كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
المفسرين مثل البيضاوي والكواشي وجعلوه عطفا على {نَتْرُكَ} فتوجسوا عدم استقامة المعنى كما قال الطبري. وتأوله بوجهين: أحدهما عن أهل البصرة والآخر عن أهل الكوفة، أحدهما مبني على تقدير محذوف والآخر على تأويل فعل {تَأْمُرُكَ} وكلاهما تكلف. وأما الأكثر فصاروا إلى صرف {أَوْ} عن متعارف معناها وقد كانوا في سعة عن ذلك. وسكت عنه كثير مثل صاحب "الكشاف". وأومأ البغوي والنسفي إلى ما صرحنا به.
وجملة {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} استئناف تهكم آخر. وقد جاءت الجملة مؤكدة بحرف "إن" ولام القسم وبصيغة القصر في جملة {لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} فاشتملت على أربعة مؤكدات.
والحليم، زيادة في التهكم: ذو الحلم أي العقل، والرشيد: الحسن التدبير في المال.
[88] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} .
تقدم نظير الآية في قصة نوح وقصة صالح - عليهما السلام -.
والمراد بالرزق الحسن هنا مثل المراد من الرحمة في كلام نوح وكلام صالح - عليهما السلام - وهو نعمة النبؤءة، وإنما عبر شعيب - عليه السلام - عن النبوة بالرزق على وجه التشبيه مشاكلة لقولهم: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] لأن الأموال أرزاق. وجواب الشرط محذوف يدل عليه سياق الكلام، أو يدل عليه {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} . والتقدير: ماذا يسعكم في تكذيبي، أو ماذا ينجيكم من عاقبة تكذيبي، وهو تحذير لهم على فرض احتمال أن يكون صادقا، أي فالحزم أن تأخذوا بهذا الاحتمال، أو فالحزم أن تنظروا في كنه ما نهيتكم عنه لتعلموا أنه لصلاحكم.
ومعنى {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} عند جميع المفسرين من التابعين فمن بعدهم: ما أريد مما نهيتكم عنه أن أمنعكم أفعالا وأنا أفعلها، أي لم أكن لأنهاكم عن شيء وأنا أفعله. وبين في "الكشاف" إفادة التركيب هذا المعنى بقوله: "يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه... ويلقاك الرجل صادرا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردا وأنا ذاهب عنه صادرا" اهـ.
وبيانه أن المخالفة تدل على الاتصاف بضد حاله، فإذا ذكرت في غرض دلت على الاتصاف بضده، ثم يبين وجه المخالفة بذكر اسم الشيء الذي حصل به الخلاف مدخولا لحرف {إِلَى} الدال على الانتهاء إلى شيء كما في قولهم خالفني إلى الماء لتضمين {أُخَالِفَكُمْ} معنى السعي إلى شيء. ويتعلق {إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} بفعل {أُخَالِفَكُمْ} ، ويكون {أَنْ أُخَالِفَكُمْ} مفعول {أُرِيدُ} .
فقوله: {أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} أي أن أفعل خلاف الأفعال التي نهيتكم عنها بأن أصرفكم عنها وأنا أصير إليها. والمقصود: بيان أنه مأمور بذلك أمرا يعم الأمة وإياه وذلك شأن الشرائع، كما قال علماؤنا: إن خطاب الأمة يشمل الرسول عليه الصلاة والسلام ما لم يدل دليل على تخصيصه بخلاف ذلك، ففي هذا إظهار أن ما نهاهم عنه ينهى أيضا نفسه عنه. وفي هذا تنبيه لهم على ما في النهي من المصلحة، وعلى أن شأنه ليس شأن الجبابرة الذين ينهون عن أعمال وهم يأتونها، لأن مثل ذلك ينبي بعدم النصح فيما يأمرون وينهون، إذ لو كانوا يريدون النصح والخير في ذلك لاختاروه لأنفسهم وإلى هذا المعنى يرمي التوبيخ في قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44] أي وأنتم تتلون كتاب الشريعة العامة لكم أفلا تعقلون فتعلموا أنكم أولى بجلب الخير لأنفسكم.
والذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد من المخالفة المعاكسة والمنازعة؛ إما لأنه عرف من ملامح تكذيبهم أنهم توهموه ساعيا إلى التملك عليهم والتجبر، وإما لأنه أراد أن يقلع من نفوسهم خواطر الشر قبل أن تهجس فيها.
وهذا المحمل في الآية يسمح به استعمال التركيب ومقاصد الرسل وهو أشمل للمعاني من تفسير المتقدمين، فلا ينبغي قصر تفسير الآية على ما قالوه لأنه لا يقابل قول قومه {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87]، فإنهم ظنوا به أنه ما قصد إلا مخالفتهم وتخطئتهم ونفوا أن يكون له قصد صالح فيما دعاهم إليه، فكان مقتضى إبطال ظنتهم أن ينفي أن يريد مجرد مخالفتهم، بدليل قوله عقبه {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} .
فمعنى قوله: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} أنه ما يريد مجرد المخالفة كشأن المنتقدين المتقعرين ولكن يخالفهم لمقصد سام وهو إرادة إصلاحهم. ومن هذا الاستعمال ما ورد في الحديث لما جاء وفد فزاره إلى النبيء صلى الله عليه وسلم قال أبو بكر الصديق: "أمر الأقرع بن
حابس، وقال عمر: أمر فلانا، فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلى خلافي فقال عمر: ما أردت إلى خلافك". فهذا التفسير له وجه وجيه في هذه الآية. وفي هذا ما يدل على أن المنتقدين قسمان قسم ينتقد الشيء ويقف عند حد النقد دون ارتقاء إلى بيان ما يصلح المنقود. وقسم ينتقد ليبين وجه الخطأ ثم يعقبه ببيان ما يصلح خطأه. وعلى هذا الوجه يتعلق {إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ} بفعل {أُرِيدُ} وكذلك {وَمَا أَنْ أُخَالِفَكُمْ} يتعلق ب {أُرِيدُ} على حذف حرف لام الجر. والتقدير: ما أريد إلى النهي لأجل أن أخالفكم، أي لمحبة خلافكم.
وجملة {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} بيان لجملة {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} لأن انتفاء إرادة المخالفة إلى ما نهاهم عنه مجمل فيما يريد إثباته من أضداد المنفي فبينه بأن الضد المراد إثباته هو الإصلاح في جميع أوقات استطاعته بتحصيل الإصلاح، فالقصر قصر قلب.
وأفادت صيغة القصر تأكيد ذلك لأن القصر قد كان يحصل بمجرد الاقتصار على النفي والإثبات نحو أن يقول: ما أريد أن أخالفكم أريد الإصلاح، كقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي أو السمؤال:
تسيل على حد الظبات نفوسنا ... وليست على غير الظبات تسيل
ولما بين لهم حقيقة عمله وكان في بيانه ما يجر الثناء على نفسه أعقبه بإرجاع الفضل في ذلك إلى الله فقال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} فسمى إرادته الإصلاح توفيقا وجعله من الله لا يحصل في وقت إلا بالله، أي بإرادته وهديه، فجملة {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} في موضع الحال من ضمير {أُرِيدُ} .
والتوفيق: جعل الشيء وفقا لآخر، أي طبقا له، ولذلك عرفوه بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة.
جملة {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} في موضع الحال من اسم الجلالة، أو من ياء المتكلم في قوله: {تَوْفِيقِي} لأن المضاف هنا كالجزء من المضاف إليه فيسوغ مجيء الحال من المضاف إليه.
والتوكل مضى عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [159].
والإنابة تقدمت آنفا في قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود: 75].
[89, 90] {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} .
تقدم الكلام على النكتة في إعادة النداء في الكلام الواحد لمخاطب متحد قريبا.
وتقدم الكلام على { لا يَجْرِمَنَّكُمْ} عند قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} في أول العقود [2]، أي لا يكسبنكم.
والشقاق: مصدر شاقه إذا عاداه. وقد مضت عند قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} في أول الأنفال [13].
والمعنى: لا تجر إليكم عداوتكم إياي إصابتكم بمثل ما أصاب قوم نوح إلى آخره، فالكلام في ظاهره أنه ينهى الشقاق أن يجر إليهم ذلك. والمقصود نهيهم عن أن يجعلوا الشقاق سببا للإغراض عن النظر في دعوته، فيوقعوا أنفسهم في أن يصيبهم عذاب مثل ما أصاب الأمم قبلهم فيحسبوا أنهم يمكرون به بإعراضهم وما يمكرون إلا بأنفسهم.
ولقد كان فضح سوء نواياهم الداعية لهم إلى الإعراض عن دعوته عقب إظهار حسن نيته مما دعاهم إليه بقوله: {مَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: 88] مصادفا محز جودة الخطابة إذ رماهم بأنهم يعملون بضد ما يعاملهم به.
وجملة {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} في موضع الحال من ضمير النصب في قوله: {أَنْ يُصِيبَكُمُ} والواو رابطة الجملة. ولمعنى الحال هنا مزيد مناسبة لمضمون جملتها إذ اعتبر قرب زمانهم بالمخاطبين كأنه حالة من أحوال المخاطبين.
والمراد بالبعد بعد الزمن والمكان والنسب، فزمن لوط - عليه السلام - غير بعيد في زمن شعيب - عليه السلام -، والديار قريبة من ديارهم، إذ منازل مدين عند عقبة أيلة مجاورة معان مما يلي الحجاز، وديار قوم لوط بناحية الأردن إلى البحر الميت وكان مدين بن إبراهيم عليهما السلام وهو جد القبيلة المسماة باسمه، متزوجا بابنة لوط.
وجملة {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} عطف على جملة {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي} .
وجملة {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} تعليل للأمر باستغفاره والتوبة إليه، وهو تعليل لما
يقتضيه الأمر من رجاء العفو عنهم إذا استغفروا وتابوا.
وتفنن في إضافة الرب إلى ضمير نفسه مرة وإلى ضمير قومه أخرى لتذكيرهم بأنه ربهم كيلا يستمروا على الإعراض وللتشرف بانتسابه إلى مخلوقيته.
والرحيم تقدم.
والودود: مثال مبالغة من الود وهو المحبة. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا} في سورة النساء [89]. والمعنى: أن الله شديد المحبة لمن يتقرب إليه بالتوبة.
[91] {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} .
الفقه: الفهم. وتقدم عند قوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} في سورة النساء [78]، وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} في سورة الأنعام [65].
ومرادهم من هذا يحتمل أن يكون قصد المباهتة كما حكى الله عن المشركين {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وقوله عن إليهود {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة: 88]. ويجوز أن يكون المراد ما نتعقله لأنه عندهم كالمحال لمخالفته ما يألفون، كما حكى الله عن غيرهم بقوله: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5]، وليس المراد عدم فهم كلامه لأن شعيبا عليه السلام كان مقوالا فصيحا، ووصفه النبيء صلى الله عليه وسلم بأنه خطيب الأنبياء.
فالمعنى: أنك تقول ما لا نصدق به. وهذا مقدمة لإدانته واستحقاقه الذم والعقاب عندهم في قولهم: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} ، ولذلك عطفوا عليه {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} أي وإنك فينا لضعيف، أي غير ذي قوة ولا منعة. فالمراد الضعف عن المدافعة إذا راموا أذاه وذلك مما يرى لأنه ترى دلائله وسماته.
وذكر فعل الرؤية هنا للتحقيق، كما تقدم في قوله تعالى: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] بحيث نزلوه منزلة من يظنون أنهم لا يرون ذلك بأبصارهم فصرحوا بفعل الرؤية. وأكدوه ب"إن" ولام الابتداء مبالغة في تنزيله منزلة
من يجهل أنهم يعلمون ذلك فيه، أو من ينكر ذلك. وفي هذا التنزيل تعريض بغباوته كما في قول حجل بن نضلة:
إن بني عمك فيهم رماح
ومن فساد التفاسير تفسير الضعيف بفاقد البصر وأنه لغة حميرية فركبوا منه أن شعيبا - عليه السلام - كان أعمى، وتطرقوا من ذلك إلى فرض مسألة جواز العمى على الأنبياء، وهو بناء على أوهام. ولم يعرف من الأثر ولا من كتب الأولين ما فيه أن شعيبا عليه السلام كان أعمى.
وعطفوا على هذا قولهم: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وهو المقصود مما مهد إليه من المقدمات، أي لا يصدنا عن رجمك شيء إلا مكان رهطك فينا، لأنك أوجبت رجمك بطعنك في ديننا.
والرهط إذا أضيف إلى رجل أريد به القرابة الأدنون لأنهم لا يكونون كثيرا، فأطلقوا عليهم لفظ الرهط الذي أصله الطائفة القليلة من الثلاثة إلى العشرة، ولم يقولوا قومك، لأن قومه قد نبذوه. وكان رهط شعيب عليه السلام من خاصة أهل دين قومه فلذلك وقروهم بكف الأذى عن قريبهم لأنهم يكرهون ما يؤذيه لقرابته. ولولا ذلك لما نصره رهطه لأنهم لا ينصرون من سخطه أهل دينهم. على أن قرابته ما هم إلا عدد قليل لا يخشى بأسهم ولكن الإبقاء عليه مجرد كرامة لقرابته لأنهم من المخلصين لدينهم.
فالخبر المحذوف بعد {لَوْلا} يقدر بما يدل على معنى الكرامة بقرينة قولهم: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} وقوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} [هود: 93]، فلما نفوا أن يكون عزيزا وإنما عزة الرجل بحماته تعين أن وجود رهطه المانع من رجمه وجود خاص وهو وجود التكريم والتوقير، فالتقدير: ولولا رهطك مكرمون عندنا لرجمناك.
والرجم: القتل بالحجارة رميا، وهو قتلة حقارة وخزي. وفيه دلالة على أن حكم من يخلع دينه الرجم في عوائدهم.
وجملة {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} مؤكدة لمضمون {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} لأنه إذا انتفى كونه قويا في نفوسهم تعين أن كفهم عن رجمه مع استحقاقه إياه في اعتقادهم ما كان إلا لأجل إكرامهم رهطه لا للخوف منهم.
وإنما عطفت هذه الجملة على التي قبلها مع أن حق الجملة المؤكدة أن تفصل ولا
تعطف لأنها مع إفادتها تأكيد مضمون التي قبلها قد أفادت أيضا حكما يخص المخاطب فكانت بهذا الاعتبار جديرة بأن تعطف على الجمل المفيدة أحواله مثل جملة {مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ} والجمل بعدها.
والعزة: القوة والشدة والغلبة. والعزيز: وصف منه، وتعديته بحرف "على" لما فيه من معنى الشدة والوقع على النفس كقوله تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128]، أي شديد على نفسه، فمعنى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أنك لا يعجزنا قتلك ولا يشتد على نفوسنا، أي لأنك هين علينا ومحقر عندنا وليس لك من ينصرك منا. وعزة المرء على قبيلة لا تكون غلبة ذاته إذ لا يغلب واحد جماعة، وإنما عزته بقومه وقبيلته، كما قال الأعشى:
وإنما العزة للكاثر
فمعنى {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} أنك لا تستطيع غلبتنا.
وقصدهم من هذا الكلام تحذيره من الاستمرار على مخالفة رهطه بأنهم يوشك أن يخلعوه ويبيحوا لهم رجمه. وهذه معان جد دقيقة وإيجاز جد بديع.
وليس تقديم المسند إليه على المسند في قوله: {وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} بمفيد تخصيصا ولا تقويا.
[92] {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} .
لما أرادوا بالكلام الذي وجهوه إليه تحذيره من الاستمرار على مخالفة دينهم، أجابهم بما يفيد أنه لم يكن قط معولا على عزة رهطه ولكنه متوكل على الله الذي هو أعز من كل عزيز، فالمقصود من الخبر لازمه وهو أنه يعلم مضمون هذا الخبر وليس غافلا عنه، أي لقد علمت ما رهطي أغلب لكم من الله فلا أحتاج إلى أن تعاملوني بأني غير عزيز عليكم ولا بأن قرابتي فئة قليلة لا تعجزكم لو شئتم رجمي.
وإعادة النداء للتنبيه لكلامه وأنه متبصر فيه. والاستفهام إنكاري، أي الله أعز من رهطي، وهو كناية عن اعتزازه بالله لا برهطه فلا يريبه عدم عزة رهطه عليهم، وهذا تهديد لهم بأن الله ناصره لأنه أرسله فعزته بعزة مرسله.
وجملة {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيّاً} في موضع الحال من اسم الجلالة، أي الله أعز في حال أنكم نسيتم ذلك. والاتخاذ: الجعل، وتقدم في قوله: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} في سورة الأنعام [74].
والظهري -- بكسر الظاء - نسبة إلى الظهر على غير قياس، والتغييرات في الكلم لأجل النسبة كثيرة. والمراد بالظهري الكناية عن النسيان، أو الاستعارة لأن الشيء الموضوع بالوراء ينسى لقلة مشاهدته، فهو يشبه الشيء المجعول خلف الظهر في ذلك، فوقع {ظِهْرِيّاً} حالا مؤكدة للظرف في قوله: {وَرَاءَكُمْ} إغراقا في معنى النسيان لأنهم اشتغلوا بالأصنام عن معرفة الله أو عن ملاحظة صفاته.
وجملة {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} استئناف، أو تعليل لمفهوم جملة: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} الذي هو توكله عليه واستنصاره به.
والمحيط: الموصوف بأنه فاعل الإحاطة. وأصل الإحاطة: حصار شيء شيئا من جميع جهاته مثل إحاطة الظرف بالمظروف والسور بالبلدة والسوار بالمعصم. وفي "المقامات الحريرية":
"وقد أحاطت به أخلاط الزمر، إحاطة الهالة بالقمر، والأكمام بالثمر . ويطلق مجازا في قولهم: أحاط علمه بكذا، وأحاط بكل شيء علما، بمعنى علم كل ما يتضمن أن يعلم في ذلك، ثم شاع ذلك فحذف التمييز وأسندت الإحاطة إلى العالم بمعنى إحاطة علمه، أي شمول علمه لجميع ما يعلم في غرض ما، قال تعالى: {وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] أي علمه. ومنه قوله هنا: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} والمراد إحاطة علمه. وهذا تعريض بالتهديد، وأن الله يوشك أن يعاقبهم على ما علمه من أعمالهم.
[93] {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} .
عطف نداء على نداء زيادة في التنبيه، والمقصود عطف ما بعد النداء الثاني على ما بعد النداء الأول.
وجملة {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} تقدم تفسير نظيرها في سورة الأنعام.
والأمر للتهديد. والمعنى: اعملوا متمكنين من مكانتكم، أي حالكم التي أنتم عليها، أي اعملوا ما تحبون أن تعملوه بي.
وجملة {إِنِّي عَامِلٌ} مستأنفة. ولم يقرن حرف {سَوْفَ} في هذه الآية بالفاء وقرن في آية سورة الأنعام بالفاء؛ فجملة {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} هنا جعلت مستأنفة استئنافا بيانيا إذ لما فاتحهم بالتهديد كان ذلك ينشئ سؤالا في نفوسهم عما ينشأ على هذا التهديد فيجاب بالتهديد ب {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} . ولكونه كذلك كان مساويا للتفريع بالفاء الواقع في آية الأنعام في المآل، ولكنه أبلغ في الدلالة على نشأة مضمون الجملة المستأنفة عن مضمون التي قبلها؛ ففي خطاب شعيب عليه السلام قومه من الشدة ما ليس في الخطاب المأمور به النبيء صلى الله عليه وسلم في سورة الأنعام جريا على ما أرسل الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من اللين لهم {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. وكذلك التفاوت بين معمولي {تَعْلَمُونَ} فهو هنا غليظ شديد { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} وهو هنالك لين {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} [الأنعام: 135].
و {مَنْ} استفهام معلق لفعل العلم عن العمل، أي تعلمون جواب هذا السؤال. والعذاب: خزي لأنه إهانة.
والارتقاب: الترقب، وهو افتعال من رقبه إذا انتظره.
والرقيب هنا فعيل بمعنى فاعل، أي أني معكم راقب، أي كل يرتقب ما يجازيه الله به إن كان كاذبا أو مكذبا.
[94, 95] {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} .
عطف {لَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} هنا وفي قوله في قصة عاد {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً} [هود: 59] بالواو فيهما وعطف نظيراهما في قصة ثمود {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً} [هود: 66] وفي قصة قوم لوط {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82] لأن قصتي ثمود وقوم لوط كان فيهما تعيين أجل العذاب الذي توعد به النبيءان قومهما؛ ففي قصة ثمود {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]، وفي قصة قوم لوط {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81]؛ فكان المقام مقتضيا ترقب السامع
لما حل بهم عند ذلك الموعد فكان الموقع للفاء لتفريع ما حل بهم على الوعيد به. وليس في قصة عاد وقصة مدين تعيين لموعد العذاب ولكن الوعيد فيهما مجمل من قوله: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} [هود: 57]، وقوله: {وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93].
وتقدم القول في معنى {جاء أمرنا} إلى قوله: {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ} في قصة ثمود. وتقدم الكلام على { بُعْداً} في قصة نوح في قوله: {وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
أما قوله: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} فهو تشبيه البعد الذي هو انقراض مدين بانقراض ثمود. ووجه الشبه التماثل في سبب عقابهم بالاستئصال، وهو عذاب الصيحة، ويجوز أن يكون المقصود من التشبيه الاستطراد بذم ثمود لأنهم كانوا أشد جرأة في مناواة رسل الله، فلما تهيأ المقام لاختتام الكلام في قصص الأمم البائدة ناسب أن يعاد ذكر أشدها كفرا وعنادا فشبه هلك مدين بهلكهم.
والاستطراد فن من البديع. ومنه قول حسان في الاستطراد بالهجاء بالحارث أخي أبي جهل:
إن كنت كاذبة الذي حدثتني ... فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
[96, 97] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} .
عطف قصة على قصة. وعقبت قصة مدين بذكر بعثة موسى - عليه السلام - لقرب ما بين زمنيهما، ولشدة الصلة بين النبيءين فإن موسى بعث في حياة شعيب - عليهما السلام - وقد تزوج ابنة شعيب.
وتأكيد الخبر ب"قد" مثل تأكيد خبر نوح عليه السلام في قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25].
والباء في: {بِآياتِنَا} للمصاحبة فإن ظهور الآيات كان مصاحبا لزمن الإرسال إلى فرعون وهو مدة دعوة موسى - عليه السلام - فرعون وملأه.
والسلطان: البرهان المبين، أي المظهر صدق الجائي به وهو الحجة العقلية أو
التأييد الإلهي. وقد تقدم ذكر فرعون وملئه في سورة الأعراف.
وعقب ذكر إرسال موسى عليه السلام بذكر اتباع الملإ أمر فرعون لأن اتباعهم أمر فرعون حصل بأثر الإرسال ففهم منه أن فرعون أمرهم بتكذيب تلك الرسالة.
وإظهار اسم فرعون في المرة الثانية دون الضمير والمرة الثالثة للتشهير بهم، والإعلان بذمه وهو انتفاء الرشد عن أمره.
وجملة {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} حال من {فِرْعَوْنَ} .
والرشيد: فعيل من رشد من باب نصر وفرح، إذا اتصف بإصابة الصواب.
يقال: أرشدك الله. وأجري وصف رشيد على الأمر مجازا عقليا. وإنما الرشيد الآمر مبالغة في اشتمال الأمر على ما يقتضي انتفاء الرشد فكأن الأمر هو الموصوف بعدم الرشد. والمقصود أن أمر فرعون سفه إذ لا واسطة بين الرشد والسفه، ولكن عدل عن وصف أمره بالسفيه إلى نفي الرشد عنه تجهيلا للذين اتبعوا أمره لأن شأن العقلاء أن يتطلبوا الاقتداء بما فيه صلاح وأنهم اتبعوا ما ليس فيه أمارة على سداده واستحقاقه لأن يتبع فماذا غرهم باتباعه.
[98, 99] {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} .
جملة {يَقْدُمُ قَوْمَهُ} يجوز أن تكون في موضع الحال من {فِرْعَوْنَ} [هود: 97] المذكور في الجملة قبلها. ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا.
والإيراد: جعل الشيء واردا، أي قاصدا الماء، والذي يوردهم هو الفارط، ويقال له: الفرط.
والورد بكسر الواو: الماء المورود، وهو فعل بمعنى مفعول، مثل ذبح. وفي قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} استعارة الإيراد إلى التقدم بالناس إلى العذاب، وهي تهكمية لأن الإيراد يكون لأجل الانتفاع بالسقي وأما التقدم بقومه إلى النار فهو ضد ذلك.
و {يَقْدُمُ} مضارع قدم بفتح الدال بمعنى تقدم المتعدي إذا كان متقدما غيره.
وإنما جاء {فَأَوْرَدَهُمُ} بصيغة الماضي للتنبيه على تحقيق وقوع ذلك الإيراد وإلا
فقرينة قوله: {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} تدل على أنه لم يقع في الماضي.
وجملة {وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} في موضع الحال والضمير المخصوص بالمدح المحذوف هو الرابط وهو تجريد للاستعارة، كقوله تعالى: {بِئْسَ الشَّرَابُ} [الكهف: 29]، لأن الورد المشبه به لا يكون مذموما.
والإتباع: الإلحاق.
واللعنة: هي لعنة العذاب في الدنيا وفي الآخرة.
و {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} متعلق ب {وَأُتْبِعُوا} ، فعلم أنهم أتبعوا لعنة يوم القيامة، لأن اللعنة الأولى قيدت بالمجرور بحرف {في} الظرفية، فتعين أن الإتباع في يوم القيامة بلعنة أخرى.
وجملة {بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} مستأنفة لإنشاء ذم اللعنة. والمخصوص بالذم محذوف دل عليه ذكر اللعنة، أي بئس الرفد هي.
والرفد - بكسر الراء - اسم على وزن فعل بمعنى مفعول مثل ذبح. أي ما يرفد به، أي يعطى. يقال: رفده إذا أعطاه ما يعينه به من مال ونحوه.
وفي حذف المخصوص بالمدح إيجاز ليكون الذم متوجها لإحدى اللعنتين لا على التعيين لأن كلتيهما بئيس.
وإطلاق الرفد على اللعنة استعارة تهكمية، كقول عمرو بن معد يكرب:
تحية بينهم ضرب وجيع
والمرفود: حقيقته المعطى شيئا. ووصف الرفد بالمرفود لأن كلتا اللعنتين معضودة باأخرى، فشبهت كل واحدة بمن أعطي عطاء فهي مرفودة. وإنما أجري المرفود على التذكير باعتبار أنه أطلق عليه رفد.
[100, 101] {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} .
استئناف للتنويه بشأن الأنباء التي مر ذكرها.
واسم الإشارة إلى المذكور كله من القصص من قصة نوح عليه السلام وما بعدها.
والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر، وتقدم في سورة الأنعام [34] في قوله: {وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَأِ الْمُرْسَلِينَ} . وجملة: {نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} حال من اسم الإشارة. وعبر بالمضارع مع أن القصص مضى لاستحضار حالة هذا القصص البليغ.
وجملة {مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} معترضة، حال من {الْقُرَى} .
و {قَائِمٌ} صفة لموصوف محذوف دل عليه عطف {وَحَصِيدٌ} ، والمعنى: منها زرع قائم وزرع حصيد، وهذا تشبيه بليغ.
والقائم: الزرع المستقل على سوقه. والحصيد: الزرع المحصود. فعيل بمعنى مفعول. وكلاهما مشبه به للباقي من القرى والعافي. والمراد بالقائم ما كان من القرى التي قصها الله في القرآن قرى قائما بعضها كآثار بلد فرعون كالأهرام وبلهوبة "وهو المعروف بأبي الهول" وهيكل الكرنك بمصر، ومثل آثار نينوى بلد قوم يونس. وأنطاكية قرية المرسلين الثلاثة، وصنعاء بلد قوم تبع، وقرى بائدة مثل ديار عاد، وقرى قوم لوط، وقرية مدين. وليس المراد القرى المذكورة في هذه السورة خاصة. والمقصود من هذه الجملة الاعتبار.
وضمير الغيبة في {ظَلَمْنَاهُمْ} عائد إلى {الْقُرَى} باعتبار أهلها لأنهم المقصود.
وإنما لم يظلمهم الله تعالى لأن ما أصابهم به من العذاب جزاء عن سوء أعمالهم فكانوا هم الظالمين أنفسهم إذ جروا لأنفسهم العذاب.
وفرع على ظلمهم أنفسهم انتفاء إغناء آلهتهم عنهم شيئا، ووجه ذلك الترتب والتفريع أن ظلمهم أنفسهم مظهره في عبادتهم الأصنام، وهم لما عبدوها كانوا يعبدونها للخلاص من طوارق الحدثان ولتكون لهم شفعاء عند الله وكانوا في أمن من أن ينالهم بأس في الدنيا اعتمادا على دفع أصنامهم عنهم فلما جاء أمرهم بضد ذلك كان ذلك الضد مضادا لتأميلهم وتقديرهم.
والغرض من هذا التفريع التعريض بتحذير المشركين من العرب من الاعتماد على نفع الأصنام، فقد أيقن المشركون أن أولئك الأمم كانوا يعبدون الأصنام كيف وهؤلاء اقتبسوا عبادة الأصنام من الأمم السابقين وأيقنوا أنهم قد حل بهم من الاستئصال ما
شاهدوا آثاره، فذلك موعظة لهم لو كانوا مهتدين.
وجملة {وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ} علاوة وارتقاء على عدم نفعهم عند الحاجة بأنهم لم يكن شأنهم عدم الإغناء عنهم فحسب ولكنهم زادتهم تتبيبا وخسرانا، أي زادتهم أسباب الخسران.
والتتبيب: مصدر تببه إذا أوقعه في التباب وهو الخسارة. وظاهر هذا أن أصنامهم زادتهم تتبيبا لما جاء أمر الله، لأنه عطف على الفعل المقيد ب {لَمَّا} التوقيتية المفيدة أن ذلك كان في وقت مجيء أمر الله وهو حلول العذاب بهم.
ووجه زيادتهم إياهم تتبيبا حينئذ أن تصميمهم على الطمع في إنقاذهم إياهم من المصائب حالت دونهم ودون التوبة عند سماع الوعيد بالعذاب.
ويجوز أن يكون العطف لمجرد المشاركة في الصفة دون قيدها، أي زادوهم تتبيبا قبل مجيء أمر الله بأن زادوهم اعتقادهم فيها انصرافا عن النظر في آيات الرسل وزادهم تأميلهم الأصنام، وقد كانت خرافات الأصنام ومناقبها الباطلة مغرية لهم بارتكاب الفواحش والضلال وانحطاط الأخلاق وفساد التفكير جرأة على رسل الله حتى حق عليهم غضب الله المستوجب حلول عذابه بهم.
[102] {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} .
الإشارة إلى المذكور من استئصال تلك القرى، وهو ما يدل عليه قوله: {أَخْذُ رَبِّكَ} . والتقدير: وكذلك الأخذ الذي أخذنا به تلك القرى أخذ ربك إذا أخذ القرى. والتشبيه في الكيفية والعاقبة.
والمقصود من هذا التذييل تعريض بتهديد مشركي العرب من أهل مكة وغيرها.
والظلم: الشرك. وجملة {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} في موضع البيان لمضمون {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} . وفيه إشارة إلى وجه الشبه.
[103, 104] { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} .
بيان للتعريض وتصريح بعد تلويح. والمعنى: وكذلك أخذ ربك فاحذروه واحذروا ما هو أشد منه وهو عذاب الآخرة. والإشارة إلى الأخذ المتقدم. وفي هذا تخلص إلى موعظة المسلمين والتعريض بمدحهم بأن مثلهم من ينتفع بالآيات ويعتبر بالعبر كقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43].
وجعل عذاب الدنيا آية دالة على عذاب الآخرة لأن القرى الظالمة توعدها الله بعذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما في قوله تعالى: { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] فلما عاينوا عذاب الدنيا كان تحققه أمارة على تحقق العذاب الآخر.
وجملة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} معترضة للتنويه بشأن هذا اليوم حتى أن المتكلم يبتدئ كلاما لأجل وصفه.
والإشارة ب {ذَلِكَ} إلى الآخرة لأن ما صدقها يوم القيامة، فتذكير اسم الإشارة مراعاة لمعنى الآخرة.
واللام في {مَجْمُوعٌ لَهُ} لام العلة، أي مجموع الناس لأجله.
ومجيء الخبر جملة اسمية في الإخبار عن اليوم يدل على معنى الثبات، أي ثابت جمع الله الناس لأجل ذلك اليوم، فيدل على تمكن تعلق الجمع بالناس وتمكن كون ذلك الجمع لأجل اليوم حتى لقب ذلك اليوم يوم الجمع في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9].
وعطف جملة {وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} على جملة: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} لزيادة التهويل لليوم بأنه يشهد. وطوي ذكر الفاعل إذ المراد يشهده الشاهدون، إذ ليس القصد إلى شاهدين معينين. والإخبار عنه بهذا يؤذن بأنهم يشهدونه شهودا خاصا وهو شهود الشيء المهول، إذ من المعلوم أن لا يقصد الإخبار عنه بمجرد كونه مرئيا لكن المراد كونه مرئيا رؤية خاصة.
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى المحقق أي مشهود بوقوعه، كما يقال: حق مشهود، أي عليه شهود لا يستطاع إنكاره، واضح للعيان.
ويجوز أن يكون المشهود بمعنى كثير الشاهدين إياه لشهرته، كقولهم: لفلان مجلس مشهود، كقول أم قيس الضبية:
ومشهد قد كفيت الناطقين به ... في محفل من نواصي الخيل مشهود
فيكون من نحو قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 41, 42] الآية.
وجملة {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ} معترضة بين جملة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} وبين جملة {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} [هود: 15] الخ. والمقصود الرد على المنكرين للبعث مستدلين بتأخير وقوعه في حين تكذيبهم به يحسبون أن تكذيبهم به يغيظ الله تعالى فيعجله لهم جهلا منهم بمقام الإلهية فبين الله لهم أن تأخيره إلى أجل حدده الله له من يوم خلق العالم كما حدد آجال الأحياء، فيكون هذا كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29, 30].
والأجل: أصله المدة المنظر إليها في أمر، ويطلق أيضا على نهاية تلك المدة، وهو المراد هنا بقرينة اللام، كما أريد في قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34].
والمعدود: أصله المحسوب، وأطلق هنا كناية عن المعين المضبوط بحيث لا يتأخر ولا يتقدم لأن المعدود يلزمه التعين، أو كناية عن القرب.
[105- 108] {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
جملة {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} تفصيل لمدلول جملة {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} الآية، وبينت عظمة ذلك اليوم في الشر والخير تبعا لذلك التفصيل. فالمقصد الأول من هذه الجملة هو قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} وما بعده، وأما ما قبله فتمهيد له أفصح عن عظمة ذلك اليوم. وقد جاء نظم الكلام على تقديم وتأخير اقتضاه وضع الاستطراد بتعظيم هول اليوم في موضع الكلام المتصل لأنه أسعد بتناسب أغراض الكلام، والظروف صالحة لاتصال الكلام كصلاحية الحروف العاطفة وأدوات الشرط.
و {يَوْمَ} من قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} مستعمل في معنى "حين" أو "ساعة"، وهو استعمال
شائع في الكلام العربي في لفظ "يوم" و"ليلة" توسعا بإطلاقهما على جزء من زمانهما إذ لا يخلو الزمان من أن يقع في نهار أو في ليل فذلك يوم أو ليلة فإذا أطلقا هذا الإطلاق لم يستفد منهما إلا معنى "حين" دون تقدير بمدة ولا بنهار ولا ليل، ألا ترى قول النابغة:
تخيرن من أنهار يوم حليمة
فأضاف "أنهار" جمع نهار إلى اليوم. وروي:
من أزمان يوم حليمة.
وقول توبة بن الحمير:
كأن القلب ليلة قيل: يغدى ... بليلى الأخيلية أو يراح
أراد ساعة قيل: يغدى بليلى، ولذلك قال: يغدى أو يراح، فلم يراقب ما يناسب لفظ ليلة من الرواح.
فقوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ} معناه حين يأتي. وضمير {يَأْتِ} عائد إلى {يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] وهو يوم القيامة. والمراد بإتيانه وقوعه وحلوله كقوله: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ} [الزخرف: 66].
فقوله: {يَوْمَ يَأْتِي} ظرف متعلق بقوله: {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} .
وجملة {لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} مستأنفة ابتدائية. قدم الظرف على فعلها للغرض المتقدم. والتقدير: لا تكلم نفس حين يحل اليوم المشهود. والضمير في {بِإِذْنِهِ} عائد إلى الله تعالى المفهوم من المقام ومن ضمير {نُؤَخِّرُهُ} [هود: 104]. والمعنى أنه لا يتكلم أحد إلا بإذن من الله، كقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38]. والمقصود من هذا إبطال اعتقاد أهل الجاهلية أن الأصنام لها حق الشفاعة عند الله.
و {نَفْسٌ} يعم جميع النفوس لوقوعه في سياق النفي، فشمل النفوس البرة والفاجرة، وشمل كلام الشافع وكلام المجادل عن نفسه. وفصل عموم النفوس باختلاف أحوالهما. وهذا التفصيل مفيد تفصيل الناس في قوله: {مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ} [هود: 103]، ولكنه جاء على هذا النسج لأجل ما تخلل ذلك من شبه الاعتراض بقوله: {وما نؤخره إلا لأجل معدود} [هود: 104] إلى قوله: {بِإِذْنِهِ} وذلك نسيج بديع.
والشقي: فعيل صفة مشبهة من شقي، إذا تلبس بالشقاء والشقاوة، أي سوء الحالة
وشرها وما ينافر طبع المتصف بها.
والسعيد: ضد الشقي، وهو المتلبس بالسعادة التي هي الأحوال الحسنة الخيرة الملائمة للمتصف بها. والمعنى: فمنهم يومئذ من هو في عذاب وشدة ومنهم من هو في نعمة ورخاء.
والشقاوة والسعادة من المواهي المقولة بالتشكيك فكلتاهما مراتب كثيرة متفاوتة في قوة الوصف. وهذا إجمال تفصيله: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا} إلى آخره.
والزفير: إخراج الأنفاس بدفع وشدة بسبب ضغط التنفس. والشهيق: عكسه وهو اجتلاب الهواء إلى الصدر بشدة لقوة الاحتياج إلى التنفس.
وخص بالذكر من أحوالهم في جهنم الزفير والشهيق تنفيرا من أسباب المصير إلى النار لما في ذكر هاتين الحالتين من التشويه بهم وذلك أخوف لهم من الألم.
ومعنى {مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} التأييد لأنه جرى مجرى المثل، وإلا فإن السماوات والأرض المعروفة تضمحل يومئذ، قال تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48] أو يراد سماوات الآخرة وأرضها.
و {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} استثناء من الأزمان التي عمها الظرف في قوله: {مَا دَامَتِ} أي إلا الأزمان التي شاء الله فيها عدم خلودهم، ويستتبع ذلك استثناء بعض الخالدين تبعا للأزمان. وهذا بناء على غالب إطلاق {مَا} الموصولة أنها لغير العاقل. ويجوز أن يكون استثناء من ضمير {خَالِدِينَ} لأن {مَا} تطلق على العاقل كثيرا كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. وقد تكرر هذا الاستثناء في الآية مرتين.
فأما الأول منهما فالمقصود أن أهل النار مراتب في طول المدة فمنهم من يعذب ثم يعفى عنه، مثل أهل المعاصي من الموحدين، كما جاء في الحديث: أنهم يقال لهم الجهنميون في الجنة، ومنهم الخالدون وهم المشركون والكفار.
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} استئناف بياني ناشئ عن الاستثناء، لأن إجمال المستثنى ينشئ سؤالا في نفس السامع أن يقول: ما هو تعيين المستثنى أو لماذا لم يكن الخلود عاما. وهذا مظهر من مظاهر التفويض إلى الله.
