كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
واحتج مالك بقوله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} على أن للأب إنكاح ابنته البكر بدون إذنها وهو أخذ بظاهرها إذ لم يتعرض لاستئذانها. ولمن يمنع ذلك أن يقول: إن عدم التعرض له لا يقتضي عدم وقوعه.
وقوله {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} يريد الصالحين بالناس في حسن المعاملة ولين الجانب. قصد بذلك تعريف خلقه لصاحبه، وليس هذا من تزكية النفس المنهي عنه لأن المنهي عنه ما قصد به قائله الفخر والتمدح، فأما ما كان لغرض الدين أو المعاملة فلذلك حاصل لداع حسن كما قال يوسف {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} .
و {أَشُقَّ عَلَيْكَ} معناه: أكون شاقا عليك، أي مكلفك مشقة، والمشقة: العسر والتعب والصعوبة في العمل. والأصل أن يوصف بالشاق العمل المتعب فإسناد أشق إلى ذاته إسناد مجازي لأنه سبب المشقة، أي ما أريد أن أشترط عليك ما فيه مشقتك. وهذا من السماحة الوارد فيها حديث: "رحم الله أمرأ سمحا إذا باع، سمحا إذا اشترى.."
وجملة {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} حكاية لجواب موسى عن كلام شعيب. واسم الإشارة إلى المذكور وهو {أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} إلى آخره. وهذا قبول موسى لما أوجبه شعيب وبه تم التعاقد على النكاح وعلى الإجارة، أي الأمر على ما شرطت علي وعليك. وأطلق {بَيْنِي وَبَيْنَكَ} مجازا في معنى الثبوت واللزوم والارتباط، أي كل فيما هو من عمله.
و {أَيَّمَا} منصوب بـ {قَضَيْتُ} . و(أي) اسم موصول مبهم مثل (ما). وزيدت بعدها (ما) للتأكيد ليصير الموصول سبيها بأسماء الشرط لأن تأكيد ما في اسم الموصول من الإبهام يكسبه عموما فيشبه الشرط فلذلك جعل له جواب كجواب الشرط. والجملة كلها بدل اشتمال من جملة {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ} لأن التخيير في منتهى الأجل مما اشتمل عليه التعاقد المفاد بجملة {ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ}.
والعدوان بضم العين: الاعتداء على الحق، أي فلا تعتدي علي. فنفي جنس العدوان الذي منه عدوان مستأجره. واستشهد موسى على نفسه وعلى شعيب بشهادة الله.
وأصل الوكيل: الذي وكل إليه الأمر، وأراد هنا أنه وكل على الوفاء بما تعاقدا عليه حتى إذا أخل أحدهما بشيء كان الله مؤاخذه. ولما ضمن الوكيل معنى الشاهد عدي بحرف {عَلَى} وكان حقه أن يعدى بـ (إلى).
والعبرة من سياقة هذا الجزء من القصة المفتتح بقوله تعالى {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} إلى قوله {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} هو ما تضمنته من فضائل الأعمال ومناقب أهل الكمال وكيف هيأ الله تعالى موسى لتلقي الرسالة بأن قلبه في أطوار الفضائل، وأعظمها معاشرة رسول من رسل الله ومصاهرته، وما تتضمنه من خصال المروءة والفتوة التي استكنت في نفسه من فعل المعروف، وإغاثة الملهوف، والرأفة بالضعيف، والزهد، والقناعة، وشكر ربه على ما أسدى إليه، ومن العفاف والرغبة في عشرة الصالحين، والعمل لهم، والوفاء بالعقد، والثبات على العهد حتى كان خاتمة ذلك تشريفه بالرسالة وما تضمنته من خصال النبوة التي أبداها شعيب من حب القرى، وتأمين الخائف، والرفق في المعاملة، ليعتبر المشركون بذلك إن كان لهم اعتبار في مقايسة تلك الأحوال بأجناسها من أحوال النبي صلى الله عليه وسلم فيهتدوا إلى أن ما عرفوه به من زكي الخصال قبل رسالته وتقويم سيرته، وإعانته على نوائب الحق، وتزوجه أفضل امرأة من نساء قومه، إن هي إلا خصال فاذة فيه بين قومه وإن هي إلا بوارق لا نهطال سحاب الوحي عليه. والله أعلم حيث يجعل رسالته وليأتسي المسلمون بالأسوة الحسنة من أخلاق أهل النبوة والصلاح.
[29] {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}
لم يذكر القرآن أي الأجلين قضى موسى إذ لا يتعلق بتعيينه غرض في سياق القصة. وعن ابن عباس قضى أوفاهما وأطيبهما إن رسول الله إذا قال فعل أي أن رسول الله المستقبل لا يصدر من مثله إلا الوفاء التام، وورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث ضعيفة الأسانيد أنه سئل عن ذلك فأجاب بمثل ما قال ابن عباس. والأهل من إطلاقه الزوجة كما في الحديث: "والله ما علمت على أهلي إلا خيرا" .
وفي سفر الخروج: أنه استأذن صهره في الذهاب إلى مصر لافتقاد أخته وآله. وبقية القصة تقدمت في سورة النمل إلا زيادة قوله: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} وذلك مساو لقوله هنا { إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} .
والجذوة مثلث الجيم، وقرئ بالوجوه الثلاثة، فالجمهور بكسر الجيم، وعاصم بفتح الجيم وحمزة وخلف بضمها، وهي العود الغليظ. قيل مطلقا وقيل المشتعل وهو الذي في (القاموس). فإن كان الأول فوصف الجذوة بأنها من النار وصف مخصص، وإن
كان الثاني فهو وصف كاشف، و {مِنْ} على الأول بيانية وعلى الثاني تبعيضية.
[30-32] { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} .
{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ}
تقدم مثل هذا في سورة النمل إلا مخالفة ألفاظ مثل {أَتَاهَا} هنا و { جَاءَهَا} هناك. و {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} هنا، و{إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ} هناك بضمير عائد إلى الجلالة هنالك، وضمير الشأن هنا وهما متساويان في الموقع لأن ضمير الجلالة شأنه عظيم. وقوله هنا {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقوله هنالك {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [ النمل: 9] وهذا يقتضي أن الأوصاف الثلاثة قيلت له حينئذ.
والقول في نكتة تقديم صفة الله تعالى قبل إصدار أمره له بإلقاء العصا كالقول الذي تقدم في سورة النمل لأن وصف {رَبِّ الْعَالَمِينَ} يدل على أن جميع الخلائق مسخرة له ليثبت بذلك قلب موسى من هول تلقي الرسالة.
{وَأَنْ أَلْقِ} هنا و {أَلْقِ} هناك، و {اسْلُكْ} هنا {وَأُدْخِلَ} هناك. وتلك المحالفة تفنن في تكرير القصة لتجدد نشاط السامع لها، وإلا زيادة {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} وهذا واد في سفح الطور. وشاطئه: جانبه وضفته.
ووصف الشاطئ بالأيمن إن حمل الأيمن على أنه ضد الأيسر فهو أيمن باعتبار أنه واقع على يمين المستقبل القبلة على طريقة العرب من جعل القبلة هي الجهة الأصلية لضبط الواقع وهم ينعتون الجهات باليمين واليسار ويريدون هذا المعنى قال أمرؤ القيس:
على قطن بالشيم أيمن صوبه ... وأيسره على الستار فيذبل
وعلى ذلك جرى اصطلاح المسلمين في تحديد المواقع الجغرافية ومواقع الأرضين، فيكون الأيمن يعني الغربي للجبل، أي جهة مغرب الشمس من الطور. ألا ترى أنهم سموا اليمن يمنا لأنه على يمين المستقبل باب الكعبة وسموا الشام شاما لأنه على شام المستقبل لبابها، أي على شماله، فاعتبروا استقبال الكعبة، وهذا هو الملائم لقوله الآتي {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} [ القصص: 44]
وأما جعله بمعنى الأيمن لموسى فلا يستقيم مع قوله تعالى {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} [ طه: 80] فإنه لم يجر ذكر لموسى هناك.
وإن حمل على أنه تفضيل من اليمن وهو البركة فهو كوصفه بـ {الْمُقَدَّسِ} في سورة النازعات [ 16] {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً}
و {الْبُقْعَةِ} بضم الباء ويجوز فتحها هي القطعة من الأرض المتميزة عن غيرها. والمباركة لما فيها من اختيارها لنزول الوحي على موسى. وقوله {مِنَ الشَّجَرَةِ} يجوز أن يتعلق بفعل {نُودِيَ} فتكون الشجرة مصدر هذا النداء وتكون {مِنَ} للابتداء، أي سمع كلاما خارجا من الشجرة. ويجوز أن يكون ظرفا مستقرا نعتا ثانيا للواد أو حالا فتكون {مِنَ} اتصالية، أي متصلا بالشجرة، أي عندها، أي البقعة التي تتصل بالشجرة.
والعريف في {الشَّجَرَةِ} تعريف الجنس وعدل عن التنكير للإشارة إلى أنها شجرة مقصودة وليس التعريف للعهد إذا لم يتقدم ذكر الشجرة، والذي في التوراة أن تلك الشجرة كانت من شجر العليق وهو من شجر العضاه وقيل هي عوسجة والعوسج من شجر العضاه أيضا. وزيادة {أَقْبِلْ} وهي تصريح بمضمون قوله {لا تَخَفْ} في سورة النمل[10] لأنه لما أدبر خوفا من الحية كان النهي عن الخوف يدل على معنى طلب إقباله فكان الكلام هنالك إيجازا وكان هنا مساواة تفننا في حكاية القصتين، وكذلك زيادة {إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ} هنا ولم يحك في سورة النمل وهو تأكيد لمفاد {وَلا تَخَفْ} . وفيه زيادة تحقيق أمنه بما دل عليه التأكيد بـ(إن) وجعله من جملة الآمنين فإنه أشد في تحقيق الأمن من أن يقال: إنك آمن كما تقدم في قوله تعالى {أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في [سورة البقرة: 67].
وقوله {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} خفي فيه محصل المعنى المنتزع من تركيبه فكان مجال تردد المفسرين في تنيينه، واعتكرت محامل كلماته فما استقام محمل إحداها إلا وناكده محمل أخرى. وهي ألفاظ: جناح، ورهب، وحرف {مِنَ} . فسلكوا طرائق لا توصل إلى مستقر. وقد استوعبت في كلام القرطبي والزمخشري. قال بعضهم:
إن في الكلام تقديما وتأخير وإن قوله {مِنَ الرَّهْبِ} متعلق بقوله {وَلَّى مُدْبِراً} على أن {مِنَ} حرف للتعليل، أي أدبر لسبب الخوف، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه إذ لا داعي لتقديم وتأخير ما زعموه على ما فيه من طول الفصل بين فعل {وَلَّى} وبين {مِنَ الرَّهْبِ} .
وقيل الجناح: اليد، ولا يحسن أن يكون مجازا عن اليد لأنه يفضي إما إلى تكرير مفاد قوله {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} وحرف العطف مانع من احتمال التأكيد. وادعاء أن يكون التكرير لاختلاف الغرض من الأول والثاني كما في الكشاف بعيد، أو يؤول بأن وضع اليد على الصدر يذهب الخوف كما عزي إلى الضحاك عن ابن عباس وإلى مجاهد وهو تأويل بعيد. وهذا ميل إلى أن الجناح مجاز مرسل مراد به يد الإنسان. وللجناح حقيقة ومجازات مرسل بين مرسل واستعارة وقد ورد في القرآن وغيره في تصاريف معانيه وليس وروده في بعض المواضع بمعنى بقاض بحمله على ذلك المعنى حيثما وقع في القرآن. ولذا فالوجه أن قوله {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} تمثيل بحال الطائر إذا سكن عن الطير أو عن الدفاع جعل كناية عن سكون اضطراب الخوف. ويكون {مِنَ} هنا للبدلية أي اسكن سكون الطائر بدلا من أن تطير خوفا. وهذا مأخوذ من أحد وجهين ذكرهما الزمخشري قيل وأصله لأبي علي الفارسي.و {الرَّهبِ} معروف أنه الخوف كقوله تعالى {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} [الأنبياء: 90].
والمعنى: انكفف عن التخوف من أمر الرسالة. وفي الكلام إيجاز وهو ما دل عليه قوله بعده {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ} [القصص: 33] فقوله {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} في معنى قوله تعالى {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [ القصص: 35]
وقرأ الجمهور {الرَّهْبِ} بفتح الراء والهاء، وقرأه حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف بضم الراء وسكون الهاء. وقرأه حفص عن عاصم بفتح الراء وسكون الهاء وهي لغات فصيحة.
[32] {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ}
تفريع على قوله { وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} والإشارة إلى العصا وبياض اليد. والبرهان: الحجة القاطعة. و {مِنَ} للابتداء، و {إِلَى} للانتهاء المجازي أي حجتان على أن أرسل بهما إليهم.
وجملة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} تعليل لجملة {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} لتضمنها أنهم بحيث يقرعون بالبراهين فبين أن سبب ذلك تمكن الكفر من نفوسهم حتى كان كالجبلة فيهم وبه قوام قوميتهم لما يؤذن به قوله {كَانُوا} . قوله {قَوْماً} كما تقدم في قوله تعالى {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164]. والفسق: الإشراك بالله.
وقرأ الجمهور {فَذَانِكَ} بتخفيف النون من (ذانك) على الأصل في التثنية. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ورويس عن يعقوب بتشديد نون {فذانك} وهي لغة تميم وقيس. وعللها النحويون بأن تضعيف النون تعويض على الألف من (ذا) و(تا) المحذوفة لأجل صيغة التثنية. وفي الكشاف: أن التشديد عوض عن لام البعد التي تلحق اسم الإشارة فلذلك قال فالمخفف مثنى ذاك والمشدد مثنى ذلك . وهذا أحسن.
[33] {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}
جرى التأكيد على الغالب في استعمال أمثاله من الأخبار الغريبة ليتحقق السامع وقوعها وإلا فإن الله قد علم ذلك لما قال له {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} . والمعنى: فأخاف أن يذكروا قتلي القبطي فيقتلوني. فهذا كالاعتذار وهو يعلم أن رسالة لله لا يتخلص منها بعذر، ولكنه أراد أن يكون في أمن إلهي من أعدائه. فهذا تعريض بالدعاء، ومقدمة لطلب تأييده بهارون أخيه.
[34] {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}
هذا سؤال صريح يدل على أن موسى لا يريد بالأول التنصل من التبليغ ولكنه أراد تأييده بأخيه. وإنما عينه ولم يسأل مؤيدا ما لعلمه بأمانته وإخلاصه لله ولأخيه وعلمه بفصاحة لسانه.
و {رَدَّى} بالتخفيف مثل (ردء) بالهمز في آخره: العون. قرأه نافع وأبو جعفر {رَدَّى} مخففا. وقرأه الباقون {رِدْءاً} بالهمز على الأصل.
و {يُصَدِّقُنِي} قرأه الجمهور مجزوما في جواب الطلب بقوله {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ} . وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أن الجملة حال من الهاء من {أَرْسِلْهُ} .
ومعنى تصديقه إياه أن يكون سببا في تصديق فرعون وملئه إياه بإبانته عن الأدلة التي يلقيها موسى في مقام مجادلة فرعون كما يقتضيه قوله {هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} . فإنه فرع طلب إرساله معه على كونه أفصح لسانا وجعل تصديقه جواب ذلك الطلب أو حالا من المطلوب فهو تفريع على تفريع، فلا جرم أن يكون معناه مناسبا لمعنى المفرع عنه وهو أنه أفصح لسانا. وليس للفصاحة أثر في التصديق إلا بهذا المعنى.
وليس التصديق أن يقول لهم: صدق موسى، لأن ذلك يستوي فيه الفصيح وذو الفهاهة. فإسناد التصديق إلى هارون مجاز عقلي لأنه سببه، والمصدقون حقيقة هم الذين يحصل لهم العلم بأن موسى صادق فيما جاء به.
وجملة {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} تعليل لسؤال تأييده بهارون، فهذه مخافة ثانية من التكذيب، والأولى مخافة من القتل.
[35] {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}
استجاب الله له دعوتيه وزاده تفضلا بما لم يسأله فاستجابة الدعوة الثانية بقوله {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} ، واستجابة الأولى بقوله {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} ، والتفضل بقوله {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} ، فأعطى موسى ما يماثل ما لهارون من المقدرة على إقامة الحجة إذ قال {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} . وقد دل على ذلك ما تكلم به موسى عليه السلام من حجج في مجادلة فرعون كما في سورة الشعراء وهنا وما خاطب به بني إسرائيل مما حكي في سورة الأعراف. ولم يحك في القرآن أن هارون تكلم بدعوة فرعون على أن موسى سأل الله تعالى أن يحلل عقدة من لسانه كما في سورة طه، ولا شك إن الله استجاب له.
والشد: الربط، وشأن العامل بعضو إذا أراد أن يعمل به عملا متعبا للعضو أن يربط عليه لئلا يتفكك أو يعتريه كسر، وفي ضد ذلك قال تعالى {وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ} [الأعراف: 149] وقولهم: فت في عضده، وجعل الأخ هنا بمنزلة الرباط الذي يشد به. والمراد: أنه يؤيده بفصاحته، فتعليقه بالشد ملحق بباب المجاز العقلي. وهذا كله تمثيل لحال إيضاح حجته بحال تقوية من يريد عملا عظيما أن يشد على يده وهو التأييد الذي شاع في معنى الإعانة والإمداد، وإلا فالتأييد أيضا مشتق من اليد. فأصل معنى (أيد) جعل
يدا، فهو استعارة لإيجاد الإعانة.
والسلطان هنا مصدر بمعنى التسلط على القلوب والنفوس، أي مهابة في قلوب الأعداء ورعبا منكما كما ألقى على موسى محبة حين التقطه آل فرعون. وتقدم معنى السلطان حقيقة في قوله تعالى {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} في [سورة الإسراء: 33].
وفرع على جعل السلطان {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} أي لا يؤذونكما بسوء وهو القتل ونحوه. فالوصول مستعمل مجازا في الإصابة. والمراد: الإصابة بسوء، بقرينة المقام.
وقوله {بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} يجوز أن يكون {بِآياتِنَا} متعلقا بمحذوف دل عليه قوله {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ} [القصص: 32] تقديره: اذهبا بآياتنا على نحو ما قدر في قوله تعالى {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ} [النمل: 12] وقوله في سورة النمل بعد قوله {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ} [النمل: 12] أي اذهبا في تسع آيات. وقد صرح بذلك في قوله في سورة الشعراء {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} .
ويجوز أن يتعلق بـ {نَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} ، أي سلطانا عليهم بآياتنا حتى تكون رهبتهم منكما آية من آياتنا، ويجوز أن يتعلق بـ {لا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} أي يصرفون عن أذاكم بآيات منا كقول النبي صلى الله عليه وسلم "نصرت بالرعب" . ويجوز أن يكون متعلقا بقوله {الْغَالِبُونَ} أي تغلبونهم وتقهرونهم بآياتنا التي نؤيدكما بها. وتقديم المجرور على متعلقه في هذا الوجه للاهتمام بعظمة الآيات التي نؤيدكما بها. وتقديم المجرور على متعلقه في هذا الوجه الاهتمام بعظمة الآيات التي سيعطيانها. ويجوز أن تكون الباء حرف قسم تأكيدا لهما بأنهما الغالبون وتثبيتا لقلوبهما.
وعلى الوجوه كلها فالآيات تشمل خوارق العادات المشاهدة مثل الآيات التسع، وتشمل المعجزات الخفية كصرف قوم فرعون عن الإقدام على أذاهما مع ما لديهم من القوة وما هم عليه من العداوة بحيث لولا الصرفة من الله لأهلكوا موسى وأخاه.
ومحل العبرة من هذا الجزء من القصة التنبيه إلى الرسالة فيض من الله على من اصطفاه من عباده وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم كرسالة موسى جاءته بغتة فنودي محمد في غار جبل حراء كما نودي موسى في جانب جبل الطور، وأنه اعتراه من الخوف مثل ما اعترى موسى، وأن الله ثبته كما ثبت موسى، وأن الله يكفيه أعداءه كما كفى موسى أعداءه.
[36] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا
بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}
طوي ما بين نداء الله إياه وبين حضوره عند فرعون من الأحداث عند فرعون من الأحداث لعدم تعلق العبرة به. وأسند المجيء بالآيات إلى موسى عليه السلام وحده دون هارون لأنه الرسول الأصلي الذي تأتي المعجزات على يديه بخلاف قوله {فَاذْهَبَا بِآياتِنَا} في [سورة الشعراء: 15]، وقوله {بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} [القصص: 35] إذ جعل تعلق الآيات بضميريها لأن معنى الملابسة معنى متسع فالمصاحب لصاحب الآيات هو ملابس له.
والآيات البينات هي خوارق العادات التي أظهرها، أي جاءهم بها آية بعد أية في مواقع مختلفة، قالوا عند كل آية { مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} .
والمفترى: المكذوب. ومعنى كونها سحرا مكذوبا أنه مكذوب ادعاء أنه من عند الله وإخفاء كونه سحرا.
والإشارة في قوله {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا} إلى ادعاء الرسالة من عند الله لأن ذلك هو الذي يسمع وأما الآيات فلا تسمع. فمرجع اسمي الإشارة مختلف، أي ما سمعنا من يدعو آباءنا إلى مثل ما تدعو إليه فالكلام على حذف مضاف دل عليه حرف الظرفية، أي في زمن آبائنا. وقد جعلوا انتفاء بلوغ مثل هذه الدعوة إلى آبائهم حتى تصل إليهم بواسطة آبائهم الأولين، دليلا على بطلانها وذلك آخر ملجأ إليه المحجوج المغلوب حين لا يجد ما يدفع به الحق بدليل مقبول فيفزع إلى مثل هذه التلفيقات والمباهتات.
[37] {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
لما قالوا قولا في تكذيبه واستظهروا على قولهم بأن ما جاء به موسى شيء ما علمه آباؤهم أجاب موسى كلامهم بمثله في تأييد صدقه فإنه يعلمه الله، فما علم آبائهم في جانب علم الله بشيء، فلما تمسكوا بعلم آبائهم تمسك موسى بعلم الله تعالى، فقد احتج موسى بنفسه ولم يكل ذلك إلى هارون.
وكان مقتضى الاستعمال أن يحكى كلام موسى بفعل القول غير معطوف بالواو شأن حكاية المحاورات كما قدمناه غير مرة، فخولف ذلك هنا بمجيء حرف العطف في قراءة
الجمهور غير ابن كثير لأنه قصد هنا التوازن بين حجة ملأ فرعون وحجة موسى، ليظهر للسامع التفاوت بينهما في مصادفة الحق ويتبصر فساد أحدهما وصحة الآخر، وبضدها تتبين الأشياء، فلهذا عطفت الجملة جريا على الأصل غير الغالب للتنبيه على النظر في معناهما. وقرأ ابن كثير {قَالَ مُوسَى} بدون واو وهي مرسومة في مصحف أهل مكة بدون واو على أصل حكاية المحاورات وقد حصل من مجموع القراءتين الوفاء بحق الخصوصيتين من مقتضى حالي الحكاية. وعبر عن الله بوصف الربوبية مضافا إلى ضميره للتنصيص على أن الذي يعلم الحق هو الإله الحق لا آلهتهم المزعومة.
ويظهر أن القبط لم يكن في لغتهم اسم على الرب واجب الوجود الحق ولكن أسماء آلهة مزعومة.
وعبر في جانب {مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} بفعل المضي وفي جانب {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} بالمضارع لأن المجيء بالهدى المحقق والمزعوم أمر قد تحقق ومضى سواء كان الجائي به موسى أم آباؤهم الأولون وعلماؤهم. وأما كيان عاقبة الدار لمن فمرجو لما يظهر بعد. ففي قوله {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} إشهاد لله تعالى وكلام منصف، أي ربي أعلم نتعيين الجائي بالهدى أنحن أم أنتم على نحو قوله تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24].
وفي قوله {مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} تفويض إلى ما سيظهر من نصر أحد الفريقين على الآخر وهو تعويض بالوعيد بسوء عاقبتهم.
و {عَاقِبَةُ الدَّارِ} كلمة جرت مجرى المثل في خاتمة الخير بعد المشقة تشبيها لعامل العمل بالسائر المنتجع إذا صادف دار خصب واستقر بها وقال الحمد لله الذي أحلنا دار المقامة من فضله. فأصل عاقبة الدار: الدار العاقبة. فأضيفت الصفة إلى موصوفها.
والعاقبة: هي الحالة العاقبة، أي التي تعقب، أي تجيء عقب غيرها، فيؤذن هذا اللفظ بتبديل حال إلى ما هو خير، فلذلك لا تطلق على العاقبة المحمودة. وقد تقدم في سورة الأنعام قوله {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} وفي سورة الرعد قوله {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} وقوله {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد: 42].
وقرأ الجمهور {تَكُونَ} بالمثناة الفوقية على أصل تأنيث لفظ {عَاقِبَةُ الدَّارِ} وقرأ
حمزة والكسائي بالتحتية على الخيار في فعل الفاعل المجازي التأنيث.
وأيد ذلك كله بجملة {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} ، دلالة على ثقته بأنه على الحق وذلك يفت من أعضادهم، ويلقي رعب الشك في النجاة في قلوبهم. وضمير {إنه} ضمير الشأن لأن الجملة بعده ذات معنى له شأن وخطر.
[38] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
كلام فرعون المحكي هنا واقع في مقام غير مقام المحاور مع موسى فهو كلام اقبل به على خطاب أهل مجلسه إثر المحاور مع موسى فلذلك حكي بحرف العطف عطف القصة على القصة. فهذه قصة محاورة بين فرعون وملئه في شأن دعوة موسى فهي حقيقة بحرف العطف كما لا يخفى.
أراد فرعون بخطابه مع ملئه أن يثبتهم على عقيدة إلهيته فقال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} إبطالا لقول موسى المحكي في سورة الشعراء {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} وقوله هناك {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ} 1 [الشعراء: 24]. فأظهر لهم فرعون أن دعوة موسى لم ترج عنده وأنه لم يصدق بها فقال {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} .
والمراد بنفي علمه بذلك نفي وجود إله غيره بطريق الكناية يريهم أنه أحاط علمه بكل شيء حق فلو كان ثمة إله غيره لعلمه.
والمقصود بنفي وجود إله غيره نفي وجود الإله الذي أثبته موسى وهو خالق الجميع. وأما آلهتهم التي يزعمونها فإنها مما تقتضيه إلهية فرعون لأن فرعون عندهم هو مظهر الآلهة المزعومة عندهم لأنه في اعتقادهم ابن الآلهة وخلاصة سرهم، وكل الصيد في جوف الفرا.
وحيث قال موسى إن الإله الحق هو رب السماوات فقد حسب فرعون أن مملكة هذا الرب السماء تصورا مختلا ففرع على نفي إله غيره وعلى توهم أن الرب المزعوم مقره
ـــــــ
1 في المطبوعة (إن كنتم تعقلون) (57).
السماء أن أمر {هَامَانُ} وزيره أن يبني له صرحا يبلغ به عنان السماء ليرى الإله الذي زعمه موسى حتى إذا لم يجده رجع إلى قومه فأثبت لهم عدم إله في السماء إثبات معاينة، أراد أن يظهر لقومه في مظهر المتطلب للحق المستقصي للعوالم حتى إذا أخبر قومه بعد ذلك بأن نتيجة بحثه أسفرت عن كذب موسى ازدادوا ثقة ببطلان قول موسى عليه السلام.
وفي هذا الضغث من الجدل السفسطائي مبلغ من الدلالة على سوء انتظام تفكيره وتفكير ملئه، أو مبلغ تحيله وضعف آراء قومه.
و {هَامَانُ} لقب أو اسم لوزير فرعون كما تقدم آنفا. وأراد بقوله {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أن يأمر {هَامَانُ} العملة أن يطبوا الطين ليكون آجرا ويبنوا به فكني عن البناء بمقدماته وهي إيقاد الأفران لتجفيف الطين المتخذ آجرا. والآجر كانوا يبنون به بيوتهم فكانوا يجعلون قوالب من طين يتصلب إذا طبخ وكانوا يخلطونه بالتبن ليتماسك قبل إدخاله التنور كما ورد وصف صنع الطين في الإصحاح الخامس من سفر الخروج.
وابتدأ بأمره بأول أشغال البناء للدلالة على العناية بالشروع من أول أوقات الأمر لأن ابتداء البناء يتأخر إلى ما بعد إحضار مواده فلذلك أمره بالأخذ في إحضار تلك المواد التي أولها الإيقاد، أي إشعال التنانير لطبخ الآجر. وعبر عن الآجر بالطين لأنه قوام صنع الآجر وهو طين معروف. وكأنه لم يأمره ببناء من حجر وكلس قصدا للتعجيل بإقامة هذا الصرح المرتفع إذ ليس مطلوبا طول بقائه بإحكام بنائه على مر العصور بل المراد سرعة الوصول إلى ارتفاعه كي يشهده الناس، ويحصل اليأس ثم ينقض من الأساس.
وعدل عن التعبير بالآجر، قال ابن الأثير في المثل السائر: لأن كلمة الآجر ونحوها كالقرمد والطوب كلمات مبتذلة فذكر بلفظ الطين اه. وأظهر من كلام ابن الأثير: أن العدول إلى الطين لأنه أخف وأفصح.
وإسناد الإيقاد على الطين إلى هامان مجاز عقلي باعتبار أنه الذي يأمر بذلك كما يقولون: بنى السلطان قنطرة وبنى المنصور بغداد.
وتقدم ذكر هامان آنفا وأنه وزير فرعون. وكانت أوامر الملوك في العصور الماضية تصدر بواسطة الوزير فكان الوزير هو المنفذ لأوامر الملك بواسطة أعوانه من كتاب وأمراء ووكلاء ونحوهم، كل فيما يليق به.
والصرح: القصر المرتفع، وقد تقدم عند قوله تعالى {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ} في
[سورة النمل: 44].
ورجا أن يصل بهذا الصرح إلى السماء حيث مقر إله موسى. وهذا من فساد تفكيره إذ حسب أن السماء يوصل إليها بمثل هذا الصرح ما طال بناؤه، وأن الله مستقر في مكان من السماء.
والاطلاع: الطلوع القوي المتكلف لصعوبته.
وقوله {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} استعمل فيه الظن بمعنى القطع فكانت محاولته الوصول إلى السماء لزيادة تحقيق ظنه، أو لأنه أراد أن يقنع قومه بذلك. ولعله أراد بهذا تمويه الأمر على قومه ليلقي في اعتقادهم أن موسى ادعى أن الله في مكان معين يبلغ إليه ارتفاع صرحه. ثم يجعل عدم العثور على الإله في ذلك الارتفاع دليلا على عدم وجود الإله الذي ادعاه موسى. وكانت عقائد أهل الضلالة قائمة على التخيل الفاسد، وكانت دلائلها قائمة على تمويه الدجالين من زعمائهم.
وقوله {مِنَ الْكَاذِبِينَ} يدل على أنه يعده من الطائفة الذين شأنهم الكذب كما تقدم في قوله تعالى {قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . [البقرة: 67]
ولم يذكر القرآن أن هذا الصرح بني، وليس هو أحد الأهرام لأن الأهرام بنيت من حجارة لا من آجر، ولأنها جعلت مدافن للذين بنوها من الفراعنة. واختلف المفسرون هل وقع بناء هذا الصرح وتم أو لم يقع؛ فحكى بعضهم أنه تم وصعد فرعون إلى أعلاه ونزل وزعم أنه قتل رب موسى. وحكى بعضهم أن الصرح سقط قبل إتمام بنائه فأهلك خلقا كثيرا من عملة البناء والجند. وحكى بعضهم أنه لم يشرع في بنائه. وقد لاح لي في معنى الآية وجه آخر سأذكره في سورة المؤمن.
[39] {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}
الاستكبار: أشد من الكبر، أي تكبر تكبرا شديدا إذ طمع في الوصول إلى الرب العظيم وصل الغالب أو القرين.
و {جُنُودُهُ} : أتباعه. فاستكباره هو الأصل واستكبار جنوده تبع لاستكباره لأنهم يتبعونه ويتلقون ما يمليه عليهم من العقائد.
و {الْأَرْضِ} يجوز أن يراد بها المعهودة، أي أرض مصر وأن يراد بها الجنس أي في عالم الأرض لأنهم كانوا يوم إذ أعظم أمم الأرض.
وقوله {بِغَيْرِ الْحَقِّ} حالة لازمة لعاملها إذ لا يكون الاستكبار إلا بغير الحق.
وقوله {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} معلوم بالفحوى من كفرهم بالله، وإنما صرح به لأهمية إبطاله فلا يكتفي فيه بدلالة مفهوم الفحوى، ولأن في التصريح به تعريضا بالمشركين في أنهم وإياهم سواء فليضعوا أنفسهم في أي مقام من مقامات أهل الكفر، وقد كان أبو جهل يلقب عند المسلمين بفرعون هذه الأمة وأخذا من تعريضات القرآن.
ومعنى ذلك: ظنوا أن لا بعث ولا رجوع بأنهم كفروا بالمرجوع إليه. فذكر {إِلَيْنَا} لحكاية الواقع وليس بقيد فلا يتوهم أنهم أنكروا البعث ولم ينكروا وجود الله مثل المشركين. وتقديم {إِلَيْنَا} على عامله لأجل الفاصلة.
ويجوز أن يكون المعنى: وظنوا أنهم في منعة من أن يرجعوا في قبضة قدرتنا كما دل عليه قوله في [سورة الشعراء: 24-25] {قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ} استعجابا من ذلك. وعلى هذا الاحتمال فالتعريض بالمشركين باق على حاله فأنهم ظنوا أنهم في منعة من الاستئصال فقالوا {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32].
قرأ نافع والحمزة والكسائي {لا يَرْجِعُونَ} بفتح الياء المضارعة من (رجع). وقرأه الباقون بضمها من (أرجع) إذا فعل به الرجوع.
[40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}
أي ظنوا أنهم لا يرجعون إلينا فعجلنا بهلاكهم فإن ذلك من الرجوع إلى الله لأن رجوع إلى حكمه وعقابه، ويعقبه رجوع أرواحهم إلى عقابه، فلهذا فرع على ظنهم ذلك الإعلام بأنه أخذ وجنوده وجعل هذا التفريع كالاعتراض بين حكاية أحوالهم.
وجعل في (الكشاف) هذا من الكلام الفخم لدلالته على عظمة شأن الله إذ كان قوله {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ويتضمن استعارة مكنية: شبه وجنوده بحصيات أخذهن في كفه فطرحهن في البحر. وإذا حمل الأخذ على حقيقته كان في استعارة مكنية أيضا لأنه يستتبع
تشبيها بقبضة تؤخذ باليد كقوله تعالى {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] وقوله {وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 67]. ويجوز أن يجعل جميع ذلك استعارة تمثيلية كما لا يخفى.
وقوله {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} اعتبار بسوء عاقبتهم لأجل ظلمهم أنفسهم بالكفر وظلمهم الرسول بالاستكبار عن سماع دعوتهم. وهذا موضع العبرة من سوق هذه القصة ليعتبر بها المشركون فيقيسوا حال دعوة محمد صلى الله عليه وسلم بحال دعوة موسى عليه السلام ويقيسوا حالهم بحال فرعون وقومه، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه، فيوقنوا بأن ما أصاب فرعون وقومه من عقاب سيصيبهم لا محالة. وهذا من جملة محل العبرة بهذا الجزء من القصة ابتداء من قوله تعالى {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ} [القصص: 36] ليعتبر الناس بأن شأن أهل الضلالة واحد فإنهم يتلقون دعاة الخير بالإعراض والاستكبار واختلاق المعاذير فكما قال فرعون وقومه {مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص:36] قالت قريش {بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} [الأنبياء: 5]، وقالوا {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 7] أي التي أدركناها.
وكما طمع فرعون أن يبلغ إلى الله استكبارا منه في الأرض سأل المشركون {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21] وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله كما ظن أولئك فيوشك أن يصيبهم من الاستئصال ما أصاب أولئك.
[41] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ}
عطف على جملة {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ} أي استكبروا فكانوا ينصرون الضلال ويبثونه، أي جعلناه وجنوده أئمة للضلالة المفضية إلى النار فكأنهم يدعون إلى النار فكل يدعو بما تصل إليه يده؛ فدعوة فرعون أمره، ودعوة كهنته باختراع قواعد الضلالة وأوهامها، ودعوة جنوده، بتنفيذ ذلك والانتصار له.
والأيمة: جمع إمام وهو من يقتدى به في عمل من خير أو شر قال تعالى {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73]. ومعنى جعلهم أئمة يدعون إلى النار: حلق نفوسهم منصرفة إلى الشر ومعرضة عن الإصغاء للرشد وكان وجودهم بين ناس ذلك شأنهم. فالجعل جعل تكويني بجعل أسباب ذلك، والله بعث إليهم الرسل لإرشادهم فلم
ينفع ذلك فلذلك أصروا على الكفر.
والدعاء إلى النار هو الدعاء إلى العمل الذي يوقع في النار فهي دعوة إلى النار بالمآل. وإذا كانوا يدعون إلى النار فهم من أهل النار بالأحرى فلذلك قال {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} أي لا يجدون من ينصرهم فيدفع عنهم عذاب النار. ومناسبة عطف {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} هي أن الدعاء يقتضي جندا وأتباعا يعتزون بهم في الدنيا ولكنهم لا يجدون عنهم يوم القيامة قال {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا} [البقرة: 167].
[42] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}
إتباعهم باللعنة في الدنيا جعل اللعنة ملازمة لهم في علم الله تعالى؛ فقدر لهم هلاكا لا رحمة فيه، فعبر تلك الملازمة بالإتباع على وجه الاستعارة لأن التابع لا يفارق متبوعه، وكانت عاقبة تلك اللعنة إلقاءهم في اليم. ويجوز أن يراد باللعنة لعن الناس إياهم، يعني أن أهل الإيمان يلعنونهم.
وجزاؤهم يوم القيامة أنهم {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} ، والمقبوح المشتوم بكلمة قبح ، أي قبحه الله أو الناس، أي جعله قبيحا بين الناس في أعماله أي مذموما، يقال: قبحه بتخفيف الباء فهو مقبوح كما في هذه الآية ويقال: قبحه بتشديد الباء إذا نسبه إلى القبيح فهو مقبح، كما في حديث أم زرع مما قالت العاشرة: فعنده أقول فلا أقبح أي فلا يجعل قولي قبيحا عنده غير مرضي.
والإشارة إلى الدنيا بـ {هَذِهِ} لتهوين أمر الدنيا بالنسبة للآخرة.
والتخالف بين صيغتي قوله {وَأَتْبَعْنَاهُمْ} وقوله {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} ، لأن اللعنة في الدنيا قد انتهى أمرها بإغراقهم، أو لأن لعن المؤمنين إياهم في الدنيا يكون في أحيان يذكرونهم، فكلا الاحتمالين لا يقتضي الدوام فجيء معه بالجملة الفعلية. وأما تقبيح حالهم يوم القيامة فهو دائم معهم ملازم لهم فجيء في جانبه بالاسمية المقتضية الدوام والثبات.
وضمير {هُمْ} في قوله {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} ليس ضمير فصل ولكنه ضمير مبتدأ وبه كانت الجملة اسمية دالة على ثبات التقبيح لهم يوم القيامة.
