كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
قلت: وكان الشان أن إجراء الأحكام الإسلامية عليه في الدنيا يقتضي أنه غير خالد إذ لا يعقل أن تجري عليه أحكام المسلمين وتنتفي عنه الثمرة التي لأجلها فارق الكفر إذ المسلم إنما أسلم فرارا من الخلود في النار فكيف يكون ارتكاب بعض المعاصي موجبا لانتقاض فائدة الإسلام، وإذا كان أحد لا يسلم من أن يقارف معصية وكانت التوبة الصادقة قد تتأخر وقد لا تحصل فيلزمهم ويلزم الخوارج أن يعدوا جمهور المسلمين كفارا وبئس منكرا من القول. على أن هذا مما يجرئ العصاة على نقض عري الدين إذ ينسل عنه المسلمون لانعدام الفائدة التي أسلموا لأجلها بحكم أنا الغريق فما خوفي من البلل ومن العجيب أن يصدر هذا القول من عاقل فضلا عن عالم، ثم الأعجب منه عكوف أتباعهم عليه تلوكه ألسنتهم ولا تفقهه أفئدتهم وكيف لم يقيض فيهم عالم منصف ينبري لهاته الترهات فيهذبها أو يؤولها كما أراد جمهور علماء السنة من صدر الأمة فمن يليهم.
القول الخامس: قالت الكرامية الإيمان هو الإقرار باللسان إذا لم يخالف الاعتقاد القول فلا يشترط في مسمى الإيمان شيء من المعرفة والتصديق، فأما إذا كان يعتقد خلاف مقاله بطل إيمانه وهذا يرجع إلى الاعتداد بإيمان من نطق بالشهادتين وإن لم يشغل عقله باعتقاد مدلولهما بل يكتفي منه بأنه لا يضمر خلاف مدلولهما وهذه أحوال نادرة لا ينبغي الخوض فيها. أو أرادوا أنه تجري عليه في الظاهر أحكام المؤمنين مع أن الكرامية لا ينكرون أن من يعتقد خلاف ما نطق به من الشهادتين أنه خالد في النار يوم القيامة، وفي تفسير الفخر أن غيلان الدمشقي وافق الكرامية.
هذه جوامع أقوال الفرق الإسلامية في مسمى الإيمان. وأنا أقول كلمة أربأ بها عن الانحياز إلى نصرة وهي أن اختلاف المسلمين في أول خطوات مسيرهم وأول موقف من مواقف أنظارهم وقد مضت عليه الأيام بعد الأيام وتعاقبت الأقوام بعد الأقوام يعد نقصا علميا لا ينبغي البقاء عليه. ولا أعرفني بعد هذا اليوم ملتفتا إليه.
لا جرم أن الشريعة أول ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام ليخرجوا بذلك من عقائد الشرك ومناوأة هذا الدين فإذا حصل ذلك تهيأت النفوس لقبول الخيرات وأفاضت الشريعة عليها من تلك النيرات فكانت في تلقي ذلك على حسب استعدادها، زينة لمعاشها في هذا العالم ومعادها. فالإيمان والإسلام هما الأصلان اللذان تنبعث عنهما الخيرات، وهما الحد الفاصل بين أهل الشقاء وأهل الخير حدا لا يقبل تفاوتا
ولا تشككا، لأن شأن الحدود أن تكون متفاوتة كما قال الله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: من الآية32] ولا يدعي أحد أن مفهوم الإيمان هو مفهوم الإسلام، فيكابر لغة تتلى عليه. كيف وقد فسره الرسول لذلك الجالس عند ركبتيه. فما الذين ادعوه إلا قوم قد ضاقت عليهم العبارة فأرادوا أن الاعتداد في هذا الذي لا يكون إلا بالأمرين وبذلك يتضح وجه الاكتفاء في كثير من مواد الكتاب والسنة بأحد اللفظين، في مقام خطاب الذين تحلوا بكلتا الخصلتين، فانتظم القولان الأول والثاني.
إن موجب اضطراب الأقوال في التمييز بين حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام أمران: أحدهما أن الرسالة المحمدية دعت إلى الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته وبصدق محمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بالغيب ودعت إلى النطق بما يدل على حصول هذا الاعتقاد في نفس المؤمن لأن الاعتقاد لا يعرف إلا بواسطة النطق ولم يقتنع الرسول من أحد بما يحصل الظن بأنه حصل له هذا الاعتقاد إلا بأن يعترف بذلك بنطقه إذا كان قادرا.
الثاني: أن المؤمنين الذين استجابوا دعوة الرسول لم تكن ظواهرهم مخالفة لعقائدهم إذ لم يكن منهم مسلم يبطن الكفر فكان حصول معنى الإيمان لهم مقارنا لحصول معنى الإسلام وصدق عليهم أنهم مؤمنون ومسلمون، ثم لما نبع النفاق بعد الهجرة طرأ الاحتياج إلى التفرقة بين حال الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام وبين حال الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر تفرقة بالتحذير والتنبيه لا بالتعيين وتمييز الموصوف، لذا كانت ألفاظ القرآن وكلام النبي تجري في الغالب على مراعاة غالب أحوال المسلمين الجامعين بين المعنيين وربما جرت على مراعاة الأحوال النادرة عند الحاجة إلى التنبيه عليها كما في قوله تعالى: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: من الآية14] وكما في قول النبي لمن قال له مالك عن فلان فوالله إني لأراه مؤمنا قال "أو مسلما".
فحاصل معنى الإيمان حصول الاعتقاد بما يجب اعتقاده، وحاصل معنى الإسلام إظهار المرء أنه أسلم نفسه لاتباع الدين ودعوة الرسول، قال تعالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35] الآية.
وهل يخامركم شك في أن الشريعة ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام لمجرد تعمير العالم الأخروي من جنة ونار لأن الله تعالى قادر على أن يخلق لهذين الموضعين خلقا يعمرونهما إن شاء خلقهما، ولكن الله أراد تعمير العالمين الدنيوي والأخروي،
وجعل الدنيا مصقلة النفوس البشرية تهيئها للتأهل إلى تعمير العالم الأخروي لتلتحق بالملائكة، فجعل الله الشرائع لكف الناس عن سيء الأفعال التي تصدر عنهم بدواعي شهواتهم المفسدة لفطرتهم، وأراد الله حفظ نظام هذا العالم أيضا ليبقى صالحا للوفاء بمراد الله إلى أمد أرادة، فشرع للناس شرعا ودعا الناس إلى اتباعه والدخول إلى حظيرته ذلك الدخول المسمى بالإيمان وبالإسلام لاشتراط حصولهما في قوام حقيقة الانضواء تحت هذا الشرع، ثم يستتبع ذلك إظهار تمكين أنفسهم من قبول ما يرسم لهم من السلوك عن طيب نفس. وثقة بمآلي نزاهة أو رجس. وذلك هو الأعمال ائتمارا وانتهاء وفعلا وانكفافا. وهذه الغاية هي التي تتفاوت فيها المراتب إلا أن تفاوت أهلها فيها لا ينقص الأصل الذي به دخلوا فإن الآتي بالبعض من الخير قد آتى بما كان أحسن من حاله قبل الإيمان، والآتي بمعظم الخير قد فاق الذي دونه، والآتي بالجميع بقدر الطاقة هو الفائز، بحيث إن الشريعة لا تعدم منفعة تحصل من أفراد هؤلاء الذين تسموا بالمؤمنين والمسلمين ومن تلك المراتب حماية الحوزة والدفاع عن البيضة، فهل يشك أحد في أن عمرو بن معد يكرب أيام كان لا يرى الانتهاء عن شرب الخمر ويقول: إن الله تعالى قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة: من الآية91] فقلنا لا. أنه قد دل جهاده يوم القادسية على إيمانه وعلى تحقيق شيء كثير من أجزاء إسلامه فهل يعد سواء والكافرين في كونه يخلد في النار.
فالأعمال إذن لها المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام لأنها مكملة المقصد لا ينازع في هذين أعني كونها في الدرجة الثانية وكونها مقصودة إلا مكابر. ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد في الصحاح في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعثه إلى اليمن فقال له "إنك ستأتي قوما من أهل الكتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - أي ينطقوا بذلك نطقا مطابقا لاعتقادهم- فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة" إلخ فلولا أن للإيمان وللإسلام الحظ الأول لما قدمه، ولولا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرق بينهما، لأن الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة مع توقع إجابته للدين رضى بالكفر وهو من الكفر فكيف يأمر بسلوكه المعصوم عن أن يقر أحدا على باطل، فانتظم القول الثالث للقولين.
ومما لا شبهة فيه أن استحقاق الثواب والعقاب على قدر الأعمال القلبية والجوارحية فالأمر الذي لا يحصل شيء من المطلوب دونه لا ينجي من العذاب إلا جميعه فوجب أن يكون من لم يؤمن ولم يسلم مخلدا في النار لأنه لا يحصل منه شيء من المقصود بدون الإيمان والإسلام، وأما الأمور التي يقرب فاعلها من الغاية بمقدار ما يخطو في طرقها فثوابها على قدر ارتكابها والعقوبة على قدر تركها، ولا ينبغي أن ينازع في هذا غير مكابر، إذ كيف يستوي عند الله العليم الحكيم رجلان أحدهما لم يؤمن ولم يسلم والآخر آمن وأسلم وامتثل وانتهى، إلا أنه اتبع الأمارة بالسوء في خصلة أو زلة فيحكم بأن كلا الرجلين في عذاب وخلود، وهل تبقى فائدة لكل مرتكب معصية في البقاء على الإسلام إذا كان الذي فر من أجله للإسلام حاصلا على كل تقدير وهو الخلود في النار حتى إذا أراد أن يتوب آمن يومئذ، وهل ينكر أحد أن جل الأمة لا يخلون من التلبس بالمعصية والمعصيتين إذ العصمة مفقودة فإذا كان ذلك قبل التوبة كفرا فهل يقول هذا العاقل إن الأمة في تلك الحالة متصفة بالكفر ولا إخال عاقلا يلتزمها بعد أن يسمعها، أفهل يموه أحد بعد هذا أن يأخذ من نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني الصلاة، إن الله سمى الصلاة إيمانا ولولا أن العمل من الإيمان لما سميت كذلك بعد أن بينا أن الأعمال هي الغاية من الإيمان والإسلام فانتظم القول الرابع والخامس لثلاثة الأقوال لمن اقتدى في الإنصاف بأهل الكمال.
ثم على العالم المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها فإن منها مقام موعظة وترغيب وترهيب وتبشير وتحذير، ومنها مقام تعليم وتحقيق فيرد كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المماذق فلا يحتج أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء عليه إذ هو متصف بها جميعا، فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد منها دالا على مساواة ذلك الواحد لبقيتها، فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير أو التحريض لم تكن دليلا على كون حقيقة أحدهما مركبة ومقومة من مجموعهما فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي أو بسياق التعليم والتبيين فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقوله سخيفة ناشئة عن قلة تأمل وإحاطة بموارد الشريعة وإغضاء عن غرضها ويؤول إلى تكفير جمهور المسلمين وانتقاض الجامعة الإسلامية بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره
شيء، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي.
أما مسألة العفو عن العصاة فهي مسألة تتعلق بغرضنا وليست منه، والأشاعرة قد توسعوا فيها وغيرهم ضيقها وأمرها موكول إلى علم الله إلا أن الذي بلغنا من الشرع هو اعتبار الوعد والوعيد وإلا لكان الزواجر كضرب في بارد الحديد وإذا علمتم أن منشأ الخلاف فيها هو النظر لدليل الوجوب أو الجواز علمتم خروج الخلاف فيها من الحقيقة إلى المجاز ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج والإباضية والمعتزلة ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد.
[9] {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9]
جملة {يُخَادِعُونَ} بدل اشتمال من جملة {يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: من الآية8] وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة. والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله، تقول العرب خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء.
والخداع فعل مذموم إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضا لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق:
استمطروا من قريش كل منخدع ... إن الكريم إذا خادعته انخدعا
وفي الحديث "المؤمن غر كريم" أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله: "والسعيد من وعظ بغيره" مع قوله: "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى المؤمن غر كريم فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر
الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة:
تلك الفتاة التي علقتها عرضا ... إن الحليم وذا الإسلام يختلب
فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فان كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها.
ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلا في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة: {يُخَادِعُونَ} أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به.
فأما التأويل في: {يُخَادِعُونَ} فعلى وجوه:
أحدها: أن مفعول خادع لا يلزم أن يكون مقصودا للمخادع بالكسر إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيل أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلانا وفلانا تعني الوكيل وموكله، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدين كان خداعهم راجعا لشارع ذلك الدين، وأما تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات ألسنهم وكبوات أفعالهم وهفواتهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبد الله بن ابن سلول، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: من الآية142] كما رجع إليه خداعهم للمؤمنين، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها، كل بما يلائمه.
الثاني: ما ذكره صاحب الكشاف أن: {يُخَادِعُونَ} استعارة تمثيلية تشبيها للهيئة الحاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإبقاء
عليهم، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم، بهيئة فعل المتخادعين.
الثالث: أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قصد المبالغة. قال ابن عطية عن الخليل: يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة، قال ابن عطية كأنه يرد فاعل إلى اثنين ولا بد من حيث إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعل اه. وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلين على وجه التبعية، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه: "يخدعون الله". وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله.
وأما التأويل في فاعل {يُخَادِعُونَ} المقدر وهو المفعول أيضا فبأن يجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومرسله وإما مجاز بالحذف للمضاف، فلا يكون مرادهم خداع الله حقيقة، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعا منهم ومخادعا لهم، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاء لهم على خداعهم فذلك غير لائق.
وقوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف "يخادعون" بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب يخدعون بفتح التحتية وسكون الخاء.
وجملة {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} حال من الضمير في {يُخَادِعُونَ} الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا. فيتعين أن الخداع في قوله {وَمَا يَخْدَعُونَ} عين الخداع المتقدم في قوله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ} فيرد إشكال صحة قصر الخداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين. وقد أجاب صاحب الكشاف بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضر فإنها قد استعملت أولا في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانيا وأريد منها لازم معنى الاستعارة وهو الضر لأن الذي يعامل بالمكر والاستخفاف يتصدى للانتقام من معامله فقد يجد قدرة من نفسه أو غرة من صاحبه
فيضره ضرا فصار حصول الضر للمعامل أمرا عرفيا لازما لمعامله، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازا أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولا استعارة ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم المعنى المستعار له، فالمعنى وما يضرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم، ويجيء تأويل معنى جعل أنفسهم شقا ثانيا للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تسوء عواقبه أنها فعل نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيل بني على خطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النفس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها، قال عمرو بن معد يكرب:
فجاشت علي النفس أول مرة ... فردت على مكروهها فاستقرت
وذكر ابن عطية أن أبا علي الفارسي أنشد لبعض الأعراب:
لم تدر ما لا ولست قائلها ... عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر نفسيك ممتريا ... فيها وفي أختها ولم تكد
يريد بأختها كلمة "نعم" وهي أخت "لا" والمراد أنها أخت في اللسان. وقلت ومنه قول عروة بن أذينة:
وإذا وجدت لها وساوس سلوة ... شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها
فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين.
واعلم أن قوله: {وَمَا يَخْادَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر العقل.
وقوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ} عطف على جملة: {وَمَا يَخْادَعُونَ} والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية، ومنه سمى الشاعر لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل
أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة، ولا يحسن لذلك كل أحد، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي، ولولا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن، فقولهم هو لا يشعر وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه فإن أجسامهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة. على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمتري فيه. واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]
لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفي واختير في قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] نفى العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب الكشاف قال: فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.
[10] {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10]
استئناف محض لعد مساويهم ويجوز أن يكون بيانيا لجواب سؤال متعجب ناشئ عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى: { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوما عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لا حق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} بيانا وهو أن في قلوبهم خللا تزايد إلى أن بلغ حد الأفن.
ولهذا قدم الظرف وهو {فِي قُلُوبِهِمْ} للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسئول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب. وتنوين {مَرَضٌ} للتعظيم. وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7].
والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجا غير تام وبمقدار الخروج يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت. وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضا يخرجها عن كمالها، وإطلاق
المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل:
فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبير بأدواء النساء طبيب
فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها.
والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم.
ومعنى {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} أن تلك الأخلاق الذميمية الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القريعي:
ورج الفتى للخير ما إن رأيته ... على السن خيرا لا يزال يزيد
وكذلك القول في الشر ولذلك قيل: من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل:
فإنك سوف تحلم أو تناهى ... إذا ما شبت أو شاب الغراب
وإنما كان النفاق موجبا لازدياد ما يقارنه من سيء الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في كتمه مساوئ الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب، وإليك بيان ما ينشأ عن النفاق من الأمراض الأخلاقية في الجدول المذكور هنا وأشرنا إلى ما يشير إلى كل خلق منها في الآيات الواردة أو في آيات أخرى في هذا الجدول:
رسم تخطيطي
اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليما وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي: الكذب القولي، والكذب الفعلي وهو الخداع، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقة بالنفس وبحسن السلوك، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكد هنوات أخرى، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيرا منه، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول، ولأن الكذب يعود فكر صاحبه بالحقائق المحرفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلفه واقعا، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأفن في العقل، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.
وأما نشأة العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفه فظاهرة، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأ من شعورهم بخداعه، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه، فرمته الناس عن قوس واحدة واجتني من ذلك أن يصير هزأة للناس أجمعين.
وقد رأيتم أن الناشئ عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشئ أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه، ولعل تنكير "مرض" في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويع أو تكثير، وتنكير الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادة النكرة نكرة.
وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلق هذا التولد وأسبابه وكان أمرا خفيا نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكنا من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من
غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن.
فجملة: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} خبرية معطوفة على قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} واقعة موقع الاستئناف للبيان، داخلة في دفع التعجب، أي أن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا ينال لأن في قلوبهم مرضا ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايدا مجعولا من الله فلا طمع في زواله. وقال بعض المفسرين: هي دعاء عليهم كقول جبير بن الأضبط:
تباعد عني فطحل إذ دعوته ... أمين فزاد الله ما بيننا بعدا
وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" .
وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} معطوف على قوله: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} إكمالا للفائدة فكمل بهذا العطف بيان ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة. وتقديم الجار والمجرور وهو {لَهُمْ} للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه.
والأليم فعيل بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مفعل وأصله عذاب مؤلم بصيغة اسم المفعول أي مؤلم من يعذب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلم هو المعذب دون العذاب كما قالوا جد جده، أو هو فعيل بمعنى فاعل من ألم بمعنى صار ذا ألم، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم بكسر اللام، فقيل لم يثبت عن العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحكيم والسميع بمعنى المسمع كقول عمرو بن معد يكرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
أي موجع، واختلف في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} الباء للسببية وقرأ الجمهور "يكذبون" بضم أوله وتشديد الذال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخباره بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8]، وعلى كذبهم العام في قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين.
والكذب ضد الصدق، وسيأتي عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة المائدة [103]. و"ما" المجرورة بالباء مصدرية، والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون.
[11] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}
يظهر لي أن جملة {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عطف على جملة في قلوبهم مرض؛ لأن قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} إخبار عن بعض عجيب أحوالهم، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا إنما نحن مصلحون في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفا على أقرب الجمل الملظة1 لأحوالهم وإن كان ذلك آيلا في المعنى إلى كونه معطوفا على الصلة في قوله: {مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] و"إذا" هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 152] الآية. ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} مع كونهم مفسدين، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي، لأن شأن الفساد أن لا يخفي ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل.
ـــــــ
1 الملظة: الملازمة.
وعندي أن هذا هو المقتضي لتقديم الظرف على جملة {قَالُوا...} ، لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم، ونكت الإعجاز لا تتناهى.
والقائل لهم: {لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شؤونهم لقرابة أو صحبة، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلما بأن النبي صلى الله عليه وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية. وفي جوابهم بقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} ما يفيد أن الذين قالوا لهم: {لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} ولا يصح أن يكون القائل لهم الله والرسول إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملا كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
وقد عن لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب:
أولها: إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد.
الثانية إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها، وإفسادهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه السلام: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27]
الثالثة إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفتن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين.
والإفساد فعل ما به الفساد والهمزة فيه للجعل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض.والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملا على مضرة، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال: فسد الشيء بعد أن كان صالحا ويقال: فاسد إذا وجد فاسدا من أول وهلة، وكذلك يقال: أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه، ويقال: أفسد إذا أوجد فسادا من أول الأمر. والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه. فالإفساد في الأرض منه تصيير
الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق والقتل للبراء، ومنه إفساد الأنظمة كالفتن والجور، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع، فلذلك حذف متعلق {تُفْسِدُوا} تأكيدا للعموم المستفاد من وقوع الفعل في حيز النفي.
وذكر المحل الذي أفسدوا ما يحتوي عليه وهو الأرض لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها. والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها، ونظيره قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]
وقوله تعالى {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد، أي جعل الشيء صالحا، والصلاح ضد الفساد يقال: صلح بعد أن كان فاسدا، ويقال: صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحا فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا. وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذا في ذلك. وأفاد {إِنَّمَا} هنا قصر الموصوف على الصفة ردا على قول من قال لهم: {لا تُفْسِدُوا} ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملا صالحا وفاسدا، فردوا عليهم بقصر القلب، وليس هو قصرا حقيقيا لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقيا ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في دلائل الإعجاز، واختير في كلامهم حرف إنما لأنه يخاطب به مخاطب مصر على الخطأ كما في دلائل الإعجاز وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمرا ثابتا دائما، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدوام.
[12] {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [البقرة:12]
رد عليهم في غرورهم وحصرهم أنفسهم في الصلاح فرد عليهم بطريق من طرق القصر هو أبلغ فيه من الطريق الذي قالوه لأن تعريف المسند يفيد قصر المسند على المسند إليه فيفيد قوله: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} قصر الإفساد عليهم بحيث لا يوجد في
غيرهم وذلك ينفي حصرهم أنفسهم في الإصلاح وينقضه وهو جار على قانون النقض وعلى أسلوب القصر الحاصل بتعريف الجنس وإن كان الرد قد يكفي فيه أن يقال إنهم مفسدون بدون صيغة قصر، إلا أنه قصر ليفيد ادعاء نفي الإفساد عن غيرهم. وقد يفيد ذلك أن المنافقين ليسوا ممن ينتظم في عداد المصلحين لأن شأن المفسد عرفا أن لا يكون مصلحا إذ الإفساد هين الحصول وإنما يصد عنه الوازع فإذا خلع المرء عنه الوازع وأخذ في الإفساد هان عليه الإفساد ثم تكرر حتى يصبح سجية ودأبا لا يكاد يفارق موصوفه.
وحرف "ألا" للتنبيه إعلانا لوصفهم بالإفساد.
وقد أكد قصر الفساد عليهم بضمير الفصل أيضا-كما أكد به القصر في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] كما تقدم قريبا ودخول "إن" على الجملة وقرنها بألا المفيدة للتنبيه وذلك من الاهتمام بالخبر وتقويته دلالة على سخط الله تعالى عليهم فإن أدوات الاستفتاح مثل ألا وأما لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه، فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما، ويدل ذلك أيضا على كمال ظهور مضمون الجملة للعيان لأن أدوات التنبيه شاركت أسماء الإشارة في تنبيه المخاطب.
وقوله {وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} محمله محمل قوله تعالى قبله: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] فإن أفعالهم التي يبتهجون بها ويزعمونها منتهى الحذق والفطنة وخدمة المصلحة الخالصة آيلة إلى فساد عام لا محالة إلا أنهم لم يهتدوا إلى ذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتخف بالأحلام الراجحة حتى ترى حسنا ما ليس بالحسن. وموقع حرف الاستدراك هنا لأن الكلام دفع لما أثبتوه لأنفسهم من الخلوص للإصلاح، فرفع ذلك التوهم بحرف الاستدراك.
[13] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ}
هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضا طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كلفه
ومتقياته، وكلت أذهانهم من ابتكار الحيل واختلاق الخطل. وحذف مفعول {آمِنُوا} استغناء عنه بالتشبيه في قوله {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أو لأنه معلوم للسامعين. وقوله: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل، واللام في الناس للجنس أو للاستغراق العرفي. والمراد بالناس من عدا المخاطبين، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء. قال عمرو ابن البراقة النهمي1:
وننصر مولانا ونعلم أنه ... كما الناس مجروم عليه وجارم
وقوله: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} استفهام للإنكار، قصدوا منه التبرؤ من الإيمان على أبلغ وجه، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيها بإيمان السفهاء تشنيعا له وتعريضا بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم: {كَمَا آمَنَ النَّاسُ} ، أنه يعني بالناس المسلمين.
والسفهاء جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة. والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السمؤال:
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل
والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه، وتطلقها على سوء التدبير للمال. قال تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] وقال {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: 282] الآية لأن ذلك إنما يجيء من ضعف الرأي. ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم، وليس ذلك لتحقيرهم، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار. وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتانا ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
وليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتا، ولا نفيا لأن القائلين لهم: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} ، هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين
ـــــــ
1 بنون مكسورة وسكون الهاء نسبة إلى نهم: بطن من همدان.
الذين لم يفشوا أمرهم فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد ولكنه شيء أطلع عليه نبيه، وكانت المصلحة في ستره، وقد اطلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي يتعلق بحكم النفاق والزندقة.
{أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ}
أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصارا للمؤمنين، ولولا جفاء قولهم {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين ولكنهم كانوا مضرب المثل قلت فأوجبت، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة، وأعلن ذلك بكلمة ألا المؤذنة بالتنبيه للخبر، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة. وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول.
"إن" هنا لتوكيد الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفا.
وألا كأختها المتقدمة في {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} .
وقوله {وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة {يَعْلَمُونَ} دون يشعرون خلافا للآيتين السابقتين لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شعورا ويكون الجهل به نفي شعور، بل هو وصف ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخلتين وعدم ثباتهم على دينهم ثباتا كاملا ولا على الإسلام كذلك كاف في النداء بسفاهة أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفي، وقد قالت العرب: السفاهة كاسمها. قال النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدى إلي غرائب الأشعار
وقال جزء بن كلاب الفقعسي:
تبغى ابن كوز والسفاهة كاسمها ... ليستاد منا أن شتونا لياليا
فظنهم أن ما هم عليه من الكفر رشد، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سفه يدل على انتفاء العلم عنهم. فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة.
[14] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ}
عطف {وَإِذَا لَقُوا} على ما عطف عليه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا} [البقرة: 11] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] والكلام في الظرفية والزمان سواء.
والتقييد بقوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} تمهيد لقوله: {وَإِذَا خَلَوْا} فبذلك كان مفيدا فائدة زائدة على ما في قوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] الآية فليس ما هنا تكرارا مع ما هناك، لأن المقصود هنا وصف ما كانوا يعلمون مع المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون. ونكتة تقديم الظرف تقدمت في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا}
ومعنى قولهم: {آمَنَّا} أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم: {آمَنَّا} الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية التي تلقب بها المؤمنون وعرفوا بها على حد قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [لأعراف: 156] أي كنا على دين اليهودية فلا متعلق بقوله: {آمَنَّا} حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره، أو أريد آمنا بما آمنتم به، والأول أظهر، ولقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ومجالس المؤمنين. ومعنى {قَالُوا آمَنَّا} أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب، أي نطقوا بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان.
وقوله: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} معطوف على قوله {وَإِذَا لَقُوا} والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا} فتمهيد له كما علمت، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون: {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] إنكارا لذلك، وواو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق وذلك أن السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم، وإنما لم يجعل مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل الواو في قوله: {وَإِذَا خَلَوْا} عل الحال، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان صالحا لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف
استقلال كلتيهما لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} مناد وحده بنفاقهم في هاته الحالة. كما يفصح عنه قوله: {وَإِذَا لَقُوا} الدال على أن ذلك في وقت مخصوص، وأما الثاني فلأن الأصل اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظا. ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان بالحال.
والشياطين جمع شيطان جمع تكسير وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة، طبيعتها الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: من الآية50] وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر، تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ} [الأنعام: 112] الخ.
ووزن شيطان اختلف فيه البصريون والكوفيون من علماء العربية فقال البصريون هو فيعال من شطن بمعنى بعد؛ لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية وقال الكوفيون هو فعلان من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر. ولا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول وهل إن نونه أصل أو زائد وإلا فإنه لا يظن بنحاة الكوفة أن يدعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون مثل غضبان، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [الحجر:17] وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيون أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل فعل الشيطان، فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط اه. وفي الكشاف: جعل سيبويه نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة اه.
والوجه أن تشيطن لما كان وصفا مشتقا من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقا مما اشتق منه الاسم بل من حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول فلا يكون قولهم ذلك مرجحا لأحد القولين.
وعندي أنه اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان، وقد كان لعرب العراق فيها السبق قبل انتقالهم إلى الحجاز واليمن، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في
أكثر اللغات القديمة. وكنت رأيت قول من قال إن اسمه في الفارسية سيطان.
و"خلوا" بمعنى انفردوا فهو فعل قاصر ويعدي بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدي بالى على تضمين معنى آب أو خلص ويعدي بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم "افعل كذا وخلاك ذم"1 أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك. وقد عدى هنا بالى ليشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم وأن لقاءهم للمؤمنين إنما هو صدفة ولمحات قليلة، أفاد ذلك كله قوله {لَقُوا} و {خَلَوْا} . وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها.
واعلم أنه حكي خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد، وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه حرف التأكيد في قوله {إِنَّا مَعَكُمْ} مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك؛ لأن المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم، فجاءت حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر. فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر.
وأما قولهم لقومهم {إِنَّا مَعَكُمْ} بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم. وكذلك قولهم {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم إن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق.
ـــــــ
1 أول من قاله قصير بن سعد الخمي لعمرو بن عدي ملك اللخميين من عرب العراقحين حرض قصيرا عمرا على الأخذ بتأر خاله جذيمة بن مالك الأبرش ملك اللخميين الذي قتلته الزباء العميليقية ملكة تدمر إذ خدعته وجلبته إلى بلدها وقتلته غيلة فملك اللخميون ابن أخته عمرو بن عدي وكان قصيرا وزيرا لجذيمة ولابن أخته فلما استصعب عمرو الأخذ بالثأر قال له قصير "اطلب الأمر وخلاك ذم" أي إن نجحت فذاك, وإلا فلا لوم عليك.
وقد وجه صاحب الكشاف العدول عن التأكيد في قولهم: {آمَنَّا} والتأكيد في قولهم: {إِنَّا مَعَكُمْ} ، بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر. وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكدا لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار.
وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا للقلب أي مؤمنون مخلصون، وجملة {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} تقرير لقوله {إِنَّا مَعَكُمْ} لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافا واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلا يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ، وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم: إنا معكم، ويدعي عكس ذلك، وإما أن تكون الجملة بدلا من {إِنَّا مَعَكُمْ} بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالي فيه وهو مقتضي {مَعَكُمْ} أي في تصلبكم فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم، والوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية.
والاستهزاء: السخرية يقال هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب، أي عامله فعلا أو قولا يحصل به احتقاره أو والتطرية به، سواء أشعره بذلك أم أخفاه عنه. والباء فيه للسببية قيل لا يتعدى بغير الباء وقيل يتعدى بمن، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام. وقرأ أبو جعفر "مستهزون" بدون همزة وبضم الزاي تخفيفا وهو لغة فصيحة في
المهموز.
[15] {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15]
{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين {آمَنَّا} [البقرة: من الآية8]، وقولهم لشياطينهم: {إِنَّا مَعَكُمْ} الخ. يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين، ومن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله: { اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} غاية الفخامة والجزالة. وهو أيضا واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف. وذكر {يَسْتَهْزِئُ} دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم. ولأجل اعتبار الاستئناف قدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي. ولم يقل يستهزئ الله بهم، لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول: من الذي يتولى مقابلة سوء صنيعهم فأعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى. وفي ذلك تنويه بشأن المنتصر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38] فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوى الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب الكشاف كما صرح به في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20]، كان الجمع بين قصد التقوى وقصد التخصيص جائزا في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في الكشاف عند قوله تعالى: {فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن: 13]، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حمل الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام، ولذلك يقال النكت لا تتزاحم.
كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبي صلى الله عليه وسلم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبي {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] فقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوى إذ لا مقتضى له.
وفعل {يَسْتَهْزِئُ} المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين، بما يشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم. والمضارع في قوله: {يَسْتَهْزِئُ} لزمن الحال. ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة. ويجوز أن يكون {يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في {يَسْتَهْزِئُ} للاستقبال، وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية، ويجوز أن يكون مرادا به جزاء استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازا ومشاكلة، أو مرادا به مآل الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم. وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى عنه كما في الكشاف وهو مبني على المتعارف بين الناس.
وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: من الآية14] لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه.
وجيء في قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زمانا إلى أن يأخذهم العذاب، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [آل عمران:196].
{وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}
يتعين أنه معطوف على {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ}
و"يمد" فعل مشتق من المدد وهو الزيادة، يقال مده إذا زاده وهو الأصل في
الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مدد ثم غلب استعمال مد في الزيادة في ذات المفعول نحو مد له في عمره ومد الأرض أي مططها وأطالها، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش {أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ} [الشعراء:133]
وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ} [المؤمنون: 55]، ويختص مد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب الحجة، ونقله ابن عطية عن يونس ابن حبيب، إلا المعدى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهال فيه عند الزمخشري وغيره خلافا لبعض اللغويين فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجل "بسكون الجيم" عن التفرقة بالهمز رجوعا للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي القصور وهو لام الجر، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جريا وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان. وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية، فلا يقال إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم؛ لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمال في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فرق وفرق ووعد وأوعد ونشد وأنشد ونزل المضاعف وأنزل، وقولهم العثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة، والعثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود.
وتعدية فعل "يمد" إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور وعلى طريقة نزع الخافض وليس بذلك.
والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران، وهو مبالغة في الطغي وهو الإفراط في
الشر والكبر وتعليق فعل {يَمُدُّهُمْ} هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله: {ِفي طُغْيَانِهِمْ} ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بعد.
والعمة انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله وعمه فهو عامه وأعمه.
وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله: {ويَمُدُّهُمْ} إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها. فالنفاق إذا دخل القلوب، كان من آثاره أن لا ينقطع عنها، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكوينها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلا من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ، فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بني الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو يزيدك وجهه حسنا وسرتني رؤيتك؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر: إنه من المجاز الذي لا حقيقة له.
وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل: في الطغيان، بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف[202]: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ} إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم. والظرف متعلق بيمدهم. و {يَعْمَهُونَ} جملة حالية.
[16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16]
{أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى}
الإشارة إلى من يقول {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] وما عطف على صلته من صفاتهم وجيء باسم إشارة الجمع لأن ما صدق "من" هو فريق من الناس، وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] فمضمونها بمنزلة التوكيد، وذلك مما يقتضي الفصل، ولتفيد تعليل مضمون جملة {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}فتكون استئنافا بيانيا لسائل عن العلة، وهي أيضا فذلكة للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل.
وموقع هذه الجملة من نظم الكلام مقابل موقع جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] ومقابل موقع جملة {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] الآية
واسم الإشارة هنا غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم وهذا استعمال كثير الورود في الكلام البليغ. وليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيرا ناشئا عن البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]؛ ولأن المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد معنى ثان فإن قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى البعيد فأفاد التعظيم. وعكس هذا قول قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
فأن الموت بعيد عنه فحقه أن يشير أليه باسم البعيد، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه به.
والاشتراء افتعال من الشري وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئا لرغبة فيه، ولما كان معنى البيع مقتضيا آخذين وباذلين كان كل منهما بائعا ومبتاعا باختلاف الاعتبار، ففعل باع
منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم آخذا لما صار بيده عبر عنه بمبتاع ومشتر، وإن اعتبره باذلا لما خرج من يده من العوض، عبر عنه ببائع وشار، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سنن واحد. وقد ذكر كثير من اللغويين ان شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] فتوهموا الضمير عائدا إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف: 19] أي باعوه، وحسبك شاهدا على ذلك قوله: {وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله: {لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى} [يوسف: 21]
وعلى ذينك الاعتبارين في فعلي الشراء والبيع كانت تعديتهما إلى المفعول فهما يتعديان إلى المقصود الأصلي بأنفسهما وإلى غيره بالباء فيقال باع فرسه بألف وابتاع فرس فلان بألف لأن الفرس هو الذي كانت المعاقدة لأجله لأن الذي أخرجه ليبيعه علم أن الناس يرغبون فيه والذي جاء ليشتريه كذلك.
وإطلاق الاشتراء هنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على شيء والزهد في ضده أي حرصوا على الضلالة، وزهدوا في الهدى إذ ليس في ما وقع من المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مهتدين.
ويجوز أن يكون الاشتراء مستعملا في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور. قال بشامة بن حزن:
إنا بني نهشل لا ندعى لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا
أي يبيعنا أي يبدلنا، وقال عنترة بن الأخرس المعنى من شعراء الحماسة:
ومن إن بعت منزلة بأخرى ... حللت بأمره وبه تسير
أي إذا استبدلت دارا بأخرى. وهذا بخلاف قول أبي النجم:
أخذت بالجمة رأسا أزعرا ... وبالطويل العمر عمرا جيدار
فيكون الحمل عليه هنا أن اختلاطهم كما اشترى المسلم إذ تنصرا بالمسلمين وإظهارهم الإيمان حالة تشبه حال المهتدي تلبسوا بها فإذا خلوا إلى شياطينهم طرحوها واستبدلوها بحالة الضلال وعلى هذا الوجه الثاني يصح أيضا أن يكون الاشتراء استعارة بتشبيه تينك الحالتين بحال المشتري لشيء كان غير جائز له وارتضاه في الكشاف.
والموصول في قوله: {الَّذِينَ اشْتَرَوُا} بمعنى العرف بلام الجنس فيفيد التركيب قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي باعتبار أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص عليها إذ جمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بالمهتدين.
{فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ}
رتبت الفاء عدم الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن كليهما ناشئ عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور؛ لأنهم لما اشتروا الضلالة بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق أنهم لم يكونوا مهتدين فعدم الاهتداء وإن كان سابقا على اشتراء الضلالة بالهدى أو هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدما فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند حصول أثره وهو ذلك الاشتراء، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر فلذلك صح ترتيبه بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية، ولهذا عبر بـ {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} دون ما اهتدوا لأن ما كانوا أبلغ في النفي لإشعاره بأن انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع.
والربح هو نجاح التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر ويطلق الربح على المال الحاصل للتاجر زائدا على رأس ماله. والتجارة بكسر أوله على وزن فعالة وهي زنة الضائع ومعنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله. ولما كان ذلك لا ينجح إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الضائع ونفى الربح في الآية تشبيه لحال المنافقين إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال إنهم إذا لم يربحوا فقد بقى لهم نفع رأس المال ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه إذ الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما هو مقرر في فن البيان.
وإنما أسند الربح إلى التجارة حتى نفى عنها لأن الربح لما كان مسببا عن التجارة وكان الرابح هو التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي وذلك أنه لولا
الإسناد المجازي لما صح أن ينفي عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير
"ونمت وما ليل المطي بنائم"
بخلاف قولك ما ليله بطويل، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ووصفها بالربح مجاز وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفى لو كان مثبتا فإن وجدت إثباته مجازا عقليا فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفي إلا ما يصح أن يثبت. وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتزاني في المطول، وعدل عنها في حواشي الكشاف وهي أمثل مما عدل إليه.
وقد أفاد قوله {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} ترشيحا للاستعارة في {اشْتَرَوُا} فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفي المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول له يد طولى أو هو أسد دامي البراثن أم كان الترشيح متميزا به أو مستعارا لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح ترشح به {اشْتَرَوُا} . ومثله قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي كما في أساس البلاغة للزمخشري ولم يعزه:
ولما رأيت النسر عز ابن داية ... وعشش في وكريه جاش له صدرى1
فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فتاك العرب في أمه أنشده في الكشاف ولم أقف على تعيين قائله :
وما أم الردين وإن أدلت ... بعالمه بأخلاق الكرام
ـــــــ
1 عز وغلب, وابن داية من أسماء الغراب, سمي ابن داية لسواده, لأن الداية: الحاضنة, وكانت حواضن أبناء العرب والمشتغلات في شؤونهم في بيوت أكابرهم هن الإماء السود, فيطلق على الصبيان من أبناء ا؟لإماء ابن داية تأنيسا له لئلا يقال العبد أو الوصيف.
إذا الشيطان قصع في قفاها ... تنفقناه بالحبل التؤام
فإنه لما استعار قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء. وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا تبعا للأولى. والآية ليست من هذا القبيل. وقوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} قد علم من قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} إلى {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله: {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعلوم أنه لم يبق فيهم هدى.
ومعنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي أنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين. وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح، فيقع في الخسران. فقوله: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الخسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتديا أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه.
[17] {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17]
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}
أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة وهذه طريقة تشبيه التمثيل، إلحاقا لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة، لأن النفس إلى المحسوس أميل.
وإتماما للبيان بجمع المتفرقات في السمع، المطالة في اللفظ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعا من نفوس السامعين.
وتقرير الجمع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفا لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها. قال في الكشاف: ولضرب العرب الأمثال واستحضار
العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد.
واستدلالا على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه.
وتقريبا لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به. قال في الكشاف ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] اهـ.
والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم.
وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل.
فجملة: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف، والحالة التي وقع تمثيلها سيجيء بيانها في آخر تفسير الآية.
وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه، ويقال أيضا مثل بكسر الميم وسكون الثاء، ويقال مثيل كما يقال شبه وشبه وشبيه، وبدل وبدل، وبديل، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فعل وفعل وفعيل بمعنى واحد.
وقد اختص لفظ المثل "بفتحتين" بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا، أم لم تشبه كما في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} [الرعد: من الآية35]
وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعا لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعا لذكره فيسمى مثلا وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريبا.
فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة، وأنهم لا يكادون يضربون مثلا ولا يرونه أهلا للتسيير وجديرا بالتداول إلا قولا فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى،فالمثل قول عزيز ليس في متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة1 أي العزة مثل قولهم الصيف ضيعت اللبن وقولهم لا يطاع لقصير أمر وستعرف وجه ذلك.
ولما شاع إطلاق لفظ المثل بالتحريك على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعنى وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معا أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالا مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى: {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ} [الرعد: 14] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالبا نحو الآية هنا، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} [يونس: 24] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسيا من أصل وضعه ومستعملا في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى: {كَمَثَلِ} دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضي في شرح الحاجبية، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} وقوفا مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ} ولم يستغن عن الكاف.
ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعة بعلاقة المشابهه استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]
ـــــــ
1 أشرت بتفسير معنى الغراية لدفع الحيرة الواقعة في المراد من قول صاحب "الكشاف" "إلا قولا فيه غرابة الخ" فقد فسرها الطيبي بغموض الكلام وكونه نادرا معنى ولفظا وهذا لايطرد وقد سكت عنه الشارحان: السعد والسيد, وقد حام حوله الخفاجي.
وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجيء في أربعة أقسام:
الأول: ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا.
الثاني" ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم: إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى.
الثالث" تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة بهيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه، وقد كنت أعد مثالا لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبئ بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة، وموجب شهرتها سيأتي ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصدا من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيها بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على المشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبي تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي:
وقل لمن لام في التصابي ... خل قليلا عن الطريق
فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض: خل عن الطريق.
رابعها: تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندى:
ذكرتك والخطي يخطر بيننا ... وقد نهلت مني المثقفة السمر
فأثبت النهل للرماح تشبيها لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولا ثم أتى بنهلت على وجه التبعية، ومن هذا القسم عند التفتزاني الاستعارة في "على" من قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وقد تقدم الكلام عليه هناك.
فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بموروده، وهو الذي وعدت بذكره آنفا فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكر السامع بتلك الحالة، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة. وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزا إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزا للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب الكشاف وصاحب المفتاح إذ جعل صاحب الكشاف سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال :ولم يضربوا مثلا ولا رأوه أهلا للتسيير، ولا جديرا بالتداول إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمى من التغيير فتردد شراحه في مراده من الغرابة، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث: رب رمية من غير رام. أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] إذ جعل القتل حياة. وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر "أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب"1 أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من
ـــــــ
1 الجذيل والعذيق – بوزن التصغير – فالجذيل تصغير جذل وهو أصل الشجرة. والمحكك بصيغة==
غير رام. أو فيه مشاكلة نحو: كما تدين تدان. أراد كما تفعل تجازى. وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولا بديعا خاصيا إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن. وأما صاحب المفتاح فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال: ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير اه. وإلى طريقته مال التفتزاني والسيد. وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه. ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيرا وتأنيثا وغيرهما. فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق قول شبه مضربه بمورده أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضربا لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى: {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة: 26] وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها، سميت موردا لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد. و {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} مفردا مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه، بحال من استوقد نارا.
واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في الحماسة.
نستوقد النبل بالحضيض ونصطاد ... نفوسا بنت على الكرم
ـــــــ
== اسم المفعول بمعنى المحكك عليه أي تتحكك عليه أي تحكك عليه الإبل الجرباء فيصير صلبا بعد أن يزول قشره. والعذيق: تصغير عذق – بفتح العين- وهو النخلة, والمرجب بصيغة اسم المفعول الذي جعلت له رجبة- بضم الراء وسكون الجيم- وهي دعامة تبنى حوله لئلا ينقعر أسفله. وهو مثل يضرب لمن خبر الأمور وجربها حتى صار الناس يستشفون برأيه. قاله الحباب الأنصاري يوم السقيفة.
أراد وقودا يقع عند الرمي بشدة. وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد. وقوله:
{فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ}
مفرع على {اسْتَوْقَدَ} . و {لِمَا} حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنة المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن.
مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حم، والمسبب على السبب، {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً} [هود: من الآية77] وقول عمرو بن معد يكرب:
لما رأيت نساءنا ... يفحصن بالمعزاء شدا
نازلت كبشهم ولم ... أر من نزال الكبش بدا
ومثال المقارن المهيأ قول امرئ القيس:
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى ... بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل
هصرت بفودي رأسها فتمايلت ... على هضيم الكشح ريا المخلخل
ومثال المقارن الحاصل اتفاقا {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو....}1 [العنكبوت: من الآية31] وقوله: {وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ} [يوسف: من الآية69]. فمن ظن أن لما تؤذن بالسببية اغترارا بقولهم وجود لوجود حملا للام في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططا ولم يجد من كلام الأئمة فرطا.
وأضاء يجيء متعديا وهو الأصل لأن مجرده ضاء فتكون حينئذ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني.
أضاءت لهم أحسابهم ووجوهم ... دجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه
ـــــــ
في المطبوعة {سَلاماً} بدل {إِنَّا مُهْلِكُو} وهو خلط بين آيتين.
ويجيء قاصرا بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرئ القيس يصف البرق:
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل
والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها، فيكون ما حوله موصولا مفعولا لأضاءت وهو المتبادر. وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها، ويكون ما حوله على هذا ظرفا للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها.
و {حَوْلَهُ} ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن {مَا حَوْلَهُ} يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصا إلا بعناء.
وجمع الضمير في قوله {بِنُورِهِمْ} مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله :{مَا حَوْلَهُ} مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى الذي، قريبا من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة:
وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن ... مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد
وهذا رجوع بديع، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} [البقرة: من الآية19] وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعا واحدا في المشبه والمشبه به، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه. وهذا يقتضي أن تكون جملة {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} جواب {لما} فيكون جمع ضمائر {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز. وقريب منه قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ. وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ
قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف:22-24]
فقوله: {أُرْسِلْتُمْ} حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ}
وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في الآية بعدها من قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه. وجوز صاحب الكشاف أن يكون قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} استئنافا ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} ويكون جواب لما محذوفا دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف.
ومعنى {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفيء، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: من الآية15] و {ذَهَبَ} المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ} [يوسف: من الآية15] وأذهبه جعله ذاهبا بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهابا لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيدا معنى أذهبه، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله {يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ} [البقرة: من الآية258] وقوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} [ يوسف: من الآية100] ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون: ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه. ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه. وضمير المفرد في قوله: {مَا حَوْلَهُ} مراعاة للحال المشبهة.
واختيار لفظ النور في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة، وعبر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله {بِنُورِهِمْ}
{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ}
هذه الجملة تتضمن تقريرا لمضمون {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : لأن من ذهب نوره بقى في ظلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : يفيد أنهم لما استوقدوا نارا فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} تذكيرا بذلك وتنبيها إليه. فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة
نداماي بيض كالنجوم وقينة ... تروح إلينا بين برد ومجسد
فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها. وتفيد هذه الجملة أيضا أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد، على ما في قوله {وَتَرَكَهُمْ} من إفادة تحقيرهم، وما في جمع {ظُلُمَاتٍ} من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمنا من جملة {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} : وما يقتضيه جمع {ظُلُمَاتٍ} من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي. وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل.
وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئا كان مقارنا له في موضع وإبقاءه في ذلك الوضع. وكثيرا ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازا عن معنى صير أو جعل. قال النابغة:
فلا تتركني بالوعيد كأنني ... إلى الناس مطلي به القار أجرب
أي لا تصيرني بهذه المشابهة، وقول عنترة:
جادت عليه كل عين ثرة ... فتركن كل قرارة كالدرهم
يريد صيرن، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة، أو عن تحقيره كما في هذه الآية.
والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صير حتى يكون منصوبه الثاني مفعولا، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالا، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولا إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة
فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظا.
وجمع {ظُلُمَاتٍ} لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63] وقول النبي صلى الله عليه وسلم "الظلم ظلمات يوم القيامة" فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى: {وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] في سورة الفرقان، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم، للواحد، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم، وصيغة الجمع من ذلك القبيل، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفردا، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقا في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام: 1] في سورة الأنعام بخلاف قوله تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} [الزمر:6] مقصود بقرينة وصفه بثلاث. ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد، ويتعين في هذه الآية أن جمع {ظُلُمَاتٍ} شير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي: حالة الكفر، وحالة الكذب، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.
وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نورا وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عود بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم. وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة {لا يُبْصِرُونَ} لتصوير حال من انطفأ نوره بعد أن استضاء به.
ومفعول {لا يُبْصِرُونَ} حذوف لقصد عموم نفي المبصرات فنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم، كقول البحتري:
شجو حساده وغيظ عداه ... أن يرى مبصر ويسمع واع
وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتمادا على فطنة السامع لأنه يمخضه
من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [بقرة: 8] إلخ ومما يتضمنه المثلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها. فإن إظهارهم الإيمان بقولهم {آمَنَّا بِاللَّهِ} وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة:11] وقولهم عند لقاء المؤمنين {آمَنَّا} [البقرة:14] أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاة والصدقة مع المسلمين ويصدر منهم طيب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبة حالة تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه، متل ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.
ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيأة المشبه بها ومقابلتها للهيأة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيأة أحوالهم بجزء مفرد من الهيأة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار، وشبه كفرهم بالظلمات، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.
[18] {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ}
أخبار لمبتدأ محذوف هو ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير {مَثَلُهُمْ} ولا يصح أن يكون عائدا على الذي استوقد لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخره لأن قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لما تأتي منه الاستيقاد، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عرف للسامع فيقولون: فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على تقدير هو فلان. ومنه قوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [النبأ:37,36] التقدير هو رب السماوات عدل عن جعل رب بدلا من ربك، وقول الحماسي1:
ـــــــ
1 من "الحماسة" في باب الأضياف غير منسوب, ونسبه الشريف المرتضى في "أماليه" لإبراهيم بن العباس الصولي. وقيل لعبد الله بن الزبير. وقيل لمحمد بن سعيد الكاتب, وعمرو المذكور هو عمرو بن سعد بن العاص الملقب بالأشدق.
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
وسمى السكاكي هذا الحذف الحذف الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه. والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان. قال صاحب الكشاف فإن قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون اهـ. أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معا فهو تشبيه، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لولا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد:
قامت تظللني من الشمس ... نفس أعز علي من نفسي
قامت تظللني ومن عجب ... شمس تظللني من الشمس
أن قوله شمس استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله نفس أعز، وضميرها في قوله قامت تظللني وكذا إذا كان لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعا من الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طباطبا:
لا تعجبوا من بلي غلالته ... قد زر أزراره على القمر
فإن الضمير لم يذكر ليبني عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه.
والصم والبكم والعمي جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي. فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعا، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق، والعمى انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار.
وقوله: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} تفريع على جملة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} لأن من اعتراه هذه
الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب. والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر.
[19] {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ}
{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ}
عطف على التمثيل السابق وهو قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه.
وقد استقريت من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرئ القيس في معلقته:
أصاح ترى برقا أريك وميضه ... كلمع اليدين في حبي مكلل
يضيء سناه أو مصابيح راهب ... أمال السليط بالذبال المفتل
وقول لبيد في معلقته يصف راحلته:
فلها هباب في الزمام كأنها ... صهباء خف مع الجنوب جهامها
أو ملمع وسقت لأحقب لاحه ... طرد الفحول وضربها وكدامها1
وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة
ـــــــ
1 الهباب- بكسر الهاء- مصدر كالهبوب وهو النهوض والنشاط. والصبهاء: السحابة المائل لونها للواد. والجهام: السحاب لامطر فيه وهو خفيف السير. والملمع: التي استبان حملها, وأراد الأتان ووسقت: حملت. والأحقب: هو حمار الوحش وقوله: لأحقب أي من أحقب. ولاحه: غيره وطرد الفحول: خصامها. والبكدام- بكسر الكاف- العض.
أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما:
أفتلك أم وحشية مسبوعة ... خذلت وهادية الصوار قوامها1
وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث:
وثب المسحج من عانات معلقة ... كأنه مستبان الشك أو جنب
ثم قال:
أذاك أم نمش بالوشي أكرعه ... مسفع الخد غاد ناشع شبب
ثم قال:
أذاك أم خاضب بالسي مرتعه ... أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب2
وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر: 29] الآية ثم قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ} [النحل: 76] الآية. وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} [فاطر:19-21] الآية. بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الانبياء: 15]. وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفردا تعز استطاعة تكريره.
و"أو" عطفت لفظ "صيب" على {الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة: 17] بتقدير مثل بين الكاف وصيب. وإعادة حرف التشبيه مع حرف العطف المغنى عن إعادة العامل، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه
ـــــــ
1 المسبوعة: التي أكل السبع ولدها. وخذلت بمعنى تأخرت عن صواحبها في الرواح. والهادية المتقدمة. والصوار – بكسر الصاد- قطيع الغنم. والقوام – بكسر القاف- ما به يقوم الأمر أي تأخرت النعجة الوحشية ولم تهتد بمقدمة القطيع.
2 قوله: أذاك: الإشارة إلى حمار الوحش في الأبيات قبله وهو الذي أراده بالمسحج. والمسحج: المكدوم وهو من الصفات الغالبة على حمار الوحش لأنه لا يخلوا عن كدام في جلده من العراك مع الحمر والنمش – بكسر الميم – الذي به النمش بفتحها وهو نقط بيض وسود وأراد به الثور الوحشي. والوشي: التخطيط والمسفع: الأسود والشبب: المسن من ثيران الوحش. وقوله خاضب أراد ذكر النعام فإنه إذا أكل بقل الربيع أحمرت ساقاه. والسي- بكسر السين وتشديد الياء – المستوي من الأرض. وأبو الثلاثين أي له ثلاثين فرخا وذلك عدد ما يبيض النعام. ومنقلب: راجع لفراخه فهو شديد السير.
وهم في الغالب لا يكررونه في العطف.
والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مثلت في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] بنوع إطلاق وتقييد.
فقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} دل على تقدير قوم قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وقوله: {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] الآية. لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يجيء فيه ما جاز في قوله: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] الخ. فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانين في مساكنهم كما علم ذلك من قوله: { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} [البقرة: 20] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم مما اتصل به الرعد والصواعق ضر ولم ينفع المارين بها وأضر بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغيث وارد. وفي الحديث الصحيح "مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكان منها نقية" الخ. وفي القرآن {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20]. ولا تجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني، ومنه أخذ أبو الطيب قوله:
فتى كالسحاب الجون يرجى ويتقى ... يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق
والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر. والرعد لقوارع القرآن وزواجره. والبرق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل.
والصيب فيعل من صاب يصوب صوبا إذا نزل بشدة، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل.
والظاهر أن قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به
لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس:
كجلمود صخر حطه السيل من علٍ
إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير، وكقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: من الآية38]، وقوله: {كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 71] وقال تعالى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [لأنفال: 32].
والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى: {كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [ابراهيم: 24} وتطلق على السحاب، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر سماء الخ، ولما كان تكون المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن.
ويمكن أن يكون قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} تقييدا للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في الكشاف على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كل ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله: {مِنَ السَّمَاءِ} قيدا للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عاليا كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريبا من الأرض غير مرتفع. وضمير "فيه" عائد إلى "صيب" والظرفية مجازية بمعنى معه، والظلمات مضى القول فيه آنفا.
والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطرا وبرقا وتسمى سارية. والرعد أصوات تنشأ في السحاب. والبرق لامع ناري مضيء يظهر في السحاب، والرعد والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق.
وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد
بأنها تسر أقواما وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم.
[20] {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الأظهر أن تكون جملة {يَجْعَلُونَ} حالا اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت مجملة، وأما جملة {يَكَادُ الْبَرْقُ} فيجوز كونها حالا من ضمير {يَجْعَلُونَ} لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها استئنافا لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد. وجملة {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} حال من "البرق" أو من ضمير "أبصارهم" لا غير، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمى عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه. وقوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق.
وقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل. وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل فالضمائر التي في جملة: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} راجعة إلى أصل الكلام، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق. فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن الخطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلا عن جمهور المفسرين وهو مجاز شائع، يقال فلان يرعد ويبرق، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولا، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيها على وجه الشبه وتقريرا لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق
في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز. وجعل في الكشاف الجمل الثلاث مستأنفا بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافا عن جملة {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة:19] والثانية وهي: {يَكَادُ الْبَرْقُ} مستأنفة عن جملة {يَجْعَلُونَ} لأن الصواعق تستلزم البرق، والثالثة وهي: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ} مستأنفة عن قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ} والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا إليه آنفا.
والجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب الكشاف بقوله هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ومنه قولك مسحت بالمنديل، ودخلت البلد، وقيل ذلك مجاز في الأصابع، وقيل مجاز في الجعل ولمن شاء أن يجعله مجازا في الظرفية فتكون تبعية لكلمة في.
ومن في قوله: {مِنَ الصَّوَاعِقِ} للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ لا داعي إليه، ونظير هذا قولهم سقاء من العيمة بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة اللبن لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا.
والصواعق جمع صاعقة وهي نار تندفع من كهربائية الأسحبة كما تقدم آنفا. وقوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معا.
ومن بديع هذا التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول دعوة النبي وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في مفرداته إلى تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق شديد يكاد يذهب بأبصارهم وهم في حيرة بين السير وتركه. وقوله
{وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] الخ كما تقدم إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض.
والإحاطة استعارة للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على طريقة التبعية أو التمثيلية وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على الهيئة المشبهة بها وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم على سوء صنعهم.
والخطف الأخذ بسرعة.
و"كلما" كلمة تفيد عموم مدخولها، و"ما" كافة لكل عن الإضافة أو هي مصدرية ظرفية أو نكرة موصوفة فالعموم فيها مستفاد من كلمة "كل". وذكر "كلما" في جانب الإضاءة وإذا في جانب الإظلام لدلالة كلما على حرصهم على المشي وأنهم يترصدون الإضاءة فلا يفيتون زمنا من أزمان حصولها ليتبينوا الطريق في سيرهم لشدة الظلمة.
و {أَضَاءَ} فعل يستعمل قاصرا ومتعديا باختلاف المعنى كما تقدم في قوله: {فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17]
وأظلم يستعمل قاصرا كثيرا ويستعمل متعديا قليلا والظاهر أن {أَضَاءَ} هنا متعد فمفعول {أَضَاءَ} محذوف لدلالة مشوا عليه وتقديره الممشى أو الطريق أي أضاء لهم البرق الطريق وكذلك أظلم أي وإذا أظلم عليهم البرق الطريق بأن أمسك وميضه فإسناد الإظلام إلى البرق مجاز لأنه تسبب في الإظلام. ومعنى القيام عدم المشي أي الوقوف في الموضع.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} مفعول "شاء" محذوف لدلالة الجواب عليه وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلا بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو ما شاء الله كان أي ما شاء كونه كان ومثل وقوعه شرطا للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6,7] قال الشيخ في دلائل الإعجاز: إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول الشاعر هو إسحاق الخريمي مولى بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثى أبا
الهيذام الخريمي حفيده ابن ابن عمارة.
ولو شئت أن أبكي دما لبكيته ... عليه ولكن ساحة الصبر أوسع
وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع الخ كلامه وتبعه صاحب الكشاف وزاد عليه أنهم لا يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب الخ وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذ يكون كثيرا. وعندي أن الحذف هو الأصل لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام وهذا هو الغالب في كلام العرب، قال طرفة: وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت. وتارة يبين بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ} [الانبياء: 17] ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفا إما من الأول أو من الثاني. وقد يوهم كلام أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك فقد قال الله تعالى {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14] فإن إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري.
وإن شئت فازعم أن من فوق ظهرها ... عبيدك واستشهد إلهك يشهد
فإن زعم ذلك زعم غريب.
والضمير في قوله {بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال المنافقين لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب أهل الصيب المشبه بحالهم بمقتضى قوله {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} وقوله {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداما تاما من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجا لهم وإملاء ليزدادوا إثما أو تلوما لهم وإعذارا لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا
الإقلاع عن النفاق وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: من الآية13].
فليس المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه لو من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالا لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازا مرسلا في مجرد التعليق إظهارا لتوفر الأسباب لولا وجود المانع على حد قول أبي سلمى بن ربيعة من شعراء الحماسة يصف فرسه.
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطر
أي توفر فيها بسبب الطيران.فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة. ويكون لقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} موقع عجيب.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تذييل، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغا لهم وقطعا لمعذرتهم في الدنيا والآخرة.
[21] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
استئناف ابتدائي ثنى به العنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله، ومثلث حال كل فريق وضربت له أمثاله فإنه لما استوفى أحوالا للمؤمنين وأضدادهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادا لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما ذكر آنفا من سوء صنعهم حائلا دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصا على صلاحهم وأنه غنى عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحا وحبا لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم
إلى مصالحهم.
وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانا وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظه منه. فالمقصود بالنداء من قوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيأيها الناس، وقرينة ذلك هنا قوله {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22] وافتتح الخطاب بالنداء تنويها به. ويا حرف للنداد وهو أكثر حروف النداء استعمالا فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلا كان مشتركا لنداء القريب والبعيد كما في القاموس. قال الرضى في شرح الكافية: إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلاف الأصل. وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في الكشاف ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلا له منزلة من بعد وكذلك فعل في كتاب المفصل.
و"أي" في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة، نحو أي رجل أو بطريق الإبدال نحو يأيها الرجل، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفننا فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه1 ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذ بكلمة أي وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق.
وقد اختصروا اسم الإشارة فأبقواها التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة، فأصل يأيها الناس يأيهؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه.
ـــــــ
1 علله كثير من النحويين بأنه لكراهية اجتماع حرفي تعريف, ورده الرضي بأنه لا يستنكر اجتماع حرفين في أحدهما من الفائدة ما في الآخر وزيادة كما في لقد, وقالوا ياهذا ويا انت. والذي يختار في تعليله انه كراهية اداتي تعريف وهما حرف النداء وأل المعرفة.
أيهذان كلا زاد يكما
وربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضا بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه فردا من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيا كذلك نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [الحجر: 6]
و"الناس" تقدم الكلام في اشتقاقه عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة: 8] وهو اسم جمع نودي هنا وعرف بأل. يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم مل لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلي بأل.
فإن نظرت إلى صورة الخطاب فهو إنما واجه به ناسا سامعين فعمومه لمن لم يحضر وقت سماع هذه الآية ولمن سيوجد من بعد يكون بقرينة عموم التكليف وعدم قصد تخصيص الحاضرين وذلك أمر قد تواتر نقلا ومعنى فلا جرم أن يعم الجميع من غير حاجة إلى القياس، وإن نظرت إلى أن هذا من أضرب الخطاب الذي لا يكون لمعين فيترك فيه التعيين ليعم كل من يصلح للمخاطبة بذلك وهذا شأن الخطاب الصادر من الدعاة والأمراء والمؤلفين في كتبهم من نحو قولهم يا قوم، ويا فتى، وأنت ترى، وبهذا تعلم، ونحو ذلك فما ظنك بخطاب الرسل وخطاب هو نازل من الله تعالى كان ذلك عاما لكل من يشمله اللفظ من غير استعانة بدليل آخر. وهذا هو تحقيق المسألة التي يفرضها الأصوليون ويعبرون عنها بخطاب المشافهة والمواجهة هل يعم أم لا. والجمهور وإن قالوا إنه يتناول الموجوديين دون من بعدهم بناء على أن ذلك هو مقتضى المخاطبة حتى قال العضد إن إنكار ذلك مكابرة، وبحث فيه التفتزاني، فهم قالوا إن شمول الحكم لمن يأتي بعدهم هو مما تواتر من عموم البعثة وأن أحكامها شاملة للخلق في جميع العصور كما أشار إليه البيضاوي.
قلت الظاهر أن خطابات التشريع ونحوها غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن المشرع لا يقصد لفريق معين، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة، غاية ما في الباب أن تعلقه بالحاضرين تعلق أصلي إلزامي وتعلقه بالذين يأتون من بعد تعلق معنوي إعلامي على نحو ما تقرر في تعلق الأمر في علم أصول الفقه فنفرض مثله في توجه الخطاب.
والعبادة في الأصل التذلل والخضوع وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له. فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده، ومن الإيمان بالرسول، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأتي ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] على قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} الآية. فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعنى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة.
وقد مضى القول في معنى الرب عند قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]
ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج.
وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيدا اختصاص ببعض الأصنام، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ} [البقرة: من الآية158] في هذه السورة فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} صريحا في أنه دعوة إلى توحيد الله ولذلك فقوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} زيادة بيان لموجب العبادة، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة.
وقوله: {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم
إنما خلقهم آباؤهم فقالوا {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: من الآية24] فكان قوله {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} تذكيرا لهم بأن آباؤهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى. ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف "من" في قوله {مِنْ قَبْلِكُمْ} الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على {قَبْلِكُمْ } ، لأن "من" في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل وبعد.
والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلق الأديم إذا هيأه ليقطعه ويخرزه قال جبير في هرم بن سنان:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفري
وأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجا لا صنعة فيه للبشر فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في حبوب الزريعة وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزويج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح أهل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17] وقال {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} [فاطر: 3] وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بنلء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه.
وقال الغزالي في المقصد الأسني: لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغا ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم أي الخالق عليه مجازا اه. فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع
بعض العباد مشروطا بهذه الحالة النادرة ومع ذلك جعله مجازا بعيدا فما حكاه الله في القرآن من قول عيسى عليه السلام: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49] وقول الله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي} [المائدة: 110] فإن ذلك مراعى فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى. ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن أجل ذلك قال تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14].
وجملة {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] تعليل للأمر باعبدوا فلذلك فصلت أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا.
و"لعل" حرف يدل على الرجاء. والرجاء هو الإخبار عن تهئ وقوع أمر في المستقبل وقوعا مؤكدا. فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء1 ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب وهو معنى جزئي حرفي وقد شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم فللشك جانب في معناها حتى قال الجوهري لعل كلمة شك وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال الأشياء قبل وقوعها ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [لأعراف:130] مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد.
ولهم في تأويل لعل الواقعة في كلام الله تعالى وجوه:
أحدها: قال سيبويه لعل على بابها والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين اه. يعني أنها للإخبار بأن المخاطب يكون مرجوا، واختاره الرضي قائلا لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية.
وأقول لا يعني سيبويه أن ذلك معنى أصل لها ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجيا ومرجوا
ـــــــ
1 وليس فيها معنى إنشاء طلبي ولذلك لم ينصبوا الفعل في جوابها بعد الفاء والواو بخلاف جواب التمني ولذلك لم ينصب فأطلع من قوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ } [غافر: 37] إلا في رواية حفص عن عاصم.
منه فحرف الرجاء دال على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى الفعل بالالتزام، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل تمجز، أذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو.
ثانيها أن لعل للإطماع تقول: للقاصد لعلك تنال بغيتك، قال الزمخشري وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن. والإطماع أيضا معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب والتقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتبتين.
ثالثها أنها للتعليل بمعنى كي قاله قطرب وأبو على الفارسي وابن الأنباري؛ وأحسب أن مرادهم هذا المعنى في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب. ولا يرد عليهم أيضا أنه إثبات معنى في "لعل" لا يوجد له شاهد من كلام العرب وجعله الزمخشري قولا متفرعا على قول من جعلها للإطماع فقال ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل قال من قال: إن لعل بمعنى كي يعني فهو معنى مجازي ناشئ عن مجاز آخر، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب.
رابعها ما ذهب إليه صاحب الكشاف أنها استعارة فقال ولعل واقعة في الآية موقع المجاز لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجي بين أن يفعل وأن لا يفعل. ومصداقه قوله تعالى {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] وإنما يبلي ويختبر من تخفى عنه العواقب، ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار. فكلام الكشاف يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة مركبة من شأن المزيد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة.
وعندي وجه آخر مستقل وهو أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره، فإذا قلت افتقد فلانا لعلك تنصحه كان إخبارا باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد
يعلم انتفاؤه بالقرينة وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازا أو استعارة لأن لعل إنما أتى بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجأوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به. وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة.
والتقوى هي الحذر مما يكره، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]
ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثرا للأمر بالعبادة وتقدم عند قوله تعالى: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين، فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضح الفائدة.
[22] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22]
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ}
يتعين أن قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني، وذلك ما أشير إليه بقوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على
طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار.
والمراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبد وللناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع.
ومعنى جعل الأرض فراشا أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار. والمعني أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة.
وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية. فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة، فإن للكرة الهوائية دفعا لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة الكرة الهوائية لهيئة القبة، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر، ومنه قولهم: بنى على امرأته إذا تزوج، لأن المتزوج يجعل بيتا يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر إطلاق البناء من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها، وهذا كقوله في سورة الأنبياء [32] {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظا} .
فإن قلت يقتضي كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فماذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: من الآية10] في عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم: أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه. فتتمخض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله {لَكُمُ} فهل نخص تعلقه بفعل {جَعَلَ} المصرح به دون تعلقه بالفعل
المطوي تحت واو العطف، أو بجعله متعلقا بقوله: {فِرَاشاً} فيكون قوله: {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} معطوفا على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق.
قلت: هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله: {لَكُمُ} تحكما لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل لكم متعلقا بفعل {جَعَلَ} ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال.
وحذف {لَكُمُ} عند ذكر السماء إيجازا لأن ذكره في قوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً} دليل عليه.
و {جَعَلَ} إن كانت بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما. وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض الجيولوجيا تؤذن بهذا الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} إلى قوله {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} [الانبياء:32]
وقد امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة. وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما كانت أول منافع البشر، وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما سيأتي من قوله {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} إلخ. وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به.
وقوله: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ} الخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلفه لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا.
واعلم أن كون الماء نازلا من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار
البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلئ دائما بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغا بعد أيام إذا ترك مكشوفا للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع، فيصير سحابا ثم يمكث قليلا أو كثيرا بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطرا وهو ما أشار له قوله تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12]. وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعا وربما كان السحاب قليلا فساقت إليه الريح سحابا آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطرا، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة. ومن القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعا وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر.
و"من" التي في قوله: {مِنَ الثَّمَرَاتِ} ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسبا لمقام الامتنان بل إما لبيان الرزق المخرج، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب، وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات.
{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}
أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة ولا ناهية والفعل مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوبا في جواب الأمر من قوله: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} . والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن العبادة عدم العبادة. ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساويا لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم.
والند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئا أي معاديا، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند. وليس بمتعين لجواز كونه اسما جامدا وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفا عند العرب، شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة. ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعا، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب. ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافئ في الشجاعة. ويقال جعل له ندا، إذا سوى غيره به.
والمعنى لا تثبتوا لله أندادا تجعلونها جعلا وهي ليست أندادا وسماها أندادا تعريضا بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ، لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول. وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال.
وقوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية ومفعول {تَعْلَمُونَ} متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم، والمعنى وأنتم ذو علم. والمراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر: من الآية9] وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تمليحا في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة فإنه أثبت لهم علما ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخا لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم. وهذا منزع تهذيبي عظيم: أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه، ويأتي بما يدل على نقائض فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلا والكمال.
وقد أومأ قوله {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا إلا شريكا هو لك.
[23] {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:23]
انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] الخ فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أندادا جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضلالهم كانوا يدعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى: {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 20] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم، فزادت بهذا مناسبة عطف قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} عقب قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22]. وأتي بإن في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط، لأن مدلول هذا الشرط قد حف به من الدلائل ما شأنه أن يقلع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضا فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخا على تحقق ذلك الشرط، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع.
ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر. وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم. ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان، فكيف يبقي بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلا عن أن يكونوا منغمسين فيه.
ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط
بهم إحاطة الظرف بالمظروف واستعارة "في" لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة. وأتى بفعل نزل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوما. وقد تقدم في أول التفسير أن فعل يدل على التقضي شيئا فشيئا، على أن صاحب الكشاف قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون: {لَوْلا نُزِّلَ1 عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة.
والسورة قطعة من القرآن معينة عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض. وجعل لفظ سورة اسما جنسيا لأجزاء من القرآن اصطلاح جاء به القرآن. وهي مشتقة من السور، وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفي في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام، وصحة التقسيم، ونكت الإجمال والتفصيل، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع، وفصل الجمل ووصلها، والإيجاز والإطناب، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نظم الكلام، وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستوفى الغرض حقه، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سبكه إعجاز يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لجمله وتراكيبه وفصاحة ألفاظه. فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها. قال الطيبي في حاشية الكشاف عند قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} [لأنفال: 17]، ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد.
والتنكير للإفراد أو النوعية. أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل
ـــــــ
1 في المطبوعة: {أنزل} .
سورة ترجمت باسم يخصها، وأقل السور عدد آيات سورة الكوثر. وقد كان المشركون بالمدينة تبعا للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألبا على النبي صلى الله عليه وسلم يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء.
وقد كان التحدي أولا بالإتيان بكتاب مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} . فلما عجزوا استنزلوا إلى الإتيان بعشر سور مثله في سورة هود1. ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة مثله في سورة يونس2.
والمثل أصله المثيل والمشابه تمام المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفا ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافئ.
والضمير في قوله: {مِّنْ مِثْلِهِ} يجوز أن يعود إلى "ما نزلنا" أي من مثل القرآن، ويجوز أن يعود إلى: {عَبْدِنَا} فإن أعيد إلى "ما نزلنا" أي من مثل القرآن فالأظهر أن من ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة، ويحتمل أن تكون "من" تبعيضية أو بيانية أو زائدة. وقد قيل بذلك كله، وهي وجوه مرجوحة، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة، أي هي بعض مثل ما نزلنا، ومثل اسم حينئذ بمعنى المماثل، أو سورة مثل ما نزلنا و"مثل" صفة على احتمالي كون من بيانية أو زائدة، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المثل سواء كان صفة أو اسما فهو مثل مقدر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز. وإن أعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل ائتوا وهي ابتدائية وحينئذ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر. ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية، ولفظ مثل إذن اسم.
وقد تبين لك أن لفظ مثل في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن
ـــــــ
1 في المطبوعة: "يونس" وهو غلط ففي التنزيل {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: من الآية13]
2 في المطبوعة: "هود" وهو غلط ففي التنزيل {قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} [يونس: 38]
المضاف إليه على طريقة قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] بناء على أن لفظ مثل كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن، أو من محمد خلافا لمن توهم ذلك من كلام الكشاف وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنى به عن نفس المضاف هو إليه من حيث إن المثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضا فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتض وجود مثل للقرآن حتى يراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتزاني.
وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله: {مِّنْ مِثْلِهِ} كلها مرادة لرد دعاوي المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال: القرآن كلام بشر، ومنهم من قال: هو مكتتب من أساطير الأولين، ومنهم من قال: إنما يعلمه بشر. وهاته الوجوه في معنى الآية تفند جميع الدعاوي فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثلة أو بمثله، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير، وإن كان يعلمه فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه. وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها. فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلة القرآن في ألفاظه وتراكيبه، ومماثلة الرسول المنزل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} [العنكبوت: من الآية51]. فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خطب أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به. فليس في جعل من ابتدائية إيهام إجزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة.
وقوله تعالى: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} معطوف على: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ} أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم. والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم:
دعوتك للجفن القريح المسهد ... لدي وللنوم الطريد المشرد
والشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر، وأصله الحاضر قال تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه
الحضور مجازا أو كناية لا بأصل وضع اللفظ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين. ولعله انجز إليه من تفسير الكشاف لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعيا فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف.
قال الحرث بن حلزة:
آذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه. وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر. فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم.
ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزا للعامة والخاصة. وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا، على نحو قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: من الآية150] ويكون قوله: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} على هذه الوجوه حالا من الضمير في ادعوا أو من شهداءكم أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيرا عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل، وجوز أن يكون دون بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله، واستشهد له بقول الأعشى:
تريك القذى من دونها وهي دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطق1
ـــــــ
1 يصف الخمر في الصفاء بأنها تريك القذى أمامها من شدة ما تكبر حجمه في نظر العين وهي بينك وبين القذى. وقوله: يتمطق أي يحرك فكيه ولسانه تلذذا بحسن طعمها. وهذا البيت من قصيدته القافية المشهورة.
كما جوز أن يكون {مِنْ دُونِ اللَّهِ} بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهودا فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديما كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطا أو جورا. وقد قال السموأل:
إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل
لا نجعل الباطل حقا ولا ... نلظ دون الحق بالباطل1
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مع الخامل
وعلى هذا التفسير يجيء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعا عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} اعتراض في آخر الكلام وتذييل. أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله.
والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقا ومماثلا للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازا عن الوجود الذهني. والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج. والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية. هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معا وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معا ومن هنا أثبت الواسطة بين
ـــــــ
1 لظ بالشيء يلظ وألظ به يلظ هما بمعنى لزمه وثابر عليه.
الصدق والكذب. وقريب منه قول الراغب ويشبه أن يكون الخلاف لفظيا ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة. والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر، فحذف متعلق صادقين لدلالة ما تقدم عليه، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وتكون الجملة المقدرة دليلا على جواب الشرط فتصير جملة: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} تكريرا للتحدي.
وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة.
[24] {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:24]
تفريع على الشرط وجوابه، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم.
ومفعول {تَفْعَلُوا} محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان بسورة مثله وسيأتي الكلام على حذف المفعول في مثله عند قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
وجيء بإن الشرطية التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتقي معه في درجات الجدل؛ ولذلك جاء بعده {وَلَنْ تَفْعَلُوا} كأن المتحدي يتدبر في شأنهم، ويزن أمرهم فيقول أولا ائتوا بسورة، ثم يقول قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصا منها ثم يقول ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله. مع ما في هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير.
ولذلك حسن موقع لن الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا، ولهذا قال سيبوية لا لنفي يفعل، ول لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤيد غالبا لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأييد حقيقة أو مجازا وهو التأكيد، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد. وكلام الخليل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة أنها لا تفيد تأكيدا ولا تأبيدا فقد كابر.
وقوله {وَلَنْ تَفْعَلُوا} من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين: الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام من قدرته فوق طوق البشر.
الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها، ودواعي المعارضة موجودة فيهم: ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم. وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام. مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة. فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحا وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية.
و {تَفْعَلُوا} الأول مجزوم بلم لا محالة لأن "إن" الشرطية دخلت على الفعل بعد
اعتباره منفيا فيكون معنى الشرط متسلطا على لم وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في العمل في {تَفْعَلُوا} لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة في صحة تنازع الحرفين معمولا واحدا كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه إليه في "التصريح على التوضيح"1 على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في المسائل الدمشقيات ومن كتاب التذكرة له أنه جعل قول الراجز:
حتى تراها وكأن وكأن ... أعناقها مشرفات في قرن
من قبيل التنازع بين كأن المشددة وكأن المخففة.
وقوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} أثر لجواب الشرط في قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23] ، فتقدير جواب قوله فإن لم تفعلوا أنه فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار فوقع قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} موقع الجواب لدلالته عليه وإيذائه به وهو إيجاز بديع وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء. وإنما عبر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى قال: {ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ} [يوسف: 60] إلخ لأن في لفظ تفعلوا هنا من الإيجاز ما ليس مثله في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتي به مثل هذا القرآن ومشهودا عليه ومستعانا عليه بشهدائهم فكان في لفظ تفعلوا من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف.
والوقود بفتح الواو اسم لما يوقد به، وبالضم مصدر وقيل بالعكس، وقال ابن عطية حكى الضم والفتح في كل من الحطب والمصدر. وقياس فعول بفتح الفاء أنه اسم لما
ـــــــ
1 قل من يعرف اسمه, ولم يترجم له في "البغية" وهو محمد بن عبد الله الأشبيلي له كتاب "البسيط في النحو"
يفعل به كالوضوء والحنوط والسعوط والوجور إلا سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الولوع والقبول والوضوء والطهور والوزوع واللغوب والوقود. والفتح هنا هو المتعين لأن المراد الاسم وقرئ بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدرا أو على حذف مضاف أي ذوو وقودها الناس.
والناس أريد به صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي ويجوز أن يكون تعريف العهد لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة.
والحجارة جمع حجر على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجرا عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث قال سيبوية كما ألحقوها بالبعولة والفحولة. وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في كل جمع على فعال أو فعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفا إذا وقفوا عليه، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع، ومن ذلك عظامة ونفارة وفحالة وحبالة وذكارة وفحولة وحمولة جموعا وبكارة جمع بكر بفتح الباء ومهارة جمع مهر.
ومعنى وقودها الحجارة أن الحجر جعل لها مكان الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقا وأبطأ انطفاء ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحا في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الانبياء: من الآية98] وفي هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وقود النار وقرينة التعريض قوله: {فَاتَّقُوا} وقوله: {وَالْحِجَارَةُ} لأنهم لما أمروا باتقائها أمر تحذير علموا أنهم هم الناس، وإما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم، فلزم أن يكون الناس هم عباد تلك الأصنام فالتعريض هنا متفاوت فالأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين.
وحكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادة إظهار خطإ عبدتها فيما عبدوا، وتكرر لحسرتهم على إهانتها، وحسرتهم أيضا على أن كان ما أعدوه سببا لعزهم وفخرهم سببا لعذابهم، وما أعدوه لنجاتهم سببا لعذابهم، قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} الآية.
وتعريف "النار" للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو
الغالب في صلة الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم، أو لأن وصف جهنم بذلك قد تقرر فيما نزل قبل من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم[6]: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة البقرة فإن في صحة ذلك العد نظرا، أو لأنه قد علم ذلك عندهم من أخبار أهل الكتاب.
وفي جعل الناس والحجارة وقودا دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زج الناس فيها وأن الناس والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث الموطأ: إن شدة الحر من فيح جهنم فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت. وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج يقرب ذلك للناس اليوم. وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون نموذجها البراكين الملتهبة.
وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} استئناف لم يعطف لقصد التنبيه على أنه مقصود بالخبرية لأنه لو عطف لأوهم العطف أنه صفة ثانية أو صلة أخرى وجعله خبرا أهول وأفخم وأدخل للروع في قلوب المخاطبين وهو تعريض بأنها أعدت لهم ابتداء لأن المحاورة معهم.
وهذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتا متواترا امتاز به القرآن عن بقية المعجزات، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس. وأدركها عامة غيرهم بالنقل. وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما سنبينه.
أما إدراك العرب معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وناوءوه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه الله إليه، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين: إما أن يكون
عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه، ثم لو لحق بهم لاحق، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم، فأعرضوا عن معارضته علما بأنهم لا قبل لهم بمثله، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حدا لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقا للعادة ودليلا على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلا على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله وهذا هو رأي جمهور أهل السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو المشهور عن الأشعري.
وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة ولكنهم صرفهم الله عن التصدي لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمرا خارقا للعادة أيضا وهو دليل المعجزة، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر الباقلاني في كتابه في إعجاز القرآن ولم يعين له قائلا وقد نسبه التفتزاني في كتاب المقاصد إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة1 وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة ونسبه الخفاجي إلى أبي إسحاق الإسفرائيني ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري ولكنه لم يشتهر عنه وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في
ـــــــ
1 وقعت كلمة الصرفة في عبارات المتكلمين ومنهم ابو بكر الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" ولم أر من ضبط الصاد منه فيجوز أن يكون صاده مفتوحا على زنة المرة مرادا بها مطلق وجود الصرف والأظهر أن يكون الصاد مقصورا على صيغة الهيئة أي حرفا مخصوصا بقدرة الله ويشعر بهذا قول الباقلاني في كتاب "إعجاز القرآن" صرفهم الله عنه ضربا من الصرف.
المقاصد وهو مع كونه كافيا في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله إياهم هو مسلك ضعيف وقد تقدم الكلام على وجوه إعجاز القرآن تفصيلا في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزا لا عجزا. وبعد فمن آمنا أن يكون العرب قد عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به. قلت يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزا فإن محمدا صلى الله عليه وسلم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبي صلى الله عليه وسلم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة ثم كان من أمر قومه أن قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلا يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ والسير ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة.
لا جرم أن أقصى رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصارا لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهرا بالنصر بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط وأحباش.
ولا جرم أن القرآن قصر معهم مسافة المجادلة وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتابا منزلا نجوما ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله وأن يجمعوا لذلك شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب، كل هذا ثبت بالتواتر فإن هذا الكتاب متواتر بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده أهل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضا بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت على ذلك الأجيال جيلا بعد جيل.
وقد كان هؤلاء المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة الأذهان، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظما ونثرا وبما
اشتهر وتواتر من القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف لديهم فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلا ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند أهل التاريخ وغيرهم.
وأياما جعلت سبب إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر.
ووراء هذا كله دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول وفطنوا لإعجاز القرآن وأنه ليس بكلام معتاد للبشر وأنهم ما كذبوا إلا عنادا أو مكابرة وحرصا على السيادة ونفورا من الاعتراف بالخطأ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل أهل البأس والشدة من عرب نجد وطيء وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أديانا تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعا نابذا دينه في خلال أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لولا أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه الإصاد ضعيف وهو المكابرة والمعاندة.
ثم في هذه الآية معجزة باقية وهي قوله: {وَلَنْ تَفْعَلُوا} فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وما صدقها واضح إذ لم تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم.
فإن قلت ثبت بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم? قلت إن ثبوت الإعجاز لا يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت فإنه إذا أعجز العرب
ثبت أنه خارق للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم.
وبعد فان من شاء أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح.
قال الشيخ عبد القاهر في مقدمة دلائل الإعجاز فإن قال قائل إن لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت أي من توقفه على علم البيان وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب وما استوى الناس فيه قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجا بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير ألا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به والعلم به ممكنا لمن التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزا قائم فيه أبدا اه.
وقال السكاكي في معرض التنويه ببعض مسائل التقديم قوله متوسلا بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل وقد بينت في المقدمة العاشرة تفاصيل من وجوه إعجازه فقد اشتملت هذه الآية على أصناف من الإعجاز إذ نقلت الإعجاز بالتواتر وكانت ببلاغتها معجزة، وكانت معجزة من حيث الإخبار عن المستقبل كله بما تحقق صدقه فسبحان منزلها ومؤتيها
[25] {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:25]
{وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}
في الكشاف من عادته عز وجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف والتثبيط عن اقتراف ما يتلف فلما ذكر
الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة اه.
وجعل جملة {وَبَشِّر} معطوفة على مجموع الجمل المسوقة لبيان وصف عقاب الكافرين يعني جميع الذي فصل في قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} [البقرة: 23] إلى قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] فعطف مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين والمناسبة واضحة مسوغة لعطف المجموع على المجموع، وليس هو عطفا لجملة معينة على جملة معينة الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبرية والإنشائية، ونظره بقولك: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق.
وجعل السيد الجرجاني لهذا النوع من العطف لقب عطف القصة على القصة لأن المعطوف ليس جملة على جملة بل طائفة من الجمل على طائفة أخرى، ونظيره في المفردات ما قيل إن الواو الأولى والواو الثالثة في قوله تعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] ليستا مثل الواو الثانية لأن كل واحدة منهما لإفادة الجمع بين الصفتين المتقابلتين وأما الثانية فلعطف مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين بعدها على مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين قبلها ولو اعتبر عطف الظاهر وحده على إحدى السابقتين لم يكن هناك تناسب، هذا حاصله وهو يريد أن الواو عاطفة جملة ذات مبتدأ محذوف وخبرين على جملة ذات مبتدأ ملفوظ به وخبرين، فالتقدير وهو الظاهر والباطن وليس المراد أن المبتدأ فيها مقدر لإغناء حرف العطف عنه بل هو محذوف للقرينة أو المناسبة في عطف جملة الظاهر والباطن على جملة الأول والآخر. إنهما صفتان متقابلتان ثبتتا لموصوف واحد هو الذي ثبتت له صفتان متقابلتان أخريان.
قال السيد ولم يذكر صاحب المفتاح عطف القصة على القصة فتحير الجامدون على كلامه في هذا المقام وتوهموا أن مراد صاحب الكشاف هنا عطف الجملة على الجملة وأن الخبر المتقدم مضمن معنى الطلب أو بالعكس لتتناسب الجملتان مع أن عبارة الكشاف صريحة في غير ذلك وقصد السيد من ذلك إبطال فهم فهمه سعد الدين من كلام الكشاف وأودعه في شرحه المطول على التلخيص1.
ـــــــ
1 قال قد يوهم تمثيل صاحب "الكشاف" لذلك بقولك: زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق توجيه ما توهمه المتوهمون في مراد "الكشاف" لأن مثاله من قبيل عطف الجمل إلا أن كشف ذلك عنهم أنه أشار إلى تمثيل المناسبة بين الجملتين الموجبة العطف وأن كان المحكوم عليه اإحداهما غير المحكوم عليه بالأخرى وكانتا مختلفتين بالخيرية والإنشائية. ومقصد السيبد التعريض بكلام التفتزاني في "المطول" لأنه ذكر بحثا بناه على أن كلام "الكشاف" ناظر إلى أن الآية من عطف الجمل وأنه لم يرد ان الخبر بمعنى الإنشاء أو العكس حتى ورد أن التأويل غير تعين عند من لا يشترط اتحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية فإن التفتزاني في "شرح الكشاف" هو الذي فتح الطريق للسيد في هذا الفهم.
وجوز صاحب الكشاف أن يكون قوله {وَبَشِّرِ} معطوفا على قوله {فَاتَّقُوا} [البقرة: 24] الذي هو جواب الشرط فيكون له حكم الجواب أيضا وذلك لأن الشرط وهو {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا} [البقرة: 24] سبب لهما لأنهم إذا عجزوا عن المعارضة فقد ظهر صدق النبي فحق اتقاء النار وهو الإنذار لمن دام على كفره وحقت البشارة للذين آمنوا. وإنما كان المعطوف على الجواب مخالفا له لأن الآية سيقت مساق خطاب للكافرين على لسان النبي فلما أريد ترتب الإنذار لهم والبشارة للمؤمنين جعل الجواب خطابا لهم مباشرة لأنهم المبتدأ بخطابهم وخطابا للنبي ليخاطب المؤمنين إذ ليس للمؤمنين ذكر في هذا الخطاب فلم يكن طريق لخطابهم إلا الإرسال إليهم.
وقد استضعف هذا الوجه بأن علماء النحو قرروا امتناع عطف أمر مخاطب على أمر مخاطب إلا إذا اقترن بالنداء نحو يا زيد واكتب يا عمرو، وهذا لا نداء فيه.
وجوز صاحب المفتاح أن {وَبَشِّرِ} معطوف على قل مقدرا قبل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا} [البقرة: 21] وقال القزويني في الإيضاح إنه معطوف على مقدر بعد قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] أي فأنذر الذين كفروا وكل ذلك تكلف لا داعي إليه إلا الوقوف عند ظاهر كلام النحاة مع أن صاحب الكشاف لم يعبأ به قال عبد الحكيم لأن منع النحاة إذا انتفت قرينة تدل على تغاير المخاطبين والنداء ضرب من القرينة نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} [يوسف: 29] اه. يريد أن كل ما يدل على المراد بالخطاب فهو كاف وإنما خص النحاة النداء لأنه أظهر قرينة واختلاف الأمرين هنا بعلامة الجمع والإفراد دال على المراد، وأيا ما كان فقد روعي في الجمل المعطوفة ما يقابل ما في الجمل المعطوف عليها فقوبل الإنذار الذي في قوله: {فَاتَّقُوا النَّارَ} [البقرة: 24] بالتبشير وقوبل {النَّاسُ} [البقرة: 21] المراد به المشركون بالذين آمنوا وقوبل "النار" بالجنة فحصل ثلاثة طباقات.
والتبشير الإخبار بالأمر المحبوب فهو أخص من الخبر وقيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المخبر "بالفتح" غير عالم بذلك الخبر والحق أنه يكفي عدم تحقق المخبر "بالكسر" علم المخبر "بالفتح" فإن المخبر بالكسر لا يلزمه البحث عن علم المخاطب فإذا تحقق المخبر علم المخاطب لم يصح الإخبار إلا إذا استعمل الخبر في لازم الفائدة أو في توبيخ ونحوه.
والصالحات جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة فأصلها صفة جرت مجرى الأسماء لأنهم يقولون صالحة وحسنة ولا يقدرون موصوفا محذوفا قال الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتينا
وكأن ذلك هو وجه تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية
والتعريف هنا للاستغراق وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم.
فإن قلت لماذا لم يقل وعملوا الصالحة بالإفراد فقد قالوا إن استغراق المفرد أشمل من استغراق المجموع، قلت تلك عبارة سرت إليهم من كلام صاحب الكشاف في هذا الموضع من تفسيره إذ قال إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه اه. فاعتمدها صاحب المفتاح وتناقلها العلماء ولم يفصلوا بيانها.
ولعل سائلا يسأل عن وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنيا غناءها فأقول: إن أل المعرفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مرادا به الماهية وللجنس مرادا به جميع أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2,3] {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: 119] {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأخف وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد ولما كان تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالبا تعين أن تعريفها للاستغراق نحو {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] لئلا يتوهم أن الحديث على محسن خاص نحو قولها
{وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف: 52] لئلا يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق.
وانتصب الصالحات على المفعول به لعملوا على المعروف من كلام أئمة العربية وزعم ابن هشام في الباب السادس من مغنى اللبيب أن مفعول الفعل إذا كان لا يوجد إلا بوجود فعله كان مفعولا مطلقا لا مفعولا به فنحو {عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} مفعول مطلق ونحو {خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ} [العنكبوت: من الآية44] كذلك، واعتضد لذلك بأن ابن الحاجب في شرح المفصل زعم أن المفعول المطلق يكون جملة نحو قال زيد عمرو منطلق وكلام ابن هشام خطأ وكلام ابن الحاجب مثله، وقد رده ابن هشام نفسه. والصواب أن المفعول المطلق هو مصدر فعله أو ما يجري مجراه.
والجنات جمع جنة، والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة1 لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [النبأ:16]
والجري حقيقته سرعة شديدة في المشي، ويطلق مجازا على سيل الماء سيلا متكررا متعاقبا وأحسن الماء ما كان جاريا غير قار لأنه يكون بذلك جديدا كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل.
والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح والنهر الأخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو مشتق من مادة نهر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيرا وصغيرا. وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظرا بديعا وشيئا لذيذا.
وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على
ـــــــ
1 فإن الإنسان مجبول على حب المناظر الجميلة والميل لما يقاربه في الخلقة, وفي الشجر جمال الشكل واللون وفيه أنس للنفوس لأن فيه حياة فناسب النفوس مثل التأنس بالحيوان والأنعام التي قال تعالى فيها: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: من الآية6] ففي مناظر الأشجار جمال يفوق جمال مناظر مالاحياة فيه كالقصور والرياش.
نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكنا من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها. والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} .
ومعنى {مِنْ تَحْتِهَا} من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير:
شجت بذي شبم من ماء محنية ... صاف بأبطح أضحى وهو مشمول
البيتين.
وقد أورد صاحب الكشاف توجيها لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير جنات إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام، وهذا معنى قوله أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بأل العهدية. عهدا تقديريا واختير الثاني تفاديا من كلفة الإضافة وتنبيها على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعا للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:39] وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحا في كل موضع1 على أني أرى مذهب
ـــــــ
1 إشارة إلى التفرقة بين ما جوزه الزمخشري هنا وما منعه من مذهب الكوفيين وذلك أن الكوفيين جوزوا جعل اللام عوضا عن المضاف إليه مطلقا فعلى مذهبهم يصح أن تقوا إذا لقيت زيدا فاسمع الكلام, تريد كلامه, أو فاضرب الوجه. وأما ماذكره الزمخشري فذلك عندما يكون المضاف مستحضرا في الذهن فتصح الإضافة وتصح اللام فهو أخص من مذهب الكوفيين وهو أيضا محتاج لنكتة بخلاف مذهبهم وصحة حلول اللام عوضا عن المضاف على قوله حاصلة غير مقصودة بل هي بطريق المآل بخلاف مذهب الكوفيين.
الكوفيين مقبولا وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي.
وعندي أن الداعي إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعا بسورة التعريف.
وقوله {مِنْ تَحْتِهَا} يظهر أنه يفيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترغيب وهذا من مقاصد البلغاء إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه.
من حس أطلس تسعى تحته شرع ... كأن أحناكها السفلى مآشير
والتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى. ولكل مكان علو وسفل ولا يقتضي ذلك ارتفاع ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله قال تعالى حكاية عن فرعون {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: من الآية51] فلا حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات.
{كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
جملة {كُلَّمَا رُزِقُوا} يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات. ويجوز أن تكون خبرا عن مبتدأ محذوف وهو ضمير {الَّذِينَ آمَنُوا} فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شؤون الذين آمنوا، ولكمال الاتصال بينها تبين جملة {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة.
وكلما ظرف زمان لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق
الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقا على الأزمان مقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما ومهما. والناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طريانا غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها.
وإذ كانت كلما نصا في عموم الأزمان تعين أن قوله: {مِنْ قَبْلُ} المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة. وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم. ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري. ويحتمل أن في ذلك تعجيبا لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر. وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق. ويحتمل أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة، ومعنى من قبل في المرة الأولى من دخول الجنة. ومن المفسرين من حمل قوله: {مِنْ قَبْلُ} على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا، ووجهه في الكشاف بأن الإنسان بالمألوف آنس وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مرادا به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجيب، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه.
وقوله: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا. ثم من الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لولا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة.
والأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان منفردا زوجا وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة يعني عائشة وقال الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي ... كساع إلى أسد الشرى يستميلها
وقوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} احتراس من توهم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو الطيب:
أشد الغم عندي في سرور ... تحقق عنه صاحبه انتقالا
وقوله: {مُطَهَّرَةٌ} هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرئ بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيرا لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد.
[26، 27] {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [26] الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]
{إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}
قد يبدو في بادئ النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ. والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة، إذا بالكلام قد جاء بخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير. فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال: ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين.
روى الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله {إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} [الحج: 73] وقوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتا} ً [العنكبوت: 41] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} وروى عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا مايشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي} الآية.
والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم، وخاصة بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فيتلقون منهم صورا من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد نارا وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاق خناقهم فاختلفوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين.
فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لاحظ لهم في البلاغة، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلا. وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود، ولأنه الأوفق بقوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} وهذه صفة اليهود، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم {رَاعِنَا} [البقرة: 104] ، قال تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [لأعراف: 162] كما ورد تفسيره في الصحيح ولم يكن ذلك من شأن العرب.
وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثله في كلام بلغائهم كقولهم أجرأ من ذبابة، وأسمع من قراد، وأطيش من فراشة، وأضعف من بعوضة. وهذا الاحتمال أدل، على أنهم ما قالوا ما هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف، والمكابر يقول ما لا يعتقد، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب الكشاف وهو أوفق بالسياق. والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم
يزالوا يلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين. وقد دل على هذا المعنى قوله بعده: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} .
فإن قيل لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائحة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زمانا.
قلنا الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيآت، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبنا فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه. فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ} [البقرة: 17] {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] الآيات وقوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون.
والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقا لا خصوص المركب من اميئة، بخلاف قوله فيما سبق {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارا} لأن المعني هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قول:ه {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} [الحج: 73] وقوله: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} [العنكبوت: 41]
وموقع "إن" هنا بين.
وأما الإتيان بالمسند إليه علما دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضا إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحيي أن يضرب مثلا من هذا القبيل. ولهذا أيضا اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحيي من ذلك إذ ليس مما يستحيي منه، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت.
فإن قلت إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة
فما بالنا نرى كثيرا من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق:
من عزهم حجرت كليب بيتها ... زربا كأنهم لديه القمل
وقول أبي الطيب:
أماتكم من قبل موتكم الجهل ... وجركم من خفة بكم النمل
وقول الطرماح:
ولو أن برغوثا على ظهر قملة ... يكر على ضبعي تميم لولت
قلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام، ومن جانب صور المعاني، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولا عند قوم غير مقبول عند أخرين، ومقبولا في عصر مرفوضا في غيره، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأي عنك واسع
فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعد من الجفاء أو العجرفة، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع:
عذير الحي من عدوان ... كانوا حية الأرض
وقول النابغة في رثاء الحارث الغساني:
ماذا رزئنا به من حية ذكر ... نضناضة بالرزايا صل أصلال
وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله:
أنت كالكلب في وفائك بالعهد ... وكالتيس في قراع الخطوب
وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري1
ـــــــ
1 انظر: صفحة 4 جزء 3 من "محاضرات الأبرار" لابن عربي طبع حجر بمطبعة شعراوي سنة 1282هـ بالقاهرة.
وقد انتقد بشار على كثير قوله:
ألا إنما ليلى عصا خيزرانة ... إذا لمسوها بالأكف تلين
فقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا، على أن بشارا هو القائل:
إذا قامت لجارتها تثنت ... كأن عظامها من خيزران
وشبه بشار عبدة بالحية في قوله:
وكأنها لما مشت ... أيم تأود في كثيب
والاستحياء والحياء واحد، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب. وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يفعل.
والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفا لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله، والتعلل لذلك بأن نفى الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعلل غير مسلم.
والضرب في قوله {أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} مستعمل مجازا في الوضع والجعل من قولهم ضرب خيمة وضرب بيتا. قال عبدة بن الطبيب:
إن التي ضربت بيتا مهاجرة ... بكوفة الجند غالت ودها غول
وقول الفرزدق:
ضربت عليك العنكبوت بنسجها ... وقضى عليك به الكتاب المنزل
أي جعل شيئا مثلا أي شبها، قال تعالى {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} أي لا تجعلوا له مماثلا من خلقه فانتصاب {مَثَلاً} على المفعول به وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقا من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب {مَثَلاً} على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلا مرادف مصدر فعله على هذا التقدير، والمعنى لا يستحيي أن يشبه بشيء ما. والمثل المثيل والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} [البقرة: 17] وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر
وتنكير {مَثَلاً} للتنويع بقرينة بيانه بقوله {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} .
وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير، نحو لأمر ما وأعطاه شيئا ما. والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة.
و {بَعُوضَةً} بدل أو بيان من قوله {مَثَلاً} والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها، وتعرف في لغة هذيل بالخموش،وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلا لشدة الضعف والحقارة.
وقوله {فَمَا فَوْقَهَا} . عطف على {بَعُوضَةً} وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازما للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظا أو تقديرا ويستعمل مجازا في المتجاوز غيره في صفة تجاوزا ظاهرا تشبيها بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع، وتقول أعطي فلان فوق حقه أي زائدا على حقه. وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجما. ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة" رواه مسلم، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نخبة النملة كما جاء في حديث آخر، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل، ودون لفظ أقوى مثلا موقع من بليغ الإيجاز.
والفاء عاطفة "ما فوقها" على "بعوضة" أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل {أَنْ يَضْرِبَ} ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائدا عليها درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص، فاستعملت في مطلق الاتصال، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه
"رحم الله المحلقين فالمقصرين" .
والمعنى أن يضرب البعوضة مثلا فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار.
{فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}
الفاء للتعقيب الذكرى دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله {لا يَسْتَحْيِي} لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم. وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال.
وأما حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر. ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيت وكيت، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاما بعد كلامه الأول. وقدرها سيبوية بمعنى مهما يكن من شيء، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيدا وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام، على أن مضمونه محقق ولولا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ} إلخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء.
وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان إبتداء مؤمن وكافر، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتاييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك. والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالبا، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية.
وإنما عبر في جانب المؤمنين يعلمون تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسدا وعنادا.
وضمير "أنه" عائد إلى المثل.
و"الحق" ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته. و"من ربهم" حال من الحق ومن ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ.
وأصل "ماذا" كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ماذا مشيرا إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركبا من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبرا عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد، نحو ماذا التوانى، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ} [النساء: 39] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب.
وقد يتوسعون فيها توسعا أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسئول عنه معروفا للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} [النحل: من الآية24] وعلى هذين الاحتمالين الآخريين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولا مقدما إذا وقع بعده فعل. والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية، ومثله لا يجاب بشيء غالبا لأنه غير مقصود به الاستعلام. وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:2,1].
والإشارة بقوله {بِهَذَا} مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} [الانبياء: 36]
وانتصب قوله {مَثَلاً} على التمييز من هذا لأنه مبهم فحق له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم "ربه رجلا".
{يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ
عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [البقرة:27]
بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالا فإن علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هدى، وقول الكافرين ماذا أراد الله الخ ضلال، والأظهر أن لا يكون قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} جوابا للاستفهام في قول الذين كفروا {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} لأن ذلك ليس استفهاما حقيقيا كما تقدم. ويجوز أن يجعل جوابا عن استفهامهم تخريجا للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} جوابا لهم وردا عليهم وبيانا لحال المؤمنين، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكني به عن الإنكار كما علمته آنفا من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي. وكون كلا الفريقين من المضلل والمهدى كثيرا في نفسه، لا ينافي نحو قوله : {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة، أخص في الاهتداء.
والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفسق بكسر الفاء، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة:
صغار النوى مكنوزة ليس قشرها ... إذا طار قشر التمر عنها بطائر
قالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين: قال رؤبة يصف إبلا:
فواسقا عن قصدها جوائرا ... يهوين في نجد وغور غائرا
والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر. وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غير الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين.
وإسناد الإضلال إلى الله تعالى مراعي فيه أنه الذي مكن الضالين من الكسب والاختيار بما خلق لهم من العقول وما فصل لهم من أسباب الخير وضده. وفي اختيار إسناده إلى الله تعالى مع صحة إسناده لفعل الضال إشارة إلى أنه ضلال متمكن من نفوسهم حتى صار كالجبلة فيهم فهم مأيوس من اهتدائهم كما قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} فإسناد الإضلال إلى الله تعالى منظور فيه إلى خلق أسبابه القريبة والبعيدة وإلا فإن الله أمر الناس كلهم بالهدى وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام.
وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} إما مسوق لبيان أن للفسق تأثيرا في زيادة الضلال لأن الفسق يرين على القلوب ويكسب النفوس ظلمة فتتساقط في الضلال المرة بعد الأخرى على التعاقب، حتى يصير لها دربة. وهذا الذي يؤذن به التعليق على وصف المشتق إن كان المراد به هنا المعنى الاشتقاقي، فكأنه قيل هؤلاء فاسقون وما من فاسق إلا وهو ضال فما ثبت الضلال إلا بثبوت الفسق على نحو طريقة القياس الاقتراني، وإما مسوق لبيان أن الضلال والفسق أخوان فحيثما تحقق أحدهما أنبأ بتحقق الآخر على نحو قياس المساواة إذا أريد من الفاسقين المعنى اللقبي المشهور فلا يكون له إيذان بتعليل. وإما لبيان أن الإضلال المتكيف في إنكار الأمثال إضلال مع غباوة فلا يصدر إلا من اليهود وقد عرفوا بهذا الوصف.
والقول في مذاهب علماء الإسلام في الفسق وتأثيره في الإيمان ليس هذا مقام بيانه إذ ليس هو المقصود من الآية.
فإن كان محمل الفاسقين على ما يشمل المشركين واليهود الذين طعنوا في ضرب المثل كان القصر في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ} الخ بالإضافة إلى المؤمنين ليحصل تمييز المراد من المضلل والمهتدي. وإن كان محمل الفاسقين على اليهود كان القصر حقيقيا ادعائيا أي يضل به كثيرا وهم الطاعنون فيه وأشدهم ضلالا هم الفاسقون، ووجه ذلك أن المشركين أبعد عن الاهتداء بالكتاب لأنهم في شركهم، وأما اليهود فهم أهل كتاب وشأنهم أن يعلموا أفانين الكتب السماوية وضرب الأمثال فإنكارهم إياها غاية الضلال فكأنه لا ضلال سواه.
وجملة {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ} إلى آخره صفة للفاسقين لتقرير اتصافهم بالفسق لأن هاته الخلال من أكبر أنواع الفسوق بمعنى الخروج عن أمر الله تعالى. وجوز أن تكون مقطوعة مستأنفة على أن الذين مبتدأ وقوله {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} خبر وهي مع ذلك لا
تخرج عن معنى توصيف الفاسقين بتلك الخلال إذ الاستئناف لما ورد إثر حكاية حال عن الفاسقين تعين في حكم البلاغة أن تكون هاته الصلة من صفاتهم وأحوالهم للزوم الاتحاد في الجامع الخيالي وإلا لصار الكلام مقطعا منتوفا فليس بين الاعتبارين إلا اختلاف الإعراب وأما المعنى فواحد فلذلك كان إعرابه صفة أرجح أو متعينا إذ لا داعي إلى اعتبار القطع.
ومجيء الموصول هنا للتعريف بالمراد من الفاسقين أي الفاسقين الذين عرفوا بهذه الخلال الثلاث فالأظهر أن المراد من الفاسقين اليهود وقد أطلق عليهم هذا الوصف في مواضع من القرآن وهم قد عرفوا بما دلت عليه صلة الموصول كما سنبينه هنا بل هم قد شهدت عليهم كتب أنبيائهم بأنهم نقضوا عهد الله غير مرة وهم قد اعترفوا على أنفسهم بذلك فناسب أن يجعل النقض صلة لاشتهارهم بها، ووجه تخصيصهم بذلك ان الطعن في هذا المثل جرهم إلى زيادة الطعن في الإسلام فازدادوا بذلك ضلالا على ضلالهم السابق في تغيير دينهم وفي كفرهم بعيسى، فأما المشركون فضلالهم لا يقبل الزيادة، على أن سورة البقرة نزلت بالمدينة وأكثر الرد في الآيات المدنية متوجه إلى أهل الكتاب.
والنقض في اللغة حقيقة في فسخ وحل ما ركب ووصل، بفعل يعاكس الفعل الذي كان به التركيب، وإنما زدت قولي بفعل الخ ليخرج القطع والحرق فيقال نقض الحبل إذا حل ما كان أبرمه، ونقض الغزل ونقض البناء.
وقد استعمل النقض هنا مجازا في إبطال العهد بقرينة إضافته إلى عهد الله وهي استعارة من مخترعات القرآن بنيت على ما شاع في كلام العرب في تشبيه العهد وكل ما فيه وصل بالحبل وهو تشبيه شائع في كلامهم، ومنه قول مالك بن التيهان الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم يوم بيعة العقبة يا رسول الله إن بيننا وبين القوم حبالا ونحن قاطعوها فنخشى إن أعزك الله وأظهرك أن ترجع إلى قومك يريد العهود التي كانت في الجاهلية بين قريش وبين الأوس والخزرج. وكان الشائع في الكلام إطلاق لفظ القطع والصرم وما في معناهما على إبطال العهد أيضا في كلامهم. قال امرؤ القيس:
وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي
وقال لبيد:
أو لم تكن تدري نوار بأنني ... وصال عقد حبائل جذامها
وقال:
بل ما تذكر من نوار وقد نأت ... وتقطعت أسبابها ورمامها
وقال:
فاقطع لبانة من تعرض وصله ... فلشر واصل خلة صرامها
ووجه اختيار استعارة النقض الذي هو حل طيات الحبل إلى إبطال العهد أنها تمثيل لإبطال العهد رويدا رويدا وفي أزمنة متكررة ومعالجة. والنقض أبلغ في الدلالة على الإبطال من القطع والصرم ونحوهما لأن في النقض إفسادا لهيأة الحبل وزوال رجاء عودها وأما القطع فهو تجزئة.
وفي النقض رمز إلى استعارة مكنية لأن النقض من روادف الحبل فاجتمع هنا استعارتان مكنية وتصريحية وهذه الأخيرة تمثيلية وقد تقرر في علم البيان أن ما يرمز به للمشبه به المطروح في المكنية قد يكون مستعملا في معنى حقيقي على طريقة التخييل وذلك حيث لا يكون للمشبه المذكور في صورة المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المطروح، مثل إثبات الأظفار للمنية في قولهم أظفار المنية وإثبات المخالب والناب للكماة في قول أبي فراس الحمداني:
فلما اشتدت الهيجاء كنا ... أشد مخالبا وأحد نابا
وإثبات اليد للشمال في قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة ... إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
وقد يكون مستعملا في معنى مجازي إذا كان للمشبه في المكنية رديف يمكن تشبيهه برديف المشبه به المضمر نحو {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} ، وقد زدنا أنها تمثيلية أيضا والبليغ لا يفلت هاته الاستعارة مهما تأت له ولا يتكلف لها مهما عسرت فليس الجواز المذكور في قرينة المكنية إلا جوازا في الجملة أي بالنظر إلى اختلاف الأحوال.
وهذا الذي هو من روادف المشبه به في صورة المكنية وغيرها قد يقطع عن الربط بالمكنية فيكون استعارة مستقلة وذلك حيث لا تذكر معه لفظا يراد تشبيهه بمشبه به مضمر نحو أن تقول فلان ينقض ما أبرم. وقد يربط بالمكنية وذلك حيث يذكر معه شيء أريد تشبيهه بمشبه به مضمر كما في الآية حيث ذكر النقض مع العهد. وقد يربط بمصرحة وذلك حيث يذكر مع لفظ المشبه به الذي الرادف من توابعه نحو قوله إن بيننا وبين
القوم حبالا نحن قاطعوها وحينئذ يكون ترشيحا للمجاز وهذه الاعتبارات متداخلة لا متضادة إذ قد يصح في الموضع اعتباران منها أو جميعها وإنما التقسيم بالنظر إلى ما ينظر إليه البليغ أول النظر.
واعلم أن رديف المشبه به في المكنية إذا اعتبر استعارة في ذاته قد يتوهم أن اعتباره ذلك ينافي كونه رمزا للمشبه به المضمر كالنقض فإنه لما أريد به إبطال العهد لم يكن من روادف الحبل، لكن لما كان إيذانه بالحبل سابقا عند سماع لفظه لسبق المعنى الحقيقي إلى ذهن السامع حتى يتأمل في القرينة كفى ذلك السبق دليلا ورمزا على المشبه به المضمر فإذا حصل ذلك الرمز لم يضر فهم الاستعارة في ذلك اللفظ، وأجاب عبد الحكيم بأن كونه رادفا بعد كونه استعارة بناء على أنه لما شبه به الرادف وسمي به صار رادفا إدعائيا وفيه تكلف.
و"عهد الله" هو ما عهد به أي ما أوصى برعيه وحفاظه، ومعاني العهد في كلام العرب كثيرة وتصريفه عرفي. قال الزجاج قال بعضهم ما أدري ما العهد ومرجع معانيه إلى المعاودة والمحافظة والمراجعة والافتقاد ولا أدري أي معانيه أصل لبقيتها وغالب ظني أنها متفرع بعضها عن بعض والأقرب أن أصلها هو العهد مصدر عهده عهدا إذا تذكره وراجع إليه نفسه يقولون عهدتك كذا أي أتذكر فيك كذا وعهدي بك كذا، وفي حديث أم زرع ولا يسأل عما عهد أي عما عهد وترك في البيت ومنه قولهم في عهد فلان أي زمانه لأنه يقال للزمان الذي فيه خير وشر لا ينساه الناس، وتعهد المكان أو فلانا وتعاهده إذا افتقده وأحدث الرجوع إليه بعد ترك العهد والوصية ومنه ولي العهد. والعهد اليمين والعهد الالتزام بشيء، يقال عهد إليه وتعهد إليه لأنها أمور لا يزال صاحبها يتذكرها ويراعيها في مواقع الاحتراز عن خفرها. وسمي الموضع الذي يتراجعه الناس بعد البعد عنه معهدا.
والعهد في الآية الذي أخذه الله على بني آدم أن لا يعبدوا غيره: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يّس: 60] الآية فنقضه يشمل الشرك وقد وصف الله المشركين بنقض العهد في قوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} الآية في سورة الرعد. وفسر بالعهد الذي أخذه الله على الأمم على ألسنة رسلهم أنهم إذا بعث بعدهم رسول مصدق لما معهم ليؤمنن به: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] الآيات لأن المقصود من ذلك أخذ العهد على أممهم. وفسر بالعهد الذي أخذه الله على
أهل الكتاب ليبينه للناس: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] الآية في تفاسير أخرى بعيدة.
والصحيح عندي أن المراد بالعهد هو العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل غير مرة من إقامة الدين وتأييد الرسل وأن لا يسفك بعضهم دماء بعض وأن يؤمنوا بالدين كله، وقد ذكرهم القرآن بعهود الله تعالى ونقضهم إياها في غير ما آية من ذلك قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} إلى قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ} [المائدة: 13] الخ وقوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً} [المائدة: 70] إلى قوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} .
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] إلى قوله: {وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85]. بل إن كتبهم قد صرحت بعهود الله تعالى لهم وأنحت عليهم نقضهم لها وجعلت ذلك إنذارا بما يحل بهم من المصائب كما في كتاب أرميا ومراثي أرميا وغير ذلك، بل قد صار لفظ العهد عندهم لقبا للشريعة التي جاء بها موسى. ولما كان قوله: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} الآية وصفا للفاسقين وكان المراد من الفاسقين اليهود كما علمت كان ذكر العهد إيماء إلى أن الفاسقين هنا هم، وتسجيلا على اليهود بأنهم قد حق عليهم هذا الوصف من قبل اليوم بشهادة كتبهم وعلى ألسنة أنبيائهم فكان لاختيار لفظ العهد هنا وقع عظيم يتنزل منزلة المفتاح الذي يوضع في حل اللغز ليشير للمقصود فهو العهد الذي سيأتي ذكره في قوله تعالى {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40].
والميثاق مفعال وهو يكون للآلة كثيرا كمرقاة ومرآة ومحراث. قال الخفاجي كأنه إشباع للمفعل، وللمصدر أيضا نحو الميلاد والميعاد وهو الأظهر هنا. والضمير للعهد أي من بعد توكيد العهد وتوثيقه. ولما كان المراد بالعهد عهدا غير معين، بل كل ما عاهدوا عليه كان توكيد كل ما يفرضه المخاطب بما تقدمه من العهود وما تأخر عنه فهو على حد: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] فالميثاق إذن عهد آخر اعتبر مؤكدا لعهد سبقه أو لحقه.
وقوله: {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} قيل ما أمر الله به أن يوصل هو قرابة الأرحام يعني وحيث ترجح أن المراد به بعض عمل اليهود فذلك إذ تقاتلوا وأخرجوا كثيرا منهم من ديارهم ولم تزل التوراة توصي بني إسرائيل بحسن معاملة بعضهم لبعض. وقيل
الإعراض عن قطع ما أمر الله به أن يوصل هو موالاة المؤمنين. وقيل اقتران القول بالعمل. وقيل التفرقة بين الأنبياء في الإيمان ببعض والكفر ببعض. وقال البغوي يعنى بما أمر الله به أن يوصل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الرسل.
وأقول تكميلا لهذا إن مراد الله تعالى مما شرع للناس منذ النشأة إلى ختم الرسالة واحد وهو إبلاغ البشر إلى الغاية التي خلقوا لها وحفظ نظام عالمهم وضبط تصرفاتهم فيه على وجه لا يعتوره خلل، وإنما اختلفت الشرائع على حسب مبلغ تهيئ البشر لتلقي مراد الله تعالى ولذلك قلما اختلفت الأصول الأساسية للشرائع الإلهية قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ} [الشورى: 13] الآية. وإنما اختلفت الشرائع في تفاريع أصولها اختلافا مراعى فيه مبلغ طاقة البشر لطفا من الله تعالى بالناس ورحمة منه بهم حتى في حملهم على مصالحهم ليكون تلقيهم لذلك أسهل، وعملهم به أدوم، إلى أن جاءت الشريعة الإسلامية في وقت راهق فيه البشر مبلغ غاية الكمال العقلي وجاءهم دين تناسب أحكامه وأصوله استعدادهم الفكري وإن تخالفت الأعصار وتباعدت الأقطار فكان دينا عاما لجميع البشر، فلا جرم أن كانت الشرائع السابقة تمهيدا له لتهيئ البشر لقبول تعاليمه وتفاريعها التي هي غاية مراد الله تعالى من الناس ولذا قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الأِسْلامُ} [آل عمران: 19]. فما من شريعة سلفت إلا وهي حلقة من سلسلة جعلت وصلة للعروة الوثقى التي لا انفصام لها وهي عروة الإسلام فمتى بلغها الناس فقد فصموا ما قبلها من الحلق وبلغوا المراد، ومتى انقطعوا في أثناء بعض الحلق فقد قطعوا ما أراد الله وصله، فاليهود لما زعموا انهم لا يحل لهم العدول عن شريعة التوراة قد قطعوا ما أمر الله به أن يوصل ففرقوا مجتمعه.
والفساد في الأرض تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة:12] ومن الفساد في الأرض عكوف قوم على دين قد اضمحل وقت العمل به وأصبح غير صالح لما أراد الله من البشر فإن الله ما جعل شريعة من الشرائع خاصة وقابلة للنسخ إلا وقد أراد منها إصلاح طائفة من البشر معينة في مدة معينة في علمه، وما نسخ دينا الإلتمام وقت صلوحيته للعمل به فالتصميم على عدم تلقي الناسخ وعلى ملازمة المنسوخ هو عمل بما لم يبق فيه صلاح للبشر فيصير ذلك فسادا في الأرض لأنه كمداواة المريض بدواء كان وصف له في حالة تبدلت من أحوال مرضه حتى أتى دين الإسلام عاما دائما
لأنه صالح للكل.
وقوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} قصر قلب لأنهم ظنوا أنفسهم رابحين وهو استعارة مكنية تمثيلية تقدمت في قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16]. وذكر الخسران تخييل مراد منه الاستعارة في ذاته على نحو ما قرر في: {يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} فهذه الآية ظاهرة في أنها موجهة إلى اليهود لما علمت عند قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ} ولما علمت من كثرة إطلاق وصف الفاسقين على اليهود، وإن كان الذين طعنوا في أمثال القرآن فريقين: المشركين واليهود، كما تقدم وكان القرآن قد وصف المشركين في سورة الرعد وهي مكية بهذه الصفات الثلاث في قوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]
فالمراد بهم المشركون لا محالة فذلك كله لا يناكد جعل آية سورة البقرة موجهة إلى اليهود إذ ليس يلزم المفسر حمله أي القرآن على معنى واحد كما يوهمه صنيع كثير من المفسرين حتى كان آي القرآن عندهم قوالب تفرغ فيها معان متحدة.
واعلم أن الله قد وصف المؤمنين بضد هذه الصفات في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} الآية في سورة الرعد[25]
واعلم أن نزول هذه الآيات ونحوها في بعض أهل الكتاب أو المشركين هو وعيد وتوبيخ للمشركين وأهل الكتاب وهو أيضا موعظة وذكرى للمؤمنين ليعلم سامعوه أن كل من شارك هؤلاء المذمومين فيما أوجب ذمهم وسبب وعيدهم هو آخذ بحظ مما نالهم من ذلك على حسب مقدار المشاركة في الموجب.
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة:28]
ثنى عنان الخطاب إلى الناس الذين خوطبوا بقوله آنفا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21]، بعد أن عقب بأفانين من الجمل المعترضة من قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي} [البقرة: 25] إلى قوله: {الْخَاسِرُونَ} [البقرة: 27]. وليس في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} تناسب مع قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ
يَضْرِبَ مَثَلاً مَا} [البقرة: 26] وما بعده مما حكى عن الذين كفروا في قولهم: {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} [البقرة: 26] حتى يكون الانتقال إلى الخطاب في قوله: {تَكْفُرُونَ} التفاتا فالمناسبة بين موقع هاته الآية بعد ما قبلها هي مناسبة اتحاد الغرض، بعد استيفاء ما تخلل واعترض.
ومن بديع المناسبة وفائق التفنن في ضروب الانتقالات في المخاطبات أن كانت العلل التي قرن بها الأمر بعبادة الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] إلخ هي العلل التي قرن بها إنكار ضد العبادة وهو الكفر به تعالى في قوله هنا {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} فقال فيما تقدم: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22] الآية وقال هنا: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة: 29] وكان ذلك مبدأ التخلص إلى ما سيرد من بيان ابتداء إنشاء نوع الإنسان وتكوينه وأطواره.
فالخطاب في قوله: {تَكْفُرُونَ} متعين رجوعه إلى "الناس" وهم المشركون لأن اليهود لم يكفروا بالله ولا أنكروا الإحياء الثاني.
و"كيف" اسم لا يعرف اشتقاقه يدل على حالة خاصة وهي التي يقال لها الكيفية نسبة إلى كيف ويتضمن معنى السؤال في أكثر موارد استعماله فلدلالته على الحالة كان في عداد الأسماء لأنه أفاد معنى في نفسه إلا أن المعنى الأسمى الذي دل عليه لما كان معنى مبهما شابه معنى الحرف فلما أشربوه معنى الاستفهام قوى شبهه بالحروف لكنه لا يخرج عن خصائص الأسماء فلذلك لا بد له من محل إعراب، وأكثر استعماله اسم استفهام فيعرب إعراب الحال.ويستفهم بكيف عن الحال العامة. والاستفهام هنا مستعمل في التعجيب والإنكار بقرينة قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} إلخ أي أن كفركم مع تلك الحالة شأنه أن يكون منتفيا لا تركن إليه النفس الرشيدة لوجود ما يصرف عنه وهو الأحوال المذكورة بعد فكان من شأنه أن ينكر فالإنكار متولد من معنى الاستفهام ولذلك فاستعماله فيهما من إرادة لازم اللفظ، وكأن المنكر يريد أن يقطع معذرة المخاطب فيظهر له أنه يتطلب منه الجواب بما يظهر السبب فيبطل الإنكار والعجب حتى إذا لم يبد ذلك كان حقيقا باللوم والوعيد.
والكفر بضم الكاف مصدر سماعي لكفر الثلاثي القاصر وأصله جحد المنعم عليه نعمة المنعم اشتق من مادة الكفر بفتح الكاف وهو الحجب والتغطية لأن جاحد النعمة قد
أخفى الاعتراف بها كما أن شاكرها أعلنها. وضده الشكر ولذلك صيغ له مصدر على وزان الشكر وقالوا أيضا كفران على وزن شكران، ثم أطلق الكفر في القرآن على الإشراك بالله في العبادة بناء على أنه أشد صور كفر النعمة إذ الذي يترك عبادة من أنعم عليه في وقت من الأوقات قد كفر نعمته في تلك الساعة إذ توجه بالشكر لغير المنعم وترك المنعم حين عزمه على التوجه بالشكر ولأن عزم نفسه على مداومة ذلك استمرار في عقد القلب على كفر النعمة وإن لم يتفطن لذلك، فكان أكثر إطلاق الكفر بصيغة المصدر في القرآن على الإشراك بالله ولم يرد الكفر بصيغة المصدر في القرآن لغير معنى الإشراك بالله. وقل ورود فعل الكفر أو وصف الكافر في القرآن لجحد رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك حيث تكون قرينة على إرادة ذلك كقوله: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] يريد اليهود.
وأما إطلاقه في السنة وفي كلام أئمة المسلمين فهو الاعتقاد الذي يخرج معتقده عن الإسلام وما يدل على ذلك الاعتقاد من قول أو فعل دلالة لا تحتمل غير ذلك.
وقد ورد إطلاق الكفر في كلام الرسول عليه السلام وكلام بعض السلف على ارتكاب جريمة عظيمة في الإسلام إطلاقا على وجه التغليظ بالتشبيه المفيد لتشنيع ارتكاب ما هو من الأفعال المباحة عند أهل الكفر ولكن بعض فرق المسلمين يتشبثون بظاهر ذلك الإطلاق فيقضون بالكفر على مرتكب الكبائر ولا يلتفتون إلى ما يعارض ذلك في إطلاقات كلام الله ورسوله. وفرق المسلمين يختلفون في أن ارتكاب بعض الأعمال المنهي عنها يدخل في ماهية الكفر وفي أن إثبات بعض الصفات لله تعالى أو نفي بعض الصفات عنه تعالى داخل في ماهية الكفر على مذاهب شتى
ومذهب أهل الحق من السلف والخلف أنه لا يكفر أحد من المسلمين بذنب أو ذنوب من الكبائر فقد ارتكبت الذنوب الكبائر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء فلم يعاملوا المجرمين معاملة المرتدين عن الدين، والقول بتكفير العصاة، خطر على الدين لأنه يؤول إلى انحلال جامعة الإسلام ويهون على المذنب الانسلاخ من الإسلام منشدا "أنا الغريق فما خوفي من البلل"
ولا يكفر أحد بإثبات صفة لله لا تنافي كماله ولا نفي صفة عنه ليس في نفيها نقصان لجلاله فإن كثيرا من الفرق نفوا صفات ما قصدوا بنفيها إلا إجلالا لله تعالى وربما أفرطوا في ذلك كما نفى المعتزلة صفات المعاني وجواز رؤية الله تعالى، وكثير من الفرق أثبتوا
صفات ما قصدوا من إثباتها إلا احترام ظواهر كلامه تعالى كما أثبت بعض السلف اليد والإصبع مع جزمهم بأن الله لا يشبه الحوادث.
والإيمان ذكر معناه عند قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: من الآية3]
وقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} جملة حالية وهي تخلص إلى بيان ما دلت عليه كيف بطريق الإجمال وبيان أولى الدلائل على وجوده وقدرته وهي ما يشعر به كل أحد من أنه وجد بعد عدم.
ولقد دل قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} أن هذا الإيجاد على حال بديع وهو أن الإنسان كان مركب أشياء موصوفا بالموت أي لا حياة فيه إذ كان قد أخذ من العناصر المتفرقة في الهواء والأرض فجمعت في الغذاء وهو موجود ثان ميت ثم استخلصت منه الأمزجة من الدم وغيره وهي ميتة، ثم استخلص منه النطفتان للذكر والأنثى، ثم امتزج فصار علقة ثم مضغة كل هذه أطوار أولية لوجود الإنسان وهي موجودات ميتة ثم بثت فيه الحياة بنفخ الروح فأخذ في الحياة إلى وقت الوضع فما بعده، وكان من حقهم أن يكتفوا به دليلا على انفراده تعالى بالإلهية.
وإطلاق الأموات هنا مجاز شائع بناء على أن الموت هو عدم اتصاف الجسم بالحياة سواء كان متصفا بها من قبل كما هو الإطلاق المشهور في العرف أم لم يكن متصفا بها إذا كان من شأنه أن يتصف بها فعلى هذا يقال للحيوان في أول تكوينه نطفة وعلقة ومضغة ميت لأنه من شأنه أن يتصف بالحياة فيكون إطلاق الأموات في هذه الآية عليهم حين كانوا غير متصفين بالحياة إطلاقا شائعا والمقصود به التمهيد لقوله: {فَأَحْيَاكُمْ} ثم التمهيد والتقريب لقوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ}
وقال كثير من أئمة اللغة الموت انعدام الحياة بعد وجودها وهو مختار الزمخشري والسكاكي وهو الظاهر وعليه فإطلاق الأموات عليهم في الحالة السابقة على حلول الحياة استعارة. واتفق الجميع على أنه إطلاق شائع في القرآن فإن لم يكن حقيقة فهو مجاز مشهور قد ساوى الحقيقة وزال الاختلاف.
والحياة ضد الموت وهي في نظر الشرع نفخ الروح في الجسم، وقد تعسر تعريف الحياة أو تعريف دوامها على الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين تعريفا حقيقيا بالحد، وأوضح تعاريفها بالرسم أنها قوة ينشأ عنها الحس والحركة وأنها مشروطة باعتدال المزاج
والأعضاء الرئيسية التي بها تدوم الدورة الدموية، والمراد بالمزاج التركيب الخاص المناسب مناسبة تليق بنوع ما من المركبات العنصرية وذلك التركيب يحصل من تعادل قوى وأجزاء بحسب ما اقتضته حالة الشيء المركب مع انبثاث الروح الحيواني، فباعتدال ذلك التركيب يكون النوع معتدلا ولكل صنف من ذلك النوع مزاج يخصه بزيادة تركيب، ولكل شخص من الصنف مزاج يخصه ويتكون ذلك المزاج على النظام الخاص تنبعث الحياة في ذي المزاج في إبان نفخ الروح فيه وهي المعبر عنها بالروح النفساني. وقد أشار إلى هذا التكوين حديث الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح" فأشار إلى حالات التكوين التي بها صار المزاج مزاجا مناسبا حتى انبعثت فيه الحياة، ثم بدوام انتظام ذلك المزاج تدوم الحياة وباختلاله تزول الحياة، وذلك الاختلال هو المعبر عنه بالفساد، ومن أعظم الاختلال فيه اختلال الروح الحيواني وهو الدم إذا اختلت دورته فعرض له فساد، وبعروض حالة توقف عمل المزاج وتعطل آثاره يصير الحي شبيها بالميت كحالة المغمى عليه وحالة العضو المفلوج، فإذا انقطع عمل المزاج فذلك الموت. فالموت عدم والحياة ملكة وكلاهما موجود مخلوق قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: من الآية2].
وليس المقصود من قوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} الامتنان بل استدلال محض ذكر شيئا يعده الناس نعمة وشيئا لا يعدونه نعمة وهو الموتتان فلا يشكل وقوع قوله: {أَمْوَاتاً} وقوله: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} في سياق الآية.
وأما قوله: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فذلك تفريع عن الاستدلال وليس هو بدليل إذ المشركون ينكرون الحياة الآخرة فهو إدماج وتعليم وليس باستدلال، أو يكون ما قام من الدلائل على أن هناك حياة ثانية قد قام مقام العلم بها وإن لم يحصل العلم فإن كل من علم وجود الخالق العدل الحكيم ورأي الناس لا يجرون على مقتضى أوامره ونواهيه فيرى المفسد في الأرض في نعمة والصالح في عناء علم أن عدل الله وحكمته ما كان ليضيع عمل عامل وأن هنالك حياة أحكم وأعدل من هذه الحياة تكون أحوال الناس فيها على قدر استحقاقهم وسمو حقائقهم.
وقوله: {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي يكون رجوعكم إليه، شبه الحضور للحساب برجوع السائر إلى منزله باعتبار أن الله خلق الخلق فكأنهم صدورا من حضرته فإذا أحياهم بعد
الموت فكأنهم أرجعهم إليه وهذا إثبات للحشر والجزاء.
وتقديم المتعلق على عامله مفيد القصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين لإفادتهم ذلك إذ كانوا منكرين ذلك وفيه تأييس لهم من نفع أصنامهم إياهم إذ كان المشركون يحاجون المسلمين بأنه إن كان بعث وحشر فسيجدون الآلهة ينصرونهم.
و {تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتح الجيم في قراءة الجمهور، وقرأه يعقوب بفتح التاء وكسر الجيم والقراءة الأولى على اعتبار أن الله أرجعهم وإن كانوا كارهين لأنهم أنكروا البعث والقراءة الثانية باعتبار وقوع الرجوع منهم بقطع النظر عن الاختيار أو الجبر.
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:29]
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً}
هذا إما استدلال ثان على شناعة كفرهم بالله تعالى وعلى أنه مما يقضى منه العجب فإن دلائل ربوبية الله ووحدانيته ظاهرة في خلق الإنسان وفي خلق جميع ما في الأرض فهو ارتقاء في الاستدلال بكثرة المخلوقات، وفصل الجملة السابقة يجوز أن يكون لمراعاة كمال الاتصال بين الجملتين لأن هذه كالنتيجة للدليل الأول لأن في خلق الأرض وجميع ما فيها وفي كون ذلك لمنفعة البشر إكمالا لإيجادهم المشار إليه بقوله: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: من الآية28] لأن فائدة الإيجاد لا تكمل إلا بإمداد الموجود بما فيه سلامته من آلام الحاجة إلى مقومات وجوده. ويجوز أن يكون ترك العطف لدفع أن يوهم العطف أن الدليل هو مجموع الأمرين فبترك العطف يعلم أن الدليل الأول مستقل بنفسه وفي الأول بعد وفي الثاني مخالفة الأصل لأن أصل الفصل أن لا يكون قطعا على أنه توهم لا يضير. وإما أن يكون قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ} امتنانا عليهم بالنعم لتسجيل أن إشراكهم كفران بالنعمة أدمج فيه الاستدلال على أنه خالق لما في الأرض من حيوان ونبات ومعادن استدلالا بما هو نعمة مشاهدة كما أشار إليه قوله: {لَكُمْ} فيكون الفصل بين الجملتين كما قرر آنفا، ولوم يلتفت إلى ما في هذه الجملة من مغايرة للجملة الأولى بالامتنان لأن ما أدمج فيها من الاستدلال رجح اعتبار الفصل.
والخلق تقدم تفسيره عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21]. والأرض اسم للعالم الكروي المشتمل على البر والبحر. الذي يعمره الإنسان
والحيوان والنبات والمعادن وهي المواليد الثلاثة وهذه الأرض هي موجود كائن هو ظرف لما فيه من أصناف المخلوقات وحيث إن العبرة كائنة في مشاهدة الموجودات من المواليد الثلاثة، علق الخلق هنا بما في الأرض مما يحتويه ظرفها من ظاهره وباطنه ولم يعلق بذات الأرض لغفلة جل الناس عن الاعتبار ببديع خلقها إلا أن خالق المظروف جدير بخلق الظرف إذ الظرف إنما يقصد لأجل المظروف فلو كان الظرف من غير صنع خالق المظروف للزم إما تأخر الظرف عن مظروفه وفي ذلك إتلاف المظروف والمشاهدة تنفي ذلك، وإما تقدم الظرف وذلك عبث. فاستفادة أنه خلق الأرض مأخوذة بطريق الفحوى فمن البعيد أن يجوز صاحب الكشاف أن يراد بالأرض الجهة السفلية كما يراد بالسماء الجهة العلوية، وبعده من وجهين أحدهما أن الأرض لم تطلق قط على غير الكرة الأرضية إلا مجازا كما في قول شاعر أنشده صاحب المفتاح في بحث التعريف باللام ولم ينسبه هو ولا شارحوه:
الناس أرض بكل أرض ... وأنت من فوقهم سماء
بخلاف السماء فقد أطلقت على كل ما علا فأظل، والفرق بينهما أن الأرض شيء مشاهد والسماء لا يتعقل إلا بكونه شيئا مرتفعا. الثاني على تسليم القياس فإن السماء لم تطلق على الجهة العليا حتى يصح إطلاق الأرض على الجهة السفلى بل إنما تطلق السماء على شيء عال لا على نفس الجهة.
وجملة: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ} صيغة قصر وهو قصر حقيقي سيق للمخاطبين من المشركين الذين لا شك عندهم في أن الله خالق ما في الأرض ولكنهم نزلوا منزلة الجاهل بذلك فسيق لهم الخبر المحصور لأنهم في كفرهم وانصرافهم عن شكره والنظر في دعوته وعبادته كحال من يجهل أن الله خالق جميع الموجودات. ونظير هذا قوله: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل:17] {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: من الآية73] فإن المشركين ما كانوا يثبتون لأصنامهم قدرة على الخلق وإنما جعلوها شفعاء ووسائط وعبدوها وأعرضوا عن عبادة الله حق عبادته ونسوا الخلق الملتصق بهم وبما حولهم من الأحياء والمقصود من الكلام فيما أراه موافقا للبلاغة التذكير بأن الله هو خالق الأرض وما عليها وما في داخلها وأن ذلك كله خلقه بقدر انتفاعنا بها وبما فيها في مختلف الأزمان والأحوال فأوجز الكلام إيجازا بديعا بإقحام قوله: {لَكُمْ} فأغنى عن جملة كاملة فالكلام مسوق مساق إظهار عظيم القدرة وإظهار عظيم المنة على البشر وإظهار
عظيم منزلة الإنسان عند الله تعالى. وكل أولئك يقتضي اقتلاع الكفر من نفوسهم.
وفي هذه الآية فائدتان:
الأولى: أن لام التعليل دلت على أن خلق ما في الأرض كان لأجل الناس وفي هذا تعليل للخلق وبيان لثمرته وفائدته فتثار عنه مسألة تعليل أفعال الله تعالى وتعلقها بالأغراض. والمسألة مختلف فيها بين المتكلمين اختلافا يشبه أن يكون لفظيا فإن جميع المسلمين اتفقوا على أن أفعال الله تعالى ناشئة عن إرادة واختيار وعلى وفق علمه وأن جميعها مشتمل على حكم ومصالح وأن تلك الحكم هي ثمرات لأفعاله تعالى ناشئة عن حصول الفعل فهي لأجل حصولها عند الفعل تثمر غايات، هذا كله لا خلاف فيه. وإنما الخلاف في أنها أتوصف بكونها أغراضا وعللا غائبة أم لا؟1 فأثبت ذلك جماعة استدلالا بما ورد من نحو قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56]
ومنع من ذلك أصحاب الأشعري فيما عزاه إليهم الفخر في التفسير مستدلين بأن الذي يفعل لغرض يلزم أن يكون مستفيدا من غرضه ذلك ضرورة أن وجود ذلك الغرض أولى بالقياس إليه من عدمه، فيكون مستفيدا من تلك الأولوية ويلزم من كون ذلك الغرض سببا في فعله أن يكون، هو ناقصا في فاعليته محتاجا إلى حصول السبب
وقد أجيب بأن لزوم الاستفادة والاستكمال إذا كانت المنفعة راجعة إلى الفاعل وأما إذا كانت راجعة للغير كالإحسان فلا، فرده الفخر بأنه إذا كان الإحسان أرجح من غيره وأولى لزمت الاستفادة. وهذا الرد باطل لأن الأرجحية لا تستلزم الاستفادة أبدا بل إنما تستلزم تعلق الإرادة، وإنما تلزم الاستفادة لو ادعينا التعين والوجوب.
والحاصل أن الدليل الذي استدلوا به يشتمل على مقدمتين سفسطائيتين أولاهما قولهم إنه لو كان الفعل لغرض للزم أن يكون الفاعل مستكملا به وهذا سفسطة شبه فيها الغرض النافع للفاعل بالغرض بمعنى الداعي إلى الفعل والراجع إلى ما يناسبه من الكمال لا توقف كماله عليه. الثانية قولهم إذا كان الفعل لغرض كان الغرض سببا يقتضي عجز
ـــــــ
1 اعلم أن الأثر المترتب على الفعل إذا نظر إليه من حيث إنه ثمرة سمي فائدة, وإذا نظر إليه من حيث إنه يحصل عند نهاية الفعل سمي غاية"لأن الغاية هي مبلغ سبق خيل الحلبة" فإذا كان مع ذلك داعيا الفاعل إلى الفعل سمي بذلك الا عتبار غرضا وسمي باعتبار حصوله عند نهاية الفعل علة غائية "لأن الغرض هو هدف الرماية فهو كالغاية في السبق".
الفاعل وهذا شبه فيه السبب الذي هو بمعنى الباعث بالسبب الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم وكلاهما يطلق عليه سبب.
ومن العجائب أنهم يسلمون أن أفعال الله تعالى لا تخلو عن الثمرة والحكمة ويمنعون أن تكون تلك الحكم عللا وأغراضا مع أن ثمرة فعل الفاعل العالم بكل شيء لا تخلو من أن تكون غرضا لأنها تكون داعيا للفعل ضرورة تحقق علم الفاعل وإرادته. ولم أدر أي حرج نظروا إليه حين منعوا تعليل أفعال الله تعالى وأغراضها.
ويترجح عندي أن هاته المسألة اقتضاها طرد الأصول في المناظرة فإن الأشاعرة لما أنكروا وجوب فعل الصلاح والأصلح أورد عليهم المعتزلة أو قدروا هم في أنفسهم أن يورد عليهم أن الله تعالى لا يفعل شيئا إلا لغرض وحكمة ولا تكون الأغراض إلا المصالح فالتزموا أن أفعال الله تعالى لا تناط بالأغراض ولا يعبر عنها بالعلل وينبئ عن هذا أنهم لما ذكروا هذه المسألة ذكروا في أدلتهم الإحسان للغير ورعي المصلحة.
وهنالك سبب آخر لفرض المسألة وهو التنزه عن وصف أفعال الله تعالى بما يوهم المنفعة له أو لغيره وكلاهما باطل لأنه لا ينتفع بأفعاله ولأن الغير قد لا يكون فعل الله بالنسبة إليه منفعة.
وهذا وقد نقل أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات عن جمهور الفقهاء والمتكلمين أن أحكام الله تعالى معللة بالمصالح ودرء المفاسد وقد جمع الأقوال الشيخ ابن عرفة في تفسيره فقال هذا هو تعليل أفعال الله تعالى وفيه خلاف وأما أحكامه فمعللة.
الفائدة الثانية: أخذوا من قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} أن أصل استعمال الأشياء فيما يراد له من أنواع الاستعمال هو الإباحة حتى يدل دليل على عدمها لأنه جعل ما في الأرض مخلوقا لأجلنا وامتن بذلك علينا وبذلك قال الإمام الرازي والبيضاوي وصاحب الكشاف ونسب إلى المعتزلة وجماعة من الشافعية والحنفية منهم الكرخي ونسب إلى الشافعي. وذهب المالكية وجمهور الحنفية والمعتزلة في نقل ابن عرفة إلى أن الأصل في الأشياء الوقف ولم يروا الآية دليلا قال ابن العربي في أحكامه إنما ذكر الله تعالى هذه الآية في معرض الدلالة والتنبيه على طريق العلم والقدرة وتصريف المخلوقات بمقتضى التقدير والإتقان بالعلم إلخ.
والحق أن الآية مجملة قصد منها التنبيه على قدرة الخالق بخلق ما في الأرض وأنه
خلق لأجلنا إلا أن خلقه لأجلنا لا يستلزم إباحة استعماله في كل ما يقصد منه بل خلق لنا في الجملة، على أن الامتنان يصدق إذا كان لكل من الناس بعض مما في العالم بمعنى أن الآية ذكرت أن المجموع للمجموع لا كل واحد لكل واحد كما أشار إليه البيضاوي لا سيما وقد خاطب الله بها قوما كافرين منكرا عليهم كفرهم فكيف يعلمون إباحة أو منعا، وإنما محل الموعظة هو ما خلقه الله من الأشياء التي لم يزل الناس ينتفعون بها من وجوه متعددة.
وذهب جماعة إلى أن أصل الأشياء الحظر ونقل عن بعض أهل الحديث وبعض المعتزلة فللمعتزلة الأقوال الثلاثة كما قال القرطبي. قال الحموي في شرح كتاب الأشباه لابن نجيم نقلا عن الإمام الرازي وإنما تظهر ثمرة المسألة في حكم الأشياء أيام الفترة قبل النبوة أي فيما ارتكبه الناس من تناول الشهوات ونحوها ولذلك كان الأصح أن الأمر موقوف وأنه لا وصف للأشياء يترتب من أجله عليها الثواب والعقاب.
وعندي أن هذا لا يحتاج العلماء إلى فرضه لأن أهل الفترة لا شرع لهم وليس لأفعالهم أحكام إلا في وجوب التوحيد عند قوم. وأما بعد ورود الشرع فقد أغنى الشرع عن ذلك فإن وجد فعل لم يدل عليه دليل من نص أو قياس أو استدلال صحيح فالصحيح أن أصل المضار التحريم والمنافع الحل وهذا الذي اختاره الإمام في المحصول فتصير للمسألة ثمرة باعتبار هذا النوع من الحوادث في الإسلام.
{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
انتقال من الاستدلال بخلق الأرض وما فيها وهو مما علمه ضروري للناس، إلى الاستدلال بخلق ما هو أعظم من خلق الأرض وهو أيضا قد يغفل عن النظر في الاستدلال به على وجود الله، وذلك خلق السماوات، ويشبه أن يكون هذا الانتقال استطرادا لإكمال تنبيه الناس إلى عظيم القدرة.
وعطفت "ثم" جملة "استوى" على جملة {خَلَقَ لَكُمْ} . ولدلالة "ثم" على الترتيب والمهلة في عطف المفرد على المفرد كانت في عطف الجملة على الجملة للمهلة في الرتبة وهي مهلة تخييلية في الأصل تشير إلى أن المعطوف بثم أعرق في المعنى الذي تتضمنه الجملة المعطوف عليها حتى كأن العقل يتمهل في الوصول إليه بعد الكلام الأول فينتبه السامع لذلك كي لا يغفل عنه بما سمع من الكلام السابق، وشاع هذا الاستعمال حتى صار كالحقيقة، ويسمى ذلك بالترتيب الرتبي وبترتيب الإخبار بكسر الهمزة كقوله تعالى
{فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13-11] -إلى أن قال: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] فإن قوله: {فَكُّ رَقَبَةٍ} خبر مبتدأ محذوف ولما كان ذكر هاته الأمور التي يعز إيفاؤها حقها مما يغفل السامع عن أمر آخر عظيم نبه عليه بالعطف بثم للإشارة إلى أنه آكد وأهم، ومنه قول طرفة بن العبد يصف راحلته:
جنوح دفاق عندل ثم أفرعت ... لها كتفاها في معالي مصعد1
فإنه لما ذكر من محاسنها جملة نبه على وصف آخر أهم في صفات عنقها وهو طول قامتها.
قال المرزوقي في شرح الحماسة في شرح قول جعفر بن علبة الحارثي2:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة ... يرى غمرات الموت ثم يزورها
إن ثم وإن كان في عطفه المفرد على المفرد يدل على التراخي فإنه في عطفه الجملة على الجملة ليس كذلك وذكر قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} اه. وإفادة التراخي الرتبي هو المعتبر في عطف ثم للجمل سواء وافقت الترتيب الوجودي مع ذلك أو كان معطوفها متقدما في الوجود وقد جاء في الكلام الفصيح ما يدل على معنى البعدية مرادا منه البعدية في الرتبة وإن كان عكس الترتيب الوجودي فتكون البعدية مجازية مبنية على تشبيه البون المعنوى بالبعد المكاني أو الزماني ومنه قوله تعالى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} [القلم:13]
فإن كونه عتلا وزنيما أسبق في الوجود من كونه همازا مشاء بنميم لأنهما صفتان ذاتيتان بخلاف هماز مشاء بنميم، وكذلك قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: من الآية4] فإذا تمحضت ثم للتراخي الرتبي حملت عليه وإن احتملته مع التراخي الزمني فظاهر قول المرزوقي فإنه في عطف الجملة ليس كذلك إنه لا يحتمل حينئذ التراخي الزمني. ولكن يظهر جواز الاحتمالين وذلك حيث يكون المعطوف بها متأخرا في الحصول على ما قبلها وهو مع ذلك كما في بيت جعفر بن علبة. قلت وهو إما مجاز
ـــــــ
1 جنوح بمعنى تميل في سيرها لليمين واليسار لشدة قوتها. والدقاق- بكسر الدال- المندفقة السير بمعنى السريعة والعندل: عظيمة الرأس. وافرعت بمعنى أطيلت كتفاها. في معالي أي في جسم. معالي أي عال مصعد.
2 يحتمل أنه أراد بغمرات الموت مواقع القتال وملاحمه التي لا يطمع الداخل فيها بالسلامة فيكون قواه ثم يزورها للمهلة الحقيقية, ويحتمل أن يريد بالغمرات ما يصيب الكمى من ثخين الجراح وحلول سكرات الموت فيكون قوله ثم يزورها للترتيب الرتبي.
مرسل أو كناية، فإن ألقت "ثم" وأريد منها لازم التراخي وهو البعد التعظيمي كما أريد التعظيم من اسم الإشارة الموضوع للبعيد، والعلاقة وإن كانت بعيدة إلا أنها لشهرتها في كلامهم واستعمالهم ومع القرائن لم يكن هذا الاستعمال مردودا.
واعلم أني تتبعت هذا الاستعمال في مواضعه فرأيته أكثر ما يرد فيما إذا كانت الجمل إخبارا عن مخبر عنه واحد بخلاف ما إذا اختلف المخبر عنه فإن "ثم" تتعين للمهلة الزمنية كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] أي بعد أن أخذنا الميثاق بأزمان صرتم تقتلون أنفسكم ونحو قولك : مرت كتيبة الأنصار ثم مرت كتيبة المهاجرين.
فأما هذه الآية فإنه إذا كانت السماوات متأخرا خلقها عن خلق الأرض فثم للتراخي الرتبي لا محالة مع التراخي الزمني وإن كان خلق السماوات سابقا فثم للترتيب الرتبي لا غير. والظاهر هو الثاني. وقد جرى اختلاف بين علماء السلف في مقتضى الأخبار الواردة في خلق السماوات والأرض فقال الجمهور منهم مجاهد والحسن ونسب إلى ابن عباس إن خلق الأرض متقدم على خلق السماء لقوله تعالى هنا: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وقوله في سورة حم السجدة {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى أن قال {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: من الآية11]. وقال قتادة والسدى ومقاتل إن خلق السماء متقدم واحتجوا بقوله تعالى: {بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} إلى قوله: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات:30]. وقد أجيب بأن الأرض خلقت أولا ثم خلقت السماء ثم دحيت الأرض فالمتأخر عن خلق السماء هو دحو الأرض، على ما ذهب إليه علماء طبقات الأرض من أن الأرض كانت في غاية الحرارة ثم أخذت تبرد حتى جمدت وتكونت منها قشرة جامدة ثم تشققت وتفجرت وهبطت منها أقسام وعلت أقسام بالضغط إلا أن علماء طبقات الأرض يقدرون لحصول ذلك أزمنة متناهية الطول وقدرة الله صالحة لإحداث ما يحصل به ذلك التقلب في أمد قليل بمقارنة حوادث تعجل انقلاب المخلوقات عما هي عليه.
وأرجح القولين هو أن السماء خلقت قبل الأرض لأن لفظ {بَعْدَ ذَلِكَ} أظهر في إفادة التأخر من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ولأن أنظار علماء الهيئة ترى أن الأرض كرة انفصلت عن الشمس كبقية الكواكب السيارة من النظام الشمسي وظاهر سفر التكوين يقتضي أن خلق السماوات متقدم على الأرض. وأحسب أن سلوك القرآن في هذه الآيات
أسلوب الإجمال في هذا الغرض لقطع الخصومة بين أصحاب النظريتين.
والسماء إن أريد بها الجو المحيط بالكرة الأرضية فهو تابع لها متأخر عن خلقها. وإن أريد بها الكواكب العلوية وذلك هو المناسب لقوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} فالكواكب أعظم من الأرض فتكون أسبق خلقا وقد يكون كل من الاحتمالين ملاحظا في مواضع من القرآن غير الملاحظ فيها الاحتمال الآخر.
والاستواء أصله الاستقامة وعدم الاعوجاج يقال صراط مستو، واستوى فلان وفلان واستوى الشيء مطاوع سواه، ويطلق مجازا على القصد إلى الشيء بعزم وسرعة كأنه يسير إليه مستويا لا يلوي على شيء فيعدى بإلا فتكون "إلى" قرينة المجاز وهو تمثيل، فمعنى استواء الله تعالى إلى السماء تعلق إرادته التنجيزي بإيجادها تعلقا يشبه الاستواء في التهيؤ للعمل العظيم المتقن. ووزن استوى افتعل لأن السين فيه حرف أصلي وهو افتعال مجازي وفيه إشارة إلى أنه لما ابتدأ خلق المخلوقات خلق السماوات ومن فيها ليكون توطئة لخلق الأرض ثم خلق الإنسان وهو الذي سيقت القصة لأجله.
وسواهن أي خلقهن في استقامة، واستقامة الخلق هي انتظامه على وجه لا خلل فيه ولا ثلم. وبين استوى وسواهن الجناس المحرف.
والسماء مشتقة من السمو وهو العلو واسم السماء يطلق على الواحد وعلى الجنس من العوالم العليا التي هي فوق العالم الأرضي والراد به هنا الجنس بقرينة قوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} إذ جعلها سبعا، والضمير في قوله: {فَسَوَّاهُنَّ} عائد إلى السماء باعتبار إرادة الجنس لأنه في معنى الجمع وجوز صاحب الكشاف أن يكون المراد من السماء هنا جهة العلو وهو وإن صح لكنه لا داعي إليه كما قاله التفتزاني.
وقد وعد الله تعالى في هذه الآية وغيرها السماوات سبعا وهو أعلم بها وبالمراد منها إلا أن الظاهر الذي دلت عليه القواعد العلمية أن المراد من السماوات الأجرام العلوية العظيمة وهي الكواكب السيارة المنتظمة مع الأرض في النظام الشمسي ويدل لذلك أمور:
أحدها: أن السماوات ذكرت في غالب مواضع القرآن مع ذكر الأرض وذكر خلقها هنا مع ذكر خلق الأرض فدل على أنها عوالم كالعالم الأرضي وهذا ثابت للسيارات.
ثانيها: أنها ذكرت مع الأرض من حيث إنها أدلة على بديع صنع الله تعالى فناسب
أن يكون تفسيرها تلك الأجرام المشاهدة للناس المعروفة للأمم الدال نظام سيرها وباهر نورها على عظمة خالقها.
ثالثها: أنها وصفت بالسبع وقد كان علماء الهيئة يعرفون السيارات السبع من عهد الكلدان وتعاقب علماء الهيئة من ذلك العهد إلى العهد الذي نزل فيه القرآن فما اختلفوا في أنها سبع.
رابعها: أن هاته السيارات هي الكواكب المنضبط سيرها بنظام مرتبط مع نظام سير الشمس والأرض، ولذلك يعبر عنها علماء الهيئة المتأخرون بالنظام الشمسي فناسب أن تكون هي التي قرن خلقها بخلق الأرض. وبعضهم يفسر السماوات بالأفلاك وهو تفسير لا يصح لأن الأفلاك هي الطرق التي تسلكها الكواكب السيارة في الفضاء، وهي خطوط فرضية لا ذوات لها في الخارج.
هذا وقد ذكر الله تعالى السماوات سبعا هنا وفي غير آية وقد ذكر العرش والكرسي بما يدل على أنهما محيطان بالسماوات وجعل السماوات كلها في مقابلة الأرض وذلك يؤيد ما ذهب إليه علماء الهيئة من عد الكواكب السيارة تسعة وهذه أسماؤها على الترتيب في بعدها من الأرض: نبتون. أورانوس. زحل. المشتري. المريخ. الشمس. الزهرة. عطارد. بلكان.
والأرض في اصطلاحهم كوكب سيار وفي اصطلاح القرآن لم تعد معها لأنها التي منها تنظر الكواكب وعد عوضا عنها القمر وهو من توابع الأرض فعده منها عوض عن عد الأرض تقريبا لأفهام السامعين. وأما الثوابت فهي عند علماء الهيئة شموس سابحة في شاسع الأبعاد عن الأرض
وفي ذلك شكوك. ولعل الله لم يجعلها سماوات ذات نظام كنظام السيارات السبع فلم يعدها في السماوات أو أن الله إنما عد لنا السماوات التي هي مرتبطة بنظام أرضنا.
وقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} نتيجة لما ذكره من دلائل القدرة التي لا تصدر إلا من عليم فلذلك قال المتكلمون إن القدرة يجري تعلقها على وفق الإرادة. والإرادة على وفق العلم. وفيه تعريض بالإنكار على كفرهم والتعجيب منه فإن العليم بكل شيء يقبح الكفر به.
وهذه الآية دليل على عموم العلم وقد قال بذلك جميع المليين كما نقله المحقق السلكوتي في الرسالة الخاقانية وأنكر الفلاسفة علمه بالجزيئات وزعموا أن تعلق العلم بالجزيئات لا يليق بالعلم الإلهي وهو توهم لا داعي إليه.
وقرأ الجمهور هاء "وهو" بالضم على الأصل وقرأها قالون وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر بالسكون للتخفيف عند دخول حرف العطف عليه، والسكون أكثر من الضم في كلامهم وذلك مع الواو والفاء ولام الابتداء، ووجهه أن الحروف التي هي على حرف واحد إذا دخلت على الكلمة تنزلت منزلة الجزء منها فصارت الكلمة ثقيلة بدخول ذلك الحرف فيها فخففت بالسكون كما فعلوا ذلك في حركة لام الأمر مع الواو والفاء، ومما يدل على أن أفصح لغات العرب إسكان الهاء من هو إذا دخل عليه حرف أنك تجده في الشعر فلا يتزن البيت إلا بقراءة الهاء ساكنة ولا تكاد تجد غير ذلك بحيث لا يمكن دعوى أنه ضرورة.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30]
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}
عطفت الواو قصة خلق أول البشر على قصة خلق السماوات والأرض انتقالا بهم في الاستدلال على أن الله واحد وعلى بطلان شركهم وتخلصا من ذكر خلق السماوات والأرض إلى خلق النوع الذي هو سلطان الأرض والمتصرف في أحوالها، ليجمع بين تعدد الأدلة وبين مختلف تكوين العوالم وأصلها ليعلم المسلمون ما علمه أهل الكتاب من العلم الذي كانوا يباهون به العرب وهو ما في سفر التكوين من التوراة.
واعلم أن موقع الدليل بخلق آدم على الوحدانية هو أن خلق أصل النوع أمر مدرك بالضرورة لأن كل إنسان إذا لفت ذهنه إلى وجوده علم أنه وجود مسبوق بوجود أصل له بما يشاهد من نشأة الأبناء عن الآباء فيوقن أن لهذا النوع أصلا أول ينتهي إليه نشؤه، وإذ قد كانت العبرة بخلق ما في الأرض جميعا أدمجت فيها منة وهي قوله: {لكُمُ} [البقرة:29] المقتضية أن خلق ما في الأرض لأجلهم تهيأت أنفسهم لسماع قصة إيجاد منشأ الناس الذين خلقت الأرض لأجلهم ليحاط بما في ذلك من دلائل القدرة مع عظيم المنة وهي منة الخلق التي نشأت عنها فضائل جمة ومنة التفضيل ومنة خلافة الله في الأرض، فكان خلق أصلنا هو أبدع مظاهر إحيائنا الذي هو الأصل في خلق ما في الأرض لنا، فكانت المناسبة في الانتقال إلى التذكير به واضحة مع حسن التخلص إلى ذكره خبره العجيب، فإيراد واو العطف هنا لأجل إظهار استقلال هذه القصة في حد ذاتها في عظم شأنها.
و"إذ" من أسماء الزمان المبهمة تدل على زمان نسبة ماضية وقعت فيه نسبة أخرى ماضية قارنتها، فـ"إذ" تحتاج إلى جملتين جملة أصلية وهي الدالة على المظروف وتلك هي التي تكون مع جميع الظروف، وجملة تبين الظرف ما هو، لأن "إذ" لما كانت مبهمة احتاجت لما يبين زمانها عن بقية الأزمنة، فلذلك لزمت إضافتها إلى الجمل أبدا، والأكثر في الكلام أن تكون إذ في محل ظرف لزمن الفعل فتكون في محل نصب على المفعول فيه، وقد تخرج "إذ" عن النصب على الظرفية إلى المفعولية كأسماء الزمان المتصرفة على ما ذهب إليه صاحب الكشاف وهو مختار ابن هشام خلافا لظاهر كلام الجمهور، فهي تصير ظرفا مبهما متصرفا، وقد يضاف إليها اسم زمان نحو يومئذ وساعتئذ فتجر بإضافة صورية ليكون ذكرها وسيلة إلى حذف الجملة المضافة هي إليها، وذلك أن "إذ" ملازمة للإضافة فإذا حذف جملتها علم السامع أن هنالك حذفا، فإذا أرادوا أن يحذفوا جملة مع اسم زمان غير "إذ" خافوا أن لا يهتدي السامع لشيء محذوف حتى يتطلب دليله فجعلوا إذ قرينة على إضافة وحذفوا الجملة لينبهوا السامع فيتطلب دليل المحذوف.
وهي في هذه الآية يجوز أن تكون ظرفا وكذلك أعربها الجمهور وجعلوها متعلقة بقوله: {قَالُوا} وهو يفضي إلى أن يكون المقصود من القصة قول الملائكة وذلك بعيد لأن المقصود من العبرة هو خطاب الله لهم وهو مبدأ العبرة وما تضمنته من تشريف آدم وتعليمه بعد الامتنان بإيجاد أصل نوع الناس الذي هو مناط العبرة من قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] الآيات، ولأنه لا يتأتى في نظيرها وهو قوله الآتي: {وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: 34] إذ وجود فاء التعقيب يمنع من جعل الظرف متعلقا بمدخولها، ولأن الأظهر أن قوله: {قَالُوا} حكاية للمراجعة والمحاورة على طريقة أمثاله كما سنحققه. فالذي ينساق إليه أسلوب النظم فيه أن يكون العطف على جملة: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: 29] أي خلق لكم ما في الأرض وقال للملائكة إني خالق أصل الإنسان لما قدمناه من أن ذكر خلق ما في الأرض وكونه لأجلنا يهيء السامع لترقب ذكر شأننا بعد ذكر شأن ما خلق لأجلنا من سماء وأرض، وتكون إذ على هذا مزيدة للتأكيد قاله أبو عبيدة معمر بن المثنى وأنشد قول الأسود بن يعفر:
فإذ وذلك لامهاء لذكره ... والدهر يعقب صالحا بفساد
هكذا رواه فإذ على أن يكون في البيت زحاف الطي، وفي رواية فإذا فلا زحاف، والمهاء بهاءين الحسن ولا يشكل عليه أن شأن الزيادة أن تكون في الحروف لأن إذ وإذا ونحوهما عوملت معاملة الحروف ، أو أن يكون عطف القصة على القصة ويؤيده أنها تبتدأ بها القصص العجيبة الدالة على قدرة الله تعالى، ألا ترى أنها ذكرت أيضا في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} ولم تذكر فيما بينهما وتكون "إذ" اسم زمان مفعولا به بتقدير اذكر، كثير من القرآن والمقصود من تعليق الذكر والقصة بالزمان إنما هو ما حصل في ذلك الزمان من الأحوال. وتخصيص اسم الزمان دون اسم المكان لأن الناس تعارفوا إسناد الحوادث التاريخية والقصص إلى أزمان وقوعها.
وكلام الله تعالى للملائكة أطلق على ما يفهمون منه إرادته وهو العبر عنه بالكلام النفسي فيحتمل أنه كلام سمعوه فإطلاق القول عليه حقيقة وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة، فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم اشتكت النار إلى ربها وقوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وقول أبي النجم إذ قالت الآطال للبطن الحق ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين.
والملائكة جمع ملك وأصل صيغة الجمع ملائكة والتاء لتأكيد الجمعية لما في التاء من الإيذان بمعنى الجماعة، والظاهر أن تأنيث ملائكة سرى إلى لغة العرب من كلام المتنصرين منهم إذ كانوا يعتقدون أن الأملاك بنات الله واعتقده العرب أيضا قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ} [النحل: 57] فملائك جمع ملأك كشمائل وشمأل، ومما يدل
عليه أيضا قول بعض شعراء عبد القيس أو غيره.
ولست لإنسي ولكن لملأك ... تنزل من جو السماء يصوب1
ثم قالوا ملك تخفيفا.
وقد اختلفوا في اشتقاقه فقال أبو عبيدة هو مفعل من لأك بمعنى أرسل ومنه قولهم في الأمر بتبليغ رسالة ألكنى أليه أي كن رسولي إليه وأصل ألكنى ألإكنى وإن لم يعرف له فعل. وإنما اشتق اسم الملك من الإرسال لأن الملائكة رسل الله إما بتبليغ أو تكوين كما في الحديث ثم يرسل إليه أي للجنين في بطن أمه الملك فينفخ فيه الروح، فعلى هذا القول هو مصدر ميمي بمعنى اسم المفعول، وقال الكسائي هو مقلوب ووزنه الآن معفل وأصله مألك من الألوك والألوكة وهي الرسالة ويقال مألك ومألكة بفتح اللام وضمها فقلبوا فيه قلبا مكانيا فقالوا ملأك فهو صفة مشبهة. وقال ابن كيسان هو مشتق من الملك بفتح الميم وسكون اللام والملك بمعنى القوة قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: من الآية6] والهمزة مزيدة فوزنه فعأل بسكون العين وفتح الهمزة كشمأل، ورد بأن دعوى زيادة حرف بلا فائدة دعوى بعيدة، ورد مذهب الكسائي بأن القلب خلاف الأصل، فرجح مذهب أبي عبيدة، ونقل القرطبي عن النضر بن شميل أنه قال لا اشتقاق للملك عند العرب يريد أنهم عربوه من اللغة العبرانية ويؤيده أن التوراة سمت الملك ملاكا بالتخفيف، وليس وجود كلمة متقاربة اللفظ والمعنى في لغتين بدال على أنها منقولة من إحداهما إلى الأخرى إلا بأدلة أخرى.
والملائكة مخلوقات نورانية سماوية مجبولة على الخير قادرة على التشكل في خرق العادة لأن النور قابل للتشكل في كيفيات ولأن أجزاءه لا تتزاحم ونورها لا شعاع له فلذلك لا تضيء إذا اتصلت بالعالم الأرضي وإنما تتشكل إذا أراد الله أن يظهر بعضهم لبعض رسله وأنبيائه على وجه خرق العادة. وقد جعل الله تعالى لها قوة التوجه إلى الأشياء التي يريد الله تكوينها فتتولى التدبير لها ولهذه التوجهات الملكية حيثيات ومراتب كثيرة تتعذر الإحاطة بها وهي مضادة لتوجهات الشياطين، فالخواطر الخيرية من توجهات
ـــــــ
1 قال أبو عبيدة البيت لشاعر جاهلي من عبد القيس يمدح بعض الملوط كما في "الصحاح", وقيل:الممدوح النعمان وقال ابن السرافي: البيت لأبي وجزة يمدح عبد الله بن الزبير. قلت ذكر ابن السيرافي في "شرح أبيات صلاح المنطق" القولين ولم يقتصر على ما نسبه إليه "شارح القاموس", وأنشده الكسائي لعلقمة بن عبدة يمدح الحارث بن جبلةبن أبي شمر.
الملائكة وعلاقتها بالنفوس البشرية وبعكسها خواطر الشر.
والخليفة في الأصل الذي يخلف غيره أو يكون بدلا عنه في عمل يعمله، فهو فعيل بمعنى فاعل والتاء فيه للمبالغة في الوصف كالعلامة. والمراد من الخليفة هنا أما المعنى المجازي وهو الذي يتولى عملا يريده المستخلف مثل الوكيل والوصي أي جاعل في الأرض مدبرا يعمل ما نريده في الأرض فهو استعارة أو مجاز مرسل وليس بحقيقة لأن الله تعالى لم يكن حالا في الأرض ولا عاملا فيها العمل الذي أودعه في الإنسان وهو السلطنة على موجودات الأرض، ولأن الله تعالى لم يترك عملا كان يعمله فوكله إلى الإنسان بل التدبير الأعظم لم يزل الله تعالى فالإنسان هو الموجود الوحيد الذي استطاع بما أودع الله في خلقته أن يتصرف في مخلوقات الأرض بوجوه عظيمة لا تنتهي خلاف غيره من الحيوان، وإما أن يراد من الخليفة معناه الحقيقي إذا صح أن الأرض كانت معمورة من قبل بطائفة من المخلوقات يسمون الحن والبن بحاء مهملة مكسورة ونون في الأول، وبموحدة مكسورة ونون في الثاني. وقيل اسمهم الطم والرم بفتح أولهما، وأحسبه من المزاعم، وأن وضع هذين الاسمين من باب قول الناس هيان بن بيان إشارة إلى غير موجود أو غير معروف. ولعل هذا أنجز لأهل القصص من خرافات الفرس أو اليونان فإن الفرس زعموا أنه كان قبل الإنسان في الأرض جنس اسمه الطم والرم وكان اليونان يعتقدون أن الأرض كانت معمورة بمخلوقات تدعى التيتان وأن زفس و هو المشتري كبير الأرباب في اعتقادهم جلاهم من الأرض لفسادهم. وكل هذا ينافيه سياق الآية فإن تعقيب ذكر خلق الأرض ثم السماوات بذكر إرادته تعالى جعل الخليفة دليل على أن جعل الخليفة كان أول الأحوال على الأرض بعد خلقها فالخليفة هنا الذي يخلف صاحب الشيء في التصرف في مملوكاته ولا يلزم أن يكون المخلوق مستقرا في المكان من قبل، فالخليفة آدم وخلفيته قيامه بتنفيذ مراد الله تعالى من تعمير الأرض بالإلهام أو بالوحي وتلقين ذريته مراد الله تعالى من هذا العالم الأرضي، ومما يشمله هذا التصرف تصرف آدم بسن النظام لأهله وأهاليهم على حسب وفرة عددهم واتساع تصرفاتهم. فكانت الآية من هذا الوجه إيماء إلى حاجة البشر إلى إقامة خليفة لتنفيذ الفصل بين الناس في منازعاتهم إذ لا يستقيم نظام يجمع البشر بدون ذلك، وقد بعث الله الرسل وبين الشرائع فربما اجتمعت الرسالة والخلافة وربما انفصلتا بحسب ما أراد الله من شرائعه إلى أن جاء الإسلام فجمع الرسالة والخلافة لأن دين الإسلام غاية مراد الله تعالى من الشرائع وهو الشريعة الخاتمة ولأن امتزاج الدين والملك هو أكمل مظاهر الخطتين قال تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ
إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء:64] ولهذا أجمع أصحاب رسول الله بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم على إقامة الخليفة لحفظ نظام الأمة وتنفيذ الشريعة ولم ينازع في ذلك أحد من الخاصة ولا من العامة إلا الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى، من جفاة الأعراب ودعاة الفتنة فالمناظرة مع أمثالهم سدى.
وللخليفة شروط محل بيانها كتب الفقه والكلام، وستجيء مناسبتها في آيات آتية.
والظاهر أن خطابه تعالى هذا للملائكة كان عند إتمام خلق آدم عند نفخ الروح فيه أو قبل النفخ والأول أظهر، فيكون المراد بالمخبر عن جعله خليفة هو ذلك المخلوق كما يقول الذي كتب كتابا بحضرة جليس إني مرسل كتابا إلى فلان فإن السامع يعلم أن المراد أن ذلك الذي هو بصدد كتابته كتاب لفلان، ويجوز أن يكون خطابهم بذلك قبل خلق آدم، وعلى الوجوه كلها يكون اسم الفاعل في قوله: {جَاعِلٌ} للزمن المستقبل لأن وصف الخليفة لم يكن ثابتا لآدم ساعتئذ.
وقول الله هذا موجه إلى الملائكة على وجه الإخبار ليسوقهم إلى معرفة فضل الجنس الإنساني على وجه يزيل ما علم الله أنه في نفوسهم من سوء الظن بهذا الجنس، وليكون كالاستشارة لهم تكريما لهم فيكون تعليما في قالب تكريم مثل إلقاء المعلم فائدة للتلميذ في صورة سؤال وجواب وليسن الاستشارة في الأمور، ولتنبيه الملائكة على ما دق وخفى من حكمه خلق آدم كذا ذكر المفسرون.
وعندي أن هاته الاستشارة جعلت لتكون حقيقة مقارنة في الوجود لخلق أول البشر حتى تكون ناموسا أشربته نفوس ذريته لأن مقارنة شيء من الأحوال والمعاني لتكوين شيء ما، تؤثر تآلفا بين ذلك الكائن وبين المقارن. ولعل هذا الاقتران يقوم في المعاني التي لا توجد إلا تبعا لذوات مقام أمر التكوين في الذوات فكما أن أمره إذا أراد شيئا أي إنشاء ذات أن يقول له كن فيكون، كذلك أمره إذا أراد اقتران معنى بذات أو جنس أن يقدر حصول مبدأ ذلك المعنى عند تكوين أصل ذلك الجنس أو عند تكوين الذات، ألا ترى أنه تعالى لما أراد أن يكون قبول العلم من خصائص الإنسان علم آدم الأسماء عندما خلقه.
وهذا هو وجه مشروعية تسمية الله تعالى عند الشروع في الأفعال ليكون اقتران ابتدائها بلفظ اسمه تعالى مفيضا للبركة على جميع أجزاء ذلك الفعل، ولهذا أيضا طلبت منا الشريعة تخير أكمل الحالات وأفضل الأوقات للشروع في فضائل الأعمال ومهمات المطالب وتقدم هذا في الكلام على البسملة، وسنذكر ما يتعلق بالشورى عند قوله
تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: من الآية159]
وأسندت حكاية هذا القول إلى الله سبحانه بعنوان الرب لأنه قول منبئ عن تدبير عظيم في جعل الخليفة في الأرض، ففي ذلك الجعل نعمة تدبير مشوب بلطف وصلاح وذلك من معاني الربوبية كما تقدم في قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2] ولما كانت هذه النعمة شاملة لجميع النوع أضيف وصف الرب إلى ضمير أشرف أفراد النوع وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع تكريمه بشرف حضور المخاطبة.
{قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} هذا جواب الملائكة عن قول الله لهم {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فالتقدير فقالوا على وزان قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة: من الآية34] وفصل الجواب ولم يعطف بالفاء أو الواو جريا به على طريقة متبعة في القرآن في حكاية المحاورات وهي طريقة عربية قال زهير.
قيل لهم ألا اركبوا ألاتا ... قالوا جميعا كلهم آلافا
أي فاركبوا ولم يقل فقالوا. وقال رؤية بن العجاج.
قالت بنات العم يا سلمى وإن ... كان فقيرا معدما قالت وإن
وإنما حذفوا العاطف في أمثاله كراهية تكرير العاطف بتكرير أفعال القول فإن المحاورة تقتضي الإعادة في الغالب فطردوا الباب فحذفوا العاطف في الجميع وهو كثير في التنزيل وربما عطفوا ذلك بالفاء لنكتة تقتضي مخالفة الاستعمال وإن كان العطف بالفاء هو الظاهر والأصل وهذا مما لم أسبق إلى كشفه من أساليب الاستعمال العربي،
ومما عطف بالفاء قوله تعالى: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ فَقَالَ الْمَلَأُ} [هود: من الآية27] في سورة المؤمنين وقد يعطف بالواو أيضا كما في قوله: { فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} [المؤمنون: من الآية33] إلخ في سورة المؤمنون وذلك إذا لم يكن المقصود حكاية التحاور بل قصد الإخبار عن أقوال جرت أو كانت الأقوال المحكية مما جرى في أوقات متفرقة أو أمكنة متفرقة. ويظهر ذلك لك في قوله تعالى: {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: من الآية25] -إلى قوله : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: من الآية26] ثم قال تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} ثم قال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [الآية28]
في سورة غافر، وليس في قوله: {قَالُوا أَتَجْعَلُ} جوابا لإذ عاملا فيها لما قدمناه آنفا من أنه يفضي إلى أن يكون قولهم {أَتَجْعَلُ فِيهَا} هو المقصود من القصة وأن تصير جملة إذ تابعة له إذ الظرف تابع للمظروف.
والاستفهام المحكي عن كلام الملائكة محمول على حقيقته مضمن معنى التعجب والاستبعاد من أن تتعلق الحكمة بذلك فدلالة الاستفهام على ذلك هنا بطريق الكناية مع تطلب ما يزيل إنكارهم واستبعادهم فلذلك تعين بقاء الاستفهام على حقيقته خلافا لمن توهم الاستفهام هنا لمجرد التعجب، والذي أقدم الملائكة على هذا السؤال أنهم علموا أن الله لما أخبرهم أراد منهم إظهار علمهم تجاه هذا الخبر لأنهم مفطورون على الصدق والنزاهة من كل مؤاربة فلما نشأ ذلك في نفوسهم أفصحت عنه دلالة تدل عليه يعلمها الله تعالى من أحوالهم لا سيما إذا كان من تمام الاستشارة أن يبدي المستشار ما يراه نصحا وفي الحديث المستشار مؤتمن وهو بالخيار ما لم يتكلم يعني إذا تكلم فعليه أداء أمانة النصيحة.
وعبر بالموصول وصلته للإيماء إلى وجه بناء الكلام وهو الاستفهام والتعجب لأن من كان من شأنه الفساد والسفك لا يصلح للتعمير لأنه إذا عمر نقض ما عمره. وعطف سفك الدماء على الإفساد للاهتمام به. وتكرير ضمير الأرض للاهتمام بها والتذكير بشأن عمرانها وحفظ نظامها ليكون ذلك أدخل في التعجب من استخلاف آدم وفي صرف إرادة الله تعالى عن ذلك إن كان في الاستشارة ائتمار.
والإفساد تقدم في قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12].
والسفك الإراقة وقد غلب في كلامهم تعديته إلى الدماء وأما إراقة غير الدم فهي سفح بالحاء. وفي المجيء بالصلة جملة فعلية دلالة على توقع أن يتكرر الإفساد والسفك من هذا المخلوق وإنما ظنوا هذا الظن بهذا المخلوق من جهة ما استشعروه من صفات هذا المخلوق المستخلف بإدراكهم النوراني لهيئة تكوينه الجسدية والعقلية والنطقية إما بوصف الله لهم هذا الخليفة أو برؤيتهم صورة تركيبه قبل نفخ الروح فيه وبعده، والأظهر أنهم رأوه بعد نفخ الروح فيه فعلموا أنه تركيب يستطيع صاحبه أن يخرج عن الجبلة إلى الاكتساب وعن الامتثال الى العصيان فإن العقل يشتمل على شاهية وغاضبة وعاقلة ومن مجموعها ومجموع بعضها تحصل تراكيب من التفكير نافعة وضارة، ثم إن القدرة التي في الجوارح تستطيع تنفيذ كل ما يخطر للعقل وقواه أن يفعله ثم إن النطق يستطيع إظهار
خلاف الواقع وترويج الباطل، فيكون من أحوال ذلك فساد كبير ومن أحواله أيضا صلاح عظيم وإن طبيعة استخدام ذي القوة لقواه قاضية بأنه سيأتي بكل ما تصلح له هذه القوى خيرها وشرها فبحصل فعل مختلط من صالح وسيء، ومجرد مشاهدة الملائكة لهذا المخلوق العجيب المراد جعله خليفة في الأرض كاف في إحاطتهم بما يشتمل عليه من عجائب الصفات على نحو ما سيظهر منها في الخارج لأن مداركهم غاية في السمو لسلامتها من كدرات المادة، وإذا كان أفراد البشر يتفاوتون في الشعور بالخفيات، وفي توجه نورانية النفوس إلى المعلومات، وفي التوسم والتفرس في الذوات بمقدار تفاوتهم في صفات النفس جبلية واكتسابية ولدنية التي أعلاها النبوة، فما ظنك بالنفوس الملكية البحتة.
وفي هذا ما يغنيك عما تكلف له بعض المفسرين من وجه اطلاع الملائكة على صفات الإنسان قبل بدوها منه من توقيف واطلاع على ما في اللوح أي علم الله، أو قياس على أمة تقدمت وانقرضت، أو قياس على الوحوش المفترسة إذ كانت قد وجدت على الأرض قبل خلق آدم كما في سفر التكوين من التوراة. وبه أيضا تعلم أن حكم الملائكة هذا على ما يتوقع هذا الخلق من البشر لم يلاحظ فيه واحد دون آخر، لأنه حكم عليهم قبل صدور الأفعال منهم وإنما هو حكم بما يصلحون له بالقوة، فلا يدل ذلك على أن حكمهم هذا على بني آدم دون آدم حيث لم يفسد، لأن في هذا القول غفلة عما ذكرناه من البيان.
وأوثر التعبير بالفعل المضارع في قوله: {مَنْ يُفْسِدُ} {وَيَسْفِكُ} لأن المضارع يدل على التجدد والحدوث دون الدوام أي من يحصل منه الفساد تارة وسفك الدماء تارة لأن الفساد والسفك ليسا بمستمرين من البشر.
وقولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} دليل على أنهم علموا أن مراد الله من خلق الأرض هو صلاحها وانتظام أمرها وإلا لما كان للاستفهام المشوب بالتعجب موقع وهم علموا مراد الله ذلك من تلقيهم عنه سبحانه أو من مقتضى حقيقة الخلافة أو من قرائن أحوال الاعتناء بخلق الأرض وما عليها على نظم تقتضي إرادة بقائها إلى أمد، وقد دلت آيات كثيرة على أن إصلاح العالم مقصد للشارع قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [محمد: 23] وقال: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205]
ولا يرد هنا أن هذا القول غيبة وهم منزهون عنها لأن ذلك العالم ليس عالم تكليف ولأنه لا غيبة في مشورة ونحوها كالخطبة والتجريح لتوقف المصلحة على ذكر ما في المستشار في شأنه من النقائص، ورجحان تلك المصلحة على مفسدة ذكر أحد بما يكره، ولأن الموصوف بذلك غير معين إذا الحكم على النوع، فانتفى جميع ما يترتب على الغيبة من المفاسد في واقعة الحال فلذلك لم يحجم عنها الملائكة.
و {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}
الواو متعينة للحالية إذ لا موقع للعطف هنا وإن كان ما بعد الواو من مقولهم ومحكيا عنهم لكن الواو من المحكي وليست من الحكاية لأن قولهم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} يحتمل معنيين أحدهما أن يكون الغرض منه تفويض الأمر إلى الله تعالى واتهام علمهم فيما أشاروا به كما يفعل المستشار مع من يعلم أنه أسد منه رأيا وأرجح عقلا فيشير ثم يفوض كما قال أهل مشورة بلقيس إذ قالت: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} أي الرأي أن نحاربه ونصده عما يريد من قوله: {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ} وكما يفعل التلميذ مع الأستاذ في بحثه معه ثم يصرح بأنه مبلغ علمه، وأن القول الفصل للأستاذ، أو هو إعلان بالتنزيه للخالق عن أن يخفي عليه ما بدا لهم من مانع استخلاف آدم، وبراءة من شائبة الاعتراض، والله تعالى وإن كان يعلم براءتهم من ذلك إلا أن كلامهم جرى على طريقة التعبير عما في الضمير من غير قصد إعلام الغير، أو لأن في نفس هذا التصريح تبركا وعبادة، أو إعلان لأهل الملأ الأعلى بذلك.
فإذا كان كذلك كان العطف غير جائر لأن الجملة المحكية بالقول إذا عطفت عليها جملة أخرى من القول فالشأن أن لا يقصد العطف على تقدير عامل القول إلا إذا كان القولان في وقتين كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: 173] على أحد الوجوه في عطف جملة: {نِعْمَ الْوَكِيلُ} عند من لا يرون صحة عطف الإنشاء على الخبر وإن كان الحق صحة عطف الإنشاء على الخبر وعكسه وأنه لا ينافي حسن الكلام، فلذلك لم يكن حظ للعطف، ألا ترى أنهم إذا حكوا حادثا ملما أو مصابا جما أعقبوه بنحو حسبنا الله ونعم الوكيل أو إنا لله وإنا إليه راجعون أو نحو ذلك ولا يعطفون
مثل ذلك فكانت الواو واو الحال للإشارة إلى أن هذا أمر مستحضر لهم في حال قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ} وليس شيئا خطر لهم بعد أن توغلوا في الاستبعاد والاستغراب.
الاحتمال الثاني: أن يكون الغرض من قولهم {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} التعريض بأنهم أولى بالاستخلاف لأن الجملة الاسمية دلت على الدوام وجملة {مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} دلت على توقع الفساد والسفك فكان المراد أن استخلافه يقع منه صلاح وفساد والذين لا يصدر منهم عصيان مراد الله هم أولى بالاستخلاف ممن يتوقع منه الفساد فتكون حالا مقررة لمدلول جملة {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ} تكملة للاستغراب، وعاملها هو {تَجْعَلُ} وهذا الذي أشار إليه تمثيل الكشاف. والعامل في الحال هو الاستفهام لأنه مما تضمن معنى الفعل لا سيما إذا كان المقصود منه التعجب أيضا إذ تقدير أتجعل فيها إلخ نتعجب من جعله خليفة.
والتسبيح قول أو مجموع قول مع عمل يدل على تعظيم الله تعالى وتنزيهه ولذلك سمي ذكر الله تسبيحا، والصلاة سبحة ويطلق التسبيح على قول سبحان الله لأن ذلك القول من التنزيه وقد ذكروا أن التسبيح مشتق من السبح وهو الذهاب السريع في الماء إذ قد توسع في معناه إذ أطلق مجازا على مر النجوم في السماء قال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يّس: من الآية40] وعلى جرى الفرس قالوا فلعل التسبيح لوحظ فيه معنى سرعة المرور في عبادة الله تعالى، وأظهر منه أن يكون سبح بمعنى نسب للسبح أي البعد وأريد البعد الاعتباري وهو الرفعة أي التنزيه عن أحوال النقائص وقيل سمع سبح مخففا غير مضاعف بمعنى نزه، ذكره في القاموس.
وعندي أن كون التسبيح مأخوذا من السبح على وجه المجاز بعيد والوجه أنه مأخوذ من كلمة سبحان ولهذا التزموا في هذا أن يكون بوزن فعل المضاعف فلم يسمع مخففا.
وإذا كان التسبيح كما قلنا هو قول أو قول وعمل يدل على التعظيم فتعلق قوله {بِحَمْدِكَ} به هنا وفي أكثر المواضع في القرآن ظاهر لأن القول يشتمل على حمد الله تعالى وتمجيده والثناء عليه فالباء للملابسة أي نسبح تسبيحا مصحوبا بالحمد لك وبذلك تنمحي جميع التكلفات التي فسروا بها هنا.
والتقديس التنزيه والتطهير وهو إما بالفعل كما أطلق المقدس على الراهب في قول امرئ القيس يصف تعلق الكلاب بالثور الوحشي:
فأدركنه يأخذن بالساق والنسا ... كما شبرق الولدان ثوب المقدس1
وإما بالاعتقاد كما في الحديث لا قدست أمة لا يؤخذ لضعيفها من قويها أي لا نزهها الله تعالى وطهرها من الأرجاس الشيطانية.
وفعل قدس يتعدى بنفسه فالإتيان باللام مع مفعوله في الآية لإفادة تأكيد حصول الفعل نحو شكرت لك ونصحت لك وفي الحديث عند ذكر الذي وجد كلبا يلهث من العطش فأخذ خفه فأدلاه في الركية فسقاه فشكر الله له أي شكره مبالغة في الشكر لئلا يتوهم ضعف ذلك الشكر من أنه عن عمل حسنة مع دابة فدفع هذا الإيهام بالتأكيد باللام وهذا من أفصح الكلام، فلا تذهب مع الذين جعلوا قوله لك متعلقا بمحذوف تقديره حامدين أو هو متعلق بنسبح واللام بمعنى لأجلك على معنى حذف مفعول نسبح أي نسبح أنفسنا أي ننزهها عن النقائص لأجلك أي لطاعتك فذلك عدول عن فصيح الكلام، ولك أن تجعل اللام لام التبيين التي سنتعرض لها عند قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]
فمعنى: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} نحن نعظمك وننزهك والأول بالقول والعمل والثاني باعتقاد صفات الكمال المناسبة للذات العلية، فلا يتوهم التكرار بين نسبح ونقدس.
وأوثرت الجملة الإسمية في قوله: {وَنَحْنُ نُسَبِّحُ} لإفادة الدلالة على الدوام والثبات أي هو وصفهم الملازم لجبلتهم، وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي دون حرف النفي يحتمل أن يكون للتخصيص بحاصل ما دلت عليه الجملة الاسمية من الدوام أي نحن الدائمون على التسبيح والتقديس دون هذا المخلوق والأظهر أن التقديم لمجرد التقوى نحو هو يعطي الجزيل.
{قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ}
جواب لكلامهم فهو جار على أسلوب المقاولة في المحاورات كما تقدم، أي أعلم ما في البشر من صفات الصلاح ومن صفات الفساد،
ـــــــ
1 شبرق: مزق أي يأخذون من ثوبه تبركا به. وقيل أراد من المقدس الذي رجع من زيارة بيت المقدس.
وأعلم أن صلاحه يحصل منه المقصد من تعمير الأرض وأن فساده لا يأتي على المقصد بالإبطال وأن في ذلك كله مصالح عظيمة ومظاهر لتفاوت البشر في المراتب واطلاعا على نموذج من غايات علم الله تعالى وإرادته وقدرته بما يظهره البشر من مبالغ نتائج العقول والعلوم والصنائع والفضائل والشرائع وغير ذلك. كيف ومن أبدع ذلك أن تركب الصفتين الذميمتين يأتي بصفات الفضائل كحدوث الشجاعة من بين طرفي التهور والجبن. وهذا إجمال في التذكير بأن علم الله تعالى أوسع مما علموه فهم يوقنون إجمالا أن لذلك حكمة ومن المعلوم أن لا حاجة هنا لتقدير وما تعلمون بعد {مَا لا تَعْلَمُونَ} لأنه معروف لكل سامع ولأن الغرض لم يتعلق بذكره وإنما تعلق بذكر علمه تعالى بما شذ عنهم. وقد كان قول الله تعالى هذا تنهية للمحاورة وإجمالا للحجة على الملائكة بأن سعة علم الله تحيط بما لم يحط به علمهم وأنه حين أراد أن يجعل آدم خليفة كانت إرادته عن علم بأنه أهل للخلافة، وتأكيد الجملة بأن لتنزيل الملائكة في مراجعتهم وغفلتهم عن الحكمة منزلة المترددين.
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:31]
{وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
معطوف على قوله: {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: من الآية30] عطف حكاية الدليل التفصيلي على حكاية الاستدلال الإجمالي الذي اقتضاه قوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} فإن تعليم آدم الأسماء وإظهار فضيلته بقبوله لهذا التعليم دون الملائكة جعله الله حجة على قوله لهم: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} أي ما لا تعلمون من جدارة هذا المخلوق بالخلافة في الأرض وعطف ذكر آدم بعد ذكر مقالة الله للملائكة وذكر محاورتهم يدل على أن هذا الخليفة هو آدم وأن آدم اسم لذلك الخليفة وهذا الأسلوب من بديع الإجمال والتفصيل والإيجاز كما قال النابغة:
فقلت لهم لا أعرفن عقائلا ... رعابيب من جنبي أريك وعاقل
الأبيات ثم قال بعدها:
وقد خفت حتى ما تزيد مخافتي ... على وعل في ذي المطارة عاقل
مخافة عمرو أن تكون جياده ... يقدن إلينا بين حاف وناعل
فدل على أن ما ذكره سالفا من العقائل التي بين أريك وعاقل ومن الأنعام المغتنمة هو ما يتوقع من غزو عمرو بن الحرث الغساني ديار بني عوف من قومه.
وآدم اسم الإنسان الأول أبي البشر في لغة العرب وقيل منقول من العبرانية لأن أداما بالعبرانية بمعنى الأرض وهو قريب لأن التوراة تكلمت على خلق آدم وأطالت في أحواله فلا يبعد أن يكون اسم أبي البشر قد اشتهر عند العرب من اليهود وسماع حكايتهم، ويجوز أن يكون هذا الاسم عرف عند العرب والعبرانيين معا من أصل اللغات السامية فاتفقت عليه فروعها. وقد سمي في سفر التكوين من التوراة بهذا الاسم آدم ووقع في دائرة المعارف العربية أن آدم سمي نفسه إيش أي ذا مقتنى وترجمته إنسان أو قرء. قلت ولعله تحريف إيث كما ستعلمه عند قوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: 35]
والإنسان الأول أسماء أخر في لغات الأمم وقد سماه الفرس القدماء كيومرت بفتح الكاف في أوله وبتاء مثناة فوقية في آخره، ويسمى أيضا كيامرتن بألف عوض الواو وبكسر الراء وبنون بعد المثناة الفوقية، قالوا إنه مكث في الجنة ثلاثة آلاف سنه ثم هبط إلى الأرض فعاش في الأرض ثلاثة آلاف سنة أخرى، واسمه في العبرانية آدم كما سمي في التوراة وانتقل هذا الاسم إلى اللغات الأفرنجية من كتب الديانة المسيحية فسموه آدام باشباع الدال، فهو اسم على وزن فاعل صيغ كذلك اعتباطا وقد جمع على أوادم بوزن فواعل كما جمع خاتم وهذا الذي يشير إليه صاحب الكشاف وجعل محاولة اشتقاقه كمحاولة اشتقاق يعقوب من العقب وإبليس من الإبلاس ونحو ذلك أي هي محاولة ضئيلة وهو الحق. وقال الجوهري أصله أأدم بهمزتين على وزن أفعل من الأدمة وهي لون السمرة فقلبت ثانية الهمزتين مدة ويبعده الجمع وإن أمكن تأويله بأن أصله أأدم فقلبت الهمزة الثانية في الجمع واوا لأنها ليس لها أصل كما أجاب به الجوهري. ولعل اشتقاق اسم لون الأدمة من اسم آدم أقرب من العكس.
والأسماء جمع اسم وهو في اللغة لفظ يدل على معنى يفهمه ذهن السامع فيختص بالألفاظ سواء كان مدلولها ذاتا وهو الأصل الأول، أو صفة أو فعلا فيما طرأ على البشر الاحتياج إليه في استعانة بعضهم ببعض فحصل من ذلك ألفاظ مفردة أو مركبة وذلك هو معنى الاسم عرفا إذ لم يقع نقل. فما قيل إن الاسم يطلق على ما يدل على الشيء سواء
كان لفظه أو صفته أو فعله توهم في اللغة. ولعلهم تطوحوا به إلى أن اشتقاقه من السمة وهي العلامة، وذلك على تسليمه لا يقتضي أن يبقى مساويا لأصل اشتقاقه. وقد قيل هو مشتق من السمو لأنه لما دل على الذات فقد أبرزها. وقيل مشتق من الوسم لأنه سمة على المدلول. والأظهر أنه مشتق من السمو وأن وزنه سمو بكسر السين وسكون الميم لأنهم جمعوه على أسماء ولولا أن أصله سمو لما كان وجه لزيادة الهمزة في آخره فإنها مبدلة عن الواو في الطرف إثر ألف زائدة ولكانوا جمعوه على أوسام.
والظاهر أن الأسماء التي علمها آدم هي ألفاظ تدل على ذوات الأشياء التي يحتاج نوع الإنسان إلى التعبير عنها لحاجته إلى ندائها، أو استحضارها، أو إفادة حصول بعضها مع بعض، وهي أي الإفادة ما نسميه اليوم بالأخبار أو التوصيف فيظهر أن المراد بالأسماء ابتداء أسماء الذوات من الموجودات مثل الأعلام الشخصية وأسماء الأجناس من الحيوان والنبات والحجر والكواكب مما يقع عليه نظر الإنسان ابتداء مثل اسم جنة، وملك، وآدم، وحواء، وإبليس، وشجرة وثمرة، ونجد ذلك بحسب اللغة البشرية الأولى ولذلك نرجح أن لا يكون فيما علمه آدم ابتداء شيء من أسماء المعاني والأحداث ثم طرأت بعد ذلك فكان إذا أراد أن يخبر عن حصول حدث أو أمر معنوي لذات قرن بين اسم الذات واسم الحدث نحو ماء برد أي ماء بارد ثم طرأ وضع الأفعال والأوصاف بعد ذلك فقال الماء بارد أو برد الماء. وهذا يرجح أن أصل الاشتقاق هو المصادر لا الأفعال لأن المصادر صنف دقيق من نوع الأسماء وقد دلنا على هذا قوله تعالى: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} كما سيأتي.
والتعريف في الأسماء تعريف الجنس أريد منه الاستغراق للدلالة على أنه علمه جميع أسماء الأشياء المعروفة يومئذ في ذلك العالم فهو استغراق عرفي مثل جمع الأمير الصاغة أي صاغة أرضه، وهو الظاهر لأنه المقدار الذي تظهر به الفضيلة فما زاد عليه لا يليق تعليمه بالحكمة، وقدرة الله صالحة لذلك.
وتعريف الأسماء يفيد أن الله علم آدم كل اسم ما هو مسماه ومدلوله، والإتيان بالجمع هنا متعين إذ لا يستقيم أن يقول وعلم آدم الاسم، وما شاع من أن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع في المعرف باللام كلام غير محرر، وأصله مأخوذ من كلام السكاكي وسنحققه عند قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ} [البقرة: 177] في هذه السورة.
و {كُلَّهَا} تأكيد لمعنى الاستغراق لئلا يتوهم منه العهد فلم تزد كلمة كل العموم
شمولا ولكنها دفعت عنه الاحتمال. "وكل" اسم دال على الشمول والإحاطة فيما أضيف هو إليه وأكثر ما يجيء مضافا إلى ضمير ما قبله فيعرب توكيدا تابعا لما قبله ويكون أيضا مستقلا بالإعراب إذا لم يقصد التوكيد بل قصدت الإحاطة وهو ملازم للإضافة لفظا أو تقديرا فإذا لم يذكر المضاف إليه عوض عنه التنوين ولكونه ملازما للإضافة يعتبر معرفة بالإضافة فلا تدخل عليه لام التعريف.
وتعليم الله تعالى آدم الأسماء إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه فإذا أراه لقن اسمه بصوت مخلوق يسمعه فيعلم أن ذلك اللفظ دال على تلك الذات بعلم ضروري. أو يكون التعليم بإلقاء علم ضروري في نفس آدم بحيث يخطر في ذهنه اسم شيء عند ما يعرض عليه فيضع له اسما بأن ألهمه وضع الأسماء للأشياء ليمكنه أن يفيدها غيره وذلك بأن خلق قوة النطق فيه وجعله قادرا على وضع اللغة كما قال تعالى: {خَلَقَ الأِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:3,2] وجميع ذلك تعليم إذ التعليم مصدر علمه إذا جعله ذا علم مثل أدبه فلا ينحصر في التلقين وإن تبادر فيه عرفا. وأياما كانت كيفية التعليم فقد كان سببا لتفضيل الإنسان على بقية أنواع جنسه بقوة النطق وإحداث الموضوعات اللغوية للتعبير عما في الضمير. وكان ذلك أيضا سببا لتفاضل أفراد الإنسان بعضهم على بعض بما ينشأ عن النطق من استفادة المجهول من المعلوم وهو مبدأ العلوم، فالإنسان لما خلق ناطقا معبرا عما في ضميره فقد خلق مدركا أي عالما وقد خلق معلما، وهذا أصل نشأة العلوم والقوانين وتفاريعها لأنك إذا نظرت إلى المعارف كلها وجدتها وضع أسماء لمسميات وتعريف معاني تلك الأسماء وتحديدها لتسهيل إيصال ما يحصل في الذهن إلى ذهن الغير. وكلا الأمرين قد جرمه بقية أنواع الحيوان، فلذلك لم تتفاضل أفراده إلا تفاضلا ضعيفا بحسن الصورة أو قوة المنفعة أو قلة العجمة بله بقية الأجناس كالنبات والمعدن. وبهذا تعلم أن العبرة في تعليم الله تعالى آدم الأسماء حاصلة سواء كان الذي علمه إياه أسماء الموجودات يومئذ أو أسماء كل ما سيوجد، وسواء كان ذلك بلغة واحدة هي التي ابتدأ بها نطق البشر منذ ذلك التعليم أم كان بجميع اللغات التي ستنطق بها ذرياته من الأمم، وسواء كانت الأسماء أسماء الذوات فقط أو أسماء المعاني والصفات، وسواء كان المرادمن الأسماء الألفاظ الدالة على المعاني أو كل دال على شيء لفظا كان أو غيره من خصائص الأشياء وصفاتها وأفعالها كما تقدم إذ محاولة تحقيق ذلك لا طائل تحته في تفسير القرآن. ولعل كثيرا من المفسرين قد هان عندهم أن يكون تفضيل آدم بتعليم الله متعلقا بمعرفة عدد من الألفاظ الدالة على المعاني الموجودة فراموا تعظيم هذا التعليم