيع، فيكون أوائل هذه السورة نزل قبل سنة ثلاث، والأقرب، أن يكون في أواخر السنة الأولى أو أوائل السنة الثانية أيام كان المسلمون يتلاحقون للهجرة وكان المشركون جعلوهم كالأسرى.
ومن آياتها آيات قصة الإفك وهي نازلة عقب غزوة بني المصطلق من خزاعة. والأصح أن غزوة بني المصطلق كانت سنة أربع فإنها قبل غزوة الخندق.
ومن آياتها {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} الآية. نزلت في شعبان سنة تسع بعد غزوة تبوك فتكون تلك الآيات مما نزل بعد نزول أوائل هذه السورة وهذا يقتضي أن هذه السورة نزلت منجمة متفرقة في مدة طويلة وألحق بعض آياتها ببعض.
وقد عدت هذه السورة المائة في ترتيب نزول سور القرآن عند جابر ابن زيد عن ابن عباس. قال: نزلت بعد سورة {إذا جاء نصر الله} وقبل سورة الحج، أي: عند القائلين بان سورة الحج مدنية.
وآيها اثنتان وستون في عد المدينة ومكة، وأربع وستون في عد البقية.
أغراض هذه السورة
شملت من الأغراض كثيرا من أحكام معاشرة الرجال للنساء. ومن آداب الخلطة والزيادة.
- وأول ما نزلت بسببه قضية التزوج بامرأة اشتهرت بالزنى وصدر ذلك ببيان حد الزنى.
- وعقاب الذين يقذفون المحصنات.
- وحكم اللعان.
- والتعرض إلى براءة عائشة رضي الله عنها مما أرجفه عليها أهل النفاق، وعقابهم، والذين شاركوهم في التحدث به.
- والزجر عن حب إشاعة الفواحش بين المؤمنين والمؤمنات.
- والأمر بالصفح عن الأذى مع الإشارة إلى قضية مسطح بن أثاثة.
- وأحكام الإستئذان في الدخول إلى بيوت الناس المسكونة، ودخول البيوت غير المسكونة.
- وآداب المسلمين والمسلمات في المخالطة.
- وإفشاء السلام.
- والتحريض على تزويج العبيد والإماء.
- والتحريض على مكاتبتهم، أي إعتاقهم على عوض يدفعونه لمالكيهم.
- وتحريم البغاء الذي كان شائعا في الجاهلية.
- والأمر بالعفاف.
- وذم أحوال أهل النفاق والإشارة إلى سوء طويتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم.
- والتحذير من الوقوع في حبائل الشيطان.
- وضرب المثل لهدي الإيمان وضلال الكفر.
- والتنويه ببيوت العبادة والقائمين فيها.
- وتخلل ذلك وصف عظمة الله تعالى وبدائع مصنوعاته وما فيها من منن على الناس.
- وقد أردف ذلك بوصف ما أعده الله للمؤمنين، وأن الله علم بما يضمره كل أحد وأن المرجع إليه والجزاء بيده.
[1] {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
يجوز أن يكون { سُورَةٌ} خبرا عن مبتدأ مقدر دل عليه ابتداء السورة، فيقدر: هذه سورة. واسم الإشارة المقدر يشير إلى حاضر في السمع وهو الكلام المتتالي، فكل ما ينزل من هذه السورة وألحق بها من الآيات فهو من المشار إليه باسم الإشارة المقدر.
وهذه الإشارة مستعملة في الكلام كثيرا.
ويجوز أن تكون سورة مبتدأ ويكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} إلى آخر السورة خبرا عن سورة ويكون الابتداء بكلمة {سُورَةٌ} ثم أجري عليه من الصفات تشويقا إلى ما يأتي بعده مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان حبيبتان إلى الرحمان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" .
وأحسن وجوه التقدير ما كان منساقا إليه ذهن السامع دون كلفة، فدع عنك التقادير الأخرى التي جوزوها هنا.
ومعنى سورة جزء من القرآن معين بمبدأ ونهاية وعدد آيات. وتقدم بيانه في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وجملة: {أَنْزَلْنَاهَا} وما عطف عليها في موضع الصفة لسورة. والمقصود من تلك الأوصاف التنويه بهذه السورة ليقبل المسلمون بشراشرهم على تلقي ما فيها. وفي ذلك امتنان على الأمة لتحديد أحكام سيرتها في أحوالها.
ففي قوله: {أَنْزَلْنَاهَا} تنويه بالسورة بما يدل عليه أنزلنا من الإسناد إلى ضمير الجلالة الدال على العناية بها وتشريفها. وعبر بأنزلنا عن ابتداء إنزال آياتها بعد ان قدرها الله بعلمه بكلامه النفسي. فالمقصود من إسناد إنزالها إلى الله تعالى تنويه بها. وعبر عن إنزالها بصيغة المضي وإنما هو واقع في الحال باعتبار إرادة إنزالها، فكأنه قيل: أردنا إنزالها وإبلاغها، فجعل ذلك الاعتناء كالماضي حرصا عليه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة وقوعه كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.
والقرينة قوله: {وَفَرَضْنَاهَا} . ومعنى {وَفَرَضْنَاهَا} عند المفسرين: أوجبنا العمل بما فيها. وإنما يليق هذا التفسير بالنظر إلى معظم هذه السورة لا إلى جميعها فإن منها ما لا يتعلق به عمل كقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآيات. وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ} .
فالذي أختاره أن يكون الفرض هنا بمعنى التعيين والتقدير كقوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} فقوله: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ} . وتعدية فعل فرضنا إلى ضمير السورة من قبيل ما يعبر عنه في مسائل أصول الفقه من إضافة الأحكام إلى الأعيان بإرادة أحوالها، مثل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} ، أي أكلها. فالمعنى: وفرضنا آياتها. وسنذكر قريبا ما يزيد هذا بيانا عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} وكيف قوبلت الصفات الثلاث المذكورة هنا بالصفات الثلاث المذكورة هنالك.
وقرأ الجمهور {وَفَرَضْنَاهَا} بتخفيف الراء بصيغة الفعل المجرد. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو {وَفَرَضْنَاهَا} بتشديد الراء للمبالغة مثل نزل المشدد. ونقل في حواشي الكشاف عن الزمخشري قوله:
كأنه عامل في دين سؤدده ... بسورة أنزلت فيه وفرضت
وهذان الحكمان وهما الإنزال والفرض ثبتا لجميع السورة.
وأما قوله: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فهو تنويه آخر بهذه السورة تنويه بكل آية
اشتملت عليها السورة: من الهدي إلى التوحيد، وحقية الإسلام، ومن حجج وتمثيل، وما في دلائل صنع الله على سعة قدرته وعلمه وحكمته، وهي ما أشار إليه قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} . وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً} إلى قوله: {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
ومن الآيات البينات التي أنزلت فيها اطلاع الله رسوله على دخائل المنافقين مما كتموه في نفوسهم من قوله: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} إلى قوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} فحصل التنويه بمجموع السورة ابتداء والتنويه بكل جزء منها ثانيا.
فالآيات جمع آية وهي قطعة من الكلام القرآني دالة على معنى مستقل. وتقدم بيانها في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
فالمراد من الآيات المنزلة في هذه السورة جميع ما اشتملت عليه من الآيات لا آيات مخصوصة من بينها. والمقصود التنويه بآياتها بإجراء وصف بينات عليها.
وإذا كانت الآيات التي اشتملت السورة على جميعها هي عين السورة لا بعضا منها إذ ليس ثم شيء غير تلك الآيات حاو لتلك الآيات حقيقة ولا مشبه بما يحوي، فكان حرف في الموضوع للظرفية مستعملا في غير ما وضع له لا حقيقة ولا استعارة مصرحة.
فتعين أن كلمة فيها تؤذن باستعارة مكنية بتشبيه آيات هذه السورة بأعلاق نفسية تكتنز ويحرض على حفظها من الإضاعة والتلاشي كأنها مما يجعل في خزانة ونحوها. ورمز إلى المشبه به بشيء من روادفه وهو حرف الظرفية فيكون حرف في تخييلا مجردا وليس باستعارة تخيلية إذ ليس ثم ما يشبه بالخزانة ونحوها، فوزان هذا التخييل وزان أظفار المنية في قول أبي ذؤيب الهذلي:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع
وهذه الظرفية شبيه بالإضافة البيانية مثل قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} وقوله: {كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ} فإن الكفار هم عين ضمير الجماعة المخاطبين وهم المشركون.
فقوله: {وأَنْزَلْنَا فِيها} هو: بمعنى وأنزلناها آيات بينات. ووصف آيات ببينات أي واضحات، مجاز عقلي لأن البين هو معانيها. وأعيد فعل الإنزال مع إغناء
حرف العطف عنه لإظهار مزيد العناية بها.
والوجه أن جملة: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مرتبطة بجملة: {أَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} لأن الآيات بهذا المعنى مظنة التذكر، أي دلائل مظنة لحصول تذكركم. فحصل بهذا الرجاء وصف آخر للسورة هو أنها مبعث تذكر وعظة. والتذكر: خطور ما كان منسيا في الذهن وهو هنا مستعار لاكتساب العلم من أدلته اليقينية بجعله كالعلم الحاصل من قبل فنسيه الذهن، أي العلم الذي شأنه أن يكون معلوما، فشبه جهله بالنسيان وشبه علمه بالتذكر.
وقرأ الجمهور: {تَذَكَّرُونَ} بتشديد الذال وأصله تتذكرون فأدغم. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف {تَذَكَّرُونَ} بتخفيف الذال فحذفت إحدى التائين اختصارا.
[2] {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .
ابتداء كلام وهو كالعنوان والترجمة في التبويب فلذلك أتي بعده بالفاء المؤذنة بأن ما بعدها في قوة الجواب وأن ما قبلها في قوة الشرط. فالتقدير: الزانية والزاني مما أنزلت له هذه السورة وفرضت. ولما كان هذا يستدعي استشراف السامع كان الكلام في قوة: إن أردتم حكمهما فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة. وهكذا شأن هذه الفاء كلما جاءت بعد ما هو في صورة المبتدأ فإنما يكون ذلك المبتدأ في معنى ما للسامع رغبة في استعلام حاله كقول الشاعر، وهو من شواهد كتاب سيبويه التي لم يعرف قائلها:
وقائلة: خولان فانكح فتاتهم ... وأكرومة الحيين خلو كما هيا
التقدير: هذه خولان، أو خولان مما يرغب في صهرها فانكح فتاتهم إن رغبت. ومن صرفوا ذهنهم عن هذه الدقائق في الاستعمال قالوا الفاء زائدة في الخبر. وتقدم زيادة الفاء في قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} في سورة العقود.
وصيغتا: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} صيغة اسم فاعل وهو هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف صاحبه بمعنى مادته فلذلك يعتبر بمنزلة الفعل المضارع في الدلالة على الاتصاف بالحدث في زمن الحال، فكأنه قيل: التي تزني والذي يزني فاجلدوا كل واحد منهما الخ. ويؤيد ذلك الأمر بجلد كل واحد منهما فإن الجلد يترتب على التلبس بسببه.
ثم يجوز أن تكون قصة مرثد بن أبي مرثد النازل فيها قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الخ. هي سبب نزول أول هذه السورة. فتكون آية: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} هي المقصد الأول من هذه السورة ويكون قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} تمهيدا ومقدمة لقوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} فإن تشنيع حال البغايا جدير بأن يقدم قوله ما هو أجدر بالتشريع وهو عقوبة فاعل الزنى. ذلك أن مرثد ما بعثه على الرغبة في تزوج عناق إلا ما عرضته عليه من أن يزني معها.
وقدم ذكر {الزَّانِيَةُ} على {وَالزَّانِي} للاهتمام بالحكم لأن المرأة هي الباعث على زنى الرجل وبمساعفتها الرجل يحصل الزنى ولو منعت المرأة نفسها ما وجد الرجل إلى الزنى تمكينا، فتقديم المرأة في الذكر لأنه أشد في تحذيرها. وقوله: {كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} للدلالة على أنه ليس أحدهما بأولى بالعقوبة من الآخر.
وتعريف الزانية والزاني تعريف الجنس وهو يفيد الاستغراق غالبا ومقام التشريع يقتضيه، وشأن أل الجنسية إذا دخلت على اسم الفاعل أن تبعد الوصف عن مشابهة الفعل فلذلك لا يكون اسم الفاعل معها حقيقة في الحال ولا في غيره وإنما هو تحقق الوصف في صاحبه. وبهذا العموم شمل الإماء والعبيد، ف {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} من اتصفت بالزنى واتصف بالزنى.
والزنى: اسم مصدر زنى، وهو الجماع بين الرجل والمرأة اللذين لا يحل أحدهما للآخر، يقال: زنى الرجل وزنت المرأة، ويقال: زانى بصيغة المفاعلة لأن الفعل حاصل من فاعلين ولذلك جاء مصدره الزناء بالمد أيضا بوزن الفعال ويخفف همزه فيصير اسما مقصورا. وأكثر ما كان في الجاهلية أن يكون بداعي المحبة والموافقة بين الرجل والمرأة دون عوض، فإن كان بعوض فهو البغاء. يكون في الحرائر ويغلب في الإماء وكانوا يجهرون به فكانت البغايا يجعلن رايات على بيوتهن مثل راية البيطار ليعرفن بذلك. وكل ذلك يشمله اسم الزنى في اصطلاح القرآن وفي الحكم الشرعي. وتقدم ذكر الزنى في قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} في سورة الإسراء.
والجلد: الضرب بسير من جلد. مشتق من الجلد بكسر الجيم لأنه ضرب الجلد. أي البشرة، كما اشتق الجبه، والبطن، والرأس في قولهم جبهه إذا ضرب جبهته، وبطنه إذا ضرب بطنه، ورأسه إذا ضرب رأسه. قال في الكشاف: وفي لفظ الجلد إشارة إلى
أنه لا ينبغي أن يتجاوز الألم إلى اللحم اه. أي لا يكون الضرب يطير الجلد حتى يظهر اللحم، فاختيار هذا اللفظ دون الضرب مقصود به الإشارة إلى هذا المعنى على طريقة الإدماج.
واتفق فقهاء الأمصار على: أن ضرب الجلد بالسوط. أي بسير من جلد. والسوط: هو ما يضرب به الراكب الفرس وهو جلد مضفور، وأن يكون السوط متوسط اللين، وأن يكون رفع يد الضارب متوسطا. ومحل الجلد هو الظهر عند مالك. وقال الشافعي: تضرب سائر الأعضاء ما عدا الوجه والفرج. وأجمعوا على ترك الضرب على المقاتل، منها الرأس في الحد. روى الطبري أن عبد الله بن عمر حد جارية أحدثت فقال للجالد: أجلد رجليها وأسفلها، فقال له أبنه عبد الله: فأين قول الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} فقال فاقتها. وقوله: {كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا} تأكيد للعموم المستفاد من التعريف فلم يكتف بأن يقال: فاجلدوهما، كما قال: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . وتذكير كل واحد تغليب للمذكر مثل {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} .
والخطاب بالأمر بالجلد موجه إلى المسلمين فيقوم به من يتولى أمور المسلمين من الأمراء والقضاة ولا يتولاه الأولياء وقال مالك والشافعي وأحمد: يقيم السيد على عبده وأمته حد الزنى، وقال أبو حنيفة: لا يقيمه إلا الإمام. وقال مالك: لا يقيم السيد حد الزنى على أمته إذا كانت ذات زوج حر أو عبد ولا يقيم الحد عليها إلا ولي الأمر.
وكان أهل الجاهلية لا يعاقبون على الزنى لأنه بالتراضي بين الرجل والمرأة إلا إذا كان للمرأة زوج أو ولي يذب عن عرضه بنفسه كما أشار إليه قول امرئ القيس:
تجاوزت أحراسا إليها ومعشرا ... علي حراصا لو يسرون مقتلي
وقول عبد بني الحسحاس:
وهن بنات القوم إن يشعروا بنا ... يكن في بنات القوم إحدى الدهارس
الدهارس: الدواهي. ولم تكن في ذلك عقوبة مقدرة ولكنه حكم السيف أو التصالح على ما يتراضان عليه. وفي الموطأ عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما: أجل يا رسول الله فاقض بيننا بكتاب الله وائذن لي أن أتكلم. فقال:
"تكلم" . فقال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت به بمائة شاة وبجارية لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام وأخبروني أنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك" . وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأمر أنيسا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها. قال مالك: والعسيف الأجير اه.
فهذا الافتداء أثر مما كانوا عليه في الجاهلية، ثم فرض عقاب الزنى في الإسلام بما في سورة النساء وهو الأذى للرجل الزاني، أي بالعقاب الموجع، وحبس للمرأة الزانية مدة حياتها. وأشارت الآية إلى أن ذلك حكم مجمل بالنسبة للرجل لأن الأذى صالح لأن يبين بالضرب أو بالرجم وهو حكم موقت بالنسبة إلى المرأة بقوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} ثم فرض حد الزنى بما في هذه السورة.
ففرض حد الزنى بهذه الآية جلد مائة فعم المحصن وغيره، وخصصته السنة بغير المحصن من الرجال والنساء. فأما من أحصن منهما، أي تزوج بعقد صحيح ووقع الدخول فإن الزاني المحصن حده الرجم بالحجارة حتى يموت. وكان ذلك سنة متواترة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجم ماعز ابن مالك. وأجمع على ذلك العلماء وكان ذلك الإجمال أثرا من آثار تواترها.
وقد روى عن عمر أن الرجم كان في القرآن الثيب والثيبة إذا زنيا فارجموهما البتة وفي رواية الشيخ والشيخة وأنه كان يقرأ ونسخت تلاوته. وفي أحكام ابن الفرس في سورة النساء: وقد أنكر هذا قوم. ولم أر من عين الذين أنكروا. وذكر في سورة النور أن الخوارج بأجمعهم يرون هذه الآية على عمومها في المحصن وغيره ولا يرون الرجم ويقولون: ليس في كتاب الله الرجم فلا رجم.
ولا شك في أن القضاء بالرجم وقع بعد نزول سورة النور. وقد سئل عبد الله بن أبي أوفى عن الرجم: أكان قبل سورة النور أو بعدها? يريد السائل بذلك أن تكون آية سورة النور منسوخة بحديث الرجم أو العكس، أي أن الرجم منسوخ بالجلد فقال ابن أبي أوفى: لا أدري. وفي رواية أبي هريرة أنه شهد الرجم. وهذا يقتضي أنه كان معمولا به بعد سورة النور لأن أبا هريرة أسلم سنة سبع وسورة النور نزلت سنة أربع أو خمس كما علمت وأجمع العلماء على أن حد الزنى المحصن الرجم.
وقد ثبت بالسنة أيضا تغريب الزاني بعد جلده تغريب سنة كاملة، ولا تغريب على المرأة. وليس التغريب عند أبي حنيفة بمتعين ولكنه لاجتهاد الإمام إن رأى تغريبه لدعارته. وصفة الرجم والجلد وآلهتما مبينة في كتب الفقه ولا يتوقف معنى الآية على ذكرها.
{وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
عطف على جملة {فَاجْلِدُوا} ؛ فلما كان الجلد موجعا وكان المباشر له قد يرق على المجلود من وجعه نهي المسلمون أن تأخذهم رأفة بالزانية والزاني فيتركوا الحد أو ينقصوه.
والأخذ: حقيقته الاستيلاء. وهو هنا مستعار لشدة تأثير الرأفة على المخاطبين وامتلاكها إرادتهم بحيث يضعفون عن إقامة الحد فيكون كقوله: {أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ} فهو مستعمل في قوة ملابسة الوصف للموصوف.
و {بِهِمَا} يجوز أن يتعلق ب {رَأْفَةً} فالباء للمصاحبة لأن معنى الأخذ هنا حدوث الوصف عند مشاهدتهما. ويجوز تعليقه ب {تَأْخُذْكُمْ} فتكون الباء للسببية، أي أخذ الرأفة بسببهما أي بسبب جلدهما.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام بذكر الزاني والزانية تنبيها على الاعتناء بإقامة الحد. والنهي عن أن تأخذهم رأفة كناية عن النهي عن أثر ذلك وهو ترك الحد أو نقصه. وأما الرأفة فتقع في النفس بدون اختيار فلا يتعلق بها النهي؛ فعلى المسلم أن يروض نفسه على دفع الرأفة في المواضع المذمومة فيها الرأفة.
والرأفة: رحمة خاصة تنشأ عند مشاهدة ضر بالمرؤوف. وتقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} في سورة البقرة. ويجوز سكون الهمزة وبذلك قرأ الجمهور. ويجوز فتحها وبالفتح قرأ ابن كثير.
وعلق بالرأفة قوله: {فِي دِينِ اللهِ} لإفادة أنها رأفة غير محمودة لأنها تعطل دين الله، أي أحكامه، وإنما شرع الله الحد استصلاحا فكانت الرأفة في إقامته فسادا. وفيه تعريض بأن الله الذي شرع الحد هو أرأف بعباده من بعضهم ببعض. وفي مسند أبي يعلى عن حذيفة مرفوعا: "يؤتى بالذي ضرب فوق الحد فيقول الله له: عبدي لم ضربت فوق الحد ? فيقول: غضبت لك. فيقول الله: أكان غضبك أشد من غضبي ? ويؤتى بالذي قصر فيقول: عبدي لم قصرت? فيقول رحمته. فيقول: أكانت رحمتك أشد من رحمتي" .
ويؤمر بهما إلى النار" .
وجملة: {إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} شرط محذوف الجواب لدلالة ما قبله عليه، أي إن كنتم مؤمنين فلا تأخذكم بهما رأفة، أي لا تؤثر فيكم رأفة بهما. والمقصود: شدة التحذير من أن يتأثروا بالرأفة بهما بحيث يفرض أنهم لا يؤمنون. وهذا صادر مصدر التلهيب والتهييج حتى يقول السامع: كيف لا أومن بالله واليوم الآخر.
وعطف الإيمان باليوم الآخر على الإيمان بالله للتذكير بأن الرأفة بهما في تعطيل الحد أو نقصه نسيان لليوم الآخر فإن تلك الرأفة تفضي بهما إلى أن يؤخذ منهما العقاب يوم القيامة فهي رأفة ضارة كرأفة ترك الدواء للمريض، فإن الحدود جوابر على ما تؤذن به أدلة الشريعة.
{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
أمر أن تحضر جماعة من المسلمين إقامة حد الزنا تحقيقا لإقامة الحد وحذرا من التساهل فيه فإن الإخفاء ذريعة للإنساء، فإذا لم يشهده المؤمنين فقد يتساءلوا عن عدم إقامته فإذا تبين لهم إهماله فلا يعدم بينهم من يقوم بتغيير المنكر من تعطيل الحدود.
وفيه فائدة أخرى وهي أن من مقاصد الحدود مع عقوبة الجاني أن يرتدع غيره، وبحضور طائفة من المؤمنين يتعظ به الحاضرون ويزدجرون ويشيع الحديث فيه بنقل الحاضر إلى الغائب.
والطائفة: الجماعة من الناس. وقد تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} في سورة النساء، وعند قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} في آخر الأنعام. وقد اختلف في ضبط عددها هنا. والظاهر أنه عدد تحصل بخبره الاستفاضة وهو يختلف باختلاف الأمكنة. والمشهور عن مالك الاثنان فصاعدا، وقال ابن أبي زيد: أربعة اعتبارا بشهادة الزنا. وقيل عشرة.
وظاهر الأمر يقتضي وجوب حضور طائفة للحد. وحمله الحنفية على الندب وكذلك الشافعية ولم أقف على تصريح بحكمه في المذهب المالكي. ويظهر من إطلاق المفسرين وأصحاب الأحكام من المالكية ومن اختلافهم في أقل ما يجزئ من عدد الطائفة أنه يحمل على الوجوب إذ هو محمل الأمر عند مالك. وأيا ما كان حكمه فهو في الكفاية ولا يطالب به من له بالمحدود مزيد صلة يحزنه أن يشاهد إقامة الحد عليه.
[3] {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
هذه الآية. نزلت مستقلة بأولها ونهايتها كما يأتي قريبا في ذكر سبب نزوله أن سواء كان نزولها قبل الآيات التي افتتحت بها السورة أم كان نزولها بعد تلك الآيات. فهذه الجملة ابتدائية، ومناسبة موقعها بعد الجملة التي قبلها واضحة.
وقد أعضل معناها فتطلب المفسرون وجوها من التأويل وبعض الوجوه ينحل إلى متعدد.
وسبب نزول هذه الآية ما رواه أبو داود وما رواه الترمذي وصححه وحسنه: "أنه كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد الغنوي من المسلمين كان يخرج من المدينة إلى مكة يحمل الأسرى1 فيأتي بهم إلى المدينة. وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له، وأنه كان وعد رجلا من أسارى مكة ليحمله. قال: فجئت حتى انتهيت إلى حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة. فقال: فجاءت عناق فقالت: مرثد? قلت: مرثد. قالت: مرحبا وأهلا هلم فبت عندنا الليلة. قال فقلت: حرم الله الزنى. فقالت عناق: يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم، فتبعني ثمانية من المشركين... إلى أن قال: ثم رجعوا ورجعت إلى صاحبي فحملته ففككت كبله حتى قدمت المدينة فأتيت رسول الله فقلت: يا رسول الله أنكح عناق ? فأمسك رسول الله فلم يرد علي شيئا حتى نزلت : {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} قال رسول الله: "يا مرثد لا تنكحها" .
فتبين أن هذه الآية نزلت جوابا عن سؤال مرثد بن أبي مرثد هل يتزوج عناق. ومثار ما يشكل ويعضل من معناها: أن النكاح هنا عقد التزوج كما جزم به المحققون من المفسرين مثل الزجاج والزمخشري وغيرهما. وأنا أرى لفظ النكاح لم يوضع ولم يستعمل إلا في عقد الزواج وما انبثق زعم أنه يطلق على الوطء إلا من تفسير بعض المفسرين قوله تعالى: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} بناء على اتفاق الفقهاء على أن مجرد العقد على المرأة بزوج لا يحلها لمن بتها إلا إذا دخل بها الزوج الثاني.
ـــــــ
1 أي الذين أوثقهم المشركون بمكة لأجل إيمانهم يتركوهم يهاجرون إلى المدينة فكان مرتد يحملهم إلى المدينة سرا.
وفيه بحث طويل، ليس هذا محله.
