كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
واعلم أن للحوادث كلها مؤثرا، وسببا مقارنا، وأدلة تنبئ عنها وعن عواقبها، فهذه ثلاثة أشياء لا تخلو عنها الحوادث كلها، سواء كانت غير اختيارية، أم اختيارية كأفعال العباد. فالله قدر المنافع والمضار بعلمه وقدره وخلق مؤثراتها وأسبابها، فهذا الجزء لله وحده لقوله {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
والله أقام بالألطاف الموجودات، فأوجدها ويسر لها أسباب البقاء والانتفاع بما أودع فيها من العقول والإلهامات، وحفها كلها في سائر أحوالها بألطاف كثيرة، لولاها لما بقيت الأنواع، وساق إليها أصول الملاءمة، ودفع عنها أسباب الآلام في الغالب، فالله لطيف بعباده. فهذا الجزء لله وحده لقوله {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} .
والله نصب الأدلة للناس على المنافع والمضار التي تكتسب بمختلف الأدلة الضرورية، والعقلية، والعادية، والشرعية، وعلم طرائق الوصول إليها، وطرائق الحيدة عنها، وأرشد إلى موانع التأثير لمن شاء أن يمانعها، وبعث الرسل وشرع الشرائع فعلمنا بذلك كله أحوال الأشياء ومنافعها ومضارها، وعواقب ذلك الظاهرة والخفية، في الدنيا والآخرة، فأكمل المنة، وأقام الحجة، وقطع المعذرة، فهدى بذلك وحذر إذ خلق العقول ووسائل المعارف، ونماها بالتفكيرات والإلهامات، وخلق البواعث على التعليم والتعلم، فهذا الجزء أيضا لله وحده. وأما الأسباب المقارنة للحوادث الحسنة والسيئة والجانية لجناها حين تصيب الإنسان من الاهتداء إلى وسائل مصادفة المنافع، والجهل بتلك الوسائل، والاغضاء عن موانع الوقوع فيها في الخير والشر، فذلك بمقدار ما يحصله الإنسان من وسائل الرشاد، وباختياره الصالح لاجتناء الخير، ومقدارا ضد ذلك: من غلبة الجهل، أو غلبة الهوى، ومن الارتماء في المهالك بدون تبصر، وذلك جزء صغير في جانب الأجزاء التي قدمناها، وهذا الجزء جعل الله للإنسان حظا فيه، ملكه إياه، فإذا جاءت الحسنة أحدا فإن مجيئها إياه بخلق الله تعالى لا محالة مما لا صنعة للعبد فيه، أو بما أرشد الله به العبد حتى علم طريق اجتناء الحسنة، أي الشيء الملائم وخلق له استعداده لاختيار الصالح فيما له فيه اختيار من الأفعال النافعة حسبما أرشده الله تعالى، فكانت المنة فيها لله وحده، إذ لولا لطفه وإرشاده وهديه، لكان الإنسان في حيرة، فصح أن الحسنة من الله، لأن أعظم الأسباب أو كلها منه.
أما السيئة فإنها وإن كانت تأتي بتأثير الله تعالى، ولكن إصابة معظمها الإنسان يأتي من جهله، أو تفريطه، أو سوء نظره في العواقب، أو تغليب هواه على رشده، وهنالك
سيئات الإنسان من غير تسببه مثل ما أصاب الأمم من خسف وأوبئة، وذلك نادر بالنسبة لأكثر السيئات، على أن بعضا منه كان جزاء على سوء فعل، فلا جرم كان الحظ الأعظم في إصابة السيئة الإنسان لتسببه مباشرة أو بواسطة، فصح أن يسند تسببها إليه، لأن الجزء الذي هو لله وحده منها هو الأقل. وقد فسر هذا المعنى ما ورد في الصحيح، ففي حديث الترمذي "لا يصيب عبدا نكبة فما فوقها أو ما دونها إلا بذنب وما يعفو الله أكثر".
وشملت الحسنة والسيئة ما كان من الأعيان، كالمطر والصواعق، والثمرة والجراد، وما كان من الأعراض كالصحة، وهبوب الصبا، والربح في التجارة. وأضدادها كالمرض، والسموم المهلكة، والخسارة. وفي هذا النوع كان سبب نزول هذه الآية، ويلحق بذلك ما هو من أفعال العباد كالطاعات النافعة للطائع وغيره، والمعاصي الضارة به وبالناس، وفي هذا الأمر جاء قوله تعالى {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] وهو على نحو هذه الآية وإن لم تكن نازلة فيه.
ولكون هذه القضية دقيقة الفهم نبه الله على قلة فهمهم للمعاني الخفية بقوله {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً}. فقوله {لا يَكَادُونَ} يجوز أن يكون جاريا على نظائره من اعتبار القلب، أي يكادون لا يفقهون، كما تقدم عند قوله تعالى {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71] فيكون فيه استبقاء عليهم في المذمة. ويجوز أن يكون على أصل وضع التركيب، أي لا يقاربون فهم الحديث الذي لا يعقله إلا الفطناء، فيكون أشد في المذمة.
والفقه فهم ما يحتاج إلى إعمال فكر. قال الراغب: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد، وهو أخص من العلم. وعرفه غيره بأنه إدراك الأشياء الخفية.
والخطاب في قوله {مَا أَصَابَكَ} خطاب للرسول، وهذا هو الأليق بتناسق الضمائر، ثم يسلم أن غيره مثله في ذلك.
وقد شاع الاستدلال بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى على طريقة الشيخ أبي الحسن الأشعري لقوله {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ، كما شاع استدلال المعتزلة بها على أن الله لا يخلق المعصية والشر لقوله {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} . وقال أبو الحسن شبيب بن حيدرة المالكي في كتاب حز الغلاصم: إن الاحتجاج بها في كلا الأمرين جهل لابتنائه على توهم أن الحسنة والسيئة هي الطاعة والمعصية، وليستا كذلك.
وأنا أقول: إن أهل السنة ما استدلوا بها إلا قولا بموجب استدلال المعتزلة بها على التفرقة بين اكتساب الخير والشر على أن عموم معنى الحسنة والسيئة كما بينته آنفا يجعل الآية صالحة للاستدلال، وهو استدلال تقريبي لأن أصول الدين لا يستدل فيها بالظواهر كالعموم.
وجيء في حكاية قولهم {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} {يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} بكلمة عند للدلالة على قوة نسبة الحسنة إلى الله ونسبة السيئة للنبي عليه الصلاة والسلام أي قالوا ما يفيد جزمهم بذلك الانتساب.
ولما أمر الله رسوله أن يجيبهم قال {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} مشاكلة لقولهم، وإعرابا عن التقدير الأزلي عند الله.
وأما قوله {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} فلم يؤت فيه بكلمة عند، إيماء إلى أن ابتداء مجيء الحسنة من الله ومجيء السيئة من نفس المخاطب، ابتداء المتسبب لسبب الفعل، وليس ابتداء المؤثر في الأثر.
وقوله {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} عطف على قوله {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} للرد على قولهم: السيئة من عند محمد، أي أنك بعثت مبلغا شريعة وهاديا، ولست مؤثرا في الحوادث، ولا تدل مقارنة الحوادث المؤلمة على عدم صدق الرسالة. فمعنى {أرسلناك} بعثناك كقوله {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ} [الحجر:22] ونحوه.
و للناس متعلق ب {أرسلناك} وقوله {رسولا} حال من {أرسلناك} ، والمراد بالرسول هنا معناه الشرعي المعروف عند أهل الأديان: وهو النبي المبلغ عن الله تعالى، فهو لفظ لقبي دال على هذا المعنى، وليس المراد به اسم المفعول بالمعنى اللغوي ولهذا حسن مجيئه حالا مقيدة لأرسلناك، لاختلاف المعنيين، أي بعثناك مبلغا لا مؤثرا في الحوادث، ولا أمارة على وقوع الحوادث السيئة. وبهذا يزول إشكال مجيء هذه الحال غير مفيدة إلا التأكيد، حتى احتاجوا إلى جعل المجرور متعلقا ب {رسولا} ، وأنه قدم عليه دلالة على الحصر باعتبار العموم المستفاد من التعريف، كما في الكشاف، أي لجميع الناس لا لبعضهم، وهو تكلف لا داعي إليه، وليس المقام مقام هذا الحصر.
[81,80] {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ
مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} .
هذا كالتكملة لقوله {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} [النساء:79] باعتبار ما تضمنه من رد اعتقادهم أن الرسول مصدر السيئات التي تصيبهم، ثم من قوله {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النساء:79] الخ، المؤذن بأن بين الخالق وبين المخلوق فرقا في التأثير وأن الرسالة معنى آخر فاحترس بقوله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} عن توهم السامعين التفرقة بين الله ورسوله في أمور التشريع، فأثبت أن الرسول في تبليغه إنما يبلغ عن الله، فأمره أمر الله، ونهيه نهي الله، وطاعته طاعة الله، وقد دل على ذلك كله قوله {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} لاشتمالها على إثبات كونه رسولا واستلزامها أنه يأمر وينهى، وأن ذلك تبليغ لمراد الله تعالى، فمن كان على بينة من ذلك أو كان في غفلة فقد بين الله له اختلاف مقامات الرسول، ومن تولى أو أعرض واستمر على المكابرة {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} ، أي حارسا لهم ومسؤولا عن إعراضهم، وهذا تعريض بهم وتهديد لهم بأن صرفه عن الاشتغال بهم، فيعلم أن الله سيتولى عقابهم.
والتولي حقيقته الانصراف والإدبار، وقد تقدم في قوله تعالى {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا} [البقرة:205] وفي قوله {مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ} في سورة البقرة[142]. واستعمل هنا مجازا في العصيان وعدم الإصغاء إلى الدعوة.
ثم بين أنهم لضعف نفوسهم لا يعرضون جهرا بل يظهرون الطاعة، فإذا أمرهم الرسول أو نهاهم يقولون له {طاعة} أي: أمرنا طاعة، وهي كلمة يدلون بها على الامتثال، وربما يقال: سمع وطاعة، وهو مصدر مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، اي أمرنا أو شأننا طاعة، كما في قوله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18]. وليس هو نائبا عن المفعول المطلق الآتي بدلا من الفعل الذي يعدل عن نصبه إلى الرفع للدلالة على الثبات مثل قال سلام، إذ ليس المقصود هنا إحداث الطاعة وإنما المقصود أننا سنطيع ولا يكون منا عصيان.
ومعنى {برزوا} خرجوا، وأصل معنى البروز الظهور، وشاع إطلاقه على الخروج مجازا مرسلا.
و {بيت} هنا بمعنى قدر أمرا في السر وأضمره، لأن أصل البيات هو فعل شيء في الليل، والعرب تستعير ذلك إلى معنى الإسرار، لأن الليل أكتم للسر، ولذلك يقولون: هذا
أمر قضي بليل، أي لم يطلع عليه أحد، وقال الحارث بن حلزة:
أجمعوا أمرهم بليل فلما
...
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقال أبو سفيان: هذا أمر قضى بليل. وقال تعالى {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49]أي: لنقتلنهم ليلا. وقال {وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} ]النساء:108]. وتاء المضارعة في {غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ} للمؤنث الغائب، وهو الطائفة، ويجوز أن يراد خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، أي غير الذي تقول لهم أنت، فيجيبون عنه بقولهم: طاعة. ومعنى {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} التهديد بإعلامهم أنه لن يفلتهم من عقابه، فلا يغرنهم تأخر العذاب مدة. وقد دل بصيغة المضارع في قوله {يكتب} على تجدد ذلك، وأنه لا يضاع منه شيء.
وقوله {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أمر بعدم الاكتراث بهم، وأنهم لا يخشى خلافهم، وأنه يتوكل على الله {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} أي متوكلا عليه، ولا يتوكل على طاعة هؤلاء ولا يحزنه خلافهم.
وقرأ الجمهور {بَيَّتَ طَائِفَةٌ} بإظهار تاء بيت من طاء طائفة. وقرأه أبو عمرو، وحمزة، ويعقوب، وخلف بإدغام التاء في الطاء تخفيفا لقرب مخرجيهما.
[82] {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} .
الفاء تفريع على الكلام السابق المتعلق بهؤلاء المنافقين أو الكفرة الصرحاء وبتوليهم المعرض بهم في شأنه بقوله {وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء80]، وبقولهم {طاعة} ، ثم تدبير العصيان فيما وعدوا بالطاعة في شأنه. ولما كان ذلك كله أثرا من آثار استبطان الكفر، أو الشك، أو اختيار ما هو في نظرهم أولى مما أمروا به، وكان استمرارهم على ذلك، مع ظهور دلائل الدين، منبئا بقلة تفهمهم القرآن، وضعف استفادتهم، كان المقام لتفريع الاستفهام عن قلة تفهمهم. فالاستفهام إنكاري للتوبيخ والتعجيب منهم في استمرار جهلهم مع توفر أسباب التدبير لديهم.
تحدى الله تعالى هؤلاء بمعاني القرآن، كما تحداهم بألفاظه، لبلاغته إذ كان المنافقون قد شكوا في أن القرآن من عند الله، فلذلك يظهرون الطاعة بما يأمرهم به، فإذا خرجوا من مجلس النبي صلى الله عليه وسلم خالفوا ما أمرهم به لعدم ثقتهم، ويشككون ويشكون إذا بدا لهم شيء من التعارض، فأمرهم الله تعالى بتدبير القرآن كما قال تعالى {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران7] الآية.
والتدبر مشتق من الدبر، أي الظهر، اشتقوا من الدبر فعلا، فقالوا: تدبر إذا نظر في دبر الأمر، أي في غائبه أو في عاقبته، فهو من الأفعال التي اشتقت من الأسماء الجامدة. والتدبر يتعدى إلى المتأمل فيه بنفسه، يقال: تدبر الأمر. فمعنى {يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} يتأملون دلالته، وذلك يحتمل معنيين: أحدهما أن يتأملوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي تدبر تفاصيله؛ وثانيهما أن يتأملوا دلالة جملة القرآن ببلاغته على أنه من عند الله، وأن الذي جاء به صادق. وسياق هذه الآيات يرجح حمل التدبر هنا على المعنى الأول، أي لو تأملوا وتدبروا هدي القرآن لحصل لهم خير عظيم، ولما بقوا على فتنتهم التي هي سبب إضمارهم الكفر مع إظهارهم الإسلام. وكلا المعنيين صالح بحالهم، إلا أن المعنى الأول أشد ارتباطا بما حكي عنهم من أحوالهم.
وقوله {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ} الخ يجوز أن يكون عطفا على الجملة الاستفهامية فيكونوا أمروا بالتدبر في تفاصيله، وأعلموا بما يدل على أنه من عند الله، وذلك انتفاء الاختلاف منه، فيكون الأمر بالتدبر عاما، وهذا جزئي من جزئيات التدبر ذكر هنا انتهازا لفرصة المناسبة لغمرهم بالاستدلال على صدق الرسول، فيكون زائدا على الإنكار المسوق له الكلام، تعرض له لأنه من المهم بالنسبة إليهم إذ كانوا في شك من أمرهم. وهذا الإعراب أليق بالمعنى الأول من معنيي التدبر هنا. ويجوز أن تكون الجملة حالا من القرآن، ويكون قيدا للتدبر، أي ألا يتدبرون انتفاء الاختلاف منه فيعلمون أنه من عند الله، وهذا أليق بالمعنى الثاني من معنيي التدبر.
ومما يستأنس به للإعراب الأول عدم ذكر هذه الزيادة في الآية المماثلة لهذه من سورة القتال، وهي قوله {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ} وذكر فيها القتال إلى قوله {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:20،24] وهذه دقائق من تفسير الآية أهملها جميع المفسرين.
والاختلاف يظهر أنه أريد به اختلاف بعضه مع بعض، أي اضطرابه، ويحتمل أنه اختلافه مع أحوالهم: أي لوجدوا فيه اختلافا بين ما يذكره من أحوالهم وبين الواقع فليكتفوا بذلك في العلم بأنه من عند الله، إذ كان يصف ما في قلوبهم وصف المطلع على الغيوب، وهذا استدلال وجيز وعجيب قصد منه قطع معذرتهم في استمرار كفرهم. ووصف الاختلاف بالكثير في الطرف الممتنع وقوعه بمدلول لو. ليعلم المتدبر أن انتفاء
الاختلاف من أصله أكبر دليل على أنه من عند الله، وهذا القيد غير معتبر في الطرف المقابل لجواب لو، فلا يقدر ذلك الطرف مقيدا بقوله {كثيرا} بل يقدر هكذا: لكنه من عند الله فلا اختلاف فيه أصلا.
{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [83]. عطف على جملة {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ} [النساء:81] فضمير الجمع راجع إلى الضمائر قبله، العائدة إلى المنافقين، وهو الملائم للسياق، ولا يعكر عليه إلا قوله {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} ، وستعلم تأويله، وقيل: الضمير هذا راجع إلى فريق من ضعفة المؤمنين: ممن قلت تجربته وضعف جلده، وهو المناسب لقوله {وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} بحسب الظاهر، فيكون معاد الضمير محذوفا من الكلام اعتمادا على قرينة حال النزول، كما في قوله {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص:32].
والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة، من المسلمين الأغرار.
ومعنى {جاءهم} أمر أي أخبروا به، قال امرؤ القيس:
وذلك من نبإ جاءني
فالمجيء مجاز عرفي في سماع الأخبار، مثل نظائره، وهي: بلغ، وانتهى إليه، وأتاه، قال النابغة:
أتأني أبيت اللعن أنك لمتني
والأمر هنا بمعنى الشيء، وهو هنا الخبر، بقرينة قوله {أَذَاعُوا بِهِ} .
ومعنى {أذاعوا} أفشوا، ويتعدى إلى الخبر بنفسه، وبالباء، يقال: أذاعه وأذاع به، فالباء لتوكيد اللصوق كما في {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6].
والمعنى إذا سمعوا خبرا عن سرايا المسلمين من الأمن، أي الظفر الذي يوجب أمن المسلمين أو الخوف وهو ما يوجب خوف المسلمين، أي اشتداد العدو عليهم، بادروا بإذاعته، أو إذا سمعوا خبرا عن الرسول عليه السلام وعن أصحابه، في تدبير أحوال
المسلمين من أحوال الأمن أو الخوف، تحدثوا بتلك الأخبار في الحالين، وأرجفوها بين الناس لقصد التثبيط عن الاستعداد، إذا جاءت أخبار أمن حتى يؤخذ المؤمنون وهم غارون، وقصد التجبين إذا جاءت أخبار الخوف، واختلاف المعاذير للتهيئة للتخلف عن الغزو إذا استنفروا إليه، فحذر الله المؤمنين من مكائد هؤلاء، ونبه هؤلاء على دخيلتهم، وقطع معذرتهم في كيدهم بقوله {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ} الخ، أي لولا أنهم يقصدون السوء لاستثبتوا الخبر من الرسول ومن أهل الرأي.
وعلى القول بأن الضمير راجع إلى المؤمنين فالآية عتاب للمؤمنين في هذا التسرع بالإذاعة، وأمرهم بإنهاء الأخبار إلى الرسول وقادة الصحابة ليضعوه مواضعه ويعلموهم محامله.
وقيل: كان المنافقون يختلفون الأخبار من الأمن أو الخوف، وهي مخالفة للواقع، ليظن المسلمون الأمن حين الخوف فلا يأخذوا حذرهم، أو الخوف حين الأمن فتضطرب أمورهم وتختل أحوال اجتماعهم، فكان دهماء المسلمين إذا سمعوا ذلك من المنافقين راج عندهم فأذاعوا به، فتم للمنافقين الدست، وتمشت المكيدة، فلامهم الله وعلمهم أن ينهوا الأمر إلى الرسول وجلة أصحابه قبل إشاعته ليعلموا كنه الخبر وحاله من الصدق أو الكذب، ويأخذوا لكل حالة حيطتها، فيسلم المؤمنون من مكر المنافقين الذي قصدوه. وهذا بعيد من قوله {جاءهم} وعلى هذا فقوله {لعلمه} هو دليل جواب لو وعلته، فجعل عوضه وحذف المعلول، إذ المقصود لعلمه الذين يستنبطونه من أولي الأمر فلبينوه لهم على وجهه.
ويجوز أن يكون المعنى: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلم ذلك المنافقون الذين اختلفوا الخبر فلخابوا إذ يوقنون بأن حيلتهم لم تتمش على المسلمين، فيكون الموصول صادقا على المختلقين بدلالة المقام، ويكون ضمير {منهم} الثاني عائدا على المنافقين بقرينة المقام.
والرد حقيقته إرجاع شيء إلى ما كان فيه من مكان أو يد، واستعمل هنا مجازا في إبلاغ الخبر إلى أولى الناس بعلمه. وأولو الأمر هم كبراء المسلمين وأهل الرأي منهم، فإن كان المتحدث عنهم المنافقون فوصف أولي الأمر بأنهم منهم جار على ظاهر الأمر وإرخاء العنان، أي أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضهم؛ وإن كان المتحدث عنهم المؤمنين، فالتبعيض ظاهر.
والاستنباط حقيقته طلب النبط بالتحريك. وهو أول الماء الذي يخرج من البئر عند الحفر، وهو هنا مجاز في العلم بحقيقة الشيء ومعرفة عواقبه، وأصله مكنية: شبه الخبر الحادث بحفير يطلب منه الماء، وذكر الاستنباط تخييل. وشاعت هذه الاستعارة حتى صارت حقيقة عرفية، فصار الاستنباط بمعنى التفسير والتبيين، وتعدية الفعل إلى ضمير الأمر على اعتبار المعنى العرفي، ولولا ذلك لقيل: يستنبطون منه، كما هو ظاهر، أو هو على نزع الخافض.
وإذا جريت على احتمال كون يستنبطون بمعنى يختلقون كما تقدم كانت {يستنبطونه} تبعية، بأن شبه الخبر المختلق بالماء المحفور عنه، وأطلق يستنبطون بمعنى يختلقون، وتعدى الفعل إلى ضمير الخبر لأنه المستخرج. والعرب يكثرون الاستعارة من أحوال المياه كقولهم: يصدر ويورد، وقولهم ضرب أخماسا لأسداس، وقولهم: ينزع إلى كذا، وقوله تعالى {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات:59]، وقال عبدة بن الطبيب:
فحق لشاس من نداك ذنوب
ومنه قولهم: تساجل القوم، أصله من السجل، وهو الدلو.
وقال قيس بن الخطيم:
إذا ما اصطبحت أربعا خط مئزري
...
وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
فذكر الدلو والرشاء. وقال النابغة:
خطاطيف حجن في حبال متينة
...
تمد بها أيد إليك نوازع
وقال:
ولولا أبو الشقراء ما زال ماتح
...
يعالج خطافا بإحدى الجرائر
وقالوا أيضا انتهز الفرصة، والفرصة نوبة الشرب، وقالوا: صدر الوم عن رأي فلان ووردوا على رأيه.
وقوله {منهم} وصف للذين يستنبطونه، وهم خاصة أولي الأمر من المسلمين، أي يردونه إلى جماعة أولي الأمر فيفهمه الفاهمون من أولي الأمر، وإذا فهمه جميعهم فأجدر.
وقوله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} امتنان بإرشادهم إلى أنواع المصالح، والتحذير من المكائد ومن حبائل الشيطان وأنصاره.
واستثناء {إلا قليلا} من عموم الأحوال المؤذن بها {اتبعتم} ، أي إلا في أحوال قليلة، فإن كان المراد من فضل الله ورحمته ما يشمل البعثة فما بعدها، فالمراد بالقليل الأحوال التي تنساق إليها النفوس في بعض الأحوال بالوازع العقلي أو العادي، وإن أريد بالفضل والرحمة النصائح والإرشاد فالمراد بالقليل ما هو معلوم من قواعد الإسلام. ولك أن تجعله استثناء من ضمير {اتبعتم} أي إلا قليلا منكم، فالمراد من الاتباع اتباع مثل هذه المكائد التي لا تروج على أهل الرأي من المؤمنين.
{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} [84].
تفريع على ما تقدم من الأمر بالقتال، ومن وصف المثبطين عنه، والمتذمرين منه، والذين يفتنون المؤمنين في شأنه، لأن جميع ذلك قد أفاد الاهتمام بأمر القتال، والتحريض عليه، فتهيأ الكلام لتفريع الأمر به. ولك أن تجعل الفاء فصيحة بعد تلك الجمل الكثيرة، أي: إذا كان كما علمت فقاتل في سبيل الله، وهذا عود إلى ما مضى من التحريض على الجهاد، وما بينهما اعتراض. فالآية أوجبت على الرسول صلى الله عليه وسلم القتال، وأوجبت عليه تبليغ المؤمنين الأمر بالقتال وتحريضهم عليه، فعبر عنه بقوله {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] وهذا الأسلوب طريق من طرق الحث والتحريض لغير المخاطب، لأنه إيجاب القتال على الرسول، وقد علم إيجابه على جميع المؤمنين بقوله {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} [النساء:74] فهو أمر للقدوة بما يجب اقتداء الناس به فيه. وبين لهم علة الأمر وهي رجاء كف بأس المشركين، فعسى هنا مستعارة للوعد. والمراد بهم هنا كفار مكة، فالآيات تهيئة لفتح مكة.
وجملة {وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً} تذييل لتحقيق الرجاء أو الوعد، والمعنى أنه أشد بأسا إذا شاء إظهار ذلك، ومن دلائل المشيئة امتثال أوامره التي منها الاستعداد وترقب المسببات من أسبابها.
والتنكيل عقاب يرتدع به رائيه فضلا عن الذي عوقب به.
[85] {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} .
استئناف فيه معنى التذييل والتعليل لقوله {لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:84] وهو بشارة للرسول عليه الصلاة والسلام بأن جهاد المجاهدين بدعوته يناله منه نصيب عظيم من الأجر، فإن تحريضه إياهم وساطة بهم في خيرات عظيمة، فجاءت هذه الآية بهذا الحكم العام على عادة القرآن في انتهاز فرص الإرشاد. ويعلم من عمومها أن التحريض على القتال في سبيل الله من الشفاعة الحسنة، وأن سعي المثبطين للناس من قبيل الشفاعة السيئة، فجاءت هذه الآية إيذانا للفريقين بحالتهما. والمقصود مع ذلك الترغيب في التوسط في الخير والترهيب من ضده.
والشفاعة: الوساطة في إيصال خير أو دفع شر، سواء كانت بطلب من المنتفع أم لا، وتقدمت في قوله تعالى {َلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} في سورة البقرة[48]، وفي الحديث "اشفعوا فلتؤجروا". ووصفها بالحسنة وصف كاشف؛ لأن الشفاعة لا تطلق إلا على الوساطة في الخير، وأما إطلاق الشفاعة على السعي في جلب شر فهو مشاكلة، وقرينتها وصفها بسيئة، إذ لا يقال شفع للذي سعى بجلب سوء.
والنصيب: الحظ من كل شيء: خيرا كان أو شرا، وتقدم في قوله تعالى {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا} في سورة البقرة[202].
والكفل بكسر الكاف وسكون الفاء الحظ كذلك، ولم يتبين لي وجه اشتقاقه بوضوح. ويستعمل الكفل بمعنى المثل، فيؤخذ من التفسيرين أن الكفل هو الحظ المماثل لحظ آخر، وقال صاحب اللسان: لا يقال هذا كفل فلان حتى يكون قد هيئ لغيره مثله، ولم يعز هذا، ونسبه الفخر إلى ابن المظفر، ولم يذكر ذلك أحد غير هذين فيما علمت، ولعله لا يساعد عليه الاستعمال. وقد قال الله تعالى {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد:28]. وهل يحتج بما قاله ابن المظفر وابن المظفر هو محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي الأديب معاصر المتنبي. وفي مفردات الراغب أن الكفل هو الحظ من الشر والشدة، وأنه مستعار من الكفل وهو الشيء الرديء، فالجزاء في جانب الشفاعة الحسنة بأنه نصيب إيماء إلى أنه قد يكون له أجر أكثر من ثواب من شفع عنده.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} تذييل لجملة {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً}
الآية، لإفادة أن الله يجازي على كل عمل بما يناسبه من حسن أو سوء.
و {المقيت} : الحافظ، والرقيب، والشاهد، والمقتدر. وأصله عند أبي عبيدة الحافظ. وهو اسم فاعل من أقات إذا أعطى القوت، فوزنه مفعل وعينه واو. واستعمل مجازا في معاني الحفظ والشهادة بعلاقة اللزوم، لأن من يقيت أحدا فقد حفظه من الخصاصة أو من الهلاك، وهو هنا مستعمل في معنى الاطلاع، أو مضمن معناه، كما ينبي عنه تعديته بحرف على. ومن أسماء الله تعالى المقيت، وفسره الغزالي بموصل الأقوات، فيؤول إلى معنى الرازق، إلا أنه أخص، وبمعنى المستولي على الشيء القادر عليه، وعليه يدل قوله تعالى {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً} فيكون راجعا إلى القدرة والعلم.
[86] {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} .
عطف على جملة {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً} باعتبار ما قصد من الجملة المعطوفة عليها، وهو الترغيب في الشفاعة الحسنة والتحذير من الشفاعة السيئة، وذلك يتضمن الترغيب في قبول الشفاعة الحسنة ورد الشفاعة السيئة. وإذ قد كان من شأن الشفيع أن يدخل على المستشفع إليه بالسلام استئناسا له لقبول الشفاعة، فالمناسبة في هذا العطف هي أن الشفاعة تقتضي حضور الشفيع عند المشفوع إليه، وأن صفة تلقي المشفوع إليه للشفيع تؤذن بمقدار استعداده لقبول الشفاعة، وأن أول بوادر اللقاء هو السلام ورده، فعلم الله المسلمين أدب القبول واللقاء في الشفاعة وغيرها وقد كان للشفاعات عندهم شأن عظيم. وفي الحديث: مر رجل فقال رسول الله: "ماذا تقولون فيه?" قالوا: هذا جدير إن شفع أن يشفع.. الحديث حتى إذا قبل المستشفع إليه الشفاعة كان قد طيب خاطر الشفيع، وإذا لم يقبل كان في حسن التحية مرضاة له على الجملة. وهذا دأب القرآن في انتهاز فرص الإرشاد والتأديب.
وبهذا البيان تنجلي عنك الحيرة التي عرضت في توجيه انتظام هذه الآية مع سابقتها، وتستغني عن الالتجاء إلى المناسبات الضعيفة التي صاروا إليها.
وقد دل قوله {فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} على الأمر برد السلام، ووجوب الرد لأن أصل صيغة الأمر أن يكون للوجوب على مقتضى مذهب الجمهور في محمل صيغة الأمر،
ولذلك اتفق الفقهاء على وجوب رد السلام، ثم اختلفوا إذا كان المسلم عليهم جماعة هل يجب الرد على كل واحد منهم: فقال مالك: هو واجب على الجماعة وجوب الكفاية فإذا رد واحد من الجماعة أجزأ عنهم، وورد في ذلك حديث صحيح؛ على أنه إذا كانت الجماعة كثيرة يصير رد الجميع غوغاء. وقال أبو حنيفة: الرد فرض على كل شخص من الجماعة بعينه. ولعل دليله في ذلك القياس.
ودل قوله {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ} على أن ابتداء السلام شيء معروف بينهم، ودليله قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} ، وسيأتي في سورة النور[27].
وأفاد قوله {بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} التخيير بين الحالين، ويعلم من تقديم قوله {بِأَحْسَنَ مِنْهَا} أن ذلك أفضل.
وحيي أصله في اللغة دعا له بالحياة، ولعله من قبيل النحت من قول القائل: حياك الله، أي وهب لك طول الحياة. فيقال للملك: حياك الله. ولذلك جاء في دعاء التشهد التحيات لله أي هو مستحقها لا ملوك الناس. وقال النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب
أي يحيون مع تقديم الريحان في يوم عيد الشعانين وكانت التحية خاصة بالملوك بدعاء حياك الله غالبا، فلذلك أطلقوا التحية على الملك في قول زهير بن جناب الكلبي:
ولكل ما نال الفتى
...
قد نلته إلا التحية
يريد أنه بلغ غاية المجد سوى الملك. وهو الذي عناه المعري بقوله:
تحية كسرى في الثناء وتبع
...
لربعك لا أرضى تحية أربع
وهذه الآية من آداب الإسلام: علم الله بها أن يردوا على المسلم بالحسن من سلامه أو بما يماثله، ليبطل ما كان بين الجاهلية من تفاوت السادة والدهماء. وتكون التحية أحسن بزيادة المعنى، فلذلك قالوا في قوله تعالى {فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [الذاريات:25]: إن تحية إبراهيم كانت أحسن إذ عبر عنها بما هو أقوى في كلام العرب وهو رفع المصدر للدلالة على الثبات وتناسي الحدوث المؤذن به نصب المصدر، وليس في لغة إبراهيم مثل ذلك ولكنه من بديع الترجمة، ولذلك جاء في تحية الإسلام: السلام عليكم، وفي ردها وعليكم السلام لأن تقديم الظرف فيه للاهتمام بضمير المخاطب. وقال بعض
الناس: إن الواو في رد السلام تفيد معنى الزيادة فلو كان المسلم بلغ غاية التحية أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فإذا قال الراد وعليكم السلام الخ، كان قد ردها بأحسن منها بزيادة الواو، وهذا وهم.
ومعنى ردوها ردوا مثلها، وهذا كقولهم: عندي درهم ونصفه، لظهور تعذر رد ذات التحية، وقوله تعالى {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا} [النساء:176] فعاد ضمير وهو وهاء يرثها إلى اللفظين لا إلى الذاتين، ودل الأمر على وجوب رد السلام، ولا دلالة في الآية على حكم الابتداء بالسلام، فذلك ثابت بالسنة للترغيب فيه. وقد ذكروا أن العرب كانوا لا يقدمون اسم المسلم عليه المجرور بعلى في ابتداء السلام إلا في الرثاء، في مثل قول عبدة بن الطيب:
عليك سلام الله قيس بن عاصم
...
ورحمته ما شاء أن يترحما
وفي قول الشماخ:
عليك سلام من أمير وباركت
...
يد الله في ذاك الأديم الممزق
يرثي عثمان بن عفان أو عمر بن الخطاب. روى أبو داود أن جابر بن سليم سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عليك السلام يا رسول الله، فقال له "إن عليك السلام تحية الموتى، قل، السلام عليك" .
والتذييل بقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} لقصد الامتنان بهذه التعليمات النافعة.
والحسيب: العليم وهو صفة مشبهة: من حسب بكسر السين الذي هو من أفعال القلب، فحول إلى فعل بضم عينه لما أريد به أن العلم وصف ذاتي له، وبذلك نقصت تعديته فاقتصر على مفعول واحد، ثم ضمن معنى المحصي فعدي إليه بعلى. ويجوز كونه من أمثلة المبالغة. قيل: الحسيب هنا بمعنى المحاسب، كالإكيل والشريب. فعلى كلامهم يكون التذييل وعدا بالجزاء على قدر فضل رد السلام، أو بالجزاء السيئ على ترك الرد من أصله. وقد أكد وصف الله بحسيب بمؤكدين: حرف إن وفعل كان الدال على أن ذلك وصف مقرر أزلي.
[87] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} .
استئناف ابتدائي، جمع تمجيد الله، وتهديدا، وتحذيرا من مخالفة أمره، وتقريرا للإيمان بيوم البعث، وردا لإشراك بعض المنافقين وإنكارهم البعث.
فاسم الجلالة مبتدأ. وجملة {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} معترضة بين المبتدأ وخبره لتمجيد الله.
وجملة {ليجمعنكم} جواب قسم محذوف واقع جميعه موقع الخبر عن اسم الجلالة. وأكد هذا الخبر: بلام القسم، ونون التوكيد، وبتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي، لتقوية تحقيق هذا الخبر، إبطالا إنكار الذين أنكروا البعث.
ومعنى {لا رَيْبَ فِيهِ} نفي أن يتطرقه جنس الريب والشك أي في مجيئه، والمقصود لا ريب حقيقيا فيه، أو أن ارتياب المرتابين لوهنه نزل منزلة الجنس المعدوم.
والاستفهام عن أن يكون أحد أصدق من الله هو استفهام إنكاري. وحديثا تمييز لنسبة فعل التفضيل.
[88] {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} .
تفريع عن أخبار المنافقين التي تقدمت، لأن ما وصف من أحوالهم لا يترك شكا عند المؤمنين في خبث طويتهم وكفرهم، أو هو تفريع عن قوله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} [النساء:87]. وإذ قد حدث الله عنهم بما وصف من سابق الآي، فلا يحق التردد في سوء نواياهم وكفرهم، فموقع الفاء هنا نظير موقع الفاء في قوله {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة النساء[84].
والاستفهام للتعجيب واللوم. والتعريف في {المنافقين} للعهد. و {فئتين} حال من الضمير المجرور باللام فهي قيد لعامله، الذي هو التوبيخ، فعلم أن محل التوبيخ هو الانقسام. و {في المنافقين} متعلق بفئتين لتأويله بمعنى منقسمين، ومعناه: في شأن المنافقين، لأن الحكم لا يتعلق بذوات المنافقين.
والفئة: الطائفة. وزنها فلة، مشتقة من الفيء وهو الرجوع، لأنهم يرجع بعضهم إلى بعض في شؤونهم. وأصلها فيء، فحذفوا الياء من وسطه لكثرة الاستعمال وعوضوا عنها الهاء.
وقد علم أن الانقسام إلى فئتين ما هو إلا انقسام في حالة من حالتين، والمقام للكلام في الإيمان والكفر، أي فما لكم بين مكفر لهم ومبرر؛ وفي إجراء أحكام الإيمان أو الكفر عليهم. قيل: نزلت هذه الآية في المنخزلين يوم أحد: عبد الله بن أبي وأتباعه، اختلف المسلمون في وصفهم بالإيمان أو الكفر بسبب فعلتهم تلك. وفي صحيح البخاري عن زيد بن ثابت قال: رجع ناس من أصحاب النبي من أحد، وكان الناس فيهم فريقين، فريق يقول: اقتلهم، وفريق يقول: لا، فنزلت فما لكم في المنافقين فئتين، وقال "إنها طيبة تنفي الخبث كما تنفي النار خبث الفضة" أي ولم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم جريا على ظاهر حالهم من إظهار الإسلام. فتكون الآية لبيان أنه ما كان ينبغي التردد في أمرهم. وعن مجاهد: أنها نزلت في قوم من أهل مكة أظهروا الإيمان، وهاجروا إلى المدينة، ثم استأذنوا في الرجوع إلى مكة، ليأتوا ببضاعة يتجرون فيها، وزعموا أنهم لم يزالوا مؤمنين، فاختلف المسلمون في شأنهم: أهم مشركون أم مسلمون. ويبينه ما روي عن ابن عباس أنها نزلت في قوم كانوا من أهل مكة يبطنون الشرك ويظهرون الإسلام للمسلمين، ليكونوا في أمن من تعرض المسلمين لهم بحرب في خروجهم في تجارات أو نحوها، وأنه قد بلغ المسلمين أنهم خرجوا من مكة في تجارة، فقال فريق من المسلمين: نركب إليهم فنقاتلهم، وقال فريق: كيف نقتلهم وقد نطقوا بالإسلام، فاختلف المسلمون في ذلك، ولم يغير رسول الله على أحد من الفريقين حتى نزلت الآية.
وعن الضحاك: نزلت في قوم أظهروا الإسلام بمكة ولم يهاجروا، وكانوا يظاهرون المشركين على المسلمين، وهو الذين قال الله تعالى فيهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} [النساء:97] الآية. وأحسب أن هؤلاء الفرق كلهم كانوا معروفين وقت نزول الآية، فكانوا مثلا لعمومها وهي عامة فيهم وفي غيرهم من كل من عرف بالنفاق يومئذ من أهل المدينة ومن أهل مكة.
