كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
فافتتحت السورة بتحديد مدة العهود التي بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وما يتبع ذلك من حالة حرب وأمن وفي خلال مدة الحرب مدة تمكينهم من تلقي دعوة الدين وسماع القرآن.
وأتبع بأحكام الوفاء والنكث وموالاتهم.
ومنع المشركين من دخول المسجد الحرام وحضور مناسك الحج.
وإبطال مناصب الجاهلية التي كانوا يعتزون بأنهم أهلها.
وإعلان حالة الحرب بين المسلمين وبينهم.
وإعلان الحرب على أهل الكتاب من العرب حتى يعطوا الجزية، وأنهم ليسوا بعيدا من أهل الشرك وأن الجميع لا تنفعهم قوتهم ولا أموالهم.
وحرمة الأشهر الحرام.
وضبط السنة الشرعية وإبطال النسيء الذي كان عند الجاهلية.
وتحريض المسلمين على المبادرة بالإجابة إلى النفير للقتال في سبيل الله ونصر النبي صلى الله عليه وسلم وأن الله ناصر نبيه وناصر الذين ينصرونه. وتذكيرهم بنصر الله رسوله يوم حنين، وبنصره إذ أنجاه من كيد المشركين بما هيأ له من الهجرة إلى المدينة. والإشارة إلى التجهيز بغزوة تبوك.
وذم المنافقين المتثاقلين والمعتذرين والمستأذنين في التخلف بلا عذر. وصفات أهل النفاق من جبن وبخل وحرص على أخذ الصدقات مع أنهم ليسوا بمستحقيها.
وذكر أذاهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول. وأيمانهم الكاذبة وأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف وكذبهم في عهودهم وسخريتهم بضعفاء المؤمنين.
والأمر بضرب الجزية على أهل الكتاب. ومذمة ما أدخله الأحبار والرهبان في دينهم من العقائد الباطلة، ومن التكالب على الأموال.
وأمر الله بجهاد الكفار والمنافقين.
ونهي المؤمنين عن الاستعانة بهم في جهادهم والاستغفار لهم.
ونهي نبيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة على موتاهم.
وضرب المثل بالأمم الماضية.
وذكر الذين اتخذوا مسجد الضرار عن سوء نية، وفضل مسجد قباء ومسجد الرسول بالمدينة.
وانتقل إلى وصف حالة الأعراب من محسنهم ومسيئهم ومهاجرهم ومتخلفهم. وقوبلت صفات أهل الكفر والنفاق بأضدادها صفات المسلمين وذكر ما أعد لهم من الخير.
وذكر في خلال ذلك فضل أبي بكر. وفضل المهاجرين والأنصار.
والتحريض على الصدقة والتوبة والعمل الصالح.
والجهاد وأنه فرض على الكفاية. والتذكير بنصر الله المؤمنين يوم حنين بعد يأسهم.
والتنويه بغزوة تبوك وجيشها.
والذين تاب الله عليهم من المتخلفين عنها.
والامتنان على المسلمين بأن أرسل فيهم رسولا منهم جبله على صفات فيها كل خير لهم.
وشرع الزكاة ومصارفها والأمر بالفقه في الدين ونشر دعوة الدين. اعلم أنه قد ترك الصحابة الذين كتبوا المصحف كتابة البسملة قبل سورة براءة كما نبهت عليه عند الكلام على سورة الفاتحة. فجعلوا سورة براءة عقب سورة الأنفال بدون بسملة بينهما، وتردد العلماء في توجيه ذلك. وأوضح الأقوال ما رواه الترمذي والنسائي، عن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا سطر بسم الله الرحمان الرحيم. فقال عثمان: إن رسول الله كان إذا نزل عليه الشيء يدعو بعض من يكتب عنده فيقول ضعوا هذه في السورة التي فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكانت قصتها شبيها بقصتها وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها فظننت أنها منها فمن ثم قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمان الرحيم".
ونشأ من هذا قول آخر: وهو أن كتبة المصاحف في زمن عثمان اختلفوا في الأنفال. وبراءة، هل هما سورة واحدة أو هما سورتان، فتركوا فرجة فصلا بينهما مراعاة
لقول من عدهما سورتين، ولم يكتبوا البسملة بينهما مراعاة لقول من جعلهما سورة واحدة، وروى أبو الشيخ، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب: أنهم إنما تركوا البسملة في أولها، لأن البسملة أمان وبشارة، وسورة براءة نزلت بنبذ العهود والسيف، فلذلك لم تبدأ بشعار الأمان، وهذا إنما يجري على قول من يجعلون البسملة آية من أول كل سورة عدا سورة براءة، ففي هذا رعي لبلاغة مقام الخطاب كما أن الخاطب المغضب يبدأ خطبته بأما بعد دون استفتاح. وشأن العرب وإذا كان بينهم عهد فأرادوا نقضه، كتبوا إلى القوم الذين ينبذون إليهم بالعهد كتابا ولم يفتتحوه بكلمة "باسمك اللهم" فلما نزلت براءة بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين بعث عليا إلى الموسم فقرأ صدر براءة ولم يبسمل جريا على عادتهم في رسائل نقض العهود. وقال ابن العربي في "الأحكام": قال مالك فيما روى عنه ابن وهب، وابن القاسم، وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أولها، أي سورة براءة سقط بسم الله الرحمان الرحيم معه. ويفسر كلامه ما قاله ابن عطية: روي عن مالك أنه قال: بلغنا أن سورة براءة كانت نحو سورة البقرة ثم نسخ ورفع كثير منها وفيه البسملة فلم يروا بعد أن يضعوه في غير موضعه. وما نسبه ابن عطية إلى مالك عزاه ابن العربي إلى ابن عجلان فلعل في "نسخة تفسير ابن عطية" نقصا.
والذي وقفنا عليه من كلام مالك في ترك البسملة من سورة الأنفال وسورة براءة: هو ما في سماع ابن القاسم في أوائل كتاب الجامع الأول من "العتبية" "قال مالك في أول براءة إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم، كأنه رآه من وجه الاتباع في ذلك، كانت في آخر ما نزل من القرآن. وساق حديث ابن شهاب في سبب كتابة المصحف في زمن أبي بكر وكيف أخذ عثمان الصحف من حفصة أم المؤمنين وأرجعها إليها. قال ابن رشد في "البيان والتحصيل" "ما تأوله مالك من أنه إنما ترك من مضى أن يكتبوا في أول براءة بسم الله الرحمان الرحيم من وجه الاتباع، المعنى فيه والله أعلم أنه إنما ترك عثمان بن عفان ومن كان بحضرته من الصحابة المجتمعين على جمع القرآن البسملة بين سورة الأنفال وبراءة، وإن كانتا سورتين بدليل أن براءة كانت آخر ما أنزل الله من القرآن، وأن الأنفال أنزلت في بدر سنة أربع، اتباعا لما وجدوه في الصحف التي جمعت على عهد أبي بكر وكانت عند حفصة". ولم يذكر ابن رشد عن مالك قولا غير هذا.
[1] {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
افتتحت السورة كما تفتتح العهود وصكوك العقود بأدل كلمة على الغرض الذي يراد منها كما في قولهم هذا ما عهد به فلان، وهذا ما اصطلح عليه فلان وفلان، وقول الموثقين: باع أو وكل أو تزوج، وذلك هو مقتضى الحال في إنشاء الرسائل والمواثيق ونحوها.
وتنكير {بَرَاءَةٌ} تنكير التنويع، وموقع {بَرَاءَةٌ} مبتدأ، وسوغ الابتداء به ما في التنكير من معنى التنويع للإشارة إلى أن هذا النوع كاف في فهم المقصود كما تقدم في قوله تعالى: {ألمص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 1, 2].
والمجروران في قوله: {مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} في موضع الخبر، لأنه المقصود من الفائدة أي: البراءة صدرت من الله ورسوله.
و {مِنَ} ابتدائية، و {إِلَى} للانتهاء لما أفاده حرف {مِنَ} من معنى الابتداء. والمعنى أن هذه براءة أصدرها الله بواسطة رسوله إبلاغا إلى الذين عاهدتم من المشركين.
والبراءة الخروج والتفصي مما يتعب ورفع التبعة. ولما كان العهد يوجب على المتعاهدين العمل بما تعاهدوا عليه ويعد الإخلاف بشيء منه غدرا على المخلف، كان الإعلان بفسخ العهد براءة من التبعات التي كانت بحيث تنشأ عن إخلاف العهد، فلذلك كان لفظ {بَرَاءَةٌ} هنا مفيدا معنى فسخ العهد ونبذه ليأخذ المعاهدون حذرهم. وقد كان العرب ينبذون العهد ويردون الجوار إذا شاءوا تنهية الالتزام بهما، كما فعل ابن الدغنه في رد جوار أبي بكر عن قريش، وما فعل عثمان بن مظعون في رد جوار الوليد بن المغيرة أياه قائلا: "رضيت بجوار ربي ولا أريد أن أستجير غيره". وقال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [لأنفال:58] أي: ولا تخنهم لظنك أنهم يخونونك فإذا ظننته فافسخ عهدك معهم.
ولماّ كان الجانب، الذي ابتدأ بإبطال العهد وتنهيته، هو جانب النبي صلى الله عليه وسلم بإذن من الله، جعلت هذه البراءة صادرة من الله لأنه الآذن بها، ومن رسوله لأنه المباشر لها. وجعل ذلك منهى إلى المعاهدين من المشركبن لأن المقصود إبلاغ ذلك الفسخ إليهم وإيصاله ليكونوا على بصيرة فلا يكون ذلك الفسخ غدرا.
والخطاب في قوله: {عَاهَدْتُمْ} للمؤمنين. فهذه البراءة مأمورون بإنفاذها.
واعلم أن العهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين المشركين كان قد انعقد على صور مختلفة،
فكان بينه وبين أهل مكة ومن ظاهرهم عهد الحديبية: أن لا يصد أحد عن البيت إذا جاء، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام، وقد كان معظم قبائل العرب داخلا في عقد قريش الواقع في الحديبية لأن قريشا كانوا يومئذ زعماء جميع العرب، ولذلك كان من شروط الصلح يومئذ: أن من أحب أن يدخل في عهد محمد دخل فيه ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل فيه، وكان من شروط الصلح وضع الحرب عن الناس سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، فالذين عاهدوا المسلمين من المشركين معروفون عند الناس يوم نزول الآية. وهذا العهد، وإن كان لفائدة المسلمين على المشركين، فقد كان عديله لازما لفائدة المشركين على المسلمين، حين صار البيت بيد المسلمين بعد فتح مكة فزال ما زال منه بعد فتح مكة وإسلام قريش وبعض أحلافهم.
وكان بين المسلمين وبعض قبائل المشركين عهود؛ كما أشارت إليه سورة النساء [90] في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} الآية. وكما أشارت إليه هذه السورة[4] في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} الآية.
وبعض هذه العهود كان لغير أجل معين، وبعضها كان لأجل قد انقضى، وبعضها لم ينقض اجله. فقد كان صلح الحديبية مؤجلا إلى عشر سنين في بعض الأقوال وقيل: إلى أربع سنين، وقيل: إلى سنتين. وقد كان عهد الحديبية في ذي القعدة سنة ست، فيكون قد انقضت مدته على بعض الأقوال، ولم ينقض على بعضها، حين نزول هذه الآية. وكانوا يحسبون أنه على حكم بالاستمرار وكان بعض تلك العهود مؤجلا إلى أجل لم يتم، ولكن المشركين خفروا بالعهد في ممالاة بعض المشركين غير العاهدين، وفي إلحاق الأذى بالمسلمين، فقد ذكر أنه لما وقعت غزوة تبوك أرجف المنافقون أن المسلمين غلبوا فنقض كثير من المشركين العهد، وممن نقض العهد بعض خزاعة، وبنو مدلج، وبنو خزيمة أو جذيمة، كما دل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً} [التوبة: 4] فأعلن الله لهؤلاء هذه البراءة ليأخذوا حذرهم، وفي ذلك تضييق عليهم إن داموا على الشرك، لأن الأرض صارت لأهل الإسلام كما دل عليه قوله تعالى بعد: { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّه} [التوبة:3].
وإنما جعلت البراءة شأنا من شؤون الله ورسوله، وأسند العهد إلى ضمير المسلمين: للإشارة إلى أن العهود التي عقدها النبي صلى الله عليه وسلم لازمة للمسلمين وهي بمنزلة ما عقدوه
بأنفسهم، لأن عهود النبي عليه الصلاة والسلام إنما كانت لمصلحة المسلمين، في وقت عدم استجماع قوتهم، وأزمان كانت بقية قوة للمشركين، وإلا فإن أهل الشرك ما كانوا يستحقون من الله ورسوله توسعة ولا عهدا لأن مصلحة الدين تكون أقوم إذا شدد المسلمون على أعدائه، فالآن لما كانت مصلحة الدين متحمضة في نبذ العهد الذي عاهده المسلمون المشركين أذن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالبراءة من ذلك العهد، فلا تبعة على المسلمين في نبذه، وإن كان العهد قد عقده النبي صلى الله عليه وسلم ليعلموا أن ذلك توسعة على المسلمين، على نحو ما جزى من المحاورة بين عمر بن الخطاب وبين النبي صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، وعلى نحو ما قال الله تعالى في ثبات الواحد من المسلمين لاثنين من المشركين، على أن في الكلام احتباكا، لما هو معروف من أن المسلمين لا يعملون عملا إلا عن أمر من الله ورسوله، فصار الكلام في قوة براءة من الله ورسوله ومنكم، إلى الذين عاهدوا الله ورسوله وعاهدتم، فالقبائل التي كان لها عهد مع المسلمين حين نزول هذه السورة قد جمعها كلها الموصول في قوله: {إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} . فالتعريف بالموصولية هنا لأنها أخصر طريق للتعبير عن المقصود، مع الإشارة إلى أن هذه البراءة براءة من العهد، ثم بين بعضها بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً} [التوبة:4] الآية.
[2] {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ}.
{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} .
الفاء للتفريع على معنى البراءة، لأنها لما أمر الله بالأذان بها كانت إعلاما للمشركين، الذين هم المقصود من نقض العهد الذي كان بينهم وبين المسلمين، فضمير الخطاب في فعل الأمر معلوم منه أنهم الموجه إليهم الكلام وذلك التفات. فالتقدير: فليسيحوا في الأرض ونكتة هذا الالتفات إبلاغ الإنذار إليهم مباشرة.
ويجوز تقدير قول محذوف مفرع على البراءة من عهودهم، أي فقل لهم: سيحوا في الأرض أربعة أشهر.
والسياحة حقيقتها السير في الأرض، ولما كان الأمر بهذا السير مفرعا على البراءة من العهد، ومقررا لحرمة الأشهر الحرام، علم أن المراد السير بأمن دون خوف في أي مكان من الأرض، وليس سيرهم في أرض قومهم، دل على ذلك إطلاق السياحة
وإطلاق الأرض فكان المعنى: فسيحوا آمنين حيثما شئتم من الأرض.
وهذا تأجيل خاص بعد البراءة كان ابتداؤه من شوال وقت نزول براءة، ونهايته نهاية محرم في آخر الأشهر الحرم المتوالية، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وهذا قول الجمهور قال ابن إسحاق: وأجل الناس أربعة اشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وقال بعضهم: هي أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة وتنتهي في عاشر ربيع الآخر، فيكون قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة: 5] (أي من ذلك العام) تنهية لذلك الأجل روعي فيها المدة الكافية لرجوع الناس إلى بلادهم، وذلك نهاية المحرم.
وقيل: الأشهر الأربعة هي المعروفة عندهم في جميع قبائل العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، أي فلم يبق للمشركين أمن إلا في الأشهر الحرم وعلى هذا فليس في الآية تأجيل خاص لتأمينهم ولكنه التأمين المقرر للأشهر الحرم فيكون المعنى: البراءة من العهد الذي بينهم فيما زاد على الأمن المقرر للأشهر الحرم. وحكى السهيلي في "الروض الآنف" أنه قيل أنه أراد بانسلاخ الأشهر الحرم ذا الحجة والمحرم من ذلك العام وأنه جعل ذلك أجلا لمن لا عهد له من المشركين ومن كان له عهد جعل له عهد جعل له أربعة أشهر أولها يوم النحر من ذلك العام.
وفي هذا الأمر إيذان بفرض القتال في غير الأشهر الحرم، وبأن ما دون تلك الأشهر حرب بين المسلمين والمشركين، وسيقع التصريح بذلك.
{وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} .
عطف على {فَسِيحُوا} داخل في حكم التفريع، لأنه لما أنبأهم بالأمان في أربعة الأشهر عقبه بالتخويف من بأس الله احتراسا من تطرق الغرور، وتهديدا بأن لا يطمئنوا من أن يسلط الله المسلمين عليهم في غير الأشهر الحرم، وإن قبعوا في ديارهم.
وافتتاح الكلام ب {وَاعْلَمُوا} للتنبيه على أنه مما يحق وعيه، والتدبر فيه، كقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} في سورة الأنفال[24]، وقد تقدم التنبيه عليه.
والمعجز اسم فاعل من أعجز فلانا إذا جعله عاجزا عن عمل ما، فلذلك كان بمعنى الغالب والفائت، الخارج عن قدرة أحد، فالمعنى: أنكم غير خارجين عن قدرة الله، ولكنه أمنكم وإذا شاء أوقعكم في الخوف والبأس.
وعطف قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ} [التوبة:] على قوله: {أََنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ}
فهو داخل في عمل {وَاعْلَمُوا} فمقصود منه وعيه والعلم به كما تقدم آنفا.
وكان ذكر {الْكَافِرِينَ} إخراجا على خلاف مقتضى الظاهر: لأن مقتضى الظاهر أن يقول: وإن الله مخزيكم، ووجه تخريجه على الإظهار الدلالة على سببية الكفر في الخزي.
والإخزاء: الإذلال. والخزي بكسر الخاء الذل والهوان، أي مقدر للكافرين الإذلال: بالقتل، والأسر، وعذاب الآخرة، ما داموا متلبسين بوصف الكفر.
[3] {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} .
عطف على جملة {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1] وموقع لفظ {وَأَذَانٌ} كموقع لفظ {بَرَاءَةٌ} [التوبة:1] في التقدير، وهذا إعلام للمشركين الذين لهم عهد بأن عهدهم انتقض.
والأذان اسم مصدر آذنه، إذا أعلمه بإعلان، مثل العطاء بمعنى الإعطاء، والأمان بمعنى الإيمان، فهو بمعنى الإيذان.
وإضافة الأذان إلى الله ورسوله دون المسلمين، لأنه تشريع وحكم في مصالح الأمة، فلا يكون إلا من الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا أمر للمسلمين بأن يأذنوا المشركين بهذه البراءة، لئلا يكونوا غادرين، كما قال تعالى: {فإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال:58]. والمراد بالناس جميع الناس من مؤمنين ومشركين لأن العلم بهذا النداء يهم الناس كلهم.
ويوم الحج الأكبر: قيل هو يوم عرفة، لأنه يوم مجتمع الناس في صعيد واحد وهذا يروي عن عمر، وعثمان، وابن عباس، وطاووس، ومجاهد، وابن سيرين. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي وفي الحديث "الحجة عرفة" .
وقيل: هو يوم النحر لأن الناس كانوا في يوم موقف عرفة مفترقين إذ كانت الحمس يقفون بالمزدلفة، ويقف بقية الناس بعرفة، وكانوا جميعا يحضرون منى يوم النحر، فكان ذلك الاجتماع الأكبر، ونسب ابن عطية هذا التعليل إلى منذر بن سعيد. وهذا قول علي، وابن عمر، وابن مسعود، والمغيرة ابن شعبة، وابن عباس أيضا، وابن أبي أوفى،
والزهري، ورواه ابن وهب عن مالك، قال مالك: لا نشك أن يوم الحج الأكبر يوم النحر لأنه اليوم الذي ترمى فيه الجمرة، وينحر فيه الهدي، وينقضي فيه الحج، من أدرك ليلة النحر فوقف بعرفة قبل الفجر أدرك الحج.
وأقول:إن يوم عرفة يوم شغل بعبادة من وقوف بالموقف ومن سماع الخطبة. فأما يوم منى فيوم عيدهم.
و {الأَكْبَر} ِ بالجر نعت للحج، باعتبار تجزئته إلى أعمال، فوصف الأعظم من تلك الأعمال بالأكبر ويظهر من اختلافهم في المراد من الحج الأكبر أن هذا اللفظ لم يكن معروفا قبل نزول هذه الآية فمن ثم اختلف السلف في المراد منه.
وهذا الكلام إنشاء لهذا الأذان، موقتا بيوم الحج الأكبر، فيؤول إلى معنى الأمر، إذ المعنى آذنوا الناس يوم الحج الأكبر بأن الله ورسوله بريئان من المشركين.
والمراد ب{النَّاسِ} جميع الناس الذين ضمهم الموسم، ومن يبلغه ذلك منهم: مؤمنهم ومشركهم. لأن هذا الأذان مما يجب أن يعلمه المسلم والمشرك، إذ كان حكمه يلزم الفريقين.
وقوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} يتعلق ب {وَأَذَانٌ} بحذف حرف الجر- وهو باء التعدية- أي إعلام بهذه البراءة المتقدمة في قوله: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ} [التوبة:1] فإعادتها هنا لأن هذا الإعلام للمشركين المعاهدين وغيرهم، تقريرا لعدم غدر المسلمين، والآية المتقدمة إعلام للمسلمين.
وجاء التصريح بفعل البراءة مرة ثانية دون ?إضمار ولا اختصار بأن يقال: وأذان إلى الناس بذلك، أو بها، أو بالبراءة: لأن المقام مقام بيان وإطناب لأجل اختلاف أفهام السامعين فيما يسمعونه، ففيهم الذكي والغبي، ففي الإطناب والإيضاح قطع لمعاذيرهم واستقصاء في الإبلاغ لهم.
وعطف {وَرَسُولِهِ} بالرفع، عند القراء كلهم: لأنه من عطف الجملة، لأن السامع يعلم من الرفع أن تقديره: ورسوله بريء من المشركين، ففي هذا الرفع معنى بليغ من الإيضاح للمعنى مع الإيجاز في اللفظ، وهذه نكتة قرآنية بليغة، وقد اهتدى بها ضابئ بن الحارث في قوله:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
برفع (قيار) لأنه أراد أن يجعل غربة جمله المسمى قيارا غربة أخرى غير تابعة لغربته.
ومما يجب التنبيه له: ما في بعض التفاسير أنه روي عن الحسن قراءة {وَرَسُولِهِ} - بالجر ولم تصح نسبتها إلى الحسن، وكيف يتصور جر {وَرَسُولِهِ} ولا عامل بمقضي جره، ولكنها ذات قصة طريفة: أن أعرابيا سمع رجلا قرأ {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولِهِ} - بجر ورسوله - فقال الأعرابي: إن كان الله بريئا من رسوله فأنا منه بريء. وإنما أراد التورك على القارئ، فلببه الرجل إلى عمر فحكى الأعرابي قراءته فعندها أمر عمر بتعلم العربية، - وروي أيضا- أن أبا الأسود الدؤلي سمع ذلك فرفع الأمر إلى علي. فكان ذلك سبب وضع النحو، وقد ذكرت هذه القصة في بعض كتب النحو في ذكر سبب وضع علم النحو.
وهذا الأذان قد وقع في الحجة التي حجها أبو بكر بالناس، إذ ألحق رسول الله عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر، موافيا الموسم ليؤذن ببراءة، فأذن بها على يوم النحر بمنى، من أولها إلى ثلاثين أو أربعين آية(1)منها، كذا ثبت في الصحيح والسنن بطرق مختلفة يزيد بعضها على بعض. ولعل قوله: "أو أربعين آية" شكّ من الراوي، فما ورد في رواية النسائي، أي عن جابر: أن عليا قرأ على الناس براءة حتى ختمها، فلعلّ معناه حتى ختم ما نزل منها مما يتعلق بالبراءة من المشركين، لأن سورة براءة لم يتم نزولها يومئذ، فقد ثبت أن آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي آخر آية من سورة براءة.
وإنما ألحق النبي عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب بأبي بكر الصديق لأنه قيل لرسول الله أن العرب لا يرون أن ينقض أحد عهده مع من عاهده إلا بنسفه أو برسول من ذي قرابة نسبه، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن لا يترك للمشركين عذرا في علمهم بنبذ العهد الذي بينه وبينهم.
وروي: أن عليا بعث أبا هريرة يطوف في منازل قبائل العرب من منى، يصيح بآيات براءة حتى صحل صوته. وكان المشركون إذا سمعوا ذلك يقولون لعلي "سترون بعد الأربعة الأشهر فإنه لا عهد بيننا وبين ابن عمك إلا الطعن والضرب".
ـــــــ
(1)تنتهي الثلاثون آية عند قوله تعالى: { قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} وتنتهي الأربعون آية عند قوله تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:40]
{فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} .
التفريع على جملة: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ، فيتفرع على ذلك حالتان: حالة التوبة وحالة التولي.
والخطاب للمشركين الذين أوذنوا بالبراءة، والمعنى: فإن آمنتم فالإيمان خير لكم من العهد الذي كنتم عليه، لأن الإيمان فيه النجاة في الدنيا والآخرة، والعهد فيه نجاة الدنيا لا غير. والمراد بالتولي: الإعراض عن الإيمان. وأريد بفعل {تَوَلَّيْتُمْ} معنى الاستمرار، أي إن دمتم على الشرك فاعلموا أنكم غير مفلتين من قدرة الله، أي اعلموا أنكم قد وقعتم في مكنة الله، وأوشكتم على العذاب.
وجملة: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} معطوفة على جملة: {وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} لما تتضمّنه تلك الجملة من معنى الأمر، فكأنه قيل: فآذنوا الناس ببراءة الله ورسوله من المشركين، وبأن من تاب منهم فقد نجا ومن أعرض فقد أوشك على العذاب، ثم قال: وبشر المعرضين المشركين بعذاب أليم.
و(البشارة) أصلها الإخبار بما فيه مسرة، وقد استعيرت هنا للإنذار، وهو الإخبار بما يسوء، على طريقة التهكم، كما تقدم في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في سورة آل عمران[21].
والعذاب الأليم: هو عذاب القتل، والأسر، والسبي، وفيء الأموال، كما قال تعالى: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26] فإن تعذيبهم يوم حنين بعضه بالقتل، وبعضه بالأسر والسبي وغنم الأموال، أي: أنذر المشركين بأنك مقاتلهم وغالبهم بعد انقضاء الأشهر الحرم، كما يدل عليه قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:4].
[4] {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
استثناء من المشركين في قوله: { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:3]، ومن {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] لأن شأن الاستثناء
إذا ورد عقب جمل أن يرجع إلى ما تحتويه جميعها مما يصلح لذلك الاستثناء، فهو استثناء لهؤلاء: من حكم نقض العهد، ومن حكم الإنذار بالقتال، المترتب على النقض، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم.
والموصول هنا يعم كل من تحققت فيه الصلة، وقد بين مدلول الاستثناء قوله: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} .
وحرف (ثم) في قوله: {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} للتراخي الرتبي، لأن عدم الإخلال بأقل شيء مما عاهدوا عليه أهم من الوفاء بالأمور العظيمة مما عاهدوا عليه لأن عدم الإخلال بأقل شيء نادر الحصول.
والنقص لشيء إزالة بعضه، والمراد: أنهم لم يفرطوا في شيء مما عاهدوا عليه. وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأن ( ثُمَّ) إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة، أي بعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه، بعد كمال وارتفاع شأن. فإن من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به.
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين، ووفوا به على أتم وجه، فلم يكيدوا المسلمين بكيد، ولا ظاهروا عليهم عدّواً سراً، فهؤلاء أمر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدة التي عوهدوا عليها. ومن هؤلاء: بنو ضمره، وحيان من بني كنانة: هم بنو جذيمة، وبنو الديل. ولا شك أنهم ممن دخلوا في عهد الحديبية.
وقد علم من هذا: أن الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم هم ضد أولئك، وهم قوم نقصوا مما عاهدوا عليه، أي كادوا، وغدروا سرا، أو ظاهروا العدو بالمدد والجوسسة.
ومن هؤلاء: قريظة أمدوا المشركين غير مرة، وبنو بكر، عدوا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدم فعبر عن فعلهم ذلك بالنقص لأنهم لم ينقضوا العهد علنا، ولا أبطلوه، ولكنهم أخلوا به، مما استطاعوا أن يكيدوا ويمكروا ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه.
وذكر كلمة {شَيْئًا} للمبالغة في نفي الانتقاص، لأن كلمة "شيء" نكرة عامة، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كل ما يصدق عليه أنه موجود، كما تقدم في قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} في سورة البقرة[113].
والمظاهرة: المعاونة، يجوز أن يكون فعلها مشتقا من الاسم الجامد وهو الظهر،
أي صلب الإنسان أو البعير، لأن الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلب، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل، يقال: بعير ظهير، أي قوي على الرحلة، مثل المعين لأحد على عمل بحال من يعطيه ظهره يحمل عليه، فكأنه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره، فمن ثم جاءت صيغة المفاعلة، ومثله المعاضدة مشتقة من العضد، والمساعدة من الساعد، والتأييد من اليد، والمكاتفة مشتقة من الكتف، وكلها أعضاء العمل.
ويجوز أن يكون فعله مشتقا من الظهور، وهو مصدر ضد الخفاء، لأن المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس، فمثل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء، ولذلك يعدى بحرف (على) للاستعلاء المجازي، قال تعالى: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4]- وقال- {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة:8]- وقال – {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّه} [الفتح:28]- وقال- {وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] أي معين.
والفاء في قوله: {فَأَتِمُّوا} تفريع على ما أفاده استثناء قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} الخ، وهو أنهم لا تشملهم البراءة من العهد.
والمدة: الأجل، مشتقة من المد لأن الأجل مد في زمن العمل، أي تطويل، ولذلك يقولون: ماد القوم غيرهم، إذا أجلوا الحرب إلى أمد، وإضافة المدة إلى ضمير المعاهدين. لأنها منعقدة معهم، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين ولكن رجح هنا جانبهم لأن انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به، إذ صار المسلمون أقوى منهم، وأقدر على حربهم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تذييل في معنى التعليل للأمر. بإتمام العهد إلى الأجل بأن ذلك من التقوى، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به، لأن الأخبار بمحبة الله المتقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى.
ثم إن. قبائل العرب كلها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدة فانتهت حرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام.
[5] {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .
تفريع على قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] فإن كان المراد في الآية المعطوف عليها بالأربعة الأشهر أربعة تبتدئ من وقت نزول براءة كان قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} ، تفريعا مرادا منه زيادة قيد على قيد الظرف من قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] أي: فإذا انتهى أجل الأربعة الأشهر وانسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الخ لانتهاء الإذن الذي في قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2]، وإن كانت الأربعة الأشهر مرادا بها الأشهر الحرم كان قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} ، تصريحا بمفهوم الإذن بالأمن أربعة أشهر، المقتضي أنه لا أمن بعد انقضاء الأربعة الأشهر، فهو على حد قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] بعد قوله :{غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌُ} [المائدة:1] فيكون تأجيلا لهم إلى انقضاء شهر المحرم من سنة عشر، ثم تحذيرا من خرق حرمة شهر رجب، وكذلك يستمر الحال في كل عام إلى نسخ تأمين الأشهر الحرم كما سيأتي عند قوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36].
وانسلاخ الأشهر انقضاؤها وتمامها وهو مطاوع سلخ. وهو في الأصل استعارة من سلخ جلد الحيوان، أي أزالته. ثم شاع هذا الإطلاق حتى صار حقيقة.
والحرم جمع حرام وهو سماعي لأن فعلا بضم الفاء والعين إنما ينقاس في الاسم الرباعي ذي مد زائد. وحرام صفة. وقال الرضي في باب الجمع من "شرح الشافية" إن جموع التكسير أكثرها محتاج إلى السماع، وقد تقدم عند قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} في سورة البقرة[198]. وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب.
وانسلاخها انقضاء المدة المتتابعة منها، وقد بقيت حرمتها ما بقي من المشركين قبيلة، لمصلحة الفريقين، فلما آمن جميع العرب بطل حكم حرمة الأشهر الحرم، لأن حرمة المحارم الإسلامية أغنت عنها.
والأمر في {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} للإذن والإباحة باعتبار كل واحد من المأمورات على حدة، أي فقد أذن لكم في قتلها، وفي أخذهم، وفي حصارهم، وفي منعهم من المرور بالأرض التي تحت حكم الإسلام، وقد يعرض الوجوب إذا ظهرت مصلحة عظيمة، ومن صور الوجوب ما يأتي في قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ
فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12]. والمقصود هنا: أن حرمة العهد قد زالت.
وفي هذه الآية شرع الجهاد والإذن فيه والإشارة إلى أنهم لا يقبل منهم غير الإسلام. وهذه الآية نسخت آيات الموادعة والمعاهدة. وقد عمت الآية جميع المشركين وعمت البقاع إلا ما خصصته الأدلة من الكتاب والسنة.
والأخذ: الأسر.
والحصر: المنع من دخول أرض الإسلام إلا بإذن من المسلمين.
والقعود مجاز في الثبات في المكان، والملازمة له، لأن القعود ثبوت شديد وطويل فمعنى القعود في الآية المرابطة في مظان تطرق العدو المشركين إلى بلاد الإسلام، وفي مظان وجود جيش العدو وعدته.
والمرصد مكان الرصد. والرصد: المراقبة وتتبع النظر.
{كُلَّ} مستعملة في تعميم المراصد المظنون مرورهم بها، تحذيرا للمسلمين من إضاعتهم الحراسة في المراصد فيأتيهم العدو منها، أو من التفريط في بعض ممار العدو فينطلق الأعداء آمنين فيستخفوا بالمسلمين ويتسامع جماعات المشركين أن المسلمين ليسوا بذوي بأس ولا يقظة، فيؤول معنى {كُلَّ} هنا إلى معنى الكثرة للتنبيه على الاجتهاد في استقصاء المراصد كقول النابغة:
بها كل ذيال وخنساء ترعوي ... إلى كل رجاف من الرمل فارد
وانتصب {كُلَّ مَرْصَدٍ} إما على المفعول به بتضمين {وَاقْعُدُوا} معنى (الزموا) كقوله تعالى: {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:16]، وإما على التشبيه بالظرف لأنه من حق فعل القعود أن يتعدى إليه بـ (في) الظرفية فشبه بالظرف وحذفت (في) للتوسع.
وتقدم ذكر {كُلَّ} عند قوله تعالى َ{إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا} في سورةالأنعام [25].
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
تفريع على الأفعال المتقدمة في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ} .
والتوبة عن الشرك هي الإيمان، أي فإن آمنوا إيمانا صادقا، بأن أقاموا الصلاة الدالة إقامتها على أن صاحبها لم يكن كاذبا في إيمانه، وبأن آتوا الزكاة الدال إيتاؤها على أنهم مؤمنون حقا، لأن بذل المال للمسلمين أمارة صدق النية فيما بذل فيه فإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة شرط في كف القتال عنهم إذا آمنوا، وليس في هذا دلالة على أن الصلاة والزكاة جزء من الإيمان.
وحقيقة {خَلُّوا سَبِيلَهُمْ} اتركوا طريقهم الذي يمرون به، أي اتركوا لهم كل طريق أمرتم برصدهم فيه أي اتركوهم يسيرون مجتازين أو قادمين عليكم، إذ لا بأس عليكم منهم في الحالتين، فإنهم صاروا إخوانكم، كما قال في الآية الآتية {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [التوبة:11].
وهذا المركب مستعمل هنا تمثيلا في عدم الإضرار بهم ومتاركتهم، يقال: خل سبيلي، أي دعني وشأني، كما قال جرير:
خل السبيل لمن يبني المنار به ... وأبرز ببرزة حيث اضطرك القدر
وهو مقابل للتمثيل الذي في قوله: {وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} .