وأنه لا تردد في أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الزنى إذ كان تحريم الزنى من أول ما شرع من الأحكام في السلام كما في الآيات الكثيرة النازلة بمكة، وحسبك أن الأعشى عد تحريم الزنى في عداد ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من التشريع إذ قال في قصيدته لما جاء مكة بنية الإسلام ومدح النبي صلى الله عليه وسلم فصده أبو جهل فانصرف إلى اليمامة ومات هناك قال:
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حين أوصى وأشهدا
إلى أن قال.........
ولا تقربن جارة إن سرها ... عليك حرام فانكحن أو تأبدا1
وقد ذكرنا ذلك في تفسير سورة الأسراء.
وانه يلوح في بادئ النظر من ظاهر الآية أن صدرها إلى قوله: {أَوْ مُشْرِكٌ} إخبار عن حال تزوج امرأة زانية وأنه ليس لتشريع حكم النكاح بين الزناة المسلمين، ولا نكاح بين المشركين. فإذا كان إخبارا لم يستقم معنى الآية إذ الزاني قد ينكح الحصينة والمشرك قد ينكح الحصينة وهو الأكثر فلا يستقيم لقوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} معنى، وأيضا الزانية قد ينكحها المسلم العفيف لرغبة في جمالها أو لينقذها من عهر الزنى وما هو بزان ولا مشرك فلا يستقيم معنى لقوله: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} . وإننا لو تنازلنا وقبلنا أن تكون لتشريع حكم فالإشكال أقوى إذ لا معنى لتشريع حكم نكاح الزاني والزانية والمشرك والمشركة فتعين تأويل الآية بما يفيد معنى معتبرا.
والوجه في تأويلها: أن مجموع الآية مقصود منه التشريع دون الإخبار لأن الله تعالى قال في آخرها: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . ولأنها نزلت جوابا عن سؤال مرثد تزويجه عناق وهي زانية ومشركة ومرثد مسلم تقي. غير أن صدر الآية ليس هو المقصود بالتشريع بل هو تمهيد لآخرها مشير إلى تعليل ما شرع في آخرها، وفيه ما يفسر مرجع اسم لإشارة الواقع في قوله: {وَحُرَّمَ ذَلِكَ} ، وأن حكمها عام لمرثد وغيره من المسلمين بحق عموم لفظ: {الْمُؤْمِنِينَ} .
وينبني على هذا التأصيل أن قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} تمهيد
ـــــــ
1 أي تعزب.
للحكم المقصود الذي في قوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وأنه مسوق مساق الإخبار دون التشريع فيتعين أن المراد من لفظ: {الزَّانِي} عنى الاسمي لاسم الفاعل وهو معنى التلبس بمصدره دون معنى الحدوث؛ إذ يجب أن لا يغفل عن كون اسم الفاعل له شائبتان: شائبة كونه مشتقا من المصدر فهو بذلك بمنزلة الفعل المضارع، فضارب يشبه يضرب في إفادة حصول الحدث من فاعل، وشائبة دلالته على ذات متلبسة بحدث فهو بتلك الشائبة يقوى فيه جانب الأسماء الدالة على الذوات. وحمله في هذه الآية على المعنى الاسمي تقتضيه قرينة السياق إذ لا يفهم أن يكون المعنى أن الذي يحدث الزنى لا يتزوج إلا زانية لانتفاء جدوى تشريع منع حالة من حالات النكاح عن الذي أتى الزنى. وهذا على عكس محمل قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إنه بالمعنى الوصفي، أي التلبس بإحداث الزنى حسبما حملناه على ذلك آنفا بقرينة سياق ترتب الجلد على الوصف إذ الجلد عقوبة إنما تترتب على إحداث جريمة توجبها.
فتمخض أن يكون المراد من قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} إلخ. من كان الزنى دأبا له قبل الإسلام وتخلق به ثم أسلم وأراد تزوج امرأة ملازمة للزنى مثل البغايا ومتخذات الأخدان ولا يكن إلا غير مسلمات لا محالة فنهى الله المسلمين عن تزوج مثلها بقوله: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . وقدم له ما يفيد تشويهه بأنه لا يلائم حال المسلم وإنما هو شأن أهل الزنى، أي غير المؤمنين لأن المؤمن لا يكون الزنى له دأبا، ولو صدر منه لكان على سبيل الفلتة كما وقع لماعز بن مالك.
فقوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} تمهيد وليس بتشريع، لأن الزاني بمعنى من الزنى له عادة لا يكون مؤمنا فلا تشرع له أحكام الإسلام. وهذا من قبيل قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} هذا يتضمن أن المسلم إذا تزوج زانية فقد وضع نفسه في صف الزناة، أي المشركين.
وعطف قوله: {أَوْ مُشْرِكَةً} على {زَانِيَةً} لزيادة التفظيع فأن الزانية غير المسلمة قد تكون غير مشركة مثل زواني اليهود والنصارى وبغاياهما. وكذلك عطف {أَو مُشْرِك} على {إِلَّا زَانٍ} لظهور أن المقام ليس بصدد التشريع للمشركات والمشركين أحكام التزوج بينهم إذ ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة.
فتمحض من هذا أن المؤمن الصالح لا يتزوج الزانية. ذلك لأن الدربة على الزنى يتكون بها خلق يناسب أحوال الزناة من الرجال والنساء فلا يرغب في معاشرة الزانية إلا
من تروق له أخلاق أمثالها، وقد كان المسلمون أيامئذ قريبي عهد بشرك وجاهلية فكان من مهم سياسة الشريعة للمسلمين التباعد بهم عن كل ما يستروح منه أن يذكرهم بما كانوا يألفونه قصد أن تصير أخلاق الإسلام ملكات فيهم فأراد الله أن يبعدهم عما قد يجدد فيهم أخلاقا أوشكوا أن ينسوها.
فموقع هذه الآية موقع المقصود من الكلام بعد المقدمة ولذلك جاءت مستأنفة كما تقع النتائج بعد أدلتها، وقدم قبلها حكم عقوبة الزنى لإفادة حكمه وما يقتضيه ذلك من تشنيع فعله. فلذلك فالمراد بالزاني: من وصف الزنى عادته.
وفي تفسير القرطبي عن عمرو بن العاص ومجاهد: أن هذه الآية خاصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاح امرأة يقال لها: أم مهزول، وكانت من بغايا الزانيات وشرطت له أن تنفق عليه ولعل أم مهزول كنية عناق ولعل القصة واحدة إذ لم يرو غيرها. قال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ.
وابتدئ في هذه الآية بذكر الزاني قبل ذكر الزانية على عكس ما تقدم في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} فإن وجه تقديم الزانية في الآية السابقة هو ما عرفته، فأما هنا فإن سبب نزول هذه الآية كان رغبة رجل في تزوج امرأة تعودت الزنى فكان المقام مقتضيا الاهتمام بما يترب على هذا السؤال من مذمة الرجل الذي يتزوج مثل تلك المرأة.
وجملةَ: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ميل للمقصود من الجملتين قبلها، وهو تصريح بما أريد من تفظيع نكاح الزانية وببيان الحكم الشرعي في القضية.
والإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى المعنى الذي تضمنته الجملتان من قبل وهو نكاح الزانية، أي وحرم نكاح الزانية على المؤمنين، فلذلك عطفت جملة: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} لأنها أفادت تكميلا لما قبلها وشأن التكميل أن يكون بطريق العطف. ومن العلماء من حمل الآية على ظاهرها من التحريم وقالوا: هذا حكم منسوخ نسختها الآية بعدها: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} دخلت الزانية في الأيامي، أي بعد أن استقر الإسلام وذهب الخوف على المسلمين من أن تعاودهم أخلاق أهل الجاهلية.
وروي هذا عن سعيد بن المسيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر، وبه
أخذ مالك وأبو حنيفة والشافعي، ولم يؤثر أن أحدا تزوج زانية فيما بين نزول هذه الآية ونزول ناسخها، ولا أنه فسخ نكاح مسلم امرأة زانية. ومقتضى التحريم الفساد وهو يقتضي الفسخ. وقال الخطابي: هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ. ومنهم من رأى حكمها مستمرا. ونسب الفخر القول باستمرار حكم التحريم إلى أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة رضي الله عنهم ونسبه غيره إلى التابعين ولم يأخذ به فقهاء الأمصار من بعد.
[5,4] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
كان فاشيا في الجاهلية رمي بعضهم بعضا بالزنى إذا رأوا بين النساء والرجال تعارفا أو محادثة.
وكان فاشيا فيهم الطعن في الأنساب بهتانا إذا رأوا قلة شبه بين الأب والابن، فكان مما يقترن بحكم حد الزنى أن يذيل بحكم الذين يرمون المحصنات بالزنا إذا كانوا غير أزواجهن وهو حد القذف. وقد تقدم وجه الاقتران بالفاء في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا} الآية.
والرمي حقيقته: قذف شيء من اليد. وشاع استعماله في نسبة فعل أو وصف إلى شخص. وتقدم في قوله تعالى: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} في سورة النساء. وحذف المرمي به في هذه الآية لظهور المقصود بقرينة السياق وذكر المحصنات.
والمحصنات: هن المتزوجات من الحرائر. والإحصان: الدخول بزوج بعقد النكاح. والمحصن: اسم مفعول من أحصن الشيء إذا منعه من الإضاعة واستيلاء الغير عليه، فالزوج يحصن امرأته، أي يمنعها من الإهمال واعتداء الرجال. وهذا كتسمية الأبكار مخدرات ومقصورات، وتقدم في سورة النساء. ولا يطلق وصف {المُحْصَنَاتِ} إلا على الحرائر المتزوجات دون الإماء لعدم صيانتهن في عرف الناس قبل الإسلام.
وحذف متعلق الشهادة لظهور أنهم شهداء على إثبات ما رمى به القاذف، أي إثبات وقوع الزنى بحقيقته المعتد بها شرعا، ومن البين أن الشهداء الأربعة هم غير القاذف لأن معنى: {يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} لا يتحقق فيما إذا كان القاذف من جملة الشهداء. والجلد
تقدم آنفا. وشرع هذا الجلد عقابا للرامي بالكذب أو بدون تثبت ولسد ذريعة ذلك.
وأسند فعل {يَرْمُونَ} إلى اسم الموصول المذكر وضمائر {تَابُوا}{وَأَصْلَحُوا} وكذلك وصف {الفَاسِقُونَ} بصيغ التذكير. وعدي فعل الرمي إلى مفعول بصيغة الإناث كل ذلك بناء على الغالب أو على مراعاة قصة كانت سبب نزول الآية ولكن هذا الحكم في الجميع يشمل ضد أهل هذه الصيغة في مواقعها كلها بطريق القياس. ولا اعتداد بما يتوهم من فارق إلصاق المعرة بالمرأة إذا رميت بالزنى دون الرجل يرمى بالزنى لأن جعل العار على المرأة تزني دون الرجل يزني إنما هو عادة جاهلية لا التفات إليها في الإسلام فقد سوى الإسلام التحريم والحد والعقاب الآجل والذم العاجل بين المرأة والرجل.
وقد يعد اعتداء الرجل بزناه أشد من اعتداء المرأة بزناها لأن الرجل الزاني يضيع نسب نسله فهو جان على نفسه، وأما المرأة فولدها لاحق بها لا محالة فلا جناية على نفسها في شأنه، وهما مستويان في الجناية على الولد بإضاعة نسبه فهذا الفارق الموهوم ملغى في القياس.
أما عدم قبول شهادة القاذف في المستقبل فلأنه لما قذف بدون إثبات قد دل على تساهله في الشهادة فكان حقيقا بأن لا يؤخذ بشهادته.
والأبد: الزمن المستقبل كله.
واسم الإشارة للإعلان بفسقهم ليتميزوا في هذه الصفة الذميمة.
والحصر في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} للمبالغة في شناعة فسقهم حتى كأن ماعداه من الفسوق لا يعد فسقا.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} حقه أن يعود إلى جميع ما تقدم قبله كما هو شأن الاستثناء عند الجمهور إلا أنه هنا راجع إلى خصوص عدم قبول شهادتهم وإثبات فسقهم وغير راجع إلى إقامة الحد، بقرينة قوله: {مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} ، أي بعد أن تحققت الأحكام الثلاثة فالحد قد فات على أنه قد علم من استقراء الشريعة أن الحدود الشرعية لا تسقطها توبة مقترف موجبها. وقال أبو حنيفة وجماعة: الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة جريا على أصله في عود الاستثناء الوارد بعد جمل متعاطفة.
والتوبة: الإقلاع والندم وظهور عزمه على أن لا يعود لمثل ذلك. وقد تقدم ذكر التوبة في ذكر النساء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} الآيات. وليس من
شرط التوبة ان يكذب نفسه فيما قذف به عند الجمهور، وهو قول مالك، لأنه قد يكون صادقا ولكنه عجز عن إثبات ذلك بأربعة شهداء على الصفة المعلومة، فتوبته أن يصلح ويحسن حاله ويثبت في أمره. وقال قوم: لا تعتبر توبته حتى يكذب نفسه. وهذا قول عمر بن الخطاب والشعبي، ولم يقبل عمر شهادة أبي بكرة لأنه أبى أن يكذب نفسه فيما رمى به المغيرة ابن شعبة. وقبل من بعد شهادة شبل بن معبد ونافع بن كلدة لأنهما أكذبا أنفسهما في تلك القضية وكان عمر قد حد ثلاثتهم حد القذف.
ومعنى {أَصْلَحُوا} فعلوا الصلاح، أي صاروا صالحين. فمفعول الفعل محذوف دل عليه السياق، أي اصلحوا أنفسهم باجتناب ما نهوا عنه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} وقوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} في سورة البقرة.
وفرع {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على ما يقتضيه الاستثناء من معنى: فاقبلوا شهادتهم واغفروا لهم ما سلف فأن الله غفور رحيم، أي فإن الله أمر بالمغفرة لهم لأنه غفور رحيم، كما قال في آية البقرة {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
وإنما صرح في آية البقرة بما قدر نظيره هنا لأن المقام هنالك مقام إطناب لشدة الاهتمام بأمرهم إذ ثابوا إلى الإيمان والإصلاح وبيان ما أنزل إليهم من الهدى بعد ما كتموه وكتمه سلفهم.
وظاهر الآية يقتضي أن حد القذف حق لله تعالى، وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك والشافعي: حق المقذوف. وترتب على الخلاف سقوطه بالعفو من المقذوف.
وهذه الآية أصل في حد الفرية والقذف الذي كانوا أول ظهوره في رمي المحصنات بالزنى. فكل رمي بما فيه معرة موجب للحد بالإجماع المستند للقياس.
[9,6] {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
هذا تخصيص للعمومين اللذين في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فإن من المحصنات من هن أزواج لمن يرميهن، فخص هؤلاء الذين يرمون أزواجهم من حكم قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الخ. إذ عذر الأزواج خاصة في إقدامهم على القول في أزواجهم بالزنى إذا لم يستطيعوا إثباته بأربعة شهداء.
ووجه عذرهم في ذلك ما في نفوس الناس من سجية الغيرة على أزواجهم وعدم احتمال رؤية الزنى بهن فدفع عنهم حد القذف بما شرع لهم من الملاعنة.
وفي هذا الحكم قبول لقول الزوج في امرأته في الجملة إذا كان متثبتا حتى أن المرأة بعد أيمان زوجها تكلف بدفع ذلك بأيمانها وإلا قبل قوله فيها مع أيمانه فكان بمنزلة شهادة أربعة فكان موجبا حدها إذا لم تدفع ذلك بأيمانها.
وعلة ذلك هو أن في نفوس الأزواج وازعا يزعهم عن أن يرموا نساءهم بالفاحشة كذبا وهو وازع التعيير من ذلك ووازع المحبة في الأزواج غالبا، ولذلك سمى الله ادعاء الزوج عليها باسم الشهادة بظاهرة الاستثناء في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} . وفي نفوسهم من الغيرة عليهن ما لا يحتمل معه السكوت على ذلك، وكانوا في الجاهلية يقتلون على ذلك وكان الرجل مصدقا فيما يدعيه على امرأته. وقد قال سعد بن عبادة: لو وجدت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح. ولكن الغيرة قد تكون مفرطة وقد يذكيها في النفوس تنافس الرجال في أن يشتهروا بها، فمنع الإسلام من ذلك إذ ليس من حق أحد إتلاف نفس إلا الحاكم. ولم يقرر جعل أرواح الزوجات تحت تصرف مختلف نفسيات أزواجهن.
ولما تقرر حد القذف اشتد الأمر على الأزواج الذين يعثرون على ريبة في أزواجهم. ونزلت قضية عويمر العجلاني مع زوجه خولة بنت عاصم ويقال: بنت قيس وكلاهما من بني عم عاصم بن عدي من الأنصار. روى مالك في الموطأ عن سهل بن سعد أن: عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل? سل لي يا عاصم رسول الله عن ذلك. فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فكره رسول الله المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله. فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال: يا عاصم ماذا قال لك رسول الله? فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله المسألة التي سألته عنها. فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها. فقام عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أنزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها" . قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. فكانت هذه الآية مبدأ شرع الحكم في رمي الأزواج نساءهم بالزنى. واختلط صاحب القصة على بعض الرواة فسموه هلال بن أميه الواقفي. وزيد في القصة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "البينة وإلا حد في ظهرك" . والصواب أن سبب نزول الآية قصة عويمر العجلاني وكانت هذه الحادثة في شعبان سنة تسع عقب القفول من غزوة تبوك والتحقيق أنهما قصتان حدثتا في وقت واحد أو متقارب.
ولما سمع النبي صلى الله عليه وسلم قول سعد بن عبادة عند نزول آية القذف السالفة قال: "أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير منه والله أغير مني" يعني أنها غير معتدلة الآثار لأنه جعل من آثارها أن يقتل من يجده مع امرأته والله ورسوله لما يأذنا بذلك، فأن الله ورسوله أغير من سعد، ولم يجعلا للزوج الذي يرى زوجته تزني أن يقتل الزاني ولا المرأة وذلك قال عويمر العجلاني: من وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه أم كيف يفعل?.
وحذف متعلق {شُهَدَاءُ} لظهوره من السياق، أي شهداء على ما ادعوه مما رموا به أزواجهم.
وشمل قوله: {إَلَّا أَنْفُسُهُمْ} ما لا تتأتى فيه الشهادة مثل الرمي بنفي حمل منه ادعى قبله الزوج الاستبراء.
وقد علم من أحاديث سبب نزول الآية ومن على تخصيص الأزواج في حكم القذف بحكم خاص ومن لفظ: {يَرْمُونَ} ومن ذكر الشهداء أن اللعان رخصة من الله بها على الأزواج في أحوال الضرورة فلا تتعداها. فلذلك قال مالك في المشهور عنه وآخر قوليه وجماعة: لا يلاعن بين الزوجين إلى إذا ادعى الزوج رؤية امرأته تزني أو نفى حملها نفيا مستندا إلى حدوث الحمل بعد تحقق براءة رحم زوجه وعدم قربانه إياها، فإن لم يكن كذلك ورماها بالزنى، أي بمجرد السماع أو برؤية رجل في البيت في غير حال الزنى، أو بقوله لها: يا زانية، أو نحو ذلك مما يجري مجرى السب والشتم فلا يشرع اللعان. ويحد الزوج في هذه الأحوال حد القذف لأنه افتراء لا بينة عليه ولا عذر يقتضي تخصيصه إذ العذر هو عدم تحمل رؤية امرأته تزني وعدم تحمل رؤية حمل يتحقق أنه ليس منه. وقال أبو حنيفة والشافعي والجمهور: إذا قال تحمل لها: يا زانية، وجب اللعان، ذهابا منه إلى أن اللعان بين الزوجين يجري في مجرد القذف أيضا تمسكا بمطلق لفظ {يُرْمُونَ} .
ويقدح في قياسهم أن بين دعوى الزنى على المرأة وبين السب بألفاظ فيها نسبة إلى الزنا فرقا بينا عند الفقيه. وتسمية القرآن أيمان اللعان شهادة يومئ إلى أنها لرد دعوى وشرط ترتب الآثار على الدعوى أن تكون محققة فقول مالك أرجح من قول الجمهور لأنه أغوص على الحقيقة الشرعية.
وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الخ لما تعذر على الأزواج إلفاء الشهادة في مثل هذا الحال وعذرهم الله في الادعاء بذلك ولم يترك الأمر سبهللا ولا ترك النساء مضغة في أفواه من يريدون التشهير بهن من أزواجهن لشقاق أو غيظ مفرط أو حماقة كلف الأزواج شهادة لا تعسر عليهم أن كانوا صادقين فيما يدعون فأوجب عليهم الحلف بالله أربع مرات لتقوم الأيمان مقام الشهود الأربعة المفروضين للزنا في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} الخ.
وسمي اليمين شهادة لأنه بدل منها فهو مجاز بعلاقة الحلول الاعتباري، وأن صيغة الشهادة تستعمل في الحلف كثير وهنا جعلت بدلا من الشهادة فكأن المدعي أخرج من نفسه أربعة شهود على تلك الأيمان الأربع.
ومعنى كون الأيمان بدلا من الشهادة أنه قائمة مقامها للعذر الذي ذكرناه آنفا، فلا تأخذ جميع أحكام الشهادة، ولا يتوهم أن لا تقبل أيمان اللعان إلا من عدل فلو كان فاسقا لم يلتعن ولم يحد حد القذف بل كل من صحت يمينه صح لعانه وهذا قول ماللك والشافعي، واشترط أبو حنيفة الحرية وحجته في ذلك إلحاق اللعان بالشهادة لأن الله سماه شهادة.
ولأجل المحافظة على هذه البدلية اشترط أن تكون أيمان اللعان بصيغة: أشهد بالله عند الأئمة الأربعة. وأما ما بعد صيغة أشهد فيكون كاليمين على حسب الدعوى التي حلف عليها بلفظ لا احتمال فيه.
وقوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} قرأه الجمهور بنصب {أَربَعُ} على أنه مفعول مطلق لشهادة فيكون {شَهَادَةُ أَحَدِهُمْ} محذوف الخبر دل عليه معنى الشرطية الذي في الموصول واقتران الفاء بخبره، والتقدير: فشهادة أحدهم لازمة له. ويجوز ان يكون الخبر قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} على حكاية اللفظ مثل قولهم هجيرا أبي بكر لا إله إلا الله. وقرأه حمزة والكسائي وحفص وخلف برفع {أَرْبعُ} على انه خبر المبتدأ وجملة {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} إلى آخرها بدل من {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} . ولا خلاف بين القراء
في نصب {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} الثاني.
وفي قوله: {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} حكاية للفظ اليمين مع كون الضمير مراعى فيه سياق الغيبة، أي يقول: أني لمن الصادقين فيما ادعيت عليها.
وأما قوله: {وَالخَامِسَةُ} أي فالشهادة الخامسة، أي المكملة عدد خمس للأربع التي قبلها. وأنث اسم العدد لأنه صفه لمحذوف دل عليه قوله: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} . والتقدير: والشهادة الخامسة. وليس لها مقابل في عدد شهود الزنى. فلعل حكمة زيادة هذه اليمين مع الأيمان الأربع القائمة مقام الشهود الأربعة أنها لتقوية الأيمان الأربع باستذكار ما يترتب على أيمانه أن كانت غموسا من الحرمان مرحمة الله تعالى. وهذا هو وجه كونها مخالفة في صيغتها لصيغ الشهادات الأربع التي تقدمتها. وفي ذلك إيماء إلى أن الأربع هي المجعولة بدلا عن الشهود وأن هذه الخامسة تذييل للشهادة وتغليظ لها.
وقرأ الجمهور: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} بالرفع كقوله: {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} وهو من عطف الجمل. وقراه حفص عن عاصم بالنصب عطفا على {أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ} الثاني وهو من عطف المفردات.
وقرأ الجمهور: {أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} و {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} بتشديد نون أن وبلفظ المصدر فيه {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ} وجر اسم الجلالة بإضافة غضب إليه. ويتعين على هذه القراءة أن تقدر باء الجر داخلة على أن في الموضعين متعلقة بالخامسة لأنها صفة لموصوف تقديره: والشهادة الخامسة، ليتجه فتح همزة أن فيهما. والمعنى: أن يشهد الرجل أو تشهد المرأة بإن لعنة الله أو بأن غضب الله أي بما يطابق هذه الجملة.
وقرأ نافع بتخفيف نون أن في الموضعين وغضب الله بصيغة فعل المضي، ورفع اسم الجلالة الذي بعد غضب. وخرجت قراءته على جعل أن مخففة من الثقلية مهملة العمل واسمها ضمير الشأن محذوف أي تهويلا لشأن الشهادة الخامسة. ورد بما تقرر من عدم خلو جملة خبر أن المخففة من أحد أربعة أشياء: قد، وحرف النفي، وحرف التنفيس، ولولا. والذي أرى أن تجعل أن على قرأه نافع تفسيرية لأن الخامسة يمين ففيها معنى القول دون حروفه فيناسبها التفسير.
وقرأ يعقوب أن لعنة الله بتخفيف أن ورفع لعنة وجر اسم الجلالة مثل قرآءة نافع. وقرأ وحده أن غضب الله عليها بتخفيف أن وفتح ضاد غضب ورفع الباء
على أنه مصدر ويجر اسم الجلالة بالإضافة.
وعلى كل القراءات لا يذكر المتلاعنان في الخامسة من يمين اللعان لفظ أن فإنه لم يرد في وصف أيمان اللعان في كتب الفقه وكتب السنة.
والقول في صيغة الخامسة مثل القول في صيغ الأيمان الأربع. وعين له في الدعاء خصوص اللعنة لأنه وإن كان كاذبا فقد عرض بامرأته للعنة الناس ونبذ الأزواج إياها فناسب أن يكون جزاؤه اللعنة.
واللعنة واللعن: الإبعاد بتحقير. وقد تقدم في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} في سورة الحجر.
واعلم أن الزوج إن سمى رجلا معينا زنى بامرأته صار قاذفا له زيادة على قذفه المرأة، وأنه إذا لاعن وأتم اللعان سقط عنه حد القذف للمرأة وهو ظاهر ويبقى النظر في قذفه ذلك الرجل الذي نسب إليه الزنى. وقد اختلف الأئمة في سقوط حد القذف للرجل فقال الشافعي: يسقط عنه حد القذف للرجل لأن الله تعالى لم يذكر إلا حدا واحدا ولأنه لم يثبت بالسنة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد الفرية على عويمر العجلاني ولا على هلال أبن أميه بعد اللعان. وقال مالك و أبو حنيفة: يسقط اللعان حد الملاعن لقذف امرأته ولا يسقط حد القذف لرجل سماه، والحجة لهما بأن الله شرع حد القذف.