[43] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
المقصود من الآيات السابقة ابتداء من قوله {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} [القصص: 30] إلى هنا الاعتبار بعاقبة المكذبين القائلين {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] ليقاس النظير على النظير، فقد كان المشركين يقولون مثل ذلك يريدون إفحام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه لو كان الله أرسله حقا لكان أرسل إلى الأجيال من قبله، ولما كان الله يترك الأجيال التي قبلهم بدون رسالة رسول ثم يرسل إلى الجيل الأخير، فكان قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} إتمام لتنظير رسالة محمد صلى الله عليه وسلم برسالة موسى عليه السلام في أنها جاءت بعد فترة طويلة لا رسالة فيها، مع الإشارة إلى أن سبق إرسال الرسل إلى الأمم شيء واقع بشهادة التواتر، وأنه قد ترتب على تكذيب الأمم رسلهم إهلاك القرون الأولى فلم يكن ذلك موجبا لاستمرار إرسال الرسل متعاقبين بل كانوا يجيئون في أزمنة متفرقة؛ فإذا كان المشركون يحاولون بقولهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] إبطال رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعلة تأخر زمانها سفسطة ووهما فإن دليلهم مقدوح فيه بقادح القلب بأن الرسل قد جاءوا إلى الأمم من قبل ثم جاء موسى بعد فترة من الرسل. وقد كان المشركون لما بهرهم أمر الإسلام لاذوا باليهود يسترشدونهم في طرق المجادلة الدينية فكان المشركون يخلطون ما يلقنهم اليهود من المغالطات بما استقر في نفوسهم من تضليل أ
مة الشرك فيأتون بكلام يلعن بعضه بعضا، فمرة يقولون {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] وهو من مجادلات الأميين، ومرة يقولون {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48] وهو تلقبن اليهود، ومرة يقولون {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]، فكان القرآن يدمغ باطلهم بحجة الحق بإلزامهم تناقض مقالاتهم. وهذه الآية من ذلك فهي حجة بتنظير رسالة محمد برسالة موسى عليهما الصلاة والسلام والمقصود منها ذكر القرون الأولى.
وأما ذكر إهلاكهم فهو إدماج للنذارة في ضمن الاستدلال. وجملة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} تخلص من قصة بعثة موسى عليه السلام إلى تأييد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. والمقصود قوله (من بعد القرون الأولى).
ثم إن القرآن أعرض عن بيان حكمة الفتر التي تسبق إرسال الرسل، واقتصر على بيان الحكمة في الإرسال عقبها لأنه المهم في مقام نقض حجة المبطلين للرسالة أو اكتفاء
بأن ذلك أمر واقع لا يستطاع إنكاره وهو المقصود هنا، وأما حكمة الفصل بالفتر فشيء فوق مراتب عقولهم. فأشار بقوله {بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} إلى بيان حكمة الإرسال عقب الفترة. وأشار بقوله {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} إلى الأمم التي استأصلها الله لتكذيبها رسل الله.
فتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المخاطبين منزلة المنكرين لوقوع ذلك حتى يحتاج معهم إلى التأكيد بالقسم، فموقع التأكيد هو قوله {مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} .
و {الْكِتَابَ} : التوراة التي خاطب الله بها موسى عليه السلام. والبصائر: جمع بصيرة، وهي إدراك العقل، سمي بصيرة اشتقاقا من بصر العين، وجعل الكتاب بصائر باعتبار عدة دلائله وكثرة بيناته، كما في الآية الأخرى قال {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102].
و {الْقُرُونَ الْأُولَى} : قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط. والقرن: الأمة، قال تعالى {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [الأنعام: 6]. وفي الحديث ((خير القرون قرني)) .
والناس هم الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل وقوم فرعون، ولمن يريد أن يهتدي بهديه مثل الذين تهودوا من عرب اليمن، {هُدىً وَرَحْمَةً} لهم، ولمن يقتبس منهم قال تعالى {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} . ومن جملة ما تشتمل عليه التوراة تحذيرها من عبادة الأصنام.
وضمير {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} عائد إلى الناس الذين خوطبوا بالتوراة، أي فكذلك إرسال محمد لكم هدى ورحمة لعلكم تتذكرون.
[44] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
لما بطلت شبهتهم التي حاولوا بها إحالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نقل الكلام إلى إثبات رسالته بالحجة الدامغة؛ وذلك بما أعلمه الله به من أخبار رسالة موسى مما لا قبل له بعلمه لولا أن ذلك وحي إليه من الله تعالى. فهذا تخلص من الاعتبار بدلالة الالتزام في قصة موسى إلى الصريح من إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
وجيء في الاستدلال بطريقة المذهب الكلامي حيث بني الاستدلال على انتفاء كون النبي عليه الصلاة والسلام موجودا في المكان الذي قضى الله فيه أمر الوحي إلى موسى، لينتقل منه إلى أن مثله ما كان يعمل ذلك إلا عن مشاهدة لأن طريق العلم بغير المشاهدة له مفقود منه ومن قومه إذ لم يكونوا أهل معرفة بأخبار الرسل كما كان أهل الكتاب، فلما انتفى طريق العلم المتعارف لأمثاله تعين أن طريق علمه هو إخبار الله تعالى إياه بخبر موسى.
ولما كان قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} نفيا لوجوده هناك وحضوره تعين أن المراد من الشاهدين أهل الشهادة، أي الخبر اليقين، وهم علماء بني إسرائيل لأنهم الذين أشهدهم الله على التوراة وما فيها، ألا ترى أنه ذمهم بكتمهم بعض ما تتضمنه التوراة من البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم بقوله {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [ البقرة: 140] والمعنى ما كنت من أهل ذلك الزمن ولا ممن تلقى أخبار ذلك بالخبر اليقين المتوتر من كتبهم يومئذ فتعين أن طريق علمك بذلك وحي الله تعالى.
والأمر المقضي: هو أمر النبوة لموسى إذ تلقاها موسى.
وقوله {بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} هو من إضافة الموصوف إلى صفته، وأصله بالجانب الغربي، وهو كثير في الكلام العربي وإن أنكره نحاة البصرة وأكثروا من التأويل، والحق جوازه.
والجانب الغربي هو الذي ذكر آنفا بوصف {شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ} [القصص: 30] أي على بيت القبلة.
[45] {وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
{وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُوناً فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ}
خفي اتصال هذا الاستدراك بالكلام الذي قبله وكيف يكون استدراكا وتعقيبا للكلام الأول برفع ما يتوهم ثبوته.
فبيانه أن قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43] مسوق مساق إبطال تعجب المشركين من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم حين لم يسبقها رسالة رسول
إلى آبائهم الأولين، كما علمت مما تقدم آنفا، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36]فكما كانت رسالة موسى عليه السلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم. فالمعنى: فكان المشركون حقيقيين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قرونا أي أمما بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 7]. وحذف بقية الدليل وهو تقدير: فنسوا، الإيجاز لظهوره من قوله {فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ} كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه {وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 13]، وقال عن النصارى {أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة: 14] وقال لأمة محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16]، فضمير الجمع في قوله {عَلَيْهِمُ} عائد إلى المشركين لا إلى القرون.
فتبين أن الاستدراك متصل بقوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43] وإن ما بين ذلك وبين هذا استطراد. وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب الكشاف. ولله دره في استشعاره، وشكر الله مبلغ جهده. وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكيين الآتيين بعد من قوله {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} وقوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص: 46]. و{الْعُمُرُ} الأمد كقوله {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ} [يونس: 16].
[45] {وَمَا كُنْتَ ثَاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ}
هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت من أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك.
والثواء: الإقامة.
وضمير {عَلَيْهِمْ} عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتلو آيات الله على المشركين.
والمراد بالآيات الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قوله {وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} إلى قوله {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 22-29]. وبمثل
هذا المعنى قال مقاتل وهو الذي يستقيم به نظم الكلام، ولو جعل الضمير عائدا إلى أهل مدين لكان أن يقال: تشهد فيهم آياتنا.
وجملة {تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا} على حسب تفسير مقاتل في موضع الحال من ضمير {كُنْتَ} وهي حال مقدرة لاختلاف زمنها مع زمن عاملها كما هو ظاهر. والمعنى: ما كنت مقيما في أهل مدين كما يقيم المسافرون فإذا قفلوا من أسفارهم أخذوا يحدثون قومهم بما شاهدوا في البلاد والأخرى.
والاستدراك في قوله {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} ظاهر، أي ما كنت حاضرا في أهل مدين فتعلم خبر موسى عن معاينة ولكنا كنا مرسلينك بوحينا فعلمناك ما لم تكن تعلمه أنت ولا قومك من قبل هذا.
وعدل عن أن يقال: ولكنا أوحينا بذلك، إلى قوله {وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} لأن المقصد الأهم هو إثبات وقوع الرسالة من الله للرد على المشركين في قوله وقول أمثالهم {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [القصص: 36] وتعلم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بدلالة الالتزام مع ما يأتي من قوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً} [القصص: 46] الآية فالاحتجاج والتحدي في هذه الآية والآية التي قبلها تحد بما علمه النبي عليه الصلاة والسلام من خبر القصة الماضية.
[46] {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
جانب الطور: هو الجانب الغربي، وهو الجانب الأيمن المتقدم وصفه بذلك الوصفين، فعري عن الوصف هنا لأنه صار معروفا، وقيد الكون المنفي بظرف {نَادَيْنَا} أي بزمن ندائنا.
وحذف مفعول النداء لظهور أنه نداء موسى من قبل الله تعالى وهو النداء الميقات أربعين ليلة وإنزال ألواح التوراة عقب تلك المناجاة كما حكي في الأعراف وكان ذلك في جانب الطور إذ كان بنو إسرائيل حول الطور كما قال تعالى {يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ} وهو نفس المكان الذي نودي فيه موسى للمرة الأولى في رجوعه من ديار مدين كما تقدم، فالنداء الذي في قوله هنا {إِذْ نَادَيْنَا} غير النداء الذي في قوله {فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن} إلى قوله {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص: 30] الآية لئلا يكون تكرار مع قوله: {وَمَا كُنْتَ
بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ} [القصص: 40]. وهذا الاحتجاج بما علمه النبي صلى الله عليه وسلم من خبر استدعاء موسى عليه السلام للمناجاة. وتلك القصة لم تذكر في هذه السورة وإنما ذكرت في سورة أخرى مثل سورة الأعراف.
وقوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} كلمة {لَكِنْ} بسكون النون هنا باتفاق القراء فهي حرف لا عمل له فليس حرف لفقدان شرطيه: تقدم النفي أو النهي، وعدم الوقوع بعد واو عطف. وعليه فحرف {لَكِنْ} هنا لمجرد الاستدراك لا عمل له وهو معترض. والواو التي قبل {لَكِنْ} اعتراضية.
والاستدراك في قوله {وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} ناشئ عن دلالة قوله {وما كنت بجانب الطور} على معنى: ما كان علمك بذلك لحضورك، ولكن كان علمك رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك.
فانتصاب {رَحْمَةً} مؤذن بأنه معمول لعامل نصب مأخوذ من سياق الكلام: إما على تقدير كون محذوف يدل عليه نفي الكون في قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ} ، والتقدير: ولكن كان علمك رحمة منا؛ وإما على المفعول المطلق الآتي بدلا من فعله، والتقدير: ولكن رحمناك رحمة بأن علمناك ذلك بالوحي رحمة، بقرينة قوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً} .
ويجوز أن يكون {رَحْمَةً} منصوبا على المفعول لأجله معمولا لفعل {لِتُنْذِرَ} فيكون فعل {لِتُنْذِرَ} متعلقا بكون محذوف هو منصب الاستدراك. وفي هذه التقادير توفير معان وذلك من بليغ الإيجاز. وعدل عن: رحمة منا، إلى {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} بالإظهار في مقام الإضمار لما يشعر به معنى الرب المضاف إلى ضمير المخاطب من العناية به عناية الرب بالمربوب.
ويتعلق {لِتُنْذِرَ قَوْماً} بما دل عليه مصدر {رَحْمَةً} على الوجوه المتقدمة. واللام للتعليل. والقوم: قريش والعرب، فهم المخاطبون ابتداء بالدين وكلهم لم يأتهم نذير قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وأما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فكانا نذيرين حين لم تكن قبيلة قريش موجودة يومئذ ولا قبائل العرب العدنانية، وأما القحطانية فلم يرسل إليهم إبراهيم لأن اشتقاق نسب قريش كان من عدنان وعدنان بينه وبين إسماعيل قرون كثيرة.
وإنما اقتصر على قريش أو على العرب دون سائر الأمم التي بعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم، لأن المنة عليهم أوفى إذ لم تسبق لهم شريعة من قبل فكان نظامهم مختلا غير مشوب
بإثارة من شريعة معصومة، فكانوا في ضرورة إلى إرسال نذير، وللتعريض بكفرانهم هذه النعمة، وليس في الكلام ما يقتضي تخصيص النذارة بهم ولا ما يقتضي أن غيرهم ممن أنذرهم محمد صلى الله عليه وسلم لم يأتهم من قبله مثل اليهود والنصارى وأهل مدين.
وفي قوله {لِتُنْذِرَ} مع قوله {مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ} إشارة إلى أنهم بلغوا بالكفر حدا لا يتجاوزه حلم الله تعالى.
والتذكر: هو النظر العقلي في الأسباب التي دعت إلى حكمة إنذارهم وهي تناهي ضلالهم فوق جميع الأمم الضالة إذ جمعوا إلى الإشراك مفاسد جمة من قتل النفوس، وارتزاق بالغارات وبالمقامرة، واختلاط الأنساب، وانتهاك الأعراض. فوجب تذكيرهم بما فيه صلاح حالهم.
وتقدم آنفا نظير قوله {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} .
[47] { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
وهذا متصل بقوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [القصص: 46]، لأن الإنذار يكون بين يدي عذاب.
و {لَوْلا} الأولى حرف امتناع لوجود، أي انتفاء جوابها لأجل وجود شرطها وهو حرف يلزم الابتداء فالواقع بعده مبتدأ والخبر عن المبتدأ الواقع بعد {لَوْلا} واجب الحذف وهو مقدر بكون عام. والمبتدأ هنا هو المصدر المنسبك من {أَنْ} وفعل {تُصِيبَهُمْ} والتقدير: لولا إصابتهم بمصيبة، وقد عقب الفعل السبوك بمصدر بفعل آخر وهو {فيقولوا} ، فوجب أن يدخل هذا الفعل المعطوف في الانسباك بمصدر، وهو معطوف بفاء التعقيب. فهذا المعطوف هو المقصود مثل قوله تعالى {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فالمقصود هو (أن تذكر إحداهما الأخرى).
وإنما حيك نظم الكلام على هذا المنوال ولم يقل: ولولا أن يقولوا ربنا الخ حين تصيبهم مصيبة إلى آخره، لنكتة الاهتمام بالتحذير من إصابة المصيبة فوضعت في موضع المبتدأ دون موضع دون موضع الظرف لتساوي المبتدأ المقصود من جملة شرط {لَوْلا} فيصبح هو زظرفه عمدتين في الكلام، فالتقدير هنا: ولولا إصابتهم بمصيبة يعقبها قولهم {رَبَّنَا لَوْلا
أَرْسَلْتَ} الخ لما عبأنا بإرسالك إليهم لأنهم أهل عناد وتصميم على المفر.
فجواب {لَوْلا} محذوف دل عليه ما تقدم من قوله {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ} إلى قوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ} ، أي ولكنا أعذرنا إليهم بإرسالك لنقطع معذرتهم. وجواب {لَوْلا} محذوف دل عليه الكلام السابق، أي لولا الرحمة بهم بتذكيرهم وإنذارهم لكانوا مستحقين حلول المصيبة بهم.
و {لَوْلا} الثانية حرف تحضيض، أي أرسلت إلينا قبل أن تأخذنا بعذاب فتصلح أحوالنا وأنت غني عن عذابنا. وانتصب {فَنَتَّبِعَ} (بأن) مضمرة وجوبا في جواب التحضيض.
وضمير {تُصِيبَهُمْ} عائد إلى القوم الذين لم يأتهم نذير من قبل. والمراد {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} ما سلف من الشرك.
والمصيبة: ما يصيب الإنسان، أي يحل به من الأحوال، وغلب اختصاصها بما يحل بالمرء من العقوبة والأذى.
والباء في {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} للسببية، أي عقوبة كان سببها ما سبق على أعمالهم السيئة. والمراد بها هنا عذاب الدنيا بالاستئصال ونحوه، وتقدم عند قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} في [سورة النساء: 62]. وهي ما يحترجونه من الأعمال الفاحشة.
و(ما قدمت أيديهم) ما اعتقدوه من الإشراك وما عملوه من آثار الشرك.
والأيدي مستعار للعقول المكتسبة لعقائد الكفر. فشبه الاعتقاد القلبي بفعل اليد تشبيه معقول بمحسوس.
وهذه الآية تقتضي أن المشركين يستحقون العقاب بالمصائب في الدنيا ولو لم يأتهم رسول لأن أدلة وحدانية الله مستقرة في الفطرة ومع ذلك فإن رحمة الله أدركتهم فلم يصبهم بالمصائب حتى أرسل إليهم رسولا.
ومعنى الآية على أصول الأشعري وما بينه أصحاب طريقته مثل القشيري وأبي بكر بن العربي: أن ذنب الإشراك لا عذر فيه لصاحبه لأن توحيد الله قد دعي إليه الأنبياء والرسل من عهد آدم بحيث لا يعذر بجهله عاقل فإن الله قد وضعه في الفطرة إذ أخذ عهده
به على ذرية آدم كما أشار إليه قوله تعالى {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} كما بيناه في [سورة الأعراف: 172].
ولكن الله يرأف بعباده إذا طالت السنون وانقرضت القرون وصار الناس مظنة الغفلة فيتعهدهم ببعثة الرسل للتذكير بما في الفطرة وليشرعوا لهم ما به صلاح الأمة.
فالمشركون الذين انقرضوا قبل البعثة المحمدية مؤاخذون بشركهم ومعاقبون عليه في الآخرة ولو شاء الله لعاقبهم عليه بالدنيا بالاستئصال ولكن الله أمهلهم، والمشركون الذين جاءتهم الرسل ولم يصدقوهم مستحقون عذاب الدنيا زيادة على عذاب الآخرة، قال تعالى {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21].
وأما الفرق الذين يعدون دليل توحيد الله بالإلهية عقليا مثل الماتريدية والمعتزلة فمعنى الآية على ظاهره، وهو قول ليس ببعيد.
[48] {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ}
الفاء فصيحة كالفاء في قوله عباس بن الأحنف:
قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا ... ثم القفول فقد جئنا خراسانا
وتقدير الكلام: فإن كان من معذرتهم أن يقولوا ذلك فقد أرسلنا إليهم رسولا بالحق فلما جاءهم الحق لفقوا المعاذير وقالوا: لا نؤمن به حتى نؤتى مثل ما أوتي موسى.
و{الْحَقُّ}: هو ما في القرآن من الهدى.
وإثبات المجيء إليه استعارة بتشبيه الحق بشخص وتشبيه سماعه بمجيء الشخص، أو هو مجاز عقلي وإنما الجائي الرسول الذي يبلغه عن الله، فعبر عنه بالحق لإدماج الثناء عليه في ضمن الكلام.
ولما بهرتهم آيات الرسول صلى الله عليه وسلم لم يجدوا من المعاذير إلا ما لقنهم اليهود وهو أن يقولوا: {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} ، أي بأن تكون آياته مثل آيات موسى التي يقصها عليهم اليهود وقص بعضها القرآن.
وضمير {يَكْفُرُوا} عائد إلى القوم من قوله {لِتُنْذِرَ قَوْماً}[ القصص: 46] لتتناسق الضمائر من قوله {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ} [القصص: 47] وما بعده من الضمائر أمثاله.
فيشكل عليه أن الذين كفروا بما أوتي موسى هو قوم فرعون دون مشركي العرب فقال بعض المفسرين هذا من إلزام المماثل بفعل مثيله لأن الإشراك يجمع الفريقين فتكون أصول تفكيرهم واحدة وبتحد بهتانهم، فان القبط أقدم منهم في دين الشرك فهم أصولهم فيه والفرع يتبع أصله ويقول بقوله، كما قال تعالى {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات: 52-53] أي متماثلون في سبب الكفر والطغيان فلا يحتاج بعضهم إلى وصية بعض بأصول الكفر. وهذا مثل قوله تعالى {غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 2-3] ثم قال {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5] أي بنصر الله إياهم إذ نصر المماثلين في كونهم غير مشركين إذ كان الروم يومئذ على دين المسيح.
فقولهم {لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} من باب التسليم الجدلي، أو من اضطرابهم في كفرهم فمرة يكونون معطلين ومرة يكونون مشترطين. والوجه أن المشركين كانوا يجحدون رسالة الرسل قاطبة. وكذلك حكاية قولهم {سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} من قول مشركي مكة في موسى وهارون لما سمعوا قصتهما أو في موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهو الأظهر وهو الذي يلتئم مع قوله بعده { وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا } [القصص: 48-49].
وقرأ الجمهور {سِحْرَانِ} تثنية ساحر. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف {قَالُوا سِحْرَانِ} على أنه من الإخبار بالمصدر للمبالغة، أي قالوا: هما ذوا سحر.
والتظاهر: التعاون.
والتنوين في {بِكُلٍّ} تنوين عوض عن المضاف إليه فيقدر المضاف إليه بحسب الاحتمالين إما بكل من الساحرين، وإما أن يقدر بكل من ادعى رسالة وهو أنسب بقول قريش لأنهم قالوا {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} .
[49-50 ]{قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي أجب كلامهم المحكي من قولهم {سِحْرَانِ} وقولهم {إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} . [ القصص: 48]
عليهم المغلوبية فكان ذلك أدل على عجزهم وأثبت في إعجاز القرآن.
وهذا من التعليق على ما تحقق عدم وقوعه، فالمعلق حينئذ ممتنع الوقوع كقوله {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [ الزخرف:81] ولكونه ممتنع الوقوع أمر الله رسوله أن يقوله. وقد فهم من قوله {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا} ومن إقحام {فَاعْلَمْ} أنهم لا يأتون بذلك البتة وهذا من الإعجاز بالإخبار عن الغيب.
وجاء في آخر الكلام تذييل عجيب وهو أنه لا أحد أشد ضلالا من أحد اتبع هواه المنافي لهدى الله.
و {مَنْ} اسم استفهام عن ذات مبهمة وهو استفهام الإنكار فأفاد الانتفاء فصار معنى الاسمية الذي فيه في معنى نكرة في سياق النفي أفادت العموم فشمل هؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم وغيرهم. وبهذا العموم صار تذييلا وهو كقزله تعالى {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} في [سورة البقرة: 140].
وأطلق الاتباع على العمل بما تميله إرادة المرء الناشئة عن ميله إلى المفاسد والأضرار تشبيها للعمل بالمشي وراء السائر، وفيه تشبيه الهوى بسائر، والهوى مصدر لمعنى المفعول كقول جعفر بن علبة:
هواي مع الركب اليمانين مصعد
وقوله {بغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} الباء فيه للملابسة وهو موضع الحال من فاعل {اتَّبَعَ هَوَاهُ} وهو حال كاشفة لتأكيد معنى الهوى لأن الهوى لا يكون ملابسا للهدى الرباني ولا صاحبه ملابسا له لأن الهدى يرجع إلى معنى إصابة المقصد الصالح.
وجعل الهدى من الله لأنه حق الهدى لأنه وارد من العالم بكل شيء فيكون معصوما من الخلل والخطأ.
ووجه كونه لا أضل منه أن الضلال في الأصل خطأ الطريق وأنه يقع في أحوال متفاوتة في عواقب المشقة أو الخطر أو الهلاك بالكلية، على حسب تفاوت شدة الضلال. وإتباع الهوى مع إلغاء أعمال النظر ومراجعته في النجاة يلقي بصاحبه إلى كثير من أحوال الضر بدون تحديد ولا انحصار.
فلا جرم يكون هذا الاتباع المفارق لجنس الهدى أشد الضلال فصاحبه أشد الضالين
ضلالا.
ثم ذيل هذا التذييل بما هو تمامه إذ فيه تعيين هذا الفريق المبهم الذي هو أشد الضالين ضلالا فإنه الفريق الذين كانوا قوما ظالمين، أي كان الظلم شأنهم وقوام قوميتهم ولذلك عبر عنهم بالقوم.
والمراد بالظالمين: الكاملون في الظلم، وهو ظلم الأنفس وظلم الناس، وأعظمه الإشراك وإتيان الفواحش والعدوان، فإن الله لا يخلق في نفوسهم الاهتداء عقابا منه على ظلمهم فهم باقون في الضلال يتخبطون فيه، فهم أضل الضالين، وهم مع ذلك متفاوتون في انتفاء هدى الله عنهم على تفوتهم في التصلب في ظلمهم؛ فقد يستمر أحدهم زمانا على ضلاله ثم يقدر الله له الهدى فيخلق في قلبه الإيمان. ولأجل هذا التفاوت في قابلية الإقلاع عن الضلال استمرت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم الإيمان في عموم المدعوين إذ لا يعلم إلا الله مدى تفاوت الناس لقبول الهدى، فالهدى المنفي عن أن يتعلق بهم هنا هو الهدى التكويني.
وأما الهدى بمعنى الإرشاد فهو من عموم الدعوة. وهذا معنى قول الأئمة من الأشاعرة أن الله يخاطب بالإيمان من يعلم أنه لا يؤمن مثل أبي جهل لأن التعلق التكويني غير التعلق التشريعي.
وبين {هَوَاهُ} و {هُدىً} جناس محرف وجناس خط.
[51] {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
عطف على جملة {وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ}[القصص: 47] الآية، وما عطف عليها من قوله {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48].
والتوصيل: مبالغة في الوصل، وهو ضم بعض الشيء إلى بعض يقال: وصل الحبل إذا ضم قطعه بعضها إلى بعض فصار حبلا.
والقول المراد به القرآن قال تعالى { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] وقال {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40]، فالتعريف للعهد، أي القول المعهود. وللتوصيل أحوال كثيرة فهو باعتبار ألفاظه وصل بعضه ببعض ولم ينزل جملة واحدة، وباعتبار معاينة وصل أصنافا
من الكلام وعداً، ووعيداً، وترغيباً، وترهيباً، وقصصاً ومواعظ وعبراً، ونصائح يعقب بعضها بعضا وينتقل من فن إلى فن وفي كل ذلك عون على نشاط الذهن للتذكر والتدبر.
واللام و {قد} كلاهما للتأكيد ردا عليه إذ جهلوا حكمة تنجيم نزول القرآن وذكرت لهم حكمة تنجيمه هنا بما يرجع إلى فائدتهم بقوله {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} . وذكر في آية سورة الفرقان حكمة أخرى راجعة إلى فائدة الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا1 لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} وفهم من ذلك أنهم لم يتذكروا. وضمير {لَهُمْ} عائد إلى المشركين.
[52-53] { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ }
لما أفهم قوله {لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [القصص: 51] أنهم لم يفعلوا ولم يكونوا عند رجاء الراجي عقب ذلك بهذه الجملة المستأنفة استئنافا بيانيا لأنها جواب لسؤال من يسأل هل تذكر غيرهم بالقرآن أو استوى الناس في عدم التذكر به. فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب من قبل نزول القرآن يؤمنون به إيمانا ثابتا.
والمراد بالذين أوتوا الكتاب طائفة معهودة من أهل الكتاب شهد الله لهم بأنهم يؤمنون بالقرآن ويتدبرونه وهم بعض النصارى ممن كان بمكة مثل روقة بن نوفل، وصهيب، وبعض يهود المدينة مثل عبد الله بن سلام ورفاعة بن رفاعة القرظي ممن بلغته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يهاجر النبي إلى المدينة فلما هاجر أظهروا إسلامهم.
وقيل: أريد بهم وفد من نصارى الحبشة اثنا عشر رجلا بعثهم النجاشي لاستعلام أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فجلسوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فآمنوا به وكان أبو جهل وأصحابه قريبا منهم يسمعون إلى ما يقولون فلما قاموا من عند النبي صلى الله عليه وسلم تبعهم أبو جهل ومن معه فقال لهم: خيبكم الله من ركب وقبحكم من وفد لم تلبثوا أن صدقتموه، فقالوا: سلام عليكم لم نأل أنفسنا رشدا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. وبه ظهر أنهم لما رجعوا أسلم النجاشي وقد أسلم بعض نصارى الحبشة لما وفد إليهم أهل الهجرة إلى الحبشة وقرأوا عليهم القرآن وأفهموهم الدين.
ـــــــ
1 في المطبوعة {وقالوا لولا}
وضمير {مِنْ قَبْلِهِ} عائد إلى القول من {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ} [القصص: 51]، وهو القرآن. وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في {هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} لتقوي الخبر. وضمير الفصل مقيد للقصر الإضافي، أي هم يوقنون بخلاف هؤلاء الذين وصلنا لهم القول.
ومجيء المسند مضارعا للدلالة على استمرار إيمانهم وتجدده.
وحكاية إيمانهم بالمضي في قوله {آمَنَّا بِهِ} مع أنهم يقولون ذلك عند أول سماعهم القرآن: إما لأن المضي مستعمل في إنشاء الإيمان مثل استعماله في صيغ العقود، وإما للإشارة إلى أنهم آمنوا به من قبل نزوله، أي آمنوا بأنه سيجيء رسول بكتاب مصدق لما بين يديه، يعني إيمانا إجماليا يعقبه إيمان تفصيلي عند سماع آياته. وينظر إلى هذا المعنى قوله {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} ، أي مصدقين بمجيء رسول الإسلام.
ويجوز أن يراد بـ {مُسْلِمِينَ} موحدين مصدقين بالرسل فإن التوحيد هو الإسلام كما قال إبراهيم {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132].
وجملة {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا} في موقع التعليل لجملة {آمَنَّا بِهِ} .
وجملة {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} بيان لمعنى {آمَنَّا بِهِ} .
[54-55] {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}
التعبير عنهم باسم الإشارة منا للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيذكر بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي ذكرت قبل اسم الإشارة مثل ما تقدم في قوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في [سورة البقرة: 5].
وعد الله لهم سبع خصال من خصال أهل الكمال:
إحداها: أخروية، وهي {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} أي أنهم يؤتون أجرين على إيمانهم، أي يضاعف لهم الثواب لأجل أنهم آمنوا بكتابهم من قبل ثم آمنوا بالقرآن، فعبر عن مضاعفة الأجر ضعفين بالمرتين تشبيها للمضاعفة بتكرير الإيتاء وإنما هو إيتاء واحد.
وفائدة هذا المجاز 'ظهار العناية حتى كأن المثيب يعطى ثم يكرر عطاءه ففي {يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} تمثيلة. وفي الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وأدركني فآمن بي واتبعني وصدقني فله أجران، وعبد مملوك أدى حق الله تعالى وحق سيده فله أجران، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن غذاءها ثم أدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران" . رواه الشعبي وقال لعطاء الخراساني: خذه بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة.
والثانية: الصبر، والصبر من أعظم خصال البر وأجمعها للمبرات، وأعونها على الزيادة والمراد بالصبر صبرهم على أذى أهل ملتهم أو صبرهم على أذى قريش، وهذا يتحقق في مثل الوفد الحبشي. ولعلهم المراد من هذه الآية ولذلك أتبع بقوله {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} وقوله {وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} .
والخصلة الثالثة: درؤهم السيئة بالحسنة وهي من أعظم خصال الخير وأدعاها إلى حسن المعاشرة قال تعالى {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34]، فيحصل بذلك فائدة دفع مضرة المسيء عن النفس، وإسداء الخير إلى نفس أخرى، فهم لم يردوا جلافة أبي جهل بمثلها ولكن بالإعراض مع كلمة حسنة وهي {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} .
وأما الإنفاق فلعلهم كانوا ينفقون على فقراء المسلمين بمكة، وهو الخصلة الرابعة ولا يخفى مكانها من البر.
والخصلة الخامسة: الإعراض عن اللغو، وهو الكلام العبث الذي لا فائدة فيه، وهذا الخلق من مظاهر الحكمة، إذ لا ينبغي للعاقل أن يشغل سمعه ولبه بما لا جدوى له وبالأولى يتنزه عن أن يصدر منه ذلك.
والخصلة السادسة: الكلام الفصل وهو قولهم {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وهذا من أحسن ما يجاب السفهاء وهو أقرب لإصلاحهم وأسلم من تزايد سفههم.
ولقد أنطقهم الله بحكمة جعلها مستأهلة لأن تنظم في سلك الإعجاز فألهمهم تلك الكلمات ثم شرفها بأن حكيت في نسج القرآن، كما ألهم عمر قوله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ} [ التحريم: 5] الآية.
ومعنى {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أن أعمالنا مستحقة لنا كناية عن ملازمتهم إياها وأما قولهم {لَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} فهو تتميم على حد {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6].
والمقصود من السلام أنه سلام المتاركة المكنى بها عن الموادعة أن لا نعود لمخاطبتكم قال الحسن: كلمة: السلام عليكم، تحية بين المؤمنين، وعلامة الاحتمال من الجاهلين. ولعل القرآن غير مقالتهم بالتقديم والتأخير لتكون مشتملة على الخصوصية المناسبة للإعجاز لأن تأخير الكلام الذي فيه المتاركة إلى آخر لخطاب أولى ليكون فيه براعة المقطع.
وحذف القرآن قولهم: لم نأل أنفسنا رشدا، للاستغناء عنه بقولهم {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} .
السابعة: ما أفصح عنه قولهم {لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} من أن ذلك خلقهم أنهم يتطلبون العلم ومكارم الأخلاق. والجملة تعليل للمتاركة، أي لأنا لا نحب مخالطة أهل الجهالة بالله وبدين الحق وأهل خلق الجهل الذي هو ضد الحلم، فاستعمل الجهل في معنييه المشترك فيها ولعله تعريض بكنية أبي جهل الذي بذا عليهم بلسانه.
والظاهر أن هذه الكلمة يقولونها بين أنفسهم ولم يجهروا بها لأبي جهل وأصحابه بقرينة قوله {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} وقوله {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} وبذلك يكون القول المحكي قولين: قول وجهوده لأبي جهل وصحبه، وقول دار بين أهل الوفد.
[56] {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}
لما ذكر معاذير المشركين وكفرهم بالقرآن، وأعلم رسوله أنهم يتبعون أهواءهم وأنهم مجردون عن هدى الله، ثم أثنى على فريق من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن، وكان ذلك يحزن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض قريش وهم أخص الناس به عن دعوته أقبل الله على خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم بما يسلي نفسه ويزيل كمده بأن ذكره بأن الهدى بيد الله. وهو كناية عن الأمر بالتفويض في ذلك إلى الله تعالى.
والجملة استئناف ابتدائي. وافتتاحها بحرف التوكيد اهتمام باستدعاء إقبال النبي عليه السلام على علم ما تضمنته على نحو ما قررناه آنفا في قوله {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ
أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]. ومفعول {أَحْبَبْتَ} محذوف دل عليه {لا تَهْدِي} .
والتقدير: من أحببت هديه أو اهتداءه. وما صدق {مِنَ} الموصولة كل من دعاه النبي إلى الإسلام فإنه يحب اهتداءه.
وقد تضافرت الروايات على أن من أول المراد بذلك أبا طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أغتم لموته على غير الإسلام كما في الأحاديث الصحيحة. قال الزجاج: أجمع المسلمون أنها نزلت في أبي طالب. وقال الطبري: وذكر أن هذه الآية نزلت من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته إذ دعاه إلى الإيمان بالله وحده. قال القرطبي: وهو نص حديث البخاري ومسلم وقد تقدم ذلك في براءة.
وهذا من العام النازل على سبب خاص فيعمه وغيره وهو يقتضي أن تكون هذه السورة نزلت عقب موت أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب سنة ثلاث قبل الهجرة، أو كان وضع هذه الآية عقب الآيات التي قبلها بتوقيف خاص.
ومعنى {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أنه يخلق من يشاء قابلا للاهتداء في مدى معين وبعد دعوات محدودة حتى ينشرح صدره للأيمان فإذا تدبر ما خلقه الله عليه وحدده كثر في علمه وإرادته جعل منه الاهتداء في مدى معين وبعد دعوات محدودة حتى ينشرح صدره للإيمان فإذا تدبر ما خلقه الله عليه وحدده كثر في علمه وإرادته جعل منه الاهتداء، فالمراد الهداية بالفعل. وأما قوله تعالى {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] فهي الهداية بالدعوة والإرشاد فاختلف الإطلاقان.
ومفعول فعل المشيئة محذوف لدلالة ما فبله عليه، أي من يشاء اهتداءه، والمشيئة تعرف بحصول الاهتداء وتتوقف على ما سبق من علمه وتقديره.
وفي قوله {وهو أعلم بالمهتدين} إيماء إلى ذلك، أي هو أعلم من كل أحد بالمهتدين في أحوالهم ومقادير استعدادهم على حسب ما تهيأت إليه فطرهم من صحيح النظر وقبول الخير واتقاء العاقبة والانفعال لما يلقي إليها من الدعوة ودلائلها. ولكل ذلك حال ومدى ولكليهما أسباب تكوينية في الشخص وأسلافه وأسباب نمائه أو ضعفه من الكيان والوسط والعصر والتعقل.
[57] {وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِن لَّدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }
هذه بعض معاذيرهم قالها فريق منهم ممن غلبه الحياء على أن يكابر ويجاهر بالتكذيب، وغلبه إلف ما هو عليه من حال الكفر على الاعتراف بالحق، فاعتذروا بهذه
المعذرة، فروي عن ابن عباس أن الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وناسا من قريش جاءوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحارث "إنا لنعلم أن قولك حق ولكنا نخاف إن اتبعنا الهدى معك ونؤمن بك أن يتخطفنا العرب من أرضنا ولا طاقة لنا بهم وإنما نحن أكلة رأس" (أي أن جمعنا يشبه الرأس الواحد من الإبل وهذه الكلمة كناية عن القلة) فهؤلاء اعترفوا في ظاهر الأمر بأن النبي صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى.
والتخطف: مبالغة في الخطف، وهو انتزاع شيء بسرعة، وتقدم في قوله تعالى {تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ} في [سورة الأنفال: 26]. والمراد: يأسرنا الأعداء معهم إلى ديارهم، فرد الله عليهم بأن قريشا مع قلتهم عدا وعدة أتاح الله لهم بلدا هو حرم آمن يكونون فيه آمنين من العدو على كثرة قبائل العرب واشتغالهم بالغارة على جيرتهم وجبى إليهم ثمرات كثيرة قرونا طويلة، فلو اعتبروا لعلموا إن لهم منعة ربانية وإن الله الذي أمنهم في القرون الخالية يومنهم إن استجابوا لله ورسوله.
والتمكين: الجعل في مكان، وتقدم في قوله تعالى {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ} في [سورة الأنعام: 6]، وقوله في أول هذه السورة [6] {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ] . واستعمل هنا مجازا في الإعداد والتيسير.
والجبي: الجمع والجلب ومنه جباية الخراج.
والاستفهام إنكار أن يكون الله لم يمكن لهم حرما. ووجه الإنكار أنهم نزلوا منزلة من بنفي أن ذلك الحرم من تمكين الله فاستفهموا على هذا النفي استفهام إنكار.
وهذا الإنكار يقتضي توبيخا على هذه الحالة التي نزلوا لأجلها منزلة من ينفي أن الله مكن لهم حرما.
والواو عطفت جملة الاستفهام على جملة {وَقَالُوا} . والتقدير: ونحن مكنا لهم حرما.
و {كُلُّ شَيْءٍ} عام في كل ذي ثمرة وهو عموم عرفي، أي ثمر كل شيء من الأشياء المثمرة المعروفة في بلادهم والمجاورة لهم أو استعمل {كُلُّ} في معنى الكثرة.
و {رِزْقاً} حال من {ثَمَرَاتُ} وهو مصدر بمعنى المفعول.
ومعنى {مِنْ لَدُنَّا} من عندنا، والعندية مجاز في التكريم والبركة، أي رزقا قدرناه
لهم إكراما فكأنه رزق خاص من مكان شديد الاختصاص بالله تعالى.
وقد حصل في خلال الرد لقولهم إدماج للامتنان عليهم بهذه النعمة ليحصل لهم وازعان عن الكفر بالنعم: وازع إبطال معذرتهم عن الكفر، ووازع التذكير بنعمة المكفور به.
وموقع الاستدراك في قوله {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أنه متعلق بالكلام المسوق مساق الرد على قولهم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} إذ التقدير: أن تلك نعمة ربانية ولكن أكثرهم لا علم لهم فلذلك لم يتفطنوا إلى كنه هذه النعمة فحسبوا أن الإسلام مفض إلى اعتداء العرب عليهم ظنا بأن حرمتهم بين العرب مزية ونعمة أسداها إليهم قبائل العرب.
وفعل {لا يَعْلَمُونَ} منزل منزلة اللازم فلا يقدر له مفعول، أي ليسوا ذوي علم ونظر بل هم جهلة لا يتدبرون الأحوال. ونفي العلم عن أكثرهم لأن بعضهم أصحاب رأي فلو نظروا وتدبروا لما قالوا مقالتهم تلك.
ولو قدر لفعل {يَعْلَمُونَ} مفعول دل عليه الكلام، أي لا يعلمون تمكين الحرم لهم وأن جلب الثمرات إليهم من فضلنا لما استقام إسناد نفي العلم إلى أكثرهم بل كان يسند إلى جميعهم لإطباق كلمتهم على مقالة {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} .
وقرأ نافع وأبو جعفر ورويس عن يعقوب {تجبى} بالمثناة الفوقية. وقرأ الباقون بالياء التحتية مراعاة للمضاف إليه وهو {كُلُّ شَيْءٍ} فأكسب المضاف تأنيثا.
[58] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} .
عطف على جملة {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً} [القصص: 57] باعتبار ما تضمنته من الإنكار والتوبيخ، فإن ذلك يقتضي التعرض للانتقام شأن الأمم التي كفرت بنعم الله فهو تخويف لقريش من سوء عاقبة أقوام كانوا في مثل حالهم من الأمن والرزق فغمطوا النعمة وقابلوها بالبطر.
والبطر: التكبر. وفعله قاصر من باب فرح، فانتصاب {مَعِيشَتَهَا} بعد {بَطِرَتْ} على تضمين {بَطِرَتْ} معنى ( كفرت) لأن البطر وهو التكبر يستلزم عدم الاعتراف بما
يسدى إليه من الخير.
والمراد: بطرت حالة معيشتها، أي نعمة عيشها.
والمعيشة هنا اسم مصدر بمعنى العيش والمراد حالته فهو على حذف مضاف دل عليه المقام، ويعلم أنها حالة حسنة من قوله {بَطِرَتْ} وهي حالة الأمن والرزق.
والإشارة بـ {تِلْكَ} إلى {مَسَاكِنُهُمْ} الذي بين به اسم الإشارة لأنه في قوة تلك المساكن. وبذلك صارت الإشارة إلى حاضر في الذهن منزل منزلة الحاضر بمرأى السامع، ولذلك فقوله {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} خبر عن اسم الإشارة. والتقدير: فمساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا.
والسكنى: الحلول في البيت ونحوه في الأوقات المعروفة بقصد الاستمرار زمنا طويلا.
ومعنى {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} لم يتركوا فيها خلفا لهم. وذلك كناية عن انقراضهم عن بكرة أبيهم.
وقوله {إِلَّا قَلِيلاً} احتراس أي إلا إقامة المارين بها المعتبرين بهلاك أهلها.
وانتصب {قَلِيلاً} على الاستثناء من عموم أزمان محذوفة. والتقدير: إلا أزمانا قليلا، أو على الاستثناء من مصدر محذوف. والتقدير: لم تسكن سكنا إلا سكنا قليلا، والسكن القليل: هو مطلق الحلول بغير نية إطالة فهي إلمام لا سكنى. فإطلاق السكنى على ذلك مشاكلة ليتأتى الاستثناء، أي لم تسكن إلا حلول المسافرين أو إناخة المنتجين مثل نزول جيش غزوة تبوك بحجر ثمود واستقائهم من بئر الناقة. والمعنى: فتلك مساكنهم خاوية خلاء لا يعمرها عامر، أي أن الله قدر بقاءها خالية لتبقى عبرة وموعظة بعذاب الله في الدنيا.
وبهذه الآية يظهر تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم حين مر في طريقه إلى تبوك بحجر ثمود فقال: "لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن يصيبك مثل ما أصابهم إلا أن تكونوا باكين" أي خائفين أي اقتصار على ضرورة المرور لئلا يتعرضوا إلى تحقق حقيقة السكنى التي قدر الله انتفاءها بعد قومها فربما قدر إهلاك من يسكنها تحقيقا لقدره.
وجملة {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} عطف على جملة {لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ} وهو يفيد
أنها لم تسكن من بعدهم فلا يحل فيها قوم آخرون بعدهم فعبر عن تداول السكنى بالإرث على طريقة الاستعارة.
وقصر إرث تلك المساكن على الله تعالى حقيقي، أي لا يرثها غيرنا. وهو كناية عن حرمان تلك المساكن من الساكن. وتلك الكناية رمز إلى شدة غضب الله تعالى على أهلها الأولين بحيث تجاوز غضبه الساكنين إلى نفس المساكن فعاقبها بالحرمان من بهجة المساكين سكانها فإن كمال الموجودات هو به قوام حقائقها.
[59] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}
أعقب الاعتبار بالقرى المهلكة ببيان أشراط هلاكها وسببه، استقصاء للإعذار لمشركي العرب، فبين لهم أن ليس من عادة الله تعالى أن يهلك القرى المستأهلة الإهلاك حتى يبعث رسولا في القرية الكبرى منها لأن القرية الكبرى هي مهبط أهل القرى والبوادي المجاورة لها فلا تخفى دعوة الرسول فيها ولأن أهلها قدوة لغيرهم في الخير والشر فهم أكثر استعدادا لإدراك الأمور على وجهها فهذا بيان أشراط الإهلاك.
و {الْقُرَى} : هي المنازل لجماعات من الناس ذوات البيوت المبنية، وتقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} في [البقرة: 58].
وخصت بالذكر لأن العبرة بها أظهر لأنها إذا أهلكت بقيت آثارها وأطلالها ولم ينقطع خبرها من الأجيال الآتية بعدها ويعلم أن الحلل والخيام مثلها بحكم دلالة الفحوى.
وإفراغ النفي في صيغة ما كان فاعلا ونحوه من صيغ الجحود يفيد رسوخ هذه العدة واطرادها كما تقدم في نظائره منها قوله تعالى {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ} في [سورة آل عمران: 79] وقوله {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ} في [سورة يونس: 37].
وقرى بلاد العرب كثيرة مثل مكة وجدة ومنى والطائف ويثرب وما حولها من القرى وكذلك قرى اليمن وقرى البحرين. وأم القرى هي القرية العظيمة منها وكانت مكة أعظم بلاد العرب شهرة وأذكرها بينهم وأكثرها مارة وزوارا لمكان الكعبة فيها والحج لها.
والمراد بإهلاك القرى إهلاك أهلها. وإنما علق الإهلاك بالقرى للإشارة إلى أن شدة الإهلاك بحيث يأتي على الأمة وأهلها وهو الإهلاك بالحوادث التي لا تستقر معها الديار بخلاف إهلاك الأمة فقد يكون بطاعون ونحوه فلا يترك أثرا في القرى.
وإسناد الخبر إلى الله بعنوان ربوبيته للنبي صلى الله عليه وسلم إيماء إلى أن المقصود بهذا الإنذار هم أمة محمد الذين كذبوا فالخطاب للنبي عليه السلام لهذا المقصد. ولهذا وقع الالتفات عنه إلى ضمير المتكلم في قوله {آيَاتِنَا} للإشارة إلى أن الآيات من عند الله وأن الدين دين الله.
وضمير {عليهم} عائد إلى المعلوم من القرى وهو أهلها كقوله {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} [ يوسف: 82] ومنه قوله {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17].
وقد حصل في هذه الجملة تفنن في الأساليب إذ جمعت الاسم الظاهر وضمائر الغيبة والخطاب والتكلم.
ثم بين السبب بقوله {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} أي ما كان من عادتنا في عبادنا أن نهلك أهل القرى في حالة ظلمهم أنفسهم بالإشراك، فالإشراك سبب الإهلاك وإرسال رسول شرطه، فيتم ظلمهم بتكذيبهم الرسول.
وجملة {وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} في موضع الحال، وهو حال مستثنى من أحوال محذوفة اقتضاها الاستثناء المفرغ، أي ما كنا مهلكي القرى في حال إلا في حال ظلم أهلها.
[60] {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلا تَعْقِلُونَ}
لما ذكرهم الله بنعمه عليهم تذكيرا أدمج في خلال الرد على قولهم {إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] بقوله {يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا} [القصص: 57] أعقبه بأن كل ما أوتوه من نعمة هو من متاع الحياة الدنيا كالأمن والرزق، ومن زينتها كاللباس والأنعام والمال، وأما ما عند الله من نعيم الآخرة من ذلك وأبقى لئلا يحسبوا أن هم فيه من الأمن والرزق هو الغاية المطلوبة فلا يتطلبوا ما به تحصيل النعيم العظيم الأبدي، وتحصيله بالإيمان. ولا يجعلوا ذلك موازنا لاتباع الهدى وإن كان في اتباع الهدى تفويت ما هم فيه من أرضهم وخيراتها لو سلم ذلك. هذا وجه مناسبة هذه الآية لما قبلها.
و {مِنْ شَيْءٍ} بيان لـ {مَا أُوتِيتُمْ} والمراد من أشياء المنافع كما دل عليه المقام لأن الإيتاء شائع في إعطاء ما ينفع.
وقد التفت الكلام من الغيبة من قوله {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً} إلى الخطاب في قوله {أُوتِيتُمْ} لأن ما تقدم من الكلام أوجب توجيه التوبيخ مواجهة إليهم.
والمتاع: ما ينتفع به زمنا ثم يزول.
والزينة: ما يحسن الأجسام.
والمراد بكون ما عند الله خيرا، أن أجناس الآخرة خير مما أوتوه في كمال أجناسها، وأما كونه أبقى فهو بمعنى الخلود.
وتفرع على هذا الخبر استفهام توبيخي وتقريري على عدم عقل المخاطبين لأنهم لما لم يستدلوا بعقولهم على طريق الخير نزلوا منزلة من أفسد عقله فسئلوا: أهم كذلك?.
وقرأ الجمهور {تَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب. وقرأ أبو عمرو ويعقوب {يَعْقِلُونَ} بياء الغيبة على الالتفات عن خطابهم لتعجب المؤمنين من حالهم، وقيل: لأنهم لما كانوا لا يعقلون نزلوا منزلة الغائب لبعدهم عن مقام الخطاب.
[61] {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ}
أحسب أن موقع الفريع هنا أن مما أومأ إليه قوله {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [القصص: 60] ما كان المشركون يتبجحون به على المسلمين من وفرة الأموال ونعيم الترف حين كان معظم المسلمين فقراء ضعفاء قال تعالى {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] أي منعمين، وقال {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11] فيظهر من آيات القرآن أن المشركين كان من دأبهم التفاخر بما هم فيه من النعمة قال تعالى {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} [هود: 116] وقال {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} [الأنبياء: 13] فلما أنبأهم الله بأن ما هم فيه من الترف إن هو إلا متاع قليل، قابل ذلك بالنعيم الفائق الخالد الذي أعد للمؤمنين، وهي تفيد مع ذلك تحقيق معنى الجملة التي قبلها لأن الثانية زادت الأولى بيانا بأن ما أتوه زائل زوالا معوضا بضد المتاع والزينة وذلك قوله {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} .
فما صدق {مِنَ} الأولى هم الذين وعدهم الله الوعد الحسن وهم المؤمنون، وما صدق {مِنَ} الثانية جمع هم الكافرون. والاستفهام مستعمل في إنكار المشابهة والمماثلة التي أفادها كاف التشبيه فالمعنى أن الفريقين ليسوا سواء إذ لا يستوي أهل نعيم عاجل زائل وأهل نعيم آجل خالد.
وجملة {فَهُوَ لاقِيهِ} معترضة لبيان أنه وعد محقق، والفاء للتسبب.
وجملة {ثُمَّ هُوَ} الخ عطف على جملة {مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فهي من تمام صلة الموصول. و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لبيان أن رتبة مضمونها في الخسارة أعظم من مضمون التي قبلها، أي لم تقتصر خسارتهم على حرمانهم من نعيم الآخرة بل تجاوزت إلى التعويض بالعذاب الأليم.
ومعنى {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} أنه من المحضرين للجزاء على ما دل عليه التوبيخ في {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [ القصص: 60] والمقابلة في قوله {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} المقتضية أن الفريق المعين موعودون بضد الحسن، فحذف متعلق {الْمُحْضَرِينَ} اختصارا كما حذف في قوله {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] وقوله {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [ الصافات: 127، 128]
[62-63] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}
تخلص من إثبات بعثة الرسل وبعثة محمد صلى الله عليه وسلم إلى إبطال الشركاء لله، فالجملة معطوفة على جملة {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً} [القصص: 61] مفيدة سبب كونهم من المحضرين، أي لأنهم من دون الله شركاء وزعموا أنهم يشفعون لهم فإذا هم لا يجدونهم يوم يحضرون للعذاب، فلك أن تجعل مبدأ الجملة قوله {يناديهم} فيكون عطفا على جملة {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] أي يحضرون ويناديهم فيقول: أَينَ شَُركَائِي} الخ. ولك أن تجعل مبدأ الجملة قوله {يُنَادِيهِمْ} . ولك أن تجعله عطف مفردات فيكون {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} عطفا على {يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 61] فيكون {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} عين {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} وكان حقه أن يأتي بدلا من {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لكنه عدل عن الإبدال إلى العطف لاختلاف حال ذلك اليوم باختلاف العنوان، فنزل منزلة يوم زيادة في تهويل ذلك اليوم.
ولك أن تجعل {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} منصوبا بفعل مقدر بعد واو العطف بتقدير: اذكر، أو بتقدير فعل دل عليه معنى النداء. واستفهام التوبيخ من حصول أمر فظيع، تقديره: يوم يناديهم يكون ما لا يوصف من الرعب.
وضمير {يُنَادِيهِمْ} المرفوع عائد إلى الله تعالى. وضمير الجمع المنصوب عائد إلى المتحدث عنهم في الآيات السابقة ابتداء من قوله {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا} [القصص: 57] فالمنادون جميع المشركين كما اقتضاه قوله تعالى {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
والاستفهام بكلمة {أَيْنَ} ظاهره استفهام عن المكان الذي يوجد فيه الشركاء، ولكنه مستعمل كناية عن انتفاء وجود الشركاء المزعومين يومئذ، فالاستفهام مستعمل في الانتفاء.
ومفعولا {تَزْعُمُونَ} محذوفان دل عليهما {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أي تزعمونهم شركائي، وهذا الحذف اختصار وهو جائز في مفعولي (ظن).
وجردت جملة {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} عن حرف العطف لأنها وقعت في موقع المحاورة فهي جواب عن قوله تعالى {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
والذين تصدوا للجواب هم بعض المنادين بـ {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} علموا أنهم الأحرياء بالجواب. وهؤلاء هم أئمة أهل الشرك من أهل مكة مثل أبي جهل وأمية بن خلف وسدنة أصنامهم كسادن العزى. ولذلك عبر عنهم بـ {الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} ولم يعبر عنهم بـ(قالوا).
ومعنى {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يجوز أن يكون {حَقَّ} بمعنى تحقق وثبت ويكون القول قولا معهودا وهو ما عهد للمسلمين من قوله تعالى و {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي1 لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وقوله {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] فالذين حق عليهم القول هم الذين حل الإبان الذي يحق عليهم فيه هذا لقول. والمعنى: أن الله ألجأهم إلى الاعتراف بأنهم أضلوا الضالين وأغووهم.
ويجوز أن يكون {حَقَّ} بمعنى وجب وتعين، أي حقعليهم الجواب لأنهم علموا أن قوله تعالى {فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} موجه إليهم فلم يكن لهم بد من
ـــــــ
1 في المطبوعة: "حقت كلمة ربك لأملان ..."
إجابة ذلك السؤال. ويكون المراد بالقول جنس القول، أي الكلام الذي يقال في ذلك المقام وهو الجواب عن الاستفهام بقوله {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} وعلى كلا الاحتمالين فالذين حق عليهم القول هم أئمة الكفر كما يقتضيه قوله تعالى {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا...} الخ.
والتعريف في {الْقَوْلُ} الأظهر أنه تعريف الجنس وهو ما دل عليه {قَالَ} ، أي قال الذين حق عليهم يقولوا، أي الذين كانوا أحرى بأن يجيبوا لعلهم بأن تبعة المسؤول عنه واقعة عليهم لأنه لما وجه التوبيخ إلى جملتهم تعين أن يتصدى للجواب الفريق الذين ثبتوا العامة على الشرك وأضلوا الدهماء.
وابتدأوا جوابهم بتوجيه النداء إلى الله بعنوان أنه ربهم، نداء أريد منه الاستعطاف بأنه الذي خلقهم اعترافا منهم بالعبودية وتمهيدا للتنصل من أن يكونوا هم المخترعين لدين الشرك فإنهم إنما تلقوه عن غيرهم من سلفهم، والإشارة بـ {هَؤُلاءِ} إلى بقية المنادين معهم قصدا لأن يتميزوا عمن سواهم من أهل الموقف وذلك بإلهام من الله ليزدادوا رعبا، وأن يكون لهم مطمع في التخليص. و {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} خبر عن اسم الإشارة وهو اعتراف بأنهم أغووهم.
وجملة {أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} استئناف بياني لجملة {الَّذِينَ أَغْوَيْنَا} لأن اعترافهم بأنهم أغووهم يثير سؤال سائل متعجب كيف يعترفون بمثل هذا الجرم فأرادوا بيان الباعث لهم على إغواء إخوانهم وهو أنهم بثوا في عامة أتباعهم الغواية المستقرة في نفوسهم وظنوا أن ذلك الاعتراف يخفف عنهم من العذاب بقرينة قولهم {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}
وإنما لم يقتصر على جملة {أَغْوَيْنَاهُمْ} بأن يقال: هؤلاء الذين أغويناهم كما غوينا، لقصد الاهتمام بذكر هذا الإغواء بتأكيده اللفظي، وبإجماله في المرة الأولى وتفصيله في المرة الثانية، فليست على إعراب الحماسة عند قول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
إنما جاز أن يقول: فإذا تزول تزول، لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة، ومثله قول الله تعالى {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} ولو قال:
هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا، لأنه كقولك: الذي ضربته ضربته، والتي أكرمتها أكرمتها، ولكن لما اتصل بـ {أَغْوَيْنَاهُمْ} الثانية قوله {كَمَا غَوَيْنَا} أفاد الكلام كقولك: الذي ضربته لأنه جاهل. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما اخترناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك اهـ. وقد تقدم بيان كلامه عند قوله تعالى {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ} في [سورة الإسراء: 7]، وقوله {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} في [سورة الشعراء: 130]، وقوله {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} في [سورة الفرقان: 72]، فإن تلك الآيات تطابق بيت الأحوص لاشتمالهن على {إِذَا} .
و {كَمَا غَوَيْنَا} صفة لمصدر، أي إغواء يوقع في نفوسهم غيا مثل الغي الذي في قلوبنا. ووجه الشبه في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مغوون قبلهم، وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعة عنهم ويتوهمون أن السير على قدم الغاوين يبرر الغواية، وهذا كما حكى عنهم في [سورة الشعراء: 96-99] {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } . وحذف مفعول فعل {أَغْوَيْنَا} الأول وهو العائد من الصلة إلى الموصول لكثرة حذف أمثاله من كل عائد صلة هو ضمير نصب متصل وناصبه فعل أو وصف شبيه بالفعل، لأن اسم الموصول مغن عن ذكر هو دال عليه فكان حذف العائد اختصار. وذكر مفعول فعل {أَغْوَيْنَاهُمْ} الثاني اهتماما بذكره لعدم الاستغناء عنه في الاستعمال.
وجملة {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ} استئناف. والتبرؤ: تفعل من البراءة وهي انتفاء ما يصم، فالتبرؤ: معالجة إثبات البراءة وتحقيقها. وهو يتعدى إلى من يحاول إثبات البراءة لأجله بحرف (إلى) الدال على الانتهاء المجازي؛ يقال: إني أبرأ إلى الله من كذا، أي أوجه براءتي إلى الله، كما يتعدى إلى الشيء الذي يصم بحرف (من) الاتصالية التي هي للابتداء المجازي قال تعالى {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: 69] وقد تدخل (من) على اسم ذات باعتبار مضاف مقدر نحو قوله تعالى {وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} [الأنفال: 48] أي من كفركم. والتقدير: من أعمالكم وشؤونكم إما من أعمال خاصة يدل عليها المقام أو من عدة أعمال.
فالمعنى هنا تحقق التبرؤ لديك، والمتبرأ منه هو مضمون جملة {مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} فهي بيان لإجمال التبرؤ.
والمقصود: أنهم يتبرأون من أن يكونوا هم المزعوم أنهم شركاء وإنما قصارى
أمرهم أنهم مضلون وكان هذا المقصد إلجاء من الله إياهم ليعلنوا تنصلهم من إدعاء أنهم شركاء على رؤوس الملأ، أو حملهم على ذلك ما يشاهدون من فظاعة عذاب كل من ادعى المشركون له الإلهية باطلا لما سمعوا قوله تعالى {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]. هذا ما انطوت عليه هذه الآية من المعاني.
وتقديم {إِيَّانَا} على {يَعْبُدُونَ} دون أن يقال يعبدوننا للاهتمام بهذا التبرؤ مع الرعاية على الفاصلة.
[64] {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ}
هذا موجه إلى جميع الذين نودوا بقوله {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] فإن ذلك النداء كان توبيخا لهم على اتخاذهم آلهة شركاء لله تعالى. فلما شعروا بالمقصد من ندائهم وتصدى كبراؤهم للاعتذار عن اتخاذهم أتبع ذلك بهذا القول.
وأسند فعل القول إلى المجهول لأن الفاعل معلوم مما تقدم، أي وقال الله. والأمر مستعمل في الإطماع لتعقب الإطماع باليأس.
وإضافة الشركاء إلى ضمير المخاطبين لأنهم الذين ادعوا لهم الشركة كما في آية [الأنعام: 94] {الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} . والدعاء دعاء الاستغاثة حسب زعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله في الدنيا. وقوله {فلم يستجيبوا لهم} هو محل التأييس المقصود من الكلام.
وأما قوله تعالى {وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ } فيحتمل معاني كثيرة فرضها المفسرون؛ وجماع أقوالهم فيها أخذا وردا أن نجمعها في أربعة وجوه:
أحدها: أن يكون عطفا على جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . والرؤية بصرية، والعذاب عذاب الآخرة، أي أحضر لهم آلة العذاب ليعلموا أن شركاءهم لا يغنون عنهم شيئا. وعلى هذا تكون جملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة ابتدائية مستقلة عن جملة {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} .
الثاني: أن تكون الواو للحال والرؤية أيضا بصرية والعذاب عذاب الآخرة، أي وقد رأوا العذاب فارتبكوا في الاهتداء إلى سبيل الخلاص فقيل لهم: ادعوا شركاءكم
لخلاصكم، وتكون جملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} كذلك مستأنفة ابتدائية.
الثالث: أن تكون الرؤية علمية، وحذف المفعول الثاني اختصارا، والعذاب عذاب الآخرة. والمعنى: وعلموا العذاب حائقا بهم، والواو للعطف أو الحال. وجملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} مستأنفة استئنافا بيانيا كأن سائلا سأل: ماذا صنعوا حين تحققوا أنهم معذبون? فأجيب بأنهم لو أنهم كانوا يهتدون سبيلا لسلكوه ولكنهم لا سبيل لهم إلى النجاة.
وعلى هذه الوجوه الثلاثة تكون {لَوْ} حرف شرط وجوابها محذوفا دل عليه حذف مفعول {يَهْتَدُونَ} أي يهتدون خلاصا أو سبيلا. والتقدير: لتخلصوا منه. وعلى الوجوه الثلاثة ففعل {كَانُوا} مزيد في الكلام لتوكيد خبر (أن) أي لو أنهم يهتدون اهتداء متمكنا من نفوسهم، وفي ذلك إيماء أنهم حينئذ لا قرارة لنفوسهم. وصيغة المضارع في {يَهْتَدُونَ} دالة على التجدد فالاهتداء منقطع منهم وهو كناية عن عدم الاهتداء من أصله.
الوجه الرابع: أن تكون {لَوْ} للتمني المستعمل في التحسر عليهم. والمراد اهتداؤهم في حياتهم الدنيا كيلا يقعوا في هذا العذاب، وفعل {كَانُوا} حينئذ في موقعه الدال على الاتصاف بالخبر في الماضي، وصيغة المضارع في {يَهْتَدُونَ} لقصد تجدد الهدى المتحسر على فواته عنهم فإن الهدى لا ينفع صاحبه إلا إذا استمر إلى آخر حياته.
ووجه خامس عندي: أن يكون المراد بالعذاب عذاب الدنيا، والكلام على حذف مضاف تقديره: ورأوا آثار العذاب. والرؤية بصرية، أي وهم رأوا العذاب في حياتهم أي رأوا آثار عذاب الأمم الذين كذبوا الرسل وهذا في معنى قوله تعالى في [سورة إبراهيم: 45] {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} ؛ وجملة {لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ} أي بالاتعاظ وبالاستدلال بحلول العذاب في الدنيا على أن وراءه عذابا أعظم منه لاهتدوا فأقلعوا عن الشرك وصدقوا النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا لأنه يفيد معنى زائدا على ما أفادته جملة {فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} . فهذه عدة معان يفيدها لفظ الآية، وكلها مقصود، فالآية من جوامع الكلم.
[65-66] {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} هو {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [ القصص: 62] كرر
الحديث عنه باعتبار تعدد ما يقع فيه لأن مقام الموعظة يقتضي الإطناب في تعداد ما يستحق به التوبيخ. وكررت جملة {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} لأن التكرار من مقتضيات مقام الموعظة. وهذا توبيخ لهم على تكذيبهم الرسل بعد انقضاء توبيخهم على الإشراك بالله.
والمراد: ماذا أجبتم المرسلين في الدعوة إلى توحيد الله وإبطال الشركاء. والمراد بـ {الْمُرْسَلِينَ} محمد صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى في [سورة سبأ: 45] {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} . وله نظائر في القرآن منها قوله {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} يريد محمدا صلى الله عليه وسلم في [سورة يونس: 103] وقوله {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} الآيات في [سورة الشعراء: 105]، وإنما كذب كل فريق من أولئك رسولا واحدا. والذي اقتضى صيغة الجمع أن جميع المكذبين إنما كذبوا رسلهم بعلة استحالة رسالة البشر إلى البشر فهم إنما كذبوا بجنس المرسلين، ولام الجنس إذا دخلت على (جميع) أبطلت منه معنى الجمعية.
والاستفهام بـ {مَاذَا} صوري مقصود منه إظهار بلبلتهم. و(ذا) بعد (ما) الاستفهامية تعامل معاملة الموصول، أي ما الذي أجبتم المرسلين، أي ما جوابكم. والأنباء: جمع نبأ، وهو الخبر عن أمر مهم، والمراد به هنا الجواب عن سؤال {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} لأن ذلك الجواب إخبار عما وقع منهم مع رسلهم في الدنيا.
والمعنى: عميت الأنباء على جميع المسؤولين فسكتوا كلهم ولم ينتدب زعماؤهم للجواب كفعلهم في تلقي السؤال السابق: {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62]
ومعنى {عَمِيَتْ} خفيت عليهم وهو مأخوذ من عمى البصر لأنه يجعل صاحبه لا يتبين الأشياء، فتصرفت من العمى معان كثيرة متشابهة يبينها تعدية الفعل كما عدي منا بحرف (على) المناسب للخفاء. ويقال: عمي عليه الطريق. إذا لم يعرف ما يوصل منه، قال عبد الله بن رواحة:
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
والمعنى: خفيت عليهم الأنباء ولم يهتدوا إلى جواب وذلك من الحيرة والوهل فإنهم لما نودوا {أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] انبرى رؤساؤهم فلفقوا جوابا عدلوا به عن جادة الاستفهام إلى إنكار أن يكونوا هم الذين سنوا لقومهم عبادة الأصنام، فلما سئلوا عن جواب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم عيوا عن الجواب فلم يجدوا مغالطة لأنهم لم
يكونوا مسبوقين من سلفهم بتكذيب الرسول فإن الرسول بعث إليهم أنفسهم.
ولهذا تفرع على (عميت عليهم الأنباء) قوله {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضا لاستخراج الآراء وذلك من شدة البهت والبغت على الجميع أنهم لا متنصل لهم من هذا السؤال فوجموا.
وإذ كان الاستفهام لتمهيد أنهم محقوقون بالعذاب علم من عجزهم عن الجواب عنه أنهم قد حق عليهم العذاب.
[67] {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}
تخلل بين حال المشركين ذكر حال الفريق المقابل وهو فريق المؤمنين على طريقة الاعتراض لأن الأحوال تزداد تميزا بذكر أضدادها، والفاء للتفريع على ما أفاده قوله {فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ} من أنهم حق عليهم العذاب.
ولما كانت (أما) تفيد التفصيل وهو التفكيك والفصل بين شيئين أو أشياء في حكم فهي مفيدة هنا أن غير المؤمنين خاسرون في الآخرة وذلك ما وقع الإيماء إليه بقوله {فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ} [ القصص: 66] فإنه يكتفي بتفصيل أحد الشيئين عن ذكر مقابله ومنه قوله تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء: 157] أي وأما الذين كفروا بالله فبضد ذلك.
والتوبة هنا: الإقلاع عن الشرك والندم على تقليده. وعطف الإيمان عليها لأن المقصود حصول إقلاع عن عقائد الشرك وإحلال عقائد الإسلام محلها ولذلك عطف عليه {وَعَمِلَ صَالِحاً} لأن بعض أهل الشرك كانوا شاعرين بفساد دينهم وكان يصدهم عن تقلد شعائر الإسلام أسباب مغرية من الأعراض الزائلة التي فتنوا بها.
و {عَسَى} ترج لتمثيل حالهم بحال من يرجى منه الفلاح. و {أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} أشد في إثبات الفلاح من: أن يفلح، كما تقدم غير مرة.
[68] { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}
هذا من تمام الاعتراض وهي جملة {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [ القصص: 67] وظاهر عطفه على ما قبله أن معناه آيل إلى التفويض إلى حكمة الله تعالى في خلق قلوب منفتحة للاهتداء ولو بمراحل، وقلوب غير منفتحة له فهي قاسية صماء، وأنه الذي اختار فريقا على فريق. وفي أسباب النزول للواحدي {قال أهل التفسير نزلت جوابا للوليد بن المغيرة حين قال فيما أخبر الله عنه {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] اهـ. يعنون بذلك الوليد بن المغيرة من أهل مكة وعروة بن مسعود الثقفي من أهل الطائف. وهما المراد بالقريتين. وتبعه الزمخشري وابن عطية. فإذا كان اتصال معناها بقوله {مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص: 65]، فإن قولهم {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} هو من جملة ما أجابوا به دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم. والمعنى: أن الله يخلق ما يشاء من خلقه من البشر وغيرهم ويختار من بين مخلوقاته لما يشاء مما يصلح له جنس ما منه الاختيار، ومن ذلك اختياره للرسالة من يشاء إرساله، وهذا في معنى قوله { الله أعلم حيث يجعل رسالاته} [الأنعام: 124] وأن ليس ذلك لاختيار الناس ورغباتهم؛ والوجهان لا يتزاحمان.
والمقصود من الكلام هو قوله {وَيَخْتَارُ} فذكر {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} إيماء إلى أنه أعلم بمخلوقاته.
وتقديم المسند إليه على خبره الفعلي يفيد القصر في هذا المقام إن لوحظ سبب النزول أي ربك وحده لا أنتم تختارون من يرسل إليكم.
وجوز أن يكون {مَا} من قوله {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} موصولة مفعولا لفعل {يَخْتَارُ} وأن عائد الموصول مجرور بـ(في) محذوفين. والتقدير: ويختار ما لهم فيه الخير، أي يختار لهم من الرسل ما يعلم أنه صالح بهم لا ما يشتهونه من رجالهم.
وجملة {مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} استئناف مؤكد لمعنى القصر لئلا يتوهم أن الجملة قبله مفيدة مجرد التقوي. وصيغة {مَا كَانَ} تدل على نفي للكون يفيد أشد مما يفيد لو قيل: ما لهم الخيرة، كما تقدم في قوله تعالى {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} في [سورة مريم: 64].
والابتداء بقوله {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} تمهيد للمقصود وهو قوله {وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} أي كما أن الخلق من خصائصه فكذلك الاختيار.
و {الْخِيَرَةُ} بكسر الخاء وفتح التحتية: اسم لمصدر الاختيار مثل الطيرة اسم لمصدر
التطير. قال ابن الأثير: ولا نظير لهما. وفي (اللسان) ما يوهم أن نظيرهما: سبي طيبة، إذا لم يكن فيه غدر ولا نقض عهد. ويحتمل أنه أراد التنظير في الزنة لا في المعنى، لأنها زنة نادرة.
واللام في {لَهُمُ} للملك، أي ما كانوا يملكون اختيارا في المخلوقات حتى يقولوا {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]. ونفي الملك عنهم مقابل لقوله {مَا يَشَاءُ} لأن {مَا يَشَاءُ} يفيد معنى ملك الاختيار.
وفي ذكر الله تعالى بعنوان كونه ربا للنبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى أنه اختاره لأنه وخالفه فهو قد علم استعداده لقبول رسالته.
[68] {سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
استئناف ابتدائي لإنشاء تنزيه الله وعلوه على طريقة الثناء عليه بتنزيه عن كل نقص وهي معترضة بين المتعاطفين. و {سُبْحَانَ} مصدر نائب مناب فعله كما تقدم في قوله {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا} [البقرة: 32] في سورة البقرة. وأضيف {سُبْحَانَ} إلى اسمه العلم دون أن يقال: وسبحانه، بعد أن قال {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ} [القصص: 69] لأن اسم الجلالة مختص به تعالى وهو مستحق للتنزيه بذاته لأن استحقاق جميع المحامد مما تضمنه اسم الجلالة في أصل معناه قبل نقله إلى العلمية.
والمجرور يتنازعه كلا الفعلين. ووجه تقييد التنزيه والترفيع بـ(ما يشركون) أنه لم يجترئ أحد أن يصف الله تعالى بما لا يليق به ويستحيل عليه إلا أهل الشرك بزعمهم أن ما نسبوه إلى الله إنما هو كمال مثل اتخاذ الولد أو هو مما أنبأهم الله به، {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28]. وزعموا أن الآلهة شفعاؤهم عند الله. وقالوا في التلبية: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وأما ما عدا ذلك فهم معترفون بالكمال لله، قال تعالى {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [لقمان: 25]. و{مَا} مصدرية أي سبحانه وتعالى عن إشراكهم.
[69] {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ}
عطف على {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] أي هو خالقهم ومركبهم على النظام الذي تصدر عنه الأفعال والاعتقادات فيكونون مستعدين لقبول الخير والشر وتغليب أحدهما على الآخر اعتقادا وعملا، وهو يعلم ما تخفيه صدورهم، أي نفوسهم
وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم. فضمير {صُدُورُهُمْ} أي نفوسهم وما يعلنونه من أقوالهم وأفعالهم. فضمير {صُدُورُهُمْ} عائد إلى {مَا} من قوله {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} باعتبار معناها، أي ما تكن صدور المخلوقات وما يعلنون. وحيث أجريت عليهم ضمائر العقلاء فقد تعين أن المقصود البشر من المخلوقات وهم المقصود من العموم في {مَا يَشَاءُ} [القصص: 68] فبحسب ما يعلم منهم يختارهم ويجازيهم فحصل بهذا إيماء إلى علة الاختيار وإلى الوعد والوعيد. وهذا منتهى الإيجاز.
وفي إحضار الجلالة بعنوان {وَرَبُّكَ} إيماء إلى أن مما تكنه صدورهم بغض محمد صلى الله عليه وسلم. وتقدم {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} آخر [النمل: 74].
[70] { وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
عطف على جملة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: 68] الآية. والمقصود هو قوله {وَلَهُ الْحُكْمُ} وإنما قدم عليه ما هو دليل على أنه المنفرد بالحكم مع إدماج صفات عظمته الذاتية المقتضية افتقار الكل إليه.
ولذلك ابتدئت الجملة بضمير الغائب ليعود إلى المتحدث عنه بجميع ما تقدم من قوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] إلى هنا، أي الموصوف بتلك الصفات العظيمة والفاعل لتلك الأفعال الجليلة. والمذكور بعنوان {رَبُّكَ} [القصص: 68] هو المسمى الله اسما جامعا لجميع معاني الكمال. فضمير الغيبة مبتدأ واسم الجلالة خبره، أي فلا تلتبسوا فيه ولا تخطئوا بادعاء ما لا يليق باسمه. وقريب منه قوله {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يونس: 64].
وقوله {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} خبر ثان عن ضمير الجلالة، خبر ثان عن ضمير الجلالة، وفي الخبر الثاني زيادة تقرير لمدلول الخبر الأول فإن اسم الجلالة اختص بالدلالة على الإله الحق إلا أن المشركين حرفوا أو أثبتوا الإلهية للأصنام مع اعترافهم بأنها إلهية دون إلهية الله تعالى فكان من حق النظر أن يعلم أن لا إله إلا هو، فكان هذا إبطال للشرك بعد إبطاله بحكاية تلاشيه عن أهل ملته يوم القيامة بقوله {وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ} [القصص: 64].
وأخبر عن اسم الجلالة خبرا ثانيا بقوله {لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} وهو استدلال على انتفاء إلهية غيره بحجة أن الناس مؤمنهم وكافرهم لا يحمدون في الدنيا إلا
الله فلا تسمع أحدا من المشركين يقول: الحمد للعزى، مثلا.
فاللام في {لَهُ} للملك، أي لا يملك الحمد غيره، وتقديم المجرور لإفادة الاختصاص وهو اختصاص حقيقي.
تعريف {الْحَمْدُ} تعريف الجنس المفيد للاستغراق، أي له كل حمد.
و {الْأُولَى} هي الدنيا وتخصيص الحمد به في الدنيا اختصاص لجنس الحمد به لأن حمد غيره مجاز كما تقدم في أول الفاتحة.
وأما الحمد في الآخرة فهو ما في قوله {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . واختصاص الجنس به في الآخرة حقيقة.