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل أريد به حث المسلمين على عدم التعرض بالسوء للذين يسلمون من المشركين، وعدم مؤاخذتهم لما فرط منهم، فالمعنى اغفروا لهم لأن الله غفر لهم وهو غفور رحيم، أو اقتدوا بفعل الله إذ غفر لهم ما فرط منهم كما تعملون فكونوا أنتم بتلك المثابة في الإغضاء عما مضى.
[6] {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} .
عطف على جملة: {فَإِنْ تَابُوا} [التوبة:5] لتفصيل مفهوم الشرط، أو عطف على جملة {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] لتخصيص عمومه، أي إلا مشركا استجارك لمصلحة للسفارة عن قومه أو لمعرفة شرائع الإسلام. وصيغ الكلام بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب، وللإشارة إلى أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين.
وجيء بحرف {َإِنْ} التي شأنها أن يكون شرطها نادر الوقوع للتنبيه على أن هذا شرط فرضي لكيلا يزعم المشركون أنهم لم يتمكنوا من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم فيتخذوه عذراً
للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون.
ووقع "في تفسير الفخر" أنه نقل عن ابن عباس قال: إن رجلا من المشركين قال لعلي بن أبي طالب: أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل. فقال علي: لا إن الله تعالى قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} . أي فأمنه حتى يسمع كلام الله وهذا لا يعارض ما رأيناه من أن الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} الخ، شرط فرضي فإنه يقتضي أن مقالة هذا الرجل وقعت بعد نزول الآية على أن هذا المروي لم أقف عليه.
وجيء بلفظ أحد من المشركين دون لفظ مشرك للتنصيص على عموم الجنس، لأن النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي - إذا لم تبن على الفتح احتملت إرادة عموم الجنس واحتملت بعض الأفراد، فكان ذكر {أَحَدٌ} في سياق الشرط تنصيصا على العموم بمنزلة البناء على الفتح في سياق النفي بلا.
و {أَحَدٌ} أصله "واحد" لأن همزته بدل من الواو ويستعمل بمعنى الجزئي من الناس لأنه واحد، كما استعمل له فرد في اصطلاح العلوم، فمعنى {أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} مشرك.
وتقديم {أَحَدٌ} على {اسْتَجَارَكَ} للاهتمام بالمسند إليه، ليكون أول ما يقرع السمع فيقع المسند بعد ذلك من نفس السامع موقع التمكن.
وساغ الابتداء بالنكرة لأن المراد النوع، أو لأن الشرط بمنزلة النفي في إفادة العموم، ولا مانع من دخول حرف الشرط على المبتدأ لأن وقوع الخبر فعلا مقنع لحرف الشرط في اقتضائه الجملة الفعلية، فيعلم أن الفاعل مقدم من تأخير لغرض ما. ولذلك شاع عند النحاة أنه فاعل بفعل مقدر، وإنما هو تقدير اعتبار. ولعل المقصود من التنصيص على إفادة العموم، ومن تقديم {أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} على الفعل، تأكيد بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله بلاد الإسلام مصلحة، ولو كان أحد من القبائل التي خانت العهد، لئلا تحمل خيانتهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم فذلك كقوله تعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة:2]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تخن من خانك" .
والاستجارة: طلب الجوار، وهو الكون بالقرب، وقد استعمل مجازا شائعا في
الأمن، لأن المرء لا يستقر بمكان إلا إذا كان آمنا، فمن ثم سموا المؤمن جارا، والحليف جارا، وصار فعل أجار بمعنى أمن، ولا يطلق بمعنى جعل شخصا جارا له. والمعنى: إن أحد من المشركين استأمنك فأمنه.
ولم يبين سبب الاستجارة، لأن ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنه لا يستجير أحد إلا لغرض صحيح.
ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبي عليه الصلاة والسلام لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعه القرآن، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر، لما هو معروف من شأن النبي صلى الله عليه وسلم من الحرص على هدي الناس، جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فدلت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازا، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهم، أو طلب الدخول في الإسلام، أو عرض الإسلام عليه، فإذا سمع كلام الله فقد تمت أغراض إقامته لأن بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها، وبعضها من مقصد النبي عليه الصلاة والسلام وهو لا يتركه يعود حتى يعيد إرشاده، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى.
وكلام الله: القرآن، أضيف إلى اسم الجلالة لأنه كلام أوجده الله ليدل على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بواسطة الملك، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد، بخلاف الحديث القدسي.
ولذلك أعقبه بحرف المهلة {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} للدلالة على وجوب استمرار إجازته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه، ولو بلغه بعد مدة طويلة فحرف (ثم) هنا للتراخي الرتبي اهتماما بإبلاغه مأمنه.
ومعنى {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أمهله ولا تهجه حتىّ يبلغ مأمنه، فلما كان تأمين النبي عليه الصلاة والسلام إياه سببا في بلوغه مأمنه، جعل التأمين إبلاغا فأمر به النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا يتضمن أمر المسلمين بأن لا يتعرضوا له بسوء حتى يبلغ بلاده التي يأمن فيها. وليس المراد أن النبي صلى الله عليه وسلم يتكلف ترحيله ويبعث من يبلغه، فالمعنى: اتركه يبلغ مأمنه، كما يقول العرب لمن يبادر أحد بالكلام قبل إنهاء كلامه: " أبلعني ريقي"، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلع ريقي ثم أكلمك، قال الزمخشري: قلت لبعض أشياخي: " أبلعني ريقي - فقال - قد أبلعتك الرافدين" يعني دجلة والفرات.
(والمأمن) مكان الأمن، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمنه السابق، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء. وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك للإشارة إلى أنه مكان الأمن الخاص به، فيعلم أنه مقره الأصلي، بخلاف دار الجوار فإنها مأمن عارض لا يضاف إلى المجار.
وجملة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَ يَعْلَمُونَ} في موضع التعليل لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم، فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها، أي: أمرنا بذلك بسبب أنهم قوم لا يعلمون، فالإشارة إلى مضمون جملة: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} أي لا تؤاخذهم في مدة استجارتهم بما سبق من أذاهم لأنهم قوم لا يعلمون - وهذه مذمة لهم بأن مثلهم لا يقام له وزن - وأوف لهم به إلى أن يصلوا ديارهم لأنهم قوم لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهدى، فكان اسم الإشارة أصلح طرق التعريف في هذا المقام، جمعا للمعاني المقصودة، وأوجزه.
وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك وأن سبب ذلك الغض الإشراك الذي يفسد الأخلاق، ولذلك جعلوا قوما لا يعلمون دون أن يقال بأنهم لا يعلمون: للإشارة إلى أن نفي العلم مطرد فيهم، فيشير إلى أن سبب اطراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم، وهي عقيدة الإشراك.
والعلم، في كلام العرب، بمعنى العقل وأصالة الرأي، وأن عقيدة الشرك مضادة لذلك، أي كيف يعبد ذو الرأي حجرا صنعه وهو يعلم أنه لا يغني عنه.
[7] {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} .
استئناف بياني، نشأ عن قوله: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة:1]. ثم عن قوله: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} التوبة:3]- وعن قوله – {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] التي كانت تدرجا في إبطال ما بينهم وبين المسلمين من عهود سابقة، لأن ذلك يثير سؤالا في نفوس السامعين من المسلمين الذين لم يطلعوا على دخيلة الأمر، فلعلّ بعض قبائل العرب من المشركين يتعجب من هذه البراءة، ويسأل عن سببها، وكيف أنهيت العهود وأعلنت الحرب، فكان المقام مقام بيان سبب ذلك، وأنه أمران: بعد ما بين العقائد، وسبق الغدر.
والاستفهام ب {كَيْفَ} : إنكاري إنكارا لحالة كيان العهد بين المشركين وأهل الإسلام، أي دوام العهد في المستقبل مع الذين عاهدوهم يوم الحديبية وما بعده ففعل {يَكُونُ} مستعمل في معنى الدوام مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ} [النساء:136]كما دل عليه قوله بعده {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} . وليس ذلك إنكارا على وقوع العهد، فإن العهد قد انعقد بإذن من الله، وسماه الله فتحا في قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1] وسمي رضى المؤمنين به يومئذ سكينة في قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:4].
والمعنى: أن الشأن أن لا يكون لكم عهد مع أهل الشرك، للبون العظيم بين دين التوحيد ودين الشرك، فكيف يمكن اتفاق أهليهما، أي فما كان العهد المنعقد معهم إلا أمرا موقّتاً بمصلحة. ففي وصفهم بالمشركين إيماء إلى علة الإنكار على دوام العهد معهم.
وهذا يؤيد ما فسرنا به وجه إضافة البراءة إلى الله ورسوله، وإسناد العهد إلى ضمير المسلمين، في قوله تعالى: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ} [التوبة:1].
ومعنى {عِنْدَ} الاستقرار المجازي، بمعنى الدوام أي إنما هو عهد موقت، وقد كانت قريش نكثوا عهدهم الذي عاهدوه يوم الحديبية، إذ أعانوا بني بكر بالسلاح والرجال على خزاعة، وكانت خزاعة داخلة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك سبب التجهيز لغزوة فتح مكة.
واستثناء {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} ، من معنى النفي الذي استعمل فيه الاستفهام بـ {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} ، أي لا يكون عهد المشركين الا المشركين الذين عاهدتم عند المسجد الحرام.
والذين عاهدوهم عند المسجد الحرام: هم بنو ضمرة، وبنو جذيمة بن الديل، من كنانة؛ وبنو بكر من كنانة.
فالموصول هنا للعهد، وهم أخص من الذين مضى فيهم قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة:4].
والمقصود من تخصيصهم بالذكر: التنويه بخصلة وفائهم بما عاهدوا عليه ويتعين أن يكون هؤلاء عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء عند المسجد الحرام، ودخلوا في الصلح الذي عقده مع قريش بخصوصهم، زيادة على دخولهم في الصلح الأعم، ولم ينقضوا
عهدهم، ولا ظاهروا عدوا على المسلمين، إلى وقت نزول براءة. على أن معاهدتهم عند المسجد الحرام أبعد عن مظنة النكث لأن المعاهدة عنده أوقع في نفوس المشركين من الحلف المجرد، كما قال تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12].
وليس المراد كل من عاهد عند المسجد الحرام كما قد يتوهمه المتوهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن مأذونا بأن يعاهد فريقا آخر منهم.
وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} تفريع على الاستثناء. فالتقدير إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فاستقيموا لهم ما استقاموا لكم، أي ما داموا مستقيمين لكم. والظاهر أن استثناء هؤلاء لأن لعهدهم حرمة زائدة لوقوعه عند المسجد الحرام حول الكعبة.
و {مَا} ظرفية مضمنة معنى الشرط، والفاء الداخلة على فاء التفريع. الوفاء الواقعة في قوله: {فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} فاء جواب الشرط، وأصل ذلك أن الظرف والمجرور إذا قدم على متعلقه قد يشرب معنى الشرط فتدخل الفاء في جوابه، ومنه قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] لوجوب جعل الفاء غير تفريعية، لأنه قد سبقها العطف بالواو، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كما تكونوا يول عليكم" بجزم الفعلين، وقوله لمن سأله أن يجاهد وسأله الرسول "ألك أبوان" قال : نعم قال: "ففيهما فجاهد" في روايته بفاءين.
والاستقامة: حقيقتها عدم الاعوجاج، والسين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستحب، وإذا قام الشيء انطلقت قامته ولم يكن فيه اعوجاج، وهي هنا مستعارة لحسن المعاملة وترك القتال، لأن سوء المعاملة يطلق عليه الالتواء والاعوجاج، فكذلك يطلق على ضده الاستقامة.
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} تعليل للأمر بالاستقامة. وموقع {إِنَّ} أولها، للاهتمام وهو مؤذن بالتعليل لأن {إِنَّ} في مثار هذا تغني غناء فاء وقد أنبأ ذلك، التعليل، أن الاستقامة لهم من التقوى وإلا لم تكن مناسبة للإخبار بأن الله يحب المتقين. عقب الأمر بالاستقامة لهم، وهذا من الإيجاز. ولأن في الاستقامة لهم حفظا للعهد الذي هو من قبيل اليمين.
[8] {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} .
{كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} .
و {كَيْفَ} هذه مؤكدة ل {كَيْفَ} [التوبة:7] التي في الآية قبلها، فهي معترضة بين الجملتين وجملة: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} الخ يجوز أن تكون جملة حالية، والواو للحال ويجوز أن يكون معطوفة على جملة {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة:7] إخبارا عن دخائلهم.
وفي إعادة الاستفهام إشعار بأن جملة الحال لها مزيد تعلق بتوجه الإنكار على دوام العهد للمشركين، حتى كأنها مستقلة بالإنكار. لا مجرد قيد للأمر الذي توجه إليه الإنكار ابتداء، فيؤول المعنى الحاصل من هذا النظم إلى إنكار دوام العهد مع المشركين في ذاته، ابتداء، لأنهم ليسوا أهلا لذلك، وإلى إنكار دوامه بالخصوص في هذه الحالة. وهي حالة ما يبطنونه من نية الغدر إن ظهروا على المسلمين، مما قامت عليه القرائن والأمارات، كما فعلت هوازن عقب فتح مكة. فجملة: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} معطوفة على جملة {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة:7].
وضمير {يَظْهَرُوا} عائد إلى المشركين في قوله : {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:7] ومعنى {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} إن ينتصروا. وتقدم بيان هذا الفعل آنفا عند قوله تعالى: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة:و4].والمعنى: لو انتصر المشركون، بعد ضعفهم، وبعد أن جربوا من العهد أنه كان سببا في قوتكم، لنقضوا العهد. وضمير {عَلَيْكُمْ} خطاب للمؤمنين.
ومعنى {لاَ يَرْقُبُوا} لا يوفوا ولا يراعوا، يقال: رقب الشيء، إذا نظر إليه نظر تعهد ومراعاة، ومنه سمي الرقيب، وسمي المرقب مكان الحراسة، وقد أطلق هنا على المراعاة والوفاء بالعهد، لأن من أبطل العمل بشيء فكأنه لم يره وصرف نظره عنه.
والإل: الحلف والعهد؛ ويطلق الإل على النسب والقرابة. وقد كانت بين المشركين وبين المسلمين أنساب وقرابات، فيصح أن يراد هنا كلا معنييه.
والذمة ما يمتّ به من الأواصر من صحبة وخلة وجوار ممّا يجب في المروءة أن يحفظ ويحمى يقال: في ذمتي كذا، أي ألتزم به وأحفظه.
{يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} .
استئناف ابتدائي، أي هم يقولون لكم ما يرضيكم، كيدا ولو تمكنوا منكم لم يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة. من يسمع كلاما فيأباه.
والإباية: الامتناع من شيء مطلوب وإسناد الإباية إلى القلوب استعارة، فقلوبهم لما نوت الغدر شبهت بمن يطلب منه شيء فيأبى.
وجملة: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} في موضع الحال من واو الجماعة في {يُرْضُونَكُمْ} مقصود منها الذم بأن أكثرهم موصوف، مع ذلك، بالخروج عن مهيع المروءة والرجلة، إذ نجد أكثرهم خالعين زمام الحياة، فجمعوا المذمة الدينية والمذمة العرفية. فالفسق هنا الخروج عن الكمال العرفي بين الناس، وليس المراد الخروج عن مهيع الدين لأن ذلك وصف لجميعهم لا لأكثرهم، ولأنه قد عرف من وصفهم بالكفر.
[9] {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
موقع هذه الجملة موقع الاستئناف الابتدائي المشعر استئنافه بعجيب حالهم فيصد استقلاله بالأخبار. وهذه الآية وصف القرآن فيها المشركين بمثل ما وصف به أهل الكتاب في سورة البقرة: من الاشتراء بآيات الله ثمنا قليلا، ثم لم يوصفوا بمثل هذا في آية أخرى نزلت بعدها لأن نزولها كان في آخر عهد المشركين بالشرك إذ لم تطل مدة حتى دخلوا في دين الله أفواجا، سنة الوفود وما بعدها، وفيها دلالة على هؤلاء الذين بقوا على الشرك من العرب، بعد فتح مكة وظهور الإسلام على معظم بلاد العرب، ليس لهم افتراء في صحة الإسلام ونهوض حجته، ولكنه بقوا على الشرك لمنافع يجتنبونها من عوائد قومهم: من غارات يشنها بعضهم على بعض، ومحبة الأحوال الجاهلية من خمر وميسر وزنى، وغير ذلك من المذمات واللذات الفاسدة، وذلك شيء قليل "آثروه على الهدى والنجاة في الآخرة. فلكون آيات صدق القرآن أصبحت ثابتة عندهم جعلت مثل مال بأيديهم، وفرطوا فيه لأجل اقتناء منافع قليلة، فلذلك مثل حالهم بحال من اشترى شيئا بشيء، وقد مضى الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة [16].
والمراد ب"الآيات" الدلائل، وهي دلائل الدعوة إلى الإسلام، وأعظمها القرآن لما اشتمل عليه من البراهين والحجاج والإعجاز والباء في قوله: {بِآيَاتِ اللَّهِ} باء التعويض. وشأنها أن تدخل على ما هو عوض يبذله مالكه لأخذ معوض يملكه غيره، فجعلت آيات
الله كالشيء المملوك لهم لأنها تقررت دلالتها عندهم ثم أعرضوا عنها واستبدلوها باتباع هواهم.
والتعبير عن العوض المشترى باسم ثمن الذي شأنه أن يكون مبذولا لا مقتنى جار على طريق الاستعارة تشبيها لمنافع أهوائهم بالثمن المبذول فحصل من فعل {اشْتَرَوْا} ومن لفظ {ثَمَنًا} استعارتان باعتبارين.
وجملة: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} مفرعة على جملة {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ} لأن إيثارهم البقاء على كفرهم يتسبب عليه أن يصدوا الناس عن اتباع الإسلام، فمثل حالهم بحال من يصد الناس عن السير في طريق تبلغ إلى المقصود.
ومفعول {صَدُّوا} محذوف لقصد العموم، أي: صدوا كل قاصد.
وجملة: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . ابتدائية أيضا، فصلت عن التي قبلها ليظهر استقلالها بالأخبار، وأنها لا ينبغي أن تعطف في الكلام، إذ العطف يجعل الجملة المعطوفة بمنزلة التكملة للمعطوفة عليها.
وافتتحت بحرف التأكيد للاهتمام بهذا الذم لهم.
و {سَاءَ} من أفعال الذم، من باب بئس، و {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مخصوص بالذم، وعبر عن عملهم بـ {كَانُوا يَعْمَلُونَ} للإشارة إلى أنه دأب لهم ومتكرر منهم.
[10] {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} .
{لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} .
يجوز أن تكون هذه الجملة بدل اشتمال من جملة: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [التوبة: 9] لأن انتفاء مراعاة الإل والذمة مع المؤمنين مما يشتمل عليه سوء عملهم، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدئ به للالتمام بمضمون الجملة. وقد أفادت معنى أعم وأوسع مما أفاده قوله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة:8] لأن إطلاق الحكم عن التقييد بشرط {إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} [التوبة:8] يفيد إن عدم مراعاتهم حق الحلف والعهد خلق متأصل، سواء كانوا أقوياء أم مستضعفين، وإن ذلك لسوء طويتهم للمؤمنين لأجل إيمانهم. والإل والذمة تقدما قريبا.
{وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} .
عطف على جملة: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} لمناسبة أن إثبات الاعتداء العظيم لهم، نشأ عن الحقد، الشيء الذي أضمروه للمؤمنين، لا لشيء إلا لأنهم مؤمنون كقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8]
والقصر إما أن يكون للمبالغة في اعتدائهم، لأنه اعتداء عظيم باطني على قوم حالفوهم وعاهدوهم، ولم يلحقوا بهم ضر مع تمكنهم منه، وإما أن يكون قصر قلب، أي: هم المعتدون لا أنتم لأنهم بدأوكم بنقض العهد في قضية خزاعة وبني الديل من بكر بن وائل مما كان سببا في غزوة الفتح.
[11] {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} .
تفريع حكم على حكم لتعقيب الشدة باللين إن هم أقلعوا عن عداوة المسلمين بأن دخلوا في الإسلام لقصد محو أثر الحنق عليهم إذا هم أسلموا أعقب به جملة {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} - إلى قوله- {الْمُعْتَدُونَ} [التوبة: 9 ,10] تنبيها لهم على أن تداركهم أمرهم هين عليهم. وفرع على التوبة أنهم يصيرون إخوانا للمؤمنين. ولما كان المقام هنا لذكر عداوتهم مع المؤمنين جعلت توبتهم سببا للأخوة مع المؤمنين، بخلاف مقام قوله قبله {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] حيث إن المعقب بالتوبة هنالك هو الأمر بقتالهم والترصد لهم، فناسب أن يفرع على توبتهم عدم التعرض لهم بسوء. وقد حصل من مجموع الآيتين أن توبتهم توجب أمنهم وأخوتهم.
ومن لطائف الآيتين أن جعلت الأخوة مذكورة ثانيا لأنها أخص الفائدتين من توبتهم، فكانت هذه الآية مؤكدة لأختها في أصل الحكم.
وقوله: {فََإِخْوَانُكُمْ} خبر لمحذوف أي: فهم إخوانكم. وصيغ هذا الخبر بالجملة الاسمية: للدلالة على أن إيمانهم يقتضي ثبات الأخوة ودوامها، تنبيها على أنهم يعودون كالمؤمنين السابقين من قبل في أصل الأخوة الدينية.
والإخوان جمع أخ في الحقيقة والمجاز، وأطلقت الأخوة هنا على المودّة
والصداقة.
والظرفية في قوله: {فِي الدِّينِ} مجازية: تشبيها للملابسة القوية بإحاطة الظرف بالمظروف زيادة في الدلالة على التمكن من الإسلام وأنه يجب ما قبله.
{وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .
اعتراض وتذييل، والواو اعتراضية، ومناسبة موقعه عقب قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [التوبة:9] أنه تضمن أنهم لم يهتدوا بآيات الله ونبذوها على علم بصحتها كقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23]، وباعتبار ما فيه من فرض توبتهم وإيمانهم إذا أقلعوا عن إيثار الفساد على الصلاح، فكان قوله: {وَنُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} جامعا للحالين، دالا على أن الآيات المذكورة آنفا في قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [التوبة:9] آيات واضحة مفصلة، وأن عدم اهتداء هؤلاء بها ليس لنقص فيها ولكنها إنما يهتدي بها قوم يعلمون، فإن آمنوا فقد كانوا من قوم يعلمون. ويفهم منه أنهم إن اشتروا بها ثمنا قليلا فليسوا من قوم يعلمون، فنزل علمهم حينئذ منزلة عدمه لانعدام أثر العلم، وهو العمل بالعلم، وفيه نداء عليهم بمساواتهم لغير أهل العقول كقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
وحذف مفعول {يَعْلَمُونَ} لتنزيل الفعل منزلة اللازم إذا أريد به: لقوم ذوي علم وعقل.
وعطف هذا التذييل على جملة: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} لأنه به أعلق، لأنهم إن تابوا فقد صاروا إخوانا للمسلمين، فصاروا من قوم يعلمون، إذ ساووا المسلمين في الاهتداء بالآيات المفصلة.
ومعنى التفصيل تقدم في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
[12] {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} .
لماّ استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله : { أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} - إلى قوله – {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:3] وإنما كان
ذلك لإبطانهم الغدر، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم ما استقاموا على العهد بقوله: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ} [التوبة:4] الآيات، والذين يستجيبون عطف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد، ويعلنون بما يسخط المسلمين من قولهم، وهذا حال مضاد لحال قوله: {وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمَْ} [التوبة:8].
والنكث تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الأعراف:135]
وعبر عن نقض العهد بنكث الإيمان تشنيعا للنكث، لأن العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمي العهد حلفا.
وزيد قوله: {مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} زيادة في تسجيل شناعة نكثهم: بتذكير أنه غدر لعهد، وحنث باليمين.
والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محدد كالرمح، ويستعمل مجازا بمعنى الثلب. والنسبة إلى النقص، بتشبيه عرض المرء، الذي كان ملتئما غير منقوص، بالجسد السليم. فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شبه بالجلد الذي أفسد التحامه.
والأمر، هنا: للوجوب، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدم في قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] ففي هذه الحالة يجب فتالهم ذبا عن حرمة الدين، وقمعا لشرهم من قبل أن يتمردوا عليه.
و {أَئِمَّةَ} جمع إمام، وهو ما يجعل قدوة في عمل يعمل على مثاله، أو على مثال عمله، قال تعالى: {وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً} [القصص:5] أي مقتدى بهم، وقال لبيد:
ولكلّ قوم سنة وإمامها
والإمام المثال الذي يصنع على شكله، أو قدره، مصنوع، فأئمة الكفر، هنا: الذين بلغوا الغاية فيه، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر.
والمراد بأئمة الكفر: المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يقل: فقاتلوهم، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر، وهي أنهم قدوة لغيرهم، لأن الذين أضمروا النكث يبقون مترددين بإظهاره،
فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون، فكان الناقضون أئمة للباقين.
وجملة: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} تعليل لقتالهم بأنهم استحقوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم، فغدروا. وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطلعين على حكمة الأمر به، فيكون قتالهم لمجرد الامتثال لأمر الله، فلا يكون لهم من الغيظ على المشركين ما يشحذ شدتهم عليهم.
ونفي الأيمان لهم: نفي للماهية الحق لليمين، وهي قصد تعظيمه والوفاء به، فلما لم يوفوا بأيمانهم، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخص أخواصها وهو العمل بما اقتضته.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، ورويس عن يعقوب. {أَيِّمَةَ} بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء. وقرأ البقية: بتحقيق الهمزتين. وقرأ هشام عن ابن عامر، وأبو جعفر: بمد بين الهمزتين.
وقرأ الجمهور {لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} بفتح همزة {أَيْمَانَ} على أنّه جمع يمين. وقرأه ابن عامر - بكسر الهمزة-، أي ليسوا بمؤمنين، ومن لا أيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع.
وعطف {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} عطف قسيم على قسيمه، فالواو فيه بمعنى (أو). فإنه إذا حصل أحد هذين الفعلين: الذين هما نكث الأيمان، والطعن في الدين، كان حصول أحدهما موجبا لقتالهم، أي دون مصالحة، ولا عهد، ولا هدنة بعد ذلك.
وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبئ بان ذلك الطعن كان من دأبهم في مدة المعاهدة، فأريد صدهم عن العود إليه. ولم أقف على أنه كان مشروطا على المشركين في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام، في غير هذه الآية، فكان هذا شرطا عليهم من بعد، لأن المسلمين أصبحوا في قوة.
وقوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أمر للوجوب.
وجملة {لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} يجوز أن تكون تعليلا لجملة {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا، وظاهر أن القتال يفني كثيرا منهم، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها.
ولم يذكر متعلق فعل {يَنتَهُونَ} ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد، لأنّ
عهدهم لا يقبل بعد أن نكثوا لقول الله تعالى: {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} ، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين، لأنه إن كان طعنهم في ديننا حاصلا في مدة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه، وإن كان بعد أن تضع الحرب أوزارها فإنه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم، فتعين أن المراد: لعلهم ينتهون عن الكفر.
ويجوز أن تكون الجملة استئنافا ابتدائيا لا اتصال لها بجملة {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} الآية، بل ناشئة عن قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ} - إلى قوله - إلى قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:5, 12].
والمعنى: المرجو أنّهم ينتهون عن الشرك ويسلمون، وقد تحقق ذلك فإن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة، وبعد يوم حنين، ولم يقع نكث بعد ذلك، ودخل المشركون في الإسلام أفواجا في سنة الوفود.
[13] {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} .
تحذير من التواني في قتالهم عدا ما استثني منهم بعد الأمر بقتلهم، وأسرهم، وحصارهم، وسد مسالك النجدة في وجوههم، بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} - إلى قوله – {كُلَّ مَرْصَدٍ} [التوبة:5]. وبعد أن أثبتت لهم ثمانية خلال تغري بعدم الهوادة في قتالهم، وهي قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ} [التوبة:7]. وقوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا} [التوبة:8]. وقوله: {يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [التوبة:8] وقوله: {وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:8] وقوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [التوبة:9] وقوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] وقوله: {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ} [التوبة:10] وقوله: {الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} [التوبة:12]
فكانت جملة {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ} تحذيرا من التراخي في مبادرتهم بالقتال.
ولفظ {أَلاَ} يحتمل أن يكون مجموع حرفين: هما همزة الاستفهام، و (لا) النافية، ويحتمل أن يكون حرفاً واحداً للتحضيض، مثل قوله تعالى: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌرَحِيمٌ} [النور:22]. فعلى الاحتمال الأول يجوز أن يكون الاستفهام إنكارياً، على انتفاء مقاتلة المشركين، وهو ما ذهب إليه البيضاوي، فيكون دفعا لأن يتوهّم
المسلمون حرمة لتلك العهود، ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب "الكشاف"، تقريرا على النفي تنزيلا لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه، قال في "الكشاف": ومعناه الحض على القتال على سبيل المبالغة. وفي "مغني اللبيب" أن {أَلاَ} التي للاستفهام عن النفي تختص بالدخول على الجملة الاسمية، وسلمه شارحاه، ولا يخفى أن كلام الكشاف ينادي على خلافه.
وعلى الاحتمال الثاني أن يكون {أَلاَ} حرفا واحدا للتحضيض فهو تحضيض على القتال. وجعل في "المغني" هذه الآية مثالا لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعل موجب هذا التفنن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه: أن كثيرا من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم، فلذلك لما أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنة التثاقل عنه خشية الهزيمة، بعد أن فازوا بسمعة النصر. وفي قوله عقبه {أَتَخْشَوْنَهُمْ} ما يزيد هذا وضوحا.
أما نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدم عند قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} [التوبة:4] - وقوله - {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ} [التوبة:4] الآية. وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدم.
وأما همهم بإخراج الرسول فظاهره أنه هم حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة، أي نفيه عنها إخراجه من مكة أمر قد مضى منذ سنين، ولأن إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أن همهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبه المسلمين إليه. وهو أنهم لما نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهموا أنفسهم منصورين وأنهم إن انتصروا أخرجوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - من المدينة.
(والهم) هو العزم على فعل شيء، سواء فعله أم انصرف عنه. ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرد الهم بإخراج الرسول تدل على أنهم لم يخرجوه وإلا لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهم به، كما في قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:40] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلا لما حيل بينهم وبين تنفيذه، فعن الحسن: هموا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب، أي فكفاه الله
المسلمون حرمة لتلك العهود، ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا، وهو ظاهر ما حمله عليه صاحب "الكشاف"، تقريرا على النفي تنزيلا لهم منزلة من ترك القتال فاستوجب طلب إقراره بتركه، قال في "الكشاف": ومعناه الحض على القتال على سبيل المبالغة. وفي "مغني اللبيب" أن {أَلاَ} التي للاستفهام عن النفي تختص بالدخول على الجملة الاسمية، وسلمه شارحاه، ولا يخفى أن كلام الكشاف ينادي على خلافه.
وعلى الاحتمال الثاني أن يكون {أَلاَ} حرفا واحدا للتحضيض فهو تحضيض على القتال. وجعل في "المغني" هذه الآية مثالا لهذا الاستعمال على طريقة المبالغة في التحذير ولعل موجب هذا التفنن في التحذير من التهاون بقتالهم مع بيان استحقاقهم إياه: أن كثيرا من المسلمين كانوا قد فرحوا بالنصر يوم فتح مكة ومالوا إلى اجتناء ثمرة السلم، بالإقبال على إصلاح أحوالهم وأموالهم، فلذلك لما أمروا بقتال هؤلاء المشركين كانوا مظنة التثاقل عنه خشية الهزيمة، بعد أن فازوا بسمعة النصر. وفي قوله عقبه {أَتَخْشَوْنَهُمْ} ما يزيد هذا وضوحا.
أما نكثهم أيمانهم فظاهر مما تقدم عند قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ} [التوبة:4] - وقوله - {إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ} [التوبة:4] الآية. وذلك نكثهم عهد الحديبية إذ أعانوا بني بكر على خزاعة وكانت خزاعة من جانب عهد المسلمين كما تقدم.
وأما همهم بإخراج الرسول فظاهره أنه هم حصل مع نكث أيمانهم وأن المراد إخراج الرسول من المدينة، أي نفيه عنها إخراجه من مكة أمر قد مضى منذ سنين، ولأن إلجاءه إلى القتال لا يعرف إطلاق الإخراج عليه فالظاهر أن همهم هذا أضمروه في أنفسهم وعلمه الله تعالى ونبه المسلمين إليه. وهو أنهم لما نكثوا العهد طمعوا في إعادة القتال وتوهموا أنفسهم منصورين وأنهم إن انتصروا أخرجوا الرسول - عليه الصلاة والسلام - من المدينة.
(والهم) هو العزم على فعل شيء، سواء فعله أم انصرف عنه. ومؤاخذتهم في هذه الآية على مجرد الهم بإخراج الرسول تدل على أنهم لم يخرجوه وإلا لكان الأجدر أن ينعى عليهم الإخراج لا الهم به، كما في قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:40] وتدلّ على أنّهم لم يرجعوا عمّا همّوا به إلا لما حيل بينهم وبين تنفيذه، فعن الحسن: هموا بإخراج الرسول من المدينة حين غزوه في أحد وحين غزوا غزوة الأحزاب، أي فكفاه الله
زيادة في التحريض على قتالهم.
وفرع على هذا التقرير جملة {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} أي فالله الذي أمركم بقتالهم أحق أن تخشوه إذا خطر في نفوسكم خاطرا عدم الامتثال لأمره، إن كنتم مؤمنين، لأن الإيمان يقتضي الخشية من الله وعدم التردد في نجاح الامتثال له.
وجيء بالشرط المتعلق بالمستقبل، مع أنه لا شك فيه، لقصد إثارة همتهم الدينية فيبرهنوا على أنهم مؤمنون حقا يقدمون خشية الله على خشية الناس.
[14, 15] {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14] {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} .
استئناف ابتدائي للعود من غرض التحذير، إلى صريح الأمر بقتالهم الذي في قوله: {فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} [التوبة:12] وشأن مثل هذا العود في الكلام أن يكون باستئناف كما وقع هنا.
وجزم {يُعَذِّبْهُمُ} وما عطف عليه في جواب الأمر. وفي جعله جوابا وجزاء أن الله ضمن للمسلمين من تلك المقاتلة خمس فوائد تنحل إلى اثنتي عشرة إذ تشتمل كل فائدة منها على كرامة للمؤمنين وإهانة لهؤلاء المشركين وروعي في كل فائدة منها الغرض الأهم فصرح به وجعل ما عداه حاصلا بطريق الكناية.
الفائدة الأولى تعذيب المشركين بأيدي المسلمين وهذه إهانة للمشركين وكرامة للمسلمين.
الثانية: خزي المشركين وهو يستلزم عزة المسلمين.
الثالثة: نصر المسلمين، وهذه كرامة صريحة لهم وتستلزم هزيمة المشركين وهي إهانة لهم.
الرابعة: شفاء صدور فريق من المؤمنين، وهذه صريحة في شفاء صدور طائفة من المؤمنين وهم خزاعة، وتستلزم شفاء صدور المؤمنين كلهم، وتستلزم حرج صدور أعدائهم
فهذه ثلاث فوائد في فائدة.
الخامسة: إذهاب غيظ قلوب فريق من المؤمنين أو المؤمنين كلهم، وهذه تستلزم ذهاب غيظ بقية المؤمنين الذي تحملوه من إغاظة أحلامهم وتستلزم غيظ قلوب أعدائهم، فهذه ثلاث فوائد في فائدة.
والتعذيب تعذيب القتل والجراحة. وأسند التعذيب إلى الله وجعلت أيدي المسلمين آلة له تشريفا للمسلمين.
والإخزاء: الإذلال، وتقدم في البقرة. وهو هنا الإذلال بالأسر.