ولما كانت هذه الأيمان مقتضية صدق دعوى الزوج على المرأة كان من أثر ذلك أن تعتبر المرأة زانية أو أن يكون حملها ليس منه فهو من زنى لأنها في عصمة فكان ذلك مقتضيا أن يقام عليها حد الزنى، فلم تهمل الشريعة حق المرأة ولم تجعلها مأخوذة بأيمان قد يكون حاذفها كاذبا فيها لأنه يتهم بالكذب لتبرئة نفسه فجعل للزوجة معارضة أيمان زوجها كما جعل للمشهود عليه الطعن في الشهادة بالتجريح أو المعارضة فقال تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} الآية. وإذ قد كانت أيمان المرأة لرد أيمان الرجل، وكانت أيمان الرجل بدلا من الشهادة وسميت شهادة، كانت أيمان المرأة لردها يناسب أن تسمى شهادة، ولأنها كالشهادة المعارضة، ولكونها بمنزلة المعارضة كانت أيمان المرأة كلها على إبطال دعواه لا على إثبات براءتها أو صدقها.
والدرء: الدفع بقوة، واستعير هنا للإبطال. وتقدم عند قوله تعالى: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} في سورة الرعد.
والتعريف في العذاب ظاهر في العهد لتقدم ذكر العذاب في قوله: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . فيؤخذ من الآية أن المرأة إذا لم تحلف أيمان اللعان أقيم عليها الحد. وهذا هو الذي تشهد به روايات حديث اللعان في السنة. وقال أبو حنيفة: إذا نكلت المرأة عن أيمان اللعان لم تحد لأن الحد عنده لا يكون إلا بشهادة شهود أو إقرار. فعنده يرجع بها إلى حكم الحبس المنسوخ عندنا، وعنده إنما نسخ في بعض الأحوال وبقي في البعض.
والقول في صيغة أيمان المرأة كالقول في صيغة أيمان الزواج سواء. وعين لها في الخامسة الدعاء بغضب الله عليها إن صدق زوجها لأنها أغضبت زوجها بفعلها فناسب أن يكون جزاؤها على ذلك غضب ربها عليها كما أغضبت بعلها.
وتتفرع من أحكام اللعان فروع كثيرة يتعرض بعض المفسرين لبعضها وهي من موضوع كتب الفروع.
[10] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}
تذييل لما مر من الأحكام العظيمة المشتملة على التفضل من الله والرحمة منه، والمؤذنه بأنه تواب على من تاب من عباده، والمنبئة بكمال حكمته تعالى إذ وضع الشدة موضعها والرفق موضعه وكف بعض الناس عن بعض فلما دخلت تلك الأحكام تحت كلي هذه الصفات كان ذكر الصفات تذييلا.
وجواب لولا محذوف لقصد تهويل مضمونه فيدل تهويله على تفخيم مضمون الشرط الذي كان سببا في امتناع حصوله. والتقدير: لولا فضل الله عليكم فدفع عنكم أذى بعضكم لبعض بما شرع من الزواجر لتكالب بعضكم على بعض، ولولا رحمة الله بكم فقدر لكم تخفيضا مما شرع من الزواجر في حالة الاضطرار والعذر لما استطاع أحد أن يسكت على ما يرى من مثار الغيرة، فإذا باح بذلك أخذ بعقاب وإذا انتصف لنفسه أهلك بعضا أو سكت على ما لا على مثله يغضى، ولولا أن الله تواب حكيم لما رد على من تاب فأصلح ما سلبه منه من العدالة وقبول الشهادة.
وفي ذكر وصف الحكيم هنا مع وصف تواب إشارة إلى أن في هذه التوبة حكمة وهي استصلاح الناس.
وحذف جواب لولا للتفخيم والتعظيم وحذفه طريقة لأهل البلاغة، وقد تكرر في
هذه السورة وهو مثل حذف جواب لو، وتقدم حذف جواب لو عند قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} في سورة البقرة. وجواب لولا لم يحضرني الآن شاهد لحذفه وقد قال بعض الأئمة: إن لولا مركبة من لو ولا.
[11] {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
استئناف ابتدائي فإن هذه الآيات العشر إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} نزلت في زمن بعيد عن زمن نزول الآيات التي من أول هذه السورة كما ستعرفه.
والإفك: اسم يدل على كذب لا شبهة فيه فهو بهتان يفجأ الناس. وهو مشتق من الأفك بفتح الهمزة وهو قلب الشيء، ومنه سمي أهل سدوم وعمورة وأدمة وصبوييم قرى قوم لوط أصحاب المؤتفكة لأن قراهم ائتفكت، أي قلبت وخسف بها فصار أعلاها أسفلها فكان الإخبار عن الشيء بخلاف حالته الواقعية قلبا له عن حقيقته فسمي إفكا. وتقدم عند قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} في سورة الأعراف.
و {جَاءُوا بِالْأِفْكِ} معناه: قصدوا واهتموا. وأصله: أن الذي يخبر بخبر غريب يقال له: جاء بخبر كذا، ولأن شأن الأخبار الغريبة أن تكون مع الوافدين من أسفار أو المبتعدين عن الحي قال تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ} ؛ فشبه الخبر بقدوم المسافر أو الوافد على وجه المكنية وجعل المجيء ترشيحا وعدي بباء المصاحبة تكميلا للترشح.
والإفك: حديث اختلقه المنافقون وراج عند المنافقين ونفر من سذج المسلمين إما لمجرد اتباع النعيق وإما لإحداث الفتنة بين المسلمين. وحاصل هذا الخبر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قفل من غزوة بني المصطلق من خزاعة، وتسمى غزوة المريسيع ولم تبق بينه وبين المدينة إلا مرحلة، آذن بالرحيل آخر الليل. فلما علمت عائشة بذلك خرجت من هودجها وابتعدت عن الجيش لقضاء شأنها كما هو شأن النساء قبل الترحل فلما فرغت أقبلت إلى رحلها فافتقدت عقدا من جزع ظفار كان في صدرها فرجعت على طريقها تلتمسه فحبسها طلبه وكان ليل. فلما وجدته رجعت إلى حيث وضع رحلها فلم تجد الجيش ولا رحلها، وذلك أن الرجال الموكلين بالترحل قصدوا الهودج فاحتملوه وهم يحسبون أن عائشة فيه وكانت خفيفة قليلة اللحم فرفعوا الهودج وساروا فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن يفتقدوها فيرجعوا إليها فنامت وكان صفوان بن المعطل بكسر الطاء السلمي
بضم السين وفتح اللام نسبة إلى بني سليم وكان مستوطنا المدينة من مهاجرة العرب قد أوكل إليه النبي صلى الله عليه وسلم حراسة ساقة الجيش، فلما علم بابتعاد الجيش وأمن عليه من غدر العدو ركب راحلته ليلتحق بالجيش فلما بلغ الموضع الذي كان به الجيش بصر بسواد إنسان فإذا هي عائشة وكان قد رآها قبل الحجاب فاسترجع، واستيقظت عائشة بصوت استرجاعه ونزل عن ناقته وأدناها منها وأناخها فركبتها عائشة وأخذ يقودها حتى لحق بالجيش في نحر الظهيرة وكان عبد الله ابن أبي بن سلول رأس المنافقين في الجيش فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها، فراج قوله على حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة بكسر ميم مسطح وفتح طائه وضم همزة أثاثة وحمنة بنت جحش أخت زينب أم المؤمنين حملتها الغيرة لأختها ضرة عائشة وساعدهم في حديثهم طائفة من المنافقين أصحاب عبد الله بن أبي.
فالإفك: علم بالغلبة على ما في هذه القصة من الاختلاق.
والعصبة: الجماعة من عشرة إلى أربعين كذا قال جمهور أهل اللغة. وقيل العصبة: الجماعة من الثلاثة إلى العشرة وروي عن ابن عباس. وقيل في مصحف حفصة عصبة أربعة منكم. وهو اسم جمع لا واحد له من لفظه، ويقال: عصابة. وقد تقدم في أول سورة يوسف.
و {عُصْبَةٌ} بدل من ضمير {جَاءُوا} .
وجملة {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ} خبر إن والمعنى: لا تحسبوا إفكهم شرا لكم، لأن الضمير المنصوب من {تَحْسَبُوهُ} لما عاد إلى الإفك وكان الإفك متعلقا بفعل {جَاءُوا} صار الضمير في قوة المعرف بلام العهد. فالتقدير: لا تحسبوا الإفك المذكور شرا لكم. ويجوز أن يكون خبر إن قوله: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} وتكون جملة {لا تَحْسَبُوهُ} معترضة.
ويجوز جعل {عُصْبَةٌ} خبر إن ويكون الكلام مستعملا في التعجيب من فعلهم مع انهم عصبة من القوم أشد نكرا، كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
وذكر عصبة تحقير لهم ولقولهم، أي لا يعبأ بقولهم في جانب تزكية جميع الأمة لمن رموهما بالإفك. ووصف العصبة بكونهم منكم يدل على أنهم من المسلمين، وفي
ذلك تعريض بهم بأنهم حادوا عن خلق الإسلام حيث تصدوا لأذى المسلمين.
وقوله: {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لإزالة ما حصل في نفوس المؤمنين من الأسف من اجتراء عصبة على هذا البهتان الذي اشتملت عليه القصة فضمير تحسبوه عائد إلى الإفك.
والشر المحسوب: أنه أحدث في نفر معصية الكذب والقذف والمؤمنون يودون أن تكون جماعتهم خالصة من النقائض فإنهم أهل المدينة الفاضلة. فلما حدث فيهم الاضطراب حسبوه شرا نزل بهم.
ومعنى نفي أن يكون ذلك شرا لهم لأنه يضيرهم بأكثر من ذلك الأسف الزائل وهو دون الشر لأنه آيل إلى توبة المؤمنين منهم فيتمخض إثمه للمنافقين وهم جماعة أخرى لا يضر ضلالهم المسلمين.
وقال أبو بكر ابن العربي: حقيقة الخير ما زاد نفعه على ضره وحقيقة الشر ما زاد ضره على نفعه، وأن خيرا لا شر فيه هو الجنة وشرا لا خير فيه هو جهنم. فنبه الله عائشة ومن ماثلها ممن ناله هم من هذا الحديث أنه ما أصابهم منه شر بل هو خير على ما وضع الله الشر والخير عليه في هذه الدنيا من المقابلة بين الضر والنفع ورجحان النفع في جانب الخير ورجحان الضر في جانب الشر اه. وتقدم ذكر الخير عند قوله تعالى: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} في سورة النحل.
وبعد إزالة خاطر أن يكون ذلك شرا للمؤمنين أثبتت أنه خير لهم فأتى بالإضراب لإبطال أن يحسبوه شرا، وإثبات انه خير لهم لأن فيه منافع كثيرة؛ إذ يميز به المؤمنون الخلص من المنافقين، وتشرع لهم بسببه أحكام تردع أهل الفسق عن فسقهم، وتتبين منه براءة فضلائهم، ويزداد المنافقون غيظا ويصبحون محقرين مذمومين، ولا يفرحون بظنهم حزن المسلمين، فإنهم لما اختلقوا هذا الخبر ما أرادوا إلا أذى المسلمين، وتجيء منه معجزات بنزول هذه الآيات بالإنباء بالغيب. قال في الكشاف:... وفوائد دينية وآداب لا تخفى على متأملها اه.
وعدل أن يعطف خيرا على شرا بحرف بل فيقال: بل خيرا لكم، إيثارا للجملة الاسمية الدالة على الثبات والدوام.
والإثم: الذنب وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} في سورة البقرة
وعند قوله: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} في سورة الأنعام.
وتولي الأمر: مباشرة عمله والتهمم به.
والكبر بكسر الكاف في قراءة الجمهور، ويجوز ضم الكاف.وقرأ به يعقوب وحده، ومعناه: أشد الشيء ومعظمه، فهما لغتان عند جمهور أئمة اللغة. وقال ابن جني والزجاج: المكسور بمعنى الإثم، والمضموم: معظم الشيء. والذي تولى كبره هو عبد الله بن أبي سلول وهو منافق وليس من المسلمين.
وضمير {مِنْهُمْ} عائد إلى {الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ} . وقيل: الذي تولى كبره حسان بن ثابت لما وقع في صحيح البخاري: عن مسروق قال: دخل حسان على عائشة فأنشد عندها أبياتا منها:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكن أنت لست كذلك. قال مسروق فقلت: تدعين مثل هذا يدخل عليك وقد أنزل الله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} فقالت: أي عذاب أشد من العمى.
والوعيد بأن له عذابا عظيما يقتضي أنه عبد الله بن أبي سلول. وفيه إنباء بأنه يموت على الكفر فيعذب العذاب العظيم في الآخرة وهو عذاب الدرك الأسفل من النار، وأما بقية العصبة فلهم من الإثم بمقدار ذنبهم. وفيه إيماء بأذن الله يتوب عليهم إن تابوا كما هو الشأن في هذا الدين.
{لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} استئناف لتوبيخ عصبة الإفك من المؤمنين وتعنيفهم بعد أن سماه إفكا.
ولولا هنا حرف بمعنى هلا للتوبيخ كما هو شأنها إذا وليها الفعل الماضي وهو هنا {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} . وأما {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} فهو ظرف متعلق بفعل الظن فقدم عليه ومحل التوبيخ جملة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} فأسند السماع إلى جميع المخاطبين وخص بالتوبيخ من سمعوا ولم يكذبوا الخبر.
وجرى الكلام على الإبهام في التوبيخ بطريقة التعبير بصيغة الجمع وإن كان المقصود
دون عدد الجمع فإن من لم يظن خيرا رجلان، فعبر عنهما بالمؤمنين وامرأة فعبر عنها بالمؤمنات على حد قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} .
وقوله: {بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} وقع في مقابلة: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ} فيقتضي التوزيع، أي ظن كل واحد منهم بالآخرين ممن رموا بالإفك خيرا إذ لا يظن المرء بنفسه.
وهذا كقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أي يلمز بعشكم بعضا، وقوله: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} .
روي أن أبا أيوب الأنصاري لما بلغه خبر الإفك قال لزوجه: ألا ترين ما يقال? فقالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا? قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله فعائشة خير مني وصفوان خير منك. قال: نعم.
وتقديم الظرف وهو {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} على عامله وهو {قُلْتُمْ} للاهتمام بمدلول ذلك الظرف تنبيها على أنهم كان من واجبهم أن يطرق ظن الخير قلوبهم بمجرد سماع الخير وأن يتبرؤا من الخوض فيه بفور سماعه.
والعدول عن ضمير الخطاب في إسناد فعل الظن إلى المؤمنين التفاوت، فمقتضى الظاهرة أن يقال: ظننتم بأنفسكم خيرا، فعدل عن الخطاب للاهتمام بالتوبيخ فإن الالتفات ضرب من الاهتمام بالخبر، وليصرح بلفظ الإيمان، دلالة على أن الاشتراك في الإيمان يقتضي أن لا يصدق مؤمن على أخيه وأخته في الدين ولا مؤمنة على أخيها وأختها في الدين قول عائب ولا طاعن. وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في مؤمن أن يبني الأمر فيها على الظن لا على الشك ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام فإذا نسب سوء إلى عرف بالخير ظن أن ذلك إفك وبهتان حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأن ظن السوء الذي وقع هو من خصال النفاق التي سرت لبعض المؤمنين عن غرور وقلة بصارة فكفى بذلك تشنيعا له.
وهذا توبيخ على عدم إعمالهم النظر في تكذيب قول ينادي حاله ببهتانه وعلى سكوتهم عليه وعدم إنكاره.
وعطف {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} تشريع لوجوب المبادرة بإنكار ما يسمعه المسلم من الطعن في المسلم بالقول كما ينكره بالظن وكذلك تغيير المنكر بالقلب واللسان.
والباء في {بِأَنْفُسِهِمْ} لتعدية فعل الظن إلى المفعول الثاني لأنه متعد هنا إلى واحد إذ هو في معنى الاتهام.
والمبين: البالغ الغاية في البيان، أي الوضوح كأنه لقوة بيانه قد صار يبين غيره.
[13] {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}
استئناف ثان لتوبيخ العصبة الذين جاءوا بالإفك وذم لهم. ولولا هذه مثل لولا السابقة بمعنى هلا.
والمعنى: أن الذي يخبر خبرا عن غير مشاهدة يجب أن يستند في خبره إلى إخبار مشاهد، ويجب كون المشاهدين المخبرين عددا يفيد خبرهم الصدق في مثل الخبر الذي أخبروا به، فالذين جاءوا بالإفك اختلقوه من سوء ظنونهم فلم يستندوا إلى مشاهدة ما أخبروا به ولا إلى شهادة من شاهدوه ممن يقبل مثلهم فكان خبرهم إفكا. وهذا مستند إلى الحكم المتقرر من قبل في أول السورة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} فقد علمت أن أول سورة النور نزل أواخر سنة اثنتين أو أوائل سنة ثلاث قبل استشهاد مرثد بن أبي مرثد.
وصيغة الحصر في قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} للمبالغة كأن كذبهم لقوته وشناعته لا يعد غيرهم من الكاذبين كاذبا فكأنهم انحصرت فيهم ماهية الموصوفين بالكذب.
واسم الإشارة لزيادة تمييزهم بهذه الصفة ليحذر الناس أمثالهم.
والتقييد بقوله: {عِنْدَ اللَّهِ} لزيادة تحقيق كذبهم، أي هو كذب في علم الله فإن علم الله لا يكون إلا موافقا لنفس الأمر. وليس المراد ما ذكره كثير من المفسرين أن معنى {عِنْدَ اللَّهِ} في شرعه لأن ذلك يصيره قيدا للاحتراز، فيصير المعنى: هم الكاذبون في إجراء أحكام الشريعة. وهذا ينافي غرض الكلام ويجافي ما اقترن به من تأكيد وصفهم بالكذب؛ على أن كون ذلك هو شرع الله معلوم من قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .فمسألة الأخذ بالظاهر في إجراء الأحكام الشرعية مسألة أخرى لا تؤخذ من
هذه الآية.
[14] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
{وَلَوْلا} هذه حرف امتناع لوجود. والفضل في الدنيا يتعين أنه إسقاط عقوبة الحد عنهم بعفو عائشة وصفوان عنهم، وفي الآخرة إسقاط العقاب عنهم بالتوبة. والخطاب للمؤمنين دون رأس المنافقين. وهذه الآية تؤيد ما عليه الأكثر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد القذف أحدا من العصبة الذين تكلموا في الإفك. وهو الأصح من الروايات: إما لعفو عائشة وصفوان، وإما لأن كلامهم في الإفك كان تخافتا وسرارا ولم يجهروا به ولكنهم أشاعوه في أوساطهم ومجالسهم. وهذا الذي يشعر به حديث عائشة في الإفك في صحيح البخاري وكيف سمعت الخبر من أم مسطح وقولها: أو قد تحدث بهذا وبلغ النبي وأبوي?. وقيل: حد حسان ومسطحا وحمنة، قال ابن إسحاق وجماعة، وأما عبد الله بن أبي فقال فريق: إنه لم يحد حد القذف تأليفا لقلبه للإيمان. وعن ابن عباس أن أبيا جلد حد القذف أيضا.
والإفاضة في القول مستعار من إفاضة الماء في الإناء، أي كثرته فيه. فالمعنى: ما أكثرتم القول فيه والتحدث به بينكم.
[15] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}
إذ ظرف متعلق بأفضتم والمقصود منه ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وبتفظيعها.
وأصل {تَلَقَّوْنَهُ} تتلقونه بتاءين حذفت إحداهما. وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير، وتقدم في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} أي علمها ولقنها، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير كما قال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين
وفي الحديث: "من تصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيبا تلقاها الرحمان بيمينه" .. الحديث، وذلك بتشبيه التهيؤ لأخذ المعطى بالتهيؤ للقاء الغير وذلك هو
إطلاقه في قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} .ففي قوله: {بِأَلْسِنَتِكُمْ} تسبيه الخبر بشخص وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ ويستعد للقائه استعارة مكنية فجعلت الألسن آله للتلقي على طريقة تخييلية بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء. وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر جعلت الألسن مكان الأسماع مجازا بعلاقة الأيلولة. وفيه تعريض بحرصهم على تلقي هذا الخبر فهم حين يتلقونه يبادرون بالإخبار به بلا ترو ولا تريث. وهذا تعريض بالتوبيخ أيضا.
وأما قوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ} فوجه ذكر {بِأَفْوَاهِكُمْ} مع أن القول لا يكون بغير الأفواه أنه أريد التمهيد لقوله: {مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ، أي هو قول غير موافق لما في العلم ولكنه عن مجرد تصور لأن أدلة العلم قائمة بنقيض مدلول هذا القول فصار الكلام مجرد ألفاظ تجري على الأفواه.
وفي هذا من الأدب الأخلاقي أن المرء لا يقول بلسانه إلا ما يعلمه ويتحققه وإلا فهو أحد رجلين: أفن الرأي يقول الشيء قبل أن يتبين له الأمر قيوشك أن يقول الكذب فيحسبه الناس كذابا. وفي الحديث: بحسب المرء من الكذب أن يحدث بكل ما سمع، أو رجل مموه مراء يقول ما يعتقد خلافه قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} وقال {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} .
هذا في الخبر وكذلك الشأن في الوعد فلا يعد إلا بما يعلم أنه يستطيع الوفاء به. وفي الحديث آية المنافق ثلاث: "إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان" .
وزاد في توبيخهم بقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} ، أي تحسبون الحديث بالقذف أمرا هينا.وإنما حسبوه هينا لأنهم استحفوا الغيبة والطعن في الناس استصحابا لما كانوا عليه في مدة الجاهلية إذ لم يكن لهم وازع من الدين يزعهم فلذلك هم يحذرون الناس فلا يعتدون عليهم باليد وبالسب خشية منهم فإذا خلوا أمنوا من ذلك. فهذا سبب حسبانهم الحديث في الإفك شيئا هينا وقد جاء الإسلام بإزالة مساوي الجاهلية وإتمام مكارم الأخلاق.
والهين: مشتق من الهوان، وهو ان الشيء عدم توقيره والمبالاة بشأنه، يقال: هان على فلان كذا، أي لم يعد ذلك أمرا مهما، والمعنى: شيئا هينا. وإنما حسبوه هينا مع أن
الحد ثابت قبل نزول الآية بحسب ظاهر ترتيب الآية في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} الآية لجواز أنه لم تحدث قضية قذف فيما بين نزول تلك الآية ونزول هذه الآية، أو حدثت قضية عويمر العجلاني ولم يعلم بها أصحاب الإفك، أو حسبوه هينا لغفلتهم عما تقدم من حكم الحد إذ كان العهد به حديثا. وفيه من أدب الشريعة أن احترام القوانين الشرعية يجب أن يكون سواء في الغيبة والحضرة والسر والعلانية.
ومعنى {عِنْدِ اللَّهِ} في علم الله مما شرعه لكم من الحكم كما تقدم آنفا في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} .
[16] {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}
عطف على جملة {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} الخ. وأعيدت لولا وشرطها وجوابها لزيادة الاهتمام بالجملة فلذلك لم يعطف {قُلْتُمْ} الذي في هذه الجملة على {قُلْتُمْ} الذي في الجملة قبلها لقصد أن يكون صريحا في عطف الجمل.
وتقديم الظرف وهو {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} على عامله وهو {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} كتقديم نظيره في قوله: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ} الخ وهو الاهتمام بمدلول الظرف.
وضمير {سَمِعْتُمُوهُ} عائد إلى الإفك مثل الضمائر المماثلة له في الآيات السابقة.
واسم الإشارة عائد إلى الإفك بما يشتمل عليه من الاختلاق الذي يتحدث به المنافقون والضعفاء، فالإشارة إلى ما هو حاضر في كل مجلس من مجالس سماع الإفك.
ومعنى {قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا} أن يقولوا اللذين أخبروهم بهذا الخبر الإفك، أي قلتم لهم زجرا وموعظة.
وضمير {لَنَا} مراد به القائلون والمخاطبون. فأما المخاطبون فلأنهم تكلموا به حين حدثوهم بخبر الإفك. والمعنى: ما يكون لكم أن تتكلموا بهذا. وأما المتكلمون فلتنزههم أن يجري ذلك البهتان على ألسنتهم.
وإنما قال: {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} دون أن يقول: ليس لنا أن نتكلم بهذا،
للتنبيه على أن الكلام في هذا وكينونة الخوض فيه حقيق بالانتفاء. وذلك أن قولك: ما يكون لي أن أفعل، أشد في نفي الفعل عنك من قولك: ليس لي أن أفعل. ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} .
وهذا مسوق للتوبيخ على تناقلهم الخبر الكاذب وكان الشأن أن يقول القائل في نفسه: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ويقول ذلك لمن يجالسه ويسمعه منه. فهذا زيادة على التوبيخ على السكوت عليه في قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} .
و {سُبْحَانَكَ} جملة إنشاء وقعت معترضة بين جملة {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} وجملة: {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} . و {سُبْحَانَكَ} مصدر وقع بدلا من فعله، أي نسبح سبحانا لك. وإضافته إلى ضمير الخطاب من إضافة المصدر إلى مفعوله، وهو هنا مستعار للتعجب كما تقدم عند قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} في سورة يوسف. والأحسن أن يكون هنا لإعلان المتكلم البراءة من شيء بتمثيل حال نفسه بحال من يشهد الله على ما يقول فيبتدئ بخطاب الله بتعظيمه ثم بقول {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تبرئا من لازم ذلك وهو مبالغة في إنكار الشيء والتعجب من وقوعه.
وتوجيه الخطاب إلى الله في قوله: {سُبْحَانَكَ} للإشعار بأن الله غاضب على من يخوض في ذلك فعليهم أن يتوجهوا لله بالتوبة منه لمن خاضوا فيه وبالاحتراز من المشاركة فيه لمن لم يخوضوا فيه.
وجملة {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} تعليل لجملة {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} فهي داخلة في توبيخ المقول لهم.
ووصف البهتان بأنه {عَظِيمٌ} معناه أنه عظيم في وقوعه، أي بالغ في كنه البهتان مبلغا قويا.
وإنما كان عظيما لأنه مشتمل على منكرات كثيرة وهي: الكذب، وكون الكذب بطعن في سلامة العرض، وكونه يسبب إحنا عظيمة بين المفترين والمفترى عليهم من خيرة الناس وانتمائهم إلى أخير الناس من أزواج وآباء وقرابات، وأعظم من ذلك أنه اجتراء على مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومقام أم المؤمنين رضي الله
عنها.