وأما الاستثناء الثاني الواقع في جانب {الَّذِينَ سُعِدُوا} فيحتمل معنيين:
أحدهما أن يراد: إلا ما شاء ربك في أول أزمنة القيامة، وهي المدة التي يدخل فيها عصاة المؤمنين غير التائبين في العذاب إلى أن يعفو الله عنهم بفضله بدون شفاعة، أو بشفاعة كما في الصحيح من حديث أنس: "يدخل ناس جهنم حتى إذا صاروا كالحممة أخرجوا وأدخلوا الجنة فيقال: هؤلاء الجهنميون" .
ويحتمل أن يقصد منه التحذير من توهم استحقاق أحد ذلك النعيم حقا على الله بل هو مظهر من مظاهر الفضل والرحمة.
وليس يلزم من الاستثناء المعلق على المشيئة وقوع المشيئة بل إنما يقتضي أنها لو تعلقت المشيئة لوقع المستثنى، وقد دلت الوعود الإلهية على أن الله لا يشاء إخراج أهل الجنة منها. وأيا ما كان فهم إذا أدخلوا الجنة كانوا خالدين فيها فلا ينقطع عنهم نعيمها. وهو معنى قوله: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} .
والمجذوذ: المقطوع.
وقرأ الجمهور {سعِدُوا} - بفتح السين -، وقرأه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف - بضم السين على أنه مبني للنائب -، وإن كان أصل فعله قاصرا لا مفعول له؛ لكنه على معاملة القاصر معاملة المتعدي في معنى فعل به ما صيره صاحب ذلك الفعل، كقولهم: جن فلان، إذا فعل به ما صار به ذا جنون، ف {سُعِدُوا} بمعنى أسعدوا. وقيل: سعد متعد في لغة هذيل وتميم، يقولون: سعده الله بمعنى أسعده. وخرج أيضا على أن أصله أسعدوا، فحذف همز الزيادة كما قالوا مجنوب "بموحدة في آخره"، ومنه قولهم: رجل مسعود.
[109] {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} .
تفريع على القصص الماضية فإنها تكسب سامعها يقينا بباطل ما عليه عبدة الأصنام وبخيبة ما أملوه فيهم من الشفاعة في الدنيا وإن سابق شقائهم في الدنيا بعذاب الاستئصال يؤذن بسوء حالهم في الآخرة، ففرع على ذلك نهي السامع أن يشك في سوء الشرك وفساده.
والخطاب في نحو {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} يقصد به أي سامع لا سامع معين سواء كان
ممن يظن به أن يشك في ذلك أم لا إذ ليس المقصود معينا.
ويجوز أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويكون {فَلا تَكُ} مقصودا به مجرد تحقيق الخبر فإنه جرى مجرى المثل في ذلك في كلام العرب مثل كلمة: لا شك، ولا محالة، ولا أعرفنك، ونحوها.
ويجوز أن يكون تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم على ما يلقاه من قومه من التصلب في الشرك، أي لا تكن شاكا في أنك لقيت من قومك من التكذيب مثل ما لقيته الرسل من أممهم فإن هؤلاء ما يعبدون إلا عبادة كما يعبد آباؤهم من قبل متوارثينها عن أسلافهم من الأمم البائدة.
و {فِي} للظرفية المجازية.
والمرية بكسر الميم: الشك. وقد جاء فعلها على وزن فاعل أو تفاعل وافتعل. ولم يجيء على وزن مجرد لأن أصل المراد المجادلة والمدافعة مستعارا من مريت الشاة إذا استخرجت لبنها. ومنه قولهم: لا يجارى ولا يمارى. وفي القرآن: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12]. وقد تقدم الامتراء عند قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} في أول الأنعام [2].
و {ما} في قوله: {مَّا يَعْبُدُ} مصدرية، أي لا تك في شك من عبادة هؤلاء، والإشارة بهؤلاء إلى مشركي قريش.
وقد تتبعت اصطلاح القرآن فوجدته عناهم باسم الإشارة هذا في نحو أحد عشر موضعا وهو مما ألهمت إليه ونبهت عليه عند قوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} في سورة النساء [41].
ومعنى الشك في عبادتهم ليس إلا الشك في شأنها، لأن عبادتهم معلومة للنبي صلى الله عليه وسلم فلا وجه لنفي مريته فيها، وإنما المراد نفي الشك فيما قد يعتريه من الشك من أنهم هل يعذبهم الله في الدنيا أو يتركهم إلى عقاب الآخرة.
وجملة {مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ} مستأنفة، تعليلا لانتفاء الشك في عاقبة أمرهم في الدنيا.
ووجه كونه علة أنه لما كان دينهم عين دين من كان قبلهم من آبائهم وقد بلغكم ما فعل الله بهم عقابا على دينهم فأنتم توقنون بأن جزاءهم سيكون مماثلا لجزاء أسلافهم،
لأن حكمة الله تقتضي المساواة في الجزاء على الأعمال المتماثلة.
والاستثناء بقوله: {إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ} استثناء من عموم المصادر. وكاف التشبيه نائبة عن مصدر محذوف. التقدير: إلا عبادة كما يعبد آباؤهم.
والآباء: أطلق على الأسلاف، وهم عاد وثمود. وذلك أن العرب العدنانيين كانت أمهم جرهمية، وهي امرأة إسماعيل، وجرهم من إخوة ثمود، وثمود إخوة لعاد، ولأن قريشا كانت أمهم خزاعية وهي زوج قصي. وعبادة الأصنام في العرب أتاهم بها عمرو بن يحيى، وهو جد خزاعة.
وعبر عن عبادة الآباء بالمضارع للدلالة على استمرارهم على تلك العبادة، أي إلا كما اعتاد آباؤهم عبادتهم. والقرينة على المضي قوله: {مِنْ قَبْلُ} ، فكأنه قيل: إلا كما كان يعبد آباؤهم. والمضاف إليه {قَبْلُ} محذوف تقديره: من قبلهم، تنصيصا على أنهم سلفهم في هذا الضلال وعلى أنهم اقتدوا بهم.
وجملة {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ} عطف على جملة التعليل والمعطوف هو المعلول، وقد تسلط عليه معنى كاف التشبيه لذلك. فالمعنى: وإنا لموفوهم نصيبهم من العذاب كما وفينا أسلافهم.
والتوفية: إكمال الشيء غير منقوص.
والنصيب: أصله الحظ. وقد استعمل "موفوهم" و"نصيبهم" هنا استعمالا تهكميا كأن لهم عطاء يسألونه فوفوه، فوقع قوله: {غَيْرَ مَنْقُوصٍ} حالا مؤكدة لتحقيق التوفية زيادة في التهكم، لأن من إكرام الموعود بالعطاء أن يؤكد له الوعد ويسمى ذلك بالبشارة.
والمراد نصيبهم من عذاب الآخرة، فإن الله لم يستأصلهم كما استأصل الأمم السابقة ببركة النبيء صلى الله عليه وسلم إذ قال: "لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده" .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} .
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} .
اعتراض لتثبيت النبيء صلى الله عليه وسلم وتسليته بأن أهل الكتاب وهم أحسن حالا من أهل الشرك قد أوتوا الكتاب فاختلفوا فيه، وهم أهل ملة واحدة فلا تأس من اختلاف قومك عليك،
فالجملة عطف على جملة {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ} [هود: 109].
ولأجل ما فيها من معنى التثبيت فرع عليها قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].
وقوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي في الكتاب، وهو التوراة. ومعنى الاختلاف فيه اختلاف أهل التوراة في تقرير بعضها وإبطال بعض، وفي إظهار بعضها وإخفاء بعض مثل حكم الرجم، وفي تأويل البعض على هواهم، وفي إلحاق أشياء بالكتاب على أنها منه، كما قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79]. فهذا من شأنه أن يقع من بعضهم لا من جميعهم فيقتضي الاختلاف بينهم بين مثبت وناف، وهذا الاختلاف بأنواعه وأحواله يرجع إلى الاختلاف في شيء من الكتاب. فجمعت هذه المعاني جمعا بديعا في تعدية الاختلاف بحرف "في" الدالة على الظرفية المجازية وهي كالملابسة، أي فاختلف اختلافا يلابسه، أي يلابس الكتاب.
ولأن الغرض لم يكن متعلقا ببيان المختلفين ولا بذمهم لأن منهم المذموم وهم الذين أقدموا على إدخال الاختلاف، ومنهم المحمود وهم المنكرون على المبدلين كما قال تعالى: {مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] وسيجيء قوله: {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: 111] ، بل كان للتحذير من الوقوع في مثله.
بني فعل "اختلف" للمجهول إذ لا غرض إلا في ذكر الفعل لا في فاعله.
{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}
يجوز أن يكون عطفا على جملة {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 19] ويكون الاعتراض تم عند قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ، وعليه فضمير {بَيْنَهُمْ} عائد إلى اسم الإشارة من قوله: {مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] أي ولولا ما سبق من حكمة الله أن يؤخر عنهم العذاب لقضي بينهم، أي لقضى الله بينهم، فأهلك المشركين والمخالفين ونصر المؤمنين.
فيكون {بَيْنَهُمْ} هو نائب فاعل "قضي". والتقدير: لوقع العذاب بينهم، أي فيهم.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} فيكون ضمير {بَيْنَهُمْ} عائدا إلى ما يفهم من قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} لأنه يقتضي جماعة مختلفين في أحكام الكتاب، ويكون {بَيْنَهُمْ} متعلقا ب"قضي"، أي لحكم بينهم بإظهار المصيب من المخطئ في أحكام
الكتاب فيكون تحذيرا من الاختلاف، أي أنه إن وقع أمهل الله المختلفين فتركهم في شك. وليس من سنة الله أن يقضي بين المختلفين فيوقفهم على تمييز المحق من المبطل، أي فعليكم بالحذر من الاختلاف في كتابكم فإنكم إن اختلفتم بقيتم في شك ولحقكم جزاء أعمالكم.
و {الكلمة} هي إرادة الله الأزلية وسنته في خلقه. وهي أنه وكل الناس إلى إرشاد الرسل للدعوة إلى الله، وإلى النظر في الآيات، ثم إلى بذل الاجتهاد التام في إصابة الحق، والسعي إلى الاتفاق ونبذ الخلاف بصرف الأفهام السديدة إلى المعاني، وبالمراجعة فيما بينهم، والتبصر في الحق، والإنصاف في الجدل والاستدلال، وأن يجعلوا الحق غايتهم والاجتهاد دأبهم وهجيراهم. وحكمة ذلك هي أن الفصل والاهتداء إلى الحق مصلحة للناس ومنفعة لهم لا لله. وتمام المصلحة في ذلك يحصل بأن يبذلوا اجتهادهم ويستعملوا أنظارهم لأن ذلك وسيلة إلى زيادة تعقلهم وتفكيرهم. وقد تقدم في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} في سورة الأنعام [115] وقوله: {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} في سورة الأنفال [7].
ووصفها بالسبق لأنها أزلية، باعتبار تعلق العلم بوقوعها، وبأنها ترجع إلى سنة كلية تقررت من قبل.
ومعنى {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أنه قضاء استئصال المبطل واستبقاء المحق، كما قضى الله بين الرسل والمكذبين، ولكن إرادة الله اقتضت خلاف ذلك بالنسبة إلى فهم الأمة كتابها.
وضمير {بَيْنَهُمْ} يعود إلى المختلفين المفاد من قوله: {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} والقرينة واضحة.
ومتعلق القضاء محذوف لظهوره، أي لقضي بينهم فيما اختلفوا فيه كما قال في الآية الأخرى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: 25].
{وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} .
يجوز أن يكون عطفا على جملة {وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ} [هود: 109] فيكون ضمير {وَإِنَّهُمْ} عائدا إلى ما عاد إليه ضمير {مَا يَعْبُدُونَ} [هود: 109] الآية، أي أن المشركين لفي شك من توفية نصيبهم لأنهم لا يؤمنون بالبعث. ويلتئم مع قوله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} على أول الوجهين وأولاهما، فضمير {مِنْهُ} عائد إلى
{يَوْمَ} من قوله: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ} [هود: 105] إلخ.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة {فَاخْتُلِفَ فِيهِ} ، أي فاختلف فيه أهله، أي أهل الكتاب فضمير {وَإِنَّهُمْ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {بَيْنَهُمْ} على ثاني الوجهين، أي اختلف أهل الكتاب في كتابهم وإنهم لفي شك.
أما ضمير {مِنْهُ} فيجوز أن يعود إلى الكتاب، أي أقدموا على ما أقدموا عليه على شك وتردد في كتابهم، أي دون علم يوجب اليقين مثل استقراء علمائنا للأدلة الشرعية، أو يوجب الظن القريب من اليقين، كظن المجتهد فيما بلغ إليه اجتهاده، لأن الاستدلال الصحيح المستنبط من الكتاب لا يعد اختلافا في الكتاب إذ الأصل متفق عليه. فمناط الذم هو الاختلاف في متن الكتاب لا في التفريع من أدلته. ويجوز أن يكون ضمير {مِنْهُ} عائدا إلى القرآن المفهوم من المقام ومن قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ} [هود: 100].
والمريب: الموقع في الشك، ووصف الشك بذلك تأكيد كقولهم: ليل أليل، وشعر شاعر.
[111] {وَإِنَّ كُلّاً لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
تذييل للأخبار السابقة. والواو اعتراضية. و"إنْ" مخففة من {إِنَّ} الثقيلة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي بكر عن عاصم، وأعملت في اسمها فانتصب بعدها. و"إنْ" المخففة إذا وقعت بعدها جملة اسمية يكثر إعمالها ويكثر إهمالها قاله الخليل وسيبويه ونحاة البصرة وهو الحق. وقرأ الباقون "إنّ" مشددة على الأصل.
وبتنوين {كُلّاً} عوض عن المضاف إليه. والتقدير: وإن كلهم، أي كل المذكورين آنفا من أهل القرى، ومن المشركين المعرض بهم، ومن المختلفين في الكتاب من أتباع موسى - عليه السلام -.
و"لما" مخففة في قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، والكسائي، فاللام الداخلة على "مَا" لام الابتداء التي تدخل على خبر {إِنَّ} . واللام الثانية الداخلة على {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} لام جواب القسم. و"مَا" مزيدة للتأكيد. والفصل بين اللامين دفعا لكراهة توالي مثلين.
وقرأ ابن عامر، وحمزة، وعاصم، وأبو جعفر، وخلف - بتشديد الميم - من "لماّ".
فعند من قرأ "إن" مخففة وشدد الميم وهو أبو بكر عن عاصم تكون "إن" مخففة من الثقيلة، وأما من شدد النون "إن" وشدد الميم من "لماّ" وهم ابن عامر، وحمزة، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، وخلف فتوجيه قراءتهم وقراءة أبي بكر ما قاله الفراء: إنها بمعنى "لَمِنْ مَا" فحذفت إحدى الميمات الثلاث، يريد أن "لماّ" ليست كلمة واحدة وإن كانت في صورتها كصورة حرف "لماّ" في رسم المصحف "لأنه اتبع فيه صورة النطق بها" وإنما هي مركبة من لام الابتداء و "مِن" الجارة التي تستعمل في معنى كثرة تكرر الفعل كالتي في قول أبي حية النمري:
وإنا لمما نضرب الكبش ضربة ... على رأسه تلقي اللسان من الفم
أي نكثر ضرب الكبش، أي أمير جيش العدو على رأسه. وقول ابن عباس: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلاقي من الوحي شدة، وكان مما يحرك لسانه حين ينزل عليه القرآن" ، فقال الله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] الآية. فأصل هذه الكلمات في الآية على هذه القراءات: وإن كلا لمن ما ليوفينهم، فلما قلبت نون "مِن" ميما لإدغامها في ميم "مَا" اجتمع ثلاث ميمات فحذفت الميم الأولى تخفيفا وهي ميم "مِن" لوجود دليل عليها وهو الميم الثانية لأن أصل الميم الثانية نون "مِن" فصار "لماّ".
ولام {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} لام قسم.
ومعنى الكثرة في هذه الآية الكناية عن عدم إفلات فريق من المختلفين في الكتاب من إلحاق الجزاء عن عمله به.
والمعنى: وإن جميعهم للاقون جزاء أعمالهم لا يفلت منهم أحد، وإن توفية الله إياهم أعمالهم حققه الله ولم يسامح فيه. فهذا التخريج هو أولى الوجوه التي خرجت عليها هذه القراءة وهو مروي عن الفراء وتبعه المهدوي ونصر الشيرازي النحوي"1" ومشى عليه البيضاوي. وقد أنهاها أبو شامة في "شرح منظومة الشاطبي" إلى ستة وجوه وأنهاها غيره إلى ثمانية وجوه.
وفي تفسير الفخر: سمعت بعض الأفاضل قال: إن الله تعالى لما أخبر عن توفية الأجزية على المستحقين في هذه الآية ذكر فيها سبعة أنواع من التوكيدات، أولها: كلمة
ـــــــ
(1) هو نصر بن علي بن محمد الشيرازي الفسوي الفارسي المعروف بأبي مريم, خطيب شيراز. له "تفسير القرآن", و"شرح إيضاح أبي علي الفارسي". كان حيا سنة 565.
"إنْ" وهي للتأكيد، وثانيها: "كلّ" وهي أيضا للتأكيد، وثالثها اللام الداخلة على خبر "إنّ"، ورابعها حرف "ما" إذا جعلناه موصولا على قول الفراء، وخامسها القسم المضمر، وسادسها اللام الداخلة على جواب القسم، وسابعها النون المؤكدة في قوله: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} .
وتوفية أعمالهم بمعنى توفية جزاء الأعمال، أي إعطاء الجزاء وافيا من الخير على عمل الخير ومن السوء على عمل السوء.
وجملة: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} استئناف وتعليل للتوفية لأن إحاطة العلم بأعمالهم مع إرادة جزائهم توجب أن يكون الجزاء مطابقا للعمل تمام المطابقة. وذلك محقق التوفية.
[112] {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
{فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}
ترتب عن التسلية التي تضمنها قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [هود: 110] وعن التثبيت المفاد بقوله: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] الحض على الدوام على التمسك بالإسلام على وجه قويم. وعبر عن ذلك بالاستقامة لإفادة الدوام على العمل بتعاليم الإسلام، دواما جماعه الاستقامة عليه والحذر من تغييره.
ولما كان الاختلاف في كتاب موسى عليه السلام إنما جاء من أهل الكتاب عطف على أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بالاستقامة على كتابه أمر المؤمنين بتلك الاستقامة أيضا، لأن الاعوجاج من دواعي الاختلاف في الكتاب بنهوض فرق من الأمة إلى تبديله لمجاراة أهوائهم، ولأن مخالفة الأمة عمدا إلى أحكام كتابها إن هو إلا ضرب من ضروب الاختلاف فيه، لأنه اختلافها على أحكامه. وفي الحديث: "فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" ، فلا جرم أن كانت الاستقامة حائلا دون ذلك، إذ الاستقامة هي العمل بكمال الشريعة بحيث لا ينحرف عنها قيد شبر. ومتعلقها العمل بالشريعة بعد الإيمان لأن الإيمان أصل فلا تتعلق به الاستقامة. وقد أشار إلى صحة هذا المعنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم لأبي عمرة الثقفي لما قال له: "يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا غيرك. قال: قل آمنت بالله ثم استقم" فجعل الاستقامة شيئا بعد الإيمان.
ووجه الأمر إلى النبيء صلى الله عليه وسلم تنويها ليبنى عليه قوله: {كَمَا أُمِرْتَ} فيشير إلى أنه المتلقي للأوامر الشرعية ابتداء. وهذا تنويه له بمقام رسالته، ثم أعلم بخطاب أمته بذلك بقوله: {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} . وكاف التشبيه في قوله: {كَمَا أُمِرْتَ} في موضع الحال من الاستقامة المأخوذة من "استقم". ومعنى تشبيه الاستقامة المأمور بها بما أمر به النبيء صلى الله عليه وسلم لكون الاستقامة ممثالة لسائر ما أمر به، وهو تشبيه المجمل بالمفصل في تفصيله بأن يكون طبقه. ويؤول هذا المعنى إلى أن تكون الكاف في معنى "على" كما يقال: كن كما أنت. أي لا تتغير ولتشبه أحوالك المستقبلة حالتك هذه.
{وَمَنْ تَابَ} عطف على الضمير المتصل في {أُمِرْتَ} . ومصحح العطف موجود وهو الفصل بالجار والمجرور.
{وَمَنْ تَابَ} هم المؤمنون، لأن الإيمان توبة من الشرك. و {مَعَكَ} حال من {تَابَ} وليس متعلقا ب {تَابَ} لأن النبيء صلى الله عليه وسلم لم يكن من المشركين.
وقد جمع قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أصول الصلاح الديني وفروعه لقوله: {كَمَا أُمِرْتَ} .
قال ابن عباس: "ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد ولا أشق من هذه الآية عليه. ولذلك قال لأصحابه حين قالوا له: لقد أسرع إليك الشيب "شيبتي هود وأخواتها". وسئل عما في هود فقال: قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} .
{وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
الخطاب في قوله: {وَلا تَطْغَوْا} موجه إلى المؤمنين الذين صدق عليهم {وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} .
والطغيان أصله التعاظم والجراءة وقلة الاكتراث، وتقدم في قوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} في سورة البقرة [15]. والمراد هنا الجراءة على مخالفة ما أمروا به، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} . فنهى الله المسلمين عن مخالفة أحكام كتابه كما نهى بني إسرائيل.
وقد شمل الطغيان أصول المفاسد، فكانت الآية جامعة لإقامة المصالح ودرء المفاسد، فكان النهي عنه جامعا لأحوال مصادر الفساد من نفس المفسد وبقي ما يخشى
عليه من عدوى فساد خليطه فهو المنهى عنه بقوله بهد هذا: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113].
وعن الحسن البصري: جعل الله الدين بين لاءين {وَلا تَطْغَوْا} {وَلا تَرْكَنُوا} [هود: 113] وجملة {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} استئناف لتحذير من أخفى الطغيان بأن الله مطلع على كل عمل يعمله المسلمون، ولذلك اختير وصف {بَصِيرٌ} من بين بقية الأسماء الحسنى لدلالة مادته على العلم البين ودلالة صيغته على قوته.
[113] {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} .
الركون: الميل والموافقة، وفعله كعلم. ولعله مشتق من الركن - بضم فسكون - وهو الجنب، لأن الماثل يدني جنبه إلى الشيء الممال إليه. وهو هنا مستعار للموافق، فبعد أن نهاهم عن الطغيان نهاهم عن التقارب من المشركين لئلا يضلوهم ويزلوهم عن الإسلام.
و {الَّذِينَ ظَلَمُوا} هم المشركون. وهذه الآية أصل في سد ذرائع الفساد المحققة أو المظنونة.
والمس: مستعمل في الإصابة كما تقدم في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ} في آخر الأعراف [201]، والمراد: نار العذاب في جهنم.
وجملة {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} حال، أي لا تجدون من يسعى لما ينفعكم.
و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي، أي ولا تجدون من ينصركم، أي من يخفف عنكم مس عذاب النار أو يخرجكم منها.
و {مِنْ دُونِ اللَّهِ} متعلق بأولياء لتضمينه معنى الحماة والحائلين.
وقد جمع قوله: {وَلا تَطْغَوْا} [هود: 112] وقوله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أصلي الدين، وهما: الإيمان والعمل الصالح، وتقدم آنفا قول الحسن: "جعل الله الدين بين لائين {وَلا تَطْغَوْا} , ولا تركنوا".
[114] {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} .
انتقل من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبيء صلى الله عليه وسلم وهذا الخطاب يتناول جميع الأمة بقرينة أن المأمور به من الواجبات على جميع المسلمين، لا سيما وقد ذكر معه ما يناسب الأوقات المعينة للصلوات الخمس، وذلك ما اقتضاه حديث أبي اليسر الآتي.
وطرف الشيء: منتهاه من أوله أو من آخره، فالتثنية صريحة في أن المراد أول النهار وآخره.
و {النَّهَارِ} : ما بين الفجر إلى غروب الشمس، سمي نهارا لأن الضياء ينهر فيه، أي يبرز كما يبرز النهر.
والأمر بالإقامة يؤذن بأنه عمل واجب لأن الإقامة إيقاع العمل على ما يستحقه، فتقتضي أن المراد بالصلاة هنا الصلاة المفروضة، فالطرفان ظرفان لإقامة الصلاة المفروضة، فعلم أن المأمور إيقاع صلاة في أول النهار وهي الصبح وصلاة في آخره وهي العصر وقيل المغرب.
والزلف: جمع زلفة مثل غرفة وغرف، وهي الساعة القريبة من أختها، فعلم أن المأمور إيقاع الصلاة في زلف من الليل، ولما لم تعين الصلوات المأمور بإقامتها في هذه المدة من الزمان كان ذلك مجملا فبينته السنة والعمل المتواتر بخمس صلوات هي الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، وكان ذلك بيانا لآيات كثيرة في القرآن كانت مجملة في تعيين أوقات الصلوات مثل قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78].
والمقصود أن تكون الصلاة أول أعمال المسلم إذا أصبح وهي صلاة الصبح وآخر أعماله إذا أمسى وهي صلاة العشاء لتكون السيئات الحاصلة فيما بين ذلك ممحوة بالحسنات الحافة بها. وهذا مشير إلى حكمة كراهة الحديث بعد صلاة العشاء للحث على الصلاة وخاصة ما كان منها في أوقات تعرض الغفلة عنها. وقد ثبت وجوبهما بأدلة أخر وليس في هذه الآية ما يقتضي حصر الوجوب في المذكور فيها.
وجملة {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} مسوقة مساق التعليل للأمر بإقامة الصلوات،
وتأكيد الجملة بحرف {إِنَّ} للاهتمام وتحقيق الخبر. و {إِنَّ} فيه مفيدة معنى التعليل والتفريع، وهذا التعليل مؤذن بأن الله جعل الحسنات يذهبن السيئات، والتعليل مشعر بعموم أصحاب الحسنات لأن الشأن أن تكون العلة أعم من المعلول مع ما يقتضيه تعريف الجمع باللام من العموم.
وإذهاب السيئات يشمل إذهاب وقوعها بأن يصير انسياق النفس إلى ترك السيئات سهلا وهينا كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ويكون هذا من خصائص الحسنات كلها. ويشمل أيضا محو إثمها إذا وقعت، ويكون هذا من خصائص الحسنات كلها فضلا من الله على عباده الصالحين.
ومحمل السيئات هنا على السيئات الصغائر التي هي من اللمم حملا لمطلق هذه الآية على مقيد آية: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْأِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] وقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، فيحصل من مجموع الآيات أن اجتناب الفواحش جعله الله سببا لغفران الصغائر أو أن الإتيان بالحسنات يذهب أثر السيئات الصغائر، وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} في سورة النساء [31].
روى البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "أن رجلا أصاب من امرأة قبلة حرام فأتى النبيء صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فأنزلت عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ} . فقال الرجل: ألي هذه? قال: لمن عمل بها من أمتي" .
وروى الترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "جاء رجل إلى النبيء صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجت امرأة في أقصى المدينة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها وها أنا ذا فاقض في ما شئت، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فانطلق الرجل فأتبعه رجلا فدعاه فتلا عليه {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} إلى آخر الآية، فقال رجل من القوم: هذا له خاصة? قال: لا، بل للناس كافة" . قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرج الترمذي حديثين آخرين: أحدهما عن معاذ بن جبل، والآخر عن أبي اليسر وهو صاحب القصة وضعفهما.
والظاهر أن المروي في هذه الآية هو الذي حمل ابن عباس وقتادة على القول بأن هذه الآية مدنية دون بقية هذه السورة لأنه وقع عند البخاري والترمذي قوله: "فأنزلت عليه" فإن كان كذلك كما ذكره الراوي فهذه الآية ألحقت بهذه السورة في هذا المكان لمناسبة وقوع قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] قبلها وقوله: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115] بعدها.
وأما الذين رجحوا أن السورة كلها مكية فقالوا: إن الآية نزلت في الأمر بإقامة الصلوات وإن النبيء صلى الله عليه وسلم أخبر بها الذي سأله عن القبلة الحرام وقد جاء تائبا ليعلمه بقوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} ، فيؤول قول الراوي: فأنزلت عليه، أنه أنزل عليه شمول عموم الحسنات والسيئات لقضية السائل ولجميع ما يماثلها من إصابة الذنوب غير الفواحش.
ويؤيد ذلك ما في رواية الترمذي عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قوله: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {وَأَقِمِ الصَّلاةَ} ، ولم يقولا: فأنزل عليه.
وقوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} أي تذكرة للذي شأنه أن يذكر ولم يكن شأنه الإعراض عن طلب الرشد والخير، وهذا أفاد العموم نصا. وقوله: {ذَلِكَ } الإشارة إلى المذكور قبله من قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112].
[115] {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} .
عطف على جملة: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ} [هود: 109] الآيات، لأنها سيقت مساق التثبيت من جراء تأخير عقاب الذين كذبوا.
ومناسبة وقوع الأمر بالصبر عقب الأمر بالاستقامة والنهي عن الركون إلى الذين ظلموا، أن المأمورات لا تخلو عن مشقة عظيمة ومخالفة لهوى كثير من النفوس، فناسب أن يكون الأمر بالصبر بعد ذلك ليكون الصبر على الجميع كل بما يناسبه.
وتوجيه الخطاب إلى النبيء صلى الله عليه وسلم تنويه به. والمقصود هو وأمته بقرينة التعليل بقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} لما فيه من العموم والتفريع المقتضي جمعهما أن الصبر من حسنات المحسنين وإلا لما كان للتفريع موقع. وحرف التأكيد مجلوب للاهتمام بالخبر.
وسمي الثواب أجرا لوقوعه جزاء على الأعمال وموعودا به فأشبه الأجر.
[116] {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} .
هذا قوي الاتصال بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ} [هود: 102] فيجوز أن يكون تفريعا عليه ويكون ما بينهما اعتراضا دعا إليه الانتقال الاستطرادي في معان متماسكة. والمعنى فهلا كان في تلك الأمم أصحاب بقية من خير فنهوا قومهم عن الفساد لما حل بهم ما حل. وذلك إرشاد إلى وجوب النهي عن المنكر. ويجوز أن يكون تفريعا على قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] والآية تفريع على الأمر بالاستقامة والنهي عن الطغيان وعن الركون إلى الذين ظلموا، إذ المعنى: ولا تكونوا كالأمم من قبلكم إذ عدموا من ينهاهم عن الفساد في الأرض وينهاهم عن تكذيب الرسل فأسرفوا في غلوائهم حتى حل عليهم غضب الله إلا قليلا منهم، فإن تركتم ما أمرتم به كان حالكم كحالهم، ولأجل هذا المعنى أتي بفاء التفريع لأنه في موقع التفصيل والتعليل لجملة {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112] وما عطف عليها؛ كأنه قيل: وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم فلولا كان منهم بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلى آخره، أي فاحذروا أن تكونوا كما كانوا فيصيبكم ما أصابهم، وكونوا مستقيمين ولا تطغوا ولا تركنوا إلى الظالمين وأقيموا الصلاة، فغير نظم الكلام إلى هذا الأسلوب الذي في الآية لتفنن فوائده ودقائقه واستقلال أغراضه مع كونها آيلة إلى غرض يعممها. وهذا من أبدع أساليب الإعجاز الذي هو كرد العجز على الصدر من غير تكلف ولا ظهور قصد.
ويقرب من هذا المعنى قول النبيء صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم" .
و"لولا" حرف تحضيض بمعنى "هلا". وتحضيض الفائت لا يقصد منه إلا تحذير غيره من أن يقع فيما وقعوا فيه والعبرة بما أصابهم.
والقرون: الأمم. وتقدم في أول الأنعام.
والبقية: الفضل والخير. وأطلق على الفضل البقية كناية غلبت فسارت مسرى الأمثال لأن شأن الشيء النفيس أن صاحبه لا يفرط فيه.
وبقية الناس: سادتهم وأهل الفضل منهم، قال رويشد بن كثير الطائي:
إن تذنبوا ثم تأتيني بقيتكم ... فما علي بذنب منكم فوت
ومن أمثالهم "في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا". فمن هنالك أطلقت على الفضل والخير في صفات الناس فيقال: في فلان بقية، والمعنى هنا: أولو فضل ودين وعلم
بالشريعة، فليس المراد الرسل ولكن أريد أتباع الرسل وحملة الشرائع ينهون قومهم عن الفساد في الأرض.
والفساد: المعاصي واختلال الأحوال، فنهيهم يردعهم عن الاستهتار في المعاصي فتصلح أحوالهم فلا يحق عليهم الوهن والانحلال كما حل ببني إسرائيل حين عدموا من ينهاهم. وفي هذا تنويه بأصحاب النبيء صلى الله عليه وسلم فإنهم أولو بقية من قريش يدعونهم إلى إيمان حتى آمن كلهم، وأولو بقية بين غيرهم من الأمم الذين اختلطوا بهم يدعونهم إلى الإيمان والاستقامة بعد الدخول فيه ويعلمون الدين، كما قال تعالى فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110].
وفي قوله: {مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو} إشارة إلى البشارة بأن المسلمين لا يكونون كذلك مما يومئ إليه قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِكُمْ} .
وقرأ ابن جماز عن أبي جعفر "بِقْية" - بكسر الباء الموحدة وسكون القاف وتخفيف التحتية - فهي لغة ولم يذكرها أصحاب كتب اللغة ولعلها أجريت مجرى الهيئة لما فيها من تخيل السمت والوقار.
و {إِلَّا قَلِيلاً} استثناء منقطع من {أُولُو بَقِيَّةٍ} وهو يستتبع الاستثناء من القرون إذ القرون الذين فيهم {أُولُو بَقِيَّةٍ} ليسوا داخلين في حكم القرون المذكورة من قبل، وهو في معنى الاستدراك لأن معنى التحضيض متوجه إلى القرون الذين لم يكن فيهم أولو بقية فهم الذين ينعى عليهم فقدان ذلك الصنف منهم. وهؤلاء القرون ليس منهم من يستثنى إذ كلهم غير ناجين من عواقب الفساد، ولكن لما كان معنى التحضيض قد يوهم أن جميع القرون التي كانت قبل المسلمين قد عدموا أولي بقية مع أن بعض القرون فيهم أولو بقية كان الموقع للاستدراك لرفع هذا الإيهام، فصار المستثنى غير داخل في المذكور من قبل، فلذلك كان منقطعا، وعلامة انقطاعه انتصابه لأن نصب المستثنى بعد النفي إذا كان المستثنى منه غير منصوب أمارة على اعتبار الانقطاع إذ هو الأفصح. وهل يجيء أفصح كلام إلا على أفصح إعراب، ولو كان معتبرا اتصاله لجاء مرفوعا على البدلية من المذكور قبله.
و"من" في قوله: {مِمَّنْ أَنْجَيْنَا } بيانية، بيان للقليل لأن الذين أنجاهم الله من القرون هم القليل الذين ينهون عن الفساد، وهم أتباع الرسل.
وفي البيان إشارة إلى أن نهيهم عن الفساد هو سبب إنجاء تلك القرون لأن النهي سبب السبب إذ النهي يسبب الإقلاع عن المعاصي الذي هو سبب النجاة.
ودل قوله: {مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} على أن في الكلام إيجاز حذف تقديره: فكانوا يتوبون ويقلعون عن الفساد في الأرض فينجون من مس النار الذي لا دافع له عنهم.
وجملة {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} معطوفة على ما أفاده الاستثناء من وجود قليل ينهون عن الفساد، فهو تصريح بمفهوم الاستثناء وتبيين لإجماله. والمعنى: وأكثرهم لم ينهوا عن الفساد ولم ينتهوا هم ولا قومهم واتبعوا ما أترفوا فيه كقوله تعالى: {فسجدوا فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34] تفصيلا لمفهوم الاستثناء.
وفي الآية عبرة وموعظة للعصاة من المسلمين لأنهم لا يخلون من ظلم أنفسهم.
واتباع ما أترفوا فيه هو الانقطاع له والإقبال عليه إقبال المتبع على متبوعه.
وأترفوا: أعطوا الترف، وهو السعة والنعيم الذي سهله الله لهم فالله هو الذي أترفهم فلم يشكروه.
و {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي في اتباع الترف فلم يكونوا شاكرين، وذلك يحقق معنى الاتباع لأن الأخذ بالترف مع الشكر لا يطلق عليه أنه اتباع بل هو تمحض وانقطاع دون شوبه بغيره. وفي الكلام إيجاز حذف آخر، والتقدير: فحق عليهم هلاك المجرمين، وبذلك تهيأ المقام لقوله بعده: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [هود: 117].
[117] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} .
عطف على جملة: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} [هود: 116] لما يؤذن به مضمون الجملة المعطوف عليها من تعرض المجرمين لحلول العقاب بهم بناء على وصفهم بالظلم والإجرام، فعقب ذلك بأن نزول العذاب ممن نزل به منهم لم يكن ظلما من الله تعالى ولكنهم جروا لأنفسهم الهلاك بما أفسدوا في الأرض والله لا يحب الفساد.
وصيغة {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ} تدل على قوة انتفاء الفعل، كما تقدم عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} الآية في آل عمران [79]، وقوله: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في آخر العقود [116] فارجع إلى ذينك الموضعين.
والمراد ب {الْقُرَى} أهلها، على طريقة المجاز المرسل كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82].
والباء في {بِظُلْمٍ} للملابسة، وهي في محل الحال من {رَبُّكَ} أي لما يهلك الناس إهلاكا متلبسا بظلم.
وجملة {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} حال من {الْقُرَى} أي لا يقع إهلاك الله ظالما لقوم مصلحين.
والمصلحون مقابل المفسدين في قوله قبله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} وقوله: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116]، فالله تعالى لا يهلك قوما ظالما لهم ولكن يهلك قوما ظالمين أنفسهم. قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
والمراد: الإهلاك العاجل الحال بهم في غير وقت حلول أمثاله دون الإهلاك المكتوب على جميع الأمم وهو فناء أمة وقيام أخرى في مدد معلومة حسب سنن معلومة.
[118, 119] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} .
لما كان النعي على الأمم الذين لم يقع فيهم من ينهون عن الفساد فاتبعوا الإجرام، وكان الإخبار عن إهلاكهم بأنه ليس ظلما من الله وأنهم لو كانوا مصلحين لما أهلكوا، لما كان ذلك كله قد يثير توهم أن تعاصي الأمم عما أراد الله منهم خروج عن قبضة القدرة الإلهية أعقب ذلك بما يرفع هذا التوهم بأن الله قادر أن يجعلهم أمة واحدة متفقة على الحق مستمرة عليه كما أمرهم أن يكونوا.
ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظام هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلا للتطوح بهم في مسلك الضلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر، والسلامة من حجب الضلالة، وان الله تعالى لما خلق العقول صالحة لذلك جعل منها قبول الحق بحسب الفطرة التي هي سلامة العقول من عوارض الجهالة والضلال وهي الفطرة الكاملة المشار إليها بقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، وتقدم الكلام عليها في سورة البقرة [213]. لم يدخرهم إرشادا أو نصحا بواسطة الرسل ودعاة الخير وملقنيه
من أتباع الرسل، وهو أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض، فمن الناس مهتد وكثير منهم فاسقون ولو شاء لخلق العقول البشرية على إلهام متحد لا تعدوه كما خلق إدراك الحيوانات العجم على نظام لا تتخطاه من أول النشأة إلى انقضاء العالم، فنجد حال البعير والشاة في زمن آدم عليه السلام كحالهما في زماننا هذا، وكذلك يكون إلى انقراض العالم، فلا شك أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني لأن ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبدية الخالصة إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضيا ثواب النعيم ولا كان الفساد مقتضيا عقاب الجحيم، فلا جرم أن الله خلق البشر على نظام من شأنه طريان الاختلاف بينهم في الأمور، ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض وهو أهمها وأعظمها ليتفاوت الناس في مدارج الارتقاء ويسموا إلى مراتب الزلفى فتتميز أفراد هذا النوع في كل أنحاء الحياة حتى يعد الواحد بألف {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [الأنفال: 37].
وهذا وجه مناسبة عطف جملة: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} على جملتي {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} .
ومفعول فعل المشيئة محذوف لأن المراد منه ما يساوي مضمون جواب الشرط فحذف إيجازا. والتقدير: ولو شاء ربك أن يجعل الناس أمة واحدة لجعلهم كذلك.