والنصر حصول عاقبة القتال المرجوة. وتقدم في أول البقرة.
والشفاء: زوال المرض ومعالجة زواله. أطلق هنا استعارة لإزالة ما في النفوس من تعب الغيظ والحقد، كما استعير ضده وهو المرض لما في النفوس من الخواطر الفاسدة في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة:10] قال قيس بن زهير:
شفيت النفس من حمل بن يدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني
وإضافة ال {صُدُورَ} إلى {قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} دون ضمير المخاطبين يدل على أن الذين يشفي الله صدورهم بنصر المؤمنين طائفة من المؤمنين المخاطبين بالقتال، وهم أقوام كانت في قلوبهم إحن على بعض المشركين الذين آذوهم وأعانوا عليهم، ولكنهم كانوا محافظين على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يستطيعون مجازاتهم على سوء صنيعهم، وكانوا يودّون أن يؤذن لهم بقتالهم، فلما أمر الله بنقض عهود المشركين سروا بذلك وفرحوا، فهؤلاء فريق تغاير حالته حالة الفريق المخاطبين بالتحريض على القتال والتحذير من التهاون فيه. فعن مجاهد، والسدي أن القوم المؤمنين هم خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت نفوس خزاعة إحن على بني بكر بن كنانة، الذين اعتدوا عليهم بالقتال، وفي ذكر هذا الفريق زيادة تحريض على القتال بزيادة ذكر فوائده، وبمقارنة حال الراغبين فيه بحال المحرضين عليه، الملحوح عليهم الأمر بالقتال.
وعطف فعل {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} على فعل {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} ، يؤذن باختلاف المعطوف والمعطوف عليه، ويكفي في الاختلاف بينهما اختلاف المفهومين والحالين، فيكون ذهاب غيظ القلوب مساويا لشفاء الصدور، فيحصل تأكيد الجملة الأولى بالجملة الثانية، مع بيان متعلق الشفاء ويجوز أن يكون الاختلاف بِالمَا صدْق مع اختلاف
المفهوم، فيكون المراد بشفاء الصدور ما يحصل من المسرة والانشراح بالنصر، والمراد بذهاب الغيظ استراحتهم من تعب الغيظ، وتحرق الحقد. وضمير قلوبهم عائد إلى قوم مؤمنين فهم موعودون بالأمرين: شفاء صدورهم من عدوهم، وذهاب غيظ قلوبهم على نكث الذين نكثوا عهدهم.
والغيظ: الغضب المشوب بإرادة الانتقام، وتقدم في قوله تعالى: {عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ} في سورة آل عمران[119].
{وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
جملة ابتدائية مستأنفة، لأنه ابتداء كلام ليس مما يترتب على الأمر بالقتال، بل لذكر من لم يقتلوا، ولذلك جاء الفعل فيها مرفوعا، فدل هذا النظم على أنها راجعة إلى قوم آخرين، وهم المشركون الذين خانوا وغدروا، ولم يقتلوا، بل أسلموا من قبل هذا الأمر أو بعده. وتوبة الله عليهم: هي قبول إسلامهم أو دخولهم فيه، وفي هذا إعذار وإمهال لمن تأخر. وإنما لم تفصل الجملة: للإشارة إلى أن مضمونها من بقية أحوال المشركين، فناسب انتظامها مع ما قبلها. فقد تاب الله على أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسليم بن أبي عمرو (ذكر هذا الثالث القرطبي ولم أقف على اسمه في الصحابة).
والتذييل بجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} لإفادة أن الله يعامل الناس بما يعلم من نياتهم، وأنه حكيم لا يأمر إلا بما فيه تحقيق الحكمة، فوجب على الناس امتثال أوامره، وأنه يقبل توبة من تاب إليه تكثيرا للصلاح.
[16] {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
{أَمْ} منقطعة لإفادة الإضراب عن غرض من الكلام للانتقال إلى غرض آخر.
والكلام بعد {أَمْ} المنقطعة له حكم الاستفهامة دائما، فقوله: {حَسِبْتُمْ} في قوة (أحسبتم) والاستفهام المقدّر إنكاري.
والخطاب للمسلمين، على تفاوت مراتبهم في مدة إسلامهم، فشمل المنافقين لأنهم أظهروا الإسلام.
وحسبتم: ظننتم. ومصدر حسب، بمعنى ظن الحسبان بكسر الحاء فأما مصدر
حسب بمعنى أحصى العدد فهو بضم الحاء.
والترك افتقاد الشيء وتعهّده، أي: أن يترككم الله، فحذف فاعل الترك لظهوره.
ولا بدّ لفعل الترك من تعليقه بمتعلق: من حال أو مجرور، يدل على الحالة التي يفارق فيها التارك متروكه، كقوله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
ومثل قول عنترة:
فتركته جزر السباع ينشنه
وقول كبشة بنت معد يكرب، على لسان شقيقها عبد الله حين قتلته بنو مازن بن زبيد في بلد صعدة من بلاد اليمن:
وأترك في بيت بصعدة مظلم
وحذف متعلق {تُتْرَكُوا} في الآية: لدلالة السياق عليه، أي أن تتركوا دون جهاد، أي أن تتركوا في دعة بعد فتح مكة.
والمعنى: كيف تحسبون أن تتركوا، أي لا تحسبوا أن تتركوا دون جهاد لأعداء الله ورسوله.
وجملة {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} الخ في موضع الحال من ضمير {تُتْرَكُوا} أي لا تظنّوا أن تتركوا في حال عدم تعلق علم الله بوقوع ابتدار المجاهدين للجهاد، وحصول تثاقل من تثاقلوا، وحصول ترك الجهاد من التاركين.
و {وَلَمَّا} حرف للنفي، وهي أخت (لم). وقد تقدم بيانها والفرق بينها وبين (لم) عند قوله تعالى: {وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:214] وقوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} في سورة آل عمران[142].
ومعنى علم الله بالذين جاهدوا: علمه بوقوع ذلك منهم وحصول امتثالهم، وهو من تعلق العلم الإلهي بالأمور الواقعة، وهو أخص من علمه تعالى الأزلي بأنّ الشيء يقع أو لا يقع، ويجدر أن يوصف بالتعلق التنجيزي وقد تقدم شيء من ذلك عند قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} في سورة آل عمران[142].
و(الوليجة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي الدخيلة، وهي الفعلة التي يخفيها فاعلها، فكأنّه يولجها، أي يدخلها في مكمن بحيث لا تظهر، والمراد بها هنا: ما يشمل الخديعة وإغراء
العدو بالمسلمين، وما يشمل اتخاذ أولياء من أعداء الإسلام يخلص إليهم ويفضي إليهم بسر المسلمين، لأن تنكير {وَلِيجَةً} في سياق النفي يعم سائر أفرادها.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق ب {وَلِيجَةً} في موضع الحال المبيّنة.
و {مِنْ} ابتدائية، أي وليجة كائنة في حالة تشبيه المكان الذي هو مبدأ للبعد من الله ورسوله والمؤمنين.
وجملة {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} تذييل لإنكار ذلك الحسبان، أي: لا تحسبوا ذلك مع علمكم بأن الله خبير بكل ما تعملونه.
[17] {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} .
هذا ابتداء غرض من أغراض معاملة المشركين، وهو منع المشركين من دخول المسجد الحرام في العام القابل، وهو مرتبط بما تضمنته البراءة في قوله: {بَرَاءةٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:1] ولمِاَ اتّصل بتلك الآية من بيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي أرسل به مع أبي بكر الصديق: أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهو توطئة لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28].
وتركيب (ما كان لهم أن يفعلوا) يدلّ على أنهم بعداء من ذلك، كما تقدم عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} في سورة آل عمران[79]، أي ليسوا بأهل لأن يعمروا مساجد الله بما تعمر به من العبادات.
و {مَسَاجِدَ اللَّهِ} مواضع عبادته بالسجود والركوع: المراد المسجد الحرام وما يتبعه من المسعى، وعرفة، والمشعر الحرام، والجمرات، والمنحر من منى.
وعمر المساجد: العبادة فيها لأنها إنما وضعت للعبادة، فعمرها بمن يحل فيها من المتعبدين، ومن ذلك اشتقت العمرة، والمعنى: ما يحق للمشركين أن يعبدوا الله في مساجد الله. وإناطة هذا النفي بهم بوصف كونهم مشركين: إيماء إلى أن الشرك موجب لحرمانهم من عمارة مساجد الله.
وقد جاء الحال في قوله: {شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} مبينا لسبب براءتهم من أن
يعمروا مساجد الله، وهو حال من ضمير {يَعْمُرُوا} فبين عامل الضمير وهو {يَعْمرُوا} الداخل في حكم الانتفاء، أي: انتفى تأهلهم لأن يعمروا مساجد الله بحال شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فكان لهذه الحال مزيد اختصاص بهذا الحرمان الخاص من عمارة مساجد الله، وهو الحرمان الذي لا استحقاق بعده.
والمراد بالكفر: الكفر بالله، أي بوحدانيته، فالكفر مرادف للشرك، فالكفر في حد ذاته موجب للحرمان من عمارة أصحابه مساجد الله، لأنها مساجد الله فلا حق لغير الله فيها، ثم هي قد أقيمت لعبادة الله لا لغيره، وأقام إبراهيم - عليه السلام - أوّل مسجد وهو الكعبة عنوانا على التوحيد، وإعلانا به، كما تقدم في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} في سورة آل عمران [96]، فهذه أول درجة من الحرمان. ثم كون كفرهم حاصلا باعترافهم به موجب لانتفاء أقل حظ من هذه العمارة، وللبراءة من استحقاقها، وهذه درجة ثانية من الحرمان.
وشهادتهم على أنفسهم بالكفر حاصلة في كثير من أقوالهم وأعمالهم، بحيث لا يستطيعون إنكار ذلك، مثل قولهم في التلبية "لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك"، ومثل سجودهم للأصنام، وطوافهم بها، ووضعهم إياها في جوف الكعبة وحولها وعلى سطحها.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب: بإفراد {مَسْجِدَ اللَّهِ} ، أي المسجد الحرام وهو المقصود، أو للتعريف بالإضافة للجنس. وقرأ الباقون: {مَسَاجِدَ اللَّهِ}، فيعم المسجد الحرام وما عددناه معه آنفا.
وجملة {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} ابتداء ذم لهم، وجيء باسم الإشارة لأنهم قد تميزوا بوصف الشهادة على أنفسهم بالكفر كما في قوله: {أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] بعد قوله: {هُدًىلِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] الآية.
و {حَبِطَتْ} بطلت، وقد تقدّم في قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} في سورة البقرة [217].
وتقديم {فِي النَّارِ} على {خَالِدُونَ} للرعاية على الفاصلة ويحصل منه تعجيل المساءة للكفار إذا سمعوه.
[18] {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} .
موقع جملة {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} الاستئناف البياني، لأن جملة: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17]. لماّ اقتضت إقصاء المشركين عن العبادة في المساجد كانت بحيث تثير سؤالا في نفوس السامعين أن يتطلبوا من هم الأحقاء بأن يعمروا المساجد، فكانت هذه الجملة مفيدة جواب هذا السائل.
ومجيء صيغة القصر فيها مؤذن بأن المقصود إقصاء فرق أخرى عن أن يعمروا مساجد الله، غير المشركين الذين كان إقصاؤهم بالصريح، فتعين أن يكون المراد من الموصول وصلته خصوص المسلمين، لأن مجموع الصفات المذكورة في الصلة لا يثبت لغيرهم، فاليهود والنصارى آمنوا بالله واليوم الآخر لكنهم لم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة، لأنّ المقصود بالصلاة والزكاة العبادتان المعهودتان بهذين الاسمين والمفروضتان في الإسلام، ألا ترى إلى قوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:43 ،44] كناية عن أن لم يكونوا مسلمين.
واستغنى عن ذكر الإيمان برسوله محمد صلى الله عليه وسلم بما يدل عليه من آثار شريعته: وهو الإيمان باليوم الآخر، وإقام الصلاة: وإيتاء الزكاة.
وقصر خشيتهم على التعلق بجانب الله تعالى بصيغة القصر ليس المراد منه أنهم لا يخافون شيئا غير الله فإنهم قد يخافون الأسد ويخافون العدو، ولكن معناه إذا تردد الحال بين خشيتهم الله وخشيتهم غيره قدموا خشية الله على خشية غيره كقوله آنفا {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} [التوبة:13]. فالقصر إضافي باعتبار تعارض خشيتين.
وهذا من خصائص المؤمنين: فأما المشركون فهم يخشون شركاءهم وينتهكون حرمات الله لإرضاء شركائهم، وأما أهل الكتاب فيخشون الناس ويعصون الله بتحريف كلمه ومجاراة أهواء العامة، وقد ذكرهم الله بقوله: {فَلاَ تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي} [المائدة44].
وفرّع على وصف المسلمين بتلك الصفات رجاء أن يكونوا من المهتدين، أي من الفريق الموصوف بالمهتدين وهو الفريق الذي الاهتداء خلق لهم في هذه الأعمال وفي غيرها. ووجه هذا الرجاء أنهم لما أتوا بما هو اهتداء لا محالة قوي الأمل في أن يستقرّوا على ذلك ويصير خلقا لهم فيكونوا من أهله، ولذلك قال: {أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} ، ولم
يقل أن يكونوا مهتدين.
وفي هذا حث على الاستزادة من هذا الاهتداء وتحذير من الغرور والاعتماد على بعض العمل الصالح باعتقاد أنّ بعض الأعمال يغني عن بقيتها.
والتعبير عنهم باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا هذا الأمل فيهم بسبب تلك الأعمال التي عدّت لهم.
[19] {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
ظاهر هذه الآية يقتضي أنها خطاب لقوم سوّوا بين سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام، وبين الجهاد والهجرة، في أن كل ذلك من عمل البرّ، فتؤذن بأنهّا خطاب لقوم مؤمنين قعدوا عن الهجرة والجهاد، بعلة اجتزائهم بالسقاية والعمارة. ومناسبتها للآيات التي قبلها: أنه لما وقع الكلام على أن المؤمنين هم الأحقاء بعمارة المسجد الحرام من المشركين دل ذلك الكلام على أنّ المسجد الحرام لا يحقّ لغير المسلم أن يباشر فيه عملا من الأعمال الخاصة به، فكان ذلك مثار ظن بأنّ القيام بشعائر المسجد الحرام مساو للقيام بأفضل أعمال الإسلام.
وأحسن ما روي في سبب نزول هذه الآية: ما رواه الطبري، والواحدي، عن النعمان بن بشير، قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم "ما بالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج"؛ وقال آخر "بل عمارة المسجد الحرام" وقال آخر "بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم" فزجرهم عمر بن الخطاب وقال: "لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفيته فيما اختلفتم فيه" قال: فأنزل الله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} .
وقد روي أنه سرى هذا التوهم إلى بعض المسلمين، فروي أنّ العباس رام أنّ يقيم بمكة ويترك الهجرة لأجل الشغل بسقاية الحاجّ والزائر؛ وأنّ عثمان بن طلحة رام مثل ذلك، للقيام بحجابة البيت. وروي الطبري، والواحدي: أن مماراة جرت بين العباس وعلي بن أبي طالب ببدر، وأن عليا عيّر العباس بالكفر وقطيعة الرحم، فقال العباس: "ما
لكم لاتذكرون محاسننا إنا لنعمر مسجد الله ونحجب الكعبة ونسقي الحاج" فأنزل الله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} الآية.
والاستفهام للإنكار.
و(السقاية) صيغة للصناعة، أي صناعة السقي، وهي السقي من ماء زمزم، ولذلك أضيفت السقاية إلى الحاج.
وكذلك (العمارة) صناعة التعمير، أي القيام على تعمير شيء، بالإصلاح والحراسة ونحو ذلك، وهي، هنا: غير ما في قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ} [التوبة:17] وقوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:18] وأضيفت إلى المسجد الحرام لأنّها عمل في ذات المسجد.
وتعريف الحاج تعريف الجنس.
وقد كانت سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام من أعظم مناصب قريش في الجاهلية، والمناصب عشرة، وتسمّى المآثر فكانت السقاية لبني هاشم بن عبد مناف ابن قصي وجاء الإسلام وهي للعباس بن عبد المطلب، وكانت عمارة المسجد، وهي السدانة، وتسمّى الحجابة، لبني عبد الدار بن قصي وجاء الإسلام وهي لعثمان بن طلحة.
وكانت لهم مناصب أخرى ثمانية أبطلها الإسلام رأيتها بخط جدي العلامة الوزير وهي: الديات والحملات، السفارة، الراية، الرفادة، المشورة، الأعنة والقبة، الحكومة وأموال الآلهة، الأيسار.
فأما الديات والحملات: فجمع دية وهي عوض دم القتيل خطأ أو عمدا إذا صولح عليه؛ وجمع – حمالة - بفتح الحاء المهملة - وهي الغرامة التي يحملها قوم عن قوم، وكانت لبني تيم بن مرة بن كعب0 ومرة جد قصي، وجاء الإسلام وهي بيد أبي بكر الصديق.
وأمّا السفارة - بكسر السين وفتحها - فهي السعي بالصلح بين القبائل0 والقائم بها يسمى سفيرا. وكانت لبني عدي بن كعب بن أبناء عمّ لقصي وجاء الإسلام وهي بيد عمر بن الخطاب.
وأمّا الراية، وتسمىّ: العقاب - بضم العين - لأنها تخفق فوق الجيش كالعقاب، فهي راية جيش قريش، وكانت لبني أمية، وجاء الإسلام وهي بيد أبي سفيان بن حرب.
وأمّا الرّفادة: فهي أموال تخرجها قريش إكراماً للحجيج فيطعمونهم جميع أيّام الموسم يشترون الجزر والطعام والزبيب - للنبيذ - وكانت لبني نوفل بن عبد مناف، وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن عامر بن نوفل.
وأمّا المشورة: فهي ولاية دار الندوة وكانت لبني أسد بن عبد العزّى بن قصّي. وجاء الإسلام وهي بيد زيد بن زمعة.
وأما الأعنّة والقبة فقبّة يضربونها يجتمعون إليها عند تجهيز الجيش وسميت الأعنّة وكانت لبني مخزوم. وهم أبناء عم قصي، وجاء الإسلام وهي بيد خالد بن الوليد.
وأمّا الحكومة وأموال الآلهة - ولم أقف على حقيقتها - فأحسب أنّ تسميتها الحكومة لأنّ المال المتجمع بها هو ما يحصل من جزاء الصيد في الحرم أو في الإحرام. وأماّ تسميتها أموال الآلهة لأنّها أموال تحصل من نحو السائبة والبحيرة وما يوهب للآلهة من سلاح ومتاع. فكانت لبني سهم وهم أبناء عم لقصي. وجاء الإسلام وهي بيد الحارث بن قيس بن سهم.
وأما الأيسار وهي الأزلام التي يستقسمون بها فكانت لبني جمح وهم أبناء عمّ لقصي، وجاء الإسلام وهي بيد صفوان بن أمية بن خلف.
وقد أبطل الإسلام جميع هذه المناصب، عدا السدانة والسقاية، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع "ألا إنّ كل مأثرة من مآثر الجاهلية تحت قدمي هاتين إلا سقاية الحاج وسدانة البيت" 1.
وكانت مناصب العرب التي بيد قصي بن كلاب خمسة: الحجابة، والسقاية، والرفادة، والندوة، واللواء – فلماّ كبر قصي جعل المناصب لابنه عبد الدار، ثم اختصم أبناء قصي بعد موته وتداعوا للحرب، ثم تداعوا للصلح، على أن يعطوا بني عبد الدار الحجابة واللواء والندوة، وأن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأحدثت مناصب لبعض من قريش غير أبناء قصي فانتهت المناصب إلى عشرة كما ذكرنا.
وذكر الإيمان بالله واليوم الآخر ليس لأنّه محلّ التسوية المردودة عليهم لأنّهم لم يدّعوا التسوية بين السقاية أو العمارة بدون الإيمان، بل ذكر الإيمان إدماج، للإيماء إلى
ـــــــ
(1) رواه ابن الأثير في "النهاية" في مادة (أثر) ومادة (سقى).
أن الجهاد أثر الإيمان، وهو ملازم للإيمان، فلا يجوز للمؤمن التنصّل منه بعلّة اشتغاله بسقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام. وليس ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر لكون الذين جعلوا مزية سقاية الحاجّ وعمارة المسجد الحرام مثل مزية الإيمان ليسوا بمؤمنين لأنّهم لو كانوا غير مؤمنين لما جعلوا مناصب دينهم مساوية للإيمان، بل لجعلوها أعظم. وإنما توهموا أنهما عملان يعدلان الجهاد، وفي الشغل بهما عذر للتخلف عن الجهاد، أو مزية دينية تساوي مزية المجاهدين.
وقد دلّ ذكر السقاية والعمارة في جانب المشبّه، وذكر من آمن وجاهد في جانب المشبه به، على أن العملين ومن عملهما لا يساويان العملين الآخرين ومن عملهما. فوقع احتباك في طرفي التشبيه، أي لا يستوي العملان مع العملين ولا عاملوا هذين بعاملي ذينك العملين. والتقدير: أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله، وجعلتم سقاية الحاج وعمار المسجد كالمؤمنين والمجاهدين في سبيل الله. ولما ذكرت التسوية في قوله: {لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} أسندت إلى ضمير العاملين، دون الأعمال: لأنّ التسوية لم يشتهر في الكلام تعليقها بالمعاني بل بالذوات.
وجملة {لاَ يَسْتَوُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا: لبيان ما يسأل عنه من معنى الإنكار الذي في الاستفهام بقوله: {أَجَعَلْتُمْ} الآية.
وجملة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل لجملة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} إلخ، وموقعه هنا خفي إن كانت السورة قد نزلت بعد غزوة تبوك، وكانت هذه الآية ممّا نزل مع السورة ولم تنزل قبلها، على ما رجحناه من رواية النعمان بن بشير في سبب نزولها، فإنّه لم يبق يومئذ من يجعل سقاية الحاجّ وعمارة البيت تساويان الإيمان والجهاد، حتى يرد عليه بما يدل على عدم اهتدائه. وقد تقدم ما روي عن عمر بن الخطاب في سبب نزولها وهو يزيد موقعها خفاء.
فالوجه عندي في موقع جملة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أن موقعها الاعتراض بين جملة {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} وجملة {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا} [التوبة:20] آلخ.
والمقصود منها زيادة التنويه بشأن الإيمان، إعلاما بأنّه دليل إلى الخيرات، وقائد إليها. فالذين آمنوا قد هداهم إيمانهم إلى فضيلة الجهاد، والذين كفروا لم ينفعهم ما كانوا
فيه من عمارة المسجد الحرام وسقاية الحاج، فلم يهدهم الله إلى الخير، وذلك برهان على أن الإيمان هو الاصل، وأنّ شعبه المتولدة منه أفضل الأعمال، وأنّ ما عداها من المكارم والخيرات في الدرجة الثانية في الفضل، لأنّها ليست من شعب الإيمان، وإن كان كلا الصفتين لا ينفع إلا إذا كان مع الإيمان، وخاصة الجهاد.
وفيه إيماء إلى أنّه: لولا الجهاد لما كان أهل للسقاية وعمارة المسجد الحرام مؤمنين، فإن إيمانهم كان من آثار غزوة فتح مكة وجيش الفتح إذ آمن العباس ابن عبد المطلب وهو صاحب السقاية، وآمن عثمان بن طلحة وهو صاحب عمارة المسجد الحرام.
فأمّا رواه الطبري والواحدي عن ابن عباس: من أنّ نزول هذه الآية كان يوم بدر، بسبب المماراة التي وقعت بين علي بن أبي طالب والعباس، فموقع التذييل بقوله: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} واضح: أي لا يهدي المشركين الذين يسقون الحاجّ ويعمرون المسجد الحرام، إذ لا يجدي ذلك مع الإشراك. فتبيّن أنّ ما توهّموه من المساواة بين تلك الأعمال وبين الجهاد، وتنازعهم في ذلك، خطأ من النظر، إذ لا تستقيم تسوية التابع بالمتبوع والفرع بالأصل، ولو كانت السقاية والعمارة مساويتين للجهاد لكان أصحابهما قد اهتدوا إلى نصر الإيمان، كما اهتدى إلى نصره المجاهدون، والمشاهدة دلت على خلاف ذلك: فإنّ المجاهدين كانوا مهتدين ولم يكن أهل السقاية والعمارة بالمهتدين. فالهداية شاع إطلاقها مجازا باستعارتها لمعنى الإرشاد على المطلوب، وهي بحسب هذا الإطلاق مراد بها مطلوب خاص وهو ما يطلبه من يعمل عملا يتقرب به إلى الله، كما يقتضيه تعقيب ذكر سقاية الحاج وعمارة المسجد بهذه الجملة.
وكنّي بنفي الهداية عن نفي حصول الغرض من العمل.
والمعنى: والله لا يقبل من القوم المشركين أعمالهم.
ونسب إلى ابن وردان أنّه روى عن أبي جعفر أنّه قرأ: {سُقَاةَ الحَاجِّ} بضم السين جمع الساقي وقرأ {وَعَمَرَة} - بالعين المفتوحة وبدون ألف وبفتح الراء جمع عامر - وقد اختلف فيها عن ابن وردان.
[20] {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} .
هذه الجملة مبينّة لنفي الاستواء الذي في جملة {لاَ يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:19] ومفصّلة للجهاد الذي في قوله: {كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:19] بأنّه الجهاد بالأموال والأنفس، وإدماج لبيان مزية المهاجرين من المجاهدين.
و(الذين هاجروا) هم المؤمنون من أهل مكة وما حولها، الذين هاجروا منها إلى المدينة لما أذنهم النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إليها بعد أن أسلموا، وذلك قبل فتح مكة.
والمهاجرة: ترك الموطن والحلول ببلد آخر، وهي مشتقة من الهجر وهو الترك، واشتقت لها صيغة المفاعلة لاختصاصها بالهجر القوي وهو هجر الوطن، والمراد بها - في عرف الشرع - هجرة خاصة: وهي الهجرة من مكة إلى المدينة، فلا تشتمل هجرة من هاجر من المسلمين إلى بلاد الحبشة لأنّها لم تكن على نيّة الاستيطان بل كانت هجرة مؤقته، وتقدّم ذكر الهجرة في آخر سورة الأنفال.
والمفضل عليه محذوف لظهوره: أي أعظم درجة عند الله من أصحاب السقاية والعمارة الذين آمنوا ولم يهاجروا ولم يجاهدوا الجهاد الكثير الذي جاهده المسلمون أيام بقاء أولئك في الكفر، والمقصود تفضيل خصالهم.
والدرجة تقدّمت عند قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في سورة البقرة [228]. وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في أوائل الأنفال [4]. وهي في كل ذلك مستعارة لرفع المقدار. و {عِنْدَ اللَّهِ} إشارة إلى أنّ رفعة مقدارهم رفعة رضى من الله وتفضيل بالتشريف، لأن أصل (عند) أنّها ظرف للقرب.
وجملة {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ} معطوفة على {أَعْظَمُ دَرَجَةً} أي: أعظم وهم أصحاب الفوز. وتعريف المسند باللام مفيد للقصر، وهو قصر ادعائي للمبالغة في عظم فوزهم حتى إن فوز غيرهم بالنسبة إلى فوزهم يعد كالمعدوم.
والإتيان باسم الإشارة للتنبيه على أنهم استحقوا الفوز لأجل تلك الأوصاف التي ميزتهم: وهي الإيمان والهجرة والجهاد بالأموال والأنفس.
[21،22] {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ, خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
بيان للدرجة العظيمة التي في قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:20] فتلك الدرجة
هي عناية الله تعالى بهم بإدخال المسرة عليهم، وتحقيق فوزهم، وتعريفهم برضوانه عليهم، ورحمته بهم، وبما أعد لهم من النعيم الدائم. ومجموع هذه الأمور لم يمنحه غيرهم من أهل السقاية والعمارة، الذين وإن صلحوا لأن ينالوا بعض هذه المزايا فهم لم ينالوا جميعها.
والتبشير: الإخبار بخير يحصل للمخبر لم يكن عالما به.
فإسناد التبشير إلى اسم الجلالة بصيغة المضارع، المفيد للتجدّد، مؤذن بتعاقب الخيرات عليهم، وتجدّد إدخال السرور بذلك لهم، لأّن تجدد التبشير يؤذن بأن المبشّر به شيء لم يكن معلوما للمبشّر (بفتح الشين) وإلاّ لكان الإخبار به تحصيلا للحاصل.
وكون المسند إليه لفظ الربّ، دون غيره ممّا يدلّ على الخالق سبحانه، إيماء إلى الرحمة بهم والعناية: لأنّ معنى الربوبية يرجع إلى تدبير المربوب والرفق به واللطف به، ولتحصل به الإضافة إلى ضميرهم إضافة تشريف.
وتقدّمت الرحمة في قوله: {الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:1].
والرضوان – بكسر - الراء وبضمها - : الرضا الكامل الشديد، لأنّ هذه الصيغة تشعر بالمبالغة مثل الغفران والشكران والعصيان.
والجنّات تقدّم الكلام عليها في ذكر الجنة في سورة البقرة، وجمعها باعتبار مراتبها وأنواعها وأنواع النعيم فيها.
والنعيم: ما به التذاذ النفس باللذات المحسوسة، وهو أخص من النعمة. قال تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الإنفطار:13] وقال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:8].
والمقيم المستمّر، استعيرت الإقامة للدوام والاستمرار.
والتنكير في {بِرَحْمَةٍ، وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ، وَنَعِيمٌ} للتعظيم، بقرينة المقام، وقرينة قوله: {مِنْهُ} وقرينة كون تلك مبشرّاً بها.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} تذييل وتنويه بشأن المؤمنين المهاجرين المجاهدين لأّن مضمون هذه الجملة يعمّ مضمون ما قبلها وغيره، وفي هذا التذييل إفادة أن ما ذكر من عظيم درجات المؤمنين المهاجرين المجاهدين هو بعض ما عند الله من
الخيرات فيحصل من ذلك الترغيب في الازدياد من الأعمال الصالحة ليزدادوا رفعة عند ربهم، كما قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه – "ما على من دعي من جميع تلك الأبواب من ضرورة".
والأجر: العوض المعطى على عمل، وتقدم في قوله: {إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} في سورة العقود[5].
[23] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} .
استئناف ابتدائي لافتتاح غرض آخر وهو تقريع المنافقين ومن يواليهم، فإنّه لماّ كان أول السورة في تخطيط طريقة معاملة المظهرين للكفر، لا جرم تهيّأ المتام لمثل ذلك بالنسبة إلى من أبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان: المنافقين من أهل المدينة ومن بقايا قبائل العرب، ممن عرفوا بذلك، أو لم يعرفوا وأطلع الله عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، وحذّر المؤمنين المطلّعين عليهم من بطانتهم وذوي قرابتهم ومخالطتهم، وأكثر ما كان ذلك في أهل المدينة لأنّهم الذين كان معظمهم مؤمنين خلصا، وكانت من بينهم بقية من المنافقين وهم من ذوي قرابتهم، ولذلك افتتح الخطاب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} : إشعاراً بأنّ ما سيلقى إليهم من الوصايا هو من مقتضيات الإيمان وشعاره.
وقد أسفرت غزوة تبوك التي نزلت عقبها هذه السورة عن بقاء بقية من النفاق في أهل المدينة والأعراب المجاورين لها كما في قوله تعالى: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنْ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} [التوبة:90] – وقوله- {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة:101] ونظائرهما من الآيات.
روى الطبري عن مجاهد، والواحدي عن الكلبي أنهّم لماّ أمروا بالهجرة وقال العبّاس: أنا أسقي الحاج، وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا حاجب الكعبة، فلا نهاجر، تعلق بعض الأزواج والأبناء ببعض المؤمنين فقالوا "أتضيّعوننا" فرقّوا لهم وجلسوا معهم، فنزلت هذه الآية.
ومعنى {اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ} أحبّوه حبّاً متمكّناً. فالسين والتاء للتأكيد، مثل ما في استقام واستبشر.
حذر الله المؤمنين من موالاة من استحبّوا الكفر على الإيمان، في ظاهر أمرهم أو باطنه، إذا اطّلعوا عليهم وبدت عليهم أمارات ذلك بما ذكر من صفاتهم في هذه السورة، وجعل التحذير من أولئك بخصوص، كونهم آباء وإخواناً تنبيهاً على أقصى الجدارة بالولاية ليعلم بفحوى الخطاب أنّ من دونهم أولى بحكم النهي. ولم يذكر الأبناء والأزواج هنا لأنّهم تابعون فلا يقعدون بعد متبوعيهم.
وقوله: {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ} أريد به الظالمون انفسهم لأنهم وقعوا فيما نهاهم الله، فاستحقّوا العقاب فظلموا أنفسهم بتسبّب العذاب لها، فالظلم إذن بمعناه اللغوي وليس مرادا به الشرك. وصيغة الحصر للمبالغة بمعنى أنّ ظلم غيرهم كلا ظلم بالنسبة لعظمة ظلمهم. ويجوز أن يكون هم {الظَّالِمُونَ} عائداً إلى ما عاد إليه ضمير النصب في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} أي إلى الآباء والإخوان الذين استحبّوا الكفر على الإيمان، والمعنى ومن يتولهّم فقد تولّى الظالمين فيكون الظلم على هذا مرادا به الشرك، كما هو الكثير في إطلاقه في القرآن.
والإتيان باسم الإشارة لزيادة تمييز هؤلاء أو هؤلاء، وللتنبيه على أن جدارتهم بالحكم المذكور بعد الإشارة كانت لأجل تلك الصفات أعني استحباب الكفر على الإيمان.
[24] {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباب المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين، ومن الأسباب التي تتعلّق بها نفوس الناس فيحول تعلّقهم بها بينهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام، فلذلك ذكر الأبناء هنا لأنّ التّعلق بهم أقوى من التعلّق بالإخوان، وذكر غيرهم من قريب القرابة أيضا.
وابتداء الخطاب بـ {قُلْ} يشير إلى غلظه والتوبيخ به.
والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين: المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشك وهو {إِنْ} ويفهم منه أنّ
المسترسلين في ذلك الملابسين له هم أهل النفاق، فهم المعرّض لهم بالتهديد في قوله: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} .
وقد جمعت هذه الآية أصنافا من العلاقات وذويها، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها، فإذا كان الثبات على الإيمان يجر إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضا إذا اختلفوا في الدين، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو، وكالأموال والتجارة التي تصد عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله. وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصده إلفها عن الغزو. فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تجر إليه تلك العلائق وجب على المؤمن دحضها وإرضاء ربّه.
وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب {أَحَبَّ} لأنّ التفضيل في المحبة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مسبّبا على تقديم محبة تلك العلائق على محبة الله، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير.
وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم: تنويها بشأنه، ولأن ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف، جعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلف عنها كثير من المنافقين وبعض المسلمين.
و(العشيرة) الأقارب الأدنون، وكأنه مشتق من العشرة وهي الخلطة والصحبة.
وقرأ الجمهور {وَعَشِيرَتُكُمْ} - بصيغة المفرد - وقرأه أبو بكر عن عاصم {وَعَشِيرَتُكُمْ} - جمع عشيرة - ووجهه: أنّ لكلّ واحد من المخاطبين عشيرة، وعن أبي الحسن الأخفش: "إنّما تجمع العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عشيرات"، وهذه دعوى منه، والقراءة رواية فهي تدفع دعواه.
والاقتراف: الاكتساب، وهو مشتقّ من قارف إذا قارب الشيء.
والكساد، قلّة التبايع وهو ضد الرّواج والنّفاق، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم، وبالانقطاع عن الاتّجار أيام الجهاد.
وجعل التفضيل في المحبّة بين هذه الأصناف وبين محبّة الله ورسوله والجهاد: لأنّ
تفضيل محبّة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف، فإيثار هذه الأشياء على محبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبّون الكفر، وإلى القعود عن الجهاد.