والبهتان مصدر مثل الكفران والغفران. والبهتان: الخبر الكذب الذي يبهت السامع لأنه لا شبهة فيه. وقد مضى عند قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} في سورة النساء.
[18,17] {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
بعد أن بين الله تعالى ما في خبر الإفك من تبعات لحق بسببها للذين جاءوا به والذين تقبلوه عديد التوبيخ والتهديد، وافتضاح للذين روجوه وخيبة مختلقة بنقيض قصدهم، وانتفاع للمؤمنين بذلك، وبين بادئ ذي بدء أنه لا يحسب شرا لهم بل هو خير لهم، وأن الذين جاءوا به ما اكتسبوا به إلا إثما، وما لحق المسلمين به ضر، ونعى على المؤمنين تهاونهم وغفلتهم عن سوء نية مختلقيه، وكيف ذهلوا عن ظن الخير بمن لا يعلمون منها إلا خيرا فلم يفندوا الخبر، وأنهم اقتحموا بذلك ما يكون سببا للحاق العذاب بهم في الدنيا والآخرة، وكيف حسبوه أمرا هينا وهو عند الله عظيم، ولو تأملوا لعلموا عظمه عند الله، وسكوتهم عن تغيير هذا؛ أعقب ذلك كله بتحذير المؤمنين من العود إلى مثله من المجازفة في التلقي، ومن الاندفاع وراء كل ساع دون تثبت في مواطئ الأقدام، ودون تبصر في عواقب الإقدام.
والوعظ: الكلام الذي يطلب به تجنب المخاطب به أمرا قبيحا. وتقدم في آخر سورة النحل.
وفعل {يَعِظُكُمُ} لا يتعدى إلى مفعول ثان بنفسه، فالمصدر المأخوذ من {أَنْ تَعُودُوا} لا يكون معمولا لفعل {يَعِظُكُمُ} إلا بتقدير شيء محذوف، أو بتضمين فعل الوعظ معنى فعل متعد، أو بتقدير حرف جر محذوف، فلك أن تضمن فعل {يَعِظُكُمُ} معنى التحذير. فالتقدير: يحذركم من العود لمثله، أو يقدر: يعظكم الله في العود لمثله، أو يقدر حرف نفي، أي أن لا تعودوا لمثله، وحذف حرف النفي كثير إذا دل عليه السياق، وعلى كل الوجوه يكون في الكلام إيجاز.
والأبد: الزمان المستقبل كله، والغالب أن يكون ظرفا للنفي.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} تهييج وإلهاب لم يبعث حرصهم على أن لا يعودوا لمثله لأنهم حريصون على إثبات إيمانهم، فالشرط في مثل هذا لا يقصد بالتعليق، إذ ليس المعنى: إن لم تكونوا مؤمنين فعودوا لمثله، ولكن لما كان احتمال حصول مفهوم الشرط مجتنبا كان في ذكر الشرط بعث على الامتثال، فلو تكلم أحد في الإفك بعد هذه الآية معتقدا وقوعه فمقتضى الشرط أنه يكون كافرا وبذلك قال مالك. قال ابن العربي: قال هشام بن عمار1: سمعت مالكا يقول: من سب أبا بكر وعمر أدب ومن سب عائشة قتل لأن الله يقول: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فمن سب عائشة فقد خالف القرآن ومن خالف القرآن قتل اه. يريد بالمخالفة إنكار ما جاء به القرآن نصا وهو يرى أن المراد بالعود لمثله في قضية الإفك لأن الله برأها بنصوص لا تقبل التأويل، وتواتر أنها نزلت في شأن عائشة. وذكر ابن العربي عن الشافعية أن ذلك ليس بكفر. وأما السبب بغير ذلك فهو مساو لسب غيرها من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} أي: يجعلها لكم واضحة الدلالة على المقصود. والآيات: آيات القرآن النازلة في عقوبة القذف وموعظة الغافلين عن المحرمات.
ومناسبة التذكير بصفتي العلم والحكمة ظاهرة.
[19] {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} .
لما حذر الله المؤمنين من العود إلى مثل ما خاضوا به من الإفك على جميع أزمنة المستقبل أعقب تحذيرهم بالوعيد على ما عسى أن يصدر منهم في المستقبل بالوعيد على محبة شيوع الفاحشة في المؤمنين؛ فالجملة استئناف ابتدائي، واسم الموصول يعم كل من يتصف بمضمون الصلة فيعم المؤمنين والمنافقين والمشركين، فهو تحذير للمؤمنين وإخبار عن المنافقين والمشركين.
وجعل الوعيد على المحبة لشيوع الفاحشة في المؤمنين تنبيها على أن محبة ذلك
ـــــــ
1 هشام بن عمار السلمي الدمشقي الحافظ المقرئ الخطيب. سمع مالكا وخالقا. وثقة ابن معين توفى سنة / 245/ هـ. وعاش اثنتين وتسعين لم يترجمه عياض في "المستدرك"ولا ابن فرحون في "الديباج" فالظاهر أنه لم يكون من أتباع مالك. وقد ذكره الذهبي في "الكاشف" والمزي في "تهذيب الكمال" .
تستحق العقوبة لأن محبة ذلك دالة على خبث النية نحو المؤمنين. ومن شأن تلك الطوية أن لا يلبث صاحبها إلا يسيرا حتى يصدر عنه ما هو محب له أو يسر بصدور ذلك من غيره، فالمحبة هنا كناية عن التهيؤ لإبراز ما يحب وقوعه. وجيء بصيغة الفعل المضارع للدلالة على الاستمرار. وأصل الكناية أن تجمع بين المعنى الصريح ولازمه فلا جرم أن ينشأ عن تلك المحبة عذاب الدنيا وهو حد القذف وعذاب الآخرة وهو أظهر لأنه مما تستحقه النوايا الخبيثة. وتلك المحبة شيء غير الهم بالسيئة وغير حديث النفس لأنهما خاطران يمكن أن ينكف عنهما صاحبهما، وأما المحبة المستمرة فهي رغبة في حصول المحبوب. وهذا نظير الكناية في قوله تعالى: {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} كناية عن انتفاء وقوع طعام المسكين. فالوعيد هنا على محبة وقوع ذلك في المستقبل كما هو مقتضى قوله: {أَنْ تَشِيعَ} لأن أن تخلص المضارع للمستقبل. وأما المحبة الماضية فقد عفا الله عنها بقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} .
ومعنى {أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} أن يشيع خبرها، لأن الشيوع من صفات الأخبار والأحاديث كالفشو وهو: اشتهار التحدث بها. فتعين تقدير مضاف، أي أن يشيع خبرها إذ الفاحشة هي الفعلة البالغة حدا عظيما في الشناعة.
وشاع إطلاق الفاحشة على الزنى ونحوه وتقدم في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} في سورة النساء. وتقدم ذكر الفاحشة بمعنى الأمر المنكر في قوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا} في سورة الأعراف. وتقدم الفحشاء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة.
ومن أدب هذه الآية أن شأن المؤمن أن لا يحب لإخوانه المؤمنين إلا ما يحب لنفسه، فكما أنه لا يحب أن يشيع عن نفسه خبر سوء كذلك عليه أن لا يحب إشاعة السوء عن إخوانه المؤمنين. ولشيوع أخبار الفواحش بين المؤمنين بالصدق أو الكذب مفسدة أخلاقية فإن مما يزع الناس عن المفاسد تهيبهم وقوعها وتجهمهم وكراهتهم سوء سمعتها وذلك مما يصرف تفكيرهم عن تذكرها بله الإقدام عليها رويدا رويدا حتى تنسى وتنمحي صورها من النفوس، فإذا انتشر بين الأمة الحديث بوقوع شيء من الفواحش تذكرتها الخواطر وخف وقع خبرها على الأسماع فدب بذلك إلى النفوس التهاون بوقوعها وخفة وقعها على الأسماع فلا تلبث النفوس الخبيثة أن تقدم على اقترافها وبمقدار تكرر
وقوعها وتكرر الحديث عنها تصير متداولة. هذا إلى ما في إشاعة الفاحشة من لحاق الأذى والضر بالناس ضرا متفاوت المقدار على تفاوت الأخبار في الصدق والكذب.
ولهذا دل هذا الأدب الجليل بقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي يعلم ما في ذلك من المفاسد فيعظكم لتجتنبوا وأنتم لا تعلمون فتحسبون التحدث بذلك لا يترتب عليه ضر وهذا كقوله: {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} .
[20] {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} .
هذه ثالث مرة كرر فيها {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . وحذف في الأول والثالث جواب لولا لتذهب النفس كل مذهب ممكن في تقديره بحسب المقام.
وقد ذكر في المرة الأولى وصف الله بأنه تواب حكيم للمناسبة المتقدمة، وذكر هنا بأنه رؤوف رحيم، لأن هذا التنبيه الذي تضمنه التذييل فيه انتشال للأمة من اضطراب عظيم في أخلاقها وآدابها وانفصام عرى وحدتها فأنقذها من ذلك رأفة ورحمة لآحادها وجماعتها وحفظا لأواصرها.
وذكر وصف الرأفة والرحمة هنا لأنه قد تقدمه إنقاذه إياهم من سوء محبة أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا تلك المحبة التي انطوت عليها ضمائر المنافقين كان إنقاذ المؤمنين من التخلق بها رأفة بهم من العذاب ورحمة لهم بثواب المتاب.
وهذه الآية هي منتهى الآيات العشر التي نزلت في أصحاب الإفك على عائشة رضي الله عنها، نزلت متتابعة على النبي صلى الله عليه وسلم وتلاها حين نزولها وهو في بيته.
[21] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
هذه الآية نزلت بعد العشر الآيات المتقدمة، فالجملة استئناف ابتدائي، ووقوعه عقب الآيات العشر التي في قضية الإفك مشير إلى أن ما تضمنته تلك الآيات من المناهي وظنون السوء ومحبة شيوع الفاحشة كله من وساوس الشيطان، فشبه حال فاعلها في كونه متلبسا بوسوسة الشيطان بهيئة الشيطان يمشي والعامل بأمره يتبع خطى ذلك الشيطان. ففي قوله: {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} تمثيل مبني على تشبيه حالة محسوسة بحالة مفعولة إذ لا يعرف السامعون للشيطان خطوات حتى ينهوا على اتباعها.
وفيه تشبيه وسوسة الشيطان في نفوس الذين جاءوا بالإفك بالمشي.
و {خُطُوَاتِ} جمع خطوة بضم الخاء. قرأه نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم والبزي عن ابن كثير بسكون الطاء كم هي في المفرد فهو جمع سلامة. وقرأه من عداهم بضم الطاء لأن تحريك العين الساكنة أو الواقعة بعد فاء الاسم المضمومة أو المكسورة جائز كثير.
والخطوة بضم الخاء: اسم لنقل الماشي إحدى قدميه التي كانت متأخرة عن القدم الأخرى وجعلها متقدمة عليها. وتقدم عند قوله: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} في سورة البقرة.
ومن شرطية ولذلك وقع فعل يتبع مجزوما باتفاق القراء.
وجملة {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} جواب الشرط، والرابط هو مفعول {يَأْمُرُ} المحذوف لقصد العموم فأنه عمومه يشمل فاعل فعل الشرط فبذلك يحصل الربط بين جملة الشرط وجملة الجواب. وضميرا {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ} عائدان إلى الشيطان. والمعنى: ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفحشاء والمنكر لأنه من أفراد العموم.
والفحشاء: كل فعل أو قول قبيح. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة.
والمنكر: ما تنكره الشريعة وينكره أهل الخبر. وتقدم عند قوله تعالى: {وَيَنْهُونَ عَنِ المُنْكَر} في سورة آل عمران.
وقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} الآية، أي لولا فضله بأن هداكم إلى الخير ورحمته بالمغفرة عند التوبة ما كان أحد من الناس زاكيا لأن فتنة الشيطان عظيمة لا يكاد يسلم منها الناس لولا إرشاد الدين، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} .
و {زَكَى} بتخفيف الكاف على المشهور من القراءات. وقد كتب {زَكَى} في المصحف بألف في صورة الياء. وكان شأنه أن يكتب بالألف الخالصة لأنه غير ممال ولا أصاله باء فإنه واوي اللام, ورسم المصحف قد لا يجري على القياس. ولا تعد قراءته بتخفيف الكاف مخالفة لرسم المصحف لأن المخالفة المضعفة للقراءة هي المخالفة
المؤدية إلى اختلاف النطق بحروف الكلمة، وأما مثل هذا فمما يرجع إلى الأداء والرواية تعصم من الخطأ فيه.
وقوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تذييل بين الوعد والوعيد، أي سميع لمن يشيع الفاحشة، عليم بما في نفسه من محبة إشاعتها، وسميع لمن ينكر على ذلك، عليم لما في نفسه من كراهة ذلك فيجازي كلا على عمله.
وإظهار اسم الجلالة فيه ليكون التذييل مستقلا بنفسه لأنه مما يجري مجرى المثل.
[22] {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
عطف على جملة {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} عطف خاص على عام للاهتمام به لأنه قد يخفى أنه من خطوات الشيطان فإن من كيد الشيطان أن يأتي بوسوسة في صورة خواطر الخير إذا علم أن الموسوس إليه من الذين يتوخون البر والطاعة، وأنه ممن يتعذر عليه ترويج وسوسته إذا كانت مكشوفة.
وإن من ذيول قصة الإفك أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة المطلبي إذ كان ابن خالة أبي بكر الصديق وكان من فقراء المهاجرين فلما علم بخوضه في قضية الإفك أقسم أن لا ينفق عليه. ولما تاب مسطح وتاب الله عليه لم يزل أبو بكر واجدا في نفسه على مسطح فنزلت هذه الآية. فالمراد من أولي الفضل ابتداء أبو بكر، والمراد من أولي القربى ابتداء مسطح بن أثاثة، وتعم الآية غيرهما ممن شاركوا في قضية الإفك وغيرهم ممن يشمله عموم لفظها فقد كان لمسطح عائلة تنالهم نفقة أبي بكر. قال ابن عباس: إن جماعة المؤمنين قطعوا منافعهم عن كل من قال في الإفك وقالوا: والله لا نصل من تكلم في شأن عائشة، فنزلت الآية في جميعهم.
ولما قرأ رسول الله على الله عليه وسلم الآية إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي. ورجع إلى مسطح وأهله ما كان ينفق عليهم. قال ابن عطية: وكفر أبو بكر عن يمينه، رواه عن عائشة.
وقرأ الجمهور {وَلا يَأْتَلِ} . والايتلاء افتعال من الإلية وهي الحلف وأكثر استعمال الإلية في الحلف على امتناع، يقال: إلى وائتلي. وقد تقدم عند قوله تعالى:
{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} في سورة البقرة. وقرأه أبو جعفر ولا يتأل من تألي تفعل من الألية.
والفضل: أصله الزيادة فهو ضد النقص، وشاع إطلاقه على الزيادة في الخير والكمال الديني وهو المراد هنا. ويطلق على زيادة المال فوق حاجة صاحبه وليس مرادا هنا لأن عطف {وَالسَعَةِ} عليه يبعد ذلك. والمعني من أولي الفضل ابتداء أبو بكر الصديق.
والسعة: الغنى. والأوصاف في قوله: {أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مقتضية المواساة بانفرادها، فالحلف على ترك مواساة واحد منهم سد لباب عظيم من المعروف وناهيك بمن جمع الأوصاف كلها مثل مسطح الذي نزلت الآية بسببه.
والاستفهام في قوله: {أَلا تُحِبُّونَ} إنكاري مستعمل في التحضيض على السعي فيما به المغفرة وذلك العفو والصفح في قوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} . وفيه إشعار بأنه قد تعارض عن أبي بكر سبب المعروف وسبب البر في اليمين وتجهم الحنث وأنه أخذ بجانب البر في يمينه وترك جانب ما يفوته من ثواب الإنفاق ومواساة القرابة وصلة الرحم وكأنه قدم جانب التأثم على جانب طلب الثواب فنبهه الله على أنه يأخذ بترجيح جانب المعروف لأن لليمين مخرجا وهو الكفارة.
وهذا يؤذن بأن كفارة اليمين كانت مشروعة من قبل هذه القصة ولكنهم كانوا يهابون الإقدام على الحنث كما جاء في خبر عائشة: أن لا تكلم عبد الله بن الزبير حين بلغها قوله إنه يحجر عليها لكثرة إنفاقها المال. وهو في صحيح البخاري في كتاب الأدب باب الهجران.
وعطف {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} على جملة {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} زيادة في الترغيب في العفو والصفح وتطمينا لنفس أبي بكر في حنثه وتنبيها على الأمر بالتخلق بصفات الله تعالى.
[25,23] {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} .
جملة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} استئناف بعد استئناف قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا} والكل تفصيل للموعظة التي في قوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فابتدئ بوعيد العود إلى محبته ذلك وثني بوعيد العودة إلى إشاعة القالة، فالمضارع في قوله: {يَرْمُونَ} للاستقبال. وإنما لم تعطف هذه الجملة لوقوع الفصل بينها وبين التي تناسبها بالآيات النازلة بينهما من قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} .
واسم الموصول ظاهر في إرادة جماعة وهم عبد الله بن أبي سلول ومن معه.
و {الغَافِلاتِ} هن اللاتي لا علم لهن بما رمين به. وهذا كناية عن عدم وقوعهن فيما رمين به لأن الذي يفعل الشيء لا يكون غافلا عنه. فالمعنى: إن الذين يرمون المحصنات كذبا عليهن، فلا تحسب المراد الغافلات عن قول الناس فيهن. وذكر وصف {الْمُؤْمِنَاتِ} لتشنيع قذف الذين يقذفوهن كذبا لأن وصف الإيمان وازع لهن عن الخنى.
وقوله: {لُعِنُوا} إخبار عن لعن الله إياهم بما قدر لهم من الإثم وما شرع لهم.
واللعن: في الدنيا التفسيق، وسلب أهلية الشهادة، واستيحاش المؤمنين منهم، وحد القذف. واللعن في الآخرة: الإبعاد من رحمة الله.
والعذاب العظيم: عذاب جهنم فلا جدوى في الإطالة بذكر مسألة جواز لعن المسلم المعين هنا ولا في أن المقصود بها من كان من الكفرة.
والظرف في قوله: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ} متعلق بما تعلق به الظرف المجعول خبرا للمبتدأ في قوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . وذكر شهادة ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم للتهويل عليهم لعلهم يتقون ذلك الموقف فيتوبون.
وشهادة الأعضاء على صاحبها من أحوال حساب الكفار.
وتخصيص هذه الأعضاء بالذكر مع أن الشهادة تكون من جميع الجسد كما قال تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} لأن لهذه الأعضاء عملا في رمي المحصنات فهم ينطقون بالقذف ويشيرون بالأيدي إلى المقذوفات ويسعون بأرجلهم إلى مجالس الناس لإبلاغ القذف.
وقرأ حمزة والكسائي وخلف يشهد عليهم بالتحتية، وذلك وجه في الفعل المسند إلى ضمير جمع تكسير.
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ} استئناف بياني لأن ذكر شهادة الأعضاء يثير سؤالا
عن آثار تلك الشهادة فيجاب بأن أثرها أن يجازيهم الله على ما شهدت به أعضاؤهم عليهم. فدينهم جزاؤهم كما في قوله: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} .
و {الحَقَّ} نعت للدين، أي الجزاء العادل الذي لا ظلم فيه فوصف بالمصدر للمبالغة.
وقوله: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ينكشف للناس أن الله الحق. ووصف الله بأنه {الْحَقَّ} وصف بالمصدر لإفادة تحقق اتصافه بالحق، كقول الخنساء:
ترتع ما رتعت حتى إذا ادكرت ... فإنما هي إقبال وإدبار
وصفة الله بأنه {الْحَقَّ} بمعنيين: أولهما: بمعنى الثابت الحاق، وذلك لأن وجوده واجب فذاته حق متحققة لم يسبق عليها عدم ولا انتفاء فلا يقبل إمكان العدم. وعلى هذا المعنى في اسمه تعالى الحق اقتصر الغزالي في شرح الأسماء الحسنى.
وثانيهما: معنى أنه ذو الحق، أي العدل وهو الذي يناسب وقوع الوصف بعد قوله: {دِينَهُمُ الْحَقَّ} . وبه فسر صاحب الكشاف فيحتمل أنه أراد تفسير معنى الحق هنا، أي وصف الله بالمصدر وليس مراده تفسير الاسم وهذا الذي درج عليه ابن برجان الإشبيلي1 في كتابه شرح الأسماء الحسنى والقرطبي في التفسير.
والحق من أسماء الله الحسنى. ولما وصف بالمصدر زيد وصف المصدر ب {الْمُبِينُ} . والمبين: اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعديا بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية، ويستعمل بمعنى بان، أي ظهر على اعتبار الهزة زائدة، فلك أن تجعله وصفا ل {الْحَقَّ} بمعنى العدل كما صرح به الكشاف، أي الحق الواضح. ولك أن تجعله وصفا لله تعالى بمعنى أن الله مبين وهاد. وإلى هذا نحا القرطبي وابن برجان فقد أثبتا في عداد أسمائه تعالى اسم المبين.
ـــــــ
1 هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن محمد بن برجان – بموحدة مفتوحة فراء مشددة مفتوحة فجيم مفتوحة فألف فنون – الأشبيلي المتوفى سنة /536/ هـ. ألف "شرح الأسماء الحسنى" وجمع مائة وثلاثين اسما. وهو شرح على طريقة حكماء الصوفية. توجد منه نسخة وحيدة بتونس.
فإن كان وصف الله ب {الْحَقَّ} بالمعنى المصدري فالحصر المستفاد من ضمير الفصل ادعائي لعدم الإعداد ب {الْحَقَّ} الذي يصدر من غيره من الحاكمين لأنه وإن يصادف المحز فهو مع ذلك معرض للزوال وللتقصير وللخطأ فكأنه ليس بحق أوليس بمبين. وإن كان الخبر عن الله بأنه {الْحَقَّ} بالمعنى الاسمي لله تعالى فالحصر حقيقي إذ ليس اسم الحق مسمى به غير ذات الله تعالى، فالمعنى: أن الله هو صاحب هذا الاسم كقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} . وعلى هذين الوجهين يجري الكلام في وصفه تعالى ب {المُبِينُ} .
ومعنى كونهم يعلمون أن الله هو الحق المبين: أنهم يتحققون ذلك يومئذ بعلم قطعي لا يقبل الخفاء ولا التردد وإن كانوا عالمين ذلك من قبل لأن الكلام جار في موعظة المؤمنين؛ ولكن نزل علمهم المحتاج للنظر والمعرض للخفاء والغفلة منزلة عدم العلم.
ويجوز أن يكون المراد ب {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} عبد الله بن أبي سلول ومن يتصل به من المنافقين المبطنين الكفر بله الإصرار على ذنب الإفك إذ لا توبة لهم فهم مستمرون على الإفك فيما بينهم لأنه زين عند أنفسهم، فلم يروموا الإقلاع عنه في بواطنهم مع علمهم بأنه اختلاق منهم؛ لكنهم لخبث طواياهم يجعلون الشك الذي خالج أنفسهم بمنزلة اليقين فهم ملعونون عند الله في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم في الآخرة، ويعلمون أن الله الحق المبين فيما كذبهم فيه من حديث الإفك وقد كانوا من قبل مبطنين الشرك مع الله فجاعلين الحق ثابتا لأصنامهم، فالقصر حينئذ إضافي، أي يعلمون أن الله وحده دون أصنامهم.
ويجوز أن يكون المراد بالذين يرمون المحصنات الغافلات عبد الله بن أبي مسلول وحده فعبر عنه بلفظ الجمع لقصد إخفاء اسمه تعريضا به، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" .
[26] {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}
بعد أن برأ الله عائشة رضي الله عنها مما قال عصبة الإفك ففضحهم بأنهم ما جاءوا إلا بسيء الظن واختلاق القذف وتوعدهم وهددهم ثم تاب على الذين تابوا أنحى عليهم
ثانية ببراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن تكون له أزواج خبيثات لأن عصمته وكرامته على الله يأبى الله معها أن تكون أزواجه غير طيبات. فمكانة الرسول صلى الله عليه وسلم كافية في الدلالة على براءة زوجه وطهارة أزواجه كلهن. وهذا من الاستدلال على حال الشيء بحال مقارنه ومماثله، وفي هذا تعريض بالذين اختلقوا الإفك بأن ما أفكوه لا يليق مثله إلا بأزواجهم، فقوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} تعريض بالمنافقين المختلقين الإفك.
والابتداء بذكر {الْخَبِيثَاتُ} لأن غرض الكلام الاستدلال على براءة عائشة وبقية أمهات المؤمنين. واللام في قوله: {لِلْخَبِيثِينَ} لام الاستحقاق. والخبيثات والخبيثون والطيبات والطيبون أوصاف جرت على موصوفات محذوفة يدل عليها السياق. والتقدير في الجميع: الأزواج.
وعطف {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} إطناب لمزيد العناية بتقرير هذا الحكم ولتكون الجملة بمنزلة المثل مستقلة بدلالتها على الحكم وليكون الاستدلال على حال القرين بحال مقارنه حاصلا من أي جانب ابتدأه السامع.
وذكر {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} إطناب أيضا للدلالة على أن المقارنة دليل على حال القرينين في الخير أيضا.
وعطف {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} كعطف {وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ} .
وتقدم الكلام على الخبيث والطيب عند قوله تعالى: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} في سورة الأنفال وقوله: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} في سورة آل عمران وقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} في سورة الأعراف.
وغلب ضمير التذكير في قوله: {مُبَرَّأُونَ} وهذه قضية كلية ولذلك حق لها أن تجري مجرى المثل وجعلت في آخر القصة كالتذييل.
والمراد بالخبث: خبث الصفات الإنسان ية كالفواحش. وكذلك المراد بالطيب: زكاء الصفات الإنسانية من الفضائل المعروفة في البشر فليس الكفر من الخبث ولكنه من متمماته. وكذلك الإيمان من مكملات الطيب فلذلك لم يكن كفر امرأة نوح وامرأة لوط ناقضا لعموم قوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} فإن المراد بقوله تعالى: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} أنهما خانتا زوجيهما بإبطال الكفر. ويدل لذلك مقابلة حالهما بحال امرأة فرعون {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} إلى قوله:
{وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} .