والأمة: الطائفة من الناس الذين اتحدوا في أمر من عظائم أمور الحياة كالموطن واللغة والنسب والدين. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في سورة البقرة [213]. فتفسر الأمة في كل مقام بما تدل عليه إضافتها إلى شيء من أسباب تكوينها كما يقال: الأمة العربية والأمة الإسلامية.
ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلهم متفقين على اتباع دين الحق كما يدل عليه السياق، فآل المعنى إلى: لو شاء ربك لجعل الناس أهل ملة واحدة فكانوا أمة واحدة من حيث الدين الخالص.
وفهم من شرط "لو" أن جعلهم أمة واحدة في الدين منتفية، أي منتف دوامها على الوحدة في الدين وإن كانوا قد وجدوا في أول النشأة متفقين فلم يلبثوا حتى طرأ الاختلاف بين ابني آدم عليه السلام لقوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] وقوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} في سورة يونس [19]؛ فعلم أن الناس
قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمة واحدة، ثم لا يدري هل يؤول أمرهم إلى الاتفاق في الدين فأعقب ذلك بأن الاختلاف دائم بينهم لأنه من مقتضى ما جبلت عليه العقول.
ولما أشعر الاختلاف بأنه اختلاف في الدين، وأن معناه العدول عن الحق إلى الباطل، لأن الحق لا يقبل التعدد والاختلاف، عقب عموم {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} باستثناء من ثبتوا على الدين الحق ولم يخالفوه بقوله: { إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} ، أي فعصمهم من الاختلاف.
وفهم من هذا أن الاختلاف المذموم المحذر منه هو الاختلاف في أصول الدين الذي يترتب عليه اعتبار المخالف خارجا عن الدين وإن كان يزعم أنه من متبعيه، فإذا طرأ هذا الاختلاف وجب على الأمة قصمه وبذل الوسع في إزالته من بينهم بكل وسيلة من وسائل الحق والعدل بالإرشاد والمجادلة الحسنة والمناظرة، فإن لم ينجع ذلك فبالقتال كما فعل أبو بكر في قتال العرب الذين جحدوا وجوب الزكاة، وكما فعل علي - كرم الله وجهه - في قتال الحرورية الذين كفروا المسلمين. وهذه الآية تحذير شديد من ذلك الاختلاف.
وأما تعقيبه بقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فهو تأكيد بمضمون {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} . والإشارة إلى الاختلاف المأخوذ من قوله: {مُخْتَلِفِينَ} ، واللام للتعليل لأنه لما خلقهم على جبلة قاضية باختلاف الآراء والنزعات وكان مريدا لمقتضى تلك الجبلة وعالما به كما بيناه آنفا كان الاختلاف علة غائية لخلقهم، والعلة الغائية لا يلزمها القصر عليها بل يكفي أنها غاية الفعل، وقد تكون معها غايات كثيرة أخرى فلا ينافي ما هنا قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] لأن القصر هنالك إضافي، أي إلا بحالة أن يعبدوني لا يشركوا، والقصر الإضافي لا ينافي وجود أحوال أخرى غير ما قصد الرد عليه بالقصر كما هو بين لمن مارس أساليب البلاغة العربية.
وتقديم المعمول على عامله في قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} ليس للقصر بل للاهتمام بهذه العلة، وبهذا يندفع ما يوجب الحيرة في التفسير في الجمع بين الآيتين.
ثم أعقب ذلك بقوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} لأن قوله: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} يؤذن بأن المستثنى منه قوم مختلفون اختلافا لا رحمة لهم فيه، فهو اختلاف مضاد للرحمة، وضد النعمة النقمة فهو اختلاف أوجب الانتقام.
وتمام كلمة الرب مجاز في الصدق والتحقق، كما تقدم عند قوله تعإلى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} في سورة الأنعام[115]، فالمختلفون هم نصيب جهنم.
والكلمة هنا بمعنى الكلام. فكلمة الله: تقديره وإرادته. أطلق عليها {كلمة} مجازا لأنها سبب في صدور كلمة "كن" وهي أمر التكوين. وتقدم تفصيله في قوله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} في سورة الأنعام[115].
وجملة {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} تفسير للكلمة بمعنى الكلام. وذلك تعبير عن الإرادة المعبر عنها بالكلام النفسي.
ويجوز أن تكون الكلمة كلاما خاطب به الملائكة قبل خلق الناس فيكون {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} تفسيرا ل {كلمة} .
و {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} تبعيض، أي لأملأن جهنم من الفريقين. و {أَجْمَعِينَ} تأكيد لشمول تثنية كلا النوعين لا لشمول جميع الأفراد لمنافاته لمعنى التبعيض الذي أفادته {مِنَ} .
[120] {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} .
هذا تذييل وحوصلة لما تقدم من أنباء القرى وأنباء الرسل.
فجملة {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} إلى آخرها عطف الإخبار على الإخبار والقصة على القصة، ولك أن تجعل الواو اعتراضية أو استئنافية. وهذا تهيئة لاختتام السورة وفذلكة لما سيق فيها من القصص والمواعظ.
وانتصب {كُلّاً} على المفعولية لفعل {نَقُصُّ} . وتقديمه على فعله للاهتمام ولما فيه من الإبهام ليأتي بيانه بعده فيكون أرسخ في ذهن السامع.
وتنوين {كُلّاً} تنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف المبين بقوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} . فالتقدير: وكل نبأ عن الرسل نقصه عليك، فقوله: {مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ} بيان للتنوين الذي لحق "كلا". و {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدل من {كُلّاً} .
والقصص يأتي عند قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} في أول سورة يوسف[3].
والتثبيت: حقيقته التسكين في المكان بحيث ينتفي الاضطراب والتزلزل. وتقدم في قوله تعالى: {لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} في سورة النساء[66]، وقوله: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} في سورة الأنفال[12]، وهو هنا مستعار للتقرير كقوله: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} .
والفؤاد: أطلق على الإدراك كما هو الشائع في كلام العرب.
وتثبيت فؤاد الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة يقينه ومعلوماته بما وعده الله لأن كل ما يعاد ذكره من قصص الأنبياء وأحوال أممهم معهم يزيده تذكرا وعلما بأن حاله جار على سنن الأنبياء وازداد تذكرا بأن عاقبته النصر على أعدائه، وتجدد تسلية على ما يلقاه من قومه من التكذيب وذلك يزيده صبرا. والصبر: تثبيت الفؤاد.
وأن تماثل أحوال الأمم تلقاء دعوة أنبيائها مع اختلاف العصور يزيده علما بأن مراتب العقول البشرية متفاوتة، وأن قبول الهدي هو منتهى ارتقاء العقل، فيعلم أن الاختلاف شنشنة قديمة في البشر، وأن المصارعة بين الحق والباطل شأن قديم، وهي من النواميس التي جبل عليها النظام البشري، فلا يحزنه مخالفة قومه عليه، ويزيده علما بسمو أتباعه الذين قبلوا هداه، واعتصموا من دينه بعراه، فجاءه في مثل قصة موسى عليه السلام واختلاف أهل الكتاب فيه بيان الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين فلا يقعوا فيما وقع فيه أهل الكتاب.
والإشارة من قوله: {فِي هَذِهِ} قيل إلى السورة وروي عن ابن عباس، فيقتضي أن هذه السورة كانت أوفى بأنباء الرسل من السور النازلة قبلها وبهذا يجري على قول من يقول: إنها نزلت قبل سورة يونس. والأظهر أن تكون الإشارة إلى الآية التي قبلها وهي {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} - إلى قوله -: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 116- 119]. فتكون هذه الآيات الثلاث أول ما نزل في شأن النهي عن المنكر.
على أن قوله: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} ليس صريحا في أنه لم يجيء مثله قبل هذه الآيات، فتأمل.
ولعل المراد ب {الْحَقُّ} تأمين الرسول من اختلاف أمته في كتابه بإشارة قوله: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ} [هود: 116] المفهم أن المخاطبين ليسوا بتلك
المثابة، كما تقدمت الإشارة إليه آنفا.
وتعربفه إشارة إلى حق معهود للنبي؛ إما بأن كان يتطلبه، أو يسأل ربه.
والموعظة: اسم مصدر الوعظ، وهو التذكير بما يصد المرء عن عمل مضر.
والذكرى: مجرد التذكير بما ينفع. فهذه موعظة للمسلمين ليحذروا ذلك وتذكيرا بأحوال الأمم ليقيسوا عليها ويتبصروا في أحوالها. وتنكير {مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى} للتعظيم.
[121] [122] {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} .
عطف على جملة: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [هود: 120] الآية، لأنها لما اشتملت على أن في هذه القصة ذكرى للمؤمنين أمر بأن يخاطب الذين لا يؤمنون بما فيها خطاب الآيس من انتفاعهم بالذكرى الذي لا يعبأ بإعراضهم ولا يصده عن دعوته إلى الحق تألبهم على باطلهم ومقاومتهم الحق. فلا جرم كان قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} عديلا لقوله: {وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]. وهذا القول مأمور أن يقوله على لسانه ولسان المؤمنين.
وقوله: {اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} هو نظير ما حكي عن شعيب - عليه السلام - في هذه السورة آنفا.
وضمائر {إِنَّا عَامِلُونَ} و {إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} للنبي والمؤمنين الذين معه.
وفي أمر الله ورسوله بأن يقول ذلك على لسان المؤمنين شهادة من الله بصدق إيمانهم. وفيه التفويض إلى رأس الأمة بأن يقطع أمرا عن أمته ثقة بأنهم لا يردون فعله. كما قال النبيء صلى الله عليه وسلم لهوازن لما جاءوا تائبين وطالبين رد سباياهم وغنائمهم "اختاروا أحد الأمرين السبي أو الأموال" . فلما اختاروا السبي رجع السبي إلى أهله ولم يستشر المسلمين، ولكنه جعل لمن يطيب ذلك لهوازن أن يكون على حقه في أول ما يجيء من السبي، فقال المؤمنون: طيبنا ذلك.
وقوله: {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} تهديد ووعيد، كما يقال في الوعيد: سوف ترى.
[123] {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ
وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
كلام جامع وهو للسورة مؤذن بختامها، فهو من براعة المقطع. والواو عاطفة كلاما على كلام، أو واو الاعتراض في آخر الكلام ومثله كثير.
واللام في {لِلَّهِ} للملك وهو ملك إحاطة العلم، أي لله ما غاب عن علم الناس في السماوات والأرض. وهذا كلام يجمع بشارة المؤمنين بما وعدوا من النعيم المغيب عنهم، ونذارة المشركين بما توعدوا به من العذاب المغيب عنهم في الدنيا والآخرة.
وتقديم المجرورين في {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ} لإفادة الاختصاص، أي الله لا غيره يملك غيب السماوات والأرض، لأن ذلك مما لا يشاركه فيه أحد. وإلى الله لا إلى غيره يرجع الأمر كله، وهو تعريض بفساد آراء الذين عبدوا غيره، لأن من لم يكن كذلك لا يستحق أن يعبد، ومن كان كذلك كان حقيقا بأن يفرد بالعبادة.
ومعنى إرجاع الأمر إليه: أن أمر التدبير والنصر والخذلان وغير ذلك يرجع إلى الله، أي إلى علمه وقدرته، وإن حسب الناس وهيأوا فطالما كانت الأمور حاصلة على خلاف ما استعد إليه المستعد، وكثيرا ما اعتز العزيز بعزته فلقي الخذلان من حيث لا يرتقب، وربما كان المستضعفون بمحل العزة والنصرة على أولي العزة والقوة.
والتعريف في {الْأَمْرُ} تعريف الجنس فيعم الأمور، وتأكيد الأمر ب {كُلُّهُ} للتنصيص على العموم.
وقرأ من عدا نافعا {يُرْجَعُ} ببناء الفعل بصيغة النائب، أي يرجع كل ذي أمر أمره إلى الله. وقرأه نافع بصيغة الفاعل على أن يكون "الأمر" هو فاعل الرجوع، أي يرجع هو إلى الله.
وعلى كلتا القراءتين فالرجوع تمثيل لهيئة عجز الناس عن التصرف في الأمور حسب رغباتهم بهيئة متناول شيء للتصرف به ثم عدم استطاعته التصرف به فيرجعه إلى الحري بالتصرف به، أو تمثيل لهيئة خضوع الأمور إلى تصرف الله دون تصرف المحاولين التصرف فيها بهيئة المتجول الباحث عن مكان يستقر به ثم إيوائه إلى المقر اللائق به ورجوعه إليه، فهي تمثيلية مكنية رمز إليها بفعل {يُرْجَعُ} وتعديته ب {إِلَيْهِ} .
وتفريع أمر النبيء صلى الله عليه وسلم بعبادة الله والتوكل عليه على رجوع الأمر كله إليه ظاهر، لأن
الله هو الحقيق بأن يعبد وأن يتوكل عليه في كل مهم. وهو تعريض بالتخطئة للذين عبدوا غيره وتوكلوا على شفاعة الآلهة ونفعها. ويتضمن أمر النبيء عليه الصلاة والسلام بالدوام على العبادة والتوكل.
والمراد أن يعبده دون غيره ويتوكل عليه دون غيره بقرينة {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} ، وبقرينة التفريع لأن الذي يرجع إليه كل أمر لا يعقل أن يصرف شيء من العبادة ولا من التوكل إلى غيره، فلذلك لم يؤت بصيغة تدل على تخصيصه بالعبادة للاستغناء عن ذلك بوجوب سبب تخصيصه بهما.
وجملة {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فذلكة جامعة، فهو تذييل لما تقدم. والواو فيه كالواو في قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فإن عدم غفلته عن أي عمل أنه يعطي كل عامل جزاء عمله إن خيرا وإن شرا فشر، ولذلك علق وصف الغافل بالعمل ولم يعلق بالذوات نحو: بغافل عنكم، إيماء إلى أن على العمل جزاء.
وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب "عَمَّا تَعْمَلُونَ"- بتاء فوقية - خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والناس معه في الخطاب. وقرأ من عداهم بالمثناة التحتية على أن يعود الضمير إلى الكفار فهو تسلية للنبي عليه الصلاة والسلام وتهديد للمشركين.
المجلد الثاني عشر
سورة يوسف...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة يوسف
الاسم الوحيد لهذه السورة اسم سورة يوسف، فقد ذكر ابن حجر في كتاب "الإصابة" في ترجمة رافع بن مالك الزرقي عن ابن إسحاق أن أبا رافع بن مالك أول من قدم المدينة بسورة يوسف، يعني بعد أن بايع النبي صلى الله عليه وسلم يوم العقبة.
ووجه تسميتها ظاهر لأنها قصت قصة يوسف - عليه السلام - كلها، ولم تذكر قصته في غيرها. ولم يذكر اسمه في غيرها إلا في سورة الأنعام وغافر.
وفي هذا الاسم تميز لها من بين السور المفتتحة بحروف ألر، كما ذكرناه في سورة يونس.
وهي مكية على القول الذي لا ينبغي الالتفات إلى غيره. وقد قيل: إن الآيات الثلاث من أولها مدنية. قال في "الإتقان": وهو واه لا يلتفت إليه.
نزلت بعد سورة هود، وقبل سورة الحجر.
وهي السورة الثالثة والخمسون في ترتيب نزول السور على قول الجمهور.
ولم تذكر قصة نبي في القرآن بمثل ما ذكرت قصة يوسف - عليه السلام - هذه السورة من الإطناب.
وعدد آيها مائة وإحدى عشرة آية باتفاق أصحاب العدد في الأمصار.
من مقاصد هذه السورة
روى الواحدي والطبري يزيد أحدهما على الآخر عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: أنزل القرآن فتلاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أصحابه زمانا، فقالوا "أي المسلمون بمكة":
يا رسول الله لو قصصت علينا، فأنزل الله {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [سورة يوسف:1, 2] الآيات الثلاث.
فأهم أغراضها: بيان قصة يوسف - عليه السلام - مع إخوته، وما لقيه في حياته، وما في ذلك من العبر من نواح مختلفة.
وفيها إثبات أن بعض المرائي قد يكون إنباء بأمر مغيب، وذلك من أصول النبوءات وهو من أصول الحكمة المشرقية كما سيأتي عند قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [سورة يوسف:4] الآيات.
وأن تعبير الرؤيا علم يهبه الله لمن يشاء من صالحي عباده.
وتحاسد القرابة بينهم.
ولطف الله بمن يصطفيه من عباده.
والعبرة بحسن العواقب، والوفاء، والأمانة، والصدق، والتوبة.
وسكنى إسرائيل وبنيه بأرض مصر.
وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بما لقيه يعقوب ويوسف عليهما السلام من آلهم من الأذى. وقد لقي النبي صلى الله عليه وسلم من آله أشد ما لقيه من بعداء كفار قومه، مثل عمه أبي لهب، والنضر بن الحارث، وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وإن كان هذا قد أسلم بعد وحسن إسلامه، فإن وقع أذى الأقارب في النفوس أشد من وقع أذى البعداء، كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [سورة يوسف:7].
وفيها العبرة بصبر الأنبياء مثل يعقوب ويوسف عليهم السلام على البلوى. وكيف تكون لهم العاقبة.
وفيها العبرة بهجرة قوم النبي صلى الله عليه وسلم إلى البلد الذي حل به كما فعل يعقوب -عليه السلام- وآله، وذلك إيماء إلى أن قريشا ينتقلون إلى المدينة مهاجرين تبعا لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيها من عبر تاريخ الأمم والحضارة القديمة وقوانينها ونظام حكوماتها وعقوباتها وتجارتها. واسترقاق الصبي اللقيط. واسترقاق السارق، وأحوال المساجين. ومراقبة المكاييل.
وإن في هذه السورة أسلوبا خاصا من أساليب إعجاز القرآن وهو الإعجاز في أسلوب القصص الذي كان خاصة أهل مكة يعجبون مما يتلقونه منه من بين أقاصيص العجم والروم، فقد كان النضر بن الحارث وغيره يفتنون قريشا بأن ما يقوله القرآن في شأن الأمم هو أساطير الأولين اكتتبها محمد صلى الله عليه وسلم.
وكان النضر يتردد على الحيرة فتعلم أحاديث "رستم" و"اسفنديار" من أبطال فارس، فكان يحدث قريشا بذلك ويقول لهم: أنا والله أحسن حديثا من محمد فهلم أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم بأخبار الفرس، فكان ما بعضها من التطويل على عادة أهل الأخبار من الفرس يموه به عليهم بأنه أشبع للسامع، فجاءت هذه السورة على أسلوب استيعاب القصة تحديا لهم بالمعارضة.
على أنها مع ذلك قد طوت كثيرا من القصة من كل ما ليس له كبير أثر في العبرة. ولذلك ترى في خلال السورة {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} [سورة يوسف:56] مرتين {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [سورة يوسف:76] فتلك عبر من أجزاء القصة.
وما تخلل ذلك من الحكمة في أقوال الصالحين كقوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [سورة يوسف:67]، وقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف:90].
[1] {ألر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.
{ألر}.
تقدم الكلام على نظاير {ألر} ونحوها في أول سورة البقرة.
{تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.
الكلام على {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} مضى في سورة يونس. ووصف الكتاب هنا ب{الْمُبِينِ} ووصف به في طالعة سورة يونس ب {الْحَكِيمِ} لأن ذكر وصف إبانته هنا أنسب، إذ كانت القصة التي تضمنتها هذه السورة مفصلة مبينة لأهم ما جرى في مدة
يوسف -عليه السلام- بمصر. فقصة يوسف -عليه السلام- لم تكن معروفة للعرب قبل نزول القرآن إجمالا ولا تفصيلا، بخلاف قصص الأنبياء: هود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وشعيب -عليهم السلام أجمعين- إذ كانت معروفة لديهم إجمالا، فلذلك كان القرآن مبينا إياها ومفصلا.
ونزولها قبل اختلاط النبي صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة معجزة عظيمة من إعلام الله تعالى إياه بعلوم الأولين، وبذلك ساوى الصحابة علماء بني إسرائيل في علم تاريخ الأديان والأنبياء وذلك من أهم ما يعلمه المشرعون.
فالمبين: اسم فاعل من أبان المتعدي. والمراد: الإبانة التامة باللفظ والمعنى.
[2] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
استئناف يفيد تعليل الإبانة من جهتي لفظه ومعناه، فإن كونه قرآنا يدل على إبانة المعاني، لأنه ما جعل مقروءا إلا لما في تراكيبه من المعاني المفيدة للقارئ.
وكونه عربيا يفيد إبانة ألفاظه المعاني المقصودة للذين خوطبوا به ابتداء، وهم العرب، إذ لم يكونوا يتبينون شيئا من الأمم التي حولهم لأن كتبهم كانت باللغات غير العربية.
والتأكيد ب"إن" متوجه إلى خبرها وهو فعل {أَنْزَلْنَاهُ} ردا على الذين أنكروا أن يكون منزلا من عند الله.
وضمير {أَنْزَلْنَاهُ} عائد إلى {الْكِتَابِ} في قوله: {الْكِتَابِ الْمُبِينِ} [سورة يوسف:1].
و {قُرْآناً} حال من الهاء في {أَنْزَلْنَاهُ} ، أي كتابا يقرأ، أي منظما على أسلوب معد لأن يقرأ لا كأسلوب الرسائل والخطب أو الأشعار، بل هو أسلوب كتاب نافع نفعا مستمرا يقرأه الناس.
و {عَرَبِيّاً} صفة ل {قُرْآناً}. فهو كتاب بالعربية ليس كالكتب السالفة فإنه لم يسبقه كتاب بلغة العرب.
وقد أفصح عن التعليل المقصود جملة {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ، أي رجاء حصول العلم لكم من لفظه ومعناه، لأنكم عرب فنزوله بلغتكم مشتملا على ما فيه نفعكم هو سبب
لعقلكم ما يحتوي عليه، وعبر عن العلم بالعقل للإشارة إلى أن دلالة القرآن على هذا العلم قد بلغت في الوضوح حد أن ينزل من لم يحصل له العلم منها منزلة من لا عقل له، وأنهم ما داموا معرضين عنه فهم في عداد غير العقلاء.
وحذف مفعول {تَعْقِلُونَ} للإشارة إلى أن إنزاله كذلك هو سبب لحصول تعقل لأشياء كثيرة من العلوم من إعجاز وغيره.
وتقدم وجه وقوع "لعل" في كلام الله تعالى. ومحمل الرجاء المفاد بها على ما يؤول إلى التعليل عند قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} في سورة البقرة [52], وفي آيات كثيرة بعدها بما لا التباس بعده.
[2] {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}. [سورة يوسف:2]
هذه الجملة تتنزل من جملة {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} منزلة بدل الاشتمال لأن أحسن القصص مما يشتمل عليه إنزال القرآن. وكون القصص من عند الله يتنزل منزلة الاشتمال من جملة تأكيد إنزاله من عند الله.
وقوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} يتضمن رابطا بين جملة البدل والجملة المبدل منها.
وافتتاح الجملة بضمير العظمة للتنويه بالخبر، كما يقول كتاب "الديوان": أمير المؤمنين يأمر بكذا.
وتقديم الضمير على الخبر الفعلي يفيد الاختصاص، أي نحن نقص لا غيرنا، ردا على من يطعن من المشركين في القرآن بقولهم: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [سورة النحل:103 ] وقولهم: {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا} [سورة الفرقان:5 ] وقولهم: يعلمه رجل من أهل اليمامة اسمه الرحمان. وقول النضر بن الحارث المتقدم ديباجة تفسير هذه السورة.
وفي هذا الاختصاص توافق بين جملة البدل والجملة المبدل منها في تأكيد كون القرآن من عند الله المفاد بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [سورة يوسف:2].
ومعنى {نَقُصُّ} نخبر الأخبار السالفة. وهو منقول من قص الأثر إذا تتبع مواقع الأقدام ليتعرف منتهى سير صاحبها. ومصدره: القص بالإدغام، والقصص بالفك، قال
تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً} [سورة الكهف:64 ]. وذلك أن حكاية أخبار الماضين تشبه اتباع خطاهم، ألا ترى أنهم سموا الأعمال سيرة وهي في الأصل هيئة السير، وقالوا: سار فلان سيرة فلان، أي فعل مثل فعله، وقد فرقوا بين هذا الإطلاق المجازي وبين قص الأثر فخصوا المجازي بالصدر المفكك وغلبوا المصدر المدغم على المعنى الحقيقي مع بقاء المصدر المفكك أيضا كما في قوله: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً}.
فـ {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} هنا إما مفعول مطلق مبين لنوع فعله. وإما أن يكون القصص بمعنى المفعول من إطلاق المصدر وإرادة المفعول. كالخلق بمعنى المخلوق، وهو إطلاق للقصص شائع أيضا. قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [سورة يوسف:111]. وقد يكون وزن فعل بمعنى المفعول كالنبأ والخبر بمعنى المنبأ به والمخبر به، ومثله الحسب والنقض.
وجعل هذا القصص أحسن القصص لأن بعض القصص لا يخلو عن حسن ترتاح له النفوس. وقصص القرآن أحسن من قصص غيره من جهة حسن نظمه وإعجاز أسلوبه وبما يتضمنه من العبر والحكم، فكل قصص في القرآن هو أحسن القصص في بابه، وكل قصة في القرآن هي أحسن من كل ما يقصه القاص في غير القرآن. وليس المراد أحسن قصص القرآن حتى تكون قصة يوسف - عليه السلام - أحسن من بقية قصص القرآن كما دل عليه قوله: {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ}.
والباء في {بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} للسببية متعلقة ب {نَقُصُّ} ، فإن القصص الوارد في القرآن كان أحسن لأنه وارد من العليم الحكيم، فهو يوحي ما يعلم أنه أحسن نفعا للسامعين في أبدع الألفاظ والتراكيب، فيحصل منه غذاء العقل والروح وابتهاج النفس والذوق مما لا تأتي بمثله عقول البشر.
واسم الإشارة لزيادة التمييز، فقد تكرر ذكر القرآن بالتصريح والإضمار واسم الإشارة ست مرات، وجمع له طرق التعريف كلها وهي اللام والإضمار والعلمية والإشارة والإضافة.
وجملة {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} في موضع الحال من كاف الخطاب. وحرف {إن} مخفف من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف.
وجملة {كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} خبر عن ضمير الشأن المحذوف، واللام الداخلة على خبر {كُنْتَ} لام الفرق بين {إِنْ} المخففة و"إن" النافية.
وأدخلت اللام في خبر كان لأنه جزء من الجملة الواقعة خبرا عن "إن".
والضمير في {قَبْلِهِ} عائد إلى القرآن. والمراد من قبل نزوله بقرينة السياق.
والغفلة: انتفاء العلم لعدم توجه الذهن إلى المعلوم. والمعنى المقصود من الغفلة ظاهر. ونكتة جعله من الغافلين دون أن يوصف وحده بالغفلة للإشارة إلى تفضيله بالقرآن على كل من لم ينتفع بالقرآن فدخل في هذا الفضل أصحابه والمسلمون على تفاوت مراتبهم في العلم.
ومفهوم {مِنْ قَبْلِهِ} مقصود منه التعريض بالمشركين المعرضين عن هدى القرآن. قال النبي صلى الله عليه وسلم "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى أنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فلذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"، أي المشركين الذين مثلهم كمثل من لا يرفع رأسه لينظر.
[4] {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
{إِذْ قَالَ} بدل اشتمال أو بعض من {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [سورة يوسف:3] على أن يكون أحسن القصص بمعنى المفعول، فإن أحسن القصص يشتمل على قصص كثير، منه قصص زمان قول يوسف -عليه السلام- لأبيه {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} وما عقب قوله ذلك من الحوادث. فإذا حمل {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} على المصدر فالأحسن أن يكون {إِذْ} منصوبا بفعل محذوف يدل عليه المقام، والتقدير: اذكر.
ويوسف اسم عبراني تقدم ذكر اسمه عند قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} الخ في سورة الأنعام[83]. وهو يوسف بن يعقوب بن إسحاق من زوجه "راحيل". وهو أحد الأسباط الذين تقدم ذكرهم في سورة البقرة. وكان يوسف أحب أبناء
يعقوب - عليهما السلام - إليه وكان فرط محبة أبيه إياه سبب غيرة إخوته منه فكادوا له مكيدة فسألوا أباهم أن يتركه يخرج معهم. فأخرجوه معهم بعلة اللعب والتفسح، وألقوه في جب، وأخبروا أباهم أنهم فقدوه، وأنهم وجدوا قميصه ملوثا بالدم، وأروه قميصه بعد أن لطخوه بدم، والتقطه من البئر سيارة من العرب الإسماعيليين كانوا سائرين في طريقهم إلى مصر، وباعوه كرقيق في سوق عاصمة مصر السفلى التي كانت يومئذ في حكم أمة من الكنعانيين يعرفون بالعمالقة أو "الهكصوص". وذلك في زمن الملك "أبو فيس" أو "ابيبي". ويقرب أن يكون ذلك في حدود سنة تسع وعشرين وسبعمائة وألف قبل المسيح عليه السلام، فاشتراه "فوطيفار" رئيس شرطة فرعون الملقب في القرآن بالعزيز، أي رئيس المدينة. وحدثت مكيدة له من زوج سيده ألقي بسببها في السجن. وبسبب رؤيا رآها الملك وعبرها يوسف - عليه السلام - وهو في السجن، قربه الملك إليه زلفى، وأولاه على جميع أرض مصر، وهو لقب العزيز وسماه "صفنات فعنيج"، وزوجه "أسنات" بنت أحد الكهنة وعمره يومئذ ثلاثون سنة. وفي مدة حكمه جلب أباه وأقاربه من البرية إلى أرض مصر، فذلك سبب استيطان بني إسرائيل أرض مصر. وتوفي بمصر في حدود سنة خمس وثلاثين وستمائة وألف قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وحنط على الطريقة المصرية. ووضع في تابوت، وأوصى قبل موته بأنهم إذا خرجوا من مصر يرفعون جسده معهم. ولما خرج بنو إسرائيل من مصر رفعوا تابوت يوسف - عليه السلام - معهم وانتقلوه معهم في رحلتهم إلى أن دفنوه في "شكيم" في مدة يوشع بن نون.
والتاء في "أَبَت" تاء خاصة بكلمة الأب وكلمة الأم في النداء خاصة على نية الإضافة إلى المتكلم، فمفادها مفاد: يا أبي، ولا يكاد العرب يقولون: يا أبي. وورد في سلام ابن عمر على النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حين وقف على قبورهم المنورة. وقد تحير أئمة اللغة في تعليل وصلها بآخر الكلمة في النداء واختاروا أن أصلها تاء تأنيث بقرينة أنهم قد يجعلونها هاء في الوقف، وأنها جعلت عوضا عن ياء المتكلم لعلة غير وجيهة. والذي يظهر لي أن أصلها هاء السكت جلبوها للوقف على آخر الأب لأنه نقص من لام الكلمة، ثم لما شابهت هاء التأنيث بكثرة الاستعمال عوملت معاملة آخر الكلمة إذا أضافوا المنادى فقالوا: يا أبتي، ثم استغنوا عن ياء الإضافة بالكسرة لكثرة الاستعمال. ويدل لذلك بقاء الياء في بعض الكلام كقول الشاعر الذي لا نعرفه:
أيا أبتي لا زلت فينا فإنما ... لنا أمل في العيش ما دمت عائشا
ويجوز كسر هذه التاء وفتحها، وبالكسر قرأها الجمهور، وبفتح التاء قرأ ابن عامر وأبو جعفر.
والنداء في الآية مع كون المنادى حاضرا مقصود به الاهتمام بالخبر الذي سيلقى إلى المخاطب فينزل المخاطب منزلة الغائب المطلوب حضوره، وهو كناية عن الاهتمام أو استعارة له.
والكوكب: النجم، تقدم عند قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً} في سورة الأنعام[76].
وجملة {رَأَيْتُهُمْ} مؤكدة لجملة {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ، جيء بها على الاستعمال في حكاية المرائي الحلمية أن يعاد فعل الرؤية تأكيدا لفظيا أو استئنافا بيانيا، كأن سامع الرؤيا يستزيد الرائي اخبارا عما رأى.
ومثال ذلك ما وقع في "الموطأ" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلا آدم" الحديث.
وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل، ورأيت فيها بقرا تذبح، ورأيت.. والله خير". وقد يكون لفظ آخر في الرؤيا غير فعلها كما في الحديث الطويل إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما، وإنا أتينا على رجل مضطجع" الحديث بتكرار كلمة "إن" وكلمة "إنا" مرارا في هذا الحديث.
وقرأ الجمهور {أَحَدَ عَشَرَ} - بفتح العين - من {عَشَرَ}. وقرأه أبو جعفر - بسكون العين -.
واستعمل ضمير جمع المذكر للكواكب والشمس والقمر في قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، لأن كون ذلك للعقلاء غالب لا مطرد، كما قال تعالى في الأصنام: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} [سورة الأعراف:198 ]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا} [سورة النمل:18 ].
وقال جماعة من المفسرين: إنه لما كانت الحالة المرئية من الكواكب والشمس والقمر حالة العقلاء، وهي حالة السجود نزلها منزلة العقلاء، فأطلق عليها ضمير "هم" وصيغة جمعهم.
وتقديم المجرور على عامله في قوله: {لِي سَاجِدِينَ} للاهتمام، عبر به عن معنى تضمنه كلام يوسف - عليه السلام - بلغته يدل على حالة في الكواكب من التعظيم له تقتضي الاهتمام بذكره فأفاده تقديم المجرور في اللغة العربية.
وابتداء قصة يوسف - عليه السلام - بذكر رؤياه إشارة إلى أن الله هيأ نفسه للنبوة فابتدأه بالرؤيا الصادقة كما جاء في حديث عائشة "أن أول ما ابتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح". وفي ذلك تمهيد للمقصود من القصة وهو تقرير فضل يوسف - عليه السلام - من طهارة وزكاء نفس وصبر. فذكر هذه الرؤيا في صدر القصة كالمقدمة والتمهيد للقصة المقصودة.
وجعل الله تلك الرؤيا تنبيها ليوسف - عليه السلام - بعلو شأنه ليتذكرها كلما حلت به ضائقة فتطمئن بها نفسه أن عاقبته طيبة.
وإنما أخبر يوسف - عليه السلام - أباه بهاته الرؤيا لأنه علم بإلهام أو بتعليم سابق من أبيه أن للرؤيا تعبيرا، وعلم أن الكواكب والشمس والقمر كناية عن موجودات شريفة، وأن سجود المخلوقات الشريفة له كناية عن عظمة شأنه. ولعله علم أن الكواكب كناية عن موجودات متماثلة، وأن الشمس والقمر كناية عن أصلين لتلك الموجودات فاستشعر على الإجمال دلالة رؤياه على رفعة شأنه فأخبر بها أباه.
وكانوا يعدون الرؤيا من طرق الإنباء بالغيب، إذا سلمت من الاختلاط وكان مزاج الرائي غير منحرف ولا مضطرب، وكان الرائي قد اعتاد وقوع تأويل رؤياه، وهو شيء ورثوه من صفاء نفوس أسلافهم إبراهيم وإسحاق - عليه السلام -. فقد كانوا آل بيت نبوة وصفاء سريرة.
ولما كانت رؤيا الأنبياء وحيا، وقد رأى إبراهيم - عليه السلام - في المنام أنه يذبح ولده فلما أخبره {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [سورة الصافات:102 ]. وإلى ذلك يشير قول أبي يوسف - عليه السلام -: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [سورة يوسف:6]. فلا جرم أن تكون مرائي أبنائهم مكاشفة وحديثا ملكيا.
وفي الحديث: "لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له".
والاعتداد بالرؤيا من قديم أمور النبوة. وقد جاء في التوراة أن الله خاطب إبراهيم
- عليه السلام - في رؤيا رآها وهو في طريقه ببلاد شاليم بلد ملكي صادق وبشره بأنه يهبه نسلا كثيرا، ويعطيه الأرض التي هو سائر فيها "في الإصحاح 15 من سفر التكوين".
أما العرب فإنهم وإن لم يرد في كلامهم شيء يفيد اعتدادهم بالأحلام، ولعل قول كعب بن زهير:
إن الأماني والأحلام تضليل
يفيد عدم اعتدادهم بالأحلام، فإن الأحلام في البيت هي مرائي النوم.
ولكن ذكر ابن إسحاق رؤيا عبد المطلب وهو قائم في الحجر أنه أتاه آت فأمره بحفر بئر زمزم فوصف له مكانها، وكانت جرهم سدموها عند خروجهم من مكة. وذكر ابن إسحاق رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب أن: "راكبا أقبل على بعير فوقف بالأبطح ثم صرخ: يا آل غدر اخرجوا إلى مصارعكم في ثلاث" فكانت وقعة بدر عقبها بثلاث ليال.
وقد عدت المرائي النومية في أصول الحكمة الإشراقية وهي من تراثها عن حكمة الأديان السالفة مثل الحنيفية. وبالغ في تقريبها بالأصول النفسية شهاب الدين الحكيم السهروردي في هياكل النور وحكمة الإشراق، وأبو علي ابن سينا في الإشارات بما حاصله: وأصله: أن النفس الناطقة "وهي المعبر عنها بالروح" هي من الجواهر المجردة التي مقرها العالم العلوي، فهي قابلة لاكتشاف الكائنات على تفاوت في هذا القبول، وأنها تودع في جسم الجنين عند اكتمال طور المضغة، وأن للنفس الناطقة آثارا من الانكشافات إذا ظهرت فقد ينتقش بعضها بمدارك صاحب النفس في لوح حسه المشترك، وقد يصرفه عن الانتقاش شاغلان: أحدهما حسي خارجي، والآخر باطني عقلي أو وهمي، وقوى النفس متجاذبة متنازعة فإذا اشتد بعضها ضعف البعض الآخر، كما إذا هاج الغضب ضعفت الشهوة، فكذلك إن تجرد الحس الباطن للعمل شغل عن الحس الظاهر، والنوم شاغل للحس، فإذا قلت شواغل الحواس الظاهرة فقد تتخلص النفس عن شغل مخيلاتها، فتطلع على أمور مغيبة، فتكون المنامات الصادقة.
والرؤيا الصادقة حالة يكرم الله بها بعض أصفيائه الذين زكت نفوسهم فتنصل نفوسهم بتعلقات من علم الله وتعلقات من إرادته وقدرته وأمره التكويني فتنكشف بها الأشياء المغيبة بالزمان قبل وقوعها، أو المغيبة بالمكان قبل اطلاع الناس عليها اطلاعا عاديا. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءا من
النبوة". وقد بين تحديد هذه النسبة الواقعة في الحديث في شروح الحديث. وقال:ل"م يبق من النبوة إلا المبشرات وهي الرؤيا الصالحة للرجل الصالح يراها أو ترى له".
وإنما شرطت المرائي الصادقة بالناس الصالحين لأن الارتياض على الأعمال الصالحة شاغل للنفس عن السيئات، ولأن الأعمال الصالحات ارتقاءات وكمالات فهي معينة لجوهر النفس على الاتصال بعالمها الذي خلقت فيه وأنزلت منه، وبعكس ذلك الأعمال السيئة تبعدها عن مألوفاتها وتبلدها وتذبذبها.
والرؤيا مراتب:
منها أن: ترى صور أفعال تتحقق أمثالها في الوجود مثل رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يهاجر من مكة إلى أرض ذات نخل، وظنه أن تلك الأرض اليمامة فظهر أنها المدينة، ولا شك أنه لما رأى المدينة وجدها مطابقة للصورة التي رآها، ومثل رؤياه امرأة في سرقة من حرير فقيل له اكتشفها فهي زوجك فكشف فإذا هي عائشة، فعلم أن سيتزوجها. وهذا النوع نادر وحالة الكشف فيه قوية.
ومنها أن ترى صور تكون رموزا للحقائق التي ستحصل أو التي حصلت في الواقع، وتلك من قبيل مكاشفة النفس للمعاني والمواهي وتشكيل المخيلة تلك الحقائق في أشكال محسوسة هي من مظاهر تلك المعاني، وهو ضرب من ضروب التشبيه والتمثيل الذي تخترعه ألباب الخطباء والشعراء، إلا أن هذا تخترعه الألباب في حالة هدو الدماغ من الشواغل الشاغلة، فيكون أتقن وأصدق. وهذا أكثر أنواع المرائي. ومنه رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يشرب من قدح لبن رأى الري في أظفاره ثم أعطى فضله عمربن الخطاب رضي الله عنه. وتعبيره ذلك بأنه العلم.