والتربّص: الانتظار، وهذا أمر تهديد لأنّ المراد انتظار الشرّ. وهو المراد بقوله: {حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبة الأقارب والأموال والمساكن، على محبة الله ورسوله والجهاد.
والأمر: اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهدّدين كلّ مذهب محتمل، فأمر الله: يحتمل أن يكون العذاب أو القتل أو نحوهما، ومن فسّر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل لأنّ هذه السورة نزلت بعد الفتح.
وجملة {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} تذييل، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين.
[25] {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} .
لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5]، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرّجا بإبطال حرمة عهدهم، لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قدر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك: اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمّهم بإخراج الرسول - عليه الصلاة والسلام - من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره، وأن في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين. فالكلام استئناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق.
وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه: من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ
آثروا محبته على محبّة علائقهم الدنيوية.
وأكد الكلام ب {قَدْ} لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر.
و {مَوَاطِنَ} : جمع موطن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة. ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة.
{وَيَوْمَ} معطوف على الجار والمجرور من قوله: {فِي مَوَاطِنَ} فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو {نَصَرَكُمُ} والتقدير: ونصركم يوم حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلما أضيف اليوم إلى اسم مكان علم أنّه موطن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنه لو لم يعطف لتوهم أن المواطن كلها في يوم حنين، وليس هذا المراد. ولهذا فالتقدير: في مواطن كثيرة وأيام كثيرة منها موطن حنين ويوم حنين.
وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب: لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عاد إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله - عليه الصلاة والسلام - وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفا في قوله تعالى: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] ليتنبّهوا إلى أن هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لما خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبة الجهاد على محبة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضدان ولذلك كان موقع قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} بديعا لأنه تنبيه على خطئهم في الأدب مع الله المناسب لمقامهم أي: ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.
و {حُنَيْنٍ} اسم واد بين مكة والطائف قرب ذي المجاز، كانت فيه وقعة عظيمة عقب فتح مكة بين المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا اثني عشر ألفا، وبين هوازن وثقيف وألفا فهما، إذ نهضوا لقتال النبي صلى الله عليه وسلم حمية وغضبا لهزيمة قريش ولفتح مكة، وكان على هوازن مالك بن عوف، أخو بني نصر، وعلى ثقيف عبد ياليل بن عمرو الثقفي، وكانوا في عدد كثير وساروا إلى مكة فخرج إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين فقال المسلمون: لن نغلب اليوم من قلة، ووثقوا بالنصر لقوتهم، فحصلت لهم هزيمة عند أول اللقاء كانت
عتاًباً إلهيا على نسيانهم التوكل على الله في النصر، واعتمادهم على كثرتهم، وذلك روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع قول بعض المسلمين "لن نغلب من قلة" ساءه ذلك، فإنهم لما هبطوا وادي حنين كان الأعداء قد كمنوا لهم في شعابه وأحنائه، فما راع المسلمين وهم منحدرون في الوادي إلا كتائب العدو وقد شدّت عليهم وقيل: إنّ المسلمين حملوا على العدوّ فانهزم العدو فلحقوهم يغنمون منهم، وكانت هوازن قوما رماة فاكثبوا المسلمين بالسهام فأدبر المسلمون راجعين لا يلوي أحد على أحد، وتفرّقوا في الوادي، وتطاول عليهم المشركون ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت في الجهة اليمنى من الوادي ومعه عشرة من المهاجرين والأنصار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم العباس عمه أن يصرخ في الناس: يا أصحاب الشجرة - أو السمرة - يعني أهل ربيعة الرضوان - يا معشر المهاجرين - يا أصحاب سورة البقرة يعني الأنصار - هلموا إلي، فاجتمع إليه مائة، وقاتلوا هوازن مع من بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم واجتلد الناس، وتراجع بقية المنهزمين واشتد القتال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الآن حمي الوطيس" فكانت الدائرة على المشركين وهزموا شر هزيمة وغنمت أموالهم وسبيت نساؤهم.
فذلك قوله تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لما اشتد عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدو عنهم، بحال من يرى الأرض الواسعة ضيّقة.
فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله: {بِمَا رَحُبَتْ} استعير {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} استعارة تمثيلية تمثيلا لحال من لا يستطيع الخلاص من شدة بسبب اختلال قوة تفكيره، بحال من هو في مكان ضيق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه.
فالباء للملابسة، و {ماَ} مصدرية، والتقدير: ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها: أي في حالة كونها لا ضيق فيها وهذا المعنى كقول الطرماح ابن حكيم:
ملأت عليه الأرض حتى كأنها ... من الضيق في عينيه كفة حابل
قال الأعلم "أي من الذعر" هو مأخوذ من قول الآخر:
كأن فجاج الأرض وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
وهذا أحسن من قول المفسرين أن معنى {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} لم تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرون إليه فكأن الأرض ضاقت عليكم، ومنهم من أجمل فقال: أي لشدة الحال وصعوبتها.
وموقع {ثُم} في قوله: {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} موقع التراخي الرتبي، أي: وأعظم مما نالكم من الشر أن وليتم مدبرين.
والتولي: الرجوع، و {مُدْبِرِينَ} حال: إما مؤكدة لمعنى {وَلَّيْتُمْ} أو أريد بها إدبار أخص من التولي، لأن التولي مطلق يكون للهروب، ويكون للفر في حيل الحروب، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولي اصطلاحا حربيا.
[26 ]{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} .
عطف على قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25].
و {ثُمَّ} دالّة على التراخي الرتبي فإن نزول السكينة ونزول الملائكة أعظم من النصر الأول يوم حنين، على أن التراخي الزمني مراد؛ تنزيلا لعظم الشدة وهول المصيبة منزلة طول مدتها، فإن أزمان الشدة تخيل طويلة وإن قصرت.
والسكينة: الثبات واطمئنان النفس وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة البقرة [248]، وتعليقها بإنزال الله، وإضافتها إلى ضميره: تنويه بشأنها وبركتها، وإشارة إلى أنها سكينة خارقة للعادة ليست لها أسباب ومقدمات ظاهرة، وإنما حصلت بمحض تقدير الله وتكوينه أنفا كرامة لنبيه صلى الله عليه وسلم وإجابة لندائه الناس، ولذلك قدم ذكر الرسول قبل ذكر المؤمنين.
وإعادة حرف {عَلَى} بعد حرف العطف: تنبيه على تجديد تعليق الفعل بالمجرور الثاني للإيماء إلى التفاوت بين السكينتين: فسكينة الرسول عليه الصلاة والسلام سكينة اطمئنان على المسلمين الذين معه وثقة بالنصر، وسكينة المؤمنين سكينة ثبات وشجاعة بعد الجزع والخوف.
والجنود جمع جند. والجند اسم جمع لا واحد له من لفظه، وهو الجماعة المهيّئة
للحرب، وواحده بياء النسب: جندي، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة[249]. وقد يطلق الجند على الأمة العظيمة ذات القوة، كما في قوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} في سورة البروج [17 ،18]. والمراد بالجنود هنا جماعات من الملائكة موكلون بهزيمة المشركين كما دل عليه فعل أنزل، أي أرسلها الله لنصرة المؤمنين وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، ولذلك قال: {لَمْ تَرَوْهَا} ولكون الملائكة ملائكة النصر أطلق عليها اسم الجنود.
وتعذيبه الذين كفروا: هو تعذيب القتل والأسر والسبي.
والإشارة ب {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} إلى العذاب المأخوذ من {عَذَّبَ} .
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{ثُمَّ} للتراخي الرتبي، عطف على جملة {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلى قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26]. وهذا إشارة إلى إسلام هوازن بعد تلك الهزيمة فإنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمين تائبين، وسألوه أن يرد إليهم سيبهم وغنائمهم، فذلك أكبر منة في نصر المسلمين إذ أصبح الجند العدو لهم مسلمين معهم، لا يخافونهم بعد ذلك اليوم.
والمعنى: ثم تاب الله عليهم، أي على الذين أسلموا منهم فقوله: {يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} دليل المعطوف بثم ولذلك أتي بالمضارع في قوله: {يَتُوبُ اللَّهُ} دون الفعل الماضي: لأن المقصود ما يشمل توبة هوازن وتوبة غيرهم، للإشارة إلى إفادة تجدد التوبة على كل من تاب إلى الله لا يختص بها هوازن فتوبته على هوازن قد عرفها المسلمون، فأعلموا بأن الله يعامل بمثل ذلك كل من ندم وتاب، فالمعنى: ثم تاب الله عليهم ويتوب الله على من يشاء.
وجملة: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } تذييل للكلام لإفادة أن المغفرة من شأنه تعالى، وأنه رحيم بعباده إن أنابوا إليه وتركوا الإشراك به.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} .
استئناف ابتدائي للرجوع إلى غرض إقصاء المشركين عن المسجد الحرام المفاد بقوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ} [التوبة:17] الآية، جيء به لتأكيد الأمر بإبعادهم عن المسجد الحرام مع تعليله بعلة أخرى تقتضي إبعادهم عنه: وهي أنهم نجس، فقد علل فيما مضى بأنهم شاهدون على أنفسهم بالكفر، فليسوا أهلا لتعمير المسجد المبني للتوحيد، وعلل هنا بأنهم نجس فلا يعمروا المسجد لطهارته.
و {نَجَسٌ} صفة مشبهة، اسم للشيء الذي النجاسة صفة ملازمة له، وقد أنيط وصف النجاسة بهم بصفة الإشراك، فعلمنا أنها نجاسة معنوية نفسانية وليست نجاسة ذاتية.
والنجاسة المعنوية: هي اعتبار صاحب وصف من الأوصاف محقرا متجنبا من الناس فلا يكون أهلا لفضل ما دام متلبسا بالصفة التي جعلته كذلك، فالمشرك نجس لأجل عقيدة إشراكه، وقد يكون جسده نظيفا مطيبا لا يستقذر، وقد يكون مع ذلك مستقذر الجسد ملطخا بالنجاسات لأن دينه لا يطلب منه التطهر، ولكن تنظفهم يختلف باختلاف عوائدهم وبيئتهم. والمقصود من هذا الوصف لهم في الإسلام تحقيرهم وتبعيدهم عن مجامع الخبر، ولا شك أن خباثة الاعتقاد أدنى بصاحبها إلى التحقير من قذارة الذات، ولذلك أوجب الغسل على المشرك إذا أسلم انخلاعا عن تلك القذارة المعنوية بالطهارة الحسية لإزالة خباثة نفسه، وان طهارة الحدث لقريب من هذا.
وقد فرّع على نجاستهم بالشرك المنع من أن يقربوا المسجد الحرام، أي المنع من حضور موسم الحجّ بعد عامهم هذا.
والإشارة إلى العام الذي نزلت فيه الآية وهو عام تسعة من الهجرة، فقد حضر المشركون موسم الحج فيه وأعلن لهم فيه أنهم لا يعودون إلى الحج بعد ذلك العام، وإنما أمهلوا إلى بقية العام لأنهم قد حصلوا في الموسم، والرجوع إلى إفاقهم متفاوت "فأريد من العام موسم الحج، وإلا فإن نهاية العام بانسلاخ ذي الحجة وهم قد أمهلوا إلى نهاية المحرم بقوله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2].
وإضافة (العام) إلى ضمير (هم) لمزيد اختصاصهم بحكم هائل في ذلك العام كقول أبي الطيب:
فإن كان أعجبكم عامكم ... فعودوا إلى مصر في القابل
وصيغة الحصر في قوله: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} لإفادة نفي التردد في اعتبارهم نجسا، فهو للمبالغة في اتصافهم بالنجاسة حتى كأنهم لا وصف لهم إلا النجسية.
ووصف (العام) باسم الإشارة لزيادة تمييزه وبيانه.
وقوله: {فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ} ظاهره نهي للمشركين عن القرب من المسجد الحرام.
ومواجهة المؤمنين بذلك تقتضي نهي المسلمين عن أن يقرب المشركون المسجد الحرام.
جعل النهي في صورة نهي المشركين عن ذلك مبالغة في نهي المؤمنين حين جعلوا مكلفين بانكفاف المشركين عن الاقتراب من المسجد الحرام من باب قول العرب: "لا أرينك ههنا" فليس النهي للمشركين على ظاهره.
والمقصود من النهي عن اقترابهم من المسجد الحرام النهي عن حضورهم الحج لأن مناسك الحج كلها تتقدمها زيارة المسجد الحرام وتعقبها كذلك، ولذلك لما نزلت "براءة" أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بأن ينادي في الموسم أن لا يحج بعد العام مشرك وقرينة ذلك توقيت ابتداء النهي بما بعد عامهم الحاضر. فدل على أن النهي منظور فيه إلى عمل يكمل مع اقتراب اكتمال العام وذلك هو الحج. ولولا إرادة ذلك لما كان في توقيت النهي عن اقتراب المسجد بانتهاء العام حكمة ولكان النهي على الفور.
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
عطف على جملة النهي. والمقصود من هذه الجملة: وعد المؤمنين بأن يغنيهم الله عن المنافع التي تأتيهم من المشركين حين كانوا يفدون إلى الحج فينفقون ويهدون الهدايا فتعود منهم منافع على أهل مكة وما حولها، وقد أصبح أهلها مسلمين فلا جرم أن ما يرد إليها من رزق يعود على المؤمنين.
والعيلة: الاحتياج والفقر أي إن خطر في نفوسكم خوف الفقر من انقطاع الإمداد عنكم بمنع قبائل كثيرة من الحج فإن الله سيغنيكم عن ذلك. وقد أغناهم الله بأن هدى للإسلام أهل تبالة وجرش من بلاد اليمن، فأسلموا عقب ذلك، وكانت بلادهم بلاد خصب وزرع فحملوا إلى مكة الطعام والميرة، وأسلم أيضا أهل جدة وبلدهم مرفأ ترد إليه الأقوات من مصر وغيرها، فحملوا الطعام إلى مكة، وأسلم أهل صنعاء من اليمن، وبلدهم تأتيه السفن من أقاليم كثيرة من الهند وغيرها.
وقوله: {إِنْ شَاءَ} يفتح لهم باب الرجاء مع التضرع إلى الله في تحقيق وعده لأنه يفعل ما يشاء.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} . تعليل لقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي أن الله يغنيكم لأنه يعلم ما لكم من المنافع من وفادة القبائل، فلما منعكم من تمكينهم من الحج لم يكن تاركا منفعتكم فقدر غناكم عنهم بوسائل أخرى علمها وأحكم تدبيرها.
[29] {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} .
الظاهر أن هذه الآية استئناف ابتدائي لا تتفرع على التي قبلها، فالكلام انتقال من غرض نبذ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام، وكانوا يحسبون أن في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدي، للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلما أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوما فيوما، واستقل أمره بالمدينة، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحنه نحو المسلمين، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها.
ثم لما اكتمل نصر الإسلام بفتح مكة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرقه إليهم، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم، فأخذوا يستعدون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسان سادة بلاد الشام في ملك الروم. ففي "صحيح البخاري" عن عمر بن الخطاب أنه قال: "كان لي صاحب من الأنصار إذا غبت أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوف ملكا من ملوك غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسير إلينا وأنهم ينعلون الخيل لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدق الباب فقال: افتح افتح. فقلت: أجاء الغساني. قال: بل أشد من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث.
فلا جرم لما أمن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة
والنضير وقد هزموا وكفى الله المسلمين بأسهم وأورثهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام.
وعن مجاهد: أن هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أن السورة نزلت بعد تبوك.
و {مِنْ} بيانية وهي تبين الموصول الذي قبلها.
وظاهر الآية أن القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول، وأن البيان الواقع بعد الصلة بقوله: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحب تلك الصلات، فيقتضي أن الفريق المأمور بقتاله فريق واحد، انتفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر، وتحريم ما حرم الله، والتدين بدين الحق. ولم يعرف أهل الكتاب بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء.
وبهذا الاعتبار تحير المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأولوها بأن اليهود والنصارى، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنهم ما أمنوا به، إذ أثبت اليهود الجسمية لله تعالى و قالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} . وقال كثير منهم: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30].
وأثبت النصارى تعدد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحق، وأن قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء: كقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً} [البقرة:80] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر. وتكلف المفسرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوع وذلك مبسوط في تفسير الفخر وكله تعسفات.
والذي أراه في تفسير هذه الآية أن المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمت ولكنها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهم أحد أن الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين.
فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} .
وأما قوله: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} - إلى قوله - {وَرَسُولُهُ}
فإدماج. فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون شيئا مما حرم الله ورسوله لأنهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرمون ما حرم الله في دينهم ولكنهم لا يدينون دين الحق وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس(1) فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أمم المعروف من العالم يومئذ، فقد كانت الروم نصارى، وكان في العرب نصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبكر، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبكر والبحرين، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأن الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم.
ولا تحسبنّ أن عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكل ما صدق عليه اسم الموصول، فإن الواو لا تقيد إلا مطلق الجمع في الحكم فإن اسم الموصول قد يكون مرادا به واحد فيكون كالمعهود باللام، وقد يكون المراد به جنسا أو أجناسا مما يثبت له معنى الصلة أو الصلات، على أن حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا، وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [الفرقان:63-64]. فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختص الماصدق على
ـــــــ
(1) المجوس أتباع(زرادشت) صاحب الدين الذي ظهر بفارس في السابع قبل المسيح. وهم يؤمنون بإلهين اثنين إله الخير واسمه (هرمز) وإله الشر واسمه (أهرمز)، وبعضهم يقول إله النور وإله الظلمة. وقد عبدوا النار وأنكروا البعث،وزعموا أن جزاء النفوس يكون بطريقة التجانس للأرواح بأنّ تظهر الروح الصالحة في الذوات الصالحة والروح الشريرة في الحيوانات الذميمة.
طائفة خاصّة بل العبرة بالاتصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى، والتعويل في مثل هذا على القرائن.
وقوله: {مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} بيان لأقرب صلة منه وهي صلة {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأن البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بيانا لجملة الصلة على أن القرينة ترده إلى مرده. وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحق الذي جاء به كتابهم، وإنما دانوا بما حرفوا منه، وما أنكروا منه، وما ألصقوا به، ولو دانوا دين الحق لاتبعوا الإسلام، لأن كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتباع النبي الآتي من بعد {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران:81-83].
وقوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} . بمعنى لا يجعلون حراما ما حرمه الله فإن مادة فعل تستعمل في جعل المفعول متصفا بمصدر الفعل، فيفيد قوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنهم يجعلونه مباحا. والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنهم يستبيحون ما حرمه الله على عباده ولما كان ما حرمه الله قبيحا منكرا لقوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} لا جرم أن الذين يستبيحونه دلوا على فساد عقولهم فكانوا أهلا لردعهم عن باطلهم على أن ما حرم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرمون ذلك.
والمراد (برسوله) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأن الله ما حرم على لسان رسوله إلا ما هو حقيق بالتحريم.
وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأن يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائل العرب الذين يستظلون بنصر إحدى هاتين الأمتين الذين تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشام حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
و {حَتَّى} غاية للقتال، أي يستمر قتالكم إياهم إلى أن يعطوا الجزية.
وضمير {يُعْطُوا} عائد إلى {أُوتُوا الْكِتَابَ} .
والجزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض، بنيت على وزن اسم الهيئة، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا، فلذلك كان الظاهر هذا الاسم أنه معرب عن كلمة (كزيت) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسرون عن الخوارزمي، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في "مفردات القرآن". ولم يذكروها في "معرب القرآن" لوقوع التردد في ذلك لأنهم وجدوا مادة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شك أنها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عرفت في هذه الآية.
وقوله: {عَنْ يَدٍ} تأكيد لمعنى {يُعْطُوا} للتنصيص على الإعطاء و {عَنْ} فيه للمجاوزة. أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها، ومحل المجرور الحال من الجزية. والمراد يد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب أعطى بيده إذا انقاد.
وجملة {وَهُمْ صَاغِرُونَ} حال من ضمير يعطوا.
والصاغر اسم فاعل من صغر - بكسر الغين - صغرا بالتحريك وصغارا. إذا ذل، وتقدم ذكر الصغار في قوله تعالى: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} في سورة الأنعام[124]، أي وهم أذلاء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد: والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيبا لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتباعهم دين الإسلام. وقد دلت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم، وخالف ابن وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب. وقال لا تقبل منهم جزية ولابد من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب، دون مشركي العرب: لأن حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] - وقوله - {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ} [التوبوة:11] – وقوله - {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة:15]. ولأنهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأن الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
[30] {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} .
عطف على جملة {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29] والتقدير: ويقول اليهود منهم عزير ابن الله، ويقول النصارى منهم المسيح ابن الله، تشنيعا على قائليهما من أهل الكتاب بأنهم بلغوا في الكفر غايته حتى ساووا المشركين.
وعزير: اسم حبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي، واسمه في العبرانية (عزرا) - بكسر العين المهملة - بن (سرايا) من سبط اللاويين، كان حافظا للتوراة. وقد تفضل عليه (كورش) ملك فارس فأطلقه من الأسر، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه، وذلك في سنة 451 قبل المسيح، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجددوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حفظه، فكان اليهود يعظمون عزرا إلى حد أن أدعى عامتهم أن عزرا ابن الله، غلوا منهم في تقديسه، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة، وتبعهم كثير من عامتهم. وأحسب أن الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم {اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف:138].
قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعا لأن سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به، وقد ذكر اسم عزرا في الآية بصيغة التصغير، فيحتمل أنه لما عرب عرب بصيغة تشبه صيغة التصغير، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أن تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيبا فيه.
قرأ الجمهور {عُزَيْرٌ} - ممنوعا من التنوين للعجمة - وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم الكسائي ويعقوب: بالتنوين على اعتباره عربيا بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأن التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من "دلائل الإعجاز"، وتأول قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري.
وأما قول النصارى ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور. وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ} في سورة البقرة [87]. وعند قوله
تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} في سورة آل عمران [45].
والإشارة ب {ذَلِكَ} إلى القول المستفاد من {قَالَتْ الْيَهُودُ - وَقَالَتْ النَّصَارَى} . والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه، زيادة في تشنيعه عند المسلمين.
و {بِأَفْوَاهِهِمْ} حال من القول، والمراد أنه قول لا يعدو الوجود في اللسان وليس له ما يحققه في الواقع، وهذا كناية عن كونه كاذبا كقوله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف:5]. وفي هذا أيضا إلزام لهم بهذا القول، وسد باب تنصلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم.
والمضاهاة: المشابهة، وإسنادها إلى القائلين: على تقدير مضاف ظاهر من كلام، أي يضاهي قولهم.
و {الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} هم المشركون: من العرب، ومن اليونان، وغيرهم، وكونهم من قبل النصارى ظاهر، وأما كونهم من قبل اليهود: فلأن اعتقاد بنوة عزير طارئ في اليهود وليس من عقيدة قدمائهم.
وجملة {قَاتَلَهُمْ اللَّهُ} دعاء مستعمل في التعجيب، وهو مركب يستعمل في التعجب من عمل شنيع، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء: أي قتلهم الله قتلا شديدا. وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب.
وجملة {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} مستأنفة. والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتباع الباطل، حتى شبه المكان الذي يصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان، ومعنى {يُؤْفَكُونَ} يصرفون. يقال: أفكه يأفكه إذا صرفه، قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات:9] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادة لأن الكاذب يصرف السامع عن الصدق، وقد تقدم ذلك غير مرة.
[31] {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
الجملة تقرير لمضمون جملة {وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30] ليبنى على التقرير زيادة التشنيع بقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا
وَاحِدًا} الخ، فوزان هذه الجملة وزان جملة {اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف:148] بعد جملة {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} [الأعراف:148]. والضمير لليهود والنصارى.
والأحبار جمع حبر - بفتح الحاء - وهو العالم من علماء اليهود.
الرهبان اسم جمع لراهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية، وإنما خص الحبر بعالم اليهود لأن عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة فهم علماء في الدين، وخص الراهب بعظيم دين النصرانية لأن دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة.
ومعنى اتخاذهم هؤلاء أربابا أن اليهود ادعوا لبعضهم بنوة الله تعالى وذلك تأليه، وأن النصارى أشد منهم في ذلك إذ كانوا يسجدون لصور عظماء ملتهم مثل صورة مريم، وصور الحواريين، وصورة يحيى بن زكرياء، والسجود من شعار الربوبية، وكانوا يستنصرون بهم في حروبهم ولا يستنصرون بالله.
وهذا حال كثير من طوائفهم وفرقهم، ولأنّهم كانوا يأخذون بأقوال أحبارهم ورهبانهم المخالفة لما هو معلوم بالضرورة انه من الدين، فكانوا يعتقدون أن أحبارهم ورهبانهم يحللون ما حرم الله، ويحرمون ما أحل الله، وهذا مطرد في جميع أهل الدينين، ولذلك أفحم به النبي صلى الله عليه وسلم عديا بن حاتم لما وفد عليه قبيل إسلامه لما سمع قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وقال عدي: لسنا نعبدهم فقال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه - فقلت: بلى - قال: فتلك عبادتهم" فحصل من مجموع أقوال اليهود والنصارى أنهم جعلوا لبعض أحبارهم ورهبانهم مرتبة الربوبية في اعتقادهم فكانت الشناعة لازمة للأمتين ولو كان من بينهم من لم يقل بمقالهم كما زعم عدي بن حاتم فإن الأمة تؤاخذ بما يصدر من أفرادها إذا أقرته ولم تنكره، ومعنى اتخاذهم أربابا من دون الله أنهم اتخذوهم أربابا دون أن يفردوا الله بالوحدانية، وتخصيص المسيح بالذكر لأن تأليه النصارى إياه أشنع وأشهر.
وجملة {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} في موضع الحال من ضمير {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ} ، وهي محط زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنهم لا عذر لهم فيما زعموا، لأن وصايا كتب الملتين طافحة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية.
وجملة {لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} صفة ثانية ل {إِلَهًا وَاحِدًا} .
وجملة {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} مستأنفة لقصد التنزيه والتبرئ مما افتروا على الله تعالى، ولذلك سمي ذلك إشراكا.
[32] {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
استئناف ابتدائي لزيادة إثارة غيظ المسلمين على أهل الكتاب، بكشف ما يضمرونه للإسلام من الممالاة، والتألب على مناواة الدين، حين تحققوا أنه في انتشار وظهور فثار حسدهم وخشوا ظهور فضله على دينهم، فالضمير في قوله: {يُرِيدُونَ} عائد إلى {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] والإطفاء إبطال الإسراج وإزالة النور بنفخ عليه، أو هبوب رياح، أو إراقة مياه على الشيء المستنير من سراج أو جمر.
والنور الضوء وقد تقدم عند قوله تعالى: {نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} في سورة الأنعام [91]. والكلام تمثيل لحالهم في محاولة تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم، وصد الناس عن اتباع الإسلام، وإعانة المناوئين للإسلام بالقول والإرجاف، والتحريض على المقاومة. والانضمام إلى صفوف الأعداء في الحروب، ومحاولة نصارى الشام الهجوم على المدينة بحال من يحاول إطفاء نور بنفخ فمه عليه، فهذا الكلام مركب مستعمل في غير ما وضع له على طريقة تشبيه الهيئة بالهيئة، ومن كمال بلاغته أنه صالح لتفكيك التشبيه بأن يشبه الإسلام وحده بالنور، ويشبه محاولو إبطاله بمريدي إطفاء النور ويشبه الإرجاف والتكذيب بالنفخ، ومن الرشاقة أن آلة النفخ وآلة التكذيب واحدة وهي الأفواه. والمثال المشهور للتمثيل الصالح لاعتباري التركيب والتفريق قول بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
ولكن التفريق في تمثيلية الآية أشد استقلالا، بخلاف بيت بشار، كما يظهر بالتأمل.
وإضافة النور إلى اسم الجلالة إشارة إلى أن محاولة إطفائه عبث وأن أصحاب تلك المحاولة لا يبلغون مرادهم.
والإباء والإباية: الامتناع من الفعل، وهو هنا تمثيل لإرادة الله تعالى إتمام ظهور الإسلام بحال من يحاوله محاول على فعل وهو يمتنع منه، لأنهم لما حاولوا طمس
الإسلام كانوا في نفس الأمر محاولين إبطال مراد الله تعالى، فكان حالهم، في نفس الأمر، كحال من يحاول من غيره فعلا وهو يأبى أن يفعله.
والاستثناء مفرغ وإن لم يسبقه نفي لأنه أجري فعل يأبى مجرى نفي الإرادة، كأنه قال: ولا يريد الله إلا أن يتم نوره، ذلك أن فعل (أبى) ونحوه فيه جانب نفي لأن إباية شيء جحد له، فقوي جانب النفي هنا لوقوعه في مقابلة قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} . فكان إباء ما يريدونه في معنى نفي إرادة الله ما أرادوه. وبذلك يظهر الفرق بين هذه الآية وبين أن يقول قائل "كرهت إلا أخاك".
وجيء بهذا التركيب هنا لشدة مماحكة أهل الكتاب وتصلبهم في دينهم، ولم يجأ به في سورة الصف[8] إذ قال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} لأنّ المنافقين كانوا يكيدون للمسلمين خفية وفي لين وتملّق.
وذكر صاحب "الكشاف" عند قوله تعالى: {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ} في قراءة الأعمش وأبي برفع {قليل} في سورة البقرة [249]: أن ارتفاع المستثنى على البدلية من ضمير {فَشَرِبُوا} على اعتبار تضمين {شَرِبُوا} معنى، فلم يطعموه إلا قليل، ميلا مع معنى الكلام.
والإتمام مؤذن بالريادة والانتشار ولذلك لم يقل: ويأبى الله إلا أن يبقي نوره.
و {لَوْ} في {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} اتّصالية، وهي تفيد المبالغة بأن ما بعدها أجدر بانتفاء ما قبلها لو كان منتفيا. والمبالغة بكراهية الكافرين ترجع إلى المبالغة بآثار تلك الكراهية، وهي التألب والتظاهر على مقاومة الدين وإبطاله. وأما مجرد كراهيتهم فلا قيمة لها عند الله تعالى حتى يبالغ بها، والكافرون هم اليهود والنصارى.
[33] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} .
بيان لجملة {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32] بأنّه أرسل رسوله بهذا الدين، فلا يريد إزالته، ولا يجعل تقديره باطلا وعبثا. وفي هذا البيان تنويه بشأن الرسول بعد التنويه بشأن الدين.
وفي قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} صيغة قصر، أي هو لا غيره أرسل رسوله بهذا
النور، فكيف يترك معانديه يطفئونه.
واجتلاب اسم الموصول: للإيماء إلى أن مضمون الصلة علة للجملة التي بنيت عليها هذه الجملة وهي جملة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32].
وعبر عن الإسلام {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} تنويها بفضله، وتعريضا بأن ما هم عليه ليس بهدى ولا حق.
وفعل الإظهار إذا عدي ب {عَلَى} كان مضمنا معنى النصر، أو التفضيل، أي لينصره على الأديان كلها، أي ليكون أشرف الأديان وأغلبها، ومنه المظاهرة أي المناصرة، وقد تقدم ذكرها آنفا عند قوله: {وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا} [التوبة:4].
فالإسلام كان أشرف الأديان: لأن معجزة القرآن، وهو معجزة تدرك بالعقل، ويستوي في إدراك إعجازها جميع العصور، ولخلو هذا الدين عن جميع العيوب في الاعتقاد والفعل، فهو خلي عن إثبات ما لا يليق بالله تعالى، وخلي عن وضع التكاليف الشاقة، وخلي عن الدعوة إلى الإعراض عن استقامة نظام العالم، وقد فصلت ذلك في الكتاب الذي سميته "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام".
وظهور الإسلام على الدين كله حصل في العالم باتباع أهل الملل إياه في سائر الأقطار، بالرغم على كراهية أقوامهم وعظماء مللهم ذلك، ومقاومتهم إياه بكل حيلة ومع ذلك فقد ظهر وعلا وبان فضله على الأديان التي جاورها وسلامته من الخرافات والأوهام التي تعلقوا بها، وما صلحت بعض أمورهم إلا فيما حاكوه من أحوال المسلمين وأسباب نهوضهم، ولا يلزم من إظهاره على الأديان أن تنقرض تلك الأديان.
و {لَوْ} في {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وصلية مثل التي في نظيرتها. وذكر المشركون هنا لأن ظهور دين الإسلام أشد حسرة عليهم من كل أمة، لأنهم الذين ابتدأوا بمعارضته وعداوته ودعوا الأمم للتألب عليه واستنصروا بهم فلم يغنوا عنهم شيئا، ولأن أتم مظاهر انتصار الإسلام كان في جزيرة العرب وهي ديار المشركين لأن الإسلام غلب عليها، وزالت منها جميع الأديان الأخرى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يبقى دينان في جزيرة العرب" فلذلك كانت كراهية المشركين ظهوره محل المبالغة في أحوال إظهاره على الدين كله كما يظهر بالتأمل.
[34] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنْ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}.
استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب، تحقيرا لهم في نفوسهم، ليكونوا أشداء عليهم في معاملتهم، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدمين: مثل عزيز، بين للمسلمين أن كثيرا من الأحبار والرهبان المتأخرين ليسوا على حال كمال، ولا يستحقون المقام الديني الذي ينتحلونه، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالئ الخاصة والعامة من أهل الكتاب، على الضلال وعلى مناواة الإسلام، وان غرضهم من ذلك حب الخاصة الاستيثار بالسيادة، وحب العامة الاستيثار بالمزية بين العرب.
وافتتاح الجملة بالنداء واقترانها بحرفي التأكيد، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته.
وتقدم ذكر الأحبار والرهبان آنفا.
وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.
والباطل ضد الحق، أي يأكلون أموال الناس أكلا ملابسا للباطل، أي أكلا لا مبرر له، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا} [الفجر:19] – وقال – {وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} في سورة البقرة [188] وقد تقدم، وكذلك الباطل تقدم هنالك.
والباطل يشمل وجوها كثيرة، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحب الحق حقه المعين له في الشريعة، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، ومنها أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف والصدقات.
وسبيل الله طريقه استعير لدينه الموصل إليه، أي إلى رضاه. والصد عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحق في خاصة النفس، وإغراء الناس بالإعراض عن ذلك. فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها، ويضللون العامة في حقيقتها حتى يعلموا بخلافها، وهم يحسبون أنهم متبعون لدينهم، ويكون ذلك أيضا بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم ويعلمون أتباع ملتهم أن الإسلام ليس بدين الحق.
ولأجل ما في الصد من معنى صد الفاعل نفسه أتت صيغة مضارعه بضم العين: اعتبارا بأنه مضاعف متعد، ولذلك لم يجيء في القرآن إلا مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنه يصد غيره، وتقدم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} في سورة الأعراف [45].
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
جملة معطوفة على جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا} والمناسبة بين الجملتين: أن كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضعهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلا لذلك، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم، وكانوا منطوين على خبائث خفية، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم، فبين الله أن تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئا من العذاب.
وأما وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة: فذلك أن هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في وقت عسرة، وكانت الحاجة إلى العدة والظهر كثيرة، كما أشارت إليه آية {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] وقد ورد في "السيرة" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله، وقد أنفق عثمان بن عفان ألف دينار ذهبا على جيش غزوة تبوك وحمل كثير من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية بـ {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ولا شك أنهم من المنافقين.
والكنز - بفتح الكاف - مصدر كنز إذا ادخر مالا، ويطلق على المال من الذهب
والفضة الذي يخزن، من إطلاق المصدر على المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
و {سَبِيلِ اللَّهِ} هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا.
فالموصول مراد به قوم معهودون يعرفون أنهم المراد من الوعيد، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنب قوما بأعيانهم.