والدول عن التعبير عن الإفك باسمه إلى {مَا يَقُولُونَ} إلى أنه لا يعدو كونه قولا، أي أنه غير مطابق للواقع كقوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} لأنه لا مال له ولا ولد في الآخرة.
والرزق الكريم: نعيم الجنة. وتقدم أن الكريم هو النفيس في جنسه عند قوله: {دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} في سورة الأنفال.
وبهذه الآيات انتهت زواجر الإفك.
[28,27] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}
ذكرنا أن من أكبر الأغراض في هذه السورة تشريع نظام المعاشرة والمخالطة العائلية في التجاور. فهذه الآيات استئناف لبيان أحكام التزاور وتعليم آداب الاستئذان، وتحديد ما يحصل المقصود منه كيلا يكون الناس مختلفين في كيفيته على تفاوت اختلاف مداركهم في المقصود منه والمفيد.
وقد كان الاستئذان معروفا في الجاهلية وصدر الإسلام وكان يختلف شكله باختلاف حال المستأذن عليه من ملوك وسوقة فكان غير متماثل. وقد يتركه أو يقصر فيه من لا يهمه إلا قضاء وطره وتعجيل حاجته، ولا يبعد بأن يكون ولوجه محرجا للمزور أو مثقلا عليه فجاءت هذه الآيات لتحديد كيفيته وإدخاله في آداب الدين حتى لا يفرط الناس فيه أو في بعضه باختلاف مراتبهم في الاحتشام والأنفة واختلاف أوهامهم في عدم المؤاخذة أو في شدتها.
وشرع الاستئذان لمن يزور أحدا في بيته لأن الناس اتخذوا البيوت للاستتار مما يؤذي الأبدان من حر وقر ومطر وقتام، ومما يؤذي العرض والنفس من انكشاف ما لا يحب الساكن اطلاع الناس عليه، فإذا كان في بيته وجاءه أحد فهو لا يدخله حتى يصلح ما في بيته وليستر ما يجب أن يستره ثم يأذن له أو يخرج له فيكلمه من خارج الباب.
ومعنى {تَسْتَأْنِسُوا} تطلبوا الأنس بكم، أي: تطلبوا أن يأنس بكم صاحب البيت، وأنسه به بانتفاء الوحشة والكراهية. وهذا كناية لطيفة عن الاستئذان، أي أن يستأذن الداخل، أي يطلب إذنا من شأنه أن لا يكون معه استيحاش رب المنزل بالداخل. قال ابن وهب قال مالك: الاستئناس فيما نرى والله أعلم الاستئذان. يريد أنه المراد كناية أو مرادفة فهو من الأنس، وهذا الذي قاله مالك هو القول الفصل. ووقع لابن القاسم في جامع العتبية أن الاستئناس التسليم. قال ابن العربي: وهو بعيد. وقلت: أراد ابن القاسم السلام بقصد الاستئذان فيكون عطف {وَتُسَلِّمُوا} عطف تفسير. وليس المراد بالاستئناس أنه مشتق من آنس بمعنى علم لأن ذلك إطلاق آخر لا يستقيم هنا فلا فائدة في ذكره وذلك بحسب الظاهر فإنه إذا أذن له دل إذنه على أنه لا يكره دخوله وإذا كره دخوله لا يأذن له والله متولي علم ما في قلبه فلذلك عبر عن الاستئذان بالاستئناس مع ما في ذلك من الإيماء إلى علة مشروعية الاستئذان.
وفي ذلك من الآداب أن المرء لا ينبغي أن يكون كلا على غيره، ولا ينبغي له أن يعرض نفسه إلى الكراهية والاستثقال، وأنه ينبغي أن يكون الزائر والمزور متوافقين متآنسين وذلك عون على توفر الأخوة الإسلامية.
وعطف الأمر بالسلام على الاستئناس وجعل كلاهما غاية للنهي عن دخول البيوت تنبيها على وجوب الإتيان بهما لأن النهي لا يرتفع إلا عند حصولهما. وعن ابن سيرين: أن رجلا استأذن على النبي فقال: أأدخل? فأمر النبي رجلا عنده أو أمة اسمها روضة فقال: "إنه لا يحسن أن يستأذن فليقل: السلام عليكم أأدخل". فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل. فقال:"ادخل" . وروى مطرف عن مالك عن زيد بن أسلم: أنه استأذن على عبد الله بن عمر فقال: أألج. فأذن له ابن عمر، فلما دخل قال له ابن عمر: ما لك واستئذان العرب? يريد أهل الجاهلية إذا استأذنت فقل: السلام عليكم. فإذا رد عليك السلام فقل: أأدخل، فإن أذن لك فادخل.
وظاهر الآية أن الاستئذان واجب وأن السلام واجب غير أن سياق الآية لتشريع الاستئذان. وأما السلام فتقررت مشروعيته من قبل في أول الإسلام ولم يكن خاصا بحالة دخول البيوت فلم يكن للسلام اختصاص هنا وإنما ذكر مع الاستئذان للمحافظة عليه مع الاستئذان لئلا يلهي الاستئذان الطارق فينسى السلام أو يحسب الاستئذان كافيا عن السلام. قال المازري في كتاب المعلم على صحيح مسلم: الاستئذان مشروع. وقال ابن
العربي في أحكام القرآن. قال جماعة: الاستئذان فرض والسلام مستحب. وروي عن عطاء: الاستئذان واجب على كل محتلم. ولم يفصح عن حكم الاستئذان سوى فقهاء المالكية. قال الشيخ أبو محمد في الرسالة: الاستئذان واجب فلا تدخل بيتا فيه أحد حتى تستأذن ثلاثا فإن أذن لك وإلا رجعت. وقال ابن رشد في المقدمات: الاستئذان واجب. وحكى أبو الحسن المالكي في شرح الرسالة الإجماع على وجوب الاستئذان. وقال النووي في شرح صحيح مسلم: الاستئذان مشروع. وهي كلمة المازري في شرح مسلم. وأقول ليس قرن الاستئذان بالسلام في الآية بمقتض مساواتهما في الحكم إذ كانت هنالك أدلة أخرى تفرق بين حكميهما وتلك أدلة من السنة، ومن المعنى فإن فائدة الاستئذان دفع ما يكره عن المطروق المزور وقطع أسباب الإنكار أو الشتم أو الإغلاط في القول مع سد ذرائع الريب وكلها أو مجموعها يقتضي وجوب الاستئذان.
وأما فائدة السلام مع الاستئذان فهي تقوية الألفة المتقررة فلا تقتضي أكثر من تأكد الاستحباب. فالقرآن أمر بالحالة الكاملة وأحال تفصيل أجزائها على تبيين السنة كما قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} .
وقد أجملت حكمة الاستئذان في قوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: ذلكم الاستئذان خير لكم، أي فيه خير لكم ونفع فإذا تدبرتم علمتم ما فيه من خير لكم كما هو المرجو منكم.
وقد جمعت الآية الاستئذان والسلام بواو العطف المفيد التشريك فقط فدلت على أنه إن قدم الاستئذان على السلام أو قدم السلام على الاستئذان فقد جاء بالمطلوب منه، وورد في أحاديث كثيرة الأمر بتقديم السلام على الاستئذان فيكون ذلك أولى ولا يعارض الآية.
وليس للاستئذان صيغة معينة. وما ورد في بعض الآثار فإنما محمله على أنه المتعارف بينهم أو على أنه كلام أجمع من غيره في المراد. وقد بينت السنة أن المستأذن إن لم يؤذن له بالدخول يكرره ثلاث مرات فإذا لم يؤذن له انصرف.
وورد في هذا حديث أبي موسى الأشعري مع عمر بن الخطاب في صحيح البخاري وهو ما روي: عن أبي سعيد الخدري قال: كنت في مجلس من مجالس الأنصار إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور قال: استأذنت على عمر ثلاثا فلم يأذن لي فرجعت. وفسروه في رواية أخرى: بأن عمر كان مشتغلا ببعض أمره ثم تذكر فقال: ألم
أسمع صوت عبد الله ابن قيس? قالوا:استأذن ثلاثا ثم رجع فأرسل وراءه فجاء أبو موسى فقال عمر: ما منعك? قال قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت. وقال رسول الله: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" . فقال عمر: والله لتقيمن عليه بينة. قال أبو موسى: أمنكم أحد سمعه من النبي? فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا فكنت أصغرهم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك. فقال عمر: خفي علي هذا من أمر رسول الله ألهاني الصفق بالأسواق.
وقد علم أن الاستئذان إذنا ومنعا وسكوتا فإن أذن له فذاك وإن منع بصريح القول فذلك قوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} . والضمير عائد إلى الرجوع المفهوم من ارجعوا كقوله: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
ومعنى {أَزْكَى لَكُمْ} أنه أفضل وخير لكم من أن يأذنوا على كراهية. وفي هذا أدب عظيم وهو تعليم الصراحة بالحق دون المواربة ما لم يكن فيه أذى. وتعليم قبول الحق لأنه أطمن لنفس قابله من تلقي ما لا يدرى أهو حق أم مواربة، ولو اعتاد الناس التصارح بالحق بينهم لزالت عنهم ظنون السوء بأنفسهم.
وأما السكون فهو ما بين حكمه حديث أبي موسى. وفعل تسلموا معناه تقولوا: السلام عليكم، فهو من الأفعال المشتقة من حكاية الأقوال الواقعة في الجمل مثل: رحب وأهل، إذا قال: مرحبا أهلا، وحيا، إذا قال: حياك الله، وجزأ، إذا قال له: جزاك الله خيرا. وسهل، إذا قال: سهلا، أي حللت سهلا. قال البعيث بن حريث:
فقلت لها أهلا وسهلا ومرحبا ... فردت بتأهيل وسهل ومرحب
وفي الحديث "تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين" . وهي قريبة من النحت مثل: بسمل، إذا قال: بسم الله، وحسبل، إذا قال: حسبنا الله.
و {عَلَى أَهْلِهَا} يتعلق بتسلموا لأنه أصله من بقية الجملة التي صيغ منها الفعل التي أصلها: السلام عليكم، كما يعدى رحب به، إذا قال: مرحبا بك، وكذلك أهل به وسهل به. ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} .
وصيغة التسليم هي: السلام عليكم. وقد علمها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، ونهى أبا جزي الهجيمي عن أن يقول: عليك السلام. وقال له: "إن عليك السلام تحية الميت ثلاثا" ، أي
الابتداء بذلك. وأما الرد فيقول: وعليك السلام بواو العطف وبذلك فارقت تحية الميت ورحمة الله. أخرج ذلك الترمذي في كتاب الاستئذان. وتقدم السلام في قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} في سورة الأنعام.
وأما قوله: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} الخ للاحتراس من أن يظن ظان أن المنازل غير المسكونة يدخلها الناس في غيبة أصحابها بدون إذن منهم توهما بأن علة شرع الاستئذان ما يكره أهل المنازل من رؤيتهم على غير تأهب بل العلة هي كراهتهم رؤية ما يحبون ستره من شؤونهم. فالشرط هنا يشبه الشرط الوصلي لأنه مراد به المبالغة في تحقيق ما قبله ولذلك ليس له مفهوم مخالفة.
والغاية في قوله: {حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} لتأكيد النهي بقوله: {فَلا تَدْخُلُوهَا} أي حتى يأتي أهلها فيأذنوا لكم.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تذييل لهذه الوصايا بتذكيرهم بأن الله عليم بأعمالهم ليزدجر أهل الإلحاح عن إلحاحهم بالتثقيل، وليزدجر أهل الحيل أو التطلع من الشقوق ونحوها. وهذا تعريض بالوعيد لأن في ذلك عصيانا لما أمر الله به. فعلمه به كناية عن مجازاته فاعليه بما يستحقون.
وخطاب لا تدخلوا يعم وهو مخصوص بمفهوم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} كما سيأتي. ولذا فأن المماليك والأطفال مخصصون من هذا العموم كما سيأتي.
وقرأ الجمهور {بِيُوتَاً} حيثما وقع بكسر الباء. وقرأه أبو عمرو وورش عن نافع وحفص عن عاصم وأبو جعفر بضم الباء. وقد تقدم في سورة آل عمران.
[29] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}
هذا تخصيص لعموم قوله: {بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} بالبيوت المعدة للسكنى، فأما البيوت التي ليست معدودة للسكنى إذا كان لأحد حاجة في دخولها أن له أن يدخلها لأن كونها غير معدودة للسكنى تجعل القاطن بها غير محترز من دخول الغير إليها بل هو على استعداد لمن يغشاه فهي لا تخلو من أن تكون خاوية من الساكن مثل البيوت المقامة
على طرق المسافرين لنزولهم، كما كانت بيوت على الطريق بين الحجاز والشام في طريق التجار كانوا يأوون إليها ويحطون فيها متعاهم للاستراحة ثم يرتحلون عنها ويستأنفون سيرهم، وتسمى الخانات جمع خان بالخاء المعجمة فهو اسم معرب من الفارسية. ومثلها بيوت كانت في بعض سكك المدينة كانوا يضعون بها متاعا وأقتابا وقد بناها بعض من يحتاج إليها وارتفق بها غيرهم.
وأما أن تكون تلك البيوت مأهولة بأناس يقطنونها يأوون المسافرين ورحالهم ورواحلهم ويحفظون أمتعتهم ويبيتونهم حتى يستأنفوا المرحلة مثل الخانات المأهولة والفنادق. وكذلك البيوت المعدودة لبيع السلع، والحمامات، وحوانيت التجار، وكذلك المكتبات وبيوت المطالعة فهذه مأهولة ولا تسمى مسكونة لأن السكنى هي الإقامة التي يسكن بها المرء ويستقر فيها ويقيم فيها شؤونه. فمعنى قوله: {غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} أنها غير مأهولة على حالة الاستقرار أو غير مأهولة البتة.
وأما الخوانيق جمع خانقاه ويقال الخانكات جمع خانكاه وهي منازل ذات بيوت يقطنها طلبة الصوفية، وكذلك المدارس يقطنها طلبة العلم، وكذلك الربط جمع رباط وهو مأوى الحراس على الثغور، فلا استئذان بين قاطنها لأنهم قد طرحوا الكلفة فيما بينهم فصاروا كأهل البيت الواحد ولكن على الغريب عنهم أن يستأذن في الدخول عليهم فيأذن له ناظرهم أو كبيرهم أو من يبلغ عنهم.
وقوله: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} صفة ثانية ل {بُيُوتاً} .
والمتاع: الجهاز من العروض والسلع والرحال. وظاهر قوله: {فِيهَا مَتَاعٌ} أن المتاع موضوع هناك قبل دخول الداخل فلا مفهوم لهذه الصفة لأنها خرجت مخرج التنبيه على العذر في الدخول. ويشمل ذلك أن يدخلها لوضع متاعه لدلالة لحن الخطاب، وكذلك يشمل دخول المسافر وإن كان لا متاع له لقصد التظلل أو المبيت بدلالة لحن الخطاب أو القياس.
وقد فسر المتاع بالمصدر، أي التمتع والانتفاع. قال جابر بن زيد: كل منافع الدنيا متاع. وقال أبو جعفر النحاس: هذا شرح حسن من قول إمام من أئمة المسلمين وهو موافق للغة وتبعه على ذلك في الكشاف. ونوه بهذا التفسير أبو بكر ابن العربي فيكون إيماء إلى أن من لا منفعة له في دخولها لا يؤذن له في دخولها لأنه يضيق على أصحاب الاحتياج إلى بقاعها.
وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} مستعملة في التحذير من تجاوز ما أشارت إليه الآية من القيود وهي كون البيوت غير مسكونة وكون الداخل محتاج إلى دخولها بله أن يدخلها بقصد التجسس على قطانها أو بقصد أذاهم أو سرقة متاعهم.
[30] {قل قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}
أعقب حكم الاستئذان ببيان آداب ما تقتضيه المجالسة بعد الدخول وهو أن لا يكون الداخل إلى البيت محدقا بصره إلى امرأة فيه بل إذا جالسته المرأة غض بصره واقتصر على الكلام ولا ينظر إليها إلا النظر الذي يعسر صرفه.
ولما كان الغض التام لا يمكن جيء في الآية بحرف من الذي هو للتبعيض إيماء إلى ذلك إذ من المفهوم أن المأمور بالغض فيه هو مالا يليق تحديق النظر إليه وذلك يتذكره المسلم من استحضاره أحكام الحلال والحرام في هذا الشأن فيعلم أن غض البصر مراتب: منه واجب ومنه دون ذلك، فيشمل غض البصر عما اعتاد الناس كراهية التحقق فيه كالنظر إلى خبايا المنازل، بخلاف ما ليس كذلك فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب حين دخل مشربة النبي صلى الله عليه وسلم فرفعت بصري إلى السقف فرأيت أهبة معلقة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: "لا تتبع النظرة النظرة فإنما لك الأولى وليست لك الثانية" .
وفي هذا الأمر بالغض أدب شرعي عظيم في مباعدة النفس عن التطلع إلى ما عسى أن يوقعها في الحرام أو ما عسى أن يكلفها صبرا شديدا عليها.
والغض: صرف المرء بصره عن التحديق وتثبيت النظر. ويكون من الحياء كما قال عنترة:
وأغض طرفي حين تبدو جارتي ... حتى يواري جارتي مأواها
ويكون من مذلة كما قال جرير:
فغض الطرف إنك من نمير
ومادة الغض تفيد معنى الخفض والنقص.
والأمر بحفظ الفروج عقب الأمر بالغض من الأبصار لأن النظر رائد الزنى. فلما كان ذريعة له قصد المتذرع إليه بالحفظ تنبيها على المبالغة في غض الأبصار في محاسن
النساء. فالمراد بحفظ الفروج حفظها من أن تباشر غير ما أباحه الدين.
واسم الإشارة إلى المذكور، أي ذلك المذكور من غض الأبصار وحفظ الفروج.
واسم التفضيل بقوله: {أَزْكَى} مسلوب المفاضلة. والمراد تقوية تلك التزكية لأن ذلك جنة من ارتكاب ذنوب عظيمة.
وذيل بجملة {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} لأنه كناية عن جزاء ما يتضمنه الأمر من الغض والحفظ لأن المقصد من الأمر الامتثال.
[31] {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
{وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
أردف أمر المؤمنين بأمر المؤمنات لأن الحكمة في الأمرين واحدة، وتصريحا بما تقرر في أوامر الشريعة المخاطب بها الرجال من أنها تشمل النساء أيضا. ولكنه لما كان هذا الأمر قد يظن أنه خاص بالرجال لأنهم أكثر ارتكابا لضده وقع النص على هذا الشمول بأمر النساء بذلك أيضا.
وانتقل من ذلك إلى نهي النساء عن أشياء عرف منهن التساهل فيها ونهيهن عن إظهار أشياء تعودن أن يحببن ظهورها وجمعها القرآن في اللفظ الزينة بقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} .
والزينة: ما يحصل به الزين. والزين: الحسن، مصدر زانه. قال عمر ابن أبي ربيعة:
جلل الله ذلك الوجه زينا.
يقال: زين بمعنى حسن، قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} في سورة آل عمران وقال: {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} في سورة الحجر.
والزينة قسمان خلقية ومكتسبة. فالخلقية: الوجه والكفان أو نصف الذراعين، والمكتسبة: سبب التزين من اللباس الفاخر والحلي والكحل والخضاب بالحناء. وقد أطلق اسم الزينة على اللباس في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} في سورة الأعراف، وعلى اللباس الحسن في قوله: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ} . والتزين يزيد المرأة حسنا ويلفت إليها الأنظار لأنها من الأحوال التي لا تقصد إلا لأجل التظاهر بالحسن فكانت لافتة أنظار الرجال، فلذلك نهي النساء عن إظهار زينتهن إلا للرجال الذين ليس من شأنهم أن تتحرك منهم شهوة نحوها لحرمة قرابة أو صهر.
واستثني ما ظهر من الزينة وهو ما في ستره مشقة على المرأة أو في تركه حرج على النساء وهو ما كان من الزينة في مواضع العمل التي لا يجب سترها مثل الكحل والخضاب والخواتيم.
وقال ابن العربي: إن الزينة نوعان خلقية ومصطنعة. فأما الخلقية فمعظم جسد المرأة وخاصة: الوجه والمعصمين والعضدين والثديين والساقين والشعر. وأما المصطنعة فهي ما لا يخلو عنه النساء عرفا مثل: الحلي وتطريز الثياب وتلوينها ومثل الكحل والخضاب بالحناء والسواك. والظاهر من الزينة الخلقية ما في إخفائه مشقة كالوجه والكفين والقدمين، وضدها الخفية مثل أعالي الساقين والمعصمين والعضدين والنحر والأذنين. والظاهر من الزينة المصطنعة ما في تركه حرج على المرأة من جانب زوجها وجانب صورتها بين أترابها ولا تسهل إزالته عند البدو أمام الرجال وإرجاعه عند الخلو في البيت، وكذلك ما كان محل وضعه غير مأمور بستره كالخواتيم بخلاف القرط والدمالج. واختلف في السوار والخلخال والصحيح أنهما من الزينة الظاهرة وقد أقر القرآن الخلخال بقوله: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} كما سيأتي. قال ابن العربي: روى أبن القاسم عن مالك: ليس الخضاب من الزينة اه. ولم يقيده بخضاب اليدين. وقال ابن العربي: والخضاب من الزينة الباطنة إذا كان في القدمين.
فمعنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ما كان موضعه مما لا تستره المرأة وهو الوجه والكفان والقدمان.
وفسر جمع من المفسرين الزينة بالجسد كله وفسر ما ظهر بالوجه والكفين قيل والقدمين والشعر. وعلى هذا التفسير فالزينة الظاهرة هي التي جعلها الله بحكم الفطرة بادية يكون سترها معطلا الانتفاع بها أو مدخلا حرجا على صاحبتها وذلك الوجه والكفان، وأما القدمان فحالهما في الستر لا يعطل الانتفاع ولكنه يعسره لأن الحفاء غالب حال نساء البادية، فمن أجل ذلك اختلف في سترهما الفقهاء، ففي مذهب مالك قولان: أشهرهما أنها يجب ستر قدميها، وقيل: لا يجب، وقال أبو حنيفة: لا يجب ستر قدميها، أما ما كان محاسن المرأة ولم يكن عليها مشقة في ستره فليس مما ظهر من الزينة مثل النحر والثدي والعضد والمعصم وأعلى الساقين، وكذلك ما له صورة حسنة في المرأة وإن كان غير معرى كالعجيزة والأعكان والفخذين ولم يكن مما في إرخاء الثوب عليه حرج عليها. وروى مالك في الموطإ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة" . قال ابن عبد البر: أراد اللواتي يلبسن من الثياب الخفيف الذي يصف ولا يستر، أي هن كاسيات بالاسم عاريات بالحقيقةاه. وفي نسخة ابن بشكوال من الموطإ عن القنازعي قال فسر مالك: إنهن يلبسن الثياب الرقاق التي لا تسترهن اه. وفي سماع ابن القاسم من جامع العتبية قال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب نهى النساء عن لبس القباطي. قال ابن رشد في شرحه: هي ثياب ضيقة تلتصق بالجسم لضيقها فتبدو ثخانة لابستها من نحافتها، وتبدي ما يستحسن منها، امتثالا لقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} اه. وفي روايات ابن وهب من جامع العتبية قال مالك في الإماء يلبسن الأقبية: ما يعجبني فإذا شدته عليها كان إخراجا لعجزتها.
وجمهور الأئمة على أن استثناء إبداء الوجه والكفين من عموم منع إبداء زينتهن يقتضي إباحة إبداء الوجه والكفين في جميع الأحوال لأن الشأن أن يكون للمستثنى جميع أحوال المستثنى منه. وتأوله الشافعي بأنه استثناء في حالة الصلاة خاصة دون غيرها وهو تخصيص لا دليل عليه.
ونهين عن التساهل في الخمرة. والخمار: ثوب تضعه المرأة على رأسها لستر شعرها وجيدها وأذنيها وكان النساء ربما يسدلن الخمار إلى ظهورهن كما تفعل نساء الأنباط فيبقى العنق والنحر والأذنان غير مستورة فلذلك أمرن في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} في سورة البقرة.
والمعنى: ليشددن وضع الخمر على الجيوب، أي بحيث لا يظهر شيء من بشرة الجيد.
والباء في قوله: {بِخُمُرِهِنَّ} لتأكيد اللصوق مبالغة في إحكام وضع الخمار على الجيب زيادة على المبالغة المستفادة من فعل يضربن.
والجيوب: جمع جيب بفتح الجيم وهو طوق القميص مما يلي الرقبة. والمعنى: وليضعن خمرهن على جيوب الأقمصة بحيث لا يبقى بين منتهى الخمار ومبدأ الجيب ما يظهر منه الجيد.
وقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أعيد لفظ {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} تأكيدا لقوله: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} المتقدم وليبني عليه الاستثناء في قوله: {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الخ الذي مقتضى ظاهره أن يعطف على {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} لبعد ما بين الأول والثاني، أي لا يبدين زينتهن غير الظاهرة إلا لمن ذكروا بعد حرف الاستثناء لشدة الحرج في إخفاء الزينة غير الظاهرة في أوقات كثيرة، فإن الملابسة بين المرأة وبين أقربائها وأصهارها المستثنين ملابسة متكررة فلو وجب عليها ستر زينتها في أوقاتها كان ذلك حرجا عليها.
وذكرت الآية اثنى عشر مستثنى كلهم ممن يكثر دخولهم. وسكتت الآية عن غيرهم ممن هو في حكمهم بحسب المعنى. وسنذكر ذلك عند الفراغ من ذكر المصرح بهم في الآية.
والبعولة: جمع بعل، وهو الزوج، وسيد الأمة. وأصل البعل الرب والمالك وسمي الصنم الأكبر عند أهل العراق القدماء بعلا وجاء ذكره في القرآن في قصة أهل نينوى ورسولهم إلياس، فأطلق على الزوج لأن أصل الزواج ملك وقد بقي من آثار الملك فيه الصداق لأنه كالثمن. ووزن فعولة في الجموع قليل وغير مطرد وهو مزيد التاء في زنة فعول من جموع التكسير.
وكل من عد من الرجال الذين استثنوا من النهي هم من الذين لهم بالمرأة صلة شديدة هي وازع من أن يهموا بها. وفي سماع ابن القاسم من كتاب الجامع من العتبية: سئل مالك عن الرجل تضع أم امرأته عنده جلبابها قال: لا بأس بذلك. قال ابن رشد في شرحه: لأن الله تعالى قال: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية، فأباح الله تعالى أن تضع خمارها عن جيبها وتبدي زينتها عند ذوي محارمها من النسب أو الصهر اه. أي قاس مالك زوج بنت المرأة على ابن زوج المرأة لاشتراكهما في حرمة الصهر.