وكذلك رؤيا امرأة سوداء ناشرة شعرها خارجة من المدينة إلى الجحفة، فعبرها بالحمى تنتقل من المدينة إلى الجحفة، ورئي عبد الله بن سلام أنه في روضة، وأن فيها عمودا، وأن فيه عروة، وأنه أخذ بتلك العروة فارتقى إلى أعلى العمود، فعبره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يزال آخذا بالإيمان الذي هو العروة الوثقى، وأن الروضة هي الجنة، فقد تطابق التمثيل النومي مع التمثيل المتعارف في قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [سورة البقرة:256 ]، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة".
وسيأتي تأويل هذه الرؤيا عند قوله تعالى: {وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل} [سورة يوسف:100].
[5] {قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ}.
جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات. وقد تقدمت عند قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة[30].
والنداء مع حضور المخاطب مستعمل في طلب إحضار الذهن اهتماما بالغرض المخاطب فيه.
و{بُنَيَّ} - بكسر الياء المشددة - تصغير ابن مع إضافته إلى ياء المتكلم وأصله بنيوي أو بنييي على الخلاف في أن لام ابن الملتزم عدم ظهورها هي واو أم ياء. وعلى كلا التقديرين فإنها أدغمت فيها ياء التصغير بعد قلب الواو ياء لتقارب الياء والواو، أو لتماثلهما فصار "بنَيّ". وقد اجتمع ثلاث ياءات فلزم حذف واحدة منها فحذفت ياء المتكلم لزوما وألقيت الكسرة التي اجتلبت لأجلها على ياء التصغير دلالة على الياء المحذوفة. وحذف ياء المتكلم من المنادى المضاف شائع. وبخاصة إذا كان في إبقائها ثقل كما هنا، لأن التقاء ياءات ثلاث فيه ثقل.
وهذا التصغير كناية عن تحبيب وشفقة. نزل الكبير منزلة الصغير لأن شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه. وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له.
والقص: حكاية الرؤيا. يقال: قص الرؤيا إذا حكاها وأخبر بها. وهو جاء من القصص كما علمت آنفا.
والرؤيا - بألف التأنيث - هي: رؤية الصور في النوم، فرقوا بينها وبين رؤية اليقظة باختلاف علامتي التأنيث، وهي بوزن البشرى والبقيا.
وقد علم يعقوب - عليه السلام - أن إخوة يوسف - عليه السلام - العشرة كانوا يغارون منه لفرط فضله عليهم خلقا وخلقا، وعلم أنهم يعبرون الرؤيا إجمالا وتفصيلا، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف - عليه السلام - على إخوته الذين هم أحد عشر فخشي إن قصها يوسف - عليه السلام - عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حد الحسد،
وأن يعبروها على وجهها فينشأ فيهم شر الحاسد إذا حسد، فيكيدوا له كيدا ليسلموا من تفوقه عليهم وفضله فيهم.
والكيد: إخفاء عمل يضر المكيد. وتقدم عند قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في سورة الأعراف [183].
واللام في {لَكَ} لتأكيد صلة الفعل بمفعوله كقوله: شكرت لك النعمى.
وتنوين {كَيْداً} للتعظيم والتهويل زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم.
وقصد يعقوب - عليه السلام - من ذلك نجاة ابنه من أضرار تلحقه، وليس قصده إبطال ما دلت عليه الرؤيا فإنه يقع بعد أضرار ومشاق. وكان يعلم أن بنيه لم يبلغوا في العلم مبلغ غوص النظر المفضي إلى أن الرؤيا إن كانت دالة على خير عظيم يناله فهي خبر إلهي، وهو لا يجوز عليه عدم المطابقة للواقع في المستقبل، بل لعلهم يحسبونها من الإنذار بالأسباب الطبيعية التي يزول تسببها بتعطيل بعضها.
وقول يعقوب - عليه السلام - هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأن التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته لأنه وثق منه بكمال العقل، وصفاء السريرة، ومكارم الخلق. ومن كان حاله هكذا كان سمحا، عاذرا، معرضا عن الزلات، عالما بأثر الصبر في رفعة الشأن، ولذلك قال لإخوته: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [سورة يوسف:90] وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [سورة يوسف:92]. وقد قال أحد ابني آدم - عليه السلام - لأخيه الذي قال له لأقتلنك حسدا {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سورة المائدة:28]. فلا يشكل كيف حذر يعقوب يوسف - عليهما السلام - من كيد إخوته، ولذلك عقب كلامه بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ليعلم أنه ما حذره إلا من نزغ الشيطان في نفوس إخوته. وهذا كاعتذار النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين من الأنصار اللذين لقياه ليلا وهو يشيع زوجه أم المؤمنين إلى بيتها فلما رأياه وليا، فقال: "على رسلكما إنها صفية، فقالا: سبحان الله يا رسول الله وأكبرا ذلك، فقال لهما: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما". فهذه آية عبرة بتوسم يعقوب - عليه السلام - أحوال أبنائه وارتيائه أن يكف كيد بعضهم لبعض.
فجملة {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ} الخ واقعة موقع التعليل للنهي عن قص الرؤيا على
إخوته. وعداوة الشيطان لجنس الإنسان تحمله على أن يدفعهم إلى إضرار بعضهم ببعض.
وظاهر الآية أن يوسف - عليه السلام -لم يقص رؤياه على إخوته وهو المناسب لكماله الذي يبعثه على طاعة أمر أبيه. ووقع في الإسرائيليات أنه قصها عليهم فحسدوه.
[6] {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
عطف هذا الكلام على تحذيره من قص الرؤيا على إخوته إعلاما له بعلو قدره ومستقبل كماله، كي يزيد تمليا من سمو الأخلاق فيتسع صدره لاحتمال إذى إخوته، وصفحا عن غيرتهم منه وحسدهم إياه ليتمحض تحذيره للصلاح، وتنتفي عنه مفسدة إثارة البغضاء ونحوها، حكمة نبوية عظيمة وطبا روحانيا ناجعا.
والإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ} إلى ما دلت عليه الرؤيا من العناية الربانية به، أي ومثل ذلك الاجتباء يجتبيك ربك في المستقبل، والتشبيه هنا تشبيه تعليل لأنه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتحاد العلة. وموقع الجار والمجرور موقع المفعول المطلق ل {يَجْتَبِيكَ} المبين لنوع الاجتباء ووجهه.
والاجتباء: الاختيار والاصطفاء. وتقدم في قوله تعالى: {وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} في سورة الأنعام [87]، أي اختياره من بين إخوته، أو من بين كثير من خلقه. وقد علم يعقوب - عليه السلام - ذلك بتعبير الرؤيا ودلالتها على رفعة شأن في المستقبل فتلك إذا ضمت إلى ما هو عليه من الفضائل آلت إلى اجتباء الله إياه،وذلك يؤذن بنبوءته. وإنما علم يعقوب - عليه السلام - أن رفعة يوسف - عليه السلام - في مستقبله رفعة إلهية لأنه علم أن نعم الله تعالى متناسبة فلما كان ما ابتدأه من النعم اجتباء وكمالا نفسيا تعين أن يكون ما يلحق بها، من نوعها.
ثم إن ذلك الارتقاء النفساني الذي هو من الواردات الإلهية غايته أن يبلغ بصاحبه إلى النبوة أو الحكمة فلذلك علم يعقوب - عليه السلام - أن الله سيعلم يوسف - عليه السلام - من تأويل الأحاديث، لأن مسبب الشيء مسبب عن سبب ذلك الشيء، فتعليم التأويل ناشئ عن التشبيه الذي تضمنه قوله: {وَكَذَلِكَ}، ولأن اهتمام يوسف - عليه السلام - برؤياه وعرضها على أبيه دل أباه على أن الله أودع في نفس يوسف - عليه السلام - الاعتناء بتأويل الرؤيا وتعبيرها. وهذه آية عبرة بحال يعقوب - عليه السلام - مع ابنه إذ
أشعره بما توسمه من عناية الله به ليزداد إقبالا على الكمال بقوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ}.
والتأويل: إرجاع الشيء إلى حقيقته ودليله. وتقدم عند قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [سورة آل عمران:7].
و {الْأَحَادِيثِ}: يصح أن يكون جمع حديث بمعنى الشيء الحادث، فتأويل الأحاديث: إرجاع الحوادث إلى عللها وأسبابها بإدراك حقائقها على التمام، وهو المعنى بالحكمة، وذلك بالاستدلال بأصناف الموجودات على قدرة الله وحكته، ويصح أن يكون الأحاديث جمع حديث بمعنى الخبر المتحدث به، فالتأويل تعبير الرؤيا. سميت أحاديث لأن المرائي يتحدث بها الراؤون وعلى هذا المعنى حملها بعض المفسرين. واستدلوا بقوله في آخر القصة {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف:100]. ولعل كلا المعنيين مراد بناء على صحة استعمال المشترك في معنييه وهو الأصح، أو يكون اختيار هذا اللفظ إيجازا معجزا، إذ يكون قد حكي به كلام طويل صدر من يعقوب - عليه السلام - بلغته يعبر عن تأويل الأشياء بجميع تلك المعاني.
وإتمام النعمة عليه هو إعطاؤه أفضل النعم وهي نعمة النبوة، أو هو ضميمه الملك إلى النبوة والرسالة، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي.
وعلم يعقوب - عليه السلام - ذلك من دلالة الرؤيا على سجود الكواكب والنيرين له، وقد علم يعقوب - عليه السلام - تأويل تلك بإخوته وأبويه أو زوج أبيه وهي خالة يوسف عليه السلام، وعلم من تمثيلهم في الرؤيا أنهم حين يسجدون له يكون أخوته قد نالوا النبوة، وبذلك علم أيضا أن الله يتم نعمته على إخوته وعلى زوج يعقوب - عليه السلام - بالصديقية إذ كانت زوجة نبي. فالمراد من آل يعقوب خاصتهم وهم أبناؤه وزوجه، وإن كان المراد بإتمام النعمة ليوسف - عليه السلام - إعطاء الملك فإتمامها على آل يعقوب هو أن زادهم على ما أعطاهم من الفضل نعمة قرابة الملك، فيصح حينئذ أن يكون المراد من آله جميع قرابته.
والتشبيه في قوله: {كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} تذكير له بنعم سابقة، وليس مما دلت عليه الرؤيا. ثم إن كان المراد من إتمام النعمة النبوة فالتشبيه تام، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فالتشبيه في إتمام النعمة على الإطلاق.
وجعل إبراهيم وإسحاق - عليهما السلام - أبوين له لأن لهما ولادة عليه، فهما أبواه
الأعليان بقرينة المقام كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا ابن عبد المطلب".
وجملة {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} تذييل بتمجيد هذه النعم، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته، فعلمه هو علمه بالنفوس الصالحة لهذه الفضائل لأنه خلقها لقبول ذلك فعلمه بها سابق، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة.
وتصدير الجملة ب {إِنَّ} للاهتمام لا للتأكيد إذ لا يشك يوسف - عليه السلام - في علم الله وحكمته. والاهتمام ذريعة إلى إفادة التعليل. والتفريع في ذلك تعريض بالثناء على يوسف - عليه السلام - وتأهله لمثل تلك الفضائل.
[7] {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ}.
جملة ابتدائية، وهي مبدأ القصص المقصود، إذ كان ما قبله كالمقدمة له المنبئة بنباهة شأن صاحب القصة، فليس هو من الحوادث التي لحقت يوسف - عليه السلام - ولهذا كان أسلوب هذه الجملة كأسلوب القصص، وهو قوله: {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا} [سورة يوسف: 8] نظير قوله تعالى: {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ} [سورة ص~: 70, 71] إلى آخر القصة.
والظرفية المستفادة من {فِي} ظرفية مجازية بتشبيه مقارنة الدليل للمدلول بمقارنة المظروف للظرف، أي لقد كان شأن يوسف - عليه السلام - وإخوته مقارنا لدلائل عظيمة من العبر والمواعظ، والتعريف بعظيم صنع الله تعالى وتقديره.
والآيات: الدلائل على ما تتطلب معرفته من الأمور الخفية.
والآيات حقيقة في آيات الطريق، وهي علامات يجعلونها في المفاوز تكون بادية لا تغمرها الرمال لتكون مرشدة للسائرين، ثم أطلقت على حجج الصدق، وأدلة المعلومات الدقيقة. وجمع الآيات هنا مراعى فيه تعددها وتعدد أنواعها، ففي قصة يوسف - عليه السلام - دلائل على ما للصبر وحسن الطوية من عواقب الخير والنصر، أو على ما للحسد والإضرار بالناس من الخيبة والاندحار والهبوط.
وفيها من الدلائل على - صدق النبي صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن وحي من الله، إذ جاء في هذه السورة ما لا يعلمه إلا أحبار أهل الكتاب دون قراءة ولا كتاب وذلك من المعجزات.
وفي بلاغة نظمها وفصاحتها من الإعجاز ما هو دليل على أن هذا الكلام من صنع الله ألقاه إلى رسوله - صلى الله عليه وسلم - معجزة له على قومه أهل الفصاحة والبلاغة.
والسائلون: مراد منهم من يتوقع منه السؤال عن المواعظ والحكم كقوله تعالى: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [سورة فصلت: 10]. ومثل هذا يستعمل في كلام العرب للتشويق، والحث على تطلب الخبر والقصة. قال طرفة:
سائلوا عنا الذي يعرفنا ... بقوانا يوم تحلاق اللمم
وقال السموءل أو عبد الملك الحارثي:
سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ... فليس سواء عالم وجهول
وقال عامر بن الطفيل:
طلقت إن لم تسألي أي فارس ... حليلك إذ لاقى صداء وخثعما
وقال أنيف بن زبان النبهاني:
فلما التقينا بين السيف بيننا ... لسائلة عنا حفي سؤالها
وأكثر استعمال ذلك في كلامهم يكون توجيهه إلى ضمير الأنثى، لأن النساء يعنين بالسؤال عن الأخبار التي يتحدث الناس بها، ولما جاء القرآن وكانت أخباره التي يشوق إلى معرفتها أخبار علم وحكمة صرف ذلك الاستعمال عن التوجيه إلى ضمير النسوة، ووجه إلى ضمير المذكر كما في قوله: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [سورة المعارج:1] وقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [سورة النبأ:1].
وقيل المراد ب"السائلين" اليهود إذ سأل فريق منهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. وهذا لا يستقيم لأن السورة مكية ولم يكن لليهود مخالطة للمسلمين بمكة.
[8] {إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
{إِذْ} ظرف متعلق ب"كان" من قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [سورة يوسف: 7]، فإن ذلك الزمان موقع من مواقع الآيات فإن في قولهم ذلك حينئذ عبرة من عبر الأخلاق التي تنشأ من حسد الإخوة والأقرباء، وعبرة من المجازفة في تغليطهم أباهم، واستخفافهم برأيه غرورا منهم، وغفلة عن مراتب موجبات ميل الأب إلى
بعض أبنائه. وتلك الآيات قائمة في الحكاية عن ذلك الزمن.
وهذا القول المحكي عنهم قول تآمر وتحاور.
وافتتاح المقول بلام الابتداء المفيدة للتوكيد لقصد تحقيق الخبر. والمراد: توكيد لازم الخبر إذ لم يكن فيهم من يشك في أن يوسف - عليه السلام - وأخاه أحب إلى أبيهم من بقيتهم ولكنهم لم يكونوا سواء الحسد لهما والغيرة من تفضيل أبيهم إياهما على بقيتهم، فأراد بعضهم إقناع بعض بذلك ليتمالؤوا على الكيد ليوسف - عليه السلام - وأخيه، كما سيأتي عند قوله: {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ}، وقوله: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 10]؛ فقائل الكلام بعض إخوته، أي جماعة منهم بقرينة قوله بعد {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 9] وقولهم: {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 10].
وأخو يوسف - عليه السلام - أريد به "بنيامين" وإنما خصوه بالإخوة لأنه كان شقيقه، أمهما "راحيل" بنت "لابان"، وكان بقية إخوته إخوة للأب، أم بعضهم "ليئة" بنت "لابان"، وأم بعضهم بلهة جارية "ليئة" وهبتها "ليئة" لزوجها يعقوب - عليه السلام -.
و {أَحَبُّ} اسم تفضيل، وأفعل التفضيل يتعدى إلى المفضل ب"من"، ويتعدى إلى المفضل عنده ب"إلى".
ودعواهم أن يوسف - عليه السلام - وأخاه أحب إلى يعقوب - عليه السلام - منهم يجوز أن تكون دعوى باطلة أثار اعتقادها في نفوسهم شدة الغيرة من أفضلية يوسف - عليه السلام - وأخيه عليهم في الكمالات وربما سمعوا ثناء أبيهم على يوسف - عليه السلام - وأخيه في أعمال تصدر منهما أو شاهدوه يأخذ بإشارتهما أو رأوا منه شفقة عليهما لصغرهما ووفاة أمهما فتوهموا من ذلك أنه أشد حبا إياهما منهم توهما باطلا. ويجوز أن تكون دعواهم مطابقة للواقع وتكون زيادة محبته إياهما أمرا لا يملك صرفه عن نفسه لأنه وجدان ولكنه لم يكن يؤثرهما عليهم في المعاملات والأمور الظاهرية ويكون أبناؤه قد علموا فرط محبة أبيهم إياهما من التوسم والقرائن لا من تفضيلهما في المعاملة فلا يكون يعقوب - عليه السلام - مؤاخذا بشيء يفضي إلى التباغض بين الإخوة.
وجملة {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} في موضع الحال من {أَحَبُّ} ، أي ونحن أكثر عددا. والمقصود من الحال التعجب من تفضيلهما في الحب في حال أن رجاء انتفاعه من
إخوتهما أشد من رجائه منهما، بناء على ما هو الشائع عند عامة أهل البدو من الاعتزاز بالكثرة، فظنوا مدارك يعقوب - عليه السلام - مساوية لمدارك الدهماء، والعقول قلما تدرك مراقي ما فوقها، ولم يعلموا أن ما ينظر إليه أهل الكمال من أسباب التفضيل غير ما ينظره من دونهم.
وتكون جملة {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} تعليلا للتعجب وتفريعا عليه، وضمير {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} لجميع الإخوة عدا يوسف - عليه السلام - وأخاه. ويجوز أن تكون جملة {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} عطفا على جملة {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا}. والمقصود لازم الخبر وهو تجرئة بعضهم بعضا عن إتيان العمل الذي سيغريهم به في قولهم {اقْتُلُوا يُوسُفَ} [سورة يوسف: 9]، أي أنا لا يعجزنا الكيد ليوسف - عليه السلام - وأخيه فإنا عصبة والعصبة يهون عليهم العمل العظيم الذي لا يستطيعه العدد القليل كقوله: {قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ} [سورة يوسف: 14]، وتكون جملة {إِنَّ أَبَانَا} تعليلا للإغراء وتفريعا عليه.
و"العصبة: اسم جمع لا واحد له من لفظه، مثل أسماء الجماعات، ويقال: العصابة. قال جمهور اللغويين: تطلق العصبة على الجماعة من عشرة إلى أربعين". وعن ابن عباس أنها من ثلاثة إلى عشرة، وذهب إليه بعض أهل اللغة وذكروا أن في مصحف حفصة قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ".
وكان أبناء يعقوب - عليه السلام - اثنى عشر، وهم الأسباط. وقد تقدم الكلام عليهم عند قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} الآية في سورة البقرة[140].
و {الضلال} إخطاء مسلك الصواب. وإنما: أراد وأخطأ التدبير للعيش لا الخطأ في الدين والاعتقاد. والتخطئة في أحوال الدنيا لا تنافي الاعتراف للمخطئ بالنبوءة.
[9] {اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ}.
جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الكلام المتقدم يثير سؤالا في نفوس السامعين عن غرض القائلين مما قالوه فهذا المقصود للقائلين. وإنما جعلوا له الكلام السابق كالمقدمة لتتأثر نفوس السامعين فإذا ألقي إليها المطلوب كانت سريعة الامتثال إليه.
وهذا فن من صناعة الخطابة أن يفتتح الخطيب كلامه بتهيئة نفوس السامعين لتتأثر بالغرض المطلوب، فإن حالة تأثر النفوس تغني عن الخطيب غناء جمل كثيرة من بيان العلل والفوائد، كما قال الحريري في المقامة الحادية عشرة "فلما دفنوا الميت، وفات قول ليت، أشرف شيخ من رباوة، متأبطا لهراوة، فقال لمثل هذا فليعمل العاملون". وانهل في الخطب.
والأمر مستعمل في الإرشاد. وأرادوا ارتكاب شيء يفرق بين يوسف وأبيه - عليهما السلام - تفرقة لا يحاول من جرائها اقترابا بأن يعدموه أو ينقلوه إلى أرض أخرى فيهلك أو يفترس.
وهذه آية من عبر الأخلاق السيئة وهي التخلص من مزاحمة الفاضل بفضله لمن هو دونه فيه أو مساويه بإعدام صاحب الفضل وهي أكبر جريمة لاشتمالها على الحسد، والإضرار بالغير، وانتهاك ما أمر الله بحفظه، وهم قد كانوا أهل دين ومن بيت نبوة وقد أصلح الله حالهم من بعد وأثنى عليهم وسماهم الأسباط.
وانتصب {أَرْضاً} على تضمين {اطْرَحُوهُ} معنى أودعوه، أو على نزع الخافض، أو على تشبيهه بالمفعول فيه لأن {أَرْضاً} اسم مكان فلما كان غير محدود وزاد إبهاما بالتنكير عومل معاملة أسماء الجهات، وهذا أضعف الوجوه. وقد علم أن المراد أرض مجهولة لأبيه.
وجزم {يَخْلُ} في جواب الأمر، أي إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم.
والخلو: حقيقته الفراغ. وهو مستعمل هنا مجازا في عدم التوجه لمن لا يرغبون توجهه له، فكأن الوجه خلا من أشياء كانت حالة فيه.
واللام في قوله: {لَكُمْ} لام العلة، أي يخل وجه أبيكم لأجلكم، بمعنى أنه يخلو ممن عداكم فينفرد لكم.
وهذا المعنى كناية تلويح عن خلوص محبته لهم دون مشارك.
وعطف {وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ} أي من بعد يوسف - عليه السلام - على {يَخْلُ} ليكون من جملة الجواب للأمر. فالمراد كون ناشئ عن فعل المأمور به فتعين أن يكون المراد من الصلاح فيه الصلاح الدنيوي، أي صلاح الأحوال في عيشهم مع أبيهم، وليس المراد الصلاح الديني.
وإنما لم يدبروا شيئا في إعدام أخي يوسف - عليه السلام - شفقة عليه لصغره.
وإقحام لفظ {قَوْماً} بين كان وخبرها للإشارة إلى أن صلاح الحال صفة متمكنة فيهم كأنه من مقومات قوميتهم. وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164]، وعند قوله تعالى: {وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} في سورة يونس [101].
وهذا الأمر صدر من قائله وسامعيه منهم قبل اتصافهم بالنبوة أو بالولاية لأن فيه ارتكاب كبيرة القتل أو التعذيب والاعتداء، وكبيرة العقوق.
[10] {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.
فصل جملة {قَالَ قَائِلٌ} جار على طريقة المقاولات والمحاورات، كما تقدم في قوله تعالى: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة [30].
وهذا القائل أحد الإخوة ولذلك وصف بأنه منهم.
والعدول عن اسمه العلم إلى التنكير والوصفية لعدم الجدوى في معرفة شخصه وإنما المهم أنه من جماعتهم، وتجنبا لما في اسمه العلم من الثقل اللفظي الذي لا داعي إلى ارتكابه. قيل: إنه "يهوذا" وقيل: "شمعون" وقيل: "روبين"، والذي في سفر التكوين من التوراة أنه "راوبين" صدهم عن قتله وأن يهوذا دل عليه السيارة كما في الإصحاح 37. وعادة القرآن أن لا يذكر إلا اسم المقصود من القصة دون أسماء الذين شملتهم، مثل قوله: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [سورة غافر: 28].
والإلقاء: الرمي.
والغيابات: جمع غيابة، وهي ما غاب عن البصر من شيء. فيقال: غيابة الجب وغيابة القبر والمراد قعر الجب.
والجب: البئر التي تحفر ولا تطوى.
وقرأ نافع، وأبو جعفر "غَيَابَاتِ"ط بالجمع. ومعناه جهات تلك الغيابة، أو يجعل الجمع للمبالغة في ماهية الاسم، كقوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ} [سورة النور:40] وقرأ الباقون {فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} بالإفراد.
والتعريف في {الْجُبِّ} تعريف العهد الذهني، أي في غيابة جب من الجباب مثل قولهم: ادخل السوق. وهو في المعنى كالنكرة.
فلعلهم كانوا قد عهدوا جبابا كائنة على أبعاد متناسبة في طرق أسفارهم يأوون إلى قربها في مراحلهم لسقي رواحلهم وشربهم، وقد توخوا أن تكون طرائقهم عليها، وأحسب أنها كانت ينصب إليها ماء السيول، وأنها لم تكن بعيدة القعر حيث علموا أن إلقاءه في الجب لا يهشم عظامه ولا ماء فيه فيغرقه.
و {يَلْتَقِطْهُ} جواب الأمر في قوله: {وَأَلْقُوهُ}. والتقدير: إن تلقوه يلتقطه. والمقصود من التسبب الذي يفيده جواب الأمر إظهار أن ما أشار به القائل من إلقاء يوسف - عليه السلام - في غيابة جب هو أمثل مما أشار به الآخرون من قتله أو تركه بفيفاء مهلكة لأنه يحصل به إبعاد يوسف - عليه السلام - عن أبيه إبعادا لا يرجى بعده تلاقيهما دون إلحاق ضر الإعدام بيوسف - عليه السلام -؛ فإن التقاط السيارة إياه أبقى له وأدخل في الغرض من المقصود لهم وهو إبعاده، لأنه إذا التقطه السيارة أخذوه عندهم أو باعوه فزاد بعدا على بعد.
والالتقاط: تناول شيء من الأرض أو الطريق، واستعير لأخذ شيء مضاع.
والسيارة: الجماعة الموصوفة بحالة السير وكثرته، فتأنيثه لتأويله بالجماعة التي تسير مثل الفلاحة والبحارة.
والتعريف فيه تعريف العهد الذهني لأنهم علموا أن الطريق لا تخلو من قوافل بين الشام ومصر للتجارة والميرة.
وجملة {إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} شرط حذف جوابه لدلالة {وَأَلْقُوهُ}، أي إن كنتم فاعلين إبعاده عن أبيه فألقوه في غيابات الجب ولا تقتلوه.
وفيه تعريض بزيادة التريث فيما أضمروه لعلهم يرون الرجوع عنه أولى من تنفيذه، ولذلك جاء في شرطه بحرف الشرط وهو {إِنْ} إيماء إلى أنه لا ينبغي الجزم به، فكان هذا القائل أمثل الإخوة رأيا وأقربهم إلى التقوى، وقد علموا أن السيارة يقصدون إلى جميع الجباب للاستقاء، لأنها كانت محتفرة على مسافات مراحل السفر. وفي هذا الرأي عبرة في الاقتصاد من الانتقام والاكتفاء بما يحصل به الغرض دون إفراط.
[11، 12] {قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}.
استئناف بياني لأن سوق القصة يستدعي تساؤل السامع عما جرى بعد إشارة أخيهم عليهم، وهل رجعوا عما بيتوا وصمموا على ما أشار به أخوهم.
وابتداء الكلام مع أبيهم بقولهم: {يَا أَبَانَا} يقضي أن تلك عادتهم في خطاب الابن أباه.
ولعل يعقوب - عليه السلام - كان لا يأذن ليوسف - عليه السلام - بالخروج مع إخوته للرعي أو للسبق خوفا عليه من أن يصيبه سوء من كيدهم أو من غيرهم، ولم يكن يصرح لهم بأنه لا يأمنهم عليه ولكن حاله في منعه من الخروج كحال من لا يأمنهم عليه فنزلوه منزلة من لا يأمنهم، وأتوا بالاستفهام المستعمل في الإنكار على نفي الائتمان.
وفي التوراة أن يعقوب - عليه السلام - أرسله إلى إخوته وكانوا قد خرجوا يرعون، وإذا لم يكن تحريفا فلعل يعقوب - عليه السلام - بعد أن امتنع من خروج يوسف - عليه السلام - معهم سمح له بذلك، أو بعد أن سمع لومهم عليه سمح له بذلك.
وتركيب {مَا لَكَ} لا تفعل. تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} في سورة يونس [35]، وانظر قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} في سورة براءة [38].وقوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} في سورة النساء [88].
واتفق القراء على قراءة {لا تَأْمَنَّا} بنون مشددة مدغمة من نون أمن ونون جماعة المتكلمين، وهي مرسومة في المصحف بنون واحدة. واختلفوا في كيفية النطق بهذه النون بين إدغام محض، وإدغام بإشمام، وإخفاء بلا إدغام، وهذا الوجه الأخير مرجوح، وأرجح الوجهين الآخرين الإدغام بإشمام، وهما طريقتان للكل وليسا مذهبين.
وحرف {عَلَى} التي يتعدى بها فعل الأمن المنفي للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن من تعلق الائتمان بمدخول {عَلَى}.
والنصح عمل أو قول فيه نفع للمنصوح، وفعله يتعدى باللام غالبا وبنفسه. وتقدم في قوله تعالى: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ} في سورة الأعراف [62].
وجملة {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} معترضة بين جملتي {مَا لَكَ لا تَأْمَنَّا} وجملة {أَرْسِلْهُ}. والمعنى هنا: أنهم يعملون ما فيه نفع ليوسف - عليه السلام -.
وجملة {أَرْسِلْهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الإنكار المتقدم يثير ترقب يعقوب - عليه السلام - لمعرفة ما يريدون منه ليوسف - عليه السلام -.
و {يَرْتَعْ} قرأه نافع، وأبو جعفر، ويعقوب - بياء الغائب وكسر العين -. وقرأه ابن كثير - بنون المتكلم المشارك وكسر العين - وهو على قراءتي هؤلاء الأربعة مضارع ارتعى وهو افتعال من الرعي للمبالغة فيه.
فهو حقيقة في أكل المواشي والبهائم واستعير في كلامهم للأكل الكثير لأن الناس إذا خرجوا إلى الرياض والأرياف للعب والسبق تقوى شهوة الأكل فيهم فيأكلون أكلا ذريعا فلذلك شبه أكلهم بأكل الأنعام. وإنما ذكروا ذلك لأنه يسر أباهم أن يكونوا فرحين.
وقرأه أبو عمرو، وابن عامر - بنون وسكون العين-. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بياء الغائب وسكون العين وهو على قراءتي هؤلاء الستة مضارع رتع إذا أقام في خصب وسعة من الطعام. والتحقيق أن هذا مستعار من رتعت الدابة إذا أكلت في المرعى حتى شبعت. فمفاد المعنى على التأويلين واحد.
واللعب: فعل أو كلام لا يراد منه ما شأنه أن يراد بمثله نحو الجري والقفز والسبق والمراعاة، نحو قول امرى القيس:
فظل العذارى يرتمين بشحمها
يقصد منه الاستجمام ودفع السآمة. وهو مباح في الشرائع كلها إذا لم يصر دأبا. فلا وجه لتساؤل صاحب "الكشاف" عن استجازة يعقوب - عليه السلام - لهم اللعب.
والذين قرأوا {نرتع} بنون المشاركة قرأوا {وَنَلْعَبْ} بالنون أيضا.
وجملة {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} في موضع الحال مثل {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة يوسف: 10]. والتأكيد فيهما للتحقيق تنزيلا لأبيهم منزلة الشاك في أنهم يحفظونه وينصحونه كما نزلوه منزلة من لا يأمنهم عليه من حيث إنه كان لا يأذن له بالخروج معهم للرعي ونحوه.
وتقديم {له} في {لَنَاصِحُونَ} و {لَهُ لَحَافِظُونَ} يجوز أن يكون لأجل الرعاية
للفاصلة والاهتمام بشأن يوسف - عليه السلام - في ظاهر الأمر، ويجوز أن يكون للقصر الادعائي؛ جعلوا أنفسهم لفرط عنايتهم به بمنزلة من لا يحفظ غيره ولا ينصح غيره.
وفي هذا القول الذي تواطأوا عليه عند أبيهم عبرة من تواطؤ أهل الغرض الواحد على التحيل لنصب الأحابيل لتحصيل غرض دنيء، وكيف ابتدأوا بالاستفهام عن عدم أمنه إياهم على أخيهم وإظهار أنهم نصحاء له، وحققوا ذلك بالجملة الاسمية وبحرف التوكيد، ثم أظهروا أنهم ما حرصوا إلا على فائدة أخيهم وأنهم حافظون له وأكدوا ذلك أيضا.
[13، 14] {قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ}.
فصل جملة {قَالَ} جار على طريقة المحاورة.
أظهر لهم سبب امتناعه من خروج يوسف - عليه السلام - معهم إلى الريف بأنه يحزنه لبعده عنه أياما، وبأنه يخشى عليه الذئاب، إذ كان يوسف - عليه السلام - حينئذ غلاما، وكان قد ربي في دعة فلم يكن مرنا بمقاومة الوحوش، والذئاب تجترئ على الذي تحس منه ضعفا في دفاعها. قال الربيع بن ضبع الفزاري يشكو ضعف الشيخوخة:
والذئب أخشاه إن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
وقال الفرزدق يذكر ذئبا:
فقلت له لما تكشر ضاحكا ... وقائم سيفي من يدي بمكان
تعش فإن عاهدتني لا تخونني ... نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
فذئاب بادية الشام كانت أشد خبثا من بقية الذئاب، ولعلها كانت كذئاب بلاد الروس. والعرب يقولون: إن الذئب إذا حورب ودافع عن نفسه حتى عض الإنسان وأسال دمه أنه يضرى حين يرى الدم فيستأسد على الإنسان، قال:
فكنت كذئب السوء حين رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
وقد يتجمع سرب من الذئاب فتكون أشد خطرا على الواحد من الناس والصغير.
والتعريف في {الذِّئْبُ} تعريف الحقيقة والطبيعة، ويسمى تعريف الجنس. وهو هنا مراد به غير معين من نوع الذئب أو جماعة منه، وليس الحكم على الجنس بقرينة أن الأكل من أحوال الذوات لا من أحوال الجنس، لكن المراد أية ذات من هذا الجنس دون
تعيين. ونظيره قوله تعالى: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [سورة الجمعة: 5] أي فرد من الحمير غير معين، وقرينة إرادة الفرد دون الجنس إسناد حمل الأسفار إليه لأن الجنس لا يحمل. ومنه قولهم: "ادخل السوق" إذا أردت فردا من الأسواق غير معين، وقولك: ادخل، قرينة على ما ذكر. وهذا التعريف شبيه بالنكرة في المعنى إلا أنه مراد به فرد من الجنس. وقريب من هذا التعريف باللام التعريف بعلم الجنس، والفرق بين هذه اللام وبين المنكر كالفرق بين علم الجنس والنكرة.
فالمعنى: أخاف أن يأكله الذئب، أي يقتله فيأكل منه فإنكم تبعدون عنه، لما يعلم من إمعانهم في اللعب والشغل باللهو والمسابقة، فتجتري الذئاب على يوسف - عليه السلام -.
والذئب: حيوان من الفصيلة الكلبية، وهو كلب بري وحشي. من خلقه الاحتيال والنفوز. وهو يفترس الغنم. وإذا قاتل الإنسان فجرحه ورأى عليه الدم ضرى به فربما مزقه.
وإنما ذكر يعقوب - عليه السلام - أن ذهابهم به غدا يحدث به حزنا مستقبلا"1" ليصرفهم عن الإلحاح في طلب الخروج به لأن شأن الابن البار أن يتقي ما يحزن أباه.
وتأكيد الجملة بحرف التأكيد لقطع إلحاحهم بتحقيق أن حزنه لفراقه ثابت، تنزيلا لهم منزلة من ينكر ذلك، إذ رأى إلحاحهم. ويسري التأكيد إلى جملة {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ}.
فأبوا إلا المراجعة قالوا: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخَاسِرُونَ}.
واللام في {لَئِنْ أَكَلَهُ} موطئة للقسم، أرادوا تأكيد الجواب باللام. وإن ولام الابتداء وإذن الجوابية تحقيقا لحصول خسرانهم على تقدير حصول الشرط. والمراد: الكناية عن عدم تفريطهم فيه وعن حفظهم إياه لأن المرء لا يرضى أن يوصف بالخسران.
ـــــــ
(1) ذهب جمع كثير من النحاة فيهم الزمخشري في "الكشاف" و"المفصل" إلى أن لام الابتداء إذا دخلت على المضارع تخلصه لزمن الحال, وخالفهم كثير من البصريين. والتحقق أن ذلك غالب لا مطرد. فهذه الآية وقوله تعالى: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً } [مريم:66] تشهدان لعدم اطراد هذا الحكم.
والمراد بالخسران: انتفاء النفع المرجو من الرجال، استعاروا له انتفاء نفع التاجر من تجره، وهو خيبة مذمومة، أي إنا إذن لمسلوبون من صفات الفتوة من قوة ومقدرة ويقظة. فكونهم عصبة يحول دون تواطيهم على ما يوجب الخسران لجميعهم. وتقدم معنى العصبة آنفا. وفي هذا عبرة من مقدار إظهار الصلاح مع استبطان الضر والإهلاك.
وقرأ الجمهور بتحقيق همزة {الذِّئْبُ} على الأصل. وقرأه ورش عن نافع، والسوسي عن أبي عمرو، والكسائي بتخفيف الهمزة ياء. وفي بعض التفاسير نسب تخفيف الهمزة إلى خلف، وأبي جعفر، وذلك لا يعرف في كتب القراءات. وفي البيضاوي أن أبا عمروا أظهر الهمزة في التوقف، وأن حمزة أظهرها في الوصل.
[15] {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}.
تفريع حكاية الذهاب به والعزم على إلقائه في الجب على حكاية المحاورة بين يعقوب - عليه السلام - وبنيه في محاولة الخروج بيوسف - عليه السلام - إلى البادية يؤذن بجمل محذوفة فيها ذكر أنهم ألحوا على يعقوب - عليه السلام - حتى أقنعوه فأذن ليوسف - عليه السلام - بالخروج معهم، وهو إيجاز.
والمعنى: فلما أجابهم يعقوب - عليه السلام - إلى ما طلبوا ذهبوا به وبلغوا المكان الذي فيه الجب.
وفعل "أجمع" يتعدى إلى المفعول بنفسه. ومعناه: صمم على الفعل، فقوله: {أَنْ يَجْعَلُوهُ} هو مفعول {وأجمعوا}.
وجواب "لمّا" محذوف دل عليه {أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} ، والتقدير: جعلوه في الجب. ومثله كثير في القرآن. وهو من الإيجاز الخاص بالقرآن فهو تقليل في اللفظ لظهور المعنى.
وجملة {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} معطوفة على جملة {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ}، لأن هذا الموحى من مهم عبر القصة.
وقيل: الواو مزيدة وجملة {أَوْحَيْنَا} هو جواب "لمّا"، وقد قيل بمثل ذلك في قول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
... البيت.
وقيل به في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} [سورة الصافات: 103, 104] الآية وفي جميع ذلك نظر.
والضمير في قوله: {إِلَيْهِ} عائد إلى يوسف - عليه السلام - في قول أكثر المفسرين مقتصرين عليه. وذكر ابن عطية أنه قيل الضمير عائد إلى يعقوب - عليه السلام -.