ومعنى {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} انتفاء الإنفاق الواجب، وهو الصدقات الواجبة والنفقات الواجبة: إما وجوبا مستمرا كالزكاة، وإما وجوبا عارضا كالنفقة في الحج الواجب، والنفقة في نوائب المسلمين مما يدعو الناس إليه ولاة العدل.
والضمير المؤنث في قوله: {يُنفِقُونَهَا} عائد إلى الذهب والفضة.
والوعيد منوط بالكنز وعدم الإنفاق، فليس الكنز وحده بمتوعد عليه، وليست الآية في معرض أحكام ادخار المال، وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبل البر والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تؤد زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل {سَبِيلِ اللَّهِ} بالصدقات الواجبة، لأنه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى إدعاء أنها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية.
ووقع في "الموطأ" أن عبد الله بن عمر سئل عن الكنز، أي المذموم المتوعد عليه في آية {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} الآية ما هو فقال: هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة. وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم : "من كان عنده مال لم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه ثم يأخذ بلهزمتيه - يعني شدقيه - ثم يقول: أنا مالك أنا كنزك" فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، أي فهو بعض الكنز المذموم في الكتاب والسنة وليس كل كنز مذموما.
وشذ أبو ذر فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز، وعلى عموم الإنفاق، وحمل سبيل الله على وجوه البر، فقال بتحريم كنز المال، وكأنه تأول {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} على معنى ما يسمى عطف التفسير، أي على معنى العطف لمجرد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذر بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول: بشر الكانزين بمكاو من نار تكوى بها جباهم وجنوبهم وظهورهم، فقال له معاوية: وهو أمير الشام، في خلافة
عثمان: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذر: نزلت فيهم وفينا، واشتد قول أبي ذر على الناس ورأوه قولا لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فشكاه معاوية إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشى أبو ذر الفتنة في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله.
والفاء في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ} داخلة على خبر الموصول، لتنزيل الموصول منزلة الشرط، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر، فضمير الجمع عائد إلى {الَّذِينَ} ويجوز كون الضمير عائدا إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون. والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أن ذكر آكلي الأموال الصادين عن سبيل الله وذكر الكانزين، أمر رسوله بأن ينذر جميعهم بالعذاب، فدلت الفاء على شرط محذوف تقديره: إذا علمت أحوالهم هذه فبشرهم والتبشير مستعار للوعيد على طريقة التهكم.
[35] {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} .
انتصب {يَوْمَ يُحْمَى} على الظرفية ل {عَذَابٍ} [التوبة:34]، لما في لفظ عذاب من معنى يعذبون. وضمير {عَلَيْهَا} عائد إلى {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، بتأويلهما بالدنانير والدراهم، أو عائد إلى {أَمْوَالَ النَّاسِ} [التوبة:34]، و {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، إن كان الضمير في قوله: {فَبَشِّرْهُمْ} [التوبة:34] عائدا إلى {الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ} و {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ} [التوبة:34].
والحمي شدة الحرارة. يقال: حمي الشيء إذا أشتد حره.
والضمير المجرور بعلى عائد إلى {الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة:34]، باعتبار أنها دنانير أو دراهم، وهي متعددة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلق الغرض بالفاعل، فكأنه قيل: يوم يحمي الحامون عليها، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره: إذ هو النار التي تحمى، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث، عدي بعلى الدالة على الاستعلاء المجازي لإفادة أن الحمي تمكن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها، ثم أكد معنى التمكن بمعنى الظرفية التي في قوله: {فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فصارت الأموال محمية عليها النار وموضوعة في النار. وبإضافة النار إلى جهنم علم أن المحمي هو نار جهنم التي هي أشد نار في الحرارة فجاء تركيبا بديعا من البلاغة والمبالغة في إيجاز.
والكي: أن يوضع على الجلد جمر أو شيء مشتعل.
والجباه: جمع جبهة وهي أعلى الوجه مما يلي الرأس.
والجنوب: جمع جنب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار.
والظهور: جمع ظهر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم.
والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكي فإن تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناف من الآلام.
وسلك في التعبير عن التعميم مسلك الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم، تهويلا لشأنه، فلذلك لم يقل: فتكوى بها أجسادهم.
وكيفية إحضار تلك الدراهم والدنانير لتحمى من شؤون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في "الموطأ" و"الصحيحين" أنه يمثل له ماله شجاعا أقرع يأخذ بلهزمتيه يقول: "أنا مالك أنا كنزك" وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله، وإن كانت قد تداول أعيانها خلق كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد، ومن بلد إلى بلد، ومن عصر إلى عصر.
وجملة {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ ِلأَنفُسِكُمْ} مقول قول محذوف، وحذف القول في مثله كثير في القرآن، والإشارة إلى المحمي، وزيادة قوله: {لأَنفُسِكُمْ} للتنديم والتغليظ. ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأن الفعل الذي علل بها هو من فعل المخاطب، وهو لا يفعل شيئا لأجل نفسه إلا لأنه يريد به راحتها ونفعها، فلما آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة، بما كان أضعافا مضاعفة من ألم العذاب وجملة {فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} توبيخ وتنديم.
والفاء في {فَذُوقُوا} لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى.
والذوق مجاز في الحس بعلاقة الإطلاق، وتقدم عند قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} في سورة العقود[95].
و {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام: أي ذوقوا عذاب ما كنتم تكنزون.
وعبر بالموصولية في قوله: {مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} .
استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي، وما يتصل به من نظام العوالم السماوية، بوجه محكم لا مدخل لتحكمات الناس فيه، وليوضح تعيين الأشهر الحرم من قوله: { فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} [التوبة:5] بعد ما عقب ذلك من التفاصيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم.
والمقصود: ضبط الأشهر الحرم وإبطال ما أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسد أوقاتها، وأفضى إلى اختلاطها، وأزال حرمة ما له حرمة منها، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها.
وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها.
وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجه أسماع الناس وألبابهم إلى وعيه.
والمراد بالشهور: الشهور القمرية بقرينة المقام، لأنها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأن اختلاف أحوال القمر مساعد على اتخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال، وتاريخ الحوادث الماضية، بمجرد المشاهدة، فإن القمر كرة تابعة لنظام الأرض. قال تعالى: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] ولأن الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ، لأنها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل، وما حدثت الأشهر الشمسية وسنتها إلا بعد ظهور علم الفلك والميقات، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة،
وجعلوها حسابا لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلا بعض الفصول، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية، وقد كان الحساب الشمسي معروفا عند القبط والكلدانيين، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر، وتعيين الشمسية للأعياد، ومعلوم أن الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنها راجعة إلى التحسين، فأما ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي. فألهم الله البشر، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم، أن اتخذوا نظاما لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت، وأن جعلوه مستندا إلى مشاهدات بينة واضحة لسائر الناس، لا تنحجب عنهم إلا قليلا في قليل، ثم لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر مما خلق الله له نظاما مطردا. وذلك كواكب السماء ومنازلها، كما قال في بيان حكمة ذلك {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [يونس:5]، وأن جعلوا توقيتهم اليومي مستندا إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم، لأنهم وجدوه على نظام لا يتغير، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك، وبذلك تنظم اليوم والليلة، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمى هلالا إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شهر آخر، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدة المسماة بالشهر مرتبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كل ليلة، وبإعانة منازل ظهور القمر كل ليلة حذو شكل من النجوم سموه بالمنازل. وقد وجدوا ذلك على نظام مطرد، ثم ألهمهم فرقبوا المدة التي عاد فيها الثمر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العد وهي أوقات الفصول الأربعة، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهرا فسموا تلك المدة عاما، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهرا، لأن ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أول مرة، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعا للغلط، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم، فلما أراد الله أن يجعل الناس عبادات ومواسم وأعيادا دورية تكون مرة في كل سنة، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبنيه حج البيت كل سنة في الشهر الثاني عشر، وجعل لهم زمنا محترما بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم، فلما حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب، وإيداعه الإلهام بالتفطن لحكمتها، والتمكن من ضبط مطرد أحوالها، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها، كان ذلك كله مرادا عنده فلذلك قال: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}
فمعنى قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} : أنها كذلك في النظام الذي وضع عليه هذه الأرض التي جعلها مقر البشر باعتبار تمايز كل واحد فيها عن الآخر، فإذا تجاوزت الاثنى عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلا لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئا مكررا.
{عِنْدَ اللَّهِ} معناه في حكمه وتقديره، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد، وهو ظرف معمول ل {عِدَّةَ} أو حال من {عِدَّةَ} و {فِي كِتَابِ اللَّهِ} صفة ل {اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} .
ومعنى {فِي كِتَابِ اللَّهِ} في تقديره، وهو التقدير الذي به وجدت المقدورات، أعني تعلق القدرة بها تعلقا تنجيزيا كقوله: {كِتَابًا مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] أي قدرا محدّدا، فكتاب هنا مصدر.
بيان ذلك أنه لما خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقا لحساب الزمان كما قال {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس:5] ولذلك قال هنا {يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ف {يَوْمَ} ظرف ل {كِتَابِ اللَّهِ} بمعنى التقدير الخاص، فإنه لما خلق السماوات والأرض كان مما خلق هذا النظام المنتسب بين القمر والأرض.
ولهذا الوجه ذكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات، لأن تلك الظواهر التي للقمر، وكان بها القمر مجزءا أجزاء، منذ كونه هلالا، إلى ربعه الأول، إلى البدر، إلى الربع الثالث، إلى المحاق، وهي مقادير الأسابيع، إنما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض. ولأن المنازل التي يحل فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكتل من الكواكب، التي تبدو للعين مجتمعة، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع، ولأن طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبل أحد عشر طلوعا من أي وقت ابتدئ منه العد من أوقات الفصول، إنما هو باعتبار أحوال أرضية.
فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنتها حاصلا من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها، ولذلك ذكرت الأرض
والسماوات معا.
وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحج، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحج وذلك هلال المحرم، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شك، ألا ترى قول لبيد:
حتى إذا سلخا جمادى ستة ... جزءا فطال صيامه وصيامها
أراد جمادى الثانية فوصفه بستة لأنه الشهر السادس من السنة العربية.
وقرأ الجمهور {اثْنَا عَشَرَ} بفتح شين {عَشَرَ} وقرأه أبو جعفر {اثْنَا عَشَرَ} بسكون عين {عَشَرَ} مع مد ألف اثنا مشبعا.
والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم: ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب، إلا ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمونه رجبا، وأحسب أنهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى، ولا اعتداد بهؤلاء لأنهم شذوا كما لم يعتد بالقبيلة التي كانت تحل أشهر السنة كلها، وهي قضاعة. وقد بين إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بقوله: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} "ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان" .
وتحريم هذه الأشهر الأربعة مما شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس، وإقامة الحج، كما قال تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97].
واعلم أن تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم مما لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل، الواقعة فيه، أو المقارنة له. فتفضيل الأوقات والبقاع إنما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه، أو بإطلاع على مراده، لأن الله إذا فضلها جعلها مظان لتطلب رضاه، مثل كونها مظان إجابة الدعوات، أو مضاعفة الحسنات، كما قال تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:3] أي من عبادة ألف شهر لمن قبلنا من الأمم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" والله العليم
بالحكمة التي لأجلها فضل زمن على زمن، وفضل مكان على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شؤون وأحوال أرادها الله، فقدرها، فأشبهت الأمور الكونية، فلا يبطلها إلا إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديس السبت بالجمعة، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلا في أوقات دينية: لأن الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية، ولا يكون لها اعتبار إلا إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنة أو أمكنة أو ناس.
{ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} .
الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى المذكور: من عدة الشهور الاثني عشر، وعدة الأشهر الحرم. أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكم فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحة المعرفة.
والدين النظام المنسوب إلى الخالق الذي يدان الناس به، أي يعاملون بقوانينه. وتقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} في سورة آل عمران [19]، كما وصف بذلك في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم:30].
فكون عدة الشهور اثني عشر تحقق بأصل الخلقة لقوله عقبه {فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} .
وكون أربعة من تلك الأشهر أشهرا حرما تحقق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله: {اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ، فحصل من مجموع ذلك أن كون الشهور اثني عشر وأن منها أربعة حرما اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية.
وجملة: {اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} معترضة بين جملة {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ} وجملة {فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ}
{فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} .
تفريع على {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} فإنّها، لما كانت حرمتها مما شرعه الله، أوجب الله على الناس تعظيم حرمتها بأن يتجنّبوا الأعمال السيئة فيها.
فالضمير المجرور ب {فِي} عائد إلى الأربعة الحرم: لأنها أقرب مذكور، ولأنه أنسب بسياق التحذير من ارتكاب الظلم فيها، وإلا لكان مجرد اقتضاب بلا مناسبة، ولأن الكسائي والفراء ادعيا أن الاستعمال جرى أن يكون ضمير جمع القلة من المؤنث مثل هن كما قال {فِيهِنَّ} إن ضمير جمع الكثرة من المؤنث مثل (ها) يعاملان معاملة الواحد كما قال: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} ومعلوم أن جموع غير العاقل تعامل معاملة التأنيث، وقال الكسائي: إنه من عجائب الاستعمال العربي ولذلك يقولون فيما دون العشر من الليالي خلون وفيما فوقها "خلت". وعن ابن عباس أنه فسر ضمير فيهن بالأشهر الاثني عشر فالمعنى عنده: فلا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في جميع السنة يعنى ان حرمة الدين أعظم من حرمة الأشهر الأربعة في الجاهلية، وهذا يقتضي عدم التفرقة في ضمائر التأنيث بين {فِيْهَا} و {فِيهِنَّ} وأن الاختلاف بينهما في الآية تفنن وظلم النفس هو فعل ما نهى الله عنه وتوعد عليه، فإن فعله إلقاء بالنفس إلى العذاب، فكان ظلما للنفس قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] الآية وقال: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء:110].
والأنفس تحتمل أنها أنفس الظالمين في قوله: {فَلاَ تَظْلِمُوا} أي لا يظلم كل واحد نفسه. ووجه تخصيص المعاصي في هذه الأشهر بالنهي: أن الله جعلها مواقيت للعبادة، فإن لم يكن أحد متلبسا بالعبادة فيها فليكن غير متلبس بالمعاصي، وليس النهي عن المعاصي فيها بمقتض أن المعاصي في غير هذه الأشهر ليست منهيا عنها، بل المراد أن المعصية فيها أعظم وأن العمل الصالح فيها أكثر أجرا، ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] فإن الفسوق منهي عنه في الحج وفي غيره.
ويجوز أن يكون الظلم بمعنى الاعتداء، ويكون المراد بالأنفس أنفس غير الظالمين، وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للتنبيه على أن الأمة كالنفس من الجسد على حد قوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور:61]، أي على الناس الذين فيها على أرجح التأويلين في تلك الآية، وكقوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164] والمراد على هذا تأكيد حكم الأمن في هذه الأشهر، أي لا يعتدي أحد على آخر بالقتال كقوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:97] وإنما يستقيم هذا المعنى بالنسبة لمعاملة المسلمين مع المشركين فيكون هذا تأكيدا لمنطوق قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:2] ولمفهوم قوله: {فَإِذَا انسَلَخَ
الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة:5] وهي مقيدة بقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7] وقوله: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194]. ولذلك لا يشكل الأمر بمقاتلة الرسول عليه الصلاة والسلام هوازن أياما من ذي القعدة لأنهم ابتدأوا بقتال المسلمين قبل دخول الأشهر الحرم، فاستمرت الحرب إلى أن دخلوا في شهر ذي القعدة، وما كان ليكف القتال عند مشارفة هزيمة المشركين وهم بدأوهم أول مرة، وعلى هذا المحمل يكون حكم هذه الآية قد انتهى بانقراض المشركين من بلاد العرب بعد سنة الوفود.
والمحمل الأول للآية أخذ به الجمهور، وأخذ بالمحمل الثاني جماعة: فقال ابن المسيب، وابن شهاب، وقتادة، وعطاء الخراساني حرمت الآية القتال في الأشهر الحرم ثم نسخت بإباحة الجهاد في جميع الأوقات، فتكون هذه الآية مكملة لما بقي من مدة حرمة الأشهر الحرم، حتى يعم جميع بلاد العرب حكم الإسلام بإسلام جمهور القبائل وضرب الجزية على بعض قبائل العرب وهم النصارى واليهود. وقال عطاء ابن أبي رباح: يحرم الغزو في الأشهر الحرم إلا أن يبدأ العدو فيها بالقتال ولا نسخ في الآية.
{وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} .
أحسب أن موقع هذه الآية موقع الاحتراس من ظن أن النهي عن انتهاك الأشهر الحرم يقتضي النهي عن قتال المشركين فيها إذا بدأوا بقتال المسلمين، وبهذا يؤذن التشبيه التعليلي في قوله: {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} فيكون المعنى فلا تنتهكوا حرمة الأشهر الحرم بالمعاصي، أو باعتدائكم على أعدائكم، فإن هم بادأوكم بالقتال فقاتلوهم على نحو قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] فمقصود الكلام هو الأمر بقتال المشركين الذين يقاتلون المسلمين في الأشهر الحرم، وتعليله بأنهم يستحلون تلك الأشهر في قتالهم المسلمين.
و {كَافَّةً} كلمة تدل على العموم والشمول بمنزلة (كلّ) لا يختلف لفظها باختلاف المؤكد من أفراد وتثنية وجمع، ولا من تذكير وتأنيث، وكأنه مشتق من الكف عن استثناء بعض الأفراد، ومحلها نصب على الحال من المؤكد بها، فهي في الأول تأكيد لقوله: {الْمُشْرِكِينَ} وفي الثاني تأكيد لضمير المخاطبين، والمقصود من تعميم الذوات تعميم الأحوال لأنه تبع لعموم الذوات، أي كل فرق المشركين، فكل فريق وجد في حالة ما، وكان قد بادأ المسلمين بالقتال، فالمسلمون مأمورون بقتاله، فمن ذلك: كل فريق يكون
كذلك في الأشهر الحرم، وكلّ فريق يكون كذلك في الحرم.
والكاف في {كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ} أصلها كاف التشبيه استعيرت للتعليل بتشبيه الشيء المعلول بعلته، لأنه يقع على مثالها ومنه قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:197].
وجملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} . تأييد وضمان بالنصر عند قتالهم المشركين، لأن المعية هنا معية تأييد على العمل، وليست معية علم، إذ لا تختص معية العلم بالمتقين.
وابتدئت الجملة ب {وَاعْلَمُوا} للاهتمام بمضمونها كما تقدم في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:41] الآية، بحيث يجب أن يعلموه ويعوه.
والجملة بمنزلة التذييل لما قبلها من أجل ما فيها من العموم في المتقين، دون أن يقال واعلموا أن الله معكم ليحصل من ذكر الاسم الظاهر معنى العموم، فيفيد أن المتصفين بالحال المحكية في الكلام السابق معدودون من جملة المتقين، لئلا يكون ذكر جملة {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} غريبا عن السياق، فيحصل من ذلك كلام مستقل يجري مجرى المثل وإيجاز يفيد أنهم حينئذ من المتقين، وأن الله يؤيدهم لتقواهم، وأن القتال في الأشهر الحرم في تلك الحالة طاعة لله وتقوى، وأن المشركين حينئذ هم المعتدون على حرمة الأشهر، وهم الحاملون على المقابلة بالمثل للدفاع عن النفس.
[37] {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [التوبة:37].
استئناف بياني ناشئ عن قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ} [التوبة:36] الآية لأن ذلك كالمقدمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه.
والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمته وجعلت لشهر آخر فالنسيء فعيل بمعنى مفعول من نسأ المهموز اللام، ويطلق مصدرا بوزن فعيل مثل نذير من قوله: {كَيْفَ نَذِيرِ} (1) [الملك:17]، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز، أي أخّر، فالنسيء -
ـــــــ
(1) في المطبوعة (فكيف كان نذير) وهو غلط.
بهمزة بعد الياء - في المشهور. وبذلك قرأه جمهور العشرة. وقرأه ورش عن نافع - بياء مشددة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامها في أختها، والأخبار عن النسيء بأنه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة:102].
والنسيء عند العرب تأخير يجعلونه لشهر حرام فيصيرونه حلالا ويحرمون شهرا آخر من الأشهر الحلال عوضا عنه في عامه.
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أن العرب سنتهم قمرية تبعا للأشهر، فكانت سنتهم اثني عشر شهرا قمرية تامة، وداموا على ذلك قرونا طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء.
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل(1) أن العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن. وسكت المفسرون عما نشأ بعد قول العرب هذا، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أن أول من نسألهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأن جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغل في القدم والذي يجب اعتماده أن أول من نسأ النسيء هو حذيفة ابن عبد نعيم أو فقيم - (ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا). وهو الملقب بالقلمس ولا يوجد ذكر بني فقيم في "جمهرة ابن حزم" وقد ذكره صاحب "القاموس" وابن عطية. قال بن حزم أول من نسأ الشهور سرير "كذا ولعله سري" بن ثعلبة بن الحارث ابن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة. وفي ابن عطية خلاف ذلك قال: انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ لهم الشهور. ثم خلفه ابنه عباد. ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلام قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب. وفي "تفسير القرطبي" عن الضحاك عن ابن عباس أول من نسأ عمرو بن لحي "أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيب السائبة). وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة.
قال ابن حزم: كل من صارت إليه هذه المرتبة (أي مرتبة النسيء) كان يسمىّ
ـــــــ
(1 ) هكذا يؤخذ من مجموعة كلام الطبري وابن عطية والقربي مع حذف المتداخل.
القلمس. وقال القرطبي: كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إيّاه. وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول: اللهم إني ناسيء الشهور وواضعها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب(1). اللهم إنّي قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخر انفروا على اسم الله تعالى. وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب. ولا مرد لما يقول فيقولون أنستنا شهرا، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم وينادي: ألا إن آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرمونه ذلك العام فإذا حجوا في ذي الحجة تركوا المحرم وسموه صفرا فإذا انسلخ ذو الحجة خرجوا في محرم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنه صار صفرا فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجون في شهر صفر عامين ولاء ثم كذلك.
وقال السهيلي في "الروض الأنف" إن تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري، تحريا منهم للسنة الشمسية، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما أو أكثر قليلا، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة، فيعود إلى وقته ونسب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أن ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية ولعله تبع في هذا قول إياس بن معاوية الذي ذكره القرطبي، وأحسب أنه اشتباه.
وكان النبي بأيدي بني فقيم(2) من كنانة وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم.
وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة.
وصيغة القصر في قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} تقتضي أنّه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبة الاعتداء والغارات فهو قصر حقيقي، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أن
ـــــــ
(1) وقع في "اللسان" و "القاموس" وفي "تفاسير" ابن عطية والقرطببي والطبري (ولا أجاب). بجيم ولعل معناه لايجيبني أحد فيما أقوله أي لا يرد عليه.
(2 ) فقيم بصيغة التصغير اسم جد.
الذين وضعوه ليسوا إلا كافرين وما هم بمصلحين، وما الذين تابعوهم إلا كافرون كذلك وما هم بمتقين.
ووجه كونه كفرا أنهم يعلمون أن الله شرع لهم الحج ووقته بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسماة بأسماء تميزها عن الاختلاط، فلما وضعوا النسيء قد علموا أنهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه، ويسمونه بغير اسمه، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعين له، أعني شهر ذي الحجة ولذلك سموه النسيء اسما مشتقا من مادة النساء وهو التأخير، فهم قد اعترفوا بأنه تأخير شيء عن وقته، وهم في ذلك مستخفون بشرع الله تعالى، ومخالفون لما وقت لهم عن تعمد مثبتين الحل لشهر حرام والحرمة لشهر غير حرام، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به، فلذلك يشبه جعلهم لله شركاء، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر، فلا دلالة في الآية على أن الأعمال السيئة توجب كفر فاعلها ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل.
وحرف {فِي} المفيد الظرفية متعلق بزيادة لأن الزيادة تتعدى بفي {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} [الفاطر:1]. فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابه للظرف ويجوز أن يكون تأويله أنه لما كان إحداثه من أعمال المشركين في شؤون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحج ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن يكن في ذاته كفرا وهذا كما يقول السلف: إن الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأن ماهية الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [143]، أي صلاتكم. على أن إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية مما طفحت به أقوال الكتاب والسنة مع اتفاق جمهور علماء الأمة على أن الأعمال غير الاعتقاد لا تقتضي إيمانا ولا كفراً.
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف، أي زيادة في أحوال أهل الكفر، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضد قوله تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]. وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار، فالتأويل الأول يقتضي أن إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أن إطلاق الكفر فيه إيجاز حذف بتقدير مضاف.
وجملة {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمر، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدد.
وجملة {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} بيان لسبب كونه ضلالا.
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدد والاستمرار، أي هم في ضلال متجدد مستمر بتجدد سببه، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى، ومواطأة عدة ما حرم الله.
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أن النسيء كان عمله مطردا بين جميع المشركين من العرب فما وقع في "تفسير الطبري" عن ابن عباس والضحاك من قولهما وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنهم ابتدأوا بمتابعته.
وقرأ الجمهور {يُضَلُّ} - بفتح التحتية - وقرأه حفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي وخلف، ويعقوب - بضم التحتية - على أنهم يضلون غيرهم.
والتنكير والوحدة في قوله: {عَامًا} في الموضعين للنوعية، أي يحلونه في بعض الأعوام ويحرمونه في بعض الأعوام، فهو كالوحدة في قول الشاعر:
يوما بحزوى ويوما بالعقيق
وليس المراد أن ذلك يوما غب فيه، فكذلك في الآية ليس المراد أن النسيء يقع عاما غب عام كما ظنه بعض المفسرين. ونظيره قول أبي الطيب:
فيوما بخيل تطرد الروم عنهم ... ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
(يريد تارة تدفع عنهم العدو وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب) وإنما يكون ذلك حين حلول العدو بهم وإصابة الفقر والجدب بلادهم، ولذلك فسره المعري في كتاب "معجز أحمد" بأن قال: "فإن قصدهم الروم طردتهم بخيلك وإن نازلهم فقر وجدب كشفته عنهم بجودك وإفضالك".
وقد أبقى الكلام مجملا لعدم تعلق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء، ولعل لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين.
ومحلّ الذم هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحجّ المعيّنة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة. ويتعلق
قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بقوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة.
والمواطأة الموافقة، وهي مفاعلة عن الوطئ شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق وطئ الأرجل ومن هذا قولهم (وقوع الحافر على الحافر).
و {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} هي عدة الأشهر الحرم الأربعة.
وظاهر هذا أنه تأويل عنهم وضرب من المعذرة، فلا يناسب عدة في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم، ولكن ذكره ليرتب عليه قوله: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} فإنّه يتفرع على محاولتهم موافقة عدة ما حرم الله أن يحلوا ما حرم الله، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين، وإنما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم، ويفرطون في نفس الحرمة فيحلون الشهر الحرام، ثم يزيدون باطلا آخر فيحرمون الشهر الحلال. فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود.
وتوجيه عطف {فَيُحِلُّوا} على مجرور لام التعليل في قوله: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} هو تنزيل الأمر المترتب على العلة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل، على طريقة التهكم والتخطئة مثل قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص:8].
والإتيان بالموصول في قوله: {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} دون أن يعبر بنحو عدة الأشهر الحرم، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرمها الله تعظيما. ففيه تعريض بالتهكم بهم.
والإظهار في قوله: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} دون أن يقال فيحلوه، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم، وهو مخالفتهم أمر الله تعالى وإبطالهم حرمة بعض الأشهر الحرم، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنهم يحرمون بعض الأشهر الحلال حفاظا على عدة الأشهر التي حرمها الله تعالى.
وجملة {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا: لأن ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تملأوه فقيل: لأنهم زين لهم سوء أعمالهم، أي لأن الشيطان زين لهم سوء أعمالهم فحسن لهم القبيح.
والتزيين التحسين، أي جعل شيء زينا، وهو إذا يسند إلى ما لا تتغير حقيقته فلا
يصير حسنا، يؤذن بأن التحسين تلبيس. وتقدم التزيين في قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} في سورة البقرة [212]، وقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في سورة الأنعام [108].
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتى يزول تعجب السامع منها.
وجملة {وَاللَّهُ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} عطف على جملة {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة، لأن التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب، حتى يقلعوا عن ضلالهم، فبعد أن أفيد السائل بأن سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم، أفيد بأن دوامهم عليه لأن الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق، الذين بهما يتفطن الضال لضلاله فيقلع عنه، جزاءا لهم على ما أسلفوه من الكفر، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية.
والإظهار في مقام الإضمار بقوله: {الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم، أي: هذا شأن الله جميع الكافرين.
واعلم أنّ حرمة الأزمان والبقاع إنما تتلقى عن الوحي الإلهي لأن الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسن له نظامه فبذلك تستقر حرمة كل ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغيير تقشعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو بن لحيّ.
وقد أوحى الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أن العام الذي يحج فيه يصادف يوم الحج منه يوم تسعة من ذي الحجة، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض، وأن فيه يندحض أثر النسيء ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض" ، قالوا فصادفت حجة أبي بكر سنة تسع أنها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء، فجاءت حجة النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ذي الحجة في الحساب الذي جعله الله يوم خلق السماوات والأرض.
[38] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى
الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} .
هذا ابتداء خطاب للمؤمنين للتحريض على الجهاد في سبيل الله، بطريقة العتاب على التباطئ بإجابة دعوة النفير إلى الجهاد، والمقصود بذلك غزوة تبوك. قال ابن عطية: "لا اختلاف بين العلماء في أن هذه الآية نزلت عتابا على تخلف من تخلف عن غزوة تبوك، إذ تخلف عنها قبائل ورجال من المؤمنين والمنافقون" فالكلام متصل بقوله: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة:36] - وبقوله - {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى – قوله – {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:29-35] كما أشرنا إليه في تفسير تلك الآيات.
وهو خطاب للذين حصل منهم التثاقل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم استنفر المسلمين إلى تلك الغزوة، وكان ذلك في وقت حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا ومفازا، حين نضجت الثمار، وطابت الظلال، وكان المسلمون يومئذ في شدة حاجة إلى الظهر والعدة. فلذلك سميت غزوة العسرة كما سيأتي في هذه السورة، فجلى رسول الله للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد، وكان قبل ذلك لا يريد غزوة إلا ورى بما يوهم مكانا غير المكان المقصود، فحصل لبعض المسلمين تثاقل، ومن بعضهم تخلف، فوجه الله إليهم هذا الملام المعقب بالوعيد.
فإنّ نحن جرينا على أن نزول السورة كان دفعة واحدة، وأنه بعد غزوة تبوك، كما هو الأرجح، وهو قول جمهور المفسرين، كان محمل هذه الآية أنها عتاب على ما مضى وكانت {إِذَا} مستعملة ظرفا للماضي، على خلاف غالب استعمالها، كقوله تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11] وقوله: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ} [التوبة:92] الآية، فإن قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء:75] صالح لإفادة ذلك، وتحذير من العودة إليه، لأنّ قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا} و {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} و {انفِرُوا خِفَافًا} مراد به يستقبل حين يدعون إلى غزوة أخرى، وسنبين ذلك مفصلا في مواضعه من الآيات.
وإن جرينا على ما عزاه ابن عطية إلى النقاش: أن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} هي أول آية نزلت من سورة براءة، كانت الآية عتابا على تكاسل وتثاقل ظهرا على بعض الناس، فكانت {إِذَا} ظرفاً
للمستقبل، على ما هو الغالب فيها، وكان قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39] تحذيرا من ترك الخروج إلى غزوة تبوك، وهذا كله بعيد ممّا ثبت في "السيرة" وما ترجح في نزول هذه السورة.
و {مَا} في قوله: {مَا لَكُمْ} اسم استفهام إنكاري، والمعنى: أي شيء، و {لَكُمْ} خبر عن الاستفهام أي: شيء ثبت لكم.
و {إِذَا} ظرف تعلق بمعنى الاستفهام الإنكاري على معنى: أنّ الإنكار حاصل في ذلك الزمان الذي قيل لهم فيه: انفروا، وليس مضمنا معنى الشرط لأنه ظرف مضيّ.
وجملة {اثَّاقَلْتُمْ} في موضع الحال من ضمير الجماعة، وتلك الحالة هي محل الإنكار، أي: ما لكم متثاقلين. يقال: مالك فعلت كذا، ومالك تفعل كذا كقوله: {مَا لَكُمْ لاَ يَتَنَاصَرُونَ} [الصافات:25]،
ومالك فاعلا، كقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88].
والنّفر: الخروج السريع من موضع إلى غيره لأمر يحدث، وأكثر ما يطلق على الخروج إلى الحرب، ومصدره حينئذ النفير.
وسبيل الله: الجهاد، سمي بذلك لأنه كالطريق الموصل إلى الله، أي إلى رضاه
و {اثَّاقَلْتُمْ} أصله تثاقلتم قلبت التاء المثناة ثاء مثلثة لتقارب مخرجيهما طلبا للإدغام، واجتلبت همزة الوصل لإمكان تسكين الحرف الأول من الكلمة عند إدغامه.
(والتثاقل) تكلف الثقل، أي إظهار أنه ثقيل لا يستطيع النهوض.
والثقل حالة في الجسم تقتضي شدة تطلبه للنزول إلى اسفل، وعسر انتقاله، وهو مستعمل هنا في البطء مجازا مرسلا، وفيه تعريض بأن بطأهم ليس عن عجز، ولكنه عن تعلق بالإقامة في بلادهم وأموالهم.
وعدي التثاقل ب {إِلَى} لأنّه ضمن معنى الميل والإخلاد، كأنه تثاقل يطلب فاعله الوصول إلى الأرض للقعود والسكون بها.
والأرض ما يمشي عليه الناس.
ومجموع قوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} تمثيل لحال الكارهين للغزو المتطلبين للعذر عن الجهاد كسلا وجبنا بحال من يطلب منه النهوض والخروج، فيقابل ذلك الطلب
بالالتصاق بالأرض، والتمكن من القعود، فيأبى النهوض فضلا عن السير.
وقوله: {إِلَى الأَرْضِ} كلام موجه بديع: لأن تباطؤهم عن الغزو، وتطلبهم العذر، كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم، حتى جعل بعض المفسرين معنى اثاقلتم إلى الأرض: ملتم إلى أرضكم ودياركم.
والاستفهام في {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} إنكاري توبيخي، إذ لا يليق ذلك بالمؤمنين.
و {مِنْ} في {مِنْ الآخِرَةِ} للبدل: أي كيف ترضون بالحياة الدنيا بدلا عن الآخرة. ومثل ذلك لا يرضى به والمراد بالحياة الدنيا، وبالآخرة: منافعهما، فإنهم لما حاولوا التخلف عن الجهاد قد آثروا الراحة في الدنيا على الثواب الحاصل للمجاهدين في الآخرة.
واختير فعل {رَضِيتُمْ} دون نحو آثرتم أو فضلتم: مبالغة في الإنكار، لأن فعل رضي بكذا يدل على انشراح النفس، ومنه قول أبي بكرالصديق في حديث الغار "فشرب حتىّ رضيت".
والمتاع: اسم مصدر تمتع، فهو الالتذاذ والتنعم، كقوله: {مَتَاعًا لَكُمْ وَِلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:32] ووصفه ب {قَلِيلٌ} بمعنى ضعيف ودنيء. استعير القليل للتافه.
ويحتمل أن يكون المتاع هنا مرادا به الشيء المتمتع به، من إطلاق المصدر على المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق فالإخبار عنه بالقليل حقيقة.
وحرف {فِي} من قوله: {فِي الآخِرَةِ} دالّ على معنى المقايسة، وقد جعلوا المقايسة من معاني {فِي} كما في "التسهيل" و"المغني"، واستشهدوا بهذه الآية أخذا من "الكشاف" ولم يتكلم على هذا المعنى شارحوهما ولا شارحو "الكشاف"، وقد تكرر نظيره في القرآن كقوله في سورة الرعد[26] {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ} ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث مسلم "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بم يرجع" وهو في التحقيق (من) الظرفية المجازية: أي متاع الحياة الدنيا إذا أقحم في خيرات الآخرة كان قليلا بالنسبة إلى كثرة خيرات الآخرة، فلزم أنه ما ظهرت قلته إلا عندما قيس بخيرات عظيمة ونسب إليها، فالتحقيق أن المقايسة معنى حاصل لاستعمال حرف الظرفية، وليس معنى موضوعا له حرف (في).
[39] {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
هذا وعيد وتهديد عقب به الملام السابق، لأن اللوم وقع على تثاقل حصل، ولماّ كان التثاقل مفضيا إلى التخلف عن القتال، صرح بالوعيد والتهديد إن يعودوا لمثل ذلك التثاقل، فهو متعلق بالمستقبل كما هو مقتضى أداة الشرط. فالجملة مستأنفة لغرض الإنكار بعد اللوم. فإن كان هذا وعيدا فقد اقتضى أن خروج المخاطبين إلى الجهاد الذي استنفرهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم قد وجب على أعيانهم كلهم بحيث لا يغني بعضهم عن بعض، أي تعين الوجوب عليهم، فيحتمل أن يكون التعيين بسبب تعيين الرسول صلى الله عليه وسلم إياهم للخروج بسبب النفير العام، وأن يكون بسبب كثرة العدو الذي استنفروا لقتاله، بحيث وجب خروج جميع القادرين من المسلمين لأن جيش العدو كانوا مثلي عدد جيش المسلمين. وعن ابن عباس أن هذا الحكم منسوخ نسخه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فيكون الجهاد قد سبق له حكم فرض العين ثم نقل إلى فرض الكفاية.
وهذا بناء على أن المراد بالعذاب الأليم في قوله: {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} هو عذاب الآخرة كما هو المعتاد في إطلاق العذاب ووصفه بالأليم، وقيل: المراد بالعذاب الأليم عذاب الدنيا كقوله: {بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] فلا يكون في الآية حجة على كون ذلك الجهاد واجبا على الأعيان، ولكن الله توعدهم، إن لم يمتثلوا أمر - الرسول عليه الصلاة والسلام -، بأن يصيبهم بعذاب في الدنيا، فيكون الكلام تهديدا لا وعيدا. وقد يرجح هذا الوجه بأنه قرن بعواقب دنيوية في قوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} . والعقوبات الدنيوية مصائب تترتب على إهمال أسباب النجاح وبخاصة ترك الانتصاح بنصائح الرسول - عليه الصلاة والسلام -، كما أصابهم يوم أحد، فالمقصود تهديدهم بأنهم إن تقاعدوا عن النفير هاجمهم العدو في ديارهم فاستأصلوهم وأتي الله بقوم غيرهم.
(والأليم) المؤلم، فهو فعيل مأخوذ من الرباعي على خلاف القياس كقوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [لقمان:2]، وقول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
أي المسمع.
وكتب في المصاحف {إِلاَّ} من قوله: {إِلاَّ تَنفِرُوا} بهمزة بعدها لام ألف على كيفية النطق بها مدغمة، والقياس ان يكتب (إن لا) بنون بعد الهمزة ثم لام ألف.
والضمير المستتر في {يُعَذِّبْكُمْ} عائد إلى الله لتقدمه في قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . وتنكير {قَوْمًا} للنوعية إذ لا تعين لهؤلاء القوم ضرورة أنه معلق على شرط عدم النفير وهم قد نفروا لما استنفروا إلا عددا غير كثير وهم المخلفون.
{وَيَسْتَبْدِلْ} يبدل، فالسين والتاء للتأكيد والبدل هو المأخوذ عوضا كقوله: {وَمَنْ يَتَبَدَّلْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ} [البقرة:108] أي ويستبدل بكم غيركم.
والضمير في {تَضُرُّوهُ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {يُعَذِّبْكُمْ} والواو للحال: أي يعذبكم ويستبدل قوما غيركم في حال أن لا تضروا الله شيئا بقعودكم، أي يصبكم الضر ولا يصب الذي استنفركم في سبيله ضر، فصار الكلام في قوة الحصر، كأنه قيل: إلا تنفروا لا تضروا إلا أنفسكم.
وجملة {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل للكلام لأنه يحقق مضمون لحاق الضر بهم لأنه قدير عليهم في جملة كل شيء، وعدم لحاق الضر به لأنه قدير على كل شيء فدخلت الأشياء التي من شأنها الضر.
[40] {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .
استئناف بياني لقوله: {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:39] لأن نفي أن يكون قعودهم عن النفير مضرا بالله ورسوله، يثير في نفس السامع سؤالا عن حصول النصر بدون نصير، فبين بأن الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم، فتبين أن تقدير قعودهم عن النفير لا يضر الله شيئا.
والضمير المنصوب ب {تَنصُرُوه} عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم له ذكر، لأنه واضح من المقام.
وجملة {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} جواب للشرط، جعلت جوابا له لأنها دليل على معنى الجواب المقدر لكونها في معنى العلة للجواب المحذوف: فإن مضمون {فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} قد حصل في الماضي فلا يكون جوابا للشرط الموضوع للمستقبل، فالتقدير: إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إياه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذ ينصره حين لا تنصرونه. وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} الآية.
ويتعلق {إِذْ أَخْرَجَهُ} ب {نَصَرَهُ} أي زمن إخراج الكفار إياه، أي من مكة، والمراد خروجه مهاجرا. وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنهم تسببوا فيه بأن دبروا لخروجه غير مرة كما قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30]، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة، فتوفرت أسباب خروجه ولكنهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصممين على منعه من الخروج، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردوه إليهم، وجعلوا لمن يظفر به جزاء جزلا، كما جاء في حديث سراقة بن جعشم.
كتب في المصاحف {إِلاَّ} من قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} بهمزة بعدها لام ألف، على كيفية النطق بها مدغمة، والقياس أن تكتب (إِنْ لا) - بهمزة فنون فلام ألف - لأنّهما حرفان: (إِنْ) الشرطية و(لاَ) النافية، ولكن رسم المصحف سنة متبعة، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متفق عليها، ومثل ذلك كتب {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ} في سورة الأنفال [73]. وهم كتبوا قوله: {بَلْ رَانَ} في سورة المطففين [14] بلام بعد الباء وراء بعدها، ولم يكتبوها بباء وراء مشددة بعدها.
وقد أثار رسم {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} بهذه الصورة في المصحف خشية توهم متوهم أن {إِلاَّ} هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في "مغني اللبيب": "تنبيه ليس من أقسام (إِلاّ)، (إِلاّ) التي في نحو {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} وإنّما هذه كلمتان (إن) الشرطية و(لا) النافية ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في "شرح التسهيل" من أقسام إلا ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على "المغني" ولا الشمني. وقال الشيخ محمد
الرصاع في كتاب "الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب" "وقد رأيت لبعض أهل العصر(1) المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب - أي "التسهيل" - أخذ يعتذر عن ابن مالك والإنصاف أن فيه بعض الإشكال". وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على المغني ليس ما في "شرح التسهيل" نصاً في ذلك وهو يوهمه فإنّه عرّف المستثنى بالمخرج بـ(إلاّ) وقال "واحتزرت عن (إلا) بمعنى إن لم ومثّل بالآية، أي فلا إخراج فيها. وقلت عبارة متن "التسهيل" "المستثنى هو المخرج تحقيقا أو تقديرا من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها"، ولم يعرج شارحه المرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على "تسهيله"، وعندي أن الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله: "إلاّ تكون استثناء وتكون حرف جزاء أصلها (إنْ لا) نقله صاحب لسان" العرب". وصدروه من مثله يستدعي التنبيه عليه.
و {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} حال من ضمير النصب في {أَخْرَجَهُ} ، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى {مِنْ} ، أي ثانيا من اثنين، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر: بتواتر الخبر، وإجماع المسلمين كلهم. ولكون الثاني معلوما للسامعين كلهم لم يحتج إلى ذكره، وأيضا لأن المقصود تعظيم هذا النصر مع قلة العدد.
و {إِذْ} التي في قوله: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ} بدل من {إِذْ} التي في قوله: { إِذْ أَخْرَجَهُ} فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج، باعتبار الخروج، والكون في الغار.
والتعريف في الغار للعهد، لغار يعلمه المخاطبون، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجرين إلى المدينة، وهو غار في جبل ثور خارج مكة إلى جنوبيها، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال، في طريق جبليّ.
والغار الثقب في التراب أو الصخر.
و {إِذْ} المضافة إلى جملة {يَقُولُ} بدل من {إِذْ} المضافة إلى جملة {هُمَا فِي الْغَارِ} . بدل اشتمال.
والصاحب هو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} وهو أبو بكر الصديق. ومعنى الصاحب: المتّصف
ـــــــ
(1) أواخر القرن التاسع أن الرصاع توفي سنة894 أربعوتسعين وثمانمائة.
بالصحبة، وهي المعية في غالب الأحوال، ومنه سميت الزوجة صاحبة، كما تقدم في قوله تعالى: {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} في سورة الأنعام [101]. وهذا القول صدر من النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور، فكان أبو بكر حزينا إشفاقا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يشعر به المشركون، فيصيبوه بمضرة، أو يرجعوه إلى مكة.
والمعية هنا: معية الإعانة والعناية، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون {قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا} [طه:46] - وقوله - {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلاَئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} [الأنفال:12].
{فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
التفريع مؤذن بأن السكينة أنزلت عقب الحلول في الغار، وأنها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنما كان التأييد بجنود لم يروها نصرا جثمانيا. وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} بل إن قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إياه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا. فتلك الظروف الثلاثة متعلقة بفعل {نَصَرَهُ} على الترتيب المتقدم، وهي كالاعتراض بين المفرع عنه والتفريع، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أن النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به، وأن نصره كان معجزة خارقا للعادة.
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسرين في معنى الآية، حتى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله: {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} إلى أبي بكر، مع الجزم بأن الضمير المنصوب في {أَيَّدَهُ} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمير، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر، مع أن المقام لذكر ثبات النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إياه، وما جاء ذكر أبي بكر إلا تبعا لذكر ثبات النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك الحيرة نشأت عن جعل {فَأَنزَلَ اللَّهُ} مفرعا على {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَن} وألجأهم إلى تأويل قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا} إنّها جنود الملائكة يوم بدر، وكل ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديما وتأخيرًا.
والسكينة اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة، مشتقة من السكون، وقد تقدّم
ذكرها عند قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} في سورة البقرة [248].
والتأييد: التقوية والنصر، وهو مشتق من اسم اليد، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} في سورة البقرة [87].
والجنود: جمع جند بمعنى الجيش، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة[249]، وتقدم آنفا في هذه السورة.
ثم جوز أن تكون جملة {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ} معطوفة على جملة {فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءه والرصد له في الطرق المؤدية والسبل الموصلة، لا سيما ومن الظاهر أنه قصد يثرب مهاجر أصحابه، ومدينة أنصاره، فكان سهلا عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة.
ويحتمل أن تكون معطوفة على جملة {أَخْرَجَهُ} والتقدير: وإذ أيده بجنود لم تروها أي بالملائكة، يوم بدر، ويوم الأحزاب، ويوم حنين، كما مر في قوله: {{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26].
و(الكلمة) أصلها اللفظة من الكلام، ثم أطلقت على الأمر والشأن ونحو ذلك من كل ما يتحدث به الناس ويخبر المرء به عن نفسه من شأنه، قال تعالى: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف:28] (أي أبقى التبرئ من الأصنام والتوحيد لله شأن عقبه) وشعارهم وقال: {وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة:124] أي بأشياء من التكاليف كذبح ولده، واختتانه، وقال لمريم {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} [آل عمران:45] أي بأمرعجيب، أو بولد عجيب، وقال: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً} [الأنعام:115] أي أحكامه ووعوده ومنه قولهم: لا تفرق بين كلمة المسلمين، أي بين أمرهم واتفاقهم، وجمع الله كلمة المسلمين، فكلمة الذين كفروا شأنهم وكيدهم وما دبروه من أنواع المكر.
ومعنى السفلى الحقيرة لأن السفل يكنى به عن الحقارة، وعكسه قوله: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} فهي الدين وشأن رسوله والمؤمنين، وأشعر قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} إن أمر المشركين كان بمظن?ة القوة والشدة لأنهم أصحاب عدد كثير وفيهم أهل الرأي والذكاء، ولكنهم لما شاقوا الله ورسوله خذلهم الله وقلب حالهم من علو إلى سفل.
وجملة {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} مستأنفة بمنزلة التذييل للكلام لأنه لما أخبر عن كلمة
الذين كفروا بأنّها صارت سفلى أفاد أن العلاء انحصر في دين الله وشأنه. فضمير الفصل مفيد للقصر، ولذلك لم تعطف كلمة الله على كلمة الذين كفرو، إذ ليس المقصود إفادة جعل كلمة الله عليا، لما يشعر به الجعل من إحداث الحالة، بل إفادة أن العلاء ثابت لها ومقصور عليها، فكانت الجملة كالتذييل لجعل كلمة الذين كفروا سفلى.
ومعنى جعلها كذلك: أنه لما تصادمت الكلمتان وتناقضتا بطلت كلمة الذين كفروا واستقر ثبوت كلمة الله.
وقرأ يعقوب، وحده {وَكَلِمَةَ اللَّهِ} بنصب (كلمة) عطفا على {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى} فتكون كلمة الله عليا بجعل الله وتقديره.
وجملة {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} تذييل لمضمون الجملتين: لأن العزيز لا يغلبه شيء، والحكيم لا يفوته مقصد، فلا جرم تكون كلمته العليا وكلمة ضده السفلى.
[41] {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
الخطاب للمؤمنين الذين سبق لومهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38]، فالنفير المأمور به ما يستقبل من الجهاد. وقد قدمنا أن الاستنفار إلى غزوة تبوك كان عاما لكل قادر على الغزو: لأنها كانت في زمن مشقة، وكان المغزو عدوا عظيما، فالضير في {انفِرُوا} عام للذين استنفروا فتثاقلوا، وإنما استنفر القادرون، وكان الاستنفار على قدر حاجة الغزو، فلا يقتضي هذا الأمر توجه وجوب النفير على كلّ مسلم في كل غزوة، ولا على المسلم العاجز لعمى أو زمانة. أو مرض، وإنما يجري العمل في كل غزوة على حسب ما يقتضيه حالها وما يصدر إليهم من نفير. وفي الحديث "وإذا استنفرتم فانفروا" .
و {خِفَافًا} جمع خفيف وهو صفة مشبهة من الخفة، وهي حالة للجسم تقتضي قلّة كمية أجزائه بالنسبة إلى أجسام أخرى متعارفة، فيكون سهل التنقل سهل الحمل. والثقال ضد ذلك، وتقدم الثقل آنفا عند قوله: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38].
والخفاف والثقال هنا مستعاران لما يشابههما من أحوال الجيش وعلائقهم، فالخفّة تستعار للإسراع إلى الحرب، وكانوا يتمادحون بذلك لدلالتها على الشجاعة والنجدة، قال قريط بن أنيف العنبري:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم ... طاروا إليه زرافات ووحدانا
فالثقل الذي يناسب هذا هو الثبات في القتال كما في قول أبي الطيب:
ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا
وتستعار الخفّة لقلّة العدد، والثقل لكثرة عدد الجيش كما في قول قريط: "زرافات ووحدانا".
وتستعار الخفة لتكرير الهجوم على الأعداء، والثقل للتثبت في الهجوم. وتستعار الخفة لقلة الأزواد أو قلة السلاح، والثقل لضد ذلك. وتستعار الخفة لقلة العيال، والثقل لضد ذلك وتستعار الخفة للركوب لأن الراكب أخف سيرا، والثقل للمشي على الأرجل وذلك في وقت القتال. قال النابغة:
على عارفات للطعان عوابس ... بهن كلوم بين دام وجالب(1)
إذ استنزلوا عنهن للضرب ارقلوا ... إلى الموت ارقال الجمال المصاعب
وكلّ هذه المعاني صالحة للإرادة من الآية ولما وقع {خِفَافًا وَثِقَالاً} حالا من فاعل {انفِرُوا}، كان محمل بعض معانيهما على أن تكون الحال مقدرة والواو العاطفة لإحدى الصفتين على الأخرى للتقسيم، فهي بمعنى (أو) ، والمقصود الأمر بالنفير في جميع الأحوال.
والمجاهدة المغالبة للعدو، وهي مشتقة من الجهد – بضم - الجيم أي بذل الاستطاعة في المغالبة، وهو حقيقة في المدافعة بالسلاح، فإطلاقه على بذل المال في الغزو من إنفاق على الجيش واشتراء الكراع والسلاح، مجاز بعلاقة السببية.
وقد أمر الله بكلا الأمرين فمن استطاعهما معا وجبا عليه، ومن لم يستطع إلا واحدا منهما وجب عليه الذي استطاعه منهما.
وتقديم الأموال على الأنفس هنا: لأن الجهاد بالأموال أقل حضورا بالذهن عند سماع الأمر بالجهاد، فكان ذكره أهم بعد ذكر الجهاد مجملا.
والإشارة ب {ذَلِكُمْ} إلى الجهاد المستفاد من {وَجَاهِدُوا} .
ـــــــ
(1 ) أي على خيل عارفات للطعان أي متعودات.
وإبهام {خَيْرٌ} لقصد توقع خير الدنيا والآخرة من شعب كثيرة أهمها الاطمئنان من أن يغزوهم الروم ولذلك عقب بقوله: {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إن كنتم تعلمون ذلك الخير وشعبه. وفي اختيار فعل العلم دون الإيمان مثلا للإشارة إلى أن من هذا الخير ما يخفى فيحتاج متطلب تعيين شعبه إلى أعمال النظر والعلم.
[42] {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
استئناف لابتداء الكلام على حال المنافقين وغزوة تبوك حين تخلفوا واستأذن كثير منهم في التخلف واعتلوا بعلل كاذبة، وهو ناشئ عن قوله: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} [التوبة:38].
وانتقل من الخطاب إلى الغيبة لأن المتحدث عنهم هنا بعض المتثاقلين لا محالة بدليل قوله بعد هذا {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:45]. ومن هذه الآيات ابتدأ إشعار المنافقين بأن الله أطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم.
والعرض ما يعرض للناس من متاع الدنيا وتقدم في قوله تعالى: {يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى} في سورة الأعراف[169:] وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} في سورة الأنفال [67] والمراد به الغنيمة.
والقريب: الكائن على مسافة قصيرة، وهو هنا مجاز في السهل حصوله. و {قَاصِدًا} أي وسطا في المسافة غير بعيد. واسم كان محذوف دل عليه الخبر: أي لو كان العرض عرضا قريبا، والسفر سفرا متوسطا، أو: لو كان ما تدعوهم إليه عرضا قريبا وسفرا.
والشقة - بضم الشين - المسافة الطويلة.
وتعدية {بَعُدَتْ} بحرف (على) لتضمّنه معنى ثقلت، ولذلك حسن الجمع بين فعل {بَعُدَتْ} وفاعله {الشُّقَّةُ} مع تقارب معنييهما، فكأنه قيل: ولكن بعد منهم المكان لأنه شقة، فثقل عليهم السفر، فجاء الكلام موجزا.
وقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} يؤذن بأن الآية نزلت قبل الرجوع من غزوة تبوك، فإن حلفهم إنما كان بعد الرجوع وذلك حين استشعروا أن الرسول - عليه الصلاة والسلام - ظان كذبهم في أعذارهم.
والاستطاعة القدرة: أي لسنا مستطيعين الخروج، وهذا اعتذار منهم وتأكيد لاعتذارهم.
وجملة {لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} جواب {لَوْ} .
والخروج الانتقال من المقر إلى مكان قريب أو بعيد ويعدى إلى المكان المقصود ب(إلى)، وإلى المكان المتروك ب(من)، وشاع إطلاق الخروج على السفر للغزو. وتقييده بالمعية إشعار بأن أمر الغزو لا يهمهم ابتداء، وأنهم إنما يخرجون لو خرجوا إجابة لاستنفار النبي صلى الله عليه وسلم: خروج الناصر لغيره، تقول العرب: خرج بنو فلان وخرج معهم بنو فلان، إذا كانوا قاصدين نصرهم.
وجملة {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} حال، أي يحلفون مهلكين أنفسهم، أي موقعينها في الهلك. والهلك الفناء والموت، ويطلق على الأضرار الجسيمة وهو المناسب هنا، أي يتسببون في ضر أنفسهم بالأيمان الكاذبة، وهو ضر الدنيا وعذاب الآخرة.
وفي هذه الآية دلالة على أن تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك، ويؤيده ما رواه البخاري في كتاب الديات من خبر الهذليين الذين حلفوا أيمان القسامة في زمن عمر، وتعمدوا الكذب، فأصابهم مطر فدخلوا غارا في جبل فانهجم عليهم الغار فماتوا جميعا.
وجملة {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} حال، أي هم يفعلون ذلك في حال عدم جدواه عليهم، لأن الله يعلم كذبهم، أي ويطلع رسوله على كذبهم، فما جنوا من الحلف إلا هلاك أنفسهم.
وجملة {إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} سدت مسد مفعولي {يَعْلَمُ} .
[43] {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} .
استأذن فريق من المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم، أن يتخلفوا عن الغزوة، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجد بن قيس، ورفاعة بن التابوت، وكانوا تسعة وثلاثين واعتذروا بأعذار كاذبة وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن استأذنه حملا للناس على الصدق، إذ كان ظاهر حالهم الإيمان، وعلما بأن المعتذرين إذا ألجئوا إلى الخروج لا يغنون شيئا، كما قال تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:47] فعاتب الله نبييه صلى الله عليه وسلم في أن أذن لهم،
لأنه لو لم يأذن لهم لقعدوا، فيكون ذلك دليلا للنبي صلى الله عليه وسلم على نفاقهم وكذبهم في دعوى الإيمان، كما قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:30].
والجملة مستأنفة استئنافاً ابتدائياً لأنه غرض أنف.
وافتتاح العتاب بالإعلام بالعفو إكرام عظيم، ولطافة شريفة، فأخبره بالعفو قبل أن يباشره بالعتاب. وفي هذا الافتتاح كناية عن خفة موجب العتاب لأنه بمنزلة أن يقال: ما كان ينبغي، وتسمية الصفح عن ذلك عفوا ناظر إلى مغزى قول أهل الحقيقة: حسنات الأبرار سيئات المقرّبين.
وألقي إليه العتاب بصيغة الاستفهام عن العلة إيماء إلى أنه ما أذن لهم إلا لسبب تأوله ورجا منه الصلاح على الجلمة بحيث يسأل عن مثله في استعمال السؤال من سائل يطلب العلم وهذا من صيغ التلطف في الإنكار أو اللوم، بأن يظهر المنكر نفسه كالسائل عن العلة التي خفيت عليه، ثم أعقبه بأن ترك الإذن كان أجدر بتبيين حالهم، وهو غرض آخر لم يتعلق به قصد النبي صلى الله عليه وسلم.
وحذف متعلّق {أَذِنتَ} لظهوره من السياق، أي لم أذنت لهم في القعود والتخلف.
و {حَتَّى} غاية لفعل {أَذِنتَ} لأنه لما وقع في حيز الاستفهام الإنكاري كان في حكم المنفي فالمعنى: لا مقتضي للإذن لهم إلى أن يتبين الصادق من الكاذب.
وفي زيادة {حَتَّى} بعد قوله: {يَتَبَيَّنَ} زيادة ملاطفة بأن العتاب ما كان إلا عن تفريط في شيء يعود نفعه إليه، والمراد بالذين صدقوا: الصادقون في إيمانهم، وبالكافرين الكاذبين فيما أظهروه من الإيمان، وهم المنافقون. فالمراد بالذين صدقوا المؤمنون.
[44] {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} .
هذه الجملة واقعة موقع البيان لجملة {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43]. وموقع التعليل لجملة {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} أو هي استئناف بياني لما تثيره جملة {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:44] والاعتبارات متقاربة ومآلها واحد.
والمعنى: أن شأن المؤمنين الذين استنفروا أن لا يستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلّف
عن الجهاد، فأما أهل الأعذار: كالعمي، فهم لا يستنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأما الذين تخلفوا من المؤمنين فقد تخلفوا ولم يستأذنوا في التخلف، لأنهم كانوا على نية اللحاق بالجيش بعد خروجه.
والاستئذان: طلب الأذن، أي في إباحة عمل وترك ضده، لأن شأن الإباحة أن تقتضي التخيير بين أحد أمرين متضادين.
والاستئذان يعدى ب(في). فقوله: {أَنْ يُجَاهِدُوا} في محل جر ب(في) المحذوفة، وحذف الجار مع {أَنْ} مطرد شائع.
ولماّ كان الاستئذان يستلزم شيئين متضادين، كما قلنا، جاز أن يقال: استأذنت في كذا واستأذنت في ترك كذا. وإنما يذكر غالبا مع فعل الاستئذان الأمر الذي يرغب المستأذن الإذن فيه دون ضده وإن كان ذكر كليهما صحيحاً.
ولماّ كان شأن المؤمنين الرغبة في الجهاد كان المذكور مع استئذان المؤمنين، في الآية أن يجاهدوا دون أن لا يجاهدوا، إذ لا يليق بالمؤمنين الاستئذان في ترك الجهاد، فإذا انتفى أن يستأذنوا في أن يجاهدوا ثبت أنهم يجاهدون دون استئذان، وهذا من لطائف بلاغة هذه الآية التي لم يعرج عليها المفسرون وتكلفوا في إقامة نظم الآية.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} معترضة لفائدة التنبيه على أن الله مطلع على أسرار المؤمنين إذ هم المراد بالمتقين كما تقدم في قوله في سورة البقرة [3،2] {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} .
[45] {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .
الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا نشأ عن تبرئة المؤمنين من أن يستأذنوا في الجهاد: ببيان الذين شأنهم الاستئذان في هذا الشأن، وأنهم الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في باطن أمرهم لأن انتفاء إيمانهم ينفي رجاءهم في ثواب الجهاد، فلذلك لا يعرضون أنفسهم له.
وأفادت {إِنَّمَا} القصر. ولما كان القصر يفيد مفاد خبرين بإثبات شيء ونفي ضده كانت صيغة القصر هنا دالة باعتبار أحد مفاديها على تأكيد جملة {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:44] وقد كانت مغنية عن الجملة المؤكدة لولا أن المراد من تقديم تلك الجملة التنويه بفضيلة المؤمنين، فالكلام إطناب لقصد التنويه، والتنويه من مقامات الإطناب.
وحذف متعلق {يَسْتَأْذِنُكَ} هنا لظهوره مما قبله مما يؤذن به فعل الاستئذان في قوله: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا} [التوبة:44] والتقدير: إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون في أن لا يجاهدوا، ولذلك حذف متعلق يستأذنك هنا.
والسامع البليغ يقدر لكل كلام ما يناسب إرادة المتكلم البليغ، وكل على منواله ينسج.
وعطف {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} على الصلة وهي {لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} يدل على أن المراد بالارتياب الارتياب في ظهور أمر النبي صلى الله عليه وسلم فلأجل ذلك الارتياب كانوا ذوي وجهين معه فأظهروا الإسلام لئلا يفوتهم ما يحصل للمسلمين من العز والنفع، على تقدير ظهور أمر الإسلام، وأبطنوا الكفر حفاظا على دينهم الفاسد وعلى صلتهم بأهل ملتهم، كما قال الله تعالى فيهم: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنْ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141].
ولعل أعظم ارتيابهم كان في عاقبة غزوة تبوك لأنهم لكفرهم ما كانوا يقدرون أن المسلمين يغلبون الروم، هذا هو الوجه في تفسير قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} كما آذن به قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} .
وجيء في قوله: {لاَ يُؤْمِنُونَ} بصيغة المضارع للدلالة على تجدد نفي إيمانهم، وفي {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} بصيغة الماضي للدلالة على قدم ذلك الارتياب ورسوخه فلذلك كان أثره استمرار انتفاء إيمانهم، ولما كان الارتياب ملازما لانتفاء الإيمان كان في الكلام شبه الاحتباك إذ يصير بمنزلة أن يقال: الذين لم يؤمنوا ولا يؤمنون وارتابت وترتاب قلوبهم.
وفرّع قوله: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} على {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} تفريع المسبب على السبب: لأنّ الارتياب هو الشك في الأمر بسبب التردد في تحصيله، فلترددهم لم يصارحوا النبي صلى الله عليه وسلم بالعصيان لاستنفاره، ولم يمتثلوا له فسلكوا مسلكا يصلح للأمرين، وهو مسلك الاستئذان في القعود، فالاستئذان مسبب على التردد، والتردد مسبّب على
الارتياب وقد دل هذا على أن المقصود من صلة الموصول في قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} . هو قوله: {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} . لأنه المنتج لانحصار الاستئذان فيهم.
و {فِي رَيْبِهِمْ} ظرف مستقر، خبر عن ضمير الجماعة، والظرفية مجازية مفيدة إحاطة الريب بهم، أي تمكنه من نفوسهم، وليس قوله: {فِي رَيْبِهِمْ} متعلقا ب {يَتَرَدَّدُونَ} .
والتردّد حقيقته ذهاب ورجوع متكرر إلى محل واحد، وهو هنا تمثيل لحال المتحير بين الفعل وعدمه بحال الماشي والراجع. وقريب منه قولهم: يقدم رجلا ويؤخر أخرى.
والمعنى: أنهم لم يعزموا على الخروج إلى الغزو. وفي هذه الآية تصريح للمنافقين بأنهم كافرون، وأن الله أطلع رسوله - عليه الصلاة والسلام - والمؤمنين على كفرهم، لأن أمر استئذانهم في التخلف قد عرفه الناس.
[46] {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} .
عطف على جملة {فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45] لأنّ معنى المعطوف عليها: أنهم لم يريدوا الخروج إلى الغزو، وهذا استدلال على عدم إرادتهم الخروج إذ لو أرادوه لأعدوا له عدته. وهذا تكذيب لزعمهم أنهم تهيأوا للغزو ثم عرضت لهم الأعذار فاستأذنوا في القعود لأن عدم إعدادهم العدة للجهاد دل على انتفاء إرادتهم الخروج إلى الغزو.
والعدّة بضم العين: ما يحتاج إليه من الأشياء، كالسلاح للمحارب، والزاد للمسافر، مشتقة من الإعداد وهو التهيئة.
والخروج تقدم آنفا.
والاستدراك في قوله: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ} استدراك على ما دل عليه شرط {وَلَوْ} من فرض إرادتهم الخروج تأكيد الانتفاء وقوعه بإثبات ضده، وعبر عن ضد الخروج بتثبيط الله إياهم لأنه في السبب الإلهي ضد الخروج فعبر به عن مسببه، واستعمال الاستدراك كذلك بعد {وَلَوْ} استعمال معروف في كلامهم كقول أبي بن سلمى الضبي:
فلو طار ذو حافر قبلها ...
لطارت ولكنه لم يطر
وقول الغطمّش الضبي:
أخلاي لو غير الحمام أصابكم ... عتبت ولكن ما على الموت معتب
إلا أن استدراك ضد الشرط في الآية كان بذكر ما يساوي الضد: وهو تثبيط الله إياهم، توفيرا لفائدة الاستدراك ببيان سبب الأمر المستدرك، وجعل هذا السبب مفرعا على علته: وهي أن الله كره انبعاثهم، فصيغ الاستدراك بذكر علته اهتماما بها، وتنبيها على أن عدم إرادتهم الخروج كان حرمانا من الله إياهم، وعناية بالمسلمين فجاء الكلام بنسج بديع وحصل التأكيد مع فوائد زائدة.
وكراهة الله انبعاثهم مفسرة في الآية بعدها بقوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:47].
والانبعاث: مطاوع بعثه إذا أرسله.
والتثبيط: إزالة العزم. وتثبيط الله إياهم: أن خلق فيهم الكسل وضعف العزيمة على الغزو.
والقعود: مستعمل في ترك الغزو تشبيها للترك بالجلوس.
والقول الذي في {وَقِيلَ اقْعُدُوا} قول أمر التكوين: أي كون فيهم القعود عن الغزو.
وزيادة قوله: {مَعَ الْقَاعِدِينَ} مذمّة لهم: لأن القاعدين هم الذين شأنهم القعود عن الغزو، وهم الضعفاء من صبيان ونساء كالعمي والزمني.
[47] {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} .
استئناف بياني لجملة {كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46] لبيان الحكمة من كراهية الله انبعاثهم، وهي إرادة الله سلامة المسلمين من إضرار وجود هؤلاء بينهم، لأنهم كانوا يضمرون المكر للملمين فيخرجون مرغمين، ولا فائدة في جيش يغزو بدون اعتقاد أنه على الحق، وتعدية فعل (الخروج) بفي شائعة في الخروج مع الجيش.
والزيادة التوفير.
وحذف مفعول {زَادُوكُمْ} لدلالة الخروج عليه، أي ما زادوكم قوة أو شيئا مما تفيد زيادته في الغزو نصرا على العدو، ثم استثني من المفعول المحذوف الخبال على طريقة
التهكم بتأكيد الشيء بما يشبه ضده فإن الخبال في الحرب بعض من عدم الزيادة في قوة الجيش، بل هو أشد عدما للزيادة، ولكنه ادعى أنه من نوع الزيادة في فوائد الحرب، وأنه يجب استثناؤه من ذلك النفي، على طريقة التهكّم.
والخبال: الفساد، وتفكك الشيء الملتحم الملتئم، فأطلق هنا على اضطراب الجيش واختلال نظامه.
وحقيقة {أَوْضَعُوا} أسرعوا سير الرِّكاب. يقال: وضع البعير وضعا، إذا أسرع ويقال: أوضعت بعيري، أي سيرته سيرا سريعا. وهذا الفعل مختص بسير الإبل فلذلك ينزل فعل أوضع منزلة القاصر لأن مفعوله معلوم من مادة فعله. وهو هنا تمثيل لحالة المنافقين حين يبذلون جهدهم لإيقاع التخاذل والخوف بين رجال الجيش، وإلقاء الأخبار الكاذبة عن قوة العدو، بحال من يجهد بعيره بالسير لإبلاغ خبر مهم أو إيصال تجارة لسوق، وقريب من هذا التمثيل قوله تعالى: {فَجَاسُوا خِلاَلَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 62] وقوله: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:62]. وأصله قولهم: يسعى لكذا، إلا أنه لما شاع إطلاق السعي في الحرص على الشيء خفيت ملاحظة تمثيل الحالة عند إطلاقه لكثرة الاستعمال فلذلك اختير هنا ذكر الإيضاع لعزة هذا المعنى، ولما فيه من الصلاحية لتفكيك الهيئة بأن يشبه الفاتنون بالركب، ووسائل الفتنة بالرواحل.
وفي ذكر {خِلاَلَكُمْ} ما يصلح لتشبيه استقرائهم الجماعات والأفراد بتغلغل الرواحل في خلال الطرق والشعاب.
والخلال: جمع خلل بالتحريك. وهو الفرجة بين شيئين واستعير هنا لمعنى بينكم تشبيها لجماعات الجيش بالأجزاء المتفرّقة.
وكتب كلمة {وَلَا أََوْضَعُوا} في المصحف - بألف بعد همزة أوضعوا - التي في اللام ألف بحيث وقع بعد اللام ألفان فأشبهت اللام ألف لا النافية لفعل {أََوْضَعُوا} ولا ينطق بالألف الثانية في القراءة فلا يقع التباس في ألفاظ الآية. قال الزجاج: وإنما وقعوا في ذلك لأن الفتحة في العبرانية وكثير من الألسنة تكتب ألفا. وتبعه الزمخشري، وقال ابن عطية: "يحتمل أن تمطل حركة اللام فتحدث ألف بين اللام والهمزة التي من أوضع، وقيل: ذلك لخشونة هجاء الأولين"، يعني لعدم تهذيب الرسم عند الأقدمين من العرب. قال الزمخشري: ومثل ذلك كتبوا {لَا أََذْبَحَنَّهُ} في سورة النمل [21] قلت: وكتبوا {لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21] بلام ألف لا غير وهي بلصق كلمة {أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل:21]، ولا في نحو
{وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} [الإسراء:73] فلا أراهم كتبوا ألفا بعد اللام ألف فيما كتبوها فيه إلا المقصد، ولعلهم أرادوا التنبيه على أن الهمزة مفتوحة وعلى أنها همزة قطع.
وجملة {يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} في موضع الحال من ضمير {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} [التوبة:46] العائد على الذين لا يؤمنون بالله في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:45] المراد بهم المنافقون كما تقدّم.
وبغى يتعدى إلى مفعول واحد لأنه بمعنى طلب، وتقدم في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} في سورة آل عمران [83]. وعدي {يَبْغُونَكُمْ} إلى ضمير المخاطبين هنا على طريقة نزع الخافض، وأصله يبغون لكم الفتنة. وهو استعمال شائع في فعل بغى بمعنى طلب.
والفتنة اختلال الأمور وفساد الرأي، وتقدمت في قوله: {وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} في سورة المائدة [المائدة:71].
وقوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} أي في جماعة المسلمين أي من بين المسلمين {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} فيجوز أن يكون هؤلاء السماعون مسلمين يصدقون ما يسمعونه من المنافقين. ويجوز ان يكون السماعون منافقين مبثوثين بين المسلمين.
وهذه الجملة اعتراض للتنبيه على أن بغيهم الفتنة أشد خطرا على المسلمين لأن في المسلمين فريقا تنطلي عليهم حيلهم، وهؤلاء هم سذج المسلمين الذين يعجبون من أخبارهم ويتأثرون ولا يبلغون إلى تمييز التمويهات والمكائد عن الصدق والحقّ.
وجاء {سَمَّاعُونَ} بصيغة المبالغة للدلالة على أن استماعهم تام وهو الاستماع الذي يقارنه اعتقاد ما يسمع كقوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة:41] وعن الحسن، ومجاهد، وابن زيد: معنى {سَمَّاعُونَ لَهُمْ} ، أي جواسيس يستمعون الأخبار وينقلونها إليهم، وقال قتادة وجمهور المفسرين: معناه: وفيكم من يقبل منهم قولهم ويطيعهم، قال النحاس الأغلب أن معنى سماع يسمع الكلام ومثله {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} [المائدة:41]. وأما من يقبل ما يسمعه فلا يكاد يقال فيه إلا سامع مثل قائل.
وجيء بحرف (في) من قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} الدالّ على الظرفية دون حرف(من) فلم يقل ومنكم سماعون لهم أو ومنهم سماعون، لئلا يتوهم تخصيص السماعين بجماعة من أحد الفريقين دون الآخر لأنّ المقصود أن السماعين لهم فريقان فريق من
المؤمنين وفريق من المنافقين أنفسهم مبثوثون بين المؤمنين لإلقاء الأراجيف والفتنة وهم الأكثر فكان اجتلاب حرف (في) إيفاء بحقّ هذا الإيجاز البديع ولأن ذلك هو الملائم لمحملي لفظ {سَمَّاعُونَ} فقد حصلت به فائدتان.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} تذييل قصد منه إعلام المسلمين بأن الله يعلم أحوال المنافقين الظالمين ليكونوا منهم على حذر، وليتوسموا فيهم ما وسمهم القرآن به، وليعلموا أن الاستماع لهم هو ضرب من الظلم.
والظلم هنا الكفر والشرك {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
[48] {لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
الجملة تعليل لقوله: {يَبْغُونَكُمْ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47] لأنّها دليل بأن ذلك ديدن لهم من قبل، إذ ابتغوا الفتنة للمسلمين وذلك يوم أحد إذ انخزل عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين بعد أن وصلوا إلى أحد، وكانوا ثلث الجيش قصدوا إلقاء الخوف في نفوس المسلمين حين يرون انخزال بعض جيشهم وقال ابن جريج: الذين ابتغوا الفتنة اثنا عشر رجلا من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
{وَقَلَّبُوا} بتشديد اللام مضاعف قلب المخفف، والمضاعفة للدلالة على قوة الفعل. فيجوز أن يكون من قلب الشيء إذا تأمل باطنه وظاهره ليطلع على دقائق صفاته فتكون المبالغة راجعة إلى الكم أي كثرة التقليب، أي ترددوا آراءهم وأعلموا المكائد والحيل للإضرار النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
ويجوز أن يكون {وَقَلَّبُوا} من قلب بمعنى فتش وبحث، استعير التقليب للبحث والتفتيش لمشابهة التفتيش للتقليب في الإحاطة بحال الشيء كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف:42] فيكون المعنى، أنهم بحثوا وتجسسوا للاطلاع على شأن المسلمين وإخبار العدوّ به.
واللام في قوله: {لَكَ} على هذين الوجهين لام العلة، أي لأجلك وهو مجمل يبينه قوله: {لَقَدْ ابْتَغَوْا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ} [التوبة:48]. فالمعنى اتبعوا فتنة تظهر منك، أي في أحوالك وفي أحوال المسلمين.
ويجوز أن يكون {وَقَلَّبُوا} مبالغة في قلب الأمر إذا أخفى ما كان ظاهرا منه وأبدى ما كان خفيا، كقولهم: قلب له ظهر المجن. وتعديته باللام في قوله: {لَكَ} ظاهرة.
و {الأُمُورَ} جمع أمر، وهو اسم مبهم مثل شيء كما في قول الموصلي:
ولكن مقادير جرت وأمور
والألف واللام فيه للجنس، أي أمورا تعرفون بعضها ولا تعرفون بعضا.
و {حَتَّى} غاية لتقليبهم الأمور.
ومجيء الحق حصوله واستقراره والمراد بذلك زوال ضعف المسلمين وانكشاف أمر المنافقين.
والمراد بظهور أمر الله نصر المسلمبن بفتح مكة ودخول الناس في الدين أفواجا. وذلك يكرهه المنافقون.
الظهور والغلبة والنصر.
و {أَمْرُ اللَّهِ} دينه، أي فلما جاء الحق وظهر أمر الله علموا أن فتنتهم لا تضر المسلمين، فلذلك لم يروا فائدة في الخروج معهم إلى غزوة تبوك فاعتذروا عن الخروج من أول الأمر.
[49] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
نزلت في بعض المنافقبن استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في التخلف عن تبوك ولم يبدوا عذرا يمنعهم من الغزو، ولكنهم صرحوا بأن الخروج إلى الغزو يفتنهم لمحبة أموالهم وأهليهم، ففضح الله أمرهم بأنهم منافقون: لأن ضمير الجمع المجرور عائد إلى {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:45]، وقيل: قال جماعة منهم: ائذن لنا لأنا قاعدون أذنت لنا أم لم تأذن فإذن لنا لئلا نقع في المعصية. وهذا من أكبر الوقاحة لأن الإذن في هذه الحالة كلا إذن، ولعلهم قالوا ذلك لعملهم برفق النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: إن الجد بن قيس قال: يا رسول الله لقد علم الناس أني مستهتر بالنساء فإني إذا رأيت نساء بني الأصفر افتتنت بهن فأذن لي في التخلف ولا تفتني وأنا أعينك بمالي، فأذن لهم. ولعل كل ذلك كان.
والإتيان بأداة الاستفتاح في جملة {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} للتنبيه على ما بعدها من عجيب حالهم إذ عاملهم الله بنقيض مقصودهم فهم احترزوا عن فتنة فوقعوا في الفتنة. فالتعريف في الفتنة ليس تعريف العهد إذ لا معهود هنا، ولكنه تعريف الجنس المؤذن بكمال المعرف في جنسه، أي في الفتنة العظيمة سقطوا، فأي وجه فرض في المراد من الفتنة حين قال قائلهم {وَلاَ تَفْتِنِّي} كان ما وقع فيه أشد مما تفصى منه، فإن أراد فتنة الدين فهو واقع في أعظم الفتنة بالشرك والنفاق، وإن أراد فتنة سوء السمعة بالتخلف فقد وقع في أعظم بافتضاح أمر نفاقهم، وإن أراد فتنة النكد بفراق الأهل والمال فقد وقع في أعظم نكد بكونه ملعونا مبغوضا للناس. وتقدم بيان {الْفِتْنَةِ} قريبا.
والسقوط مستعمل مجازا في الكون فجأة على وجه الاستعارة: شبه ذلك الكون بالسقوط في عدم التهيؤ له وفي المفاجأة باعتبار أنهم حصلوا في الفتنة في حال أمنهم من الوقوع فيها، فهم كالساقط في هوة على حين ظن أنه ماش في طريق سهل ومن كلام العرب "على الخبير سقطت".
وتقديم المجرور على عامله، للاهتمام به لأنه المقصود من الجملة.
وهذه الجملة تسير مسرى المثل.
وجملة {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} معترضة والواو اعتراضية، أي وقعوا في الفتنة المفضية إلى الكفر. والكفر يستحق جهنم.
وإحاطة جهنم مراد منها عدم إفلاتهم منها، فالإحاطة كناية عن عدم الإفلات. والمراد بالكافرين: جميع الكافرين فيشمل المتحدث عنهم لثبوت كفرهم بقوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:45].
ووجه العدول عن الإتيان بضميرهم إلى الإتيان بالاسم الظاهر في قوله: {لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} إثبات إحاطة جهنم بهم بطريق شبيه بالاستدلال، لأن شمول الاسم الكلي لبعض جزئياته أشهر أنواع الاستدلال.
[50] {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ} .
تتنزل هذه الجملة منزلة البيان لجملة {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} [التوبة:45]، وما بين الجملتين استدلال على كذبهم في ما اعتذروا به وأظهروا الاستئذان لأجله، وبين هنا أن ترددهم هو أنهم يخشون ظهور أمر المسلمين، فلذلك لا يصارحونهم بالإعراض ويودون خيبة المؤمنين، فلذلك لا يحبون الخروج معهم.
والحسنة: الحادثة التي تحسن لمن حلت به واعترته. والمراد بها هنا النصر والغنيمة.
والمصيبة مشتقة من أصاب بمعنى حل ونال وصادف، وخصت المصيبة في اللغة بالحادثة التي تعتري الإنسان فتسوءه وتحزنه. ولذلك عبر عنها بالسيئة في قوله تعالى، في سورة آل عمران [120]: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا} . والمراد بها الهزيمة في الموضعين، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} في سورة الأعراف [95].
وقولهم: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} ابتهاج منهم بمصادفة أعمالهم ما فيه سلامتهم فيزعمون أن يقظتهم وحزمهم قد صادفا المحز، إذ احتاطوا له قبل الوقوع في الضرّ.
والأخذ حقيقته التناول، وهو هنا مستعار للاستعداد والتلافي.
والأمر الحال المهم صاحبه، أي: قد استعددنا لما يهمنا فلم نقع في المصيبة.
والتولي حقيقته الرجوع، وتقدم في قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ} في سورة البقرة [205]. وهو هنا تمثيل لحالهم في تخلصهم من المصيبة، التي قد كانت تحل بهم لو خرجوا مع المسلمين، بحال من أشرفوا على خطر ثم سلموا منه ورجعوا فارحين مسرورين بسلامتهم وبإصابة أعدائهم.
[51] {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} .
تلقين جواب لقولهم: {قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [50] المنبي عن فرحهم بما ينال المسلمين من مصيبة بإثبات عدم اكتراث المسلمين بالمصيبة وانتفاء حزنهم عليها لأنهم يعلمون أن ما أصابهم ما كان إلا بتقدير الله لمصلحة المسلمين في ذلك، فهو نفع محض كما تدل عليه تعدية فعل {كَتَبَ} باللام المؤذنة بأنه كتب ذلك لنفعهم وموقع هذا
الجواب هو أن العدو يفرح بمصاب عدوه لأنه ينكد عدوه ويحزنه، فإذا علموا أن النبيء لا يحزن لما أصابه زال فرحهم.
وفيه تعليم للمسلمين التخلق بهذا الخلق: وهو أن لا يحزنوا لما يصيبهم لئلا يهنو وتذهب قوتهم، كما قال تعالى: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:104،139]. وأن يرضوا بما قدر الله لهم ويرجوا رضي ربهم لأنهم واثقون بأن الله يريد نصر دينه.
وجملة {هُوَ مَوْلاَنَا} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو معترضة أي لا يصيبنا إلا ما قدره الله لنا، ولنا الرجاء بأنه لا يكتب لنا إلا ما فيه خيرنا العاجل أو الآجل، لأن المولى لا يرضى لمولاه الخزي.
وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {قُلْ} فهي من كلام الله تعالى خبرا في معنى الأمر، أي قل ذلك ولا تتوكلوا إلا على الله دون نصرة هؤلاء، أي اعتمدوا على فضله عليكم.
ويجوز أن تكون معطوفة على جملة {لَنْ يُصِيبَنَا} أي قل ذلك لهم، وقل لهم إن المؤمنين لا يتوكلون إلا على الله، أي يؤمنون بأنه مؤيدهم، وليس تأييدهم بإعانتكم، وتفصيل هذا الإجمال في الجملة التي بعدها. والفاء الداخلة على {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فاء تدلّ على محذوف مفرع عليه اقتضاه تقديم المعمول، أي على الله فليتوكل المؤمنون.
[52] {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} .
تتنزل هذه الجملة منزلة البيان لما تضمنته جملة {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] الآية، ولذلك لم تعطف عليها، والمبين هو إجمال {مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا} [التوبة:51] كما تقدم.
والمعنى لا تنتظرون من حالنا إلا حسنة عاجلة أو حسنة آجلة فأما نحن فننتظر من حالكم أن يعذبكم الله في الآخرة بعذاب النار، أو في الدنيا بعذاب على غير أيدينا من عذاب الله في الدنيا: كالجوع والخوف، أو بعذاب بأيدينا، وهو عذاب القتل، إذا أذن الله بحربكم، كما في قوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ
فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ} [الأحزاب:60] الآية.
والاستفهام مستعمل في النفي بقرينة الاستثناء. ومعنى الكلام توبيخ لهم وتخطئة لتربصهم لأنهم يتربصون بالمسلمين أن يقتلوا، ويغفلون عن احتمال ان ينصروا فكان المعنى: لا تتربصون بنا إلا أن نقتل أو نغلب وذلك إحدى الحسنين.
والتربص: انتظار حصول شيء مرغوب حصوله، وأكثر استعماله. أن يكون انتظار حصول شيء لغير المنتظر (بكسر الظاء) ولذلك كثرت تعدية فعل التربص بالباء لأن المتربص ينتظر شيئا مصاحبا لآخر هو الذي لأجله الانتظار. وأما قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:228] فقد نزلت {بِأَنفُسِهِنَّ} منزلة المغاير للمبالغة في وجوب التربّص، ولذلك قال في "الكشاف": "في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث". وقد تقدم ذلك هنالك، وأما قوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:226] فهو على أصل الاستعمال لأنه تربص بأزواجهم.
وجملة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} معطوفة على جملة الاستفهام عطف الخبر على الإنشاء: بل على خبر في صورة الإنشاء، فهي من مقول القول وليس فيها معنى الاستفهام. والمعنى: وجود البون بين الفريقين في عاقبة الحرب في حالي الغلبة والهزيمة.
وجعلت جملة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ} اسمية فلم يقل ونتربص بكم بخلاف الجملة المعطوف عليها: لإفادة تقوية التربص، وكناية عن تقوية حصول المتربص لأن تقوية التربص تفيد قوة الرجاء في حصول المتربص فتفيد قوة حصوله وهو المكنىّ عنه.
وتفرع على جملة {قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا} جملة {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} لأنه إذا كان تربص كل من الفريقين مسفرا عن إحدى الحالتين المذكورتين كان فريق المؤمنين أرضى الفريقين بالمتربصين لأن فيهما نفعه وضر عدوه.
والأمر في قوله: {َتَرَبَّصُوا} للتحضيض المجازي المفيد قلة الاكتراث بتربصهم كقول طريف بن تميم العنبري:
فتوسموني إنني أنا ذالكم ... شاكي سلاحي في الحوادث معلم
وجملة {إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} تهديد للمخاطبين والمعية هنا: معية في التربص، أو في زمانه، وفصلت هذه الجملة عن التي قبلها لأنها كالعلة للحض.
[52] {قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
ابتداء كلام هو جواب عن قول بعض المستأذنين منهم في التخلف "وأنا أعينك بمالي". روي أن قائل ذلك هو الجد بن قيس، أحد بني سلمة، الذي نزل فيه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلاَ تَفْتِنِّي} [التوبة:49] كما تقدّم، وكان منافقا. وكأنهم قالوا ذلك مع شدة شحهم لأنهم ظنوا أن ذلك يرضي النبي صلى الله عليه وسلم عن قعودهم عن الجهاد.
وقوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي بمال تبذلونه عوضا عن الغزو، أو بمال تنفقونه طوعا مع خروجكم إلى الغزو، فقوله: {طَوْعًا} إدماج لتعميم أحوال الإنفاق في عدم القبول فإنهم لا ينفقون إلا كرها لقوله تعالى بعد هذا: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة:54].
والأمر في {أَنفِقُوا} للتسوية أي: أنفقوا أو لا تنفقوا، كما دلت عليه {أَوْ} في قوله: {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} وهو في معنى الخبر الشرطي لأنه في قوة أن يقال: لن يتقبل منكم إن أنفقتم طوعا أو أنفقتم كرها، ألا ترى أنه قد يجيء بعد أمثاله الشرط في معناه كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
والكره أشد الإلزام، وبينه وبين الطوع مراتب تعلم إرادتها بالأولى، وانتصب {طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} على النيابة عن المفعول المطلق بتقدير: إنفاق طوع أو إنفاق كره. ونائب فاعل يتقبل: هو {مِنْكُمْ} أي لا يتقبل منكم شيء وليس المقدر الإنفاق المأخوذ من {أَنفِقُوا} بل المقصود العموم.
وجملة {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} في موضع العلة لنفي التقبل، ولذلك وقعت فيها (إن) المفيدة لمعنى فاء التعليل، لأن الكافر لا يتقبل من عمل البر. والمراد بالفاسقين: الكافرون، ولذلك أعقب بقوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ} [التوبة:54]. وإنما اختير وصف الفاسقين دون الكافرين لأنهم يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، فكانوا كالمائلين عن الإسلام إلى الكفر. والمقصود من هذا تأييسهم من الانتفاع بما بذلوه من أموالهم، فلعلهم كانوا يحسبون أن الإنفاق في الغزو ينفعهم على تقدير صدق دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من شكهم في أمر الدين، فتوهموا أنهم يعملون
أعمالا تنفع المسلمين يجدونها عند الحشر على فرض ظهور صدق الرسول. ويبقون على دينهم فلا يتعرضون للمهالك في الغزو ولا للمشاق، وهذا من سوء نظر أهل الضلالة كما حكى الله تعالى عن بعضهم {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم:77] إذ حسب أنه يحشر يوم البعث بحالته التي كان فيها في الحياة إذا صدق إخبار الرسول بالبعث.
[54] {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} .
عطف على جملة {إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ} [التوبة:53] لأن هذا بيان للتعليل لعدم قبول نفقاتهم بزيادة ذكر سببين آخرين ما نعين من قبول أعمالهم هما من آثار الكفر والفسوق. وهما: أنهم لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وأنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون. والكفر وإن كان وحده كافيا في عدم القبول، إلا أن ذكر هذين السببين إشارة إلى تمكن الكفر من قلوبهم وإلى مذمتهم بالنفاق الدال على الجبن والتردد. فذكر الكفر بيان لذكر الفسوق، وذكر التكاسل عن الصلاة لإظهار أنهم متهاونون بأعظم عبادة فكيف يكون إنفاقهم عن إخلاص ورغبة. وذكر الكراهية في الإنفاق لإظهار عدم الإخلاص في هذه الخصلة المتحدث عنها.
وقرأ حمزة والكسائي: {يُقْبَلَ مِنْهُمْ} - بالمثناة التحتية - لأن جمع غير المؤنث الحقيقي يجوز فيه التذكير وضدّه.
[55] {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
تفريع على مذمة حالهم في أموالهم، وأن وفرة أموالهم لا توجب لهم طمأنينة بلا، بإعلام المسلمين أن ما يرون بعض هؤلاء المنافقين فيه من متاع الحياة الدنيا لا ينبغي أن يكون محل إعجاب المؤمنين، وأن يحسبوا المنافقين قد نالوا شيئا من الحظ العاجل ببيان أن ذلك سبب في عذابهم في الدنيا.
فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد تعليم الأمة.
ومعنى هذه الآية: أن الله كشف سرا من أسرار نفوس المنافقين بأنه خلق في
نفوسهم شحا وحرصا على المال وفتنة بتوفيره والإشفاق من ضياعه، فجعلهم بسبب ذلك في عناء وعذاب من جراء أموالهم، فهم في كبد من جمعها. وفي خوف عليها من النقصان، وفي ألم من إنفاق ما يلجئهم الحال إلى إنفاقه منها، فقد أراد الله تعذيبهم في الدنيا بما الشأن أن يكون سبب نعيم وراحة، وتم مراده. وهذا من أشد العقوبات الدنيوية وهذا شأن البخلاء وأهل الشح مطلقا، إلا أن المؤمنين منهم لهم مسلاة عن الرزايا بما يرجون من الثواب على الإنفاق أو على الصبر. ثم يجوز أن يكون هذا الخلق قد جبلهم الله عليه من وقت وجودهم فيكون ذلك من جملة بواعث كفرهم ونفاقهم، إذ الخلق السيئ يدعو بعضه بعضا، فإن الكفر خلق سيئ فلا عجب أن تنساق إليه نفس البخيل الشحيح، والنفاق يبعث عليه الخلق السيئ من الجبن والبخل، ليتقي صاحبه المخاطر، وكذلك الشأن في أولادهم إذ كانوا في فتنة من الخوف على إيمان بعض أولادهم، وعلى خلاف بينهم وبين بعض أولادهم الموفقين إلى الإسلام: مثل حنظلة. ابن أبي عامر الملقب غسيل الملائكة، وعبد الله بن عبد الله بن أبي فكان ذلك من تعذيب أبويهما.
ولكون ذكر الأولاد كالتكملة هنا لزيادة بيان عدم انتفاعهم بكل ما هو مظنة أن ينتفع به الناس، عطف الأولاد بإعادة حرف النفي بعد العاطف، إيماء إلى أن ذكرهم كالتكملة والاستطراد.
واللام في {لِيُعَذِّبَهُمْ} للتعليل: تعلقت بفعل الإرادة للدلالة على أن المراد حكمة وعلة فتغني عن مفعول الإرادة، وأصل فعل الإرادة أن يعدى بنفسه كقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ} [البقرة:185] ويعدى غالبا باللام كما في هذه الآية. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [النساء:26] وقول كثيّر:
أريد لأنسى حبها فكأنما ... تمثل لي ليلى بكل مكان
وربما عدوه باللام وكي مبالغة في التعليل كقول قيس بن عبادة:
أردت لكيما يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وهذه اللام كثير وقوعها بعد مادة الإرادة ومادة الأمر. وبعض القراء سماها (لام أنْ) - بفتح الهمزة -وتقدم عند قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} في سورة النساء [النساء:26].
فقوله: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} متعلق بـ {يُعَذِّبَهُمْ} ومحاولة التقديم والتأخير تعسّف وعطف {وَتَزْهَقَ} على {لِيُعَذِّبَهُمْ} باعتبار كونه إرادة الله لهم عندما رزقهم الأموال
والأولاد فيعلم منه: أنه أراد موتهم على الكفر، فيستغرق التعذيب بأموالهم وأولادهم حياتهم كلها، لأنهم لو آمنوا في جزء من آخر حياتهم لحصل لهم في ذلك الزمن انتفاع ما بأموالهم ولو مع الشح.
وجملة: {وَهُمْ كَافِرُونَ} في موضع الحال من الضمير المضاف إليه لأنه إذا زهقت النفس في حال الكفر فقد مات كافراً.
والإعجاب استحسان مشوب باستغراب وسرور من المرئي قال تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100] أي استحسنت مرأى وفرة عدده.
و(الزهوق) الخروج بشدة وضيق، وقد شاع ذكره في خروج الروح من الجسد، وسيأتي مثل هذه الآية في هذه السورة.
[56] {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} .
هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق. وضمائر الجمع عائدة إليهم، قصد منها إبطال ما يموهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقسم على أنهم من المؤمنين.
فمعنى {إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ} أي بعض من المخاطبين ولما كان المخاطبون مؤمنين، كان التبعيض على اعتبار اتصافهم بالإيمان، بقرينة القسم لأنهم توجسوا شك المؤمنين في أنهم مثلهم.
والفرق: الخوف الشديد.
واختيار صيغة المضارع في قوله: {وَيَحْلِفُونَ} وقوله: {يَفْرَقُونَ} للدلالة على التجدد وأن ذلك دأبهم.
ومقتضى الاستدراك: أن يكون المستدرك أنهم ليسوا منكم، أي كافرون، فحذف المستدرك استغناء بأداة الاستدراك، وذكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنه تظاهر باطل وبأن الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم: هو أنهم يفرقون من المؤمنين، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين.
وحذف متعلق {يَفْرَقُونَ} لظهوره، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم، كما قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً,مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً} [الأحزاب:61،60].
وقوله: {وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضا وما هم منكم ولكنهم قوم متصفون بصفة الجبن، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزة، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين، وفي معنى هذا قوله تعالى: {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46] وقول مساور بن هند في ذم بني أسد:
زعمتم أن إخوتكم قريش ... لهم إلف وليس لكم إلاف
أولئك أومنوا جوعا وخوفا ... وقد جاعت بنو أسد وخافوا
فيكون توجيها بالثناء على المؤمنين، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى. وفي هذه الآية دلالة على أن اختلاف الخلق مانع من المواصلة والموافقة.
[57] {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} .
بيان لجملة {وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة:56].
والملجأ: مكان اللجإ، وهو الإيواء والاعتصام.
والمغارات: جمع مغارة، وهي الغار المتسع الذي يستطيع الإنسان الولوج فيه، ولذلك اشتق لها المفعل: الدال على مكان الفعل، من غار الشيء إذا دخل في الأرض. والمدخل مفتعل اسم مكان للإدخال الذي هو افتعال من الدخول. قلبت تاء الافتعال دالا لوقوعها بعد الدال، كما أبدلت في أدان، وبذلك قرأه الجمهور. وقرأ يعقوب وحده {أَوْ مُدَّخَلاً} - بفتح الميم وسكون الدال - اسم مكان من دخل.
ومعنى {لَوَلَّوْا إِلَيْهِ} لانصرفوا إلى أحد المذكورات وأصل ولى أعرض ولما كان الإعراض يقتضي جهتين: جهة ينصرف عنها، وجهة ينصرف إليها، كانت تعديته بأحد الحرفين تعين المراد.
والجموح: حقيقته النفور، واستعمل هنا تمثيلا للسرعة مع الخوف.
والمعنى: أنهم لخوفهم من الخروج إلى الغزو لو وجدوا مكانا مما يختفي فيه المختفي فلا يشعر به الناس لقصدوه مسرعين خشية أن يعزم عليهم الخروج إلى الغزو.
[58] {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} .
عرف المنافقون بالشح كما قال الله تعالى: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} [الأحزاب:19] - وقال - {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} [الأحزاب:19] ومن شحهم أنهم يودون أن الصدقات توزع عليهم فإذا رأوها توزع على غيرهم طعنوا في إعطائها بمطاعن يلقونها في أحاديثهم، ويظهرون أنهم يغارون على مستحقيها، ويشمئزون من صرفها في غير أهلها، وإنما يرومون بذلك أن تقصر عليهم.
روي أن أبا الجواظ، من المنافقين، طعن في أن أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات بعض ضعفاء الأعراب رعاء الغنم، إعانة لهم، وتأليفا لقلوبهم، فقال: ما هذا بالعدل أن يضع صدقاتكم في رعاء الغنم، وقد أمر أن يقسمها في الفقراء والمساكين، وقد روي أنه شافه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت في ذي الخويصرة التميمي الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أعدل، وكان ذلك في قسمة ذهب جاء من اليمن سنة تسع، فلعل السبب تكرر، وقد كان ذو الخويصرة من المنافقين من الأعراب.
واللمزّ القدح والتعييب مضارعه من باب يضرب، وبه قرأ الجمهور، ومن باب ينصر، وبه قرأ يعقوب وحده.
وأدخلت {فِي} على الصدقات، وإنما اللمز في توزيعها لا في ذواتها: لأن الاستعمال يدل على المراد، فهذا شائع من إسناد الحكم إلى الأعيان والمراد أحوالها.
ثم إن قوله: {فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا} يحتمل: أن المراد ظاهر الضمير أن يعود على المذكور، أي أن أعطي اللامزون، أي أن الطاعنين يطمعون أن يأخذوا من أموال الصدقات بوجه هدية وإعانة، فيكون ذلك من بلوغهم الغاية في الحرص والطمع، ويحتمل أن الضمير راجع إلى ما رجع إليه ضمير {مِنْهُمْ} أي: فإن أعطي المنافقون رضي اللامزون، وإن أعطي غيرهم سخطوا، فالمعنى أنهم يرومون أن لا تقسم الصدقات إلا على فقرائهم ولذلك كره أبو الجواظ أن يعطى الأعراب من الصدقات.
ولم يذكر متعلق {رَضُوا} ، لأن المراد صاروا راضيين، أي عنك.
ودلت {إِذَا} الفجائية على أن سخطهم أمر يفاجئ العاقل حين يشهده لأنه يكون في غير مظنة سخط، وشأن الأمور المفاجئة أن تكون غريبة في بابها.
[59] {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} .
جملة معطوفة على جملة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] باعتبار ما تفرع عليها من قوله: {فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون} عطفا ينبئ عن الحالة المحمودة، بعد ذكر الحالة المذمومة.
وجواب {وَلَوْ} محذوف دل عليه المعطوف عليه، وتقديره: لكان ذلك خيرا لهم.
والإيتاء: الإعطاء، وحقيقته إعطاء الذوات ويطلق مجازا على تعيين المواهب كما في {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251] وفي {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54].
وقوله: {مَا آتَاهُمْ اللَّهُ} من هذا القبيل، أي ما عينه لهم، أي لجماعتهم من الصدقات بنوطها بأوصاف تحققت فيهم كقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] الآية.
وإيتاء الرسول صلى الله عليه وسلم: إعطاؤه المال لمن يرى أن يعطيه مما جعل الله له التصرف فيه، مثل النفل في المغانم، والسلب، والجوائز، والصلات، ونحو ذلك، ومنه إعطاؤه من جعل الله لهم الحق في الصدقات.
ويجوز أن يكون إيتاء الله عين إيتاء الرسول - عليه الصلاة والسلام - ، وإنما ذكر إيتاء الله للإشارة إلى أن ما عينه لهم الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما عينه الله لهم، كما في قوله: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي ما أوحي الله به إلى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم وقوله: {قُلْ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال:1].
وحسب: اسم بمعنى الكافي، والكفاية تستعمل بمعنى الاجتزاء، وتستعمل بمعنى ولي مهم المكفي، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وهي هنا من المعنى الأول.
ورضي إذا تعدى إلى المفعول دل على اختيار المرضي، وإذا عدي بالباء دل على أنه صار راضيا بسبب ما دخلت عليه الباء، كقوله: {أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [التوبة:38]. وإذا عدي ب(عن) فمعناه أنه تجاوز عن تقصيره أو عن ذنبه {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ
اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنْ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:96].
فالقول هنا مراد به الكلام مع الاعتقاد، فهو كناية عن اللازم مع جواز إرادة الملزوم، فإذا أضمروا ذلك في أنفسهم فذلك من الحالة الممدوحة ولكن لما وقع هذا الكلام في مقابلة حكاية اللمز في الصدقات، واللمز يكون بالكلام دلالة على الكراهية، جعل ما يدل على الرضا من الكلام كناية عن الرضى.
وجملة {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} بيان لجملة {حَسْبُنَا اللَّهُ} لأن كفاية المهم تقتضي تعهد المكفي بالعوائد ودفع الحاجة، والإيتاء فيه بمعنى إعطاء الذوات.
والفضل زيادة الخير والمنافع {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} [غافر:61] والفضل هنا المعطى: من إطلاق المصدر وإرادة المفعول، بقرينة من التبعيضية، ولو جعلت {مِنْ} ابتدائية لصحت إرادة معنى المصدر.
وجملة {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} تعليل، أي لأننا راغبون فضله.
وتقديم المجرور لإفادة القصر، أي إلى الله راغبون لا إلى غيره، والكلام على حذف مضاف، تقديره: إنا راغبون إلى ما عينه الله لنا لا نطلب إعطاء ما ليس من حقنا.
والرغبة الطلب بتأدب.
[60] {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
هذه الآية اعتراض بين جملة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] وجملة {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61] الآية. وهو استطراد نشأ عن ذكر اللمز في الصدقات أدمج فيه تبيين مصارف الصدقات.
والمقصود من أداة الحصر: أن ليس شيء من الصدقات بمستحق للذين لمزوا في الصدقات، وحصر الصدقات في كونها مستحقة للأصناف المذكورة في هذه الآية، فهو قصر إضافي أي الصدقات لهؤلاء لا لكم.
وأما انحصارها في الأصناف الثمانية دون صنف آخر فيستفاد من الاقتصار عليها في مقام البيان إذ لا تكون صيغة القصر مستعملة للحقيقي والإضافي معا إلا على طريقة
استعمال المشترك في معنييه.
الفقير صفة مشبهة أي المتصف بالفقر وهو عدم امتلاك ما به كفاية لوازم الإنسان في عيشه، وضده الغني. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} في سورة النساء[135].
والمسكين ذو المسكنة، وهي المذلة التي تحصل بسبب الفقر، ولا شك أن ذكر أحدهما يغني عن ذكر الآخر، وإنما النظر فيما إذا جمع ذكرهما في كلام واحد؛ فقيل: هو من قبيل التأكيد، ونسب إلى أبي يوسف ومحمد بن الحسن وأبي علي الجبائي، وقيل: يراد بكل من الكلمتين معنى غير المراد من الأخرى، واختلف في تفسير ذلك على أقوال كثيرة: الأوضح منها أن يكون المراد بالفقير المحتاج احتياجا لا يبلغ بصاحبه إلى الضراعة والمذلة. والمسكين المحتاج احتياجا يلجئه إلى الضراعة والمذلة، ونسب هذا إلى مالك، وأبي حنيفة، وابن عباس، والزهري، وابن السكيت، ويونس بن حبيب؛ فالمسكين أشد حاجة لأن الضراعة تكون عند ضعف الصبر عن تحمل ألم الخصاصة، والأكثر إنما يكون ذلك من شدة الحاجة على نفس المحتاج. وقد تقدم الكلام عليهما عند قوله تعالى: {وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} في سورة النساء [36].
و {وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} معناه العاملون لأجلها، أي لأجل الصدقات فحرف (على) للتعليل كما في قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185] أي لأجل هدايته إياكم. ومعنى العمل السعي والخدمة وهؤلاء هم الساعون على الأحياء لجمع زكاة الماشية واختيار حرف (على) في هذا المقام لما يشعر به أصل معناه من التمكن، أي العاملين لأجلها عملا قويا لأن السعاة يتجشمون مشقة وعملا عظيما، ولعل الإشعار بذلك لقصد الإيماء إلى أن علة استحقاقهم مركبة من أمرين: كون عملهم لفائدة الصدقة، وكونه شاقا، ويجوز أن تكون (على) دالة على الاستعلاء المجازي، وهو استعلاء التصرف كما يقال: هو عامل على المدينة، أي العاملين للنبي أو للخليفة على الصدقات أي متمكنين من العمل فيها.
وممن كان على الصدقة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم حمل بن مالك بن النابغة الهذلي كان على صدقات هذيل.
{وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} هم الذين تؤلف، أي تؤنس نفوسهم للإسلام من الذين دخلوا
في الإسلام بحدثان عهد، أو من الذين يرغبون في الدخول في الإسلام، لأنهم قاربوا أن يسلموا.
والتأليف: إيجاد الألفة وهي التأنس.
فالقلوب بمعنى النفوس. وإطلاق القلب على ما به إدراك الاعتقاد شائع في العربية.
وللمؤلفة قلوبهم أحوال: فمنهم من كان حديث عهد بالإسلام، وعرف ضعف حينئذ في إسلامه، مثل: أبي سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، من مسلمة الفتح؛ ومنهم من هم كفار أشداء، مثل: عامر بن الطفيل، ومنهم من هم كفار، وظهر منهم ميل إلى الإسلام، مثل: صفوان بن أمية. فمثل هؤلاء أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من أموال الصدقات وغيرها يتألفهم على الإسلام، وقد بلغ عدد من عدهم ابن العربي في "الأحكام" من المؤلفة قلوبهم: تسعة وثلاثين رجلا، قال ابن العربي: وعد منهم أبو إسحاق يعني القاضي إسماعيل بن إسحاق معاوية بن أبي سفيان، ولم يكن منهم وكيف يكون ذلك، وقد ائتمنه النبي صلى الله عليه وسلم على وحي الله وقرآنه وخلطه بنفسه.
و {الرِّقَابِ} العبيد جمع رقبة وتطلق على العبد. قال تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92].
و {َفِي} للظرفية المجازية وهي مغنية عن تقدير "فك الرقاب" لأن الظرفية جعلت الرقاب كأنها وضعت الأموال في جماعتها. ولم يجر باللام لئلا يتوهم أن الرقاب تدفع إليهم أموال الصدقات، ولكن تبذل تلك الأموال في عنق الرقاب بشراء أو إعانة على نجوم كتابة، أو فداء أسرى مسلمين، لأن الأسرى عبيد لمن أسروهم، وقد مضى في سورة البقرة قوله: {وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} .
{وَالْغَارِمِينَ} المدينون الذين ضاقت أموالهم عن أداء ما عليهم من الديون، بحيث يرزأ دائنوهم شيئا من أموالهم، أو يرزأ المدينون ما بقي لهم من مال لإقامة أود الحياة، فيكون من صرف أموال من الصدقات في ذلك رحمة للدائن والمدين.
و {سَبِيلِ اللَّهِ} الجهاد، أي يصرف من أموال الصدقات ما تقام به وسائل الجهاد من آلات وحراسة في الثغور، كل ذلك برا وبحرا.
و {وَابْنَ السَّبِيلِ} الغريب بغير قومه، أضيف إلى {السَّبِيلِ} بمعنى الطريق: لأنّه أولده
الطريق الذي أتى به، ولم يكن مولودا في القوم، فلهذا المعنى أطلق عليه لفظ ابن السبيل.
ولفقهاء الأمة في الأحكام المستمدة من هذه الآية طرائق جمة، وأفهام مهمة، ينبغي أن نلم بالمشهور منها بما لا يفضي بنا إلى الإطالة، وإن معانيها لأوفر مما تفي به المقالة.
فأما ما يتعلق بجعل الصدقات لهؤلاء الأصناف فبقطع النظر عن حمل اللام في قوله: {لِلْفُقَرَاءِ} على معنى الملك أو الاستحقاق، فقد اختلف العلماء في استحقاق المستحقين من هذه الصدقات هل يجب إعطاء كل صنف مقدارا من الصدقات، وهل تجب التسوية بين الأصناف فيما يعطى كل صنف من مقدارها، والذي عليه جمهور العلماء أنه لا يجب الإعطاء لجميع الأصناف، بل التوزيع موكول لاجتهاد ولاة الأمور يضعونها على حسب حاجة الأصناف وسعة الأموال، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعلي، وحذيفة، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي، والحسن، ومالك، وأبي حنيفة. وعن مالك أن ذلك مما أجمع عليه الصحابة، قال ابن عبد البر: ولا نعلم مخالفا في ذلك من الصحابة، وعن حذيفة. إنما ذكر الله هذه الأصناف لتعرف وأي صنف أعطيت منها أجزأك. قال الطبري: الصدقة لسد خلة المسلمين أو لسد خلة الإسلام، وذلك مفهوم من مآخذ القرآن في بيان الأصناف وتعدادهم. قلت وهذا الذي اختاره حذاق النظار من العلماء، مثل ابن العربي، وفخر الدين الرازي.
وذهب عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي: إلى وجوب صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكل صنف ثمن الصدقات فإن انعدم أحد صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكل صنف ثمن الصدقات فإن انعدم أحد الأصناف قسمت الصدقات إلى كسور بعدد ما بقي من الأصناف. واتفقوا على أنه لا يجب توزيع ما يعطى إلى أحد الأصناف على جميع أفراد ذلك الصنف.
وأمّا ما يرجع إلى تحقيق معاني الأصناف، وتحديد صفاتها: فالأظهر في تحقيق وصف الفقير والمسكين أنه موكول إلى العرف، وأن الخصاصة متفاوتة وقد تقدم آنفا. واختلف العلماء في ضبط المكاسب التي لا يكون صاحبها فقيرا، واتفقوا على أن دار السكنى والخادم لا يعدان مالا يرفع عن صاحبه وصف الفقر.
وأمّا القدرة على التكسب، فقيل لا يعد القادر عليه فقيرا ولا يستحق الصدقة بالفقر وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وابن خويز منداد، ويحيى بن عمر من المالكية. . . ورويت
في ذلك أحاديث رواها الدار قطني، والترمذي، وأبو داوود. وقيل: إذا كان قويا ولا مال له جاز له أخذ الصدقة، وهو المنقول عن مالك واختاره الترمذي. والكيا الطبري من الشافعية.
وأما العاملون عليها فهم يتعينون بتعيين الأمير، وعن ابن عمر يعطون على قدر عملهم من الأجرة. وهو قول مالك وأبي حنيفة.
وأما المؤلفة قلوبهم فقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عطايا متفاوتة من الصدقات وغيرها. فأما الصدقات فلهم حق فيها بنص القرآن، وأما غير الصدقات فبفعل النبي صلى الله عليه وسلم، واستمر عطاؤهم في خلافة أبي بكر، وزمن من خلافة عمر، وكانوا يعطون بالاجتهاد، ولم يكونوا يعينون لهم ثمن الصدقات ثم اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف، وهي مسألة غريبة لأنها مبنية على جواز النسخ بدليل العقل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنية على هذا الأصل نظر. وإنما بناؤها على أنه إذا تعطل المصرف فلمن يرد سهمه وينبغي أن تقاس على حكم سهم من مات من أهل الحبس أن نصيبه يصير إلى بقية المحبس عليهم. وعن عمر بن الخطاب أنه انقطع سهمهم بعزة الإسلام، وبه قال الحسن، والشعبي، ومالك بن أنس وأبو حنيفة، وقد قيل: أن الصحابة أجمعوا على سقوط سهم المؤلفة قلوبهم من عهد خلافة أبي بكر حكاه القرطبي، ولا شك أن عمر قطع إعطاء المولفة قلوبهم مع أن صنفهم لا يزال موجودا، رأى أن الله أغنى دين الإسلام بكثرة أتباعه فلا مصلحة للإسلام في دفع أموال المسلمين لتأليف قلوب من لم يتمكن الإسلام من قلوبهم، ومن العلماء من جعل فعل عمر وسكوت الصحابة عليه إجماعا سكوتيا فجعلوا ذلك ناسخا لبعض هذه الآية وهو من النسخ بالإجماع، وفي عد الإجماع السكوتي في قوة الإجماع القولي نزاع بين أئمة الأصول وفي هذا البناء نظر، كما علمت آنفا وقال كثير من العلماء: هم باقون إذا وجدوا فإن الإمام ربما احتاج إلى أن يستأنف على الإسلام، وبه قال الزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي، وأحمد بن حنبل، واختاره عبد الوهاب، وابن العربي، من المالكية قال ابن العربي: "الصحيح عندي أنه إن قوي الإسلام زالوا وإن احتيج إليهم أعطوا". أي فهو يرى بقاء هذا المصرف ويرى أن عدم إعطائهم في زمن عمر لأجل عزة الإسلام، وهذا هو الذي صححه المتأخرون. قال ابن الحاجب في "المختصر" "والصحيح بقاء حكمهم إن احتيج إليهم". وهذا الذي لا ينبغي تقلّد غيره.
وأما الرقاب فالجمهور على أن معنى {وَفِي الرِّقَابِ} في شراء الرقيق للعتق، ودفع ما على المكاتب من مال تحصل به حريته، وهو رواية المدنيين عن مالك، وقيل لا يعان بها المكاتب ولو كان آخر نجم تحصل به حريته، وروى عن مالك من رواية غير المدنيين عنه. وقيل: لا تعطى إلا في إعانة المكاتب على نجومه، دون العتق، وهو قول الليث، والنخعي، والشافعي. واختلف في دفع ذلك في عتق بعض عبد أو نجوم كتابة ليس بها تمام حرية المكاتب، فقيل: لا يجوز، وبه قال مالك والزهري وقيل يجوز ذلك. وفداء الأسرى من فك الرقاب على الأصح من المذهب، وهو لابن عبد الحكم، وابن حبيب، خلافا لأصبغ، من المالكية.
وأما الغارمون فشرطهم أن لا يكون دينهم في معصية إلا أن يتوبوا. والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته يعد من الغارمين عند ابن حبيب، خلافا لابن الموّاز.
وسبيل الله لم يختلف أن الغزو هو المقصود، فيعطى الغزاة المحتاجون في بلد الغزو، وإن كانوا أغنياء في بلدهم، وأما الغزاة الأغنياء في بلد الغزو فالجمهور أنهم يعطون. وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يعطون. والحق أن سبيل الله يشمل شراء العدة للجهاد من سلاح، وخيل، ومراكب بحرية، ونوتيه، ومجانيق، وللحملان، ولبناء الحصون، وحفر الخنادق، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدو، قاله محمد ابن عبد الحكم من المالكية ولم يذكر أن له مخالفا، وأشعر كلام القرطبي في التفسير أن قول ابن عبد الحكم مخالف لقول الجمهور. وذهب بعض السلف أن الحج من سبيل الله يدخل في مصارف الصدقات، وروي عن ابن عمر، وأحمد، وإسحاق. وهذا اجتهاد وتأويل، قال ابن العربي: "وما جاء أثر قط بإعطاء الزكاة في الحج".
وأما ابن السبيل فلم يختلف في الغريب المحتاج في بلد غربته أنه مراد ولو وجد من يسلفه، إذ ليس يلزمه أن يدخل نفسه تحت منة. واختلف في الغني: فالجمهور قالوا: لا يعطى؛ وهو قول مالك، وقال الشافعي وأصبغ: يعطى ولو كان غنيا في بلد غربته.
وقوله: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ} منصوب على أنه مصدر مؤكد لمصدر محذوف يدل عليه قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} لأنه يفيد معنى فرض الله أو أوجب، فأكد بفريضة من لفظ المقدر ومعناه.
والمقصود من هذا تعظيم شأن هذا الحكم والأمر بالوقوف عنده.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل إما أفاده الحصر ب {إِنَّمَا} في قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} الخ، أي: والله عليم حكيم في قصر الصدقات على هؤلاء، أي أنه صادر عن العليم الذي يعلم ما يناسب في الأحكام، الحكيم الذي أحكم الأشياء التي خلقها أو شرعها. والواو اعتراضية لأن الاعتراض يكون في آخر الكلام على رأي المحققين.
[61] {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
عطف ذكر فيه خلق آخر من أخلاق المنافقين: وهو تعللهم على ما يعاملهم به النبي والمسلمون من الحذر، وما يطلعون عليه من فلتات نفاقهم، يزعمون أن ذلك إرجاف من المرجفين بهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يصدق القالة فيهم، ويتهمهم بما يبلغه عنهم مما هم منه برآء يعتذرون بذلك للمسلمين، وفيه زيادة في الأذى للرسول صلى الله عليه وسلم وإلقاء الشك في نفوس المسلمين في كمالات نبيهم عليه الصلاة والسلام.
والتعبير بالنبي إظهار في مقام الإضمار لأن قبله {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة:58] فكان مقتضى الظاهر أن يقال: "ومنهم الذين يؤذونك" فعدل عن الإضمار إلى إظهار وصف النبي للإيذان بشناعة قولهم ولزيادة تنزيه النبي بالثناء عليه بوصف النبوءة بحيث لا تحكى مقالتهم فيه إلا بعد تقديم ما يشير إلى تنزيهه والتعريض بجرمهم فيما قالوه.
وهؤلاء فريق كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم ما يؤذيه إذا بلغه. وقد عد من هؤلاء المنافقين، القائلين ذلك: الجلاس بن سويد، قبل توبته، ونبتل بن الحارث، وعتاب بن قشير، ووديعة بن ثابت. فمنهم من قال: إن كان ما يقول محمد حقا فنحن شر من الحمير، وقال بعضهم: نقول فيه ما شئنا ثم نذهب إليه ونحلف له أنا ما قلنا فيقبل قولنا.
والأذى: الإضرار الخفيف، وأكثر ما يطلق على الضر بالقول والدسائس، ومنه قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى} وقد تقدم في سورة آل عمران [111]، وعند قوله تعالى: {وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} في سورة الأنعام [34].
ومضمون جملة: {وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ} عطف خاص على عامّ، لأنّ قولهم ذلك هو
من الأذى.
والأذن الجارحة التي بها حاسة السمع. ومعنى {هُوَ أُذُنٌ} الإخبار عنه بأنه آلة سمع.
والإخبار ب {هُوَ أُذُنٌ} من صيغ التشبيه البليغ، أي كالأذن في تلقي المسموعات لا يرد منها شيئا، وهو كناية عن تصديقه بكل ما يسمع من دون تمييز بين المقبول والمردود. روي أن قائل هذا هو نبتل بن الحارث أحد المنافقين.
وجملة: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} جملة {قُلْ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا، على طريقة المقاولة والمحاورة، لإبطال قولهم بقلب مقصدهم إغاظة لهم، وكمدا لمقاصدهم، وهو من الأسلوب الحكيم الذي يحمل فيه المخاطب كلام المتكلم على غير ما يريده، تنبيها له على أنه الأولى بأن يراد، وقد مضى عند قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] ومنه ما جرى بين الحجاج والقبعثري إذ قال له الحجاج متوعدا إياه "لأحملنك على الأدهم (أراد لألزمنك القيد لا تفارقه فقال القبعثري: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب" فصرف مراده إلى أنه أراد بالحمل معنى الركوب وإلى إرادة الفرس الذي هو أدهم اللون من كلمة الأدهم. وهذا من غيرة الله على رسوله عليه الصلاة والسلام، ولذلك لم يعقبه بالرد والزجر، كما أعقب ما قبله من قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:49]. إلى هنا با أعقبه ببيان بطلانه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يبلغهم ما هو إبطال لزعمهم من أصله بصرف مقالتهم إلى معنى لائق بالرسول، حتى لا يبقى للمحكي أثر، وهذا من لطائف القرآن.
ومعنى {أُذُنُ خَيْرٍ} أنه يسمع ما يبلغه عنكم ولا يؤاخذكم؛ ويسمع معاذيركم ويقبلها منكم، فقبوله ما يسمعه ينفعكم ولا يضركم فهذا أذن في الخير، أي في سماعه والمعاملة به وليس أذنا في الشر.
وهذا الكلام إبطال لأن يكون {أُذُنُ} بالمعنى الذي أرادوه من الذم فإن الوصف بالأذن لا يختص بمن يقبل الكلام المفضي إلى شر بل هو أعم، فلذلك صح تخصيصه هنا بما فيه خير. وهذا إعمال في غير المراد منه. وهو ضرب من المجاز المرسل بعلاقة الإطلاق والتقييد في أحد الجانبين، فلا يشكل عليك بأن وصف {أُذُنُ} إذا كان مقصودا به الذم كيف يضاف إلى الخبر، لأن محل الذم في هذا الوصف هو قبول كل ما يسمع مما يترتب عليه شر أو خير، بدون تمييز، لأن ذلك يوقع صاحبه في اضطراب أعماله
ومعاملاته، فأما إذا كان صاحبه لا يقبل إلا الخير، ويرفض ما هو شر من القول، فقد صار الوصف نافعا، لأن صاحبه التزم أن لا يقبل إلا الخير، وأن يحمل الناس عليه. هذا تحقيق معنى المقابلة، وتصحيح إضافة هذا الوصف إلى الخير، فأما حمله على غير هذا المعنى فيصيره إلى أنه من طريقة القول بالموجب على وجه التنازل وإرخاء العنان، أي هو أذن كما قلتم وقد انتفعتم بوصفه ذلك إذ قبل منكم معاذيركم وتبرؤكم مما يبلغه عنكم، وهذا ليس بالرشيق لأن ما كان خيرا لهم قد يكون شرا لغيرهم.
وقرأ نافع وحده {أُذُنُ} - بسكون الذال فيهما - وقرأ الباقون - بضم الذال فيهما-.
وجملة {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} تمهيد لقوله بعده {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} إذ هو المقصود من الجواب لتمحضه للخير وبعده عن الشر بأنه يؤمن بالله فهو يعامل الناس بما أمر الله به من المعاملة بالعفو، والصفح، والأمر بالمعروف، والإعراض عن الجاهلين، وبأن لا يؤاخذ أحد إلا ببينة، فالناس في أمن من جانبه فيما يبلغ إليه لأنه لا يعامل إلا بالوجه المعروف فكونه يؤمن بالله وازع له عن المؤاخذة بالظنة والتهمة.
والإيمان للمؤمنين تصديقهم في ما يخبرونه، يقال: آمن لفلان بمعنى صدقه، ولذلك عدي باللام دون الباء كما في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] فتصديقه إياهم لأنهم صادقون لا يكذبون، لأن الإيمان وازع لهم عن أن يخبروه الكذب، فكما أن الرسول لا يؤاخذ أحدا بخبر الكاذب فهو يعامل الناس بشهادة المؤمنين، فقوله: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} ثناء عليه بذلك يتضمن الأمر به، فهو ضد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6].
وعطف جملة {وَرَحْمَةٌ} على جملتي {يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} لأن كونه رحمة للذين يؤمنون بعد علمه بنفاقهم أثر لإغضائه عن إجرامهم ولإمهالهم حتى يتمكن من الإيمان من وفقه الله للإيمان منهم، ولو آخذهم بحالهم دون مهل لكان من سبق السيف العذل، فالمراد من الإيمان في قوله: {آمَنُوا} الإيمان بالفعل، لا التظاهر بالإيمان، كما فسر به المفسرون، يعنون بالمؤمنين المتظاهرين بالإيمان المبطنين للكفر، وهم المنافقون.
وقرأ حمزة - بجر- {وَرَحْمَةٌ} عطفا على خير، أي أذن رحمة، والمآل واحد.
وقد جاء ذكر هذه الخصلة مع الخصلتين الأخريين على عادة القرآن في انتهاز فرصة الإرشاد إلى الخير، بالترغيب والترهيب، فرغبهم في الإيمان ليكفروا عن سيئاتهم الفارطة،
ثم أعقب الترغيب بالترهيب من عواقب إيذاء الرسول بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو إنذار بعذاب الآخرة وعذاب الدنيا. وفي ذكر النبي بوصف {رَسُولَ اللَّهِ} إيماء إلى استحقاق مؤذيه العذاب الأليم، فهو من تعليق الحكم بالمشتق المؤذن بالعلية.
وفي الموصول إيماء إلى أن علة العذاب هي الإيذاء، فالعلة مركبة.
[62] {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} .
عدل عن أسلوب الحكاية عنهم بكلمة ومنهم، لأن ما حكي هنا حال من أحوال جميعهم.
فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا، لإعلام الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن المنافقين يحلفون الأيمان الكاذبة، فلا تغرهم أيمانهم، فضمير يحلفون عائد إلى الذين يؤذون النبي.
والمراد: الحلف الكاذب، بقرينة قوله: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} ، أي بتركهم الأمور التي حلفوا لأجلها، على أنه قد علم أن أيمانهم كاذبة مما تقدم في قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:42].
فكاف الخطاب للمسلمين، وذلك يدل على أن المنافقين يحلفون على التبرئي، مما يبلغ المسلمين من أقوالهم المؤذية للرسول - عليه الصلاة والسلام -، وذلك يغيظ المسلمين وينكرهم عليهم والنبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن ذلك، فلذلك قال الله تعالى: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} أي أحق منكم بأن يرضوهما، وسيأتي تعليل أحقية الله ورسوله بأن يرضوهما في الآية التي بعدها فإرضاء الله بالإيمان به وبرسوله وتعظيم رسوله، وإرضاء الرسول بتصديقه ومحبته وإكرامه.
وإنما أفرد الضمير في قوله: {أَنْ يُرْضُوهُ} مع أن المعاد اثنان لأنه أريد عود الضمير إلى أول الاسمين، واعتبار العطف من عطف الجمل بتقدير: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، فيكون الكلام جملتين ثانيتهما كالاحتراس وحذف الخبر إيجاز. ومن نكتة ذلك
الإشارة إلى التفرقة بين الإرضاءين، ومنه قول ضابىء بن الحارث:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقيار بها لغريب
التقدير: فإني لغريب وقيار بها غريب أيضا. لأن إحدى الغربتين مخالفة لأخراهما.
والضمير المنصوب في {يُرْضُوهُ} عائد إلى اسم الجلالة، لأنه الأهم في الخبر، ولذلك ابتدئ به، ألا ترى أن بيت ضابئ قد جاء في خبره المذكور لام الابتداء الذي هو من علائق (إن) الكائنة في الجملة الأولى، دون الجملة الثانية، وهذا الاستعمال هو الغالب.
وشرط {إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} ، مستعمل للحث والتوقع لإيمانهم، لأن ما حكي عنهم من الأحوال لا يبقى معه احتمال في إيمانهم، فاستعمل الشرط للتوقع وللحث على الإيمان. وفيه أيضا تسجيل عليهم، إن أعادوا مثل صنيعهم، بأنهم كافرون بالله ورسوله، وفيه تعليم للمؤمنين وتحذير من غضب الله ورسوله.
[63] {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ} .
هذه الجملة تتنزل من جملة {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة:62] منزلة التعليل، لأن العاقل لا يرضى لنفسه عملا يؤول به إلى مثل هذا العذاب، فلا يقدم على ذلك إلا من لا يعلم أن من يحادد الله ورسوله يصير إلى هذا المصير السيئّ.
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتشنيع، لأن عدم علمهم بذلك محقق بضرورة أنهم كافرون بالرسول، وبأن رضى الله عند رضاه ولكن لما كان عدم علمهم بذلك غريبا لوجود الدلائل المقتضية أنه مما يحق أن يعلموه، كان حال عدم العلم به حالا منكرا. وقد كثر استعمال هذا ونحوه في الإعلام بأمر مهم، كقوله في هذه السورة {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [التوبة:104] وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة:78] وقول مويال بن جهم المذحجي، أو مبشر بن هذيل الفزاري:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل
فكأنه قيل: فليعلموا أنه من يحادد الله الخ.
والضمير المنصوب ب {أَنَّهُ} ضمير الشأن، وفسر الضمير بجملة {مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ}
إلى آخرها.
والمعنى: ألم يعلموا شأنا عظيما هو من يحادد الله ورسوله له نار جهنّم.
وفك الدالان من {يُحَادِدْ} ولم يدغما لأنه وقع مجزوما فجاز فيه الفك والإدغام، والفك أشهر وأكثر في القرآن، وهو لغة أهل الحجاز، وقد ورد فيه الإدغام نحو قوله: {وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ} في سورة الحشر[4] في قراءة جميع العشرة وهو لغة تميم.
والمحادة: المعاداة والمخالفة.
والفاء في {فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} لربط جواب شرط {وَمَنْ} .
وأعيدت {أَنَّ} في الجواب لتوكيد {أَنَّ} المذكورة قبل الشرط توكيدا لفظيا، فإنها لما دخلت على ضمير الشأن وكانت جملة الشرط وجوابه تفسيرا لضمير الشأن، كان حكم {أَنَّ} ساريا في الجملتين، بحيث لو لم تذكر في الجواب لعلم أن فيه معناها، فلما ذكرت كان ذكرها توكيدا لها، ولا ضير في الفصل بين التأكيد والمؤكد بجملة الشرط، والفصل بين فاء الجواب ومدخولها بحرف، إذ لا مانع من ذلك، ومن هذا القبيل قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [النحل:119] وقول الحماسي، وهو أحد الأعراب:
وإن امرءا دامت مواثيق عهده ... على مثل هذا إنه لكريم
و {جَهَنَّمَ} تقدم ذكرها عند قوله تعالى: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} في سورة البقرة [206].
والإشارة بذلك إلى المذكور من العذاب أو إلى ضمير الشأن باعتبار تفسيره. والمقصود من الإشارة: تمييزه ليتقرر معناه في ذهن السامع.
و {الخِْزْيٌ} الذلّ والهوان، وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في سورة البقرة [85].
[64] {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ} .
استئناف ابتدائي لذكر حال من أحوال جميع المنافقين كما تقدم في قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} [التوبة:62] وهو إظهارهم الإيمان بالمعجزات وإخبار الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالمغيبات.
وظاهر الكلام أن الحذر صادر منهم وهذا الظاهر ينافي كونهم لا يصدقون بأن نزول القرآن من الله وأن خبره صدق فلذلك تردد المفسرون في تأويل هذه الآية. وأحسن ما قيل في ذلك قول أبي مسلم الأصفهاني "هو حذر يظهره المنافقون على وجه الاستهزاء. فأخبر الله رسوله بذلك وأمره أن يعلمهم بأنه يظهر سرهم الذي حذروا ظهوره. وفي قوله: {اسْتَهْزِئُوا} دلالة على ما ذكرناه، أي هم يظهرون ذلك يريدون به إيهام المسلمين بصدق إيمانهم وما هم إلا مستهزئون بالمسلمين فيما بينهم، وليس المراد بما في قلوبهم الكفر؛ لأنهم لا يظهرون أن ذلك مفروض ففعل {يَحْذَرُ} فأطلق على التظاهر بالحذر، أي مجاز مرسل بعلاقة الصورة، والقرينة قوله: {قُلْ اسْتَهْزِئُوا} إذ لا مناسبة بين الحذر الحق وبين الاستهزاء لولا ذلك، فإن المنافقين لما كانوا مبطنين الكفر لم يكن من شأنهم الحذر من نزول القرآن بكشف ما في ضمائرهم، لأنهم لا يصدقون بذلك فتعين صرف فعل {يَحْذَرُ} إلى معنى: يتظاهرون بالحذر وعلى هذا القول يكون إطلاق الفعل على التظاهر بمدلوله من غرائب المجاز. وتأول الزجاج الآية بأن {يَحْذَرُ} خبر مستعمل في الأمر، أي ليحذر. وعلى تأويله تكون جملة {قُلْ اسْتَهْزِئُوا} استئنافا ابتدائيا لا علاقة لها بجملة {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ} . ولهم وجوه أخرى في تفسير الآية بعيدة عن مهيعها، ذكرها الفخر.
وضميرا {عَلَيْهِمْ} و {تُنَبِّئُهُمْ} يجوز أن يعودا إلى المنافقين، وهو ظاهر تناسق الضمائر ومعادها. وتكون {على} بمعنى لام التعليل أي تنزل لأجل أحوالهم كقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة:185].
وهو كثير في الكلام، وتكون تعدية {تُنَبِّئُهُمْ} إلى ضمير المنافقين: على نزع الخافض، أي تنبئ عنهم، أي تنبئ الرسول بما في قلوبهم.
ويجوز أن يكون تاء {تُنَبِّئُهُمْ} تاء الخطاب، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أي: تنبئهم أنت بما في قلوبهم، فيكون جملة {تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} في محل الصفة ل{سُورَةٌ} والرابط محذوف تقديره: تنبئهم بها، وهذا وصف للسورة في نفس الأمر، لا في اعتقاد المنافقين، فموقع جملة {تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} استطراد.
ويجوز أن يعود الضميران للمسلمين، ولا يضر تخالف الضميرين مع ضمير {قُلُوبِهِمْ} الذي هو للمنافقين لا محالة، لأن المعنى يرد كل ضمير إلى ما يليق بأن يعود إليه.
واختيرت صيغة المضارع في {يَحْذَرُ} لما تشعر به من استحضار الحالة كقوله
تعالى: {فَتُثِيرُ سَحَابًا} وقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [هود:74].
والسورة: طائفة معينة من آيات القرآن ذات مبدأ ونهاية وقد تقدم بيانها عند تفسير طالعة سورة فاتحة الكتاب.
والتنبئة الإخبار والإعلام مصدر نبأ الخبر، وتقدم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ}
في سورة الأنعام [34].
والاستهزاء: تقدم في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} في أول البقرة [14].
والإخراج: مستعمل في الإظهار مجازا، والمعنى: أن الله مظهر ما في قلوبكم بإنزال السور: مثل سورة المنافقين، وهذه السورة سورة براءة، حتى سميت الفاضحة لما فيها من تعداد أحوالهم بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ، و وَمِنْهُمْ، وَمِنْهُمْ} .
والعدول إلى التعبير بالموصول في قوله: {مَا تَحْذَرُونَ} دون أن يقال: إن الله مخرج سورة تنبئكم بما في قلوبكم: لأن الأهم من تهديدهم هو إظهار سرائرهم لا إنزال السورة، فذكر الصلة واف بالأمرين: إظهار سرائرهم، وكونه في سورة تنزل، وهو أنكى لهم، ففيه إيجاز بديع كقوله تعالى في سورة كهيعص [80] {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} بعد قوله: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم:77] أي نرثه ماله وولده.
[65] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} .
الظاهر أنها معطوفة على جملة {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} [التوبة:62] أو على جملة {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} [التوبة:61]، فيكون المراد بجملة {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ} [التوبة:62] أنهم يحلفون إن لم تسألهم. فالحلف الصادر منهم حلف على الأعم من براءتهم من النفاق والطعن، وجواب السؤال عن أمور خاصة يتهمون بها جواب يراد منه أن ما صدر منهم ليس من جنس ما يتهمون به، فإذا سئلوا عن حديث يجري بينهم يستراب منهم أجابوا بأنه خوض ولعب، يريدون أنه استجمام للراحة بين أتعاب السفر لما يحتاجه الكاد عملا شاقا من الراحة بالمزح واللعب. وروي أن المقصود من هذه الآية: أن ركبا من المنافقين الذين خرجوا في غزوة تبوك نفاقا، منهم: وديعة بن ثابت العوفي، ومخشي بن حمير الأشجعي، حليف بني سلمة، وقفوا على عقبة في الطريق ينظرون جيش المسلمين
فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح حصون الشام هيهات هيهات فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن مناجاتهم فأجابوا "إنما كنا نخوض ونلعب".
وعندي أن هذا لا يتجه لأن صيغة الشرط مستقبلة فالآية نزلت فيما هو أعم، مما يسألون عنه في المستقبل، إخبارا بما سيجيبون، فهم يسألون عما يتحدثون في مجالسهم ونواديهم، التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] لأنهم كانوا كثيري الانفراد عن مجالس المسلمين. وحذف متعلق السؤال لظهوره من قرينة قوله: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} . والتقدير: ولئن سألتهم عن حديثهم في خلواتهم، أعلم الله رسوله بذلك وفيه شيء من دلائل النبوءة. ويجوز أن تكون الآية قد نزلت قبل أن يسألهم الرسول، وأنه لما سألهم بعدها أجابوا بما أخبرت به الآية.
والقصر للتعيين: أي ما تحدثنا إلا في خوض ولعب دون ما ظننته بنا من الطعن والأذى.
والخوض تقدّم في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} في سورة الأنعام [58].
واللعب تقدم في قوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ} في الأنعام [32]، ولما كان اللعب يشمل الاستهزاء بالغير جاء الجواب عن اعتذارهم بقوله: {كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} فلماّ كان اعتذارهم مبهما رد عليهم ذلك إذ أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم جواب الموقن بحالهم بعد أن أعلمه بما سيعتذرون به فقال لهم {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} ، على نحو قوله تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء:51].
والاستفهام إنكاري توبيخي. وتقديم المعمول وهو {أَبِاللَّهِ} على فعله العامل فيه لقصد قصر التعيين لأنهم لما أتوا في اعتذارهم بصيغة قصر تعيين جيء في الرد عليهم بصيغة قصر تعيين لإبطال مغالطتهم في الجواب، فأعلمهم بأن لعبهم الذي اعترفوا به ما كان إلا استهزاء بالله وآياته ورسوله لا يغير أولئك، فقصر الاستهزاء على تعلقه بمن ذكر اقتضى أن الاستهزاء واقع لا محالة لأن القصر قيد في الخبر الفعلي، فيقتضي وقوع الفعل، على ما قرره عبد القاهر في معنى القصر الواقع في قول القائل: أنا سعيت في حاجتك وأنه يؤكد بنحو: وحدي، أو لا غيري، وأنه يقتضي وقوع الفعل فلا يقال: ما أنا قلت هذا ولا غيري، أي ولا يقال: أنا سعيت في حاجتك وغيري، وكذلك هنا لا يصحّ
أن يفهم أبالله كنتم تستهزئون أم لم تكونوا مستهزئين.
والاستهزاء بالله وبآياته إلزام لهم: لأنهم استهزأوا برسوله وبدينه، فلزمهم الاستهزاء بالذي أرسله بآيات صدقه.
[66] {لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ}.
{لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} .
لماّ كان قولهم: {إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة:65] اعتذارا عن مناجاتهم، أي إظهارا للعذر الذي تناجوا من أجله، وأنه ما يحتاجه المتعب: من الارتياح إلى المزح والحديث في غير الجد، فلما كشف الله أمر استهزائهم، أردفه بإظهار قلة جدوى اعتذارهم إذ قد تلبسوا بما هو أشنع وأكبر مما اعتذروا عنه، وهو التباسهم بالكفر بعد إظهار الإيمان. فإن الله لما أظهر نفاقهم كان ما يصدر عنهم من الاستهزاء أهون فجملة {لاَ تَعْتَذِرُوا} من جملة القول الذي أمر الرسول أن يقوله، وهي ارتقاء في توبيخهم، فهي متضمنة توكيدا لمضمون جملة {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة:65]، مع زيادة ارتقاء في التوبيخ وارتقاء في مثالبهم بأنهم تلبسوا بما هو أشد وهو الكفر، فلذلك قطعت الجملة عن التي قبلها، على أن شأن الجمل الواقعة في مقام التوبيخ أن تقطع ولا تعطف لأن التوبيخ يقتضي التعداد، فتقع الجمل الموبخ بها موقع الأعداد المحسوبة نحو واحد، اثنان، فالمعنى لا حاجة بكم للاعتذار عن التناجي فإنكم قد عرفتم بما هو أعظم وأشنع.
والنهي مستعمل في التسوية وعدم الجدوى.
وجملة {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} في موضع العلة من جملة {لاَ تَعْتَذِرُوا} تعليلا للنهي المستعمل في التسوية وعدم الجدوى.
وقوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ} يدل على وقوع الكفر في الماضي، أي قبل الاستهزاء، وذلك أنه قد عرف كفرهم من قبل. والمراد بإسناد الإيمان إليهم: إظهار الإيمان، وإلا فهم لم يؤمنوا إيمانا صادقا. والمراد بإيمانهم: إظهارهم الإيمان، لا وقوع حقيقته. وقد أنبأ عن ذلك إضافة الإيمان إلى ضميرهم دون تعريف الإيمان باللام المفيدة للحقيقة، أي بعد إيمان هو من شأنكم، وهذا تعريض بأنه الإيمان الصوري غير الحق ونظيره قوله تعالى