والظاهر أن الآية نزلت بعد أن فات وقت قتالهم، لقصد عدم التعرض لهم وقت خروجهم، استدراجا لهم إلى يوم فتح مكة.
وعلى جميع الاحتمالات فموقع الملام هو الخطأ في الاجتهاد لضعف دليل المخطئين لأن دلائل كفر المتحدث عنهم كانت ترجح على دليل إسلامهم الذي هو مجرد النطق بكلمة الإسلام، مع التجرد عن إظهار موالاة المسلمين. وهذه الآية دليل على أن المجتهد إذا استند إلى دليل ضعيف ما كان من شأنه أن يستدل به العالم لا يكون بعيدا عن
الملام في الدنيا على أن أخطأ فيما لا يخطئ أهل العلم في مثله.
وجملة {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} حالية، أي إن كنتم اختلفتم فيهم فالله قد ردهم إلى حالهم السوآى، لأن معنى أركس رد إلى الركس، والركس قريب من الرجس. وفي حديث الصحيح في الروث "إن هذا ركس" وقيل: معنى أركس نكس، أي رد ردا شنيعا، وهو مقارب للأول. وقد جعل الله ردهم إلى الكفر جزاء لسوء اعتقادهم وقلة إخلاصهم مع رسوله صلى الله عليه وسلم-، فإن الأعمال تتوالد من جنسها، فالعمل الصالح يأتي بزيادة الصالحات، والعمل السيئ يأتي بمنتهى المعاصي، ولهذا تكرر في القرآن الإخبار عن كون العمل سببا في بلوغ الغايات من جنسه.
وقوله {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} استئناف بياني نشأ عن اللوم والتعجيب الذي في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} ، لأن السامعين يترقبون بيان وجه اللوم، ويتساءلون عماذا يتخذون نحو هؤلاء المنافقين. وقد دل الاستفهام الإنكاري المشوب باللوم على جملة محذوفة هي محل الاستئناف البياني، وتقديرها: إنهم قد أضلهم الله، أتريدون أن تهدوا من أضل الله، بناء على أن قوله {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} ليس المراد منه أنه أضلهم، بل المراد منه أساء حالهم، وسوء الحال أمر مجمل يفتقر إلى البيان، فيكون فصل الجملة فصل الاستئناف.
وإن جعلت معنى {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} أنه ردهم إلى الكفر، كانت جملة {أتريدون} استئنافا ابتدائيا، ووجه الفصل أنه إقبال على اللوم والإنكار، بعد جملة {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ} التي هي خبرية، فالفصل لكمال الانقطاع لاختلاف الغرضين.
[89] {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً}.
الأظهر أن ضمير ودوا عائد إلى المنافقين في قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88]. فضح الله هذا الفريق فأعلم المسلمين بأنهم مضمرون الكفر، وأنهم يحاولون رد من يستطيعون رده من المسلمين إلى الكفر.
وعليه فقوله {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إن حمل على ظاهر المهاجرة لا يناسب إلا ما تقدم في سبب النزول عن مجاهد وابن عباس، ولا
يناسب ما في الصحيح عن زيد بن ثابت، فتعين تأويل المهاجرة بالجهاد في سبيل الله، فالله نهى المسلمين عن ولايتهم إلى أن يخرجوا في سبيل الله في غزوة تقع بعد نزول الآية لأن غزوة أحد، التي انخزل عنها عبد الله بن أبي وأصحابه، قد مضت قبل نزول هذه السورة.
وما أبلغ التعبير في جانب محاولة المؤمنين بالإرادة في قوله {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ} [النساء:88]، وفي جانب محاولة المنافقين بالود، لأن الإرادة ينشأ عنها الفعل، فالمؤمنون يستقربون حصول الإيمان من المنافقين، لأن الإيمان قريب من فطرة الناس، والمنافقون يعلمون أن المؤمنين لا يرتدون عن دينهم، ويرون منهم محبتهم إياه، فلم يكن طلبهم تكفير المؤمنين إلا تمنيا، فعبر عنه بالود المجرد.
وجملة {فَتَكُونُونَ سَوَاءً} تفيد تأكيد مضمون قوله {بِمَا كَفَرُوا} قصد منها تحذير المسلمين من الوقوع في حبالة المنافقين.
وقوله {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أقام الله للمسلمين به علامة على كفر المتظاهرين بالإسلام، حتى لا يعود بينهم الاختلاف في شأنهم، وهي علامة بينة، فلم يبق من النفاق شيء مستور إلا نفاق منافقي المدينة. والمهاجرة في سبيل الله هي الخروج من مكة إلى المدينة بقصد مفارقة أهل مكة، ولذلك قال {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي لأجل الوصول إلى الله، أي إلى دينه الذي أراده.
وقوله {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي أعرضوا عن المهاجرة. وهذا إنذار لهم قبل مؤاخذتهم، إذ المعنى: فأبلغوهم هذا الحكم فإن أعرضوا عنه ولم يتقبلوه فخذوهم واقتلوهم، وهذا يدل على أن من صدر منه شيء يحتمل الكفر لا يؤاخذ به حتى يتقدم له، ويعرف بما صدر منه، ويعذر إليه، فإن التزمه يؤاخذ به، ثم يستتاب. وهو الذي أفتى به سحنون.
والولي: الموالي الذي يضع عنده مولاه سره ومشورته. والنصير الذي يدافع عن وليه ويعينه.
[90] {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}.
الاستثناء من الأمر في قوله {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} أي: إلا الذين آمنوا ولم يهاجروا. أو إلا الذين ارتدوا على أدبارهم إلى مكة بعد أن هاجروا، وهؤلاء يصلون إلى قوم ممن عاهدوكم، فلا تتعرضوا لهم بالقتل، لئلا تنقضوا عهودكم المنعقدة مع قومهم.
ومعنى يصلون ينتسبون، مثل معنى اتصل في قول أحد بني نبهان:
ألا بلغا خلتي راشدا
...
وصنوي قديما إذا ما اتصل
أي انتسب، ويحتمل أن يكون بمعنى التحق، أي إلا الذين يلتحقون بقوم بينكم وبينهم ميثاق، فيدخلون في عهدهم. فعلى الاحتمال الأول هم من المعاهدين أصالة. وعلى الاحتمال الثاني هم كالمعاهدين لأن معاهد المعاهد كالمعاهد. والمراد بالذين يصلون قوم غير معينين، بل كل من اتصل بقوم لهم عهد مع المسلمين، ولذلك قال مجاهد: هؤلاء من القوم الذين نزل فيهم {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88].
وأما قوله {إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} فالمراد به القبائل التي كان لهم عهد مع المسلمين. قال مجاهد: لما نزلت {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} الآية خاف أولئك الذين نزلت فيهم، فذهبوا ببضائعهم إلى هلال بن عويمر الأسلمي، وكان قد حالف النبي صلى الله عليه وسلم على: أن لا يعينه ولا يعين عليه، وأن من لجأ إلى هلال من قومه وغيرهم فله من الجوار مثل ما له. وقيل: أريد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق خزاعة، وقيل: بنو بكر بن زيد مناءة كانوا في صلح وهدنة مع المسلمين، ولم يكونوا آمنوا يومئذ. وقيل: هم بنو مدلج إذ كان سراقة بن مالك المدلجي قد عقد عهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه بني مدلج بعد يوم بدر، على أن لا يعينوا على رسول الله، وأنهم إن أسلمت قريش أسلموا وإن لم تسلم قريش فهم لا يسلمون، لئلا تخشن قلوب قريش عليهم. والأولى أن جميع هذه القبائل مشمول للآية.
ومعنى {أََوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} الخ: أو جاءوا إلى المدينة مهاجرين ولكنهم شرطوا أن لا يقاتلوا مع المؤمنين قومهم فاقبلوا منهم ذلك. وكان هذا رخصة لهم أول الإسلام، إذ كان المسلمون قد هادنوا قبائل من العرب تألفا لهم، ولمن دخل في عهدهم، فلما قوي الإسلام صار الجهاد مع المؤمنين واجبا على كل من يدخل في الإسلام، أما المسلمون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن أسلموا ولم يشترطوا هذا الشرط فلا تشملهم الرخصة، وهم الذين قاتلوا مشركي مكة وغيرها.
وقرأ الجمهور حصرت بصيغة فعل المضي المقترن بتاء تأنيث الفعل وقرأه يعقوب حصرة بصيغة الصفة وبهاء تأنيث الوصف في آخره منصوبة منونة-.
و {حصرت} بمعنى ضاقت وحرجت.
و {أًَنْ يُقَاتِلُوكُمْ} مجرور بحذف عن، أي ضاقت عن قتالكم، لأجل أنهم مؤمنون لا يرضون قتال إخوانهم، وعن قتال قومهم لأنهم من نسب واحد، فعظم عليهم قتالهم. وقد دل قوله {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} على أن ذلك عن صدق منهم. وأريد بهؤلاء بنو مدلج: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقد عذرهم الله بذلك إذ صدقوا، وبين الله تعالى للمؤمنين فائدة هذا التسخير الذي سخر لهم من قوم قد كانوا أعداء لهم فصاروا سلما يودونهم، ولكنهم يأبون قتال قومهم فقال {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ} ، ولذلك أمر المؤمنين بكف أيديهم عن هؤلاء إن اعتزلوهم ولم يقاتلوهم، وهو معنى قوله {فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي إذنا بعد أن أمر المؤمنين بقتال غيرهم حيث وجدوهم.
والسبيل هنا مستعار لوسيلة المؤاخذة، ولذلك جاء في خبره بحرف الاستعلاء دون حرف الغاية، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} في سورة براءة[91].
[91] {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} .
هؤلاء فريق آخر لا سعي لهم إلا في خويصتهم، ولا يعبأون بغيرهم، فهم يظهرون المودة للمسلمين ليأمنوا غزوهم، ويظهرون الود لقومهم ليأمنوا غائلتهم، وما هم بمخلصين الود لأحد الفريقين، ولذلك وصفوا بإرادة أن يأمنوا من المؤمنين ومن قومهم، فلا هم لهم إلا حظوظ أنفسهم، يلتحقون بالمسلمين في قضاء لبانات لهم فيظهرون الإيمان، ثم يرجعوا إلى قومهم فيرتدون إلى الكفر، وهو معنى قوله {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} [النساء:91]. وقد مر بيان معنى أركسوا قريبا. وهؤلاء هم غطفان وبنو أسد ممن كانوا حول المدينة قبل أن يخلص إسلامهم، وبنو عبد الدار من أهل مكة. كانوا يأتون المدينة فيظهرون الإسلام ويرجعون إلى مكة فيعبدون الأصنام. وأمر الله المؤمنين
في معاملة هؤلاء ومعاملة الفريق المتقدم في قوله {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:90] أمر واحد، وهو تركهم إذا تركوا المؤمنين وسالموهم، وقتالهم إذا ناصبوهم العداء، إلا أن الله تعالى جعل الشرط المفروض بالنسبة إلى الأولين: أنهم يعتزلون المسلمين، ويلقون إليهم السلم، ولا يقاتلونهم، وجعل الشرط المفروض بالنسبة إلى هؤلاء أنهم لا يعتزلون المسلمين، ولا يلقون إليهم السلم، ولا يكفون أيديهم عنهم، نظرا إلى الحالة المترقبة من كل فريق من المذكورين. وهو افتنان بديع لم يبق معه اختلاف في الحكم ولكن صرح باختلاف الحالين، وبوصف ما في ضمير الفريقين.
والوجدان في قوله {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ} بمعنى العثور والاطلاع، أي ستطلعون على قوم آخرين، وهو من استعمال وجد، ويتعدى إلى مفعول واحد، فقوله {يريدون} جملة في موضع الحال، وسيأتي بيان تصاريف استعمال الوجدان في كلامهم عند قوله تعالى {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} في سورة المائدة[82].
وجيء باسم الإشارة في قوله {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} لزيادة تمييزهم.
والسلطان المبين هو الحجة الواضحة الدالة على نفاقهم، فلا يخشى أن ينسب المسلمون في قتالهم إلى اعتداء وتفريق الجامعة.
[92] {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} .
انتقال الغرض يعيد نشاط السامع بتفنن الأغراض، فانتقل من تحديد أعمال المسلمين مع العدو إلى أحكام معاملة المسلمين بعضهم مع بعض: من وجوب كف عدوان بعضهم على بعض.
والمناسبة بين الغرض المنتقل منه والمنتقل إليه: أنه قد كان الكلام في قتال المتظاهرين بالإسلام الذين ظهر نفاقهم، فلا جرم أن تتشوف النفس إلى حكم قتل
المؤمنين الخلص. وقد روي أنه حدث حادث قتل مؤمن خطأ بالمدينة ناشيء عن حزازات أيام القتال في الشرك أخطأ فيه القاتل إذ ظن المقتول كافرا. وحادث قتل مؤمن عمدا ممن كان يظهر الإيمان، والحادث المشار إليه بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] وأن هذه الآيات نزلت في ذلك، فتزداد المناسبة وضوحا لأن هذه الآية تصير كالمقدمة لما ورد بعدها من الأحكام في القتل.
هول الله تعالى أمر قتل المسلم أخاه المسلم، وجعله في حيز ما لا يكون، فقال {وََمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} فجاء بصيغة المبالغة في النفي، وهي صيغة الجحود، أي ما وجد لمؤمن أن يقتل مؤمنا في حال من الأحوال إلا في حال الخطأ، أو أن يقتل قتلا من القتل إلا قتل الخطأ، فكان الكلام حصرا وهو حصر ادعائي مراد به المبالغة كأن صفة الإيمان في القاتل والمقتول تنافي الاجتماع مع القتل في نفس الأمر منافاة الضدين لقصد الإيذان بأن المؤمن إذا قتل مؤمنا فقد سلب عنه الإيمان وما هو بمؤمن، على نحوولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن فتكون هذه الجملة مستقلة عما بعدها، غير مراد بها التشريع، بل هي كالمقدمة للتشريع، لقصد تفظيع حال قتل المؤمن المؤمن قتلا غير خطإ، وتكون خبرية لفظا ومعنى، ويكون الاستثناء حقيقيا من عموم الأحوال، أي ينتفي قتل المؤمن مؤمنا في كل حال إلا في حال عدم القصد، وهذا أحسن ما يبدو في معنى الآية.
ولك أن تجعل قوله {وََمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} خبرا مرادا به النهي، استعمل المركب في رزم معناه على طريقة المجاز المرسل التمثيلي، وتجعل قوله {إِلَّا خَطَأً} ترشيحا للمجاز: على نحو ما قررناه في الوجه الأول، فيحصل التنبيه على أن صورة الخطأ لا يتعلق بها النهي، إذ قد علم كل أحد أن الخطأ لا يتعلق به أمر ولا نهي، يعني إن كان نوع من قتل المؤمن مأذونا فيه للمؤمن، فهو قتل الخطأ، وقد علم أن المخطئ لا يأتي فعله قاصدا امتثالا ولا عصيانا، فرجع الكلام إلى معنى: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا قتلا تتعلق به الإرادة والقصد بحال أبدا، فتكون الجملة مبدأ التشريع، وما بعدها كالتفصيل لها؛ وعلى هذين الوجهين لا يشكل الاستثناء في قوله {إِلَّا خَطَأً} . وذهب المفسرون إلى أن {وََمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنا} مراد به النهي، أي خبر في معنى الإنشاء فالتجأوا إلى أن الاستثناء منقطع بمعنى لكن فرارا من اقتضاء مفهوم الاستئناء إباحة أن يقتل مؤمن مؤمنا خطأ، وقد فهمت أنه غير متوهم هنا.
وإنما جيء بالقيد في قوله {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} لأن قوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} مراد به ادعاء الحصر أو النهي كما علمت، ولو كان الخبر على حقيقته لاستغنى عن القيد لانحصار قتل المؤمن بمقتضاه في قتل الخطأ، فيستغنى عن تقييده به.
روى الطبري، والواحدي، في سبب نزول هذه الآية: أن عياشا بن أبي ربيعة المخزومي كان قد أسلم وهاجر إلى المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أخا أبي جهل لأمه، فخرج أبو جهل وأخوه الحارث بن هشام والحارث بن زيد بن أبي أنيسة في طلبه، فأتوه بالمدينة وقالوا له: إن أمك أقسمت أن لا يظلها بيت حتى تراك، فارجع معنا حتى تنظر إليك ثم ارجع، وأعطوه موثقا من الله أن لا يهيجوه، ولا يحولوا بينه وبين دينه، فخرج معهم فلما جاوزوا المدينة أوثقوه، ودخلوا به مكة، وقالوا له لا نحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به. وكان الحارث بن زيد يجلده ويعذبه، فقال عياش للحارث والله لا ألقاك خاليا إلا قتلتك فبقي بمكة حتى خرج يوم الفتح إلى المدينة فلقي الحارث بن زيد بقباء، وكان الحارث قد أسلم ولم يعلم عياش بإسلامه، فضربه عياش فقتله، ولما أعلم بأنه مسلم رجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي صنع فنزلت {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} فتكون هذه الآية قد نزلت بعد فتح مكة.
وفي ابن عطية: قيل نزلت في اليمان، والد حذيفة بن اليمان، حين قتله المسلمون يوم أحد خطأ.
وفي رواية للطبري: أنها نزلت في قضية أبي الدرداء حين كان في سرية، فعدل إلى شعب فوجد رجلا في غنم له، فحمل عليه أبو الدرداء بالسيف، فقال الرجل لا اله إلا الله فضربه فقتله وجاء بغنمه إلى السرية، ثم وجد في نفسه شيئا فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت الآية.
وقوله {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} الفاء رابطة لجواب الشرط، و وتحرير مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف من جملة الجواب: لظهور أن المعنى: فحكمه أو فشأنه تحرير رقبة كقوله {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18]. والتحرير تفعيل من الحرية، أي جعل الرقبة حرة. والرقبة أطلقت على الذات من إطلاق البعض على الكل، كما يقولون، الجزية على الرؤوس على كل رأس أربعة دنانير.
ومن أسرار الشريعة الإسلامية حرصها على تعميم الحرية في الإسلام بكيفية منتظمة،
فإن الله لما بعث رسوله بدين الإسلام كانت العبودية متفشية في البشر، وأقيمت عليها ثروات كثيرة، وكانت أسبابها متكاثرة: وهي الأسر في الحروب، والتصيير في الديون، والتخطف في الغارات، وبيع الآباء والأمهات أبناءهم، والرهائن في الخوف، والتداين. فأبطل الإسلام جميع أسبابها عدا الأسر، وأبقى الأسر لمصلحة تشجيع الأبطال، وتخويف أهل الدعارة من الخروج على المسلمين، لأن العربي ما كان يتقي شيئا من عواقب الحروب مثل الأسر، قال النابغة:
حذارا على أن لا تنال مقادتي
...
ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا
ثم داوى تلك الجراح البشرية بإيجاد أسباب الحرية في مناسبات دينية جمة: منها واجبة، ومنها مندوب إليها، ومن الأسباب الواجبة كفارة القتل المذكورة هنا. وقد جعلت كفارة قتل الخطأ أمرين: أحدهما تحرير رقبة مؤمنة، وقد جعل هذا التحرير بدلا من تعطيل حق الله في ذات القتيل، فإن القتيل عبد من عباد الله ويرجى من نسله من يقوم بعبادة الله وطاعة دينه، فلم يخل القاتل من أن يكون فوت بقتله هذا الوصف، وقد نبهت الشريعة بهذا على أن الحرية حياة، وأن العبودية موت؛ فمن تسبب في موت نفس حية كان عليه السعي في إحياء نفس كالميتة وهي المستهبدة. وسنزيد هذا بيانا عند قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} في سورة المائدة[20]، فإن تأويله أن الله أنقذهم من استعباد الفراعنة فصاروا كالملوك لا يحكمهم غيرهم.
وثانيهما الدية. والدية مال يدفع لأهل القتيل خطأ، جبرا لمصيبة أهله فيه من حيوان أو نقدين أو نحوهما، كما سيأتي.
والدية معروفة عند العرب بمعناها ومقاديرها فلذلك لم يفصلها القرآن. وقد كان العرب جعلوا الدية على كيفيات مختلفة، فكانت عوضا عن دم القتيل في العمد وفي الخطأ، فأما في العمد فكانوا يتعيرون بأخذها. قال الحماسي:
فلو أن حيا يقبل المال فدية ... لسقنا لهم سيبا من المال مفعما
ولكن أبى قوم أصيب أخوهم ... رضى العار فاختاروا على اللبن الدما
وإذا رضي أولياء القتيل بدية بشفاعة عظماء القبيلة قدروها بما يتراضون عليه. قال زهير:
تعفى الكلوم بالمئين فأصبحت
...
ينجمها من ليس فيها بمجرم
ما في الخطأ فكانوا لا يأبون أخذ الدية، قيل: إنها كانت عشرة من الإبل وأن أول من جعلها مائة من الإبل عبد المطلب بن هاشم، إذ فدى ولده عبد الله بعد أن نذر ذبحه للكعبة بمائة من الإبل، فجرت في قريش كذلك، ثم تبعهم العرب، وقيل: أول من جعل الدية مائة من الإبل أبو سيارة عميلة العدواني، وكانت دية الملك ألفا من الإبل، ودية السادة مائتين من الإبل، ودية الحليف نصف دية الصميم. وأول من ودي بالإبل هو زيد بن بكر بن هوازن، إذ قتله أخوه معاوية جد بني عامر بن صعصعة.
وأكثر ما ورد في السنة من تقدير الدية هو مائة من الإبل مخمسة أخماسا: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون.
ودية العمد، إذا رضي أولياء القتيل بالدية، مربعة: خمس وعشرون من كل صنف من الأصناف الأربعة الأول. وتغلظ الدية على أحد الأبوين تغليظا بالصنف لا بالعدد، إذا قتل ابنه خطأ: ثلاثون جذعة، وثلاثون حقة، وأربعون خلفة، أي نوقا في بطونها أجنتها. وإذا كان أهل القتيل غير أهل إبل نقلت الدية إلى قيمة الإبل تقريبا فجعلت على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألف درهم. وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه جعل الدية على أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الغنم ألفي شاة. وفي حديث أبي داود أن الدية على أهل الحلل، أي أهل النسيج مثل أهل اليمن، مائة حلة. والحلة ثوبان من نوع واحد.
ومعيار تقدير الديات، باختلاف الأعصار والأقطار، الرجوع إلى قيمة مقدارها من الإبل المعين في السنة. ودية المرأة القتيلة على النصف من دية الرجل. ودية الكتابي على النصف من دية المسلم. ودية المرأة الكتابية على النصف من دية الرجل الكتابي. وتدفع الدية منجمة في ثلاث سنين بعد كل سنة نجم، وابتداء تلك النجوم من وقت القضاء في شأن القتل أو التراوض بين أولياء القتيل وعاقلة القاتل.
والدية بتخفيف الياء مصدر ودي، أي أعطى، مثل رمى، ومصدره ودي مثل وعد، حذفت فاء الكلمة تخفيفا، لأن الواو ثقيلة، كما حذفت في عدة، وعوض عنها الهاء في آخر الكلمة مثل شية من الوشي.
وأشار قوله {مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} إلى أن الدية ترضية لأهل القتيل. وذكر الأهل
مجملا فعلم أن أحق الناس بها أقرب الناس إلى القتيل، فإن الأهل هو القريب، والأحق بها الأقرب. وهي في حكم الإسلام يأخذها ورثة القتيل على حسب الميراث إلا أن القاتل خطأ إذا كان وارثا للقتيل لا يرث من ديته، وهي بمنزلة تعويض المتلفات، جعلت عوضا لحياة الذي تسبب القاتل في قتله، وربما كان هذا المعنى هو المقصود من عهد الجاهلية، ولذلك قالوا: تكايل الدماء، وقالوا: هما بواء، أي كفآن في الدم وزادوا في دية سادتهم.
وجعل عفو أهل القتيل عن أخذ الدية صدقة منه ترغيبا في العفو.
وقد أجمل القرآن من يجب عليه دفع الدية وبينته السنة بأنهم العاقلة، وذلك تقرير لما كان عليه الأمر قبل الإسلام.
والعاقلة: القرابة من القبيلة. تجب على الأقرب فالأقرب بحسب التقدم في التعصيب.
وقوله {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} الآية أي أن كان القتيل مؤمنا وكان أهله كفارا، بينهم وبين المسلمين عداوة، يقتصر في الكفارة على تحرير الرقبة دون دفع دية لهم، لأن الدية: إذا اعتبرناها جبرا لأولياء الدم، فلما كانوا أعداء لم تكن حكمة في جبر خواطرهم، وإذا اعتبرناها عوضا عن منافع قتيلهم، مثل قيم المتلفات، يكون منعها من الكفار؛ لأنه لا يرث الكافر المسلم، ولأنا لا نعطيهم مالنا يتقوون به علينا. وهذا الحكم متفق عليه بين الفقهاء، إن كان القتيل المؤمن باقيا في دار قومه وهم كفار، فأما إن كان القتيل في بلاد الإسلام وكان أولياؤه كفارا، فقال ابن عباس، ومالك، وأبو حنيفة: لا تسقط عن القاتل ديته، وتدفع لبيت مال المسلمين. وقال الشافعي، والأوزاعي، والثوري: تسقط الدية لأن سبب سقوطها أن مستحقيها كفار. وظاهر قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ} أن العبرة بأهل القتيل لا بمكان إقامته، إذ لا أثر لمكان الإقامة في هذا الحكم ولو كانت إقامته غير معذور فيها.
وأخبر عن {قوم} بلفظ {عدو} وهو مفرد، لأن فعولا بمعنى فاعل يكثر في كلامهم أن يكون مفردا مذكرا غير مطابق لموصوفه، كقوله {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً} [النساء:101] {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ} [الأنعام:112]، وامرأة عدو. وشذ قولهم عدوة. وفي كلام عمر بن الخطاب في صحيح البخاري أنه قال للنسوة اللاتي كن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم فلما دخل عمر ابتدرن الحجاب لما رأينه يا عدوات أنفسهن. ويجمع بكثرة على أعداء، قال
تعالى {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} [فصلت:19].
وقوله {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ} ميثاق أي إن كان القتيل المؤمن. فجعل للقوم الذين بين المسلمين وبينهم ميثاق، أي عهد من أهل الكفر، دية قتيلهم المؤمن اعتدادا بالعهد الذي بيننا وهذا يؤذن بأن الدية جبر لأولياء القتيل، وليست مالا موروثا عن القاتل، إذ لا يرث الكافر المسلم، فلا حاجة إلى تأويل الآية بأن يكون للمقتول المؤمن وارث مؤمن في قوم معاهدين، أو يكون المقتول معاهدا لا مؤمنا، بناء على أن الضمير في كان عائد على القتيل بدون وصف الإيمان، وهو تأويل بعيد لأن موضوع الآية فيمن قتل مؤمنا خطأ. ولا يهولنكم التصريح بالوصف في قوله {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} لأن ذلك احتراس ودفع للتوهم عند الخبر عنه بقوله {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أن يظن أحد أنه أيضا عدو لنا في الدين. وشرط كون القتيل مؤمنا في هذا الحكم مدلول بحمل مطلقه هنا على المقيد في قوله هنالك {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، ويكون موضوع هذا التفصيل في القتيل المسلم خطأ لتصدير الآية بقوله {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً} ، وهذا قول مالك، وأبي حنيفة.
وذهبت طائفة إلى إبقاء المطلق هنا على إطلاقه، وحملوا معنى الآية على الذمي والمعاهد، يقتل خطأ فتجب الدية وتحرير رقبة، وهو قول ابن عباس، والشعبي، والنخعي، والشافعي، ولكنهم قالوا: إن هذا كان حكما في مشركي العرب الذين كان بينهم وبين المسلمين صلح إلى أجل، حتى يسلموا أو يؤذنوا بحرب، وإن هذا الحكم نسخ.
وقوله {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} وصف الشهران بأنهما متتابعان والمقصود تتابع أيامهما، لأن تتابع الأيام يستلزم توالي الشهرين.
وقوله توبة من الله مفعول لأجله على تقدير: شرع الله الصيام توبة منه. والتوبة هنا مصدر تاب بمعنى قبل التوبة بقرينة تعديته بمن، لأن تاب يطلق على معنى ندم وعلى معنى قبل منه، كما تقدم في قوله تعالى {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ} [النساء:17] في هذه السورة، أي خفف الله عن القاتل فشرع الصيام ليتوب عليه فيما أخطأ فيه لأنه أخطأ في عظيم. ولك أن تجعل توبة مفعولا لأجله راجعا إلى تحرير الرقبة والدية وبدلهما، وهو الصيام، أي شرع الله الجميع {توبة} منه على القاتل، ولو لم يشرع له ذلك لعاقبه على أسباب الخطأ، وهي ترجع إلى تفريط الحذر والأخذ بالحزم. أو هو حال من صيام، أي سبب توبة، فهو حال مجازية عقلية.
[93] {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} .
هذا هو المقصود من التشريع لأحكام القتل، لأنه هو المتوقع حصوله من الناس، وإنما أخر لتهويل أمره، فابتدأ بذكر قتل الخطأ بعنوان قوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء:93].
والمتعمد: القاصد للقتل، مشتق من عمد إلى كذا بمعنى قصد وذهب. والأفعال كلها لا تخرج عن حالتي عمد وخطأ، ويعرف التعمد بأن يكون فعلا لا يفعله أحد بأحد إلا وهو قاصد إزهاق روحه بخصوصه بما تزهق به الأرواح في متعارف الناس، وذلك لا يخفى على أحد من العقلاء. ومن أجل ذلك قال الجمهور من الفقهاء: القتل نوعان عمد وخطأ، وهو الجاري على وفق الآية، ومن الفقهاء من جعل نوعا ثالثا سماه شبه العمد، واستندوا في ذلك إلى آثار مروية، إن صحت فتأويلها متعين وتحمل على خصوص ما وردت فيه. وذكر ابن جرير والواحدي أن سبب نزول هذه الآية أن مقيسا بن صبابة1 وأخاه هشام جاءا مسلمين مهاجرين فوجد هشام قتيلا في بني النجار، ولم يعرف قاتله، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإعطاء أخيه مقيس مائة من الإبل، دية أخيه، وأرسل إليهم بذلك مع رجل من فهر فلما أخذ مقيس الإبل عدا على الفهري فقتله، واستاق الإبل، وانصرف إلى مكة كافران وأنشد في شأن أخيه:
قتلت به فهرا وحملت عقله
...
سراة بني النجار أرباب فارع2
حللت به وتري وأدركت ثأرتي
...
وكنت إلى الأوثان أول راجع
وقد أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة، فقتل بسوق مكة.
وقوله {خَالِداً فِيهَا} محمله عند جمهور علماء السنة على طول المكث في النار لأجل قتل المؤمن عمدا، لأن قتل النفس ليس كفرا بالله ورسوله، ولا خلود في النار إلا للكفر، على قول علمائنا من أهل السنة، فتعين تأويل الخلود بالمبالغة في طول المكث،
ـــــــ
1 مقيس بميم مكسورة وقاف وتحتية بوزن منبر وصبابة بصاد مهملة وبائين موحدتين قيل هو اسم أمه.
2 فارع اسم حصن في المدينة لبني النجار.
وهو استعمال عربي. قال النابغة في مرض النعمان بن المنذر:
ونحن لديه نسأل الله خلده
...
يرد لنا ملكا وللأرض عامرا
ومحمله عند من يكفر بالكبائر من الخوارج، وعند من يوجب الخلود على أهل الكبائر، على وتيرة إيجاب الخلود بارتكاب الكبيرة.
وكلا الفريقين متفقون على أن التوبة ترد على جريمة قتل النفس عمدا، كما ترد على غيرها من الكبائر، إلا أن نفرا من أهل السنة شذ شذوذا بينا في محمل هذه الآية: فروي عن ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس: أن قاتل النفس متعمدا لا تقبل له توبة، واشتهر ذلك عن ابن عباس وعرف به، أخذا بهذه الآية. وأخرج البخاري أن سعيد بن جبير قال: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها، فقال نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} الآية. هي آخر ما نزل وما نسخها شيء، فلم يأخذ بطريق التأويل. وقد اختلف السلف في تأويل كلام ابن عباس: فحمله جماعة على ظاهره، وقالوا: إن مستنده أن هذه الآية هي آخر ما نزل، فقد نسخت الآيات التي قبلها، التي تقتضي عموم التوبة، مثل قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116] فقاتل النفس ممن يشأ الله أن يغفر له ومثل قوله {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، ومثل قوله {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان:68، 69]. والحق أن محل التأويل ليس هو تقدم النزول أو تأخره، ولكنه في حمل مطلق الآية على الأدلة التي قيدت جميع أدلة العقوبات الأخروية بحالة عدم التوبة. فأما حكم الخلود فحمله على ظاهره أو على مجازه، وهو طول المدة في العقاب، مسألة أخرى لا حاجة إلى الخوض فيها حين الخوض في شأن توبة القاتل المتعمد، وكيف يحرم من قبول التوبة، والتوبة من الكفر، وهو أعظم الذنوب مقبولة، فكيف بما هو دونه من الذنوب.
وحمل جماعة مراد ابن عباس على قصد التهويل والزجر، لئلا يجترئ الناس على قتل النفس عمدا، ويرجون التوبة، ويعضدون ذلك بأن ابن عباس روي عنه أنه جاءه رجل فقال ألمن قتل مؤمنا متعمدا توبة فقال لا إلا النار، فلما ذهب قال له جلساؤه أهكذا كنت تفتينا فقد كنت تقول إن توبته مقبولة فقال إني لأحسب السائل رجلا
مغضبا يريد أن يقتل مؤمنا، قال: فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك. وكان ابن شهاب إذا سأله عن ذلك من يفهم منه أنه كان قتل نفسا يقول له توبتك مقبولة وإذا سأله من لم يقتل، وتوسم من حاله أنه يحاول قتل نفس، قال له: لا توبة للقاتل.
وأقول: هذا مقام قد اضطربت فيه كلمات المفسرين كما علمت، وملاكه أن ما ذكره الله هنا في وعيد قاتل النفس قد تجاوز فيه الحد المألوف من الإغلاظ، فرأى بضع السلف أن ذلك موجب لحمل الوعيد في الآية على ظاهره، دون تأويل، لشدة تأكيده تأكيدا يمنع من حمل الخلود على المجاز، فيثبت للقاتل الخلود حقيقة، بخلاف بقية آي الوعيد، وكأن هذا المعنى هو الذي جعلهم يخوضون في اعتبار هذه الآية محكمة أو منسوخة، لأنهم لم يجدوا ملجأ آخر يأوون إليه في حملها على ما حملت عليه آيات الوعيد: من محامل التأويل، أو الجمع بين المتعارضات، فآووا إلى دعوى نسخ نصها بقوله تعالى في سورة الفرقان [الفرقان:68، 69] {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} إلى قوله {إِلَّا مَنْ تَابَ} لأن قوله {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} إما أن يراد به مجموع الذنوب المذكورة، فإذا كان فاعل مجموعها تنفعه التوبة ففاعل بعضها وهو القتل عمدا أجدر، وإما أن يراد فاعل واحدة منها فالقتل عمدا مما عد معها. ولذا قال ابن عباس لسعيد ابن جبير: إن آية النساء آخر آية نزلت وما نسخها شيء، ومن العجب أن يقال كلام مثل هذا، ثم أن يطال وتتناقله الناس وتمر عليه القرون، في حين لا تعارض بين هذه الآية التي هي وعيد لقاتل النفس وبين آيات قبول التوبة. وذهب فريق إلى الجواب بأنها نسخت بآية {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ، بناء على أن عموم {من يشاء} نسخ خصوص القتل. وذهب فريق إلى الجواب بأن الآية نزلت في مقيس بن صبابة، وهو كافر. فالخلود لأجل الكفر، وهو جواب مبني على غلط لأن لفظ الآية عام إذ هو بصيغة الشرط فتعين أن من شرطية وهي من صيغ العموم فلا تحمل على شخص معين؛ إلا عند من يرى أن سبب العام يخصصه بسببه لا غير، وهذا لا ينبغي الالتفات إليه. وهذه كلها ملاجئ لا حاجة إليها، لأن آيات التوبة ناهضة مجمع عليها متظاهرة ظواهرها، حتى بلغت حد النص المقطوع به، فيحمل عليها آيات وعيد الذنوب كلها حتى الكفر. على أن تأكيد الوعيد في الآية إنما يرفع احتمال المجاز في كونه وعيدا لا في تعيين المتوعد به وهو الخلود. إذ المؤكدات هنا مختلفة المعاني فلا يصح أن يعتبر أحدها مؤكدا لمدلول الآخر بل إنما أكدت الغرض، وهو الوعيد، لا أنواعه، وهذا هو الجواب القاطع لهاته الحيرة، وهو الذي يتعين اللجأ إليه، والتعويل عليه.
[94] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
استئناف ابتدائي خوطب به المؤمنون، استقصاء للتحذير من قتل المؤمن بذكر أحوال قد يتساهل فيها وتعرض فيها شبه. والمناسبة ما رواه البخاري، عن ابن عباس، قال: كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون، فقال: السلام عليكم، فقتلوه وأخذوا غنيمته، فأنزل الله في ذلك هذه الآية. وفي رواية وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل ديته إلى أهله ورد غنيمته. واختلف في اسم القاتل والمقتول، بعد الاتفاق على أن ذلك كان في سرية، فروى ابن القاسم، عن مالك: أن القاتل أسامة بن زيد، والمقتول مرداس بن نهيك الفزاري من أهل فدك، وفي سيرة ابن إسحاق أن القاتل محلم من جثامة، والمقتول عامر بن الأضبط. وقيل: القاتل أبو قتادة، وقيل أبو الدرداء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم وبخ القاتل، وقال له "فهلا شققت عن بطته فعلمت ما في قلبه" . ومخاطبتهم ب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} تلوح إلى أن الباعث على قتل من أظهر الإسلام منهي عنه، ولو كان قصد القاتل الحرص على تحقق أن وصف الإيمان ثابت للمقتول، فإن هذا التحقق غير مراد للشريعة، وقد ناطت صفة الإسلام بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله أو بتحية الإسلام وهي السلام عليكم.
والضرب: السير، وتقدم عند قوله تعالى {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} في سورة آل عمران[156]. وقوله {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ظرف مستقر هو حال من ضمير {ضربتم} وليس متعلقا بضربتم لأن الضرب أي السير لا يكون على سبيل الله إذ سبيل الله لقب للغزو، ألا ترى قوله تعالى {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً} الآية.
والتبين: شدة طلب البيان، أي التأمل القوي، حسبما تقتضيه صيغة التفعل. ودخول الفاء على فعل تبينوا لما في إذا من تضمن معنى الاشتراط غالبا. وقرأ الجمهور: {فتبينوا} بفوقية ثم موحدة ثم تحتية ثم نون من التبين وهو تفعل، أي تثبتوا واطلبوا بيان الأمور فلا تعجلوا فتتبعوا الخواطر الخاطفة الخاطئة. وقرأه حمزة، والكسائي،
وخلف: {فتثبتوا} بفاء فوقية فمثلثة فموحدة ففوقية بمعنى اطلبوا الثابت، أي الذي لا يتبدل ولا يحتمل نقيض ما بدا لكم.
وقوله {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} قرأ نافع، وابن عامر، وحمزة، وخلف السلم بدون ألف بعد اللام وهو ضد الحرب، ومعنى ألقى السلم أظهره بينكم كأنه رماه بينهم. وقرأ البقية السلام بالألف وهو مشترك بين معنى السلم ضد الحرب، ومعنى تحية الإسلام، فهي قول: السلام عليكم، أي من خاطبكم بتحية الإسلام علامة على أنه مسلم.
وجملة {لَسْتَ مُؤْمِناً} مقول {لا تقولوا} . وقرأه الجمهور: {مؤمنا} بكسر الميم الثانية بصيغة اسم الفاعل، أي لا تنفوا عنه الإيمان وهو يظهره لكم، وقرأه ابن وردان عن أبي جعفر بفتح الميم الثانية بصيغة اسم المفعول، أي لا تقولوا له لست محصلا تأميننا إياك، أي إنك مقتول أو مأسور. و {عَرَضَ الْحَيَاةِ} : متاع الحياة، والمراد به الغنيمة فعبر عنها ب {عَرَضَ الْحَيَاةِ} تحقيرا لها بأنها نفع عارض زائل.
وجملة {تبتغون} حالية، أي ناقشتموه في إيمانه خشية أن يكون قصد إحراز ماله، فكان عدم تصديقه آئلا إلى ابتغاء غنيمة ماله، فأوخذوا بالمآل. فالمقصود من هذا القيد زيادة التوبيخ، مع العلم بأنه لو قال لمن أظهر الإسلام: لست مؤمنا، وقتله غير آخذ منه مالا لكان حكمه أولى ممن قصد أخذ الغنيمة، والقيد ينظر إلى سبب النزول، والحكم أعم من ذلك. وكذلك قوله {فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} أي لم يحصر الله مغانمكم في هذه الغنيمة.
وزاد في التوبيخ قوله {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} أي كنتم كفارا فدخلتم الإسلام بكلمة الإسلام، فلو أن أحدا أبى أن يصدقكم في إسلامكم أكان يرضيكم ذلك. وهذه تربية عظيمة، وهي أن يستشعر الإنسان عند مؤاخذته غيره أحوالا كان هو عليها تساوي أحوال من يؤاخذه، كمؤاخذة المعلم التلميذ بسوء إذا لم يقصر في إعمال جهده. وكذلك هي عظة لمن يمتحنون طلبة العلم فيعتادون التشديد عليهم وتطلب عثراتهم، وكذلك ولاة الأمور وكبار الموظفين في معاملة من لنظرهم من صغار الموظفين، وكذلك الآباء مع أبنائهم إذا بلغت بهم الحماقة أن ينتهروهم على اللعب المعتاد أو على الضجر من الآلام.
وقد دلت الآية على حكمة عظيمة في حفظ الجامعة الدينية، وهي بث الثقة والأمان بين أفراد الأمة، وطرح ما من شأنه إدخال الشك لأنه إذا فتح هذا الباب عسر سده، وكما
يتهم المتهم غيره أن يتهم من اتهمه، وبذلك ترتفع الثقة، ويسهل على ضعفاء الإيمان المروق، إذ قد أصبحت التهمة تظل الصادق والمنافق، وانظر معاملة النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين معاملة المسلمين. على أن هذا الدين سريع السريان في القلوب فيكتفي أهله بدخول الداخلين فيه من غير مناقشة، إذ لا يلبثون أن يألفوه، وتخالط بشاشته قلوبهم، فهم يقتحمونه على شك وتردد فيصير إيمانا راسخا، ومما يعين على ذلك ثقة السابقين فيه باللاحقين بهم.
ومن أجل ذلك أعاد الله الأمر فقال {فتبينوا} تأكيدا لتبينوا المذكور قبله، وذيله بقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وهو يجمع وعيدا ووعدا.
[96,95] {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
ولما لام الله بعض المجاهدين على ما صدر منهم من التعمق في الغاية من الجهاد، عقب ذلك ببيان فضل المجاهدين كيلا يكون ذلك اللوم موهما انحطاط فضيلتهم في بعض أحوالهم، على عادة القرآن في تعقيب النذارة بالبشارة دفعا لليأس من الرحمة عن أنفس المسلمين.
يقول العرب لا يستوي وليس سواء بمعنى أن أحد المذكورين أفضل من الآخر. ويعتمدون في ذلك على القرينة الدالة على تعيين المفضل لأن من شأنه أن يكون أفضل. قال السمؤال أو غيره:
فليس سواء عالم وجهول
وقال تعالى {لَيْسُوا سَوَاءً} [آل عمران:113]، وقد يتبعونه بما يصرح بوجه نفي السوائية: إما لخفائه كقوله تعالى {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10]، وقد يكون التصريح لمجرد التأكيد كقوله {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20]. وإذ قد كان وجه التفاضل معلوما في أكثر مواقع أمثال هذا التركيب، صار في الغالب أمثال هذا التركيب مستعملة في معنى الكناية، وهو التعريض بالمفضول في تفريطه
وزهده فيما هو خير مع المكنة منه، وكذلك هو هنا لظهور أن القاعد عن الجهاد لا يساوي المجاهد في فضيلة نصرة الدين، ولا في ثوابه على ذلك، فتعين التعريض بالقاعدين وتشنيع حالهم. وبهذا يظهر موقع الاستثناء بقوله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} كيلا يحسب أصحاب الضرر أنهم مقصودون بالتحريض فيخرجوا مع المسلمين، فيكلفوهم مؤونة نقلهم وحفظهم بلا جدوى، أو يظنوا أنهم مقصودون بالتعريض فتنكسر لذلك نفوسهم، زيادة على انكسارها بعجزهم، ولأن في استثنائهم إنصافا لهم وعذرا بأنهم لو كانوا قادرين لما قعدوا، فذلك الظن بالمؤمن، ولو كان المقصود صريح المعنى لما كان للاستثناء موقع. فاحفظوا هذا فالاستثناء مقصود، وله موقع من البلاغة لا يضاع، ولو لم يذكر الاستثناء لكان تجاوز التعريض أصحاب الضرر معلوما من سياق الكلام، فالاستثناء عدول عن الاعتماد على القرينة إلى التصريح باللفظ. ويدل لهذا ما في الصحيحين، عن زيد بن ثابت، أنه قال: نزل الوحي على رسول الله وأنا إلى جنبه ثم سري عنه فقال: "اكتب": فكتبت في كتف لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، وخلف النبي ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، فنزلت مكانها {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الآية. فابن أم مكتوم فهم المقصود من نفي الاستواء فظن أن التعريض يشمله وأمثاله، فإنه من القاعدين، ولأجل هذا الظن عدل عن حراسة المقام إلى صراحة الكلام، وهما حالان متساويان في عرف البلغاء، هما حال مراعاة خطاب الذكي وخطاب الغبي، فلذلك لم تكن زيادة الاستثناء مفيتة مقتضى حال من البلاغة، ولكنها معوضته بنظيره لأن السامعين أصناف كثيرة.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر، وخلف {غير} بنصب الراء على الحال من {القاعدون} ، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب بالرفع على النعت ل {القاعدون} .
وجاز في غير الرفع على النعت، والنصب على الحال، لأن القاعدون تعريفه للجنس فيجوز فيه مراعاة اللفظ ومراعاة المعنى.
والضرر: المرض والعاهة من عمى أو عرج أو زمانة، لأن هذه الصيغة لمصادر الأدواء ونحوها، وأشهر استعماله في العمى، ولذلك يقال للأعمى: ضرير، ولا يقال ذلك للأعرج والزمن، وأحسب أن المراد في هذه الآية خصوص العمى وأن غيره مقيس عليه.
والضرر مصدر ضرر بكسر الراء مثل مرض، وهذه الزنة تجيء في العاهات ونحوها، مثل عمي وعرج وحصر، ومصدرها مفتوح العين مثل العرج، ولأجل خفته بفتح العين امتنع إدغام المثلين فيه، فقيل: ضرر بالفك، وبخلاف الضر الذي هو مصدر ضره فهو واجب الإدغام إذ لا موجب للفك. ولا نعرف في كلام العرب إطلاق الضرر على غير العاهات الضارة؛ وأما ما روي من حديث "لا ضرر ولا ضرار" فهو نادر أو جرى على الإتباع والمزاوجة لاقترانه بلفظ ضرار وهو مفكك. وزعم الجوهري أن ضرر اسم مصدر الضر، وفيه نظر؛ ولم يحفظ عن غيره ولا شاهد عليه.
وقوله {بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} لأن الجهاد يقتضي الأمرين: بذل النفس، وبذل المال، إلا أن الجهاد على الحقيقة هو بذل النفس في سبيل الله ولو لم يتفق شيئا، بل ولو كان كلا على المؤمنين، كما أن من بذل المال لإعانة الغزاة، ولم يجاهد بنفسه، لا يسمى مجاهدا وإن كان له أجر عظيم، وكذلك من حبسه العذر وكان يتمنى زوال عذره واللحاق بالمجاهدين، له فضل عظيم، ولكن فضل الجهاد بالفعل لا يساويه فضل الآخرين.
وجملة {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} بيان لجملة {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} .
وحقيقة الدرجة أنها جزء من مكان يكون أعلى من جزء آخر متصل به، بحيث تتخطى القدم إليه بارتقاء من المكان الذي كانت عليه بصعود، وذلك مثل درجة العلية ودرجة السلم.
والدرجة هنا مستعارة للعلو المعنوي كما في قوله تعالى {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228]. والعلو المراد هنا علو الفضل ووفرة الأجر.
وجيء بدرجة بصيغة الإفراد، وليس إفرادها للوحدة، لأن درجة هنا جنس معنوي لا أفراد له، ولذلك أعيد التعبير عنها في الجملة التي جاءت بعدها تأكيدا لها بصيغة الجمع بقوله {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} لأن الجمع أقوى من المفرد.
وتنوين {درجة} للتعظيم. وهو يساوي مفاد الجمع في قوله الآتي {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} .
وانتصب {درجة} بالنيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع في فعل {فضل} إذ الدرجة هنا زيادة في معنى الفضل، فالتقدير: فضل الله المجاهدين فضلا هو درجة، أي درجة فضلا.
وجملة {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} معترضة. وتنوين كلا تنوين عوض عن مضاف إليه، والتقدير: وكل المجاهدين والقاعدين.
وعطف {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} على جملة {َفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ} ، وإن كان معنى الجملتين واحدا باعتبار ما في الجملة الثانية من زيادة {أَجْراً عَظِيماً} فبذلك غايرت الجملة المعطوفة الجملة المعطوف عليها مغايرة سوغت العطف. مع ما في إعادة معظم ألفاظها من توكيد لها.
والمراد بقوله {المجاهدين} المجاهدون بأموالهم وأنفسهم فاستغني عن ذكر القيد بما تقدم من ذكره في نظيره السابق. وانتصب {أَجْراً عَظِيماً} على النيابة عن المفعول المطلق المبين للنوع لأن الأجر هو ذلك التفضيل، ووصف بأنه عظيم.
وانتصب درجات على البدل من قوله {أَجْراً عَظِيماً} ، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنها {منه} أي من الله.
وجمع {درجات} لإفادة تعظيم الدرجة لأن الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوة، ألا ترى أن علقمة لما أنشد الحارث بن جبلة ملك غسان قوله يستشفع لأخيه شأس بن عبدة:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
...
فحق لشأس من نداك ذنوب
قال له الملك وأذنبة.
[98,97] {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} .
فلما جاء ذكر القاعدين عن الجهاد من المؤمنين بعذر وبدونه، في الآية السالفة، كان حال القاعدين عن إظهار إسلامهم من الذين عزموا عليه بمكة، أو اتبعوه ثم صدهم أهل مكة عنه وفتنوهم حتى أرجعوهم إلى عبادة الأصنام بعذر وبدونه، بحيث يخطر ببال السامع أن يتساءل عن مصيرهم إن هم استمروا على ذلك حتى ماتوا، فجاءت هذه الآية مجيبة عما يجيش بنفوس السامعين من التساؤل عن مصير أولئك، فكان موقعها استئنافا
بيانيا لسائل متردد، ولذلك فصلت، ولذلك صدرت بحرف التأكيد، فإن حالهم يوجب شكا في أن يكونوا ملحقين بالكفار، كيف وهم قد ظهر ميلهم إلى الإسلام، ومنهم من دخل فيه بالفعل ثم صد عنه أو فتن لأجله.
والموصول هنا في قوة المعرف بلام الجنس، وليس المراد شخصا أو طائفة بل جنس من مات ظالما نفسه، ولما في الصلة من الإشعار بعلة الحكم وهو قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} ، أي لأنهم ظلموا أنفسهم.
ومعنى {توفاهم } تميتهم وتقبض أرواحهم، فالمعنى: أن الذين يموتون ظالمي أنفسهم، فعدل عن يموتون أو يتوفون إلى توفاهم الملائكة ليكون وسيلة لبيان شناعة فتنتهم عند الموت.
والملائكة جمع أريد به الجنس، فاستوى في إفادة معنى الجنس جمعه، كما هنا، ومفرده كما في قوله تعالى {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة:11] فيجوز أن يكون ملك الموت الذي يقبض أرواح الناس واحدا، بقوة منه تصل إلى كل هالك، ويجوز أن يكون لكل هالك ملك يقبض روحه، وهذا أوضح، ويؤيده قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} إلى قوله {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} .
و {توفاهم} فعل مضي يقال: توفاه الله، وتوفاه ملك الموت، وإنما لم يقرن بعلامة تأنيث فاعل الفعل، لأن تأنيث صيغ جموع التكسير تأنيث لفظي لا حقيقي فيجوز لحاق تاء التأنيث لفعلها، تقول: غزت العرب، وغزى العرب.
وظلم النفس أن يفعل أحد فعلا يؤول إلى مضرته، فهو ظالم لنفسه، لأنه فعل بنفسه ما ليس من شأن العقلاء أن يعقلوه لوخامة عقباه. والظلم هو الشيء الذي لا يحق فعله ولا ترضى به النفوس السليمة والشرائع، واشتهر إطلاق ظلم النفس في القرآن على الكفر وعلى المعصية.
وقد اختلف في المراد به في هذه الآية، فقال ابن عباس: المراد به الكفر، وأنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا قد أسلموا حين كان الرسول صلى الله عليه وسلم بمكة، فلما هاجر أقاموا مع قومهم بمكة ففتنوهم فارتدوا، وخرجوا يوم بدر مع المشركين فكثروا سواد المشركين، فقتلوا ببدر كافرين، فقال: المسلمون: كان أصحابنا هؤلاء مسلمين ولكنهم أكرهوا على الكفر والخروج، فنزلت هذه الآية فيهم. رواه البخاري عن ابن عباس،
قالوا: وكان منهم أبو قيس بن الفاكه، والحارث بن زمعة، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة، وعلي بن أمية بن خلف، والعاص بن منبه بن الحاج؛ فهؤلاء قتلوا. وكان العباس بن عبد المطلب، وعقيل ونوفل ابنا أبي طالب فيمن خرج معهم، ولكن هؤلاء الثلاثة أسروا وفدوا أنفسهم وأسلموا بعد ذلك، وهذا أصح الأقوال في هذه الآية.
وقيل: أريد بالظلم عدم الهجرة إذ كان قوم من أهل مكة أسلموا وتقاعسوا عن الهجرة. قال السدي: كان من أسلم ولم يهاجر يعتبر كافرا حتى يهاجر، يعني ولو أظهر إسلامه وترك حال الشرك. وقال غيره: بل كانت الهجرة واجبة ولا يكفر تاركها. فعلى قول السدي فالظلم مراد به أيضا الكفر لأنه معتبر من الكفر في نظر الشرع، أي أن الشرع لم يكتف بالإيمان إذا لم يهاجر صاحبه مع التمكن من ذلك، وهذا بعيد فقد قال تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [الأنفال:72] الآية؛ فأوجب على المسلمين نصرهم في الدين إن استنصروهم، وهذه حالة تخالف حالة الكفار. وعلى قول غيره: فالظلم المعصية العظيمة، والوعيد الذي في هذه الآية صالح للأمرين، على أن المسلمين لم يعدوا الذين لم يهاجروا قبل فتح مكة في عداد الصحابة. قال ابن عطية: لأنهم لم يتعين الذين ماتوا منهم على الإسلام والذين ماتوا على الكفر فلم يعتدوا بما عرفوا منهم قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} خبر إن. والمعنى: قالوا لهم قول توبيخ وتهديد بالوعيد وتمهيد لدحض معذرتهم في قولهم {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ، فقالوا {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} .
ويجوز أن يكون جملة {قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} موضع بدل الاشتمال من جملة {توفاهم} ، فإن توفى الملائكة إياهم المحكي هنا يشتمل على قولهم لهم {فِيمَ كُنْتُمْ} .
وأما جملة قالوا {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} فهي مفصولة عن العاطف جريا على طريقة المقاولة في المحاورة، على ما بيناه عند قوله تعالى {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} في سورة البقرة. وكذلك جملة {قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} . ويكون خبر إن قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} على أن يكون دخول الفاء في الخبر لكون اسم إن موصولا فإنه يعامل معاملة أسماء الشروط كثيرا، وقد تقدمت نظائره. والإتيان بالفاء هنا أولى لطول الفصل بين اسم إن وخبرها بالمقاولة، بحيث صار الخبر كالنتيجة لتلك المقاولة كما يدل عليه أيضا اسم الإشارة.
والاستفهام في قوله {فِيمَ كُنْتُمْ} مستعمل للتقرير والتوبيخ.
وفي للظرفية المجازية. وما استفهام عن حالة كما دل عليه في. وقد علم المسؤولون أن الحالة المسؤول عنها حالة بقائهم على الكفر أو عدم الهجرة. فقالوا معتذرين {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} .
والمستضعف: المعدود ضعيفا فلا يعبأ بما يصنع به فليس هو في عزة تمكنه من إظهار إسلامه، فلذلك يضطر إلى كتمان إسلامه. والأرض هي مكة. أرادوا: كنا مكرهين على المكفر ما أقمنا في مكة، وهذا جواب صادق إذ لا مطمع في الكذب في عالم الحقيقة وقد حسبوا ذلك عذرا يبيح البقاء على الشرك، أو يبيح التخلف عن الهجرة، على اختلاف التفسيرين، فلذلك رد الملائكة عليهم بقولهم {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} ، أي تخرجوا من الأرض التي تستضعفون فيها، فبذلك تظهرون الإيمان، أو فقد اتسعت الأرض فلا تعدمون أرضا تستطيعون الإقامة فيها. وظاهر الآية أن الخروج إلى كل بلد غير بلد الفتنة يعد هجرة، لكن دل قوله {مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:100] أن المقصود الهجرة إلى المدينة وهي التي كانت واجبة، وأما هجرة المؤمنين إلى الحبشة فقد كانت قبل وجوب الهجرة؛ لأن النبي وفريقا من المؤمنين، كانوا بعد بمكة، وكانت بإذن النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا رد مفحم لهم.
والمهاجرة: الخروج من الوطن وترك القوم، مفاعلة من هجر إذا ترك، وإنما اشتق للخروج عن الوطن اسم المهاجرة لأنها في الغالب تكون عن كراهية بين الراحل والمقيمين، فكل فريق يطلب ترك الآخر، ثم شاع إطلاقها على مفارقة الوطن بدون هذا القيد.
والفاء في قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} [النساء:97] تفريع على ما حكى من توبيخ الملائكة إياهم وتهديدهم.
وجيء باسم الإشارة في قوله {فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} للتنبيه على أنهم أحرياء بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة من أجل الصفات المذكورة قبله، لأنهم كانوا قادرين على التخلص من فتنة الشرك بالخروج من أرضه.
وقوله {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ} استثناء من الوعيد، والمعنى إلا المستضعفين حقا، أي العاجزين عن الخروج من مكة لقلة جهد، أو لإكراه المشركين إياهم وإيثاقهم على البقاء:
مثل عياش بن أبي ربيعة المتقدم خبره في قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} [النساء:92]، ومثل سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد. وفي البخاري أن رسول الله كان يدعو في صلاة العشاء: "اللهم نج عياش بن أبي ربيعة اللهم نج الوليد بن الوليد، اللهم نج سلمة بن هشام اللهم نج المستضعفين من المؤمنين" . وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين.
والتبيين بقوله {مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} لقصد التعميم. والمقصد التنبيه على أن من الرجال مستضعفين، فلذلك ابتدئ بذكرهم ثم ألحق بذكرهم النساء والصبيان لأن وجودهم في العائلة يكون عذرا لوليهم إذا كان لا يجد حيلة. وتقدم ذكرهم بقوله تعالى {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} [النساء:75]، وإعادة ذكرهم هنا مما يؤكد أن تكون الآيات كلها نزلت في التهيئة لفتح مكة.
وجملة {لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} حال من المستضعفين موضحة للاستضعاف ليظهر أنه غير الاستضعاف الذي يقوله الذين ظلموا أنفسهم {كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ} ، أي لا يستطيعون حيلة في الخروج إما لمنع أهل مكة إياهم، أو لفقرهم؛ {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً} أي معرفة للطريق كالأعمى.
وجملة {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} الفاء فيها للفصيحة، والإتيان بالإشارة للتنبيه على أنهم جديرون بالحكم المذكور من المغفرة.
وفعل {عسى} في قوله {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ} يقتضي أن الله يرجو أن يعفو عنهم، وإذ كان الله هو فاعل العفو وهو عالم بأنه يعفو عنهم أو عن بعضهم بالتعيين تعين أن يكون معنى الرجاء المستفاد من {عسى} هنا معنى مجازيا بأن عفوه عن ذنبهم عفو عزيز المنال، فمثل حال العفو عنهم بحال من لا يقطع بحصول العفو عنه، ولا مقصود من ذلك تضييق تحقق عذرهم، لئلا يتساهلوا في شروطه اعتمادا على عفو الله، فإن عذر الله لهم باستضعافهم رخصة وتوسعة من الله تعالى، لأن البقاء على إظهار الشرك أمر عظيم، وكان الواجب العزيمة أن يكلفوا بإعلان الإيمان بين ظهراني المشركين ولو جلب لهم التعذيب والهلاك، كما فعلت سمية أم عمار بن ياسر.
وهذا الاستعمال هو محمل موارد {عسى} ولعل إذا أسندا إلى اسم الله تعالى كما تقدم عند قوله تعالى {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} في سورة البقرة[53]، وهو معنى قول أبي عبيدة: عسى من الله إيجاب وقول كثير من العلماء: أن عسى
ولعل في القرآن لليقين، ومرادهم إذا أسند إلى الله تعالى بخلاف نحو قوله {وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً} [الكهف:24].
ومثل هذا ما قالوه في وقوع حرف إن الشرطية في كلام الله تعالى، مع أن أصلها أن تكون للشرط المشكوك في حصوله.
وقد اتفق العلماء على أن حكم هذه الآية انقضى يوم فتح مكة لأن الهجرة كانت واجبة لمفارقة أهل الشرك وأعداء الدين، وللتمكن من عبادة الله دون حائل يحول عن ذلك، فلما صارت مكة دار إسلام ساوت غيرها، ويؤيده حديث "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية" فكان المؤمنون يبقون في أوطانهم إلا المهاجرين يحرم عليهم الرجوع إلى مكة. وفي الحديث "اللهم أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم" قاله بعد أن فتحت مكة. غير أن القياس على حكم هذه الآية يفتح للمجتهدين نظرا في أحكام وجوب الخروج من البلد الذي يفتن فيه المؤمن في دينه، وهذه أحكام يجمعها ستة أحوال.
الحالة الأولى: أن يكون المؤمن ببلد يفتن فيه في إيمانه فيرغم على الكفر وهو يستطيع الخروج، فهذا حكمه حكم الذين نزلت فيهم الآية، وقد هاجر مسلمون من الأندلس حين أكرههم النصارى على التنصر، فخرجوا على وجوههم في كل واد تاركين أموالهم وديارهم ناجين بأنفسهم وإيمانهم، وهلك فريق منهم في الطريق وذلك في سنة 902 وما بعدها إلى أن كان الجلاء الأخير سنة 1016.
الحالة الثانية: أن يكون ببلد الكفر غير مفتون في إيمانه ولكن يكون عرضة للإصابة في نفسه أو ماله بأسر أو قتل أو مصادرة مال، فهذا قد عرض نفسه للضر وهو حرام بلا نزاع، وهذا مسمى الإقامة ببلد الحرب المفسرة بأرض العدو.
الحالة الثالثة: أن يكون ببلد غلب عليه غير المسلمين إلا أنهم لم يفتنوا الناس في إيمانهم ولا في عباداتهم ولا في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ولكنه بإقامته تجري عليه أحكام غير المسلمين إذا عرض له حادث مع واحد من أهل ذلك البلد الذين هم غير مسلمين، وهذا مثل الذي يقيم اليوم ببلاد أوروبا النصرانية، وظاهر قول مالك أن المقام في مثل ذلك مكروه كراهة شديدة من أجل أنه تجري عليه أحكام غير المسلمين، وهو ظاهر المدونة في كتاب التجارة إلى أرض
الحرب والعتبية، كذلك تأول قول مالك فقهاء القيروان، وهو ظاهر الرسالة، وصريح كلام اللخمي في طالعة كتاب التجارة إلى أرض الحرب من تبصرته، وارتضاه ابن محرز وعبد الحق، وتأوله سحنون وابن حبيب على الحرمة وكذلك عبد الحميد الصائغ والمازري، وزاد سحنون فقال: إن مقامه جرحة في عدالته، ووافقه المازري وعبد الحميد، وعلى هذا يجري الكلام في السفر في سفن النصارى إلى الحج وغيره. وقال البرزلي عن ابن عرفة: إن كان أمير تونس قويا على النصارى جاز السفر، وإلا لم يجز، لأنهم يهيئون المسلمين.
الحالة الرابعة: أن يتغلب الكفار على بلد أهله مسلمون ولا يفتنوهم في دينهم ولا في عبادتهم ولا في أموالهم، ولكنهم يكون لهم حكم القوة عليهم فقط، وتجري الأحكام بينهم على مقتضى شريعة الإسلام كما وقع في صقلية حين استولى عليها رجير النرمندي. وكما وقع في بلاد غرناطة حين استولى عليها طاغية الجلالقة على شروط منها احترام دينهم، فإن أهلها أقاموا بها مدة وأقام منهم علماؤهم وكانوا يلون القضاء والفتوى والعدالة والأمانة ونحو ذلك، وهاجر فريق منهم فلم يعب المهاجر على القاطن، ولا القاطن على المهاجر.
الحالة الخامسة: أن يكون لغير المسلمين نفوذ وسلطان على بعض بلاد الإسلام، مع بقاء ملوك الإسلام فيها، واستمرار تصرفهم في قومهم، وولاية حكامهم منهم، واحترام أديانهم وسائر شعائرهم، ولكن تصرف الأمراء تحت نظر غير المسلمين وبموافقتهم، وهو ما يسمى بالحماية والاحتلال والوصاية والانتداب، كما وقع في مصر مدة احتلال جيش الفرنسيس بها، ثم مدة احتلال الأنقليز، وكما وقع بتونس والمغرب الأقصى من حماية فرانسا، وكما وقع في سوريا والعراق أيام الانتداب، وهذه لا شبهة في عدم وجوب الهجرة منها.
الحالة السادسة: البلد الذي تكثر فيه المناكر والبدع، وتجري فيه أحكام كثيرة على خلاف صريح الإسلام بحيث يخلط عملا صالحا وآخر سيئا ولا يجبر المسلم فيها على ارتكابه خلاف الشرع، ولكنه لا يستطيع تغييرها إلا بالقول، أو لا يستطيع ذلك أصلا. وهذه روي عن مالك وجوب الخروج منها، رواه ابن القاسم، غير أن ذلك قد حدث في القيروان أيام بني عبيد فلم يحفظ أن أحدا من فقهائها الصالحين دعا الناس إلى الهجرة. وحسبك بإقامة الشيخ أبي محمد بن أبي زيد وأمثاله. وحدث في مصر مدة الفاطميين أيضا فلم يغادرها أحد من علمائها الصالحين. ودون هذه الأحوال الستة أحوال كثيرة هي أولى بجواز الإقامة، وأنها مراتب، وإن لبقاء المسلمين في أوطانهم إذا لم يفتنوا في دينهم
مصلحة كبرى للجامعة الإسلامية.
[100] {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
جملة {وَمَنْ يُهَاجِرْ} عطف على جملة {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} [النساء:97]. ومن شرطية. والمهاجرة في سبيل الله هي المهاجرة لأجل دين الله. والسبيل استعارة معروفة، وزادها قبولا أن المهاجرة نوع من السير، فكان لذكر السبيل معها ضرب من التورية. والمراغم اسم مكان من راغم إذا ذهب في الأرض، وفعل راغم مشتق من الرغام بفتح الراء وهو التراب. أو هو من راغم غيره إذا غلبه وقهره، ولعل أصله أنه أبقاه على الرغام، أي التراب، أي يجد مكانا يرغم فيه من أرغمه، أي يغلب فيه قومه باستقلاله عنهم كما أرغموه بإكراهه على الكفر، قال الحارث بن وعلة الذهلي:
لا تأمنن قوما ظلمتهم
...
وبدأتهم بالشتم والرغم
إن يأبروا نخلا لغيرهم
...
والشيء تحقره وقد ينمي
أي أن يكونوا عونا للعدو على قومهم. ووصف المراغم بالكثير لأنه أريد به جنس الأمكنة. والسعة ضد الضيق، وهي حقيقة اتساع الأمكنة، وتطلق على رفاهية العيش، فهي سعة مجازية. فإن كان المراغم هو الذهاب في الأرض فعطف السعة عليه عطف تفسير، وإن كان هو مكان الإغاضة فعطف السعة للدلالة على أنه يجده ملائما من جهة إرضاء النفس، ومن جهة راحة الإقامة.
ثم نوه الله بشأن الهجرة بأن جعل ثوابها حاصلا بمجرد الخروج من بلد الكفر، ولو لم يبلغ إلى البلد المهاجر إليه، بقوله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} الخ. ومعنى المهاجرة إلى الله المهاجرة إلى الموضع الذي يرضاه الله. وعطف الرسول على اسم الجلالة للإشارة إلى خصوص الهجرة إلى المدينة للالتحاق بالرسول وتعزيز جانبه، لأن الذي يهاجر إلى غير المدينة قد سلم من إرهاق الكفر ولم يحصل على نصرة الرسول، ولذلك بادر أهل هجرة الحبشة إلى اللحاق بالرسول حين بلغهم مهاجره إلى المدينة.
ومعنى {يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ} . أي في الطريق، ويجوز أن يكون المعنى: ثم يدركه الموت مهاجرا، أي لا يرجع بعد هجرته إلى بلاد الكفر وهو الأصح. وقد اختلف في
الهجرة المرادة من هذه الآية: فقيل: الهجرة إلى المدينة، وقيل: الهجرة إلى الحبشة. واختلف في المعني بالموصول من قوله {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . فعند من قالوا: إن المراد الهجرة إلى المدينة قالوا المراد بمن يخرج رجل من المسلمين كان بقي بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فلما نزل قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} إلى قوله {وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء:97، 100] كتب بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين من أهل مكة، وكان هذا الرجل مريضا، فقال: إني لذو مال وعبيد، فدعا أبناءه وقال لهم: احملوني إلى المدينة. فحملوه على سرير، فلما بلغ التنعيم توفي، فنزلت هذه الآية فيه. وتعم أمثاله، فهي عامة في سياق الشرط لا يخصصها سبب النزول.
وكان هذا الرجل من كنانة، وقيل من خزاعة، وقيل من جندع، واختلف في اسمه على عشرة أقوال: جندب بن حمزة الجندعي، حندج بن ضمرة الليثي الخزاعي. ضمرة بن بغيض الليثي، ضمرة بن جندب الضمري، ضمرة بن ضمرة بن نعيم. ضمرة من خزاعة كذا. ضمرة بن العيص. العيص بن ضمرة بن زنباع، حبيب بن ضمرة، أكثم بن صيفي.
والذين قالوا: إنها الهجرة إلى الحبشة قالوا: إن المعني بمن يخرج من بيته خالدين حزام بن خويلد الأسدي ابن أخي خديجة أم المؤمنين، خرج مهاجرا إلى الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات. وسياق الشرط يأبى هذا التفسير.
[102,101] {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} .
انتقال إلى التشريع آخر بمناسبة ذكر السفر للخروج من سلطة الكفر، على عادة القرآن في تفنين أغراضه، والتماس مناسباتها. والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. والضرب
في الأرض: السفر.
وإذا مضمنة معنى الشرط كما هو غالب استعمالها، فلذلك دخلت الفاء على الفعل الذي هو كجواب الشرط. وإذا منصوبة بفعل الجواب.
وقصر الصلاة: النقص منها، وقد علم أن أجزاء الصلاة هي الركعات بسجداتها وقراءاتها، فلا جرم أن يعلم أن القصر من الصلاة هو نقص الركعات. وقد بينه فعل النبي صلى الله عليه وسلم إذ صير الصلاة ذات الأربع الركعات ذات ركعتين. وأجملت الآية فلم تعين الصلوات التي يعتريها القصر، فبينته السنة بأنها الظهر والعصر والعشاء. ولم تقصر الصبح لأنها تصير ركعة واحدة فتكون غير صلاة، ولم تقصر المغرب لئلا تصير شفعا فإنها وتر النهار، ولئلا تصير ركعة واحدة كما قلنا في الصبح.
وهذه الآية أشارت إلى قصر الصلاة الرباعية في السفر، ويظهر من أسلوبها أنها نزلت في ذلك، وقد قيل: إن قصر الصلاة في السفر شرع في سنة أربع من الهجرة وهو الأصح، وقيل: في ربيع الآخر من سنة اثنتين، وقيل: بعد الهجرة بأربعين يوما. وقد روى أهل الصحيح قول عائشة رضي الله عنها: فرضت الصلاة ركعتين فأقرت صلاة السفر وزيدت صلاة الحضر، وهو حديث بين واضح. ومحمل الآية على مقتضاة: أن الله تعالى لما فرض الصلاة ركعتين فتقررت كذلك فلما صارت الظهر والعصر والعشاء أربعا نسخ ما كان من عددها، وكان ذلك في مبدأ الهجرة، وإذ قد كان أمر الناس مقاما على حالة الحضر وهي الغالب عليهم، بطل إيقاع الصلوات المذكورات ركعتين، فلما غزوا خفف الله عنهم فأذنهم أن يصلوا تلك الصلوات ركعتين ركعتين، فلذلك قال تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} وقال {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} وإنما قالت عائشة أقرت صلاة السفر حيث لم تتغير عن الحالة الأولى، وهذا يدل على أنهم لم يصلوها تامة في السفر بعد الهجرة، فلا تعارض بين قولها وبين الآية.
وقوله {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} شرط دل على تخصيص الإذن بالقصر بحال الخوف من تمكن المشركين منهم وإبطالهم عليهم صلاتهم، وأن الله أذن في القصر لتقع الصلاة عن اطمئنان، فالآية هذه خاصة بقصر الصلاة عند الخوف، وهو القصر الذي له هيئة خاصة في صلاة الجماعة، وهذا رأي مالك، يدل عليه ما أخرجه في الموطأ: أن رجلا من آل خالد بن أسيد سأل عبد الله بن عمر إنا نجد صلاة الخوف وصلاة الحضر في القرآن ولا نجد صلاة السفر، فقال ابن عمر يابن أخي إن الله بعث إلينا
محمدا ولا نعلم شيئا فإنما نفعل كما رأيناه يفعل، يعني أن ابن عمر أقر السائل وأشعره بأن صلاة السفر ثبتت بالسنة، وكذلك كانت ترى عائشة وسعد بن أبي وقاص أن هذه الآية خاصة بالخوف، فكانا يكملان الصلاة في السفر. وهذا التأويل هو البين في محمل هذه الآية، فيكون ثبوت القصر في السفر بدون الخوف وقصر الصلاة في الحضر عند الخوف ثابتين بالسنة، وأحدهما أسبق من الآخر، كما قال ابن عمر. وعن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن الله تعالى يقول {إن خفتم} وقد أمن الناس. فقال: عجبت مما عجبت منه فسألت رسول الله عن ذلك فقال "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" . ولا شك أن محمل هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عمر على فهمه تخصيص هذه الآية بالقصر لأجل الخوف، فكان القصر لأجل الخوف رخصة لدفع المشقة. وقوله: له "صدقة" الخ، معناه أن القصر في السفر لغير الخوف صدقة من الله، أي تخفيف، وهو دون الرخصة فلا تردوا رخصته، فلا حاجة إلى ما تمحلوا له في تأويل القيد الذي في قوله {إِِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وتقتصر الآية على صلاة الخوف، ويستغني القائلون بوجوب القصر في السفر مثل ابن عباس، وأبي حنيفة، ومحمد بن سحنون، وإسماعيل بن إسحاق من المالكية؛ والقائلون بتأكيد سنة القصر مثل مالك بن أنس وعامة أصحابه، عن تأويل قوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} بما لا يلائم إطلاق مثل هذا اللفظ. ويكون قوله {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} إعادة لتشريع رخصة القصر في السفر لقصد التمهيد لقوله {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} الآيات.
أما قصر الصلاة في السفر فقد دلت عليه السنة الفعلية، واتبعه جمهور الصحابة إلا عائشة وسعد بن أبي وقاص، حتى بالغ من قال بوجوبه من أجل حديث عائشة في الموطأ والصحيحين لدلالته على أن صلاة السفر بقيت على فرضها، فلو صلاها رباعية لكانت زيادة في الصلاة، ولقول عمر فيما رواه النسائي وابن ماجة: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصد. وإنما قال مالك بأنه سنة لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر إلا القصر، وكذلك الخلفاء من بعده. وإنما أتم عثمان بن عفان الصلاة في الحج خشية أن يتوهم الأعراب أن الصلوات كلها ركعتان. غير أن مالكا لم يقل بوجوبه من أجل قوله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} لمنافاته لصيغ الوجوب. ولقد أجاد محامل الأدلة.
وأخبر عن الكافرين وهو جمع بقوله {عدوا} وهو مفرد. وقد قدمنا ذلك عند قوله تعالى {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} [النساء:92].
وقوله تعالى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} هذه صفة صلاة الخوف في الجماعة لقوله {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} . واتفق العلماء على أن هذه الآية شرعت صلاة الخوف. وأكثر الآثار تدل على أن مشروعيتها كانت في غزوة ذات الرقاع بموضع يقال له: نخلة بين عسفان وضجنان من نجد، حين لقوا جموع غطفان: محارب وأنمار وثعلبة. وكانت بين سنة ست وسنة سبع من الهجرة، وأن أول صلاة صليت بها هي صلاة العصر، وأن سببها أن المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا: هذه الصلاة فرصة لنا لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غرة، فأنبأ الله بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم ونزلت الآية. غير أن الله تعالى صدر حكم الصلاة بقوله {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ} فاقتضى ببادئ الرأي أن صلاة الخوف لا تقع على هذه الصفة إلا إذا كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي خصوصية لإقامته. وبهذا قال إسماعيل بن علية، وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة في أحد أقواله، وعللوا الخصوصية بأنها لحرص الناس على فضل الجماعة مع الرسول، بخلاف غيره من الأئمة، فيمكن أن تأتم كل طائفة بإمام. وهذا قول ضعيف: لمخالفته فعل الصحابة، ولأن مقصد شرع الجماعة هو اجتماع المسلمين في الموطن الواحد، فيؤخذ بهذا المقصد بقدر الإمكان. على أن أبا يوسف لا يرى دلالة مفهوم المخالفة فلا تدل الآية على الاختصاص بإمامة الرسول، ولذلك جزم جمهور العلماء بأن هذه الآية شرعت صلاة الخوف للمسلمين أبدا. ومحمل هذا الشرط عندهم جار على غالب أحوالهم يومئذ من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لغزواتهم وسراياهم إلا للضرورة، كما في الحديث "لولا أن قوما لا يتخلفون بعدي ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلفت عن سرية سارت في سبيل الله" ، فليس المراد الاحتراز عن كون غيره فيهم ولكن التنويه بكون النبي فيهم. وإذ قد كان الأمراء قائمين مقامه في الغزوات فالذي رخص الله للمسلمين معه يرخصه لهم مع أمرائه، وهذا كقوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة:103].
وفي نظم الآية إيجاز بديع فإنه لما قال فلتقم طائفة منهم معك علم أن ثمة طائفة أخرى، فالضمير في قوله {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} للطائفة باعتبار أفرادها، وكذلك ضمير قوله {فَإِذَا سَجَدُوا} للطائفة التي مع النبي، لأن المعية معية الصلاة، وقد قال {فَإِذَا سَجَدُوا} . وضمير قوله {فليكونوا} للطائفة الأخرى المفهومة من المقابلة، لظهور أن الجواب وهو {فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} متعين لفعل الطائفة المواجهة العدو.
وقوله {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} هذه هي المقابلة لقوله {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} .
وقد أجملت الآية ما تصنعه كل طائفة في بقية الصلاة، ولكنها أشارت إلى أن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم واحدة لأنه قال {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} . فجعلهم تابعين لصلاته، وذلك مؤذن بأن صلاته واحدة، ولو كان يصلي بكل طائفة صلاة مستقلة لقال تعالى فتلصل بهم. وبهذا يبطل قول الحسن البصري: بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بكل طائفة، لأنه يصير متما للصلاة غير مقصر، أو يكون صلى بإحدى الطائفتين الصلاة المفروضة وبالطائفة الثانية صلاة: نافلة له، فريضة للمؤمنين، إلا أن يلتزم الحسن ذلك، ويرى جواز ائتمام المفترض بالمتنفل. ويظهر أن ذلك الائتمام لا يصح، وإن لم يكن في السنة دليل على بطلانه.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الإمام يصلي بكل طائفة ركعة، وإنما اختلفوا في كيفية تقسيم الصلاة: بالنسبة للمأمومين. والقول الفصل في ذلك هو ما رواه مالك في الموطأ، عن سهل بن أبي حثمة: أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذات الرقاع، فصفت طائفة معه وطائفة وجاه العدو، فصلى بالذين معه ركعة ثم قام، وأتموا ركعة لأنفسهم، ثم انصرفوا فوقفوا وجاه العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت له، ثم سلم، ثم قضوا الركعة التي فاتتهم وسلموا. وهذه الصفة أوفق بلفظ الآية. والروايات غير هذه كثيرة.
والطائفة: الجماعة من الناس ذات الكثرة. والحق أنها لا تطلق على الواحد والاثنين، وإن قال بذلك بعض المفسرين من السلف. وقد تزيد على الألف كما في قوله تعالى {عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنغام:156]. وأصلها منقولة من طائفة الشيء وهي الجزء منه.
وقوله {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} استعمل الأخذ في حقيقته ومجازه: لأن أخذ الحذر مجاز، إذ حقيقة الأخذ التناول، وهو مجاز في التلبس بالشيء والثبات عليه. وأخذ الأسلحة حقيقة، ونظيره قوله تعالى {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ]الحشر:9]، فإن تبوأ الإيمان الدخول فيه والاتصاف به بعد الخروج من الكفر. وجاء بصيغة الأمر دون أن يقول: ولا جناح عليكم أن تأخذوا أسلحتكم، لأن أخذ السلاح فيه مصلحة شرعية.
وقوله {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} الخ، ودهم هذا معروف إذ هو شأن كل محارب، فليس ذلك المعنى المعروف هو المقصود من الآية، إنما المقصود أنهم ودوا ودا مستقربا عندهم، لظنهم أن اشتغال المسلمين بأمور دينهم يباعد بينهم وبين مصالح دنياهم جهلا من
المشركين لحقيقة الدين، فطمعوا أن تلهيهم الصلاة عن الاستعداد لأعدائهم، فنبه الله المؤمنين إلى ذلك كيلا يكونوا عند ظن المشركين، وليعودهم بالأخذ بالحزم في كل الأمور، وليريهم أن صلاح الدين والدنيا صنوان.
والأسلحة جمع سلاح، وهو اسم جنس لآلة الحرب كلها من الحديد، وهي السيف والرمح والنبل والحربة، وليس ال درع ولا الخوذة ولا الترس بسلاح. وهو يذكر ويؤنث، والتذكير أفصح، ولذلك جمعوه على أسلحة وهو من زنات جمع المذكر.
والأمتعة جمع متاع وهو كل ما ينتفع به من عروض وأثاث، ويدخل في ذلك ما له عون في الحرب كالسروج ولامة الحرب كالدروع والخوذات. {فيميلون} مفرع عن قوله {لو تغفلون} الخ، وهو محل الود، أي ودوا غفلتكم ليميلوا عليكم. والميل: العدول عن الوسط إلى الطرف، ويطلق على العدول عن شيء كان معه إلى شيء آخر، كما هنا، أي فيعدلون عن معسكرهم إلى جيشكم. ولما كان المقصود من الميل هنا الكر والشد، عدي بعلى، أي فيشدون عليكم في حال غفلتكم.
وانتصب ميلة على المفعولية المطلقة لبيان العدد، أي شدة مفردة. واستعملت صيغة المرة هنا كناية عن القوة والشدة، وذلك أن الفعل الشديد القوي يأتي بالغرض منه سريعا دون معاودة علاج، فلا يتكرر الفعل لتحصيل الغرض، وأكد معنى المرة المستفاد من صيغة فعلة بقوله {واحدة} تنبيها على قصد معنى الكناية لئلا يتوهم أن المصدر لمجرد التأكيد لقوله {فيميلون} .
وقوله {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ} الخ رخصة لهم في وضع الأسلحة عند المشقة، وقد صار ما هو أكمل في أداء الصلاة رخصة هنا، لأن الأمور بمقاصدها وما يحصل عنها من المصالح والمفاسد، ولذلك قيد الرخصة مع أخذ الحذر. وسبب الرخصة أن في المطر شاغلا للفريقين كليهما، وأما المرض فموجب للرخصة لخصوص المريض.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} تذييل لتشجيع المسلمين؛ لأنه لما كرر الأمر بأخذ السلاح والحذر، خيف أن تثور في نفوس المسلمين مخافة من العدو من شدة التحذير منه، فعقب ذلك بأن الله أعد لهم عذابا مهينا، وهو عذاب الهزيمة والقتل والأسر، كالذي في قوله {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة:14]، فليس الأمر بأخذ الحذر والسلاح إلا لتحقيق أسباب ما أعد الله لهم، لأن الله إذا أراد أمرا هيأ أسبابه. وفيه
تعليم المسلمين أن يطلبوا المسببات من أسبابها، أي إن أخذتم حذركم أمنتم من عدوكم.
[103] {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} .
القضاء: إتمام الشيء كقوله {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200]. والظاهر من قوله {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} أن المراد من الذكر هنا النوافل، أو ذكر اللسان كالتسبيح والتحميد، فقد كانوا في الأمن يجلسون إلى أن يفرغوا من التسبيح ونحوه، فرخص لهم حين الخوف أن يذكروا الله على كل حال. والمراد القيام والقعود والكون على الجنوب ما كان من ذلك في أحوال الحرب لا لأجل الاستراحة.
وقوله {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} تفريع عن قوله {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء:102] إلى آخر الآية. فالاطمئنان مراد به القفول من الغزو، لأن في الرجوع إلى الأوطان سكونا من قلاقل السفر واضطراب البدن، فإطلاق الاطمئنان عليه يشبه أن يكون حقيقة، وليس المراد الاطمئنان الذي هو عدم الخوف لعدم مناسبته هنا، وقد تقدم القول في الاطمئنان عند قوله تعالى {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} من سورة البقرة[26].
ومعنى {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} صلوها تامة ولا تقصروها. هذا قول مجاهد وقتادة، فيكون مقابل قوله {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء:101]، وهو الموافق لما تقدم من كون الوارد في القرآن هو حكم قصر الصلاة في حال الخوف، دون قصر السفر من غير خوف. فالإقامة هنا الإتيان بالشيء قائما أي تاما، على وجه التمثيل كقوله تعالى {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن:9] وقوله {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} ]الشورى:13]. وهذا قول جمهور الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد، وسفيان. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤدي المجاهد الصلاة حتى يزول الخوف، لأنه رأى مباشرة القتال فعلا يفسد الصلاة. وقوله تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} إلى قوله {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ} [النساء:101، 103] يرجح قول الجمهور، لأن قوله تعالى {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} مسوق مساق التعليل للحرص على أدائها في أوقاتها.
والموقوت: المحدود بأوقات، والمنجم عليها، وقد يستعمل بمعنى المفروض على طريق المجاز. والأول أظهر هنا.
{وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [104].
عطف على جملة {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [النياء:102] زيادة في تشجيعهم على قتال الأعداء، وفي تهوين الأعداء في قلوب المسلمين، لأن المشركين كانوا أكثر عددا من المسلمين وأتم عدة، وما كان شرع قصر الصلاة وأحوال صلاة الخوف، إلا تحقيقا لنفي الوهن في الجهاد.
والابتغاء مصدر ابتغى بمعنى بغى المتعدي، أي الطلب، وقد تقدم عند قوله {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} في سورة آل عمران[83].
والمراد به هنا المبادأة بالغزو، وأن لا يتقاعسوا، حتى يكون المشركون هم المبتدئين بالغزو. تقول العرب: طلبنا بني فلان، أي غزوناهم. والمبادئ بالغزو له رعب في قلوب أعدائه. وزادهم تشجيعا على طلب العدو بأن تألم الفريقين المتحاربين واحدا، إذ كل يخشى بأس الآخر، وبأن للمؤمنين مزية على الكافرين، وهي أنهم يرجون من الله ما لا يرجوه الكفار، وذلك رجاء الشهادة إن قتلوا، ورجاء ظهور دينه على أيديهم إذا انتصروا، ورجاء الثواب في الأحوال كلها. وقوله {مِنَ اللَّهِ} متعلق ب {ترجون} . وحذف العائد المجرور بمن من جملة {مَا لا يَرْجُونَ} لدلالة حرف الجر الذي جر به اسم الموصول عليه، ولك أن تجعل ما صدق ما لا يرجون هو النصر، فيكون وعدا للمسلمين بأن الله ناصرهم، وبشارة بأن المشركين لا يرجون لأنفسهم نصرا، وأنهم آيسون منه بما قذف الله في قلوبهم من الرعب، وهذا مما يفت في ساعدهم. وعلى هذا الوجه يكون قوله {مِنَ اللَّهِ} اعتراضا أو حالا مقدمة على المجرور بالحرف، والمعنى على هذا كقوله {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
[109,105] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً َلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}.
اتصال هذه الآية بما قبلها يرجع إلى ما مضى من وصف أحوال المنافقين ومناصريهم، وانتقل من ذلك إلى الاستعداد لقتال المناوين للإسلام من قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا} [النساء:71] الآية، وتخلل فيه من أحوال المنافقين في تربصهم بالمسلمين الدوائر ومختلف أحوال القبائل في علائقهم مع المسلمين، واستطرد لذكر قتل الخطأ والعمد، وانتقل إلى ذكر الهجرة، وعقب بذكر صلاة السفر وصلاة الخوف، عاد الكلام بعد ذلك إلى أحوال أهل النفاق.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.
وجمهور المفسرين على أن هاته الآية نزلت بسبب حادثة رواها الترمذي حاصلها: أن أخوة ثلاثة يقال لهم: بشر وبشير ومبشر، أبناء أبيرق، وقيل: أبناء طعمة بن أبيرق، وقيل: إنما كان بشير أحدهم يكنى أبا طعمة، وهم من بني ظفر من أهل المدينة، وكان بشير شرهم، وكان منافقا يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره، وكان هؤلاء الإخوة في فاقة، وكانوا جيرة لرفاعة بن زيد، وكانت عير قد أقبلت من الشام بدرمك وهو دقيق الحوارى أي السميذ فابتاع منها رفاعة بن زيد حملا من درمك لطعامه، وكان أهل المدينة يأكلون دقيق الشعير، فإذا جاء الدرمك ابتاع منه سيد المنزل شيئا لطعامه فجعل الدرمك في مشربة له وفيها سلاح، فعدى بنو أبيرق عليه فنقبوا مشربته وسرقوا الدقيق والسلاح، فلما أصبح رفاعة ووجد مشربته قد سرقت أخبر ابن أخيه قتادة بن النعمان بذلك، فجعل يتحسس، فأنبئ بأن بني أبيرق استوقدوا في تلك الليلة نارا، ولعله على بعض طعام رفاعة، فلما افتضح بنو أبيرق طرحوا المسروق في دار أبي مليل الأنصاري. وقيل: في دار يهودي اسمه زيد بن السمين، وقيل: لبيد ابن سهل، وجاء بعض بني ظفر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاشتكوا إليه أن رفاعة وابن أخيه اتهما بالسرقة أهل بيت إيمان وصلاح، قال قتادة: فأتيت رسول الله، فقال لي "عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح فرميتهم بالسرقة على غير بينة". وأشاعوا في الناس أن المسروق في دار أبي مليل أو دار اليهودي. فما لبث أن نزلت هذه الآية، وأطلع الله رسوله على جلية الأمر، معجزة له، حتى لا يطمع أحد في أن يروج على الرسول باطلا. هذا هو الصحيح في سوق هذا الخبر. ووقع في كتاب أسباب النزول للواحدي، وفي بعض روايات الطبري سوق القصة ببعض مخالفة لما ذكرته: وأن بني ظفر سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجادل عن أصحابهم كي
لا يفتضحوا ويبرأ اليهودي، وأن رسول الله هم بذلك، فنزلت الآية. وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لام اليهودي وبرأ المتهم، وهذه الرواية واهية، وهذه الزيادة خطأ بين من أهل القصص دون علم ولا تبصر بمعاني القرآن. والظاهر أن صدر الآية تمهيد للتلويح إلى القصة، فهو غير مختص بها، إذ ليس في ذلك الكلام ما يلوح إليها، ولكن مبدأ التلويح إلى القصة من قوله {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} .
وقوله {بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الباء للآلة جعل ما أراه الله إياه بمنزلة آلة للحكم لأنه وسيلة إلى مصادفة العدل والحق ونفي الجور، إذ لا يحتمل علم الله الخطأ. والرؤية في قوله {أَرَاكَ اللَّهُ} عرفانية، وحقيقتها الرؤية البصرية، فأطلقت على ما يدرك بوجه اليقين لمشابهته الشيء المشاهد. والرؤية البصرية تنصب مفعولا واحدا فإذ أدخلت عليها همزة التعدية نصبت مفعولين كما هنا، وقد حذف المفعول الثاني لأنه ضمير الموصول، فأغنى عنه الموصول، وهو حذف كثير، والتقدير: بما أراكه الله.
فكل ما جعله الله حقا في كتابه فقد أمر بالحكم به بين الناس، وليس المراد أنه يعلمه الحق في جانب شخص معين بأن يقول له: إن فلانا على الحق، لأن هذا لا يلزم اطراده، ولأنه لا يلقى مدلولا لجميع آيات القرآن وإن صلح الحمل عليه في مثل هذه الآية، بل المراد أنه أنزل عليه الكتاب ليحكم بالطرق والقضايا الدالة على وصف الأحوال التي يتحقق بها العدل فيحكم بين الناس على حسب ذلك، بأن تندرج جزئيات أحوالهم عند التقاضي تحت الأوصاف الكلية المبينة في الكتاب، مثل قوله تعالى {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب:4]، فقد أبطل حكم التبني الذي كان في الجاهلية، فأعلمنا أن قول الرجل لمن ليس ولده: هذا ولدي، لا يجعل للمنسوب حقا في ميراثه. ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخطئ في إدراج الجزئيات تحت كلياتها، وقد يعرض الخطأ لغيره، وليس المراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصادف الحق من غير وجوهه الجارية بين الناس، ولذلك قال "إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه فإنما أقتطع له قطعة من نار" .
وغير الرسول يخطئ في الاندراج، ولذلك وجب بذل الجهد واستقصاء الدليل، ومن ثم استدل علماؤنا بهذه الآية على وجوب الاجتهاد في فهم الشريعة. وعن عمر بن الخطاب أنه قال لا يقولن أحد قضيت بما أراني الله تعالى فإن الله تعالى لم يجعل ذلك إلا لنبيه وأما الواحد منا فرأيه يكون ظنا ولا يكون علما، ومعناه هو ما قدمناه من
عروض الخطأ في الفهم لغير الرسول دون الرسول صلى الله عليه وسلم.
واللام في قوله {لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} لام العلة وليست لام التقوية. ومفعول {خصيما} محذوف دل عليه ذكر مقابله وهو {للخائنين}، أي لا تكن تخاصم من يخاصم الخائنين، أي لا تخاصم عنهم. فالخصيم هنا بمعنى المنتصر المدافع كقوله "كنت أنا خصمه يوم القيامة" . والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة، لأن الخصام عن الخائنين لا يتوقع من النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما المراد تحذير الذين دفعتهم الحمية إلى الانتصار لأبناء أبيرق.
والأمر باستغفار الله جرى على أسلوب توجيه الخطاب إلى الرسول، فالمراد بالأمر غيره، أرشدهم إلى ما هو أنفع لهم وهو استغفار الله مما اقترفوه، أو أراد: واستغفر الله للخائنين ليلهمهم إلى التوبة ببركة استغفارك لهم فذلك أجدر من دفاع المدافعين عنهم. وهذا نظير قوله {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ} [النساء:64] وليس المراد بالأمر استغفار النبي لنفسه، كما أخطأ فيه من توهم ذلك، فركب عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم خطر بباله ما أوجب أمره بالاستغفار، وهو همه أن يجادل عن بني أبيرق، مع علمه بأنهم سرقوا، خشية أن يفتضحوا، وهذا من أفهام الضعفاء وسوء وضعهم الأخبار لتأييد سقيم أفهامهم.
والخطاب في قوله {وَلا تُجَادِلْ} للرسول، والمراد نهي الأمة عن ذلك، لأن مثله لا يترقب صدوره من الرسول عليه الصلاة والسلام كما دل عليه قوله تعالى {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} .
و {يختانون} بمعنى يخونون، وهو افتعال دال على التكلف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة. ومعنى خيانتهم أنفسهم أنهم بارتكابهم ما يضر بهم كانوا بمنزلة من يخون غيره كقوله {عََلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [النساء:187]. ولك أن تجعل {أنفسهم} هنا بمعنى بني أنفسهم، أي بني قومهم، كقوله {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة:85]، وقوله {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:61]، أي الذين يختانون ناسا من أهلهم وقومهم. والعرب تقول: هو تميمي من أنفسهم، أي ليس بمولى ولا لصيق.
والمجادلة مفاعلة من الجدل، وهو القدرة على الخصام والحجة فيه، وهي منازعة بالقول لإقناع الغير برأيك، ومنه سمي علم قواعد المناظرة والاحتجاج في الفقه علم الجدل، وكان يختلط بعلم أصول الفقه وعلم آداب البحث وعلم المنطق. ولم يسمع
للجدل فعل مجرد أصلي، والمسموع منه جادل لأن الخصام يستدعي خصمين. وأما قولهم: جدله فهو بمعنى غلبه في المجادلة، فليس فعلا أصليا في الاشتقاق. ومصدر المجادلة: الجدال، قال تعالى {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]. وأما الجدل بفتحتين فهو اسم المصدر، وأصله مشتق من الجدل، وهو الصرع على الأرض، لأن الأرض تسمى الجدالة بفتح الجيم يقال: جدله فهو مجدول.
وجملة {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} بيان ل {يختانون} . وجملة {وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ} حال، وذلك هو محل الاستغراب من حالهم وكونهم يختانون أنفسهم. والاستخفاء من الله مستعمل مجازا في الحياء، إذ لا يعتقد أحد يؤمن بالله أنه يستطيع أن يستخفي من الله.
وجملة {وَهُوَ مَعَهُمْ} حال من اسم الجلالة، والمعية هنا معية العلم والاطلاع. و {إِذْ يُبَيِّتُونَ} ظرف، والتبييت جعل الشيء في البيات، أي الليل، مثل التصبيح، يقال: بيتهم العدو وصبحهم العدو وفي القرآن: {لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49] أي لنأتينهم ليلا فنقلتهم. والمبيت هنا هو ما لا يرضي من القول، أي دبروه وزوروه ليلا لقصد الإخفاء، كقول العرب: هذا أمر قضي بليل، أو تشور فيه بليل، والمراد هنا تدبير مكيدتهم لرمي البراء بتهمة السرقة.
وقوله {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} استئناف أثاره قوله {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} ، والمخاطب كل من يصلح للمخاطبة من المسلمين. والكلام جار مجرى الفرض والتقدير، أو مجرى التعريض ببعض بني ظفر الذين جادلوا عن بني أبيرق.
والقول في تركيب {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ} تقدم في سورة البقرة[85] عند قوله تعالى {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} ، وتقدم نظيره في آل عمران[119] {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ} .
وأم في قوله {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} منقطعة للإضراب الانتقالي. ومن استفهام مستعمل في الإنكار.
والوكيل مضى الكلام عليه عند قوله تعالى {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} في سورة آل عمران[173].
[113,110] {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً
رَحِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} .
اعتراض بتذييل بين جملة {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ} وبين جملة {وََلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء:109، 113].
وعمل السوء هو العصيان ومخالفة ما أمر به الشرع ونهى عنه. وظلم النفس شاع إطلاقه في القرآن على الشرك والكفر، وأطلق أيضا على ارتكاب المعاصي. وأحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أن عمل السوء أريد به عمل السوء مع الناس، وهو الاعتداء على حقوقهم، وأن ظلم النفس هو المعاصي الراجعة إلى مخالفة المرء في أحواله الخاصة ما أمر به أو نهي عنه.
والمراد بالاستغفار التوبة وطلب العفو من الله عما مضى من الذنوب قبل التوبة، ومعنى {يََجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} يتحقق ذلك، فاستعير فعل {يجد} للتحقق لأن فعل وجد حقيقته الظفر بالشيء ومشاهدته، فأطلق على تحقيق العفو والمغفرة على وجه الاستعارة. ومعنى {غَفُوراً رَحِيماً} شديد الغفران وشديد الرحمة وذلك كناية عن العموم والتعجيل، فيصير المعنى يجد الله غافرا له راحما له، لأنه عام المغفرة والرحمة فلا يخرج منها أحد استغفره وتاب إليه، ولا يتخلف عنه شمول مغفرته ورحمته زمنا، فكانت صيغة {غَفُوراً رَحِيماً} مع {يجد} دالة على القبول من كل تائب بفضل الله.
وذكر الخطيئة والإثم هنا يدل على أنهما متغايران، فالمراد بالخطيئة المعصية الصغيرة، والمراد بالإثم الكبيرة.
والرمي حقيقته قذف شيء من اليد، ويطلق مجازا على نسبة خبر أو وصف لصاحبه بالحق أو الباطل، وأكثر استعماله في نسبة غير الواقع، ومن أمثالهم رمتني بدائها وانسلت وقال تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور:4] وكذلك هو هنا، ومثله في ذلك القذف حقيقة ومجازا.
ومعنى {يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} ينسبه إليه ويحتال لترويج ذلك، فكأنه ينزع ذلك الإثم عن
نفسه ويرمي به البريء. والبهتان: الكذب الفاحش. وجعل الرمي بالخطيئة وبالإثم مرتبة واحدة في كون ذلك إثما مبينا: لأن رمي البريء بالجريمة في ذاته كبيرة لما فيه من الاعتداء على حق الغير. ودل على عظم هذا البهتان بقوله {احتمل} تمثيلا لحال فاعله بحال عناء الحامل ثقلا. والمبين الذي يدل كل أحد على أنه إثم، أي إثما ظاهرا لا شبهة في كونه إثما.
وقوله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} عطف على {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} [النساء:105].
والمراد بالفضل والرحمة هنا نعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحق في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه. وظاهر الآية أن هم طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يضلوا الرسول غير واقع من أصله فضلا عن أن يضلوه بالفعل. ومعنى ذلك أن علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس، مؤمنهم وكافرهم، أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمين فلا يسعهم إلا حكاية الصدق عنده، وأن بني ظفر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمه كانوا يظنون أن أصحابهم بني أبيرق على الحق، أو أن بني أبيرق لما شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسين خيفة أن يطلع الله ورسوله على جلية الأمر، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعا لا هما، لأن الهم هو العزم على الفعل والثقة به، وإنما كان انتفاء همهم تضليله فضلا ورحمة، لدلالته على وقاره في نفوس الناس، وذلك فضل عظيم.
وقيل في تفسير هذا الانتفاء: إن المراد انتفاء أثره، أي لولا فضل الله لضللت بهمهم أن يضلوك، ولكن الله عصمك عن الضلال، فيكون كناية. وفي هذا التفسير بعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى.
ومعنى {وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} أنهم لو هموا بذلك لكان الضلال لاحقا بهم دونك، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول، فحق عليهم الضلال بذلك، ثم لا يجدونك مصغيا لضلالهم. و {من} زائدة لتأكيد النفي. و {شيء} أصله النصب على أنه مفعول مطلق لقوله {يضرونك} أي شيئا من الضر، وجر لأجل حرف الجر الزائد.
وجملة {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} عطف على {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ} . وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ} ولذلك ختمها
بقوله {وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} ، فهو مثل رد العجز على الصدر. والكتاب: القرآن. والحكمة: النبوءة. وتعليمه ما لم يكن يعلم هو ما زاد على ما في الكتاب من العلم الوارد في السنة والإنباء بالمغيبات.
{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [114].
لم تخل الحوادث التي أشارت إليها الآي السابقة، ولا الأحوال التي حذرت منها، من تناج وتحاور، سرا وجهرا، لتدبير الخيانات وإخفائها وتبييتها، لذلك كان المقام حقيقا بتعقيب جميع ذلك بذكر النجوى وما تشتمل عليه، لأن في ذلك تعليما وتربية وتشريعا، إذ النجوى من أشهر الأحوال العارضة للناس في مجتمعاتهم، لا سيما في وقت ظهور المسلمين بالمدينة، فقد كان فيها المنافقون واليهود وضعفاء المؤمنين، وكان التناجي فاشيا لمقاصد مختلفة، فربما كان يثير في نفوس الرائين لتلك المناجاة شكا، أي خوفا، إذ كان المؤمنون في حال مناواة من المشركين وأهل الكتاب، فلذلك تكرر النهي عن النجوى في القرآن نحو {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة:8]الآيات، وقوله {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} [الإسراء:47] وقوله {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14]، فلذلك ذم الله النجوى هنا أيضا، فقال {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ} . فالجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا لإفادة حكم النجوى، والمناسبة قد تبينت.
والنجوى مصدر، هي المسارة في الحديث، وهي مشتقة من النجو، وهو المكان المستتر الذي المفضي إليه ينجو من طالبه، ويطلق النجوى على المناجين، وفي القرآن {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} ، وهو وصف بالمصدر والآية تحتمل المعنيين. والضمير الذي أضيف إليه {نجوى} ضمير جماعة الناس كلهم، نظير قوله تعالى {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} ]هود:5] إلى قوله {وَمَا يُعْلِنُونَ} في سورة هود[5]، وليس عائدا إلى ما عادت إليه الضمائر التي قبله في قوله {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ} [النساء:108] إلى هنا؛ لأن المقام مانع من عوده إلى تلك الجماعة إذ لم تكن نجواهم إلا فيما يختص بقضيتهم، فلا عموم لها يستقيم معه الاستثناء في قوله {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} . وعلى هذا فالمقصود من الآية تربية اجتماعية دعت إليها المناسبة، فإن شأن المحادثات والمحاورات أن تكون جهرة، لأن الصراحة من أفضل الأخلاق لدلالتها على ثقة المتكلم برأيه، وعلى شجاعته في إظهار ما يريد إظهاره من تفكيره، فلا
يصير إلى المناجاة إلا في أحوال شاذة يناسبها إخفاء الحديث. فمن يناجي في غير تلك الأحوال رمي بأن شأنه ذميم، وحديثه فيما يستحيي من إظهاره، كما قال صالح بن عبد القدوس:
الستر دون الفاحشات ولا
...
يغشاك دون الخير من ستر
وقد نهى الله المسلمين عن النجوى غير مرة، لأن التناجي كان من شأن المنافقين فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة:8] وقال إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا.
وقد ظهر من نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتناجى اثنان دون ثالث أن النجوى تبعث الريبة في مقاصد المتناجين، فعلمنا من ذلك أنها لا تغلب إلا على أهل الريب والشبهات، بحيث لا تصير دأبا إلا لأولئك، فمن أجل ذلك نفى الله الخير عن أكثر النجوى.
ومعنى {لا خير} أنه شر، بناء على المتعارف في نفي الشيء أن يراد به إثبات نقيضه، لعدم الاعتداد بالواسطة، كقوله تعالى {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32]، ولأن مقام التشريع إنما هو بيان الخير والشر.
وقد نفى الخير عن كثير من نجواهم أو متناجيهم، فعلم من مفهوم الصفة أن قليلا من نجواهم فيه خير، إذ لا يخلو حديث الناس من تناج فيما فيه نفع. والاستثناء في قوله {إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} على تقدير مضاف، أي: إلا نجوى من أمر، أو بدون تقدير إن كانت النجوى بمعنى المتناجين، وهو مستثنى من {كثير} ، فحصل من مفهوم الصفة ومفهوم الاستثناء قسمان من النجوى يثبت لهما الخير، ومع ذلك فهما قليل من نجواهم. أما القسم الذي أخرجته الصفة، فهو مجمل يصدق في الخارج على كل نجوى تصدر منهم فيها نفع، وليس فيها ضرر، كالتناجي في تشاور فيمن يصلح لمخالطة، أو نكاح أو نحو ذلك.
وأما القسم الذي أخرجه الاستثناء فهو مبين في ثلاثة أمور: الصدقة، والمعروف، والإصلاح بين الناس. وهذه الثلاثة لو لم تذكر لدخلت في القليل من نجواهم الثابت له الخير، فلما ذكرت بطريق الاستثناء علمنا أن نظم الكلام جرى على أسلوب بديع فأخرج ما فيه الخير من نجواهم ابتداء بمفهوم الصفة، ثم أريد الاهتمام ببعض هذا القليل من نجواهم، فأخرج من كثير نجواهم بطريق الاستثناء، فبقي ما عدا ذلك من نجواهم، وهو
الكثير، موصوفا بأن لا خير فيه وبذلك يتضح أن الاستثناء متصل، وأن لا داعي إلى جعله منقطعا. والمقصد من ذلك كله الاهتمام والتنويه بشأن هذه الثلاثة، ولو تناجى فيها من غالب أمره قصد الشر.
وقوله {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} الخ وعد بالثواب على فعل المذكورات إذا كان لابتغاء مرضاة الله، فدل على أن كونها خيرا وصف ثابت لها لما فيها من المنافع، ولأنها مأمور بها في الشرع، إلا أن الثواب لا يحصل إلا عن فعلها ابتغاء مرضاة الله كما في حديث "إنما الأعمال بالنيات" .
وقرأ الجمهور: نؤتيه بنون العظمة على الالتفات من الغيبة في قوله {مَرْضَاتِ اللَّهِ}
{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [115].
عطف على {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} [النساء:114] بمناسبة تضاد الحالين. والمشاقة: المخالفة المقصودة، مشتقة من الشق لأن المخالف كأنه يختار شقا يكون فيه غير شق الآخر.
فيحتمل قوله {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى} أن يكون أراد به من بعد ما آمن بالرسول فتكون الآية وعيدا للمرتد. ومناسبتها هنا أن بشير بن أبيرق صاحب القصة المتقدمة، لما افتضح أمره ارتد ولحق بمكة، ويحتمل أن يكون مرادا به من بعد ما ظهر صدق الرسول بالمعجزات، ولكنه شاقه عنادا ونواء للإسلام.
وسبيل كل قوم طريقتهم التي يسلكونها في وصفهم الخاص، فالسبيل مستعار للاعتقادات والأفعال والعادات، التي يلازمها أحد ولا يبتغي التحول عنها، كما يلازم قاصد المكان طريقا يبلغه إلى قصده، قال تعالى {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف:108]. ومعنى هذه الآية نظير معنى قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:32] ، فمن اتبع سبيل المؤمنين في الإيمان واتبع سبيل غيرهم في غير الكفر مثل اتباع سبيل يهود خيبر في غراسة النخيل، أو بناء الحصون، لا يحسن أن يقال فيه اتبع غير سبيل المؤمنين. وكأن فائدة عطف اتباع غير سبيل المؤمنين على مشاقة الرسول الحيطة لحفظ الجامعة الإسلامية بعد
الرسول، فقد ارتد بعض العرب بعد الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال الحطيئة في ذلك:
أطعنا رسول الله إذ كان بيننا
...
فيا لعباد الله ما لأبي بكر
فكانوا ممن اتبع غير سبيل المؤمنين ولم يشاقوا الرسول.
ومعنى قوله {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} الإعراض عنه، أي نتركه وشأنه لقلة الاكتراث به، كما ورد في الحديث "وأما الآخر فأعرض الله عنه" .
وقد شاع عند كثير من علماء أصول الفقه الاحتجاج بهذه الآية، لكون إجماع علماء الإسلام على حكم من الأحكام حجة، وأول من احتج بها على ذلك الشافعي. قال الفخر: روي أن الشافعي سئل عن آية في كتاب الله تدل على أن الإجماع حجة فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وجد هذه الآية. وتقرير الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، فوجب أن يكون اتباع سبيل المؤمنين واجبا. بيان المقدمة الأولى: أنه تعالى ألحق الوعيد بمن يشاقق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين، ومشاقة الرسول وحدها موجبة لهذا الوعيد، فلو لم يكن اتباع غير سبيل المؤمنين موجبا له، لكان ذلك ضما لما لا أثر له في الوعيد إلى ما هو مستقل باقتضاء ذلك الوعيد، وأنه غير جائز، فثبت أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام، فإذا ثبت هذا لزم أن يكون اتباع سبيلهم واجبا. وقد قرر غيره الاستدلال بالآية على حجية الإجماع بطرق أخرى، وكلها على ما فيها من ضعف في التقريب، وهو استلزام الدليل للمدعى، قد أوردت عليها نقوض أشار إليها ابن الحاجب في المختصر. واتفقت كلمة المحققين: الغزالي، والإمام في المعالم، وابن الحاجب، على توهين الاستدلال بهذه الآية على حجية الإجماع.
[116] {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} .
استئناف ابتدائي، جعل تمهيدا لما بعده من وصف أحوال شركهم. وتعقيب الآية السابقة بهذه مشير إلى أن المراد باتباع غير سبيل المؤمنين اتباع سبيل الكفر من شرك وغيره، فعقبه بالتحذير من الشرك، وأكده بأن للدلالة على رفع احتمال المبالغة أو المجاز. وتقدم القول في مثل هذه الآية قريبا، غير أن الآية السابقة قال فيها {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] وقال في هذه {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} . وإنما قال في السابقة فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} لأن المخاطب فيها أهل الكتاب بقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ} [النساء:47] فنبهوا على أن الشرك من قبيل الافتراء تحذيرا لهم من الافتراء وتفظيعا لجنسه. وأما في هذه الآية فالكلام موجه إلى المسلمين فنبهوا على أن الشرك من الضلال تحذيرا لهم من مشاقة الرسول وأحوال المنافقين، فإنها من جنس الضلال. وأكد الخبر هنا بحرف قد اهتماما به لأن المواجه بالكلام هنا المؤمنون، وهم لا يشكون في تحقق ذلك.
والبعيد أريد به القوي في نوعه الذي لا يرجى لصاحبه اهتداء، فاستعير له البعيد لأن البعيد يقصي الكائن فيه عن الرجوع إلى حيث صدر.
[121,117] {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً َعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} .
كان قوله {إِنْ يَدْعُونَ} بيانا لقوله {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116]، وأي ضلال أشد من أن يشرك أحد بالله غيره ثم أن يدعى أن شركاءه إناث، وقد علموا أن الأنثى أضعف الصنفين من كل نوع. وأعجب من ذلك أن يكون هذا صادرا من العرب، وقد علم الناس حال المرأة بينهم، وقد حرموها من حقوق كثيرة واستضعفوها. فالحصر في قوله {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً} قصر ادعائي لأنه أعجب أحوال إشراكهم، ولأن أكبر آلهتهم يعتقدونها أنثى وهي: اللات، والعزى، ومناة، فهذا كقولك لا عالم إلا زيد. وكانت العزى لقريش، وكانت مناة للأوس والخزرج، ولا يخفى أن معظم المعاندين للمسلمين يومئذ كانوا من هذين الحيين: مشركو قريش هم أشد الناس عداء للإسلام، ومنافقو المدينة ومشركوها أشد الناس فتنة في الإسلام.
ومعنى {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً} : أن دعوتهم الأصنام دعوة للشيطان، والمراد جنس الشيطان، وإنما جعلوا يدعون الشيطان لأنه الذي سول لهم عبادة الأصنام. والمريد: العاصي والخارج عن الملك، وفي المثل تمرد مارد وعز الأبلق اسما حصنين للسمؤال، فالمريد صفة مشبهة مشتقة من مرد بضم الراء إذا عتا في العصيان.
وجملة {لَعَنَهُ اللَّهُ} صفة لشيطان، أي أبعده؛ وتحتمل الدعاء عليه، لكن المقام ينبو
عن الاعتراض بالدعاء في مثل هذا السياق. وعطف {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ} عليه يزيد احتمال الدعاء بعدا. وسياق هذه الآية كسياق أختها في قوله {فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [الأعراف:13، 16] الآية فكلها أخبار. وهي تشير إلى ما كان في أول خلق البشر من تنافر الأحوال الشيطانية لأحوال البشر، ونشأة العداوة عن ذلك التنافر، وما كونه الله من أسباب الذود عن مصالح البشر أن تنالها القوى الشيطانية نوال إهلاك بحرمان الشياطين من رضا الله تعالى، ومن مداخلتهم في مواقع الصلاح، إلا بمقدار ما تنتهز تلك القوى من فرض ميل القوى البشرية إلى القوى الشيطانية وانجذابها، فتلك خلس تعمل الشياطين فيها عملها، وهو ما أشار إليه قوله تعالى {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر:41، 42]. وتلك ألطاف من الله أودعها في نظام الحياة البشرية عند التكوين، فغلب بسببها الصلاح على جماعة البشر في كل عصر، وبقي معها من الشرور حظ يسير ينزع فيه الشيطان منازعه وكل الله أمر الذياد عنه إلى إرادة البشر، بعد تزويدهم بالنصح والإرشاد بواسطة الشرائع والحكمة.
فمعنى الحكاية عنه بقوله {لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} أن الله خلق في الشيطان علما ضروريا أيقن بمقتضاه أن فيه المقدرة على فتنة البشر وتسخيرهم، وكانت في نظام البشر فرص تدخل في خلالها آثار فتنة الشيطان، فذلك هو النصيب المفروض، أي المجعول بفرض الله وتقديره في أصل الجبلة. وليس قوله {مِنْ عِبَادِكَ} إنكارا من الشيطان لعبوديته لله، ولكنها جلافة الخطاب الناشيءة عن خباثة التفكير المتأصلة في جبلته، حتى لا يستحضر الفكر من المعاني المدلولة إلا ما له فيه هوى، ولا يتفطن إلى ما يحف بذلك من الغلظة، ولا إلى ما يفوته من الأدب والمعاني الجميلة. فكل حظ كان للشيطان في تصرفات البشر من أعمالهم المعنوية: كالعقائد والتفكيرات الشريرة، ومن أعمالهم المحسوسة: كالفساد في الأرض، والإعلان بخدمة الشيطان: كعبادة الإصنام، والتقريب لها، وإعطاء أموالهم لضلالهم، كل ذلك من النصيب المفروض.
ومعنى {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ} إضلالهم عن الحق. ومعنى {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} لأعدنهم مواعيد كاذبة، ألقيها في نفوسهم، تجعلهم يتمنون، أي يقدرون غير الواقع واقعا، إغراقا في الخيال، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم. يقال: مناه، إذا وعده المواعيد الباطلة، وأطمعه في وقوع ما يحبه مما لا يقع، قال كعب:
فلا يغرنك ما منت وما وعدت
ومنه سمي بالتمني طلب ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر.
ومعنى {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} أي آمرنهم بأن يبتكوا آذان الأنعام فليبتكنها، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين، فحذف مفعول أمر استغناء عنه بما رتب عليه. والتبتيك: القطع. قال تأبط شرا:
ويجعل عينيه ربيئة قلبه
...
إلى سلة من حد أخلق باتك
وقد ذكر هنا شيئا مما يأمر به الشيطان مما يخص أحوال العرب، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم، علامة على أنها محررة للأصنام، فكانوا يشقون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة، فكان هذا الشق من عمل الشيطان، إذ كان الباعث عليه غرضا شيطانيا.
وقوله {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فقء عين الحامي، وهو البعير الذي حمى ظهره من الركوب لكثرة ما أنسل، ويسيب للطواغيت. ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشم إذ أرادوا به التزين، وهو تشويه، وكذلك وسم الوجوه بالنار.
ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له، وذلك من الضلالات الخرافية. كجعل الكواكب آلهة، وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس. ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام، الذي هو دين الفطرة، والفطرة خلق الله؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله.
وليس من تغيير خلق الله التصرف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن؛ فإن الختان من تغيير خلق الله ولكنه لفوائد صحية، وكذلك حلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار، وتقليم الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزين. وأما ما ورد في السنة من لعن الواصلات والمتنمصات والمتفلجات للحسن فمما أشكل تأويله. وأحسب تأويله أن الغرض منه النهي عن سمات كانت تعد من سمات العواهر في ذلك العهد، أو من سمات المشركات، وإلا فلو فرضنا هذه منهيا عنها لما بلغ النهي إلى حد لعن فاعلات ذلك. وملاك الأمر أن تغيير
خلق الله إنما يكون إثما إذا كان فيه حظ من طاعة الشيطان، بأن يجعل علامة لنحلة شيطانية، كما هو سياق الآية واتصال الحديث بها. وقد أوضحناه ذلك في كتابي المسمى: النظر الفسيح على مشكل الجامع الصحيح.
وجملة {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً} تذييل دال على أن ما دعاهم إليه الشيطان: من تبتيك آذان الأنعام، وتغيير خلق الله، إنما دعاهم إليه لما يقتضيه من الدلالة على استشعارهم بشعاره، والتدين بدعوته، وإلا فإن الشيطان لا ينفعه أن يبتك أحد أذن ناقته، أو أن يغير شيئا من خلقته، إلا إذا كان ذلك للتأثر بدعوته.
وقوله {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} استئناف لبيان أنه أنجز عزمه فوعد ومنى وهو لا يزال يعد ويمني، فلذلك جيء بالمضارع. وإنما لم يذكر أنه يأمرهم فيبتكون آذان الأنعام ويغيرون خلق الله لظهور وقوعه لكل أحد.
وجيء باسم الإشارة في قوله {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} لتنبيه السامعين إلى ما يرد بعد اسم الإشارة من الخبر وأن المشار إليهم أحرياء به عقب ما تقدم من ذكر صفاتهم.
والمحيص: المراغ والملجأ، من حاص إذا نفر وراغ، وفي حديث هرقل فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب. وقال جعفر بن علبة الحارثي:
ولم ندر إن حصنا من الموت حيصة
...
كم العمر باق والمدى متطاول
روي: حصنا وحيصة بالحاء والصاد المهملتين ويقال: جاض أيضا بالجيم والضاد المعجمة، وبهما روي بيت جعفر أيضا.
[122] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} .
عطف على جملة {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} جريا على عادة القرآن في تعقيب الإنذار بالبشارة، والوعيد بالوعد.
وقوله {وَعَدَ اللَّهُ} مصدر مؤكد لمضمون جملة {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي} الخ، وهي بمعناه، فلذلك يسمي النحاة مثله مؤكدا لنفسه، أي مؤكدا لما هو بمعناه.
وقوله {حقا} مصدر مؤكد لمضمون {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} ، إذ كان هذا في معنى الوعد، أي هذا الوعد أحققه حقا، أي لا يتخلف. ولما كان مضمون الجملة التي قبله
خاليا عن معنى الإحقاق كان هذا المصدر مما يسميه النحاة مصدرا مؤكدا لغيره.
وجملة {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} تذييل للوعد وتحقيق له: أي هذا من وعد الله، ووعود الله وعود صدق، إذ لا أصدق من الله قيلا. فالواو اعتراضية لأن التذييل من أصناف الاعتراض وهو اعتراض في آخر الكلام، وانتصب {قيلا} على تمييز نسبة {أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ} .
والاستفهام إنكاري.
والقيل: القول، وهو اسم مصدر بوزن فعل يجيء في الشر والخير.
[124,123] {لََيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} .
الأظهر أن قوله {لََيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال، والتشويه بمساويها، وأن في ليس ضميرا عائدا على الجزاء المفهوم من قوله {يجز به} ، أي ليس الجزاء تابعا لأماني الناس ومشتهاهم، بل هو أمر مقدر من الله تعالى تقديرا بحسب الأعمال، ومما يؤيد أن يكون قوله {لََيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} استئنافا ابتدائيا أنه وقع بعد تذييل مشعر بالنهاية وهو قوله {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء:122]. ومما يرجحه أن في ذلك الاعتبار إبهاما في الضمير، ثم بيانا له بالجملة بعده، وهي {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} ؛ وأن فيه تقديم جملة {لََيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} عن موقعها الذي يترقب في آخر الكلام، فكان تقديمها إظهارا للاهتمام بها، وتهيئة لإبهام الضمير. وهذه كلها خصائص من طرق الإعجاز في النظم. وجملة {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} استئنافا بياني ناشيء عن جملة {لََيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ} لأن السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل. ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسرناه. وجعل صاحب الكشاف الضمير المستتر عائدا على وعد الله ، أي ليس وعد الله بأمانيكم؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالا من {وَعَدَ اللَّهُ} [النساء:122]، وتكون جملة {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} استئنافا ابتدائيا محضا.
روى الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى أبي صالح، وروى ابن جيري بسنده إلى مسروق، وقتادة، والسدي، والضحاك، وبعض الروايات يزيد على بعض، أن سبب
نزولها: أنه وقع تحاج بين المسلمين وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، كل فريق يقول للآخرين: نحن خير منكم، ويحتج لذلك ويقول: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. فأنزل الله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} الآيات. فبين أن كل من اتبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكل من ضل وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى، فبطل قول النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا. والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنة، فبطل قول المسلمين واليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا: فكانت هذه الآية حكما فصلا بين الفرق، وتعليما لهم أن ينظروا في توفر حقيقة الإيمان الصحيح، وتوفر العمل ا لصالح معه، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} . ثم إن الله لوح إلى فلج حجة المسلمين بإشارة قوله {وهو مؤمن} فإن كان إيمان اختل منه بعض ما جاء به الدين الحق، فهو كالعدم، فعقب هذه الآية بقوله {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النساء:125]. والمعنى أن الفوز في جانب المسلمين، لا لأن أمانيهم كذلك، بل لأن أسباب الفوز والنجاة متوفرة في دينهم. وعن عكرمة: قالت اليهود والنصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان منا. وقال المشركون: لا نبعث.
والباء في قوله {بأمانيكم} للملابسة، أي ليس الجزاء حاصلا حصولا على حسب أمانيكم، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأن أماني المخاطبين واقعة لا منفية.
والأماني: جمع أمنية، وهي اسم للتمني، أي تقدير غير الواقع واقعا. والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة. وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى {لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} في سورة البقرة[78]. وكأن ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد، وأن ما كان خلاف ذلك لا يعتد به، وما وافقه هو الحق، والمقصد المهم هو قوله {وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} على نحو {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سبأ:24] فإن اليهود كانوا في غرور، يقولون: { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} . وقد سمى الله تلك أماني عند ذكره في قوله {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [البقرة:80] {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111]. أما المسلمون فمحاشون من اعتقاد مثل ذلك.
وقيل: الخطاب لكفار العرب، أي ليس بأماني المشركين، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله، ولا أماني أهل الكتاب الذين زعموا أن أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله، وهو محمل للآية.
وقوله {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} زيادة تأكيد، لرد عقيدة من يتوهم أن أحدا يغني عن عذاب الله.
والولي هو المولى، أي المشارك في نسب القبيلة، والمراد به المدافع عن قريبه، والنصير الذي إذا استنجدته نصرك، أو الحليف، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين.
ووجه قوله {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} قصد التعميم والرد على من يحرم المرأة حظوظا كثيرة من الخير من أهل الجاهلية أو من أهل الكتاب. وفي الحديث "وليشهدن الخير ودعوة المسلمين" . ومن لبيان الإبهام الذي في من الشرطية في قوله {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ} .
وقرأ الجمهور {يدخلون} بفتح التحتية وضم الخاء. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وأبو جعفر، وروح عن يعقوب بضم التحتية وفتح الخاء على البناء للنائب.
[126,125] {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} .
الأظهر أن الواو للحال من ضمير {يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} [النساء:124] الذي ما صدقه المؤمنون الصالحون، فلما ذكر ثواب المؤمنين أعقبه بتفضيل دينهم. والاستفهام إنكاري. وانتصب {دينا} على التمييز. وإسلام الوجه كناية عن تمام الطاعة والاعتراف بالعبودية، وهو أحسن الكنايات، لأن الوجه أشرف الأعضاء، وفيه ما كان به الإنسان إنسانا، وفي القرآن {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران:20]. والعرب تذكر أشياء من هذا القبيل كقوله {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} [العلق:15]، ويقولون: أخذ بساقه، أي تمكن منه، وكأنه تمثيل لإمساك الرعاة الأنعام. وفي الحديث "الطلاق لمن أخذ بالساق". ويقولون: ألقى إليه القياد، وألقى إليه الزمام، وقال زيد بن عمرو بن نفيل:
يقول أنفي لك عان راغم
ويقولون: يدي رهن لفلان. وأراد بإسلام الوجه الاعتراف بوجود الله ووحدانيته. وقد تقدم ما فيه بيان لهذا عند قوله تعالى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ} [آل عمران:19] وقوله {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ} [البقرة:132].
وجملة وهو محسن حال قصد منها اتصافه بالإحسان حين إسلامه وجهه لله، أي خلع الشرك قاصدا الإحسان، أي راغبا في الإسلام لما رأى فيه من الدعوة إلى الإحسان. ومعنى {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أنه اتبع شريعة الإسلام التي هي على أسس ملة إبراهيم. فهذه ثلاثة أوصاف بها يكمل معنى الدخول في الإسلام، ولعلها هي: الإيمان، والإحسان، والإسلام. ولك أن تجعل معنى {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} أنه دخل في الإسلام، وأن قوله {وهو محسن} مخلص راغب في الخير، وأن اتباع ملة إبراهيم عنى به التوحيد. وتقدم أن {حنيفا} معناه مائلا عن الشرك أو متعبدا. وإذا جعلت معنى قوله {وهو محسن} أي عامل الصالحات كان قوله {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} بمنزلة عطف المرادف وهو بعيد.
وقوله {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} عطف ثناء إبراهيم على مدح من اتبع دينه: زيادة تنويه بدين إبراهيم، فأخبر أن الله اتخذ إبراهيم خليلا. والخليل في كلام العرب الصاحب الملازم الذي لا يخفى عنه شيء من أمور صاحبه، مشتق من الخلال، وهو النواحي المتخللة للمكان {فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور:43] {وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً} [الكهف:33]. هذا أظهر الوجوه في اشتقاق الخليل. ويقال: خل وخل بكسر الخاء وضمها ومؤنثه: خلة بضم الخاء، ولا يقال بكسرالخاء، قال كعب:
أكرم بها خلة لو أنها صدقت
وجمعهما خلائل. وتطلق الخلة بضم الخاء على الصحبة الخالصة {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} [البقرة:254]، وجمعهما خلال {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} [إبراهيم:31]. ومعنى اتخاذ الله إبراهيم خليلا شدة رضى الله عنه، إذ قد علم كل أحد أن الخلة الحقيقية تستحيل على الله فأريد لوازمها وهي الرضى، واستجابة الدعوة، وذكره بخير، ونحو ذلك.
{وجملة وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الخ تذييل جعل كالاحتراس، على
أن المراد بالخليل لازم معنى الخلة، وليست هي كخلة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل. فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . والمحيط: العليم.
[127] {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} .
عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة. ولعل هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة، فذكر حكمه عقبها معطوفا، وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] الخ. وأحسن ما ورد في تفسير هذه الآية ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت: يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. وأن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} . قالت عائشة: وقول الله تعالى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال؛ قالت: فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهن عنهن إذا كن قليلات المال والجمال، وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها. فنزلت هذه الآية.
فالمراد: ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أن الاستفتاء لا يتعلق بالذوات، فهو مثل قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]. وأخص الأحكام بالنساء: أحكام ولايتهن، وأحكام معاشرتهن. وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا.
وقوله {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء، وهو ضرب من
أن المراد بالخليل لازم معنى الخلة، وليست هي كخلة الناس مقتضية المساواة أو التفضيل. فالمراد منها الكناية عن عبودية إبراهيم في جملة {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . والمحيط: العليم.
[127] {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} .
عطف تشريع على إيمان وحكمة وعظة. ولعل هذا الاستفتاء حدث حين نزول الآيات السابقة، فذكر حكمه عقبها معطوفا، وهذا الاستفتاء حصل من المسلمين بعد أن نزل قوله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] الخ. وأحسن ما ورد في تفسير هذه الآية ما رواه البخاري عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قالت: يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. وأن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} . قالت عائشة: وقول الله تعالى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال؛ قالت: فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهن عنهن إذا كن قليلات المال والجمال، وكان الولي يرغب عن أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها. فنزلت هذه الآية.
فالمراد: ويستفتونك في أحكام النساء إذ قد علم أن الاستفتاء لا يتعلق بالذوات، فهو مثل قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23]. وأخص الأحكام بالنساء: أحكام ولايتهن، وأحكام معاشرتهن. وليس المقصود هنا ميراث النساء إذ لا خطور له بالبال هنا.
وقوله {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} وعد باستيفاء الإجابة عن الاستفتاء، وهو ضرب من
تدفعونها لهن، فلا توفوهن مهور أمثالهن، والكل يعد مكتوبا لهن، كما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها وعلى الوجهين يجيء التقدير في قوله {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ولك أن تجعل الاحتمالين في قوله {مَا كُتِبَ لَهُنَّ} وفي قوله {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} . مقصودين على حد استعمال المشترك في معنييه.
وقوله {والمستضعفين} عطف على {يتامى النساء} ، وهو تكميل وإدماج، لأن الاستفتاء كان في شأن النساء خاصة، والمراد المستضعفون والمستضعفات، ولكن صيغة التذكير تغليب، وكذلك الولدان، وقد كانوا في الجاهلية يأكلون أموال من في حجرهم من الصغار.
وقوله {وَأَنْ تَقُومُوا} عطف على {يتامى النساء} ، أي وما يتلى عليكم في القيام لليتامى بالعدل. ومعنى القيام لهم التدبير لشؤونهم، وذلك يشمل يتامى النساء.
[130,128] {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} .
عطف لبقية إفتاء الله تعالى، وهذا حكم اختلال المعاشرة بين الزوجين، وقد تقدم بعضه في قوله {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء:34] الآية، في هذه السورة، فذلك حكم فصل القضاء بينهما، وما هنا حكم الانفصال بالصلح بينهما، وذلك ذكر فيه نشوز المرأة، وهنا ذكر نشوز البعل. والبعل زوج المرأة. وقد تقدم وجه إطلاق هذا الاسم عليه في قوله {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} في سورة البقرة [228].
وصيغة {فلا جناح} من صيغ الإباحة ظاهرا، فدل ذلك على الإذن للزوجين في صلح يقع بينهما. وقد علم أن الإباحة لا تذكر إلا حيث يظن المنع، فالمقصود الإذن في صلح يكون بخلع: أي عوض مالي تعطيه المرأة، أو تنازل عن بعض حقوقها، فيكون مفاد هذه الآية أعم من مفاد قوله تعالى {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة:229]، فسماه هناك افتداء، وسماه هنا صلحا. وقد شاع في الاستعمال إطلاق
الصلح على التراضي بين الخصمين على إسقاط بعض الحق، وهو الأظهر هنا. واصطلح الفقهاء من المالكية: على إطلاق الافتداء على اختلاع المرأة من زوجها بمال تعطيه، وإطلاق الخلع على الاختلاع بإسقاطها عنه بقية الصداق، أو النفقة لها، أو لأولادها.
ويحتمل أن تكون صيغة {لا جناح} مستعملة في التحريض على الصلح. أي إصلاح أمرهما بالصلح وحسن المعاشرة، فنفي الجناح من الاستعارة التمليحية؛ شبه حال من ترك الصلح واستمر على النشوز والإعراض بحال من ترك الصلح عن عمد لظنه أن في الصلح جناحا. فالمراد الصلح بمعنى إصلاح ذات البين، والأشهر فيه أن يقال الإصلاح. والمقصود الأمر بأسباب الصلح، وهي: الإغضاء عن الهفوات، ومقابلة الغلظة باللين، وهذا أنسب وأليق بما يرد بعده من قوله {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} .
وللنشوز والإعراض أحوال كثيرة: تقوى وتضعف، وتختلف عواقبها، باختلاف أحوال الأنفس، ويجمعها قوله {خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} . وللصلح أحوال كثيرة: منها المخالعة، فيدخل في ذلك ما ورد من الآثار الدالة على حوادث من هذا القبيل. ففي صحيح البخاري، عن عائشة، قالت في قوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً} قالت: الرجل يكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها، فتقول له أجعلك من شأني في حل. فنزلت هذه الآية. وروى الترمذي، بسند حسن فن ابن عباس، أن سودة أم المؤمنين وهبت يومها لعائشة. وفي أسباب النزول للواحدي: أن ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا، أي كبرا فأراد طلاقها، فقالت له: أمسكني واقسم لي ما بدا لمك. فنزلت الآية في ذلك.
وقرأ الجمهور: {أن يصالحا} بتشديد الصاد وفتح اللام وأصله يتصالحا، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: أن يصلحا بضم التحتية وتخفيف الصاد وكسر اللام أي يصلح كل واحد منهما شأنهما بما يبدو من وجوه المصالحة.
والتعريف في قوله {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} تعريف الجنس وليس تعريف العهد، لأن المقصود إثبات أن ماهية الصلح خير للناس، فهو تذييل للأمر بالصلح والترغيب فيه، وليس المقصود أن الصلح المذكور آنفا، وهو الخلع، خير من النزاع بين الزوجين، لأن هذا، وإن صح معناه، إلا أن فائدة الوجه الأول أوفر، ولأن فيه التفادي عن إشكال تفضيل الصلح على النزاع في الخيرية مع أن النزاع لا خير فيه أصلا. ومن جعل الصلح
الثاني عين الأول غرته القاعدة المتداولة عند بعض النحاة، وهي: أن لفظ النكرة إذا أعيد معرفا باللام فهو عين الأولى. وهذه القاعدة ذكرها ابن هشام الأنصاري في مغنى اللبيب في الباب السادس، فقال: يقولون: النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى، وإذا أعيدت معرفة، أو أعيدت المعرفة معرفة أو نكرة كانت الثانية عين الأولى، ثم ذكر أن في القرآن آيات ترد هذه الأحكام الأربعة كقوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} [الروم:54] وقوله {أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء:128] {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل:88] والشيء لا يكون فوق نفسه {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً} [النساء:153]، وأن في كلام العرب ما يرد ذلك أيضا. والحق أنه لا يختلف في ذلك إذا قامت قرينة على أن الكلام لتعريف الجنس لا لتعريف العهد، كما هنا. وقد تقدم القول في إعادة المعرفة نكرة عند قوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} في سورة البقرة [193]. ويأتي عند قوله تعالى {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} في سورة الأنعام [37].
وقوله {خير} ليس هو تفضيلا ولكنه صفة مشبهة، وزنه فعل، كقولهم: سمح وسهل، ويجمع على خيور. أو هو مصدر مقابل الشر، فتكون إخبارا بالمصدر. وأما المراد به التفضيل فأصل وزنه أفعل، فخفف بطرح الهمزة ثم قلب حركته وسكونه. جمعه أخيار، أي والصلح في ذاته خير عظيم. والحمل على كونه تفضيلا يستدعي أن يكون المفضل عليه هو النشوز والإعراض. وليس فيه كبير معنى.
وقد دلت الآية على شدة الترغيب في هذا الصلح بمؤكدات ثلاثة: وهي المصدر المؤكد في قوله {صلحا} ، والإظهار في مقام الإضمار في قوله {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} ، والإخبار عنه بالمصدر أو بالصفة المشبهة فإنها تدل على فعل سجية.
ومعنى {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} ملازمة الشح للنفوس البشرية حتى كأنه حاضر لديها. ولكونه من أفعال الجبلة بني فعله للمجهول على طريقة العرب في بناء كل فعل غير معلوم الفاعل للمجهول، كقولهم: شغف بفلانة، واضطر إلى كذا. فالشح منصوب على أنه مفعول ثان لأحضرت لأنه من باب أعطى.
وأصل الشح في كلام العرب البخل بالمال، وفي الحديث "أن تصدق وأنت صحيح
شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى" ، وقال تعالى {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] ويطلق على حرص النفس على الحقوق وقلة التسامح فيها، ومنه المشاحة، وعكسه السماحة في الأمرين.
فيجوز أن يكون المراد بالصلح في هذه الآية صلح المال، وهو الفدية. فالشح هو شح المال، وتعقيب قوله {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} بقوله {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ} على هذا الوجه بمنزلة قولهم بعد الأمر بما فيه مصلحة في موعظة أو نحوها: وما إخالك تفعل، لقصد التحريض.
ويجوز أن يكون المراد من الشح ما جبلت عليه النفوس: من المشاحة، وعدم التساهل، وصعوبة الشكائم، فيكون المراد من الصلح صلح المال وغيره، فالمقصود من تعقيبه به تحذير الناس من أن يكونوا متلبسين بهذه المشاحة الحائلة دون المصالحة.
وتقدم الكلام على البخل عند قوله تعالى {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} في سورة آل عمران [180]. وقد اشتهر عند العرب ذم الشح بالمال، وذم من لا سماحة فيه، فكان هذا التعقيب تنفيرا من العوارض المانعة من السماحة والصلح، ولذلك ذيل بقوله {وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} لما فيه من الترغيب في الإحسان والتقوى. ثم عذر الناس في شأن النساء فقال {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أي تمام العدل. وجاء بلن للمبالغة في النفي، لأن أمر النساء يغالب النفس، لأن الله جعل حسن المرأة وخلقها مؤثرا أشد التأثير، فرب امرأة لبيبة خفيفة الروح، وأخرى ثقيلة حمقاء، فتفاوتهن في ذلك وخلو بعضهن منه يؤثر لا محالة تفاوتا في محبة الزوج بعض أزواجه، ولو كان حريصا على إظهار العدل بينهن، فلذلك قال {وَلَوْ حَرَصْتُمْ} . وأقام الله ميزان العدل بقوله {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} ، أي لا يفرط أحدكم بإظهار الميل إلى إحداهن أشد الميل حتى يسوء الأخرى بحيث تصير الأخرى كالمعلقة. فظهر أن متعلق {تميلوا} مقدر بإحداهن، وأن ضمير {تذروها} المنصوب عائد إلى غير المتعلق المحذوف بالقرينة، وهو إيجاز بديع.
والمعلقة: هي المرأة التي يهجرها زوجها هجرا طويلا، فلا هي مطلقة ولا هي زوجة، وفي حديث أم زرع "زوجي العشنق إن أنطق أطلق وإن أسكت أعلق" ، وقالت ابنة الحمارس:
إن هي إلا حظة أو تطليق
...
أو صلف أو بين ذاك تعليق1
وقد دل قوله {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا} إلى قوله {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} على أن المحبة أمر قهري، وأن للتعلق بالمرأة أسبابا توجبه قد لا تتوفر في بعض النساء، فلا يكلف الزوج بما ليس في وسعه من الحب والاستحسان، ولكن من الحب حظا هو اختياري، وهو أن يروض الزوج نفسه على الإحسان لامرأته، وتحمل ما لا يلائمه من خلقها أو أخلاقها ما استطاع، وحسن المعاشرة لها، حتى يحصل من الألف بها والحنو عليها اختيارا بطول التكرر والتعود، ما يقوم مقام الميل الطبيعي. فذلك من الميل إليها الموصى به في قوله {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} ، أي إلى إحداهن أو عن إحداهن.
ثم وسع الله عليهما إن لم تنجح المصالحة بينهما فأذن لهما في الفراق بقوله {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} .
وفي قوله {يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} إشارة إلى أن الفراق قد يكون خيرا لهما لأن الفراق خير من سوء المعاشرة. ومعنى إغناء الله كلا: إغناؤه عن الآخر. وفي الآية إشارة إلى أن إغناء الله كلا إنما يكون عن الفراق المسبوق بالسعي في الصلح.
وقوله {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} تذييل وتنهية للكلام في حكم النساء.
[133,131] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً} .
جملة {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} معترضة بين الجمل التي قبلها المتضمنة التحريض على التقوى والإحسان وإصلاح الأعمال من قوله {وَإِنْ تُحْسِنُوا
ـــــــ
1 هذا الرجز منسوب لامرأة يقال لها ابنة الحمارس بضم الحاء وتخفيف الميم البكرية وفي رواية: إن هي إلا حظوة وهي رواية إصلاح المنطق ى والحظة بكسر الحاء والحظوة بضم الحاء وكسرها المكانة والقبول عند الزوج والصلف ضدها والتعليق الهجران المستمر والضمير في قولها: إن هي يعود إلى المرأة ومعنى البيت أنها إذا تزوجت لا تدري أتكون ذات حظوة عند الزوج أو يطلقها أو يكرهها أو يعلقها.
وَتَتَّقُوا} وقوله {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا} [النساء:129] وبين جملة {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} الآية. فهذه الجملة تضمنت تذييلات لتلك الجمل السابقة، وهي مع ذلك تمهيد لما سيذكر بعدها من قوله {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الخ لأنها دليل لوجوب تقوى الله.
والمناسبة بين هذه الجملة والتي سبقتها: وهي جملة {يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] أن الذي له ما في السماوات وما في الأرض قادر على أن يغني كل أحد من سعته. وهذا تمجيد لله تعالى، وتذكير بأنه رب العالمين، وكناية عن تعظيم سلطانه واستحقاقه للتقوى.
وجملة {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} عطف على جملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء:116].
وجعل الأمر بالتقوى وصية: لأن الوصية قول فيه أمر بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول لأنها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله. والتقوى تجمع الخيرات، لأنها امتثال الأوامر واجتناب المناهي، ولذلك قالوا: ما تكرر لفظ في القرآن ما تكرر لفظ التقوى، يعنون غير الأعلام، كاسم الجلالة. وفي الحديث عن العرباض بن سارية: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا يا رسول الله: كأنها موعظة مودع فأوصنا، قال "أوصيكم بتقوى الله عز وجل والسمع والطاعة" . فذكر التقوى في {أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} الخ تفسير لجملة {وصينا} ، فأن فيه تفسيرية. والإخبار بأن الله أوصى الذين أوتوا الكتاب من قبل بالتقوى مقصود منه إلهاب همم المسلمين للتهمم بتقوى الله لئلا تفضلهم الأمم الذين من قبلهم من أهل الكتاب، فإن للائتساء أثرا بالغا في النفوس، كما قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة:183]. والمراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس فيصدق بالمتعدد.
والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله ولذلك قوبلت بجملة {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} .
وبين بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس، ولكنها لصلاح أنفسهم، كما قال {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزكر:7]. فقوله {فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} كناية عن عدم التضرر بعصيان من يعصونه، ولذلك جعلها
جوابا للشرط، إذ التقدير فإنه غني عنكم. وتأيد ذلك القصد بتذييلها بقوله {وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} أي غنيا عن طاعتكم، محمودا لذاته، سواء حمده الحامدون وأطاعوه، أم كفروا وعصوه.
وقد ظهر بهذا أن جملة {وإن تكفروا} معطوفة على جملة {أن اتقوا الله} فهي من تمام الوصية، أي من مقول القول المعبر عنه ب {وصينا} ، فيحسن الوقف على قوله {حميداْ} .
وأما جملة {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} فهي عطف على جملة {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا} ، أتى بها تمهيدا لقوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} فهي مراد بها معناها الكنائي الذي هو التمكن من التصرف بالإيجاد والإعدام، ولذلك لا يحسن الوقف على قوله {وكيلا} . فقد تكررت جملة {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} هنا ثلاث مرات متتاليات متحدة لفظا ومعنى أصليا، ومختلفة الأغراض الكنائية المقصودة منها، وسبقتها جملة نظيرتهن: وهي ما تقدم من قوله {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} [النساء:126]، فحصل تكرارها أربع مرات في كلام متناسق. فأما الأولى السابقة فهي واقعة موقع التعليل لجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:116]، ولقوله {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116]، والتذييل لهما، والاحتراس لجملة {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء:125]، كما ذكرناه آنفا. وأما الثانية التي بعدها فواقعة موقع التعليل لجملة {يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} . وأما الثالثة التي تليها فهي علة للجواب المحذوف، وهو جواب قوله {وإن تكفروا} ؛ فالتقدير: وإن تكفروا فإن الله غني عن تقواكم وإيمانكم فإن له ما في السماوات وما في الأرض وكان ولا يزال غنيا حميدا. وأما الرابعة التي تليها فعاطفة على مقدر معطوف على جواب الشرط تقديره: وإن تكفروا بالله وبرسوله فإن الله وكيل عليكم ووكيل عن رسوله وكفى بالله وكيلا.
وجملة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} واقعة موقع التفريع عن قوله {غَنِيّاً حَمِيداً} . والخطاب بقوله {أيها الناس} للناس كلهم الذين يسمعون الخطاب تنبيها لهم بهذا النداء. ومعنى {وَيَأْتِ بِآخَرِينَ} يوجد ناسا آخرين يكونون خيرا منكم في تلقي الدين.
وقد علم من مقابلة قوله {أيها الناس} بقوله {آخرين} أن المعنى بناس آخرين غير كافرين، على ما هو الشائع في الوصف بكلمة آخر أو أخرى، بعد ذكر مقابل
للموصوف، أن يكون الموصوف بكلمة آخر بعضا من جنس ما عطف هو عليه باعتبار ما جعله المتكلم جنسا في كلامه، بالتصريح أو التقدير. وقد ذهب بعض علماء اللغة إلى لزوم ذلك، واحتفل بهذه المسألة الحريري في درة الغواص. وحاصلها: أن الأخفش الصغير، والحريري، والرضي، وابن يسعون، والصقلي، وأبا حيان، ذهبوا إلى اشتراط اتحاد جنس الموصوف بكلمة آخر وما تصرف منها مع جنس ما عطف هو عليه، فلا يجوز عندهم أن تقول: ركبت فرسا وحمارا آخر، ومثلوا لما استكمل الشرط بقوله تعالى {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:184] ثم قال {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:185] وبقوله {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم:19، 20] فوصف مناة بالأخرى لأنها من جنس اللات والعزى في أنها صنم، قالوا: ومثل كلمة آخر في هذا كلمات: سائر، وبقية، وبعض، فلا تقول: أكرمت رجلا وتركت سائر النساء. ولقد غلا بعض هؤلاء النحاة فاشترطوا الاتحاد بين الموصوف بآخر وبين ما عطف هو عليه حتى في الإفراد وضده. قاله ابن يسعون والصقلي، ورده ابن هشام في التذكرة محتجا بقول ربيعة بن مكدم:
ولقد شفعتهما بآخر ثالث
...
وأبى الفرار لي الغداة تكرمي
وبقول أبي حية النميري:
وكنت أمشي على رجلين معتدلا
...
فصرت أمشي على أخرى من الشجر
وقال قوم بلزوم الاتحاد في التذكير وضده، واختاره ابن جني، وخالفهم المبرد، واحتج المبرد بقول عنترة:
والخيل تقتحم الغبار عوابسا
...
من بين شيظمة وآخر شيظم
وذهب الزمخشري وابن عطية إلى عدم اشتراط اتحاد الموصوف بآخر مع ما عطف هو عليه، ولذلك جوزا في هذه الآية أن يكون المعنى: ويأت بخلق آخرين غير الإنس.
واتفقوا على أنه لا يجوز أن يوصف بكلمة آخر موصوف لم يتقدمه ذكر مقابل له أصلا، فلا تقول: جاءني آخر، من غير أن تتكلم بشيء قبل، لأن معنى آخر معنى مغاير في الذات مجانس في الوصف. وأما قول كثير:
صلى على عزة الرحمان وابنتها
...
لبنى وصلى على جاراتها الأخر
فمحمول على أنه جعل ابنتها جارة، أو أنه أراد: صلى على حبائبي: عزة وابنتها وجاراتها حبائبي الأخر.
وقال أبو الحسن لا يجوز ذلك إلا في الشعر، ولم يأت عليه بشاهد.
قال أبو الحسن: وقد يجوز ما امتنع من ذلك بتأويل، نحو: رأيت فرسا وحمارا آخر بتأويل أنه دابة. وقول امرئ القيس:
إذا قلت هذا صاحبي ورضيته
...
وقرت به العينان بدلت آخرا
قلت: وقد يجعل بيت كثير من هذا، ويكون الاعتماد على القرينة.
وقد عد في هذا القبيل قول العرب: تربت يمين الآخر، وفي الحديث: قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم إن الآخر وقع على أهله في رمضان كناية عن نفسه، وكأنه من قبيل التجريد، أي جرد من نفسه شخصا تنزيها لنفسه من أن يتحدث عنها بما ذكره. وفي حديث الأسلمي في الموطأ: أنه قال لأبي بكر إن الآخر قد زنى وبعض أهل الحديث يضبطونه بالقصر وكسر الخاء، وصوبه المحققون.
وفي الآية إشارة إلى أن الله سيخلف من المشركين قوما آخرين مؤمنين، فإن الله أهلك بعض المشركين على شركه بعد نزول هذه الآية، ولم يشأ إهلاك جميعهم. وفي الحديث: لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده.
[134] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} .
لما كان شأن التقوى عظيما على النفوس، لأنها يصرفها عنها استعجال الناس لمنافع الدنيا على خيرات الآخرة، نبههم الله إلى أن خير الدنيا بيد الله، وخير الآخرة أيضا، فإن اتقوه نالوا الخيرين.
ويجوز أن تكون الآية تعليما للمؤمنين أن لا يصدهم الإيمان عن طلب ثواب الدنيا، إذ الكل من فضل الله. ويجوز أن تكون تذكيرا للمؤمنين بأن لا يلهيهم طلب خير الدنيا عن طلب الآخرة، إذ الجمع بينهما أفضل، وكلاهما من عند الله، على نحو قوله فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسن وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب بما كسبوا. أو هي تعليم للمؤمنين أن لا يطلبوا خير الدنيا من طرق الحرام، فإن في الحلال سعة لهم ومندوحة، وليتطلبوه من الحلال يسهل لهم الله حصوله، إذ الخير كله بيد الله، فيوشك أن يحرم من
يتطلبه من وجه لا يرضيه أو لا يبارك له فيه. والمراد بالثواب في الآية معناه اللغوي دون الشرعي، وهو الخير وما يرجع به طالب النفع من وجوه النفع، مشتق من ثاب بمعنى رجع. وعلى الاحتمالات كلها فجواب الشرط بمن كان يريد ثواب الدنيا محذوف، تدل عليه علته، والتقدير: نم كان يريد ثواب الدنيا فلا يعرض عن دين الله، أو فلا يصد عن سؤاله، أو فلا يقتصر على سؤاله، أو فلا يحصله من وجوه لا ترضي الله تعالى: كما فعل بنو أبيرق وأضرابهم، وليتطلبه من وجوه البر لأن فضل الله يسع الخيرين، والكل من عنده. وهذا كقول القطامي:
فمن تكن الحضارة أعجبته
...
فأي رجال بادية ترانا
التقدير: فلا يغترر أو لا يبتهج بالحضارة، فإن حالنا دليل على شرف البداوة.
[135] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
انتقال من الأمر بالعدل في أحوال معينة من معاملات اليتامى والنساء إلى الأمر بالعدل الذي يعم الأحوال كلها، وما يقارنه من الشهادة الصادقة، فإن العدل في الحكم وأداء الشهادة بالحق هو قوام صلاح المجتمع الإسلامي، والانحراف عن ذلك ولو قيد أنملة يجر إلى فساد متسلسل.
وصيغة {قوامين} دالة على الكثرة المراد لازمها، وهو عدم الإخلال بهذا القيام في حال من الأحوال.
والقسط العدل، وقد تقدم عند قوله تعالى {قَائِماً بِالْقِسْطِ} في سورة آل عمران [18]. وعدل عن لفظ العدل إلى كلمة القسط لأن القسط كلمة معربة أدخلت في كلام العرب لدلالتها في اللغة المنقولة منها على العدل في الحكم، وأما لفظ العدل فأعم من ذلك، ويدل لذلك تعقيبه بقوله {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} فإن الشهادة من علائق القضاء والحكم.
و {لله} ظرف مستقر حال من ضمير {شهداء} أي لأجل الله، وليست لام تعدية {شهداء} إلى مفعوله، ولم يذكر تعلق المشهود له بمتعلقه وهو وصف {شهداء} لإشعار الوصف بتعيينه، أي المشهود له بحق. وقد جمعت الآية أصلي التحاكم، وهما القضاء والشهادة.
وجملة {وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} حالية، ولو فيها وصلية، وقد مضى القول في تحقيق موقع لو الوصلية عند قوله تعالى {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران [91].
ويتعلق {عَلَى أَنْفُسِكُمْ} بكل من {قوامين} و {شهداء} ليشمل القضاء والشهادة.
والأنفس: جمع نفس؛ وأصلها أن تطلق على الذات، ويطلقها العرب أيضا على صميم القبيلة، فيقولون: هو من بني فلان من أنفسهم.
فيجوز أن يكون {أنفسكم} هنا بالمعنى المستعمل به غالبا، أي: قوموا بالعدل على أنفسكم، واشهدوا لله على أنفسكم، أي قضاء غالبا لأنفسكم وشهادة غالبة لأنفسكم، لأن حرف على مؤذن بأن متعلقة شديد فيه كلفة على المجرور بعلى، أي ولو كان قضاء القاضي منكم وشهادة الشاهد منكم بما فيه ضر وكراهة للقاضي والشاهد، وهذا أقصى ما يبالغ عليه في الشدة والأذى، لأن أشق شيء على المرء ما يناله من أذى وضر في ذاته، ثم ذكر بعد ذلك الوالدان والأقربون لأن أقضية القاضي وشهادة الشاهد فيما يلحق ضرا ومشقة بوالديه وقرابته أكثر من قضائه وشهادته فيما يؤول بذلك على نفسه.
ويجوز أن يراد: ولو على قبيلتكم أو والديكم وقرابتكم. وموقع المبالغة المستفادة من لو الوصلية أنه كان من عادة العرب أن ينتصروا بمواليهم من القبائل ويدفعوا عنهم ما يكرهونه، ويرون ذلك من إباء الضيم، ويرون ذلك حقا عليهم، ويعدون التقصير في ذلك مسبة وعارا يقضى منه العجب. قال مرة بن عداء الفقسي:
رأيت موالي الألى يخذلونني
...
على حدثان الدهر إذ يتقلب
ويعدون الاهتمام بالآباء والأبناء في الدرجة الثانية، حتى يقولون في الدعاء: فداك أبي وأمي، فكانت الآية تبطل هذه الحمية وتبعث المسلمين على الانتصار للحق والدفاع عن المظلوم. فإن أبيت إلا جعل الأنفس بمعنى ذوات الشاهدين فاجعل عطف الوالدين والأقربين بعد ذلك لقصد الاحتراس لئلا يظن أحد أنه يشهد بالحق على نفسه لأن ذلك حقه، فهو أمير نفسه فيه، وأنه لا يصلح له أن يشهد على والديه أو أقاربه لما في ذلك من المسبة والمعرة أو التأثم، وعلى هذا تكون الشهادة مستعملة في معنى مشترك بين الإقرار والشهادة، كقوله {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ} [آل عمران:18].
وقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً} استئناف واقع موقع العلة لمجموع جملة {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} : أي إن يكن المقسط في حقه، أو المشهود له، غنيا أو فقيرا، فلا يكن غناه ولا فقره سببا للقضاء له أو عليه والشهادة له أو عليه. والمقصود من ذلك التحذير من التأثر بأحوال يلتبس فيها الباطل بالحق لما يحف بها من عوارض يتوهم أن رعيها ضرب من إقامة المصالح، وحراسة العدالة، فلما أبطلت الآية التي قبلها التأثر للحمية أعقبت بهذه الآية لإبطال التأثر بالمظاهر التي تستجلب النفوس إلى مراعاتها فيتمحض نظرها إليها، وتغضي بسببها عن تمييز الحق من الباطل، وتذهل عنه، فمن النفوس من يتوهم أن الغنى يربأ بصاحبه عن أخذ حق غيره، يقول في نفسه: هذا في غنيته عن أكل حق غيره، وقد أنعم الله عليه بعدم الحاجة. ومن الناس من يميل إلى الفقير رقة له، فيحسبه مظلوما، أو يحسب أن القضاء له بمال الغني لا يضر الغني شيئا؛ فنهاهم الله عن هذه التأثيرات بكلمة جامعة وهي قوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} . وهذا الترديد صالح لكل من أصحاب هذين التوهمين، فالذي يعظم الغني يدحض لأجله حق الفقير، والذي يرق للفقير يدحض لأجله حق الغني، وكلا ذلك باطل، فإن الذي يراعي حال الغني والفقير ويقدر إصلاح حال الفريقين هو الله تعالى.
فقوله: {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} ليس هو الجواب، ولكنه دليله وعلته، والتقدير: فلا يهمكم أمرهما عند التقاضي، فالله أولى بالنظر في شأنهما، وإنما عليكم النظر في الحق.
ولذلك فرع عليه قوله {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} فجعل الميل نحو الموالي والأقارب من الهوى، والنظر إلى الفقر والغنى من الهوى.
والغني: ضد الفقير، فالغنى هو عدم إلى الاحتياج إلى شيء، وهو مقول عليه بالتفاوت، فيعرف بالمتعلق كقوله كلانا غني عن أخيه حياته، ويعرف بالعرف يقال: فلان غني، بمعنى له ثروة يستطيع بها تحصيل حاجاته من غير فضل لأحد عليه، فوجدان أجور الأجراء غنى، وإن كان المستأجر محتاجا إلى الأجراء، لأن وجدان الأجور يجعله كغير المحتاج، والغنى المطلق لا يكون إلا لله تعالى.
والفقير: هو المحتاج، إلا أنه يقال: افتقر إلى كذا، بالتخصيص، فإذا قيل: هو فقير، فمعناه في العرف أنه كثير الاحتياج إلى فضل الناس، أو إلى الصبر على الحاجة لقلة ثروته، وكل مخلوق فقير فقرا نسبيا، قال تعالى {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} محمد:38].
واسم {يكن} ضمير مستتر عائد إلة معلوم من السياق، يدل عليه قوله: {قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ} من معنى التخاصم والتقاضي. والتقدير: إن يكن أحد الخصمين من أهل هذا الوصف أو هذا الوصف، والمراد الجنسان، وأو للتقسيم، وتثنية الضمير في قوله {فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} لأنه عائد إلى غنيا وفقيرا باعتبار الجنس، إذ ليس القصد إلى فرد معين ذي غنى، ولا إلى فرد معين ذي فقر، بل فرد شائع في هذا الجنس وفي ذلك الجنس.
وقوله {أن تعدلوا} محذوف منه حرف الجر، كما هو الشأن مع أن المصدرية، فاحتمل أن يكون المحذوف لام التعليل فيكون تعليلا للنهي، أي لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، واحتمل أن يكون المحذوف عن، أي فلا تتبعوا الهوى عن العدل، أي معرضين عنه. وقد عرفت قاضيا لا مطعن في ثقته وتنزهه، ولكنه كان مبتلى باعتقاد أن مظنة القدرة والسلطان ليسوا إلا ظلمة: من أغنياء أو رجال. فكان يعتبر هذين الصنفين محقوقين فلا يستوفي التأمل من حججهما.
وبعد أن أمر الله تعالى ونهى وحذر، عقب ذلك كله بالتهديد فقال {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} .
وقرأ الجمهور: {تلووا} بلام ساكنة وواوين بعدها، أولاهما مضمومة فهو مضارع لوى. واللي: الفتل والثني. وتفرعت من هذا المعنى الحقيقي معان شاعت فساوت الحقيقة، منها: عدول عن جانب وإقبال على جانب آخر فإذا عدي بعن فهو انصراف عن المجرور بعن، وإذا عدي بإلى فهو انصراف عن جانب كان فيه، وإقبال على المجرور بعلى، قال تعالى {وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} [آل عمران:153] أي لا تعطفون على أحد. ومن معانيه: لوى عن الأمر تثاقل، ولوى أمره عني أخفاه، ومنها: لي اللسان، أي تحريف الكلام في النطق به أو في معانيه، وتقدم عند قوله تعالى {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} في سورة آل عمران [78]، وقوله {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْْ} في هذه السورة [46]. فموقع فعل {تلووا} هنا موقع بليغ لأنه صالح لتقدير متعلقه المحذوف مجرورا بحرف عن أو مجرورا بحرف على فيشمل معاني العدول عن الحق في الحكم، والعدول عن الصدق في الشهادة، أو التثاقل في تمكين المحق من حقه وأداء الشهادة لطالبها، أو الميل في أحد الخصمين في القضاء والشهادة. وأما الإعراض فهو الامتناع من القضاء ومن أداء الشهادة والمماطلة في الحكم مع ظهور الحق، وهو غير اللي كما رأيت. وقرأه ابن عامر، وحمزة، وخلف: {وإن تلوا} بلام مضمومة بعدها واو ساكنة فقيل: هو مضارع ولي
الأمر، أي باشره. فالمعنى: وإن تلوا القضاء بين الخصوم، فيكون راجعا إلى قوله {أَنْ تَعْدِلُوا} ولا يتجه رجوعه إلى الشهادة، إذ ليس أداء الشهادة بولاية. والوجه أن هذه القراءة تخفيف {تلووا} نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فالتقى واوان ساكنان فحذف أحدهما، ويكون معنى القراءتين واحدا.
وقوله {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} كناية عن وعيد، لأن الخبير بفاعل السوء، وهو قدير، لا يعوزه أن يعذبه على ذلك، وأكدت الجملة بإن و بكان.
[136] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} .
تذييل عقب به أمر المؤمنين بأن يكونوا قوامين بالقسط شهداء لله، فأمرهم الله عقب ذلك بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله: بأن يؤمنوا بالله ورسله وكتبه، ويداوموا على إيمانهم، ويحذروا مسارب ما يخل بذلك.
ووصف المخاطبين بأنهم آمنوا، وإردافه بأمرهم بأن يؤمنوا بالله ورسله إلى آخره يرشد السامع إلى تأويل الكلام تأويلا يستقيم به الجمع بين كونهم آمنوا وكونهم مأمورين بإيمان، ويجوز في هذا التأويل خمسة مسالك:
المسلك الأول: تأويل الإيمان في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بأنه إيمان مختل منه بعض ما يحق الإيمان به، فيكون فيها خطاب لنفر من اليهود آمنوا، وهم عبد الله ابن سلام، وأسد وأسيد ابنا كعب، وثعلبة بن قيس، وسلام ابن أخت عبد الله ابن سلام، وسلمة ابن اخيه، ويامين بن يامين، سألوا النبي صلى اله عليه وسلم أن يؤمنوا به وبكتابه، كما آمنوا بموسى وبالتوراة، وأن لا يؤمنوا بالإنجيل، كما جاء في رواية الواحدي عن الكلبي، ورواه غيره عن ابن عباس.
المسلك الثاني: أن يكون التأويل في الإيمان المأمور به أنه إيمان كامل لا تشوبه كراهية بعض كتب الله، تحذيرا من ذلك. فالخطاب للمسلمين لأن وصف الدين الذين آمنوا صار كاللقب للمسلمين، ولا شك أن المؤمنين قد آمنوا بالله وما عطف على اسمه هنا، فالظاهر أن المقصود بأمرهم بذلك: إما زيادة تقرير ما يجب الإيمان به، وتكرير استحضارهم إياه حتى لا يذهلوا عن شيء منه اهتماما بجميعه؛ وإما النهي عن إنكار الكتاب المنزل على
موسى وإنكار نبوءته، لئلا يدفعهم بغض اليهود وما بينهم وبينهم من الشنآن إلى مقابلتهم بمثل ما يصرح به اليهود من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم وإنكار نزول القرآن؛ وإما أريد به التعريض بالذين يزعمون أنهم يؤمنون بالله ورسله ثم ينكرون نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم وينكرون القرآن، حسدا من عند أنفسهم، ويكرهون بعض الملائكة لذلك، وهم اليهود، والتنبيه على أن المسلمين أكمل الأمم إيمانا، وأولى الناس برسل الله وكتبه، فهم أحرياء بأن يسودوا غيرهم لسلامة إيمانهم من إنكار فضائل أهل الفضائل، ويدل لذلك قوله عقبه ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه، ويزيد ذلك تأييدا أنه قال {وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فعطفه على الأشياء التي من يكفر بها فقد ضل، مع أنه لم يأمر المؤمنين بالإيمان باليوم الآخر فيما أمرهم به، لأن الإيمان به يشاركهم فيه اليهود فلم يذكره فيما يجب الإيمان به، وذكره بعد ذلك تعريضا بالمشركين.
المسلك الثالث: أن يراد بالأمر بالإيمان الدوام عليه تثبيتا لهم على ذلك، وتحذيرا لهم من الارتداد، فيكون هذا الأمر تمهيدا وتوطئة لقوله {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ} ولقوله {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء:137] الآية.
المسلك الرابع: أن الخطاب للمنافقين، يعني: يا أيها الذين أظهروا الإيمان أخلصوا إيمانكم حقا.
المسلك الخامس: روي عن الحسن تأويل الأمر في قوله {آمَنُوا بِاللَّهِ} بأنه طلب لثباتهم على الإيمان الذي هم عليه، واختاره الجبائي. وهو الجاري على ألسنة أهل العلم، وبناء عليه جعلوا الآية شاهدا لاستعمال صيغة الأمر في طلب الدوام. والمراد بالكتاب الي أنزل من قبل الجنس، والتعريف للاستغراق يعني: والكتب التي أنزل الله من قبل القرآن، ويؤيده قوله بعده وكتبه ورسله.
وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر، ويعقوب، وخلف: نزل وأنزل كليهما بالبناء للفاعل وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو بالبناء للنائب-.
وجاء في صلة وصف الكتاب {الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} بصيغة التفعيل، وفي صلة الكتاب {الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} بصيغة الإفعال تفننا، أو لأن القرآن حينئذ بصدد النزول نجوما، والتوراة يومئذ قد انقضى نزولهما. ومن قال: لأن القرآن أنزل منجما بخلاف غيره من الكتب فقد أخطأ إذ لا يعرف كتاب نزل دفعة واحدة.
[137] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً} .
استئناف عن قوله {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ} [النساء:136] الآية، لأنه إذا كان الكفر كما علمت، فما ظنك بكفر مضاعف يعاوده صاحبه بعد أن دخل في الإيمان، وزالت عنه عوائق الاعتراف بالصدق، فكفره بئس الكفر. وقد قيل: إن الآية أشارت إلى اليهود لأنهم آمنوا بموسى ثم كفروا به، إذ عبدوا العجل، ثم آمنوا بموسى ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا بمحمد، وعليه فالآية تكون من الذم المتوجه إلى الأمة باعتبار فعل سلفها، وهو بعيد، لأن الآية حكم لا ذم، لقوله {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} فإن الأولين من اليهود كفروا إذ عبدوا العجل، ولكنهم تابوا فما استحقوا عدم المغفرة وعدم الهداية، كيف وقد قيل لهم {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} إلى قوله {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54]، ولأن المتأخرين منهم ما عبدوا العجل حتى يعد عليهم الكفر الأول، على أن اليهود كفروا غير مرة في تاريخهم فكفروا بعد موت سليمان وعبدوا الأوثان، وكفروا في زمن بختنصر. والظاهر على هذا التأويل أن لا يكون المراد بقوله {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} أنهم كفروا كفرة أخرى، بل المراد الإجمال، أي ثم كفروا بعد ذلك، كما يقول الواقف: وأولادهم وأولاد أولادهم وأولاد أولاد أولادهم لا يريد بذلك الوقوف عند الجيل الثالث، ويكون المراد من الآية أن الذين عرف من دأبهم الخفة إلى تكذيب الرسل، وإلى خلع ربقة الديانة، هم قوم لا يغفر لهم صنعهم، إذ كان ذلك عن استخفاف بالله ورسله.
وقيل: نزلت في المنافقين إذ كانوا يؤمنون إذا لقوا المؤمنين، فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا، ولا قصد حينئذ إلى عدد الإيمانات والكفرات. وعندي: أنه يعني أقواما من العرب من أهل مكة كانوا يتجرون إلى المدينة فيؤمنون، فإذا رجعوا إلى مكة كفروا وتكرر منهم ذلك، وهم الذين ذكروا عند تفسير قوله {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ} [النساء:88].
وعلى الوجوه كلها فاسم الموصول من قوله {إن الذين.... كفروا} مراد منه فريق معهود، فالآية وعيد لهم ونذارة بأن الله حرمهم الهدى فلم يكن ليغفر لهم، لأنه حرمهم سبب المغفرة، ولذلك لم تكن الآية دالة على أن من أحوال الكفر ما لا ينفع الإيمان بعده. فقد أجمع المسلمون على أن الإيمان يجب ما قبله، ولو كفر المرء مائة مرة، وأن التوبة من الذنوب كذلك، وقد تقدم شبه هذه الآية في آل عمران [190] وهو قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} .
فإن قلت: إذا كان كذلك فهؤلاء القوم قد علم الله أنهم لا يؤمنون وأخبر بنفي أن يهديهم وأن يغفر لهم، فإذن لا فائدة في الطلب منهم أن يؤمنوا بعد هذا الكلام، فهل هم مخصوصون من آيات عموم الدعوة.
قلت: الأشخاص الذين علم الله أنهم لا يؤمنون، كأبي جهل، ولم يخبر نبيه بأنهم لا يؤمنون فهم مخاطبون بالإيمان مع عموم الأمة، لأن علم الله تعالى بعدم إيمانهم لم ينصب عليه أمارة، كما علم من مسالة التكليف بالمحال لعارض في أصول الفقه، وأما هؤلاء فلو كانوا معروفين بأعيانهم لكانت هذه الآية صارفة عن دعوتهم إلى الإيمان بعد، وإن لم يكونوا معروفين بأعيانهم فالقول فيهم كالقول فيمن علم الله عدم إيمانه ولم يخبر به، وليس ثمة ضابط يتحقق به أنهم دعوا بأعيانهم إلى الإيمان بعد هذه الآية ونحوها.
والنفي في قوله {لََمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} أبلغ من: لا يغفر الله لهم، لأن أصل وضع هذه الصيغة للدلالة على أن اسم كان لم يجعل ليصدر منه خبرها، ولا شك أن الشيء الذي لم يجعل لشيء يكون نابيا عنه، لأنه ضد طبعه، ولقد أبدع النحاة في تسمية اللام، التي بعد كان المنفية لام الجحود.
[141,138] {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} .
استئناف ابتدائي ناشيء عن وصف الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا، فإن أولئك كانوا مظهرين الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، وكان ثمة طائفة تبطن الكفر وهم أهل النفاق، ولما كان التظاهر بالإيمان ثم تعقيبه بالكفر ضربا من التهكم بالإسلام وأهله، جيء في جزاء عملهم بوعيد مناسب لتهكمهم بالمسلمين، فجاء به على طريقة التهكم إذ قال {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} ، فإن البشارة هي الخبر بما يفرح المخبر به، وليس العذاب كذلك. وللعرب في التهكم أساليب كقول شقيق ابن سليك الأسدي:
أتاني من أبي أنس وعيد
...
فسلى لغيظة الضحاك جسمي
وقول النابغة:
فإنك سوف تحلم أو تناهى
...
إذا ما شبت أو شاب الغراب
وقول ابن زيابة:
نبئت عمرا غارزا رأسه
...
في سنة يوعد أخواله
وتلك منه غير مأمونة
...
أن يفعل الشيء إذا قاله
ومجيء صفتهم بطريقة الموصول لإفادة تعليل استحقاقهم العذاب الأليم، أي لأنهم اتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، أي اتخذوهم أولياء لأجل مضادة المؤمنين. والمراد بالكافرين مشركو مكة، أو أحبار اليهود، لأنه لم يبق بالمدينة مشركون صرحاء في وقت نزول هذه السورة، فليس إلا منافقون ويهود. وجملة {أََيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} استئناف بياني باعتبار المعطوف وهو {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ} وقوله {أيبتغون} هو منشأ الاستئناف، وفي ذلك إيماء إلى أن المنافقين لم تكن موالاتهم للمشركين لأجل المماثلة في الدين والعقيدة، لأن معظم المنافقين من اليهود، بل اتخذوهم ليعتزوا بهم على المؤمنين، وإيماء إلى أن المنافقين شعروا بالضعف فطلبوا الاعتزاز، وفي ذلك نهاية التجهيل والذم. والاستفهام إنكار وتوبيخ، ولذلك صح التفريع عنه بقوله {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} أي لا عزة إلا به، لأن الاعتزاز بغيره باطل. كما قيل: من اعتز بغير الله هان. وإن كان المراد بالكافرين اليهود فالاستفهام تهكم بالفريقين كقول المثل: كالمستغيث من الرمضاء بالنار. وهذا الكلام يفيد التحذير من مخالطتهم بطريق الكناية.
وجملة {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} الخ يجوز أن تكون معطوفة على جملة {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ} تذكيرا للمسلمين بما كانوا أعلموا به مما يؤكد التحذير من مخالطتهم، فضمير الخطاب موجه إلى المؤمنين، وضمائر الغيبة إلى المنافقين، ويجوز أن تكون في موضع الحال من ضمير يتخذون، فيكون ضمير الخطاب في قوله {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ} خطابا لأصحاب الصلة من قوله {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} [النساء:139] على طريقة الالتفات، كأنهم بعد أن أجريت عليهم الصلة صاروا معينين معروفين، فالتفت إليهم بالخطاب، لأنهم يعرفون أنهم أصحاب تلك الصلة، فلعلهم أن يقلعوا عن موالاة الكافرين. وعليه فضمير الخطاب للمنافقين، وضمائر الغيبة للكافرين، والذي نزل في الكتاب هو آيات نزلت قبل نزول هذه السورة في القرآن: في شأن كفر الكافرين والمنافقين
واستهزائهم.
قال المفسرون: إن الذي أحيل عليه هنا هو قوله تعالى في سورة الأنعام [68] {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} لأن شأن الكافرين يسري إلى الذين يتخذونهم أولياء، والظاهر أن الذي أحال الله عليه هو ما تكرر في القرآن من قبل نزول هذه السورة نحو قوله في البقرة [14] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} مما حصل من مجموعة تقرر هذا المعنى.
وأن في قوله {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ} تفسيرية، لأن نزل تضمن معنى الكلام دون حروف القول، إذ لم يقصد حكاية لفظ ما نزل بل حاصل معناه. وجعلها بعضهم مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوفا، وهو بعيد.
وإسناد الفعلين: {يكفر} و {يستهزأ} إلى المجهول لتتأتى، بحذف الفاعل، صلاحية إسناد الفعلين إلى الكافرين والمنافقين. وفيه إيماء إلى أن المنافقين يركنون إلى المشركين واليهود لأنهم يكفرون بالآيات ويستهزئون، فتنثلج لذلك نفوس المنافقين، لأن المنافقين لا يستطيعون أن يتظاهروا بذلك للمسلمين فيشفي غليلهم أن يسمع المسلمون ذلك من الكفار.
وقد جعل زمان كفرهم واستهزائهم هو زمن سماع المؤمنين آيات الله. والمقصود أنه زمن نزول آيات الله أو قراءة آيات الله، فعدل عن ذلك إلى سماع المؤمنين، ليشير إلى عجيب تضاد الحالين، ففي حالة اتصاف المنافقين بالكفر بالله والهزل بآياته يتصف المؤمنون بتلقي آياته والإصغاء إليها وقصد الوعي لها والعمل بها.
وأعقب ذلك بتفريع النهي عن مجالستهم في تلك الحالة حتى ينتقلوا إلى غيرها، لئلا يتوسل الشيطان بذلك إلى استضعاف حرص المؤمنين على سماع القرآن، لأن للأخلاق عدوى، وفي المثل تعدي الصحاح مبارك الجرب.
وهذا النهي يقتضي الأمر بمغادرة مجالسهم إذا خاضوا في الكفر بالآيات والاستهزاء بها. وفي النهي عن القعود إليهم حكمة أخرى: وهي وجوب إظهار الغضب لله من ذلك كقوله {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة:1].
وحتى حرف يعطف غاية الشيء عليه، فالنهي عن القعود معهم غايته أن يكفوا عن الخوض في الكفر بالآيات والاستهزاء بها.
وهذا الحكم تدريج في تحريم موالاة المسلمين للكافرين، جعل مبدأ ذلك أن لا يحضروا مجالس كفرهم ليظهر التمايز بين المسلمين الخلص وبين المنافقين، ورخص لهم القعود معهم إذ خاضوا في حديث غير حديث الكفر، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْأِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:23، 24].
وجعل جواب القعود معهم المنهي عنه أنهم إذا لم ينتهوا عن القعود معهم يكونون مثلهم في الاستخفاف بآيات الله إذ قال {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} فإن إذن حرف جواب وجزاء لكلام ملفوظ به أو مقدر. والمجازاة هنا لكلام مقدر دل عليه النهي عن القعود معهم؛ فإن التقدير: إن قعدتم معهم إذن إنكم مثلهم. ووقوع إذن جزاء لكلام مقدر شائع في كلام العرب كقول العنبري:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي
...
بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذن لقام بنصري معشر خشن
...
عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قال المرزوقي في شرح الحماسة: وفائدة إذن هو أنه أخرج البيت الثاني مخرج جواب قائل له: ولو استباحوا ماذا كان يفعل بنو مازن? فقال: إذن لقام بنصري معشر خشن. قلت: ومنه قوله تعالى {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48]. التقدير: فلو كنت تتلو وتخط إذن لارتاب المبطلون. فقد علم أن الجزاء في قوله {إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} عن المنهي عنه لا عن النهي، كقول الراجز، وهو من شواهد اللغة والنحو:
لا تتركني فيهم شطيرا
...
إني إذن أهلك أو أطيرا
والظاهر أن فريقا من المؤمنين كانوا يجلسون هذه المجالس فلا يقدمون على تغيير هذا ولا يقومون عنهم تقية لهم فنهوا عن ذلك. وهذه المماثلة لهم خارجة مخرج التغليظ والتهديد والتخويف، ولا يصير المؤمن منافقا بجلوسه إلى المنافقين، وأريد المماثلة في المعصية لا في مقدارها، أي أنكم تصيرون مثلهم في التلبس بالمعاصي.
وقوله {إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} تحذير من أن يكونوا مثلهم، وإعلام بأن الفريقين سواء في عدواة المؤمنين، ووعيد للمنافقين بعدم جدوى
إظهارهم الإسلام لهم.
وجملة {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ} صفة للمنافقين وحدهم بدليل قوله {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} .
والتربص حقيقة في المكث بالمكان، وقد مر قوله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} في سورة البقرة [228]. وهو مجاز في الانتظار وترقب الحوادث. وتفصيله قوله {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ} الآيات. وجعل ما يحصل للمسلمين فتحا لأنه انتصار دائم، ونسب إلى الله لأنه مقدره ومريده بأسباب خفية ومعجزات بينة. والمراد بالكافرين هم المشركون من أهل مكة وغيرهم لا محالة، إذ لا حظ لليهود في الحرب، وجعل ما يحصل لهم من النصر نصيبا تحقيرا له، والراد نصيب من الفوز في القتال.
والاستحواذ: الغلبة والإحاطة، أبقوا الواو على أصلها ولم يقلبوها ألفا بعد الفتحة على خلاف القياس. وهذا أحد الأفعال التي صححت على خلاف القياس مثل: استجوب، وقد يقولون: استحاذ على القياس كما يقولون: استجاب واستصاب.
والاستفهام تقريري. ومعنى {أََلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} ألم نتول شؤونكم ونحيط بكم إحاطة العناية والنصرة ونمنعكم من المؤمنين، أي من أن ينالكم بأسهم، فالمنع هنا إما منع مكذوب يخيلونه الكفار واقعا وهو الظاهر، وإما منع تقديري وهو كف النصرة عن المؤمنين، والتجسس عليهم بإبلاغ أخبارهم للكافرين، وإلقاء الأراجيف والفتن بين جيوش المؤمنين، وكل ذلك مما يضعف بأس المؤمنين إن وقع، وهذا القول كان يقوله من يندس من المنافقين في جيش المسلمين في الغزوات، وخاصة إذا كانت جيوش المشركين قرب المدينة مثل غزوة الأحزاب.
وقوله {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الفاء للفصيحة، والكلام إنذار للمنافقين وكفاية لمهم المؤمنين، بأن فوض أمر جزاء المنافقين على مكائدهم وخزعبلاتهم إليه تعالى.
وقوله {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} تثبيت للمؤمنين، لأن مثل هذه الأخبار عن دخائل الأعداء وتألبهم: من عدو مجاهر بكفره، وعدو مصانع مظهر للأخوة، وبيان هذه الأفعال الشيطانية البالغة أقصى المكر والحيلة، يثير مخاوف في نفوس المسلمين وقد يخيل لهم مهاوي الخيبة في مستقبلهم، فكان من شأن التلطف بهم أن يعقب
ذلك التحذير بالشد على العضد، والوعد بحسن العاقبة، فوعدهم الله بأن لا يجعل للكافرين، وإن تألبت عصاباتهم، واختلفت مناحي كفرهم، سبيلا على المؤمنين.
والمراد بالسبيل طريق الوصول إلى المؤمنين بالهزيمة والغلبة، بقرينة تعديته بعلى، ولأن سبيل العدو إلى عدوه هو السعي إلى مضرته، ولو قال لك الحبيب: لا سبيل إليك، لتحسرت؛ ولو قال لك العدو: لا سبيل إليك، لتهللت بشرا، فإذا عدي بعلى صار نصا في سبيل الشر والأذى. فالآية وعد محض دنيوي، وليست من التشريع في شيء، ولا من أمور الآخرة في شيء لنبو المقام عن هذين.
فإن قلت: إذا كان وعدا لم يجز تخلفه، ونحن نرى الكافرين ينتصرون على المؤمنين انتصارا بينا، وربما تملكوا بلادهم وطال ذلك، فكيف تأويل هذا الوعد. قلت: إن أريد بالكافرين والمؤمنين الطائفتان المعهودتان بقرينة القصة فالإشكال زائل، لأن الله جعل عاقبة النصر أيامئذ للمؤمنين وقطع دابر القوم الذين ظلموا فلم يلبثوا أن ثقفوا وأخذوا وقتلوا تقتيلا ودخلت بقيتهم في الإسلام فأصبحوا أنصارا للدين؛ وإن أريد العموم فالمقصود من المؤمنين المؤمنون الخلص الذين تلبسوا بالإيمان بسائر أحواله وأصوله وفروعه، ولو استقام المؤمنين على ذلك لما نال الكافرون منهم منالا، ولدفعوا عن أنفسهم خيبة وخبالا.
[143,142] {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} .
استئناف ابتدائي، فيه زيادة بيان لمساويهم. والمناسبة ظاهرة. وتأكيد الجملة بحرف إن لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} .
وتقدم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة [9] عند قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} .
وزادت هذه الآية بقوله {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} أي فقابلهم بمثل صنيعهم، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعا لله تعالى، كان إمهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجا على المسلمين وأن الله ليس ناصرهم، وإنذاره المؤمنين بكيدهم حتى لا تنطلي عليهم حيلهم، وتقدير أخذه إياهم بآخرة، شبيها
بفعل المخادع جزءا وفاقا. فإطلاق الخداع على استدراج الله إياهم استعارة تمثيلية، وحسنتها المشاكلة؛ لأن المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار. فالمشاكلة ترجع إلى التمليح، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقة بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلا محاكاة اللفظ، سميت مشاكلة كقول أبي الرقعمق.
قالوا: اقترح شيئا نجد لك طبخه
...
قلت: أطبخوا لي جبة وقميصا.
وكسالى جمع كسلان على وزن فعالى، والكسلان المتصف بالكسل، وهو الفتور في الأفعال لسآمة أو كراهية. والكسل في الصلاة مؤذن بقلة اكتراث المصلي بها وزهده في فعلها، فلذلك كان من شيم المنافقين. ومن أجل ذلك حذرت الشريعة من تجاوز حد النشاط في العبادة خشية السآمة، ففي الحديث "عليكم من الأعمال بما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا" . ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته، وعن الصلاة عند حضور الطعام، كل ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بشره وعزم، لأن النفس إذا تطرقتها السآمة من الشيء دبت إليها كراهيته دبيبا حتى تتمكن منها الكراهية، ولا خطر على النفس مثل أن تكره الخير.
وكسالى حال لازمة من ضمير {قاموا} ، لأن قاموا لا يصلح أن يقع وحده جوابا لإذا التي شرطها قاموا، لأنه لو وقع مجردا لكان الجواب عين الشرط، فلزم ذكر الحال، كقوله تعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72] وقول الأحوص الأنصاري:
فإذا تزول تزول عن متخمط
...
تخشى بوادره على الأقران
وجملة {يُرَاؤُونَ النَّاسَ} حال ثانية، أو صفة لكسالي، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل: ماذا قصدهم بهذا القيام للصلاة وهلا تركوا هذا القيام من أصله، فوقع البيان بأنهم يراءون بصلاتهم الناس. و {يراءون} فعل يقتضي أنهم يرون الناس صلاتهم ويريهم الناس كذلك. وليس الأمر كذلك، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة، وهذا كثير في باب المفاعلة.
وقوله {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} معطوف على {يراءون} إن كان يراءون حالا أو صفة، وإن كان يراءون استئناف فجملة {ولا يذكرون} حال، والواو واو الحال، أي: ولا يذكرون الله بالصلاة إلا قليلا. فالاستثناء إما من أزمنة الذكر، أي إلا
وقتا قليلا، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذ فيذكرون الله بالتكبير وغيره، وإما من مصدر {يذكرون} ، أي إلا ذكرا قليلا في تلك الصلاة التي يراءون بها، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل: التأمين، وقول ربنا لك الحمد، والتكبير، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسبيح الركوع، وقراءة ركعات السر. ولك أن تجعل جملة {ولا يذكرون} معطوفة على جملة {وإذا قاموا} ، فهي خبر عن خصالهم، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلا حالا قليلا أو زمنا قليلا وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربه في المنشط والمكره، أي أنهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كل حال، ويكثرون من ذكره. وعلى كل تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرهم بنعمة ربهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه.
ثم جاء بحال تعبر عن جامع نفاقهم وهي قوله {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} وهو حال من ضمير {يراءون} .
والمذبذب اسم مفعول من الذبذبة. يقال: ذبذبه فتذبذب. والذبذبة: شدة الاضطراب من خوف أو خجل، قيل: إن الذبذبة مشتقة من تكوير ذب إذا طرد، لأن المطرود يعجل ويضطرب، فهو من الأفعال التي أفادت كثرة المصدر بالتكرير، مثل زلزل ولملم بالمكان وصلصل وكبكب، وفيه لغة بدالين مهملتين، وهي التي تجري في عاميتنا اليوم، يقولون: رجل مذبذب، أي يفعل الأشياء على غير صواب ولا توفيق. فقيل: إنها مشتقة من الدبة بضم الدال وتشديد الباء الموحدة أي الطريقة بمعنى أنه يسلك مرة هذا الطريق ومرة هذا الطريق.
والإشارة بقوله {بَيْنَ ذَلِكَ} إلى ما استفيد من قوله {يُرَاؤُونَ النَّاسَ} لأن الذي يقصد من فعله إرضاء الناس لا يلبث أن يصير مذبذبا، إذ يجد في الناس أصنافا متباينة المقاصد والشهوات. ويجوز جعل الإشارة راجعة إلى شيء غير مذكور، ولكن إلى ما من شأنه أن يشار إليه، أي مذبذبين بين طرفين كالإيمان والكفر.
وجملة {لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} صفة ل {مذبذبين} لقصد الكشف عن معناه لما فيه من خفاء الاستعارة، أو هي بيان لقوله {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} . و {هؤلاء} أحدهما إشارة إلى المؤمنين، والآخر إشارة إلى الكافرين من غير تعيين، إذ ليس في المقام إلا فريقان فأيها جعلته مشارا إليه بأحد اسمي الإشارة صح ذلك، ونظيره قوله تعالى فوجد رجلين يقتتلان هذا من شيعته وهذا من عدوه.
والتقدير: لا هم إلى المسلمين ولا هم إلى الكافرين. وإلى متعلقة بمحذوف دل عليه معنى الانتهاء، أي لا ذاهبين إلى هذا الفريق ولا إلى الفريق الآخر، والذهاب الذي دلت عليه إلى ذهاب مجازي وهو الانتماء والانتساب، أي هم أضاعوا النسبتين فلا هم مسلمون ولا هم كافرون ثابتون، والعرب تأتي بمثل هذا التركيب المشتمل على لا النافية مكررة في غرضين: تارة يقصدون به إضاعة الأمرين، كقول إحدى نساء حديث أم زرع لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل وقوله تعالى {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} [القيامة:31] {لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ} [البقرة:71]. وتارة يقصدون به إثبات حالة وسط بين حالين، كقوله تعالى {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} [النور:35] {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [المائدة:68]، وقول زهير:
فلا هو أخفاها ولم يتقدم وعلى الاستعمالين فمعنى الآية خفي، إذ ليس المراد إثبات حالة وسط للمنافقين بين الإيمان والكفر، لأنه لا طائل تحت معناه. فتعين أنه من الاستعمال الأول، أي ليسوا من المؤمنين ولا من الكافرين، وهم في التحقيق، إلى الكافرين، كما دل عليه آيات كثيرة، كقوله {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:139] وقوله {وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:141]. فتعين أن المعنى أنهم أضاعوا الإيمان والانتماء إلى المسلمين. وأضاعوا الكفر بمفارقة نصرة أهله، أي كانوا بحالة اضطراب وهو معنى التذبذب. والمقصود من هذا تحقيرهم وتنفير الفريقين من صحبتهم لينبذهم الفريقان.
وقوله {فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} الخطاب لغير معين، والمعنى: لن تجد له سبيلا إلى الهدى بقرينة مقابلته بقوله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ}.
[144] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} .
أقبل على المؤمنين بالتحذير من موالاة الكافرين بعد أن شرح دخائلهم واستصناعهم للمنافقين لقصد أذى المسلمين، فعلم السامع أنه لولا عداوة الكافرين لهذا الدين لما كان النفاق، وما كانت تصاريف المنافقين، فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} ، فهي استئناف ابتدائي، لأنها توجيه خطاب بعد الانتهاء من الإخبار
عن المنافقين بطريق الغيبة. وهذه آية جامعة للتحذير من موالاة الكافرين والمنافقين، ومن الوقوع في النفاق، لأن المنافقين تظاهروا بالإيمان ووالوا الكافرين. فالتحذير من موالاة الكافرين تحذير من الاستشعار بشعار النفاق، وتحذير من موالاة المنافقين الذين هم أولياء الكافرين. وتشهير بنفاق المنافقين، وتسجيل عليهم أن لا يقولوا: كنا نجهل أن الله لا يحب موالاة الكافرين.
والظاهر أن المراد بالكافرين هنا مشركوا مكة وأهل الكتاب من أهل المدينة، لأن المنافقين كانوا في الأكثر موالين لأهل الكتاب.
وقوله {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} استئناف بياني، لأن النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء مما يبعث الناس على معرفة جزاء هذا الفعل مع ما ذكرناه من قصد التشهير بالمنافقين والتسجيل عليهم، أي أنكم إن استمررتم على موالاة الكافرين جعلتم لله عليكم سلطانا مبينا، أي حجة واضحة على فساد إيمانكم، فهذا تعريض بالمنافقين.
فالاستفهام مستعمل في معنى التحذير والإنذار مجازا مرسلا.
وهذا السلطان هو حجة الرسول عليهم بأنهم غير مؤمنين فتجري عليهم أحكام الكفر، لأن الله عالم بما في نفوسهم لا يحتاج إلى حجة عليهم، أو أريد حجة افتضاحهم يوم الحساب بموالاة الكافرين، كقوله {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. ومن هنا يجوز أيضا أن يكون المراد من الحجة قطع حجة من يرتكب هذه الموالاة والإعذار إليه.
[146,146] {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} .
عقب التعريض بالمنافقين من قوله {لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ} كما تقدم بالتصريح بأن المنافقين أشد أهل النار عذابا. فإن الانتقال من النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء إلى ذكر حال المنافقين يؤذن بأن الذين اتخذوا الكافرين أولياء معدودون من المنافقين، فإن لانتقالات جمل الكلام معاني لا يفيدها الكلام لما تدل عليه من ترتيب الخواطر في الفكر.
وجملة {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ} مستأنفة استئنافا بيانيا، ثانيا إذ هي عود إلى أحوال المنافقين. وتأكيد الخبر بإن لإفادة أنه لا محيص لهم عنه.
والدرك: اسم جمع دركة، ضد الدرج اسم جمع درجة. والدركة المنزلة في الهبوط. فالشيء الذي يقصد أسفله تكون منازل التدلي إليه دركات، والشيء الذي يقصد أعلاه منازل الرقي إليه درجات، وقد يطلق الاسمان على المنزلة الواحدة باختلاف الاعتبار, وإنما كان المنافقون في الدرك الأسفل، أي في أذل منازل العذاب، لأن كفرهم أسوأ الكفر لم حف به من الرذائل.
وقرأ الجمهور: {في الدرك} بفتح الراء على أنه اسم جمع دركة ضد الدرجة. وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف بسكون الراء وهما لغتان. وفتح الراء هو الأصل، وهو أشهر.
والخطاب في {وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} لكل من يصح منه سماع الخطاب، وهو تأكيد للوعيد، وقطع لرجائهم، لأن العرب ألفوا الشفاعات والنجدات في المضائق. فلذلك كثر في القرآن تذييل الوعيد بقطع الطمع في النصير والفداء ونحوهما.
واستثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين، وأصلح حاله، واعتصم بالله دون الاعتزاز بالكافرين، وأخلص دينه لله، فلم يشبه بتردد ولا تربص بانتظار من ينتصر من الفريقين: المؤمنين والكافرين، فأخبر أن من صارت حاله إلى هذا الخير فهو مع المؤمنين، وفي لفظ مع إيماء إلى فضيلة من آمن من أول الأمر ولم يصم نفسه بالنفاق لأن مع تدخل على المتبوع وهو الأفضل.
وجيء باسم الإشارة في قوله {فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} لزيادة تمييز هؤلاء الذين تابوا، وللتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة.
وقد علم الناس ما أعد الله للمؤمنين بما تكرر في القرآن، ولكن زاده هنا تأكيدا بقوله {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} . وحرف التنفيس هنا دل على أن المراد من الأجر أجر الدنيا وهو النصر وحسن العاقبة وأجر الآخرة، إذ الكل مستقبل، وأن ليس المراد منه الثواب لأنه حصل من قبل.
{مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [147].
تذييل لكلتا الجملتين: جملة إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار مع الجملة المتضمنة لاستثناء من يتوب منهم ويؤمن، وما تضمنته من التنويه بشأن المؤمنين من قوله {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:146].
والخطاب يجوز أن يراد به جميع الأمة، ويجوز أن يوجه إلى المنافقين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ارتفاقا بهم.
والاستفهام في قوله {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ} أريد به الجواب بالنفي فهو إنكاري، أي لا يفعل بعذابكم شيئا.
ومعنى {يفعل} يصنع وينتفع، بدليل تعديته بالباء. والمعنى أن الوعيد الذي توعد به المنافقون إنما هو على الكفر والنفاق، فإذا تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله غفر لهم العذاب، فلا يحسبوا أن الله يعذبهم لكراهة في ذاتهم أو تشف منهم، ولكنه جزاء لاسوء، لأن الحكيم يضع الأشياء مواضعها، فيجازي على الإحسان بالإحسان، وعلى الإساءة بالإساءة، فإذا أقلع المسيء عن الإساءة أبطل الله جزاءه بالسوء، إذ لا ينتفع بعذاب ولا بثواب، ولكنها المسببات تجري على الأسباب. وإذا كان المؤمنون قد ثبتوا على إيمانهم وشكرهم، وتجنبوا موالاة المنافقين والكافرين، فالله لا يعذبهم، إذ لا موجب لعذابهم.
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} اعتراض في آخر الكلام، وهو إعلام بأن الله لا يعطل الجزاء الحسن عن الذين يؤمنون به ويشكرون نعمه الجمة، والإيمان بالله وصفاته أول درجات شكر العبد ربه.
[149,148] {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} .
موقع هذه الآية عقب الآي التي قبلها: أن الله لما شوه حال المنافقين وشهر بفضائحهم تشهيرا طويلا، كان الكلام السابق بحيث يثير في نفوس السامعين نفورا من النفاق وأحواله، وبغضا للملموزين به، وخاصة بعد أن وصفهم باتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، وأنهم يستهزئون بالقرآن، ونهى المسلمين عن القعود معهم، فحذر الله
المسلمين من أن يغيظهم ذلك على من يتوسمون فيه النفاق، فيجاهروهم بقول السوء، ورخص لمن ظلم من المسلمين أن يجهر لظالمه بالسوء، لأن ذلك دفاع عن نفسه. روى البخاري: أن رجالا اجتمعوا في بيت عتبان بن مالك لطعام صنعه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائل: أين مالك بن الدخشم، فقال بعضهم، ذلك منافق لا يحب الله ورسوله، فقال رسول الله: "لا تقل ذلك ألا تراه قد قال: لا إله إلا الله، يريد بذلك وجه الله" . فقال: فإنا نرى وجهه ونصيحته إلى المنافقين. الحديث. فظن هذا القائل بمالك أنه منافق، لملازمته للمنافقين، فوصفه بأنه منافق لا يحب الله ورسوله. فلعل هذه الآية نزلت للصد عن المجازفة بظن النفاق بمن ليس منافقا. وأيضا لما كان من أخص أوصاف المنافقين إظهار خلاف ما يبطنون فقد ذكرت نجواهم وذكر رؤياهم في هذه السورة وذكرت أشياء كثيرة من إظهارهم خلاف ما يبطنون في سورة البقرة كان ذلك يثير في النفوس خشية أن يكون إظهار خلاف ما في الباطن نفاقا فأراد الله تبين الفارق بين الحالين.
وجملة {لا يحب} مفصولة لأنها استئناف ابتدائي لهذا الغرض الذي بيناه: الجهر بالسوء من القول، وقد علم المسلمون أن المحبة والكراهية تستحيل حقيقتهما على الله تعالى، لأنهما انفعالان للنفس نحو استحسان الحسن، واستنكار القبيح، فالمراد لازمهما المناسب للإلهية، وهما الرضا والغضب.
وصيغة {لا يحب} ، بحسب قواعد الأصول، صيغة نفي الإذن. والأصل فيه التحريم. وهذا المراد هنا لأن {لا يحب} يفيد معنى يكره، وهو يرجع إلى معنى النهي. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يرضى لكم ثلاثا ويكره لكم ثلاثا" إلى قوله "ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال" . فهذه أمور ثلاثة أكثر أحوالها محرم أو مكروه.
والمراد بالجهر ما يبلغ إلى أسماع الناس إذ ليس السر بالقول في نفس الناطق مما ينشأ عنه ضر. وتقييده بالقول لأنه أضعف أنواع الأذى فيعلم أن السوء من الفعل أشد تحريما.
واستثنى {من ظلم} فرخص له الجهر بالسوء من القول. والمستثنى منه هو فاعل المصدر المقدر الواقع في سياق النفي، المفيد للعموم، إذ التقدير: لا يحب الله جهر أحد بالسوء، أو يكون المستثنى مضافا محذوفا، أي: إلا جهر من ظلم، والمقصود ظاهر، وقد قضي في الكلام حق الإيجاز.
ورخص الله للمظلوم الجهر بالقول السيئ ليشفي غضبه، حتى لا يثوب إلى السيف أو إلى البطش باليد، في هذا الإذن توسعة على من لا يمسك نفسه عند لحاق الظلم به، والمقصود من هذا هو الاحتراس في حكم {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} . وقد دلت الآية على الإذن للمظلوم في جميع أنواع الجهر بالسوء من القول، وهو مخصوص بما لا يتجاوز حد التظلم فيما بينه وبين ظالمه، أو شكاية ظلمه: أن يقول له: ظلمتني، أو أنت ظالم، وأن يقول للناس: إنه ظالم. ومن ذلك الدعاء على الظالم جهرا لأن الدعاء عليه إعلان بظلمه وإحالته على عدل الله تعالى، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن، وذلك مخصوص بما لا يؤدي إلى القذف، فإن دلائل النهي عن القذف وصيانة النفس من أن تتعرض لحد القذف أو تعزيز الغيبة، قائمة في الشريعة. فهذا الاستثناء مفيد إباحة الجهر بالسوء من القول من جانب المظلوم في جانب ظالمه؛ ومنه ما في الحديث "مطل الغني ظلم" أي فللمطول أن يقول: فلان مماطل وظالم. وفي الحديث "لي الواجد يحل عرضه وعقوبته" .
وجملة {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} عطف على {لا يحب} ، والمقصود أنه عليم بالأقوال الصادرة كلها، عليم بالمقاصد والأمور كلها، فذكر عليمابعد سميعا لقصد التعميم في العلم، تحذيرا من أن يظنوا أن الله غير عالم ببعض ما يصدر منهم.
وبعد أن نهى ورخص، ندب المرخص لهم إلى العفو وقول الخير، فقال {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} ، فإبداء الخير إظهاره. وعطف عليه أو تخفوه لزيادة الترغيب أن لا يظنوا أن الثواب على إبداء الخير خاصة، كقوله {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271].
والعفو عن السوء بالصفح وترك المجازاة، فهو أمر عدمي.
وجملة {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} دليل جواب الشرط، وهو علة له، وتقدير الجواب: يعف عنكم عند القدرة عليكم، كما أنكم فعلتم الخير جهرا وخفية وعفوتم عند المقدرة على الأخذ بحقكم، لأن المأذون فيه شرعا يعتبر مقدورا للمأذون، فجواب الشرط وعد بالمغفرة لهم في بعض ما يقترفونه جزاء عن فعل الخير وعن العفو عمن اقترف ذنبا، فذكر {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ} تكملة لما اقتضاه قوله {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ} استكمالا لا لموجبات العفو عن السيئات، كما أفصح عنه قوله صلى الله عليه وسلم "وأتبع السيئة الحسنة تمحها" .
هذا ما أراه في معنى الجواب. وقال المفسرون: جملة الجزاء تحريض على العفو ببيان أن فيه تخلقا بالكمال، لأن صفات الله غاية الكمالات. والتقدير: إن تبدوا خيرا الخ تكونوا متخلقين بصفات الله، فإن الله كان عفوا قديرا، وهذا التقدير لا يناسب إلا قوله {أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ} ولا يناسب قوله {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ} إلا إذا خصص ذلك بإبداء الخير لمن ظلمهم، وإخفائه عمن ظلمهم. وفي الحديث "أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك".
[152,150] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} .
عادة القرآن عند التعرض إلى أحوال من أظهروا النواء للمسلمين أن ينتقل من صفات المنافقين، أو أهل الكتاب، أو المشركين إلى صفات الآخرين، فالمراد من الذين يكفرون بالله ورسله هنا هم اليهود والنصارى، قاله أهل التفسير. والأظهر أن المراد به اليهود خاصة لأنهم المختلطون بالمسلمين والمنافقين، وكان كثير من المنافقين يهودا وعبر عنهم بطريق الموصول دون الاسم لما في الصلة من الإيماء إلى وجه الخبر، ومن شناعة صنيعهم ليناسب الإخبار عنهم باسم الإشارة بعد ذلك.
وجمع الرسل لأن اليهود كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام، النصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فجمع الرسل باعتبار مجموع الكفار، أو أراد بالجمع الاثنين، أو أراد بالإضافة معنى الجنس فاستوى فيه صيغة الإفراد والجمع، لأن المقصود ذم من هذه صفتهم بدون تعيين فريق، وطريقة العرب في مثل هذا أن يعبروا بصيغ الجموع وإن كان المعرض به واحدا كقوله تعالى {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} [النساء:54] وقوله {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37] {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة:44] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يشترطون شروطا" .
وجيء بالمضارع هنا للدلالة على أن هذا أمر متجدد فيهم مستمر، لأنهم لو كفروا في الماضي ثم رجعوا لما كانوا أحرياء بالذم.
ومعنى كفرهم بالله: أنهم لما آمنوا به ووصفوه بصفات غير صفاته من التجسيم
واتخاذ الصاحبة والولد والحلول ونحو ذلك، فقد آمنوا بالاسم لا بالمسمى، وهم في الحقيقة كفروا بالمسمى، كما إذا كان أحد يظن أنه يعرف فلانا فقلت له: صفه لي، فوصفه بغير صفاته، تقول له: أنت لا تعرفه ؛ على أنهم لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفروا بما جاء به من توحيد الله وتنزيهه عن مماثلة الحوادث، فقد كفروا بإلهيته الحقة، إذ منهم من جسم ومنهم من ثلث.
ومعنى قوله {وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ} أنهم يحاولون ذلك فأطلقت الإرادة على المحاولة، وفيه إيذان بأنه أمر صعب المنال، وأنهم لم يبلغوا ما أرادوا من ذلك، لأنهم لم يزالوا يحاولونه، كما دل عليه التعبير بالمضارع في قوله {وَيُرِيدُونَ} ولو بلغوا إليه لقال: وفرقوا بين الله ورسله.
ومعنى التفريق بين الله ورسله أنهم ينكرون صدق بعض الرسل الذين أرسلهم الله، ويعترفون بصدق بعض الرسل دون بعض، ويزعمون أنهم يؤمنون بالله، فقد فرقوا بين الله ورسله إذ نفوا رسالتهم فأبعدوهم منه، وهذا استعارة تمثيلية، شبه الأمر المتخيل في نفوسهم بما يضمره مريد التفريق بين الأولياء والأحباب، فهي تشبيه هيئة معقولة بهيئة معقولة، والغرض من التشبيه تشويه المشبه، إذ قد علم الناس أن التفرقة بين المتصلين ذميمة.
وهذه الآية في معنى الآيات التي تقدمت في سورة البقرة {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:
[136] {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285]، وفي سورة آل عمران {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:84] إلا أن تلك الآيات في التحذير من التفريق بين الرسل، والآية هذه في التحذير من التفريق بين الله وبعض رسله، ومآل الجميع واحد: لأن التفريق بين الرسل يستلزم التفريق بين الله وبعض رسله.
وإضافة الجمع إلى الضمير هنا للعهد لا للعموم بالقرينة، وهي قوله {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ} .
وجملة {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ} واقعة في معنى الاستئناف البياني للتفريق بين الله ورسله، ولكنها عطفت؛ لأنها شأن خاص من شؤونهم، إذ مدلولها قول من أقوالهم الشنيعة، ومدلول {يريدون} هيئة حاصلة من كفرهم، فلذلك حسن العطف باعتبار المغايرة ولو في الجملة، ولو فصلت لكان صحيحا.
ومعنى {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ} الخ أن اليهود يقولون: نؤمن بالله وبموسى ونكفر بعيسى
ومحمد، والنصارى يقولون: نؤمن بالله وبموسى وعيسى ونكفر بمحمد، فآمنوا بالله وبعض رسله ظاهرا وفرقوا بينه وبين بعض رسله.
والإرادة في قوله {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} إرادة حقيقية. والسبيل يحتمل أن يراد به سبيل النجاة من المؤاخذة في الآخرة توهما أن تلك حيلة تحقق لهم السلامة على تقدير سلامة المؤمنين، أو سبيل التنصل من الكفر ببعض الرسل، أو سبيلا بين دينين، وهذان الوجهان الأخيران يناسبان انتقالهم من الكفر الظاهر إلى النفاق، فكأنهما تهيئة للنفاق.
وهذا التفسير جار على ظاهر نظم الكلام، وهو أن يكون حرف العطف مشركا بين المتعاطفات في حكم المعطوف عليه، وإذ قد كان المعطوف عليه الأول صلة ل {الذين} ، كان ما عطف عليه صلات لذلك الموصول وكان ذلك الموصول صاحب تلك الصلات كلها.
ونسب إلى بعض المفسرين أنه جعل الواوات فيها بمعنى أو وجعل الموصول شاملا لفرق من الكفار تعددت أحوال كفرهم على توزيع الصلات المتعاطفة، فجعل المراد بالذين يكفرون بالله ورسله المشركين، والذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله قوما أثبتوا الخالق وأنكروا النبوءات كلها، والذين يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض اليهود والنصارى. وسكت عن المراد من قوله {وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} ، ولو شاء لجعل أولئك فريقا آخر: وهم المنافقون المترددون الذين لم يثبتوا على إيمان ولا على كفر، بل كانوا بين الحالين، كما قال الله تعالى {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ} [النساء:143]. والذي دعاه إلى هذا التأويل أنه لم يجد فريقا جمع هذه الأحوال كلها على ظاهرها لأن اليهود لم يكفروا بالله ورسله، وقد علمت أن تأويل الكفر بالله الكفر بالصفات التي يستلزم الكفر بها نفي الإلهية.
وهذا الأسلوب نادر الاستعمال في فصيح الكلام، إذ لو أريد ذلك لكان الشأن أن يقال: والذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله والذين يقولون: نؤمن ببعض ونكفر ببعض، كما قال {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا} [الأنفال:72].
وقوله {أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً} الجملة خبر إن والإشارة إلى أصحاب تلك الصلة الماضية، وموقع الإشارة هنا لقصد التنبيه على أن المشار إليهم لاستحضارهم بتلك
الأوصاف أحرياء بما سيحكم عليهم من الحكم المعاقب لاسم الإشارة.
وأفاد تعريف جزأي الجملة والإتيان بضمير الفصل تأكيد قصر صفة الكفر عليهم، وهو قصر ادعائي مجازي بتنزيل كفر غيرهم في جانب كفرهم منزلة العدم، كقوله تعالى في المنافقين {هم العدو} [المنافقون:4]. ومثل هذا القصر يدل على كمال الموصوف في تلك الصفة المقصورة.
ووجه هذه المبالغة: أن كفرهم قد اشتمل على أحوال عديدة من الكفر، وعلى سفالة في الخلق، أو سفاهة في الرأي بمجموع ما حكي عنهم من تلك الصلات، فإن كل خصلة منها إذا انفردت هي كفر، فكيف بها إذا اجتمعت.
و {حقا} مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي قبله، أي حقهم حقا أيها السامع بالغين النهاية في الكفر، ونظير هذا قولهم جدا. والتوكيد في مثل هذا لمضمون الجملة التي قبله على ما أفادته الجملة، وليس هو لرفع المجاز، فهو تأكيد لما أفادته الجملة من الدلالة على معنى النهاية لأن القصر مستعمل في ذلك المعنى، ولم يقصد بالتوكيد أن يصير القصر حقيقيا لظهور أن ذلك لا يستقيم، فقول بعض النحاة، في المصدر المؤكد لمضمون الجملة: إنه يفيد رفع احتمال المجاز، بناء منهم على الغالب في مفاد التأكيد.
و {أعتدنا} معناه هيأنا وقدرنا، والتاء في {أعتدنا} بدل من الدال عند كثير من علماء اللغة، وقال كثير منهم: التاء أصلية، وأنه بناء على حدة هو غير بناء عد. وقال بعضهم: إن عتد هو الأصل وأن عد أدغمت منه التاء في الدال، وقد ورد البناءان كثيرا في كلامهم وفي القرآن.
وجيء بجملة {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} إلى آخرها لمقابلة المسيئين بالمحسنين، والنذارة بالبشارة على عادة القرآن. والمراد بالذين أمنوا المؤمنون كلهم وخاصة من آمنوا من أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام. فهم مقصودون ابتداء لما أشعر به موقع هذه الجملة بعد ذكر ضلالهم ولما اقتضاه تذييل الجملة بقوله {وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} أي غفورا لهم ما سلف من كفرهم، رحيما بهم.
والقول في الإتيان بالموصول وباسم الإشارة في هذه الجملة كالقول في مقابله.
وقوله {بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ} تقدم الكلام على مثله في قوله تعالى {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} في سورة البقرة [136].
وقرأ الجمهور: {نؤتيهم} بنون العظمة. وقرأه حفص عن عاصم بياء الغائب والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} .
[154,153] {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} .
لما ذكر معاذير أهل الكتابين في إنكارهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم أعقبها بذكر شيء من اقتراحهم مجيء المعجزات على وفق مطالبهم.
والجملة استئناف ابتدائي.
ومجيء المضارع هنا: إما لقصد استحضار حالتهم العجيبة في هذا السؤال حتى كأن السامع يراهم كقوله {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [هود:38]، وقوله {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} [الصافات:12]، وقوله {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً} [فاطر:9].
وإما للدلالة على تكرار السؤال وتجدده المرة بعد الأخرى بأن يكونوا ألحوا في هذا السؤال لقصد الإعنات، كقول طريف بن تميم العنبري:
بعثوا إلي عريفهم يتوسم.
أي يكرر التوسم. والمقصود على كلا الاحتمالين التعجيب من هذا السؤال، ولذلك قال بعده {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى} .
والسائلون هم اليهود، سألوا معجزة مثل معجزة موسى بأن ينزل عليه مثل ما أنزلت الألواح فيها الكلمات العشر على موسى، ولم يريدوا جميع التوراة كما توهمه بعض المفسرين فإن كتاب التوراة لم ينزل دفعة واحدة. فالمراد بأهل الكتاب هنا خصوص اليهود.
والكتاب هنا إما اسم للشيء المكتوب كما نزلت ألواح موسى، وإما اسم لقطعة ملتئمة من أوراق مكتوبة، فيكونون قد سألوا معجزة تغاير معجزة موسى.
والفاء في قوله {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى} فاء الفصيحة دالة على مقدر دلت عليه صيغة المضارع المراد منها التعجيب، أي فلا تعجب من هذا فإن ذلك شنشنة قديمة لأسلافهم مع رسولهم إذ سألوه معجزة أعظم من هذا، والاستدلال على حالتهم بحالة أسلافهم من
قبيل الاستدلال بأخلاق الأمم والقبائل على أحوال العشائر منهم، وقد تقدم بيان كثير منه في سورة البقرة.
وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ودلالة على جراءتهم، وإظهار أن الرسل لا تجيء بإجابة مقترحات الأمم في طلب المعجزات بل تأتي المعجزات بإرادة الله تعالى عند تحدي الأنبياء، ولو أجاب الله المقترحين إلى ما يقترحون من المعجزات لجعل رسله بمنزلة المشعوذين وأصحاب الخنقطرات والسيمياء، إذ يتلقون مقترحات الناس في المحافل والمجامع العامة والخاصة، وهذا مما يحط من مقدار الرسالة. وفي إنجيل متى: أن قوما قالوا للمسيح: نريد أن نرى منك آية فقال جيل شرير يطلب آية ولا تعطى له آية. وتكرر ذلك في واقعة أخرى. وقد يقبل ذلك من المؤمنين، كما حكى الله عن عيسى {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} إلى قوله {قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة:112، 115]، وقال تعالى {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً} [الإسراء:59].
وهم لما سألوا موسى أن يريهم الله جهرة ما أرادوا التيمن بالله، ولا التنعم بالمشاهدة، ولكنهم أرادوا عجبا ينظرونه ، فلذلك قالوا: {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} ، ولم يقولوا: ليتنا نرى ربنا.
{وجهرة} ضد خفية، أي علنا، فيجوز أن يكون صفة للرؤية المستفادة من أرنا، ويجوز أن يكون حالا من المرفوع في أرنا: أي حال كونك مجاهرا لنا في رؤيته غير مخف رؤيته.
واستطرد هنا ما لحقهم من جراء سؤالهم هذه الرؤية وما ترتب عليه فقال {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} ، وهو ما حكاه تعالى في سورة البقرة [55] بقوله {فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} . وكان ذلك إرهابا لهم وزجرا، ولذلك قال {بظلمهم} .
والظلم هو المحكي في سورة البقرة من امتناعهم من تصديق موسى إلى أن يروا الله جهرة، وليس الظلم لمجرد طلب الرؤية؛ لأن موسى قد سأل مثل سؤالهم مرة أخرى: حكاه الله عنه بقوله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} الآية
في سورة الأعراف [143]. وبين أنهم لم يردعهم ذلك فاتخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم البينات الدالة على وحدانية الله ونفي الشريك. وعطفت جملة اتخاذهم العجل بحرف ثم المفيد في عطفه الجمل معنى التراخي الرتبي. فإن اتخاذهم العجل إلها أعظم جرما مما حكي قبله، ومع ذلك عفا الله عنهم وآتى موسى سلطانا مبينا، أي حجة واضحة عليهم في تمردهم، فصار يزجرهم ويؤنبهم. ومن سلطانه المبين أن أحرق لهم العجل الذي اتخذوه إلها.
ثم ذكر آيات أخرى أظهرها الله لهم وهي: رفع الطور، والأمر بقتال أهل أريحا، ودخولهم بابها سجدا. والباب يحتمل أنه باب مدينة أريحا، ويحتمل أنه باب الممر بين الجبال ونحوها، كما سيأتي عند قوله تعالى {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} إلى قوله {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} في سورة العقود [23]؛ وتحريم صيد البحر عليهم في السبت. وقد مضى الكلام عليها جميعا في سورة البقرة.
وأخذ الميثاق عليهم: المراد به العهد، ووصفه بالغليظ. أي القوي، والغلظ من صفات الأجسام، فاستعير لقوة المعنى وكنى به عن توثق العهد لأن الغلظ يستلزم القوة، والمراد جنس الميثاق الصادق بالعهود الكثيرة التي أخذت عليهم، وقد ذكر أكثرها في آي سورة البقرة، والمقصود من هذا إظهار تأصلهم في اللجاج والعناد، من عهد أنبيائهم، تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على ما لقي منهم، وتمهيدا لقوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155].
وقوله {لا تعدوا} قرأه نافع في أصح الروايات، وهي لورش عنه ولقالون في إحدى روايتيه عنه بفتح العين وتشديد الدال المضمومة أصله: لا تعتدوا، والاعتداء افتعال من العدو، يقال: اعتدى على فلان، أي تجاوز حد الحق معه، فلما كانت التاء قريبة من مخرج الدال ووقعت متحركة وقبلها ساكن، تهيأ إدغامها، فنقلت حركتها إلى العين الساكنة قبلها، وأدغمت في الدال إدغاما لقصد التخفيف، ولذلك جاز في كلام العرب إظهارها؛ فقالوا: تعتدوا وتعدوا، لأنها وقعت قبل الدال، فكانت غير مجذوبة إلى مخرجه، ولو وقعت بعد الدال لوجب إدغامها في نحو أدان. وقرأ الجمهور، وقالون في إحدى روايتين عنه: لا تعدوا بسكون العين وتخفيف الدال مضارع مجزوم من العدو، وهو العدوان، كقوله {إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ} في سورة الأعراف [163]. وفي إحدى روايتين عن قالون: باختلاس الفتحة، وقرأه أبو جعفر: بسكون العين وتشديد الدال، وهي رواية عن نافع أيضا، رواها ابن مجاهد. قال أبو علي، في الحجة: وكثير من
النحويين ينكرون الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني منهما مدغما ولم يكن الأول منهما حرف لين، نحو دابة، يقولون: المد يصير عوضا عن الحركة، قال: وإذا جاز نحو دويبة مع نقصان المد الذي فيه لم يمتنع أن يجمع بين الساكنين في نحو:تعدوا. لأن ما بين حرف اللين وغيره يسير، أي مع عدم تعذر النطق به.
[155] {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً} .
التفريع على قوله {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء:154] والباء للسبيبة جارة ل{نقضهم}، وما مزيدة بعد الياء لتوكيد التسبب, وحرف ما المزيد بعد الباء لا يكف الباء عن عمل الجر وكذلك إذا زيد ما بعد من وبعد عن.
وأما إذا زيد بعد كاف الجر وبعد رب فإنه يكف الحرف عن عمل الجر.
ومتعلق قوله {بما نقضهم} : يجوز أن يكون محذوفا، لتذهب نفس السامع في مذاهب الهول، وتقديره: فعلنا بهم ما فعلنا. ويجوز أن يتعلق ب {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء:160]، وما بينهما مستطردات، ويكون قوله {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا} [النساء:160] كالفذلكة الجامعة لجرائمهم المعدودة من قبل. ولا يصلح تعليق المجرور ب{طبع} لأنه وقع ردا على قولهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} ، وهو من جملة المعطوفات الطالبة للتعلق، لكن يجوز أن يكون طبع دليلا على الجواب المحذوف.
وتقدم تفسير هذه الأحداث المذكورة هنا في مواضعها.
وقدم المتعلق لإفادة الحصر: وهو أن ليس التحريم إلا لأجل ما صنعوه، فالمعنى: ما حرمنا عليهم طيبات إلا بسبب نقضهم، وأكد معنى الحصر والتسبب بما الزائدة. فأفادت الجملة حصرا وتأكيدا.
وقوله {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} اعتراض بين المعاطيف. والطبع: إحكام الغلق بجعل طين ونحوه على سد المغلوق بحيث لا ينفذ إليه مستخرج ما فيه إلا بعد إزالة ذلك الشيء المطبوع به، وقد يسمون على ذلك الغلق بسمة تترك رسما في ذلك المجعول، وتسمى الآلة الواسمة طابعا بفتح الباء فهو يرادف الختم. ومعنى {بكفرهم} بسببه، فالكفر المتزايد يزيد تعاصي القلوب عن تلقي الإرشاد، وأريد بقوله {بكفرهم} كفرهم المذكور في قوله {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} .
والاستثناء في قوله {إلا قليلا} من عموم المفعول المطلق: أي لا يؤمنون إيمانا
إلا إيمانا قليلا، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده إذ الإيمان لا يقبل القلة والكثرة، فالقليل من الإيمان عدم، فهو كفر. وتقدم في قوله {فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88]. ويجوز أن تكون قلة الإيمان كناية عن قلة أصحابه مثل عبد الله بن سلام.
[158,156] {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} .
{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} .
عطف {وبكفرهم} مرة ثانية على قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155] ولم يستغن عنه بقوله {وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ} [النساء:155] وأعيد مع ذلك حرف الجر الذي يغني عنه حرف العطف قصدا للتأكيد، واعتبر العطف لأجل بعد ما بين اللفظين، ولأنه في مقام التهويل لأمر الكفر، فالمتكلم يذكره ويعيده: يتثبت ويري أنه لا ريبة في إناطة الحكم به، ونظير هذا التكرير قول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله
...
كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج
...
كدخان نار ساطع أسنامها
فأعاد التشبيه بقوله كدخان نار ليحقق معنى التشبيه الأول. وفي الكشاف تكرر الكفر منهم لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلوات الله عليهم فعطف بعض كفرهم على بعض، أي فالكفر الثاني اعتبر مخالفا للذي قبله باعتبار عطف قوله {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً} . ?ونظيره قول عويف القوافي:
اللؤم أكرم من وبر ووالده
...
واللؤم أكرم من وبر وما ولدا
إذ عطف قوله واللؤم أكرم من وبر باعتبار أن الثاني قد عطف عليه قوله وما ولدا.
والبهتان مصدر بهته إذا أتاه بقول أو عمل لا يترقبه ولا يجد له جوابا، والذي يتعمد
ذلك بهوت، وجمعه: بهت وبهت. وقد زين اليهود ما شاءوا في الإفك على مريم عليها السلام. أما قولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، فمحل المؤاخذة عليهم منه: هو أنهم قصدوا أن يعدوا هذا الإثم في مفاخر أسلافهم الراجعة إلى الإخلاف بالعهد المبين في سبيل نصر الدين.
والمسيح كان لقبا لعيسى عليه السلام لقبه به اليهود تهكما عليه: لأن معنى المسيح في اللغة العبرية بمعنى الملك. كما تقدم في قوله تعالى {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} في سورة آل عمران [45]، وهو لقب قصدوا منه التهكم، فصار لقبا له بينهم. وقلب الله قصدهم تحقيره فجعله تعظيما له. ونظيره ما كان يطلق بعض المشركين على النبي محمد صلى الله عليه وسلم اسم مذمم، قالت امرأة أبي لهب: مذمما عصينا، وأمره أبينا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم، يشتمون ويلعنون مذمما وأنا محمد"1 .
وقوله {رَسُولَ اللَّهِ} إن كان من الحكاية: فالمقصود منه الثناء عليه والإيماء إلى أن الذين يتبجحون بقتله أحرياء بما رتب لهم على قولهم ذلك، فيكون نصب {رَسُولَ اللَّهِ} على المدح، وإن كان من المحكي: فوصفهم إياه منه التهكم، كقول المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر:6] وقول أهل مدين لشعيب {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87] فيكون نصب {رَسُولَ اللَّهِ} على النعت للمسيح.
وقوله {وَمَا قَتَلُوهُ} الخ الظاهر أن الواو فيه للحال، أي قولهم ذلك في حال أنهم ما قتلوه، وليس خبرا عن نفي القتل لأنه لو كان خبرا لاقتضى الحال تأكيده بمؤكدات قوية، ولكنه لما كان حالا من فاعل القول المعطوف على أسباب لعنهم ومؤاخذتهم كانت تلك الأسباب مفيدة ثبوت كذبهم، على أنه يجوز كونه خبرا معطوفا على الجمل المخبر بها عنهم، ويكون تجريده من المؤكدات: إما لاعتبار أن المخاطب به هم المؤمنون، وإما لاعتبار هذا الخبر غنيا عن التأكيد، فيكون ترك التأكيد تخريجا على خلاف مقتضى الظاهر، وإما لكونه لم يتلق إلا من الله العالم بخفيات الأمور فكان أعظم من أن يؤكد.
وعطف {وَمَا صَلَبُوهُ} لأن الصلب قد يكون دون القتل، فقد كانوا ربما صلبوا
ـــــــ
1 عن أبي هريرة في صحيح البخاري في باب ما جاء في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب المناقب.
الجاني تعذيبا له ثم عفوا عنه، وقال تعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة:33]. والمشهور في الاستعمال: أن الصلب هو أن يوثق المعدود للقتل على خشبة بحيث لا يستطيع التحرك ثم يطعن بالرمح أو يرمى بسهم، وكذلك كانوا يزعمون أن عيسى صلب ثم طعن برمح في قلبه.
وجملة {وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} استدراك، والمستدرك هو ما أفاده {وَمَا قَتَلُوهُ} من كون هذا القول لا شبهة فيه. وأنه اختلاق محض، فبين بالاستدراك أن أصل ظنهم أنهم قتلوه أنهم توهموا أنهم قتلوه، وهي شبهة أوهمت اليهود أنهم قتلوا المسيح، وهي ما رأوه ظاهرا من وقوع قتل وصلب على ذات يعتقدونها ذات المسيح، وبهذا وردت الآثار في تأويل كيفية معنى الشبه.
وقوله {شُبِّهَ لَهُمْ} يحتمل أن يكون معناه: أن اليهود الذين زعموا قتلهم المسيح في زمانهم قد شبه لهم مشبه بالمسيح فقتلوه، ونجى الله المسيح من إهانة القتل، فيكون قوله {شبه} فعلا مبنيا للمجهول، مشتقا من الشبه، وهو المماثلة في الصورة. وحذف المفعول الذي حقه أن يكون نائب فاعل شبه لدلالة فعل شبه عليه؛ فالتقدير: شبه مشبه فيكون لهم نائبا عن الفاعل. وضمير لهم على هذا الوجه عائد إلى الذين قالوا {إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} وهم يهود زمانه، أي وقعت لهم المشابهة، واللام على هذا بمعنى عند كما تقول: حصل لي ظن بكذا. والاستدراك بين على هذا الاحتمال.
ويحتمل أن يكون المعنى ولكن شبه لليهود الأولين والآخرين خبر صلب المسيح، أي اشتبه عليهم الكذب بالصدق، فيكون من باب قول العرب: خيل إليك، واختلط على فلان. وليس ثمة شبيه بعيسى ولكن الكذب في خبره شبيه بالصدق، واللام على هذا لام الأجل: أي لبس الخبر كذبه بالصدق لأجلهم، أي لتضليلهم، أي أن كبراءهم اختلقوه لهم ليبردوا غليلهم من الحنق على عيسى إذ جاء بإبطال ضلالاتهم. أو تكون اللام بمعنى على للاستعلاء المجازي، كقوله تعالى {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء:7]. ونكتة العدول عن حرف على تضمين فعل شبه معنى صنع، أي صنع الأحبار هذا الخبر لأجل إدخال الشبهة على عامتهم.
وفي الأخبار أن يهوذا الاسخريوطي أحد أصحاب المسيح، وكان قد ضل ونافق هو الذي وشى بعيسى عليه السلام وهو الذي ألقى عليه شبه عيسى، وأنه الذي صلب، وهذا أصله في إنجيل برنابي أحد تلاميذ الحواريين. وهذا يلائم الاحتمال الأول.
ويقال: إن بيلاطس، والى فلسطين، سئل في رومة عن قضية قتل عيسى وصلبه فأجاب بأنه لا علم له بشيء من هذه القضية، فتأيد بذلك اضطراب الناس في وقوع قتله وصلبه، ولم يقع وإنما اختلق اليهود خبره، وهذا يلائم الاحتمال الثاني.
والذي يجب اعتقاده بنص القرآن: أن المسيح لم يقتل، ولا صلب، وأن الله رفعه إليه ونجاه من طالبيه، وأما ما عدا ذلك فالأمر فيه محتمل. وقد تقدم الكلام في رفعه في قوله تعالى {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} في سورة آل عمران [55].
وقوله {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} يدل على وقوع خلاف في شأن قتل المسيح. والخلاف فيه موجود بين المسيحين: فجمهورهم يقولون: قتلته اليهود، وبعضهم يقول: لم يقتله اليهود، ولكن قتلوا يهوذا الاسخريوطي الذي شبه لهم بالمسيح، وهذا الاعتقاد مسطور في إنجيل برنابي الذي تعتبره الكنيسية اليوم كتابا محرفا فالمعنى أن معظم النصارى المختلفين في شأنه غير مؤمنين بصلبه. بل يخالج أنفسهم الشك، ويتظاهرون باليقين، وما هو باليقين، فما لهم به من علم قاطع إلا اتباع الظن. فالمراد بالظن هنا: معنى الشك، وقد أطلق الظن على هذا في مواضع كثيرة من كلام العرب، وفي القرآن {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، وفي الحديث الصحيح "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث" . فالاستثناء في قوله {إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} منقطع، كقول النابغة:
حلفت يمينا غير ذي مثنوية
...
ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}.
يجوز أن يكون معطوفا على قوله {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} ويجوز أن يعطف على قوله {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} .
واليقين: العلم الجازم الذي لا يحتمل الشك، فهو اسم مصدر، والمصدر اليقين بالتحريك، يقال: يقن كفرح ييقن يقنا، وهو مصدر قليل الاستعمال، ويقال: أيقن يوقن إيقانا، وهو الشائع.
وقوله {يقينا} يجوز أن يكون نصب على النيابة عن المفعول المطلق المؤكد لمضمون جملة قبله: لأن مضمون {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} بعد قوله {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ} إلى قوله {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} يدل على أن انتفاء قتلهم إياه أمر متيقن، فصح أن يكون يقينا مؤكدا لهذا المضمون. ويصح أن يكون في موضع الحال من
الواو في {قتلوه} ، أي ما قتلوه متيقنين قتله، ويكون النفي منصبا على القيد والمقيد معا، بقرينة قوله قبله {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} ، أي: هم في زعمهم قتله ليسوا بموقنين بذلك للاضطراب الذي حصل في شخصه حين إمساك من أمسكوه، وعلى هذا الوجه فالقتل مستعمل في حقيقته. وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى عيسى بن مريم عليه السلام.
ويجوز أن يكون القتل مستعملا مجازا في التمكن من الشيء والتغلب عليه كقولهم: قتل الخمر إذا مزجها حتى أزال قوتها، وقولهم: قتل أرضا عالمها، ومن شعر الحماسة في باب الهجاء:
يروعك من سعد ابن عمرو جسومها
...
وتزهد فيها حين تقتلها خبرا
وقول الشاعر:
كذلك تخبر عنها العالمات بها
...
وقد قتلت بعلمي ذلكم يقنا
وقول الآخر:
قتلتني الأيام حين قتلتها
...
خبرا فأبصر قاتلا مقتولا
وضمير النصب في {قتلوه} عائد إلى العلم من قوله تعالى {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} ، فيكون {يقينا} على هذا تمييزا لنسبة قتلوه.
ولذلك كله أعقب بالإبطال بقوله {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} أي فلم يظفروا به. والرفع: إبعاده عن هذا العالم إلى عالم السماوات، وإلى إفادة الانتهاء المجازي بمعنى التشريف، أي رفعه الله رفع قرب وزلفى.
وقد تقدم الكلام على معنى هذا الرفع، وعلى الاختلاف في أن عيسى عليه السلام بقي حيا أو أماته الله، عند قوله تعالى {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} في سورة آل عمران [55].
والتذييل بقوله {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} ظاهر الموقع لأنه لما عز فقد حق لعزه أن يعز أولياءه، ولما كان حكيما فقد أتقن صنع هذا الرفع فجعله فتنة للكافرين، وتبصرة للمؤمنين، وعقوبة ليهوذا الخائن.
[159] {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ
شَهِيداً}.
عطف على جملة {وَمَا قَتَلُوهُ} [النساء:157] وهذا الكلام إخبار عنهم، وليس أمرا لهم، لأن وقوع لام الابتداء فيه ينادي على الخبرية. و {إن} نافية و {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} صفة لموصوف محذوف تقديره: أحد.
والضمير المجرور عائد لعيسى: أي ليؤمنن بعيسى. والضمير في {موته} يحتمل أن يعود إلى أحد أهل الكتاب، أي قبل أن يموت الكتابي، ويؤيده قراءة أبي بن كعب {إِِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} . وأهل الكتاب يطلق على اليهود والنصارى؛ فأما النصارى فهم مؤمنون بعيسى من قبل، فيتعين أن يكون المراد بأهل الكتاب اليهود. والمعنى أن اليهود مع شدة كفرهم بعيسى لا يموت أحد منهم إلا وهو يؤمن بنبوته قبل موته، أي ينكشف له ذلك عند الاحتضار قبل انزهاق روحه، وهذه منة من الله بها على عيسى، إذ جعل أعداءه لا يخرجون من الدنيا إلا وقد آمنوا به جزاء له على ما لقي من تكذيبهم، لأنه لم يتمتع بمشاهدة أمة تتبعه. وقيل: كذلك النصراني عند موته ينكشف له أن عيسى عبد الله.
وعندي أن ضمير {به} راجع إلى الرفع المأخوذ من فعل {رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:158]، ويعم قوله {أَهْلِ الْكِتَابِ} اليهود، والنصارى، حيث استووا مع اليهود في اعتقاد وقوع الصلب.
والظاهر أن الله يقذف في نفوس أهل الكتابين الشك في صحة الصلب، فلا يزال الشك يخالج قلوبهم ويقوى حتى يبلغ مبلغ العلم بعدم صحة الصلب في آخر أعمارهم تصديقا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حيث كذب أخبارهم فنفى الصلب عن عيسى عليه السلام.
وقيل الضمير في قوله {موته} عائد إلى عيسى، أي قبل موت عيسى؛ ففرع القائلون بهذا تفاريع: منها أن موته لا يقع إلا آخر الدنيا ليتم إيمان جميع أهل الكتاب به قبل وقوع الموت، لأن الله جعل إيمانهم مستقبلا وجعله قبل موته، فلزم أن يكون موته مستقبلا؛ ومنها ما ورد في الحديث: "أن عيسى عليه السلام ينزل في آخر مدة الدنيا ليؤمن به أهل الكتاب" ، ولا يخفى أن عموم قوله {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يبطل هذا التفسير: لأن الذين يؤمنون به على حسب هذا التأويل هم الذين سيوجدون من أهل الكتاب لا جميعهم.
والشهيد: الشاهد؛ يشهد بأنه بلغ لهم دعوة ربهم فأعرضوا، وبأن النصارى بدلوا،
ومعنى الآية مفصل في قوله تعالى {يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ} الآيات في سورة العقود [109].
[162,160] {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً} .
إن كان متعلق قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155] محذوفا على أحد الوجهين المتقدمين كان قوله {فبظلم} مفرعا على مجموع جرائمهم السالفة. فيكون المراد بظلمهم ظلما آخر غير ما عدد من قبل، وإن كان قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155] متعلقا بقوله {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} فقوله {فبظلم} الخ بدل مطابق من جملة {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] بإعادة العامل في البدل منه لطول الفصل. وفائدة الإتيان به أن يظهر تعلقه بقوله {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} إذ بعد ما بينه وبين متعلقه، وهو قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء:155] ليقوى ارتباط الكلام. وأتي في جملة البدل بلفظ جامع للمبدل منه وما عطف عليه: لأن نقض الميثاق، والكفر، وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وقولهم على مريم بهتانا، وقولهم قتلنا عيسى: كل ذلك ظلم. فكانت الجملة الأخيرة بمنزلة الفذلكة لما تقدم، كأنه قيل: فبذلك كله حرمنا عليهم، لكن عدل إلى لفظ الظلم لأنه أحسن تفننا، وأكثر فائدة من الإتيان باسم الإشارة. وقد مر بيان ذلك قريبا عند قوله تعالى {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155]. ويجوز أن يكون ظلما آخر أجمله القرآن.
وتنكير ظلم للتعظيم، والعدول عن أن يقول فبظلمهم، حتى تأتي الضمائر متتابعة من قوله {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ} إلى آخره، إلى الاسم الظاهر وهو {الَّذِينَ هَادُوا} لأجل بعد الضمير في الجملة المبدل منها: وهي {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} [النساء:155]. ولأن في الموصول وصلته ما يقتضي التنزه عن الظلم لو كانوا كما وصفوا أنفسهم، فقالوا إنا هدنا إليك؛ فصدور الظلم عن الذين هادوا محل استغراب.
والآية اقتضت: أن تحريم ما حرم عليهم إنما كان عقابا لهم، وأن تلك المحرمات ليس فيها من المفاسد ما يقتضي تحريم تناولها، وإلا لحرمت عليهم من أول مجيء
الشريعة. وقد قيل: إن المراد بهذه الطيبات هو ما ذكر في قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} إلى قوله {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} في سورة الأنعام [146]، فهذا هو الجزاء على ظلمهم.
نقل الفخر في آية سورة الأنعام عن عبد الجبار أنه قال نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر منهم لأن التكليف تعريض للثواب، والتعريض للثواب إحسان، فلم يجز أن يكون التكليف جزاء على الجرم. قال الفخر: والجواب أن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لقصد استحقاق الثواب ويمكن أن يكون للجرم.
وهذا الجواب مصادرة على أن مما يقوي الإشكال أن العقوبة حقها أن تخص بالمجرمين ثم تنسخ. فالذي يظهر لي في الجواب: إما أن يكون سبب تحريم تلك الطيبات أن ما سرى في طباعهم بسبب بغيهم وظلمهم من القساوة صار ذلك طبعا في أمزجتهم فاقتضى أن يلطف الله طباعهم بتحريم مأكولات من طبعها تغليظ الطباع، ولذلك لما جاءهم عيسى أحل الله لهم بعض ما حرم عليهم من ذلك لزوال موجب التحريم، وإما أن يكون تحريم ما حرم عليهم عقابا للذين ظلموا وبغوا ثم بقي ذلك على من جاء بعدهم ليكون لهم ذكرى ويكون للأولين سوء ذكر من باب قوله {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها" . ذلك لأنه أول من سن القتل. وإما لأن هذا التحريم عقوبة دنيوية راجعة إلى الحرمان من الطيبات فلا نظر إلى ما يعرض لهذا التحريم تارة من الثواب على نية الامتثال للنهي، لندرة حصول هذه النية في الترك.
وصدهم عن سبيل الله: إن كان مصدر صد القاصر الذي مضارعه يصد بكسر الصاد فالمعنى بإعراضهم عن سبيل الله؛ وإن كان مصدر المتعدي الذي قياس مضارعه بضم الصاد، فلعلهم كانوا يصدون الناس عن التقوى، ويقولون: سيغفر لنا، من زمن موسى قبل أن يحرم عليهم بعض الطيبات. أما بعد موسى فقد صدوا الناس كثيرا، وعاندوا الأنبياء، وحاولوهم على كتم المواعظ، وكذبوا عيسى، وعارضوا دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وسولوا لكثير من الناس، جهرا أو نفاقا، البقاء على الجاهلية، كما تقدم في قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} [النساء:51] الآيات. ولذلك وصف ب {كثيرا} حالا منه.
وأخذهم الربا الذي نهوا عنه هو أن يأخذوه من قومهم خاصة ويسوغ لهم أخذه من
غير الإسرائيليين كما في الإصحاح من سفر التثنية لا تقرض أخاك بربا ربا فضة أو ربا طعام أو ربا شيء ما مما يقرض بربا. للأجنبي تقرض بربا.
والربا محرم عليهم بنص التوراة في سفر الخروج في الإصحاح إن أقرضت فضة لشعبي الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابي لا تضعوا عليه ربا. وأكلهم أموال الناس بالباطل أعم من الربا فيشمل الرشوة المحرمة عندهم، وأخذهم الفداء على الأسرى من قومهم، وغير ذلك.
والاستدراك بقوله {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} الخ ناشيء على ما يوهمه الكلام السابق ابتداء من قوله {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [النساء:153] من توغلهم في الضلالة حتى لا يرجى لأحد منهم خير وصلاح، فاستدرك بأن الراسخين في العلم منهم ليسوا كما توهم، فهم يؤمنون بالقرآن مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.
والراسخ حقيقته الثابت القدم في المشي، لا يتزلزل؛ واستعير للتمكن من الوصف مثل العلم بحيث لا تغره الشبه. وقد تقدم عند قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} في سورة آل عمران ]7].
والراسخ في العلم بعيد عن التكلف وعن التعنت، فليس بينه وبين الحق حاجب، فهم يعرفون دلائل صدق الأنبياء ولا يسألونهم خوارق العادات.
وعطف {المؤمنون} على {الراسخون} ثناء عليهم بأنهم لم يسألوا نبيهم أن يريهم الآيات الخوارق للعادة. فلذلك قال {يؤمنون} ، أي جميعهم بما أنزل إليك، أي القرآن، وكفاهم به آية، وما أنزل من قبلك على الرسل، ولا يعادون رسل الله تعصبا وحمية.
والمراد بالمؤمنين في قوله {والمؤمنون} الذين هداهم الله للإيمان من أهل الكتاب، ولم يكونوا من الراسخين في العلم منهم، مثل اليهودي الذي كان يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآمن به.
وعطف {المقيمين} بالنصب ثبت في المصحف الإمام، وقرأه المسلمون في الأقطار دون تنكير؛ فعلمنا أنه طريقة عربية في عطف الأسماء الدالة على صفات محامد، على أمثالها، فيجوز في بعض المعطوفات النصب على التخصيص بالمدح، والرفع على الاستئناف للاهتمام، كما فعلوا ذلك في النعوت المتتابعة، سواء كانت بدون عطف أم بعطف، كقوله تعالى {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلى قوله {والصابرين} [البقرة:177]. قال سيبويه في كتابه باب ما ينتصب في التعظيم والمدح وإن شئت جعلته صفة فجرى على الأول، وإن شئت قطعته فابتدأته. وذكر من قبيل ما نحن بصدده هذه الآية فقال فلو
كان كله رفعا كان جيدا، ومثله {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [البقرة:177]، ونظيره قول الخرنق:
لا يبعدن قومي الذين هموا
...
سم العداة وآفة الجزر
النازلون بكل معترك
...
والطيبين معاقد الأزر
في رواية يونس عن العرب: برفع النازلون ونصب الطيبين، لتكون نظير هذه الآية. والظاهر أن هذا مما يجري على قصد التفنن عند تكرر المتتابعات، ولذلك تكرر وقوعه في القرآن في معطوفات متتابعات كما في سورة البقرة وفي هذه الآية، وفي قوله {والصابون} في سورة المائدة [69].
وروي عن عائشة وأبان بن عثمان أن نصب {المقيمين} خطأ، من كاتب المصحف وقد عدت من الخطأ هذه الآية. وقوله {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ} [القبرة:177] وقوله {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63]. وقوله {والصابون} في سورة المائدة [69]. وقرأتها عائشة، وعبد الله بن مسعود، وأبي بن كعب، والحسن، ومالك بن دينار، والجحدري، وسعيد بن جبير، وعيسى بن عمر، وعمرو ابن عبيد: {والمقيمون} بالرفع. ولا ترد قراءة الجهور المجمع عليها بقراءة شاذة.
ومن الناس من زعم أن نصب {المقيمين} ونحوه هو مظهر تأويل قول عثمان لكتاب المصاحف حين أتموها وقرأها أنه قال لهم أحسنتم وأجملتم وأرى لحنا قليلا ستقيمه العرب بألسنتها. وهذه أوهام وأخبار لم تصح عن الذين نسبت إليهم. ومن البعيد جدا أن يخطئ كاتب المصحف في كلمة بين أخواتها فيفردها بالخطأ دون سابقتها أو تابعتها، وأبعد منه أن يجيء الخطأ في طائفة متماثلة من الكلمات وهي التي إعرابها بالحروف النائبة عن حركات الإعراب من المثنى والجمع على حده. ولا أحسب ما رواه عن عائشة وأبان بن عثمان في ذلك صحيحا. وقد علمت وجه عربيته في المتعاطفات، وأما وجه عربية {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} [طه:63] فيأتي عند الكلام على سورة طه.
والظاهر أن تأويل قول عثمان هو ما وقع في رسم المصحف من نحو الألفات المحذوفة. قال صاحب ا لكشاف وهم كانوا أبعد همة في الغيرة على الإسلام وذب المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب الله ثلمة ليسدها من بعدهم وخرقا يرفوه من يلحق بهم. وقد تقدم نظير هذا عند قوله تعالى {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} في سورة البقرة [177].
والوعد بالأجر العظيم بالنسبة للراسخين من أهل الكتاب لأنهم آمنوا برسولهم وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقد ورد في الحديث الصحيح: أن لهم أجرين، وبالنسبة للمؤمنين من العرب لأنهم سبقوا غيرهم بالإيمان.
وقرأ الجمهور: {سنؤتيهم} بنون العظمة وقرأه حمزة وخلف بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله {وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
[165,163] {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} .
استأنفت هذه الآيات الرد على سؤال اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء، بعد أن حمقوا في ذلك بتحميق أسلافهم: بقوله {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ} [النساء:153]، واستطردت بينهما جمل من مخالفة أسلافهم، وما نالهم من جراء ذلك، فأقبل الآن على بيان أن إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن بدعا، فإنه شأن الوحي للرسل، فلم يقدح في رسالتهم أنهم لم ينزل عليهم كتاب من السماء.
والتأكيد بإن للاهتمام بهذا الخبر أو لتنزيل المردود عليهم منزلة من ينكر كيفية الوحي للرسل غير موسى، إذ لم يجروا على موجب علمهم حتى أنكروا رسالة رسول لم ينزل إليه كتاب من السماء.
والوحي إفادة المقصود بطريق غير الكلام، مثل الإشارة قال تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم:11]. وقال داود بن جرير:
يرمون بالخطب الطوال وتارة
...
وحي اللواحظ خيفة الرقباء
والتشبيه في قوله {كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} تشبيه بجنس الوحي وإن اختلفت أنواعه، فإن الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان بأنواع من الوحي ورد بيانها في حديث عائشة في الصحيح عن سؤال الحارث بن هشام النبي صلى الله عليه وسلم كيف يأتيك الوحي بخلاف الوحي إلى غيره ممن
سماهم الله تعالى فإنه يحتمل بعض من الأنواع، على أن الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم كان منه الكتاب القرآن ولم يكن لبعض من ذكر معه كتاب.
وعد الله هنا جمعا من النبيين والمرسلين وذكر أنه أوحى إليهم ولم يختلف العلماء في أن الرسل والأنبياء يوحى إليهم.
وإنما اختلفت عباراتهم في معنى الرسول والنبي. ففي كلام جماعة من علمائنا لا نجد تفرقة، وأن كل نبي فهو رسول لأنه يوحى إليه بما لا يخلو من تبليغه ولو إلى أهل بيته. وقد يكون حال الرسول مبتدأ بنبوة ثم يعقبها إرساله، فتلك النبوءة تمهيد للرسالة كما كان أمر مبدإ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر خديجة، ونزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]. والقول الصحيح أن الرسول أخص، وهو من أوحى إليه مع الأمر بالتبليغ، والنبي لا يؤمر بالتبليغ وإن كان قد يبلغ على وجه الأمر بالمعروف والدعاء للخير، يعني بدون إنذار وتبشير. وورد في بعض الأحاديث: الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا، وعد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر رسولا. وقد ورد في حديث الشفاعة، في الصحيح: "أن نوحا عليه السلام أول الرسل". وقد دلت آيات القرآن على أن الدين كان معروفا في زمن آدم وأن الجزاء كان معلوما لهم، فقد قرب ابنا آدم قربانا، قال أحدهما للآخر {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، وقال له {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [المائدة:28، 29].
ودل على أنه لم يكن يومئذ بينهم من يأخذ على يد المعتدي وينتصف للضعيف من القوي، فإنما كان ما تعلموه من طريقة الوعظ والتعليم وكانت رسالة عائلية.
ونوح هو أول الرسل، وهو نوح بن لامك، والعرب تقول: لمك بن متوشالح بن أخنوخ. ويسميه المصريون هرمس، ويسميه العرب إدريس بن يارد بن مهللئيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم، حسب قول التوراة. وفي زمنه وقع الطوفان العظيم. وعاش تسعمائة وخمسين سنة، وقيل تسعمائة وتسعين سنة، والقرآن أثبت ذلك. وقد مات نوح قبل الهجرة بثلاثة آلاف سنة وتسعمائة سنة وسبعين سنة على حسب حساب اليهود المستمد من كتابهم.
وإبراهيم هو الخليل، إبراهيم بن تارح والعرب تسميه آزر بن ناحور بن ساروغ بن أرعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح. ولد سنة 2893 قبل الهجرة، في بلد أور الكلدانيين، ومات في بلاد الكنعانيين، وهي سوريا، في حبرون حيث مدفنه الآن المعروف ببلد الخليل سنة 2718 قبل الهجرة.
وإسماعيل هو ابن إبراهيم من الجارية المصرية هاجر. توفى بمكة سنة 2686 قبل الهجرة تقريبا. وكان إسماعيل رسولا إلى قومه الذين حل بينهم من جرهم وغيرهم، وإلى أبنائه وأهله، قال تعالى {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} [مريم:54].
وإسحاق هو ابن إبراهيم من سارة ابنة عمه، توفي قبل الهجرة سنة 2613، وكان إسحاق نبيا مؤيدا لشرع أبيه إبراهيم ولم يجئ بشرع.
ويعقوب هو ابن إسحاق، الملقب بإسرائيل. توفي سنة 2586 قبل الهجرة. وكان يعقوب نبيا مؤيدا لشرع إبراهيم، قال تعالى {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة:132] ولم يجئ بشرع جديد.
والأسباط هم أسباط إسحاق أي أحفاده، وهم أبناء يعقوب اثنا عشر ابنا: روبين، وشمعون، وجاد، ويهوذا، ويساكر، وزبولون، ويوسف، وبنيامين، ومنسى، ودان، وأشير، وثفتالي، فأما يوسف فكان رسولا لقومه بمصر. قال تعالى لبني إسرائيل على لسان مؤمن بني إسرائيل، أو خطابا من الله {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} [غافر:34]. وأما بقية الأسباط فكان كل منهم قائما بدعوة شريعة إبراهيم في بنيه وقومه. والوحي إلى هؤلاء متفاوت.
وعيسى هو عيسى بن مريم، ولد من غير أب قبل الهجرة سنة 622. ورفع إلى السماء قبلها سنة 589 . وهو رسول بشرع ناسخ لبعض أحكام التوراة. ودامت دعوته إلى الله ثلاث سنين.
وأيوب هو نبي. قيل: أنه عربي الأصل من أرض عوص، في بلاد أدوم، وهي من بلاد حوران، وقيل، هو أيوب بن ناحور أخي إبراهيم، وقيل: اسمه عوض، وقيل: هو يوباب ابن حفيد عيسو. وقيل: كان قبل إبراهيم بمائة سنة.والصحيح أنه كان بعد إبراهيم وقبل موسى في القرن الخامس عشر قبل المسيح، أي في القرن الحادي والعشرين قبل الهجرة. ويقال: إن الكتاب المنسوب إليه في كتب اليهود أصله مؤلف باللغة العربية وأن موسى عليه السلام نقله إلى العبرانية على سبيل الموعظة، فظن كثير من الباحثين في التاريخ أن أيوب من قبيلة عربية. وليس ذلك ببعيد. وكان أيوب رسولا نبيا. وكان له صاحب اسمه اليفاز اليماني هو الذي شد أزره في الصبر، كما سنذكره في موضعه. وإنما
منع اسمه من الصرف إذ لم يكن من عرب الحجاز ونجد؛ لأن العرب اعتبرت القبائل البعيدة عنها عجما، وإن كان أصلهم عربيا، ولذلك منعوا ثمود من الصرف إذ سكنوا الحجر.
ويونس هو ابن متي من سبط زبولون من بني إسرائيل، بعثه الله إلى أهل نينوى عاصمة الآشوريين، بعد خراب بيت المقدس، وذلك في حدود القرن الحادي عشر قبل الهجرة.
وهارون أخو موسى بن عمران توفي سنة 1972 قبل الهجرة وهو رسول مع موسى إلى بني إسرائيل.
وسليمان هو ابن داود. كان نبيا حاكما بالتوراة وملكا عظيما. توفي سنة 1597 قبل الهجرة. ومما أوحى الله به إليه ما تضمنه كتاب الجامعة وكتاب الأمثال من الحكمة والمواعظ، وهي منسوبة إلى سليمان ولم يقل فيها إن الله أوحاها إليه؛ فعلمنا أنها كانت موحى بمعانيها دون لفظها.
وداود أبو سليمان هو داود بن يسي، توفي سنة 1626 قبل الهجرة، بعثه الله لنصر بني إسرائيل. وأنزل عليه كتابا فيه مواعظ وأمثال، كان بنو إسرائيل يترنمون بفصوله، وهو المسمى بالزبور. وهو مصدر على وزن فعول مثل قبول. ويقال فيه: زبوربضم الزاي أي مصدرا مثل الشكور، ومعناه الكتابة ويسمى المكتوب زبورا فيجمع على الزبر، قال تعالى {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [آل عمران:184]. وقد صار علما بالغلبة في لغة العرب على كتاب داود النبي، وهو أحد أسفار الكتاب المقدس عند اليهود.
وعطفت جملة {وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً} على {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} . ولم يعطف اسم داود على بقية الأسماء المذكورة قبله للإيماء إلى أن الزبور موحى بأن يكون كتابا.
وقرأ الجمهور {زبورا} بفتح الزاي، وقرأه حمزة وخلف بضم الزاي.
وقوله: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} يعني في آي القرآن مثل: هود، وصالح، وشعيب، وزكريا، ويحيى، وإلياس، واليسع، ولوط، وتبع. ومعنى قوله {وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} لم يذكرهم الله تعالى في القرآن؛ فمنهم من لم يرد ذكره في السنة: مثل حنظلة بن صفوان نبي أصحاب الرس، ومثل بعض حكماء اليونان عند بعض علماء الحكمة. قال السهروردي في حكمة الإشراق منهم أهل السفارة. ومنهم من
ذكرته السنة: مثل خالد بن سنان العبسي.
وإنما ذكر الله تعالى هنا الأنبياء الذين اشتهروا عند بني إسرائيل لأن المقصود محاجتهم. وإنما ترك الله أن يقص على النبي صلى الله عليه وسلم أسماء كثير من الرسل للاكتفاء بمن قصهم عليه، لأن المذكورين هم أعظم الرسل والأنبياء قصصا ذات عبر.
وقوله {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} غير الأسلوب فعدل عن العطف إلى ذكر فعل آخر، لأن لهذا النوع من الوحي مزيد أهمية، وهو مع تلك المزية ليس إنزال كتاب من السماء، فإذا لم تكن عبرة إلا بإنزال كتاب من السماء حسب اقتراحهم، فقد بطل أيضا ما عدا الكلمات العشر المنزلة في الألواح على موسى عليه السلام.
وكلام الله تعالى صفة مستقلة عندنا. وهي المتعلقة بإبلاغ مراد الله إلى الملائكة والرسل، وقد تواتر ذلك في كلام الأنبياء والرسل تواترا ثبت عند جميع المليين، فكلام الله صفة له ثبتت بالشرع لا يدل عليها الدليل العقلي على التحقيق إذ لا تدل الأدلة العقلية على أن الله يجب له إبلاغ مراده الناس بل يجوز أن يوجد الموجودات ثم يتركها وشأنها، فلا يتعلق علمه بحملها على ارتكاب حسن الأفعال وتجنب قبائحها. ألا ترى أنه خلق العجماوات فما أمرها و لا نهى، فلو ترك الناس فوضى كالحيوان لما استحال ذلك. وأنه إذا أراد حمل المخلوقات على شيء يريده فطرها على ذلك فانساقت إليه بجبلاتها، كما فطر النحل على إنتاج العسل، والشجر على الإثمار،. ولو شاء لحمل الناس أيضا على جبلة لا يعدونها، غير أننا إذ قد علمنا أنه عالم، وأنه حكيم، والعلم يقتضي انكشاف حقائق الأشياء على ما هي عليه عنده، فهو إذ يعلم حسن الأفعال وقبحها، يريد حصول المنافع وانتفاء المضار، ويرضى بالأولى، ويكره الثانية، وإذ اقتضت حكمته وإرادته أن جعل البشر قابلا للتعلم والصلاح، وجعل عقول البشر صالحة لبلوغ غايات الخير، وغايات الشر، والتفنن فيهما، بخلاف الحيوان الذي يبلغ فيما جبل عليه من خير أو شر إلى غاية فطر عليها لا يعدوها، فكان من المتوقع طغيان الشر على الخير بعمل فريق الأشرار من البشر كان من مقتضى الحكمة أن يحمل الناس على فعل الخير الذي يرضاه، وترك الشر الذي يكرهه، وحملهم على هذا قد يحصل بخلق أفاضل الناس وجبلهم على الصلاح والخير، فيكونون دعاة للبشر، لكن حكمة الله وفضله اقتضى أن يخلق الصالحين القابلين للخير، وأن يعينهم على بلوغ ما جبلوا عليه بإرشاده وهديه، فخلق النفوس القابلة للنبوة والرسالة وأمدها بالإرشاد الدال على مراده المعبر عنه بالوحي، كما اقتضاه قوله
تعالى {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] فأثبت رسالة وتهيئة المرسل لقبولها ومن هنا ثبتت صفة الكلام. فعلمنا بأخبار الشريعة المتواترة أن الله أراد من البشر الصلاح وأمرهم به، وأن أمره بذلك بلغ إلى البشر في عصور كثيرة وذلك يدل على أن الله يرضى بعض أعمال البشر ولا يرضى بعضها وأن ذلك يسمى كلاما نفيسا، وهو أزلي.
ثم إن حقيقة صفة الكلام يحتمل أن تكون من متعلقات صفة العلم، أو من متعلقات صفة الإرادة، أو صفة مستقلة متميزة عن الصفتين الأخريين؛ فمنهم من يقول: علم حاجة الناس إلى الإرشاد فأرشدهم، أو أراد هدى الناس فأرشدهم. ونحن نقول: إن الإلهية تقتضي ثبوت صفات الكمال التي منها الرضا والكراهية والأمر والنهي للبشر أو الملائكة، فثبتت صفة مستقلة هي صفة الكلام النفسي؛ وكل ذلك متقارب، وتفصيله في علم الكلام.
أما تكليم الله تعالى بعض عباده من الملائكة أو البشر فهو إيجاد ما يعرف منه الملك أو الرسول أن الله يأمر أو ينهى أو يخبر. فالتكليم تعلق لصفة الكلام بالمخاطب على جعل الكلام صفة مستقلة، أو تعلق العلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب، أو تعلق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب. فالأشاعرة قالوا: تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكا من جهة السمع يتحصل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات. وقد ورد تمثيله بأن موسى سمع مثل الرعد علم منه مدلول الكلام النفسي. قلت: وقد مثله النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أبي هريرة "أن الله تعالى إذا قضى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم، قالوا للذي قال الحق وهو العلي الكبير" ، فعلى هذا القول لا يلزم أن يكون المسموع للرسول أو الملك حروفا وأصواتا بل هو علم يحصل له من جهة سمعه يتصل بكلام الله، وهو تعلق من تعلقات صفة الكلام النفسي بالمكلم فيما لا يزال، فذلك التعلق حادث لا محالة كتعلق الإرادة. وقالت المعتزلة: يخلق الله حروفا وأصواتا بلغة الرسول فيسمعها الرسول، فيعلم أن ذلك من عند الله، بعلم يجده في نفسه، يعلم به أن ذلك ورد إليه من قبل الله، إلا أنه ليس بواسطة الملك، فهم يفسرونه بمثل ما نفسر به نحن نزول القرآن؛ فإسناد الكلام إلى الله مجاز في الإسناد، على قولهم، لأن الله منزه عن الحروف والأصوات. والكلام حقيقة حروف وأصوات، وهذه سفسطة في الدليل لأنه لا يقول أحد بأن الحروف والأصوات تتصف بها الذات العلية. وهو عندنا وعندهم غير الوحي الذي يقع في قلب الرسول، وغير التبليغ الذي يكون بواسطة جبريل، وهو المشار إليه بقوله
تعالى {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى:51].
أما كلام الله الوارد للرسول بواسطة الملك وهو المعبر عنه بالقرآن وبالتوراة وبالإنجيل وبالزبور: فتلك ألفاظ وحروف وأصوات يعلمها الله للملك بكيفية لا نعلمها، يعلم بها الملك أن الله يدل، بالألفاظ المخصوصة الملقاة للملك، على مدلولات تلك الألفاظ فيلقيها الملك على الرسول كما هي قال تعالى {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى:51] وقال {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:193، 195]. وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدين. ولكن أمسك بعض أئمة الإسلام عن التصريح بحدوثه، أو بكونه مخلوقا، في مجالس المناظرة التي غشيتها العامة، أو ظلمة المكابرة، والتحفز إلى النبز والأذى: دفعا للإيهام، وإبقاء على النسبة إلى الاسلام، وتنصلا من غوغاء الطغام، فرحم الله نفوسا فتنت، وأجسادا أوجعت، وأفواها سكتت، والخير أرادوا، سواء اقتصدوا أم زادوا. والله حسيب الذين ألبوا عليهم وجمعوا، وأغروا بهم وبئس ما صنعوا.
وقوله {تكليما} مصدر للتوكيد. والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسبة وتحقيقها مثل قد وإن، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز، ولذلك أكدت العرب بالمصدر أفعالا لم تستعمل إلا مجازا كقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} فإنه أراد أنه يطهرهم الطهارة المعنوية، أي الكمال النفسي، فلم يفد التأكيد رفع المجاز. وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذم زوجها روح بن زنباع:
بكى الخز من روح وأنكر جلده
...
وعجت عجيجا من جذام المطارف
وليس العجيج إلا مجازا، فالمصدر يؤكد، أي يحقق حصول الفعل المؤكد على ما هو عليه من المعنى قبل التأكيد.
فمعنى قوله {تكليما} هنا: أن موسى سمع كلاما من عند الله، بحيث لا يحتمل أن الله أرسل إليه جبريل بكلام، أو أوحى إليه في نفسه. وأما كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفرق، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف. وقد حكى ابن عرفة أن المازري قال في شرح التلقين: إن هذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم: إن الله لم يكلم موسى مباشرة بل بواسطة خلق الكلام لأنه أكده بالمصدر، وأن ابن عبد السلام التونسي، شيخ ابن عرفة، رده بأن التأكيد بالمصدر لإزالة
الشك عن الحديث لا عن المحدث عنه. وتعقبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد رد ابن عبد السلام.
وقوله {رسلا} حال من المذكورين، وقد سماهم رسلا لما قدمناه، وهي حال موطئة لصفتها، أعني مبشرين؛ لأنه المقصود من الحال.
وقوله {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} تعليل لقوله {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} ولا يصح جعله تعليلا لقوله {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} لأن ذلك مسوق لبيان صحة الرسالة مع الخلو عن هبوط كتاب من السماء ردا على قولهم حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه. فموقع قوله {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} موقع الإدماج تعليما للأمة بحكمة من الحكم في بعثيته الرسل.
والحجة ما يدل على صدق المدعي وحقية المعتذر، فهي تقتضي عدم المؤاخذة بالذنب أو التقصير. والمراد هنا العذر البين الذي يوجب التنصل من الغضب والعقاب. فإرسال الرسل لقطع عذر البشر إذا سئلوا عن جرائم أعمالهم، واستحقوا غضب الله وعقابه. فعلم من هذا أن للناس قبل إرسال الرسل حجة إلى الله أن يقولوا: {لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص:47].
وأشعرت الآية أن من أعمال الناس ما هو بحيث يغضب الله ويعاقب عليه، وهي الأفعال التي تدل العقول السليمة على قبحها لإفضائها إلى الفساد والأضرار البينة. ووجه الإشعار أن الحجة إنما تقابل محاولة عمل ما، فلما بعث الله الرسل لقطع الحجة علمنا أن الله حين بعث الرسل كان بصدد أن يؤاخذ المبعوث إليهم، فاقتضت رحمته أن يقطع حجتهم ببعثة الرسل وإرشادهم وإنذارهم، ولذلك جعل قطع الحجة علة غائية للتبشير والإنذار: إذ التبشير والإنذار إنما يبينان عواقب الأعمال، ولذلك لم يعلل بعثة الرسل بالتنبيه إلى ما يرضي الله وما يسخطه.
فهذه الآية ملجئة جميع الفرق إلى القول بأن بعثة الرسل تتوقف عليها المؤاخذة بالذنوب، وظاهرها أن سائر أنواع المؤاخذة تتوقف عليها، سواء في ذلك الذنوب الراجعة إلى الاعتقاد، والراجعة إلى العمل، وفي وجوب معرفة الله. فإرسال الرسل عندنا من تمام العدل من الله لأنه لو لم يرسلهم لكانت المؤاخذة بالعذاب مجرد الإطلاق الذي تقتضيه الخالقية إذ لا يسأل عما يفعل، وكانت عدلا بالمعنى الأعم.
فأما جمهور أهل السنة، الذين تترجم عن أقوالهم طريقة الأشعري، فعمموا وقالوا: لا يثبت شيء من الواجبات، ولا مؤاخذة على ترك أو فعل إلا ببعثة الرسل حتى معرفة الله تعالى، واستدلوا بهذه الآية وغيرها: مثل {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وبالإجماع. وفي دعوى الإجماع نظر، وفي الاستدلال به على أصل من أصول الدين نظر آخر، وفي الاستدلال بالآيات، وهي ظواهر، على أصل من أصول الدين نظر ثالث، إلا أن يقال: إنها تكاثرت كثرة أبلغتها إلى مرتبة القطع، وهذا أيضا مجال للنظر، وهم ملجئون إلى تأويل هذه الآية، لأنهم قائلون بمؤاخذة أهل الفترة على إشراكهم بالله. والجواب أن يقال: إن الرسل في الآية كل إفرادي، صادق بالرسول الواحد، وهو يختلف باختلاف الدعوة. فأما الدعوة إلى جملة الإيمان والتوحيد فقد تقررت بالرسل الأولين، الذين تقرر من دعواتهم عند البشر وجوب الإيمان والتوحيد، وأما الدعوة إلى تفصيل الآيات والصفات وإلى فروع الشرائع، فهي تتقرر بمجيء الرسل الذين يختصون بأمم معروفة.
وأما المعتزلة فقد أثبتوا الحسن والقبيح الذاتيين في حالة عدم إرسال رسول؛ فقالوا: إن العقل يثبت به وجوب كثير من الأحكام، وحرمة كثير، لا سيما معرفة الله تعالى، لأن المعرفة دافعة للضر المظنون، وهو الضر الأخروي، من لحاق العذاب في الآخرة. حيث أخبر عنه جميع كثير، وخوف ما يترتب على اختلاف الفرق في معرفة الصانع قبل المعرفة الصحيحة من المحاربات، وهو ضر دنيوي، وكل ما يدفع الضر المظنون أو المشكوك واجب عقلا، كمن أراد سلوك طريق فأخبر بأن فيه سبعا، فإن العقل يقتضي أن يتوقف ويبحث حتى يعلم أيسلك ذلك الطريق أم لا، وكذلك وجوب النظر في معجزة الرسل وسائر ما يؤدى إلى ثبوت الشرائع. فلذلك تأولوا هذه الآية بما ذكره في الكشاف إذ قال فإن قلت: كيف يكون للناس على الله حجة قبل الرسل وهم محجوجون بما نصبه الله من الأدلة التي النظر فيها موصل إلى المعرفة، والرسل في أنفسهم لم يتوصلوا إلى المعرفة بالنظر في تلك الأدلة، أي قبل الرسالة. قلت: الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر مع تبليغ ما حملوه من أمور الدين وتعليم الشرائع؛ فكان إرسالهم إزاحة للعلة، وتتميما لإلزام الحجة. يعني أن بعثة الرسل رحمة من الله لا عدل، ولو لم يبعثهم لكانت المؤاخذة على القبائح عدلا، فبعثة الرسل إتمام للحجة في أصل المؤاخذة، وإتمام للحجة في زيادة التزكية أن يقول الناس: ربنا لم لم ترشدنا إلى ما يرفع درجاتنا في مراتب الصديقين وقصرتنا على مجرد النجاة من العذاب، حين اهتدينا لأصل التوحيد بعقولنا.
وقال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل خاصة لأنه رآه مبنى أصول الدين، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في التوضيح أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذم ويعاقب لأجلها؛ لأن وجوب تصديق النبي إن توقف على الشرع يلزم الدور وصرح أيضا بأنها تعرف بالشرع أيضا.
وقد ضايق المعتزلة الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا: لو لم تجب المعرفة إلا بالشرع للزم إفحام الرسل، فلم تكن للبعثة فائدة. ووجه اللزوم أن الرسول إذا قال لأحد: انظر في معجزتي حتى يظهر صدقي لديك، فله أن يقول: لا أنظر ما لم يجب علي، لأن ترك غير الواجب جائز، ولا يجب علي حتى يثبت عندي الوجوب بالشرع، ولا يثبت الشرع ما دمت لم أنظر، لأن ثبوت الشرع نظري لا ضروري. وظاهرهم الماتريدية وبعض الشافعية على هذا الاستدلال.
ولم أر للأشاعرة جوابا مقنعا، سوى أن إمام الحرمين في الإرشاد أجاب: بأن هذا مشترك الإلزام لأن وجوب التأمل في المعجزة نظري لا ضروري لا محالة، فلمن دعاه الرسول أن يقول: لا أتأمل في المعجزة ما لم يجب ذلك علي عقلا، ولا يجب علي عقلا ما لم أنظر، لأنه وجوب نظري، والنظري يحتاج إلى ترتيب مقدمات، فأنا لا أرتبها. وتبعه على هذا الجواب جميع المتكلمين بعده من الأشاعرة مثل البيضاوي والعضد والتفتزاني. وقال ابن عرفة في الشامل: إنه اعتراف بلزوم الإفحام فلا يزيل الشبهة بل يعممها بيننا وبينهم، فلم يحصل دفع الإشكال وكلام ابن عرفة رد متمكن.
والظاهر أن مراد إمام الحرمين أن يسقط استدلال المعتزلة لأنفسهم على الوجوب العقلي بتمحض الاستدلال بالأدلة الشرعية وهو مطلوبنا.
وأنا أرى أن يكون الجواب بأحد طريقين:
أولهما بالمنع وهو أن نمنع أن يكون وجوب سماع دعوة الرسول متوقفا على الإصغاء إليه، والنظر في معجزته، وأنه لو لم يثبت وجوب ذلك بالعقل يلزم إفحام الرسول، بل ندعي أن ذلك أمر ثبت بالشرائع التي تعاقب ورودها بين البشر، بحيث قد علم كل من له علاقة بالمدنية البشرية بأن دعاة أتوا إلى الناس في عصور مختلفة، ودعوتهم واحدة: كل يقول إنه مبعوث من عند الله ليدعو الناس إلى ما يريده الله منهم، فاستقر في نفوس البشر كلهم أن هنالك إيمانا وكفرا، ونجاة وارتباقا، استقرارا لا يجدون في نفوسهم سبيلا إلى دفعه، فإذا دعا الرسول الناس إلى الإيمان حضرت في نفس المدعو