وقوله {وَلَهُ الْحُكْمُ} اللام فيه أيضا للملك. والتقديم للاختصاص أيضا. والحكم: القضاء وهو تعيين نفع أو ضر للغير. وحذف المتعلق بالحكم لدلالة قوله {فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ} عليه، أي له الحكم في الدارين. والاختصاص مستعمل في حقيقته ومجازه لأن الحكم في الدنيا يثبت لغير الله على المجاز، وأما الحكم في الآخرة فمقصود على الله. وفي هذا إبطال لتصرف آلهة المشركين فيما يزعمونه من تصرفاتها وإبطال لشفاعتها التي يزعمونها في قولهم {هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أي في الآخرة إن كان ما زعمتم من البعث.
وأما جملة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فمسوقة مساق التخصيص بعد التعميم، فبعد أن أثبت لله كل حمد وكل حكم، أي أنكم ترجعون إليه في الآخرة فتمجدونه ويجري عليكم حكمه. والمقصود بهذا إلزامهم بإثبات البعث.
وتقديم المجرور في {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} للرعاية على الفاصلة وللاهتمام بالانتهاء إليه أي إلى حكمه.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تسمعون، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}
انتقال من الاستدلال على انفراده تعالى بالإلهية بصفات ذاته إلى الاستدلال على ذلك ببديع مصنوعاته، وفي ضمن هذا الاستدلال إدماج الامتنان على الناس وللتعويض
بكفر المشركين جلائل نعمه.
ومن أبدع الاستدلال أن اختير للاستدلال على وحدانية الله هذا الصنع العجيب المتكرر كل يوم مرتين، والذي يستوي في إدراكه كل مميز، والذي هو أجلى مظاهر التغير في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العالم فهو دليل الحدوث وهو مما يدخل في التكيف به جميع الموجودات في هذا العلم حتى الأصنام فهي تظلم وتسود أجسامها بظلام الليل وتشرق وتضيء بضياء النهار، وكان الاستدلال بتعاقب الضياء والظلمة على الناس أقوى وأوضح من الاستدلال بتكوين أحدهما لو كان دائما، لأن قدرة خالق الضدين وجاعل أحدهما ينسخ الآخر كل يوم أظهر منها لو لم يخلق إلا أقواهما وأنفعهما، ولأن النعمة بتعاقبها دوما أشد من الإنعام بأفضلهما وأنفعهما لأنه لو كان دائما لكان مسؤوما ولحصلت منه طائفة من المنافع، وفقدت منافع ضده. فالتنقل في النعم مرغوب فيه ولو كان تنقلا إلى ما هو دون. وسيق إليهم هذا الاستدلال بأسلوب تلقين النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم اهتماما بهذا التذكير لهذا الاستدلال ولاشتمال على ضدين متعاقبين، حتى لو كانت عقولهم قاصرة عن إدراك دلالة أحد الضدين لكان في الضد الآخر تنبيه لهم، ولو قصروا عن حكمة كل واحد منهما كان في تعاقبهما ما يكفي للاستدلال.
وجئ في الشرطين بحرف {إِنْ} لأن الشرط مفروض فرضا مخالفا للواقع. وعلم أنه قصد الاستدلال بعبرة خلق النور، فلذلك فرض استمرار الليل، والمقصود ما بعده وهو قوله {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} .
والسرمد: الدائم الذي لا ينقطع. قال في (الكشاف): من السرد وهو المتابعة ومنه قولهم في الأشهر الحرم: ثلاثة سرد وواحد فرد. والميم مزيدة ووزنه فعمل، ونظيره دلامص من الدلاص اهٍـ. دلامص (بضم الدال وكسر الميم) من صفات الدرع وأصلها دلاص (بدال مكسورة) أي براقة. ونسب إلى صاحب القاموس وبعض النحاة أن ميم سرمد أصلية وأن وزنه فعلل. والمراد بجعل الليل سرمدا أن لا يكون الله خلق الشمس ويكون خلق الأرض فكانت الأرض مظلمة.
والرؤية قلبية. والاستفهام في {أَرَأَيْتُمْ} تقريري، والاستفهام في {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ} إنكاري وهم معترفون بهذا الانتفاء وأن خالق الليل والنهار هو الله تعالى لا غيره.
والمراد بالغاية في قوله {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إحاطة أزمنة الدنيا وليس المراد انتهاء
جعله سرمدا.
والإتيان بالضياء وبالليل مستعار للإيجار؛ شبه إيجاد الشيء الذي لم يكن موجودا بالإجاءة بشيء من مكان إلى مكان، ووجه الشبه المئول والظهور.
والضياء: النور. وهو في هذا العالم من شعاع الشمس قال تعالى { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} وتقدم في [سورة يونس: 5]. وعبر بالضياء دون النهار لأن ظلمة الليل قد تخف قليلا بنور القمر فكان ذكر الضياء إيماء إلى ذلك.
وفي تعدية فعل {يَأْتِيكُمْ} في الموضعين إلى ضمير المخاطبين إيماء إلى أن إيجاد الضياء وإيجاد الليل نعمة على الناس. وهذا إدماج للامتنان في أثناء الاستدلال على الانفراد بالإلهية. وإذ قد استمر المشركون على عبادة الأصنام بعد سطوع هذا الدليل وقد علموا أن الأصنام لا تقدر على إيجاد الضياء. جعلوا كأنهم لا يسمعون هذه الآيات التي أقامت الحجة الواضحة على فساد معتقدهم، ففرع على تلك الحجة الاستفهام الإنكاري عن انتفاء سماعهم بقوله {أَفَلا تَسْمَعُونَ} أي أفلا تسمعون الكلام المشتمل على التذكير بأن الله هو خالق الليل والضياء ومنه هذه الآية. وليس قوله {أَفَلا تَسْمَعُونَ} تذييلا.
وكرر الأمر بالقول في مقام التقرير لأن التقرير يناسبه التكرير مثل مقام التوبيخ ومقام التهويل.
وعكس الاستدلال الثاني بفرض أن يكون النهار وهو انتشار نور الشمس، سرمدا بأن خلق الله الأرض غير كروية الشكل بحيث يكون شعاع الشمس منتشرا على جميع سطح الأرض دوما.
ووصف الليل بـ {تَسْكُنُونَ فِيهِ} إدماج للمنة في أثناء الاستدلال للتذكير بالنعمة المشتملة على نعم كثيرة وتلك هي نعمة السكون فيه فإنها تشمل لذة الراحة، ولذة الخلاص من الحر، ولذة استعادة نشاط المجموع العصبي الذي به التفكير والعمل، ولذة الأمن من العدو.
ولم يوصف الضياء بشيء لكثرة منافعه واختلاف أنواعها.
وتفرع على هذا الاستدلال أيضا تنزيلهم منزلة من لا يبصرون الأشياء الدالة على عظيم صنع الله وتفرده بصنعها وهي منهم بمرأى الأعين.
وناسب السمع دليل فرض سرمدة الليل لأن الليل لو كان دائما لم تكن للناس رؤية فإن رؤية الأشياء مشروطة بانتشار شيء من النور على سطح الجسم المرئي، فالظلمة الخالصة لا ترى فيها المرئيات. ولذلك جيء في جانب فرض دوام الليل بالإنكار على عدم سماعهم، وجيء في جانب فرض دوام النهار بالإنكار على عدم إبصارهم.
وليس قوله {أَفَلا تُبْصِرُونَ} تذييلا.
[73] {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
تصريح بنعمة تعاقب الليل والنهار على الناس بقوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} ، وذلك مما دلت عليه الآية السابقة بطريق الإدماج بقوله {يَأْتِيكُمْ} وبقوله { لِتَسْكُنُوا فِيهِ} كما تقدم آنفا.
وجملة {جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} الخ معطوفة على جملة {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} [القصص: 71].
و {مَنْ} تبعيضية فإن رحمة الله بالناس حقيقية كلية لها تحقق في وجود أنواعها وآحادها العديدة، والمجرور بـ {مَنْ} يتعلق بفعل {جَعَلَ لَكُمُ} ، وكذلك يتعلق به {لَكُمُ} ، والمقصود إظهار أن هذا رحمة من الله وأنه بعض من رحمته التي وسعت كل شيء ليتذكروا بهما نعما أخرى.
وقدم المجرور بـ {مِنْ رَحْمَتِهِ} على عامله للاهتمام بمنة الرحمة.
وقد سلك في قوله {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } طريقة اللف والنشر المعكوس فيعود {لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إلى الليل، ويعود {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} إلى النهار، والتقدير: ولتبتغوا من فضله فيه، فحذف الضمير وجاره إيجازا اعتمادا على المقابلة.
والابتغاء من فضل الله: كناية عن العمل والطلب لتحصيل الرزق قال تعالى { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]. والرزق: فضل من الله. وتقدم في قوله تعالى {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم} في سورة البقرة. ولام {لِتَسْكُنُوا} ولام {وَلِتَبْتَغُوا} للتعليل، ومدخولاهما علتان للجعل المستفاد من فعل {جَعَلَ} .
وعطف على العلتين رجاء شكرهم على شكرهم على هاتين النعمتين اللتين هما من جملة رحمته بالناس فالشأن أن يتذكروا بذلك مظاهر الرحمة الربانية وجلائل النعم فيشكروه بإفراده بالعبادة. وهذا تعريض بأنهم كفروا فلم يشكروا.
وقرأ الجمهور {أَرَأَيْتُمْ} بألف بعد الراء تخفيفا لهمزة رأى. وقرأ الكسائي بحذف الهمزة زيادة في التخفيف وهي لغة.
[74-75] { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ}
كررت جملة {يَوْمَ يُنَادِيهِمْ} مرة ثانية لأن التكرير من مقتضيات مقام التوبيخ فلذلك لم يقل: ويوم ننزع من كل أمة شهيدا، فأعيد ذكر أن الله يناديهم بهذا الاستفهام التقريعي وينزع من أمة شهيدا، فظاهر الآية أن ذلك النداء يكرر يوم القيامة. ويحتمل أنه إنما كررت حكايته وأنه نداء واحد يقع عقبه جواب الذين حق عليهم القول من مشركي العرب ويقع نزع شهيد من كل أمة عليهم فهو شامل لمشركي العرب وغيرهم من الأمم. وجيء بفعل المضي في {نَزَعْنَا} : إما للدلالة على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، وإما لأن الواو للحال وهي يعقبها الماضي بـ(قد) وبدون (قد) أي هؤلاء شهيدا وهو محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاءِ} [النحل: 89]. وشهيد كل أمة رسولها.
والنزع: جذب شيء من بين ما هو مختلط به واستعير هنا لإخراج بعض من جماعة كما في قوله تعالى {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً} في [سورة مريم: 69]. وذلك أن الأمم تأتي إلى المحشر تتبع أنباءها، وهذا المجيء الأول، ثم تأتي الأنبياء مع كل واحد منهم من آمنوا به كما ورد في الحديث "يأتي النبي معه الرهط والنبي وحده ما معه أحد".
والتفت من الغيبة إلى التكلم في {وَنَزَعْنَا} لإظهار عظمة التكلم، وعطف {فَقُلْنَا} على {وَنَزَعْنَا} لأنه المقصود. والمخاطب بـ {هَاتُوا} هم المشركون، أي هاتوا برهانكم على إلهية أصنامكم.
و { هَاتُوا } اسم فعل معناه نالوا، وهات مبني على الكسر. وقد تقدم في قوله تعالى {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في [سورة البقرة: 111]، واستعيرت المناولة للإظهار.
والأمر مستعمل في التعجيز فهو يقتضي أنهم على الباطل فيما زعموه من الشركاء، ولما علموا عجزهم من إظهار برهان لهم في جعل الشركاء لله أيقنوا أن الحق مستحق لله تعالى، أي علموا معلم اليقين أنهم لا حق لهم في إثبات الشركاء وأن الحق لله إذ كان ينهاهم عن الشرك على لسان الرسول في الدنيا، وأن الحق لله إذ ناداهم بأمر التعجيز في قوله {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} .
و {ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} يشمل ما كانوا يكذبونه من المزاعم في إلهية الأصنام وما كانوا يفترون له الإلهية من الأصنام، كل ذلك كانوا يفترونه.
والضلال: أصله عدم الاهتداء إلى الطريق. واستعير هنا لعدم خطور الشيء في البال ولعدم حضوره في المحضر من استعمال اللفظ في مجازيه.
و {عَنْهُمْ} متعلق بفعل {ضَلَّ} . والمراد: ضل عن عقولهم وعن مقامهم؛ مثلوا بالمقصود للسائر في طريق حين يخطئ الطريق فلا يبلغ المكان المقصود. وعلق بالضلال ضمير ذواتهم ليشمل ضلال الأمرين فيفيد أنهم لم يجدوا حجة يرجون بها زعمهم إلهية الأصنام، ولم يجدوا الأصنام حاضرة للشفاعة فيهم فوجموا عن الجواب وأيقنوا بالمؤاخذة.
[76-77] {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
{إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ}
كان من صنوف أذى أئمة الكفر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ومن دواعي تصلبهم في إعراضهم عن دعوته اعتزازهم بأموالهم وقالوا {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] أي على رجل من أهل الثروة فهي عندهم سبب العظمة ونبذهم المسلمين بأنهم ضعفاء القوم، وقد تكرر في القرآن توبيخهم على ذلك كقوله {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً} [سبأ: 35] وقوله {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ} [المزمل: 11] الآية. روى الواحدي عن ابن مسعود وغيره بأسانيد: أن الملأ من قريش وسادتهم منهم عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والمطعم بن عدي والحارث بن نوفل. قالوا (أيريد محمد أن نكون تبعا لهؤلاء (يعنون خبابا، وبلالا، وعمارا، وصهيبا) فلو طرد محمد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم له في صدورنا وأطمع له عندنا وأرجى لاتباعنا إياه وتصديقنا له فأنزل الله تعالى {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} إلى قوله {ِالشَّاكِرِينَ} .[الأنعام : 52،53] وكان فيما تقدم من الآيات قريبا قوله تعالى {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} إلى قوله {مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص: 60-61] كما تقدم.
وقد ضرب الله الأمثال للمشركين في جميع أحوالهم بأمثال نظرائهم من الأمم السالفة فضرب في هذه السورة لحال تعاظمهم بأموالهم مثلا بحال قارون مع موسى وإن مثل قارون صالح لأن يكون مثلا لأبي لهب ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قبل إسلامه في قرابتهما من النبي صلى الله عليه وسلم وأذاهما إياه، وللعاصي بن وائل السهمي في أذاه لخباب بن الأرت وغيره، وللوليد بن المغيرة من التعاظم بماله وذويه. قال تعالى {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً} [المدثر: 11-12] فإن المراد به الوليد بن المغيرة.
فقوله {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} استئناف ابتدائي لذكر قصة ضربت مثلا لحال بعض كفار مكة وهم سادتهم مثل الوليد بن المغيرة وأبي جهل بن هشام ولها مزيد تعلق بجملة {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا} إلى قوله {يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:60-61].
ولهذه القصة اتصال بانتهاء قصة جند فرعون المنتهية عند قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا} [القصص: 46] الآية.
و {قَارُونَ} اسم معرب أصله في العبرانية (قورح) بضم القاف مشبعة وفتح الراء، وقع في تعريبه تغيير بعض حروفه للتخفيف، وأجري وزنه على متعارف الأوزان العربية مثل طالوت، وجالوت، فليست حروفه حروف اشتقاق من مادة قرن.
و(قورح هذا ابن عم موسى عليه السلام دنيا)، فهو قورح بن يصهار بن قهات بن
لاوى بن يعقوب. وموسى هو ابن عمرم المسمى عمران في العربية ابن قاهت فيكون يصاهر أخا عمرم، وورد في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن (قورح) هذا تألب مع بعض زعماء بني إسرائيل مائتين وخمسين رجلا منهم على موسى وهارون عليهما السلام حين جعل الله الكهانة في بني هارون من سبط (لاوى) فحسدهم قورح إذ كان ابن عمهم وقال لموسى وهارون ما بالكما ترتفعان على جماعة الرب إن الجماعة مقدسة والرب معها فغضب الله على قورح وأتباعه وخسف بهم الأرض وذهبت أموال (قورح) كلها، وكان ذلك حين كان بنو إسرائيل على أبواب (أريحا) قبل فنحها. وذكر المفسرون ان فرعون كان جعل (قورح) رئيسا على بني إسرائيل في مصر وانه جمع ثروة عظيمة.
وما حكاه القرآن يبين سبب نشوء الحسد في نفسه لموسى لأن موسى لما جاء بالرسالة وخرج ببني إسرائيل زال تأمر {قَارُونَ} على قومه فحقد على موسى. وقد أكثر القصاص من وصف بذخة قارون وعظمته ما ليس في القرآن. وما لهم به من برهان. وتلقفه المفسرون حاشا ابن عطية.
وافتتاح الجملة بحرف التوكيد يجوز أن يكون لإفادة تأكيد خبر {إِنَّ} وما عطف عليه وتعلق به مما اشتملت عليه القصة وهو سوء عاقبة الذين تغرهم أموالهم وتزدهيهم فلا يكترثون بشكر النعمة ويستخفون بالدين، ويكفرون بشرائع الله لظهور أن الإخبار عن قارون بأنه من قوم موسى ليس من شأنه أن يتردد فيه السامع حتى يؤكد له، فمصب التأكيد هو ما بعد قوله {إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ} إلى آخر القصة المنتهية بالخسف.
ويجوز أن تكون {إِنَّ} لمجرد الاهتمام بالخبر ومناط بالاهتمام هو مجموع ما تضمنته القصة من العبر التي منها أنه من قوم موسى فصار عدوا له ولأتباعه، فأمره أغرب من أمر فرعون.
وعدل عن أن يقال: كان من بني إسرائيل، لما في إضافة {قَوْمِ} إلى {مُوسَى} من الإيماء إلى أن لقارون اتصالا خاصا بموسى فهو اتصال القرابة.
وجملة {فَبَغَى عَلَيْهِمْ} معترضة بين جملة {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} وجملة {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} ، والفاء فيها للترتيب والتعقيب، أي لم يلبث أن بطر النعمة واجترأ على ذوي قرابته، للتعجيب من بغي أحد على قومه كما قال طرفة:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
والبغي: الاعتداء، والاعتداء على الأمة الاستخفاف بحقوقها، وأول ذلك خرق شريعتها. وفي الإخبار عنه بأنه {مِنْ قَوْمِ مُوسَى} تمهيد للكناية بهذا الخبر عن إرادة التنظير بما عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم من بغي بعض قرابته من المشركين عليه.
وفي قوله {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى} محسن بديعي وهو ما يسمى النثر المتزن، أي النثر الذي يجئ بميزان بعض بحور الشعر، فإن هذه الجملة جاءت على ميزان مصراع من بحر الخفيف، ووجه وقوع ذلك في القرآن أن الحال البلاغي يقتضي التعبير بألفاظ وتركيب يكون مجموعه في ميزان مصراع من أحد بحور الشعر.
وجملة {إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ} صلة {مَا} الموصولة عند نحاة البصرة الذين لا يمنعون أن تقع {إِنَّ} في افتتاح صلة الموصول. ومنع الكوفيون من ذلك واعتذر منعهم بأن ذلك غير مسموع في كلام العرب ولذلك تأولوا {مَا} هنا بأنها نكرة موصوفة وأن الجملة بعدها في محل الصفة.
والمفاتح: جمع مفتح بكسر الميم وفتح المثناة الفوقية وهو آلة الفتح، وسمى المفتاح أيضا. وجمعه مفاتيح وقد تقدم عند قوله تعالى {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} في [سورة الأنعام: 59].
والكنوز: جمع كنز وهو مختزن المال من صندوق أو خزانة، وتقدم في قوله تعالى {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [سورة هود: 12] في سورة هود، وأنه كان يقدر بمقدار من المال مثل ما يقولون: بدرة مال، وأنه كان يجعل لذلك المقدار خزانة أو صندوق يسعه ولكل صندوق أو خزانة مفتاحه. وعن ابي رزين لقيط بن عامر العقيلي أحد الصحابة أنه قال (يكفي الكوفة مفتاح) أي مفتاح واحد، أي كنز واحد من المال له مفتاح، فتكون كثرة المفاتيح كناية عن كثرة الخزائن وتلك كناية عن وفرة المال فهو كناية بمرتبتين مثل:
جبان الكلب مهزول الفصيل
(وتنوء): تثقل. ويظهر أن الباء في قوله {بِالْعُصْبَةِ} باء الملابسة أن تثقل مع العصبة الذين يحملونها فهي لشدة ثقلها تثقل مع أن حملتها عصبة أولو قوة وليست هذه الباء باء السببية كالتي في قوله امرئ القيس:
وأردف إعجازا وناء بكلكل
ولا كمثال صاحب (الكشاف): ناء به الحمل، إذا أثقله الحمل حتى أماله.
وما قول أبي عبيدة بأن تركيب الآية فيه قلب، فلا يقبله من كان له قلب.
والعصبة: الجماعة، وتقدم في سورة يوسف. وأقرب الأقوال في مقدارها قول مجاهد أنه من عشرة إلى خمسة عشر. وكان اكتسب الأموال في مصر وخرج بها.
{ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ}
{إِذْ} ظرف منصوب بفعل {بغى عليهم} والمقصود من هذا الظرف القصة وليس القصد به توقيت البغي ولذلك قدره بعض المفسرين متعلقا بـ(اذكر) محذوفا وهو المعني في نظائره من القصص.
والمراد بالقوم بعضهم إما جماعة منهم وهم أهل الموعظة وإما موسى عليه السلام أطلق عليه اسم القوم لأن أقواله قدوة للقوم فكأنهم قالوا قوله.
والفرح يطلق على السرور كما في قوله تعالى {وَفَرِحُوا بِهَا} في [يونس: 22]. ويطلق على البطر والإزدهاء، وهو الفرح المفرط المذموم، وتقدم في قوله تعالى {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في [سورة الرعد: 26] وهو التمحض للفرح. والفرح المنهي عنه هو المفرط منه، أي الذي تمحض للتعلق بمتاع ولذات النفس به لأن الانكباب على ذلك يميت من النفس الاهتمام بالأعمال الصالحة والمنافسة لاكتسابها فينحدر به التوغل في الإقبال على اللذات إلى حضيض الإعراض عن الكمال النفساني والاهتمام بالآداب الدينية، فحذف المتعلق بالفعل لدلالة المقام على أن المعنى لا تفرح بلذات الدنيا معرضا عن الدين والعمل للآخرة كما أفصح عنه قوله {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} . وأحسب أن الفرح إذا لم يعلق به شيء دل على أنه صار سجية الموصوف فصار مرادا به العجب والبطر. وقد أشير إلى بيان المقصود تعضيدا لدلالة المقام بقوله {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} ، أي المفرطين في الفرح فإن صيغة (فعل) صيغة مبالغة مع الإشارة إلى تعليل النهي، فالجملة علة للتي قبلها، والمبالغة في الفرح تقتضي شدة الإقبال على ما يفرح به وهي تستلزم الإعراض عن غيره فصار النهي عن شدة الفرح رمزا إلى الإعراض عن الجد والواجب في ذلك.
وابتغاء الدار الآخرة طلبها، أي طلب نعيمها وثوابها. وعلق بفعل الابتغاء قوله {فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ} بحرف الظرفية، أي اطلب بمعظمه وأكثره. والظرفية مجازية للدلالة على التغلغل ابتغاء الدار الآخرة في ما آتاه الله وما آتاه هو كنوز المال، فالظرفية هنا كالتي في
قوله تعالى {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] أي منها ومعظمها، وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها ... ونشرب في أثمانها ونقامر
أي أطلب بكنوزك أسباب حصول الثواب بالإنفاق منها في سبيل الله وما أوجبه ورغب فيه من القربان ووجوه البر.
{تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}
جملة معترضة بين الجملتين الحافتين بها، والواو اعتراضية.
والنهي في {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ} مستعمل في الإباحة. والنسيان كناية عن الترك كقوله في حديث الخيل "ولم ينس حق الله في رقابها" ، أي لا نلومك على أن تأخذ نصيبك من الدنيا أي الذي لا يأتي على نصيب الآخرة. وهذا احتراس في الموعظة خشية نفور الموعوظ من موعظة الواعظ لأنهم لما قالوا لقارون {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أوهموا أن يترك حظوظ الدنيا فلا يستعمل ماله إلا في القربات، فأفيد أن له استعمال بعضه في ما هو متمحض لنعيم الدنيا إذا آتى حق الله في أمواله. فقيل: أرادوا أن لك أن تأخذ ما أحل الله لك.
والنصيب: الحظ والقسط، وهو فعيل من النصب لأن ما يعطى لأحد ينصب له ويميز، وإضافة النصيب إلى ضميره دالة على أنه حقه وأن للمرء الانتفاع بماله في ما يلائمه في الدنيا خاصة مما ليس من القربات ولم يكن حراما. قال مالك: في رأيي معنى {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} تعيش وتأكل وتشرب غير مضيق عليك. وقال قتادة: نصيب الدنيا هو الحلال كله. وبذلك تكون هذه الآية مثالا لاستعمال صيغة النهي لمعنى الإباحة. و {مِنَ} للتبغيض. والمراد بالدنيا نعيمها. فالمعنى: نصيبك الذي هو بعض نعيم الدنيا.
[77] { وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}
الإحسان داخل في عموم ابتغاء الدار الآخرة ولكنه ذكر هنا ليبني عليه الاحتجاج بقوله {كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} .
والكاف للتشبيه، و(ما) مصدرية، أي كإحسان الله إليك، والمشبه هو الإحسان المأخوذ من {أَحْسَنَ} أي إحسانا شبيها بإحسان الله إليك. ومعنى الشبه: أن يكون الشكر على كل نعمة من جنسها. وقد شاع بين النحاة تسمية هذه الكاف كاف التعليل، ومثلها
قوله تعالى {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]. والتحقيق أن التعليل حاصل من معنى التشبيه وليس معنى مستقلا من معاني الكاف.
وحذف متعلق الإحسان لتعميم ما يحسن إليه فيشمل نفسه وقومه ودوابه ومخلوقات الله الداخلة في دائرة التمكن من الإحسان إليها. وفي الحديث "إن الله كتب الإحسان على كل شيء" فالإحسان في كل شيء بحسبه، والإحسان لكل شيء بما يناسبه حتى الأذى المأذون فيه فبقدره ويكون بحسن القول وطلاقة الوجه وحسن اللقاء.
وعطف {وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} للتحذير من خلط الاحسان بالفساد فإن الفساد ضد الإحسان، فالأمر بالإحسان يقتضي النهي عن الفساد وإنما نص عليه لأنه لما تعددت موارد الإحسان والإساءة فقد يغيب عن الذهن أن الإساءة إلى شيء مع الإحسان إلى أشياء يعتبر غير إحسان.
والمراد بالأرض أرضهم التي هم حالون بها، وإذ قد كانت جزءا من الكرة الأرضية فالإفساد فيها إفساد مظروف في عموم الأرض . وقد تقدمت نظائره منها في قوله تعالى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} في [سورة البقرة: 205].
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} علة للنهي عن الإفساد لن العمل الذي لا يحبه الله لا يجوز لعباده عمله وقد كان قارون موحدا على دين إسرائيل ولكنه كان شاكا في صدق مواعيد موسى وفي تشريعاته.
[78] {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ}
جواب عن موعظة واعظيه من قومه. وقد جاء على أسلوب حكاية المحاورات فلم يعطف وهو جواب متصلف حاول به إفحامهم وأن يقطعوا موعظتهم لأنها أمرت بطره وازدهاءه.
و{إِنَّمَا} هذه هي أداة الحصر المركبة من (إن) و(ما) الكافة مصيرتين كلمة واحدة وهي التي حقها أن تكتب موصولة النون بميم (ما). والمعنى: ما أوتيت هذا المال إلا على علم علمته.
وضمير {أُوتِيتُهُ} عائد إلى (ما) الموصولة في قولهم {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ
الْآخِرَةَ} [القصص: 77]. وبني الفعل للنائب بالفاعل من كلام واعظيه.
و {عَلَى عِلْمٍ} في موضع الحال من الضمير المرفوع.
و {عَلَى} للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن والتحقق، أي ما أوتيت المال الذي ذكرتموه في حال من الأحوال إلا في حال تمكني من علم راسخ، فيجوز أن يكون المراد من العلم علم أحكام إنتاج المال من التوراة، أي أنا أعلم منكم بما تعظونني به، يعني بذلك قولهم له {لا تَفْرَحْ _وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ _ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} {القصص: 76-77}. وقد كان قارون مشهورا بالعلم بالتوراة ولكنه أضله الله على علم فأراد بهذا الجواب قطع موعظتهم نظير جواب عمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق لأبي شريح الكعبي حين قدم إلى المدينة أميرا من قبل يزيد بن معاوية سنة ستين فجعل يجهز الجيوش ويبعث البعوث إلى مكة لقتال عبد الله بن الزبير الذي خرج على يزيد، فقال أبو شريح له: ائذن لي أيها الأمير أحدثك قولا قام به رسول الله الغد من يوم الفتح فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال: "{إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب" فقال عمرو بن سعيد: أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح إن الحرم لا يعيذ عاصيا ولا فارا بدم ولا فارا بخربة.
ويجوز أن يكون المراد بالعلم علم اكتساب المال من التجارة ونحوها، فأراد بجوابه إنكار قولهم: آتاك الله صلفا منه وطغيانا.
وقوله {عِنْدِي} صفة لـ {عِلْمٍ} تأكيدا لتمكنه من العلم وشهرته به هذا هو الوجه في تفسير هذه الجملة من الآية وهو الذي يستقيم مع قوله تعالى عقبه {أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ} الآية، كما ستعرفه. وذكر المفسرون وجوها تسفر عن أشكال أخرى من تركيب نظم الآية في محمل معنى {عَلَى} ومحمل المراد من (العلم) ومحمل {عِنْدِي} فلا نطيل بذكرها فهي منك على طرف الثمام.
وقوله {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} الآية إقبال على خطاب المسلمين.
والهمزة في {أَوَلَمْ يَعْلَمْ} للاستفهام الإنكاري التعجيبي تعجيبا من عدم جريه على
موجب علمه بأن الله أهلك أمما على بطرهم النعمة وإعجابهم لقوتهم ونسيانه حتى صار كأنه لم يعلمه تعجيبا من فوات مراعاة ذلك منه مع سعة علمه بغيره من باب "حفظت شيئا وغابت عنك أشياء"
وعطف هذا الاستفهام على جملة {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ} . وهذه جملة معترضة بين أجزاء القصة.
والقوة: ما به يستعان على الأعمال الصعبة تشبيها لها بقوة الجسم التي تخول صاحبها حمل الأثقال ونحوها قال تعالى {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60].
والجمع: الجماعة من الناس. قيل: كان أشياع قارون مائتين وخمسين من بني إسرائيل رؤساء جماعات.
وجملة {وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ} تذييل للكلام فهو استئناف وليس عطفا على أن الله قد أهلك من قبله. والسؤال المنفي السؤال في الدنيا وليس سؤال الآخرة. والمعنى: يحتمل أن يكون السؤال كناية عن عدم الحاجة إلى السؤال عن ذنوبهم فهم كناية عن علم الله تعالى بذنوبهم، وهو كناية عن عقابهم على إجرامهم فهي كناية بوسائط. والكلام تهديد للمجرمين ليكونوا بالحذر من أن يؤخذوا بغتة، ويحتمل أن يكون السؤال بمعناه الحقيقي، أي لا يسأل المجرم عن جرمه قبل عقابه لأن الله قد بين للناس على ألسنة الرسل بحدي الخير والشر، وأمهل المجرم فإذا أخذه بغتة وهذا كقوله تعالى {حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله يمهل الظالم حتى إذا أخذه لم يفلته".
[79] {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}
عطف على جملة {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} إلى آخرها مع ما عطف عليها وتعلق بها، فدلت الفاء على أن خروجه بين قومه في زينته بعد ذلك كله كان من أجل أنه لم يقصر عن شيء من سيرته ولم يتعظ بتلك المواعظ ولا زمنا قصيرا بل أعقبها بخروجه هذه الخرجة المليئة صلفا وازدهاء. فالتقدير: قال إنما أوتيته على علم عندي فخرج، أي رفض الموعظة بقوله وفعله. وتعدية (خرج) بحرف {عَلَى} لتضمينه معنى النزول إشارة إلى أنه خروج متعال مترفع، و {فِي زِينَتِهِ} حال من ضمير (خرج).
والزينة: ما به جمال الشيء والتباهي به من الثياب والطيب والمراكب والسلاح والخدم، وتقدم قوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} في [سورة النور: 31]. وإنما فصلت جملة {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} ولم تعطف لأنها تتنزل منزلة بدل الاشتمال لما اشتملت عليه الزينة من أنها مما يتمناه الراغبون في الدنيا. وذلك جامع لأحوال الرفاهية وعلى أخصر وجه لأن الذين يريدون الحياة الدنيا لهم أميال مختلفة ورغبات متفاوتة فكل يتمنى أمنية مما تلبس به قارون من الزينة، فحصل هذا المعنى مع حصول الإخبار عن انقسام قومه إلى مغترين بالزخارف العاجلة عن غير علم، وإلى علماء يؤثرون الآجل على العاجل، ولو عطفت جملة {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ} بالواو والفاء لفاتت هذه الخصوصية البليغة فصارت الجملة إما خبرا من جملة الأخبار عن حال قومه، أو جزء خبر من قصته.
و {الذين يريدون الحياة الدنيا} لما قوبلوا ب {الذين أوتوا العلم} [القصص:80] كان المعني بهم عامة الناس وضعفاء اليقين الذين تلهيهم زخارف الدنيا عما يكون في مطاويها من سوء العواقب فتقصر بصائرهم عن التدبر إذا رأوا زينة الدنيا فيتلهفون عليها ولا يتمنون غير حصولها فهؤلاء وإن كانوا مؤمنين إلا أن إيمانهم ضعيف فلذلك عظم في عيونهم ما عليه قارون من البذخ فقالوا {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي أنه لذو بخت وسعادة.
وأصل الحظ: القسم الذي يعطاه المقسوم له عند العطاء، وأريد به هنا ما قسم له من نعيم الدنيا.
والتوكيد في قوله {إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} كناية عن التعجب حتى كأن السامع ينكر حظه فيؤكده المتكلم.
[80] {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}
{ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً}
عطف على جملة {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [القصص:79] فهي مشاركة لها في معناها لأن ما تشتمل عليه خرجة قارون ما تدل عليه ملامحه من فتنة ببهرجته وبزته دالة على قلة اعتداده بثواب الله وعلى تمحضه للإقبال على لذائذ الدنيا ومفاخرها الباطلة ففي كلام الذين {أوتوا العلم} تنبيه على ذلك وإزالة لما تستجلبه حالة قارون من نفوس المبتلين بزخارف الدنيا.
و(ويل) اسم للهلاك وسوء الحال، وتقدم الكلام عليه عند قوله تعالى {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في [سورة البقرة: 79]. ويستعمل لفظ (ويل) في التعجب المشوب بالزجر، فليس الذين أوتوا العلم داعين بالويل على الذين يريدون الحياة الدنيا لأن المناسب لمقام الموعظة لين الخطاب ليكون أعون على الاتعاظ، ولكنهم يتعجبون من تعلق نفوس أولئك بزينة الحياة الدنيا واغتباطهم بحال قارون دون اهتمام بثواب الله الذي يستطيعون تحصيله بالإقبال على العمل بالدين والعمل النافع وهم يعلمون أن قارون غير متخلق بالفضائل الدينية.
وتقديم المسند إليه في قوله {ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ} ليتمكن الخبر في ذهن السامعين لأن الابتداء بما يدل على الثواب المضاف إلى أوسع الكرماء كرما مما تستشرف إليه النفس.
وعدل عن الإضمار إلى الموصولية في قوله {لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} دون: خير لكم، لما في الإظهار من الإشارة إلى أن ثواب الله إنما يناله المؤمنون الذين يعملون الصالحات وأنه على حسب صحة الإيمان ووفرة العمل، مع ما في الموصول من الشمول لمن كان منهم كذلك ولغيرهم ممن لم يحضر ذلك المقام.
[80] {وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ}
يجوز أن تكون الواو للعطف فهي من كلام الذين أوتوا العلم، أمروا الذين فتنهم حال قارون بأن يصبروا على حرمانهم مما فيه قارون.
ويجوز أن تكون الواو اعتراضية والجملة معترضة من جانب الله تعالى علم بها عباده فضيلة الصبر.
وضمير {يُلَقَّاهَا} عائد إلى مفهوم من الكلام يجري على التأنيث، أي الخصلة وهي ثواب الله أو السيرة القويمة، وهي سيرة الإيمان والعمل الصالح.
والتلقية: جعل الشيء لاقيا، أي مجتمعا مع شيء آخر. وتقدم عند قوله تعالى {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً} في [سورة الفرقان: 75]. وهو مستعمل في الإعطاء على طريقة الاستعارة، أي لا يعطي تلك الخصلة أو السيرة إلا الصابرون ؛ لآن الصبر وسيلة لنوال الأمور العظيمة لاحتياج السعي لها إلى تجلد لما يعرض في خلاله من مصاعب وعقبات كأداء فإن لم يكن المرء متخلفا بالصبر خارت عزيمته فترك ذاك لذلك.
[81] {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} دلت الفاء على تعقيب ساعة خروجه قارون في ازدهائه وما جرى فيها من تمني قوم أن يكونوا مثله، وما أنكر عليهم علماؤهم من غفلة عن التنافس في ثواب الآخرة بتعجيل عقابه في الدنيا بمرأى من الذين تمنوا أن يكونوا مثله.
والخسف : انقلاب بعض ظاهر الأرض إلى باطنها ، وعكسه . يقال : خسفت الأرض وخسف الله الأرض فانخسفت ، فهو يستعمل قاصرا ومعتديا ، وإنما يكون الخسف بقوة الزلزال. وأما قولهم : خسفت الشمس فذلك على التشبيه . والباء في قوله {فَخَسَفْنَا بِهِ} باء المصاحبة ، أي خسفنا الأرض مصاحبة له ولداره ، فهو وداره مخسوفان مع الأرض التي هو فيها ، وتقدم قوله تعالى {أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ} في [سورة النحل: 45].
وهذا الخسف خارق للعادة لأنه لم يتناول غير قارون ومن ظاهره ، وهما رجلان من سبط (روبين) وغير دار قارون ، فهو معجزة لموسى عليه السلام .
جاء في الإصحاح السادس عشر من سفر العدد أن قورح (وهو قارون) ومن معه لما آذوا موسى كما تقدم ، وذكرهم موسى بأن الله أعطاهم مزية خدمة خيمته ولكنه أعطى الكهانة بني هارون ولم تجد فيهم الموعظة غضب موسى عليهم ودعا عليهم ثم أمر الناس بأن يبتعدوا من حوالي دار قورح (قارون) وخيام جماعته. وقال موسى : إن مات هؤلاء كموت عامة الناس فاعلموا أن الله لم يرسلني إليكم وان ابتدع الله بدعة ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم وكل مالهم فهبطوا أحياء إلى الهاوية تعلمون أن هؤلاء قد ازدروا بالرب . فلما فرغ موسى من كلامه انشقت الأرض التي هم عليها وابتلعتهم وبيوتهم وكل ما كان لقورح مع كل أمواله وخرجت نار من الأرض أهلكت المائتين والخمسين رجلا . وقد كان قارون معتزا على موسى بالطائفة التي كانت شايعته على موسى وهم كثير من رؤساء جماعة اللاويين وغيرهم ، فلذلك قال الله تعالى {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، إذ كان قد أعدهم للنصر على موسى رسول الله فخسف بهم معه وهو يراهم ، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} كما كان يحسب . يقال : انتصر فلان ، إذا حصل له النصر ، أي فما نصره أنصاره ولا حصل له النصر بنفسه.
[82] {وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
{أَصْبَحَ} هنا بمعنى صار.
و(الأمس) مستعمل في مطلق زمن مضى قريبا على طريقة المجاز المرسل و{مكان} مستعمل مجازا في الحالة المستقر فيها صاحبها، وقد يعبر عن الحالة أيضا بالمنزلة.
ومعنى {يَقُولُونَ} انهم بذلك ندامة على ما تمنوه ورجوعا إلى التفويض لحكمة الله فيما يختاره لمن يشاء من عباده. وحكي مضمون مقالاتهم بقوله تعالى {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} الآية.
وكلمة {وَيْكَأَنَّ} عند الأخفش وقطرب مركبة من ثلاثة كلمات: (وي) وكاف الخطاب و(أن). فأما (وي) فهي اسم فعل بمعنى: أعجب، وأما الكاف فهي لتوجيه الخطاب تنبيها عليه مثل الكاف اللاحقة لأسماء الإشارة، وأما (أن) فهي (أن) المفتوحة الهمزة أخت (إن) المكسورة الهمزة فما بعدها في تأويل مصدر هو المتعجب منه فيقدر لها حرف جر ماتزم حذفه لكثرة استعماله وكان حذفه مع (أن) جائزا فصار في هذا التركيب واجبا وهذا الحرف هو اللام أو (من) فالتقدير: أعجب يا هذا من بسط الله الرزق لمن يشاء.
وكل كلمة من هذه الكلمات الثلاث تستعمل بدون الأخرى فيقال: وي بمعنى أعجب، ويقال (ويك) بمعناه أيضا قال عنترة:
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها ...
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
ويقال: {وَيْكَأَنَّ} ، كما في هذه الآية وقول سعيد بن زيد أو نبيه بن الحجاج السهمي:
ويكأن من يكن له نشب يحـ ... بب ومن يفتقر يعش عيش ضر
فخفف (أن) وكتبوها متصلة لأنها جرت على الألسن كذلك في كثير الكلام فلم يتحققوا أصل تركيبها وكان القياس أن تكتب (ويك) مفصولة عن (أن) وقد وجدوها مكتوبة مفصولة في بيت سعيد بن زيد. وذهب الخليل ويونس وسيبويه والجوهري والزمخشري إلى أنها مركبة من كلمتين (وي) و(كأن) التي للتشبيه.
والمعنى: التعجب من الأمر وأنه يشبه أن يكون كذا والتشبيه مستعمل في الظن واليقين. والمعنى: أما تعجب كأن الله يبسط الرزق.
وذهب أبو عمرو بن العلاء والكسائي والليث وثعلب ونسبه في الكشاف إلى الكوفيين (وأبو عمرو بصري) أنها مركبة من أربع كلمات كلمة (ويل) وكاف الخطاب وفعل (أعلم) و(أن). وأصله: ويلك اعلم أنه كذا، فحذف لام الويل وحذف فعل (أعلم) فصار (ويكأنه). وكتابتها متصلة على هذا الوجه متعينة لأنها صارت رمزا لمجموع كلماته فكانت مثل النحت.
ولاختلاف هذه التقادير اختلفوا في الوقف فالجمهور يقفون على {وَيْكَأَنَّهُ} بتمامه والبعض يقف على (وي) والبعض يقف على (ويك).
ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه واعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضا بذلك وأعلنوه.
والبسط: مستعمل مجازا في السعة والكثرة.
و {يَقْدِرُ} مضارع قدر المتعدي، وهو بمعنى: أعدى بمقدار، وهو مجاز في القلة لأن التقدير يستلزم قلة المقدر لعسر تقدير الشيء الكثير قال تعالى {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7].
وفائدة البيان بقوله {مِنْ عِبَادِهِ} الإيماء إلى أنه في بسطة الأرزاق وقدرها متصرف تصرف المالك في ملكه إذ المبسوط لهم والمقدور عليهم كلهم عبيده فحقهم الرضى بما لهم مولاهم.
ومعنى {لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا} : لولا أن من الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به، أو لو لا أن من الله علينا بأن لم نكن من شيعته قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه، أو لولا أن من الله علينا بثبات الإيمان.
وقرأ الجمهور {لَخَسَفَ بِنَا} على بناء فعل (خسف) للمجهول للعلم بالفاعل من قولهم: لولا أن من الله علينا. وقرأه يعقوب بفتح الخاء والسين، أي لخسف الله الأرض بنا.
وجملة {وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} تكرير للتعجب، أي قد تبين أن سبب هلاك
قارون هو كفره برسول الله.
[83] {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} انتهت قصة قارون بما فيها من العبر من خير وشر، فأعقبت باستئناف كلام عن الجزاء على الخير وضده في الحياة الأبدية وأنها معدة للذين حالهم بضد حال قارون، مع مناسبة ذكر الجنة بعنوان الدار لذكر الخسف بدار قارون للمقابلة بين دار زائلة ودار خالدة.
وابتدئ الكلام بابتداء مشوق وهو اسم الإشارة إلى غير مذكور من قبل ليستشرف السامع إلى معرفة المشار إليه فيعقبه بيانه بالاسم المعرف باللام الواقع بيانا أو بدلا من اسم الإشارة كما في قوله عبيدة بن الأبرص:
تلك عرسي غضبى تريد زيالي
ألبين تريد أم لدلال ..
الأبيات.
وجملة {نَجْعَلُهَا} هو خبر المبتدأ وكاف الخطاب الذي في اسم الإشارة غير مراد به مخاطب معين موجه إلى كل سامع من قراء القرآن. ويجوز أن يكون خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم والمقصود تبليغه إلى الأمة شأن جميع آي القرآن.
و {الدَّارُ} : محل السكنى، كقوله تعالى {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في الأنعام. وأما إطلاق الدار على جهنم في قوله تعالى {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] فهو تهكم كقوله أبي الغول الطهوي:
ولا يرعون أكناف الهوينا ... إذا نزلوا ولا روض الهدون
فاستعمال الروض للهدون تهكم لأن المقام مقام تعريض.
و {الْآخِرَةُ} : مراد به الدائمة، أي التي لا دار بعدها، فاللفظ مستعمل في صريح معناه وكنايته.
ومعنى جعلها لهم أنها محضرة لأجلهم ليس لهم غيرها. وأما من عداهم فلهم أحوال ذات مراتب أفصحت عنها آيات أخرى وأخبار نبوية فإن أحكام الدين لا يقتصر في استنباطها على لوك كلمة واحدة.
وعن الفضيل بن عياض أنه قرأ هذه الآية ثم قال: ذهبت الأماني ههنا، أي أماني الذين يزعمون أنه لا يضر مع الإيمان شيء وأن المؤمنين كلهم ناجون من العقاب، وهذا قول المرجئة قال قائلهم:
كن مسلما ومن الذنوب فلا تخف ... حاشا المهيمن أن يرِي تنكيدا
لو شاء أن يصليك نار جهنم ... ما كان ألهم قلبك التوحيدا
ومعنى {لا يُرِيدُونَ} كناية عن: لا يفعلون، لأن من لا يريد الفعل لا يفعله إلا مكرها. وهذا من باب {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} كما تقدم في أول هذه السورة [5].
والعلو: التكبر عن الحق وعلى الخلق، والطغيان في الأعمال، والفساد: ضد الصلاح، وهو كل فعل مذموم في الشريعة أو لدى أهل العقول الراجحة.
وقوله {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} تذييل وهو معطوف على جملة {تِلْكَ الدَّارُ} وبه صارت جملة {تِلْكَ الدَّارُ} كلها تذييلا لما اشتملت عليه من إثبات الحكم للعام بالموصول من قوله {لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ} والمعرف بلام الاستغراق.
والعاقبة: وصف عومل معاملة الأسماء لكثرة الوصف به وهي الحالة الآخرة بعد حالة سابقة وغلب إطلاقها على عاقبة الخير. وتقدم عند قوله تعالى {فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} في أول الأنعام. [84] {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
تتنزل جملة {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} منزلة بدل الاشتمال لجملة {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} لأن العاقبة ذات أحوال من الخير ودرجات من النعيم وهي على حسب ما يجيء به المتقون من الحسنات فتفاوت درجاتهم بتفاوتها.
وفي اختيار فعل {جَاءَ} في الموضعين هنا إشارة إلى أن المراد من حضر بالحسنة ومن حضر بالسيئة يوم العرض على الحساب. ففيه إشارة إلى أن العبرة بخاتمة الأمر وهي مسألة الموافاة. وأما اختيار فعل {عملوا} في قوله {الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} فلما فيه من التنبيه على أن عملهم هو علة جزائهم زيادة في التنبيه على عدل الله تعالى.
ومعنى {فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} أن كل حسنة تحتوي على خير لا محالة يصل إلى نفس المحسن أو إلى غيره فللجائي بالحسنة خير أفضل مما في حسنته من الخير، أو فله من الله إحسان عليها خير من الإحسان الذي في الحسنة قال تعالى في آيات أخرى {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} أي فله من الجزاء حسنات أمثالها وهو تقدير بعلمه الله.
ولما ذكر جزاء الإحسان أعقب بضد ذلك مقابلة فضل الله تعالى على المحسن بعدله مع المسيء على عادة القرآن من قرن الترغيب بالترهيب.
{وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} ما صدقه الذين عملوا السيئات، و {الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} الثاني هو عين {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ} فكان المقام مقام الإضمار بأن يقال: ومن جاء بالسيئة فلا يجزون الخ؛ ولكنه عدل عن مقتضى الظاهر لأن في التصريح بوصفهم بـ {عَمِلُوا السَّيِّئاتِ} تكريرا لإسناد عمل السيئات إليهم لقصد تهجين هذا العمل الذميم وتبغيض السيئة إلى قلوب السامعين من المؤمنين.
وفي قوله {إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} استثناء مفرغ عن فعل {يُجْزَى} المنفي المفيد بالنفي عموم أنواع الجزاء، والمستثنى تشبيه بليغ، أي جزاء شبيه الذي كانوا يعملونه. والمراد المشابهة والمماثلة في عرف الدين، أي جزاء وفاقا لما كانوا يعملون وجاريا على مقداره لا حيف فيه وذلك موكول إلى العلم الإلهي.
[85] {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
ابتداء كلام للتنويه بشأن محمد صلى الله عليه وسلم وتثبيت فؤاده ووعده بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة، وإن إنكار أهل الضلال رسالته لا يضيره لأن الله أعلم بأنه على هدى وأنهم على ضلال بعد أن قدم لذلك من أحوال رسالة موسى عليه السلام ما فيه عبرة بالمقارنة بين حالي الرسولين وما لقياه من المعرضين.
وافتتاح الكلام بحرف التأكيد للاهتمام به. وجيء بالمسند إليه اسم موصول دون اسمه تعالى العلم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه بناء الخبر. وأنه خبر الكرامة والتأييد أي أن الذي أعطاك القرآن ما كان إلا مقدرا نصرك وكرامتك؛ لأن إعطاء القرآن شيء لا نظير له فهو دليل على كمال عناية الله بالمعطى. قال كعب بن زهير:
مهلا هداك الذي أعطاك نافلة الـ ... قرآن فيها مواعيظ وتفصيل
وفيه إيماء إلى تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم
ومعنى {فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} اختاره لك من قولهم: فرض له كذا، إذا عين له فرضا، أي نصيبا. ولما ضمن {فَرَضَ} معنى (أنزل) لأن فرض القرآن هو إنزاله، عدي فرض بحرف (على).
والرد: إرجاع شيء إلى حاله أو مكانه. والمعاد: اسم مكان العود، أي الأول كما يقتضيه حرف الانتهاء. والتنكير في {مَعَادٍ} للتعظيم كما يقتضيه مقام الوعد والبشارة، وموقعهما بعد قوله { مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا} 1 [القصص: 84]، أي إلى معاد أي معاد.
والمعاد يجوز أن يكون مستعملا في معنى آخر أحوال الشيء وقراره الذي لا انتقال منه تشبيها بالمكان العائد إليه بعد أن صدر منه أو كناية عن الأخارة فيكون مرادا به الحياة الآخرة. قال ابن عطية: وقد اشتهر يوم القيامة بالمعاد نه معاد الكل اهـ. أي فأبشر بما تلقى في معادك من الكرامة التي لا تعادلها كرامة والتي لا تعطى لأحد غيرك. فتنكير {مَعَادٍ} أفاد أنه عظيم الشأن، وترتبه على الصلة أفاد أنه لا يعطى لغيره مثله كما أن القرآن لم يفرض على أحد مثله.
ويجوز أن يراد بالمعاد معناه المشهود القريب من الحقيقة. وهو ما يعود إليه المرء إن غاب عنه، فيراد هنا بلده الذي كان به وهو مكة. وهذا الوجه يقتضي انه كناية عن خروجه منه ثم عوده إليه لأن الرد يستلزم المفارقة. وإذ قد كانت السورة مكية ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة فالوعد بالرد كناية عن الخروج منه قبل أن يرد عليه. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أري في النوم أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل كما في حديث البخاري، وكان قال له ورقة بن نوفل: يا ليتني أكون معك إذ يخرجك قومك وغن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا، فما كان ذلك كله ليغيب عن علم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه قد قيل: إن هذه الآية نزلت عليه وهو في الجحفة في طريقه إلى الهجرة كما تقدم في أول السورة فوعد بالرد عليها وهو دخوله إليها فاتحا لها ومتمكنا منها. فقد روي عن ابن عباس تفسير المعاد بذلك وكلا الوجهين يصح أن يكون مرادا على ما تقرر في المقدمة التاسعة.
ـــــــ
1 في المطبوعة (عشر أمثالها)
ثم تكون جملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} بالنسبة إلى الوجه الأول بمنزلة التفريع على جملة {لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} ، أي رادك إلى يوم المعاد فمظهر المهتدي والضالين، فيكون علم الله بالمهتدي والضال مكنى به عن اتضاح الأمر بلا ريب لأن علم الله تعالى لا يعتريه تلبيس وتكون هذه الكناية تعريضا بالمشركين أنهم الضالون. وأن النبي صلى الله عليه وسلم هو المهتدي.
ولهذه النكتة عبر عن جانب المهتدي بفعل {مَنْ جَاءَ} للإشارة إلى أن المهتدي هو الذي جاء بهدي لم يكن معروفا من قبل كما يقتضيه: جاء بكذا، وعبر عن جانب الضالين بالجملة الاسمية المقتضية ثبات الضلال المشعر بان الضلال هو أمرهم القديم الراسخ فيهم مع ما أفاده حرف الظرفية من انغماسهم في الضلال وإحاطته بهم. ويكون المعنى حينئذ على حد قوله تعالى {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ: 24] لظهور أن المبلغ لهذا الكلام لا يفرض في حقه أن يكون هو الشق الضال فيتعين أن الضال من خالفه.
وبالنسبة إلى الوجه الثاني تكون بمنزلة الموادعة والمتاركة وقطع المجادلة. فالمعنى: عد عن إثبات هداك وضلالهم وكلهم إلى يوم ردك إلى معادك يوم يتبين أن الله نصرك وخذلهم. وعلى المعنيين فجملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ} مستأنفة استئنافا بيانيا عن جملة {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} جوابا لسؤال سائل يثيره أحد المعنيين.
وفي تقديم جملة {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} على جملة {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} إعداد لصلاحية الجملة الثانية للمعنيين المذكورين. فهذا من الدلالة على معاني الكلام بمواقعه وترتيب نظامه وتقديم الجمل عن مواضع تأخيرها لتوفير المعاني.
[86-87] {وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
{وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ}
عطف على جملة: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} [القصص: 85] الخ باعتبار ما تضمنته من الوعد بالثواب الجزيل أو بالنصر المبين، أي كما حملك تبليغ القرآن فكان
ذلك علامة على أنه أعد لك الجزاء بالنصر في الدنيا والآخرة. كذلك إعطاؤه إياك الكتاب عن غير ترقب منك بل بمحض رحمة ربك، أي هو كذلك في أنه علامة لك على أن الله لا يترك نصرك على أعدائك فإنه ما اختارك لذلك إلا لأنه أعد لك نصرا مبينا وثوابا جزيلا.
وهذا أيضا من دلالة الجملة على معنى غير مصرح به بل على معنى تعريضي بدلالة موقع الجملة.
وإلقاء الكتاب إليه وحيه به إليه. أطلق عليه اسم الإلقاء على وجه الاستعارة كما تقدم في قوله تعالى: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ} في [سورة النحل: 86-87].
والاستثناء في {إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} استثناء منقطع لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخامر نفسه رجاء أن يبعثه الله بكتاب من عنده بل كان ذلك مجرد رحمة من الله تعالى به واصطفاء له.
[86-87] {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
تفريع على جملة {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ} وما عطف عليها وما تخلل بينهما مما اقتضى جميعه الوعد بنصره وظهور أمره وفوزه في الدنيا والآخرة، وأنه جاء من الله إلى قوم هم في ضلال مبين، وأن الذي رحمه فآتاه الكتاب على غير ترقب منه لا يجعل أمره سدى فأعقب ذلك بتحذيره من أدنى مظاهرة للمشركين فإن فعل الكون لما وقع في سياق النهي وكان سياق النهي مثل سياق النفي لأن النهي أخو النفي في سائر تصاريف الكلام كان وقوع فعل الكون في سياقه مفيدا تعميم النهي عن كل كون من أكوان المظاهرة للمشركين.
والظهير: المعين. والمظاهرة: المعونة، وهي مراتب أعلاها النصرة وأدناها المصانعة والتسامح، لأن في المصانعة على المرغوب إعانة لراغبه. فلما شمل النهي جميع أكوان المظاهرة لهم اقتضى النهي عن مصانعتهم والتسامح معهم، وهو يستلزم الأمر بضد المظاهرة فيكون كناية عن الأمر بالغلظة عليهم كصريح قوله تعالى {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} . وهذا المعنى يناسب كون الآيات آخر ما نزل قبل الهجرة وبعد متاركته المشركين ومغادرته الذي يعمرونه.
وقيل النهي للتهييج لإثارة غضب النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وتقوية داعي شدته معهم. ووجه تأويل النهي بصرفه عن ظاهره أو عن بعض ظاهره هو أن المنهي عنه لا يفرض وقوعه من الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ينهى عنه فكان ذلك قرينة على أنه مؤول.
وتوجيه النهي إليه عن أن يصدوه عن آيات الله في قوله {وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ} كناية عن نهيه عن أن يتقبل منهم ما فيه صد عن آيات الله كما يقول العرب: لا أعرفنك تفعل كذا، كنوا به عن: أنه لا يفعله. فيعرف المتكلم الناهي فعله. والمقصود: تحذير المسلمين من الركون إلى الكافرين في شيء من شؤون الإسلام فإن المشركين يحاولون صرف المسلمين عن سماع القرآن {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26].
وقيل هو للتهييج أيضا، وتأويل هذا النهي أكد من تأويل قوله {فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} .
ويجوز أن يكون النهي في {وَلا يَصُدُّنَّكَ} نهي صرفة كما كان الأمر في قوله {فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا} أمر تكوين. فالمعنى: أن الله قد ضمن لرسوله صرف المشركين عن أن يصدوه عن آيات الله وذلك إذ حال بينه وبينهم بأن أمره بالهجرة ويسرها له وللمسلمين معه.
والتقييد بالبعدية في قوله {بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ} لتعليل النهي أياما كان المراد منه، أي يجوز أن يصدوك عن آيات الله بعد إذ أنزلها عليك فإنه ما أنزلها إليك بطلا وعبثا كقوله تعالى {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [البقرة: 213].
والأمر في قوله {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} مستعمل في الأمر بالدوام على الدعوة إلى الله لا إلى إيجاد الدعوة لأن ذلك حاصل، أي لا يصرفك إعراض المشركين عن إعادة دعوتهم إعذارا لهم.
ويجوز أن يكون الدعاء مستعملا في الأكمل من أنواعه، أي أنك بعد الخروج من مكة أشد تمكنا في الدعوة إلى الله مما كنت من فبل لأن تشغيب المشركين عليه كان يرنق صفاء تفرغه للدعوة.
وجميع هذه النواهي والأوامر داخلة في حيز التفريع بالفاء في قوله {فَلا تَكُونَنَّ
ظَهِيراً لِلْكَافِرِينَ} .
أما قوله {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فإن حملت {مِنَ} فيه على معنى التبعيض كان النهي مؤولا يمثل ما أولوا به النهيين اللذين قبله أنه للتهييج، أو أن المقصود به المسلمون.
[88] {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
هذا النهي موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر، والمقصود به إبطال الشرك وإظهار ضلال أهله إذ يزعمون أنهم معترفون بإلهية الله تعالى وأنهم إنما اتخذوا له شركاء وشفعاء، فبين لهم أن الله لا إله غيره، وأن انفراده بالإلهية في نفس الأمر يقضي ببطلان الإشراك في الاعتقاد ولو أضعف إشراك، فجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} في معنى العلة للنهي الذي في الجملة قبلها.
وجملة {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} علة ثانية للنهي لأن هلاك الأشياء التي منها الأصنام وكل ما عبد مع الله وأشرك به دليل على انتفاء الإلهية عنها لأن الإلهية تنافي الهلاك وهو العدم.
والوجه مستعمل في معنى الذات. والمعنى: كل موجود هالك إلا الله تعالى. والهلاك: الزوال والانعدام.
وجملة {لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تذييل فلذلك كانت مفصولة عما قبلها. وتقديم المجرور باللام لإفادة الحصر، والمحصور فيه هو الحكم الأتم، أي الذي لا يرده راد.
والرجوع مستعمل في معنى: آخر الكون على وجه الاستعارة، لأن حقيقته الانصراف إلى مكان قد فارقه فاستعمل في مصير الخلق وهو البعث بعد الموت؛ شبه برجوع صاحب المنزل إلى منزله، ووجه الشبه هو الاستقرار والخلود فهو مراد منه طول الإقامة.
وتقديم المجرور بـ(إلى) للاهتمام بالخبر لأن المشركين نفوا الرجوع من أصله ولم يقولوا بالشركة في ذلك حتى يكون التقديم للتخصيص.
والمقصود من تعدد هذه الجمل إثبات أن الله منفرد بالإلهية في ذاته وهو مدلول جملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} . وذلك أيضا يدل على صفة القدم لأنه لما انتفى جنس الإلهية عن
غيره تعالى تعين أنه لم يوجده غيره فثبت له القدم الأزلي وأن الله تعالى باق لا يعتريه العدم لاستحالة عدم القديم، وذلك مدلول {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ، وأنه تعالى منفرد في أفعاله بالتصرف المطلق الذي لا يرده غيره فيتضمن ذلك إثبات الإرادة والقدرة. وفي كل هذا رد على المشركين الذين جوزوا شركته في الإلهية، وأشركوا معه آلهتهم في التصرف بالشفاعة والغوث.
ثم أبطل إنكارهم البعث بقوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سورة العنكبوتاشتهرت هذه السورة بسورة العنكبوت من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رواه عكرمة قال: كان المشركون إذا سمعوا تسمية سورة العنكبوت يستهزئون بهما، أي بهذه الإضافة فنزل قوله تعالى {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} يعني المستهزئين بهذا ومثله وقد تقدم الإلماع إلى ذلك عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} في [سورة البقرة: 26].
ووجه إطلاق هذا الاسم على هذه السورة أنها اختصت بذكر مثل العنكبوت في قوله تعالى فيها {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} .
وهي مكية كلها في قول الجمهور، ومدنية كلها في أحد قولي ابن عباس وقتادة، وقيل بعضها مدني. روى الطبري والواحدي في أسباب النزول عن الشعبي أن الآيتين الأوليين منها أي إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} نزلتا بعد الهجرة في أناس من أهل مكة اسلموا فكتب إليهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة أن لا يقبل منهم إسلام حتى يهاجروا إلى المدينة فخرجوا مهاجرين فاتبعهم المشركون فردوهم.
وروى الطبري عن عكرمة عن ابن عباس أن قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} نزلت في قوم بمكة وذكر قريبا مما روى عن الشعبي.
وفي أسباب النزول للواحدي: عن مقاتل نزلت الآيتان الأوليان في مهجع مولى عمر بن الخطاب خرج في جيش المسلمين إلى بدر فرماه عامر بن الحضرمي من المشركين بسهم فقتله فجزع عليه أبوه وامرأته فأنزل الله هاتين الآيتين. وعن علي ابن أبي طالب أن
السورة كلها نزلت بين مكة والمدينة. وقيل: إن آية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [العنكبوت: 10] نزلت في ناس من ضعفة المسلمين بمكة كانوا إذا مسهم أذى من الكفار وافقوهم في باطن الأمر وأظهروا للمسلمين أنهم لم يزالوا على إسلامهم كما سيأتي عند تفسيرها.
وقال في الإتقان: ويضم إلى ما استثني من المكي فيها قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60] لما أخرجه ابن أبي حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المؤمنين الذين كانوا بمكة بالمهاجرة إلى المدينة فقالوا كيف نقدم بلدا ليست لنا فيه معيشة فنزلت {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا} [العنكبوت: 60].
وقيل هذه السورة آخر ما نزل بمكة وهو يناكد بظاهره جعلهم هذه السورة نازلة قبل سورة المطففين. وسورة المطففين آخر السور المكية. ويمكن الجمع بأن ابتداء نزول سورة العنكبوت قبل ابتداء نزول سورة المطففين ثم نزلت سورة المطففين كلها في المدة التي كانت تنزل فيها سورة العنكبوت ثم تم بعد ذلك جميع هذه السورة.
وهذه السورة هي السورة الخامسة والثمانون في ترتيب نزول سور القرآن نزلت بعد سورة الروم وقبل سورة المطففين، وسيأتي عند ذكر سورة الروم ما يقتضي أن العنكبوت نزلت في أواخر سنة إحدى قبل الهجرة فتكون من أخريات السور المكية بحيث لم ينزل بعدها بمكة إلا سورة المطففين.
وآياتها تسع وستون باتفاق أصحاب العدد من أهل الأمصار.
أغراض هذه السورة
افتتاح هذه السورة بالحروف المقطعة يؤذن بأن من أغراضها تحدي المشركين بالإتيان بمثل سورة منه كما بينا في سورة البقرة، وجدال المشركين في أن القرآن نزل من عند الله هو الأصل فيما حدث بين المسلمين والمشركين من الأحداث المعبر عنها بالفتنة في قوله هنا {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]. فتعين أن أول أغراض هذه السورة تثبيت المسلمين الذين فتنهم المشركون وصدوهم عن الإسلام أو عن الهجرة مع من هاجروا.
ووعد الله بنصر المؤمنين وخذل أهل الشرك وأنصارهم وملقنهم من أهل الكتاب.
والأمر بمجافاة المشركين والابتعاد منهم ولو كانوا اقرب القرابة.
ووجوب صبر المؤمنين على أذى المشركين وأن لهم في سعة الأرض ما ينجيهم من أذى أهل الشرك.
ومجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن ما عدا الظالمين منهم للمسلمين.
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالثبات على إبلاغ القرآن وشرائع الإسلام.
والتأسي في ذلك بأحوال الأمم التي جاءتها الرسل، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم جاء بمثل ما جاءوا به.
وما تخلل أخبار من ذكر فيها من الرسل من العبر.
والاستدلال على أن القرآن منزل من عند الله بدليل أمية من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم.
وتذكير المشركين بنعم الله عليهم ليقلعوا عن عبادة ما سواه.
وإلزامهم بإثبات وحدانيته بأنهم يعترفون بأنه خالق من في السماوات ومن في الأرض.
والاستدلال على البعث بالنظر في بدء الخلق وهو أعجب من إعادته.
وإثبات الجزاء على الأعمال.
وتوعد المشركين بالعذاب الذي يأتيهم بغتة وهم يتهكمون باستعجاله.
وضرب المثل لاتخاذ المشركين أولياء من دون الله بمثل وهي بيت العنكبوت.
[1] {الم}
تقدم القول في معاني أمثالها مستوفى عند مفتتح سورة البقرة.
واعلم أن التهجي المقصود به التعجيز يأتي في كثير من سور القرآن وليس يلزم أن يقع ذكر القرآن أو الكتاب بعد تلك الحروف وإن كان ذلك هو الغالب في سور القرآن ما عدا ثلاث سور وهي فاتحة سورة مريم وفاتحة هذه السورة وفاتحة سورة الروم. على أن هذه السورة لم تخل من إشارة إلى التحدي بإعجاز القرآن لقوله تعالى {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51].
[2] {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}
الاستفهام في {أَحَسِبَ} مستعمل في الإنكار، أي إنكار حسبان ذلك. وحسب بمعنى ظن، وتقدم في قوله تعالى {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ} في [سورة البقرة: 214]. والمراد بالناس كل الذين آمنوا، فالقول كناية عن حصول المقول في نفس المر، أي أحسب الناس وقوع تركهم لأن يقولوا آمنا، فقوله {أَنْ يُتْرَكُوا} مفعول أول لـ {حَسِبَ} .وقوله {أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا} شبه جملة في محل المفعول الثاني وهو مجرور بلام جر محذوف مع {أَنْ} حذفا مطردا، والتقدير: أحسب الناس تركهم غير مفتونين لأجل قولهم: آمنا، فإن أفعال الظن والعلم لا تتعدى إلى الذوات وإنما تتعدى إلى الأحوال والمعاني وكان حقها أن يكون مفعولها واحدا دالا على حالة، ولكن جرى استعمال الكلام على أن يجعلوا لها اسم ذات مفعولا، ثم يجعلوا ما يدل على حالة للذات مفعولا ثانيا. ولذلك قالوا: إن مفعولي أفعال القلوب أي العلم ونحوه أصلهما مبتدأ وخبر.
والترك: عدم تعهد الشيء بعد الاتصال به.
والترك هنا مستعمل في حقيقته لأن الذين آمنوا قد كانوا مخالطين للمشركين ومن زمرتهم، فلما آمنوا اختصوا بأنفسهم وخالفوا أحوال قومهم وذلك مظنة أن يتركهم المشركون وشأنهم، فلما أبى المشركون إلا منازعتهم طمعا في إقلاعهم عن الإيمان وقع ذلك منهم موقع المباغتة والتعجب، وتقدم الترك المجازي في قوله تعالى {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} أوائل [البقرة: 17].
و {أَنْ يَقُولُوا} في موضع نصب على نزع الخافض الذي هو لام التعليل والتقدير: لأجل أن يقولوا آمنا.
وجملة {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} حال، أي لا يحسبوا انهم سالمون من الفتنة إذا آمنوا.
والفتن والفتون: فساد حال الناس بالعدوان والأذى في الأنفس والأموال والأهلين. والاسم الفتنة، وقد تقدم عند قوله تعالى {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} في [سورة البقرة: 102].
وبناء فعلي {يُتْرَكُوا، يُفْتَنُونَ} للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور أن الفاعل قوم ليسوا بمؤمنين، أي أن يتركوا خالين عن فتون الكافرين إياهم لما هو معروف من الأحداث قبيل نزولها، ولما هو معلوم من دأب الناس أن يناصبوا العداء من خالفهم
في معتقداتهم ومن ترفع عن رذائلهم. والمعنى: أحسب الذين قالوا آمنا أن يتركهم أعداء الدين دون أن يفتنوهم. ومن فسروا الفتون هنا بما شمل التكاليف الشاقة مثل الهجرة والجهاد قد ابتعدوا عن مهيع المعنى واللفظ وناكدوا ما تفرع عنه من قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} .
وإنما لم نقدر فاعل {يُتْرَكُوا} و {يُفْتَنُونَ} أنه الله تعالى تحاشيا مع التشابه مع وجود مندوحة عنه.
وهذه الفتنة مراتب أعظمها التعذيب كما فعل ببلال، وعمار بن ياسر وأبويه.
[3] {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}
انتقال إلى التنويه بالفتون لأجل الإيمان بالله بأنه سنة الله في سالف أهل الإيمان وتأكيد الجملة بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المؤمنين حين استظعفوا ما نالهم من الفتنة من المشركين واستبطأوا النصر على الظالمين، وذهولهم عن سنة الكون في تلك الحالة منزلة من ينكر أن من يخالف الدهماء في ضلالهم ويتجافى عن أخلاقهم ورذالتهم لا بد أن تلحقه منهم فتنة.
ولما كان هذا السنن من آثار ما طبع الله عليه عقول غالب البشر وتفكيرهم غير المعصوم بالدلائل وكان حاصلا في الأمم السالفة كلها أسند فتون تلك الأمم إلى الله تعالى إسنادا مجازيا لأنه خالق أسبابه كما خلق أسباب العصمة منه لمن كان أهلا للعصمة من مثله، وفي هذا الإسناد إيماء إلى ان الذي خلق أسباب تلك الفتن قريبها وبعيدها قادر على صرفها بأسباب تضادها. وإلى هذا يشير دعاء موسى عليه السلام المحكي في [سورة يونس: 88 ]{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ} فسأل الله أن يخلق ضد الأسباب التي غرت فرعون وملأه وغشيت على قلبه بالضلال.
والمقصود التذكير بما لحق صالحي الأمم السالفة من الأذى والاضطهاد كما لقي صالحو النصارى من مشركي الرومان في عصور المسيحية الأولى، وقد قص القرآن بعض ذلك في سورة البروج.
وحكمها سار في حال كل من يتمسك بالحق بين قوم يستخفون به من المسلمين لأن
نكران الحق أنواع كثيرة.
والواو الداخلة على جملة {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يجوز أن تكون عاطفة على جملة {أَحَسِبَ النَّاسُ} ، ويجوز كونها عاطفة على جملة {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} فتكون بمعنى الحال، أي والحال قد فتنا الذين من قبلهم، وعلى كلا التقديرين فالجملة معترضة بين ما قبلها وما تفرع عنه من قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} . فلك أن تسمي تلك الواو اعتراضية. وإسناد فعل {فَتَنَّا} إلى الله تعالى لقصد تشريف هذه الفتون بأنه جرى على سنة الله في الأمم. فالفاء في قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا} تفريع على جملة {وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2]، أي يفتنون فيعلم الله الذين صدقوا منهم والكاذبين. والمفرع هو علم الله الحاصل في المستقبل كما يقتضيه توكيد فعل العلم بنون التوكيد التي لا يؤكد بها المضارع إلا مستقبلا. وهو تعلق بالمعلوم شبيه بالتعلق التنجيزي لصفتي الإرادة والقدرة وإن لم يسموه بهذا الاسم.
والمراد بالصدق هنا ثبات الشيء ورسوخه، وبالكذب ارتفاعه وتزلزله؛ وذلك أن المؤمنين حين قالوا {آمَنَّا} [ العنكبوت: 2]لم يكن منهم من هو كاذب في إخباره عن نفسه بأنه اعتقد عقيدة الإيمان واتبع رسوله، فإذا لحقهم الفتون من أجل دخولهم في دين الإسلام فمن لم يعبأ بذلك ولم يترك أتباع الرسول فقد تبين رسوخ إيمانه ورباطة عزمه فكان إيمانه حقا وصدقا، ومن ترك الإيمان خوف الفتنة فقد استبان من حالة عدم رسوخ إيمانه وتزلزله، وهذا كقول النابغة:
أولئك قوم بأسهم غير كاذب
وقول الأعشى في ضده يصف راحلته:
جمالية تغتلي بالردا ... ف إذا كذب الآثمات الهجيرا
وقد تقدم ذلك عند قوله تعالى {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} في أول [سورة يونس: 2].
ولما كان علم الله بمن يكون إيمانه صادقا عند الفتون ومن يكون إيمانه كاذبا بهذين المعنيين متقررا في الأزل من قبل أن يحصل الفتون والصدق والكذب تعين تأويل فعل {فَلَيَعْلَمَنَّ} بمعنى: فليعلمن بكذب إيمانهم بهذا المعنى، فهو من تعلق العلم بحصول أمر كان في علم الله أنه سيكون وهو شبيه بتعلق الإرادة المعبر عنه بالتعلق التنجيزي ولا مانع
من إثبات تعلقين لعلم الله تعالى: أحدهما قديم، والآخر تنجيزي حادث. ولا يفضي ذلك إلى اتصاف الله تعالى بوصف حادث لأن تعلق الصفة تحقق مقتضاها في الخارج لا في ذات موصوفها، وتقدم عند قوله تعالى {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في [سورة البقرة: 143]، وقوله {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ} في [آل عمران: 140].
ولك أن تجعل العلم هنا مكنى به عن وعد الصادقين ووعيد الكاذبين لأن العلم سبب للجزاء بما يقتضيه فكانت الكناية مقصودة وهو المعنى الأهم.
وقد عدل في قوله {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ} عن طريق التكلم إلى طريق الغيبة بإظهار اسم الجلالة على أسلوب الالتفات لما في هذا الإظهار من الجلالة ليعلم أن الجزاء على ذلك جزاء مالك الملك.
وتعريف المتصدقين بصدق الإيمان بالموصول والصلة الماضوية لإفادة أنهم اشتهروا بحدثان صدق الإيمان وان صدقهم محقق.
وأما تعريف المتصفين بالكذب بطريق التعريف باللام وبصيغة اسم الفاعل فلإفادة أنهم عهدوا بهذا الوصف وتميزوا به مع ما في ذلك من التفنن والرعاية على الفاصلة.
روى الطبري عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: نزلت هذه الآية {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا} إلى قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1-3] في عمار بن ياسر غذ كان يعذب في الله، أي وأمثاله عياش بن أبي ربيعة، والوليد بن الوليد، وسلمة ابن هشام ممن كانوا يعذبون بمكة وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو لهم الله بالنجاة لهم وللمستضعفين من المؤمنين.
[4] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}
أعقب تثبيت المؤمنين على ما يصيبهم من فتون المشركين وما في ذلك من الوعد والوعيد بزجر المشركين على ما يعملونه من السيئات في جانب المؤمنين وأعظم تلك السيئات فتونهم المسلمين. فالمراد بالذين يعملون السيئات الفاتنون للمؤمنين.
وهذا ووعيدهم بان الله لا يفلتهم. وفي هذا أيضا زيادة تثبيت للمؤمنين بأن الله ينصرهم من أعدائهم.
فـ {أَمْ} للإضراب الانتقالي ويقدر بعدها استفهام إنكاري.
و {السَّيِّئَاتِ} : الأعمال السوء. وهي التنكيل والتعذيب وفتون المسلمين.
والسبق: مستعمل مجازا في النجاة والانفلات كقوله مرة بن عداء الفقعسي:
كأنك لم تسبق من الدهر مرة ... إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب
وقوله تعالى {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلَى أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 60-61] وقوله { فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 39-40].
وقد تقدم عند قوله تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ} في [سورة الأنفال: 59]. والمعنى: أم حسبوا أن قد شفوا غيظهم من المؤمنين، فهم بذلك غلبوا أولياءنا فغلبونا.
وجملة {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} ذم لحسبانهم ذلك وإبطال له. فهي مقررة لمعنى الإنكار في جملة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} فلها حكم التوكيد فلذلك فصلت.
وهذه الجملة تقتضي أن يكون هذا الحسبان واقعا منهم. ومعنى وقوعه: انهم اعتقدوا ما يساوي هذا الحسبان لأنهم حين لم يستطع المؤمنون رد فتنهم قد اغتروا بأنهم غلبوا المؤمنين، وإذ قد كان المؤمنون يدعون إلى الله دون الأصنام فمن غلبهم فقد حسب انه غلب من يدعون إليه وهم لا يشعرون بهذا الحسبان، فأفهمه.
والحكم مستعمل في معنى الظن والاعتقاد تهكما بهم بأنهم نصبوا أنفسهم منصب الذي يحكم فيطاع و {مَا يَحْكُمُونَ} موصول وصلته، أي ساء الحكم الذي يحكمونه.
وهذه الآية وغن كانت واردة في شأن المشركين المؤذين للمؤمنين فهي تشير تحذير المسلمين من مشابهتهم في اقتراف السيئات استخفافا بوعيد الله عليها لأنهم في ذلك يأخذون بشيء من مشابهة حسبان الانفلات، وإن كان المؤمن لا يظن ذلك ولكنه ينزل منزلة من يظنه لإعراضه عن الوعيد حين يقترف السيئة.
[5] {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
هذا مسوق للمؤمنين خاصة لأنهم الذين يرجون لقاء الله، فالجملة مفيدة التصريح بما أومأ إليه قوله {أَنْ يَسْبِقُونَا} من الوعد بنصر المؤمنين على عدوهم مبينة لها ولذلك فصلت. ولولا هذا الوقع لكان حق الإخبار بها أن يجيء بواسطة حرف العطف. ورجاء لقاء الله: ظن وقوع الحضور لحساب الله.
ولقاء الله: الحشر للجزاء لأن الناس يتلقون خطاب الله المتعلق بهم، لهم أو عليهم، مباشرة بدون واسطة، وقد تقدم في قوله {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:
46] وقوله {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في [سورة البقرة: 223].
و {أَجَلَ اللَّهِ} يجوز أن يكون الوقت الذي عينه الله في علمه للبعث والحساب فيكون من الإظهار في مقام الإضمار، ومقتضى الظاهر أن يقال فإنه لآت فعدل إلى الإظهار كما في إضافة {أَجَلَ} إلى اسم الجلالة من الإيماء إلى أنه لا يخلف. والمقصود الاهتمام بالتحريض على الاستعداد. ويجوز أن يكون المراد بـ {أَجَلَ اللَّهِ} الأجل الذي عينه الله لنصر المؤمنين وانتهاء فتنة المشركين إياهم باستئصال مساعير تلك الفتنة، وهم صناديد قريش وذلك بما كان من النصر يوم بدر ثم ما عقبه إلى فتح مكة فيكون الكلام تثبيتا للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين حين استبطأ المؤمنون النصر للخلاص من فتنة المشركين حتى يعبدوا الله لا يفتنوهم في عبادته. والمعنى عليه: إن كنتم مؤمنين بالبعث إيقانا ينبعث من تصديق وعد الله به فإن تصديقكم بمجيء النصر أجدر لأنه وعدكم به، فـ {مَنْ} شرطية، وجعل فعل الشرط فعل الكون للدلالة على تمكن هذا الرجاء من فاعل فعل الشرط.
ولهذا كان قوله {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} جوابا لقوله {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} باعتبار دلالته على الجواب المقدر ليلتئم الربط بين مدلول جملة الشرط ومدلول جملة الجزاء. ولولا ذلك لاختل الربط بين الشرط والجزاء إذ يفضي إلى معنى من لم يكن يرجو لقاء الله فإن أجل الله غير آت. وهذا لا يستقيم في مجاري الكلام فلزم تقدير شيء من باب دلالة الاقتضاء.
وتأكيد جملة الجزاء بحرف التوكيد على الوجه الأول للتحريض والحث على الاستعداد للقاء الله، وعلى الوجه الثاني لقصد تحقيق النصر الموعود به تنزيلا لاستبطائه منزلة التردد لقصد إذكاء يقينهم بما وعد الله ولا يوهنهم طول المدة الذي يضخمه الانتظار. وبهذا يظهر وقع التذييل بوصفي {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} دون غيرهما من الصفات العلى للإيماء بوصف {السَّمِيعُ} إلى أن الله تعالى سمع مقالة بعضهم من الدعاء بتعجيل النصر كما أشار إليه قوله تعالى {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ} [البقرة: 214]. وكقوله النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج سلمة بن هشام اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف)) .
والإيماء بوصف {الْعَلِيمُ} إلى أن الله علم ما في نفوسهم من استعجال النصر ولو
كان المراد من {أَجَلَ اللَّهِ} الموت لما كان وجه للإعلام بإتيانه بله تأكيده، وكذا لو كان المراد منه البعث لكان قوله {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} كافيا، فهذا وجه ما أشارت إليه الآيات بالمطوق والاقتضاء، والعدول بها عن هذا المهيع وإلى ما في الكشاف ومفاتيح الغيب أخذا من كلام أبي عبيدة تحويل لها عن مجراها وصرف كلمة الرجاء عن معناها وتفكيك لنظم الكلام عن أن يكون آخذا بعضه بحجز بعض.
وإظهار اسم الجلالة في جملة {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} مع كون مقتضى الظاهر الإضمار لتقدم اسم الجلالة في جملة الشرط {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} لئلا يلتبس معاد الضمير بأن يعاد إلى {مَنْ} إذ المقصود الإعلام بأجل مخصوص وهو وقت النصر الموعود كما في قوله تعالى {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لَّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [سبأ: 29-30].
وعبر بفعل الرجاء عن ترقب البعث لأن الكلام مسوق للمؤمنين وهم ممن يرجو لقاء الله لأنهم يترقبون البعث لما يأملون من الخيرات فيه. قال بلال رضي الله عنه حين احتضاره متمثلا بقول بعض الأشعريين الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم:
غدا ألقى الأحبة ... محمدا وصحبه
[6] {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
أي ومن جاهد ممن يرجون لقاء الله، فليست الواو للتقسيم، وليس {مَنْ جَاهَدَ} بقسيم لمن كانوا يرجون لقاء الله بل الجهاد من عوارض من كانوا يرجون لقاء الله.
والجهاد: مبالغة في الجهد الذي هو مصدر جهد كمنع، إذا جد في عمله وتكلف فيه تعبا، ولذلك شاع إطلاقه على القتال في نصر الإسلام. وهو هنا يجوز أن يكون الصبر على المشاق والأذى اللاحقة بالمسلمين لأجل دخولهم في الإسلام ونبذ دين الشرك حيث تصدى المشركون لأذاهم. فإطلاق الجهاد هنا هو مثل إطلاقه في قوله تعالى بعد هذا {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8]، ومثل إطلاقه في قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قفل من إحدى غزواته "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" .
وهذا المحل هو المتبادر في هذه السورة بناء على أنها كلها مكية نه لم يكن جهاد القتال في مكة.
ومعنى {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} على هذا المحمل أن ما يلاقيه من المشاق لفائدة نفسه ليتأتى له الثبات على الإيمان الذي به ينجو من العذاب في الآخرة.
ويجوز أن يراد بالجهاد المعنى المنقول إليه في اصطلاح الشريعة وهو قتال الكفار لأجل نصر الإسلام والذب عن حوزته، ويكون ذكره هنا إعداد نفوس المسلمين لما سيلجأون إليه من قتال المشركين قبل أن يضطروا إليه فيكون كقوله تعالى {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]ومناسبة التعريض له على هذا المحمل هو أن قوله {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [ العنكبوت : 5]تضمن ترقبا لوعد نصرهم على عدوهم فقدم إليهم أن ذلك بعد جهاد شديد وهو ما وقع يوم بدر.
ومعنى {فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} على هذا المحمل هو معناه في المحمل الأول لأن ذلك الجهاد يدافع صد المشركين إياهم عن إسلام، فكان الدوام على الإسلام موقوفا عليه، وزيادة معنى أخر وهو أن ذلك الجهاد وإن كان في ظاهر الأمر دفاعا عن دين الله فهو أيضا به نصرهم وسلامة حياة الأحياء منهم وأهلهم وأبنائهم وأساس سلطانهم في الأرض كما قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور: 55]. وقال علقمة بن شيبان التميمي:
ونقاتل الأعداء عن أبنائنا ... وعلى بصائرنا وإن لم نبصر
والأوفق ببلاغة القرآن أن يكون المحملان مرادين كما قدمنا في المقدمة التاسعة من مقدمات هذا التفسير.
والقصر المستفاد من (إنما) هو قصر الجهاد على الكون لنفس المجاهد، أي الصالح نفسه إذ العلة لا تتعلق بالنفس بل بأحوالها، أي جهاد لفائدة نفسه لا لنفع ينجر إلى الله تعالى، فالقصر الحاصل بأداة (إنما) قصر ادعائي للتنبيه إلى ما يغفلون عنه-حين يجاهدون الجهاد بمعنييه-من الفوائد المنجرة إلى أنفس المجاهدين ولذلك عقب الرد المستفاد من القصر بتعليله بأن الله عني عن العالمين فلا يكون شيء من الجهاد لله تعالى ولكن نفعه للأمة.
فموقع حرف التأكيد هنا هو موقع فاء التفريع الذي نبه عليه صاحب دلائل الإعجاز وتقدم غير مرة.
[7] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا} [العنكبوت: 4] لما تضمنته الجملة المعطوف عليها من التهديد والوعيد، فعطف عليها ما هو وعد وبشارة للذين آمنوا وعملوا الصالحات مع ما أفضى إلى ذكر هذا الوعد من قوله قبله {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} [العنكبوت: 6] فإن مضمون جملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآية يفيد بيان كون جهاد من جاهد لنفسه.
ويجوز أن تكون عطفا على جملة {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ} وسلك بها طريق العطف باعتبار ما أومأ إليه الموصول وصلته من أن سبب هذا الجزاء الحسن هو أنهم آمنوا وعملوا الصالحات وهو على الوجه إظهار في مقام الإضمار لنكتة هذا الإيماء.
فالجزاء فضل لأن العبد إذا امتثل أمر الله فإنما دفع عن نفسه تبعة العصيان؛ فأما الجزاء على طاعة مولاه فلذلك فضل من المولى، وغفران ما تقدم من سيئاتهم فضل عظيم لأنهم كانوا أحقاء بأن يؤاخذوا بما عملوه وبأن إقلاعهم عن ذلك في المستقبل لا يقتضي التجاوز عن الماضي لكنه زيادة في الفضل.
وانتصب {أَحْسَنَ} على أنه وصف لمصدر محذوف هو مفعول مطلق من فعل {لَنَجْزِيَنَّهُمْ} . والتقدير: ولنجزينهم جزاء أحسن.
وإضافته إلى {الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} لإفادة عظم الجزاء كله فهو مقدر بأحسن أعمالهم. وتقدير الكلام: لنجزينهم عن جميع صالحاتهم جزاء أحسن صالحاتهم. وشمل هذا من يكونون مشركين فيؤمنون ويعملون الصالحات بعد نزول هذه الآية.
[8-9] {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ}
لم يترك القرآن فاذة من أحوال علائق المسلمين بالمشركين إلا بين واجبهم فيها المناسب لإيمانهم، ومن أشد تلك العلائق علاقة النسب فالنسب بين المشرك والمؤمن
يستدعي الإحسان وطيب المعاشر ولكن اختلاف الدين يستدعي المناواة والمغاضبة ولا سيما إذ كان المشركون متصلبين في شركهم ومشفقين من أن تأتي دعوة الإسلام على أساس دينهم فهم يلحقون الأذى بالمسلمين ليقلعوا عن متابعة الإسلام، فبين الله بهذه الآية ما على المسلم في معاملة أنسبائه من المشركين. وخص بالذكر منها نسب الوالدين لأنه أقرب نسب فيكون ما هو دونه أولى بالحكم الذي يشرع له.
وحدثت قضية أو قضيتان دعتا إلى تفصيل هذا الحكم. روى أن سعد بن أبي وقاص حين أسلم قالت له أمه حمنة بنت أبي سفيان يا سعد بلغني أنك صبأت، فوالله لا يظلني سقف بيت، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد، وبقيت كذلك ثلاثة أيام فشكا سعد ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يداريها ويترضاها بالإحسان.
وروي أنه لما أسلم عياش بن أبي ربيعة المخزومي وهاجر مع عمر بن الخطاب إلى المدينة قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل وأخوه الحارث وكانا أخوي عياش لأمه فنزلا بعياش وقالا له: إن محمدا يأمر ببر الوالدين وقد تركت أمك وأقسمت أن لا تطعم ولا تشرب ولا تأوي بيتا حتى تراك وهي أشد حبا لك منها لنا، فاخرج معنا. فاستشار عمر فقال عمر: هما يخدعانك، فلم يزالا به حتى عصى نصيحة عمر وخرج معهما. فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل: إن ناقتي كلت فاحملني معك. قال عياش: نعم، ونزل ليوطئ لنفسه ولأبي جهل. فأخذاه وشداه وثاقا وذهبا به إلى أمه فقالت له: لا تزال بعذاب حتى ترجع عن دين محمد وأوثقته عندها، فقيل: إن هذه الآية نزلت في شأنهما.
والمقصود من الآية هو قوله {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} إلى آخره، وإنما افتتحت بـ {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} لأنه كالمقدمة للمقصود ليعلم أن الوصاية بالإحسان إلى الوالدين لا تقتضي طاعتهما في السوء ونحوه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" 1. ولقصد تقرير حكم الإحسان للوالدين في كل حال إلا في حال الإشراك حتى لا يلتبس على المسلمين وجه الجمع بين الأمر بالإحسان للوالدين وبين الأمر بعصيانهما إذا أمرا بالشرك لإبطال قول أبي جهل: أليس من دين محمد البر بالوالدين ونحوه.
ـــــــ
1 رواه أحمد والحاكم بهذا اللفظ ومعناه ثابت في "الصحيحين" بلفظ أطول .
وهذا من أساليب الجدل وهو الذي يسمى القول بالموجب وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع، ومنه في القرآن قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 10-11] فعلم أنه لا تعرض بين الإحسان إلى الوالدين وبين إلغاء أمرهما بما لا يرجع إلى شأنهما.
والتوصية: كالإيصاء، يقال: أوصى ووصى، وهي أمر بفعل شيء في مغيب الآمر به ففي الإيصاء معنى التحريض على المأمور به، وتقدم في قوله تعالى {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 180] وقوله {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ} في [البقرة: 132].
وفعل الوصاية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء، تقول: أوصى بأبنائه إلى فلان، على معنى أوصى بشؤونهم، ويتعدى إلى الفعل المأمور به بالباء أيضا وهو الأصل مثل {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} . فإذا جمع بين الموصى عليه والموصى به وغلب حذف الباء من البدل اكتفاء بوجودها في المبدل منه فكذلك قوله تعالى هنا {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} تقديره: وصينا الإنسان بوالديه بحسن، بنزع الخافض.
والحسن: اسم مصدر، أي بإحسان. والجملة {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} عطف على جملة {وَصَّيْنَا} وهو بتقدير قول محذوف لأن المعطوف عليه فيه معنى القول.
والمجاهد: الإفراط في بذل الجهد في العمل، أي ألحا لأجل أن تشرك بي.
والمراد بالعلم في قوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} العلم الحق المستند إلى دليل العقل أو الشرع، أي أن تشرك بي أشياء لا تجد في نفسك دليلا على استحقاقها العبادة كقوله تعالى {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [هود: 46]، أي علم بإمكان حصوله. وفي الكشاف: أن نفي العلم كناية عن نفي المعلوم، كأنه قال: أن تشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها، أي لا يصح أن يكون معلوما يعني انه من باب قولهم: هذا ليس بشيء كما صرح به في تفسير [سورة لقمان: 30] كقوله تعالى {مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} 1.
وجملة: {إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} مستأنفة استئنافا بيانيا لزيادة تحقيق ما أشارت إليه مقدمة
ـــــــ
1 في المطبوعة (من شيء).
الآية من قوله {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} ، لأن بقية الآية لما آذنت بفظاعة أمر الشرك وحذرت من طاعة المرء والديه فيه كان ذلك مما يثير سؤالا في نفوس الأبناء أنهم هل يعملون الوالدين بالإساءة لأجل إشراكهما فأنبئوا أن عقابهما على الشرك مفوض إلى الله تعالى فهو الذي يجازي المحسنين والمسيئين.
والمرجع: البعث. والإنباء: الإخبار، وهو مستعمل كناية عن علمه تعالى بما يعملونه من ظاهر الأعمال وخفيها، أي ما يخفونه عن المسلمين وما يكنونه في قلوبهم، وذلك ايضاً كناية عن الجزاء عليه من خير أو شر، ففي قوله {فَأُنَبِّئُكُمْ} كنايتان: أولاهما إيماء، وثانيتهما تلويح، أي فأجازيكم ثوابا على عصيانهما فيما يأمران، وأجازيهما عذابا على إشراكهما.
فجملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} تصريح ببعض ما أفادته الكناية التي في قوله {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، اهتماما بجانب جزاء المؤمنين. وقد أشير إلى شرف هذا الجزاء بأنه جزاء الصالحين الكاملين كقوله {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}؛ ألا ترى إلى قول سليمان {وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين}[ النمل: 19].
ومن لطيف مناسبة هذا الظرف في هذا المقام أن المؤمن لما أمر بعصيان والديه إذا أمراه بالشرك كان ذلك مما يثير بينه وبين أبويه جفاء وتفرقة فجعل الله جزاء عن وحشة تلك التفرقة أنسا بجعله في عداد الصالحين يأنس بهم.
[10] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ}
هذا فريق من الذين أسلموا بمكة كان حالهم في علاقاتهم مع المشركين حال من لا يصبر على الأذى فإذا لحقهم أذى رجعوا إلى الشرك بقلوبهم وكتموا ذلك عن المسلمين فكانوا منافقين فأنزل الله فيهم هذه الآية قبل الهجرة، قاله الضحاك وجابر بن زيد. وقد تقدم في آخر سورة النحل أن من هؤلاء الحارث بن ربيعة بن الأسود، وأبا قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبه بن الحجاج. فهؤلاء استنزلهم الشيطان فعادوا إلى الكفر بقلوبهم لضعف إيمانهم وكان ما لحقهم من الأذى سبباً
لارتدادهم ولكنهم جعلوا يظهرون للمسلمين أنهم معهم. ولعل التظاهر كان بتمالؤ بينهم وبين المشركين فرضوا منهم بأن يختلطوا بالمسلمين ليأتوا المشركين بأخبار المسلمين: فعدهم الله منافقين وتوعدهم بهذه الآية.
وقد أومأ قوله تعالى {مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} إلى أن إيمان هؤلاء لم يرسخ في قلوبهم وأومأ قوله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} إلى أن هذا الفريق معذبون بعذاب الله، وأومأ قوله: {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} [العنكبوت: 11] إلى أنهم منافقون يبطنون الكفر، فلا جرم أنهم من الفريق الذين قال الله تعالى فيهم {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} [النحل: 106]، وأنهم غير الفريق الذين استثنى الله تعالى بقوله { إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106]. فليس بين هذه الآية وآيات أواخر سورة النحل اختلاف كما قد يتوهم من سكوت المفسرين عن بيان الأحكام المستنبطة من هذه الآية مع ذكرهم الإحكام المستنبطة من آيات سورة النحل.
وحرف الظرفية من قوله {أُوذِيَ فِي اللَّهِ} مستعمل في معنى التعليل كاللام، أي أوذي لأجل الله، أي لأجل اتباع ما دعاه الله إليه.
وقوله {جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} يريد جعلها مساوية لعذاب الله كما هو مقتضى أصل التشبيه، فهؤلاء إن كانوا قد اعتقدوا البعث والجزاء فمعنى هذا الجعل: أنهم سووا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة كما هو ظاهر التشبيه فتوقوا فتنة الناس وأهملوا جانب عذاب الله فلم يكترثوا به إعمالا لما هو عاجل ونبذا للآجل وكان الأحق بهم أن يجعلوا عذاب الله أعظم من أذى الناس، وإن كانوا نبذوا اعتقاد البعث تبعا لنبذهم الإيمان، فمعنى الجعل: أنهم جعلوه كعذاب الله عند المؤمنين الذين يؤمنون بالجزاء.
فالخبر من قوله {مِنَ النَّاسِ} إلى قوله {كَعَذَابِ اللَّهِ} مكنى به عن الذم والاستحماق على كلا الاحتمالين وإن كان الذم متفاوتا.
وبين الله تعالى نيتهم في إظهارهم الإسلام بأنهم جعلوا إظهار الإسلام عدة لما يتوقع من نصر المسلمين بأخارة فيجدون نفسهم متعرضين لفوائد ذلك النصر وهذا يدل على أن هذه الآية نزلت بقرب الهجرة من مكة حين دخل الناس في الإسلام وكان أمره في ازدياد.
وتأكيد جملة الشرط في قوله {وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ} باللام الموطئة للقسم لتحقيق حصول الجواب عند حصول الشرط، وهو يقتضي تحقيق وقوع الأمرين.
ففيه وعد بأن الله تعالى ناصر المسلمين وأن المنافقين قائلون ذلك حينئذ، ولعل ذلك حصل يوم فتح مكة فقال ذلك من كان حيا من هذا الفريق، وهو قول يريدون به نيل رتبة السابقية في الإسلام. وذكر أهل التاريخ أن الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وسهيل بن عمرو، وجماعة من وجوه العرب كانوا على باب عمر ينتظرون الإذن لهم، وكان على الباب بلال وسلمان وعمار بن ياسر، فخرج إذن عمر أن يدخل سلمان وبلال وعمار فتمعرت وجوه البقية فقال لهم سهيل بن عمرو: ((لم تتمعر وجوهكم، دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله لهم في الجنة أكثر)).
وقوله {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} تذييل، والواو اعتراضية، والاستفهام إنكاري إنكارا عليهم قولهم {آمَنَّا بِاللَّهِ} وقولهم {إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} ، لأنهم قالوا ذلك ظنا منهم أن يروج كذبهم ونفاقهم على رسول الله، فكان الإنكار عليهم متضمنا أنهم كاذبون في قوليهم المذكورين.
والخطاب موجه للنبي صلى الله عليه وسلم لقصد إسماعهم هذا الخطاب فإنهم يحضرون مجالس النبي والمؤمنين ويستمعون ما ينزل من القرآن وما يتلى منه بعد نزوله، فيشعرون أن الله مطلع على ضمائرهم.
ويجوز أن يكون الاستفهام تقريريا وجه الله به الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة التقرير بما أنعم الله به عليه من إنبائه بأحوال الملتبسين بالنفاق. وهذا الأسلوب شائع في الاستفهام التقريري وكثيرا ما يلتبس بالإنكاري ولا يفرق بينهما إلا المقام، أي فلا تصدق مقالهم.
والتفضيل في قوله {بِأَعْلَمَ} مراعى فيه علم بعض المسلمين ببعض ما في صدور هؤلاء المنافقين ممن أوتوا فراسة وصدق نظر. ولك أن تجعل اسم التفضيل مسلوب المفاضلة، أي أليس الله عالما علما تفصيليا لا تخفى عليه خافية.
[11] {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ}
خص بالذكر فريقان هما ممن شمله عموم قوله {الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 10] اهتماما بهاذين الفريقين وحاليهما: فريق الذين آمنوا، وفريق المنافقين لأن العلم بما في صدور الفريقين من إيماء ونفاق يترتب عليه الجزاء المناسب لحاليهما في العاجل والآجل، فلذلك ترغيب وترهيب.
ووجه تأكيد كلا الفعلين بلام القسم ونون التوكيد أن المقصود من هذا الخبر رد اعتقاد المنافقين أن الله لا يطلع رسوله على ما في نفوسهم، فالمقصود من الخبرين هو ثانيهما أعني قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ} .
وأما قوله {وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} فهو تمهيد لما بعده وتنصيص على عدم التباس الإيمان المكذوب بالإيمان الحق.
وفي هذا أيضا إرادة المعنى الكنائي من العلم وهو مجازة كل فريق على حسب ما علم الله من حاله.
وجيء في جانب هاذين بالفعل المضارع المستقبل إذ نون التوكيد لا يؤكد بها الخبر المثبت إلا وهو مستقبل؛ إما لأن العلم مكنى به عن لازمه وهو مقابلة ك فريق بما يستحقه بحسب ما علم من حاله والمجازاة أمر مستقبل، وإما لأن المراد علم بمستقبل وهو اختلاف أحوالهم يوم يجيء النصر، فلعل من كانوا منافقين وقت نزول الآية يكونون مؤمنين يوم النصر ويبقى قوم على نفاقهم.
والمخالفة بين المؤمنين والمنافقين في التعبير عن الأولين بطريق الموصول والصلة الماضوية وعن الآخرين بطريق اللام واسم الفاعل لما يؤذن به الموصول من اشتهارهم بالإيمان وما يؤذن به الفعل الماضي من تمكن الإيمان منهم وسابقيته، وما يؤذن به التعريف باللام من كونهم عهدوا بالنفاق وطريانه عليهم بعد أن كانوا مؤمنين، ففيه تعريف بسوء عاقبتهم مع ما في ذلك من التفنن ورعاية الفاصلة.
[12] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ}
هذا غرض آخر من أغراض مخالطة المشركين مع المؤمنين وهو محاولة المشركين ارتداد المسلمين بمحاولات فتنة بالشك والمغالطة للذين لم يقدروا على فتنتهم بالأذى والعذاب: إما لعزتهم وخشية بأسهم مثل عمر بن الخطاب فقد قيل: إن هذه المقالة قيلت له، وإما لكثرتهم حين كثر المسلمون وأعيت المشركين حيل الصد عن الإسلام.
والمراد بالذين كفروا طائفة منهم وهم أبو جهل، والوليد بن المغيرة، وأمية بن خلف، وأبو سفيان بن حرب (قبل أن يسلم) قالوا للمسلمين ومنهم عمر بن الخطاب: لا
نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان ذلك فإنا نحمل عنكم آثامكم. وإنما قالوا ذلك جهلا وغرورا حاولوا بهما ان يحجوا المسلمين في إيمانهم بالبعث توهما منهم بأنهم إن كان البعث واقعا فسيكونون في الحياة الآخرة كما كانوا في الدنيا أهل ذمام وحمالة ونقض وإبرام شأن سادة العرب أنهم إذا شفعوا شفعوا وإن تحملوا حملوا.
وهذا كقول العاصي بن وائل لخباب بن الأرت: لئن بعثني الله ليكونن لي مال فأقضيك دينك، وهو الذي نزل فيه قوله تعالى {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77]. وكل هذا من الجدال بالباطل وهو طريقة جدلية إن بنيت على الحق كما ينسب إلى علي بن أبي طالب في ضد هذا:
زعم المنجم والطبيب كلاهما ... لا تحشر الأجساد قلت إليكما
إن صح قولكما فليست بخاسر ... أو صح قولي فالخسار عليكما
وحكى الله عنهم قولهم {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} بصيغة الأمر بلام الأمر: إما لأنهم نطقوا بمثل ذلك لبلاغتهم، وإما لإفادة ما تضمنته مقالتهم من تأكيد تحملهم بذلك. فصيغة أمرهم أنفسهم بالحمل آكد من الخبر عن أنفسهم بذلك، ومن الشرط وما في معناه، لأن الأمر يستدعي الامتثال فكانت صيغة الأمر دالة على تحقيق الوفاء بالحمالة.
وواو العطف لجملة {وَلْنَحْمِلْ} على جملة {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا} مراد منها المعية بين مضمون الجملتين في الأمر وليس المراد منه الجمع في الحصول فالجملتان في قوة جملتي شرط وجزاء، والتعويل على القرينة.
فكان هذا القول أدل على تأكيد الالتزام بالحالة إن اتبع المسلمون سبيل المشركين، من أن يقال: إن تتبعوا سبيلنا نحمل خطاياكم، بصيغة الشرط، أو أن يقال: اتبعوا سبيلنا فنحمل خطاياكم، بفاء السببية.
والحمل: مجاز تمثيلي لحال الملتزم بمشقة غيره بحال من يحمل متاع غيره فيؤول إلى معنى الحمالة والضمان.
ودل قوله {خَطَايَاكُمْ} على العموم لأنه جمع مضاف وهو من صيغ العموم.
وقوله {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} إبطال لقولهم {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} ، نقض العموم في الإثبات بعموم في النفي، لأن {شَيْءٍ} في سياق النفي يفيد العموم لأنه نكرة، وزيادة حرف {مِنْ} تنصيص على العموم.
وليس من بينها شيء من ذنوب المسلمين لأن المسلمين سالمون من تضليل المشركين بما كشف الله لهم من بهتانهم.
وجملة {وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} تذييل جامع لمؤاخذتهم بجميع ما اختلقوه من الإفك والتضليل سواء ما أضلوا به أتباعهم وما حاولوا به بتضليل المسلمين فلم يقعوا في أشراكهم، وقد شمل ذلك كله لفظ الافتراء، كما عبر عن محاولتهم تغرير المسلمين بأنهم فيه كاذبون.
[14-15] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}
سيقت هذه القصة واللاتي بعدها شواهد على ما لقي الرسل والذين آمنوا معهم من تكذيب المشركين كما صرح به قوله عقب القصتين {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} [العنكبوت: 18] على أحد الوجهين الآتيين.
وابتدئت القصص بقصة أول رسول بعثه الله لأهل الأرض فإن لأوليات الحوادث وقعا في نفوس المتأملين في التاريخ، وقد تقدم تفصيل قصته في سورة هود.
وزادت هذه الآية أنه لبث في قومه تسعمائة وخمسين سنة. وظاهر الآية أن هذه مدة رسالته إلى قومه ولا غرض في معرفة عمره يوم بعثه الله إلى قومه، وفي ذلك اختلاف بين المفسرين وفائدة ذكر هذه المدة للدلالة على شدة مصابرته على أذى قومه ودوامه على إبلاغ الدعوة تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم. وأوثر تمييز { أَلْفَ} بـ {سَنَةٍ} لطلب الخفة بلفظ {سَنَةٍ} ، وميز {خَمْسِينَ} بلفظ {عَاماً} لئلا يكر لفظ {سَنَةٍ} .
والفاء من قوله: {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} عطف على {أَرْسَلْنَا} كما عطف عليه {فَلَبِثَ} وقد طوي ذكر ما ترتب عليه أخذهم بالطوفان وهو استمرار تكذيبهم.
وجملة {وَهُمْ ظَالِمُونَ} حال، أي أخذهم وهم متلبسون بالظلم، أي الشرك وتكذيب الرسول، تلبسا ثابتا لهم متقررا وهذا تعريض للمشركين بأنهم سيأخذهم عذاب.
وفاء {فَأَنْجَيْنَاهُ} عطف على {فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ} . وهذا إيماء إلى أن الله منجي المؤمنين من العذاب.
وقوله {وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} الضمير للسفينة. ومعنى كونها آية أنها دليل على وقوع الطوفان عذابا من الله للمكذبين الرسل، فكانت السفينة آية ماثلة في عصور جميع الأمم الذين جاءتهم الرسل بعد نوح موعظة للمكذبين وحجة للمؤمنين. وقد أبقى الله بقية السفينة إلى صدور الأمة الإسلامية ففي صحيح البخاري: قال قتادة: بقيت بقايا السفينة على الجودي حتى نظرتها أوائل هذه الأمة . ويقال إنها دامت إلى أوائل الدولة العباسية ثم غمرتها الثلوج. وكان الجودي قرب (باقردى) وهي قرية من جزيرة ابن عمر بالموصل شرقي دجلة (وباقردى) بموحدة بعدها ألف ثم قاف مكسورة ويجوز فتحها ودال فألف مقصورة وقال تعالى في [سورة القمر: 15] {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} .
وإنما قال {لِلْعَالَمِينَ} الشامل لجميع سكان الأرض لأن من لم يشاهد بقايا سفينة نوح يشاهد السفن فيتذكر سفينة نوح وكيف كان صنعها بوحي من الله لإنجاء نوح ومن شاء الله نجاته، ولأن الذين من أهل قريتها يخبرون عنها وتنقل أخبارهم فتصير متواترة.
وهذا وقد وقع في الإصحاح الثامن من سفر التكوين من التوراة واستقر الفلك على جبال آراراط وقد اختلف الباحثون في تعيين جبال أراراط، فمنهم من قال إنه اسم الجودي وعينوا أنه من جبال بلاد الأكراد في الحد الجنوبي لأرمينيا في سهول ما بين النهرين ووصفوه بأن نهر دجلة يجري بين مرتفعاته بحيث لا يمكن العبور بين الجبل ونهر دجلة إلا في الصيف، وأيدوا قولهم بوجود بقية سفينة على قمة ذلك الجبل. وبعضهم زعم أن أراراط في بلاد أرمينيا وهو قريب من القول الأول لتجاور مواطن الكردستان وأرمينيا وقد تختلف حدود المواطن باختلاف الدول والفتوح.
ويجوز أن يكون ضمير النصب في {وَجَعَلْنَاهَا} عائدا إلى الخبر المذكور بتأويل القصة أو الحادثة.
[16-17] {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
انتقل من خبر نوح إلى خبر إبراهيم لمناسبة إنجاء إبراهيم من النار كإنجاء نوح من الماء. وفيه تنبيه إلى عظم القدرة إذ أنجت من الماء ومن النار.
و {إِبْرَاهِيمَ} عطف على {نُوحاً} [العنكبوت: 14]. والتقدير: وأرسلنا إبراهيم.
و {إِذْ} ظرف متعلق بـ {أَرْسَلْنَا} المقدر، أي في وقت قوله لقومه {اعْبُدُوا اللَّهَ} الخ وهو أول زمن دعوته. واقتضى قوله {اعْبُدُوا اللَّهَ} أنهم لم يكونوا عابدين لله أصلاً.
وجملة {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} تعليل للأمر بعبادة الله. وقد أجمل الخبر في هذه الجملة وفصل بقوله {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} الآية.
ومعنى {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إن كنتم تعلمون أدلة اختصاص الله بالإلهية فمفعول العلم محذوف لدلالة ما قبله عليه. ويجوز جعل فعل {تَعْلَمُونَ} منزلا منزلة اللازم، أي إن كنتم أهل علم ونظر.
وجملة {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} تعليل لجملة {اعْبُدُوا اللَّهَ} . وقصرهم على عبادة الأوثان يجوز أن يكون قصرا على عبادتهم الأوثان، أي دون أن يعبدوا الله فهو قصر حقيقي إذ كان قوم إبراهيم لا يعبدون الله فالقصر منصب على قوله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي إنما تعبدون غير الله وبذلك يكون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} حالا من {أَوْثَاناً} ، أي حال كونها معبودة من دون الله، وهذا مقابل قوله {اعْبُدُوا اللَّهَ } دون أن يقول لهم: لا تعبدوا إلا الله؛ لكن قوم إبراهيم قد وصفوا بالشرك في قوله تعالى في [سورة الأنعام: 78] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} فهم مثل مشركي العرب، فالقصر منصب على عبادتهم الموصوفة بالوثنية، أي ما تعبدون إلا صورا لا إدراك لها، فيكون قصر قلب لإبطال اعتقادهم إلهية تلك الصور كما قال تعالى {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} .
وعلى كلا الوجهين يتخرج معنى قوله {مِنْ دُونِ اللَّهِ} فإن {دُونِ} يجوز أن تكون بمعنى (غير) فتكون {مِنْ} زائدة، والمعنى: تعبدون أوثانا غير الله. ويجوز أن تكون كلمة {دُونِ} اسما للمكان المباعد فهي إذن مستعارة لمعنى المخالفة فتكون {مِنْ} ابتدائية، والمعنى: تعبدون أوثانا موصوفة بأنها مخالفة لصفات الله.
والأوثان: جمع وثن بفتحتين، وهو صورة من حجر أو خشب مجسمة على صورة إنسان أو حيوان. والوثن أخص من الصنم لأن الصنم يطلق على حجارة غير مصورة مثل أكثر أصنام العرب كصنم ذي الخصلة لخثعم، وكانت أصنام قوم إبراهيم صورا قال تعالى {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95]. وتقدم وصف أصنامهم في سورة الأنبياء.
و {تَخْلُقُونَ} مضارع خلق الخبر، أي اختلقه، أي كذبه ووضعه، أي وتضعون لها
أخبارا ومناقب وأعمالا مكذوبة موهومة.
الإفك: الكذب. وتقدم في قوله {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} في [سورة النور: 11].
وجملة {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} إن كان قوم إبراهيم يعترفون لله تعالى بالإلهية والخلق والرزق ولكنهم يجعلون له شركاء في العبادة ليكونوا لهم شفعاء كحال مشركي العرب تكون الجملة تعليلا لجملة {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} أي هو المستحق للعبادة التي هي شكر على نعمه، وإن كان قومه لا يثبتون إلهية لغير أصنامهم كانت جملة {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مستأنفة ابتدائية إبطالا لاعتقادهم أن آلهتهم ترزقهم، ويرجح هذا الاحتمال التفريع في قوله {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ} . وقد تقدم في سورة الشعراء التردد في حال إشراك قوم إبراهيم وكذلك في سورة الأنبياء.
وتنكير {رِزْقاً} في سياق النفي يدل على عموم نفي قدرة أصنامهم على كل رزق ولو قليلا. وتفريع الأمر بابتغاء الرزق من الله إبطال لظنهم الرزق من أصنامهم أو تذكير بان الرازق هو الله، فابتغاء الرزق منه يقتضي تخصيصه بالعبادة كما دل عليه عطف {وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} . وقد سلك إبراهيم مسلك الاستدلال بالنعم الحسية لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العموم.
و {عِنْدَ} ظرف مكان وهو مجاز. شبه طلب الرزق من الله بالبحث عن شيء في مكان يختص به فاستعير له {عِنْدَ} الدالة على المكان المختص بما يضاف إليه الظرف.
وعدي الشكر باللام جريا على أكثر استعماله في كلام العرب لقصد إفادة ما في اللام من معنى الاختصاص أي الاستحقاق.
ولام التعريف في {الرِّزْقَ} لام الجنس المفيدة للاستغراق بمعونة المقام، أي فاطلبوا كل رزق قل أو كثر من الله دون غيره. والمعرف بلام الجنس في قوة النكرة فكأنه قيل: فابتغوا عند الله رزقا، ولذلك لم تكن إعادة لفظ الرزق بالتعريف مقتضية كونه غير الأول، فلا تنطبق هنا قاعدة النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى.
وجملة {إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تعليل للأمر بعبادته وشكره، أي لأنه الذي يجازي على ذلك ثوابا وعلى ضده عقابا إذ إلى الله لا إلى غيره مرجعكم بعد الموت. وفي هذا إدماج تعليل العبادة بإثبات البعث.
[18] {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
يجوز أن تكون هذه الجملة من بقية مقالة إبراهيم عليه السلام بأن يكون رأى منهم مخائل التكذيب ففرض وقوعه، أو يكون سبق تكذيبهم إياه مقالته هذه، فيكون الغرض من هذه الجملة لازم الخبر وهو أن تكذيبهم إياه ليس بعجيب فلا يضيره ولا يحسبوا انهم يضيرونه به ويتشفون منه فإن ذلك قد انتاب الرسل قبله من أممهم، ولذلك أجمع القراء على قراءة فعل {تُكَذِّبُوا} بتاء الخطاب ولم يختلفوا فيه اختلافهم في قراءة قوله {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 19] الخ.
ويجوز أن تكون الجملة معترضة والواو اعتراضية واعتراض هذا الكلام بين كلام إبراهيم وجواب قومه، فهو كلام موجه من جانب الله تعالى إلى المشركين التفت به من الغيبة إلى الخطاب تسجيلا عليهم، والمقصود منه بيان فائدة سوق قصة نوح وإبراهيم وأن للرسول صلى الله عليه وسلم إسوة برسل الأمم الذين قبله وخاصة إبراهيم جد العرب المقصودين بالخطاب على هذا الوجه.
وجملة {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} إعلام للمخاطبين بان تكذيبهم لا يلحقه منه ما فيه تشف منه؛ فإن كان من كلام إبراهيم فالمراد بالرسول إبراهيم سلك مسلك الإظهار في مقام الإضمار لإيذان عنوان الرسول بأن واجبه وإبلاغ ما أرسل به بينا واضحا، وإن كان من خطاب الله مشركي قريش فالمراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقد غلب عليه هذا الوصف في القرآن مع الإيذان بأن عنوان الرسالة لا يقتضي إلا التبليغ الواضح.
[19] {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
يجري هذا الكلام على الوجهين المذكورين في قوله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} . ويترجح أن هذا مسوق من جانب الله تعالى إلى المشركين بان الجمهور قرأوا {أَوَلَمْ يَرَوْا} بياء الغيبة ولم يجر مثل قوله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ} . ومناسبة التعرض لهذا هو ما جرى من الإشارة إلى البعث في قوله {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تنظيرا لحال مشركي العرب بحال قوم إبراهيم.
وقرأ الجمهور {أَوَلَمْ يَرَوْا} بياء الغائب والضمير عائد إلى {الَّذِينَ كَفَرُوا} في قوله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا}، أو إلى معلوم من سياق الكلام. وعلى وجه أن يكون قوله {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} الخ خارجا عن مقالة إبراهيم يكون ضمير الغائب في {أَوَلَمْ يَرَوْا} التفاتا. والالتفات من الخطاب إلى الغيبة لنكتة إبعادهم عن شرف الحضور بعد الإخبار عنهم بأنهم مكذبون.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وخلف {أَوَلَمْ تروا} بالفوقية على طريقة {وَإِنْ تُكَذِّبُوا} [العنكبوت: 18] على الوجهين المذكورين.
والهمزة للاستفهام الإنكاري عن عدم الرؤية، نزلوا منزلة من لم ير فأنكر عليهم.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية1، والاستدلال بما هو مشاهدة من تجدد المخلوقات في كل حين بالولادة وبروز النبات دليل واضح لكل ذي بصر.
وإبداء الخلق: بدؤه وإيجاده بعد أن لم يكن موجودا. يقال: أبدأ بهمزة في أوله وبدأ بدونها وقد وردا معا في هذه الآية إذ قال {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} [العنكبوت: 20] ثم قال {فانظروا كيف بدأ الخلق} ولم يجيء في أسمائه تعالى إلا المبدئ دون البادئ.
وأحسب أنه لا يقال (أبدأ) بهمز في أوله إلا إذا كان معطوفا عليه (يعيد) ولم أر من قيده بهذا.
والخلق: مصدر بمعنى المفعول، أي المخلوق كقوله تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ} [لقمان: 11].
وجيء {يُبْدِئُ} بصيغة المضارع لإفادة تجدد بدء الخلق كلما وجه الناظر بصره في المخلوقات، والجملة انتهت بقوله {يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ} . وأما جملة {ثُمَّ يُعِيدُهُ} فهي مستأنفة ابتدائية فليست معمولة لفعل {يَرَوْا} لأن إعادة الخلق بعد انعدامه ليست مرئية لهم ولا هم يظنونها فتعين أن تكون جملة {ثم يعيده} مستقلة معترضة بين جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} وجملة {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} . و {ثُمَّ} للتراخي الرتبي لأن أمر إعادة الخلق أهم وأرفع رتبة من بدئه لأنه غير مشاهد ولأنهم ينكرونه ولا ينكرون بدء الخلق قال في الكشاف:
ـــــــ
1 سيجيء مقابل هذا بعد بضعة وعشرين سطراً.
هو كقولك: مازلت أوثر فلانا واستخفله على من أخلفه يعني فجملة: وأستخلفه، ليست معطوفة على جملة: أوثر، ولا داخلة في خبر: مازلت، لأنك تقوله قبل أن تستخلفه فضلا عن تكرر الاستخلاف منك. هذه طريقة الكشاف وهو يجعل موقع {ثُمَّ يُعِيدُهُ} كموقع التفريع على الاستفهام الإنكاري.
واعلم أن هذين الفعلين (يبدئ ويعيد) وما تصرف منهما مما جرى استعمالهما متزاوجين بمنزلة الاتباع كقوله تعالى {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} في [سورة سبأ: 49]. قال في الكشاف في سورة سبأ: فجعلوا قولهم: لا يبدئ ولا يعيد، مثلا في الهلاك، ومنه قول عبيد:
فاليوم لا يبدي ولا يعيد
ويقال: أبدأ وأعاد بمعنى تصرف تصرفا واسعا، قال بشار:
فهمومي مظلة ... بادئات وعودا
ويجوز أن تكون الرؤية علمية متعدية إلى مفعولين: أنكر عليهم تركهم النظر والاستدلال الموصل إلى علم كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده لأن أدلة بدء الخلق تفضي بالناظر إلى العلم بأن الله يعيد الخلق فتكون {ثُمَّ} عاطفة فعل {يُعِيدُهُ} على فعل {يُبْدِئُ} والجميع داخل في حيز الإنكار.
و {كَيْفَ} اسم استفهام وهي معلقة فعل {يَرَوْا} عن العمل في معموله أو معموليه. والمعنى: ألم يتأملوا في هذا السؤال، أي في الجواب عنه. والاستفهام بـ {كَيْفَ} مستعمل في التنبيه ولفت النظر لا في طلب الإخبار.
وجملة {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} مبينة لما تضمنه الاستفهام من إنكار عدم الرؤية المؤدية إلى العلم بوقوع الإعادة، إذ أحالوها مع أن إعادة الخلق إن لم تكن أيسر من الإعادة في العرف فلا أقل من كونها مساوية لها وهذا كقوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} . والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى المصدر المفاد من {يُعِيدُهُ} مثل عود الضمير على نظيره في قوله {وهو أهون عليه} . ووجه توكيد الجملة بـ{إِنَّ} رد دعواهم أنه مستحيل.
[20] {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
اعتراض انتقالي من الإنكار عليهم ترك الاستدلال بما هو بمرأى منهم، إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض، فإن تعود الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها.
وإنما أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحتوياتها ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها فيرى كثيرا من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها، فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جولانا لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه، لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائبا عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال، فالسير في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة. وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فنذر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن وأنه قادر على إيجاد أمثالها فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها.
والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن لأن للشيء المتقرر تحققا محسوسا.
وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشئ النشأة الآخرة.
ولذلك أعقب بجملة {ثم الله ينشئ النشأة الآخرة} فهي جملة مستقلة. و {ثُمَّ} للترتيب الرتبي كما تقدم في قوله {ثُمَّ يُعِيدُهُ} .
وإظهار اسم الجلالة بعد تقدم ضميره في قوله {كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} وكان مقتضى الظاهر أن يقول: ثم ينشئ. قال في الكشاف: لأن الكلام كان واقعا في الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء، فالذي لم يعجزه
الإبداء فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة. فكأنه قال: ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ اه. يريد أن العدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتسجيل وقوع هذا الإنشاء الثاني، فتكون الجملة مستقلة حتى تكون عنوان اعتقاد بمنزلة المثل لأن في اسم الجلالة إحضارا لجميع الصفات الذاتية التي بها التكوين، وليفيد وقوع المسند إليه مخبرا عنه بمسند فعلي معنى التقوي.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل، أي قدير على البعث وعلى كل شيء إذا أراده. وإظهار اسم الجلالة لتكون جملة التذييل مستقلة بنفسها فتجري مجرى الأمثال.
والنشأة بوزن فعلة: المرة من النشء وهو الإيجاد، وكذلك قرأها الجمهور، عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النشء الأول ويقال: النشأة بمد بعد الشين بوزن الكآبة ومثلها الرأفة والرءافة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {النَّشْأَةَ} بالمد. ووصفها بـ {الْآخِرَةَ} إيماء بأنها مساوية للنشأة الأولى فلا شبهة لهم في إحالة وقوعها. وأما قوله تعالى {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: 62] فلذلك على سبيل المشاكلة التقديرية لأن قوله قبله {وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ}[ الواقعة: 61] يتضمن النشأة الآخرة فعبر عن مقالتها بالنشأة.
[21] {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ}
لما ذكر النشأة الآخرة أتبع ذكرها بذكر أهم ما تشتمل عليه وما أوجدت لأجله وهو الثواب والعقاب.
وابتدئ بذكر العقاب لأن الخطاب جار مع منكري البعث الذين حظهم فيه هو التعذيب. ومفعولا فعلي المشيئة محذوفان جريا على غالب الاستعمال فيهما. والتقدير: من يشاء تعذيبه ومن يشاء رحمته. والفريقان معلومان من آيات الوعد والوعيد؛ فأصحاب الوعد شاء الله رحمتهم وأصحاب الوعيد شاء تعذيبهم، فمن الذين شاء تعذيبهم المشركون ومن الذين شاء رحمتهم المؤمنون، والمقصود هنا هم الفريقان معا كما دل عليه الخطاب العام في قوله {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} .
والقلب: الرجوع، أي وإليه ترجعون.
وتقديم المجرور على عامله للاهتمام والتأكيد إذ ليس المقام للحصر إذ ليس ثمة اعتقاد مردود. وفي هذا إعادة إثبات وقوع البعث وتعريض بالوعيد.
[22] {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}
عطفت على جملة {وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} باعتبار ما تضمنته من الوعيد.
والمعجز حقيقته: هو الذي يجعل غيره عاجزا عن فعل ما، وهو هنا مجاز في الغلبة والانفلات من المكنة، وقد تقدم عند قوله تعالى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} في [سورة الأنعام: 134].
فالمعنى: وما أنتم بمفلتين من العذاب. ومفعول (معجزين) محذوف للعلم به، أي بمعجزين الله.
ويتعلق قوله {فِي الْأَرْضِ} {بِمُعْجِزِينَ} ، أي ليس لكم انفلات في الأرض، أي لا تجدون موئلا ينجيكم من قدرتنا عليكم في مكان من الأرض سهلها وجبلها، وبدوها وحضرها.
وعطف {وَلا فِي السَّمَاءِ} على {فِي الْأَرْضِ} احتراس وتأييس من الطمع في النجاة وإن كانوا لا مطمع لهم في الالتحاق بالسماء. وهذا كقول الأعشى:
فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم
ومنه قوله تعالى {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} ، ولم تقع مثل هذه الزيادة في آية [سورة الشورى: 30-31] {وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} لأن تلك الآية جمعت خطايا للمسلمين والمشركين بقوله {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] إذ العفو عن المسلمين. وما هنا من المبالغة المفروضة وهي من المبالغة المقبولة كما في قول أبي بن سلمي الضبي:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
وهي أظهر في قوله تعالى { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا} [الرحمن: 33]. وفي هذا إشارة إلى إبطال اغترارهم بتأخير
الوعيد الذي توعدوه في الدنيا.
ولما آيسهم من الانفلات بأنفسهم في جميع الأمكنة أعقبه بتأييسهم من الانفلات من الوعيد بسعي غيرهم لهم من أولياء يتوسطون في دفع العذاب عنهم بنحو السعاية أو الشفاعة، أو من نصراء يدافعون عنهم بالمغالبة والقوة.
[23] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
بيان لما في قوله {يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} [العنكبوت: 21] وإنما عطف لما فيه من زيادة الإخبار بأنهم لا ينالهم الله برحمة وأنه يصيبهم بعذاب أليم.
والكفر بآيات الله: هو كفرهم بالقرآن. والكفر بلقائه: إنكار البعث.
واسم الإشارة يفيد أن ما سيذكره بعده نالهم من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة من أوصاف، أي أنهم استحقوا اليأس من الرحمة وإصابتهم بالعذاب الأليم لأجل كفرهم بالقرآن وإنكارهم البعث على أسلوب {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5].
وأخبر عن يأسهم من رحمة الله بالفعل المضي تنبيها على تحقيق وقوعه. والمعنى: أولئك سييأسون من رحمة الله لا محالة.
والتعبير بالاسم الظاهر في قوله {بِآياتِ اللَّهِ} دون ضمير التكلم للتنويه بشأن الآيات حيث أضيفت إلى الاسم الجليل لما في الاسم الجليل من التذكير بأنه حقيق بأن لا يكفر بآياته. والعدول إلى التكلم في قوله {رَحْمَتِي} التفات عاد به أسلوب الكلام إلى مقتضى الظاهر، وإعادة اسم الإشارة لتأكيد التنبيه على استحقاقهم ذلك.
[24] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}
لما تم الاعتراض الواقع في خلال قصة إبراهيم عاد الكلام إلى بقية القصة بذكر ما أجابه به قومه.
والفاء تفريع على جملة {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [العنكبوت: 16]
وجيء بصيغة حصر الجواب في قوله {اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ} للدلالة على أنهم لم
يترددوا في جوابه وكانت كلمتهم واحدة في تكذيبه وإتلافه وهذا من تصلبهم في كفرهم.
ثم ترددوا في طريق إهلاكه بين القتل بالسيف والإتلاف بالإحراق ثم استقر أمرهم على إحراقه لما دل عليه قوله تعالى {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} و {جَوَابَ قَوْمِهِ} خبر {كَانَ} واسمها {أَنْ قَالُوا} . وغالب الاستعمال أن يؤخر اسمها إذا كان {أَنْ} المصدرية وصلتها كما تقدم في قوله تعالى {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} في آخر [سورة النور: 51]، ولذلك لم يقرأ الاسم الموالي لفعل الكون في أمثالها في غير القراءات الشاذة إلا منصوبا.
وقد أجمل إنجاؤه من النار هنا وهو مفصل في سورة الأنبياء.
والإشارة بـ {ذَلِكَ} إلى الإنجاء من {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} وجعل ذلك الإنجاء آيات ولم يجعل آية واحدة لأنه آية لكل من شهده من قومه ولأنه يدل على قدرة الله، وكرامة رسوله، وتصديق وعده، وإهانة عدوه، وأن المخلوقات كلها جليلها وحقيرها مسخرة لقدرة الله تعالى.
وجيء بلفظ {قَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ليدل على أن إيمانهم متمكن منهم ومن مقومات قوميتهم كما تقدم في قوله {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في [سورة البقرة: 164]. فلذلك آيات على عظيم عناية الله تعالى برسله فصدق أهل الإيمان في مختلف العصور. ففي قوله {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} تعريض بأن تلك الآيات لم يصدق بها قوم إبراهيم لشدة مكابرتهم وكون الإيمان لا يخالط عقولهم.
[25] {وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}
يجوز أن تكون مقالته هذه سابقة على إلقائه في النار وأن تكون بعد أن أنجاه الله من النار. والأظهر من ترتيب الكلام أنها كانت بعد أن أنجاه الله من النار، أراد به إعلان مكابرتهن الحق وإصرارهم على عبادة الأوثان بعد وضوح الحجة عليهم بمعجزة سلامته من حرق النار. وتقدم ذكر الأوثان قريبا.
ومحط القصر بـ {إِنَّمَا} هو المفعول لأجله؛ أما قصر المعبودات من دون الله على
كونها أوثانا فقد سبق في قوله {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً} [العنكبوت: 17] أي ما اتخذتم أوثانا إلا لأجل مودة بعضكم بعضا. ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضا الداعية لإباية المخالفة. والمودة: المحبة والإلف، ويتعين أن يكون ضمير {بَيْنِكُمْ } شاملا للأوثان.
والمودة: المحبة. فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضا فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعال {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: 165].
قال الفخر: أي مودة بين الأوثان وعبدتها فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة بل يحصل ما فيه لذة جسمه. فهم كانوا قليلي العقول فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ورأوا تلك الأصنام مزينة بألوان وجواهر فأحبوها.
وفعل {اتَّخَذْتُمُ} مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف {مَوَدَّةَ} منصوبا منونا بدون إضافة، و {بَيْنِكُمْ} منصوبا على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب {مَوَدَّةَ} منصوبا غير منون بل مضافا إلى {بَيْنِكُمْ} ، و {بَيْنِكُمْ} مجرور أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعا مضافا على أن تكون (ما) في {إِنَّمَا} موصولة وحقها أن تكتب مفصولة، و {مَوَدَّةَ} خبر {إِنَّ} تكون كتابة {إِنَّمَا} متصلة من قبيل الرسم غير القياسي فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخبارا مجازيا عقليا باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة. ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده ب {إِنَّ} فيقوم التأكيدان مقام الحصر إذ ليس الحصر إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه.
والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} . ونظيره جملة صلة الموصول في
قول عبدة بن الطيب1:
إن الذين ترونهم إخوانكم ... يشفي غليل صدورهم أن تصرعوا
ولما كان في قوله {مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} شائبة ثبوت منفعة لهم في عبادة الأوثان إذ يكتسبون بذلك مودة بينهم تلذ لنفوسهم قرنه بقوله {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} الخ تنبيها لسوء عاقبة هذه المودة وإزالة للغرور والغفلة، ليعلموا أن اللذات العاجلة لا عبرة بها إن كانت تعقب ندامة آجلة.
ومعنى {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} أن المخاطبين يكفرون بالأصنام التي كانوا يعبدونها إذ يجحدون يوم القيامة أنهم كانوا يعبدونها.
وهذه مجاز تلحق بعضهم من بعض، ثم ذكر ما يعمهم من عذاب الخزي بقوله {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ} .
ثم ذكر ما يعمهم جميعا من انعدام النصير فقال {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} فنفى عنهم جنس الناصر. وهو من يزيل عنهم ذلك الخزي. وجيء في نفي الناصر بصيغة الجمع هنا خلافا لقوله آنفا {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [العنكبوت: 22] لأنهم لما تألبوا على إبراهيم وتجمعوا لنضرة أصنامهم كان جزائهم حرمانهم من النصراء مطابقة بين الجزاء والحالة التي جوزوا عليها. على أن المفرد والجمع في حيز النفي سواء في إفادة نفي كل فرد من الجنس.
[26] { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}
جملة معترضة بين الإخبار عن إبراهيم اعتراض التفريع، وأفادت الفاء مبادرة لوط
ـــــــ
1 الطبيب لقب أبي عبدة واسمه يزيد بن عمرو. وتب في أكثر النسخ من كتب الأدب مخطوطه ومطبوعها: الطبيب بموحدتين بينهما وفي قليل من كتب الأدب بتحتية بعد الطاء ولم أقف على من حقق ضبطه بوجه لا التباس فيه.
بتصديق إبراهيم. والاقتصار على ذكر لوط يدل على أنه لم يؤمن به إلا لوط لأنه الرجل الفرد الذي آمن به وأما امرأة إبراهيم وامرأة لوط فلا يشملهما اسم القوم في قوله تعالى {وإبراهيم إذ قال لقومه} الآية لأن القوم خاص برجال القبيلة قال زهير:
أقوم آل حصن أم نساء
وفي التوراة أنه كانت معه زوجه (سارة) وزوج لوط واسمها (ملكة). ولوط هو ابن (هارون) أخي إبراهيم، فلوط يومئذ من أمة إبراهيم عليهما السلام.
[26] {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
عطف على جملة {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} [العنكبوت: 24].
فضمير {قَالَ} عائد إلى إبراهيم، أي أعلن أنه مهاجر ديار قومه وذلك لأن الله أمره بمفارقة أهل الكفر.
وهذه أول هجرة لأجل الدين ولذلك جعلها هجرة إلى ربه. والمهاجرة مفاعلة من الهجر: وهو ترك شيء كان ملازما له، والمفاعلة للمبالغة أو لأن الذي يهجر قومه يكونون هم قد هجروه أيضا.
وحرف {إِلَى} في قوله {إِلَى رَبِّي} للانتهاء المجازي إذ جعل هجرته إلى الأرض التي أمره الله بأن يهاجر إليها كأنها هجرة إلى ذات الله تعالى فتكون {إِلَى} تخييلا لاستعارة مكنية؛ أو جعل هجرته من المكان الذي لا يعبد أهله الله لطلب مكان ليس فيه مشركون بالله كأنه هجرة إلى الله، فتكون {إِلَى} على هذا الوجه مستعارة لمعنى لام التعليل استعارة تبعية.
ورشحت هذه الاستعارة على كلا الوجهين بقوله {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . وهي جملة واقعة موقع التعليل لمضمون {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}، لأن من كان عزيزا يعتز به جاره ونزيله.
وإتباع وصف {الْعَزِيزُ} بـ {الْحَكِيمُ} لإفادة أن عزته محكمة واقعة موقعها المحمود عند العقلاء مثل نصر المظلوم، ونصر الداعي إلى الحق، ويجوز أن يكون {الْحَكِيمُ} بمعنى الحاكم فيكون زيادة تأكيد معنى {الْعَزِيزُ} .
وقد مضت قصة إبراهيم وقومه وبلادهم مفصلة في سورة الأنبياء.
[27] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ
فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ}
هذا الكلام عقبت به قصة إبراهيم تبيانا لفضله إذ لا علاقة له بالقصة. والظاهر أن يكون المراد بـ {وهبنا، وجعلنا} الإعلام بذلك فيكون من تمام القصة كما في سورة هود. وتقدم نظير هذه الآية في الأنعام في ذكر فضائل إبراهيم. والكتاب مراد به الجنس فالتوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن كتب نزلت في ذرية إبراهيم.
[27] {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ}
جمع الله له أجرين: أجرا في الدنيا بنصره على أعدائه وبحسن السمعة وبث التوحيد ووفرة النسل، وأجرا في الآخرة وهو كونه في زمرة الصالحين، والتعريف للكمال، أي من كمل الصالحين.
[28-30] {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}
الانتقال من رسالة إبراهيم إلى قومه إلى رسالة لوط لمناسبة أنه شابه إبراهيم في أن أنجاه الله من عذاب الرجز. والقول في صدر هذه الآية كالقول في آية {وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} المتقدم آنفا. وتقدم نظيرها في سورة النمل وفي سورة الشعراء.
وما بين الآيات من تفاوت هو تفنن في حكاية القصة للغرض الذي ذكرته في المقدمة السابعة، إلا قوله هنا {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} فإنه لم يقع له نظير فيما مضى.
وقوم لوط من الكنعانيين وتقدم ذكرهم في سورة الأعراف.
وتوكيد الجملة بـ(إن) واللام توكيد لتعلق النسبة بالمفعول لا تأكيد للنسبة، فالمقصود
تحقيق أن الذي يفعلونه فاحشة، أي عمل قبيح بالغ الغاية في القبح، لأن الفحش بلوغ الغاية في شيء قبيح لأنهم كانوا غير شاعرين بشناعة عملهم وقبحه.
وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وأبو جعفر {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} بهمزة واحدة على الإخبار المستعمل في التوبيخ. وقرأه أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم ويعقوب وخلف بهمزتين: همزة الاستفهام وهمزة (إن). وقرأ الجميع {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} بهمزتين. وفي الكشاف: قال أبو عبيد وجدت الأول {أي إنكم لتأتون الفاحشة} في الإمام بحرف واحد بغير ياء، أي بغير الياء التي تكتب الهمزة المكسورة على صورتها ورأيت الثاني (أي {أينكم لتأتون الرجال} ) بحرفي الياء والنون اه. يعني الياء بعد همزة الاستفهام والنون نون إن . ولعله يعني بالإمام مصحف البصرة أو الكوفة فتكون قراءة قرائهما رواية مخالفة لصورة الرسم.
وجملة {أينكم لتأتون الرجال} الخ بدل اشتمال من مضمون جملة {لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} ، باعتبار ما عطف على جملة {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ} من قوله {وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ} الخ لأن قطع السبيل وإتيان المنكر في ناديهم مما يشتمل عليه إتيان الفاحشة.
وأدخل استفهام الإنكار على جميع التفصيل وأعيد حرف التأكيد لتتطابق جملة البدل مع الجملة المبدل منها لأنها الجزء الأول من هذه الجملة المبدلة عند قطع النظر عما عطف عليها تكون من الجملة المبدل منها بمنزلة البدل المطابق.
وقطع السبيل: قطع الطريق، أي التصدي للمارين فيه بأخذ أموالهم أو قتل أنفسهم أو إكراههم على الفاحشة. وكان قوم لوط يقعدون بالطرق ليأخذوا من المارة من يختارونه.
فقطع السبيل فساد في ذاته وهو أفسد في هذا المقصد. وأما إتيان المنكر في ناديهم فإنهم جعلوا ناديهم للحديث في ذكر هذه الفاحشة والاستعداد لها ومقدماتها كالتغازل برمي الحصى اقتراعا بينهم على من يرمونه، والتظاهر بتزيين الفاحشة زيادة في فسادها وقبحها لأنه معين على نبذ التستر منها ومعين على شيوعها في الناس.
وفي قوله {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} تشديد في الإنكار عليهم في أنهم الذين سنوا هذه الفاحشة السيئة للناس وكانت لا تخطر لأحد ببال، وإن كثيرا من المفاسد تكون الناس في غفلة عن ارتكابها لعدم الاعتياد بها حتى إذا أقدم أحد على فعلها وشوهد
ذلك منه تنبهت الأذهان إليها وتعلقت الشهوات بها.
والنادي: المكان الذي ينتدي فيه الناس، أي يجتمعون نهارا للمحادثة والمشاورة وهو مشتق من الندو بوزن العفو وهو الاجتماع نهارا. وأما مكان الاجتماع ليلا فهو السامر، ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يسم ناديا.
[29-30] {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ}
الكلام فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا في قوله {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ} [العنكبوت: 24] الآية، والأمر في {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} للتعجيز وهو يقتضي أنه أنذرهم العذاب في أثناء دعوته. ولم يتقدم ذكر ذلك في قصة لوط فيما مضى لكن الإنذار من شؤون دعوة الرسل.
وأراد بالنصر عقاب المكذبين ليريهم صدق ما أبلغهم من رسالة الله.
ووصفهم بـ {الْمُفْسِدِينَ} لأنهم يفسدون أنفسهم بشناعات أعمالهم ويفسدون الناس بحملهم على الفواحش وتدريبهم بها، وفي هذا الوصف تمهيد للإجابة بالنصر لأن الله لا يحب المفسدين.
[31-32] {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}
{لَمَّا} أداة تدل على التوقيت، والأصل أنها ظرف ملازم الإضافة إلى جملة. ومدلولها وجود لوجود، أي وجود مضمون الجملة التي تضاف إليها عند وجود الجملة التي تتعلق بها فهي تستلزم جملتين: أولاهما فعلية ماضوية وتضاف إليها {لَمَّا} ، والثانية فعلية أو اسمية مشتملة على ما يصلح لأن يتعلق به الظرف من فعل أو اسم مشتق، ويطلق على الجملة الثانية الواقعة بعد {لَمَّا} اسم الجزاء تسامحا.
ولما كانت {لَمَّا} ظرفا مبهما تعين أن يكون مضمون الجملة التي تضاف إليها {لَمَّا} معلوما للسامع، إذ التوقيت الإعلام بمقارنة زمن مجهول بزمن معلوم. فوجود {لَمَّا} هنا يقتضي أن مجيء الملائكة بالبشرى أمر معلوم للسامع مع أنه لم يتقدم ذكر
للبشرى، فتعين أن يكون التعريف في البشرى تعريف العهد لاقتضاء {لَمَّا} أن تكون معلومة، فالبشرى هي ما دل عليه قوله تعالى آنفا {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] كما تقدم بيانه.
والبشرى: اسم للبشارة وهي الإخبار بما فيه مسرة للمخبر-بفتح الباء-وتقدم ذكر البشارة عند قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً} في [سورة البقرة: 119].
ومن لطف الله بإبراهيم أن قدم له البشرى قبل إعلامه بإهلاك قوم لوط لعلمه تعالى بحلم إبراهيم. والمعنى: قالوا لإبراهيم إنا مهلكو أهل هذه القرية الخ.
والقرية هي (سدوم) قرية قوم لوط. وقد تقدم ذكرها في سورة الأعراف.
وجملة {إن أهلها كانوا ظالمين} تعليل للإهلاك وقصد به استئناس إبراهيم لقبول هذا الخبر المحزن، وأيضا لأن العدل يقتضي أن لا يكون العقاب إلا على ذنب يقتضيه.
والظلم: ظلمهم أنفسهم بالكفر والفواحش، وظلمهم الناس بالغصب على الفواحش والتدرب بها.
وقوله {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} خبر مستعمل في التذكير بسنة الله مع رسله من الإنجاء من العذاب الذي يحل بأقوامهم. فهو من التعريض للملائكة بتخصيص لوط ممن شملتهم القرية في حكم الإهلاك، ولوط وإن لم يكن من أهل القرية بالأصالة إلا أن كونه بينهم يقتضي الخشية عليه من أن يشمله الإهلاك. ولهذا قال {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} بحرف الظرفية ولم يقل: إن منها.
وجواب الملائكة إبراهيم بأنهم أعلم بمن فيها يريدون أنهم أعلم منه بأحوال من في القرية، فهو جواب عما اقتضاه تعريضه بالتذكير بإنجاء لوط، أي نحن أعلم منك باستحقاق لوط النجاة عند الله، واستحقاق غيره العذاب فإن الملائكة لا يسبقون الله بالقول وهم بأمره يعملون وكان جوابهم مطمئنا إبراهيم. فالمراد من علمهم بمن في القرية علمهم باختلاف أحوال أهلها المرتب عليها استحقاق العذاب، أو الكرامة بالنجاة.
وإنما كان الملائكة أعلم من إبراهيم بذلك لأن علمهم سابق على علمه ولأنه علم يقين ملقى من وحي الله فيما سخر له أولئك الملائكة إذ كان إبراهيم لم يوح الله إليه بشيء في ذلك، ولأنه علم تفصيلي لا إجمالي، وعمومي لا خصوصي. فلأجل هذا الأخير أجابوا بـ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} . ولم يقولوا: نحن أعلم بلوط، وكونهم أعلم من إبراهيم
في هذا الشأن لا يقتضي أنهم علم من إبراهيم في غيره فإن لإبراهيم علم النبوة والشريعة وسياسة الأمة، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يشتغلون بغير ذلك إلا متى سخرهم الله لعمل. وبالأولى لا يقتضي كونهم أعلم بهذا منه أن يكونوا أفضل من إبراهيم، فإن قول أهل الحق إن الرسل أفضل من الملائكة، والمزية لا تقتضي الأفضلية، ولكل فريق علم أطلعه الله عليه وخصه به كما خص الخضر بما لم يعلمه موسى، وخص موسى بما لا يعلمه الخضر، ولذلك عتب الله على موسى لما سئل: هل يوجد أعلم منك? فقال: لا، لأنه كان حق الجواب أن يفكك في أنواع العلم.
وجملة {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} بيان لجملة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا} فلذلك لم تعطف عليها وفصلت، فقد علموا بإذن الله أن لا ينجو إلا لوط وأهله، أي بنتاه لا غير ويهلك الباقون حتى امرأة لوط.
وفعل {كَانَتْ} مستعمل في معنى تكون، فعبر بصيغة الماضي تشبيها للفعل المحقق وقوعه بالفعل الذي مضى مثل قوله {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1]، ويجوز أن يكون مرادا به الكون في علم الله وتقديره، كما في آية [النمل: 57] {قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ} فتكون صيغة الماضي حقيقة.
وتقدم الكلام على نظير قوله {إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} في سورة النمل.
[33] {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ}
قد أشعر قوله {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} [العنكبوت: 31] أن الملائكة يحلون بالقرية واقتضى ذلك أن يخبروا لوطا بحلولهم بالقرية، وأنهم مرسلون من عند الله استجابة لطلب لوط النصر على قومه، فكان هذا المجيء مقدرا حصوله، فمن ثم جعل شرطا لحرف {لَمَّا} كما تقدم آنفا في قوله {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى} .
و {أَنَّ} حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد {لَمَّا} وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد {لَمَّا} ، فهي لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم. ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيها على أن الإشاء عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم فلم يكون لوط عالما بأنهم ملائكة لأنهم جاءوا في صورة رجال فأريد هنا
التنبيه على أن ما حدث به من المساءة وضيق الذرع كان قبل أن يعلم بأنهم ملائكة جاءوا لإهلاك أهل القرية وقبل أن يقولوا {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} .
ولم تقع {أَنَّ} المؤكدة في آية سورة هود لأن في تلك السورة تفصيلا لسبب إساءته وضيق ذرعه فكان ذلك مغنيا عن التنبيه عليه في هذه الآية فكان التأكيد هنا ضربا من الإطناب. وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة هود وتفسيرها هناك.
وبناء فعل {سِيءَ} للمجهول لأن المقصود حصول المفعول دون فاعله.
وعطف عليه جملة {وَقَالُوا لا تَخَفْ} لأنها من جملة ما وقع عقب مجيء الرسل لوطا. وقد طويت جمل دل عليها قوله {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ} وهي الجمل التي ذكرت معانيها في قوله {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} إلى قوله {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} في [سورة هود: 81]. وقدموا تأمينه قبل إعلامه بأنهم منزلون العذاب على أهل القرية تعجيلا بتطمينه.
وعطف {وَلا تَحْزَنْ} على {لا تَخَفْ} جمع بين تأمينه من ضر العذاب وبين إعلامه بأن الذين سيهلكون ليسوا أهلا لأن يحزن عليهم، ومن أولئك امرأته لأنه لا يحزن على من ليس بمؤمن به.
وجملة {إِنَّا مُنَجُّوكَ} تعليل للنهي عن الأمرين.
واستثناء امرأته من عموم أهله استثناء من التعليل لا من النهي، ففي ذلك معذرة له بما عسى أن يحصل له من الحزن على هلاك امرأته مع أنه كان يحسبها مخلصة له، وقد بينا وجه ذلك في تفسير سورة هود.
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {مُنَجُّوكَ} بسكون النون. وقرأ الباقون بفتح النون وتشديد الجيم.
[34] {إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ}
جملة مستأنفة وقعت بيانا لما في جملة {لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ} [العنكبوت:33] من الإيذان بأن ثمة حادثا يخاف منه ويحزن له.
والرجز: العذاب المؤلم. ومعنى كونه من السماء أنه أنزل عليهم من الأفق وقد
مضى بيانه في سورة هود.
[35] {وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
عطف على جملة {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} الخ عطف آية على آية لأن قصة لوط آية بما تضمنته من الخبر، وآثار قرية قومه آية أخرى بما يمكن مشاهدته لأهل البصر. ويجوز أن تكون جملة معترضة في آخر القصة. وعلى كلا الوجهين فهو من كلام الله. ونون المتكلم المعظم ضمير الجلالة وليست ضمير الملائكة. والآية: العلامة الدالة على أمر.
ومفعول {تَرَكْنَا} يجوز أن يكون {آيَةً} فيجعل (من) حرف جر وهو مجرور وصفا لـ {آيَةً} قدم على موصوفه للاهتمام فيجعل حالا من { آيَةً } .
ويجوز أن تكون (من) للابتداء، أي تركنا صادرة من آثارها ومعرفة خبرها، وهي آية واضحة دائمة على طول الزمان إلى الآن ولذلك وصفت بـ {بَيِّنَةً} ، ولم توصف آية السفينة بـ {بَيِّنَةً} في قوله {وجعلناها آية للعالمين} ، لأن السفينة قد بليت ألواحها وحديدها أو بقي منها لا يظهر إلا بعد تفتيش إن كان.
ويجوز جعل (من) اسما بمعنى بعض على رأي من رأى ذلك من المحققين، فتكون (من) مفعولا مضافا إلى ضمير (قرية). وتقدم بيان ذلك عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} الآية في [سورة البقرة: 8]. والمعنى: ولقد تركنا من القرية آثارا دالة لقوم يستعملون عقولهم في الاستدلال بالآثار على أحوال أهلها. وهذه العلامة هي بقايا قريتهم مغمورة بماء بحيرة لوط تلوح من تحت المياه شواهد القرية، وبقايا لون الكبريت والمعدن التي رجمت بها قريتهم وفي ذلك عدة أدلة باختلاف مدارك المستدلين.
ويتعلق قوله {لقوم يعقلون} بقوله {تَرَكْنَا} ، أو يجعل ظرفا مستقرا صفة لـ {آيَةً} .
[36] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
عطف على {وَلُوطاً} [العنكبوت: 28] المعطوف على {نُوحاً} [العنكبوت: 14] المعمول لـ {أَرْسَلْنَا} [العنكبوت: 14]. فالتقدير: وأرسلنا إلى مدين أخاهم شعيباً.
والمناسبة في الانتقال من قصة لوط وقومه إلى قصة مدين ورسولهم أن مدين
كان من أبناء إبراهيم وأن الله أنجاه من العذاب كما أنجى لوطا.
وتقديم المجرور في قوله {إِلَى مَدْيَنَ} ليتأتى الإيجاز في وصف شعيب بأنه أخوهم لأن هذا الوصف غير موجود في نوح وإبراهيم ولوط. وتقدم معنى كونه أخا لهم في سورة هود.
وقوله {فَقَالَ} عطف على الفعل المقدر، أي أرسلناه فعقب إرساله بأن قال.
والرجاء: الترقب واعتقاد الوقوع في المستقبل. وأمره إياهم بترقب اليوم الآخر دل على أنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث وتقدم الكلام على نظير قوله {تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} عند قوله تعالى {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} في [سورة البقرة: 60]. وتقدمت قصة شعيب في سورة هود.
[37] {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ}
الأخذ: الإعدام والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع الإزالة.
والرجفة: الزلزال الشديد الذي ترتجف منه الأرض، وفي سورة هود سميت بالصيحة لأن لتلك الرجفة صوتا شديدا كالصيحة. وتقدم تفسير ذلك.
وقد أشير في قصة إبراهيم ولوط إلى ما له تعلق بالغرض المسوق فيه، وهو المصابرة على إبلاغ الرسالة، والصبر على أذى الكافرين، ونصر الله إياهم، وتعذيب الكافرين وإنجاء المؤمنين.
[38] {وَعَاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}
لما جرى ذكر أهل مدين وقوم لوط أكملت القصص بالإشارة إلى عاد وثمود إذ قد عرف القرآن اقتران هذه الأمم في نسق القصص.
والواو عاطفة قصة على قصة.
وانتصاب {عَاداً} يجوز أن يكون بفعل مقدر يدل عليه السياق، تقديره: وأهلكنا عادا، لأن قوله تعالى آنفا {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [العنكبوت: 37] يدل على معنى الإهلاك، قاله الزجاج وتبعه الزمخشري. ومعلوم أنه إهلاك خاص من بطش الله تعالى، فظهر تقدير: وأهلكنا عادا.
ويجوز أن يقدر فعل (واذكر) كما هو ظاهر ومقدر في كثير من قصص القرآن.
ويجوز أن يكون معطوفا على ضمير {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ} [العنكبوت: 37] والتقدير: وأخذت عادا وثمودا. وعن الكسائي أنه منصوب بالعطف على {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} من قوله تعالى{ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3]. وهذا بعيد لطول بعد المعطوف عليه. والأظهر أن نجعله منصوبا بفعل تقديره (وأخذنا) يفسره قوله {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40] لأن (كلا) اسم يعم المذكورين فلما جاء منتصبا بـ {أَخَذْنَا} تعين أن ما قبله منصوب بمثله وتنوين العوض الذي لحق (كلا) هو الرابط وأصل نسج الكلام: وعادا وثمودا وقارون وفرعون الخ... كلهم أخذنا بذنبه.