وجملة {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا} بيان لجملة {أَوْحَيْنَا}. وأكدت باللام ونون التوكيد لتحقيق مضمونها سواء كان المراد منها الإخبار عن المستقبل أو الأمر في الحال. فعلى الأول فهذا الوحي يحتمل أن يكون إلهاما ألقاه الله في نفس يوسف - عليه السلام - حين كيدهم له، ويحتمل أنه وحي بواسطة الملك فيكون إرهاصا ليوسف - عليه السلام - قبل النبوة رحمة من الله ليزيل عنه كربه، فأعلمه بما يدل على أن الله سيخلصه من هذه المصيبة وتكون له العاقبة على الذين كادوا له، وإيذان بأنه سيؤانسه في وحشة الجب بالوحي والبشارة، وبأنه سينبي في المستقبل إخوته بما فعلوه معه كما تؤذن به نون التوكيد إذا اقترنت بالجملة الخبرية، وذلك يستلزم نجاته وتمكنه من إخوته لأن الإنباء بذلك لا يكون إلا في حال تمكن منهم وأمن من شرهم.
ومعنى {بِأَمْرِهِمْ}: بفعلهم العظيم في الإساءة.
وجملة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} في موضع الحال، أي لتخبرنهم بما فعلوا بك وهم لا يشعرون أنك أخوهم بل في حالة يحسبونه مطلعا على المغيبات متكهنا بها، وذلك إخبار بما وقع بعد سنين مما حكي في هذه السورة بقوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف: 89] الآيتين.
وعلى احتمال عود ضمير {إِلَيْهِ} على يعقوب - عليه السلام - فالوحي هو إلقاء الله إليه ذلك بواسطة الملك، والواو أظهر في العطف حينئذ فهو معطوف على جملة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} إلى آخرها {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} قبل ذلك. و {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ} أمر، أي أوحينا إليه نبئهم بأمرهم هذا، أي أشعرهم بما كادوا ليوسف عليه السلام، إشعارا بالتعريض، وذلك في قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [سورة يوسف: 13].
وجملة {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} على هذا التقدير حال من ضمير جمع الغائبين، أي وهم لا يشعرون أننا أوحينا إليه بذلك.
وهذا الجب الذي ألقي فيه يوسف - عليه السلام - وقع في التوراة أنه في أرض دوثان، ودوثان كانت مدينة حصينة وصارت خرابا. والمراد: أنه كانت حوله صحراء هي مرعى ومربع. ووصف الجب يقتضي أنه على طريق القوافل. واتفق واصفو الجب على أنه بين "بانياس" و"طبرية". وأنه على اثني عشر ميلا من طبرية مما يلي دمشق، وأنه قرب قرية يقال لها "سنجل أو سنجيل". قال قدامة: هي طريق البريد بين بعلبك وطبرية.
ووصفها المتأخرون بالضبط المأخوذ من الأوصاف التاريخية القديمة أنه الطريق الكبرى بين الشام ومصر. وكانت تجتاز الأردن تحت بحيرة طبرية وتمر على "دوثان" وكانت تسلكها قوافل العرب التي تحمل الأطياب إلى المشرق، وفي هذه الطريق جباب كثيرة في "دوثان". وجب يوسف معروف بين طبرية وصفد، بنيت عليه قبة في زمن الدولة الأيوبية بحسب التوسم وهي قائمة إلى الآن.
[16، 17] {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
{وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}.
عطف على جملة {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} [سورة يوسف: 15] عطف جزء القصة.
والعشاء: وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها.
والبكاء: خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر. وتقدم في قوله تعالى: [سورة التوبة: 82]. وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي. وإنما اصطنعوا البكاء تمويها على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف عليه السلام، ولعلهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد. ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة.
وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل
ولا تنوط بها حكما، وإنما يناط الحكم بالبينة.
جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها، فقيل له: أما تراها تبكي? فقال: قد جاء إخوة يوسف - عليه السلام - أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة كذبة. لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق. قال ابن العربي: قال علماؤنا: هذا يدل على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنعا. ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر.
قلت: ومن الأمثال "دموع الفاجر بيديه" وهذه عبرة في هذه العبرة.
والاستباق: افتعال من السبق وهو هنا بمعنى التسابق قال في "الكشاف": "والافتعال والتفاعل يشتركان كالانتضال والتناضل، والارتماء والترامي، أي فهو بمعنى المفاعلة. ولذلك يقال: السباق أيضا. كما يقال النضال والرماء". والمراد: الاستباق بالجري على الأرجل، وذلك من مرح الشباب ولعبهم.
والمتاع: ما يتمتع أي ينتفع به. وتقدم في قوله تعالى: {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} في سورة النساء [102]. والمراد به هنا ثقلهم من الثياب والآنية والزاد.
ومعنى {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} قتله وأكل منه، وفعل الأكل يتعلق باسم الشيء. والمراد بعضه. يقال أكله الأسد إذا أكل منه. قال تعالى: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [سورة المائدة: 3] عطفا على المنهيات عن أن يؤكل منها، أي بقتلها.
ومن كلام عمر حين طعنه أبو لؤلؤة "أكلني الكلب"، أي عضني.
والمراد بالذئب جمع من الذئاب على ما عرفت آنفا عند قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} [سورة يوسف: 13]؛ بحيث لم يترك الذئاب منه، ولذلك لم يقولوا فدفناه.
وقوله: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} خبر مستعمل في لازم الفائدة. وهو أن المتكلم علم بمضمون الخبر. وهو تعريض بأنهم صادقون فيما ادعوه لأنهم يعلمون أباهم لا يصدقهم فيه، فلم يكونوا طامعين بتصديقه إياهم.
وفعل الإيمان يعدى باللام إلى المصدق بفتح الدال كقوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [سورة العنكبوت: 26]. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} في سورة يونس [83].
وجملة {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} في موضع الحال فالواو واو الحال. {وَلَوْ} اتصالية، وهي تفيد أن مضمون ما بعدها هو أبعد الأحوال عن تحقق مضمون ما قبلها في ذلك الحال. والتقدير: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين في نفس الأمر، أي نحن نعلم انتفاء إيمانك لنا في الحالين فلا نطمع أن نموه عليك.
وليس يلزم تقدير شرط محذوف هو ضد الشرط المنطوق به لأن ذلك تقدير لمجرد التنبيه على جعل الواو للحال مع "لو وإن" الوصليتين وليس يستقيم ذلك التقدير في كل موضع، ألا ترى قول المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
كيف لا يستقيم تقدير إني إن كنت المتقدم زمانه بل وإن كنت الأخير زمانه، فشرط "لو" الوصلية و"إن" الوصلية ليس لهما مفهوم مخالفة، لأن الشرط معهما ليس للتقييد. وتقدم ذكر "لو" الوصلية عند قوله تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} في سورة البقرة[170]، وعند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً} في سورة آل عمران[91].
وجملة {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ} في موضع الحال. ولما كان الدم ملطخا به القميص وكانوا قد جاءوا مصاحبين للقميص فقد جاءوا بالدم على القميص.
ووصف الدم بالكذب وصف بالمصدر، والمصدر هنا بمعنى المفعول كالخلق بمعنى المخلوق، أي مكذوب كونه دم يوسف - عليه السلام - إذ هو دم جدي، فهو دم حقا لكنه ليس الدم المزعوم. ولا شك في أنهم لم يتركوا كيفية من كيفيات تمويه الدم وحالة القميص بحال قميص من يأكله الذئب من آثار تخريق وتمزيق مما لا تخلو عنه حالة افتراس الذئب، وأنهم أفطن من أن يفوتهم ذلك وهم عصبة لا يعزب عن مجموعهم مثل ذلك. فما قاله بعض أصحاب التفسير من أن يعقوب - عليه السلام - قال لأبنائه: ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني ولم يمزق قميصه، فذلك من تظرفات القصص.
وقوله: {عَلَى قَمِيصِهِ} حال من "دَمٍ" فقدم على صاحب الحال.
[18] {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
حرف الإضراب إبطال لدعواهم أن الذئب أكله فقد صرح لهم بكذبهم.
والتسويل: التسهيل وتزيين النفس ما تحرص على حصوله.
والإبهام الذي في كلمة {أَمْراً} يحتمل عدة أشياء مما يمكن أن يؤذوا به يوسف - عليه السلام -: من قتل، أو بيع، أو تغريب، لأنه لم يعلم تعيين ما فعلوه. وتكير {أَمْراً} للتهويل.
وفرع على ذلك إنشاء التصبر {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} نائب مناب اصبر صبرا جميلا. عدل به عن النصب إلى الرفع للدلالة على الثبات والدوام، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} في سورة هود[69]. ويكون ذلك اعتراضا في أثناء خطاب أبنائه، أو يكون تقدير: اصبر صبرا جميلا، على أنه خطاب لنفسه. ويجوز أن يكون {صَبْرٌ جَمِيلٌ} خبر مبتدأ محذوف دل عليه السياق، أي فأمري صبر. أو مبتدأ خبره محذوف كذلك. والمعنى على الإنشاء أوقع، وتقدم الصبر عند قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} في سورة البقرة [45].
ووصف {جَمِيلٌ} يحتمل أن يكون وصفا كاشفا إذ الصبر كله حسن دون الجزع. كما قال إبراهيم بن كنيف النبهاني:
تصبر فإن الصبر بالحر أجمل ... وليس على ريب الزمان معول
أي أجمل من الجزع.
ويحتمل أن يكون وصفا مخصصا. وقد فسر الصبر الجميل بالذي لا يخالطه جزع.
والجمال: حسن الشيء في صفات محاسن صنفه، فجمال الصبر أحسن أحواله، وهو أن لا يقارنه شيء يقلل خصائص ماهيته.
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: "اتقي الله واصبري"، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه فلما انصرف مر بها رجل، فقال لها: إنه النبي صلى الله عليه وسلم. فأتت باب النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: لم أعرفك يا رسول الله، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" ، أي الصبر الكامل.
وقوله: {وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} عطف على جملة {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} فتكون محتملة للمعنيين المذكورين من إنشاء الاستعانة أو الإخبار بحصول استعانته بالله على تحمل الصبر على ذلك، أو أراد الاستعانة بالله ليوسف - عليه السلام - على الخلاص مما أحاط به.
والتعبير عما أصاب يوسف - عليه السلام - ب {مَا تَصِفُونَ} في غاية البلاغة لأنه كان واثقا بأنهم كاذبون في الصفة وواثقا بأنهم ألحقوا بيوسف - عليه السلام - ضرا فلما لم يتعين عنده المصاب أجمل التعبير عنه إجمالا موجها لأنهم يحسبون أن ما يصفونه هو موته بأكل الذئب إياه ويعقوب - عليه السلام - يريد أن ما يصفونه هو المصاب الواقع الذي وصفوه وصفا كاذبا. فهو قريب من قوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [سورة الصافات: 180].
وإنما فوض يعقوب - عليه السلام - الأمر إلى الله ولم يسع للكشف عن مصير يوسف - عليه السلام - لأنه علم تعذر ذلك عليه لكبر سنه، ولأنه لا عضد له يستعين به على أبنائه أولئك. وقد صاروا هم الساعين في البعد بينه وبين يوسف عليه السلام، فأيس من استطاعة الكشف عن يوسف - عليه السلام - بدونهم، ألا ترى أنه لما وجد منهم فرصة قال لهم {اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [سورة يوسف: 87].
[19] {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
عطف على {وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ} [سورة يوسف: 16] عطف قصة على قصة. وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف - عليه السلام - والمعنى: وجاءت الجب.
و "السَّيَارَة" تقدم آنفا.
والوارد: الذي يرد الماء ليستقي للقوم.
والإدلاء: إرسال الدلو في البئر لنزع الماء.
والدلو: ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطويا على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو. والدلو مؤنثة.
وجملة {قَالَ يَا بُشْرَى} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن ذكر إدلاء الدلو يهيئ السامع للسؤال عما جرى حينئذ فيقع جوابه {قَالَ يَا بُشْرَى}.
والبشرى: تقدمت في قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} في سورة يونس [64].
ونداء البشرى مجاز، لأن البشرى لا تنادى، ولكنها شبهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له: هذا آن حضورك. ومنه: يا حسرتا، وياعجبا، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية.
والمعنى: أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام.
وقرأ الجمهور {يَا بُشْرَى} بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بدون إضافة.
واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف - عليه السلام -؛ خاطب الوارد بقية السيارة، ولم يكونوا يرون ذات يوسف - عليه السلام - حين أصعده الوارد من الجب، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام، فتعين أيضا أنهم لم يكونوا مشاهدين شيح يوسف - عليه السلام - حين ظهر من الجب، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معينة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصل شيء فرح به غير مترقب، كما يقول الصائد لرفاقه: هذا غزال وكما يقول الغائص: هذه صدفة أو لؤلؤة ويقول الحافر للبئر: هذا الماء قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه:
يقول راكبه الجني مرتفقا ... هذا لكن ولحم الشاة محجور
وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون. قال النابغة:
أو درة صدفاته غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد
والمعنى: وجدت في البئر غلاما، فهو لقطة، فيكون عبدا لمن التقطه. وذلك سبب ابتهاجه بقوله: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلامٌ}.
والغلام: من سنه بين العشر والعشرين. وكان سن يوسف - عليه السلام - يومئذ سبع عشرة سنة.
وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيلين كما في التوراة، أي أبناء إسماعيل ابن إبراهيم. وقيل: كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب.
ومعنى {أَسَرُّوهُ}. والضمير للسيارة لا محالة، أي أخفوا يوسف - عليه
السلام - أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردى في الجب، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت، وكان الشأن أن يعرفوا من كان قريبا من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللقطة، ولذلك كان قوله: {وَأَسَرُّوهُ} بأن يوسف - عليه السلام - أخبرهم بقصته، فأعرضوا عن ذلك طمعا في أن يبيعوه. وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين.
و {بِضَاعَةً} منصوب على الحال المقدرة من الضمير المنصوب في {أَسَرُّوهُ} ، أي جعلوه بضاعة. والبضاعة: عروض التجارة ومتاعها، أي عزموا على بيعه.
وجملة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} معترضة، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حق في استرقاقه، ومن كان حقه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم، لأنهم قد علموا خبره، أو كان من حقهم أن يسألوه لأنه كان مستطيعا أن يخبرهم بخبره.
وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف - عليه السلام - آية من لطف الله به.
[20] {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}.
معنى {شَرَوْهُ} باعوه. يقال: شرى كما يقال: باع، ويقال: اشترى كما يقال: ابتاع. ومثلهما رهن وارتهن، وعاوض واعتاض، وكرى واكترى.
والأصل في ذلك وأمثاله أن الفعل للحدث والافتعال لمطاوعة الحدث.
ومن فسر {شَرَوْهُ} باشتروه أخطأ خطأ أوقعه فيه سوء تأويل قوله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ}. وما ادعاه بعض أهل اللغة أن شرى واشترى مترادفان في معنييهما يغلب على ظني أنه وهم إذ لا دليل يدل عليه.
والبخس: أصله مصدر بخسه إذا نقصه عن قيمة شيئه. وهو هنا بمعنى المبخوس كالخلق بمعنى المخلوق. وتقدم فعل البخس عند قوله تعالى: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} في سورة البقرة [282].
و {دَرَاهِمَ} بدل من {ثَمَنٍ} وهي جمع درهم، وهو المسكوك. وهو معرب عن الفارسية كما في "صحاح الجوهري".
وقد أغفله الذين جمعوا ما هو معرب في القرآن كالسيوطي في "الإتقان".
و {مَعْدُودَةٍ} كناية عن كونها قليلة لأن الشيء القليل يسهل عدة فإذا كثر صار تقديره بالوزن أو الكيل. ويقال في الكناية عن الكثرة: لا يعد.
وضمائر الجمع كلها للسيارة على أصح التفاسير.
والزهادة: قلة الرغبة في حصول الشيء الذي من شأنه أن يرغب فيه، أو قلة الرغبة في عوضه كما هنا، أي كان السيارة غير راغبين في إغلاء ثمن يوسف عليه السلام. ولعل سبب ذلك قلة معرفتهم بالأسعار.
وصوغ الإخبار عن زهادتهم فيه بصيغة {مِنَ الزَّاهِدِينَ} أشد مبالغة مما لو أخبر بكانوا فيه زاهدين، لأن جعلهم من فريق زاهدين ينبي بأنهم جروا في زهدهم في أمثاله على سنن أمثالهم البسطاء الذين لا يقدرون قدر نفائس الأمور.
و {فِيهِ} متعلق ب {الزَّاهِدِينَ} و"أل" حرف لتعريف الجنس، وليست اسم موصول خلافا لأكثر النحاة الذين يجعلون "أل" الداخلة على الأسماء المشتقة اسم موصول ما لم يتحقق عهد وتمسكوا بعلل واهية وخالفهم الأخفش والمازني.
وتقديم المجرور على عامله للتنويه بشأن المزهود فيه، وللتنبيه على ضغف توسمهم وبصارتهم مع الرعاية على الفاصلة.
[21] { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً}.
{الَّذِي اشْتَرَاهُ} مراد منه الذي دفع الثمن فملكه وإن كان لم يتول الاشتراء بنفسه، فإن فعل الاشتراء لا يدل إلا على دفع العوض، بحيث إن إسناد الاشتراء لمن يتولى إعطاء الثمن وتسلم المبيع إذا لم يكن هو مالك الثمن ومالك المبيع يكون إسنادا مجازيا، ولذلك يكتب الموثقون في مثل هذا أن شراءه لفلان.
والذي اشترى يوسف - عليه السلام - رجل اسمه "فوطيفار" رئيس شرط ملك مصر، وهو والي مدينة مصر، ولقب في هذه السورة بالعزيز، وسيأتي.
ومدينة مصر هي "منفيس" ويقال "منف" وهي قاعدة مصر السفلى التي يحكمها
قبائل من الكنعانيين عرفوا عند القبط باسم "الهيكوس" أي الرعاة. وكانت مصر العليا المعروفة اليوم بالصعيد تحت حكم فراعنة القبط. وكانت مدينتها ثيبة أو طيبة، وهي اليوم خراب وموضعها يسمى الأقصر، جمع قصر، لأن بها أطلال القصور القديمة، أي الهياكل. وكانت حكومة مصر العليا أيامئذ مستضعفة لغلبة الكنعانيين على معظم القطر وأجوده.
وامرأته تسمى في كتب العرب "زليخا" - بفتح الزاي وكسر اللام وقصر آخره - وسماها اليهود "راعيل". و من {مِصْرَ} صفة ل {الَّذِي اشْتَرَاهُ}.
و {لِامْرَأَتِهِ} متعلق ب {قَالَ} أو ب {اشْتَرَاهُ} أو يتنازعه كلا الفعلين، فيكون اشتراه ليهبه لها لتتخذه ولدا. وهذا يقتضي أنهما لم يكن لهما ولد.
وامرأته: معناه زوجه، فإن الزوجة يطلق عليها اسم المرأة ويراد منه معنى الزوجة. وقد تقدم عند قواه تعالى {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} [سورة هود: 71]
والمثوى: حقيقته المحل الذي يثوي المرء، أي يرجع إليه. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ} في سورة الأنعام[128]. وهو هنا كناية عن حال الإقامة عندهما لأن المرء يثوى إلى منزل إقامته.
فالمعنى: اجعلي إقامته عندك كريمة، أي كاملة في نوعها. أراد أن يجعل الإحسان إليه سببا في اجتلاب محبته إياهما ونصحه لهما فينفعهما، أو يتخذانه ولدا فيبر بهما وذلك أشد تقريبا. ولعله كان آيسا من ولادة زوجه. وإنما قال ذلك لحسن تفرسه في ملامح يوسف - عليه السلام - المؤذنة بالكمال، وكيف لا يكون رجلا ذا فراسة وقد جعله الملك شرطته، فقد كان الملوك أهل حذر فلا يولون أمورهم غير الأكفاء.
{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
إن أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن كقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة[143] كانت الإشارة إلى التمكين المستفاد من {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} تنويها بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا أن يشبه بنفسه على نحو قول النابغة:
والسفاهة كاسمها
فيكون الكاف في محل نصب على المفعول المطلق. والتقدير: مكنا ليوسف تمكينا كذلك التمكين.
وإن أجرينا على ما يحتمله اللفظ كانت لحاصل المذكور آنفا، وهو ما يفيده عثور السيارة عليه من أنه إنجاء له عجيب الحصول بمصادقة عدم الإسراع بانتشاله من الجب، أي مكنا ليوسف - عليه السلام - تمكينا من صنعنا مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من {مَكَّنَّا}. ونظيره {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في سورة الأنعام [108].
والتمكين في الأرض هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه، فيوسف - عليه السلام - بحلوله محل العناية من عزيز مصر قد خط له مستقبل تمكينه من الأرض بالوجه الأتم الذي أشير له بقوله تعالى بعد {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} [سورة يوسف: 56]، فما ذكر هنالك هو كرد العجز على الصدر مما هنا، وهو تمامه.
وعطف على {وَكَذَلِكَ} علة لمعنى مستفاد من الكلام، وهو الإيتاء، تلك العلة هي {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} لأن الله لما قدر في سابق علمه أن يجعل يوسف - عليه السلام - عالما بتأويل الرؤيا وأن يجعله نبيا أنجاه من الهلاك، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله.
وتقدم معنى تأويل الأحاديث آنفا عند ذكر قول أبيه له: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [سورة يوسف: 6] أي تعبير الرؤيا.
وجملة {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} معترضة في آخر الكلام، وتذييل، لأن مفهومها عام يشمل غلب الله إخوة يوسف - عليه السلام - بإبطال كيدهم، وضمير {أَمْرِهِ} عائد لاسم الجلالة.
وحرف {عَلَى} بعد مادة الغلب ونحوها يدخل على الشيء الذي يتوقع فيه النزاع، كقولهم: غلبناهم على الماء.
و {أَمْرُ اللَّهِ} هو ما قدره وأراده، فمن سعى إلى عمل يخالف ما أراده الله فحاله كحال المنازع على أن يحقق الأمر الذي أراده ويمنع حصول مراد الله تعالى ولا يكون إلا ما أراده الله تعالى فشأن الله تعالى كحال الغالب لمنازعه. والمعنى والله متمم ما قدره، ولذلك عقبه بالاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} استدراكا على ما يقتضيه
هذا الحكم من كونه حقيقة ثابتة شأنها أن لا تجهل لأن عليها شواهد من أحوال الحدثان، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك مع ظهوره.
[22] {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
هذا إخبار عن اصطفاء يوسف - عليه السلام - للنبوة. ذكر هنا في ذكر مبدإ حلوله بمصر لمناسبة ذكر منة الله عليه بتمكينه في الأرض وتعليمه تأويل الأحاديث.
والأشد: القوة. وفسر ببلوغه ما بين خمس وثلاثين سنة إلى أربعين.
والحكم والحكمة مترادفان، وهو: علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح واجتناب ضده. وأريد به هنا النبوة كما في قوله تعالى في ذكر داود وسليمان عليهما السلام {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [سورة الأنبياء: 79]. والمراد بالعلم علم زائد على النبوة.
وتنكير {عِلْماً} للنوعية، أو للتعظيم. والمراد: علم تعبير الرؤيا، كما سيأتي في قوله تعالى عنه: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي} [سورة يوسف: 37].
وقال فخر الدين: الحكم: الحكمة العملية لأنها حكم على هدى النفس. والعلم: الحكمة النظرية.
والقول في {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} كالقول في نظيره، وتقدم عند قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
وفي ذكر {الْمُحْسِنِينَ} إيماء إلى أن إحسانه هو سبب جزائه بتلك النعمة.
وفي هذا دبره الله تعالى تصريح بآية من الآيات التي كانت في يوسف - عليه السلام - وإخوته.
[23 - 29] {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ
مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ}.
عطف قصة على قصة، فلا يلزم أن تكون هذه القصة حاصلة في الوجود بعد التي قبلها. وقد كان هذا الحادث قبل إيتائه النبوة لأن إيتاء النبوة غلب أن يكون في سن الأربعين. والأظهر أنه أوتي النبوة والرسالة بعد دخول أهله إلى مصر وبعد وفاة أبيه. وقد تعرضت الآيات لتقرير ثبات يوسف - عليه السلام - على العفاف والوفاء وكرم الخلق.
فالمراودة المقتضية تكرير المحاولة بصيغة المفاعلة، والمفاعلة مستعملة في التكرير. وقيل: المفاعلة تقديرية بأن اعتبر العمل من جانب والممانعة من الجانب الآخر من العمل بمنزلة مقابلة العمل بمثله. والمراودة: مشتقة من راد يرود، إذا جاء وذهب. شبه حال المحاول أحدا على فعل شيء مكررا ذلك بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه، فأطلق راود بمعنى حاول.
و {عَنْ} للمجاوزة، أي راودته مباعدة له عن نفسه، أي بأن يجعل نفسه لها. والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، قاله ابن عطية، أي فالنفس أريد بها عفافه وتمكينها منه لما تريد، فكأنها تراوده عن أن يسلم إليها إرادته وحكمه في نفسه.
وأما تعديته ب"على" فذلك إلى الشيء المطلوب حصوله. ووقع في قول أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم يراود عمه أبا طالب على الإسلام: وفي حديث الإسراء "فقال له موسى: "قد راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه".
والتعبير عن امرأة العزيز بطريق الموصولية في قوله: {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} لقصد ما تؤذن به الصلة من تقرير عصمة يوسف - عليه السلام - لأن كونه في بيتها من شأنه أن يطوعه لمرادها.
و {بَيْتِهَا} بيت سكناها الذي تبيت فيه. فمعنى {هُوَ فِي بَيْتِهَا} أنه كان حينئذ في البيت الذي هي به، ويجوز أن يكون المراد بالبيت المنزل كله، وهو قصر العزيز. ومنه قولهم: ربة البيت، أي زوجة صاحب الدار ويكون معنى {هُوَ فِي بَيْتِهَا} أنه من جملة أتباع ذلك المنزل.
وغلق الأبواب: جعل كل باب سادا للفرجة التي هو بها.
وتضعيف {وَغَلَّقَتِ} لإفادة شدة الفعل وقوته، أي أغلقت إغلاقا محكما.
والأبواب: جمع باب. وتقدم في قوله تعالى: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [سورة المائدة: 23].
و{هَيْتَ} اسم فعل أمر بمعنى بادر. قيل أصلها من اللغة الحورانية، وهي نبطية. وقيل: هي من اللغة العبرانية.
واللام في {لَكَ} لزيادة بيان المقصود بالخطاب، كما في قولهم: سقيا لك وشكرا لك. وأصله: هيتك. ويظهر أنها طلبت منه أمرا كان غير بدع في قصورهم بأن تستمع المرأة بعبدها كما يستمع الرجل بأمته، ولذلك لم تتقدم إليه من قبل بترغيب بل ابتدأته بالتمكين من نفسها. وسيأتي لهذا ما يزيده بيانا عند قوله تعالى: {قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً}.
وفي {هَيْتَ} لغات. قرأ نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبة جعفر بكسر الهاء وفتح المثناة الفوقية. وقرأه ابن كثير بفتح الهاء وسكون التحتية وضم الفوقية. وقرأه الباقون بفتح الهاء وسكون التحتية وضم التاء الفوقية، والفتحة والضمة حركتا بناء.
و {مَعَاذَ} مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله. وأصله: أعوذ عوذا بالله، أي أعتصم به مما تحاولين. وسيأتي بيانه عند قوله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ} في هذه السورة.
و"إن" مفيدة تعليل ما أفاده {مَعَاذَ اللَّهِ} من الامتناع والاعتصام منه بالله المقتضي أن الله أمر بذلك الاعتصام.
وضمير {إِنَّهُ} يجوز أن يعود إلى اسم الجلالة، ويكون {رَبِّي} بمعنى خالقي. ويجوز أن يعود إلى معلوم من المقام وهو زوجها الذي لا يرضى بأن يسمها غيره، فهو معلوم بدلالة العرف، ويكون {رَبِّي} بمعنى سيدي ومالكي.
وهذا من الكلام الموجه توجيها بليغا حكي به كلام يوسف عليه السلام، إما لأن يوسف - عليه السلام - أتى بمثل هذا التركيب في لغة القبط، وإما لأنه أتى بتركيبين عذرين لامتناعه فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه.
وأياما كان فالكلام تعليل لامتناعه وتعريض بها في خيانة عهدها.
وفي هذا الكلام عبرة عظيمة من العفاف والتقوى وعصمة الأنبياء قبل النبوة من الكبائر.
وذكر وصف الرب على الاحتمالين لما يؤذن به من وجوب طاعته وشكره على نعمة الإيجاد بالنسبة إلى الله، ونعمة التربية بالنسبة لمولاه العزيز.
وأكد ذلك بوصفه بجملة {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} ، أي جعل آخرتي حسنى، إذ أنقذني من الهلاك، أو أكرم كفالتي. وتقدم آنفا تفسير المثوى.
وجملة {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} تعليل ثان للامتناع. والضمير المجعول اسما ل"إن" ضمير الشأن يفيد أهمية الجملة المجعولة خبرا عنه لأنها موعظة جامعة. وأشار إلى أن إجابتها لما راودته ظلم، لأن فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان علة أنها كبيرة، وظلم سيده الذي آمنه على بيته وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجا وأحصنها.
والهم: العزم على الفعل. وتقدم عند قوله تعالى: {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} في سورة براءة. وأكد همها ب {قَدْ} ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزما محققا.
وجملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا. والمقصود: أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة. والمقصود من ذكر همها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم.
وجملة {لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوفة على جملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} كلها. وليست معطوفة على جملة {هَمَّتْ} التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام، لأنه لما أردفت جملة {وهَمَّ بِهَا} بجملة شرط {لَوْلاَ} المتمحض لكونه من أحوال يوسف - عليه السلام - وحده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها. فالتقدير: ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به. ولم يقرن الجواب باللام التي يكثر اقتران جواب {لَوْلاَ} بها لأنه ليس لازما ولأنه لما قدم على {لَوْلاَ} كره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط، فيحسن الوقف على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} ليظهر معنى الابتداء بجملة {وهم بها} واضحا. وبذلك يظهر أن يوسف - عليه السلام - لم يخالطه هم بامرأة
العزيز لآن الله عصمه من الهم بالمعصية بما أراه من البرهان.
قال أبو حاتم: كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} الآية قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط، كأنه قال: ولقد همت به ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها.
وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب {لَوْلا} لا يتقدم عليها. ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب {لَوْلا} ، على أنه قد يجعل المذكور قبل {لَوْلا} دليلا للجواب والجواب محذوفا لدلالة ما قبل {لَوْلا} عليه. ولا مفر من ذلك على كل تقدير فإن {لَوْلا} وشرطها تقييد لقوله: {وَهَمَّ بِهَا} على جميع التأويلات، فما يقدر من الجواب يقدر على جميع التأويلات.
وقال جماعة: هم يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكف على ذلك لما رأى برهان ربه. قاله ابن عباس، وقتادة، وابن أبي مليكة، وثعلب. وبيان هذا أنه انصرف عما هم به بحفظ الله أو بعصمته، والهم بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوة، وهو قول الجمهور، وفيه خلاف، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف. وقال جماعة: هم يوسف وأخذ في التهيؤ لذلك فرأى برهانا صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك. وهذا قول السدي، ورواية عن ابن عباس. وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله.
وقد خبط صاحب "الكشاف" في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجبرة، وهو يعني الأشاعرة، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التأويلات "رمتني بدائها وانسلت" ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف - عليه السلام - قتله والقتل أشد.
والرؤية: هنا علمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر.
والبرهان: الحجة. وهذا البرهان من جملته صرفه عن الهم بها، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهم بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفر دواعي الهم من حسنها، ورغبتها فيه، واغتباط أمثاله بطاعتها، والقرب منها. ودواعي الشباب المسولة لذلك، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهم بها دون شيء آخر.
واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية
قبحت له هذا الفعل، وقيل: هو وحي إلهي، وقيل: حفظ إلهي، وقيل: مشاهدات تمثلت له.
والإشارة في قوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} إلى شيء مفهوم مما قبله يتضمنه قوله: {رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، وهو رأي البرهان، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء.
والصرف: نقل الشيء من مكان إلى مكان، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه. عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئا. والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه.
والسوء: القبيح، وهو خيانة من ائتمنه. والفحشاء: المعصية، وهي الزنى. وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في سورة البقرة[169]. ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما.
وجملة {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاه الله إياه في هذه الشدة على النفس.
قرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، وخلف {الْمُخْلَصِينَ} بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله. ومعنى التعليل على القراءتين واحد.
والاستباق: افتعال من السبق. وتقدم آنفا، وهو هنا إشارة إلى تكلفهما السبق، أي أن كل واحد منهما يحاول أن يكون هو السابق إلى الباب.
وانتصب {البَابَ} على نزع الخافض. وأصله: واستبقا إلى الباب، مثل {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً} [سورة الأعراف: 155]، أي من قومه، أو على تضمين {اسْتَبَقَا} معنى ابتدرا.
والتعريف في {الْبَابَ} تعريف الجنس إذ كانت عدة أبواب مغلقة. وذلك أن يوسف - عليه السلام - فر من مراودتها إلى "الباب" يريد فتحه والخروج وهي تريد أن تسبقه إلى الباب لتمنعه من فتحه.
وجملة {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ} في موضع الحال. و {قدت} أي قطعت، أي قطعت منه قدا، وذلك قبل الاستباق لا محالة. لأنه لو كان تمزيق القميص في حال الاستباق لم تكن فيه قرينة على صدق يوسف - عليه السلام - أنها راودته، إذ لا يدل التمزيق في حال الاستباق على أكثر من أن يوسف - عليه السلام - سبقها مسرعا إلى الباب، فدل على أنها أمسكته من قميصه حين أعرض عنها تريد إكراهه على ما راودته فجذب نفسه فتخرق القميص من شدة الجذبة. وكان قطع القميص من دبر لأنه كان موليا عنها معرضا فأمسكته منه لرده عن إعراضه.
وقد أبدع إيجاز الآية في جمع هذه المعاني تحت جملة {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ}.
وصادف أن ألفيا سيدها، أي زوجها، وهو العزيز، عند الباب الخارجي يريد الدخول إلى البيت من الباب الخارجي. وإطلاق السيد على الزوج قيل: إن القرآن حكى به عادة القبط حينئذ، كانوا يدعون الزوج سيدا. والظاهر أنه لم يكن ذلك مستعملا في عادة العرب، فالتعبير به هنا من دقائق التاريخ مثل قوله الآتي {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [سورة يوسف: 76]. ولعل الزواج في مصر في ذلك العهد كان بطريق الملك غالبا. وقد علم من الكلام أن يوسف - عليه السلام - فتح الأبواب التي غلقتها زليخا بابا بابا حتى بلغ الخارجي، كل ذلك في حال استباقهما، وهو إيجاز.
والإلفاء: وجدان شيء على حالة خاصة من غير سعي لوجدانه، فالأكثر أن يكون مفاجئا، أو حاصلا عن جهل بأول حصول، كقوله تعالى: {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [سورة البقرة: 170].
وجملة {قَالَتْ مَا جَزَاءُ} الخ مستأنفة بيانيا، لأن السامع يسأل: ماذا حدث عند مفاجأة سيدها وهما في تلك الحالة.
وابتدرته بالكلام إمعانا في البهتان بحيث لم تتلعثم، تخيل له أنها على الحق، وأفرغت الكلام في قالب كلي ليأخذ صيغة القانون، وليكون قاعدة لا يعرف المقصود منها فلا يسع المخاطب إلا الإقرار لها. ولعلها كانت تخشى أن تكون محبة العزيز ليوسف - عليه السلام - مانعة له من عقابه، فأفرغت كلامها في قالب كلي. وكانت تريد بذلك أن لا يشعر زوجها بأنها تهوى غير سيدها، وأن تخيف يوسف - عليه السلام - من كيدها لئلا يمتنع منها مرة أخرى.
ورددت يوسف - عليه السلام - بين صنفين من العقاب، وهما: السجن، أي الحبس. وكان الحبس عقابا قديما في ذلك العصر، واستمر إلى زمن موسى عليه السلام، فقد قال فرعون لموسى - عليه السلام - {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.
وأما العذاب فهو أنواع، وهو عقاب أقدم في اصطلاح البشر. ومنه الضرب والإيلام بالنار وبقطع الأعضاء. وسيأتي ذكر السجن في هذه السورة مرارا.
وجملة {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} من قول يوسف - عليه السلام - وفصلت لأنها جاءت على طريقة المحاورة مع كلامها. ومخالفة التعبير بين {أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ} دون أن يقول: إلا السجن أو عذاب، لأن لفظ السجن يطلق على البيت الذي يوضع فيه المسجون ويطلق على مصدر سجن، فقوله: {أَنْ يُسْجَنَ} أوضح في تسلط معنى الفعل عليه.
وتقديم المبتدأ على خبره الذي هو فعل يفيد القصر، وهو قصر قلب للرد عليها. وكان مع العزيز رجل من أهل امرأته، وهو الذي شهد وكان فطنا عارفا بوجوه الدلالة.
وسمي قوله شهادة لأنه يؤول إلى إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف - عليه السلام - على سيدته أو دحضه. وهذا من القضاء بالقرينة البينة لأنها لو كانت أمسكت ثوبه لأجل القبض عليه لعقابه لكان ذلك في حال استقباله له إياها فإذا أراد الانفلات منها تخرق قميصه من قبل، وبالعكس إن كان إمساكه في حال فرار وإعراض. ولا شك أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص تحاول أن تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه، ولولا ذلك ما خطر ببال المشاهد أن تمزيقا وقع وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص. والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلا على صدقها فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف - عليه السلام -.
وجملة {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} مبينة لفعل {شَهِدَ}.
وزيادة {وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} بعد {فَصَدَقَتْ} ، وزيادة {وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} بعد {فَكَذَبَتْ} تأكيد لزيادة تقرير الحق كما هو شأن الأحكام.
وأدوات الشرط لا تدل على أكثر من الربط والتسبب بين مضمون شرطها ومضمون جوابها من دون تقييد باستقبال ولا مضي. فمعنى {إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ}
وما بعدها: أنه إن كان ذلك حصل في الماضي فقد حصل صدقها في الماضي.
والذي رأى قميصه قد من دبر وقال: إنه من كيدكن، هو العزيز لا محالة. وقد استبان لديه براءة يوسف - عليه السلام - من الاعتداء على المرأة فاكتفى بلوم زوجه بأن ادعاءها عليه من كيد النساء؛ فضمير جمع الإناث خطاب لها فدخل فيه من هن من صنفها بتنزيلهن منزلة الحواضر.
والكيد: فعل شيء في صورة غير المقصودة للتوصل إلى مقصود. وقد تقدم عند قوله تعالى: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} في سورة الأعراف[183].
ثم أمر يوسف - عليه السلام - بالإعراض عما رمته به، أي عدم مؤاخذتها بذلك، وبالكف عن إعادة الخوض فيه. وأمر زوجه بالاستغفار من ذنبها، أي في اتهامها يوسف - عليه السلام - بالجرأة والاعتداء عليها.
قال المفسرون: وكان العزيز قليل الغيرة. وقيل: كان حليما عاقلا. ولعله كان مولعا بها، أو كانت شبهة الملك تخفف مؤاخذة المرأة بمراودة مملوكها. وهو الذي يؤذن به حال مراودتها يوسف - عليه السلام - حين بادرته بقولها: {هِيتَ لَكَ} كما تقدم آنفا.
والخاطئ: فاعل الخطيئة، وهي الجريمة. وجعلها من زمرة الذين خطئوا تخفيفا في مؤاخذتها. وصيغة جمع المذكر تغليب.
وجملة {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} من قول العزيز إذ هو صاحب الحكم.
وجملة {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} عطف على جملة {يُوسُفُ أَعْرِضْ} في كلام العزيز عطف أمر على أمر والمأمور مختلف. وكاف المؤنثة المخاطبة متعين أنه خطاب لامرأة العزيز، فالعزيز بعد أن خاطبها بأن ما دبرته هو من كيد النساء وجه الخطاب إلى يوسف - عليه السلام - بالنداء ثم أعاد الخطاب إلى المرأة.