والإضافة في قوله: {نِسَائِهِنَّ} إلى ضمير {المُؤمِنَات} : إن حملت على ظاهر الإضافة كانت دالة على أنهن النساء اللاتي لهن بهن مزيد اختصاص فقيل المراد نساء
أمتهن، أي المؤمنات، مثل الإضافة في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} ، أي من رجال دينكم. ويجوز أن يكون المراد أو النساء. وإنما أضافهن إلى ضمير النسوة إتباعا لبقية المعدود.
قال ابن العربي: إن في هذه الآية خمسة وعشرين ضميرا فجاء هذا للإتباع اه. أي فتكون الإضافة لغير داع معنوي بل لداع لفظي تقتضيه الفصاحة مثل الضميرين المضاف إليهما في قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أي ألهمها الفجور والتقوى، فإضافتهما إلى الضمير إتباع للضمائر التي من أول السورة {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} وكذلك قوله فيها: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} أي بالطغوى وهي الطغيان فذكر ضمير ثمود مستغنى عنه لكنه جيء به لمحسن المزاوجة1.
ومن هذين الاحتمالين اختلف الفقهاء في جواز نظر النساء المشركات والكتابيات إلى ما يجوز للمرأة المسلمة إظهاره للأجنبي من جسدها. وكلام المفسرين من المالكية وكلام فقهائهم في هذا غير مضبوط. والذي يستخلص من كلامهم قول خليل في التوضيح عند قول ابن الحاجب: وعورة الحرة ماعدا الوجه والكفين. ومقتضى كلام سيدي أبي عبد الله ابن الحاج2: أما الكافرة فكالأجنبية مع الرجال اتفاقا ا هـ.
وفي مذهب الشافعي قولان: أحدهما أن غير المسلمة لا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين، ورجحه البغوي وصاحب المنهاج البيضاوي واختاره الفخر في التفسير. ونقل مثل هذا عن عمر بن الخطاب وابن عباس، وعلله ابن عباس بأن غير المسلمة لا تتورع عن أن تصف لزوجها المسلمة. وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن
ـــــــ
1 وقد تقع الإضافة إلى مثل هذا الضمير بدون مزاوجة, فيكون ذكر الضمير مستغنى عنه ولا داعي إليه فيكون بمنزلة اعتماد في الكلام كما في قول عامر بن جوين الطائي:
فلا مزنة ودقت دقها ... ولا أرض أبقل إبقالها
أي ودقت ودقا وأبقلت إبقالا. ومنه بعض قول بني نمير:
رمى قلبه البرق الملألئ ... رميه فهيج أسقاما فبات يهيم
أنشد الشيخ الجد سيدي محمد الطاهر ابن عاشور في "شرحه" على "البردة" نقلا عن ابن مرزوق في البيت الثاني من أبيات البردة
2 هو محمد بن محمد بن الحاج العبدري المالكي الفاسي المتوفى / 737/ هـ .له كتاب "المدخل إلى تتمة الأعمال".
الجراح: أنه بلغني أن نساء أهل الذمة يدخلن الحمامات مع نساء المسلمين فامنع من ذلك وحل دونه فإنه لا يجوز أن ترى الذمية عرية المسلمة.
القول الثاني: أن المرأة غير المسلمة كالمسلمة ورجحه الغزالي.
ومذهب أبي حنيفة كذلك فيه قولان: أصحهما أن المرأة غير المسلمة كالرجل الأجنبي فلا ترى من المرأة المسلمة إلا الوجه والكفين والقدمين، وقيل هي كالمرأة المسلمة.
وأما ما ملكت أيمانهن فهو رخصة لأن ستر المرأة زينتها عنهم مشقة عليها، لكثرة ترددهم عليها، ولأن كونه مملوكا لها وازع له ولها عن حدوث ما يحرم بينهما، والإسلام وازع له من أن يصف المرأة للرجال.
وأما التابعون غير أولي الإربة من الرجال فهم صنف من الرجال الأحرار تشترك أفراده في الوصفين وهما التبعية وعدم الإربة.
فأما التبعية فهي كونهم من إتباع بيت المرأة وليسوا ملك يمينها ولكنهم يترددون على بيتها لأخذ الصدقة أو للخدمة.
والإربة: الحاجة. والمراد بها الحاجة إلى قربان النساء. وانتفاء هذه الحاجة تظهر في المجبوب والعنين والشيخ الهرم فرخص الله في إبداء الزينة لنظر هؤلاء لرفع المشقة عن النساء مع السلامة الغالبة من تطرق الشهوة وآثارها من الجانبين.
واختلف في الخصي غير التابع هل يلحق بهؤلاء على قولين مرويين عن السلف. وقد روي القولان عن مالك. وذكر ابن الفرس: أن الصحيح جواز دخوله على المرأة إذا اجتمع فيه الشرطان التبيعية وعدم الإربة. وروي ذلك عن معاوية بن أبي سفيان.
وأما قضية هيت المخنث أو المخصي1 ونهى النبي صلى الله عليه وسلم نساءه أن يدخلن عليهن فتلك قضية عين تعلقت بحالة خاصة فيه. وهي وصفه النساء للرجال فتقصى على أمثاله، ألا ترى أنه لم ينه عن دخوله على النساء قبل أن يسمع منه ما سمع.
ـــــــ
1 أخرج حديثه في "الموطأ" وكتب السنة, وهو: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بيت أم سلمة فدخل عليها ِهيت – بكسر الهاء – المخنث فقال لعبد الله بن أمية المخزومي أخي أم سلمة لأبيها: يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غدا فإني أدلك على بادية بنت غيلان فأنها تقبل بأربع وتدبر بثمان وزاد في الوصف وأنشد شعيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أرى هذا يعرف ما هاهنا: لايدخل عليكن" . وكانت هيت هذا مولى لعبد الله بن أمية المخزومي.
وقرأ الجمهور {غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ} بخفض غير. وقرأه ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر بنصب غير على الحال.
والطفل مفرد مراد به الجنس فلذلك أجري عليه الجمع في قوله: {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا} وذلك مثل قوله: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي أطفالا.
ومعنى {لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} لم يطلعوا عليها. وهذا كناية عن خلو بالهم من شهوة النساء
وذلك ما قبل سن المراهقة.
ولم يذكر في عداد المستثنيات العم والخال فاختلف العلماء في مساواتهما في ذلك: فقال الحسن والجمهور: هما مساويان لمن ذكر من المحارم وهو ظاهر مذهب مالك إذ لم يذكر المفسرون من المالكية مثل ابن الفرس وابن جزي عنه المنع. وقال الشعبي: بالمنع وعلل التفرقة بأن العم والخال قد يصفان المرأة لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم، وهذا تعليل واه لأن وازع الإسلام يمنع من وصف المرأة.
والظاهر أن سكوت الآية عن العم والخال ليس لمخالفة حكمهما حكم بقية المحارم ولكنه اقتصار على الذين تكثر مزاولتهم بيت المرأة، فالتعداد جرى على الغالب. ويلحق بهؤلاء القرابة من كان في مراتبهم من الرضاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" . وجزم بذلك الحسن، ولم أر فيه قولا للمالكية. وظاهر الحديث أن فيهم من الرخصة ما في محارم النسب والصهر.
{وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} الضرب بالأرجل إيقاع المشي بشدة كقوله: يضرب في الأرض، روى الطبري عن حضرمي: أن امرأة اتخذت برتين تثنية برة بضم الباء وتخفيف الراء المفتوحة ضرب من الخلخال من فضة واتخذت جزعا في رجليها فمرت بقوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية.
والتحقيق أن من النساء من كن إذا لبسن الخلخال ضربن بأرجلهن في المشي بشدة لتسمع قعقعة الخلاخل غنجا وتباهيا بالحسن فنهين عن ذلك مع النهي عن إبداء الزينة.
قال الزجاج: سماع هذه الزينة أشد تحريكا للشهوة من النظر للزينة. فأما صوت الخلخال المعتاد فلا ضير فيه.
وفي أحاديث أن وهب من جامع العتبية: سئل مالك عن الذي يكون في أرجل
النساء من الخلاخل قال: ما هذا الذي جاء فيه الحديث وتركه أحب إلى من غير تحريم. قال ابن رشد في شرحه: أراد أن الذي يحرم إنما هو أن يقصدن في مشيهن إلى إسماع قعقعة الخلاخل إظهارا بهن من زينتهن.
وهذا يقتضي النهي عن كل ما من شأنه أن يذكر الرجل بلهو النساء ويثير منه إليهن من كل ما يرى أو يسمع من زينة أو حركة كالتثني والغناء وكلم الغزل. ومن ذلك رقص النساء في مجالس الرجال ومن ذلك التلطخ بالطيب الذي يغلب عبيقه. وقد أومأ إلى علة ذلك قوله تعالى: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} . ولعن النبي صلى الله عليه وسلم المستوشمات والمتفلجات للحسن.
قال مكي بن أبي طالب ليس في كتاب الله آية أكثر ضمائر من هذه الآية جمعت خمسة وعشرين ضميرا للمؤمنات من مخفوض ومرفوع وسماها أبو بكر ابن العربي: آية الضمائر.
{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أعقبت الأوامر والنواهي الموجهة إلى المؤمنين بأمر جميعهم بالتوبة إلى الله إيماء إلى أن فيما أمروا به ونهوا عنه دفاعا لداع تدعو إليه الجبلة البشرية من الاستحسان والشهوة فيصدر ذلك عن الإنسان عن غفلة ثم يتغلغل هو فيه فأمروا بالتوبة ليحاسبوا أنفسهم على ما يفلت منهم من ذلك اللمم المؤدي إلى ما هو أعظم.
والجملة معطوفة على جملة {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ} . ووقع التفات من خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خطاب الأمة لأن هذا تذكير بواجب التوبة المقررة من قبل وليس استئناف تشريع.
ونبه بقوله: {جَمِيعَاً} على أن المخاطبين هم المؤمنون والمؤمنات وإن كان الخطاب ورد بضمير التذكير على التغليب، وأن يؤملوا الفلاح إن هم تابوا وأنابوا.
وتقدم الكلام على التوبة في سورة النساء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} .
وكتب في المصحف أيه بهاء في آخره اعتبارا بسقوط الألف في حال الوصل مع كلمة {الْمُؤْمِنُونَ} . فقرأها الجمهور بفتح الهاء بدون ألف في الوصل. وقرأها أبو عامر بضم الهاء إتباعا لحركة أي. ووقف عليها أبو عمرو والكسائي بألف في آخرها. ووقف الباقون عليها بسكون الهاء على اعتبار ما رسمت به.
[32] {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}
أردفت أوامر العفاف بالإرشاد إلى ما يعين عليه، ويعف نفوس المؤمنين والمؤمنات، ويغض من أبصارهم، فأمر الأولياء بأن يزوجوا أيا ما هم ولا يتركوهن متأيمات لأن ذلك أعف لهن وللرجال الذين يتزوجونهن. وأمر السادة بتزويج عبيدهم وإمائهم. وهذا وسيلة لإبطال البغاء كما سيتبع به في آخر الآية.
والآيامى: جمع أيم بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة بوزن فيعل وهي المرأة التي لا زوج لها كانت ثيبا أم بكرا. والشائع إطلاق الأيم على التي كانت زوج ثم خلت عنه بفراق أو موته، وأما إطلاقه على البكر التي لا زوج لها فغير شائع فيحمل على انه مجاز كثر استعماله. والأيم في الأصل من أوصاف النساء قال أبو عمرو والكسائي ولذلك لم تقترن به هاء التأنيث فلا يقال: امرأة أئمة. وإطلاق الأيم على الرجل الخلي عن امرأة إما لمشاكلة أو تشبيه، وبعض أئمة اللغة كأبي عبيد والنضر بن شميل يجعل الأيم مشتركا للمرأة والرجل وعليه درج في الكشاف والقاموس.
ووزن أيامى عند الزمخشري أفاعل لأنه جمع أيم بوزن فيعل، وفيعل لا يجمع على فعالى. فأصل أيامى أيائم فوقع فيه قلب مكاني قدمت الميم للتخلص من ثقل الياء بعد حرف المد، وفتحت الميم للتخفيف فقلبت الياء ألفا. وعند ابن مالك وجماعة: وزنه فعالى عل غير قياس وهو ظاهر كلام سيبويه.
و {الْأَيَامَى} صيغة عموم لأنه جمع معرف باللام فتشمل البغايا. أمر أولياؤهن بتزويجهن فكان هذا العموم ناسخا لقوله تعالى: {وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} فقد قال جمهور الفقهاء: إن هذه ناسخة للآية التي تقدمت وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد. ونقل القول بأن التي قبلها محكمة من غير معين. وزوج أبو بكر امرأة من رجل زنى بها لما شكاه أبوها.
ومعنى التبعيض في قوله: {مِنْكُمْ} أنهن من المسلمات لأن غير المسلمات لا يخلون عند المسلمين من أن يكن أزواجا لبعض المسلمين فلا علاقة للآية بهن؛ أو أن يكن مملوكات فهن داخلات في قوله: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} على الاحتمالات الآتية في معنى الصالحين. وأما غيرهن فولايتهن لآهل ملتهن.
والمقصود: الأيامى الحرائر، خصصه قوله بعده: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} . وظاهر وصف العبيد والإماء بالصالحين أن المراد اتصافهم بالصلاح الديني، أي الأتقياء. والمعنى: لا يحملكم تحقق صلاحهم على إهمال إنكاحهم لأنكم آمنون من وقوعهم في الزنى بل عليكم أن تزوجوهم رفقا بهم ودفعا لمشقة العنت عنهم.
فيفيد أنهم إن لم يكونوا صالحين كان تزويجهم آكد أمرا. وهذا من دلالة الفحوى فيشمل غير الصالحين غير الإعفاء والعفائف من المماليك المسلمين، ويشمل المماليك غير المسلمين. وبهذا التفسير تنقشع الحيرة التي عرضت للمفسرين في التقييد بهذا الوصف. وقيل أريد بالصالحين الصلاح للتزوج بمعنى اللياقة لشؤون الزوج، أي: إذا كانوا مظنة القيام بحقوق الزوجية.
وفي صيغة الأمر في قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} إلى آخره مجملة تحتمل الوجوب والندب بحسب ما يعرض من حال المأمور بإنكاحهم: فإن كانوا مظنة الوقوع في مضار في الدين أو الدنيا كان إنكاحهم واجبا، وإن لم يكونوا كذلك فعند مالك وأبي حنيفة إنكاحهم مستحب. وقال الشافعي: لا يندب، وحمل الأمر عل الإباحة، وهو محمل ضعيف في مثل هذا المقام إذ ليس المقام مظنة تردد في إباحة تزويجهم.
وجملة {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ} إلخ استئناف بياني لأن عموم الأيامى والعبيد والإماء في صيغة الأمر يثير سؤال الأولياء والموالي أن يكون الراغب في تزوج المرأة الأيم فقيرا فهل يرده الوالي، وأن يكون سيد العبيد فقيرا لا يجد ما ينفقه على زوجه، وكذلك سيد الأمة يخطبها رجل فقير حر أو عبد فجاء هذا لبيان إرادة العموم في الأحوال. ووعد الله المتزوج من هؤلاء إن كان فقيرا أن يغنيه الله، وإغناؤه تيسير الغنى إليه إن كان حرا وتوسعة المال على مولاه إن كان عبدا فلا عذر للولي ولا للمولى أن يرد خطبته في هذه الأحوال.
وإغناء الله إياهم توفيق ما يتعاطونه من أسباب الرزق التي اعتادوها مما يرتبط به سعيهم الخاص من مقرنة الأسباب العامة أو الخاصة التي تفيد سعيهم نجاحا وتجارتهم رباحا. والمعنى: أن الله تكفل لهم أن يكفيهم مؤنة ما يزيده التزوج من نفقاتهم.
وصفة الله الواسع مشتقة من فعل وسع باعتبار أنه مجازي لأن الموصوف بالسعة هو إحسانه. قال حجة الإسلام: والسعة تضاف مرة إلى العلم إذا اتسع وأحاط بالمعلومات الكثيرة، وتضاف مرة إلى الإحسان وبذل النعم، وكيفما قدر وعلى أي شيء
نزل فالواسع المطلق هو الله تعالى لأنه إن نظر إلى علمه فلا ساحل لبحر معلوماته وإن نظر إلى إحسانه ونعمه فلا نهاية لمقدوراته اه.
والذي يؤخذ من استقراء القرآن أن وصف الواسع المطلق إنما يراد به سعة الفضل والنعمة، ولذلك يقرن بوصف العلم ونحوه قال تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} . أما إذا ذكرت السعة بصيغة الفعل فيراد بها الإحاطة فيما تميز به كقوله تعالى: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .
وذكر عليم بعد واسع إشارة إلى أنه يعطي فضله على مقتضى ما علمه من الحكمة في مقدار الإعطاء.
[33] { وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} .
أمر كل من تعلق به الأمر بالإنكاح بأن يلازموا العفاف في مدة انتظارهم تيسير النكاح لهم بأنفسهم أو بأذن أوليائهم ومواليهم. والسين والتاء للمبالغة في الفعل، أي وليعف الذين لا يجدون نكاحا. ووجه دلالته على المبالغة أنه في الأصل استعارة. وجعل طلب الفعل بمنزلة طلب السعي فيه ليدل على بذل الوسع.
ومعنى {لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} لا يجدون قدرة على النكاح ففيه حذف مضاف. وقيل النكاح هنا اسم ما هو سبب تحصيل النكاح كاللباس واللحاف. فالمراد المهر الذي يبذل للمرأة.
والإغناء هنا هو إغناؤهم بالزواج. والفضل: زيادة العطاء.
{وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} .
لما ذكر وعد الله من يزوج من العبيد الفقراء بالغنى وكان من وسائل غناه أن يذهب يكتسب بعمله وكان ذلك لا يستقل به العبد لأنه في خدمة سيده جعل الله للعبيد حقا في الاكتساب لتحرير أنفسهم من الرق ويكون في ذلك غنى للعبد إن كان من ذوي الأزواج.
أمر الله السادة بإجابة من يبتغي الكتابة من عبيدهم تحقيقا لمقصد الشريعة من بث الحرية في الأمة، ولمقصدها من إكثار النسل في الأمة، ولمقصدها من تزكية الأمة واستقامة دينها.
والذين مرفوع بالابتداء أو منصوب بفعل مضمر يفسره {فَكَاتِبُوهُمْ} . وهذا الثاني هو اختيار سيبويه والخليل.
ودخول الفاء في {فَكَاتِبُوهُمْ} لتضمين الموصول معنى الشرطية كأنه قيل: إن ابتغى الكتاب ما ملكت أيمانكم فكاتبوهم، تأكيدا لترتب الخبر على تحقق مضمون صلة الموصول بأن يكون كترتب الشروط على الشرط.
والكتاب: مصدر كاتب إذا عاقد على تحصيل الحرية من الرق على قدر معين من المال يدفع لسيد العبد منجما، أي موزعا على مواقيت معينة، كانوا في الغالب يوقتونها بمطالع نجوم المنازل مثل الثريا فلذلك سموا توقيت دفعها نجما وسموا توزيعها تنجيما، ثم غلب ذلك في كل توقيت فيقال فيه: تنجيم. وكذلك الديات والحمالات كانوا يجعلونها موزعة على مواقيت فيسمون ذلك تنجيما وكان تنجيم الدية في ثلاث سنين على السواء، قال زهير:
تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت ... ينجمها من ليس فيها بمجرم
وسموا ذلك كتابة لأن السيد وعبده كانا يسجلان عقد تنجيم عوض الحرية بصك يكتبه كاتب بينهما، فلما كان في الكتب حفظ لحق كليهما أطلق على ذلك التسجيل كتابة لأن ما يتضمنه هو عقد من جانبين، وإن كان الكاتب واحدا والكتب واحدا. وفي حديث عبد الرحمان بن عوف: كاتبت أمية بن خلف كتابا بأن يحفظني في صاغيتي بمكة وأحفظه في صاغيته بالمدينة.
ومعنى {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} إن ظننتم أنهم لايبتغون بذلك إلا تحرير أنفسهم ولا يبتغون بذلك تمكنا من الإباق، وذلك الخير بالقدرة على الاكتساب وبصفة الأمانة ولا يلزم أن يتحقق دوام ذلك لأنه إن عجز عن إكمال ما عليه رجع عبدا كما كان.
وكانت الكتابة معروفة من عهد الجاهلية ولكنها كانت على خيار السيد فجاءت هذه الآية تأمر السادة بذلك إن رغبه العبد أو لحثه على ذلك على اختلاف بين الأئمة في محمل الأمر من قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} . فعن عمر بن الخطاب ومسروق وعمرو بن
دينار وابن عباس والضحاك وعطاء وعكرمة والظاهرية أن الكتابة واجبة على السيد إذا علم خيرا في عبده وقد وكله الله في ذلك إلى علمه ودينه، واختاره الطبري وهو الراجح لأنه يجمع بين مقصد الشريعة وبين حفظ حق السادة في أموالهم فإذا عرض العبد اشتراء نفسه من سيده وجب عليه إجابته. وقد هم عمر بن الخطاب أن يضرب أنس بن مالك بالدرة لما سأله سيرين عبده أن يكاتبه فأبى أنس. وذهب الجمهور إلى حمل الأمر على الندب.
وقد ورد في السنة حديث كتابة بريرة مع سادتها وكيف أدت عنها عائشة أم المؤمنين مال الكتابة كله. وذكر ابن عطية عن النقاش ومكي بن أبي طالب أن سبب نزول هذه الآية: أن غلاما لحويطب بن عبد العزي أو لحاطب بن أبي بلتعة اسمه صبيح القبطي أو صبح سأل مولاه الكتابة فأبى عليه فأنزل الله هذه الآية فكاتبه مولاه. وفي الكشاف أن عمر بن الخطاب كاتب عبدا له يكنى أبا أمية أول عبد كوتب في الإسلام.
والظاهر أن الخطاب في قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} موجه إلى سادة العبيد ليتناسق الخطابان وهو أمر للسادة بإعانة مكاتبيهم بالمال الذي أنعم الله به عليهم فيكون ذلك بالتخفيف عنهم من مقدار المال الذي وقع التكاتب عليه. وكذلك قال مالك: يوضع عن المكاتب من آخر كتابته ما تسمح به نفس السيد. وحدده بعض السلف بالربع وبعضهم بالثلث وبعضهم بالعشر.
وهذا التخفيف أطلق عليه لفظ الإيتاء وليس ثمة إيتاء ولكنه لما كان إسقاطا لما وجب على المكاتب كان ذلك بمنزلة الإعطاء كما سمي إكمال المطلق قبل البناء لمطلقته جميع الصداق عفوا في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} في قول جماعة في محمل {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} منهم الشافعي.
وقال بعض المفسرين: الخطاب في قوله: {وَآتُوهُمْ} للمسلمين، أمرهم الله بإعانة المكاتبين.
والأمر محمول على الندب عند أكثر العلماء وحمله الشافعي على الوجوب. وقال إسماعيل بن حماد القاضي: وجعل الشافعي الكتابة غير واجبة وجعل الأمر بالإعطاء للوجوب فجعل الأصل غير واجب والفرع واجبا وهذا لا نظير له اه وفيه نظر.
وإضافة المال إلى الله لأنه ميسر أسباب تحصيله. وفيه إيماء إلى أن الإعطاء من ذلك المال شكر والإمساك جحد للنعمة قد يتعرض به الممسك لتسلب النعمة عنه.
والموصول في قوله: {الَّذِي آتَاكُمْ} يجوز أن يكون وصفا ل {مَالِ اللَّهِ} ويكون العائد محذوفا تقديره: آتاكموه. ويجوز أن يكون وصفا لاسم الجلالة فيكون امتنانا وحثا على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة ويكون مفعولا {آتَاكُمْ} محذوفا للعموم، أي آتاكم على الامتثال بتذكير أنه ولي النعمة، ويكون مفعول {آتَاكُمْ} محذوفا للعموم، أي آتاكم نعما كثيرة كقوله: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} .
وأحكام الكتابة وعجز المكاتب عن أداء نجومه ورجوعه مملوكا وموت المكاتب وميراث الكتابة وأداء أبناء المكاتب نجوم كتابته مسبوطة في كتب الفروع.
{وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
انتقال إلى تشريع من شؤون المعاملات بين الرجال والنساء التي لها أثر في الأنساب ومن شؤون حقوق الموالي والعبيد، وهذا الانتقال لمناسبة ما سبق من حكم الاكتساب المنجر من العبيد لمواليهم وهو الكتابة فانتقل إلى حكم البغاء.
والبغاء مصدر: باغت الجارية. إذا تعاطت الزنى بالأجر حرفة لها، فالبغاء الزنى بأجرة. واشتقاق صيغة المفاعلة فيه للمبالغة والتكرير ولذلك لا يقال إلا: باغت الأمة. ولا يقال: بغت. وهو مشتق من البغي بمعنى الطلب كما قال عياض في المشارق لأن سيد الأمة بغى بها كسبا. وتسمى المرأة المحترفة له بغيا بوزن فعول بمعنى فاعل ولذلك لا تقترن به هاء التأنيث. فأصل بغي بغوي فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء.
وقد كان هذا البغاء مشروعا في الشرائع السالفة فقد جاء في سفر التكوين في الإصحاح38: فخلعت عنها ثياب ترملها وتغطت ببرقع وتلففت وجلست في مدخل عينائم التي على الطريق ثم قال: فنظرها يهوذا وحسبها زانية لأنها كانت قد غطت وجهها فمال إليها على الطريق وقال: هاتي أدخل عليك. فقالت: ماذا تعطيني? فقال: أرسل لك جدي معزى من الغنم.. ثم قال ودخل عليها فحبلت منه.
وقد كانت في المدينة إماء بغايا منهن ست إماء لعبد الله بن أبي بن سلول وهن: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، وكان يكرههن على البغاء بعد الإسلام. قال ابن العربي: روى مالك عن الزهري: أن رجلا من أسرى قريش في يوم بدر قد جعل عند
عبد الله بن أبي وكان هذا الأسير يريد معاذة على نفسها وكانت تمتنع منه لأنها أسلمت وكان عبد الله ابن أبي يضربها على امتناعها منه رجاء أن تحمل منه أي من الأسير القرشي فيطلب فداء ولده، أي فداء رقه من ابن أبي. ولعل هذا الأسير كان موسرا له مال بمكة وكان الزاني بالأمة يفتدي ولده بمائة من الإبل يدفعها لسيد الأمة، وأنها شكته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
وقالوا: إن عبد الله بن أبي كان قد أعد معاذة لإكرام ضيوفه فإذا نزل عليه ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الكرامه له. فأقبلت معاذة إلى أبي بكر فشكت ذلك إليه فذكر أبو بكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأمر النبي أبا بكر بقبضها فصاح عبد الله بن أبي: من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا. فأنزل الله هذه الآية، أي: وذلك قبل أن يتظاهر عبد الله بن أبي بالإسلام. وجميع هذه الآثار متظافرة على أن هذه الآية كان بها تحريم البغاء على المسلمين والمسلمات المالكات أمر أنفسهن.
وكان بمكة تسع بغايا شهيرات يجعلن على بيوتهن رايات مثل رايات البطار ليعرفهن الرجال، وهن كما ذكر الواحدي: أم مهزول جارية السائب المخزومي، وأم غليظ جارية صفوان بن أمية، وحية القبطية جارية العاصي بن وائل، ومزنة جارية مالك بن عميلة بن السباق، وجلالة جارية سهيل بن عمرة، وأم سويد جارية عمرو بن عثمان المخزومي، وشريفة جارية ربيعة بن أسود، وقرينة أم قريبة جارية هشام بن ربيعة، وقرينة جارية هلال بن أنس. وكانت بيوتهن تسمى في الجاهلية المواخير.
قلت: وتقدم أن من البغايا عناق ولعلها هي أم مهزول كما يقتضيه كلام القرطبي في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} . ولم أقف على أن واحدة من هؤلاء اللاتي كن بمكة أسلمت وأما اللاتي كن بالمدينة فقد أسلمت منهن معاذة ومسيكة وأميمة، ولم أقف على أسماء الثلاث الأخر في الصحابة فلعلهن هلكن قبل أن يسلمن.
والبغاء في الجاهلية كان معدودا من أصناف النكاح. ففي الصحيح من حديث عائشة أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها.
ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلي فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب. وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع.
ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها الليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان، تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها.
ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن الرايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعى ابنه، فلما بعث محمد بالحق هدم نكاح الجاهلية كل إلا نكاح الناس اليوم اه.
فكان البغاء في الحرائر باختيارهن إياه للارتزاق، وكانت عناق صاحبة مرثد بن أبي مرثد التي تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} . وكان في الإماء من يلزمهن سادتهن عليه لاكتساب أجور بغائهن فكما كانوا يتخذون الإماء للخدمة وللتسري كانوا يتخذون بعضهن للاكتساب وكانوا يسمون أجرهن مهرا كما جاء في حديث أبي مسعود أن رسول الله نهى عن مهر البغي ولأجل هذا اقتصرت الآية على ذكر الفتيات جمع فتاة بمعنى الأمة، كما قالوا للعبد: غلام.
واعلم أن تفسير هذه الآية معضل وأن المفسرين ما وفوها حق البيان وما أتوا إلا إطنابا في تكرير مختلف الروايات في سبب نزولها وأسماء من وردت أسماؤهم في قضيتها دون إفصاح عما يستخلصه الناظر من معانيها وأحكامها.
ولا ريب أن الخطاب بقوله تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ} موجه إلى المسلمين، فإذا كانت قصة أمة ابن أبي حدثت بعد أن أظهر سيدها الإسلام كان هو سبب النزول فشمله العموم لا محالة، وإن كانت حدثت قبل أن يظهر الإسلام فهو سبب ولا يشمله الحكم لأنه لم يكن من المسلمين يومئذ وإنما كان تذمر أمته من داعيا لنهي المسلمين عن إكراه فتياتهم على البغاء. وأياما كان فالفتيات مسلمات لأن المشركات لا يخاطبن بفروع الشريعة.
وقد كان إظهار عبد الله بن أبي الإسلام في أثناء السنة الثانية من الهجرة فإنه تردد زمنا في الإسلام ولما رأى قومه دخلوا في الإسلام دخل فيه كارها مصرا على النفاق. ويظهر أن قصة أمته حدثت في مدة صراحة كفره لما علمت مما روي عن الزهري من قول ابن أبي حين نزلت: من يعذرنا من محمد يغلبنا على مماليكنا، ونزول سورة النور كان في حدود السنة الثانية كما علمت في أول الكلام عليها فلا شك أن البغاء الذي هو من عمل الجاهلية استمر زمنا بعد الهجرة بنحو سنة.
ولا شك أن البغاء يمت إلى الزاني بشبه لما فيه من تعريض الأنساب للاختلاط وإن كان لا يبلغ مبلغ الزنى في خرم كلية حفظ النسب من حيث كان الزانى سرا لا يطلع عليه إلا من اقترفه وكان البغاء علنا، وكانوا يرجعون في إلحاق الأبناء الذي تلدهم البغايا بآبائهم إلى إقرار البغي بأن الحمل ممن تعينه. واصطلحوا على الأخذ بذلك في النسب فكان شبيها بالاستلحاق على أنه قد يكون من البغايا من لا ضبط لها في هذا الشأن فيفضي الأمر إلى عدم التحاق الولد بأحد.
ولا شك في أن الزنى كان محرما تحريما شديدا على المسلم من مبدأ ظهور الإسلام. وكانت عقوبته فرضت في حدود السنة الأولى بعد الهجرة بنزول سورة النور كما تقدم في أولها. وقد أثبتت عائشة أن الإسلام هدم أنكحة الجاهلية الثلاثة وأبقى النكاح المعروف ولكنها لم تعين ضبط زمان ذلك الهدم.
ولا يعقل أن يكون البغاء محرما قبل نزول هذه الآية إذ لم يعرف قبلها شيء في الكتاب والسنة يدل على تحريم البغاء، ولأنه لو كان كذلك لم يتصور حدوث تلك الحوادث التي كانت سبب نزول الآية إذ لا سبيل للإقدام على محرم بين المسلمين أمثالهم.
ولذلك فالآية نزلت توطئة لإبطاله كما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} توطئة لتحريم الخمر البتة. وهو الذي جرى عليه المفسرون مثل الزمخشري والفخر بظاهر عباراتهم دون صراحة بل بما تأولوا به معاني الآية إذ تأولوا قوله: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} بأن الشرط لا يراد به عدم النهي عن الإكراه على البغاء إذا انتفت إرادتهن التحصن بل كان الشرط خرج مخرج الغالب لأن إرادة التحصن هي غالب أحوال الإماء البغايا المؤمنات إذ كن يحببن التعفف، أو لأن القصة التي كانت سبب نزول الآية كانت معها إرادة التحصن.
والداعي إلى ذكر القيد تشنيع حالة البغاء في الإسلام بأنه عن إكراه وعن منع من التحصن. ففي ذكر القيدين إيماء إلى حكمة تحريمه وفساده وخباثة الاكتساب به.
وذكر {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} لحالة الإكراه إذ إكراههم إياهن لا يتصور إلا وهن يأبين وغالب الإباء أن يكون عن إرادة التحصن. هذا تأويل الجمهور ورجعوا في الحامل على التأويل إلى حصول إجماع الأمة على حرمة البغاء سواء كان الإجماع لهذه الآية أو بدليل آخر انعقد الإجماع على مقتضاه فلا نزاع في أن الإجماع على تحريم البغاء ولكن النظر في أن تحريمه هل كان بهذه الآية.
وأنا أقول: إن ذكر الإكراه جرى على النظر لحال القضية التي كانت سبب النزول.
والذي يظهر من كلام ابن العربي أنه قد نحا بعض العلماء إلى اعتبار الشرط في الآية دليلا على تحريم الإكراه على البغاء بقيد إرادة الإماء التحصن. فقد تكون الآية توطئة لتحريم البغاء تحريما باتا، فحرم على المسلمين أن يكرهوا إماءهم على البغاء لأن الإماء المسلمات يكرهن ذلك ولا فائدة لهن فيه، ثم لم يلبث أن حرم تحريما مطلقا كما دل عليه حديث أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن مهر البغي، فإن النهي عن أكله يقتضي إبطال البغاء.
وقد يكون هذا الاحتمال معضودا بقوله تعالى بعده: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كما يأتي.
وفي تفسير الأصفهاني1: وقيل إنما جاء النهي عن الإكراه لا عن البغاء لأن حد الزنا نزل بعد هذا. وهذا يقتضي أن صاحب هذا القول يجعل أول السورة نزل بعد هذه الآيات ولا يعرف هذا.
وقوله: {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق ب {تُكْرِهُوا} أي لا تكرهوهن لهذه العلة. ذكر هذه العلة لزيادة التبشيع كذكر {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} .
و {عَرَضَ الْحَيَاةِ} هو الأجر الذي يكتسبه الموالي من إمائهم وهو ما يسمى بالمهر أيضا.
وأما قوله: {وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فهو صريح في أنه
ـــــــ
1 شمس الدين محمود بن عبد الرحمن الشافعي المتوفى سنة / 749/ هـ.
حكم متعلق بالمستقبل لأنه مضارع في حيز الشرط، وهو صريح في أنه عفو عن إكراه.
والذي يشتمل عليه هذا الخبر جانبان: جانب المكرهين وجانب المكرهات بفتح الراء، فأما جانب المكرهين فلا يخطر بالبال أن الله غفور رحيم لهم بعد أن نهاهم عن الإكراه إذ ليس لمثل هذا التبشير نظير في القرآن.
وأما الإماء المكرهات فإن الله غفور رحيم لهن. وقد قرأ بهذا المقدر عبد الله بن مسعود وابن عباس فيما يروى عنهما وعن الحسن أنه كان يقول غفور رحيم لهن والله. وجعلوا فائدة هذا الخبر أن الله عذر المكرهات لأجل الإكراه، وأنه من قبيل قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . وعلى هذا فهو تعريض بالوعيد للذين يكرهون الإماء على البغاء.
ومن المفسرين من قدر المحذوف ضمير من الشرطية، أي غفور رحيم له، وتأولوا ذلك بأنه بعد أن يقلع ويتوب وهو تأويل بعيد.
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} دليل جواب الشرط إذ حذف الجواب إيجازا واستغنى عن ذكره بذكر علته التي تشمله وغيره. والتقدير: فلا إثم عليهن فإن الله غفور رحيم لأمثالهن ممن أكره على فعل جريمة.
والفاء رابطة الجواب.
وحرف إن في هذا المقام يفيد التعليل ويغني غناء لام التعلل.
[34] {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
ذيلت الأحكام والمواعظ التي سبقت بإثبات نفعها وجدواها لما اشتملت عليه مما ينفع الناس ويقيم عمود جماعتهم ويميز الحق من الباطل ويزيل من الأذهان اشتباه الصواب بالخطأ فيعلم الناس طرق النظر الصائب والتفكير الصحيح، وذلك تنبيه لما تستحقه من التدبر فيها ولنعمة الله على الأمة بإنزالها ليشكروا الله حق شكره.
ووصف هذه الآيات المنزلة بثلاث صفات كما وصف السورة في طالعتها بثلاث صفات. والمقصد من الأوصاف في الموضعين هو الامتنان فكان هذا يشبه رد العجز على الصدر، فجملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} مستأنفة استئناف التذييل وكان مقتضى
الظاهر أن لا تعطف لأن شأن التذييل والاستئناف الفصل كما فصلت أختها الآتية قريبا بقوله تعالى: {ولَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} . وإنما عدل عن الفصل إلى العطف لأن هذا ختام التشريعات والأحكام التي نزلت السورة لأسبابها. وقد خللت بمثل هذا التذييل مرتين قبل هذا بقوله تعالى في ابتداء السورة: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ثم قوله: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ثم قوله هنا: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} فكان كل واحد من هذه التذييلات زائدا على الذي قبله؛ فالأول زائد بقوله: {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} لأنه أفاد أن بيان الآيات لفائدة الأمة، وما هنا زاد بقوله: {وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} ، فكانت كل زيادة من هاتين مقتضية العطف لما حصل من المغايرة بينها وبين أختها، وتعتبر كل واحدة عطفا على نظيرتها، فوصفت السورة كلها بثلاث صفات، ووصف ما كان من هذه السورة مشتملا على أحكام القذف والحدود وما يفضي إليها أو إلى مقاربها من أحوال المعاشرة بين الرجال والنساء بثلاث صفات، فقوله هنا {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} يطابق قوله في أول السورة: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وقوله: {وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} يقابل قوله في أول السورة: {وَفَرَضْنَاهَا} على ما اخترناه في تفسير ذلك بأن معناه التعيين والتقدير لأن في التمثيل تقديرا وتصويرا للمعاني بنظائرها وفي ذلك كشف للحقائق، وقوله: {وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} يقابل قوله في أولها: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} .
والآيات جمل القرآن لأنها لكمال بلاغتها وإعجازها المعاندين عن أن يأتوا بمثلها كانت دلائل على أنه كلام منزل من عند الله.
وابتدئ الكلام بلام القسم وحرف التحقيق للاهتمام به.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب مبينات بفتح التحتية على صيغة المفعول. فالمعنى: أن الله بينها ووضحها. وقرأ الباقون بكسر التحتية على معنى أنها أبانت المقاصد التي أنزلت لأجلها. ومعنيا القراءتين متلازمان فبذلك لم يكن تفاوت بين مفاد هذه الآية ومفاد قوله في نظيرتها: {وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} في أول السورة لأن البينات هي الواضحة، أي الواضحة الدلالة والإفادة.
والمثل: النظير والمشابه. ويجوز أن يراد به الحال العجيبة.
ومن في قوله: {مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا} ابتدائية، أي مثلا ينشأ ويتقوم من الذين خلوا. والمراد نشأة المشابهة. وفي الكلام حذف مضاف يدل عليه السياق تقديره: من أمثال
الذين خلوا من قبلكم. وحذف المضاف في مثل هذا طريقة فصيحة، قال النابغة:
وقد خفت حتى ماتزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
أراد على مخافة وعل.
و {الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} هم الأمم الذين سبقوا المسلمين، وأراد: من أمثال صالحي الذي خلوا من قبلكم.
وهذا المثل هو قصة الإفك النظيرة لقصة يوسف وقصة مريم في تقول البهتان على الصالحين البراء.
والموعظة: كلام أو حالة يعرف منها المرء مواقع الزلل فينتهي عن اقتراف أمثالها. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ} في سورة النساء وقوله: {مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} في سورة الأعراف.
ومواعظ هذه الآيات من أول السورة كثيرة كقوله وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين وقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} الآيات، وقوله: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً} .
والمتقون: الذين يتقون، أي يتجنبون ما نهوا عنه.
[35] {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
أتبع منة الهداية الخاصة في أحكام خاصة المفادة من قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} الآية بالامتنان بأن الله هو مكون أصول الهداية العامة والمعارف الحق للناس كلهم بإرسال رسوله بالهدى ودين الحق، مع ما في هذا الامتنان من الإعلام بعظمة الله تعالى ومجده وعموم علمه وقدرته.
والذي يظهر لي أن جملة: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معترضة بين الجملة التي
قبلها وبين جملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} وأن جملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} بيان لجملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} كما سيأتي في تفسيرها فتكون جملة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تمهيدا لجملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} .
ومناسبة موقع جملة {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} بعد جملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} أن آيات القرآن نور قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} في سورة النساء، وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} في سورة المائدة، فكان قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} كلمة جامعة لمعاني جمة تتبع معاني النور في إطلاقه في الكلام.
وموقع الجملة عجيب من عدة جهات، وانتقال من بيان الأحكام إلى غرض آخر من أغراض الإرشاد وأفانين من الموعظة والبرهان.
والنور: حقيقته الإشراق والضياء. وهو اسم جامد لمعنى، فهو كالمصدر لأنا وجدناه أصلا لاشتقاق أفعال الإنارة فشابهت الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة نحو: استنوق الجمل، فأن فعل أنار مثل فعل أفلس، وفعل استنار مثل فعل استحجر الطين. وبذلك كان الإخبار به بمنزلة الإخبار بالمصدر أو باسم الجنس في إفادة المبالغة لأنه اسم ماهية من المواهي فهو والمصدر سواء في الاتصاف. فمعنى {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أن منه ظهورهما. والنور هنا صالح لعدة معان تشبه بالنور، وإطلاق اسم النور عليها مستعمل في اللغة.
فالإخبار عن الله تعالى بأنه نور إخبار بمعنى مجازي للنور لا محالة بقرينة أصل عقيدة الإسلام أن الله تعالى ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يتردد في ذلك أحد من أصحاب اللسان العربي ولا تخلو حقيقة معنى النور عن كونه جوهرا أو عرضا. وأسعد إطلاقات النور في اللغة بهذا المقام أن يراد به جلاء الأمور التي شأنها أن تخفي عن مدارك الناس وتلتبس فيقل الاهتداء إليها، فإطلاقه على ذلك مجاز بعلامة التسبب في الحس والعقل وقال الغزالي في رسالته المعروفة بمشكاة الأنوار1: النور هو الظاهر الذي به كل ظهور، أي الذي تنكشف به الأشياء وتنكشف له وتنكشف منه وهو النور الحقيقي وليس فوقه نور. وجعل اسمه تعالى النور دالا على التنزه عن العدم وعلى إخراج
ـــــــ
1 التي جعلها فيما يستخلص من آية {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} .
الأشياء كلها عن ظلمة العدم إلى ظهور الوجود فآل إلى ما يستلزمه اسم النور من معنى الإظهار والتبيين في الخلق والإرشاد والتشريع وتبعه ابن برجان الإشبيلي1 في شرح الأسماء الحسنى فقال: إن اسمه النور آل إلى صفات الأفعال اه.
أما وصف النور هنا فيتعين أن يكون ملائما لما قبل الآية من قوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} وما بعدها من قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} وقوله عقب ذلك {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} . وقد أشرنا آنفا إلى أن للنور إطلاقات كثيرة وإضافات أخرى صالحة لأن تكون مرادا من وصفه تعالى بالنور، وقد ورد في مواضع من القرآن والحديث فيحمل الإطلاق في كل مقام على ما يليق بسياق الكلام ولا يطرد ذلك على منوال واحد حيثما وقع، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن" . فإن عطف ومن فيهن يؤذن بأن المراد ب {السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذاتهما لا الموجودات التي فيهما فيتعين أن يراد بالنور هنالك إفاضة الوجود المعبر عنه بالفتق في قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} . والمعنى: أنه بقدرته تعالى استقامت أمورهما.
والتزام حكماء الإشراق من المسلمين وصوفية الحكماء معاني من إطلاقات النور. وأشهرها ثلاث: البرهان العلمي، والكمال النفساني، وما به مشاهدة النورانيات من العوالم. وإلى ثلاثتها أشار شهاب الدين يحيى السهروردي في أول كتابه هياكل النور بقوله: يا قيوم أيدنا بالنور، وثبتنا على النور، واحشرنا إلى النور. كما بينه جلال الدين الدواني في شرحه.
ونلحق بهذه المعاني إطلاق النور على الإرشاد إلى الأعمال الصالحة وهو الهدي.
وقد ورد في آيات إطلاق النور على ما هو أعم من الهدي كما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} وقوله: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ} فعطف أحد اللفظين على الآخر مشعر بالمغايرة بينهما. وليس شيء من معاني لفظ النور الوارد في هذه الآيات بصالح لأن يكون هو الذي جعل وصفا لله تعالى لا حقيقة ولا مجازا فتعين أن لفظ {نُورُ} في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} غير المراد بلفظ نور في قوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالنور لفظ
ـــــــ
1 برجان – بضم الموحدة وتشديد الراء المفتوحة بعدها جيم -.
مشترك استعمل في معنى وتارة أخرى في معنى آخر.
فأحسن ما تفسر به قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أن الله موجد كل ما يعبر عنه بالنور وخاصة أسباب المعرفة الحق والحجة القائمة والمرشد إلى الأعمال الصالحة التي بها حسن العاقبة في العالمين العلوي والسفلي، وهو من استعمال المشترك في معانيه.
ويجوز أن يراد بالسماوات والأرض من فيهما من باب {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وهو أبلغ من ذكر المضاف المحذوف لأن في هذا الحذف إيهام أن السماوات والأرض قابلة لهذا النور كما أن القرية نفسها تشهد بما يسأل منها، وذلك أبلغ في الدلالة على الإحاطة بالمقصود وألطف دلالة. فيشمل تلقين العقيدة الحق والهداية إلى الصلاح؛ فأما هداية البشر إلى الخير والصلاح فظاهرة، وأما هداية الملائكة إلى ذلك فبأن خلقهم الله على فطرة الصلاح والخير. وبأن أمرهم بتسخير القوى للخير، وبأن أمر بعضهم بإبلاغ الهدى بتبليغ الشرائع وإلهام القلوب الصالحة إلى الصلاح وكانت تلك مظاهر هدي لهم وبهم.
{مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ}
يظهر أن هذه الجملة بيان لجملة {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} إذ كان ينطوي في معنى {آيَاتٍ} ووصفها ب {مُبَيِّنَاتٍ} ما يستشرف إليه السامع من بيان لما هي الآيات وما هو تبيينها، فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا. ووقعت جملة {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} معترضة بين هذه الجملة والتي قبلها تمهيدا لعظمة هذا النور الممثل بالمشكاة.
وجرى كلام كثير من المفسرين على ما يقتضي أنها بيان لجملة الله نور السماوات والأرض فيكون موقعها موقع عطف البيان فلذلك فصلت فلم تعطف.
والضمير في قوله: {نُورِهِ} عائد إلى اسم الجلالة، أي مثل نور الله. والمراد ب {نُورِهِ} كتابه أو الدين الذي أختاره، أي مثله في إنارة عقول المهتدين.
فالكلام تمثيل لهيئة إرشاد الله المؤمنين بهيئة المصباح الذي حفت به وسائل قوة الإشراق فهو نور الله لا محالة. وإنما أوثر تشبيهه بالمصباح الموصوف بما معه من
الصفات دون أن يشبه نوره بطلوع الشمس بعد ظلمة الليل لقصد إكمال مشابهة الهيئة المشبه بها بأنها حالة ظهور نور يبدو في خلال ظلمة فتنقشع به تلك الظلمة في مساحة يراد تنويرها. ودون أن يشبه بهيئة بزوغ القمر في خلال ظلمة الأفق لقصد إكمال المشابهة لأن القمر يبدو ويغيب في بعض الليلة بخلاف المصباح الموصوف. وبعد هذا فلأن المقصود ذكر ما حف بالمصباح من الأدوات ليتسنى كمال التمثيل بقبوله تفريق التشبيهات كما سيأتي وذلك لا يتأتى القمر.
والمثل: تشبيه حال بحال، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة. فمعنى {مَثَلُ نُورِهِ} شبيه هديه حال مشكاة.. إلى آخره، فلا حاجة إلى تقدير: كنور مشكاة، لأن المشبه به هو المشكاة وما يتبعها.
وقوله: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} المقصود كمصباح في مشكاة. وإنما قدم المشكاة في الذكر لأن المشبه به هو مجموع الهيئة، فاللفظ الدال على المشبه به هو مجموع المركب المبتدئ بقوله: {كَمِشْكَاةٍ} والمنتهي بقوله: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} فلذلك كان دخول كاف الشبه على كلمة مشكاة دون لفظ {مِصْبَاحٌ} لا يقتضي أصالة لفظ مشكاة في الهيئة المشبه بها دون لفظ {مِصْبَاحٌ} بل موجب هذا الترتيب مراعاة الترتيب الذهني في تصور هذه الهيئة لمتخيله حين يلمح الناظر إلى انبثاق النور ثم ينظر إلى مصدره فيرى مشكاة ثم يبدو له مصباح في زجاجة.
والمشكاة المعروف من كلام أهل اللغة أنها فرجة في الجدار مثل الكوة لكنها غير نافذة فإن كانت نافذة فهي الكوة. ولا يوجد في كلام الموثوق عنهم من أهل العربية غير هذا المعنى، واقتصر عليه الراغب وصاحب القاموس والكشاف واتفقوا: على أنها كلمة حبشية أدخلها العرب في كلامهم فعدت في الألفاظ الواقعة في القرآن بغير لغة العرب. ووقع ذلك في صحيح البخاري فيما فسره من مفردات سورة النور.
ووقع في تفسير الطبري وابن عطية عن مجاهد: أن المشكاة العمود الذي فيه القنديل يكون على رأسه، وفي الطبري عن مجاهد أيضا: المشكاة الصفر أي النحاس أي قطعة منه شبيه القصيبة الذي في جوف القنديل. وفي معناه ما رواه هو عن ابن عباس: المشكاة موقع الفتيلة، وفي معناه أيضا ما قاله ابن عطية عن أبي موسى الأشعري: المشكاة الحديد والرصاصة التي يكون فيها الفتيل في جوف الزجاجة. وقول الأزهري: أراد قصبة الزجاجة التي يستصبح فيها وهي موضع الفتيلة.
وقد تأوله الأزهري بأن قصبة الزجاجة شبهت بالمشكاة وهي الكوة فأطلق عليها مشكاة.
والمصباح: اسم للإناء الذي يوقد فيه بالزيت للإنارة، وهي من صيغ أسماء الآلات مثل المفتاح، وهو مشتق من اسم الصبح، أي ابتداء ضوء النهار، فالمصباح آلة الإصباح أي الإضاءة. وإذا كان المشكاة اسما للقصيبة التي توضع في جوف القنديل كان المصباح مرادا به الفتيلة التي توضع في تلك القصيبة.
وإعادة لفظ {الْمِصْبَاحُ} دون أن يقال: فيها مصباح في زجاجة، كما قال: {كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} إظهار في مقام الإضمار للتنويه بذكر المصباح لأنه أعظم أركان هذا التمثيل. وكذلك إعادة لفظ {الزُّجَاجَةُ} في قوله: {الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ} لأنه من أعظم أركان التمثيل. ويسمى مثل هذه الإعادة تشابه الأطراف في فن البديع، وأنشدوا فيه قول ليلى الأخيلية في مدح الحجاج بن يوسف:
إذا أنزل الحجاج أرضا مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
سقاها فرواها بشرب سجاله ... دماء رجال يحلبون صراها
ومما فاقت به الآية عدم تكرار ذلك أكثر من مرتين.
والزجاجة: اسم إناء يصنع من الزجاج، سميت زجاجة لأنها قطعة مصنوعة من الزجاج بضم الزاي وتخفيف الجيمين ملحقة بآخر الكلمة هاء هي علامة الواحد من اسم الجمع كأنهم عاملوا الزجاج معاملة أسماء الجموع مثل تمر، ونمل، ونخل، كانوا يتخذون من الزجاج آنية للخمر وقناديل للإسراج بمصابيح الزيت لأن الزجاج شفاف لا يحجب نور السراج ولا يحجب لون الخمر وصفاءها ليعلمه الشارب.
والزجاج: صنف من الطين المطين من عجين رمل مخصوص يوجد في طبقة الأرض وليس هو رمل الشطوط. وهذا العجين اسمه في اصطلاح الكيمياء سليكا يخلط بأجزاء من رماد نبت يسمى في الكيمياء صودا ويسمى عند الرب: الغاسول. وهو الذي يتخذون منه الصابون. ويضاف إليهما جزء من الكلس الجير ومن البوتاس أو من أكسيد الرصاص فيصير ذلك الطين رقيقا ويدخل للنار فيصهر في أتون خاص به شديد الحرارة حتى يتميع وتختلط أجزاؤه ثم يخرج من الأتون قطعا بقدر ما يريد الصانع أن
يصنع منه، وهو حينئذ رخو يشبه الحلواء فيكون حينئذ قابلا للامتداد وللانتفاخ إذا نفخ فيه بقصبة من حديد يضعها الصانع في فمه وهي متصلة بقطعة الطين المصهورة فينفخ فيها فإذا داخلها هواء النفس تمددت وتشكلت بشكل كما يتفق فيتصرف فيه الصانع بتشكيله بالشكل الذي يبتغيه فيجعل منه أواني مختلفة الأشكال من كؤوس وباطيات وقنينات كبيرة وصغيرة وقوارير للخمر وآنية لزيت المصابيح تفضل ما عداها بأنها لا تحجب ضوء السراج وتزيده إشعاعا.
وقد كان الزجاج معروفا عند القدماء الفينيقيين وعند القبط من نحو القرن الثلاثين قبل المسيح ثم عرفه العرب وهم يسمونه الزجاج والقوارير.
قال بشار:
أرفق بعمرو إذا حركت نسبته ... فإنه عربي من قوارير
وقد عرفه العبرانيون في عهد سليمان واتخذ منه سليمان بلاطا في ساحة صرحه كما ورد في قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ} . وقد عرفه اليونان قديما ومن أقوال الحكيم ديوجينوس اليوناني: تيجان الملوك كالزجاج يسرع إليها العطب. وسمى العرب الزجاج بلورا بوزن سنور وبوزن تنور. واشتهر بصناعته أهل الشام. قال الزمخشري في الكشاف: {فِي زُجَاجَةٍ} أراد قنديلا من زجاج شامي أزهر. واشتهر بدقة صنعه في القرن الثالث المسيحي أهل البندقية ولونوه وزينوه بالذهب وما زالت البندقية إلى الآن مصدر دقائق صنع الزجاج على اختلاف أشكاله وألوانه يتنافس فيه أهل الأذواق. وكذلك بلاد بوهيميا من أرض المجر لجودة التراب الذي يصنع مكنه في بلادهم. ومن أصلح ما انتفع فيه الزجاج اتخاذ أطباق منه توضع على الكوى النافذة والشبابيك لتمنع الرياح وبرد الشتاء والمطر عن سكان البيوت ولا يحجب عن سكانها الضوء. وكان ابتكار استعمال هذه الأطباق في القرن الثالث من التاريخ المسيحي ولكن تأخر الانتفاع به في ذلك مع الاضطرار إليه لعسر استعماله وسرعة تصدعه في النقل ووفرة ثمنه، ولذلك اتخذ في النوافذ أول الأمر في البلاد التي يصنع فيها فبقى زمانا طويلا خاصا بمنازل الملوك والأثرياء.
والكوكب: النجم، والدري بضم الدال وتشديد التحتية في قراءة الجمهور واحد الدراري وهي الكواكب الساطعة النور مثل الزهرة والمشتري منسوبة إلى الدر في صفاء اللون وبياضه، والياء فيه ياء النسبة وهي نسبة المشابهة كما في قول طرفة يصف راحلته:
جمالية وجناء...البيت
أي: كالجمل في عظم الجثة وفي القوة. وقولهم في المثل: بات بليلة نابغية، أي: كليلة النابغة في قوله:
فبت كأني ساورتني ضئيلة...الأبيات
قال الحريري: فبت بليلة نابغية. وأحزان يعقوبية المقامة السابعة والعشرون.
ومنه قولهم: وردي اللون، أي كلون الورد. والدر يضرب مثلا للإشراق والصفاء. قال لبيد:
وتضيء في وجه الظلام منيرة ... كجمانة البحري سل نظامها
وقيل: الكوكب الدري علم بالغلبة على كوكب الزهرة.
وقرأ أبو عمرو والكسائي دري بكسر الدال ومد الراء على وزن شريب من الدرء وهو الدفع، لأنه يدفع الظلام بضوءه أو لأن بعض شعاعه يدفع بعضا فيما يخاله الرائي.
وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم بضم الدال ومد الراء من الدرء أيضا على أن وزنه فعيل وهو وزن نادر في كلام العرب لكنه من أبنية كلامهم عند سيبويه ومنه علية وسرية وذرية بضم الأول في ثلاثتها.
وإنما سلك طريق التشبيه في التعبير عن شدة صفاء الزجاجة لأنه أوجز لفظا وأبين وصفا. وهذا تشبيه مفرد في أثناء التمثيل ولاحظ له في التمثيل.
وجملة {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ} الخ. في موضع الصفة لمصباح
وقرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم يوقد بتحتية في أوله مضمومة بعدها واو ساكنة وبفتح القاف مبنيا للنائب، أي يوقده الموقد، فالجملة حال من مصباح.
وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف توقد بفوقية مفتوحة في أوله وبفتح الواو وتشديد القاف مفتوحة ورفع الدال على أنه مضارع توقد حذفت منه إحدى التاءين وأصله تتوقد على أنه صفة أو حال من مشكاة أو من {زُجَاجَةٍ} أو من المذكورات وهي مشكاة ومصباح وزجاجة، أي تنير. وإسناد التوقد إليها مجاز عقلي.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر مثل قراءة حمزة ومن معه لكن بفتح الدال على أنه فعل مضي حال أو صفة لمصباح.
والإيقاد: وضع الوقود وهو ما يزاد في النار المشتعلة ليقوى لهبها، وأريد به هنا ما يمد به المصباح من الزيت، وفي صيغة المضارع على قراءة الأكثرين إفادة تجدد إيقاده، أي لا يذوى ولا يطفأ. وعلى قراءة ابن كثير ومن معه بصيغة المضي إفادة أن وقوده ثبت وتحقق، وذكرت الشجرة باسم جنسها ثم أبدل منه {زَيْتُونَةٍ} وهو اسم نوعها للإبهام الذي يعقبه التفصيل اهتماما بتقرر ذلك في الذهن. ووصف الزيتونة بالمباركة لما فيها من كثرة النفع فإنها ينتفع بحبها أكلا وبزيتها كذلك ويستنار بزيتها ويدخل في أدوية وإصلاح أمور كثيرة، وينتفع بحطبها وهو أحسن حطب لأن فيه المادة الدهنية قال تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} ، وينتفع بجودة هواء غاباتها.
وقد قيل إن بركتها لأنها من شجر بلاد الشام والشام بلد مبارك من عهد إبراهيم عليه السلام قال تعالى: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} يريد أرض الشام، ووصف الزيتونة ب {مُبَارَكَةٍ} على هذا وصف كاشف، ويجوز أن يكون وصفا مخصصا ل {زَيْتُونَةٍ} أي: شجرة ذات بركة، أي نماء ووفرة ثمر من بين شجر الزيتون فيكون ذكر هذا الوصف لتحسين المشبه به لينجر منه تحسين للمشبه كما في قول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
فإن قوله، وأفرطه الخ لا يزيد الماء صفاء ولكنه حالة تحسنه عند السامع.
وقوله: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} وصف ل {زَيْتُونَةٍ} . دخل حرف لا النافية في كلا الوصفين فصار بمنزلة حرف هجاء من الكلمة بعده ولذلك لم يكن في موضع إعراب نظير ال المعرفة التي ألغز فيها الدماميني بقوله:
حاجيتكم لتبخروا ما اسمان ... وأول إعرابه في الثاني
وهو مبني بكل حال ... ها هو للناظر كالعيان
لإفادة الاتصاف بنفي كل وصف وعطف على كل وصف ضده لإرادة الاتصاف بوصف وسط بين الوصفين المنفيين لأن الوصفين ضدان على طريقة قولهم: الرمان حلو حامض. والعطف هنا من عطف الصفات كقوله تعالى: {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ}
وقول المرأة الرابعة من حديث أم زرع:زوجي كليل تهامة لا حر ولا قر1 أي وسطا بين الحر والقر. وقوله العجاج يصف حمار وحش:
حشرج في الجوف قليلا وشهق ... حتى يقال ناهق وما نهق
والمعنى: إنها زيتونة جهتها بين جهة الشرق وجهة الغرب، فنفي عنها أن تكون شرقية وأن تكون غربية. وهذا الاستعمال من قبيل الكناية لأن المقصود لازم المعنى لا صريحه. وأما إذا لم يكن الأمران المنفيان متضادين فإن نفيهما لا يقتضي أكثر من نفي وقوعهما كقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} وقول المرأة الأولى من نساء حديث أم زرع: زوجي لحم جمل على رأس جبل، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل.
واعلم أن هذا الاستعمال إنما يكون في عطف نفي الأسماء وأما عطف الأفعال المنفية فهو من عطف الجمل نحو: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا هي أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض" .
واعلم أيضا أن هذا لم يرد إلا في النفي بلا النافية ولذلك استقام للحريري أن يلقب شجرة الزيتون بلقب لا ولا بقوله في المقامة السادسة والأربعين: بورك فيك من طلا. كما بورك في لا ولا أي في الشجرة التي قال الله في شأنها: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} .
ثم يحتمل أن يكون معنى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أنها نابتة في موضع بين شرق بلاد العرب وغربها وذلك هو البلاد الشامية، وقد قيل إن أصل منبت شجرة الزيتون بلاد الشام. ويحتمل أن يكون المعنى أن جهة تلك الشجرة من بين ما يحف بها من شجر الزيتون موقع غير شرق الشمس وغربها وهو أن تكون متجهة إلى الجنوب. أي لا يحجبها عن جهة الجنوب حاجب وذلك أنفع لحياة الشجرة وطيب ثمرتها، فبذلك يكون زيتها أجود وإذا كان أجود كان أشد وقودا ولذلك أتبع بجملة {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} وهي في موضع الحال.
وجملة: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ} في موضع الحال من {زِيْتُهَا} .
والزيت: عصارة حب الزيتون وما يشبهه من كل عصارة دهنية، مثل زيت السمسم
ـــــــ
1 تمام القرينة: "ولا مخافة ولا سآمة"
والجلجلان. وهو غذاء. ولذلك تجب الزكاة في زيت الزيتون إذا كان حبه نصابا خمسة أوسق وكذلك زكاة زيت الجلجلان والسمسم.
ولو وصلية. والتقدير: يكاد يضيء في كل حال حتى في حالة لم تمسسه فيها نار.
وهذا تشبيه بالغ كمال الإفصاح بحيث هو مع أنه تشبيه هيئة بهيئة هو أيضا مفرق التشبيهات لأجزاء المركب المشبه مع أجزاء المركب المشبه به وذلك أقصى كمال التشبيه التمثيلي في صناعة البلاغة.
ولما كان المقصود تشبيه الهيئة بالهيئة والمركب بالمركب حسن دخول حرف التشبيه على بعض ما يدل على بعض المركب ليكون قرينة على أن المراد التشبيه المركب ولو كان المراد تشبيه الهدى فقط لقال: نوره كمصباح في مشكاة.. إلى آخره.
فالنور هو معرفة الحق على ما هو عليه المكتسبة من وحي الله وهو القرآن. شبه بالمصباح المحفوف بكل ما يزيد نوره انتشارا وإشراقا.
وجملة {نُورٌ عَلَى نُورٍ} مستأنفة إشارة إلى أن المقصود من مجموع أجزاء المركب التمثيلي هنا هو البلوغ إلى إيضاح أن الهيئة المشبه بها قد بلغت حد المضاعفة لوسائل الإنارة إذ تظاهرت فيها المشكاة والمصباح والزجاج الخالص والزيت الصافي، فالمصباح إذا كان في مشكاة كان شعاعه منحصرا فيها غير منتشر فكان أشد إضاءة لها مما لو كان في بيت، وإذا كان موضوعا في زجاجة صافية تضاعف نوره، وإذا كان زيته نقيا صافيا كان أشد إسراجا، فحصل تمثيل حال الدين أو الكتاب المنزل من الله في بيانه وسرعة فشوه في الناس بحال انبثاق نور المصباح وانتشاره فيما حف به من أسباب قوة شعاعه وانتشاره في الجهة المضاءة به.
فقوله: {نُورٌ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} إلى آخره، أي هذا المذكور الذي مثل به الحق هو نور على نور.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي وهو التظاهر والتعاون. والمعنى: أنه نور مكرر مضاعف. وقد أشرت آنفا إلى أن هذا التمثيل قابل لتفريق التشبيه في جميع أجزاء ركني التمثيل بأن يكون كل جزء من أجزاء الهيئة المشبهة مشابها لجزء من الهيئة المشبه بها وذلك أعلى التمثيل.
فالمشكاة يشبهها ما في الإرشاد الإلهي من انضباط اليقين وإحاطة الدلالة بالمدلولات دون تردد ولا انثلام، وحفظ المصباح من الانطفاء مع ما يحيط بالقرآن من حفظه من الله بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .
ومعاني هداية إرشاد الإسلام تشبه المصباح في التبصير والإيضاح، وتبيين الحقائق من ذلك الإرشاد.
وسلامته من أن يطرقه الشك واللبس يشبه الزجاجة في تجلية حال ما تحتوي عليه كما قال: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ} .
والوحي الذي أبلغ الله به حقائق الديانة من القرآن والسنة يشبه الشجرة المباركة التي تعطي ثمرة يستخرج منها دلائل الإرشاد.
وسماحة الإسلام وانتفاء الحرج عنه يشبه توسط الشجرة بين طرفي الأفق فهو وسط بين الشدة المحرجة وبين اللين المفرط.
ودوام ذلك الإرشاد وتجدده يشبه الإيقاد.
وتعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته ببيان القرآن وتشريع الأحكام يشبه الزيت الصافي الذي حصلت به البصيرة وهو مع ذلك بين قريب التناول يكاد لا يحتاج إلى إلحاح المعلم.
وانتصاب النبي عليه الصلاة والسلام للتعليم يشبه مس النار للسراج وهذا يومئ إلى استمرار هذا الإرشاد.
كما أن قوله: {مِنْ شَجَرَةٍ} يومئ إلى الحاجة إلى اجتهاد علماء الدين في استخراج إرشاده على مرور الأزمنة لأن استخراج الزيت من ثمر الشجرة بتوقف على اعتصار الثمرة وهو الاستنباط.
{يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} هذه الجمل الثلاث معترضة أو تذييل للتمثيل. والمعنى: دفع التعجب من عدم اهتداء كثير من الناس بالنور الذي أنزله الله وهو القرآن والإسلام فإن الله إذا لم يشأ هدي أحد خلقه وجبله على العناد والكفر.
وأن الله يضرب الأمثال للناس مرجوا منهم التذكر بها: فمنهم من يعتبر بها فيهتدي، ومنهم من يعرض فيستمر على ضلاله ولكن شأن تلك الأمثال أن يهتدي بها غير من طبع على قلبه.
وجملة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تذييل لمضمون الجملتين قبلها، أي لا يعزب عن عمله شيء. ومن ذلك علم من هو قابل للهدى ومن هو مصر على غيه. وهذا تعريض بالوعد للأولين والوعيد للآخرين.
[38,36] {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
تردد المفسرون في تعلق الجار والمجرور من قوله: {فِي بُيُوتٍ} الخ. فقيل قوله: {فِي بُيُوتٍ} من تمام التمثيل، أي فيكون {فِي بُيُوتٍ} متعلقا بشيء مما قبله. فقيل يتعلق بقوله: {يُوقَدُ} ، أي يوقد المصباح في بيوت. وقيل هو صفة لمشكاة، أي مشكاة في بيوت وما بينهما اعتراض؛ وإنما جاء بيوت بصيغة الجمع مع أن مشكاة ومصباح مفردان لأن المراد بها الجنس فتساوى الإفراد والجمع.
ثم قيل: أريد بالبيوت المساجد. ولا يستقيم ذلك إذ لم يكن في مساجد المسلمين يومئذ مصابيح وإنما أحدثت المصابيح في المساجد الإسلامية في خلافة عمر بن الخطاب فقال له علي: نور الله مضجعك يابن الخطاب كما نورت مسجدنا. وروي أنما أسلم تميم سنة تسع، أي بعد نزول هذه الآية. وقيل البيوت مساجد بيت المقدس وكانت يومئذ بيعا للنصارى. ويجوز عندي على هذا الوجه أن يكون المراد بالبيوت صوامع الرهبان وأديرتهم وكانت معروفة في بلاد العرب في طريق الشام يمرون عليها وينزلون عندها في ضيافة رهبانها. وقد ذكر صاحب القاموس عددا من الأديرة. ويرجح هذا قوله: {أَنْ تُرْفَعَ} فإن الصوامع كانت مرفوعة والأديرة كانت تبنى على رؤوس الجبال. أنشد الفراء:
لو أبصرت رهبان دير بالجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ويصل
والمراد بإذن الله برفعها أنه ألهم متخذيها أن يجعلوها عالية وكانوا صالحين يقرأون الإنجيل فهو كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} إلى قوله: {يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً} . وعبر بالإذن دون الأمر لأن الله لم يأمرهم باتخاذ الأديرة في أصل النصرانية ولكنهم أحدثوها للعون على الانقطاع للعبادة باجتهاد منهم، فلم ينههم الله عن ذلك إذ لا
يوجد في أصل الدين ما يقتضي النهي عنها فكانت في قسم المباح، فلما انضم إلى إباحة اتخاذها نية العون على العبادة صارت مرضية لله تعالى. وهذا كقوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} . وقد كان اجتهاد أحبار الدين في النصرانية وإلهامهم دلائل تشريع لهم كما تقتضيه نصوص من الإنجيل. والمقصد من ذكر هذا على هذه الوجوه زيادة إيضاح المشبه به كقول النبي صلى الله عليه وسلم في صفة جهنم: "فإذا لهم كلاليب مثل حسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان" ?. وفيه مع ذلك تحسين المشبه به ليسري ذلك إلى تحسين المشبه كما في قول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه ... من صوب سارية بيض يعاليل
لأن ما ذكر من وصف البيوت وما يجري فيها مما يكسبها حسنا في نفوس المؤمنين.
وتخصيص التسبيح بالرجال لأن الرهبان كانوا رجالا.
وأريد بالرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله: الرهبان الذين انقطعوا للعبادة وتركوا الشغل بأمور الدنيا، فيكون معنى: {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} أنهم لا تجارة لهم ولا بيع من شأنهما أن يلهياهم عن ذكر الله، فهو من باب: على لاحب لا يهتدى بمناره. والثناء عليهم يومئذ لأنهم كانوا على إيمان صحيح إذ لم تبلغهم يومئذ دعوى الإسلام ولم تبلغهم إلا بفتوح مشارف الشام بعد غزوة تبوك، وأما كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل فإنه لم يذع في العامة. وكان الرهبان يتركون الكوى مفتوحة ليظهر ضوء صوامعهم وقد كان العرب يعرفون صوامع الرهبان وأضواءها في الليل. قال امرؤ القيس:
تضيء الظلام بالعشي كأنها ... منارة ممسى راهب متبتل
وقال أيضا:
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المقتل
والسليط: الزيت، أي صب الزيت على الذبال. فهو في تلك الحالة أكثر إضاءة. وكانوا يهتدون بها في أسفارهم ليلا. وقال امرؤ القيس:
سموت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال
القفال: جمع قافل وهم الراجعون من أسفارهم.
وقيل: أريد بالرفع الرفع المعنوي وهو التعظيم والتنزيه عن النقائض، فالإذن حينئذ بمعنى الأمر.
وبعد فهذا يبعد عن أغراض القرآن وخاصة المدني منه لأن الثناء على هؤلاء الرجال ثناء جم ومعقب بقوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} .
والأظهر عندي: أن قوله: {فِي بِيُوتٍ} ظرف مستقر هو حال من {نُورِهِ} في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ} الخ مشير إلى أن نور في قوله: {مَثَلُ نُورِهِ} مراد منه القرآن، فيكون هذا الحال تجريدا للاستعارة التمثيلية بذكر ما يناسب الهيئة المشبهة أعني هيئة تلقي القرآن وقراءته وتدبره بين المسلمين مما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده1، فكان هذا التجريد رجوعا إلى حقيقة التركيب الدال على الهيئة المشبهة كقول طرفة:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادف ... مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
مع في الآية من بيان ما أجمل في لفظ: {مَثَلُ نُورِهِ} وبذلك كانت الآية أبلغ من بيت طرفة لأن الآية جمعت بين تجريد وبيان وبيت طرفة تجريد فقط.
ويجوز أن يكون {فِي بُيُوتٍ} غير مرتبط بما قبله وأنه مبدأ استئناف ابتدائي وأن المجرور متعلق بقوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا} . وتقديم المجرور للاهتمام بتلك البيوت وللتشويق إلى متعلق المجرور وهو التسبيح وأصحابه. والتقدير: يسبح لله رجال في بيوت، ويكون قوله: {فِيهَا} تأكيدا لقوله: {فِي بُيُوتٍ} لزيادة الاهتمام بها. وفي ذلك تنويه بالمساجد وإيقاع الصلاة والذكر فيها كما في الحديث: صلاة أحدكم في المسجد أي الجماعة تفضل صلاته في بيته بسبع وعشرين درجة.
والمراد بالغدو: وقت الغدو وهو الصباح لأنه وقت خروج الناس في قضاء شؤونهم.
والآصال: جمع أصيل وهو آخر النهار، وتقدم في آخر الأعراف وفي سورة الرعد.
ـــــــ
1 رواه مسلم بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه.
والمراد بالرجال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كان مثلهم في التعلق بالمساجد.
وتخصيص التسبيح بالرجال على هذا لأنهم الغالب على المساجد كما في الحديث...ورجل قلبه معلق بالمساجد....
ويجوز عندي أن يكون {فِي بُيُوتٍ} خبرا مقدما و {رِجَالٌ} مبتدأ، والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} فيسأل السائل في نفسه عن تعيين بعض ممن هداه الله لنوره فقيل: رجال في بيوت. والرجال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والبيوت مساجد المسلمين وغيرها من بيوت الصلاة في أرض الإسلام والمسجد النبوي ومسجد قباء بالمدينة ومسجد جؤاثى بالبحرين.
ومعنى {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} أنهم لا تشغلهم تجارة ولا بيع عن الصلوات وأوقاتها في المساجد. فليس في الكلام أنهم لا يتجرون ولا يبيعون بالمرة.
والتجارة: جلب السلع للربح في بيعها، والبيع أعم وهو أن يبيع أحد ما يحتاج إلى ثمنه.
وقرأ الجمهور {يُسَبِّحُ} بكسر الموحدة بالبناء للفاعل و {رِجَالٌ} فاعله. وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم بفتح الموحدة على البناء للمجهول فيكون نائب الفاعل أحد المجرورات الثلاثة وهي: {لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ} ويكون {رِجَالٌ} فاعلا بفعل محذوف من جملة هي استئناف. ودل على المحذوف قوله: {يُسَبِّحُ} كأنه قيل: من يسبحه? فقيل: يسبح له رجال. على نحو قول نهشل بن حري يرثي أخاه يزيد:
لبيك يزيد ضارع لخصوصة ... ومختبط مما تطيح الطوائح
وجملة {لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} وجملة {يَخَافُونَ} صفتان ل {رِجَالٌ} ، أي لا يشغلهم ذلك عن أداء ما وجب عليهم من خوف الله وإقام الصلاة الخ وهذا تعريض بالمنافقين.
و {إِقَامِ} مصدر على وزن الإفعال. وهو معتل العين فاستحق نقل حركة عينه إلى الساكن الصحيح قبله وانقلاب حرف العلة ألفا إلا أن الغالب في نظائره أن يقترن آخره بهاء تأنيث نحو إدامة واستقامة.وجاء مصدر {إِقَامِ} غير مقترن بالهاء في بعض المواضع كما هنا. وتقدم معنى إقامة الصلاة في صدر سورة البقرة.
وانتصب {يَوْماً} من قوله: {يَخَافُونَ يَوْماً} على المفعول به لا على الظرف بتقدير
مضاف، أي يخافون أهواله.
وتقلب القلوب والأبصار: اضطرابها عن مواضعها من الخوف والوجل كما يتقلب المرء في مكانه. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} في سورة الأنعام. والمقصود من خوفه: العمل لما فيه الفلاح يومئذ كما يدل عليه قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} .
ويتعلق قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} ب {يَخَافُونَ} ، أي كان خوفهم سببا للجزاء على أعمالهم الناشئة عن ذلك الخوف.
والزيادة: من فضله هي زيادة أجر الرهبان إن آمنوا بمحمد على الله عليه وسلم حينما تبلغهم دعوته لما في الحديث الصحيح: أن لهم أجرين، أو هي زيادة فضل الصلاة في المساجد إن كان المراد بالبيوت مساجد الإسلام.
وجملة {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} تذييل لجملة {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ} . وقد حصل التذييل لما في قوله: {مَنْ يَشَاءُ} من العموم، أي وهم ممن يشاء الله لهم الزيادة.
والحساب هنا بمعنى التحديد كما في قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} في سورة آل عمران. وأما قوله: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً} فهو بمعنى التعيين والإعداد للاهتمام بهم.
[39] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
لما جرى ذكر أعمال المتقين من المؤمنين وجزائهم عليها بقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ} إلى قوله: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أعقب ذلك بضده من حال أعمال الكافرين التي يحسبونها قربات عند الله تعالى وما هي بمغنية عنهم شيئا على عادة القرآن في إرداف البشارة بالنذارة، وعكس ذلك كقوله: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ} الخ فعطف حال أعمال الكافرين عطف القصة على القصة. ولعل المشركين كانوا إذا سمعوا ما وعد الله به المؤمنين من الجزاء على الأعمال الصالحة يقولون: ونحن نعمر المسجد الحرام ونطوف ونطعم المسكين