وجملة {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} في موضع الحال أو هي معترضة. والمعنى: تبين لكم من مشاهدة مساكنهم أنهم كانوا فيها فأهلكوا عن بكرة أبيهم.
ومساكن عاد وثمود معروفة عند العرب ومنقولة بينهم أخبارها وأحوالها ويمرون عليها في أسفارهم إلى اليمن وإلى الشام.
والضمير المستتر في {تَبَيَّنَ} عائد على المصدر المأخوذ من الفعل المقدر، أي يتبين لكم إهلاكهم أو أخذنا إياهم.
وجملة { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} معطوفة على جملة {وَعَاداً وَثَمُودَ} .
والتزيين: التحسين. والمراد: زين لهم أعمالهم الشنيعة فأوهمهم بوسوسته أنها حسنة. وقد تقدم عند قوله تعالى {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} في [سورة الأنعام: 108].
والصد: المنع عن عمل. والسبيل: هنا ما يوصل إلى المطلوب الحق وهو السعادة الدائمة، فإن الشيطان بتسويله لهم كفرهم قد حرمهم من السعادة الأخروية فكأنه منعهم من سلوك طريق يبلغهم إلى المقر النافع.
والاستبصار: البصارة بالأمور، والسين والتاء للتأكيد مثل: استجاب واستمسك واستكبر. والمعنى: أنهم كانوا أهل بصائر، أي عقول فلا عذر لهم في صدهم عن السبيل. وفي هذه الجملة اقتضاء أن ضلال عاد كان ضلالا ناشئا عن فساد اعتقادهم وكفرهم المتأصل فيهم والموروث عن آبائهم وأنهم لم ينجوا من عذاب الله لأنهم كانوا يستطيعون النظر في دلائل الوحدانية وصدق رسلهم.
[39] {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ}
كما ضرب الله المثل لقريش بالأمم التي كذبت رسلها فانتقم الله منها، كذلك ضرب المثل لصناديد قريش مثل أبي جهل، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، وأبي لهب، بصناديد بعض الأمم السالفة كانوا سبب مصاب أنفسهم ومصاب قومهم الذين اتبعوهم، إنذارا لقريش بما عسى أن يصيبهم من جراء تغرير قادتهم بهم وإلقائهم في خطر سوء العاقبة. وهؤلاء الثلاثة جاءهم موسى بالبينات. وتقدمت قصصهم وقصة قارون في سورة القصص.
فأما ما جاء به موسى من البينات لفرعون وهامان فهي المعجزات التي تحداهم بها على صدقه فأعرض فرعون عنها وأتبعه هامان وقومه. وأما ما جاء به موسى لقارون فنهيه عن البطر.
وأومأ قوله تعالى {فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ} إلى أنهم كفروا عن عناد وكبرياء لا عن جهل وغلواء كما قال تعالى {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} فكان حالهم كحال صناديد قريش الذين لا يظن أن فطنتهم لم تبلغ بهم إلى تحقق أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صدق وأن ما جاء به القرآن حق ولكن غلبت الأنفة. وموقع جملة {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى} كموقع جملة {وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ} [العنكبوت: 38].
والاستكبار: شدة الكبر، فالسين والتاء للتأكيد كقوله {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} .
وتعليق قوله {فِي الْأَرْضِ} بـ {اسْتَكْبَرُوا} للإشعار بأن استكبار كل منهم كان في جميع البلاد التي هو منها، فيومئ ذلك أن كل واحد من هؤلاء كان سيدا مطاعا في الأرض.
فالتعريف في {الْأَرْضِ} للعهد، فيصح أن يكون المعهود هو أرض كل منهم، أو أن يكون المعهود الكرة الأرضية مبالغة في انتشار استكبار كل منهم في البلاد حتى كأنه يعم الدنيا كلها.
ومعنى السبق في قوله {وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} الانفلات من تصريف الحكم فيهم. وقد
تقدم في قوله تعالى {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُوا} في [سورة الأنفال: 59]، فالواو للحال، أي استكبروا في حال انهم لم يفدهم استكبارهم.
وإقحام فعل الكون بعد النفي لأن المنفي هو ما حسبوه نتيجة استكبارهم، أي أنهم لا ينالهم أحد لعظمتهم. ومثل هذا الحال مثل أبي جهل حين قتله ابنا عفراء يوم بدر فقال له عبد الله بن مسعود حين وجده محتضرا: أنت أبو جهل? فقال: وهل أعمد من رجل قتلتموه لو غير أكار قتلني أي زراع يعني رجلا من الأنصار لأن الأنصار أهل حرث وزرع .
[40] {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
أفادت الفاء التفريع على الكلام السابق لما اشتمل عليه من أن الشيطان زين لهم أعمالهم ومن استكبار الآخرين، أي فكان من عاقبة ذلك أن أخذهم الله بذنوبهم العظيمة الناشئة عن تزيين الشيطان لهم أعمالهم وعن استكبارهم في الأرض، وليس المفرع هو أخذ الله إياهم بذنوبهم لأن ذلك قد أشعر به ما قبل التفريع، ولكنه ذكر ليفضى بذكره إلى تفصيل أنواع أخذهم وهو قوله {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً} إلى آخره، فالفاء في قوله {فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ} الخ لتفريع ذلك التفصيل على الإجمال الذي تقدمه فتحصل خصوصية الإجمال ثم التفصيل، وللدلالة على عظيم تصرف الله.
فأما الذين أرسل عليهم حاصب فهم عاد. والحاصب: الريح الشديدة، سميت حاصبا لأنها تقلع الحصباء من الأرض. قال أبو وجرة السعدي:
صببت عليكم حاصبي فتركتكم ... كأصرام عاد حين جللها الرمد
فجعل الحاصب مما أصاب عادا. وليس المراد بهم قوم لوط كالذي في قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ} [القمر: 34وط مر آنفا الكلام على عذابهم مفصلا فلا يدخلون في هذا الإجمال.
والذين أخذتهم الصيحة هم ثمود. والذين خسفت بهم الأرض هو قارون وأهله. وقد تقدم ذكر الخسف في سورة القصص [81-82] والذين أغرقهم: فرعون وهامان ومن
معهما من قومهما. وقد جاء هذا على طريقة النشر على ترتيب اللف.
والأخذ: الإتلاف والإهلاك؛ شبه الإعدام بالأخذ بجامع إزالة الشيء من مكانه فاستعير له فعل {أَخَذْنَا} . وقد نفي عن الله تعالى ظلم هؤلاء لأن إيلامهم كان جزاء على أعمالهم وكل ما كان من نوع الجزاء يوصف بالعدل وقد نفى الله عن نفسه الوصف بالظلم فوجب الإيمان به سمعا لا عقلا في مقام الجزاء، وأما في مقام التكوين فلا. وظلمهم أنفسهم هو تسببهم في عذاب أنفسهم فجروا إليها العقاب لأن النفس أولى الأشياء برأفة صاحبها بها وتفكيره في أسباب خيرها.
والاستدراك ناشئ عن نفي الظلم عن الله في عقابهم لأنه يتوهم منه انتفاء موجب العقاب فالاستدراك لرفع هذا التوهم.
[41] {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}
لما بينت لهم الأشباه والأمثال من الأمم التي اتخذت الأصنام من دون الله فما أغنت عنهم أصنامهم لما جاءهم عذاب الله أعقب ذلك بضرب المثل لحال جميع أولئك وحال من ماثلهم من مشركي قريش في اتخاذهم ما يحسبونه دافعا عنهم وهو أضعف من أن يدفع عن نفسه، بحال العنكبوت تتخذ لنفسها بيتا تحسب أنها تعتصم به من المعتدي عليها فإذا هو لا يصمد ولا يثبت لأضعف تحريك فيسقط ويتمزق. والمقصود بهذا الكلام مشركو قريش، وتعلم مساواة غيرهم لهم في ذلك بدلالة لحن الخطاب، والقرينة قوله بعده {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [العنكبوت: 42] فضمير {اتَّخَذُوا} عائد إلى معلوم من سياق الكلام وهو مشركو قريش.
وجملة {اتَّخَذَتْ بَيْتاً} حال من {الْعَنْكَبُوتِ} وهي قيد في التشبيه. وهذه الهيئة المشبه بها مع الهيئة المشبهة قابلة لتفريق التشبيه على أجزائها فالمشركون أشبهوا العنكبوت في الغرور بما أعدوه، وأولياؤهم أشبهوا بيت العنكبوت في عدم الغناء عمن اتخذوها وقت الحاجة إليها وتزول بأقل تحريك، وأقصى ما ينتفعون به منها نفع ضعيف وهو السكنى فيها وتوهم أن تدفع عنهم كما ينتفع المشركون بأوهامهم في أصنامهم. وهو تمثيل بديع من مبتكرات القرآن كما سيأتي قريبا عند قوله {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ}
في هذه السورة [43].
و {الْعَنْكَبُوتِ} : صنف من الحشرات ذات بطون وأرجل وهي ثلاثة أصناف، منها صنف يسمى ليث العناكب وهو الذي يفترس الذباب، وكلها تتخذ لأنفسها نسيجا تنسجه من لعابها يكون خيوطا مشدودة بين طرفين من الشجر أو الجدران، وتتخذ في وسط تلك الخيوط جانبا أغلظ وأكثر اتصال خيوط تحتجب فيه وتفرخ فيه. وسمي بيتا لشبهه بالخيمة في أنه منسوج ومشدود من أطرافه فهو كبيت الشعر.
وجملة {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} معترضة مبينة وجه الشبه، وهذه الجملة تجري مجرى المثل فيضرب لقلة جدوى شيء فاقتضى ذلك أن الأديان التي يعبد أهلها غير الله هي أحقر الديانات وأبعدها عن الخير والرشد وإن كانت متفاوتة فيما يعرض لتلك العبادات من الضلالات كما تتفاوت بيوت العنكبوت في غلظها بحسب تفاوت الدويبات التي تنسجها في القوة والضعف.
وجملة {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} متصلة بجملة {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ} لا بجملة {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} . فتقدير جواب {لَوْ} هكذا: لو كانوا يعلمون أن ذلك مثلهم، أي ولكنهم لا يعلمون انعدام غناء ما اتخذوه عنهم. وأما أوهنية بيت العنكبوت فلا يجهلها أحد.
[42] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
لما نفى عنهم العلم بما تضمنه التمثيل من حقارة أصنامهم التي يعبدونها وقلة جدواها بقوله {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 41] المفيد أنهم لا يعلمون، أعقبه بإعلامهم بعلمه بدقائق أحوال تلك الأصنام على اختلافها واختلاف معتقدات القبائل التي عبدتها، وأن من آثار علمه بها ضرب ذلك المثل لحال من عبدوها وحالها أيضا دفعا بهم إلى أن يتهموا عقولهم وأن عليهم النظر في حقائق الأشياء تعريضا بقصور علمهم كقوله تعالى {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216]، فهذا توقيف لهم على تفريطهم في علم حقائق الأمور التي علمها الله وأبلغهم دلائلها النظرية ونظائرها التاريخية، وقربها إليهم بالتمثيلات الحسية فعموا وصموا عن هذا وذاك.
و {مَا} من قوله {مَا تَدْعُونَ} يجوز أن تكون نافية معلقة فعل {يَعْلَمُ} عن العمل،
وتكون {مِنْ} زائدة لتوكيد النفي، ومجرورها مفعول في المعنى لـ {تَدْعُونَ} ظهرت عليه حركة حرف الجر الزائد. ومعنى الكلام: أن الله يعلم أنكم لا تدعون موجودا ولكنكم تدعون أمورا عدمية، ففيه تحقير لأصنامهم بجعلها كالعدم لأنها خلو عن جميع الصفات اللائقة بالإلهية. فهي في بابها كالعدم فلما شابهت المعدومات في انتفاء الفائدة المزعومة لها استعمل لها التركيب الدال على نفي الوجود على طريقة التمثيلية. ولا يتوهم السامع أن المراد نفي أن يكونوا قد دعوا أولياء من دون الله، لأن سياق الكلام سابقه ولاحقه يأباه وهذا كقوله تعالى {لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} في [سورة البقرة: 113]، و {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} في سورة المائدة[68] وكقوله النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الكهان "إنهم ليسوا بشيء" أي ليسوا بشيء فيما يدعونه من معرفة الغيب.
وحاصل المعنى: أن من علمه تعالى بأنها موجودات كالعدم ضرب لها مثلا ببيت العنكبوت ولعبدتها مثلا بالعنكبوت الذي اتخذها، وعلى هذا الوجه فالكلام صريح في إبطال إلهية الأصنام وفي أنها كالعدم.
ويجوز أن تكون {مَا} استفهامية معلقة فعل {يعلم} عن العمل من باب قولهم: علمت هل زيد قائم، أي علمت جوابه. و {مِنْ} بيانية لما في {مَا} الاستفهامية من الإبهام، أي من شيء من المدعوات العديدة في الأمم. ففيه تعريض بأن المشركين لا يعلمون جواب سؤال السائل {مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، أي قد علم الله ذلك، ومن علمه بذلك أنه ضرب لهم المثل بالعنكبوت اتخذت بيتا، وللمعبودات مثلا ببيت العنكبوت، وأنتم لو سئلتم: ما تدعون من دون الله، لتلعثمتم ولم تحيروا جوابا؛ فإن شأن العقائد الباطلة والأفهام السقيمة أن لا يستطيع صاحبها بيانها بالقول وشرحها، لأنها لما كانت تتألف من تصديقات غير متلائمة لا يستطيع صاحبها تقريرها فلا يلبث قليلا حتى يفتضح فاسد معتقده من تعذر إفصاحه عنه.
وجعل بعض المفسرين {يَعْلَمُ} هنا متعديا إلى مفعول واحد وأنه بمعنى (يعرف) وجعل {مَا} موصولة مفعول {يَدْعُونَ} والعائد محذوفا، ويعكر عليه أن إسناد العلم بمعنى المعرفة وهو المتعدي إلى مفعول واحد إلى الله يؤول إلى إسناد فعل المعرفة إلى الله بناء على إثبات الفرق بين فعل (علم) وفعل (عرف) عند من فسر المعرفة بإدراك الشيء بواسطة آثاره وخصائصه المحسوسة، وأنها أضعف من العلم لأن العلم شاع في معرفة حقائق الأشياء ونسبها.
وعن الخليل بن أحمد1 العلم معرفتان مجتمعتان، ففي قولك: عرفت زيدا قائما، يكون (قائما) حالا من (زيدا)، وفي قولك: علمت زيدا قائما، يكون (قائما) مفعولا ثانيا لـ(لعلمت) اهـ. يريد أن فعل (عرف) يدل على إدراك واحد وهو إدراك الذات، وفعل (علم) يدل على إدراكين هما إدراك الذات وإدراك ثبوت حكم لها، على نحو ما قاله أهل المنطق في التصور والتصديق، فلذلك لم يرد في الكتاب والسنة إسناد فعل المعرفة إلى الله فكيف يسند إليه ما يؤول بمعناها.
وجملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل لجملة {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ} لأن الجملة على كلا المعنيين في معاني {مَا} تدل على أن الذي بين حقارة حال الأصنام واختلال عقول عابديها فلم يعبأ بفضحها وكشفها بما يسوءها مع وفرة أتباعها ومع أوهام أنها لا يمسها أحد بسوء إلا كانت ألبا عليه؛ فلو كان للأصنام حظ في الإلهية لما سلم من ضرها من يحقرها كقوله تعالى {قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً} [الإسراء: 42] كما تقدم، وأنه لما فضح عقول عبادها لم يخشهم على أوليائه بله ذاته، فهو عزيز لا يغلب، وحكيم لا تنطلي عليه الأوهام والسفاسط بخلاف حال هاتيك وأولئك.
وقرأ الجمهور {تَدْعُونَ} بالفوقية على طريق الالتفات. وقرأه أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالتحتية.
[43] {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}
بعد أن بين الله لهم فساد معتقدهم في الأصنام، وأعقبه بتوقيفهم على جهلهم بذلك، نعى عليهم هنا أنهم ليسوا بأهل لتفهم تلك الدلائل التي قربت إليهم بطريقة التمثيل، فاسم الإشارة يبينه الاسم المبدل منه وهو {الْأَمْثَالُ} .
والإشارة إلى حاضر في الأذهان فإن كل من سمع القرآن حصل في ذهنه بعض تلك الأمثال. واسم الإشارة للتنويه بالأمثال المضروبة في القرآن التي منها هذا المثل بالعنكبوت.
وجملة {نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ} خبر عن اسم الإشارة. وهذه الجملة الخبرية مستعملة في الامتنان والطول لأن في ضرب الأمثال تقريبا لفهم الأمور الدقيقة. قال الزمخشري:
ـــــــ
1 نقله عنه أبو بكر بن العربي في كتاب (العواصم من القواصم).
ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والغائب كالمشاهد . وقد تقدم بيان مزية ضرب الأمثال عند قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} في [سورة البقرة: 26].
ولهذا أتبعت هذه الجملة بجملة {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} . والعقل هنا بمعنى الفهم، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هزءا وسخرية، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73]، وقوله {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} [العنكبوت: 41] قالوا: ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض. وهذا من بهتانهم، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالا، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.
[44] {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ}
بعد أن بين الله تعالى عدم انتفاع المشركين بالحجة ومقدماتها ونتائجها الموصلة إلى بطلان إلهية الأصنام مستوفاة مغنية لمن يريد التأمل والتدبر في صحة مقدماتها بإنصاف نقل الكلام إلى مخاطبة المؤمنين لإفادة التنويه بشأن المؤمنين إذ انتفعوا بما هو أدق من ذلك وهو حالة النظر والفكر في دلالة الكائنات على أن خالقها هو الله، وأن لا شيء غيره حقيقا بمشاركته في إلهيتة، فأفاد أن المؤمنين قد اهتدوا إلى العلم ببطلان إلهية الأصنام خلافا للمشركين الذين لم يهتدوا بذلك. فأفهم ذلك أن من لم يعقلوها ليسوا بعالمين أخذا من مفهوم الصفة في قوله {لِلْمُؤْمِنِينَ} إذا اعتبر المعنى الوصفي من قوله {لِلْمُؤْمِنِينَ} ، أو أخذا من الاقتصار على ذكر المؤمنين في قوله {إن في ذلك لآية للمؤمنين} إذا اعتبر عنوان المؤمنين لقبا.
والاقتصار عند ذكر دليل الوحدانية على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة المفيد بأن المشركين لم ينتفعوا بذلك يشبه الاحتباك بين الآيتين. والباء في {بِالْحَقِّ} للملابسة، أي خلقهما على أحوالهما كلها بما ليس بباطل. والباطل في كل شيء لا وفاء فيه بما جعل هو له. وضد الباطل الحق، فالحق في كل
عمل هو إتقانه وحصول المراد منه، قال تعالى {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27].
والمراد بالسماوات والأرض ما يشمل ذاتهما والموجودات المظروفة فيهما. وهذا الخلق المتقن الذي لا تقصير فيه عما أريد منه هو آية على وحدانية الخالق وعلى صفات ذاته وأفعاله.
[45] {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}
بعد أن ضرب الله للناس المثل بالأمم السالفة جاء بالحجة المبينة فساد معتقد المشركين، ونوه بصحة عقائد المؤمنين بمنتهى البيان الذي ليس وراءه مطلب أقبل على رسوله بالخطاب الذي يزيد تثبيته على نشر الدعوة وملازمة الشرائع وإعلان كلمة الله بذلك، وما فيه زيادة صلاح المؤمنين الذين انتفعوا بدلائل الوحدانية. وما الرسول عليه الصلاة والسلام إلا قدوة للمؤمنين وسيدهم فأمره أمر لهم كما دل عليه التذييل بقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} بصيغة جمع المخاطبين كقوله {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}، فأمره بتلاوة القرآن إذ ما فرط فيه من شيء من الإرشاد.
وحذف متعلق فعل {اتْلُ} ليعم التلاوة على المسلمين وعلى المشركين. وهذا كقوله تعالى {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} إلى قوله {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ} 1 [النمل: 91-92].
وأمره بإقامة الصلاة لأن الصلاة عمل عظيم، وهذا الأمر يشمل الأمة فقد تكرر الأمر بإقامة الصلاة في آيات كثيرة.
وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فموقع {إِنَّ} هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجه إلى الأمة لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الفحشاء والمنكر فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سر إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى؛ فأخبر أن الصلاة تنهى عن
ـــــــ
1 في المطبوعة (فإنما يضل عليها) .
الفحشاء والمنكر، والمقصود أنها تنهى المصلي.
وإذ قد كانت حقيقة النهي غير قائمة بالصلاة تعين أن فعل {تَنْهَى} مستعمل في معنى مجازي بعلاقة أو مشابهة. والمقصود، أن الصلاة تيسر للمصلي ترك الفحشاء والمنكر. وليس المعنى أن الصلاة صارفة المصلي عن أن يرتكب الفحشاء والمنكر فإن المشاهد يخالفه إذ كم من مصل يقيم صلاته ويقترف بعض الفحشاء والمنكر.
كما أنه يصح أن يكون المراد أنها تصرف المصلي عن الفحشاء والمنكر ما دام متلبسا بأداء الصلاة لقلة جدوى هذا المعنى. فإن أكثر الأعمال يصرف المشتغل به عن الاشتغال بغيره.
وإذ كانت الآية مسوقة للتنويه بالصلاة وبيان مزيتها في الدين تعين أن يكون المراد أن الصلاة تحذر من الفحشاء والمنكر تحذيرا هو من خصائصها.
وللمفسرين طرائق في تعليل ذلك منها: ما قاله بعضهم: إن المراد به ما للصلاة من ثواب عند الله، فإن ذلك غرض آخر وليس منصبا إلى ترك الفحشاء والمنكر ولكنه من وسائل توفير الحسنات لعلها أن تغمر السيئات، فيتعين لتفسير هذه الآية تفسيرا مقبولا أن نعتبر حكمها عاما في كل صلاة فلا يختص بصلوات الأبرار، وبذلك تسقط عدة وجوه مما فسروا به الآية.
قال ابن عطية: وذلك عندي بأن المصلي إذا كان على الواجب من الخشوع والإخبات صلحت بذلك نفسه وخامرها ارتقاب الله تعالى فاطرد ذلك في أقواله وأفعاله وانتهى عن الفحشاء والمنكر اه. وفيه اعتبار قيود في الصلاة لا تناسب التعميم وإن كانت من شأن الصلاة التي يحق أن يلقنها المسلمون في ابتداء تلقينهم قواعد الإسلام.
والوجه عندي في معنى الآية: أن يحمل فعل {تَنْهَى} على المجاز الأقرب إلى الحقيقة وهو تشبيه ما تشتمل عليه الصلاة بالنهي، وتشبيه الصلاة في اشتمالها عليه بالناهي، ووجه الشبه أن الصلاة تشتمل على مذكرات بالله من أقوال وأفعال من شأنها أن تكون للمصلي كالواعظ المذكر بالله تعالى إذ ينهى سامعه عن ارتكاب ما لا يرضي الله. وهذا كما يقال: صديقك مرآة ترى فيها عيوبك. ففي الصلاة من الأقوال تكبير لله وتحميده وتسبيحه والتوجه إليه بالدعاء والاستغفار وقراءة فاتحة الكتاب المشتملة على التحميد والثناء على الله والاعتراف بالعبودية له وطلب الإعانة والهداية منه واجتناب ما يغضبه وما هو ضلال، وكلها تذكر بالتعرض إلى مرضاة الله والإقلاع عن عصيانه وما يفضي إلى غضبه فذلك صد عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أفعال هي خضوع وتذلل لله تعالى من قيام وركوع وسجود وذلك يذكر بلزوم اجتلاب مرضاته والتباعد عن سخطه. وكل ذلك مما يصد عن الفحشاء والمنكر.
وفي الصلاة أعمال قلبية من نية واستعداد للوقوف بين يدي الله وذلك يذكر بأن المعبود جدير بأن تمتثل أوامره وتجتنب نواهيه.
فكانت الصلاة بمجموعها كالواعظ الناهي عن الفحشاء والمنكر، فإن الله قال {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} ولم يقل تصد وتحول ونحو ذلك مما يقتضي صرف المصلي عن الفحشاء والمنكر.
ثم الناس في الانتهاء متفاوتون، وهذا المعنى من النهي عن الفحشاء والمنكر هو من حكمة جعل الصلوات موزعة على أوقات من النهار والليل ليتجدد التذكير وتتعاقب المواعظ، وبمقدار تكرر ذلك تزداد خواطر التقوى في النفوس وتتباعد النفس من العصيان حتى تصير التقوى ملكة لها. ووراء ذلك خاصية إلهية جعلها الله في الصلاة يكون بها تيسير الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
روى أحمد وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن فلانا يصلي بالليل فإذا أصبح سرق، فقال: سينهاه ما تقول أي صلاته بالليل.
واعلم أن التعريف في قوله {الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} تعريف الجنس فكلما تذكر المصلي عند صلاته عظمة ربه ووجوب طاعته وذكر ما قد يفعله من الفحشاء والمنكر كانت صلاته حينئذ قد نهته عن بعض أفراد الفحشاء والمنكر.
والفحشاء: اسم للفاحشة، والفحش: تجاوز الحد المقبول. فالمراد من الفاحشة: الفعلة المتجاوزة ما يقبل بين الناس. وتقدم في قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} في [سورة البقرة: 169]. والمقصود هنا من الفاحشة: تجاوز الحد المأذون فيه شرعا من القول والفعل، وبالمنكر: ما ينكره ولا يرضى بوقوعه.
وكأن الجمع بين الفاحشة والمنكر منظور فيه إلى اختلاف جهة ذمه والنهي عنه.
وقوله {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} فيكون عطف علة على علة، ويكون المراد بذكر الله هو الصلاة كما في قوله تعالى {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي صلاة الجمعة. ويكون العدول عن لفظ الصلاة الذي هو كالاسم لها إلى التعبير عنها بطريق الإضافة للإيماء إلى تعليل أن الصلاة
تنهى عن الفحشاء والمنكر، أي إنما كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر لأنها ذكر الله وذكر الله أمر كبير، فاسم التفضيل مسلوب المفاضلة مقصود به قوة الوصف كما في قولنا: الله أكبر، لا تريد أنه أكبر من كبير آخر.
ويجوز أن يكون عطفا على جملة {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} . والمعنى: واذكر الله فإن ذكر الله أمر عظيم، فيصح أن يكون المراد من الذكر تذكر عظمة الله تعالى. ويجوز أن يكون المراد ذكر الله باللسان ليعم ذكر الله في الصلاة وغيرها. واسم التفضيل أيضا مسلوب المفاضلة ويكون في معنى قول معاذ بن جبل "ما عمل آدمي عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله" .
ويجوز أن يكون المراد بالذكر تذكر ما أمر الله به ونهى عنه، أي مراقبة الله تعالى وحذر غضبه، فالتفضيل على بابه، أي ولذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة في ذلك النهي، وذلك لإمكان تكرار هذا الذكر أكثر من تكرر الصلاة فيكون قريبا من قول عمر رضي الله عنه: أفضل من شكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.
ولك أن تقول: ذكر الله هو الإيمان بوجوده وبأنه واحد. فلما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم وأراد أمر المؤمنين بعملين عظيمين من البر أردفه بأن الإيمان بالله هو أعظم من ذلك إذ هو الأصل كقوله تعالى {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 13-17]. وذلك من رد العجز على الصدر عاد به إلى تعظيم أمر التوحيد وتفظيع الشرك من قوله {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ} [العنكبوت: 42] إلى هنا.
وقوله {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} تذييل لما قبله، وهو وعد ووعيد باعتبار ما اشتمل عليه قوله {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاة} وقوله {تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} .
والصنع: العمل.
[46] {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
عطف على جملة {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} [ العنكبوت: 45] الآية، باعتبار ما
تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43] كما تقدم آنفا. وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن مجادلة أهل الكتاب لا تعرض للنبي صلى الله عليه وسلم ولا للمؤمنين في مكة، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخر هذه السورة على وشك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلة للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت، وقوله {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} هيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب. فهذه الآية معترضة بين محاجة المشركين والعود إليها في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: 47] الآيات.
وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلى الله عليه وسلم أو قبل قدومه المدينة.
والمجادلة: مفاعلة من الجدل، وهو إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره، وقد تقدم في قوله تعالى {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في [سورة النساء: 107]. وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها. والمجادلة تعرض في أوقات المسلم وأوقات القتال.
و{أَهْلَ الْكِتَابِ}: اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن. والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولها. ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران.
و {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى، تقديره: لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن. و{أَحْسَنُ} اسم تفضيل يجوز أن يكون على بابه فيقدر المفضل عليه مما دلت عليه القرينة، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة.
ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن، أي إلا بالمجادلة الحسنى كقوله تعالى {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} في آخر [سورة النحل: 125]. فالله جعل الخيار للنبي صلى الله عليه وسلم في مجادلة المشركين بين أن يجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73] فإن الإغلاظ
شامل لجميع المعاملات ومنها المجادلات ولا يختص بخصوص الجهاد فإن الجهاد كله إغلاظ فلا يكون عطف الإغلاظ على الجهاد إلا إغلاظا غير الجهاد.
ووجه الوصاية بالحسنى في مجادلة أهل الكتاب أن أهل الكتاب مؤمنون بالله غير مشركين به فهم متأهلون لقبول الحجة غير مظنون بهم المكابرة ولأن آداب دينهم وكتابهم أكسبتهم معرفة طريق المجادلة فينبغي الاقتصار في مجادلتهم على بيان الحجة دون إغلاظ حذرا من تنفيرهم، بخلاف المشركين فقد ظهر من تصلبهم وصلفهم وجلافتهم ما أيأس من إقناعهم بالحجة النظرية وعين أن يعاملوا بالغلظة وأن يبالغ في تهجين دينهم وتفظيع طريقتهم لأن ذلك أقرب نجوعا لهم.
وهكذا ينبغي أن يكون الحال في ابتداء مجادلة أهل الكتاب، وبقدر ما يسمح به رجاء الاهتداء من طريق اللين، فإن هم قابلوا الحسنى بضدها انتقل الحكم إلى الاستثناء الذي في قوله {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} . و {الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} هم الذين كابروا وأظهروا العداء للنبي صلى الله عليه وسلم وللمسلمين وأبوا أن يتلقوا الدعوة فهؤلاء ظلموا النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين حسدا، وبغضا على أن جاء الإسلام بنسخ شريعتهم، وجعلوا يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم ونشأ منهم المنافقون وكل هذا ظلم واعتداء.
وقد كان اليهود قبل هجرة المسلمين إلى المدينة مسالمين الإسلام وكانوا يقولون: إن محمدا رسول الأميين كما قال ابن صياد لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم "أتشهد أني رسول الله? فقال:أشهد أنك رسول الأميين" فلما جاء المدينة دعاهم في أول يوم قدم فيه وهو اليوم الذي أسلم فيه عبد الله بن سلام فأخذوا من يومئذ يتنكرون للإسلام.
وعطف {وَقُولُوا آمَنَّا} إلى آخر الآية تعليم لمقدمة المجادلة بالتي هي أحسن. وهذا مما يسمى تحرير محل النزاع وتقريب شقة الخلاف وذلك تأصيل طرق الإلزام في المناظرة وهو أن يقال قد اتفقنا على كذا وكذا فلنحتج على ما عدا ذلك، فإن ما أمروا بقوله هنا مما اتفق عليه الفريقان فينبغي أن يكون هو السبيل إلى الوفاق وليس هو بداخل في حيز المجادلة لأن المجادلة تقع في موضع الاختلاف ولأن ما أمروا بقوله هنا هو إخبار عما يعتقده المسلمون وإنما تكون المجادلة فيما يعتقده أهل الكتاب مما يخالف عقائد المسلمين مثل قوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} إلى قوله {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: 65-67]. ولأجل أن مضمون هذه الآية لا يدخل في حيز المجادلة عطفت على ما قبلها ولو كانت مما
شملته المجادلة لكان ذلك مقتضيا فصلها لأنها مثل بدل الاشتمال.
ومعنى {بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا} القرآن. والتعبير عنه بهذه الصلة للتنبيه على خطأ أهل الكتاب إذ جحدوا أن ينزل الله كتابا على غير أنبيائهم، ولذلك عقب بقوله {وَأُنْزِلَ إِلَيْنَا} . وقوله {وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} عطف صلة اسم موصول محذوف دل عليه ما قبله. والتقدير: والذي أنزل إليكم، أي الكتاب وهو التوراة بقرينة قوله {إليكم}. والمعنى: إننا نؤمن بكتابكم فلا ينبغي أن تنحرفوا عنا وهذا كقوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ} [المائدة: 59]، وكذلك قوله {وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ} تذكير بأن المؤمنين واليهود يؤمنون بإله واحد. فهذان أصلان يختلف فيهما كثير من أهل الأديان.
وقوله {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} مراد به كلا الفريقين فريقر المتكلمين وفريق المخاطبين، فيشمل المسلمين وأهل الكتاب فيكون المراد بوصف {مُسْلِمُونَ} أحد إطلاقيه وهو إسلام الوجه إلى الله، أي عدم الإشراك به، أي وكلانا مسلمون لله تعالى لا نشرك معه غيره. وتقديم المجرور على عامله في قوله {لَهُ مُسْلِمُونَ} لإفادة الاختصاص تعريضا بالمشركين الذين لم يفردوا الله بالإلهية.
[47] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ}
هذا عود إلى مجادلة المشركين في إثبات أن القرآن منزل من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالمعنى: ومثل ذلك التنزيل البديع أنزلنا إليك ا لكتاب، فهو بديع في فصاحته،وشرف معانيه، وعذوبة تراكيبه، وارتفاعه على كل كلام من كلام البلغاء، وفي تنجيمه، وغير ذلك. وقد تقدم بيان مثل هذه الإشارة عند قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في [سورة البقرة: 143].
وقد تفرع على بداعة تنزيله الإخبار بأن الذين علمهم الله الكتاب يؤمنون به أي يصدقون أنه من عند الله لأنهم أدرى بأساليب الكتب المنزلة على الرسل والأنبياء وأعلم بسمات الرسل وشمائلهم.
وإنما قال {فالذين أتيناهم الكتاب} دون أن يقول: فأهل الكتاب، لأن في {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} تذكيرا لهم بأنهم أمناء عليه كما قال تعالى {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ} [المائدة: 44].
وجيء بصيغة المضارع للدلالة على أنه سيقع في المستقبل أو للدلالة على تجدد إيمان هذا الفريق به، أي إيمان من آمن منهم مستمر يزداد عدد المؤمنين يوما فيوما.
والإشارة بـ {هَؤُلاءِ} إلى أهل مكة بتنزيلهم منزلة الحاضرين عند نزول الآية لأنهم حاضرون في الذهن بكثرة ممارسة أحوالهم وجدالهم. وهكذا اصطلاح القرآن حيث يذكر {هَؤُلاءِ} بدون سبق ما يصلح للإشارة إليه، وهذا قد ألهمني الله إليه، وتقدم عند قوله تعالى {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ} في [سورة الأنعام: 89]. والمعنى: ومن مشركي أهل مكة من يؤمن به، أي بأن القرآن منزل من الله، وهؤلاء هم الذين أسلموا والذين يسلمون من بعد، ومنهم من يؤمن به في باطنه ولا يظهر ذلك عنادا وكبرا مثل الوليد بن المغيرة.
وقد أشار قوله تعالى {وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ} إلى أن من هؤلاء الذين يؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب وأهل مكة من يكتم إيمانه جحودا منهم لأجل تصلبهم في الكفر. فالتعريف في {الْكَافِرُونَ} للدلالة على معنى الكمال في الوصف المعرف، أي إلا المتوغلون في الكفر الراسخون فيه، ليظهر وجه الاختلاف بين {وَمَا يَجْحَدُ} وبين {الْكَافِرُونَ} إذ لولا الدلالة على معنى الكمال لصار معنى الكلام: وما يجحد إلا الجاحدون.
وعبر عن الكتاب بالآيات لأنه آيات دالة على أنه من عند الله بسبب إعجازه وتحديه وعجز المعاندين عن الإتيان بسورة مثله. وهذا يتوجه ابتداء إلى المشركين لأن جحودهم واقع، وفيه تهيئة لتوجيهه إلى من عسى أن يجحد به من أهل الكتاب من دون أن يواجههم بأنهم كافرون لأنه لم يعرف منهم ذلك الآن فإن فعلوه فقد أوجبوا ذلك على أنفسهم.
[48] {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ}
هذا استدلال بصفة الأمية المعروف بها الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على أنه موحى إليه من الله أعظم دلالة وقد ورد الاستدلال بها في القرآن في مواضع كقوله {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَان} [الشورى: 52] وقوله {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [يونس: 16].
ومعنى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} أنك لم تكن تقرأ كتابا حتى يقول أحد:
هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل.
{وَلا تَخُطُّهُ} أي لا تكتب كتابا ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما التعلم بالقراءة والتعلم بالكتابة استقصاء في تحقيق وصف الأمية فإن الذي يحفظ كتابا ولا يعرف يكتب لا يعد أميا كالعلماء العمي، والذي يستطيع أن يكتب ما يلقى إليه ولا يحفظ علما لا يعد أميا مثل النساخ فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية.
و {إِذْن} جواب وجزاء لشرط مقدر بـ {لَوْ} لأنه مفروض دل عليه قوله {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو} {وَلا تَخُطُّهُ} . والتقدير: لو كنت تتلو قبله كتابا أو تخطه لارتاب المبطلون. ومجيء جواب {إِذْن} مقترنا باللام التي يغلب اقتران جواب {لَوْ} بها دليل على أن المقدر شرط بـ {لَوْ} كما في قول قريط العنبري:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي ... بنو اللقيطة من ذهل ابن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خشن ... عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قال المرزوقي في (شرح الحماسة) وفائدة (إذن) هو أنه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل قال له: ولو استباحوا إبلك ماذا كان يفعل بنو مازن? فقال:
إذن لقام بنصري معشر خشن
ويجوز أن يكون أيضا: إذن لقام، جواب (لو) كأنه أجيب بجوابين. وهذا كما تقول: لو كنت حرا لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار اهـ. يعني يجوز أن تكون جملة: إذن لقام، بدلا من جملة: لم تستبح. وقد تقدم الكلام على نظيره في قوله تعالى {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} في {سورة المؤمنين: 91]. والارتياب: حصول الريب في النفس وهو الشك.
ووجه التلازم بين التلاوة والكتابة المتقدمين على نزول القرآن، وبين حصول الشك في نفوس المشركين أنه لو كان ذلك واقعا لاحتمل عندهم أن يكون القرآن من جنس ما كان يتلوه من قبل من كتب سالفة وأن يكون مما خطه من قبل من كلام تلقاه فقام اليوم بنشره ويدعو به. وإنما جعل ذلك موجب ريب دون أن يكون موجب جزم بالتكذيب لأن نظم القرآن وبلاغته وما احتوى عليه من المعاني يبطل أن يكون من نوع ما سبق من الكتب والقصص والخطب والشعر، ولكن ذلك لما كان مستدعيا تأملا لم يمنع من خطور خاطر الارتياب على الإجمال قبل إتمام النظر والتأمل بحيث يكون دوام الارتياب بهتانا ومكابرة.