وهذا الأسلوب من الخطاب يسمى بالإقبال، وقد يسمى بالالتفات بالمعنى اللغوي عند الالتفات البلاغي، وهو عزيز في الكلام البليغ. ومنه قول الجرمي من طي من شعراء الحماسة:
إخالك موعدي ببني جفيف ... وهالة إنني أنهاك هالا
قال المرزوقي في "شرح الحماسة": والعرب تجمع في الخطاب والإخبار بين عدة
ثم تقبل أو تلتفت من بينهم إلى واحد لكونه أكبرهم أو أحسنهم سماعا وأخصهم بالحال.
[30] {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
النسوة: اسم جمع امرأة لا مفرد له، وهو اسم جمع قلة مثله نساء. وتقدم في قوله تعالى: {وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} في سورة آل عمران[61].
وقوله: {فِي الْمَدِينَةِ} صفة لنسوة. والمقصود من ذكر هذه الصفة أنهن كن متفرقات في ديار من المدينة. وهذه المدينة هي قاعدة مصر السفلى وهي مدينة "منفيس" حيث كان قصر العزيز، فنقل الخبر في بيوت المتصلين ببيت العزيز. وقيل: إن امرأة العزيز باحت بالسر لبعض خلائلها فأفشينه كأنها أرادت التشاور معهن، أو أرادت الارتياح بالحديث إليهن "ومن أحب شيئا أكثر من ذكره". وهذا الذي يقتضيه قوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً} [سورة يوسف: 31] وقوله: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ} [سورة يوسف: 32].
والفتى: الذي في سن الشباب، ويكنى به عن المملوك وعن الخادم كما يكنى بالغلام والجارية وهو المراد هنا. وإضافته إلى ضمير {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} لأنه غلام زوجها فهو غلام لها بالتبع ما دامت زوجة لمالكه.
وشغف: فعل مشتق من اسم جامد، وهو الشغاف بكسر الشين المعجمة وهو غلاف القلب. وهذا الفعل مثل كبده ورآه وجبهه، إذا أصاب كبده ورئته وجبهته.
والضمير المستتر في {شَغَفَهَا} ل {فَتَاهَا}. ولما فيه من الإجمال جيء بالتمييز للنسبة بقوله: {حُبّاً}. وأصله شغفها حبه، أي أصاب حبه شغافها، أي اخترق الشغاف فبلغ القلب، كناية عن التمكن.
وتذكير الفعل في {وَقَالَ نِسْوَةٌ} لأن الفعل المسند إلى ألفاظ الجموع غير الجمع المذكر السالم يجوز تجريده من التاء باعتبار الجمع، وقرنه بالتاء باعتبار الجماعة مثل {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [سورة يوسف: 19].
وأما الهاء التي في آخر {نِسْوَةٌ} فليست علامة تأنيث بل هي هاء فعلة جمع تكسير، مثل صبية وغلمة.
وقد تقدم وجه تسمية الذي اشترى يوسف - عليه السلام - باسم العزيز عند قوله
تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ} [سورة يوسف: 21]. وتقدم ذكر اسمه واسمها في العربية وفي العبرانية.
ومجيء {تُرَاوِدُ} بصيغة المضارع مع كون المراودة مضت لقصد استحضار الحالة العجيبة لقصد الإنكار عليها في أنفسهن ولومها على صنيعها. ونظيره في استحضار الحالة قوله تعالى: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [سورة هود: 74].
وجملة {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} في موضع التعليل لجملة {تُرَاوِدُ فَتَاهَا}.
وجملة {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} استئناف ابتدائي لإظهار اللوم والإنكار عليها. والتأكيد ب"إن" واللام لتحقيق اعتقادهن ذلك، وإبعادا لتهمتهن بأنهن يحسدنها على ذلك الفتى.
والضلال هنا: مخالفة طريق الصواب، أي هي مفتونة العقل بحب هذا الفتى، وليس المراد الضلال الديني. وهذا كقوله تعالى آنفا {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.
[31، 32] {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
حق سمع أن يعدى إلى المسموع بنفسه، فتعديته بالباء هنا إما لأنه ضمن معنى أخبرت، كقول المثل: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه أي تخبر عنه. وإما أن تكون الباء مزيدة للتوكيد مثل قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [سورة المائدة: 6]. وأطلق على كلامهن اسم المكر، قيل: لأنهن أردن بذلك أن يبلغ قولهن إليهما فيغريها بعرضها يوسف - عليه السلام - عليهن فيرين جماله لأنهن أحببن أن يرينه. وقيل: لأنهن قلنه خفية فأشبه المكر، ويجوز أن يكون أطلق على قولهن اسم المكر لأنهن قلنه في صورة الإنكار وهن يضمرن حسدها على اقتناء مثله، إذ يجوز أن يكون الشغف بالعبد في عادتهم غير منكر.
{وَأَعْتَدَتْ} : أصله أعددت، أبدلت الدال الأولى تاء، كما تقدم عند قوله تعالى:
{وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} في سورة النساء[37].
والمتكأ: محل الاتكاء. والاتكاء: جلسة قريبة من الاضطجاع على الجنب مع انتصاب قليل في النصف الأعلى. وإنما يكون الاتكاء إذا أريد إطالة المكث والاستراحة، أي أحضرت لهن نمارق يتكئن عليها لتناول طعام. وكان أهل الترف يأكلون متكئين كما كانت عادة للرومان، ولم تزل أسرة اتكائهم موجودة في ديار الآثار. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أنا فلا آكل متكئا".
ومعنى {آتَتْ} أمرت خدمها بالإيتاء كقوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} [سورة غافر: 36].
والسكين: آلة قطع اللحم وغيره. قيل: أحضرت لهن أترجا وموزا فحضرن واتكأن، وقد حذف هذان الفعلان إيجازا. وأعطت كل واحدة سكينا لقشر الثمار.
وقولها {اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ} يقتضي أنه كان في بيت آخر وكان لا يدخل عليها إلا بإذنها. وعدي فعل الخروج بحرف "على" لأنه ضمن معنى "أُدخل" لأن المقصود دخوله عليهن لا مجرد خروجه من البيت الذي هو فيه.
ومعنى {أَكْبَرْنَهُ} أعظمنه، أي أعظمن جماله وشمائله، فالهمزة فيه للعد، أي أعددته كبيرا. وأطلق الكبر على عظيم الصفات تشبيها لوفرة الصفات بعظم الذات.
وتقطيع أيديهن كان من الذهول. أي أجرين السكاكين على أيديهن يحسبن أنهن يقطعن الفواكه. وأريد بالقطع الجرح، أطلق عليه القطع مجازا للمبالغة في شدته حتى كأنه قطع قطعة من لحم اليد.
و {حَاشَ لِلَّهِ} تركيب عربي جرى مجرى المثل يراد منه إبطال شيء عن شيء وبراءته منه. وأصل "حاشا" فعل يدل على المباعدة عن شيء، ثم يعامل معاملة الحرف فيجر به في الاستثناء فيقتصر عليه تارة. وقد يوصل به اسم الجلالة فيصير كاليمين على النفي يقال: حاشا الله، أي أحاشيه عن أن يكذب، كما يقال: لا أقسم. وقد تزاد فيه لام الجر فيقال: حاشا لله وحاش لله، بحذف الألف، أي حاشا لأجله، أي لخوفه أن أكذب. حكي بهذا التركيب كلام قالته النسوة يدل على هذا المعنى في لغة القبط حكاية بالمعنى.
وقرأ أبو عمرو"حاشا لله" بإثبات ألف حاشا في الوصل. وقرأ البقية بحذفها فيه. واتفقوا على الحذف في حالة الوقف.
وقولهن: {مَا هَذَا بَشَراً} مبالغة في فونه محاسن البشر، فمعناه التفضيل في محاسن البشر، وهو ضد معنى التشابه في باب التشبيه.
ثم شبهنه بواحد من الملائكة بطريقة حصره في جنس الملائكة تشبيها بليغا مؤكدا. وكان القبط يعتقدون وجود موجودات علوية هي من جنس الأرواح العلوية، ويعبرون عنها بالآلهة أو قضاة يوم الجزاء، ويجعلون لها صورا، ولعلهم كانوا يتوخون أن تكون ذواتا حسنة. ومنها ما هي مدافعة عن الميت يوم الجزاء. فأطلق في الآية اسم الملك على ما كانت حقيقته مماثلة لحقيقة مسمى الملك في اللغة العربية تقريبا لأفهام السامعين.
فهذا التشبيه من تشبيه المحسوس بالمتخيل، كقول امرئ القيس:
ومسنونة زرق كأنياب أغوال
والفاء في {فَذَلِكُنَّ} فاء الفصيحة، أي أن كان هذا كما زعمتن ملكا فهو الذي بلغكن خبره فلمتنني فيه.
و {لُمْتُنَّنِي فِيه} "في" للتعليل، مثل "دخلت امرأة النار في هرة". وهنالك مضاف محذوف، والتقدير: في شأنه أو في محبته.
والإشارة ب"ذَلِكُنَّ" لتمييز يوسف عليه السلام، إذ كن لم يرينه قبل. والتعبير عنه بالموصولية لعدم علم النسوة بشيء من معرفاته غير تلك الصلة، وقد باحت لهن بأنها راودته لأنها رأت منهن الافتنان به فعلمت أنهن قد عذرنها. والظاهر أنهن كن خلائل لها فلم تكتم عنهن أمرها.
واستعصم: مبالغة في عصم نفسه، فالسين والتاء للمبالغة، مثل: استمسك واستجمع الرأي واستجاب. فالمعنى: أنه امتنع امتناع معصوم، أي جاعلا المراودة خطيئة عصم نفسه منها.
ولم تزل مصممة على مراودته تصريحا بفرط حبها إياه، واستشماخا بعظمتها، وأن لا يعصي أمرها، فأكدت حصول سجنه بنوني التوكيد، وقد قالت ذلك بمسمع منه إرهابا له.
وحذف عائد صلة {مَا آمُرُهُ} وهو ضمير مجرور بالباء على نزع الخافض مثل: أمرتك الخير...
والسجن - بفتح السين -: قياس مصدر سجنه، بمعنى الحبس في مكان محيط لا يخرج منه. ولم أره في كلامهم - بفتح السين - إلا في قراءة يعقوب هذه الآية. والسجن - بكسر السين -: اسم للبيت الذي يسجن فيه، كأنهم سموه بصيغة المفعول كالذبح وأرادوا المسجون فيه. وقد تقدم قولها آنفا {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة يوسف: 25].
والصاغر: الذليل. وتركيب {مِنَ الصَّاغِرِينَ} أقوى في معنى الوصف بالصغار من أن يقال: وليكونن صاغرا، كما تقدم عند قوله تعالى: {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في سورة البقرة، وقوله: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في آخر سورة براءة.
وإعداد المتكأ لهن، وبوحها بسرها لهن يدل على أنهن كن من خلائلها.
[33، 34] {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.
استئناف بياني، لأن ما حكي قبله مقام شدة من شأنه أن يسأل سامعه عن حال تلقي يوسف - عليه السلام - فيه لكلام امرأة العزيز.
وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم، فالظاهر أنه قال هذا القول في نفسه. ويحتمل أنه جهر به في ملئهن تأييسا لهن من أن يفعل ما تأمره به.
وقرأ الجمهور "السِّجْنُ" - بكسر السين -. وقرأه يعقوب وحده - بفتح السين - على معنى المصدر، أي أن السجن أحب إلي. وفضل السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة على ما فيه من اللذة ولكن كرهه لفعل الحرام فضل عنده مقاساة السجن. فلما علم أنه لا محيص من أحد الأمرين صار السجن محبوبا إليه باعتبار أنه يخلصه من الوقوع في الحرام فهي محبة ناشئة عن ملاءمة الفكر، كمحبة الشجاع الحرب.
فالإخبار بأن السجن أحب إليه من الاستمتاع بالمرأة مستعمل في إنشاء الرضى بالسجن في مرضاة الله تعالى والتباعد عن محارمه، إذ لا فائدة في إخبار من يعلم ما في
نفسه فاسم التفضيل على حقيقته ولا داعي إلى تأويله بمسلوب المفاضلة.
وعبر عما عرضته المرأة بالموصولية لما في الصلة من الإيماء إلى كون المطلوب حالة هي مظنة الطواعية، لأن تمالئ الناس على طلب الشيء من شأنه أن يوطن نفس المطلوب للفعل، فأظهر أن تمالئهن على طلبهن منه امتثال أمر المرأة لم يفل من صارم عزمه على الممانعة، وجعل ذلك تمهيدا لسؤال العصمة من الوقوع في شرك كيدهن، فانتقل من ذكر الرضى بوعيدها إلى سؤال العصمة من كيدها.
وأسند فعل {يَدْعُونَنِي} إلى نون النسوة، فالواو الذي فيه هو حرف أصلي وليست واو الجماعة، والنون ليست نون رفع لأنه مبني لاتصاله بنون النسوة، ووزنه يفعلن. وأسند الفعل إلى ضمير جمع النساء مع أن التي دعته امرأة واحدة، إما لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء فيكون على وزان جمع الضمير في {كَيْدَهُنَّ}، وإما لأن النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمالأن على لوم يوسف - عليه السلام - وتحريضه على إجابة الداعية، وتحذيره من وعيدها بالسجن. وعلى وزان هذا يكون القول في جمع الضمير في {كَيْدَهُنَّ} [سورة يوسف: 28] أي كيد صنف النساء، مثل قول العزيز {إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} ، أي كيد هؤلاء النسوة.
وجملة {إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} خبر مستعمل في التخوف والتوقع التجاء إلى الله وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحول والقوة والخشية من تقلب القلب ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام. فالخبر مستعمل في الدعاء، ولذلك فرع عنه جملة {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ}.
ومعنى {أَصْبُ} أمل. والصبو: الميل إلى المحبوب.
والجاهلون: سفهاء الأحلام، فالجهل هنا مقابل الحلم. والقول في أن مبالغة {أَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أكثر من أكن جاهلا كالقول في {وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
وعطف جملة {فَاسْتَجَابَ} بفاء التعقيب إشارة إلى أن الله عجل إجابة دعائه الذي تضمنه قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ}. واستجاب: مبالغة في أجاب، كما تقدم في قوله: {فَاسْتَعْصَمَ} [سورة يوسف: 32].
وصرف كيدهن عنه صرف أثره، وذلك بأن ثبته على العصمة فلم ينخدع لكيدها ولا
لكيد خلائلها في أضيق الأوقات.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في موضع العلة ل {اسْتَجَابَ} المعطوف بفاء التعقيب، أي أجاب دعاءه بدون مهلة لأنه سريع الإجابة وعليم بالضمائر الخالصة. فالسمع مستعمل في إجابة المطلوب، يقال: سمع الله لمن حمده. وتأكيده بضمير الفصل لتحقيق ذلك المعنى.
[35] {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ}.
ثم} هنا للترتيب الرتبي، كما هو شأنها في عطف الجمل فإن ما بدا لهم أعجب بعد ما تحققت براءته. وإنما بدا لهم أن يسجنوا يوسف - عليه السلام - حين شاعت القالة عن امرأة العزيز في شأنه فكان ذلك عقب انصراف النسوة لأنها خشيت إن هن انصرفن أن تشيع القالة في شأنها وشأن براءة يوسف - عليه السلام - فرامت أن تغطي ذلك بسجن يوسف - عليه السلام - حتى يظهر في صورة المجرمين بإرادته السوء بامرأة العزيز، وهي ترمي بذلك إلى تطويعه لها. ولعلها أرادت أن توهم الناس بأن مراودته إياها وقعت يوم ذلك المجمع، وأن توهم أنهن شواهد على يوسف - عليه السلام -.
والضمير في {لَهُمْ} لجماعة العزيز من مشير وآمر.
وجملة {لَيَسْجُنُنَّهُ} جواب قسم محذوف، وهي متعلقة فعل {بَدَا} عن العمل فيما بعده لأجل لام القسم لأن ما بعد لام القسم كلام مستأنف. وفيه دليل للمعمول المحذوف إذ التحقيق أن التعليق لا يختص بأفعال الظن، وهو مذهب يونس بن حبيب، لأن سبب التعليق وجود أداة لها صدر الكلام. وفي هذه الآية دليله.
والتقدير: بدا لهم ما يدل عليه هذا القسم، أي بدا لهم تأكيد أن يسجنوه.
وذكر في "المعنى" في آخر الجمل التي لها محل من الإعراب: وقوع الخلاف في الفاعل ونائب الفاعل، هل يكون جملة? فأجازه هشام وثعلب مطلقا، وأجازه الفراء وجماعة إذا كان الفعل قلبيا ووجد معلق، وحملوا الآية عليه، ونسب إلى سيبويه. وهو يؤول إلى معنى التعليق، والتعليق أنسب بالمعنى.
والحين: زمن غير محدود، فإن كان {حَتَّى حِينٍ} من كلامهم كان المعنى: أنهم أمروا بسجنه سجنا غير مؤجل المدة. وإن كان من الحكاية كان القرآن قد أبهم المدة التي
أذنوا بسجنه إليها إذ لا يتعلق فيها الغرض من القصة.
والآيات: دلائل صدق يوسف - عليه السلام - وكذب امرأة العزيز.
[36] {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}.
اتفق جميع القراء على كسر سين {السِّجْنَ} هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه، لأن الدخول لا يناسب أن يتعلق إلا بالمكان لا بالمصدر.
وهذان الفتيان هما ساقي الملك وخبازه غضب عليهما الملك فأمر بسجنهما. قيل: اتهما بتسميم الملك في الشراب والطعام.
وجملة {قَالَ أَحَدُهُمَا} ابتداء محاورة، كما دل عليه فعل القول.
وكان تعبير الرؤيا من فنون علمائهم فلذلك أيد الله به يوسف - عليه السلام - بينهم.
وهذان الفتيان توسما من يوسف - عليه السلام - كمال العقل والفهم فظنا أنه يحسن تعبير الرؤيا ولم يكونا علما منه ذلك من قبل، وقد صادفا الصواب، ولذلك قالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} ، أي المحسنين التعبير، أو المحسنين الفهم.
والإحسان: الإتقان، يقال: هو لا يحسن القراءة، أي لا يتقنها. ومن عادة المساجين حكاية المرائي التي يرونها، لفقدانهم الأخبار التي هي وسائل المحادثة والمحاورة، ولأنهم يتفاءلون بما عسى أن يبشرهم بالخلاص في المستقبل. وكان علم تعبير الرؤيا من العلوم التي يشتغل بها كهنة المصريين، كما دل عليه قوله تعالى حكاية عن ملك مصر {أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [سورة يوسف: 43] كما سيأتي.
والعصر: الضغط باليد أو بحجر أو نحوه على شيء فيه رطوبة لإخراج ما فيه من المائع زيت أو ماء. والعصير: ما يستخرج من المعصور سمي باسم محله، أي معصور من كذا.
والخبز: اسم لقطعة من دقيق البر أو الشعير أو نحوهما يعجن بالماء ويوضع قرب النار حتى ينضج ليؤكل، ويسمى رغيفا أيضا.
والضمير في {بِتَأْوِيلِهِ} للمذكور، أو للمرئي باعتبار الجنس.
وجملة {إِنَّا نَرَاكَ} تعليل لانتفاء المستفاد من {نَبِّئْنَا}.
[37، 38] {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}.
جملة {قَالَ لا يَأْتِيكُمَا} جواب عن كلامهما ففصلت على أسلوب حكاية جمل التحاور.
أراد بهذا الجواب أن يفترض إقبالهما عليه وملازمة الحديث معه إذ هما يترقبان تعبيره الرؤيا فيدمج في ذلك دعوتهما إلى الإيمان الصحيح مع الوعد بأنه يعبر لهما رؤياهما غير بعيد، وجعل لذلك وقتا معلوما لهم، وهو وقت إحضار طعام المساجين إذ ليس لهم في السجن حوادث يوقتون بها، ولأن انطباق الأبواب وإحاطة الجدران يحول بينهم وبين رؤية الشمس، فليس لهم إلا حوادث أحوالهم من طعام أو نوم أو هبوب منه.
ويظهر أن أمد إتيان الطعام حينئذ لم يكن بعيدا كما دل عليه قوله: {قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا} من تعجيله لهما تأويل رؤياهما وأنه لا يتريث في ذلك.
ووصف الطعام بجملة {تُرْزَقَانِهِ} تصريح بالضبط بأنه طعام معلوم الوقت لا ترقب طعام يهدى لهما بحيث لا ينضبط حصوله.
وحقيقة الرزق: ما به النفع، ويطلق على الطعام كقوله: {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [سورة آل عمران: 37] أي طعاما، وقوله في سورة الأعراف [50] {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ، وقوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [سورة مريم: 62]. ويطلق على الإنفاق المتعارف كقوله: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [سورة النساء: 5]. ومن هنا يطلق على العطاء الموقت، يقال: كان بنو فلان من مرتزقة الجند، ورزق الجند كذا كل يوم.
وضمير {بِتَأْوِيلِهِ} عائد إلى ما عاد إليه ضمير {بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف: 36] الأول، وهو المرئي أو المنام. ولا ينبغي أن يعود إلى طعام إذ لا يحسن إطلاق التأويل عن الأنباء بأسماء أصناف الطعام خلافا لما سلكه جمهور المفسرين.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ} استثناء من أحوال متعددة تناسب
الغرض، وهي حال الإنباء بتأويل الرؤيا وحال عدمه، أي لا يأتي الطعام المعتاد إلا في حال أني قد نبأتكما بتأويل رؤياكما، أي لا في حال عدمه. فالقصر المستفاد من الاستثناء إضافي.
وجردت جملة الحال من الواو"وقَد" مع أنها ماضية اكتفاء بربط الاستثناء كقوله تعالى: {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 121].
وجملة {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} استئناف بياني، لأن وعده بتأويل الرؤيا في وقت قريب يثير عجب السائلين عن قوة علمه وعن الطريقة التي حصل بها هذا العلم، فيجيب بأن ذلك مما علمه الله تخلصا إلى دعوتهما للإيمان بإله واحد. وكان القبط مشركين يدينون بتعدد الآلهة.
وقوله: {مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} إيذان بأنه علمه علوما أخرى، وهي علوم الشريعة والحكمة والاقتصاد والأمانة كما قال {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [سورة يوسف: 55].
وزاد في الاستئناف البياني جملة {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} لأن الإخبار بأن الله علمه التأويل وعلوما أخرى مما يثير السؤال عن وسيلة حصول هذا العلم، فأخبر بأن سبب عناية الله به أنه انفرد في ذلك المكان بتوحيد الله وترك مله أهل المدينة، فأراد الله اختياره لهديهم، ويجوز كون الجملة تعليلا.
والملة: الدين، تقدم في قوله: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في سورة الأنعام [161].
وأراد بالقوم الذين لا يؤمنون بالله ما يشمل الكنعانيين الذين نشأ فيهم والقبط الذين شب بينهم، كما يدل عليه قوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} ، أو أراد الكنعانيين خاصة، وهم الذين نشأ فيهم تعريضا بالقبط الذين ماثلوهم في الإشراك. وأراد بهذا أن لا يواجههم بالتشنيع استنزالا لطائر نفورهم من موعظته.
وزيادة ضمير الفصل في قوله: {هُمْ كَافِرُونَ} أراد به تخصيص قوم منهم بذلك وهم الكنعانيون، لأنهم كانوا ينكرون البعث مثل كفار العرب. وأراد بذلك إخراج القبط لأن القبط وإن كانوا مشركين فقد كانوا يثبتون بعث الأرواح والجزاء.
والترك: عدم الأخذ للشيء مع إمكانه. أشار به إلى أنه لم يتبع ملة القبط مع حلوله بينهم، وكون مولاه متدينا بها.
وذكر آباءه تعليما بفضلهم، وإظهارا لسابقية الصلاح فيه، وأنه متسلسل من آبائه، وقد عقله من أول نشأته ثم تأيد بما علمه ربه فحصل له بذلك الشرف العظامي والشرف العصامي. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أكرم الناس: "يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي". ومثل هذه السلسلة في النبوة لم يجتمع لأحد غير يوسف - عليه السلام - إذا كان المراد بالنبوة أكملها وهو الرسالة، أو إذا كان إخوة يوسف - عليه السلام - غير أنبياء على رأي فريق من العلماء.
وأراد باتباع ملة آبائه اتباعها في أصولها قبل أن يعطى النبوة إذا كان فيما إذا كان فيما أوحي إليه زيادة على ما أوحي به إلى آبائه من تعبير الرؤيا والاقتصاد؛ أو أن نبوءته كانت بوحي مثل ما أوحي به إلى آبائه، كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً} إلى قوله: {أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [سورة الشورى: 13].
وذكر السلف الصالح في الحق يزيد دليل الحق تمكنا، وذكر ضدهم في الباطل لقصد عدم الحجة بهم بمجردهم. كما في قوله الآتي {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [سورة يوسف: 40].
وجملة {مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} في قوة البيان لما اقتضته جملة {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي} من كون التوحيد صار كالسجية لهم عرف بها أسلافهم بين الأمم، وعرفهم بها لنفسه في هذه الفرصة.ولا يخفى ما تقتضيه صيغة الجحود من مبالغة انتفاء الوصف على الموصوف، كما تقدم في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} في سورة آل عمران [79]، وعند قوله تعالى: { قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في آخر سورة العقود [116].
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} مزيدة لتأكيد النفي. وأدخلت على المقصود بالنفي.
وجملة {ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا} زيادة في الاستئناف والبيان لقصد الترغيب في اتباع دين التوحيد بأنه فضل.
وقوله: {وَعَلَى النَّاسِ} أي الذين يتبعونهم، وهو المقصود من الترغيب بالجملة.
وأتى الاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} للتصريح بأن حال
المخاطبين في إشراكهم حال من يكفر نعمة الله، لأن إرسال الهداة نعمة ينبغي أن ينظر الناس فيها فيعلموا أن ما يدعونهم إليه خير وإنقاذ لهم من الانحطاط في الدنيا والعذاب في الآخرة، ولأن الإعراض عن النظر في أدلة صدق الرسل كفر بنعمة العقل والنظر.
[39، 40] {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
استئناف ابتدائي مصدر بتوجيه الخطاب إلى الفتيين بطريق النداء المسترعي سمعهما إلى ما يقوله للاهتمام به.
وعبر عنهما بوصف الصحبة في السجن دون اسميهما إما لجهل اسميهما عنده إذ كانا قد دخلا السجن معه في تلك الساعة قبل أن تطول المعاشرة بينهما وبينه، وإما للإيذان بما حدث من الصلة بينهما وهي صلة المماثلة في الضراء الإلف في الوحشة، فإن الموافقة في الأحوال صلة تقوم مقام صلة القرابة أو تفوقها.
واتفق القراء على - كسر سين - {السِّجْنِ} هنا بمعنى البيت الذي يسجن فيه المعاقبون، لأن الصاحب لا يضاف إلى السجن إلا بمعنى المكان.
والإضافة هنا على تقدير حرف الظرفية، مثل: مكر الليل، أي يا صاحبين في السجن.
وأراد بالكلام الذي كلمهما به تقريرهما بإبطال دينهما، فالاستفهام تقريري. وقد رتب لهما الاستدلال بوجه خطابي قريب من أفهام العامة، إذ فرض لهما إلها واحدا متفردا بالإلهية كما هو حال ملته التي أخبرهم بها. وفرض لهما آلهة متفرقين كل إله منهم إنما يتصرف في أشياء معينة من أنواع الموجودات تحت سلطانه لا يعدوها إلى ما هو من نطاق سلطان غيره منهم، وذلك حال ملة القبط.
ثم فرض لهما مفاضلة بين مجموع الحالين حال الإله المنفرد بالإلهية والأحوال المتفرقة للآلهة المتعددين ليصل بذلك إلى إقناعهما بأن حال المنفرد بالإلهية أعظم وأغنى، فيرجعان عن اعتقاد تعدد الآلهة. وليس المراد من هذا الاستدلال وجود الحالين في الإلهية والمفاضلة بين أصحاب هذين الحالين لأن المخاطبين لا يؤمنون بوجود الإله الواحد.
هذا إذا حمل لفظ {خَيْرٌ} على ظاهر المتعارف منه وهو التفضيل بين مشتركات في صفة. ويجوز أن يكون {خَيْرٌ} مستعملا في معنى الخير عند العقل، أي الرجحان والقبول. والمعنى: اعتقاد وجود أرباب متفرقين أرجح أم اعتقاد أنه لا يوجد إلا إله واحد، ليستنزل بذلك طائر نظرهما واستدلالهما حتى ينجلي لهما فساد اعتقاد تعدد الآلهة، إذ يتبين لهما أن أربابا متفرقين لا يخلو حالهم من تطرق الفساد والخلل في تصرفهم، كما يومئ إليه وصف التفرق بالنسبة للتعدد ووصف القهار بالنسبة للوحدانية.
وكانت ديانة القبط في سائر العصور التي حفظها التاريخ وشهدت بها الآثار ديانة شرك، أي تعدد الآلهة. وبالرغم على ما يحاوله بعض المؤرخين المصريين والإفرنج من إثبات اعتراف القبط بإله واحد وتأويلهم لهم تعدد الآلهة بأنها رموز للعناصر فإنهم لم يستطيعوا أن يثبتوا إلا أن هذا الإله هو معطي التصرف للآلهة الأخرى. وذلك هو شأن سائر أديان الشرك، فإن الشرك ينشأ عن مثل ذلك الخيال فيصبح تعدد آلهة. والأمم الجاهلة تتخيل هذه الاعتقادات من تخيلات نظام ملوكها وسلاطينها وهو النظام الإقطاعي القديم.
نعم إن القبط بنوا تعدد الآلهة على تعدد القوى والعناصر وبعض الكواكب ذات القوى. ومثلهم الإغريق فهم في ذلك أحسن حالا من مشركي العرب الذين ألهوا الحجارة. وقصارى ما قسموه في عبادتها أن جعلوا بعضها آلهة لبعض القبائل كما قال الشاعر:
وفرت ثقيف إلى لاتها
وأحسن حالا من الصابئة الكلدان والآشوريين الذين جعلوا الآلهة رموزا للنجوم والكواكب.
وكانت آلهة القبط نحوا من ثلاثين ربا أكبرها عندهم آمون رع. ومن أعظم آلهتهم ثلاثة أخر وهي: أوزوريس، وأزيس، وهوروس. فلله بلاغة القرآن إذ عبر عن تعددها بالتفرق فقال: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ} [سورة يوسف: 39].
وبعد أن أثار لهما الشك في صحبة إلهية آلهتهم المتعددين انتقل إلى إبطال وجود تلك الآلهة على الحقيقة بقوله: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} ، يعني أن تلك الآلهة لا تحقق لحقائقها في الوجود الخارجي بل
هي توهمات تخيلوها.
ومعنى قصرها على أنها أسماء قصرا إضافيا، أنها أسماء لا مسميات لها فليس لها في الوجود إلا أسماؤها.
وقوله: {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} جملة مفسرة للضمير المرفوع في {سَمَّيْتُمُوهَا}. والمقصود من ذلك الرد على آبائهم سدا لمنافذ الاحتجاج لأحقيتها بأن تلك الآلهة معبودات آبائهم، وإدماجا لتلقين المعذرة لهما ليسهل لهما الإقلاع عن عبادة آلهة متعددة.
وإنزال السلطان: كناية عن إيجاد دليل إلهيتها في شواهد العالم. والسلطان: الحجة.
وجملة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} إبطال لجميع التصرفات المزعومة لآلهتهم بأنها لا حكم لها فيما زعموا أنه من حكمها وتصرفها.
وجملة {أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} انتقال من أدلة إثبات انفراد الله تعالى بالإلهية إلى التعليم بامتثال أمره ونهيه، لأن ذلك نتيجة لإثبات الإلهية والوحدانية له، فهي بيان لجملة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} من حيث ما فيها من معنى الحكم.
وجملة {ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} خلاصة لما تقدم من الاستدلال، أي ذلك الدين لا غيره مما أنتم عليه وغيركم. وهو بمنزلة رد العجز على الصدر لقوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} – إلى - {لا يَشْكُرُونَ} [سورة يوسف: 38].
[41] {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.
افتتح خطابهما بالنداء اهتماما بما يلقيه إليهما من التعبير، وخاطبهما بوصف {صَاحِبَيِ السِّجْنِ} أيضا.
ثم إذا كان الكلام المحكي عن يوسف - عليه السلام - في الآية صدر منه على نحو النظم الذي نظم به في الآية وهو الظاهر كان جمع التأويل في عبارة واحدة مجملة، لأن في تأويل إحدى الرؤيين ما يسوء صاحبها قصدا لتلقيه ما يسوء بعد تأمل قليل كيلا يفجأه من أول الكلام، فإنه بعد التأمل يعلم أن الذي يسقي ربه خمرا هو رائي عصر الخمر، وأن
الذي تأكل الطير من رأسه هو رائي أكل الطير من خبز على رأسه.
وإذا كان نظم الآية على غير ما صدر من يوسف - عليه السلام - كان في الآية إيجاز لحكاية كلام يوسف عليه السلام، وكان كلاما معينا فيه كل من الفتيين بأن قال: أما أنت فكيت وكيت، وأما أنت فكيت وكيت، فحكي في الآية بالمعنى.
وجملة {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} تحقيق لما دلت عليه الرؤيا، وأن تعبيرها هو ما أخبرهما به فإنهما يستفتيان في دلالة الرؤيا على ما سيكون في شأن سجنهما لأن ذلك أكبر همهما، فالمراد بالأمر تعبير رؤياهما.
والاستفتاء: مصدر استفتى إذا طلب الإفتاء. وهو: الإخبار بإزالة مشكل، أو إرشاد إلى إزالة حيرة. وفعله أفتى ملازم للهمز ولم يسمع له فعل مجرد، فدل ذلك على أن همزه في الأصل مجتلب لمعنى، قالوا: أصل اشتقاق أفتى من الفتى وهو الشاب، فكأن الذي يفتيه يقوي نهجه ببيانه فيصير بقوة بيانه فتيا أي قويا. واسم الخبر الصادر من المفتي: فتوى - بفتح الفاء وبضمها مع الواو مقصورا، وبضم الفاء مع الياء مقصورا -.
[42] {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ}.
قال يوسف - عليه السلام - للذي ظن نجاته من الفتيين وهو الساقي. والظن هنا مستعمل في القريب من القطع لأنه لا يشك في صحة تعبيره الرؤيا. وأراد بذكره ذكر قضيته ومظلمته، أي اذكرني لربك، أي سيدك. وأراد بربه ملك مصر.
وضميرا {فَأَنْسَاهُ} و {رَبِّهِ} يحتملان العود إلى {الَّذِي} ، أي أنسى الشيطان الذي نجا أن يذكره لربه، فالذكر الثاني هو الذكر الأول. ويحتمل أن يعود الضميران إلى ما عاد إليه ضمير {وَقَالَ} أي يوسف - عليه السلام - أنساه الشيطان ذكر الله، فالذكر الثاني غير الذكر الأول. ولعل كلا الاحتمالين مراد، وهو من بديع الإيجاز. وذلك أن نسيان يوسف - عليه السلام - أن يسأل الله إلهام الملك تذكر شأنه كان من إلقاء الشيطان في أمنيته، وكان ذلك سببا إلهيا في نسيان الساقي تذكير الملك، وكان ذلك عتابا إلهيا ليوسف - عليه السلام - على اشتغاله بعون العباد دون استعانة ربه على خلاصه.
ولعل في إيراد هذا الكلام على هذا التوجيه تلطفا في الخبر عن يوسف - عليه
السلام - لأن الكلام الموجه في المعاني الموجهة ألطف من الصريح.
والبضع: من الثلاث إلى التسع.
وفيما حكاه القرآن عن حال سجنهم ما ينبئ على أن السجن لم يكن مضبوطا بسجل يذكر فيه أسماء المساجين، وأسباب سجنهم، والمدة المسجون إليها، ولا كان من وزعة السجون ولا ممن فوقهم من يتعهد أسباب السجن ويفتقد أمر المساجين ويرفع إلى الملك في يوم من الأسبوع أو من العام. وهذا من الإهمال والتهاون بحقوق الناس وقد أبطله الإسلام، فإن من الشريعة أن ينظر القاضي أول ما ينظر فيه كل يوم أمر المساجين.
[43 - 45] {وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعَالِمِينَ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ}.
هذا عطف جزء من قصة على جزء منها تكملة لوصف خلاص يوسف - عليه السلام - من السجن.
والتعريف في {الْمَلِكُ} للعهد، أي ملك مصر. وسماه القرآن هنا ملكا ولم يسمه فرعون لأن هذا الملك لم يكن من الفراعنة ملوك مصر القبط، وإنما كان ملكا لمصر أيام حكمها "الهكسوس"، وهم العمالقة، وهم من الكنعانيين، أو من العرب، ويعبر عنهم مؤرخو الإغريق بملوك الرعاة، أي البدو. وقد ملكوا بمصر من عام 1900 إلى عام 1525 قبل ميلاد المسيح - عليه السلام -. وكان عصرهم فيما بين مدة العائلة الثالثة عشرة والعائلة الثامنة عشرة من ملوك القبط، إذ كانت عائلات ملوك القبط قد بقي لها حكم في مصر العليا في مدينة طيبة كما تقدم عند قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ} [سورة يوسف: 21]. وكان ملكهم في تلك المدة ضعيفا لأن السيادة كانت لملوك مصر السفلى. ويقدر المؤرخون أن ملك مصر السفلى في زمن يوسف - عليه السلام - كان في مدة العائلة السابعة عشرة.
فالتعبير عنه بالملك في القرآن دون التعبير بفرعون مع أنه عبر عن ملك مصر في زمن موسى - عليه السلام - بلقب فرعون هو من دقائق إعجاز القرآن العلمي. وقد وقع في التوراة إذ عبر فيها عن ملك مصر في زمن يوسف - عليه السلام - فرعون وما هو بفرعون
لأن أمته ما كانت تتكلم بالقبطية وإنما كانت لغتهم كنعانية قريبة من الآرامية والعربية، فيكون زمن يوسف - عليه السلام - في آخر أزمان حكم ملوك الرعاة على اختلاف شديد في ذلك.
وقوله: {سِمَانٍ} جمع سمينة وسمين، مثل كرام، وهو وصف ل {بَقَرَاتٍ}.
و{عِجَافٌ} جمع عجفاء. والقياس في جمع عجفاء عجف لكنه صيغ هنا بوزن فعال لأجل المزاوجة لمقارنه وهو {سِمَانٍ}. كما قال الشاعر:
هتاك أخبية ولاج أبوية
والقياس أبواب لكنه حمله على أخبية.
والعجفاء: ذات العجف بفتحتين وهو الهزال الشديد.
و {سَبْعَ سُنْبُلاتٍ} معطوف على {سَبْعَ بَقَرَاتٍ}. والسنبلة تقدمت في قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} في سورة البقرة[261].
والملأ: أعيان الناس. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} في سورة الأعراف[60].
والإفتاء: الإخبار بالفتوى. وتقدمت آنفا عند قوله: {قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ} [سورة يوسف: 41].
و {في} للظرفية المجازية التي هي بمعنى الملابسة، أي أفتوني إفتاء ملابسا لرؤياي ملابسة البيان للمجمل.
وتقديم {لِلرُّؤْيا} على عامله وهو {تَعْبُرُونَ} للرعاية على الفاصلة مع الاهتمام بالرؤيا في التعبير. والتعريف في {لِلرُّؤْيا} تعريف الجنس.
واللام في {لِلرُّؤْيا} لام التقوية لضعف العامل عن العمل بالتأخير عن معموله. يقال: عبر الرؤيا من باب نصر. قال في "الكشاف": وعبرت الرؤيا بالتخفيف هو الذي اعتمده الإثبات. ورأيتهم ينكرون عبرت بالتشديد والتعبير، وقد عثرت على بيت أنشده المبرد في كتاب "الكامل" لبعض الأعراب:
رأيت رؤياي ثم عبرتها ... وكنت للأحلام عبارا
والمعنى: فسر ما تدل عليه وأول إشاراتها ورموزها.
وكان تعبير الرؤيا مما يشتغلون به. وكان الكهنة منهم يعدونه من علومهم ولهم قواعد في حل رموز ما يراه النائم. وقد وجدت في آثار القبط أوراق من البردي فيها ضوابط وقواعد لتعبير الرؤى، فإن استفتاء صاحبي السجن يوسف - عليه السلام - في رؤييهما ينبئ بأن ذلك شائع فيهم، وسؤال الملك أهل ملئه تعبير رؤياه ينبئ عن احتواء ذلك الملأ على من يظن بهم علم تعبير الرؤيا، ولا يخلو ملأ الملك من حضور كهان من شأنهم تعبير الرؤيا.
وفي التوراة "فأرسل ودعا جميع سحرة مصر وجميع حكمائها وقص عليهم حلمه فلم يكن من يعبره له"1. وإنما كان مما يقصد فيه إلى الكهنة لأنه من المغيبات. وقد ورد في أخبار السيرة النبوية أن كسرى أرسل إلى سطيح الكاهن ليعبر له الرؤيا أيام ولادة النبي صلى الله عليه وسلم وهي معدودة من الإرهاصات النبوية. وحصل لكسرى فزع فأوفد إليه عبد المسيح.
فالتعريف في قوله: {لِلرُّؤْيا} تعريف العهد، والمعهود الرؤيا التي كان يقصها عليهم على طريقة إعادة النكرة معرفة باللام أن تكون الثانية عين الأولى. والمعنى: إن كنتم تعبرون هذه الرؤيا.
والأضغاث: جمع ضغث - بكسر الضاد المعجمة - وهو: ما جمع في حزمة واحدة من أخلاط النبات وأعواد الشجر، وإضافته إلى الأحلام على تقدير اللام، أي أضغاث للأحلام.
والأحلام: جمع حلم – بضمتين - وهو ما يراه النائم في نومه. والتقدير: هذه الرؤيا أضغاث أحلام. شبهت تلك الرؤيا بالأضغاث في اختلاطها وعدم تميز ما تحتويه لما أشكل عليهم تأويلها.
والتعريف فيه أيضا تعريف العهد، أي ما نحن بتأويل أحلامك هذه بعالمين. وجمعت {أَحْلامٍ} باعتبار تعدد الأشياء المرئية في ذلك الحلم، فهي عدة رؤى.
والباء في {بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ} لتأكيد اتصال العامل بالمفعول، وهي من قبيل باء الإلصاق مثل باء {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [سورة المائدة: 6]، لأنهم نفوا التمكن من تأويل
ـــــــ
(1) الإصحاح الحادي والأربعون من سفر التكوين.
هذا الحلم. وتقديم هذا المعمول على الوصف العامل فيه كتقديم المجرور في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ}.
فلما ظهر عوص تعبير هذا الحلم تذكر ساقي الملك ما جرى له مع يوسف - عليه السلام - فقال {أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ}.
وابتداء كلامه بضميره وجعله مسندا إليه وخبره فعلي لقصد استجلاب تعجب الملك من أن يكون الساقي ينبئ بتأويل رؤيا عوصت على علماء بلاط الملك، مع إفادة تقوي الحكم، وهو إنباؤه إياهم بتأويلها، لأن تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في سياق الإثبات يفيد التقوي، وإسناد الإنباء إليه مجاز عقلي لأنه سبب الإنباء، ولذلك قال {فَأَرْسِلُونِ}. وفي ذلك ما يستفز الملك إلى أن يأذن له بالذهاب إلى حيث يريد ليأتي بنبأ التأويل إذ لا يجوز لمثله أن يغادر مجلس الملك دون إذن. وقد كان موقنا بأنه يجد يوسف - عليه السلام - في السجن أنه كان سجن الخاصة فكان ما يحدث فيه من إطلاق أو موت يبلغ مسامع الملك وشيعته.
{وَادَّكَرَ} بالدال المهملة أصله: اذتكر، وهو افتعال من الذكر، قلبت تاء الافتعال دالا لثقلها ولتقارب مخرجيهما ثم قلبت الذال ليتأتى إدغامها في الدال لأن الدال أخف من الذال. وهذا أفصح الإبدال في ادكر. وهو قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [سورة القمر: 15] كما في الصحيح.
ومعنى {بَعْدَ أُمَّةٍ} بعد زمن مضى على نسيانه وصاية يوسف عليه السلام.
والأمة: أطلقت هنا على المدة الطويلة، وأصل إطلاق الأمة على المدة الطويلة هو أنها زمن ينقرض في مثله جيل، والجيل يسمى أمة، كما في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [سورة آل عمران: 110] على قول من حمله على الصحابة.
وإطلاقه في هذه الآية مبالغة في زمن نسيان الساقي. وفي التوراة كانت مدة نسيانه سنتين.
وضمائر جمع المخاطب في {أُنَبِّئُكُمْ} – {فَأَرْسِلُونِ} مخاطب بها الملك على وجه التعظيم كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [سورة المؤمنون: 99].
ولم يسم لهم المرسل إليه لأنه أراد أن يفاجئهم بخبر يوسف - عليه السلام - بعد
حصول تعبيره ليكون أوقع، إذ ليس مثله مظنة أن يكون بين المساجين.
[46] {يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ}.
الخطاب بالنداء مؤذن بقول محذوف في الكلام، وأنه من قول الذي نجا وادكر بعد أمة. وحذف من الكلام ذكر إرساله ومشيه ووصوله، إذ لا غرض فيه من القصة. وهذا من بديع الإيجاز.
و {الصِّدِّيقُ}: أصله صفة مبالغة مشتقة من الصدق، كما تقدم عند قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} في سورة العقود [75]، وغلب استعمال وصف الصديق استعمال اللقب الجامع لمعاني الكمال واستقامة السلوك في طاعة الله تعالى، لأن تلك المعاني لا تجتمع إلا لمن قوي صدقه في الوفاء بعهد الدين.
وأحسن ما رأيت في هذا المعنى كلمة الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن قال: "الصديقون هم دوين الأنبياء". وهذا ما يشهد به استعمال القرآن في آيات كثيرة مثل قوله: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [سورة النساء: 69] الآية، وقوله: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [سورة المائدة: 75]. ومنه ما لقب النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالصديق في قوله في حديث رجف جبل أحد "اسكن أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان". من أجل ذلك أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - على أن أبا بكر - رضي الله عنه - أفضل الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جمع الله هذا الوصف مع صفة النبوة في قوله: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} في سورة مريم [56].
وقد يطلق الصديق على أصل وصفه، كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [سورة الحديد: 19] على أحد تأويلين فيها.
فهذا الذي استفتى يوسف - عليه السلام - في رؤيا الملك وصف في كلامه يوسف - عليه السلام - بمعنى يدل عليه وصف الصديق في اللسان العربي، وإنما وصفه به عن خبرة وتجربة اكتسبها من مخالطة يوسف - عليه السلام - في السجن.
فضم ما ذكرناه هنا إلى ما تقدم عند قوله تعالى: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} في سورة العقود
[75]، وإلى قوله: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} في سورة النساء [69].
وإعادة العبارات المحكية عن الملك بعينها إشارة إلى أنه بلغ السؤال كما تلقاه، وذلك تمام أمانة الناقل.
و {النَّاسِ} تقدم في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} في سورة البقرة [8].
والمراد ب {النَّاسِ} بعضهم، كقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ}. والناس هنا هم الملك وأهل مجلسه، لأن تأويل تلك الرؤيا يهمهم جميعا ليعلم الملك تأويل رؤياه ويعلم أهل مجلسه أن ما عجزوا عن تأويله قد علمه من هو أعلم منهم. وهذا وجه قوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ} مع حذف معمول {يَعْلَمُونَ} لأن كل أحد يعلم ما يفيده علمه.
[47 - 49] {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ}.
عبر الرؤيا بجميع ما دلت عليه، فالبقرات لسنين الزراعة، لأن البقرة تتخذ للإثمار. والسمن رمز للخصب. والعجف رمز للقحط. والسنبلات رمز للأقوات؛ فالسنبلات الخضر رمز لطعام ينتفع به، وكونها سبعا رمز للانتفاع به في السبع السنين، فكل سنبلة رمز لطعام سنة، فذلك يقتاتونه في تلك السنين جديدا.
والسنبلات اليابسات رمز لما يدخر، وكونها سبعا رمز لادخارها في سبع سنين لأن البقرات العجاف أكلت البقرات السمان، وتأويل ذلك: أن سني الجدب أتت على ما أثمرته سنو الخصب.
وقوله: {تَزْرَعُونَ} خبر عما يكون من عملهم، وذلك أن الزرع عادتهم، فذكره إياه تمهيد للكلام الآتي ولذلك قيده ب {دَأَباً}.
والدأب: العادة والاستمرار عليها. وتقدم في قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} في سورة آل عمران [11]. وهو منصوب على الحال من ضمير {يََزْرَعُونَ} ، أي كدأبكم. وقد مزج تعبيره بإرشاد جليل لأحوال التموين والادخار لمصلحة الأمة. وهو منام حكمته كانت رؤيا
الملك لطفا من الله بالأمة التي آوت يوسف عليه السلام، ووحيا أوحاه الله إلى يوسف - عليه السلام - بواسطة رؤيا الملك، كما أوحى إلى سليمان - عليه السلام - بواسطة الطير. ولعل الملك قد استعد للصلاح والإيمان.
وكان ما أشار به يوسف - عليه السلام - على الملك من الادخار تمهيدا لشرع ادخار الأقوات للتموين، كما كان الوفاء في الكيل والميزان ابتداء دعوة شعيب - عليه السلام - وأشار إلى إبقاء ما فضل عن أقواتهم في سنبله ليكون أسلم له من إصابة السوس الذي يصيب الحب إذا تراكم بعضه على بعض فإذا كان في سنبله دفع عنه السوس، وأشار عليهم بتقليل ما يأكلون في سنوات الخصب لادخار ما فضل عن ذلك لزمن الشدة، فقال {إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ}.
والشداد: وصف لسني الجدب، لأن الجدب حاصل فيها، فوصفها بالشدة على طريقة المجاز العقلي.
وأطلق الأكل في قوله: {يَأْكُلْنَ} على الإفناء، كالذي في قوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [سورة النساء: 2]. وإسناده بهذا الإطلاق إلى السنين إسناد مجاز عقلي، لأنهن زمن وقوع الفناء.
والإحصان: الإحراز والادخار، أي الوضع في الحصن وهو المطمور. والمعنى: أن تلك السنين المجدبة يفنى فيها ما ادخر لها إلا قليلا منه يبقى في الأهراء. وهذا تحريض على استكثار الادخار.
وأما قوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} فهو بشارة وإدخار لمسرة الأمل بعد الكلام المؤيس، وهو من لازم انتهاء مدة الشدة، ومن سنن الله تعالى في حصول اليسر بعد العسر.
و {يُغَاثُ} معناه يعطون الغيث، وهو المطر. والعصر: عصر الأعناب خمورا.
وتقدم آنفا في قوله: {يعصر خمرا} [سورة يوسف: 36].
[50] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ}.
قال الملك: ائتوني به لما أبلغه الساقي صورة التعبير. والخطاب للملأ ليرسلوا من
يعينونه لجلبه. ولذلك فرع عليه {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ}. فالتقدير: فأرسلوا رسولا منهم. وضميرا الغائب في قوله: {بِهِ} وقوله: {جَاءَهُ} عائدان إلى يوسف عليه السلام. وضمير {قَالَ} المستتر كذلك.
وقد أبى يوسف - عليه السلام - الخروج من السجن قبل أن تثبت براءته مما رمي به في بيت العزيز، لأن ذلك قد بلغ الملك لا محالة لئلا يكون تبريزه في التعبير الموجب لإطلاقه من السجن كالشفيع فيه فيبقى حديث قرفه بما قرف به فاشيا في الناس فيتسلق به الحاسدون إلى انتقاص شأنه عند الملك يوما ما، فإن تبرئة العرض من التهم الباطلة مقصد شرعي، وليكون حضوره لدى الملك مرموقا بعين لا تنظر إليه بشائبة نقص.
وجعل طريق تقرير براءته مفتتحة بالسؤال عن الخبر لإعادة ذكره من أوله، فمعنى {فاسْأَلْهُ} بلغ إليه سؤالا من قبلي. وهذه حكمة عظيمة تحق بأن يؤتسى بها. وهي تطلب المسجون باطلا أن يبقى في السجن حتى تتبين براءته من السبب الذي سجن لأجله، وهي راجعة إلى التحلي بالصبر حتى يظهر النصر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي"، أي داعي الملك وهو الرسول الذي في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ}، أي لما راجعت الملك. فهذه إحدى الآيات والعبر التي أشار إليها قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [سورة يوسف: 7].
والسؤال: مستعمل في التنبيه دون طلب الفهم، لأن السائل عالم بالأمر المسؤول عنه وإنما يريد السائل حث المسؤول عن علم الخبر. وقريب منه قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [سورة يوسف: 1].
وجعل السؤال عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن دون امرأة العزيز تسهيلا للكشف عن أمرها، لأن ذكرها مع مكانة زوجها من الملك ربما يصرف الملك عن الكشف رعيا للعزيز، ولأن حديث المتكأ شاع بين النساء وأصبحت قضية يوسف - عليه السلام - مشهورة بذلك اليوم، كما تقدم عند قوله تعالى: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [سورة يوسف: 35]، ولأن النسوة كن شواهد على إقرار امرأة العزيز بأنها راودت يوسف - عليه السلام - عن نفسه. فلا جرم كان طلب الكشف عن أولئك النسوة منتهى الحكمة في البحث وغاية الإيجاز في الخطاب.
وجملة {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} من كلام يوسف - عليه السلام -. وهي تذييل وتعريض بأن الكشف المطلوب سينجلي عن براءته وظهور كيد الكائدات له ثقة بالله ربه أنه ناصره.
وإضافة كيد إلى ضمير النسوة لأدنى ملابسة لأن الكيد واقع من بعضهن، وهي امرأة العزيز في غرضها من جمع النسوة فأضيف إلى ضمير جماعتهن قصدا للإبهام المعين على التبيان.
[51] {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}.
جملة {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن الجمل التي سبقتها تثير سؤالا في نفس السامع عما حصل من الملك لما أبلغ إليه اقتراح يوسف - عليه السلام - مع شدة تشوقه إلى حضوره بين يديه، أي قال الملك للنسوة.
ووقوع هذا بعد جملة {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [سورة يوسف: 5] إلى آخرها مؤذن بكلام محذوف، تقديره: فرجع فأخبر الملك فأحضر الملك النسوة اللائي كانت جمعتهن امرأة العزيز لما أعتدت لهن متكأ فقال لهن {مَا خَطْبُكُنَّ} إلى آخره.
وأسندت المراودة إلى ضمير النسوة لوقوعها من بعضهن غير معين، أو لأن القالة التي شاعت في المدينة كانت مخلوطة ظنا أن المراودة وقعت في مجلس المتكأ.
والخطب: الشأن المهم من حالة أو حادثة. قيل: سمي خطبا لأنه يقتضي أن يخاطب المرء صاحبه بالتساؤل عنه. وقيل: هو مأخوذ من الخطبة. أي يخطب فيه. وإنما تكون الخطبة في أمر عظيم، فأصله مصدر بمعنى المفعول، أي مخطوب فيه.
وجملة {قُلْنَ} مفصولة لأجل كونها حكاية جواب عن كلام الملك. أي قالت النسوة عدا امرأة العزيز، بقرينة قوله بعد: {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ}.
و {حَاشَ لِلَّهِ} مبالغة في النفي والتنزيه. والمقصود: التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة. وقد تقدم تفسيرها آنفا واختلاف القراء فيها.
وجملة {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} مبينة لإجمال النفي الذي في {حَاشَ لِلَّهِ}. وهي جامعة لنفي مراودتهن إياه ومراودته إياهن لأن الحالتين من أحوال السوء.
ونفي علمهن ذلك كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء ونفي دعوته إياهن إليه لأن ذلك لو وقع لكان معلوما عندهن، ثم إنهن لم يزدن في الشهادة على ما يتعلق بسؤال الملك فلم يتعرضن لإقرار امرأة العزيز في مجلسهن بأنها راودته عن نفسه فاستعصم، خشية منها، أو مودة لها، فاقتصرن على جواب ما سئلن عنه.
وهذا يدل على كلام محذوف وهو أن امرأة العزيز كانت من جملة النسوة اللائي أحضرهن الملك. ولم يشملها قول يوسف - عليه السلام - {مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [سورة يوسف: 5] لأنها لم تقطع يدها معهن، ولكن شملها كلام الملك إذ قال {إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ} فإن المراودة إنما وقعت من امرأة العزيز دون النسوة اللاتي أعدت لهن متكئا، ففي الكلام إيجاز حذف.
وجملة {قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} مفصولة لأنها حكاية جواب عن سؤال الملك.
والآن: ظرف للزمان الحاضر. وقد تقدم عند قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} في سورة الأنفال.
و {حَصْحَصَ}: ثبت واستقر.
و {الحَقُّ}: هو براءة يوسف - عليه السلام - مما رمته به امرأة العزيز. وإنما ثبت حينئذ لأنه كان محل قيل وقال وشك، فزال ذلك باعترافها بما وقع.
والتعبير بالماضي مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الذي لم يسبق لأنه قريب الوقوع فهو لتقريب زمن الحال من المضي.
ويجوز أن يكون المراد ثبوت الحق بقول النسوة {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} فيكون الماضي على حقيقته. وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص، أي الآن لا قبله لدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان كان زمن باطل وهو زمن تهمة يوسف - عليه السلام - بالمراودة، فالقصر قصر تعيين إذ كان الملك لا يدري أي الوقتين وقت الصدق أهو وقت اعتراف النسوة بنزاهة يوسف - عليه السلام - أم هو وقت رمي امرأة العزيز إياه بالمراودة.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي في جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ} للقصر، إبطال أن يكون النسوة راودنه. فهذا إقرار منها على نفسها، وشهادة لغيرها بالبراءة، وزادت فأكدت صدقه ب {إن} واللام.
وصيغة {مِنَ الصَّادِقِينَ} كما تقدم في نظائرها، منها قوله تعالى: {قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} في سورة الأنعام[].
[52] {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}.
ظاهر نظم الكلام أن الجملة من قول امرأة العزيز، وعلى ذلك حمله الأقل من المفسرين، وعزاه ابن عطية إلى فرقة من أهل التأويل، ونسب إلى الجبائي، واختاره المارودي، وهو في موقع العلة لما تضمنته جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} وما عطف عليها من إقرار ببراءة يوسف - عليه السلام - بما كانت رمته به، فالإشارة بذلك إلى الإقرار المستفاد من جملة {أَنَا رَاوَدْتُهُ} أي ذلك الإقرار ليعلم يوسف - عليه السلام - أني لم أخنه.
واللام في {لِيَعْلَمَ} لام كي، والفعل بعدها منصوب ب"أن" مضمرة، فهو في تأويل المصدر، وهو خبر عن اسم الإشارة.
والباء في {بِالْغَيْبِ} للملابسة أو للظرفية، أي في غيبته، أي لم أرمه بما يقدح فيه في مغيبه. ومحل المجرور في محل الحال من الضمير المنصوب.
والخيانة: هي تهمته بمحاولة السوء معها كذبا، لأن الكذب ضد أمانة القول بالحق.
والتعريف في {الْغَيْبِ} تعريف الجنس. تمدحت بعدم الخيانة على أبلغ وجه إذ نفت الخيانة في المغيب وهو حائل بينه وبين دفاعه عن نفسه، وحالة المغيب أمكن لمزيد الخيانة أن يخون فيها من حالة الحضرة، لأن الحاضر قد يتفطن لقصد الخائن فيدفع خيانته بالحجة.
و {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} عطف على {لِيَعْلَمَ} وهو علة ثانية لإصداعها بالحق، أي ولأن الله لا يهدي كيد الخائنين. والخبر مستعمل في لازم الفائدة وهو كون المتكلم عالما بمضمون الكلام، لأن علة إقرارها هو علمها بأن الله لا يهدي كيد الخائنين.
ومعنى {لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} لا ينفذه ولا يسدده. فأطلقت الهداية التي هي الإرشاد إلى الطريق الموصلة على تيسير الوصول، وأطلق نفيها على نفي ذلك التيسير، أي أن سنة الله في الكون جرت على أن فنون الباطل وإن راجت أوائلها لا تلبث أن تنقشع
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [سورة الأنبياء: 18].
والكيد: تقدم.
[53] {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
ظاهر ترتيب الكلام أن هذا من كلام امرأة العزيز، مضت في بقية إقرارها فقالت {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}. وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [سورة يوسف: 52] من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب العظيم ادعاء بأن نفسها بريئة براءة عامة فقالت {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ، أي ما أبرئ نفسي من محاولة هذا الإثم لأن النفس أمارة بالسوء وقد أمرتني بالسوء ولكنه لم يقع.
فالواو التي في الجملة استئنافية، والجملة ابتدائية.
وجملة {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} تعليل لجملة {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي}. أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب، لأن النفوس كثيرة الأمر بالسوء.
والاستثناء في {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} استثناء من عموم الأزمان، أي أزمان وقوع السوء، بناء على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كل الأوقات إلا وقت رجمة الله عبده، أي رحمته بأن يفيض له ما يصرفه عن فعل السوء، أو يقيض حائر بينه وبين فعل السوء، كما جعل إباية يوسف - عليه السلام - من أجابتها إلى ما دعته إليه حائلا بينها وبين التورط في هذا الإثم، وذلك لطف من الله بهما.
ولذلك ذيلته بجملة {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثناء على الله بأنه شديد المغفرة لمن أذنب، وشديد الرحمة لعبده إذا أراد صرفه عن الذنب.
وهذا يقتضي أن قومها يؤمنون بالله ويحرمون الحرام، وذلك لا ينافي أنهم كانوا مشركين فإن المشركين من العرب كانوا يؤمنون بالله أيضا. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة العنكبوت: 61] وكانوا يعرفون البر والذنب.
وفي اعتراف امرأة العزيز بحضرة الملك عبرة بفضيلة الاعتراف بالحق، وتبرئة البريء مما ألصق به، ومن خشية عقاب الله الخائنين.
وقيل: هذا الكلام كلام يوسف - عليه السلام - متصل بقوله: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} الآية [سورة يوسف: 50].
وقوله: {قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ} -إلى قوله-: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [سورة يوسف: 51- 52] اعتراض في خلال كلام يوسف - عليه السلام -. وبذلك فسرها مجاهد وقتادة وأبو صالح وابن جريج والحسن والضحاك والسدي وابن جبير، واقتصر عليه الطبري. قال في "الكشاف": وكفى بالمعنى دليلا قائدا إلى أن يجعل من كلام يوسف - عليه السلام -. ونحوه قوله: {قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} ثم قال {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وهو من كلام فرعون يخاطبهم ويستشيرهم اه. يريد أن معنى هذه الجملة أليق بأن يكون من كلام يوسف - عليه السلام - لأن من شأنه أن يصدر عن قلب مليء بالمعرفة.
وعلى هذا الوجه يكون ضمير الغيبة في قوله: {لَمْ أَخُنْهُ} عائدا إلى معلوم من مقام القضية وهو العزيز، أي لم أخن سيدي في حرمته حال مغيبه.
ويكون معنى {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} الخ.. مثل ما تقدم قصد به التواضع، أي لست أقول هذا ادعاء بأن نفسي بريئة من ارتكاب الذنوب إلا مدة رحمة الله النفس بتوفيقها لأكف عن السوء، أي أني لم أفعل ما اتهمت به وأنا لست بمعصوم.
[54، 55] {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}.
السين والتاء في {أَسْتَخْلِصْهُ} للمبالغة. مثلها في استجاب واستأجر. والمعنى أجعله خالصا لنفسي، أي خاصا بي لا يشاركني فيه أحد، وهذا كناية عن شدة اتصاله به والعمل معه. وقد دل الملك على استحقاق يوسف - عليه السلام - تقريبه منه ما ظهر من حكمته وعلمه. وصبره على تحمل المشاق، وحسن خلقه. ونزاهته، فكل ذلك أوجب اصطفاءه.
وجملة {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} مفرعة على جملة محذوفة دل عليها {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ}. والتقدير: فأتوه به، أي يوسف - عليه السلام - فحضر لديه وكلمه فلما كلمه.
والضمير المنصوب في {كَلَّمَهُ} عائد إلى الملك، فالمكلم هو يوسف - عليه السلام - كلم
الملك كلاما أعجب الملك بما فيه من حكمة وأدب. ولذلك فجملة {قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} جواب "لما". والقائل هو الملك لا محالة.
والمكين: صفة مشبهة من مكن - بضم الكاف - إذا صار ذا مكانة، وهي المرتبة العظيمة، وهي مشتقة من المكان.
والأمين: فعيل بمعنى مفعول، أي مأمون على شيء. أي موثوق به في حفظه.
وترتب هذا القول على تكليمه إياه دال على أن يوسف - عليه السلام - كلم الملك كلام حكيم أديب فلما رأى حسن منطقه وبلاغة قوله وأصالة رأيه رآه أهلا لثقته وتقريبه منه.
وهذه صيغة تولية جامعة لكل ما يحتاج إليه ولى الأمر من الخصال، لأن المكانة تقتضي العلم والقدرة، إذا بالعلم يتمكن من معرفة الخير والقصد إليه، وبالقدرة يستطيع فعل ما يبدو له من الخير، والأمانة تستدعي الحكمة والعدالة، إذا بالحكمة يؤثر الأفعال ويترك الهوات الباطلة، وبالعدالة يوصل الحقوق إلى أهلها. وهذا التنويه بشأنه والثناء عليه تعريض بأنه يريد الاستعانة به في أمور مملكته وبأن يقترح عليه ما يرجوا من خير، فلذلك أجابه بقوله: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ}.
وجملة {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} حكاية جوابه الكلام الملك ولذلك فصلت على طريقة المحاورات.
و {عَلَى} هنا للاستعلاء المجازي، وهو التصرف والتمكن، أي اجعلني متصرفا في خزائن الأرض.
و {خَزَائِنِ} جمع خزانة بكسر الخاء، أي البيت الذي يختزن فيه الحبوب والأموال.
والتعريف في {الْأَرْضِ} تعريف العهد، وهي الأرض المعهودة لهم، أي أرض مصر.
والمراد من {خَزَائِنِ الْأَرْضِ} خزائن كانت موجودة، وهي خزائن الأموال؛ إذ لا يخلو سلطان من خزائن معدودة لنوائب بلاده لا الخزائن التي زيدت من بعد لخزن الأقوات استعدادا للسنوات المعبر عنها بقوله: {مِمَّا تُحْصِنُونَ} [سورة يوسف: 48].
واقتراح يوسف - عليه السلام - ذلك إعداد لنفسه للقيام بمصالح الأمة على سنة أهل الفضل والكمال من ارتياح نفوسهم للعمل في المصالح، ولذلك لم يسأل ملا لنفسه ولا عرضا من متاع الدنيا، ولكن سأل أن يوليه خزائن المملكة ليحفظ الأموال ويعدل في توزيعها ويرفق بالأمة في جمعها وإبلاغها لمحالها.
وعلل طلبه ذلك بقوله: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} المفيد تعليل ما قبلها لوقوع "إن" في صدر الجملة فإنه علم أنه اتصف بصفتين يعسر حصول إحداهما في الناس بله كلتيهما، وهما: الحفظ لما يليه، والعلم بتدبير ما يتولاه، ليعلم الملك أن مكانته لديه وائتمانه إياه قد قادفا محلهما وأهلهما، وأنه حقيق بهما لأنه متصف بما يفي بواجبهما، وذلك صفة الحفظ المحقق للائتمان، وصفة العلم المحقق للمكانة. وفي هذا تعريف بفضله ليهتدي الناس إلى اتباعه. وهذا من قبيل الحسبة.
وشبه ابن عطية بمقام يوسف - عليه السلام - هذا مقام أبي بكر - رضي الله عنه - في دخوله في الخلافة مع نهيه المستشير له من الأنصار من أن يتأمر على اثنين. قلت: وهو تشبيه رشيق، إذ كلاهما صديق.
وهذه الآية أصل لوجوب عرض المرء نفسه لولاية عمل من أمور الأمة إذا علم أنه لا يصلح له غيره لأن ذلك من النصح للأمة، وخاصة إذا لم يكن ممن يتهم على إيثار منفعة على مصلحة الأمة. وقد علم يوسف - عليه السلام - أنه أفضل الناس هنالك لأنه كان المؤمن الوحيد في ذلك القطر، فهو لإيمانه بالله يبث أصول الفضائل التي تقتضيها شريعة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام، فلا يعارض هذا ما جاء في "صحيح مسلم" عن عبد الرحمان بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عبد الرحمان لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها". لأن عبد الرحمان بن سمرة لم يكن منفردا بالفضل من بين أمثاله ولا راجحا على جميعهم.
ومن هذه الآية أخذ فقهاء المذهب جواز طلب القضاء لمن يعلم أنه أهل وأنه إن لم يول ضاعت الحقوق. قال المازري: "يجب على من هو أهل الاجتهاد والعدالة السعي في طلب القضاء إن علم أنه إن لم يله ضاعت الحقوق أو وليه من لا يحل أن يولى. وكذلك إن كان وليه من لا تحل توليته ولا سبيل لعزله إلا بطلب أهله".
وقال ابن مرزوق: لم أقف على هذا لأحد من قدماء أهل المذهب غير المازري.
وقال عياض في كتاب الإمارة، أي من "شرح صحيح مسلم"، ما ظاهره الاتفاق على جواز الطلب في هذه الحالة، وظاهر كلام ابن رشد في "المقدمات" حرمة الطلب مطلقا. قال ابن مرزوق: وإنما رأيت مثل ما نقل المازري أو قريبا منه للغزالي في "الوجيز".
[56] [57] {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}.
تقدم تفسير آية {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ} آنفا.
والتبوؤ: اتخاذ مكان للبوء، أي الرجوع، فمعنى التبوؤ النزول والإقامة. وتقدم في قوله تعالى: {أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} في سورة يونس [87].
وقوله: {يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} كناية عن تصرفه في جميع مملكة مصر فهو عند حلوله بمكان من المملكة لو شاء أن يحل بغيره لفعل، فجملة {يَتَبَوَّأُ} يجوز أن تكون حالا من يوسف، ويجوز أن تكون بيانا لجملة {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ}.
وقرأ الجمهور {حَيْثُ يَشَاءُ} - بياء الغيبة - وقرأ ابن كثير {حَيْثُ نَشَاءُ} - بنون العظمة - أي حيث يشاء الله، أي حيث نأمره أو نلهه. والمعنى متحد لأنه لا يشاء إلا ما شاءه الله.
وجملة {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} إلى آخرها تذييل لمناسبة عمومه لخصوص ما أصاب يوسف - عليه السلام - من الرحمة في أحواله في الدنيا وما كان له من مواقف الإحسان التي كان ما أعطيه من النعم وشرف المنزلة جزاء لها في الدنيا، لأن الله لا يضيع أجر المحسنين. ولأجره في الآخرة خير من ذلك له ولكل من آمن واتقى.
والتعبير في جانب الإيمان بصيغة الماضي وفي جانب التقوى بصيغة المضارع، لأن الإيمان عقد القلب الجازم فهو حاصل دفعة واحدة وأما التقوى فهي متجددة بتجدد أسباب الأمر والنهي واختلاف الأعمال والأزمان.
[58 - 60] {وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ}.
طوى القرآن أخره أمر امرأة العزيز وحلول سني الخصب والادخار ثم اعتراء سني القحط لقلة جدوى ذلك كله في الغرض الذي نزلت السورة لأجله، وهو إظهار ما يلقاه الأنبياء من ذويهم وكيف تكون لهم عاقبة النصر والحسنى، ولأنه معلوم حصوله، ولذلك انتقلت القصة إلى ما فيها من مصير إخوة يوسف - عليه السلام - في حاجة إلى نعمته، ومن جمع الله بينه وبين أخيه الذي يحبه، ثم بينه وبين أبويه، ثم مظاهر عفوه عن إخوته وصلته رحمه، لأن لذلك كله أثرا في معرفة فضائله.
وكان مجيء إخوة يوسف - عليه السلام - إلى مصر للميرة عند حلول القحط بأرض مصر وما جاورها من بلاد فلسطين منازل آل يوسف - عليه السلام - وكان مجيئهم في السنة الثالثة من سني القحط. وإنما جاء إخوته عدا بنيامين لصغره، وإنما رحلوا للميرة كلهم لعل ذلك لأن التزويد من الطعام كان بتقدير يراعي فيه عدد الممتارين، وأيضا ليكونوا جماعة لا يطمع فيهم قطاع الطريق، وكان الذين جاءوا عشرة. وقد عرف أنهم جاءوا ممتارين من تقدم قوله: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ} [سورة يوسف: 55] وقوله: الآتي {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ} [سورة يوسف: 59].
ودخولهم عليه يدل على أنه كان يراقب أمر بيع الطعام بحضوره ويأذن به في مجلسه خشية إضاعة الأقوات لأن بها حياة الأمة.
وعرف يوسف - عليه السلام - إخوته بعد مضي سنين على فراقهم لقوة فراسته وزكانه عقله دونهم.
وجملة {وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} عطف على جملة {فَعَرَفَهُمْ}. ووقع الإخبار عنهم بالجملة الاسمية للدلالة على أن عدم معرفتهم به أمر ثابت متمكن منهم، وكان الإخبار عن معرفته إياهم بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد للدلالة على أن معرفته إياهم حصلت بحدثان رؤيته إياهم دون توسم وتأمل. وقرن مفعول {مُنْكِرُونَ} الذي هو ضمير يوسف - عليه السلام - بلام التقوية ولم يقل وهم منكرون لزيادة تقوية جهلهم بمعرفته.
وتقديم المجرور بلام التقوية في {لَهُ مُنْكِرُونَ} للرعاية على الفاصلة، وللاهتمام بتعلق نكرتهم إياه للتنبيه على أن ذلك من صنع الله تعالى وإلا فإن شمائل يوسف - عليه السلام - ليست مما شأنه أن يجهل وينسى.
والجهاز - بفتح الجيم وكسرها - ما يحتاج إليه المسافر، وأوله ما سافر لأجله من
الأحمال. والتجهيز: إعطاء الجهاز.
وقوله: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ} يقتضي وقوع حديث منهم عن أن لهم أخا من أبيهم لم يحضر معهم وإلا لكان إنباء يوسف - عليه السلام - لهم بهذا يشعرهم أنه يكلمهم عارف بهم وهو لا يريد أن يكشف ذلك لهم. وفي التوراة"1" أن يوسف - عليه السلام - احتال لذلك بأن أوهمهم أنه اتهمهم أن يكونوا جواسيس للعدو أو أنهم تبرأوا من ذلك فعرفوه بمكانهم من قومهم وبأبيهم وعدد عائلتهم، فما ذكروا ذلك له أظهر أنه يأخذ أحدهم رهينة عنده إلى أن يرجعوا ويأتوا بأخيهم الأصغر ليصدقوا قولهم فيما أخبروه، ولذلك قال {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي}.
و {مِنْ أَبِيكُمْ} حال من "أَخٍ لَكُمْ" أي أخوته من جهة أبيكم، وهذا من مفهوم الاقتصاد على عدم إرادة غيره، أي من أبيكم وليس من أمكم، أي ليس بشقيق.
والعدول عن أن يقال: ايتوني بأخيكم من أبيكم، لأن المراد حكاية ما اشتمل عليه كلام يوسف - عليه السلام - من إظهار عدم معرفته بأخيهم إلا من ذكرهم إياه عنده. فعدل عن الإضافة المقتضية إلى التنكير تنابها في التظاهر بجهله به.
{وَلا تَقْرَبُونِ} أي لا تعودوا إلى مصر، وقد علم أنهم لا يتركون أخاهم رهينة.
وقوله: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} ترغب لهم في العودة إليه، وقد علم أنهم مضطرون إلى العودة إليه لعدم كفاية الميرة التي امتاروها لعائلة ذات عدد من الناس مثلهم، كما دل عليه قولهم بعد {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} [سورة يوسف: 65].
ودل قوله: {خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} على أنه كان ينزل الممتارين في ضيافته لكثرة الوافدين على مصر للميرة. والمنزل: المضيف. وهذه الجملة كناية عن الوعد بأن يوفي لهم الكيل ويكرم ضيافتهم إن أتوا بأخيهم. والكيل في الموضعين مراد من المصدر. فمعنى {فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} أي لا يكال لكم، كناية عن منعهم من ابتياع الطعام.
[61] {قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ}.
وعد بأن يبذلوا قصارى جهدهم في الإتيان بأخيهم وإشعار بصعوبة ذلك.فمعنى {سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} سنحاول أن لا يشح به، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ
ـــــــ
(1) الإصحاح (42) من سفر التكوين.
فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ} [سورة يوسف: 24].
وجملة {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} عطف على الوعد بتحقيق الموعود به، فهو فعل ما أمرهم به، وأكدوا ذلك بالجملة الاسمية وحرف التأكيد.
[62] {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
قرأ الجمهور {لفتيته} بوزن فعلة جمع تكسير فتى مثل أخ وإخوة.
وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف {لِفِتْيَانِهِ} بوزن إخوان. والأول صيغة قلة والثاني صيغة كثرة وكلاهما يستعمل في الآخر. وعدد الفتيان لا يختلف.
والفتى: من كان في مبدإ الشباب، ومؤنثه فتاة، ويطلق على الخادم تلطفا، لأنهم كانوا يستخفون بالشباب في الخدمة، وكانوا أكثر ما يستخدمون العبيد.
والبضاعة: المال او المتاع المعد للتجارة. والمراد بها هنا الدراهم التي ابتاعوا بها الطعام كما في التوراة.
وقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا} رجاء أن يعرفوا أنها عين بضاعتهم إما بكونها مسكوك سكة بلادهم وإما بمعرفة الصرر التي كانت مصرورة فيها كما في التوراة، أي يعرفون أنها وضعت هنالك قصدا عطية من عزيز مصر.
والرحال: جمع رحل، وهو ما يوضع على البعير من متاع الراكب، ولذا سمي البعير راحلة.
والانقلاب: الرجوع، وتقدم عند قوله تعالى: {انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} في سورة آل عمران.
وجملة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} جواب للأمر في قوله: {اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ} لأنه لما أمرهم بالرجوع استشعر بنفاذ رأيه أنهم قد يكونون غير واجدين بضاعة ليبتاعوا بها الميرة لأنه رأى مخايل الضيق عليهم.
[63، 64] {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ
فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.
معنى {مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} حيل بيننا وبين الكيل في المستقبل، لأن رجوعهم بالطعام المعبر عنه بالجهاز أن المنع من الكيل يقع في المستقبل، ولأن تركيب {مُنِعَ مِنَّا} يؤذن بذلك، إذ جعلوا الكيل ممنوع الابتداء منهم لأن {مِنْ} حرف ابتداء.
والكيل مصدر صالح لمعنى الفاعلية والمفعولية، وهو هنا بمعنى الإسناد إلى الفاعل، أي لن نكيل، فالممنوع هو ابتداء الكيل منهم. ولما لم يكن بيدهم ما يكال تعين تأويل الكيل بطلبه، أي منع منا ذلك لعدم الفائدة لأننا لا نمنحه إلا إذا وفينا بما وعدنا من إحضار أخينا. ولذلك صح تفريع {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا} عليه، فصار تقديم الكلام: منعنا من أن نطلب الكيل إلا إذا حضر معنا أخونا. فتعين أنهم حكوا القصة لأبيهم مفصلة واختصرها القرآن لظهور المراد. والمعنى: إن أرسلته معنا نرحل للاكتيال ونطلبه. وإطلاق المنع على هذا المعنى مجازا، لأنهم أنذروا بالحرمان فصار طلبهم ممنوعا منهم لأن طلبه عبث.
وقرأ الجمهور {نَكْتَلْ} بنون المتكلم المشارك. وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بتحيتة عوض النون على أنه عائد إلى {أَخَانَا} أي يكتل معنا.
وجملة {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} عطف على جملة {فَأَرْسِلْ}. وأكدوا حفظه بالجملة الاسمية الدالة على الثبات وبحرف التوكيد.
وجواب أبيهم كلام موجه يحتمل أن يكون معناه: {إني آمنكم كما أمنتكم على أخيه}، وأن يكون معناه ماذا أفاد ائتمانكم على أخيه من قبل حتى آمنكم عليه.
والاستفهام إنكاري فيه معنى النفي، فهو يستفهم عن وجه التأكيد في قولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}. والمقصود من الجملة على احتمالها هو التفريع الذي في قوله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً}، أي خير حفظا منكم، فإن حفظه الله سلم وإن لم يحفظه لم يسلم كما لم يسلم أخوه من قبل حين أمنتكم عليه.
وهم قد اقتنعوا بجوابه وعلموا منه أنه مرسل معهم أخاهم، ولذلك لم يراجعوه في شأنه.
و {حفظا} مصدر منصوب على التمييز في قراءة الجمهور. وقرأه حمزة والكسائي، وحفص {حَافِظاً} على أنه حال من اسم الجلالة وهي حال لازمة.
[65] {وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ}.
أصل المتاع ما يتمتع به من العروض والثياب. وتقدم عند قوله تعالى: {لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} في سورة النساء [102]. وأطلق هنا على إعدال المتاع وإحماله من تسمية الشيء باسم الحال فيه.
وجملة {قَالُوا يَا أَبَانَا} مستأنفة استئنافا بيانيا لترقب السامع أن يعلم ماذا صدر منهم حين فاجأهم وجدان بضاعتهم في ضمن متاعهم لأنها مفاجأة غريبة، ولهذه النكتة لم يعطف بالفاء.
و {ما} في قوله: {مَا نَبْغِي} يجوز أن يكون للاستفهام الإنكاري بتنزيل المخاطب منزلة من يتطلب منهم تحصيل بغية فينكرون أن تكون لهم بغية أخرى أي ماذا نطلب بعد هذا. ويجوز كون {مَا} نافية، والمعنى واحد لأن الاستفهام الإنكاري في معنى النفي.
وجملة {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} مبنية لجملة {مَا نَبْغِي} على الاحتمالين.وإنما علموا أنها ردت إليهم بقرينة وضعها في العدل بعد وضع الطعام وهم قد كانوا دفعوها إلى الكيالين، أو بقرينة ما شاهدوا في يوسف - عليه السلام - من العطف عليهم، والوعد بالخير إن هم أتوا بأخيهم إذ قال لهم: {أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [سورة يوسف: 59].
وجملة {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} معطوفة على جملة {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ، لأنها في قوة هذا ثمن ما نحتاجه من الميرة صار إلينا ونمير به أهلنا، أي نأتيهم بالميرة.
والميرة - بكسر الميم بعدها ياء ساكنة -: هي الطعام المجلوب.
وجملة {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} معطوفة على جملة {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} ، لأن المير يقتضي ارتحالا للجلب، وكانوا سألوا أباهم أن يكون أخوهم رفيقا لهم في الارتحال المذكور، فكانت المناسبة بين جملة {وَنَمِيرُ أَهْلَنَا} وجملة {وَنَحْفَظُ أَخَانَا} بهذا الاعتبار، فذكروا ذلك تطمينا لخاطر فيهم.
وجملة {وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ} زيادة في إظهار حرصهم على سلامة أخيهم لأن في
سلامته فائدة لهم بازدياد كيل بعير. لأن يوسف - عليه السلام - لا يعطي الممتار أكثر من حمل بعير من الطعام، فإذا كان أخوهم معهم أعطاه حمل بعير في عداد الأخوة. وبه تظهر المناسبة بين هذه الجملة والتي قبلها.
وهذه الجمل مرتبة ترتيبا بديعا لأن بعضها متولد عن بعض.
والإشارة في {ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ} إلى الطعام الذي في متاعهم. وإطلاق الكيل عليه من إطلاق المصدر على المفعول بقرينة الإشارة.
قيل: إن يعقوب - عليه السلام - قال لهم: لعلهم نسوا البضاعة فإذا قدمتم عليهم فأخبروهم بأنكم وجدتموها في رحالكم.
[66] {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ}.
اشتهر الإيتاء والإعطاء وما يراد بهما في إنشاء الحلف ليطمئن بصدق الحالف غيره وهو المحلوف له.
وفي حديث الحشر "فيعطي الله من عهود ومواثيق أن لا يسأله غيره". كما أطلق فعل الأخذ على تلقي المحلوف له، قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [سورة النساء: 21] و {قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ} [سورة يوسف: 80].
ولعل سبب إطلاق فعل الإعطاء أن الحالف كان في العصور القديمة يعطي المحلوف له شيئا تذكرة لليمين مثل سوطه أو خاتمه، أو أنهم كانوا يضعون عند صاحب الحق ضمانا يكون رهينة عنده. وكانت الحمالة طريقة للتوثيق فشبه اليمين بالحمالة. وأثبت له الإعطاء والأخذ على طريقة المكنية، وقد اشتهر ضد ذلك في إبطال التوثيق يقال: رد عليه حلفه.
والموثق: أصله مصدر ميمي للتوثيق، أطلق هنا على المفعول وهو ما به التوثيق، يعني اليمين.
و{مِنَ اللَّهِ} صفة ل {مَوْثِقاً} ، و {مِنْ} للابتداء، أي موثقا صادرا من الله تعالى. ومعنى ذلك أن يجعلوا الله شاهدا عليهم فيما وعدوا به بأن يحلفوا بالله فتصير شهادة الله عليهم كتوثق صادر من الله تعالى بهذا الاعتبار. وذلك أن يقولوا: لك ميثاق الله أو عهد
الله أو نحو ذلك، وبهذا يضاف الميثاق والعهد إلى اسم الجلالة كأن الحالف استودع الله ما به التوثق للمحلوف له.
وجملة {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} جواب لقسم محذوف دل عليه {مَوْثِقاً}. وهو حكاية لقول يقوله أبناؤه المطلوب منهم إيقاعه حكاية بالمعنى على طريقة حكاية الأقوال لأنهم لو نطقوا بالقسم لقالوا: لنأتينك به، فلما حكاه هو ركب الحكاية بالجملة التي هي كلامهم وبالضمائر المناسبة لكلامه بخطابه إياهم.
ومن هذا النوع قوله تعالى حكاية عن عيسى - عليه السلام - {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [سورة المائدة: 117]. وإن ما أمره الله: قل لهم أن يعبدوا ربك وربهم.
ومعنى {يُحَاطَ بِكُمْ} يحيط بكم محيط. والإحاطة: الأخذ بأسر أو هلاك مما هو خارج عن قدرتهم، وأصله إحاطة الجيش في الحرب، فاستعمل مجازا في الحالة التي لا يستطاع التغلب عليها، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [سورة يونس: 22].
والاستثناء في {إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} استثناء من عموم أحوال، فالمصدر المنسبك من {أَنْ} مع الفعل في موضع الحال، وهو كالإخبار بالمصدر فتأويله: إلا محاطا بكم.
وقوله: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} تذكير لهم بأن الله رقيب على ما وقع بينهم. وهذا توكيد للحلف.
والوكيل: فعيل بمعنى مفعول، أي موكول إليه، وتقدم في {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران [173].
[67] {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
{وَقَالَ يَا بَنِيَّ} عطف على جملة {قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [سورة يوسف: 66].
وإعادة فعل {قَالَ} للإشارة إلى اختلاف زمن القولين وإن كانا معا مسببين على إيتاء موثقهم، لأنه اطمأن لرعايتهم ابنه وظهرت له المصلحة في سفرهم للإمتار، فقوله: {يَا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} صادر في وقت إزماعهم الرحيل. والمقصود من حكاية
قوله هذا العبرة بقوله: {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} الخ.
والأبواب: أبواب المدينة. وتقدم ذكر الباب آنفا. وكانت مدينة منفيس من أعظم مدن العالم فهي ذات أبواب. وإنما نهاهم أن يدخلوها من باب واحد خشية أن يسترعي عددهم أبصار أهل المدينة وحراسها وأزياؤهم أزياء الغرباء عن أهل المدينة أن يوجسوا منهم خيفة من تجسس أو سرقة فربما سجنوهم أو رصدوا الأعين إليهم، فيكون ذلك ضرا لهم وحائلا دون سرعة وصولهم إلى يوسف - عليه السلام - ودون قضاء حاجتهم. وقد قيل في الحكمة: "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان".
ولما كان شأن إقامة الحراس والأرصاد أن تكون على أبواب المدينة اقتصر على تحذيرهم من الدخول من باب واحد دون أن يحذرهم من المشي في سكة واحدة من سكك المدينة، ووثق بأنهم عارفون بسكك المدينة فلم يخش ضلالهم فيها، وعلم أن "بنيامين" يكون في صحبة أحد اخوته لئلا يضل في المدينة.
والمتفرقة أراد بها المتعددة لأنه جعلها في مقابلة الواحد. ووجه العدول عن المتعددة إلى المتفرقة الإيماء إلى علة الأمر وهي إخفاء كونهم جماعة واحدة.
وجملة {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} معترضة في آخر الكلام، أي وما أغني عنكم بوصيتي هذه شيئا. و {مِنَ اللَّهِ} متعلق ب {أُغْنِي} ، أي لا يكون ما أمرتكم به مغنيا غناء مبتدئا من عند الله بل هو الأدب والوقوف عند ما أمر الله، فإن صادف ما قدره فقد حصل فائدتان، وإن خالف ما قدره حصلت فائدة امتثال أوامره واقتناع النفس بعدم التفريط.
وتقدم وجه تركيب {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} عند قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} في سورة العقود [41].
وأراد بهذا تعليمهم الاعتماد على توفيق الله ولطفه مع الأخذ بالأسباب المعتادة الظاهرة تأدبا مع واضع الأسباب ومقدر الألطاف في رعاية الحالين، لأنا لا نستطيع أن نطلع على مراد الله في الأعمال فعلينا أن نتعرفها بعلاماتها ولا يكون ذلك إلا بالسعي لها.
وهذا سر مسألة القدر كما أشار إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له"، وفي الأثر "إذا أراد الله أمرا يسر أسبابه" قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى
لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [سورة الإسراء: 19]. ذلك أن شأن الأسباب أن تحصل عندها مسبباتها. وقد يتخلف ذلك بمعارضة أسباب أخرى مضادة لتلك الأسباب حاصلة في وقت واحد، أو لكون السبب الواحد قد يكون سببا لأشياء متضادة باعتبارات فيخطئ تعاطي السبب في مصادفة المسبب المقصود، ولولا نظام الأسباب ومراعاتها لصار المجتمع البشري هملا وهمجا.
والإغناء: هنا مشتق من الغناء - بفتح الغين وبالمد - وهو الإجزاء والاضطلاع وكفاية المهم. وأصله مرادف الغنى - بكسر الغين - والقصر وهما معا ضد الفقر، وكثر استعمال الغناء المفتوح الممدود في الإجزاء والكفاية على سبيل المجاز المرسل لأن من أجزأ وكفى فقد أذهب عن نفسه الحاجة إلى المغنين وأذهب عمن أجزأ عنه الاحتياج أيضا. وشاع هذا الاستعمال المجازي حتى غلب على هذا الفعل، فلذلك كثر في الكلام تخصيص الغناء بالفتح والمد بهذا المعنى، وتخصيص الغنى - بالكسر والقصر - في معنى ضد الفقر ونحوه حتى صار الغناء الممدود لا يكاد يسمع في معنى ضد الفقر. وهي تفرقة حسنة من دقائق استعمالهم في تصاريف المترادفات. فما يوجد في كلام ابن بري من قوله: إن الغناء مصدر ناشئ عن فعل أغنى المهموز بحذف الزائد الموهم أنه لا فعل له مجرد فإنما عنى به أن استعمال فعل غني في هذا المعنى المجازي متروك ممات لا أنه ليس له فعل مجرد.
ولذلك فمعنى فعل "أغنى" بهذا الاستعمال معنى الأفعال القاصرة، ولم يفده الهمز تعدية، فلعل همزته دالة على الصيرورة ذا غنى، فلذلك كان حقه أن لا ينصب المفعول به بل يكون في الغالب مرادفا لمفعول مطلق كقول عمرو بن معد يكرب:
أغني غناء الذاهب ... ين أعد للحدثان عدا
ويقولون: أغنى فلان عن فلان، أي في أجزاه عوضه وقام مقامه، ويأتون بمنصوب فهو تركيب غريب، فإن حرف "عن" فيه للبدلية وهي المجاوزة المجازية. جعل الشيء البدل عن الشيء مجاوزا له لأنه حل محله في حال غيبته فكأنه جاوزه فسموا هذه المجاوزة بدلية وقالوا: إن "عن" تجيء للبدلية كما تجيء لها الباء. فمعنى {مَا أُغْنِي عَنْكُمْ} لا أجزي عنكم، أي لا أكفي بدلا عن أجزائكم لأنفسكم.
و {مِنْ شَيْءٍ} نائب مناب شيئا، وزيدت "من" لتوكيد عموم شيء في سياق النفي، فهو كقوله تعالى: {لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً} [سورة يس: 23] أي من الضر. وجوز
صاحب "الكشاف" في مثله أن يكون {شَيْئاً} مفعولا مطلقا، أي شيئا من الغناء وهو الظاهر، فقال في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً} [سورة البقرة: 48]، قال: أي قليلا من الجزاء، كقوله تعالى: {وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً} ؛ لكنه جوز أن يكون {شَيْئاً} مفعولا به وهو لا يستقيم إلا على معنى التوسع بالحذف والإيصال، أي بنزع الخافض.
وجملة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} في موضع التعليل لمضمون {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}. والحكم: هنا بمعنى التصرف والتقدير، ومعنى الحصر أنه لا يتم إلا ما أراده الله، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [سورة الطلاق: 3]. وليس للعبد أن ينازع مراد الله في نفس الأمر ولكن واجبه أن يتطلب الأمور من أسبابها لأن الله أمر بذلك، وقد جمع هذين المعنيين قوله: {وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ}.
وجملة {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} في موضع البيان لجملة {وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} ليبين لهم أن وصيته بأخذ الأسباب مع التنبيه على الاعتماد على الله هو معنى التوكل الذي يضل في فهمه كثير من الناس اقتصارا وإنكارا. ولذلك أتى بجملة {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} أمرا لهم ولغيرهم على معنى أنه واجب الحاضرين والغائبين، وأن مقامه لا يختص بالصديقين بل هو واجب كل مؤمن كامل الإيمان لا يخلط إيمانه بأخطاء الجاهليات.
[68] {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
جملة معترضة. والواو اعتراضية.
ودلت {حَيْثُ} على الجهة، أي لما دخلوا من الجهات التي أمرهم أبوهم بالدخول منها. فالجملة التي تضاف إليها {حَيْثُ} هي التي تبين المراد من الجهة.
وقد أغنت جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} عن جمل كثيرة، وهي أنهم ارتحلوا ودخلوا من حيث أمرهم أبوهم، ولما دخلوا من حيث أمرهم سلموا مما كان يخافه عليهم. وما كان دخولهم من حيث أمرهم يغني عنهم من الله من شيء لو قدر الله أن
يحاط بهم، فالكلام إيجاز. ومعنى {مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} أنه ما كان يرد عنهم قضاء الله لولا أن الله قدر سلامتهم.
والاستثناء في قوله: {إِلَّا حَاجَةً} منقطع لأن الحاجة التي في نفس يعقوب - عليه السلام - ليست بعضا من الشيء المنفي إغناؤه عنهم من الله، فالتقدير: لكن حاجة في نفس يعقوب - عليه السلام - قضاها.
والقضاء: الإنفاذ، ومعنى قضاها أنفذها. يقال: قضى حاجة لنفسه، إذا أنفذ ما أضمره في نفسه، أي نصيحة لأبنائه أداها لهم ولم يدخرها عنهم ليطمئن قلبه بأنه لم يترك شيئا يظنه نافعا لهم إلا أبلغه إليهم.
والحاجة: الأمر المرغوب فيه. سمي حاجة لأنه محتاج إليه، فهي من التسمية باسم المصدر. والحاجة التي في نفس يعقوب - عليه السلام - هي حرصه على تنبيههم للأخطار التي تعرض لأمثالهم في مثل هذه الرحلة إذا دخلوا من باب واحد. وتعليمهم الأخذ بالأسباب مع التوكل على الله.
وجملة {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} معترضة بين جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} الخ وبين جملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
وهو ثناء على يعقوب - عليه السلام - بالعلم والتدبير، وأن ما أسداه من النصح لهم هو من العلم الذي آتاه الله وهو من علم النبوة.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} استدراك نشأ عن جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} الخ. والمعنى أن الله أمر يعقوب - عليه السلام - بأخذ أسباب الاحتياط والنصيحة مع علمه بأن ذلك لا يغني عنهم من الله من شيء قدره لهم، فإن مراد الله تعالى خفي عن الناس، وقد أمر بسلوك الأسباب المعتادة. وعلم يعقوب - عليه السلام - ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون تطلب الأمرين فيهملون أحدهما. فمنهم من يهمل معرفة أن الأسباب الظاهرية لا تدفع أمرا قدره الله وعلم أنه واقع، ومنهم من يهمل الأسباب وهو لا يعلم أن الله أراد في بعض الأحوال عدم تأثيرها.
وقد دل قوله: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} بصريحه على أن يعقوب - عليه السلام - عمل بما علمه الله. ودل قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} بتعريضه على أن يعقوب - عليه السلام - من القليل من الناس الذين علموا مراعاة الأمرين ليتقرر الثناء على يعقوب -
عليه السلام - باستفادة من الكلام مرتين: مرة بالصراحة ومرة بالاستدراك.
والمعنى أن أكثر الناس في جهالة عن وضع هاته الحقائق موضعها ولا يخلون عن مضيع لإحداهما. ويفسر هذا المعنى قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أمر المسلمين بالقفول عن عمواس لما بلغه ظهور الطاعون بها وقال له أبو عبيدة: أفرارا من قدر الله? فقال عمر - رضي الله عنه -: "لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ألسنا نفر من قدر الله إلى قدر الله..." إلى آخر الخبر.
[69] {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
موقع جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ} كموقع جملة {وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ} [سورة يوسف: 68] في إيجاز الحذف.
والإيواء: الإرجاع. وتقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ} في سورة يونس [8].
وأطلق الإيواء هنا مجازا على الإدناء والتقريب كأنه إرجاع إلى مأوى، وإنما أدناه ليتمكن من الإسرار إليه بقوله: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ}.
وجملة {قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} بدل اشتمال من جملة {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ}. وكلمة بكلمة مختصرة بليغة إذ أفاده أنه هو أخوه الذي ظنه أكله الذئب. فأكد الخبر ب "إن" وبالجملة الاسمية وبالقصر الذي أفاده ضمير الفصل، أي أنا مقصورة على الكون أخاك لا أجنبي عنك، فهو قصر قلب لاعتقاده أن الذي كلمه لا قرابة بينه وبينه.
وفرع على هذا الخبر {فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. والابتئاس: مطاوعة الإبئاس، أي جعل أحد بائسا، أي صاحب بؤس.
والبؤس: هو الخزن والكدر. وتقدم نظير هذا التركيب في قصة نوح - عليه السلام - من سورة هود. والضميران في {كَانُوا} و {يَعْمَلُونَ} راجعان إلى إخوتهما بقرينة المقام، وأراد بذلك ما كان أخوه "بنيامين" من الحزن لهلاك أخيه الشقيق وفظاظة اخوته وغيرهم منه.
والنهي عن الابتئاس مقتض الكف عنه، أي أزل عنك الحزن واعتض عنه بالسرور.
وأفاد فعل الكون في المضي أن المراد ما علموه فيما مضى. وأفاد صوغ {يَعْمَلُونَ} بصيغة المضارع أنه أعمال متكررة من الأذى. وفي هذا تهيئة لنفس أخيه لتلقي حادث الصواع باطمئنان حتى لا يخشى أن يكون بمحل الريبة من يوسف - عليه السلام -.
[70 - 75] {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
تقدم الكلام على نظير قوله: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ} في الآيات قبل هذه. وإسناد جعل السقاية إلى ضمير يوسف مجاز عقلي، وإنما هو آمر بالجعل والذين جعلوا السقاية هم العبيد الموكلون بالكيل.
والسقاية: إناء كبير يسقى به الماء والخمر. والصواع: لغة في الصاع، وهو وعاء للكيل يقدر بوزن رطل وربع أو وثلث. وكانوا يشربون الخمر بالمقدار، يقدر كل شارب لنفسه ما اعتاد أنه لا يصرعه، ويجعلون آنية الخمر مقدرة بمقادير مختلفة، فيقول الشارب للساقي: رطلا أو صاعا أو نحو ذلك. فتسمية هذا الإناء سقاية وتسميته صواعا جارية على ذلك. وفي التوراة سمي طاسا، ووصف بأنه من فضة.
وتعريف {السِّقَايَةَ} تعريف العهد الذهني، أي سقاية معروفة لا يخلو عن مثلها مجلس العظيم.
وإضافة الصواع إلى الملك لتشريفه، وتهويل سرقته على وجه الحقيقة، لأن شؤون الدولة كلها للملك. ويجوز أن يكون أطلق الملك على يوسف - عليه السلام - تعظيما له.
والتأذين: النداء المكرر. وتقدم عند قوله تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} في سورة الأعراف [44].
والعير: اسم للحمولة من إبل وحمير وما عليها من أحمال وما معها من ركابها، فهو اسم لمجموع هذه الثلاثة. وأسندت السرقة إلى جميعهم جريا على المعتاد من مؤاخذة الجماعة بجرم الواحد منهم.
وتأنيث اسم الإشارة وهو {أَيَّتُهَا} لتأويل العير بمعنى الجماعة لأن الركاب هم الأهم.
وجملة {قَالُوا} جواب لنداء المنادي إياهم {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ، ففصلت الجملة لأنها في طريقة المحاورة كما تكرر غير مرة.
وضمير {قَالُوا} عائد إلى العير.
وجملة {وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ} حال من ضمير {قَالُوا}. ومرجع ضمير {أَقْبَلُوا} عائد إلى فتيان يوسف - عليه السلام -. وضمير {عَلَيْهِمْ} راجع إلى ما رجع إليه ضمير {قَالُوا} ، أي وقد أقبل عليهم فتيان يوسف - عليه السلام -.
وجعلوا جعلا لمن يأتي بالصواع. والذي قال: {وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} واحد من المقبلين وهو كبيرهم. والزعيم: الكفيل.
وهذه الآية قد جعلها الفقهاء أصلا لمشروعية الجعل والكفالة. وفيه نظر، لأن يوسف - عليه السلام - لم يكن يومئذ ذا شرع حتى يستأنس للأخذ ب "أن شرع من قبلنا شرع لنا" إذا حكاه كلام الله أو رسوله. ولو قدر أن يوسف - عليه السلام - كان يومئذ نبيا فلا يثبت أنه رسول بشرع، إذ لم يثبت أنه بعث إلى قوم فرعون، ولم يكن ليوسف - عليه السلام - أتباع في مصر قبل ورود أبيه واخوته وأهلهم. فهذا مأخذ ضعيف.
والتاء في {تَاللَّهِ} حرف قسم على المختار، ويختص بالدخول على اسم الله تعالى وعلى لفظ رب، ويختص أيضا بالمقسم عليه العجيب. وسيجيء عند قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} في [سورة الأنبياء: 57].
وقولهم: {لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ}. أكدوا ذلك بالقسم لأنهم كانوا وفدوا على مصر مرة سابقة واتهموا بالجوسسة فتبينت براءتهم بما صدقوا يوسف - عليه السلام - فيما وصفوه من حال أبيهم وأخيهم. فالمراد ب {الْأَرْضِ} المعهودة، وهي مصر.
وأما براءتهم من السرقة فبما أخبروا به عند قدومهم من وجدان بضاعتهم في رحالهم، ولعلها وقعت في رحالهم غلطا.
على أنهم نفوا عن أنفسهم الاتصاف بالسرقة بأبلغ مما نفوا به الإفساد عنهم، وذلك
بنفي الكون سارقين دون أن يقولوا: وما جئنا لنسرق، لأن السرقة وصف يتعير به، وأما الإفساد الذي نفوه، أي التجسس فهو مما يقصده العدو على عدوه فلا يكون عارا، ولكنه اعتداء في نظر العدو.
وقول الفتيان {مَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} تحكيم، لأنهم لا يسعهم إلا أن يعينوا جزاء يؤخذون به، فهذا تحكيم المرء في ذنبه.
ومعنى {مَا جَزَاؤُهُ}: ما عقابه. وضمير {جَزَاؤُهُ} عائد إلى الصواع بتقدير مضاف دل عليه المقام، أي ما جزاء سارقه أو سرقته.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ} إن تبين كذبكم بوجود الصواع في رحالكم.
وقوله: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} {جَزَاؤُهُ} الأول مبتدأ، و من يجوز أن تكون شرطية وهي مبتدأ ثان وأن جملة {وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} جملة الشرط وجملة {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} جواب الشرط، والفاء رابطة للجواب، والجملة المركبة من الشرط وجوابه خبر عن المبتدإ الأول. ويجوز أن تكون {من} موصولة مبتدأ ثانيا، وجملة {وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} صلة الموصول. والمعنى أن من وجد في رحله الصواع هو جزاء السرقة، أي ذاته هي جزاء السرقة، فالمعنى أن ذاته تكون عوضا عن هذه الجريمة، أي أن يصير رفيقا لصاحب الصواع ليتم معنى الجزاء بذات أخرى. وهذا معلوم من السياق إذ ليس المراد إتلاف ذات السارق لأن السرقة لا تبلغ عقوبتها حد القتل.
فتكون جملة {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} توكيدا لفظيا لجملة {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} ، لتقرير الحكم وعدم الانقلاب منه، وتكون الفاء للتفريع تفريع التأكيد على الموكد. وقد حكم إخوة يوسف - عليه السلام - على أنفسهم بذلك وتراضوا عليه فلزمهم ما التزموه.
ويظهر أن ذلك كان حكما مشهورا بين الأمم أن يسترق السارق. وهو قريب من استرقاق المغلوب في القتال. ولعله كان حكما معروفا في مصر لما سيأتي قريبا عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [سورة يوسف: 76].
وجملة {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} بقية كلام إخوة يوسف - عليه السلام - أي كذلك حكم قومنا في جزاء السارق الظالم بسرقته، أو أرادوا أنه حكم الإخوة على من يقدر منهم أن يظهر الصواع في رحله، أي فهو حقيق لأن نجزيه بذلك.
والإشارة ب {كَذَلِكَ} إلى الجزاء المأخوذ من {نَجْزِي} ، أي نجزي الظالمين جزاء
كذلك الجزاء، وهو من وجد في رحله.
[76] {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}.
{بَدَأَ} أي أمر يوسف - عليه السلام - بالبداءة بأوعية بقية إخوته قبل وعاء أخيه الشقيق.
وأوعية: جمع وعاء، وهو الظرف، مشتق من الوعي وهو الحفظ. والابتداء بأوعية غير أخيه لإبعاد أن يكون الذي يوجد في وعائه هو المقصود من أول الأمر. وتأنيث ضمير {اسْتَخْرَجَهَا} للسقاية. وهذا التأنيث في تمام الرشاقة إذ كانت الحقيقة أنها سقاية جعلت صواعا. فهو كرد العجز على الصدر.
والقول في {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} كالقول في {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [سورة يوسف: 75].
والكيد: فعل يتوصل بظاهره إلى مقصد خفي. والكيد: هنا هو إلهام يوسف - عليه السلام - لهذه الحيلة المحكمة في وضع الصواع وتفتيشه وإلهام إخوته إلى ذلك الحكم المصمت.
وأسند الكيد إلى الله لأنه ملهمه فهو مسببه. وجعل الكيد لأجل يوسف - عليه السلام - لأنه لفائدته.
وجملة {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} بيان للكيد باعتبار جميع ما فيه من وضع السقاية ومن حكم إخوته على أنفسهم بما يلائم مرغوب يوسف - عليه السلام - من إبقاء أخيه عنده، ولولا ذلك لما كانت شريعة القبط تخوله ذلك، فقد قيل: إن شرعهم في جزاء السارق أن يؤخذ منه الشيء ويضرب ويغرم ضعفي المسروق أو ضعفي قيمته. وعن مجاهد {فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي حكمه وهو استرقاق السراق. وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية لقوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} أي لولا حيلة وضع الصواع في متاع أخيه. ولعل ذلك كان حكما شائعا في كثير من الأمم، ألا ترى إلى قولهم: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [سورة يوسف: 75] كما تقدم، أي أن ملك
مصر كان عادلا فلا يؤخذ أحد في بلاده بغير حق. ومثله ما كان في شرع الرومان من استرقاق المدين، فتعين أن المراد بالدين الشريعة لا مطلق السلطان.
ومعنى لام الجحود هنا نفي أن يكون في نفس الأمر سبب يخول يوسف - عليه السلام - أخذ أخيه عنده.
والاستثناء من عموم أسباب أخذ أخيه المنفية. وفي الكلام حرف جر محذوف قبل {أَنْ} المصدرية، وهو باء السببية التي يدل عليها نفي الأخذ، أي أسبابه. فالتقدير: إلا بأن يشاء الله، أي يلهم تصوير حالته ويأذن ليوسف - عليه السلام - في عمله باعتبار ما فيه من المصالح الجمة ليوسف وإخوته في الحال والاستقبال لهم ولذريتهم.
وجملة {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} تذييل لقصة أخذ يوسف - عليه السلام - أخاه لأن فيها رفع درجة يوسف - عليه السلام - في الحال بالتدبير الحكيم من وقت مناجاته أخاه إلى وقت استخراج السقاية من رحله. ورفع درجة أخيه في الحال بإلحاقه ليوسف - عليه السلام - في العيش الرفيه والكمال بتلقي الحكمة من فيه. ورفع درجات إخوته وأبيه في الاستقبال بسبب رفع درجة يوسف - عليه السلام - وحنوه عليهم. فالدرجات مستعارة لقوة الشرف من استعارة المحسوس للمعقول. وتقدم في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} في سورة البقرة [228]، وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في سورة الأنفال [4].
وجملة {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} تذييل ثان لجملة {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} الآية.
وفيها شاهد لتفاوت الناس في العلم المؤذن بأن علم الذي خلق لهم العلم لا ينحصر مداه، وأنه فوق كل نهاية من علم الناس.
والفوقية مجاز في شرف الحال، لأن الشرف يشبه بالارتفاع.
وعبر عن جنس المتفوق في العلم بوصف {عَلِيمٌ} باعتبار نسبته إلى من هو فوقه إلى أن يبلغ إلى العليم المطلق سبحانه.
وظاهر تنكير {عَلِيمٌ} أن يراد به الجنس فيعم كل موصوف بقوة العلم إلى أن ينتهي إلى علم الله تعالى. فعموم هذا الحكم بالنسبة إلى المخلوقات لا إشكال فيه, ويتعين تخصيص هذا العموم بالنسبة إلى الله تعالى بدليل العقل إذ ليس فوق الله عليم.
وقد يحمل التنكير على الوحدة ويكون المراد عليم واحد فيكون التنكير للوحدة
والتعظيم، وهو الله تعالى فلا يحتاج إلى التخصيص.
وقرأ الجمهور {دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} بإضافة {دَرَجَاتٍ} إلى {مَنْ نَشَاءُ}. وقرأه حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف بتنوين {دَرَجَاتٍ} على أنه تمييز لتعلق فعل {نَرْفَعُ} بمفوله وهو {مَنْ نَشَاءُ}.
[77] {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ}.
لما بهتوا بوجود الصواع في رحل أخيهم اعتراهم ما يعتري المبهوت فاعتذروا عن دعواهم تنزههم عن السرقة. إذ قالوا: {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} [سورة يوسف: 73]. عذرا بان أخاهم قد تسربت إليه خصلة السرقة من غير جانب أبيهم فزعموا أن أخاه الذي أشيع فقده كان سرق من قبل. وقد علم فتيان يوسف - عليه السلام - أن المتهم أخ من أم أخرى. فهذا اعتذار بتعريض بجانب أم أخوتهم وهي زوجة أبيهم وهي "راحيل" ابنة "لابان" خال يعقوب - عليه السلام -.
وكان ليعقوب - عليه السلام - أربع زوجات: "راحيل" هذه أم يوسف - عليه السلام - وبنيامين، و"ليئة" بنت لابان أخت راحيل وهي أم روبين، وشمعون، ولاوي، ويهوذا، وبساكر، وزبولون، و"بلهة" جارية راحيل وهي أم دانا، ونفتالي، و"زلفة" جارية راحيل أيضا وهي أم جاد، وأشير.
وإنما قالوا: {قَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} بهتانا ونفيا للمعرة عن أنفسهم. وليس ليوسف - عليه السلام - يومئذ أنبياء. وشتان بين السرقة وبين الكذاب إذا لم تترتب عليه مضرة.
وكان هذا الكلام بمسمع من يوسف - عليه السلام - في مجلس حكمه.
وقوله: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ} يجوز أن يعود الضمير البارز إلى جملة {قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} على تأويل ذلك القول بمعنى المقالة على نحو قوله تعالى: {إنها كلمة هو قائلها} بعد قوله: {رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [سورة المؤمنون: 99]. ويكون معنى {أسرها في نفسه} أنه تحملها ولم يظهر غضبا منها، وأعرض عن زجرهم وعقابهم مع أنها طعن فيه وكذب. وإلى هذا التفسير ينحو أبو
علي الفارسي وأبو حيان. ويكون قوله: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} كلاما مستأنفا حكاية لما أجابهم به يوسف - عليه السلام - صراحة على طريقة حكاية المحاورة، وهو كلام لا يقتضي تقرير ما نسبوه إلى أخي أخيهم، أي أنتم أشد شرا في حالتكم هذه لأن سرقتكم مشاهدة وأما سرقة أخي أخيكم فمجرد دعوى، وفعل {قَالَ} يرجع هذا الوجه.
ويجوز أن يكون ضمير الغيبة في {فَأَسَرَّهَا} إلى ما بعده وهو قوله: {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً}. وبهذا فسر الزجاج والزمخشري، أي قال في نفسه، وهو يشبه ضمير الشأن والقصة، لكن تأنيثه بتأويل المقولة أو الكلمة، وتكون جملة {قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً} تفسير للضمير في {فَأَسَرَّهَا}.
والإسرار، على هذا الوجه، مستعمل في حقيقته، وهو إخفاء الكلام عن أن يسمعه سامع.
وجملة {وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} قيل هي توكيد لجملة {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ}. وشأن التوكيد أن لا يعطف. ووجه عطفها ما فيها من المغايرة للتي قبلها بزيادة قيد لهم المشعر بأنه أبدى لأخيه انهم كاذبون. ويجوز أن يكون المراد لم يبد لهم غضبا ولا عقابا كما تقدم مبالغة في كظم غيظه، فيكون في الكلام تقدير مضاف مناسب، أي لم يبد أثرها.
و {شَرٌّ} اسم تفضيل، وأصله أشر، و {مَكَاناً} تمييز لنسبة الأشر.
وأطلق المكان على الحالة على وجه الاستعارة، والحالة هي السرقة، وإطلاق المكان والمكانة على الحالة شائع. وقد تقدم عند قوله تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} في آخر سورة الأنعام [135], وهو تشبيه الاتصاف بوصف ما بالحلول في مكان. والمعنى أنهم لما عللوا سرقة أخيهم بأن أخاه من قبل قد سرق فإذا كانت سرقة سابقة من أخ أعدت أخاه الآخر للسرقة، فهم وقد سبقهم أخوان بالسرقة أجدر بأن يكونوا سارقين من الذي سبقه أخ واحد. والكلام قابل للحمل على معنى أنتم شر حالة من أخيكم هذا والذي قبله لأنهما بريئان مما رميتموها به وأنتم مجرمون عليها إذ قذفتم أولهما في الجب، وأيدتم تهمة ثانيهما بالسرقة.
ثم ذيله بجملة {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} وهو كلام جامع، أي الله أعلم بصدقكم فيما وصفتم أو بكذبكم. والمراد: أنه يعلم كذبهم، فالمراد: أعلم بحال ما تصفون.
[78، 79] {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظَالِمُونَ}.
نادوا بوصف العزيز إما لأن كل رئيس ولاية مهمة يدعى بما يرادف العزيز فيكون يوسف - عليه السلام - عزيزا، كما أن رئيس الشرطة يدعى العزيز كما تقدم في قوله تعالى: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [سورة يوسف: 30]، وإما لأن يوسف ضمت إليه ولاية العزيز الذي اشتراه فجمع التصرفات وراجعوه في أخذ أخيهم.
ووصفوا أباهم بثلاث صفات تقتضي الترقيق عليه، وهي: حنان الأبوة، وصفة الشيخوخة، واستحقاقه جبر خاطرة لأنه كبير قومه أو لأنه انتهى في الكبر إلى أقصاه، فالأوصاف مسوقة للحث على سراح الابن لا لأصل الفائدة لأنهم قد كانوا أخبروا يوسف - عليه السلام - بخبر أبيهم.
والمراد بالكبير: إما كبير عشيرته فإساءته تسوءهم جميعا ومن عادة الولاة استجلاب القبائل، وإما أن يكون {كَبِيراً} تأكيدا ل {شَيْخاً} أي بلغ الغاية في الكبر في السن، ولذلك فرعوا على ذلك {فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} إذ كان هو أصغر الإخوة، والأصغر أقرب إلى رقة الأب عليه.
وجملة {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} تعليل لإجابة المطلوب لا للطلب. والتقدير: فلا ترد سؤالنا لأنا نراك من المحسنين فمثلك لا يصدر منه ما يسوء أبا شيخا كبيرا.
والمكان: أصله محل الكون، أي ما يستقر فيه الجسم، وهو هنا مجاز في العوض لأن العوض يضعه آخذه في مكان الشيء المعوض عنه كما في الحديث هذه مكان حجتك.
و {مَعَاذَ} مصدر ميمي اسم للعوذ، وهو اللجأ إلى مكان للتحصن. وتقدم قريبا عند قوله: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [سورة يوسف: 23].
وانتصب هذا المصدر على المفعولية المطلقة نائبا عن فعلة المحذوف. والتقدير: أعوذ بالله معاذا، فلما حذف الفعل جعل الاسم المجرور بباء التعدية متصلا بالمصدر بطريق الإضافة فقيل: معاذ الله، كما قالوا: سبحان الله، عوضا عن أسبح الله. والمستعاذ
منه هو المصدر المنسبك من {أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ}. والمعنى: الامتناع من ذلك، أي نلجأ إلى الله أن يعصمنا من أخذ من لا حق لنا في أخذه، أي أن يعصمنا من الظلم لأن أخذ من وجد المتاع عنده صار حقا عليه بحكمه على نفسه، لأن التحكيم له قوة الشريعة. وأما أخذ غيره فلا يسوغ إذ ليس لأحد أن يسترق نفسه بغير حكم، ولذلك علل الامتناع من ذلك بأنه لو فعله لكان ذلك ظلما.
ودليل التعليل شيئان: وقوع {إِنَّ} في صدر الجملة، والإتيان بحرف الجزاء هو إذن وضمائر {نَأْخُذَ} و {وَجَدْنَا} و {مَتَاعَنَا} و {إِنَّا} و {الظَالِمُونَ} مراد بها المتكلم وحده دون مشارك، فيجوز أن يكون من استعمال ضمير الجمع في التعظيم حكاية لعبارته في اللغة التي تكلم بها فإنه كان عظيم المدينة. ويجوز أن يكون استعمل ضمير المتكلم المشارك تواضعا منه تشبيها لنفسه بمن له مشارك في الفعل وهو استعمال موجود في الكلام. ومنه قوله تعالى حكاية عن اخضر - عليه السلام - {فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} الآية من سورة الكهف[80].
وإنما لم يكاشفهم يوسف - عليه السلام - بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم يومئذ: إما لأنه خشي إن هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين فيزعموا أنهم يرجعون جميعا إلى أبيهم فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق، وإما لأنه قد كان بين القبط وبين الكنعانيين في تلك المدة عداوات فخاف إن هو جلب عشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر فتريث إلى أن يجد فرصة لذلك، وكان الملك قد أحسن إليه فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيء ظنه، فترقب وفاة الملك أو السعي في إرضائه بذلك، أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهلهم لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم، وسنذكره عند قوله: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ} [سورة يوسف: 89].
[80 - 82] {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا