كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
لما وصف التوراة بأن فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها.ووصفها بالنزول ليدل على أنها وحي من الله، فاستعير النزول لبلوغ الوحي لأنه بلوغ شيء من لدن عظيم، والعظيم يتخيل عاليا، كما تقدم غير مرة.
والنور استعارة للبيان والحق، ولذلك عطف على الهدى، فأحكامها هادية وواضحة، والظرفية.حقيقة، والهدى والنور دلائلهما.ولك أن تجعل النور هنا مستعارا للإيمان والحكمة، كقوله: {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة:132]، فيكون بينه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق، أعم، والعطف لأجل تلك المغايرة بالعموم.
والمراد بالنبيين فيجوز أنهم أنبياء بني إسرائيل، موسى والأنبياء الذين جاءوا من بعده.فالمراد بالذين أسلموا الذين كان شرعهم الخاص بهم كشرع الإسلام سواء، لأنهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمتهم بل هي مماثلة للإسلام، وهي الحنيفية الحق، إذ لا شك أن الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة، ألا ترى أن الخمر ما كانت محرمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط، بل حرمتها التوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنك بالنبي.ولعل هذا هو المراد من وصية إبراهيم لبنيه بقوله: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132]كما تقدم هنالك.وقد قال يوسف عليه السلام في دعائه : {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].والمقصود من الوصف بقوله : {الَّذِينَ أَسْلَمُوا} على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء.ويجوز أن يراد بالنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعبر عنه بصيغة الجمع تعظيما له.
واللام في قوله: {لِلَّذِينَ هَادُوا} للأجل وليست لتعدية فعل {يحكم} إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم.والذين هادوا هم اليهود، وهو اسم يرادف معنى الإسرائيليين، إلا أن أصله يختص ببني يهوذا منهم، فغلب عليهم من بعد، كما قدمناه عند قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ} الآية في سورة البقرة[62].
والربانيون جمع رباني، وهو العالم المنسوب إلى الرب، أي إلى الله تعالى.فعلى هذا يكون الرباني نسبا للرب على غير قياس، كما قالوا:شعراني لكثير الشعر، ولحياني لعظيم اللحية.وقيل: الرباني العالم المربي، وهو الذي يبتدئ الناس بصغار العلم قبل كباره.ووقع هذا التفسير في صحيح البخاري.وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ} في سورة آل عمران[79].
والأحبار جمع حبر، وهو العالم في الملة الإسرائيلية، وهو بفتح الحاء وكسرهاـ
، لكن اقتصر المتأخرون على الفتح للتفرقة بينه وبين اسم المداد الذي يكتب به.وعطف {الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} على {النبيون} لأنهم ورثة علمهم وعليهم تلقوا الدين.
والاستحفاظ:الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حق الفهم بما دلت عليه آياته.استعير الاستحفاظ الذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتبليغ للأمة على ما هو عليه.
فالباء في قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} للملابسة، أي حكما ملابسا للحق متصلا به غير مبدل ولا مغير ولا مؤول تأويلا لأجل الهوى.ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان.ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حماد ما حكاه عياض في المدارك، عن أبي الحسن ابن المنتاب، قال:"كنت عند إسماعيل يوما فسئل:لم جاز التبديل على أهل التوراة ولم يجز على أهل القرآن، فقال: "لأن الله تعالى قال في أهل التوراة: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} فوكل الحفظ إليهم.وقال في القرآن: {إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر:9]فتعهد الله بحفظه فلم يجز التبديل على أهل القرآن".قال:"فذكرت ذلك للمحاملي، فقال:"لا أحسن من هذا الكلام".
و {من} مبينة لإبهام"م"في قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا} و {كِتَابِ اللَّهِ} هو التوراة، فهو من الإظهار في مقام الإضمار، ليتأتى التعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى.
وضمير {وكانوا} للنبيين والربانيين والأحبار، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله، أي شهداء على حفظه من التبديل، فحرف"على"هنا دال على معنى التمكن وليس هو"على"الذي يتعدى به فعل شهد، إلى المحقوق كما يتعدى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له، أي المحق، بل هو هنا مثل الذي يتعدى به فعل"حفظ ورقب"ونحوهما، أي وكانوا حفظة على كتاب الله وحراسا له من سوء الفهم وسوء التأويل ويحملون أتباعه على حق فهمه وحق العمل به.
ولذلك عقبه بجملة: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} المتفرعة بالفاء على قوله: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حق الأمانة لا يخشى أحدا في القيام بوجه أمانته ولكنه يخشى الذي استأمنه.فيجوز أن يكون الخطاب بقوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ} ليهود زمان نزول الآية، والفاء للتفريع عما حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين، والجملة على هذا الوجه معترضة؛ ويجوز
أن يكون الخطاب للنبيين والربانيين والأحبار فهي على تقدير القول، أي قلنا لهم:فلا تخشوا الناس.والتفريع ناشئ عن مضمون قوله: {بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ}، لأن تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالناس رضوا أم سخطوا، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى.
وتقدم الكلام في معنى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} في سورة البقرة[41].
وقوله : {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ}، لأن معنى خشية الناس هنا أن تخالف أحكام شريعة التوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية الناس، ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا عقبت به تلك العظات الجليلة.وعلى الوجهين فالمقصود اليهود وتحذير المسلمين من مثل صنعهم.
و"من"الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاص المخاطب بقوله: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} ، وهم الذين أخفوا بعض أحكام التوراة المعلومة عندهم.والمعنى أنهم اتصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق.ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أن كل من لا يحكم بما أنزل الله يكفر.وقد اقتضى هذا قضيتين:
إحداهما:كون الذي يترك الحكم بما تضمنته التوراة مما أوحاه الله إلى موسى كافرا، أو تارك الحكم بكل ما أنزله الله على الرسل كافرا؛ والثانية قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله.
فأما القضية الأولى:فالذين يكفرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا، لأن الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم، وعبروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر، وهذا مذهب باطل كما قررناه غير مرة.وأما جمهور المسلمين وهم أهل السنة من الصحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضية مجملة، لأن ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة؛ فبيان إجماله بالأدلة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب، ومساق الآية يبين إجمالها.ولذلك قال جمهور العلماء:"المراد بمن لم يحكم هنا خصوص اليهود"، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.أخرجه مسلم في صحيحه.فعلى هذا تكون"من"موصولة، وهي بمعنى لام العهد.والمعنى عليه:ومن ترك الحكم بما أنزل الله تركا
مثل هذا الترك، وهو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته.وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إياهم باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حد الزنى؛ فيكون القصر ادعائيا وهو المناسب لسبب نزول الآيات التي كانت هذه ذيلا لها؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصلة وليس معللا للخبر.وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشرط في لزوم خبره له، أي أن الذين عرفوا بهذه الصفة هم الذين إن سألت عن الكافرين فهم هم لأنهم كفروا وأساءوا الصنع.
وقال جماعة: "المراد من لم يحكم بما أنزل الله من ترك الحكم به جحدا له، أو استخفافا به، أو طعنا في حقيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله، سمعه المكلف بنفسه.وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس، ومجاهد، والحسن، ف"من"شرطية وترك الحكم مجمل بيانه في أدلة أخر.وتحت هذا حالة أخرى، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الذي تقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخل تحت محاكم غير شرعية باختياره فإن ذلك الالتزام أشد من المخالفة في الجزيئات، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية.وأعظم منه إلزام الناس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمور، وهو مراتب متفاوتة، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دل على استخفاف أو تخطئة لحكم الله.
وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكفر؛ فقيل عبر بالكفر عن المعصية، كما قالت زوجة ثابت بن قيس: "أكره الكفر في الإسلام"أي الزنى، أي قد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ولا يليق بالمؤمنين، وروى هذا عن ابن عباس.وقال طاووس:"هو كفر دون كفر وليس كفرا ينقل عن الإيمان".وذلك أن الذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى، وليس ذلك بكفر ولكنه معصية، وقد يفعله لأنه لم يره قاطعا في دلالته على الحكم، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير.
وهذه الآية والتي بعدها في شأن الحاكمين.وأما رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مر في قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]الآية وبينا وجوهه، وسيأتي في قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ـإلى قوله بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} في سورة النور[48ـ50].
وأما القضية الثانية:فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم
المعبر عنه مجازا بالكفر، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر، وهو الكفر الذي انضم إليه الجور وتبديل الأحكام.
واعلم أن المراد بالصلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتصاف بنقيضهما، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله.وهذا تأويل ثالث في الآية، لأن الذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره، بأن ترك الحكم بين الناس، أو دعا إلى الصلح، لا تختلف الأمة في أنه ليس بكافر ولا آثم، وإلا للزم كفر كل حاكم في حال عدم مباشرته للحكم، وكفر كل من ليس بحاكم.فالمعنى:ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله.
[45] {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [45]
عطفت جملة {كتبنا} على جملة {أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ} [المائدة:44]ومناسبة عطف هذا الحكم على ما تقدم أنهم غيروا أحكام القصاص كما غيروا أحكام حد الزنى، ففاضلوا بين القتلى والجرحى، كما سيأتي، فلذلك ذيله بقوله :{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، كما ذيل الآية الدالة على تغيير حكم حد الزنى بقوله :{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]
والكتب هنا مجاز في التشريع والفرض بقرينة تعديته بحرف"على"، أي أوجبنا عليهم فيها، أي في التوراة مضمون {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} ، وهذا الحكم مسطور في التوراة أيضا، كما اقتضت تعدية فعل {كتبنا} بحرف"في"فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه.
وفي هذه إشارة إلى أن هذا الحكم لا يستطاع جحده لأنه مكتوب والكتابة تزيد الكلام توثقا، كما تقدم عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} في سورة البقرة[282] وقال الحارث بن حلزة:
وهل ينقض ما في المهارق الأهواء
والمكتوب عليهم هو المصدر المستفاد من"أن".والمصدر في مثل هذا يؤخذ من معنى حرف الباء الذي هو التعويض، أي كتبنا تعويض النفس بالنفس، أي النفس المقتولة
بالنفس القاتلة، أي كتبنا عليهم مساواة القصاص.وقد اتفق القراء على فتح همزة"أن"هنا، لأن المفروض في التوراة ليس هو عين هذه الجمل ولكن المعنى الحاصل منها وهو العوضية والمساواة فيها.
وقرأ الجمهور {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} وما عطف عليها بالنصب عطفا على اسم"أن"وقرأه الكسائي بالرفع.وذلك جائز إذا استكملت"أن"خبرها فيعتبر العطف على مجموع الجملة.
والنفس:الذات، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة[44].والأذن بضم الهمزة وسكون الذال، وبضم الذال أيضا.والمراد بالنفس الأولى نفس المعتدي عليه، وكذلك في {والعين} الخ.
والباء في قوله: {بِالنَّفْسِ} ونظائره الأربعة باء العوض، ومدخولات الباء كلها أخبار"أن"، ومتعلق الجار والمجرور في كل منها محذوف، هو كون خاص يدل عليه سياق الكلام؛ فيقدر:أن النفس المقتولة تعوض بنفس القاتل والعين المتلفة تعوض بعين المتلف، أي بأتلافها وهكذا النفس متلفة بالنفس؛ والعين مفقوءة بالعين؛ والأنف مجدوع بالأنف؛ والأذن مصلومة بالأذن.
ولام التعريف في المواضع الخمسة داخلة على عضو المجني عليه، ومجرورات الباء الخمسة على أعضاء الجاني.والاقتصار على ذكر هذه الأعضاء دون غيرها من أعضاء الجسد كاليد والرجل والإصبع لأن القطع يكون غالبا عند المضاربة بقصد قطع الرقبة، فقد ينبو السيف عن قطع الرأس فيصيب بعض الأعضاء المتصلة به من عين أو أنف أو أذن أو سن.وكذلك عند الصاولة لأن الوجه يقابل الصائل، قال الحريش بن هلال:
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للطام
وقوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أخبر بالقصاص عن الجروح على حذف مضاف، أي ذات قصاص.
وقصاص مصدر قاصه الدال على المفاعلة، لأن المجني عليه يقلص الجاني، والجاني يقاص المجني عليه، أي يقطع كل منهما التبعة عن الآخر بذلك.ويجوز أن يكون {قصاص} مصدرا بمعنى المفعول، كالخلق بمعنى المخلوق، والنصب بمعنى المنصوب، أي مقصوص بعضها ببعض.والقصاص:المماثلة، أي عقوبة الجاني بجراح أن يجرح مثل الجرح الذي جنى به عمدا.والمعنى إذا أمكن ذلك، أي أمن من الزيادة
على المماثلة في العقوبة، كما إذا جرحه مأمومة على رأسه فإنه لا يدري حين يضرب رأس الجاني ماذا يكون مدى الضربة فلعلها تقضي بموته؛ فينتقل إلى الدية كلها أو بعضها.وهذا كله في جنايات العمد، فأما الخطأ فلم تتعرض له الآية لأن المقصود أنهم لم يقيموا حكم التوراة في الجناية.
وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، وأبو جعفر، وخلف {وَالْجُرُوحَ} بالنصب عطفا على اسم"أن".وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، والكسائي، ويعقوب بالرفع على الاستئناف، لأنه إجمال لحكم الجراح بعد ما فصل حكم قطع الأعضاء.
وفائدة الإعلام بما شرع الله لبني إسرائيل في القصاص هنا زيادة تسجيل مخالفتهم لأحكام كتابهم، وذلك أن اليهود في المدينة كانوا قد دخلوا في حروب بعاث فكانت قريظة والنضير حربا، ثم تحاجزوا وانهزمت قريظة، فشرطت النضير على قريظة أن دية النضيري على الضعف من دية القرظي وعلى أن القرظي يقتل بالنضيري ولا يقتل النضيري بالقرظي، فأظهر الله تحريفهم لكتابهم.وهذا كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ} إلى قوله {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85,84].ويجوز أن يقصد من ذلك أيضا تأييد شريعة الإسلام إذ جاءت بمساواة القصاص وأبطلت التكايل في الدماء الذي كان في الجاهلية وعند اليهود.ولا شك أن تأييد الشريعة بشريعة أخرى يزيدها قبولا في النفوس.ويدل على أن ذلك الحكم مراد قديم لله تعالى.وأن المصلحة ملازمة له ولا تختلف باختلاف الأقوام والأزمان، لأن العرب لم يزل في نفوسهم حرج من مساواة الشريف الضعيف في القصاص، كما قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب تثأر بأخيها عبد الله بن معد يكرب:
فيقتل جبرا بامرئ لم يكن له ... بواء ولكن لا تكايل بالدم1
تريد:رضينا بأن يقتل الرجل الذي اسمه"جبر"بالمرء العظيم الذي ليس كفؤا له، ولكن الإسلام أبطل تكايل الدماء.والتكايل عندهم عبارة عن تقدير النفس بعدة أنفس، وقد قدر شيوخ بني أسد دم حجر والد امرئ القيس بديات عشرة من سادة بني أسد فأبى امرؤ القيس قبول هذا التقدير وقال لهم:"قد علمتم أن حجرا لم يكن ليبوء به شيء"
ـــــــ
1 البت لامرأة من طئ وهو من شعر الحماسة,يقال ‘نه لكبشة أخت عمرو بن معد يكرب بنت بهدل الطائي.وجبر هذا اسم قاتل أبيها.
وقال مهلهل حين قتل بجيرا:
بؤ بشسع نعل كليب
والبواء: الكفاء.وقد عدت الآية في القصاص أشياء تكثر إصابتها في الخصومات لأن الرأس قد حواها وإنما يقصد القاتل الرأس ابتداء.
وقوله: {َمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} هو من بقية ما أخبر عنه عن بني إسرائيل، فالمراد بـ {مَنْ تَصَدَّقَ} من تصدق منهم، وضمير {به} عائد إلى ما دلت عليه باء العوض في قوله: {بِالنَّفْسِ} الخ، أي من تصدق بالحق الذي له، أي تنازل عن العوض.وضمير {له} عائد إلى {مَنْ تَصَدَّقَ}. والمراد من التصدق العفو، لأن العفو لما كان عن حق ثابت بيد مستحق الأخذ بالقصاص جعل إسقاطه كالعطية ليشير إلى فرط ثوابه، وبذلك يتبين أن معنى {كَفَّارَةٌ لَهُ} أنه يكفر عنه ذنوبا عظيمة، لأجل ما في هذا العفو من جلب القلوب وإزالة الإحن واستبقاء نفوس وأعضاء الأمة.
وعاد فحذر من مخالفة حكم الله فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لينبه على أن الترغيب في العفو لا يقتضي الاستخفاف بالحكم وإبطال العمل به لأن حكم القصاص شرع لحكم عظيمة:منها الزجر، ومنها جبر خاطر المعتدى عليه، ومنها التفادي من ترصد المعتدى عليهم للانتقام من المعتدين أو من أقوامهم.فإبطال الحكم بالقصاص يعطل هذه المصالح، وهو ظلم، لأنه غمص لحق المعتدى عليه أو وليه.وأما العفو عن الجاني فيحقق جميع المصالح ويزيد مصلحة التحابب لأنه عن طيب نفس، وقد تغشى غباوة حكام بني إسرائيل على أفهامهم فيجعلوا إبطال الحكم بمنزلة العفو، فهذا وجه إعادة التحذير عقب استحباب العفو.ولم ينبه عليه المفسرون.وبه يتعين رجوع هذا التحذير إلى بني إسرائيل مثل سابقه.
وقوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم.والمراد بالظالمين الكافرون لأن الظلم يطلق على الكفر فيكون هذا مؤكدا للذي في الآية السابقة.ويحتمل أن المراد به الجور فيكون إثبات وصف الظلم لزيادة التشنيع عليهم في كفرهم لأنهم كافرون ظالمون.
[47,46] {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ
أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
عطف على جملة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:44]انتقالا إلى أحوال النصارى لقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} ، ولبيان نوع آخر من أنواع إعراض اليهود عن الأحكام التي كتبها الله عليهم، فبعد أن ذكر نوعين راجعين إلى تحريفهم أحكام التوراة: أحدهما: ما حرفوه وترددوا فيه بعد أن حرفوه فشكوا في آخر الأمر والتجأوا إلى تحكيم الرسول؛ وثانيهما:ما حرفوه وأعرضوا عن حكمه ولم يتحرجوا منه وهو إبطال أحكام القصاص.وهذا نوع ثالث:وهو إعراضهم عن حكم الله بالكلية، وذلك بتكذيبهم لما جاء به عيسى عليه السلام.
والتقفية مصدر قفاه إذا جعله يقفوه، أي يأتي بعده.وفعله المجرد قفا بتخفيف الفاء ومعنى قفاه سار نحو قفاه، والقفا الظهر، أي سار وراءه.فالتقفية الإتباع مشتقة من القفا، ونظيره:توجه مشتقا من الوجه، وتعقب من العقب.وفعل قفي المشدد مضاعف قفا المخفف، والأصل في التضعيف أن يفيد تعدية الفعل إلى مفعول لم يكن متعديا إليه، فإذا جعل تضعيف{قفينا} هنا معديا للفعل اقتضى مفعولين:أولهما:الذي كان مفعولا قبل التضعيف، وثانيهما:الذي عدي إليه الفعل، وذلك على طريقة باب كسا؛ فيكون حق التركيب:وقفيناهم عيسى بن مريم.ويكون إدخال الباء في {بعيسى} للتأكيد، مثل: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة:6]، وإذا جعل التضعيف لغير التعدية بل لمجرد تكرير وقوع الفعل، مثل جولت وطوفت كان حق التركيب:وقفيناهم بعيسى بن مريم.وعلى الوجه الثاني جرى كلام الكشاف فجعل باء {بعيسى} للتعدية.وعلى كلا الوجهين يكون مفعول {قفينا} محذوفا يدل عليه قوله: {عَلَى آثَارِهِمْ} لأن فيه ضمير المفعول المحذوف، هذا تحقيق كلامه وسلمه أصحاب حواشيه.
وقوله: {عَلَى آثَارِهِمْ} تأكيد لمدلول فعل {قفينا} وإفادة سرعة التقفية.وضمير {آثارهم} للنبيين والربانيين والأحبار.وقد أرسل عيسى على عقب زكريا كافل أمه مريم ووالد يحيى.ويجوز أن يكون معنى: {عَلَى آثَارِهِمْ} على طريقتهم وهديهم.والمصدق:المخبر بتصديق مخبر، وأريد به هنا المؤيد المقرر للتوراة.
وجعلها: {بَيْنَ يَدَيْهِْ} لأنها تقدمته، والمتقدم يقال:هو بين يدي من تقدم و {مِنَ التَّوْرَاةِ} بيان {لما}. وتقدم الكلام على معنى التوراة والإنجيل في أول سورة آل عمران.
وجملة: {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} حال.وتقدم معنى الهدى والنور.
{ومصدقا} حال أيضا من الإنجيل فلا تكرير بينها وبين قوله: {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً} لاختلاف صاحب الحال ولاختلاف كيفية التصديق؛ فتصديق عيسى التوراة أمره بإحياء أحكامها، وهو تصديق حقيقي؛ وتصديق الإنجيل التوراة اشتماله على ما وافق أحكامها فهو تصديق مجازي.وهذا التصديق لا ينافي أنه نسخ بعض أحكام التوراة كما حكى الله عنه: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران:50]، لأن الفعل المثبت لا عموم له.
والموعظة:الكلام الذي يلين القلب ويزجر عن فعل المنهيات.
وجملة {وليحكم} معطوفة على {آتيناه}. وقرأ الجمهور {وَلْيَحْكُمْ} بسكون اللام وبجزم الفعل على أن اللام لام الأمر.ولا شك أن هذا الأمر سابق على مجيء الإسلام، فهو مما أمر الله به الذين أرسل إليهم عيسى من اليهود والنصارى، فعلم أن في الجملة قولا مقدرا هو المعطوف على جملة {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيل}، أي وآتيناه الإنجيل الموصوف بتلك الصفات العظيمة، وقلنا:ليحكم أهل الإنجيل، فيتم التمهيد لقوله بعده {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فقرائن تقدير القول متظافرة من أمور عدة.
وقرأ حمزة بكسر لام {ليحكم} ونصب الميم على أن اللام لام كي للتعليل، فجملة {ليحكم} على هذه القراءة معطوفة على قوله: {فِيهِ هُدىً} الخ، الذي هو حال، عطفت العلة على الحال عطفا ذكريا لا يشرك في الحكم لأن التصريح بلام التعليل قرينة على عدم استقامة تشريك الحكم بالعطف فيكون عطفه كعطف الجمل المختلفة المعنى.وصاحب الكشاف قدر في هذه القراءة فعلا محذوفا بعد الواو، أي وآتيناه الإنجيل، دل عليه قوله قبله: {وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ} ، وهو تقدير معنى وليس تقدير نظم الكلام.
والمراد بالفاسقين الكافرون، إذ الفسق يطلق على الكفر، فتكون على نحو ما في الآية الأولى.ويحتمل أن المراد به الخروج عن أحكام شرعهم سواء كانوا كافرين به أم كانوا معتقدين ولكنهم يخالفونه فيكون ذما للنصارى في التهاون بأحكام كتابهم أضعف من ذم اليهود.
[48] {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ
شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}.
جالت الآيات المتقدمة جولة في ذكر إنزال التوراة والإنجيل وآبت منها إلى المقصود وهو إنزال القرآن؛ فكان كرد العجز على الصدر لقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41]ليبين أن القرآن جاء ناسخا لما قبله، وأن مؤاخذة اليهود على ترك العمل بالتوراة والإنجيل مؤاخذة لهم بعملهم قبل مجيء الإسلام، وليعلمهم أنهم لا يطمعون من محمد صلى الله عليه وسلم بأن يحكم بينهم بغير ما شرعه الله في الإسلام، فوقع قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} لترتيب نزول الكتب السماوية، وتمهيدا لقوله:{فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ووقع قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} موقع التخلص المقصود، فجاءت الآيات كلها منتظمة متناسقة على أبدع وجه.
والكتاب الأول القرآن، فتعريفه للعهد.والكتاب الثاني جنس يشمل الكتب المتقدمة، فتعريفه للجنس.والمصدق تقدم بيانه.
والمهيمن الأظهر أن هاءه أصلية وأن فعله بوزن فيعل كسيطر، ولكن لم يسمع له فعل مجرد فلم يسمع همن.
قال أهل اللغة: "لا نظير لهذا الفعل إلا هينم إذا دعا أو قرأ، وبيقر إذا خرج من الحجاز إلى الشام، وسيطر إذا قهر.وليس له نظير في وزن مفيعل إلا اسم فاعل هذه الأفعال، وزادوا مبيطر اسم طبيب الدواب"، ولم يسمع بيطر ولكن بطر، ومجيمر اسم جبل، ذكره امرؤ القيس في قوله:
كأن ذرى رأس المجيمر غدوة ... من السيل والغثاء فلكة مغزل
وفسر المهيمن بالعالي والرقيب، ومن أسمائه تعالى المهيمن.
وقيل:المهيمن مشتق من أمن، وأصله اسم فاعل من آمنه عليه بمعنى استحفظه به، فهو مجاز في لازم المعنى وهو الرقابة، فأصله مؤأمن، فكأنهم راموا أن يفرقوا بينه وبين اسم الفاعل من آمن بمعنى اعتقد وبمعنى آمنه، لأن هذا المعنى المجازي صار حقيقة مستقلة فقلبوا الهمزة الثانية ياء وقلبوا الهمزة الأولى هاء، كما قالوا في أراق هراق، فقالوا:هيمن.
وقد أشارت الآية إلى حالتي القرآن بالنسبة لما قبله من الكتب، فهو مؤيد لبعض ما
في الشرائع مقرر له من كل حكم كانت مصلحته كلية لم تختلف مصلحته باختلاف الأمم والأزمان، وهو بهذا الوصف مصدق، أي محقق ومقرر، وهو أيضا مبطل لبعض ما في الشرائع السالفة وناسخ لأحكام كثيرة من كل ما كانت مصالحه جزئية مؤقتة مراعى فيها أحوال أقوام خاصة.
وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} أي بما أنزل الله إليك في القرآن، أو بما أوحاه إليك، أو احكم بينهم بما أنزل الله في التوراة والإنجيل ما لم ينسخه الله بحكم جديد، لأن شرع من قبلنا شرع لنا إذا أثبت الله شرعه لمن قبلنا.فحكم النبي على اليهوديين بالرجم حكم بما في التوراة، فيحتمل أنه كان مؤيدا بالقرآن إذا كان حينئذ قد جاء قوله:"الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما".ويحتمل أنه لم يؤيد ولكن الله أوحى إلى رسوله أن حكم التوراة في مثلهما الرجم، فحكم به، وأطلع اليهود على كتمانهم هذا الحكم.وقد اتصل معنى قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} بمعنى قوله: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة:42]؛ فليس في هذه الآية ما يقتضي نسخ الحكم المفاد من قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة:42]،ولكنه بيان سماه بعض السلف باسم النسخ قبل أن تنضبط حدود الأسماء الاصطلاحية.
والنهي عن اتباع أهوائهم، أي أهواء اليهود حين حكموه طامعين أن يحكم عليهم بما تقرر من عوائدهم، مقصود منه النهي عن الحكم بغير حكم الله إذا تحاكموا إليه، إذ لا يجوز الحكم بغيره ولو كان شريعة سابقة، لأن نزول القرآن مهيمنا أبطل ما خالفه، ونزوله مصدقا أيد ما وافقه وزكى ما لم يخالفه.
والرسول لا يجوز عليه أن يحكم بغير شرع الله، فالمقصود من هذا النهي:إما إعلان ذلك ليعلمه الناس وييأس الطامعون أن يحكم لهم بما يشتهون، فخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:49]مراد به أن يتقرر ذلك في علم الناس، مثل قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر:56]وإما تبيين الله لرسوله وجه ترجيح أحد الدليلين عند تعارض الأدلة بأن لا تكون أهواء الخصوم طرقا للترجيح، وذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لشدة رغبته في هدى الناس قد يتوقف في فصل هذا التحكيم، لأنهم وعدوا أنه إن حكم عليهم بما تقرر من عوائدهم يؤمنون به.فقد يقال: إنهم لما تراضوا عليه لم لا يحملون عليه مع ظهور فائدة ذلك وهو دخولهم في الإسلام، فبين الله له أن أمور الشريعة لا تهاون بها، وأن مصلحة احترام الشريعة بين أهلها أرجح من
مصلحة دخول فريق في الإسلام، لأن الإسلام لا يليق به أن يكون ضعيفا لمريديه، قال تعالى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} كالتعليل للنهي، أي إذا كانت أهواؤهم في متابعة شريعتهم أو عوائدهم فدعهم وما اعتادوه وتمسكوا بشرعكم.
والشرعة والشريعة:الماء الكثير من نهر أو واد.يقال: شريعة الفرات.وسميت الديانة شريعة على التشبيه، لأن فيها شفاء النفوس وطهارتها.والعرب تشبه بالماء وأحواله كثيرا، كما قدمناه في قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} في سورة النساء[83].
والمنهاج:الطريق الواسع، وهو هنا تخييل أريد به طريق القوم إلى الماء، كقول قيس بن الخطيم:
وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
فذكر الرشاء مجرد تخييل.ويصح أن يجعل له رديف في المشبه بأن تشبه العوائد المنتزعة من الشريعة، أو دلائل التفريع عن الشريعة، أو طرق فهمها بالمنهاج الموصل إلى الماء.فمنهاج المسلمين لا يخالف الاتصال بالإسلام، فهو كمنهاج المهتدين إلى الماء، ومنهاج غيرهم منحرف عن دينهم، كما كانت اليهود قد جعلت عوائد مخالفة لشريعتهم، فذلك كالمنهاج الموصل إلى غير المورود.وفي هذا الكلام إبهام أريد به تنبيه الفريقين إلى الفرق بين حاليهما وبالتأمل يظهر لهم.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الجعل:التقدير، وإلا فإن الله أمر الناس أن يكونوا أمة واحدة على دين الإسلام، ولكنه رتب نواميس وجبلات، وسبب اهتداء فريق وضلال فريق، وعلم ذلك بحسب ما خلق فيهم من الاستعداد المعبر عنه بالتوفيق أو الخذلان، والميل أو الانصراف، والعزم أو المكابرة.ولا عذر لأحد في ذلك، لأن علم الله غير معروف عندنا وإنما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات.
والأمة:الجماعة العظيمة الذين دينهم ومعتقدهم واحد، هذا بحسب اصطلاح الشريعة.وأصل الأمة في كلام العرب:القوم الكثيرون الذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلمون بلسان واحد، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة الزيادة ولا للتطور من أنفسها.
ومعنى:{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه.والبلاء:الخبرة.والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للناس، والمراد لازم المعنى على طريق الكناية، كقول إياس بن قبيصة الطائي:
وأقبلت والخطى يخطر بيننا ... لأعلم من جبانها من شجاعها
لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللناس.ومعناه أن الله وكل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول الناس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابق الناس إلى إعمال مواهبهم العقلية فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علما وتقام الأدلة على الاعتقاد الصحيح.وكل ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلة البشر من الصلاحية للخير والإرشاد على حسب الاستعداد، وذلك من الاختبار.ولذلك قال :{لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ}، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنظر.فيظهر التفاضل بين أفراد نوع الإنسان حتى يبلغ بعضها درجات عالية، ومن الشرائع التي آتاكموها فيظهر مقدار عملكم بها فيحصل الجزاء بمقدار العمل.
وفرع على : {ليبلوكم} قوله: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} لأن بذلك الاستباق يكون ظهور أثر التوفيق أوضح وأجلى.
والاستباق:التسابق، وهو هنا مجاز في المنافسة، لأن الفاعل للخير لا يمنع غيره من أن يفعل مثل فعله أو أكثر، فشابه التسابق.ولتضمين فعل {استبقوا} بمعنى خذوا، أو ابتدروا، عدي الفعل إلى {الخيرات} بنفسه وحقه أن يعدى بإلى، كقوله: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21].وقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي من الاختلاف في قبول الدين.
[49] {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ}.
يجوز أن يكون قوله: {وَأَنِ احْكُمْ} معطوفا عطف جملة على جملة، بأن يجعل معطوفا على جملة: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:48]، فيكون رجوعا إلى ذلك الأمر لتأكيده، وليبنى عليه قوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} كما بني على نظيره قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة:48]
وتكون"أن"تفسيرية.و"أن"التفسيرية تفيد تقوية ارتباط التفسير بالمفسر، لأنها يمكن الاستغناء عنها، لصحة أن تقول:أرسلت إليه افعل كذا، كما تقول: أرسلت إليه أن افعل كذا.فلما ذكر الله تعالى أنه أنزل الكتاب إلى رسوله رتب عليه الأمر بالحكم بما أنزل به بواسطة الفاء فقال: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة:48],فدل على أن الحكم بما فيه هو من آثار تنزيله.وعطف عليه ما يدل على أن الكتاب يأمر بالحكم بما فيه بما دلت عليه"أن"التفسيرية في قوله:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}، فتأكد الغرض بذكره مرتين مع تفنن الأسلوب وبداعته، فصار التقدير:وأنزلنا إليك الكتاب بالحق أن احكم بينهم بما أنزل الله فاحكم بينهم به.ومما حسن عطف التفسير هنا طول الكلام الفاصل بين الفعل المفسر وبين تفسيره.وجعله صاحب الكشاف من عطف المفردات.فقال:عطف {َأَنِ احْكُمْ} على {الكتاب} في قوله: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ} [المائدة:48] كأنه قيل:وأنزلنا إليك أن احكم.فجعل"أن"مصدرية داخلة على فعل الأمر، أي فيكون المعنى:وأنزلنا إليك الأمر بالحكم بما أنزل الله كما قال في قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح:1]، أي أرسلناه بالأمر بالإنذار، وبين في سورة يونس[105] عند قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أن هذا قول سيبويه إذ سوغ أن توصل"أن"المصدرية بفعل الأمر والنهي لأن الغرض وصلها بما يكون معه معنى المصدر، والأمر والنهي يدلان على معنى المصدر، وعلله هنا بقوله:"لأن الأمر فعل كسائر الأفعال".والحمل على التفسيرية أولى وأعرب، وتكون"أن"مقحمة بين الجملتين مفسرة لفعل {أنزل} من قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}؛ فإن {أنزل} يتضمن معنى القول فكان لحرف التفسير موقع.
وقوله : {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} هو كقوله قبله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:44].
وقوله: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} المقصود منه افتضاح مكرهم وتأييسهم مما أملوه، لأن حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك لا يحتاج فيه إلى الأمر لعصمته من أن يخالف حكم الله.
ويجوز أن يكون المقصود منه دحض ما يتراءى من المصلحة في الحكم بين المتحاكمين إليه من اليهود بعوائدهم إن صح ما روي من أن بعض أحبارهم وعدوا النبي بأنه إن حكم لهم بذلك آمنوا به واتبعتهم اليهود اقتداء بهم، فأراه الله أن مصلحة حرمة أحكام الدين ولو بين غير أتباعه مقدمة على مصلحة إيمان فريق من اليهود، لأجل ذلك
فإن شأن الإيمان أن لا يقاول الناس على اتباعه كما قدمناه آنفا.والمقصود مع ذلك تحذير المسلمين من توهم ذلك.
ولذلك فرع عليه قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا}، أي فإن حكمت بينهم بما أنزل الله ولم تتبع أهواءهم وتولوا فاعلم، أي فتلك أمارة أن الله أراد بهم الشقاء والعذاب ببعض ذنوبهم وليس عليك في توليهم حرج.وأراد ببعض الذنوب بعضا غير معين، أي أن بعض ذنوبهم كافية في إصابتهم وأن توليهم عن حكمك أمارة خذلان الله إياهم.
وقد ذيله بقوله: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ} ليهون عنده بقاؤهم على ضلالهم إذ هو شنشنة أكثر الناس، أي وهؤلاء منهم فالكلام كناية عن كونهم فاسقين.
[50] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[50]}
فرعت الفاء على مضمون قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ} [المائدة:49]الخ استفهاما عن مرادهم من ذلك التولي، والاستفهام إنكاري، لأنهم طلبوا حكم الجاهلية.وحكم الجاهلية هو ما تقرر بين اليهود من تكايل الدماء الذي سرى إليهم من أحكام أهل يثرب، وهم أهل جاهلية، فإن بني النضير لم يرضوا بالتساوي مع قريظة كما تقدم؛ وما وضعوه من الأحكام بين أهل الجاهلية، وهو العدول عن الرجم الذي هو حكم التوراة.
وقرأ الجمهور {يبغون} بياء الغائب، والضمير عائد لـ {من} في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة:47].وقرأ ابن عامر بتاء الخطاب على أنه خطاب لليهود على طريقة الالتفات.
والواو في قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} واو الحال، وهو اعتراض، والاستفهام إنكاري في معنى النفي، أي لا أحسن منه حكما.وهو خطاب للمسلمين، إذ لا فائدة في خطاب اليهود بهذا.
وقوله: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} اللام فيه ليست متعلقة بـ {حكما} إذ ليس المراد بمدخولها المحكوم لهم، ولا هي لام التقوية لأن {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ليس مفعولا لـ {حكما} في المعنى.فهذه اللام تسمى لام البيان ولام التبيين، وهي التي تدخل على المقصود من الكلام سواء كان خبرا أم إنشاء، وهي الواقعة في نحو قولهم:سقيا لك، وجدعا له، وفي الحديث: "تبا وسحقا لمن بدل بعدي" ، وقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} [المؤمنون:36] و {حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]زوذلك أن المقصود التنبيه على المراد من الكلام
.ومنه قوله تعالى عن زليخا: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23]لأن تهيؤها له غريب لا يخطر ببال يوسف فلا يدري ما أرادت فقالت له: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف:23] إذا كان"هيت"اسم فعل مضي بمعنى تهيأت، ومثل قوله تعالى هنا: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. وقد يكون المقصود معلوما فيخشى خفاؤه فيؤتى باللام لزيادة البيان نحو {حَاشَ لِلَّهِ} [يوسف:51]، وهي حينئذ جديرة باسم لام التبيين، كالداخلة إلى المواجه بالخطاب في قولهم:سقيا لك ورعيا، ونحوهما، وفي قوله: {هَيْتَ} [يوسف:23] اسم فعل أمر بمعنى تعال.وإنما لم تجعل في بعض هذه المواضع لام تقوية، لأن لام التقوية يصح الاستغناء عنها مع ذكر مدخولها، وفي هذه المواضع لا يذكر مدخول اللام إلا معها.
[51ـ53] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ}.
تهيأت نفوس المؤمنين لقبول النهي عن موالاة أهل الكتاب بعد ما سمعوا من اضطراب اليهود في دينهم ومحاولتهم تضليل المسلمين وتقليب الأمور للرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم بالخطاب بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى} الآية، لأن الولاية تنبني على الوفاق والوئام والصلة وليس أولئك بأهل لولاية المسلمين لبعد ما بين الأخلاق الدينية، ولإضمارهم الكيد للمسلمين.وجرد النهي هنا عن التعليل والتوجيه اكتفاء بما تقدم.
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا.وسبب النهي هو ما وقع من اليهود، ولكن لما أريد النهي لم يقتصر عليهم لكيلا يحسب المسلمون أنهم مأذونون في موالاة النصارى، فلدفع ذلك عطف النصارى على اليهود هنا، لأن السبب الداعي لعدم الموالاة واحد في الفريقين، وهو اختلاف الدين والنفرة الناشئة عن تكذيبهم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.فالنصارى وإن لم تجيء منهم يومئذ أذاة مثل اليهود فيوشك أن تجيء منهم إذا وجد داعيها.
وفي هذا ما ينبه على وجه الجمع بين النهي هنا عن موالاة النصارى وبين قوله فيما
سيأتي {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} [المائدة:82].ولا شك أن الآية نزلت بعد غزوة تبوك أو قربها، وقد أصبح المسلمون مجاورين تخوم بلاد نصارى العرب.وعن السدي أن بعض المسلمين بعد يوم أحد عزم أن يوالي يهوديا، وأن آخر عزم أن يوالي نصرانيا كما سيأتي، فيكون ذكر النصارى غير إدماج.
وعقبه بقولهك {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} أي أنهم أجدر بولاية بعضهم بعضا، أي بولاية كل فريق منهم بعض أهل فريقه، لأن كل فريق منهم تتقارب أفراده في الأخلاق والأعمال فيسهل الوفاق بينهم، وليس المعنى أن اليهود أولياء النصارى.وتنوين {بعض} تنوين عوض، أي أولياء بعضهم.وهذا كناية عن نفي موالاتهم المؤمنين وعن نهي المؤمنين عن موالاة فريق منهما.
والولاية هنا ولاية المودة والنصرة ولا علاقة لها بالميراث، ولذلك لم يقل مالك بتوريث اليهودي من النصراني والعكس أخذا بقول النبي صلى الله عليه وسلم"لا يتوارث أهل ملتين".وقال الشافعي وأبو حنيفة بتوريث بعض أهل الملل من بعض ورأيا الكفر ملة واحدة أخذا بظاهر هذه الآية، وهو مذهب داود.
وقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}، "من"شرطية تقتضي أن كل من يتولاهم يصير واحدا منهم.جعل ولايتهم موجبة كون المتولي منهم، وهذا بظاهره يقتضي أن ولايتهم دخول في ملتهم، لأن معنى البعضية هنا لا يستقيم إلا بالكون في دينهم.ولما كان المؤمن إذا اعتقد عقيدة الإيمان واتبع الرسول ولم ينافق كان مسلما لا محالة كانت الآية بحاجة إلى التأويل، وقد تأولها المفسرون بأحد تأويلين:إما بحمل الولاية في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ} على الولاية الكاملة التي هي الرضى بدينهم والطعن في دين الإسلام، ولذلك قال ابن عطية: "ومن تولاهم بمعتقده ودينه فهو منهم في الكفر والخلود في النار".
وإما بتأويل قوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} على التشبيه البليغ، أي فهو كواحد منهم في استحقاق العذاب.قال ابن عطية:"من تولاهم بأفعاله من العضد ونحوه دون معتقدهم ولا إخلال بالإيمان فهو منهم في المقت والمذمة الواقعة عليهم آهـ.وهذا الإجمال في قوله: {فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} مبالغة في التحذير من موالاتهم في وقت نزول الآية، فالله لم يرض من المسلمين يومئذ بأن يتولوا اليهود والنصارى، لأن ذلك يلبسهم بالمنافقين، وقد كان أمر المسلمين يومئذ في حيرة إذ كان حولهم المنافقون وضعفاء المسلمين واليهود والمشركون فكان من المتعين لحفظ الجامعة التجرد عن كل ما تتطرق منه الربية إليهم.
وقد اتفق علماء السنة على أن ما دون الرضا بالكفر وممالاتهم عليه من الولاية لا يوجب الخروج من الربقة الإسلامية ولكنه ضلال عظيم، وهو مراتب في القوة بحسب قوة الموالاة وباختلاف أحوال المسلمين.
وأعظم هذه المراتب القضية التي حدثت في بعض المسلمين من أهل غرناطة التي سئل عنها فقهاء غرناطة:محمد المواق، ومحمد بن الأزرق، وعلي بن داوود، ومحمد الجعدالة، ومحمد الفخار، وعلي القلصادي، وأبو حامد بن الحسن، ومحمد بن سرحونة، ومحمد المشذالي، وعبد الله الزليجي، ومحمد الحذام، وأحمد ابن عبد الجليل، ومحمد بن فتح، ومحمد بن عبد البر، وأحمد البقني، عن عصابة من قواد الأندلس وفرسانهم لجأوا إلى صاحب قشتالة"بلاد النصارى"بعد كائنة"اللسانة"كذا واستنصروا به على المسلمين واعتصموا بحبل جواره وسكنوا أرض النصارى فهل يحل لأحد من المسلمين مساعدتهم ولأهل مدينة أو حصن أن يأووهم.فأجابوا بأن ركونهم إلى الكفار واستنصارهم بهم قد دخلوا به في وعيد قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}. فمن أعانهم فهو معين على معصية الله ورسوله، هذا ما داموا مصرين على فعلهم فإن تابوا ورجعوا عما هم عليه من الشقاق والخلاف فالواجب على المسلمين قبولهم1.
فاستدلالهم في جوابهم بهذه الآية يدل على أنهم تأولوها على معنى أنه منهم في استحقاق المقت والمذمة، وهذا الذي فعلوه، وأجاب عنه الفقهاء هو أعظم أنواع الموالاة بعد موالاة الكفر.وأدنى درجات الموالاة المخالطة والملابسة في التجارة ونحوها.ودون ذلك ما ليس بموالاة أصلا، وهو المعاملة.وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر مساقاة على نخل خيبر، وقد بينا شيئا من تفصيل هذا عند قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} في سورة آل عمران[28]
وجملة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} تذييل للنهي، وعموم القوم الظالمين شمل اليهود والنصارى، وموقع الجملة التذييلية يقتضي أن اليهود والنصارى من القوم الظالمين بطريق الكناية.والمراد بالظالمين الكافرون.
وقوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ} تفريع لحالة من موالاتهم أريد وصفها للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها وقعت في حضرته.والمرض هنا أطلق على النفاق كما تقدم
ـــــــ
1 انظر جامع المعيار.
في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} سورة البقرة[10].أطلق عليه مرض لأنه كفر مفسد للإيمان.
والمسارعة تقدم شرحها في قوله تعالى: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41].وفي المجرور مضاف محذوف دلت عليه القرينة، لأن المسارعة لا تكون في الذوات، فالمعنى:يسارعون في شأنهم من موالاتهم أو في نصرتهم.
والقول الواقع في: {يَقُولُونَ نَخْشَى} قول لسان لأن عبد الله بن أبي بن سلول قال ذلك، حسبما روى عن عطية الحوفي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة أن الآية نزلت بعد وقعة بدر أو بعد وقعة أحد وأنها نزلت حين عزم رسول الله على قتال بني قينقاع. وكان بنو قينقاع أحلافا لعبد الله بن أبي بن سلول ولعبادة بن الصامت، فلما رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فقال:"يا رسول الله إني أبرأ إلى الله من حلف يهود وولائهم ولا أوالي إلا الله ورسوله"، وكان عبد الله بن أبي حاضرا فقال: "أما أنا فلا أبرأ من حلفهم فإني لابد لي منهم إني رجل أخاف الدوائر".
ويحتمل أن يكون قولهم: {نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ}، قولا نفسيا، أي يقولون في أنفسهم.فالدائرة المخشية هي خشية انتقاض المسلمين على المنافقين، فيكون هذا القول من المرض الذي في قلوبهم، وعن السدي: "أنه لما وقع انهزام يوم أحد فزع المسلمون وقال بعضهم:ن أخذ من اليهود حلفا ليعاضدونا إن ألمت بنا قاصمة من قريش.وقال رجل: إني ذاهب إلى اليهودي فلان فآوي إليه وأتهود معه".وقال آخر: إني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه، فنزلت الآية".فيكون المرض هنا ضعف الإيمان وقلة الثقة بنصر الله، وعلى هذا فهذه الآية تقدم نزولها قبل نزول هذه السورة، فإما أعيد نزولها، وإما أمر بوضعها في هذا الموضع.
والظاهر أن قوله: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} يؤيد الرواية الأولى، ويؤيد محملنا فيها:أن القول قول نفسي.
والدائرة اسم فاعل من دار إذا عكس سيره، فالدائرة تغير الحال، وغلب إطلاقها على تغير الحال من خير إلى شر، ودوائر الدهر:نوبه ودوله، قال تعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ} [التوبة:98] أي تبدل حالكم من نصر إلى هزيمة.وقد قالوا في قوله تعالى: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح:6]إن إضافة"دائرة"إلى"السوء"إضافة بيان.قال أبو علي الفارسي:"لو لم تضف الدائرة إلى السوء عرف منها معناه".وأصل تأنيثها للمرة ثم غلبت على التغير ملازمة لصبغة التأنيث.
وقوله: {يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} قرأه الجمهور {يقول} بدون واو في أوله على أنه استئناف بياني جواب لسؤال من يسأل:ماذا يقول الذين آمنوا حينئذ.أي إذا جاء الفتح أو أمر من قوة المسلمين ووهن اليهود يقول الذين آمنوا.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {وَيَقُولُ} بالواو وبرفع {يقول} عطفا على {فَعَسَى اللَّهُ} ، وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بالواو أيضا وبنصب {يقول} عطفا على {أَنْ يَأْتِيَ}. والاستفهام في {أهؤلاء} مستعمل في التعجب من نفاقهم.
و {هؤلاء} إشارة إلى طائفة مقدرة الحصول يوم حصول الفتح، وهي طائفة الذين في قلوبهم مرض.والظاهر أن {الذين} هو الخبر عن {هؤلاء} لأن الاستفهام للتعجب، ومحل العجب هو قسمهم أنهم معهم، وقد دل هذا التعجب على أن المؤمنين يظهر لهم من حال المنافقين يوم إتيان الفتح ما يفتضح به أمرهم فيعجبون من حلفهم على الإخلاص للمؤمنين.
وجهد الأيمان بفتح الجيم أقواها وأغلظها، وحقيقة الجهد التعب والمشقة ومنتهى الطاقة، وفعله كمنع.ثم أطلق على أشد الفعل ونهاية قوته لما بين الشدة والمشقة من الملازمة، وشاع ذلك في كلامهم ثم استعمل في الآية في معنى أوكد الأيمان وأغلظها، أي أقسموا أقوى قسم، وذلك بالتوكيد والتكرير ونحو ذلك مما يغلظ به اليمين عرفا.ولم أر إطلاق الجهد على هذا المعنى فيما قبل القرآن.وانتصب {جهد} على المفعولية المطلقة لأنه بإضافته إلى " الأيمان " صار من نوع اليمين فكان مفعولا مطلقا مبينا للنوع.وفي الكشاف في سورة النور جعله مصدرا بدلا من فعله وجعل التقدير:أقسموا بالله يجهدون أيمانهم جهدا، فلما حذف الفعل وجعل المفعول المطلق عوضا عنه قدم المفعول المطلق على المفعول به وأضيف إليه.
وجملة {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} استئناف، سواء كانت من كلام الذين آمنوا فتكون من المحكي بالقول، أم كانت من كلام الله تعالى فلا تكونه.وحبطت معناه تلفت وفسدت، وقد تقدم في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} في سورة البقرة[217].
[54] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
تقضى تحذيرهم من أعدائهم في الدين، وتجنيبهم أسباب الضعف فيه، فأقبل على تنبيههم إلى أن ذلك حرص على صلاحهم في ملازمة الدين والذب عنه، وأن الله لا يناله نفع من ذلك، وأنهم لو ارتد منهم فريق أو نفر لم يضر الله شيئا، وسيكون لهذا الدين أتباع وأنصار وإن صد عنه من صد، وهذا كقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7]، وقوله:{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17]
فجملة : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ} الخ معترضة بين ما قبلها وبين جملة :{إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ} [المائدة:55]، دعت لاعتراضها مناسبة الإنذار في قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].فتعقيبها بهذا الاعتراض إشارة إلى أن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء ذريعة للارتداد، لأن استمرار فريق على موالاة اليهود والنصارى من المنافقين وضعفاء الإيمان يخشى منه أن ينسل عن الإيمان فريق.وأنبأ المترددين ضعفاء الإيمان بأن الإسلام غني عنهم إن عزموا على الارتداد إلى الكفر.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {مَنْ يَرْتَدِدْ} بدالين على فك الإدغام، وهو أحد وجهين في مثله، وهو لغة أهل الحجاز، وكذلك هو مرسوم في مصحف المدينة ومصحف الشام.وقرأ الباقون بدال واحدة مشددة بالإدغام، وهو لغة تميم.وبفتح على الدال فتحة تخلص من التقاء الساكنين لخفة الفتح، وكذلك هو مرسوم في مصحف مكة ومصحف الكوفة ومصحف البصرة.
والارتداد مطاوع الرد، والرد هو الإرجاع إلى مكان أو حالة، قال تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [صّ:33] وقد يطلق الرد بمعنى التصيير {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل:70].وقد لوحظ في إطلاق اسم الارتداد على الكفر بعد الإسلام ما كانوا عليه قبل الإسلام من الشرك وغيره، ثم غلب اسم الارتداد على الخروج من الإسلام ولو لم يسبق للمرتد عنه اتخاذ دين قبله.
وجملة {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} الخ جواب الشرط، وقد حذف منها العائد على الشرط الاسمي، وهو وعد بأن هذا الدين لا يعدم أتباعا بررة مخلصين.ومعنى هذا الوعد إظهار الاستغناء عن الذين في قلوبهم مرض وعن المنافقين وقلة الاكتراث بهم، كقوله
تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً} وتطمين الرسول والمؤمنين الحق بأن الله يعوضهم بالمرتدين خيرا منهم.فذلك هو المقصود من جواب الشرط فاستغني عنه بذكر ما يتضمنه حتى كان للشرط جوابان.
وفي نزول هذه الآية في أواخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إيماء إلى ما سيكون من ارتداد كثير من العرب عن الإسلام مثل أصحاب الأسود العنسي باليمن، وأصحاب طلحة بن خويلد في بني أسد، وأصحاب مسيلمة ابن حبيب الحنفي باليمامة.ثم إلى ما كان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من ارتداد قبائل كثيرة مثل فزارة وغطفان وبني تميم وكندة ونحوهم.قيل:لم يبق إلا أهل ثلاثة مساجد:مسجد المدينة ومسجد مكة ومسجد"جؤاثى"في البحرين"أي من أهل المدن الإسلامية يومئذ".وقد صدق الله وعده ونصر الإسلام فأخلفه أجيالا متأصلة فيه قائمة بنصرته.
وقوله: {يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ} ، الإتيان هنا الإيجاد، أي يوجد أقواما لاتباع هذا الدين بقلوب تحبه وتجلب له وللمؤمنين الخير وتذود عنهم أعداءهم، وهؤلاء القوم قد يكونون من نفس الذين ارتدوا إذا رجعوا إلى الإسلام خالصة قلوبهم مما كان يخامرها من الإعراض مثل معظم قبائل العرب وسادتهم الذين رجعوا إلى الإسلام بعد الردة زمن أبي بكر، فإن مجموعهم غير مجموع الذين ارتدوا، فصح أن يكونوا ممن شمله لفظ {بقوم} ، وتحقق فيهم الوصف وهو محبة الله إياهم ومحبتهم ربهم ودينه، فإن المحبتين تتبعان تغير أحوال القلوب لا تغير الأشخاص فإن عمرو بن معد يكرب الذي كان من أكبر عصاة الردة أصبح من أكبر أنصار الإسلام في يوم القادسية، وهكذا.
ودخل في قوله {بقوم} الأقوام الذين دخلوا في الإسلام بعد ذلك مثل عرب الشام من الغساسنة، وعرب العراق ونبطهم، وأهل فارس، والقبط، والبربر، وفرنجة إسبانية، وصقلية، وسردانية، وتخوم فرانسا، ومثل الترك والمغول، والتتار، والهند، والصين، والإغريق، والروم، من الأمم التي كان لها شأن عظيم في خدمة الإسلام وتوسيع مملكته بالفتوح وتأييده بالعلوم ونشر حضارته بين الأمم العظيمة، فكل أمة أو فريق أو قوم تحقق فيهم وصف {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} فهم من القوم المنوه بهم؛ أما المؤمنون الذين كانوا من قبل وثبتوا فأولئك أعظم شأنا وأقوى إيمانا فأتاهم المؤيدون زرافات ووحدانا.
ومحبة الله عبده رضاه عنه وتيسير الخير له، ومحبة العبد ربه انفعال النفس نحو
تعظيمه والأنس بذكره وامتثال أمره والدفاع عن دينه.فهي صفة تحصل للعبد من كثرة تصور عظمة الله تعالى ونعمه حتى تتمكن من قلبه، فمنشؤها السمع والتصور.وليست هي كمحبة استحسان الذات، ألا ترى أنا نحب النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما نسمع من فضائله وحرصه على خيرنا في الدنيا والآخر، وتقوى هذه المحبة بمقدار كثرة ممارسة أقواله وذكر شمائله وتصرفاته وهديه، وكذلك نحب الخلفاء الأربعة لكثرة ما نسمع من حبهم الرسول ومن بذلهم غاية النصح في خير المسلمين، وكذلك نحب حاتما لما نسمع من كرمه.وقد قالت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان أهل خباء أحب إلي من أن يذلوا من أهل خبائك وقد أصبحت وما أهل خباء أحب إلي من أن يعزوا من أهل خبائك".
والأذلة والأعزة وصفان متقابلان وصف بهما القوم باختلاف المتعلق بهما، فالأذلة جمع الذليل وهو الموصوف بالذل.والذل بضم الذال وبكسرها الهوان والطاعة، فهو ضد العز: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123]وفي بعض التفاسير:الذل بضم الذال ضد العز وبكسر الذال ضد الصعوبة، ولا يعرف لهذه التفرقة سند في اللغة.والذليل جمعه الأذلة، والصفة الذل {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الاسراء:24].ويطلق الذل على لين الجانب والتواضع، وهو مجاز، ومنه ما في هذه الآية.فالمراد هنا الذل بمعنى لين الجانب وتوطئة الكنف، وهو شدة الرحمة والسعي للنفع، ولذلك علق به قوله: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}. ولتضمين {أذلة} معنى مشفقين حانين عدي بعلى دون اللام، أو لمشاكلة " على " الثانية في قوله: {عَلَى الْكَافِرِينَ}.
والأعزة جمع العزيز فهو المتصف بالعز وهو القوة والاستقلال، ولأجل ما في طباع العرب من القوة صار العز في كلامهم يدل على معنى الاعتداء، ففي المثل من عز بز .وقد أصبح الوصفان متقابلين، فلذلك قال السموأل أو الحارثي:
وما ضرنا أنا قليل وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإثبات الوصفين المتقابلين للقوم صناعة عربية بديعية، وهي المسماة الطباق، وبلغاء العرب يغربون بها، وهي عزيزة في كلامهم، وقد جاء كثير منها في القرآن.وفيه إيماء إلى أن صفاتهم تسيرها آراؤهم الحصيفة فليسوا مندفعين إلى فعل ما إلا عن بصيرة، وليسوا ممن تنبعث أخلاقه عن سجية واحدة بأن يكون لينا في كل حال، وهذا هو معنى الخلق الأقوم، وهو الذي يكون في كل حال بما يلائم ذلك الحال، قال:
حليم إذا ما الحلم زين أهله ... مع الحلم في عين العدو مهيب
وقال تعالى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29].
وقوله:{يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}صفة ثالثة، وهي من أكبر العلامات الدالة على صدق الإيمان.والجهاد:إظهار الجهد، أي الطاقة في دفاع العدو، ونهاية الجهد التعرض للقتل، ولذلك جيء به على صيغة مصدر فاعل لأنه يظهر جهده لمن يظهر له مثله.وقوله: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} صفة رابعة، وهي عدم الخوف من الملامة، أي في أمر الدين، كما هو السياق.
واللومة الواحدة من اللوم.وأريد بها هنا مطلق المصدر، كاللوم لأنها لما وقعت في سياق النفي فعمت زال منها معنى الوحدة كما يزول معنى الجمع في الجمع المعمم بدخول ال الجنسية لأن"لا"في عموم النفي مثل"ال"في عموم الإثبات، أي لا يخافون جميع أنواع اللوم من جميع اللائمين إذ اللوم منه:شديد، كالتقريع، وخفيف؛ واللائمون:منهم اللائم المخيف، والحبيب:فنفى عنهم خوف جميع أنواع اللوم.ففي الجملة ثلاثة عمومات:عموم الفعل في سياق النفي، وعموم المفعول، وعموم المضاف إليه.وهذا الوصف علامة على صدق إيمانهم حتى خالط قلوبهم بحيث لا يصرفهم عنه شيء من الإغراء واللوم لأن الانصياع للملام آية ضعف اليقين والعزيمة.
ولم يزل الإعراض عن ملام اللائمين علامة على الثقة بالنفس وأصالة الرأي.وقد عد فقهاؤنا في وصف ا لقاضي أن يكون مستخفا باللائمة على أحد تأويلين في عبارة المتقدمين، واحتمال التأويلين دليل على اعتبار كليهما شرعا.
وجملة {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} تذييل.واسم الإشارة إشارة إلى مجموع صفات الكمال المذكورة.
و{واسع} وصف بالسعة، أي عدم نهاية التعلق بصفاته ذات التعلق، وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} في سورة آل عمران[73].
[55ـ56] {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}.
جملة: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ـإلى آخرها متصلة بجملة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة:51]وما تفرع عليها من قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} إلى قوله ـ {فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:53,52]وقعت جملة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} [المائدة:54] بين الآيات معترضة، ثم اتصل الكلام بجملة {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ}. فموقع هذه الجملة موقع التعليل للنهي، لأن ولايتهم لله ورسوله مقررة عندهم فمن كان الله وليه لا تكون أعداء الله أولياءه.وتفيد هذه الجملة تأكيدا للنهي عن ولاية اليهود والنصارى.وفيه تنويه بالمؤمنين بأنهم أولياء الله ورسوله بطريقة تأكيد النفي أو النهي بالأمر بضده، لأن قوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} يتضمن أمرا بتقرير هذه الولاية ودوامها، فهو خبر مستعمل في معنى الأمر، والقصر المستفاد من"إنما"قصر صفة على موصوف قصرا حقيقيا.
ومعنى كون الذين آمنوا أولياء للذين آمنوا أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ} [التوبة:71].وإجراء صفتي {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} على الذين آمنوا للثناء عليهم، وكذلك جملة {وَهُمْ رَاكِعُونَ}.
وقوله: {وَهُمْ رَاكِعُونَ} معطوف على الصفة.وظاهر معنى هذه الجملة أنها عين معنى قوله: {يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ، إذ المراد بـ {راكعون} مصلون لا آتون بالجزء من الصلاة المسمى بالركوع.فوجه هذا العطف:إما بأن المراد بالركوع ركوع النوافل، أي الذين يقيمون الصلوات الخمس المفروضة ويتقربون بالنوافل؛ وإما المراد به ما تدل عليه الجملة الاسمية من الدوام والثبات، أي الذين يديمون إقامة الصلاة.بأنهم يؤتون الزكاة مبادرة بالتنويه بالزكاة، كما هو دأب القرآن.وهو الذي استنبطه أبو بكر رضي الله عنه إذ قال: "لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة".ثم أثنى الله عليهم بأنهم لا يتخلفون عن أداء الصلاة؛ فالواو عاطفة صفة على صفة ويجوز أن تجعل الجملة حالا.ويراد بالركوع الخشوع.
ومن المفسرين من جعل {وَهُمْ رَاكِعُونَ} حالا من ضمير {يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ}. وليس فيه معنى، إذ تؤتى الزكاة في حالة الركوع، وركبوا هذا المعنى على خبر تعددت رواياته وكلها ضعيفة.قال ابن كثير:"وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها وجهالة رجالها".وقال ابن عطية:"وفي هذا القول، أي الرواية، نظر، قال:روى الحاكم وابن مردويه:جاء ابن سلام"أي عبد الله"ونفر من قومه الذين آمنوا"أي من اليهود"فشكوا
للرسول صلى الله عليه وسلم بعد منازلهم ومنابذة اليهود لهم فنزلت {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} ثم إن الرسول خرج إلى المسجد فبصر بسائل، فقال له : "هل أعطاك أحد شيئا" ، فقال: "نعم خاتم فضة أعطانيه ذلك القائم يصلي" ، وأشار إلى علي، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم، ونزلت هذه الآية، فتلاها رسول الله.وقيل: نزلت في أبي بكر الصديق.وقيل: نزلت في المهاجرين والأنصار.
وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} دليل على جواب الشرط بذكر علة الجواب كأنه قيل:فهم الغالبون لأنهم حزب الله.
[57ـ58] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}.
استئناف هو تأكيد لبعض مضمون الكلام الذي قبله، فإن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء} [المائدة:51] تحذير من موالاة أهل الكتاب ليظهر تميز المسلمين.وهذه الآية تحذير من موالاة اليهود والمشركين الذين بالمدينة، ولا مدخل للنصارى فيها، إذ لم يكن في المدينة نصارى فيهزأوا بالدين.وقد عدل عن لفظ اليهود إلى الموصول والصلة وهي {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً} الخ لما في الصلة من الإيماء إلى تعليل موجب النهي.
والدين هو ما عليه المرء من عقائد وأعمال ناشئة عن العقيدة، فهو عنوان عقل المتدين ورائد أماله وباعث أعماله، فالذي يتخذ دين امرئ هزؤا فقد اتخذ ذلك المتدين هزؤا ورمقه بعين الاحتقار، إذ عد أعظم شيء عنده سخرية، فما دون ذلك أولى.والذي يرمق بهذا الاعتبار ليس جديرا بالموالاة، لأن شرط الموالاة التماثل في التفكير، ولأن الاستهزاء والاستخفاف احتقار، والمودة تستدعي تعظيم الودود.
وأريد بالكفار في قوله: {والكفار} المشركون، وهذا اصطلاح القرآن في إطلاق لفظ الكفار.والمراد بذلك المشركون من أهل المدينة الذين أظهروا الإسلام نفاقا مثل رفاعة بن زيد، وسويد بن الحارث، فقد كان بعض المسلمين يوادهما اغترارا بظاهر حالهما.روي عن ابن عباس: أن قوما من اليهود والمشركين ضحكوا من المسلمين وقت سجودهم. وقال الكلبي: كانوا إذا نادى منادي رسول الله قالوا: "صياح مثل صياح العير"
، وتضاحكوا، فأنزل الله هذه الآية.
وقرأ الجمهور {وَالْكُفَّارَ} بالنصب عطفا على {الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ} المبين بقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. وقرأ أبو عمرو، والكسائي، ويعقوب {والكفار} بالخفض عطفا على {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}، ومآل القراءتين واحد.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي احذروه بامتثال ما نهاكم عنه.وذكر هذا الشرط استنهاض للهمة في الانتهاء، وإلهاب لنفوس المؤمنين ليظهروا أنهم مؤمنون، لأن شأن المؤمن الامتثال.وليس للشرط مفهوم هنا، لأن الكلام إنشاء ولأن خبر كان لقب لا مفهوم له إذ لم يقصد به الموصوف بالتصديق، ذلك لأن نفي التقوى لا ينفي الإيمان عند من يعتد بع من علماء الإسلام الذين فهموا مقصد الإسلام في جامعته حق الفهم.
وإذا أريد بالموالاة المنهي عنها الموالاة التامة بمعنى الموافقة في الدين فالأمر بالتقوى، أي الحذر من الوقوع فيما نهوا عنه معلق بكونهم مؤمنين بوجه ظاهر.والحاصل أن الآية مفسرة أو مؤولة على حسب ما تقدم في سالفتها {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة:51].
والنداء إلى الصلاة هو الأذان، وما عبر عنه في القرآن إلا بالنداء.وقد دلت الآية على أن الأذان شيء معروف، فهي مؤيدة لمشروعية الأذان وليست مشرعة له، لأنه شرع بالسنة.
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} تحقير لهم إذ ليس في النداء إلى الصلاة ما يوجب الاستهزاء؛ فجعله موجبا للاستهزاء سخافة لعقولهم.
[60,59] {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ [59]قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ[60]} هذه الجمل معترضة بين ما تقدمها وبين قوله: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ} [المائدة:61]ولا يتضح معنى الآية أتم وضوح ويظهر الداعي إلى أمر الله رسوله عليه الصلاة والسلام بأن يواجههم بغليظ القول مع أنه القائل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ
ظُلِمَ} [النساء:148] والقائل: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:46] إلا بعد معرفة سبب نزول هذه الآية، فيعلم أنهم قد ظلموا بطعنهم في الإسلام والمسلمين.فذكر الواحدي وابن جرير عن ابن عباس قال: "جاء نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب، ورافع بن أبي رافع، وعازر، وزيد، وخالد، وأزار بن أبي أزار، وأشيع، إلى النبي فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فلما ذكر عيسى بن مريم قالوا: "لا نؤمن بمن آمن بعيسى ولا نعلم دينا شرا من دينكم وما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم"، فأنزل الله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ ـإلى قوله ـ وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}. فخص بهذه المجادلة أهل الكتاب لأن الكفار لا تنهض عليهم حجتها، وأريد من أهل الكتاب خصوص اليهود كما ينبئ به الموصول وصلته في قوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} الآية.وكانت هذه المجادلة لهم بأن ما ينقمونه من المؤمنين في دينهم إذا تأملوا لا يجدون إلا الإيمان بالله وبما عند أهل الكتاب وزيادة الإيمان بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.
والاستفهام إنكاري وتعجبي.فالإنكار دل عليه الاستثناء، والتعجب دل عليه أن مفعولات {تنقمون} كلها محامد لا يحق نقمها، أي لا تجدون شيئا تنقمونه غير ما ذكر.وكل ذلك ليس حقيقا بأن ينقم.فأما الإيمان بالله وما أنزل من قبل فظاهر أنهم رضوه لأنفسهم فلا ينقمونه على من ماثلهم فيه، وأما الإيمان بما أنزل إلى محمد فكذلك، لأن ذلك شيء رضيه المسلمون لأنفسهم وذلك لا يهم أهل الكتاب، ودعا الرسول إليه أهل الكتاب فمن شاء منهم فليؤمن ومن شاء فليكفر، فما وجه النقم منه.وعدي فعل {تنقمون} الى متعلقه بحرف"من"، وهي ابتدائية.وقد يعدى بحرف"على".
وأما عطف قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} فقرأه جميع القراء بفتح همزة"أن"على أنه معطوف على {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ}.
وقد تحير في تأويلها المفسرون لاقتضاء ظاهرها فسق أكثر المخاطبين مع أن ذلك لا يعترف به أهله، وعلى تقدير اعترافهم به فذلك ليس مما ينقم على المؤمنين إذ لا عمل للمؤمنين فيه، وعلى تقدير أن يكون مما ينقم على المؤمنين فليس نقمه عليهم بمحل للإنكار والتعجب الذي هو سياق الكلام.
فذهب المفسرون في تأويل موقع هذا المعطوف مذاهب شتى، فقيل:هو عطف على متعلق {آمنا} أي آمنا بالله، وبفسق أكثركم، أي تنقمون منا مجموع هذين الأمرين.وهذا
يفيت معنى الإنكار التعجبي لأن اعتقاد المؤمنين كون أكثر المخاطبين فاسقون يجعل المخاطبين معذورين في نقمه فلا يتعجب منه ولا ينكر عليهم نقمه، وذلك يخالف السياق من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فلا يلتئم مع المعطوف عليه، فالجمع بين المتعاطفين حينئذ كالجمع بين الضب والنون، فهذا وجه بعيد.
وقيل:هو معطوف على المستثنى، أي ما تنقمون منا إلا إيماننا وفسق أكثركم، أي تنقمون تخالف حالينا، فهو نقم حسد، ولذلك حسن موقع الإنكار التعجبي.وهذا الوجه ذكره في الكشاف وقدمه وهو يحسن لو لم تكن كلمة {منا} لأن اختلاف الحالين لا ينقم من المؤمنين، إذ ليس من فعلهم ولكن من مصادفة الزمان.
وقيل:حذف مجرور دل عليه المذكور، والتقدير:هل تنقمون منا إلا الإيمان لأنكم جائرون وأكثركم فاسقون، وهذا تخريج على أسلوب غير معهود، إذ لم يعرف حذف المعطوف عليه في مثل هذا.وذكر وجهان آخران غير مرضيين.
والذي يظهر لي أن يكون قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} معطوفا على {أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} على ما هو المتبادر ويكون الكلام تهكما، أي تنقمون منا أننا آمنا كإيمانكم وصدقنا رسلكم وكتبكم، وذلك نقمه عجيب وأننا آمنا بما أنزل إلينا وذلك لا يهمكم.وتنقمون منا أن أكثركم فاسقون، أي ونحن صالحون، أي هذا نقم حسد، أي ونحن لا نملك لكم أن تكونوا صالحين.فظهرت قرينة التهكم فصار في الاستفهام إنكار فتعجب فتهكم، تولد بعضها عن بعض وكلها متولدة من استعمال الاستفهام في مجازاته أو في معان كنائية، وبهذا يكمل الوجه الذي قدمه صاحب الكشاف.
ثم اطرد في التهكم بهم والعجب من أفن رأيهم مع تذكيرهم بمساويهم فقال :{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ} الخ.وشر اسم تفضيل، أصله أشر، وهو للزيادة في الصفة، حذفت همزته تخفيفا لكثرة الاستعمال، والزيادة تقتضي المشاركة في أصل الوصف فتقتضي أن المسلمين لهم حظ من الشر، وإنما جرى هذا تهكما باليهود لأنهم قالوا للمسلمين:لا دين شر من دينكم، وهو مما عبر عنه بفعل {تنقمون}. وهذا من مقابلة الغلظة بالغلظة كما يقال: "قلت فأوجبت".
والإشارة في قوله: {مِنْ ذَلِكَ} إلى الإيمان في قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ} الخ باعتبار أنه منقوم على سبيل الفرض.والتقدير: ولما كان شأن المنقوم أن يكون شرا بني عليه التهكم في قوله : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ}، أي مما هو أشد شرا.
والمثوبة مشتقة من ثاب يثوب، أي رجع، فهي بوزن مفعولة، سمي بها الشيء الذي يثوب به المرء إلى منزله إذا ناله جزاء عن عمل عمله أو سعي سعاه، وأصلها مثوب بها، اعتبروا فيها التأنيث على تأويلها بالعطية أو الجائزة ثم حذف المتعلق لكثرة الاستعمال.
وأصلها مؤذن بأنها لا تطلق إلا على شيء وجودي يعطاه العامل ويحمله معه، فلا تطلق على الضرب والشتم لأن ذلك ليس مما يثوب به المرء إلى منزله، ولأن العرب إنما يبنون كلامهم على طباعهم وهم أهل كرم لنزيلهم، فلا يريدون بالمثوبة إلا عطية نافعة.ويصح إطلاقها على الشيء النفيس وعلى الشيء الحقير من كل ما يثوب به المعطى.فجعلها في هذه الآية تمييزا لاسم الزيادة في الشر تهكم لأن اللعنة والغضب والمسخ ليست مثوبات، وذلك كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
وقول عمرو بن معد يكرب:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع
وقوله: {مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ} مبتدأ، أريد به بيان من هو شر مثوبة، وفيه مضاف مقدر دل عليه السياق.وتقديره:مثوبة من لعنه الله.والعدول عن أن يقال:أنتم أو اليهود، إلى الإتيان بالموصول للعلم بالمعني من الصلة، لأن اليهود يعلمون أن أسلافا منهم وقعت عليهم اللعنة والغضب من عهد أنبيائهم، ودلائله ثابتة في التوراة وكتب أنبيائهم، فالموصول كناية عنهم.
وأما جعلهم قردة وخنازير فقد تقدم القول في حقيقته في سورة البقرة.وأما كونهم عبدوا الطاغوت فهو إذ عبدوا الأصنام بعد أن كانوا أهل توحيد فمن ذلك عبادتهم العجل.
والطاغوت:الأصنام، وتقدم عند قوله تعالى :{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} في سورة النساء[51].
وقرأ الجمهور {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} بصيغة فعل المضي في {عبد} وبفتح التاء من {الطاغوت} على أنه مفعول {عبد} ، وهو معطوف على الصلة في قوله :{مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ}، أي ومن عبدوا الطاغوت.وقرأه حمزة وحده بفتح العين وضم الموحدة وفتح الدال وبكسر الفوقية من كلمة الطاغوت على أن"عبد"جمع عبد، وهو جمع سماعي قليل، وهو على هذه القراءة معطوف على {الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}.
والمقصود من ذكر ذلك هنا تعيير اليهود المجادلين للمسلمين بمساوي أسلافهم إبكاتا لهم عن التطاول.على أنه إذا كانت تلك شنشنتهم أزمان قيام الرسل والنبيين بين ظهرانيهم فهم فيما بعد ذلك أسوأ حالا وأجدر بكونهم شرا، فيكون الكلام من ذم القبيل كله.على أن كثيرا من موجبات اللعنة والغضب والمسخ قد ارتكبتها الأخلاف، على أنهم شتموا المسلمين بما زعموا أنه دينهم فيحق شتمهم بما نعتقده فيهم.
[61ـ63] {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ}
عطف {وَإِذَا جَاءُوكُمْ} على قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً} [المائدة:58]الآية، وخص بهذه الصفات المنافقون من اليهود من جملة الذين اتخذوا الدين هزؤا ولعبا، فاستكمل بذلك التحذير ممن هذه صفتهم المعلنين منهم والمنافقين.ولا يصح عطفه على صفات أهل ا لكتاب في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} [المائدة:60] لعدم استقامة المعنى، وبذلك يستغنى عن تكلف وجه لهذا العطف.
ومعنى قوله: {وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ} أن الإيمان لم يخالط قلوبهم طرفة عين، أي هم دخلوا كافرين وخرجوا كذلك، لشدة قسوة قلوبهم، فالمقصود استغراق الزمنين وما بينهما، لأن ذلك هو المتعارف، إذ الحالة إذا تبدلت استمر تبدلها، ففي ذلك تسجيل الكذب في قولهم:آمنا، والعرب تقول:خرج بغير الوجه الذي دخل به.
والرؤية في قوله: {وترى} بصرية، أي أن حالهم في ذلك بحيث لا يخفى على أحد.والخطاب لكل من يسمع.
وتقدم معنى {يسارعون} عند قولهك {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}[ المائدة:41].
والإثم:المفاسد من قول وعمل، أريد به هنا الكذب، كما دل عليه قوله: {عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} والعدوان:الظلم، والمراد به الاعتداء على المسلمين إن استطاعوه.
والسحت تقدم في قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة:42].
و {لولا} تحضيض أريد منه التوبيخ.
و {الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ} تقدم بيان معناهما في قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة:44]الآية.
واقتصر في توبيخ الربانيين على ترك نهيهم عن قول الإثم وأكل السحت، ولم يذكر العدوان إيماء إلى أن العدوان يزجرهم عنه المسلمون ولا يلتجئون في زجرهم إلى غيرهم، لأن الاعتماد في النصرة على غير المجني عليه، ضعف.
وجملة {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} مستأنفة، ذم لصنيع الربانيين والأخبار في سكوتهم عن تغيير المنكر، و {يصنعون} بمعنى يعلمون، وإنما خولف هنا ما تقدم في الآية قبلها للتفنن، وقيل:لأن {يصنعون} أدل على التمكن في العمل من {يعملون}.
واللام للقسم.
[64] {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} عطف على جملة {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا} [المائدة:61]، فإنه لما كان أولئك من اليهود والمنافقين انتقل إلى سوء معتقدهم وخبث طويتهم ليظهر فرط التنافي بين معتقدهم ومعتقد أهل الإسلام، وهذا قول اليهود الصرحاء غير المنافقين فلذلك أسند إلى اسم"اليهود".
ومعنى {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} الوصف بالبخل في العطاء لأن العرب يجعلون العطاء معبرا عنه باليد، ويجعلون بسط اليد استعارة للبذل والكرم، ويجعلون ضد البسط استعارة للبخل فيقولون:أمسك يده وقبض يده، ولم نسمع منهم:غل يده، إلا في القرآن كما هنا، وقوله: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} في سورة الإسراء[29]، وهي استعارة قوية لأن مغلول اليد لا يستطيع بسطها في أقل الأزمان، فلا جرم أن تكون استعارة لأشد البخل والشح.
واليهود أهل إيمان ودين فلا يجوز في دينهم وصف الله تعالى بصفات الذم.فقولهم هذا:إما أن يكون جرى مجرى التهكم بالمسلمين إلزاما لهذا القول الفاسد لهم، كما روي أنهم قالوا ذلك لما كان المسلمون في أول زمن الهجرة في شدة، وفرض الرسول عليهم الصدقات، وربما استعان باليهود في الديات.وكما روي أنهم قالوه لما نزل قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة:245] فقالوا: "إن رب محمد فقير وبخيل". وقد حكي عنهم نظيره في قوله تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181].ويؤيد هذا قوله عقبه: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} وإما أن يكونوا قالوه في حالة غضب ويأس؛ فقد روي في سبب نزولها أن اليهود نزلت بهم شدة وأصابتهم مجاعة وجهد، فقال فنحاص ابن عازورا هذه المقالة، فإما تلقفوها منه على عادة جهل العامة، وإما نسب قول حبرهم إلى جميعهم لأنهم يقلدونه ويقتدون به.
وقد ذمهم الله تعالى على كلا التقديرين، إذ الأول استخفاف بالإسلام وبدينهم أيضا، إذ يجب تنزيه الله تعالى عن هذه المقالات، ولو كانت على نية إلزام الخصم، والثاني ظاهر ما فيه من العجرفة والتأفف من تصرف الله، فقابل الله قولهم بالدعاء عليهم.وذلك ذم على طريقة العرب.
وجملة{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}معترضة بين جملة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ} وبين جملة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وهي إنشاء سب لهم.وأخذ لهم من الغل المجازي مقابلة الغل الحقيقي في الدعاء على طريقة العرب في انتزاع الدعاء من لفظ سببه أو نحوه، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عصية عصت الله ورسوله، وأسلم سلمها الله، وغفار غفر الله لها".
وجملة {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} يجوز أن تكون إنشاء دعاء عليهم، ويجوز أن تكون إخبارا بأن الله لعنهم لأجل قولهم هذا، نظير ما في قوله تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ} في سورة النساء[118,117].
وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} نقض لكلامهم وإثبات سعة فضله تعالى.وبسط اليدين تمثيل للعطاء، وهو يتضمن تشبيه الإنعام بأشياء تعطى باليدين.
وذكر اليد هنا بطريقة التثنية لزيادة المبالغة في الجود، وإلا فاليد في حال الاستعارة للجود أو للبخل لا يقصد منها مفرد ولا عدد، فالتثنية مستعملة في مطلق التكرير، كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك:4]، وقولهم: "لبيك وسعديك". وقال الشاعر:
"أنشده في الكشاف ولم يعزه هو ولا شارحوه":
جاد الحمى بسط اليدين بوابل ... شكرت نداه تلاعه ووهاده
وجملة {يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} بيان لاستعارة {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ}. و {كيف} اسم دال على الحالة وهو مبني في محل نصب على الحال.وفي قوله:{كَيْفَ يَشَاءُ}زيادة إشارة إلى أن تقتيره الرزق على بعض عبيده لمصلحة، مثل العقاب على كفران النعمة، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى:27]
{وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً}.
عطف على جملة {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ}. وقع معترضا بين الرد عليهم بجملة {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} وبين جملة {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}. وهذا بيان للسبب الذي بعثهم على تلك المقالة الشنيعة، أي أعماهم الحسد فزادهم طغيانا وكفرا، وفي هذا إعداد للرسول عليه الصلاة والسلام لأخذ الحذر منهم، وتسلية له بأن فرط حنقهم هو الذي أنطقهم بذلك القول الفظيع.
{وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.
عطف على جملة {وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} عطف الخبر على الإنشاء على أحد الوجهين فيه.وفي هذا الخبر الإيماء إلى أن الله عاقبهم في الدنيا على بغضهم المسلمين بأن ألقى البغضاء بين بعضهم وبعض، فهو جزاء من جنس العمل، وهو تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم أن لا يهمه أمر عداوتهم له، فإن البغضاء سجيتهم حتى بين أقوامهم وأن هذا الوصف دائم لهم شأن الأوصاف التي عمي أصحابها عن مداواتها بالتخلق الحسن.وتقدم القول في نظيره آنفا.
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.
تركيب {أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} تمثيل، شبه به حال التهيؤ للحرب والاستعداد لها والحزامة في أمرها، بحال من يوقد النار لحاجة بها فتنطفئ، فإنه شاعت استعارات معاني التسعير والحمي والنار ونحوها للحرب، ومنه حمي الوطيس، وفلان مسعر حرب، ومحش حرب، فقوله: {أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ} كذلك، ولا نار في الحقيقة، إذ لم يؤثر عن العرب أن لهم نارا تختص بالحرب تعد في نيران العرب التي يوقدونها لأغراض.وقد وهم من ظنها حقيقة، ونبه المحققون على وهمه.
وشبه حال انحلال عزمهم أو انهزامهم وسرعة ارتدادهم عنها، وإحجامهم عن مصاحبة أعدائهم، بحال من انطفأت ناره التي أوقدها.
ومن بداعة هذا التمثيل أنه صالح لأن يعتبر فيه جمعه وتفريقه، بأن يجعل تمثيلا واحدا لحالة مجموعة أو تمثيلين لحالتين، وقبول التمثيل للتفريق أتم بلاغة.والمعنى أنهم لا يلتئم لهم أمر حرب ولا يستطيعون نكاية عدو، ولو حاربوا أو حوربوا انهزموا، فيكون معنى الآية على هذا كقوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} [آل عمران:112].
وأما ما يروي أن معدا كلها لما حاربوا مذبح يوم"خزازى"، وسيادتهم لتغلب وقائدهم كليب، أمر كليب أن يوقدوا نارا على جبل خزازى ليهتدي بها الجيش لكثرته، وجعلوا العلامة بينهم أنهم إذا دهمتهم جيوش مذحج أوقدوا نارين على خزازى، فلما دهمتهم مذحج أوقدوا النار فتجمعت معد كلها إلى ساحة القتال وانهزمت مذحج.وهذا الذي أشار إليه عمرو بن كلثوم بقوله:
ونحن غداة أوقد في خزازى ... رفدنا فوق رفد الرافدينا
فتلك شعار خاص تواضعوا عليه يومئذ فلا يعد عادة في جميع الحروب.
وحيث لا تعرف نار للحرب تعين الحمل على التمثيل، ولذلك أجمع عليه المفسرون في هذه الآية فليس الكلام بحقيقة ولا كناية.
وقوله: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا عند قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:33].
[65] {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [65]
عقب نهيهم وذمهم، بدعوتهم للخير بطريقة التعريض إذ جاء بحرف الامتناع فقال :{لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا}، والمراد اليهود.والمراد بقوله {آمَنُوا} الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم.وفي الحديث: "اثنان يؤتون أجرهم مرتين:رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي" أي عندما بلغته الدعوة المحمدية "فله أجران، ورجل كانت له جارية فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها ثم أعتقها فتزوجها فله أجران".
واللام في قوله: {لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ} وقوله: {وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ} لام تأكيد يكثر وقوعها في جواب"لو"إذا كان فعلا ماضيا مثبتا لتأكيد تحقيق التلازم بين شرط"لو"وجوابها، ويكثر أن يجرد جواب"لو"عن اللام، كما سيأتي عند قوله تعالى :{لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} في سورة الواقعة[70].
[66] {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ [66]}
{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} إقامة الشيء جعله قائما، كما تقدم في أول سورة البقرة.واستعيرت الإقامة لعدم الإضاعة لأن الشيء المضاع يكون ملقى، ولذلك يقال له:شيء لقى، ولأن الإنسان يكون في حال قيامه أقدر على الأشياء، فلذا قالوا: قامت السوق.فيجوز أن يكون معنى إقامة التوراة والإنجيل إقامة تشريعهما قبل الإسلام، أي لو أطاعوا أوامر الله وعملوا بها سلموا من غضبه فلأغدق عليهم نعمة، فاليهود آمنوا بالتوراة ولم يقيموا أحكامها كما تقدم آنفا، وكفروا بالإنجيل ورفضوه، وذلك أشد في عدم إقامته، وبالقرآن.وقد أومأت الآية إلى أن سبب ضيق معاش اليهود هو من غضب الله تعالى عليهم لإضاعتهم التوراة وكفرهم بالإنجيل وبالقرآن، أي فتحتمت عليهم النقمة بعد نزول القرآن.
ويحتمل أن يكون المراد:لو أقاموا هذه الكتب بعد مجيء الإسلام، أي بالاعتراف بما في التوراة والإنجيل من التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا به وبما جاء به، فتكون الآية إشارة إلى ضيق معاشهم بعد هجرة الرسول إلى المدينة.ويؤيده ما روي في سبب نزول قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} {المائدة:64] كما تقدم.
ومعنى {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} تعميم جهات الرزق، أي لرزقوا من كل سبيل، فأكلوا بمعنى رزقوا، كقوله: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمّاً} [الفجر:19].وقيل:المراد بالمأكول من فوق ثمار الشجر، ومن تحت الحبوب والمقاثي، فيكون الأكل على حقيقته، أي لاستمر الخصب فيهم.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} في سورة الأعراف[96].
واللام في قوله: {لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} إلخ مثل اللام في الآية قبلها.
{مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}
إنصاف لفريق منهم بعد أن جرت تلك المذام على أكثرهم.
والمقتصد يطلق على المطيع، أي غير مسرف بارتكاب الذنوب، واقف عند حدود كتابهم، لأنه يقتصد في سرف نفسه، ودليل ذلك مقابلته بقوله في الشق الآخر {سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ}. وقد علم من اصطلاح القرآن التعبير بالإسراف عن الاسترسال في الذنوب، قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، ولذلك يقابل بالاقتصاد، أي الحذر من الذنوب، واختير المقتصد لأن المطيعين منهم قبل الإسلام كانوا غير بالغين غاية الطاعة، كقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:32].
فالمراد هنا تقسيم أهل الكتاب قبل الإسلام لأنهم بعد الإسلام قسمان سيء العمل، وهو من لم يسلم؛ وسابق في الخيرات، وهم الذين أسلموا مثل عبد الله بن سلام ومخيريق.وقيل:المراد بالمقتصد غير المفرطين في بغض المسلمين، وهو الذين لا آمنوا معهم ولا آذوهم، وضدهم هم المسيئون بأعمالهم للمسلمين مثل كعب بن الأشرف.فالأولون بغضهم قلبي، والآخرون بغضهم بالقلب والعمل السيء.ويطلق المقتصد على المعتدل في الأمر، لأنه مشتق من القصد، وهو الاعتدال وعدم الإفراط.والمعنى مقتصدة في المخالفة والتنكر للمسلمين المأخوذ من قوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة:64]
والأظهر أن يكون قوله: {سَاءَ} فعلا بمعنى كان سيئا، و {مَا يَعْمَلُونَ} فاعله، كما قدره ابن عطية.وجعله في الكشاف بمعنى بئس، فقدر قولا محذوفا ليصح الإخبار به عن قوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ} ، بناء على التزام عدم صحة عطف الإنشاء على الإخبار، وهو محل جدال، ويكون {مَا يَعْمَلُونَ} مخصوصا بالذم، والذي دعاه إلى ذلك أنه رأى حمله على معنى إنشاء الذم أبلغ في ذمهم، أي يقول فيهم ذلك كل قائل.
[67] {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
إن موضع هذه الآية في هذه السورة معضل، فإن سورة المائدة من آخر السور نزولا إن لم تكن آخرها نزولا، وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريعة وجميع ما أنزل إليه يوم نزولها، فلو أن هذه الآية نزلت في أول مدة البعثة لقلنا هي تثبيت للرسول وتخفيف لأعباء الوحي عنه، كما أنزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ} [الحجر:95,94] وقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} ـإلى قوله ـ {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:5ـ10]الآيات، فأما وهذه السورة من آخر السور نزولا وقد أدى رسول الله الرسالة وأكمل الدين فليس في الحال ما يقتضي أن يؤمر بتبليغ، فنحن إذن بين احتمالين:
أحدهما أن تكون هذه الآية نزلت بسبب خاص اقتضى إعادة تثبيت الرسول على تبليغ شيء مما يثقل عليه تبليغه.
وثانيهما: أن تكون هذه الآية نزلت من قبل نزول هذه السورة، وهو الذي تواطأت عليه أخبار في سبب نزولها.
فأما هذا الاحتمال الثاني فلا ينبغي اعتباره لاقتضائه أن تكون هذه الآية بقيت سنين غير ملحقة بسورة.ولا جائز أن تكون مقروءة بمفردها، وبذلك تندحض جميع الأخبار الواردة في أسباب النزول التي تذكر حوادث كلها حصلت في أزمان قبل زمن نزول هذه السورة.وقد ذكر الفخر عشرة أقوال في ذلك، وذكر الطبري خبرين آخرين، فصارت اثني عشر قولا.
وقال الفخر بعد أن ذكر عشرة الأقوال: "إن هذه الروايات وإن كثرت فإن الأولى حمل الآية على أن الله آمنه مكر اليهود والنصارى، لأن ما قبلها وما بعدها كان كلاما مع اليهود والنصارى فامتنع إلقاء هذه الآية الواحدة في البين فتكون أجنبية عما قبلها وما بعدها"اهـ.وأما ما ورد في الصحيح أن رسول الله كان يحرس حتى نزل {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فلا يدل على أن {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فلعل الذي حدثت به عائشة أن الله أخبر رسوله بأنه عصمه من الناس فلما حكاه الراوي حكاه باللفظ الواقع في هذه الآية.
فتعين التعويل على الاحتمال الأول: فإما أن يكون سبب نزولها قضية مما جرى
ذكره في هذه السورة، فهي على وتيرة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41]وقوله: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة:49]فكما كانت تلك الآية في وصف حال المنافقين تليت بهذه الآية لوصف حال أهل الكتاب.والفريقان متظاهران على الرسول صلى الله عليه وسلم:فريق مجاهر، وفريق متستر، فعاد الخطاب للرسول ثانية بتثبيت قلبه وشرح صدره بأن يدوم على تبليغ الشريعة ويجهد في ذلك ولا يكترث بالطاعنين من أهل الكتاب والكفار، إذ كان نزول هذه السورة في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله دائم على عصمته من أعدائه وهم الذين هون أمرهم في قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41] فهم المعنيون من {الناس} في هذه الآية، فالمأمور بتبليغه بعض خاص من القرآن.
وقد علم من خلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب الرفق في الأمور ويقول:إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"كما جاء في حديث عائشة حين سلم اليهود عليه فقالوا:السام عليكم، وقالت عائشة لهم:السام عليكم واللعنة"، فلما أمره الله أن يقول لأهل الكتاب {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة:60,59]الآية، وكان ذلك القول مجاهرة لهم بسوء أعلمه الله بأن هذا لا رفق فيه فلا يدخل فيما كان يعاملهم به من المجادلة بالتي هي أحسن، فتكون هذه الآية مخصصة لما في حديث عائشة وتدخل في الاستثناء الذي في قوله تعالى: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} [النساء:148].
ولذلك أعيد افتتاح الخطاب له بوصف الرسول المشعر بمنتهى شرفه، إذ كان واسطة بين الله وخلقه، والمذكر له بالإعراض عمن سوى من أرسله.
ولهذا الوصف في هذا الخطاب الثاني موقع زائد على موقعه في الخطاب الأول، وهو ما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الكلام الآتي بعده، وهو قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ}، كما قال تعالى : {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99].
فكما ثبت جنانه بالخطاب الأول أن لا يهنم بمكائد أعدائه، حذر بالخطاب الثاني من ملاينتهم في إبلاغهم قوارع القرآن، أو من خشيته إعراضهم عنه إذا أنزل من القرآن في شأنهم، إذ لعله يزيدهم عنادا وكفرا، كما دل عليه قوله في آخر هذه الآية: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [المائدة:68].
ثم عقب ذلك أيضا بتثبيت جنانه بأن لايهتم بكيدهم بقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ} وأن كيدهم مصروف عنه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}. فحصل بآخر هذا الخطاب رد العجز على الصدر في الخطاب الأول التي تضمنه قوله: {لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [المائدة:41]فإنهم هم القوم الكافرون والذين يسارعون في الكفر.فالتبليغ المأمور به على هذا الوجه تبليغ ما أنزل من القرآن في تقريع أهل الكتاب.وما صدق {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} شيء معهود من آي القرآن، وهي الآي المتقدمة على هذه الآية.وما صدق {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} هو كل ما نزل من القرآن قبل ذلك اليوم.
والتبليغ جعل الشيء بالغا.والبلوغ الوصول إلى المكان المطلوب وصوله، وهو هنا مجاز في حكاية الرسالة للمرسل بها إليه من قولهم:بلغ الخبر وبلغت الحاجة.والأمر بالتبليغ مستعمل في طلب الدوام، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء:136].ولما كان نزول الشريعة مقصودا به عمل الأمة بها"سواء كان النازل متعلقا بعمل أم كان بغير عمل، كالذي ينزل ببيان أحوال المنافقين أو فضائل المؤمنين أو في القصص ونحوها، لأن ذلك كله إنما نزل لفوائد يتعين العلم بها لحصول الأغراض التي نزلت لأجلها، على أن للقرآن خصوصية أخرى وهي ما له من الإعجاز، وأنه متعبد بتلاوته، فالحاجة إلى جميع ما ينزل منه ثابتة بقطع النظر عما يحويه من الأحكام وما به من مواعظ وعبر"، كان معنى الرسالة إبلاغ ما أنزل إلى من يراد علمه به وهو الأمة كلها، ولأجل هذا حذف متعلق {بلغ} لقصد العموم، أي بلغ ما أنزل إليك جميع من يحتاج إلى معرفته، وهو جميع الأمة، إذ لايدرى وقت ظهور حاجة بعض الأمة إلى بعض الأحكام، على أن كثيرا من الأحكام يحتاجها جميع الأمة.
والتبليغ يحصل بما يكفل للمحتاج إلى معرفة حكم تمكنه من معرفته في وقت الحاجة أو فبله، لذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ القرآن على الناس عند نزول الآية ويأمر بحفظها عن ظهر قلب وبكتابتها، ويأمر الناس بقراءته وبالاستمتاع إليه.وقد أرسل مصعبا بن عمير إلى المدينة قبل هجرته ليعلم الأنصار القرآن.وكان أيضا يأمر السامع مقالته بإبلاغها من لم يسمعها، مما يكفل ببلوغ الشريعة كلها للأجيال من الأمة.ومن أجل ذلك كان الخلفاء من بعده يعطون الناس العطاء على قدر ما معهم من القرآن.ومن أجل ذلك أمر أبو بكر بكتابة القرآن في المصحف بإجماع الصحابة، وأكمل تلك المزية عثمان بن عفان بانتساخ القرآن في المصاحف وإرسالها إلى أمصار الإسلام، وقد كان رسول الله عين لأهل الصفة الانقطاع لحفظ القرآن.
والذي ظهر من تتبع سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يبادر بإبلاغ القرآن عند نزوله، فإذا نزل عليه ليلا أخبر به عند صلاة الصبح.وفي حديث عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس"، ثم قرأ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].وفي حديث كعب بن مالك في تخلفه عن غزوة تبوك: "فأنزل الله توبتنا على نبيه حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله عند أم سلمة، فقال: "يا أم سلمة تيب على كعب بن مالك، قالت:"أفلا أرسل إليه فأبشره، قال: "إذا يحطمكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليلة.حتى إذا صلى رسول الله صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا". وفي حديث ابن عباس: "أن رسول الله نزلت عليه سورة الأنعام جملة واحدة بمكة ودعا رسول الله الكتاب فكتبوها من ليلتهم".
وفي الإتيان بضمير المخاطب في قوله: {إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} إيماء عظيم إلى تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بمرتبة الوساطة بين الله والناس، إذ جعل الإنزال إليه ولم يقل إليكم أو إليهم، كما قال في آية آل عمرآن[199] {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:44].وفي تعليق إنزال بأنه من الرب تشريف للمنزل.
والإتيان بلفظ الرب هنا دون اسم الجلالة لما في التذكير بأنه ربه من معنى كرامته، ومن معنى أداء ما أراد إبلاغه، كما ينبغي من التعجيل والإشاعة والحث على تناوله والعمل بما فيه.
وعلى جميع الوجوه المتقدمة دلت الآية على أن الرسول مأمور بتبليغ ما أنزل إليه كله، بحيث لا يتوهم أحد أن رسول الله قد أبقى شيئا من الوحي لم يبلغه.لأنه لو ترك شيئا منه لم يبلغه لكان ذلك مما أنزل إليه ولم يقع تبليغه، وإذ قد كانت هذه الآية من آخر ما نزل من القرآن علمنا أن من أهم مقاصدها أن الله أراد قطع تخرص من قد يزعمون أن الرسول قد استبقى شيئا لم يبلغه، أو أنه قد خص بعض الناس بإبلاغ شيء من الوحي لم يبلغه للناس عامة.فهي أقطع آية لإبطال قول الرافضة بأن القرآن أكثر مما هو في المصحف الذي جمعه أبو بكر ونسخه عثمان، وأن رسول الله اختص بكثير من القرآن عليا بن أبي طالب وأنه أورثه أبناءه وأنه يبلغ وقر بعير، وأنه اليوم مختزن عند الإمام المعصوم الذي يلقبه بعض الشيعة بالمهدي المنتظر وبالوصي.
وكانت هذه الأوهام ألمت بأنفس بعض المتشيعين إلى علي رضي الله عنه في مدة
حياته، فدعا ذلك بعض الناس، إلى سؤاله عن ذلك.روى البخاري أن أبا جحيفة سأل عليا:"هل عندكم شيء ما ليس في القرآن وما ليس عند الناس، فقال:"لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما عندنا إلا ما في القرآن إلا فهما يعطى رجل في كتاب الله وما في الصحيفة، قلت:وما في الصحيفه، قال: "العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر". وحديث مسروق عن عائشة الذي سنذكره ينبئ بأن هذا الهاجس قد ظهر بين العامة في زمانها.وقد يخص الرسول بعض الناس ببيان شيء من الأحكام ليس من القرآن المنزل إليه لحاجة دعت إلى تخصيصه، كما كتب إلى علي ببيان العقل وفكاك الأسير وأن لا يقتل مسلم بكافر، لأنه كان يومئذ قاضيا باليمن، وكما كتب إلى عمرو بن حزم كتاب نصاب الزكاة لأنه كان بعثه لذلك، فذلك لا ينافي الأمر بالتبليغ لأن ذلك بيان لما أنزل وليس عين ما أنزل، ولأنه لم يقصد منه تخصيصه بعلمه، بل قد يخبر به من تدعو الحاجة إلى عمله به، ولأنه لما أمر من سمع مقالته بأن يعيها ويؤديها كما سمعها، وأمر أن يبلغ الشاهد الغائب، حصل المقصود من التبليغ؛ فأما أن يدع شيئا من الوحي خاصا بأحد وأن يكتمه المودع عنده عن الناس فمعاذ الله من ذلك.
وقد يخص أحدا بعلم ليس مما يرجع إلى أمور التشريع، من سر يلقيه إلى بعض أصحابه، كما أسر إلى فاطمة رضي الله عنها بأنه يموت يومئذ وبأنها أول أهله لحاقا به.وأسر إلى أبي بكر رضي الله عنه بأن الله أذن له في الهجرة.وأسر إلى حذيفة خبر فتنة الخارجين على عثمان، كما حدث حذيفة بذلك عمر بن الخطاب.وما روي عن أبي هريرة أنه قال:حفظت من رسول الله وعائين، أما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم.
ومن أجل ذلك جزمنا بأن الكتاب الذي هم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابته للناس، وهو في مرض وفاته، ثم أعرض عنه، لم يكن فيما يرجع إلى التشريع لأنه لو كان كذلك لما أعرض عنه والله يقول له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}. روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لمسروق: "ثلاث من حدثك بهن فقد كذب، من حدثك أن محمدا كتم شيئا مما أنزل عليه فقد كذب، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ} الحديث.
وقوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ} جاء الشرط بإن التي شأنها في كلام العرب عدم اليقين بوقوع الشرط، لأن عدم التبليغ غير مظنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وإنما فرض هذا
الشرط ليبني عليه الجواب، وهو قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَاتِهُ} ليستفيق الذين يرجون أن يسكت رسول الله عن قراءة القرآن النازل بفضائحهم من اليهود والمنافقين، وليبكت من علم الله أنهم سيفترون، فيزعمون أن قرآنا كثيرا لم يبلغه رسول الله الأمة.
ومعنى {لَمْ تَفْعَل} لم تفعل ذلك، وهو تبليغ ما أنزل إليك، وهذا حذف شائع في كلامهم، فيقولون: فإن فعلت، أو فإن لم تفعل.قال تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:106] أي إن دعوت ما لا ينفعك، يحذفون مفعول فعلت ولم تفعل لدلالة ما تقدم عليه، وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} في سورة البقرة[24].وهذا مما جرى مجرى المثل فلا يتصرف فيه إلا قليلا ولم يتعرض له أئمة الاستعمال.
ومعنى ترتب هذا الجواب على هذا الشرط أنك إن لم تبلغ جميع ما أنزل إليك فتركت بعضه كنت لم تبلغ الرسالة، لأن كتم البعض مثل كتمان الجميع في الاتصاف بعدم التبليغ، ولأن المكتوم لا يدرى أن يكون في كتمانه ذهاب بعض فوائد ما وقع تبليغه، وقد ظهر التغاير بين الشرط وجوابه بما يدفع الاحتياج إلى تأويل بناء الجواب على الشرط، إذ تقدير الشرط:إن لم تبلغ ما أنزل، والجزاء، لم تبلغ الرسالة، وذلك كاف في صحة بناء الجواب على الشرط بدون حاجة إلى ما تأولوه مما في الكشاف وغيره.ثم يعلم من هذا الشرط أن تلك منزلة لا تليق بالرسل، فينتج ذلك أن الرسول لا يكتم شيئا مما أرسل به.وتظهر فائدة افتتاح الخطاب بـ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي بعده، وفائدة اختتامه بقوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر،وأبوجعفر {رسالاته} بصيغة الجمع.وقرأه الباقون :{رسالته} بالإفراد.والمقصود الجنس فهو في سياق النفي سواء مفرده وجمعه.ولا صحة لقول بعض علماء المعاني استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع، وأن نحو:لا رجال في الدار، صادق بما إذا كان فيها رجلان أو رجل واحد، بخلاف نحو لا رجل في الدار.ويظهر أن قراءة الجمع أصرح لأن لفظ الجمع المضاف من صيغ العموم لا يحتمل العهد بخلاف المفرد المضاف فإنه يحتمل الجنس والعهد، ولا شك أن نفي اللفظ الذي لا يحتمل العهد أنص في عموم النفي لكن القرينة بينت المراد.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} افتتح باسم الجلالة للاهتمام به لأن المخاطب والسامعين يترقبون عقب الأمر بتبليغ كل ما أنزل إليه، أن يلاقي عنتا وتكالبا عليه من
أعدائه فافتتح تطمينه بذكر اسم الله، لأن المعنى أن هذا ما عليك، فأما ما علينا فالله يعصمك، فموقع تقديم اسم الجلالة هنا مغن عن الإتيان بأما.على أن الشيخ عبد القاهر قد ذكر في أبواب التقديم من"دلائل الإعجاز"أن مما يحسن فيه تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي ويكثر؛ الوعد والضمان، لأن ذلك ينفي أن يشك من يوعد في تمام الوعد والوفاء به فهو من أحوج الناس إلى التأكيد، كقول الرجل:أنا أكفيك، أنا أقوم بهذا الأمر اه.ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف :{وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72].فقوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} فيه هذا المعنى أيضا.
والعصمة هنا الحفظ والوقاية من كيد أعدائه.
و {الناس} في الآية مراد به الكفار من اليهود والمنافقين والمشركين، لأن العصمة بمعنى الوقاية تؤذن بخوف عليه، وإنما يخاف عليه أعداءه لا أحباءه، وليس في المؤمنين عدو لرسوله.فالمراد العصمة من اغتيال المشركين، لأن ذلك هو الذي كان يهم النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لو حصل ذلك لتعطل الهدي الذي كان يحبه النبي للناس، إذ كان حريصا على هدايتهم، ولذلك كان رسول الله، لما عرض نفسه على القبائل في أول بعثته، يقول لهم: "أن تمنعوني حتى أبين عن الله ما بعثني به أو حتى أبلغ رسالات ربي" . فأما ما دون ذلك من أذى وإضرار فذلك مما نال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون ممن أوذي في الله: فقد رماه المشركون بالحجارة حتى أدموه وقد شج وجهه. وهذه العصمة التي وعد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تكرر وعده بها في القرآن كقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} [البقرة:137].وفي غير القرآن؛ فقد جاء في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر وهو بمكة أن الله عصمه من المشركين. وجاء في الصحيح عن عائشة أن رسول الله كان يحرس في المدينة، وأنه حرسه ذات ليلة سعد بن أبي وقاص وحذيفة وأن رسول الله أخرج رأسه من قبة وقال لهم: "الحقوا بملاحقكم فإن الله عصمني" ، وأنه قال في غزوة ذات الرقاع سنة ست للأعرابي غورث بن الحارث الذي وجد رسول الله نائما في ظل شجرة ووجد سيفه معلقا فاخترطه وقال للرسول:"من يمنعك مني"، فقال:"الله"، فسقط السيف من يد الأعرابي .وكل ذلك كان قبل زمن نزول هذه الآية.والذين جعلوا بعض ذلك سببا لنزول هذه الآية قد خلطوا.فهذه الآية تثبيت للوعد وإدامة له وأنه لا يتغير مع تغير صنوف الأعداء.
ثم أعقبه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ليتبين أن المراد بالناس كفارهم، وليومئ إلى أن سبب عدم هدايتهم هو كفرهم.والمراد بالهداية هنا تسديد أعمالهم وإتمام مرادهم، فهو وعد لرسوله بأن أعداءه لا يزالون مخذولين لا يهتدون سبيلا لكيد الرسول
والمؤمنين لطفا منه تعالى، وليس المراد الهداية في الدين لأن السياق غير صالح له.
,[68] {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}.
هذا الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوله لأهل الكتاب هو من جملة ما ثبته الله على تبليغه بقوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، فقد كان رسول الله بحب تألف أهل الكتاب وربما كان يثقل عليه أن يجابههم بمثل هذا ولكن الله يقول الحق.
فيجوز أن تكون جملة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} بيانا لجملة {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}، ويجوز أن تكون استئنافا ابتدائيا بمناسبة قوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة:67].
والمقصود بأهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا؛ فأما اليهود فلأنهم مأمورون بإقامة الأحكام التي لم تنسخ من التوراة، وبالإيمان بالإنجيل إلى زمن البعثة المحمدية، وبإقامة إحكام القرآن المهيمن على الكتاب كله؛ وأما النصارى فلأنهم أعرضوا عن بشارات الإنجيل بمجيء الرسول من بعد عيسى عليهما السلام.
ومعنى {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} نفي أن يكونوا متصفين بشيء من التدين والتقوى لأن خوض الرسول لا يكون إلا في أمر الدين والهدى والتقوى، فوقع هنا حذف صفة {شيء} يدل عليها المقام على نحو ما في قوله تعالى: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79]، أي كل سفينة صالحة، أو غير معيبة.
والشيء اسم لكل موجود، فهو اسم متوغل في التنكير صادق بالقليل والكثير، ويبينه السياق أو القرائن.فالمراد هنا شيء من أمور الكتاب، ولما وقع في سياق النفي في هذه الآية استفيد نفي أن يكون لهم أقل حظ من الدين والتقوى ما داموا لم يبلغوا الغاية التي ذكرت، وهي أن يقيموا التوراة والإنجيل والقرآن.والمقصود نفي أن يكون لهم حظ معتد به عند الله، ومثل هذا النفي على تقدير الإعتداد شائع في الكلام، قال عباس بن مرداس.
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ ... فلم أعط شيئا ولم أمنع
أي لم أعط شيئا كافيا، بقرينة قوله:ولم أمنع.ويقولون:هذا ليس بشيء، مع أنه
شيء لا محالة ومشار إليه ولكنهم يريدون أنه غير معتد به.ومنه ما وقع في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكهان، فقال: "ليسوا بشي". وقد شاكل كل هذا النفي على معنى الاعتداد النفي المتقدم في قوله: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، أي فما بلغت تبليغا معتدا به عند الله.
والمقصود من الآية إنما هو إقامة التوراة والإنجيل عند مجيء القرآن بالاعتراف بما في التوراة والإنجيل من التبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم حتى يؤمنوا به وبما أنزل عليه.وقد أومأت هذه الآية إلى توغل اليهود في مجانبة الهدى لأنهم قد عطلوا إقامة التوراة منذ عصور قبل عيسى، وعطلوا إقامة الإنجيل إذ أنكروه، وأنكروا من جاء به، ثم أنكروا نبوءة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يقيموا ما أنزل إليهم من ربهم.والكلام على إقامة التوراة والإنجيل مضى عند قوله آنفا: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} [المائدة:66]الخ.
وقد فندت هذه الآية مزاعم اليهود أنهم على التمسك بالتوراة وكانوا يزعمون أنهم على هدى ما تمسكوا بالتوراة ولا يتمسكون بغيرها.وعن ابن عباس أنهم جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: "ألست تقر أن التوراة حق، قال:"بلى"، قالوا:"فإنا نؤمن بها ولا نؤمن بما عداها". فنزلت هذه الآية.وليس له سند قوي.وقد قال بعض النصارى للرسول صلى الله عليه وسلم في شأن تمسكهم بالإنجيل مثل قول بعض اليهود، كما في قصة إسلام عدي بن حاتم، وكما في مجادلة بعض وفد نجران.
وقوله: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} ، أي من أهل الكتاب، وذلك إما بباعث الحسد على مجيء هذا الدين ونزول القرآن ناسخا لدينهم، وإما بما في بعض آيات القرآن من قوارعهم وتفنيد مزاعمهم.ولم يزل الكثير منهم إذا ذكروا الإسلام حتى في المباحث التاريخية والمدنية يحتدون على مدنية الإسلام ويقلبون الحقائق ويتميزون غيظا ومكابرة حتى ترى العالم المشهود له منهم يتصاغر ويتسفل إلى دركات التبالة والتجاهل، إلا قليلا ممن اتخذ الإنصاف شعارا، وتباعد عن أن يرمى بسوء الفهم تجنبا وحذارا.
وقد سمى الله ما يعترضهم من الشجا في حلوقهم بهذا الدين {طغيانا} لأن الطغيان هو الغلو في الظلم واقتحام المكابرة مع عدم الاكتراث بلوم اللائمين من أهل اليقين.
وسلى الله رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} ؛ فالفاء للفصيحة لتتم التسلية، لأن رحمة الرسول بالخلق تحزنه مما بلغ منهم من زيادة الطغيان والكفر، فنبهت
فاء الفصيحة على أنهم ما بلغوا ما بلغوه إلا من جراء الحسد للرسول فحقيق أن لا يحزن لهم.والأسى الحزن والأسف، وفعله كفرح.
وذكر لفظ {القوم} وأتبع بوصف {الكافرين} ليدل على أن المراد بالكافرين هم الذين صار الكفر لهم سجية وصفة تتقوم بها قوميتهم.ولو لم يذكر القوم وقال "فلا تأس على القوم الكافرين" لكان بمنزلة اللقب لهم فلا يشعر بالتوصيف، فكان صادقا بمن كان الكفر غير راسخ فيه بل هو في حيرة وتردد، فذلك مرجو إيمانه.
[69] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [69]
موقع هذه الآية دقيق، ومعناها أدق، وإعرابها تابع لدقة الأمرين.فموقعها أدق من موقع نظريتها المتقدمة في سورة البقرة[62] فلم يكن ما تقدم من البيان في نظيرتها بمغن عن بيان ما يختص بموقع هذه.ومعناها يزيد دقة على معنى نظيرتها تبعا لدقة موقع هذه.وإعرابها يتعقد إشكاله بوقوع قوله: {والصابئون} بحالة رفع بالواو في حين أنه معطوف على اسم إن في ظاهر الكلام.
فحق علينا أن نخصها من البيان بما لم يسبق لنا مثله في نظيرتها ولنبدأ بموقعها فإنه معقد معناها.
فاعلم أن هذه الجملة يجوز أن تكون استئنافا بيانيا ناشئا على تقدير سؤال يخطر في نفس السامع لقوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ} فيسأل سائل عن حال من انقرضوا من أهل الكتاب قبل مجيء الإسلام:هل هم على شيء أو ليسوا على شيء، وهل نفعهم اتباع دينهم أيامئذ؛ فوقع قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الآية جوابا لهذا السؤال المقدر.والمراد بالذين آمنوا المؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم أي المسلمون.وإنما المقصود من الإخبار الذين هادوا والصابون والنصارى، وأما التعرض لذكر الذين آمنوا فلاهتمام بهم سنبينه قريبا.
ويجوز أن تكون هذه الجملة مؤكدة لجملة {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [المائدة:65]الخ، فبعد أن أتبعت تلك الجملة بما أتبعت به من الجمل عاد الكلام بما يفيد معنى تلك الجملة تأكيدا للوعد، ووصلا لربط الكلام، وليلحق بأهل الكتاب الصابئون، وليظهر الاهتمام بذكر حال المسلمين في جنات النعيم.
فالتصدير بذكر الذين آمنوا في طالعة المعدودين إدماج للتنويه بالمسلمين في هذه المناسبة، أن المسلمين هم المثال الصالح في كمال الإيمان والتحرز عن الغرور وعن تسرب مسارب الشرك إلى عقائدهم"كما بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع بقوله: "إن الشيطان قد يئس أن يعبد من دون الله في أرضكم هذه". فكان المسلمون، لأنهم الأوحدون في الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، أولين في هذا الفصل.
وأما معنى الآية فافتتاحها بحرف"إن"هنا للاهتمام بالخبر لعرو المقام عن إرادة رد إنكار أو تردد في الحكم أو تنزيل غير المتردد منزلة المتردد.
وقد تحير الناظرون في الإخبار عن جميع المذكورين بقوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}، إذ من جملة المذكورين المؤمنون، وهل الإيمان إلا بالله واليوم الآخر؟.وذهب الناظرون في تأويله مذاهب:فقيل: أريد بالذين آمنوا من آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، وهم المنافقون، وقيل:أريد بمن آمن من دام على إيمانه ولم يرتد.وقيل:غير ذلك.
والوجه عندي أن المراد بالذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون، ولا يكون إلا بالقلب واللسان لأن هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى، فهو راجع إلى علم الله، والله يعلم المؤمن الحق والمتظاهر بالإيمان نفاقا.
فالذي أراه أن يجعل خبر"إن"محذوفا.وحذف خبر"إن"وارد في الكلام الفصيح غير قليل، كما ذكر سيبويه في"كتابه".وقد دل على الخبر ما ذكر بعده من قوله: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ1} إلخ.ويكون قوله: {وَالَّذِينَ هَادُوا} عطف جملة على جملة، فيجعل {الَّذِينَ هَادُوا} مبتدأ، ولذلك حق رفع ما عطف عليه، وهو { والصابئون}. وهذا أولى من جعل {والصابئون} مبدأ الجملة وتقدير خبر له، أي والصابون كذلك، كما ذهب إليه الأكثرون لأن ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التفصي عن ذلك، ويكون قوله: {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} مبتدأ ثانيا، وتكون"من"موصولة، والرابط للجملة بالتي قبلها محذوفا، أي من آمن منهم، وجملة {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ2} خبرا عن"من"الموصولة، واقترانها بالفاء لأن الموصول شبيه بالشرط.وذلك كثير في الكلام، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج:10] الآية، ووجود الفاء فيه يعين كونه خبرا عن"من"الموصولة وليس خبرإن ـ
ـــــــ
1 في المطبوع {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الموافقفة لـ[البقرة:62]والمثبت هو المقصود والله أعلم.
على عكس قول ضابي بن الحارث:
ومن يك أمسى بالمدينة رحله ... فإني وقبار بها لغريب
فإن وجود لام الابتداء في قوله لغريب عين أنه خبر"إن"وتقدير خبر عن قبار، فلا ينظر به قوله تعالى"والصابون".
ومعنى {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} من آمن ودام، وهم الذين لم يغيروا أديانهم بالإشراك وإنكار البعث؛ فإن كثيرا من اليهود خلطوا أمور الشرك بأديانهم وعبدوا الآلهة كما تقول التوراة.ومنهم من جعل عزيرا ابنا لله، وإن النصارى ألهوا عيسى وعبدوه، والصابئة عبدوا الكواكب بعد أن كانوا على دين له كتاب.وقد مضى بيان دينهم في تفسير نظير هذه الآية من سورة البقرة[62].
ثم إن اليهود والنصارى قد أحدثوا في عقيدتهم من الغرور في نجاتهم من عذاب الآخرة بقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة:18]وقولهم: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} [القرة:80]، وقول النصارى: "إن عيسى قد كفر خطايا البشر بما تحمله من عذاب الطعن والإهانة والصلب والقتل"، فصاروا بمنزلة من لا يؤمن باليوم الآخر، لأنهم عطلوا الجزاء وهو الحكمة التي قدر البعث لتحقيقها.
وجمهور المفسرين جعلوا قوله: {والصابئون} مبتدأ وجعلوه مقدما من وتأخير وقدروا له خبرا محذوفا لدلالة خبر"إن"عليه، وأن أصل النظم:أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى لهم أجرهم إلخ، والصابون كذلك، جعلوه كقول ضابي بن الحارث:
فإني وقبار بها لغريب
وبعض المفسرين قدروا تقادير أخرى أنهاها الألوسي إلى خمسة.والذي سلكناه أوضح وأجرى على أسلوب النظم وأليق بمعنى هذه الآية.
وبعد فمما يجب أن يوقن به إن هذا اللفظ كذلك نزل، وكذلك نطق به النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك تلقاه المسلمون منه وقرؤوه، وكتب في المصاحف، وهم عرب خلص، فكان لنا أصلا نتعرف منه أسلوبا من أساليب استعمال العرب في العطف وإن كان استعمالا غير شائع لكنه من الفصاحة والإيجاز بمكان، وذلك أن من الشائع في الكلام أنه إذا أتى بكلام مؤكد بحرف"إن"وأتى باسم إن وخبرها وأريد أن يعطفوا على اسمها معطوفا هو غريب في ذلك الحكم جيء بالمعطوف الغريب مرفوعا ليدلوا بذلك على أنهم أرادوا
عطف الجمل لا عطف المفردات، فيقدر السامع خبرا يقدره بحسب سياق الكلام.ومن ذلك قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة:3]، أي ورسوله كذلك، فإن براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أن آصرة الدين أعظم من جميع تلك الأواصر، وكذلك هذا المعطوف هنا لما كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام، لأنهم التزموا عبادة الكواكب، وكانوا مع ذلك تحق لهم النجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحا، كان الإتيان بلفظهم مرفوعا تنبيها على ذلك.لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعا إلا بعد أن تستوفي"إن"خبرها، إنما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخرا، فأما تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للناظر أنه ينافي المقصد الذي لأجله خولف حكم إعرابه، ولكن هذا أيضا استعمال عزيز، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين، وهما الدلالة على غرابة المخبر عنه في هذا الحكم.والتنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإن الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود.فنبه الكل على أن عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم، فهذا موجب التقديم مع الرفع، ولو لم يقدم ما حصل ذلك الاعتبار، كما أنه لو لم يرفع لصار معطوفا على اسم"إن"فلم يكن عطفه عطف جملة.وقد جاء ذكر الصابين في سورة الحج مقدما على النصارى ومنصوبا، فحصل هناك مقتضى حال واحدة وهو المبادرة بتعجيل الإعلام بشمول فصل القضاء بينهم وأنهم أمام عدل الله يساوون غيرهم.ثم عقب ذلك كله بقوله :{وَعَمِلَ صَالِحاً} وهو المقصود بالذات من ربط السلامة من الخوف والحزن به، فهو قيد في المذكورين كلهم من المسلمين وغيرهم، وأول الأعمال الصالحة تصديق الرسول والإيمان بالقرآن، ثم يأتي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ـإلى قوله ـ ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:12ـ17]
[70] {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ}
استئناف عاد به الكلام على أحوال اليهود وجراءتهم على الله وعلى رسله.وذلك تعريض باليأس من هديهم بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وبأن ما قابلوا به دعوته ليس بدعا منهم بل ذلك دأبهم جيلا بعد جيل.
وقد تقدم الكلام على أخذ الميثاق على اليهود غير مرة.أولاها في سورة البقرة[83].
والرسل الذين أرسلوا إليهم هم موسى وهارون ومن جاء بعدهما مثل يوشع بن نون وأشعيا وأرميا وحزقيال وداود وعيسى.فالمراد بالرسل هنا الأنبياء:من جاء منهم بشرع وكتاب، مثل موسى وداود وعيسى، ومن جاء معززا للشرع مبينا له، مثل يوشع وأشعيا وأرميا.وإطلاق الرسول على النبي الذي لم يجيء بشريعة إطلاق شائع في القرآن كما تقدم، لأنه لما ذكر أنهم قتلوا فريقا من الرسل تعين تأويل الرسل بالأنبياء فإنهم ما قتلوا إلا أنبياء لا رسلا.
وقوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا} إلخ انتصب {كلما} على الظرفية لأنه دال على استغراق أزمنة مجيء الرسل إليهم فيدل على استغراق الرسل تبعا لاستغراق أزمنة مجيئهم، إذ استغراق أزمنة وجود شيء يستلزم استغراق أفراد ذلك الشيء، فما ظرفية مصدرية دالة على الزمان.
وانتصب"كل"على النيابة عن الزمان لإضافته إلى اسم الزمان المبهم، وهو"ما"الظرفيه المصدرية.والتقدير:في كل أوقات مجيء الرسل إليهم كذبوا ويقتلون.وانتصب {كلما} بالفعلين وهو {كذبوا} و {يقتلون} على التنازع.
وتقديم {كلما} على العامل استعمال شائع لا يكاد يتخلف، لأنهم يريدون بتقديمه الاهتمام به، ليظهر أنه هو محل الغرض المسوقة له جملته، فإن استمرار صنيعهم ذلك مع جميع الرسل في جميع الأوقات دليل على أن التكذيب والقتل صارا سجيتين لهم لا تتخلفان، إذ لم ينظروا إلى حال رسول دون آخر ولا إلى زمان دون آخر، وذلك أظهر في فظاعة حالهم، وهي المقصود هنا.
وبهذا التقديم يشرب ظرف {كلما} معنى الشرطية فيصير العامل فيه بمنزلة الجواب له، كما تصير أسماء الشرط متقدمة على أفعالها وأجوبتها في نحو {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} [النساء:78] إلا أن {كلما} لم يسمع الجزم بعدها ولذلك لم تعد في أسماء الشرط لأن"كل"بعيد عن معنى الشرطية.والحق أن إطلاق الشرط عليها في كلام بعض النحاة تسامح.وقد أطلقه صاحب الكشاف في هذه الآية، لأنه لم يجد لها سببا لفظيا يوجب تقديمها بخلاف ما في قوله تعالى: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ} في سورة البقرة[87]، وفي قوله: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} [100]في تلك السورة؛ فإن التقديم فيهما تبع لوقوعهما متصلتين بهمزة الاستفهام كما ذكرناه هنالك، وإن كان قد سكت عليهما في الكشاف لظهور أمرهما في تينك الآيتين.
فالأحسن أن تكون جملة {فَرِيقاً كَذَّبُوا} حالا من ضمير {إليهم} لاقترانها بضمير موافق لصاحب الحال، ولأن المقصود من الخبر تفظيع حال بني إسرائيل في سوء معاملتهم لهداتهم، وذلك لا يحصل إلا باعتبار كون المرسل إليهم هذه حالهم مع رسلهم.وليست جملة {فَرِيقاً كَذَّبُوا} وما تقدمها من متعلقها استئنافا، إذ ليس المقصود الإخبار بأن الله أرسل إليهم رسلا بل بمدلول هذا الحال.
وبهذا يظهر لك أن التقسيم في قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ليس لرسول من قوله :{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} بل لـ {رسلا} ، لأننا اعتبرنا قوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} مقدما من تأخير.والتقدير: وأرسلنا إليهم رسلا كذبوا منهم فريقا وقتلوا فريقا كلما جاءهم رسول من الرسل.وبهذا نستغني عن تكلفات وتقدير في نظم الآية الآتي على أبرع وجوه الإيجاز وأوضح المعاني.
وقوله: {بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} أي بما لا تحبه.يقال:هوي يهوى بمعنى أحب ومالت نفسه إلى ملابسة شيء.إن بعثة الرسل القصد منها كبح الأنفس عن كثير من هواها الموقع لها في الفساد عاجلا والخسران آجلا، ولولا ذلك لترك الناس وما يهوون، فالشرائع مشتملة لا محالة على كثير من منع النفوس من هواها.ولما وصفت بنو إسرائيل بأنهم يكذبون الرسل ويقتلونهم إذا جاؤوهم بما يخالف هواهم علمنا أنه لم يخل رسول جاءهم من أحد الأمرين أو كليهما:وهما التكذيب والقتل.وذلك مستفاد من {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ} ، فلم يبق لقوله: {بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} فائدة إلا الإشارة إلى زيادة تفظيع حالهم من أنهم يكذبون الرسل أو يقتلونهم في غير حالة يلتمسون لأنفسهم فيها عذرا من تكليف بمشقة فادحة، أو من حدوث حادث ثائرة، أو من أجل التمسك بدين يأبون مفارقته، كما فعل المشركون من العرب في مجيء الإسلام، بل لمجرد مخالفة هوى أنفسهم بعد أن أخذ عليهم الميثاق فقبلوه فتتعطل بتمردهم فائدة التشريع وفائدة طاعة الأمة لهداتها.
وهذا تعليم عظيم من القرآن بأن من حق الأمم أن تكون سائرة في طريق إرشاد علمائها وهداتها، وأنها إذا رامت حمل علمائها وهداتها على مسايرة أهوائها، بحيث يعصون إذا دعوا إلى ما يخالف هوى الأقوام فقد حق عليهم الخسران كما حق على بني إسرائيل، لأن في ذلك قلبا للحقائق ومحاولة انقلاب التابع متبوعا والقائد مقودا، وأن قادة الأمم وعلماءها ونصحاءها إذا سايروا الأمم على هذا الخلق كانوا غاشين لهم، وزالت
فائدة علمهم وحكمتهم واختلط المرعي بالهمل والحابل بالنابل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من استرعاه الله رعية فغشها لم يشم رائحة الجنة". فالمشركون من العرب أقرب إلى المعذرة لأنهم قابلوا الرسول من أول وهلة بقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، وقال قوم شعيب: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:87]، بخلاف اليهود آمنوا برسلهم ابتداء ثم انتقضوا عليهم بالتكذيب والتقتيل إذا حملوهم على ما فيه خيرهم مما لا يهوونه.
وتقديم المفعول في قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُوا} لمجرد الاهتمام بالتفصيل لأن الكلام مسوق مساق التفصيل لأحوال رسل بني إسرائيل باعتبار ما لاقوه من قومهم، ولأن في تقديم مفعول {يقتلون} رعاية على فاصلة الآي، فقدم مفعول {كذبوا} ليكون المفعولان على وتيرة واحدة.
وجيء في قوله: {يقتلون} بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار تلك الحالة الفظيعه إبلاغا في التعجيب من شناعة فاعليها.
والضمائر كلها راجعة إلى بني إسرائيل باعتبار أنهم أمة يخلف بعض أجيالها بعضا، وأنها رسخت فيها أخلاق متماثلة وعوائد متبعة بحيث يكون الخلف منهم فيها على ما كان عليه السلف؛ فلذلك أسندت الأفعال الواقعة في عصور متفاوتة إلى ضمائرهم مع اختلاف الفاعلين، فإن الذين قتلوا بعض الأنبياء فريق غير الذين اقتصروا على التكذيب.
[71] {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ}.
عطف على قوله: {كَذَّبُوا} [المائدة:70]و {يَقْتُلُونَ} [المائدة:70] لبيان فساد اعتقادهم الناشئ عنه فاسد أعمالهم، أي فعلوا ما فعلوا من الفظائع عن تعمد بغرور، لا عن فلتة أو ثائرة نفس حتى ينيبوا ويتوبوا.والضمائر البارزة عائدة مثل الضمائر المتقدمة في قوله: {كذبوا} و {يقتلون}. وظنوا أن فعلهم لا تلحقهم منه فتنة.
والفتنة مرج أحوال الناس واضطراب نظامهم من جراء أضرار ومصائب متوالية، وقد تقدم تحقيقها عند قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} في سورة البقرة[102].وهي قد تكون عقابا من الله للناس جزاء عن سوء فعلهم أو تمحيصا لصادق إيمانهم لتعلو بذلك درجاتهم {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10]الآية.وسمى القرآن هاروت وماروت فتنة، وسمى النبي صلى الله عليه وسلم الدجال فتنة، وسمى القرآن مزال الشيطان فتنة {لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}.
[الأعراف:]27.فكان معنى الابتلاء ملازما لها.
والمعنى:وظنوا أن الله لا يصيبهم بفتنة في الدنيا جزاء على ما عاملوا به أنبياءهم، فهنالك مجرور مقدر دال عليه السياق، أي ظنوا أن لا تنزل بهم مصائب في الدنيا فأمنوا عقاب الله في الدنيا بعد أن استخفوا بعذاب الآخرة، وتوهموا أنهم ناجون منه، لأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة.
فمن بديع إيجاز القرآن أن أومأ إلى سوء اعتقادهم في جزاء الآخرة وأنهم نبذوا الفكرة فيه ظهريا وأنهم لا يراقبون الله في ارتكاب القبائح، وإلى سوء غفلتهم عن فتنة الدنيا وأنهم ضالون في كلا الأمرين.
ودل قوله: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} على أنهم لو لم يحسبوا ذلك لارتدعوا، لأنهم كانوا أحرص على سلامة الدنيا منهم على السلامة في الآخرة لانحطاط إيمانهم وضعف يقينهم.
وهذا شأن الأمم إذا تطرق إليها الخذلان أن يفسد اعتقادهم ويختلط إيمانهم ويصير همهم مقصورا على تدبير عاجلتهم، فإذا ظنوا استقامة العاجلة أغمضوا أعينهم عن الآخرة، فتطلبوا السلامة من غير أسبابها، فأضاعوا الفوز الأبدي وتعلقوا بالفوز العاجل فأساؤوا العمل فأصابهم العذابان العاجل بالفتنة والآجل.
واستعير {عَمُوا وَصَمُّوا} للإعراض عن دلائل الرشاد من رسلهم وكتبهم لأن العمى والصمم يوقعان في الضلال عن الطريق وانعدام استفادة ما ينفع.فالجمع بين العمى والصمم جمع في الاستعارة بين أصناف حرمان الانتفاع بأفضل نافع، فإذا حصل الإعراض عن ذلك غلب الهوى على النفوس، لأن الانسياق إليه في الجبلة، فتجنبه محتاج إلى الوازع، فإذا انعدم الوازع جاء سوء الفعل، ولذلك كان قوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} مرادا منه معناه الكنائي أيضا، وهو أنهم أساءوا الأعمال وأفسدوا، فلذلك استقام أن يعطف عليه قوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وقد تأكد هذا المراد بقوله في تذييل الآية {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا بما يَعْمَلُونَ}.
وقوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي بعد ذلك الضلال والإعراض عن الرشد وما أعقبه من سوء العمل والفساد في الأرض.
وقد استفيد من قوله: {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} وقوله: {ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أنهم قد أصابتهم الفتنة بعد ذلك العمى والصمم وما نشأ عنها عقوبة لهم، وأن الله لما تاب عليهم رفع عنهم الفتنة، {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا}، أي عادوا إلى ضلالهم القديم وعملهم الذميم، لأنهم مصرون على حسبان أن لا تكون فتنة فأصابتهم فتنة
أخرى.
وقد وقف الكلام عند هذا العمى والصمم الثاني ولم يذكر أن الله تاب عليهم بعده، فدل على أنهم أعرضوا عن الحق إعراضا شديدا مرة ثانية فأصابتهم فتنة لم يتب الله عليهم بعدها.
ويتعين أن ذلك إشارة إلى حادثين عظيمين من حوادث عصور بني إسرائيل بعد موسى عليه ا لسلام، والأظهر أنهما حادث الأسر البابلي إذ سلط الله عليهم"بختنصر"ملك"أشور"فدخل بيت المقدس مرات سنة 606 وسنة 598 وسنة 588 قبل المسيح.وأتى في ثالثتها على مدينة أورشليم فأحرقها وأحرق المسجد وحمل جميع بني إسرائيل إلى بابل أسارى، وأن توبة الله عليهم كان مظهرها حين غلب"كورش"ملك"فارس"على الآشوريين واستولى على بابل سنة 530 قبل المسيح فأذن لليهود أن يرجعوا إلى بلادهم ويعمروها فرجعوا وبنوا مسجدهم.
وحادث الخراب الواقع في زمن تيطس القائد الروماني وهو ابن الامبراطور الروماني"وسبسيانوس"فإنه حاصر"أورشليم"حتى اضطر اليهود إلى أكل الجلود وأن يأكل بعضهم بعضا من الجوع، وقتل منهم ألف ألف رجل، وسبى سبعة وتسعين ألفا، على ما في ذلك من مبالغة، وذلك سنة 69 للمسيح.ثم قفاه الامبراطور"أدريان"الروماني من سنة 117 إلى سنة 138 للمسيح فهدم المدينة وجعلها أرضا وخلط ترابها بالملح.فكان ذلك انقراض دولة اليهود ومدينتهم وتفرقهم في الأرض.
وقد أشار القرآن إلى هذين الحدثين بقوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ1 وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا2 مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} [الإسراء:4ـ8]وهذا هو الذي اختاره القفال.وفي الآية أقوال أخر استقصاها الفخر.
ـــــــ
1 أي على البابليين بانتصار الفرس عليهم وكنتم موالين للفرس.
2 الضمائر راجعة إلى عباد من قوله {عِبَاداً لَنَا}, وأصحاب الضمائر هم غير العباد الأولين.
وقد دلت {ثم} على تراخي الفعلين المعطوفين بها عن الفعلين المعطوف عليهما وأن هنالك عميين وصممين في زمنين سابق ولاحق، ومع ذلك كانت الضمائر المتصلة بالفعلين المعطوفين عين الضمائر المتصلة بالفعلين المعطوف عليهما، والذي سوغ ذلك أن المراد بيان تكرر الأفعال في العصور وادعاء أن الفاعل واحد؛ لأن ذلك شأن الأخبار والصفات المثبتة للأمم والمسجل بها عليهم توارث السجايا فيهم من حسن أو قبيح، وقد علم أن الذين عموا وصموا ثانية غير الذين عموا وصموا أول مرة، ولكنهم لما كانوا خلفا عن سلف، وكانوا قد أورثوا أخلاقهم أبناءهم اعتبروا كالشيء الواحد، كقولهم:بنو فلان لهم تراث مع بني فلان.
وقوله: {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} بدل من الضمير في قوله: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا}، قصد منه تخصيص أهل الفضل والصلاح منهم في كل عصر بأنهم برآء مما كان عليه دهماؤهم صدعا بالحق وثناء على الفضل.
وإذ قد كان مرجع الضميرين الأخيرين في قوله: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا} هو عين مرجع الضميرين الأولين في قوله: {فَعَمُوا وَصَمُّوا} كان الإبدال من الضميرين الأخيرين المفيد تخصيصا من عمومهما، مفيدا تخصيصا من عموم الضميرين اللذين قبلهما بحكم المساواة بين الضمائر، إذ قد اعتبرت ضمائر أمة واحدة، فإن مرجع تلك الضمائر هو قوله: {بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:70].ومن الضروري أن لا تخلوا أمة ضالة في كل جيل من وجود صالحين فيها، فقد كان في المتأخرين منهم أمثال عبد الله بن سلام، وكان في المتقدمين يوشع وكالب اللذين قال الله في شأنها: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} [المائدة:23].
وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} تذييل.والبصير مبالغة في المبصر، كالحكيم بمعنى المحكم، وهو هنا بمعنى العليم بكل ما يقع في أفعالهم التي من شأنها أن يبصرها الناس سواء ما أبصره الناس منها أم ما لم يبصروه، والمقصود من هذا الخبر لازم معناه، وهو الإنذار والتذكير بأن الله لا يخفى عليه شيء، فهو وعيد لهم على ما ارتكبوه بعد أن تاب الله عليهم.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وعاصم، وأبو جعفر {أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} بفتح نون تكون على اعتبار"أن"حرف مصدر ناصب للفعل.وقرأ أبو عمرو، وحمزة، ويعقوب، وخلف بضم النون على اعتبار"أن"مخففة من"أن"أخت"إن"المكسورة الهمزة.وأنّ
إذا خففت يبطل عملها المعتاد وتصير داخلة على جملة.وزعم بعض النحاة أنها مع ذلك عاملة، وأن اسمها ملتزم الحذف، وأن خبرها ملتزم كونه جملة.وهذا توهم لا دليل عليه.وزاد بعضهم فزعم أن اسمها المحذوف ضمير الشأن.وهذا أيضا توهم على توهم وليس من شأن ضمير الشأن أن يكون محذوفا لأنه مجتلب للتأكيد، على أن عدم ظهوره في أي استعمال يفند دعوى تقديره.
[73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} استئناف ابتدائي لإبطال ما عليه النصارى، يناسب الانتهاء من إبطال ما عليه اليهود.
وقد مضى القول آنفا في نظير قوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [المائدة:17] ومن نسب إليه هذا القول من طوائف النصارى.
والواو في قوله: {وَقَالَ الْمَسِيحُ} واو الحال.والجملة حال من {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ} ,أي قالوا ذلك في حال نداء المسيح لبني إسرائيل بأن الله ربه وربهم، أي لا شبهة لهم، فهم قالوا:إن الله اتحد بالمسيح؛ في حال أن المسيح الذي يزعمون أنهم آمنوا به والذي نسبوه إليه قد كذبهم، لأن قوله:{رَبِّي وَرَبَّكُمْ}، يناقض قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ}، لأنه لا يكون إلا مربوبا، وذلك مفاد قوله {ربي} ، ولأنه لا يكون مع الله إله آخر، وذلك مفاد قوله: {وربكم} ، ولذلك عقب بجملة {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ}. فيجوز أن تكون هذه الجملة حكاية لكلام صدر من عيسى عليه السلام فتكون تعليلا للأمر بعبادة الله.ووقوع"إن"في مثل هذا المقام تغني غناء فاء التفريع وتفيد التعليل.وفي حكايته تعريض بأن قولهم ذلك قد أوقعهم في الشرك وإن كانوا يظنون أنهم اجتنبوه حذرا من الوقوع فيما حذر منه المسيح، لأن الذين قالوا:إن الله هو المسيح.أرادوا الاتحاد بالله وأنه هو هو.وهذا قول اليعاقبة كما تقدم آنفا وفي سورة النساء.وذلك شرك لا محالة، بل هو أشد، لأنهم أشركوا مع الله غيره ومزجوه به فوقعوا في الشرك وإن راموا تجنب تعدد الآلهة، فقد أيبطل الله قولهم بشهادة كلام من نسبوا إليه الإلهية إبطالا تاما.
وإن كانت الجملة من كلام الله تعالى فهو تذييل إثبات كفرهم وزيادة تنبيه على
بطلان معتقدهم وتعريض بهم بأنهم قد أشركوا بالله من حيث أرادوا التوحيد.
والضمير المقترن بإن ضمير الشأن يدل على العناية بالخبر الوارد بعده.ومعنى {حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} منعها منه، أي من الكون فيها.
والمأوى:المكان الذي يأوى إليه الشيء، أي يرجع إليه.
وجملة {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} يحتمل أيضا أن تكون من كلام المسيح عليه السلام على احتمال أن يكون قوله: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ} من كلامه، ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى تذييلا لكلام المسيح على ذلك الاحتمال، أو تذييلا لكلام الله تعالى على الاحتمال الآخر.والمراد بالظالمين المشركون {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]، أي ما للمشركين من أنصار ينصرونهم لينقذوهم من عذاب النار.
فالتقدير:ومأواه النار لا محالة ولا طمع له في التخلص منه بواسطة نصير، فبالأحرى أن لا يتخلص بدون نصير.
[74,73] {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
استئناف قصد منه الانتقال إلى إبطال مقالة أخرى من مقالات طوائف النصارى، وهي مقالة"الملكانية المسمين بالجعاثليقية"، وعليها معظم طوائف النصارى في جميع الأرض.وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} من سورة النساء[171]، وأن قوله فيها: {وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ} يجمع الرد على طوائف النصارى كلهم.والمراد بـ{قالو}اعتقدوا فقالوا، لأن شأن القول أن يكون صادرا عن اعتقاد، وقد تقدم بيان ذلك.
ومعنى قولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} أن ما يعرفه الناس أنه الله هو مجموع ثلاثة أشياء، وأن المستحق للاسم هو أحد تلك الثلاثة الأشياء.وهذه الثلاثة قد عبروا عنها بالأقانيم وهي أقنوم الوجود وهو الذات المسمى الله وسموه أيضا الأب؛ وأقنوم العلم وسموه أيضا الابن، وهو الذي اتحد بعيسى وصار بذلك عيسى إلها؛ وأقنوم الحياة وسموه الروح القدس.وصار جمهورهم، ومنهم الركوسية طائفة من نصارى العرب، يقولون:إنه لما اتحد بمريم حين حملها بالكلمة تألهت مريم أيضا، ولذلك اختلفوا هل
هي أم الكلمة أم هي أم الله.
فقوله: {ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} معناه واحد من تلك الثلاثة، لأن العرب تصوغ من اسم العدد من اثنين إلى عشرة، صيغة فاعل مضافا إلى اسم العدد المشتق هو منه لإرادة أنه جزء من ذلك العدد نحو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40],فإن أرادوا أن المشتق له وزن فاعل هو الذي أكمل العدد أضافوا وزن فاعل إلى اسم العدد الذي هو أرقى منه فقالوا:رابع ثلاثة، أي جاعل الثلاثة أربعة.
وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} عطف على جملة {لَقَدْ كَفَرَ} لبيان الحق في الاعتقاد بعد ذكر الاعتقاد الباطل.
ويجوز جعل الجملة حالا من ضمير {قالوا} ، أي قالوا هذا القول في حال كونه مخالفا للواقع، فيكون كالتعليل لكفرهم في قولهم ذلك، ومعناه على الوجهين نفي عن الإله الحق أن يكون غير واحد فإن"من"لتأكيد عموم النفي فصار النفي ب {ما} المقترنة بها مساويا للنفي بـ"لا"النافية للجنس في الدلالة على نفي الجنس نصا.
وعدل هنا عن النفي بلا التبرئة فلم يقل:"ولا إله إلا إله واحد"إلى قوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} اهتماما بإبراز حرف"من"الدال بعد النفي على تحقيق النفي؛ فإن النفي بحرف"لا ما أفاد نفي الجنس إلا بتقدير حرف"من"، فلما قصدت زيادة الاهتمام بالنفي هنا جيء بحرف"ما"النافية وأظهر بعده حرف"من".وهذا مما لم يتعرض إليه أحد من المفسرين.
وقوله: {إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} يفيد حصر وصف الإلهية في واحد فانتفى التثليث المحكي عنهم.وأما تعيين هذا الواحد من هو، فليس مقصودا تعيينه هنا لأن القصد إبطال عقيدة التثليث فإذا بطل التثليث، وثبتت الوحدانية تعين أن هذا الواحد هو الله تعالى لأنه متفق على إلهيته، فلما بطلت إلهية غيره معه تمحضت الإلهية له فيكون قوله هنا: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} مساويا لقوله في سورة آل عمران[62] {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} ، إلا أن ذكر اسم الله تقدم هنا وتقدم قول المبطلين:"إنه ثالث ثلاثة"فاستغني بإثبات الوحدانية عن تعيينه.ولهذا صرح بتعيين الإله الواحد في سورة آل عمران في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ} إذ المقام اقتضى تعيين انحصار الإلهية في الله تعالى دون عيسى ولم يجر فيه ذكر لتعدد الآلهة.
وقوله :{وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} عطف على جملة {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}، أي لقد كفروا كفرا إن لم ينتهوا عنه أصابهم عذاب أليم.ومعنى {عَمَّا يَقُولُون} أي عن قولهم المذكور آنفا وهو {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ}. وقد جاء بالمضارع لأنه المناسب للانتهاء إذ الانتهاء إنما يكون عن شيء مستمر كما ناسب قوله: {قالوا} قوله :{لَقَدْ كَفَرَ} لأن الكفر حصل بقولهم ذلك ابتداء من الزمن الماضي.ومعنى {عَمَّا يَقُولُون} عما يعتقدون، لأنهم لو انتهوا عن القول باللسان وأضمروا اعتقاده لما نفعهم ذلك، فلما كان شأن القول لا يصدر إلا عن اعتقاد كان صالحا لأن يكون كناية عن الاعتقاد مع معناه الصريح.وأكد الوعيد بلام القسم في قوله: {ليمسن} ردا لاعتقادهم أنهم لا تمسهم النار، لأن صلب عيسى كان كفارة عن خطايا بني آدم.
والمس مجاز في الإصابة، لأن حقيقة المس وضع اليد على الجسم، فاستعمل في الإصابة بجامع الاتصال، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام:49]، فهو دال على مطلق الإصابة من غير تقييد بشدة أو ضعف، وإنما يرجع في الشدة أو الضعف إلى القرينة، مثل{أليم} هنا، ومثل قوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام:49]في الآية الأخرى، وقال يزيد بن الحكم الكلابي من شعراء الحماسة:
مسسنا من الآباء شيئا وكلنا ... إلى حسب في قومه غير واضع
أي تتبعنا أصول آبائنا.
والمراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} عين المراد بـ {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} فعدل عن التعبير عنهم بضميرهم إلى الصلة المقررة لمعنى كفرهم المذكور آنفا بقوله: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا} إلخ، لقصد تكرير تسجيل كفرهم وليكون اسم الموصول مومئا إلى سبب الحكم المخبر به عنه.وعلى هذا يكون قوله:{منهم} للذين كفروا قصد منه الاحتراس عن أن يتوهم السامع أن هذا وعيد لكفار آخرين.
ولما توعدهم الله أعقب الوعيد بالترغيب في الهداية فقال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ}. فالتوبة هي الإقلاع عما هو عليه في المستقبل والرجوع إلى الاعتقاد الحق.والاستغفار طلب مغفرة ما سلف منهم في الماضي والندم عما فرط منهم من سوء الاعتقاد.
وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تذييل بثناء على الله بأنه يغفر لمن تاب واستغفر ما سلف منه، لأن {غَفُورٌ رَحِيمٌ} من أمثلة المبالغة يدلان على شدة الغفران وشدة الرحمة، فهو وعد بأنهم إن تابوا واستغفروه رفع عنهم العذاب برحمته وصفح عما سلف منهم بغفرانه.
[75] {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
استئناف لتبيان وصف المسيح في نفس الأمر ووصف أمه زيادة في إبطال معتقد النصارى إلهية المسيح وإلهية أمه، إذ قد علم أن قولهم: {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} [المائدة:73]أرادوا به إلهية المسيح.وذلك معتقد جميع النصارى.وفرعت طائفة من النصارى يلقبون"بالركوسية""وهم أهل ملة نصرانية صابئة"على إلهية عيسى إلهية أمه ولولا أن ذلك معتقدهم لما وقع التعرض لوصف مريم ولا للاستدلال على بشريتها بأنهما كانا يأكلان الطعام.
فقوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ} قصر موصوف على صفة، وهو قصر إضافي، أي المسيح مقصور على صفة الرسالة لا يتجاوزها إلى غيرها، وهي الإلهية.فالقصر قصر قلب لرد اعتقاد النصارى أنه الله.
وقوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} صفة لرسول أريد بها أنه مساو للرسل الآخرين الذين مضوا قبله، وأنه ليس بدعا في هذا الوصف ولا هو مختص فيه بخصوصية لم تكن لغيره في وصف الرسالة.فلا شبهة للذين ادعوا له الإلهية، إذ لم يجيء بشيء زائد على ما جاءت به الرسل، وما جرت على يديه إلا معجزات كما جرت على أيدي رسل قبله، وإن اختلفت صفاتها فقد تساوت في أنها خوارق عادات وليس بعضها بأعجب من بعض، فما كان إحياؤه الموتى بحقيق أن يوهم إلهيته.وفي هذا نداء على غباوة القوم الذين استدلوا على إلهيته بأنه أحيا الموتى من الحيوان فإن موسى أحيا العصا وهي جماد فصارت حية.
وجملة {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} معطوفة على جملة {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ}. والقصد من وصفها بأنها صديقة نفي أن يكون لها وصف أعلى من ذلك، وهو وصف الإلهية، لأن المقام لإبطال قول الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة، إذ جعلوا مريم الأقنوم الثالث.وهذا هو الذي أشار إليه قول صاحب الكشاف إذ قال:"أي وما أمه إلا صديقة"
مع أن الجملة لا تشتمل على صيغة حصر.وقد وجهه العلامة التفتزاني في شرح الكشاف بقوله:"الحصر الذي أشار إليه مستفاد من المقام والعطف""أي من مجموع الأمرين".وفي قول التفتزاني:والعطف، نظر.
والصديقة صيغة مبالغة، مثل شريب ومسيك، مبالغة في الشرب والمسك، ولقب امرئ القيس بالملك الضليل، لأنه لم يهتد إلى ما يسترجع به ملك أبيه.والأصل في هذه الصيغة أن تكون مشتقة من المجرد الثلاثي.فالمعنى المبالغة في وصفها بالصدق، أي صدق وعد ربها، وهو ميثاق الإيمان وصدق وعد الناس.كما وصف إسماعيل عليه السلام بذلك في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54].وقد لقب يوسف بالصديق، لأنه صدق وعد ربه في الكف عن المحرمات مع توفر أسبابها.وقيل:أريد هنا وصفها بالمبالغة في التصديق لقوله تعالى: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم:12]، كما لقب أبو بكر بالصديق لأنه أول من صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] ، فيكون مشتقا من المزيد.
وقوله:{كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}جملة واقعة موقع الاستدلال على مفهوم القصر الذي هو نفي إلهية المسيح وأمه، ولذلك فصلت عن التي قبلها لأن الدليل بمنزلة البيان، وقد استدل على بشريتهما بإثبات صفة من صفات البشر، وهي أكل الطعام.وإنما اختيرت هذه الصفة من بين صفات كثيرة لأنها ظاهرة واضحة للناس، ولأنها أثبتتها الأناجيل؛ فقد أثبتت أن مريم أكلت ثمر النخلة حين مخاضها، وأن عيسى أكل مع الحواريين يوم الفصح خبزا وشرب خمرا، وفي إنجيل لوقا إصحاح 22:"وقال لهم اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألم لأني لا آكل منه بعد، وفي الصبح إذ كان راجعا في المدينة جاع".
وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ} استئناف للتعجيب من حال الذين ادعوا الإلهية لعيسى.والخطاب مراد به غير معين، وهو كل من سمع الحجج السابقة.واستعمل الأمر بالنظر في الأمر بالعلم لتشبيه العالم بالرأي والعلم بالرؤية في الوضوح والجلاء.وقد تقدمت نظائره.وقد أفاد ذلك معنى التعجيب.ويجوز أن يكون الخطاب للرسول عليه السلام.والمراد هو وأهل القرآن.
و {كيف} اسم استفهام معلق لفعل {انظر} عن العمل في مفعولين، وهي في موضع المفعول به لـ {انظر}، والمعنى انظر جواب هذا الاستفهام.وأريد مع الاستفهام التعجيب كناية، أي انظر ذلك تجد جوابك أنه بيان عظيم الجلاء يتعجب الناظر من وضوحه.والآيات جمع آية، وهي العلامة على وجود
المطلوب، استعيرت للحجة والبرهان لشبهه بالمكان المطلوب على طريقة المكنية، وإثبات الآيات له تخييل، شبهت بآيات الطريق الدالة على المكان المطلوب.
وقوله: {ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} "ثم"فيه للترتيب الرتبي والمقصود أن التأمل في بيان الآيات يقتضي الانتقال من العجب من وضوح البيان إلى أعجب منه وهو انصرافهم عن الحق مع وضوحه.و {يؤفكون} يصرفون، يقال:أفكه من باب ضرب، صرفه عن الشيء.
و {أنى} اسم استفهام يستعمل بمعنى من أين، ويستعمل بمعنى كيف.وهو هنا يجوز أن يكون بمعنى كيف"كما"في الكشاف، وعليه فإنما عدل عن إعادة{كيف} تفننا.ويجوز أن تكون بمعنى من أين، والمعنى التعجيب من أين يتطرق إليهم الصرف عن الاعتقاد الحق بعد ذلك البيان البالغ غاية الوضوح حتى كان بمحل التعجيب من وضوحه.وقد علق ـ {إني} فعل {انظر} الثاني عن العمل وحذف متعلق {يؤفكون} اختصارا، لظهور أنهم يصرفون عن الحق الذي بينته لهم الآيات.
[76] {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [76]
لما كان الكلام السابق جاريا على طريقة خطاب غير المعين كانت جملة {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الخ مستأنفة، أمر الرسول بأن يبلغهم ما عنوا به.
والظاهر أن {أتعبدون} خطاب لجميع من يعبد شيئا من دون الله من المشركين والنصارى.والاستفهام للتوبيخ والتغليط مجازا.
ومعنى {مِنْ دُونِ اللَّهِ} غير الله.فمن للتوكيد، و"دون"اسم للمغاير، فهو مرادف لسوى، أي أتعبدون معبودا هو غير الله، أي أتشركون مع الله غيره في الإلهية.وليس المعنى أتعبدون معبودا وتتركون عبادة الله.وانظر ما فسرنا به عند قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} في سورة الأنعام[108]، فالمخاطبون كلهم كانوا يعبدون الله ويشركون معه غيره في العبادة حتى الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم فهم ما عبدوا المسيح إلا لزعمهم أن الله حل فيه فقد عبدوا الله فيه، فشمل هذا الخطاب المشركين من العرب ونصارى العرب كلهم.
ولذلك جيء بـ{ما} الموصولة دون"من"لأن معظم ما عبد من دون الله أشياء لا تعقل، وقد غلب "ما" لما لا يعقل.ولو أريد بـ {مَا لا يَمْلِكُ} عيسى وأمه كما في الكشاف وغيره وجعل الخطاب خاصا بالنصارى كان التعبير عنه بـ{ما} صحيحا لأنها تستعمل استعمال"من"، وكثر في الكلام بحيث يكثر على التأويل.ولكن قد يكون التعبير بمن أظهر.
ومعنى {لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً} لا يقدر عليه، وحقيقة معنى الملك التمكن من التصرف بدون معارض، ثم أطلق على استطاعة التصرف في الأشياء بدون عجز، كما قال قيس بن الخطيم:
ملكت بها كفي فأنهر فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
فإن كفه مملوكة له لا محالة، ولكنه أراد أنه تمكن من كفه تمام التمكن فدفع به الرمح دفعة عظيمة لم تخنه فيها كفه.ومن هذا الاستعمال نشأ إطلاق الملك بمعنى الاستطاعة القوية الثابتة على سبيل المجاز المرسل كما وقع في هذه الآية ونظائرها {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [يونس:49] {إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً} [العنكبوت:17].فقد تعلق فعل الملك فيها بمعان لا بأشياء وذوات، وذلك لا يكون إلا على جعل الملك بمعنى الاستطاعة القوية ألا ترى إلى عطف نفي على نفي الملك على وجه الترقي في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة النحل[73].وقد تقدم آنفا استعمال آخر في قوله: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
وقدم الضر على النفع لأن النفوس أشد تطلعا إلى دفعه من تطلعها إلى جلب النفع، فكان أعظم ما يدفعهم إلى عبادة الأصنام أن يستدفعوا بها الأضرار بالنصر على الأعداء وبتجنبها إلحاق الإضرار بعابديها.
ووجه الاستدلال على أن معبوداتهم لا تملك ضرا ولا نفعا، وقوع الأضرار بهم وتخلف النفع عنهم.
فجملة {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} في موضع الحال، قصر بواسطة تعريف الجزأين وضمير الفصل، سبب النجدة والإغاثة في حالي السؤال وظهور الحالة، على الله تعالى
قصر ادعاء بمعنى الكمال، أي ولا يسمع كل دعاء ويعلم كل احتياج إلا الله تعالى، أي لا عيسى ولا غيره مما عبد من دون الله.
فالواو في قوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} واو الحال.وفي موقع هذه الجملة تحقيق لإبطال عبادتهم عيسى ومريم من ثلاثة طرق:طريق القصر وطريق ضمير الفصل وطريق جملة الحال باعتبار ما تفيده من مفهوم مخالفة.
[77] {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وتقدم تفسير نظيره في آخر سورة النساء.
والغلو مصدر غلا في الأمر:إذا جاوز حده المعروف.فالغلو الزيادة في عمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع.
وقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} منصوب على النيابة عن مفعول مطلق لفعل {تغلوا} أي غلوا غير الحق، وغير الحق هو الباطل.وعدل عن أن يقال باطلا إلى {غَيْرَ الْحَقِّ} لما في وصف غير الحق من تشنيع الموصوف.والمراد أنه مخالف للحق المعروف فهو مذموم؛ لأن الحق محمود فغيره مذموم.وأريد أنه مخالف للصواب احترازا عن الغلو الذي لا ضير فيه، مثل المبالغة في الثناء على العمل الصالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع.وقد أشار إلى هذا قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} في سورة النساء[171].فمن غلو اليهود تجاوزهم الحد في التمسك بشرع التوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.ومن غلو النصارى دعوى إلهية عيسى وتكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم.ومن الغلو الذي ليس باطلا ما هو مثل الزيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنه مكروه.
وقوله: {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} عطف على النهي عن الغلو، وهو عطف عام من وجه على خاص من وجه؛ ففيه فائدة عطف العام على الخاص وعطف الخاص على العام، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغلاة من أحبارهم ورهبانهم الذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدليل.فلذلك سمي تغاليهم أهواء، لأنها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنها أهواء فضلوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلوا كثيرا مثل"قيافا"حبر اليهود الذي كفر عيسى عليه
السلام وحكم بأنه يقتل، ومثل المجمع الملكاني الذي سجل عقيدة التثليث.
وقوله: {مِنْ قَبْلُ} معناه من قبلكم.وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبل وبعد وغير وحسب ودون وأسماء الجهات، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنية على الضم حينئذ، ويندر أن تكون معربة إلا إذا نكرت.وقد وجه النحويون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكر بأنها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النادرة، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللغة.
وقوله: {وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} مقابل لقوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} فهذا ضلال آخر، فتعين أن سواء السبيل الذي ضلوا عنه هو الإسلام.والسواء المستقيم، وقد استعير للحق الواضح، أي قد ضلوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلوا بعد ذلك عن الإسلام.
وقيل:الخطاب بقوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} للنصارى خاصة، لأنه ورد عقب مجادلة النصارى وأن المراد بالغلو التثليث، وأن المراد بالقوم الذين ضلوا من قبل هم اليهود.ومعنى النهي عن متابعة أهوائهم النهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم؛ فيكون الكلام تنفيرا للنصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود، لأن النصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنهم على ضلال.
[79,78] {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
جملة {لعن} مستأنفة استئنافا ابتدائيا فيها تخلص بديع لتخصيص اليهود بالإنحاء عليهم دون النصارى.وهي خبرية مناسبة لجملة {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ} [المائدة:77]، تتنزل منها منزلة الدليل، لأن فيها استدلالا على اليهود بما في كتبهم وبما في كتب النصارى.والمقصود إثبات أن الضلال مستمر فيهم فإن ما بين داود وعيسى أكثر من ألف سنة.
و {على} في قوله: {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ} للاستعلاء المجازي المستعمل في تمكن الملابسة، فهي استعارة تبعية لمعنى باء الملابسة مثل قوله تعالى :{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5]، قصد منها المبالغة في الملابسة، أي لعنوا بلسان داود، أي بكلامه
الملابس للسانه.وقد ورد في سفر الملوك وفي سفر المزامير أن داود لعن الذين يبدلون الدين، وجاء في المزمور الثالث والخمسين:"الله من السماء أشرف على بني البشر لينظر هل من فاهم طالب الله كلهم قد ارتدوا معا فسدوا ثم قال أخزيتهم لأن الله قد رفضهم ليت من صهيون خلاص إسرائيل"وفي المزمور 109:"قد انفتح علي فم الشرير وتكلموا معي بلسان كذب أحاطوا بي وقاتلوني بلا سبب ثم قال ينظرون إلي وينغضون رؤوسهم ثم قال أما هم فيلعنون وأما أنت فتبارك، قاموا وخزوا أما عبدك فيفرح"ذلك أن بني إسرائيل كانوا قد ثاروا على داود مع ابنه ابشلوم.وكذلك لعنهم على لسان عيسى متكرر في الأناجيل.و"ذلك" إشارة إلى اللعن المأخوذ من لعن أو إلى الكلام السابق بتأويل المذكور.والجملة مستأنفة استئنافا بيانيا؛ كأن سائلا يسأل عن موجب هذا اللعن فأجيب بأنه بسبب عصيانهم وعدوانهم، أي لم يكن بلا سبب.وقد أفاد اسم الإشارة مع باء السببية ومع وقوعه في جواب سؤال مقدر أفاد مجموع ذلك مفاد القصر، أي ليس لعنهم إلا بسبب عصيانهم كما أشار إليه في الكشاف وليس في الكلام صيغة قصر، فالحصر مأخوذ من مجموع الأمور الثلاثة.وهذه النكتة من غرر صاحب الكشاف.والمقصود من الحصر أن لا يضل الناس في تعليل سبب اللعن فربما أسندوه إلى سبب غير ذلك على عادة الضلال في العناية بالسفاسف والتفريط في المهمات، لأن التفطن لأسباب العقوبة أول درجات التوفيق.ومثل ذلك مثل البله من الناس تصيبهم الأمراض المعضلة فيحسبونها من مس الجن أو من عين أصابتهم ويعرضون عن العلل والأسباب فلا يعالجونها بدوائها.
و"ما"في قوله: {بِمَا عَصَوْا} مصدرية، أي بعصيانهم وكونهم معتدين، فعدل عن التعبير بالمصدرين إلى التعبير بالفعلين مع"ما"المصدرية ليفيد الفعلان معنى تجدد العصيان واستمرار الاعتداء منهم، ولتفيد صيغة المضي أن ذلك أمر قديم فيهم، وصيغة المضارع أنه متكرر الحدوث.فالعصيان هو مخالفة أوامر الله تعالى.والاعتداء هو إضرار الأنبياء.وإنما عبر في جانب العصيان بالماضي لأنه تقرر فلم يقبل الزيادة، وعبر في جانب الاعتداء بالمضارع لأنه مستمر، فإنهم اعتدوا على محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب والمنافقة ومحاولة الفتك والكيد.
وجملة {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال ينشأ عن قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا} ، وهو أن يقال كيف تكون أمة كلها متمالئة على العصيان
والاعتداء، فقال: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ}. وذلك أن شأن المناكر أن يبتدئها الواحد أو النفر القليل، فإذا لم يجدوا من يغير عليهم تزايدوا فيها ففشت واتبع فيها الدهماء بعضهم بعضا حتى تعم وينسى كونها مناكر فلا يهتدي الناس إلى الإقلاع عنها والتوبة منها فتصيبهم لعنة الله.وقد روى الترمذي وأبو داوود من طرق عن عبد الله بن مسعود بألفاظ متقاربة قال:قال رسول الله:صلى الله عليه وسلم: "كان الرجل من بني إسرائيل يلقى الرجل إذا رآه على الذنب فيقول:"يا هذا اتق الله ودع ما تصنع"، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وخليطه وشريكه، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم، ثم قرأ :{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ ـإلى قوله ـ فَاسِقُونَ} [المائدة:78ـ81] ثم قال: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض أو ليلعنكم كما لعنهم".
وأطلق التناهي بصيغة المفاعلة على نهي بعضهم بعضا باعتبار مجموع الأمة وأن ناهي فاعل المنكر منهم هو بصدد أن ينهاه المنهي عندما يرتكب هو منكرا فيحصل بذلك التناهي، فالمفاعلة مقدرة وليست حقيقية، والقرينة عموم الضمير في قوله:{فعلوه}، فإن المنكر إنما يفعله بعضهم ويسكت عليه البعض الآخر؛ وربما فعل ا لبعض الآخر منكرا آخر وسكت عليه البعض الذي كان فعل منكرا قبله وهكذا، فهم يصانعون أنفسهم.
والمراد بِـ{مَا يَفْعَلُونَ}تركهم التناهي.
وأطلق على ترك التناهي لفظ الفعل في قوله: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} مع أنه ترك، لأن السكوت على المنكر لا يخلو من إظهار الرضا به والمشاركة فيه.
وفي هذا دليل للقائلين من أئمة الكلام من الأشاعرة بأنه لا تكليف إلا بفعل، وأن المكلف به في النهي فعل، وهو الانتهاء، أي الكف، والكف فعل، وقد سمى الله الترك هنا فعلا.وقد أكد فعل الذم بإدخال لام القسم عليه للإقصاء في ذمه.
[80ـ81] {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ[80]وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ[81]}
استئناف ابتدائي ذكر به حال طائفة من اليهود كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وأظهروا
الإسلام وهم معظم المنافقين وقد دل على ذلك قوله: {يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}، لأنه لا يستغرب إلا لكونه صادرا ممن أظهروا الإسلام فهذا انتقال لشناعة المنافقين.والرؤية في قوله: {ترى} بصرية، والخطاب للرسول.والمراد بـ {كَثِيرٌ مِنْهُمْ} كثير من يهود المدينة، بقرينة قوله{ترى}، وذلك أن كثيرا من ا ليهود بالمدينة أظهروا الإسلام نفاقا، نظرا لإسلام جميع أهل المدينة من الأوس والخزرج فاستنكر اليهود أنفسهم فيها، فتظاهروا بالإسلام ليكونوا عينا ليهود خيبر وقريظة والنضير.ومعنى {يتولون} يتخذونهم أولياء.والمراد بالذين كفروا مشركو مكة ومن حول المدينة من الأعراب الذين بقوا على الشرك.ومن هؤلاء اليهود كعب بن الأشرف رئيس اليهود فإنه كان مواليا لأهل مكة وكان يغريهم بغزو المدينة.وقد تقدم أنهم المراد في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50]
وقوله: {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} "أن"فيه مصدرية دخلت على الفعل الماضي وهو جائز، كما في الكشاف كقوله تعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ} [الاسراء:74]، والمصدر المأخوذ هو المخصوص بالذم.والتقدير:لبئس ما قدمت بهم أنفسهم سخط الله عليهم، فسخط الله مذموم.وقد أفاد هذا المخصوص أن الله قد غضب عليهم غضبا خاصا لموالاتهم الذين كفروا، وذلك غير مصرح به في الكلام فهذا من إيجاز الحذف.ولك أن تجعل المراد بسخط الله هو اللعنة التي في قوله: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:78].وكون ذلك مما قدمت لهم أنفسهم معلوم من الكلام السابق.
وقوله: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ} إلخ الواو للحال من قوله: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} باعتبار كون المراد بهم المتظاهرين بالإسلام بقرينة ما تقدم، فالمعنى:ولو كانوا يؤمنون إيمانا صادقا ما اتخذوا المشركين أولياء.والمراد بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبما أنزل إليه القرآن، وذلك لأن النبي نهى المؤمنين عن موالاة المشركين، والقرآن نهى عن ذلك في غير ما آية.وقد تقدم في قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:28].وقد جعل موالاتهم للمشركين علامة على عدم إيمانهم بطريقة القياس الاستثنائي، لأن المشركين أعداء الرسول فموالاتهم لهم علامة على عدم الإيمان به.وقد تقدم ذلك في سورة آل عمران.
وقوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} هو استثناء القياس، أي ولكن كثيرا من بني
إسرائيل {فاسقون} فالضمير عائد إلى ما عاد إليه ضمير {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ} و {فَاسِقُونَ} كافرون، فلا عجب في موالاتهم المشركين لاتحادهم في مناواة الإسلام.فالمراد بالكثير في قوله: {وَلَكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} عين المراد من قوله: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} فقد أعيدت النكرة نكرة وهي عين الأولى إذ ليس يلزم إعادتها معرفة.ألا ترى قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6,5] وليس ضمير {منهم} عائدا إلى {كثيرا} إذ ليس المراد أن الكثير من الكثير فاسقون بل المراد كلهم.
[82ـ84] {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [82] وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [83]وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [84]}
فذلكة لما تقدم من ذكر ما لاقى به اليهود والنصارى دعوة الإسلام من الإعراض على تفاوت فيه بين الطائفتين؛ فإن الله شنع من أحوال اليهود ما يعرف منه عداوتهم للإسلام إذ قال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة:64]، فكررها مرتين وقال:{تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المائدة:80] وقال: {وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ} [المائدة:61] فعلم تلونهم في مضارة المسلمين وأذاهم.وذكر من أحوال النصارى ما شنع به عقيدتهم ولكنه لم يحك عنهم ما فيه عداوتهم المسلمين وقد نهى المسلمين عن اتخاذ الفريقين أولياء في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]الآية.فجاء قوله: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً} الآية فذلكة لحاصل ما تكنه ضمائر الفريقين نحو المسلمين، ولذلك فصلت ولم تعطف.واللام في {لتجدن} لام القسم يقصد منها التأكيد، وزادته نون التوكيد تأكيدا.والوجدان هنا وجدان قلبي، وهو من أفعال العلم، ولذلك يعدى إلى مفعولين، وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} في سورة البقرة[96].
وانتصب {عداوة} على تمييز نسبة {أشد} الى الناس ومثله انتصاب {مودة}.
وذكر المشركين مع اليهود لمناسبة اجتماع الفريقين على عداوة المسلمين، فقد ألف بين اليهود والمشركين بغض الإسلام؛ فاليهود للحسد على مجيء النبوة من غيرهم،
والمشركون للحسد على أن سبقهم المسلمون بالاهتداء إلى الدين الحق ونبذ الباطل.
وقوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً} أي أقرب الناس مودة للذين آمنوا، أي أقرب الناس من أهل الملل المخالفة للإسلام.وهذان طرفان في معاملة المسلمين.وبين الطرفين فرق متفاوتة في بغض المسلمين، مثل المجوس والصابئة وعبدة الأوثان والمعطلة.
والمراد بالنصارى هنا الباقون على دين النصرانية لا محالة، لقوله: {أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا}. فأما من آمن من النصارى فقد صار من المسلمين.
وقد تقدم الكلام على نظير قوله :{الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}في قوله تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة:14]، المقصود منه إقامة الحجة عليهم بأنهم التزموا أن يكونوا أنصارا لله {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف:14]، كما تقدم في تفسير نظيره.فالمقصود هنا تذكيرهم بمضمون هذا اللقب ليزدادوا من مودة المسلمين فيتبعوا دين الإسلام.
وقوله:{ذلك}الإشارة إلى الكلام المتقدم، وهو أنهم أقرب مودة للذين آمنوا.والباء في قوله: {بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ} باء السببية، وهي تفيد معنى لام التعليل.والضمير في قوله: {منهم} راجع إلى النصارى.
والقسيسون جمع سلامة لقسيس بوزن سجين.ويقال قس بفتح القاف وتشديد السين وهو عالم دين النصرانية.وقال قطرب:هي بلغة الروم.وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين.
والرهبان هنا جمع راهب، مثل ركبان جمع راكب، وفرسان جمع فارس، وهو غير مقيس في وصف على فاعل.والراهب من النصارى المنقطع في دير أو صومعة للعبادة.وقال الراغب:الرهبان يكون واحدا وجمعا، فمن جعله واحدا جمعه على رهابين ورهابنة.وهذا مروي عن الفراء.ولم يحك الزمخشري في الأساس أن رهبان يكون مفردا.وأطلاقه على الواحد في بيت أنشده ابن الأعرابي
لو أبصرت رهبان دير بالجبل ... لانحدر الرهبان يسعى ويزل
وإنما كان وجود القسيسين والرهبان بينهم سببا في اقتراب مودتهم من المؤمنين لما هو معروف بين العرب من حسن أخلاق القسيسين والرهبان وتواضعهم وتسامحهم.وكانوا منتشرين في جهات كثيرة من بلاد العرب يعمرون الأديرة والصوامع والبيع، وأكثرهم من
عرب الشام الذين بلغتهم دعوة النصرانية على طريق الروم، فقد عرفهم العرب بالزهد ومسالمة الناس وكثر ذلك في كلام شعرائهم.قال النابغة:
لو أنها برزت لأشمط راهب ... عبد الاله صرورة متعبد
لرنا لطلعتها وحسن حديثها ... ولخاله رشدا وإن لم يرشد
فوجود هؤلاء فيهم وكونهم رؤساء دينهم مما يكون سببا في صلاح أخلاق أهل ملتهم.والاستكبار السين والتاء فيه للمبالغة.وهو يطلق على التكبر والتعاظم، ويطلق على المكابرة وكراهية الحق، وهما متلازمان.فالمراد من قوله: {لا يَسْتَكْبِرُونَ} أنهم متواضعون منصفون.وضمير {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير{بِأَنَّ مِنْهُمْ}، أي وأن الذين قالوا إنا نصارى لا يستكبرون، فيكون قد أثبت التواضع لجميع أهل ملة النصرانية في ذلك العصر.وقد كان نصارى العرب متحلين بمكارم من الأخلاق.قال النابغة يمدح آل النعمان الغساني وكانوا متنصرين:
مجلتهم ذات الإله ودينهم ... قويم فما يرجون غير العواقب
ولا يحسبون الخير لا شر بعده ... ولا يحسبون الشر ضربة لازب
وظاهر قوله: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} أن هذا الخلق وصف للنصارى كلهم من حيث إنهم نصارى فيتعين أن يحمل الموصول على العموم العرفي، وهم نصارى العرب، فإن اتباعهم النصرانية على ضعفهم فيها ضم إلى مكارم أخلاقهم العربية مكارم أخلاق دينية، كما كان عليه زهير ولبيد وورقة بن نوفل وأضرابهم.
وضمير {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} عائد إلى {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} لأنه أقرب في الذكر، وهذا تشعر به إعادة قوله: {وأنهم} ، ليكون إيماء إلى تغيير الأسلوب في معاد الضمير، وتكون ضمائر الجمع من قوله: {وَإِذَا سَمِعُوا} إلى قوله ـ {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ} [المائدة:83ـ85] تابعة لضمير {وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.
وقرينة صرف الضمائر المتشابهة إلى معادين هي سياق الكلام.ومثله وارد في الضمائر كقوله تعالى: {وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا} [الروم:9].فضمير الرفع في{عمروها} الأول عائد إلى غير ضمير الرفع في "عمروها" الثاني.وكقول عباس بن مرداس:
عدنا ولولا نحن أحدق جمعهم ... بالمسلمين وأحرزوا ما جمعوا
يريد بضمير"أحرزوا"جماعة المشركين، وبضمير"جمعوا"جماعة المسلمين.
ويعضد هذا ما ذكره الطبري والواحدي وكثير من المفسرين عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما:أن المعني في هذه الآية ثمانية من نصارى الشام كانوا في بلاد الحبشة وأتوا المدينة مع اثنين وستين راهبا من الحبشة مصاحبين للمسلمين الذين رجعوا من هجرتهم بالحبشة وسمعوا القرآن وأسلموا.وهم بحيرا الراهب، وإدريس، وأشرف، وأبرهة، وثمامة، وقثم، ودريد، وأيمن، أي ممن يحسنون العربية ليتمكنوا من فهم القرآن عند سماعه.وهذا الوفد ورد إلى المدينة مع الذين عادوا من مهاجرة الحبشة، سنة سبع فكانت الإشارة اليهم في هذه الآية تذكيرا بفضلهم.وهي من آخر ما نزل ولم يعرف قوم معينون من النصارى أسلموا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم.ولعل الله أعلم رسوله بفريق من النصارى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في قلوبهم ولم يتمكنوا من لقائه ولا من إظهار إيمانهم ولم يبلغهم من الشريعة إلا شيء قليل تمسكوا به ولم يعلموا اشتراط إظهار الإيمان المسمى بالإسلام، وهؤلاء يشبه حالهم حال من لم تبلغه الدعوة، لأن بلوغ الدعوة متفاوت المراتب.ولعل هؤلاء كان منهم من هو بأرض الحبشة أو باليمن.ولا شك أن النجاشي"أصحمة"منهم.وقد كان بهذه الحالة أخبر عنه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.والمقصود أن الأمة التي فيها أمثال هؤلاء تكون قريبة من مودة المسلمين.
والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم كما هو غالب عليه في إطلاقه في القرآن.وما أنزل إليه هو القرآن.والخطاب في قوله: {تَرَى أَعْيُنَهُمْ} للنبي صلى الله عليه وسلم.إن كان قد رأى منهم من هذه صفته، أو هو خطاب لكل من يصح أن يرى.فهو خطاب لغير معين ليعم كل من يخاطب.
وقوله: {تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} معناه يفيض منها الدمع لأن حقيقة الفيض أن يسند إلى المائع المتجاوز حاوية فيسيل خارجا عنه.يقال: فاض الماء، إذا تجاوز ظرفه.وفاض الدمع إذا تجاوز ما يغرورق بالعين.وقد يسند الفيض إلى الظرف على طريقة المجاز العقلي، فيقال:فاض الوادي، أي فاض ماؤه، كما يقال:جرى الوادي، أي جرى ماؤه.وفي الحديث : "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". وقد يقرنون هذا الإسناد بتمييز يكون قرينة للإسناد المجازي فيقولون:فاضت عينه دمعا، بتحويل الإسناد المسمى تمييز النسبة، أي قرينة النسبة المجازية.فأما ما في هذه الآية فإجراؤه على قول نحاة البصرة يمنع أن يكون"من"الداخلة على الدمع هي البيانية التي يجر بها اسم التمييز، لأن ذلك عندهم
ممتنع في تمييز النسبة، فتكون الآية منسوجة على منوال القلب للمبالغة، قلب قول الناس المتعارف:فاض الدمع من عين فلان، فقيل: {أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}، فحرف"من"حرف ابتداء.وإذا أجري على قول نحاة الكوفة كانت"من"بيانية جارة لاسم التمييز.وتعريف الدمع تعريف الجنس، مثل:طبت النفس.
و"من"في قوله: {مِمَّا عَرَفُوا} تعليلية، أي سبب فيضها ما عرفوا عند سماع القرآن من أنه الحق الموعود به.فـ"من"قائمة مقام المفعول لأجله كما في قوله :{تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً} [التوبة:92]، أي ففاضت أعينهم من انفعال البهجة بأن حضروا مشهد تصديق عيسى فيما بشر به، وأن حضروا الرسول الموعود به ففازوا بالفضيلتين.و"من"في قوله: {مِنَ الْحَقِّ} بيانية.أي مما عرفوا، وهو الحق الخاص.أو تبعيضية، أي مما عرفوه وهو النبي الموعود به الذي خبره من جملة الحق الذي جاء به عيسى والنبيون من قبله.
وجملة {يقولون} حال، أي تفيض أعينهم في حال قولهم هذا.وهذا القول يجوز أن يكون علنا، ويجوز أن يكون في خويصتهم.
والمراد بالشاهدين الذين شهدوا بعثة الرسل وصدقوهم.وهذه فضيلة عظيمة لم تحصل إلا في أزمان ابتداء دعوة الرسل ولا تحصل بعد هذه المرة.وتلك الفضيلة أنها المبادرة بتصديق الرسل عند بعثتهم حين يكذبهم الناس بادئ الأمر، كما قال ورقة: "يا ليتني أكون جذعا إذ يخرجك قومك". أي تكذيبا منهم.أو أرادوا فاكتبنا مع الشاهدين الذين أنبأهم عيسى عليه السلام ببعثة الرسول الذي يجيء بعده، فيكونوا شهادة على مجيئه وشهادة بصدق عيسى.ففي إنجيل متى عدد 24 من قول عيسى: "ويقوم أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين ولكن الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص ويفوز ببشارة الملكوت هذه شهادة لجميع الأمم".وفي إنجيل يوحنا عدد 15 من قول عيسى:"ومتى جاء المعزى روح الحق الذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضا لأنكم معي من الابتداء".وإن لكلمة {الحق} وكلمة {الشاهدين} في هذه الآية موقعا لا تغني فيه غيرهما لأنهما تشيران إلى ما في بشارة عيسى عليه السلام.
وقوله: {وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ}، هو من قولهم، فيحتمل أنهم يقولونه في أنفسهم عندما يخامرهم التردد في أمر النزوع عن دينهم القديم إلى الدخول في الإسلام.وذلك التردد يعرض للمعتقد عند الهم بالرجوع عن اعتقاده وهو المسمى بالنظر؛
ويحتمل أنهم يقولونه لمن يعارضهم من أهل ملتهم أو من إخوانهم ويشككهم فيما عزموا عليه، ويحتمل أنهم يقولونه لمن يعيرهم من اليهود أو غيرهم بأنهم لم يتصلبوا في دينهم.فقد قيل:إن اليهود عيروا النفر الذين أسلموا، إذا صح خبر إسلامهم.وتقدم القول في تركيب"ما لنا لا نفعل"عند قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في سورة النساء[75].
وجملة {ونطمع} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {مَا لَنَا لا نُؤْمِنُ}. ويحتمل أن تكون الواو للحال، أي كيف نترك الإيمان بالحق وقد كنا من قبل طامعين أن يجعلنا ربنا مع القوم الصالحين مثل الحواريين، فكيف نفلت ما عن لنا من وسائل الحصول على هذه المنقبة الجليلة.ولا يصح جعلها معطوفة على جملة {نؤمن} لئلا تكون معمولة للنفي، إذ ليس المعنى على ما لنا لا نطمع، لأن الطمع في الخير لا يتردد فيه ولا يلام عليه حتى يحتاج صاحبه إلى الاحتجاج لنفسه بـ {ما لنا لا نفعل}.
[85] {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}.[ 85]}
تفريع على قوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا…} [المائدة:83] إلى آخر الآية.ومعنى"أثابهم"أعطاهم الثواب.وقد تقدم القول فيه عند تفسير قوله تعالى :{لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ} في سورة البقرة[103].
والباء في قوله: {بِمَا قَالُوا} للسببية.والمراد بالقول القول الصادق وهو المطابق للواقع، فهو القول المطابق لاعتقاد القلب، وما قالوه هو ما حكي بقوله تعالى :{يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83] الآية.وأثاب يتعدى إلى مفعولين على طريقة باب أعطى،فـ {جنات} مفعوله الثاني، وهو المعطى لهم.والإشارة في قوله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} إلى الثواب المأخوذ من {أثابهم} ولك أن تجعل الإشارة إلى المذكور وهو الجنات وما بها من الأنهار وخلودهم فيها.وقد تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى في سورة البقرة[68] {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}.
[86] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}.
هذا تتميم واحتراس، أي والذين كفروا من النصارى وكذبوا بالقرآن هم بضد الذين أثابهم الله جنات تجري من تحتها الأنهار.
وأصحاب الجحيم ملازموه.والجحيم جهنم.وأصل الجحيم النار العظيمة تجعل في حفرة ليدوم لهيبها.يقال:نار جحمة، أي شديدة اللهب.
قال بعض الطائيين من الجاهلية من شعراء الحماسة:
نحن حبسنا بني جديلة في ... نار من الحرب جحمة الضرم
[87ـ88] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ}.
استئناف ابتدائي خطاب للمؤمنين بأحكام تشريعية، وتكملة على صورة التفريع جاءت لمناسبة ما تقدم من الثناء على القسيسين والرهبان.وإذ قد كان من سنتهم المبالغة في الزهد وأحدثوا رهبانية من الانقطاع عن التزوج وعن أكل اللحوم وكثير من الطيبات كالتدهن وترفيه الحالة وحسن اللباس، نبه الله المؤمنين على أن الثناء على الرهبان والقسيسين بما لهم من الفضائل لا يقتضي اطراد الثناء على جميع أحوالهم الرهبانية.وصادف أن كان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طمحت نفوسهم إلى التقلل من التعلق بلذائذ العيش اقتداء بصاحبهم سيد الزاهدين صلى الله عليه وسلم.روى الطبري والواحدي أن نفرا تنافسوا في الزهد.فقال أحدهم: "أما أنا فأقوم الليل لا أنام"، وقال الآخر:"أما أنا فأصوم النهار"، وقال الآخر:"أما أنا فلا آتي النساء"، فبلغ خبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إليهم، فقال : "ألم أنبأ أنكم قلتم كذا.قالوا:بلى يا رسول الله، وما أردنا إلا الخير، قال:لكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" فنزلت هذه الآية.ومعنى هذا في صحيحي البخاري ومسلم عن أنس بن مالك وليس فيه أن ذلك سبب نزول هذه الآية.
وروي أن ناسا منهم، وهم:أبو بكر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وأبو ذر، وسالم مولى أبي حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مقرن اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون واتفقوا على أن يرفضوا أشغال الدنيا، ويتركوا النساء ويترهبوا.فقام رسول الله فغلظ فيهم المقالة، ثم قال: "إنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع". فنزلت فيهم هذه الآية..وهذا الخبر يقتضي أن هذا الاجتماع كان في أول مدة الهجرة لأن عثمان بن مظعون لم يكن له دار بالمدينة وأسكنه النبي صلى الله عليه وسلم في دار أم العلاء
الأنصارية التي قيل:إنها زوجة زيد بن ثابت، وتوفي عثمان بن مظعون سنة اثنتين من الهجرة.وفي رواية:أن ناسا قالوا إن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم على أنفسنا بعض الطيبات فحرم بعضهم على نفسه أكل اللحم، وبعضهم النوم، وبعضهم النساء؛ وأنهم ألزموا أنفسهم بذلك بأيمان حلفوها على ترك ما التزموا تركه.فنزلت هذه الآية.
وهذه الأخبار متظافرة على وقوع انصراف بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المبالغة في الزهد واردة في الصحيح، مثل حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال لي رسول الله: "ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار، قلت:"إني أفعل ذلك.قال:"فإنك إذا فعلت هجمت عينك ونفهت نفسك.وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا، فصم وأفطر وقم ونم". وحديث سلمان مع أبي الدرداء أن سلمان زار أبا الدرداء فصنع أبو الدرداء طعاما فقال لسلمان: "كل فإني صائم"، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال:"نم"، فنام، ثم ذهب يقوم فقال:نم، فنام.فلما كان آخر الليل قال سلمان:قم الآن، وقال سلمان:"إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه".فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له.فقال النبي عليه الصلاة والسلام:"صدق سلمان" وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "أما أنا فأقوم وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني".
والنهي إنما هو تحريم ذلك على النفس.أما ترك تناول بعض ذلك في بعض الأوقات من غير التزام ولقصد التربية للنفس على التصبر على الحرمان عند عدم الوجدان، فلا بأس به بمقدار الحاجة إليه في رياضة النفس.وكذلك الإعراض عن كثير من الطيبات للتطلع على ما هو أعلى من عبادة أو شغل بعمل نافع وهو أعلى الزهد، وقد كان ذلك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاصة من أصحابه، وهي حالة تناسي مرتبته ولا تتناسب مع بعض مراتب الناس، فالتطلع إليها تعسير، وهو مع ذلك كان يتناول الطيبات دون تشوف ولا تطلع.وفي تناولها شكر لله تعالى، كما ورد في قصة أبي الدحداح حين حل رسول الله وأبو بكر وعمر في حائطه وأطعمهم وسقاهم.وعن الحسن البصري: أنه دعي إلى طعامه ومعه فرقد السبخي1 وأصحابه فجلسوا على مائدة فيها ألوان من الطعام دجاج مسمن
ـــــــ
1 فرقد بن يعقوب الأرميني من أصحاب الحسن توفي سنة131نزيل سبخة.
وفالوذ فاعتزل فرقد ناحية.فسأله الحسن:"أصائم أنت"، قال:"لا ولكني أكره الألوان لأني لا أؤدي شكره"، فقال له:الحسن:"أفتشرب الماء البارد"؟، قال:"نعم"، قال:"إن نعمة الله في الماء البارد أكثر من نعمته في الفالوذ".
وليس المراد من النهي أن يلفظ بلفظ التحريم خاصة بل أن يتركه تشديدا على نفسه سواء لفظ بالتحريم أم لم يلفظ به.
ومن أجل هذا النهي اعتبر هذا التحريم لغوا في الإسلام فليس يلزم صاحبه في جميع الأشياء التي لم يجعل الإسلام للتحريم سبيلا إليها وهي كل حال عدا تحريم الزوجة.ولذلك قال مالك فيمن حرم على نفسه شيئا من الحلال أو عمم فقال:"الحلال علي حرام"، أنه لا شيء في شيء من الحلال إلا الزوجة فإنها تحرم عليه كالبتات ما لم ينو إخراج الزوجة قبل النطق بصيغة التحريم أو يخرجها بلفظ الاستثناء بعد النطق بصيغة التحريم، على حكم الاستثناء في اليمين.ووجهه أن عقد العصمة يتطرق إليه التحريم شرعا في بعض الأحوال، فكان التزام التحريم لازما فيها خاصة، فإنه لو حرم الزوجة وحدها حرمت، فكذلك إذا شملها لفظ عام.ووافقه الشافعي.وقال أبو حنيفة:"من حرم على نفسه شيئا من الحلال عليه تناوله ما لم يكفر كفارة يمين، فإن كفر حل له إلا الزوجة".وذهب مسروق وأبو سلمة إلى عدم لزوم التحريم في الزوجة وغيرها.
وفي قوله تعالى:{لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} تنبيه لفقهاء الأمة على الاحتراز في القول بتحريم شيء لم يقم الدليل على تحريمه،أو كان دليله غير بالغ قوة دليل النهي الوارد في هذه الآية.
ثم أن أهل الجاهلية كانوا قد حرموا أشياء على أنفسهم كما تضمنته سورة الأنعام، وقد أبطلها الله بقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [لأعراف:32]، وقوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ} [الأنعام:140]، وقوله: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ ـإلى قوله ـ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:143ـ144]،وغير ذلك من الآيات.وقد كان كثير من العرب قد دخلوا في الإسلام بعد فتح مكة دفعة واحدة كما وصفهم الله بقوله: {يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً} [النصر:2]وكان قصر الزمان واتساع المكان حائلين دون رسوخ شرائع الإسلام فيما بينهم، فكانوا في حاجة إلى الانتهاء عن أمور كثيرة فاشية فيهم في مدة نزول هذه السورة، وهي أيام حجة الوداع وما تقدمها وما
تأخر عنها.
وجملة {وَلا تَعْتَدُوا} معترضة، لمناسبة أن تحريم الطيبات اعتداء على ما شرع الله، فالواو اعتراضية.وبما في هذا النهي من العموم كانت الجملة تذييلا.
والاعتداء افتعال العدو، أي الظلم.وذكره في مقابلة تحريم الطيبات يدل على أن المراد النهي عن تجاوز حد الإذن المشروع، كما قال: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَ} [البقرة:229].فلما نهي عن تحريم الحلال أردفه بالنهي عن استحلال المحرمات وذلك بالاعتداء على حقوق الناس، وهو أشد الاعتداء، أو على حقوق الله تعالى في أمره ونهيه دون حق الناس، كتناول الخنزير أو الميتة.ويعم الاعتداء في سياق النهي جميع جنسه مما كانت عليه الجاهلية من العدوان، وأعظمه الاعتداء على الضعفاء كالوأد، وأكل مال اليتيم، وعضل الأيامى، وغير ذلك.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} تذييل للتي قبلها للتحذير من كل اعتداء.
وقوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} تأكيد للنهي عن تحريم الطيبات وهو معطوف على قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}. أي أن الله وسع عليكم بالحلال فلا تعتدوه إلى الحرام فتكفروا النعمة ولا تتركوه بالتحريم فتعرضوا عن النعمة.
واقتصر على الأكل لأن معظم ما حرمه الناس على أنفسهم هو المآكل.وكأن الله يعرض بهم بأن الاعتناء بالمهمات خير من التهمم بالأكل، كما قال: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة:93]الآية.وبذلك أبطل ما في الشرائع السابقة من شدة العناية بأحكام المأكولات.وفي ذلك تنبيه لهذه الأمة.
وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} جاء بالموصول للإيماء إلى علة الأمر بالتقوى، أي لأن شأن الإيمان أن يقتضي التقوى، فلما آمنتم بالله واهتديتم إلى الإيمان فكملوه بالتقوى.روي أن الحسن البصري لقي الفرزدق في جنازة، وكانا عند القبر، فقال الحسن للفرزدق:"ما أعددت لهذا.يعني القبر."شهادة أن لا إله إلا الله كذا سنة".فقال الحسن: "هذا العمود، فأين الإطناب".
[89] {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ
فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.
استئناف ابتدائي نشأ بمناسبة قوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87]لأن التحريم يقع في غالب الأحوال بأيمان معزومة، أو بأيمان تجري على اللسان لقصد تأكيد الكلام، كأن يقول:والله لا آكل كذا، أو تجري بسبب غضب.وقيل:إنها نزلت مع الآية السابقة فلا حاجة لإبداء المناسبة لذكر هذا بعد ما قبله.روى الطبري والواحدي عن ابن عباس أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [ المائدة:87]ونهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عما عزموا عليه من ذلك، كما تقدم آنفا، قالوا: "يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفناها عليها" ، فأنزل الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية.فشرع الله الكفارة.وتقدم القول في نظير صدر هذه الآية في سورة البقرة.وتقدم الاختلاف في معنى لغو اليمين.وليس في شيء من ذلك ما في سبب نزول آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87]، ولا في جعل مثل ما عزم عليه الذين نزلت تلك الآية في شأنهم من لغو اليمين.فتأويل ما رواه الطبري والواحدي في سبب نزول هذه الآية أن حادثة أولئك الذين حرموا على أنفسهم بعض الطيبات ألحقت بحكم لغو اليمين في الرخصة لهم في التحلل من أيمانهم.
وقوله :{بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ}، أي ما قصدتم به الحلف.وهو يبين مجمل قوله في سورة البقرة[225] {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}.
وقرأ الجمهور {عَقَّدْتُمُ} بتشديد القاف.وقرأه حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بتخفيف القاف.وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر عاقدتم بألف بعد العين من باب المفاعلة.فأما {عقدتم} بالتشديد فيفيد المبالغة في فعل عقد، وكذلك قراءة {عاقدتم} لأن المفاعلة فيه ليست على بابها، فالمقصود منها المبالغة، مثل عافاه الله.وأما قراءة التخفيف فلأن مادة العقد كافية في إفادة التثبيت.والمقصود أن المؤاخذة تكون على نية التوثق باليمين فالتعبير عن التوثق بثلاثة أفعال في كلام العرب:عقد المخفف، وعقد المشدد، وعاقد.
وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} إشارة إلى المذكور، زيادة في الإيضاح.والكفارة مبالغة في كفر بمعنى ستر وأزال.وأصل الكفر بفتح الكاف الستر.وقد جاءت فيها دلالتان على المبالغة هما التضعيف والتاء الزائدة، كتاء نسابة وعلامة.والعرب يجمعون
بينهما غالبا.
وقوله: {إِذَا حَلَفْتُمْ} أي إذا حلفتم وأردتم التحلل مما حلفتم عليه فدلالة هذا من دلالة الاقتضاء لظهور أن ليست الكفارة على صدور الحلف بل على عدم العمل بالحلف لأن معنى الكفارة يقتضي حصول إثم، وذلك هو إثم الحنث.
وعن الشافعي أنه استدل بقوله: {كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} على جواز تقديم الكفارة على وقوع الحنث، فيحتمل أنه أخذ بظاهر إضافة {كفارة} إلى {أيمانكم}، ويحتمل أنه أراد أن الحلف هو سبب السبب فإذا عزم الحالف على عدم العمل بيمينه بعد أن حلف جاز له أن يكفر قبل الحنث لأنه من تقديم العوض، ولا بأس به.ولا أحسب أنه يعني غير ذلك.وليس مراده أن مجرد الحلف هو موجب الكفارة.وإذ قد كان في الكلام دلالة اقتضاء لا محالة فلا وجه للاستدلال بلفظ الآية على صحة تقديم الكفارة.وأصل هذا ا لحكم قول مالك بجواز التكفير قبل الحنث إذا عزم على الحنث.ولم يستدل بالآية.فاستدل بها الشافعي تأييدا للسنة.والتكفير بعد الحنث أولى.
وعقب الترخيص الذي رخصه الله للناس في عدم المؤاخذة بأيمان اللغو فقال :{وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}. فأمر بتوخي البر إذا لم يكن فيه حرج ولا ضر بالغير، لأن في البر تعظيم اسم الله تعالى.فقد ذكرنا في سورة البقرة أنهم جرى معتادهم بأن يقسموا إذا أرادوا تحقيق الخبر، أو إلجاء أنفسهم إلى عمل يعزمون عليه لئلا يندموا عن عزمهم، فكان في قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} زجر لهم عن تلك العادة السخيفة.وهذا الأمر يستلزم الأمر بالإقلال من الحلف لئلا يعرض الحالف نفسه للحنث.والكفارة ما هي إلا خروج من الإثم.وقد قال تعالى لأيوب عليه السلام: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [صّ:44].فنزهه عن الحنث بفتوى خصه بها.
وجملة {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}.
تذييل.ومعنى {كذلك} كهذا البيان يبين الله، فتلك عادة شرعه أن يكون بينا.وقد تقدم القول في نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة:[143].
وتقدم القول في معنى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} في سورة البقرة.[21]
[91,90] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ}.
استئناف خطاب للمؤمنين تقفية على الخطاب الذي قبله لينظم مضمونه في السلك الذي انتظم فيه مضمون الخطاب السابق، وهو قوله: {وَلا تَعْتَدُوا} [المائدة:87] المشير إلى أن الله، كما نهى عن تحريم المباح، نهى عن استحلال الحرام وأن الله لما أحل الطيبات حرم الخبائث المفضية إلى مفاسد، فإن الخمر كان طيبا عند الناس، وقد قال الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل:67].والميسر كان وسيلة لإطعام اللحم من لا يقدرون عليه.فكانت هذه الآية كالاحتراس عما قد يساء تأويله من قوله: {ا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:87].
وقد تقدم في سورة البقرة أن المعول عليه من أقوال علمائنا أن النهي عن الخمر وقع مدرجا ثلاث مرات: الأولى حين نزلت آية {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، وذلك يتضمن نهيا غير جازم، فترك شرب الخمر ناس كانوا أشد تقوى.فقال عمر:"اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا".ثم نزلت آية سورة النساء[43] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}، فتجنب المسلمون شربها في الأوقات التي يظن بقاء السكر منها إلى وقت الصلاة؛ فقال عمر: "اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا".ثم نزلت الآية هذه.فقال عمر:"انتهينا".
والمشهور أن الخمر حرمت سنة ثلاث من الهجرة بعد وقعة أحد، فتكون هذه الآية نزلت قبل سورة العقود ووضعت بعد ذلك في موضعها هنا.وروي أن هذه الآية نزلت بسبب ملاحاة جرت بين سعد بن أبي وقاص ورجل من الأنصار.روى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: "أتيت على نفر من الأنصار، فقالوا:"تعال نطعمك ونسقك خمرا وذلك قبل أن تحرم الخمر فأتيتهم في حش، وإذا رأس جزور مشوي وزق من خمر، فأكلت وشربت معهم، فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم، فقلت:"المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجل من الأنصار لحي جمل فضربني به فجرح بأنفي فأتيت رسول الله فأخبرته"، فأنزل الله تعالى فيّ {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}. وروى أبو داود عن ابن عباس قال :"{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] و {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة:219]نسختهما في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ}.
فلا جرم كان هذا التحريم بمحل العناية من الشارع متقدما للأمة في إيضاح أسبابه رفقا بهم واستئناسا لأنفسهم، فابتدأهم بآية سورة البقرة، ولم يسفههم فيما كانوا يتعاطون من ذلك، بل أنبأهم بعذرهم في قوله : {ِقُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة:219]، ثم بآية سورة النساء، ثم كر عليها بالتحريم بآية سورة المائدة فحصر أمرهما في أنهما رجس من عمل الشيطان ورجا لهم الفلاح في اجتنابهما بقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، وأثار ما في الطباع من بغض الشيطان بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ}. ثم قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} ، فجاء بالاستفهام لتمثيل حال المخاطبين بحال من بين له المتكلم حقيقة شيء ثم اختبر مقدار تأثير ذلك البيان في نفسه.
وصيغة:هل أنت فاعل كذا.تستعمل للحث على فعل في مقام الاستبطاء، نبه عليه في الكشاف عند قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ} في سورة الشعراء[39]، قال:"ومنه قول تأبط شرا:
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أو عبد رب أخا عون بن مخراق
"دينار اسم رجل، وكذا عبد رب.وقوله:أخا عون أو عوف نداء، أي يا أخا عون".فتحريم الخمر متقرر قبل نزول هذه السورة، فإن وفد عبد القيس وفدوا قبل فتح مكة في سنة ثمان، فكان مما أوصاهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينتبذوا في الحنتم والنقير والمزفت والدباء، لأنها يسرع الاختمار إلى نبيذها.
والمراد بالأنصاب هنا عبادة الأنصاب.والمراد بالأزلام الاستقسام بها، لأن عطفها على الميسر يقتضي أنها أزلام غير الميسر.قال في الكشاف:"ذكر الأنصاب والأزلام مع الخمر والميسر مقصود منه تأكيد التحريم للخمر والميسر".وتقدم الكلام على الخمر والميسر في آية سورة البقرة، وتقدم الكلام على الأنصاب عند قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3]، والكلام على الأزلام عند قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} في أول هذه السورة[3].وأكد في هذه الآية تحريم ما ذبح على النصب وتحريم الاستقسام بالأزلام وهو التحريم الوارد في أول السورة والمقرر في الإسلام من أول البعثة.
والمراد بهذه الأشياء الأربعة هنا تعاطيها، كل بما يتعاطى به من شرب ولعب وذبح
واستقسام.والقصر المستفاد من {إنما} قصر موصوف على صفة، أي أن هذه الأربعة المذكورات مقصورة على الاتصاف بالرجس لا تتجاوزه إلى غيره، وهو ادعائي للمبالغة في عدم الاعتداد بما عدا صفة الرجس من صفات هذه الأربعة.ألا ترى أن الله قال في سورة البقرة[219] في الخمر والميسر {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}، فأثبت لهما الإثم، وهو صفة تساوي الرجس في نظر الشريعة، لأن الإثم يقتضي التباعد عن التلبس بهما مثل الرجس.وأثبت لهما المنفعة، وهي صفة تساوي نقيض الرجس، في نظر الشريعة، لأن المنفعة تستلزم حرص الناس على تعاطيهما، فصح أن للخمر والميسر صفتين.وقد قصر في آية المائدة على ما يساوي إحدى تينك الصفتين أعني الرجس، فما هو إلا قصر ادعائي يشير إلى ما في سورة البقرة[219] من قوله: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}، فإنه لما نبهنا إلى ترجيح ما فيهما من الإثم على ما فيهما من المنفعة فقد نبهنا إلى دحض ما فيهما من المنفعة قبالة ما فيهما من الإثم حتى كأنهما تمحضا للاتصاف بـ {فِيهِمَا إِثْمٌ} [البقرة:219]، فصح في سورة المائدة أن يقال في حقهما ما يفيد انحصارهما في أنهما فيهما إثم، أي انحصارهما في صفة الكون في هذه الظرفية كالانحصار الذي في قوله: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي} [الشعراء:113]، أي حسابهم مقصور على الاتصاف بكونه على ربي، أي انحصر حسابهم في معنى هذا الحرف.وذلك هو ما عبر عنه بعبارة الرجس.
والرجس الخبث المستقذر والمكروه من الأمور الظاهرة، ويطلق على المذمات الباطنة كما في قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة:125]،وقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [الأحزاب:33].والمراد به هنا الخبيث في النفوس واعتبار الشريعة.وهو اسم جنس فالإخبار به كالإخبار بالمصدر، فأفاد المبالغة في الاتصاف به حتى كأن هذا الموصوف عين الرجس.ولذلك أفرد"رجس"مع كونه خبرا عن متعدد لأنه كالخبر بالمصدر.
ومعنى كونها من عمل الشيطان أن تعاطيها بما تتعاطى لأجله من تسويله للناس تعاطيها، فكأنه هو الذي عملها وتعاطاها.وفي ذلك تنفير لمتعاطيها بأنه يعمل عمل الشيطان، فهو شيطان.وذلك مما تأباه النفوس.
والفاء في {فاجتنبوه} للتفريع وقد ظهر حسن موقع هذا التفريع بعد التقدم بما يوجب النفرة منها.والضمير المنصوب في قوله: {فاجتنبوه} عائد إلى الرجس الجامع للأربعة.و {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} رجاء لهم أن يفلحوا عند اجتناب هذه المنهيات إذا لم
يكونوا قد استمروا على غيرها من المنهيات.وتقدم القول في نظيره عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] وقد بينت ما اخترته في محمل"لعل"وهو المطرد في جميع مواقعها، وأما المحامل التي تأولوا بها"لعل"في آية سورة البقرة فبعضها لا يتأتى في هذه الآية فتأمله.
واجتناب المذكورات هو اجتناب التلبس بها فيما تقصد له من المفاسد بحسب اختلاف أحوالها؛ فاجتناب الخمر اجتناب شربها؛ والميسر اجتناب التقامر به، والأنصاب اجتناب الذبح عليها؛ والأزلام اجتناب الاستقسام بها واستشارتها.ولا يدخل تحت هذا الاجتناب اجتناب مسها أو إراءتها للناس للحاجة إلى ذلك من اعتبار ببعض أحوالها في الاستقطار ونحوه، أو لمعرفة صورها، أو حفظها كآثار من التاريخ؛ أو ترك الخمر في طور اختمارها لمن عصر العنب لاتخاذه خلا، على تفصيل في ذلك واختلاف في بعضه.
فأما اجتناب مماسة الخمر واعتبارها نجسة لمن تلطخ بها بعض جسده أو ثوبه فهو مما اختلف فيه أهل العلم؛ فمنهم من حملوا الرجس في الآية بالنسبة للخمر على معنييه المعنوي والذاتي، فاعتبروا الخمر نجس العين يجب غسلها كما يجب غسل النجاسة، حملا للفظ الرجس على جميع ما يحتمله.وهو قول مالك.ولم يقولوا بذلك في قداح الميسر ولا في حجارة الأنصاب ولا في الأزلام والتفرقة بين هذه الثلاث وبين الخمر لا وجه لها من النظر.وليس في الأثر ما يحتج به لنجاسة الخمر.ولعل كون الخمر مائعة هو الذي قرب شبهها بالأعيان النجسة، فلما وصفت بأنها رجس حمل في خصوصها على معنييه.وأما ما ورد في حديث أنس أن كثيرا من الصحابة غسلوا جرار الخمر لما نودي بتحريم شربها فذلك من المبالغة في التبرؤ منها وإزالة أثرها قبل التمكن من النظر فيما سوى ذلك، ألا ترى أن يعضهم كسر جرارها، ولم يقل أحد بوجوب كسر الإناء الذي فيه شيء نجس.على أنهم فعلوا ذلك ولم يؤمروا به من الرسول صلى الله عليه وسلم.وذهب بعض أهل العلم إلى عدم نجاسة عين الخمر.وهو قول ربيعة بن أبي عبد الرحمان، والليث بن سعد، والمزني من أصحاب الشافعي، وكثير من البغداديين من المالكية ومن القيروانيين؛ منهم سعيد بن الحداد القيرواني.وقد استدل سعيد بن الحداد1 على طهارتها بأنها سفكت في طرق المدينة، ولو كانت نجسا لنهوا عنه، إذ قد ورد النهي
ـــــــ
1 أخذ عن سحنون ولد سنة319 وتوفي سنة330.
عن إراقة النجاسة في الطرق.وذكر ابن الفرس عن ابن لبابة أنه أقام قولا بطهارة عين الخمر من المذهب.وأقول:الذي يقتضيه النظر أن الخمر ليست نجس العين، وأن مساق الآية بعيد عن قصد نجاسة عينها، إنما القصد أنها رجس معنوي، ولذلك وصفه بأنه من عمل الشيطان، وبينه بعد بقوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَة}، ولأن النجاسة تعتمد الخباثة والقذارة وليست الخمر كذلك، وإنما تنزه السلف عن مقاربتها لتقرير كراهيتها في النفوس.
وجملة {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} بيان لكونها من عمل الشيطان.ومعنى يريد يحب وقد تقدم بيان كون الإرادة بمعنى المحبة عند قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيل} في سورة النساء[44].
وتقدم الكلام على العداوة والبغضاء عند قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} في هذه السورة[64].
وقوله: {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} أي في تعاطيهما، على متعارف إضافة الاحكام إلى الذوات، أي بما يحدث في شرب الخمر من إثارة الخصومات والإقدام على الجرائم، وما يقع في الميسر من التحاسد على القامر، والغيظ والحسرة للخاسر، وما ينشأ عن ذلك من التشائم والسباب والضرب.على أن مجرد حدوث العداوة والبغضاء بين المسلمين مفسدة عظيمة، لأن الله أراد أن يكون المؤمنون إخوة إذ لا يستقيم أمر أمة بين أفرادها البغضاء.وفي الحديث لا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخوانا.
و"في"من قوله: {فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر} للسببية أو الظرفية المجازية، أي في مجالس تعاطيهما.
وأما الصد عن ذكر الله وعن الصلاة فلما في الخمر من غيبوبة العقل، وما في الميسر من استفراغ الوقت في المعاودة لتطلب الربح.
وهذه أربع علل كل واحدة منها تقتضي التحريم، فلا جرم أن كان اجتماعها مقتضيا تغليظ التحريم.ويلحق بالخمر كل ما اشتمل على صفتها من إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة.ويلحق بالميسر كل ما شاركه في إلقاء العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وذلك أنواع القمار كلها أما ما كان من اللهو بدون قمار كالشطرنج دون قمار، فذلك دون الميسر، لأنه يندر أن يصد عن ذكر الله وعن الصلاة،
ولأنه لا يوقع في العداوة والبغضاء غالبا، فتدخل أحكامه تحت أدلة أخرى.
والذكر المقصود في قوله: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} يحتمل أنه من الذكر اللساني فيكون المراد به القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فيه نفعهم وإرشادهم، لأنه يشتمل على بيان أحكام ما يحتاجون إليه فإذا انغمسوا في شرب الخمر وفي التقامر غابوا عن مجالس الرسول وسماع خطبه، وعن ملاقاة أصحابه الملازمين له فلم يسمعوا الذكر ولا يتلقوه من أفواه سامعيه فيجهلوا شيئا كثيرا فيه ما يجب على المكلف معرفته.فالسيء الذي يصد عن هذا هو مفسدة عظيمة يستحق أن يحرم تعاطيه، ويحتمل أن المراد به الذكر القلبي وهو تذكر ما أمر الله به ونهى عنه فإن ذكر ذلك هو ذكر الله كقول عمر بن الخطاب:أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه.فالشيء الذي يصد عن تذكر أمر الله ونهيه هو ذريعة للوقوع في مخالفة الأمر وفي اقتحام النهي.وليس المقصود بالذكر في هذه الآية ذكر الله باللسان لأنه ليس شيء منه بواجب عدا ما هو من أركان الصلاة فذلك مستغنى عنه بقوله: {وَعَنِ الصَّلاةِ}.
وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} الفاء تفريع عن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} الآية، فإن ما ظهر من مفاسد الخمر والميسر كاف في انتهاء الناس عنهما فلم يبق حاجة لإعادة نهيهم عنهما، ولكن يستغنى عن ذلك باستفهامهم عن مبلغ أثر هذا البيان في نفوسهم ترفيعا بهم إلى مقام الفطن الخبير، ولو كان بعد هذا البيان كله نهاهم عن تعاطيها لكان قد أنزلهم منزلة الغبي، ففي هذا الاستفهام من بديع لطف الخطاب ما بلغ به حد الإعجاز.
ولذلك اختير الاستفهام بـ"هل"التي أصل معناها"قد".وكثر وقوعها في حيز همزة الاستفهام، فاستغنوا بـ"هل"عن ذكر الهمزة، فهي لاستفهام مضمن تحقيق الإسناد المستفهم عنه وهو {أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ، دون الهمزة إذ لم يقل:أتنتهون، بخلاف مقام قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} [الفرقان:20].وجعلت الجملة بعد"هل"اسمية لدلالتها على ثبات الخبر زيادة في تحقيق حصول المستفهم عنه، فالاستفهام هنا مستعمل في حقيقته، وأريد معها معناه الكنائي، وهو التحذير من انتفاء وقوع المستفهم عنه.ولذلك روي أن عمر لما سمع الآية قال:"انتهينا انتهينا".ومن المعلوم للسامعين من أهل البلاغة أن الاستفهام في مثل هذا المقام ليس مجردا عن الكناية.فما حكي عن عمرو بن معد يكرب من قوله:"إلا أن الله تعالى قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} فقلنا:"لا"إن صح عنه ذلك.ولي في صحته شك، فهو خطأ في الفهم أو التأويل.وقد شذ نفر من السلف نقلت
عنهم أخبار من الاستمرار على شرب الخمر، لا يدرى مبلغها من الصحة.ومحملها، إن صحت، على أنهم كانوا يتأولون قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} على أنه نهي غير جازم.ولم يطل ذلك بينهم.
قيل:إن قدامة بن مظعون، ممن شهد بدرا، ولاه عمر على البحرين، فشهد عليه أبو هريرة والجارود بأنه شرب الخمر، وأنكر الجارود، وتمت الشهادة عليه برجل وامرأة.فلما أراد عمر إقامة الحد عليه قال قدامة: "لو شربتها كما يقولون ما كان لك أن تجلدني".قال عمر:"لم"؟، قال:"لأن الله يقول : {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [المائدة:93]، فقال له عمر: "أخطأت التأويل إنك إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم عليك". ويروى أن وحشيا كان يشرب الخمر بعد إسلامه، وأن جماعة من المسلمين من أهل الشام شربوا الخمر في زمن عمر، وتأولوا التحريم فتلوا قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} ، وأن عمر استشار عليا في شأنهم، فاتفقا على أن يستتابوا وإلا قتلوا.وفي صحة هذا نظر أيضا.وفي كتب الأخبار أن عيينة بن حصن نزل على عمرو بن معد يكرب في محلة بني زبيد بالكوفة فقدم له عمرو خمرا، فقال عيينة:"أو ليس قد حرمها الله".قال عمرو:"أنت أكبر سنا أم أنا؟"، قال عيينة:"أنت".قال:"أنت أقدم إسلاما أم أنا؟"، قال:"أنت".قال:"فإني قد قرأت ما بين الدفتين، فوالله ما وجدت لها تحريما إلا أن الله قال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون} ، فقلنا:"لا".فبات عنده وشربا وتنادما، فلما أراد عيينة الانصراف قال عيينة بن حصن:
جزيت أبا ثور جزاء كرامة ... فنعم الفتى المزدار والمتضيف
قريت فأكرمت القرى وأفدتنا ... تحية علم1 لم تكن قبل تعرف
وقلت:حلال أن ندير مدامة ... كلون انعقاق البرق والليل مسدف
وقدمت فيها حجة عربية ... ترد إلى الإنصاف من ليس ينصف
وأنت لنا والله ذي العرش قدوة ... إذا صدنا عن شربها المتكلف
نقول:أبو ثور أحل شرابها ... وقول أبي ثور أسد وأعرف
وحذف متعلق {منتهون} لظهوره، إذ التقدير:فهل أنتم منتهون عنهما، أي عن
ـــــــ
1 كلمة "تحية"ثبتت في طبعة بولاق من الأغاني وفي نسخة مخطوطة منه ولعلها تحريف.
الخمر والميسر، لأن تفريع هذا الاستفهام عن قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ} يعين أنهما المقصود من الانتهاء.
واقتصار الآية على تبيين مفاسد شرب الخمر وتعاطي الميسر دون تبيين ما في عبادة الأنصاب والاستقسام بالأزلام من الفساد، لأن إقلاع المسلمين عنهما قد تقرر قبل هذه الآية من حين الدخول في الإسلام لأنهما من مآثر عقائد الشرك، ولأنه ليس في النفوس ما يدافع الوازع الشرعي عنهما بخلاف الخمر والميسر فإن ما فيهما من اللذات التي تزجي بالنفوس إلى تعاطيهما قد يدافع الوازع الشرعي، فلذلك أكد النهي عنهما أشد مما أكد النهي عن الأنصاب والأزلام.
[92] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ[92]}
عطفت جملة {وأطيعوا} على جملة {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91]، وهي كالتذييل، لأن طاعة الله ورسوله تعم ترك الخمر والميسر والأنصاب والأزلام وتعم غير ذلك من وجوه الامتثال والاجتناب.وكرر {وأطيعوا} اهتماما بالأمر بالطاعة.وعطف {واحذروا} على {أطيعوا} أي وكونوا على حذر.وحذف مفعول{احذروا} لينزل الفعل منزلة اللازم لأن القصد التلبس بالحذر في أمور الدين، أي الحذر من الوقوع فيما يأباه الله ورسوله، وذلك أبلغ من أن يقال واحذروهما، لأن الفعل اللازم يقرب معناه من معنى أفعال السجايا، ولذلك يجيء اسم الفاعل منه على زنة فعل كفرح ونهم.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ} تفريع عن{أطيعوا ـ واحذروا}.والتولي هنا استعارة للعصيان، شبه العصيان بالإعراض والرجوع عن الموضع الذي كان به العاصي، بجامع المقاطعة والمفارقة، وكذلك يطلق عليه الإدبار.ففي حديث ابن صياد ولئن أدبرت ليعقرنك الله أي أعترضت عن الإسلام.
وقوله: {فاعلموا} هو جواب الشرط باعتبار لازم معناه لأن المعنى:فإن توليتم عن طاعة الرسول فاعلموا أن لا يضر توليكم الرسول لأن عليه البلاغ فحسب، أي وإنما يضركم توليكم، ولولا لازم هذا الجواب لم ينتظم الربط بين التولي وبين علمهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أمر إلا بالتبليغ.وذكر فعل {فاعلموا} للتنبيه على أهمية
الخبر كما بيناه عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة[223].
وكلمة {أنما} بفتح الهمزة تقيد الحصر، مثل"إنما"المكسورة الهمزة، فكما أفادت المكسورة الحصر بالاتفاق فالمفتوحتها تفيد الحصر لأنها فرع عن المكسورة إذ هي أختها.ولا ينبغي بقاء خلاف من خالف في إفادتها الحصر، والمعنى أن أمره محصور في التبليغ لا يتجاوزه إلى القدرة على هدي المبلغ إليهم.
وفي إضافة الرسول إلى ضمير الجلالة تعظيم لجانب هذه الرسالة وإقامة لمعذرته في التبليغ بأنه رسول من القادر على كل شيء، فلو شاء مرسله لهدى المرسل إليهم فإذا لم يهتدوا فليس ذلك لتقصير من الرسول.
ووصف البلاغ بـ {المبين} استقصاء في معذرة الرسول وفي الإعذار للمعرضين عن الامتثال بعد وضوح البلاغ وكفايته وكونه مؤيدا بالحجة الساطعة.
[93] {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ[93]}
هذه الآية بيان لما عرض من إجمال في فهم الآية التي قبلها، إذ ظن بعض المسلمين أن شرب الخمر قبل نزول هذه الآية قد تلبس بإثم لأن الله وصف الخمر وما ذكر معها بأنها رجس من عمل الشيطان.فقد كان سبب نزول هذه الآية ما في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك، والبراء ابن عازب، وابن عبس، أنه لما نزل تحريم الخمر قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: "كيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر أو قال وهي في بطونهم وأكلوا الميسر.فأنزل الله: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} الآية.وفي تفسير الفخر روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار، وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها". فأنزل الله هذه الآيات.
وقد يلوح ببادئ الرأي أن حال الذين توفوا قبل تحريم الخمر ليس حقيقيا بأن يسأل عنه الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعلم بأن الله لا يؤاخذ أحدا بعمل لم يكن محرما من قبل فعله، وأنه لا يؤاخذ أحدا على ارتكابه إلا بعد أن يعلم بالتحريم، فالجواب أن أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم كانوا شديدي الحذر مما ينقص الثواب حريصين على كمال الاستقامة فلما نزل في الخمر والميسر أنهما رجس من عمل الشيطان خشوا أن يكون للشيطان حظ في الذين شربوا الخمر وأكلوا اللحم بالميسر وتوفوا قبل الإقلاع عن ذلك أو ماتوا والخمر في بطونهم مخالطة أجسادهم، فلم يتمالكوا أن سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن حالهم لشدة إشفاقهم على إخوانهم.كما سأل عبد الله بن أم مكتوم لما نزل قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} [النساء:95]فقال: "يا رسول الله، فكيف وأنا أعمى لا أبصر"فأنزل الله {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} وكذلك ما وقع لما غيرت القبلة من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قال ناس:"فكيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يستقبلون بيت المقدس"، فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143]، أي صلاتكم فكان القصد من السؤال التثبت في التفقه وأن لا يتجاوزوا التلقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور دينهم.
ونفي الجناح نفي الإثم والعصيان.و"ما"موصولة.و {طعموا} صلة.وعائد الصلة محذوف.وليست"ما"مصدرية لأن المقصود العفو عن شيء طعموه معلوم من السؤال، فتعليق ظرفية ما طعموا بالجناح هو على تقدير:في طعم ما طعموه.
وأصل معنى {طعموا} أنه بمعنى أكلوا، قال تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب:53].وحقيقة الطعم الأكل والشيء المأكول طعام.وليس الشراب من الطعام بل هو غيره، ولذلك عطف في قوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:من الآية259].ويدل لذلك استثناء المأكولات في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145].ويقال:طعم بمعنى أذاق ومصدره الطعم بضم الطاء اعتبروه مشتقا من الطعم الذي هو حاسة الذوق.وتقدم قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]، أي ومن لم يذقه، بقرينة قوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ} [البقرة:249].ويقال:وجدت في الماء طعم التراب.ويقال تغير طعم الماء، أي أسن.فمن فصاحة القرآن إيراد فعل {طعموا} هنا لأن المراد نفي التبعة عمن شربوا الخمر وأكلوا لحم الميسر قبل نزول آية تحريمهما.واستعمل اللفظ في معنييه، أي في حقيقته ومجازه، أو هو من أسلوب التغليب.
وإذ قد عبر بصيغة المضي في قوله {طعموا} تعين أن يكون {إذا} ظرفا للماضي،
وذلك على أصح القولين للنحاة، وإن كان المشهور أن"إذا"ظرف للمستقبل، والحق أن"إذا"تقع ظرفا للماضي.وهو الذي اختاره ابن مالك ودرج عليه ابن هشام في مغني اللبيب.وشاهده قوله تعالى: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ} [التوبة:92]، وقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة:11]، وآيات كثيرة.فالمعنى لا جناح عليهم إذ كانوا آمنوا واتقوا، ويؤول معنى الكلام:ليس عليهم جناح لأنهم آمنوا واتقوا فيما كان محرما يومئذ وما تناولوا الخمر وأكلوا الميسر إلا قبل تحريمهما.
هذا تفسير الآية الجاري على ما اعتمده جمهور المفسرين جاريا على ما ورد في من سبب نزولها في الأحاديث الصحيحة.
ومن المفسرين من جعل معنى الآية غير متصل بآية تحريم الخمر والميسر.وأحسب أنهم لم يلاحظوا ما روي في سبب نزولها لأنهم رأوا أن سبب نزولها لا يقصرها على قضية السبب بل يعمل بعموم لفظها على ما هو الحق في أن عموم اللفظ لا يخصص بخصوص السبب، فقالوا:رفع الله الجناح عن المؤمنين في أي شيء طعموه من مستلذات المطاعم وحلالها إذا ما اتقوا ما حرم الله عليهم، أي ليس من البر حرمان النفس بتحريم الطيبات بل البر هو التقوى، فيكون من قبيل قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189].وفسر به في الكشاف مبتدئا به.وعلى هذا ا لوجه يكون معنى الآية متصلا بآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}، فتكون استئنافا ابتدائيا لمناسبة ما تقدم من النهي عن أن يحرموا على أنفسهم طيبات ما أحل الله لهم بنذر أو يمين على الامتناع.
وادعى بعضهم أن هذه الآية نزلت في القوم الذين حرموا على أنفسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب؛ ومنهم عثمان بن مظعون، ولم يصح أن هذا سبب نزولها.وعلى هذا التفسير يكون {طعموا} مستعملا في المعنى المشهور وهو الأكل، وتكون كلمة"إذا"مستعملة في المستقبل، وفعل{طعموا} من التعبير عن ا لمستقبل بلفظ الماضي بقرينة كلمة"إذا"، كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم:25].
ويعكر على هذا التفسير أن الذين حرموا الطيبات على أنفسهم لم ينحصر تحريمهم في المطعوم والشراب بل يشمل اللباس والنساء، اللهم إلا أن يقال:إن الكلام جرى على مراعاة الغالب في التحريم.
وقال الفخر: زعم بعض الجهال أن الله تعالى لما جعل الخمر محرمة عندما تكون موقعة للعداوة والبغضاء وصادة عن ذكر الله وعن الصلاة بين في هذه الآية أنه لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه شيء من تلك المفاسد بل حصل معه الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق، ولا يمكن حمله على أحوال من شرب الخمر قبل نزول آية التحريم لأنه لو كان ذلك لقال ما كان جناح على الذين طعموا، كما ذكر في آية تحويل القبلة، فقال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] ولا شك أن"إذا"للمستقبل لا للماضي.قال الفخر:وهذا القول مردود بإجماع كل الأمة.وأما قولهم"إذا"للمستقبل، فجوابه أن الحل للمستقبل عن وقت نزول الآية في حق الغائبين.
والتقوى امتثال المأمورات واجتناب المنهيات، ولذلك فعطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على {اتقوا} من عطف الخاص على العام، للاهتمام به، كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} ، ولأن اجتناب المنهيات أسبق تبادرا إلى الأفهام في لفظ التقوى لأنها مشتقة من التوقي والكف.
وأما عطف"وآمنوا"على"اتقوا"فهو اعتراض للإشارة إلى أن الإيمان هو أصل التقوى، كقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ} إلى قوله ـ {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا}. والمقصود من هذا الظرف الذي هو كالشرط مجرد التنويه بالتقوى والإيمان والعمل الصالح، وليس المقصود أن نفي الجناح عنهم مقيد بأن يتقوا ويؤمنوا ويعملوا الصالحات، للعلم بأن لكل عمل أثرا على فعله أو على تركه، وإذ قد كانوا مؤمنين من قبل، وكان الإيمان عقدا عقليا لا يقبل التجدد تعين أن المراد بقوله :{وآمنوا} معنى وداموا على الإيمان ولم ينقضوه بالكفر.
وجملة {ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا} تأكيد لفظي لجملة {إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} وقرن بحرف"ثم"الدال على التراخي الرتبي ليكون إيماء إلى الازدياد في التقوى وآثار الإيمان، كالتأكيد في قوله تعالى: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ:5,4]ولذلك لم يكرر قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} لأن عمل الصالحات مشمول للتقوى.
وأما جملة {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} فتفيد تأكيدا لفظيا لجملة {ثُمَّ اتَّقَوْا} وتفيد الارتقاء في التقوى بدلالة حرف"ثم"على التراخي الرتبي.مع زيادة صفة الإحسان.وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك". وهذا يتضمن الإيمان لا محالة فلذلك استغني عن إعادة {وآمنوا} هنا.ويشمل فعل
{وأحسنوا} الإحسان إلى المسلمين، وهو زائد على التقوى، لأن منه إحسانا غير واجب وهو مما يجلب مرضاة الله، ولذلك ذيله بقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
وقد ذهب المفسرون في تأويل التكرير الواقع في هذه الآية طرائق مختلفة لا دلائل عليها في نظم الآية، ومرجعها جعل التكرير في قوله: {ثُمَّ اتَّقَوْا} على معنى تغاير التقوى والإيمان باختلاف الزمان أو باختلاف الأحوال.وذهب بعضهم في تأويل قوله تعالى: {إِذَا مَا اتَّقَوْا} وما عطف عليه إلى وجوه نشأت عن حمله على معنى التقييد لنفي الجناح بحصول المشروط.وفي جلبها طول.
وقد تقدم أن بعضا من السلف تأول هذه الآية على معنى الرخصة في شرب الخمر لمن اتقى الله فيما عد، ولم يكن الخمر وسيلة له إلى المحرمات، ولا إلى إضرار الناس.وينسب هذا إلى قدامة بن مظعون، كما تقدم في تفسير آية تحريم الخمر:وأن عمر بن ا لخطاب وعلي بن أبي طالب لم يقبلاه منه.
[94] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
لا أحسب هذه الآية إلا تبيينا لقوله في صدر السورة {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} المائدة:1]، وتخلصا لحكم قتل الصيد في حالة الإحرام، وتمهيدا لقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]جرت إلى هذا التخلص مناسبة ذكر المحرمات من الخمر والميسر وما عطف عليهما؛ فخاطب الله المؤمنين بتنبيههم إلى حالة قد يسبق فيها حرصهم، حذرهم وشهوتهم تقواهم.وهي حالة ابتلاء وتمحيص، يظهر بها في الوجود اختلاف تمسكهم بوصايا الله تعالى، وهي حالة لم تقع وقت نزول هذه الآية، لأن قوله: {ليبلونكم} ظاهر في الاستقبال، لأن نون التوكيد لا تدخل على المضارع في جواب القسم إلا وهو بمعنى المستقبل.والظاهر أن حكم إصابة الصيد في حالة الإحرام أو في أرض الحرم لم يكن مقررا بمثل هذا.وقد روي عن مقاتل:"أن المسلمين في عمرة الحديبية غشيهم صيد كثير في طريقهم، فصار يترامى على رحالهم وخيامهم، فمنهم المحل ومنهم المحرم، وكانوا يقدرون على أخذه بالأيدي، وصيد بعضه بالرماح.ولم يكونوا رأوا الصيد كذلك قط، فاختلفت أحوالهم في الإقدام على إمساكه، فمنهم من أخذ بيده وطعن برمحه.فنزلت هذه الآية"اهـ.فلعل هذه الآية ألحقت بسورة المائدة إلحاقا، لتكون
تذكرة لهم في عام حجة الوداع ليحذروا مثل ما حل بهم يوم الحديبية.وكانوا في حجة الوداع أحوج إلى التحذير والبيان، لكثرة عدد المسلمين عام حجة الوداع وكثرة من فيهم من الأعراب، فذلك يبين معنى قوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} لإشعار قوله :{تناله} بأن ذلك في مكنتهم وبسهولة الأخذ.
والخطاب للمؤمنين، وهو مجمل بينه قوله عقبه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}. قال أبو بكر بن العربي: "اختلف العلماء في المخاطب بهذه الآية على قولين: أحدهما أنهم المحلون، قاله مالك؛ الثاني أنهم المحرمون، قاله ابن عباس وغيره"اهـ.وقال في القبس:"توهم بعض الناس أن المراد بالآية تحريم الصيد في حال الإحرام، وهذه عضلة، إنما المراد به الابتلاء في حالتي الحل والحرمة"اهـ.
ومرجع هذا الاختلاف النظر في شمول الآية لحكم ما يصطاده الحلال من صيد الحرم وعدم شمولها بحيث لا يحتاج في إثبات حكمه إلى دليل آخر أو يحتاج.قال ابن العربي في الأحكام:"إن قوله {ليبلونكم} الذي يقتضي أن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد وما شرط له من كيفية الاصطياد.والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في القلة والكثرة وتباين في الضعف والشدة".يريد أن قوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} لا يراد به الإصابة ببلوى، أي مصيبة قتل الصيد المحرم بل يراد ليكلفنكم الله ببعض أحوال الصيد.وهذا ينظر إلى أن قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} شامل لحالة الإحرام والحلول في الحرم.
وقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} هو ابتلاء تكليف ونهي، كما دل عليه تعلقه بأمر مما يفعل، فهو ليس كالابتلاء في قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} [البقرة:155] وإنما أخبرهم بهذا على وجه التحذير.فالخبر مستعمل في معناه ولازم معناه، وهو التحذير.ويتعين أن يكون هذا الخطاب وجه إليهم في حين ترددهم بين إمساك الصيد وأكله، وبين مراعاة حرمة الإحرام، إذ كانوا محرمين بعمرة في الحديبية وقد ترددوا فيما يفعلون، أي أن ما كان عليه الناس من حرمة إصابة الصيد للمحرم معتد به في الإسلام أو غير معتد به.فالابتلاء مستقبل لأنه لا يتحقق معنى الابتلاء إلا من بعد النهي والتحذير.ووجود نون التوكيد يعين المضارع للاستقبال، فالمستقبل هو الابتلاء.وأما الصيد ونوال الأيدي والرماح فهو حاضر.
والصيد:المصيد، لأن قوله من الصيد وقع بيانا لقوله: {بشي}. ويغني عن الكلام
فيه وفي لفظ"بشيء"ما تقدم من الكلام على نظيره في قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ} في سورة البقرة[155].وتنكير {شيء} هنا للتنويع لا للتحقير، خلافا للزمخشري ومن تابعه.
وأشار بقوله: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} إلى أنواع الصيد صغيره وكبيره.فقد كانوا يمسكون الفراخ بأيديهم وما هو وسيلة إلى الإمساك بالأيدي من شباك وحبالات وجوارح، لأن جميع ذلك يؤول إلى الإمساك باليد.وكانوا يعدون وراء الكبار بالخيل والرماح كما يفعلون بالحمر الوحشية وبقر الوحش، كما في حديث أبي قتادة أنه:"رأى عام الحديبية حمارا وحشيا، وهو غير محرم، فاستوى على فرسه وأخذ رمحه وشد وراء الحمار فأدركه فعقره برمحه وأتى به"..إلخ.وربما كانوا يصيدون برمي النبال عن قسيهم، كما في حديث الموطأ:"عن زيد البهزي أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة فإذا ظبي حاقف فيه سهم الحديث.فقد كان بعض الصائدين يختبئ في قترة ويمسك قوسه فإذا مر به الصيد رماه بسهم".قال ابن عطية:"وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد".
وقد يقال:حذف ما هو بغير الأيدي وبغير الرماح للاستغناء بالطرفين عن الأوساط.
وجملة {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} صفة للصيد أو حال منه.والمقصود منها استقصاء أنواع الصيد لئلا يتوهم أن التحذير من الصيد الذي هو بجرح أو قتل دون القبض باليد أو التقاط البيض أو نحوه.
وقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} علة لقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ} [المائدة:94] لأن الابتلاء اختبار، فعلته أن يعلم الله منه من يخافه.وجعل علم الله علة للابتلاء إنما هو على معنى ليظهر للناس من يخاف الله من كل من علم الله أنه يخافه، فأطلق علم الله على لازمه، وهو ظهور ذلك وتميزه، لأن علم الله يلازمه التحقق في الخارج إذ لا يكون علم الله إلا موافقا لما في نفس الأمر، كما بيناه غير مرة؛ أو أريد بقوله: {لِيَعْلَمَ اللَّهُ} التعلق التنجيزي لعلم الله بفعل بعض المكلفين، بناء على إثبات تعلق تنجيزي لصفة العلم، وهو التحقيق الذي انفصل عليه عبد الحكيم في الرسالة الخاقانية.
وقيل: أطلق العلم على تعلقه بالمعلوم في الخارج.ويلزم أن يكون مراد هذا القائل أن هذا الإطلاق قصد منه التقريب لعموم أفهام المخاطبين.وقال ابن العربي في القبس:"ليعلم الله مشاهدة ما علمه غيبا من امتثال من امتثل واعتداء من اعتدى فإنه، عالم الغيب والشهادة يعلم الغيب أولا، ثم يخلق المعدوم فيعلمه مشاهدة، يتغير المعلوم ولا يتغير العلم".والباء إما للملابسة أو
للظرفية، وهي في موضع الحال من الضمير المرفوع في {يخافه}.
والغيب ضد الحضور وضد المشاهدة، وقد تقدم في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] على أحد وجهين هنالك، فتعلق المجرور هنا بقوله:{يخافه} الأظهر أنه تعلق لمجرد الكشف دون إرادة تقييد أو احتراز، كقوله تعالى :{وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّئينَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [البقرة:61].أي من يخاف الله وهو غائب عن الله، أي غير مشاهد له.وجميع مخافة الناس من الله في الدنيا هي مخافة بالغيب.قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك:12]
وفائدة ذكره أنه ثناء على الذين يخافون الله أثنى عليهم بصدق الإيمان وتنور البصيرة، فإنهم خافوه ولم يروا عظمته وجلاله ونعيمه وثوابه ولكنهم أيقنوا بذلك عن صدق استدلال.وقد أشار إلى هذا ما في الحديث القدسي: "إنهم آمنوا بي ولم يروني فكيف لو رأوني". ومن المفسرين من فسر الغيب بالدنيا.وقال ابن عطية:"الظاهر أن المعنى بالغيب عن الناس، أي في الخلوة.فمن خاف الله انتهى عن الصيد من ذات نفسه، يعني أن المجرور للتقييد، أي من يخاف الله وهو غائب عن أعين الناس الذين يتقى إنكارهم عليه أو صدهم إياه وأخذهم على يده أو التسميع به، وهذا ينظر إلى ما بنوا عليه أن الآية نزلت في صيد غشيهم في سفرهم عام الحديبية يغشاهم في رحالهم وخيامهم، أي كانوا متمكنين من أخذه بدون رقيب، أو يكون الصيد المحذر من صيده مماثلا لذلك الصيد.
وقوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} تصريح بالتحذير الذي أومأ اليه بقوله :{لَيَبْلُوَنَّكُمُ}، إذ قد أشعر قوله :{لَيَبْلُوَنَّكُمُ}، أن في هذا الخبر تحذيرا من عمل قد تسبق النفس إليه.والإشارة بذلك إلى التحذير المستفاد من :{لَيَبْلُوَنَّكُمُ}، أي بعد ما قدمناه إليكم وأعذرنا لكم فيه، فلذلك جاءت بعده فاء التفريع.والمراد بالاعتداء الاعتداء بالصيد، وسماه اعتداء لأنه إقدام على محرم وانتهاك لحرمة الإحرام أو الحرم.
وقوله: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، أي عقاب شديد في الآخرة بما اجترأ على الحرم أو على الإحرام أو كليهما، وبما خالف إنذار الله تعالى، وهذه إذا اعتدى ولم يتدارك اعتداءه بالتوبة أو الكفارة، فالتوبة معلومة من أصول الاسلام، والكفارة هي جزاء الصيد، لأن الظاهر أن الجزاء تكفير عن هذا الاعتداء كما سيأتي.روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس: "العذاب الأليم أنه يوسع بطنه وظهره جلدا ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك به في الجاهلية".فالعذاب هو الأذى الدنيوي، وهو يقتضي أن هذه الآية قررت ما كان يفعله
أهل الجاهلية، فتكون الآية الموالية لها نسخا لها.ولم يقل بهذا العقاب أحد من فقهاء الإسلام فدل ذلك على أنه أبطل بما في الآية الموالية، وهذا هو الذي يلتئم به معنى الآية مع معنى التي تليها.ويجوز أن يكون الجزاء من قبيل ضمان المتلفات ويبقى إثم الاعتداء فهو موجب العذاب الأليم.فعلى التفسير المشهور لا يسقطه إلا التوبة، وعلى ما نقل عن ابن عباس يبقى الضرب تأديبا، ولكن هذا لم يقل به أحد من فقهاء الإسلام، والظاهر أن سلبه كان يأخذه فقراء مكة مثل جلال البدن ونعالها.
[95] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ[95]}
استئناف لبيان آية {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} [المائدة:94] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمنت حكما لم يبق به عمل.وتقدم القول في معنى {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} في طالع هذه السورة[المائدة:1].
واعلم أن الله حرم الصيد في حالين:حال كون الصائد محرما، وحال كون الصيد من صيد الحرم، ولو كان الصائد حلالا؛ والحكمة في ذلك أن الله تعالى عظم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتخذ لها حرما كما كان الملوك يتخذون الحمى، فكانت بيت الله وحماه، وهو حرم البيت محترما بأقصى ما يعد حرمة وتعظيما فلذلك شرع الله حرما للبيت واسعا وجعل الله البيت أمنا للناس ووسع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلا أمنا للعائذ به وبحرمه.قال النابغة:
والمؤمن العائذات الطير يمسحها ... ركبان مكة بين الغيل فالسند
فالتحريم لصيد حيوان البر، ولم يحرم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر.ثم حرم الصيد على المحرم بحج أو عمرة، لأن الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة.وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان، أو لأن الغالب أن المحرم لا ينوي الإحرام إلا عند الوصول إلى الحرم، فالغالب أنه لا يصيد إلا
حيوان الحرم.
والصيد عام في كل ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدواب والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه.ويلحق بالصيد الوحوش كلها.قال ابن الفرس:"والوحوش تسمى صيدا وإن لم تصد بعد، كما يقال:بئس الرمية الأرنب، وإن لم ترم بعد".وخص من عمومه ما هو مضر، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير.ودليل التخصيص السنة.وقصد القتل تبع لتذكر الصائد أن في حال إحرام، وهذا مورد الآية، فلو نسى أنه محرم فهو غير متعمد، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمد.ولا وجه ولا دليل لمن تأول التعمد في الآية بأنه تعمد القتل مع نسيان أنه محرم.
وقوله: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}، حرم جمع حرام، بمعنى محرم، مثل جمع قذال على قذل، والمحرم أصله المتلبس بالإجرام بحج أو عمرة.ويطلق المحرم على الكائن في الحرم.قال الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما.
أي كائنا في حرم المدينة.فأما الإحرام بالحج والعمرة فهو معلوم، وأما الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة.وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده.فأما حرم مكة فيحرم صيده بالاتفاق.وفي صيده الجزاء.وأما حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه، ومثله الطائف عند الشافعي.
وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام، وهو الحرم الذي حرمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب.وأما حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"المدينة حرم من ما بين عير أو عائر"جبل"إلى ثور".قيل هو جبل ولا يعرف ثور إلا في مكة.قال النووي:"أكثر الرواة في كتاب البخاري ذكروا عيرا، وأما ثور فمنهم من كنى عنه فقال:من عير إلى كذا، ومنهم من ترك مكانه بياضا لأنهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ".وقيل:"إن الصواب إلى أحد كما عند أحمد والطبراني".وقيل:"ثور جبل صغير وراء جبل أحد".
وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} الخ،"من"اسم شرط مبتدأ، و {قتل} فعل الشرط، و {منكم} صفة لاسم الشرط، أي من الذين آمنوا.وفائدة إيراد قوله :{منكم} أعرض عن بيانها المفسرون.والظاهر أن وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل
الجاهلية، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه، كما تقدم آنفا.
وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدل على أن الجزاء لا يجب إلا إذا قتل الصيد، فأما لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء، ويدل على أن الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأن مناط الحكم هو القتل.
وقوله {متعمدا} قيد أخرج المخطئ، أي في صيده.ولم تبين له الآية حكما لكنها تدل على أن حكمه لا يكون أشد من المتعمد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخف ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بينته السنة.قال الزهري: "نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الناسي والمخطئ أنهما يكفران".ولعله أراد بالسنة العمل من عهد النبوة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة.وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، وجمهور فقهاء الأمصار: "إن العمد والخطأ في ذلك سواء،"وقد غلب مالك فيه معنى الغرم، أي قاسه على الغرمز والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوى بينهما.ومضى بذلك عمل الصحابة.
وقال أحمد بن حنبل، وابن عبد الحكم من المالكية، وداود الظاهري، وابن جبير وطاووس، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله، وعطاء، ومجاهد:"لا شيء على الناسي".وروي مثله عن ابن عباس.
وقال مجاهد، والحسن، وابن زيد، وابن جريج: "إن كان متعمدا للقتل ناسيا إحرامه فهو مورد الآية، فعليه الجزاء.وأما المتعمد للقتل وهو ذاكر إحرامه فهذا أعظم من أن يكفر وقد بطل حجه، وصيده جيفة لا يؤكل".
والجزاء العوض عن عمل، فسمى الله ذلك جزاء، لأنه تأديب وعقوبة إلا أنه شرع على صفة الكفارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار.وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرم قاتله ليجبر ما أفاته عليه.وإنما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحل ولم يبحه للناس في حال الإجرام، فمن تعدى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدي جزاء.وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده.
وقد دلنا على أن مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قوله عقبه: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ}. وإنما سمي جزاء ولم يسم بكفارة لأنه روعي فيه المماثلة ، فهو مقدر بمثل العمل فسمي جزاء، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى :{جَزَاءً وِفَاقاً} [النبأ:26]
وقد أخبر أن الجزاء مثل ما قتل الصائد، وذلك المثل من النعم، وذلك أن الصيد إما من الدواب وإما من الطير، وأكثر صيد العرب من الدواب، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز، وأما الطير الذي يطير في الجو فنادر صيده، لأنه لا يصاد إلا بالمعراض، وقلما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها، فمماثلة الدواب للأنعام هينة.وأما مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة، والإوز يقارب السخلة، وهكذا.وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة.وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن.وقال أبو حنيفة وأبو يوسف:المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد.والقيمة عند مالك طعام.وقال أبو حنيفة:دارهم.فإذا كان المصير إلى القيمة؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدق به، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوما، ولكسر المد يوما كاملا.وقال أبو حنيفة:يشتري بالقيمة هديا إن شاء، وإن شاء اشترى طعاما، وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما.
وقد اختلف العلماء في أن الجزاء هل يكون أقل مما يجزئ في الضحايا والهدايا.فقال مالك:لا يجزئ أقل من ثني الغنم أو المعز لأن الله تعالى قال:{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}.فما لا يجزئ أن يكون هديا من الأنعام لا يكون جزاء، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيرا بين أن يعطي أقل ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاما ولا يعطي من صغار الأنعام.
وقال مالك في الموطأ: "وكل شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره.وإنما مثل ذلك مثل دية الحر الصغير والكبير بمنزلة واحدة".وقال الشافعي وبعض علماء المدينة: "إذا كان الصيد صغيرا كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام"لما رواه مالك في الموطأ عن أبي الزبير المكي أن عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعناق وفي اليربوع بجفرة.قال الحفيد ابن رشد في كتاب بداية المجتهد:وذلك ما روي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود"اهـ.
وأقول:لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، فأما ما حكم به عمر فلعل مالكا رآه اجتهادا من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}. فإن ذلك من دلالة الإشارة، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة، على أنه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر مما يماثله مما يجزئ في الهدايا.فمن العجب قول ابن العربي:
"إن قول الشافعي هو الصحيح، وهو اختيار علمائنا".ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإني لا أعرف للمالكية مخالفا لمالك في هذا.والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدواب، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام.
ولما سمى الله هذا جزاء وجعله مماثلا للمصيد دلنا على ان من تكر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكل دابة قتلها، خلافا لداود الظاهري، فإن الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلا لجميع ما قتله.
وقرأ جمهور القراء: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} بإضافة {جزاء} إلى {مثل}؛ فيكون {جزاء} مصدرا بدلا عن الفعل، ويكون {مِثْلُ مَا قَتَلَ} فاعل المصدر أضيف إليه مصدره.و {مِنَ النَّعَمِ} بيان المثل لا لـ{مَا قَتَلَ}.والتقدير:فمثل ما قتل من النعم يجزئ جزاء ما قتله، أي يكافئ ويعوض ما قتله.وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي.ولك أن تجعل الإضافة بيانية، أي فجزاء هو مثل ما قتل، والإضافة تكون لأدنى ملابسة.ونظيره قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} [سبأ:37].وهذا نظم بديع على حد قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92]، أي فليحرر رقبة.وجعله صاحب الكشاف من إضافة المصدر إلى المفعول أي فليجز مثل ما قتل.وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوض لا العوض لأن العوض يتعدى إليه فعل"جزى"بالباء ويتعدى إلى المعوض بنفسه.تقول:جزيت ما أتلفته بكذا درهما، ولا تقول:جزيت كذا درهما بما أتلفته، فلذلك اضطر الذين قدروا هذا القول إلى جعل لفظ"مثل"مقحما.ونظروه بقولهم:"مثلك لا يبخل"، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري.وسكت صاحب الكشاف عن الخوض في ذلك وقرر القطب كلام الكشاف على لزوم جعل لفظ"مثل"مقحما وأن الكلام على وجه الكناية، يعني نظير {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]وكذلك ألزمه إياه التفتزاني، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأن الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أن عليه جزاء ما قتل.وهو اعتذار ضعيف.فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله.وقد اجترأ الطبري فقال:"أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة عن وجوه تصاريف الكلام العربي".
وقرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب، والكسائي، وخلف {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} بتنوين جزاء.ورفع"مثل"على تقدير:فالجزاء هو مثل، على أن الجزاء مصدر أطلق على اسم
المفعول، أي فالمجزي به المقتول مثل ما قتله الصائد.
وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} جملة في موضع الصفة لـ{جزاء} أو استئناف بياني، أي يحكم بالجزاء، أي بتعيينه.والمقصد من ذلك أنه لا يبلغ كل أحد معرفة صفة المماثلة بين ا لصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين.وعلى الصائد أن يبحث عمن تحققت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما.ويتعين عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يعينان المثل ويخيرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام، ويقدران له ما هو قدر الطعام إن اختاره.
وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم مع كعب بن مالك، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان.
ووصف {ذَوَا عَدْل} بقوله: {مِنْكُمْ} أي من المسلمين، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلهم يدعون معرفة خاصة بالجزاء.
وقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} حال من {مِثْلُ مَا قَتَلَ} ، أو من الضمير في"به".والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة.والمنحر:منى والمروة.ولما سماه الله تعالى: {هَدْياً} فله سائر أحكام الهدي المعروفة.ومعني {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} أنه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة، وليس المراد أنه ينحر أو يذبح حول الكعبة.
وقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} عطف على {فَجَزَاءٌ} وسمى الإطعام كفارة لأنه ليس بجزاء، إذ الجزاء هو العوض، وهو مأخوذ فيه المماثلة.وأما الإطعام فلا يماثل الصيد وإنما هو كفارة تكفر به الجريمة.وقد أجمل الكفارة فلم يبين مقدار الطعام ولا عدد المساكين.فأما مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين، وقد شاع عن العرب أن المد من الطعام هو طعام رجل واحد، فلذلك قدره مالك بمد لكل مسكين.وهو قول الأكثر من العلماء.وعن ابن عباس:"تقدير الإطعام أن يقوم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوم الدراهم طعاما".وأما عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد.قال مالك: "أحسن ما سمحت إلي فيه أنه يقوم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام، فيطعم مدا لكل مسكين".ومن العلماء من قدر لكل حيوان معادلا من الطعام.فعن ابن عباس: "تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين، والأيل بإطعام عشرين مسكينا، وحمار الوحش بثلاثين"، والأحسن أن ذلك موكول إلى الحكمين.
و{أو} في قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ} تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة.وكذلك كل أمر وقع بـ"أو"في القرآن فهو من الواجب المخير.والقول بالتخيير هو قول الجمهور، ثم قيل:"الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين".وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير، وقيل:الخيار للحكمين.وقال به الثوري، وابن أبي ليلى، والحسن.ومن العلماء من قال:"إنه لا ينتقل من ا لجزاء إلى كفارة الطعام إلا عند العجز عن الجزاء، ولا ينتقل عن ا لكفارة إلى الصوم إلا عند العجز عن الإطعام"، فهي عندهم على الترتيب.ونسب لابن عباس. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {كفارة} بالرفع بدون تنوين مضافا إلى طعام كما قرأ {جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}. والوجه فيه إما أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل} فنجعل {كفارة} اسم مصدر عوضا عن الفعل وأضيف إلى فاعله، أي يكفره طعام مساكين؛ وإما أن نجعله من الإضافة البيانية، أي كفارة من طعام، كما يقال:ثوب خز، فتكون الكفارة بمعنى المكفر به لتصح إضافة البيان، فالكفارة بينها الطعام، أي لا كفارة غيره فإن الكفارة تقع بأنواع.وجزم بهذا الوجه في الكشاف، وفيه تكلف.وقرأه الباقون بتنوين {كَفَّارَةٌ} ورفع {طَعَامُ} على أنه بدل من {كَفَّارَةٌ}.
وقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} عطف على {كَفَّارَة} والإشارة إلى الطعام.والعدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه.وأصل معنى العدل المساواة.وقال الراغب:إنما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا.وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات، وقيل:هما مترادفان.والإشارة بقوله {ذلك} إلى {طَعَامُ مَسَاكِينَ}. وانتصب {صِيَاماً} على التمييز لأن في لفظ العدل معنى التقدير.
وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام، وهو موكول إلى حكم الحكمين.وقال مالك والشافعي:"يصوم عن كل مد من الطعام يوما".وقال أبو حنيفة:"عن كل مدين يوما"، واختلفوا في أقصى ما يصام؛ فقال مالك والجمهور:"لا ينقص عن أعداد الأمداد أياما ولو تجاوز شهرين"، وقال بعض أهل العلم:"لا يزيد على شهرين لأن ذلك أعلى الكفارات".وعن ابن عباس:"يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة.
وقوله: {ليذوق} متعلق بقوله: {فجزاء}، واللام للتعليل، أي جعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره.
والذوق مستعار للإحساس بالكدر.شبه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم
راعوا فيه سرعة اتصال ألمه بالإدراك، ولذلك لم نجعله مجازا مرسلا بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة، فإن الكدر أظهر من مطلق الإدراك.وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذات.ففي القرآن: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان:56].وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطبا جثة حمزة:"ذق عقق".وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى: {فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ} [النحل:112].
والوبال السوء وما يكره إذا اشتد، والوبيل القوي في السوء {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل:16].وطعام وبيل:سيء الهضم، وكلأ وبيل ومستوبل، تستوبله الإبل، أي تستوخمه.قال زهير:
إلى كلأ مستوبل متوخم
والأمر: الشأن والفعل، أي أمر من قتل الصيد متعمدا.والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلفه من خسارة أو من تعب.
وأعقب الله التهديد بما عود به المسلمين من الرأفة فقال: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} ، أي عفا عما قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه.
والانتقام هو الذي عبر عنه بالوبال من قبل، وهو الخسارة أو التعب، ففهم منه أنه كلما عاد وجب عليه ا لجزاء أو الكفارة أو الصوم، وهذا قول الجمهور.وعن ابن عباس، وشريح، والنخعي، ومجاهد وجابر بن زيد:"أن المتعمد لا يجب عليه الجزاء إلا مرة واحدة فإن عاد حق عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء".وهذا شذوذ.
ودخلت الفاء في قوله: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} مع أن شأن جواب الشرط إذا كان فعلا أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرد الاتصال الفعلي، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب، والأظهر أنهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديرا فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جعل الفعل خبرا عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوي، فالتقدير:فهو ينتقم الله منه، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدة ما يناله حتى كأنه لا ينال غيره، أو لقصد التقوي، أي تأكيد حصول هذا الانتقام.ونظيره:
{فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً} [الجن:13]فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوي مع إيجاز.هذا قول المحققين مع توجيهه، ومن النحاة من قال:إن دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء، وإنه جاء على خلاف الغالب.
وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} تذييل.والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر، ولذلك وصف بأنه ذو انتقام، أي لأن من صفاته الحكمة، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها.
[96] {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[96]}
استئناف بياني نشأ عن قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95] فإنه اقتضى تحريم قتل الصيد على المحرم وجعل جزاء فعله هدى مثل ما قتل من النعم، فكان السامع بحيث يسأل عن صيد البحر لأن أخذه لا يسمى في العرف قتلا، وليس لما يصاد منه مثل من النعم ولكنه قد يشك لعل الله أراد القتل بمعنى التسبب في الموت، وأراد بالمثل من النعم المقارب في الحجم والمقدار، فبين الله للناس حكم صيد البحر وأبقاه على الإباحة، لأن صيد البحر ليس من حيوان الحرم، إذ ليس في شيء من أرض الحرم بحر.وقد بينا عند قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]أن أصل الحكمة في حرمة الصيد على المحرم هي حفظ حرمة الكعبة وحرمها.
ومعنى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إبقاء حليته لأنه حلال من قبل الإحرام.والخطاب في {لَكُمْ} للذين آمنوا.والصيد هنا بمعنى المصيد ليجري اللفظ على سنن واحد في مواقعه في هذه الآيات، أي أحل لكم قتله، أي إمساكه من البحر.
والبحر يشمل الأنهار والأودية لأن جميعها يسمى بحرا في لسان العرب.وقد قال الله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} الآية.وليس العذب إلا الأنهار كدجلة والفرات.وصيد البحر:كل دواب الماء التي تصاد فيهن فيكون إخراجها منه سبب موتها قريبا أو بعيدا.فأما ما يعيش في البر وفي الماء فليس من صيد البحر كالضفدع والسلحفاة، ولا خلاف في هذا.أما الخلاف فيما يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل منه، عند من يرى أن منه ما لا يؤكل، فليس هذا موضع ذكره، لأن الآتية ليست بمثبتة لتحليل
أكل صيد البحر ولكنها منبهة على عدم تحريمه في حال الإحرام.
وقوله: {وَطَعَامُهُ} عطف على {صَيْدُ الْبَحْرِ} والضمير عائد إلى {الْبَحْرِ} ، أي وطعام البحر، وعطفه اقتضى مغايرته للصيد.والمعنى:والتقاط طعامه أو وإمساك طعامه.وقد اختلف في المراد من"طعامه".والذي روي عن جلة الصحابة رضي الله عنهم:"أن طعام البحر هو ما طفا عليه من ميتة إذا لم يكن سبب موته إمساك الصائد له".ومن العلماء من نقل عنه في تفسير طعام البحر غير هذا مما لا يلائم سياق الآية.وهؤلاء هم الذين حرموا أكل ما يخرجه البحر ميتا، ويرد قولهم ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وحديث جابر في الحوت المسمى العنبر،"حين وجدوه ميتا، وهم في غزوة، وأكلوا منه، وأخبروا رسول الله، وأكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وانتصب {متاعا} على الحال.والمتاع:ما يتمتع بهز والتمتع: انتفاع بما يلذ ويسر.والخطاب في قوله: {مَتَاعاً لَكُمْ} للمخاطبين بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} باعتبار كونهم متناولين الصيد، أي متاعا للصائدين وللسيارة.
والسيارة:الجماعة السائرة في الأرض للسفر والتجارة، مؤنث سيار، والتأنيث باعتبار الجماعة.قال تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} [يوسف:19].والمعنى أحل لكم صيد البحر تتمتعون بأكله ويتمتع به المسافرون، أي تبيعونه لمن يتجرون ويجلبونه إلى الأمصار.
وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} زيادة تأكيد لتحريم الصيد، تصريحا بمفهوم قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]، ولبيان أن مدة التحريم مدة كونهم حرما، أي محرمين أو مارين بحرم مكة.وهذا إيماء لتقليل مدة التحريم استئناسا للمكلفين بتخفيف، وإيماء إلى نعمة اقتصار تحريمه على تلك المدة، ولو شاء الله لحرمه أبدا.وفي الموطأ:أن عائشة قالت لعروة بن الزبير: "يا بن أختي إنما هي عشر ليال"أي مدة الإحرام"فإن تخلج في نفسك شيء فدعه".تعني أكل لحم الصيد.
وذيل ذلك بقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}. وفي إجراء الوصف بالموصول وتلك الصلة تذكير بأن المرجع إلى الله ليعد الناس ما استطاعوا من الطاعة لذلك اللقاء.
والحشر: جمع الناس في مكان.والصيد مراد به المصيد، كما تقدم.
والتحريم متعلق بقتله لقوله قبله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:95]فلا يقتضي قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} تحريم أكل صيد البر على المحرم إذا
اشتراه من بائع أو ناوله رجل حلال إياه، لأنه قد علم أن التحريم متعلق بمباشرة المحرم قتله في حال الإصابة.وقد أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحمار الذي صاده أبو قتادة، كما في حديث الموطأ عن زيد بن أسلم.وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقسمة الحمار الذي صاده زيد البهزي بين الرفاق وهم محرمون.وعلى ذلك مضى عمل الصحابة، وهو قول.
وأما ما صيد لأجل المحرم فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رد على الصعب بن جثامة حمارا وحشيا أهداه إليه وقال له: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم". وقد اختلف الفقهاء في محمل هذا الامتناع.فقيل:"يحرم أن يأكله من صيد لأجله لا غير".وهذا قول عثمان بن عفان، وجماعة من فقهاء المدينة، ورواية عن مالك، وهو الأظهر، لأن الظاهر أن الضمير في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما لم نرده عليك إلا أنا حرم" أنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، لقوله: "لم نرده"، وإنما رده هو وحده.وقيل:"يحرم على المحرم أكل ما صيد لمحرم غيره"، وهو قول بعض أهل المدينة، وهو المشهور عن مالك.وكأن مستندهم في ذلك أنه الاحتياط وقيل:لا يأكل المحرم صيدا صيد في مدة إحرامه ويأكل ما صيد قبل ذلك، ونسب إلى علي بن أبي طالب وابن عباس، وقيل:"يجوز للمحرم أكل الصيد مطلقا، وإنما حرم الله قتل الصيد"، وهو قول أبي حنيفة.والحاصل أن التنزه عن أكل الصيد الذي صيد لأجل المحرم ثابت في السنة بحديث الصعب بن جثامة، وهو محتمل كما علمت.والأصل في الامتناع الحرمة لأنه، لو أراد التنزه لقال: "أما أنا فلا آكله" ، كما قال في حديث خالد بن الوليد في الضب.
[97] {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
استئناف بياني لأنه يحصل به جواب عما يخطر في نفس السامع من البحث عن حكمة تحريم الصيد في الحرم وفي حال الإحرام، بأن ذلك من تعظيم شأن الكعبة التي حرمت أرض الحرم لأجل تعظيمها، وتذكير بنعمة الله على سكانه بما جعل لهم من الأمن في علائقها وشعائرها.
والجعل يطلق بمعنى الإيجاد، فيتعدى إلى مفعول واحد، كما في قوله تعالى :{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} [الأنعام:1]، في سورة الأنعام، ويطلق بمعنى التصيير فتعدى إلى
مفعولين، وكلا المعنيين صالح هنا.والأظهر الأول فإن الله أوجد الكعبة، أي أمر خليله بإيجادها لتكون قياما للناس.فقوله {قياما} منصوب على الحال، وهي حال مقدرة، أي أوجدها مقدرا أن تكون قياما.وإذا حمل {جعل} على معنى التصيير كان المعنى أنها موجودة بيت عبادة فصيرها الله قياما للناس لطفا بأهلها ونسلهم، فيكون {قياما} مفعولا ثانيا لـ {جعل}. وأما قوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فلا يصح جعله مفعولا.
والكعبة علم على البيت الذي بناه إبراهيم عليه السلام بمكة بأمر الله تعالى ليكون آية للتوحيد.وقد تقدم ذلك في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران:96] في سورة آل عمران.قالوا:إنه علم مشتق من الكعب، وهو النتوء والبروز، وذلك محتمل.ويحتمل أنهم سموا كل بارز كعبة، تشبيها بالبيت الحرام، إذ كان أول بيت عندهم، وكانوا من قبله أهل خيام، فصار البيت مثلا يمثل به كل بارز.وأما إطلاق الكعبة على"القليس"الذي بناه الحبشة في صنعاء، وسماه بعض العرب الكعبة اليمانية، وعلى قبة نجران التي أقامها نصارى نجران لعبادتهم التي عناها الأعشى في قوله:
فكعبة نجران حتم عليك ... حتى تناخي بأبوابها
فذلك على وجه المحاكاة والتشبيه، كما سمى بنو حنيفة مسيلمة رحمان.
وقوله: {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} بيان الكعبة.قصد من هذا البيان التنويه والتعظيم، إذ شأن البيان أن يكون موضحا للمبين بأن يكون أشهر من المبين.ولما كان اسم الكعبة مساويا للبيت الحرام في الدلالة على هذا البيت فقد عبر به عن الكعبة في قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] فتعين أن ذكر البيان للتعظيم، فإن البيان يجيء لما يجيء له النعت من توضيح ومدح ونحو ذلك.ووجه دلالة هذا العلم على التعظيم هو ما فيه من لمح معنى الوصف بالحرام قبل التغليب.وذكر البيت هنا لأن هذا الموصوف مع هذا الوصف صارا علما بالغلبة على الكعبة.
والحرام في الأصل مصدر حرم إذا منع، ومصدره الحرام، كالصلاح من صلح، فوصف شيء بحرام مبالغة في كونه ممنوعا.ومعنى وصف البيت بالحرام أنه ممنوع من أيدي الجبابرة فهو محترم عظيم المهابة.وذلك يستتبع تحجير وقوع المظالم والفواحش فيه، وقد تقدم أنه يقال رجل حرام عند قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ} في هذه السورة[1]، وأنه يقال:شهر حرام، عند قوله تعالى :{وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2]فيها أيضا، فيحمل هذا الوصف على ما يناسبه بحسب الموصوف الذي يجري عليه،
وهو في كل موصوف يدل على أنه مما يتجنب جانبه، فيكون تجنبه للتعظيم أو مهابته أو نحو ذلك، فيكون وصف مدح، ويكون تجنبه للتنزه عنه فيكون وصف ذم، كما تقول:الخمر حرام.
وقرأ الجمهور {قياما} بألف بعد الياء.وقرأه ابن عامر {قيما} بدون ألف بعد الياء.
والقيام في الأصل مصدر قام إذا استقل على رجليه، ويستعار للنشاط، ويستعار من ذلك للتدبير والإصلاح، لأن شأن من يعمل عملا مهما أن ينهض له، كما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} في سورة البقرة[3].ومن هذا الاستعمال قيل للناظر في أمور شيء وتدبيره:هو قيم عليه أو قائم عليه، فالقيام هنا بمعنى الصلاح والنفع.وأما قراءة ابن عامر {قيما} فهو مصدر"قام"على وزن فعل بكسر ففتح مثل شبع.وقد تقدم أنه أحد تأويلين في قوله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَماً} في سورة النساء.وإنما أعلت واوه فصارت ياء لشدة مناسبة الياء للكسرة.وهذا القلب نادر في المصادر التي على وزن فعل من الواوي العين.وإثباته للكعبة من الإخبار بالمصدر للمبالغة، وهو إسناد مجازي، لأن الكعبة لما جعلها الله سببا في أحكام شرعية سابقة كان بها صلاح أهل مكة وغيرهم من العرب وقامت بها مصالحهم، جعلت الكعبة هي القائمة لهم لأنها سبب القيام لهم.
والناس هنا ناس معهودون، فالتعريف للعهد.والمراد بهم العرب، لأنهم الذين انتفعوا بالكعبة وشعائرها دون غيرهم من الأمم كالفرس والروم.وأما ما يحصل لهؤلاء من منافع التجارة ونحوها من المعاملة فذلك تبع لوجود السكان لا لكون البيت حراما، إلا إذا أريد التسبب البعيد، وهو أنه لولا حرمة الكعبة وحرمة الأشهر في الحج لساد الخوف في تلك الربوع فلم تستطع الأمم التجارة هنالك.
وإنما كانت الكعبة قياما للناس لأن الله لما أمر إبراهيم بأن ينزل في مكة زوجه وابنه إسماعيل، وأراد أن تكون نشأة العرب المستعربة"وهم ذرية إسماعيل"في ذلك المكان لينشأوا أمة أصيلة الآراء عزيزة النفوس ثابتة القلوب، لأنه قدر أن تكون تلك الأمة هي أول من يتلقى الدين الذي أراد أن يكون أفضل الأديان وأرسخها، وأن يكون منه انبثاث الإيمان الحق والأخلاق الفاضلة.فأقام لهم بلدا بعيدا عن التعلق بزخارف الحياة؛ فنشأوا على إباء الضيم، وتلقوا سيرة صالحة نشأوا بها على توحيد الله تعالى والدعوة إليه؛ وأقام
لهم فيه الكعبة معلما لتوحيد الله تعالى، ووضع في نفوسهم ونفوس جيرتهم تعظيمه وحرمته.ودعا مجاوريهم إلى حجة ما استطاعوا، وسخر الناس لإجابة تلك الدعوة، فصار وجود الكعبة عائدا على سكان بلدها بفوائد التأنس بالوافدين، والانتفاع بما يجلبونه من الأرزاق، وبما يجلب التجار في أوقات وفود الناس إليه؛ فأصبح ساكنوه لا يلحقهم جوع ولا عراء.وجعل في نفوس أهله القناعة فكان رزقهم كفافا.وذلك ما دعا به إبراهيم في قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [ابراهيم:37].فكانت الكعبة قياما لهم يقوم به أود معاشهم.وهذا قيام خاص بأهله.
ثم انتشرت ذرية إسماعيل ولحقت بهم قبائل كثيرة من العرب القحطانيين وأهلت بلاد العرب.وكان جميع أهلها يدين بدين إبراهيم؛ فكان من انتشارهم ما شأنه أن يحدث بين الأمة الكثيرة من الاختلاف والتغالب والتقاتل الذي يفضي إلى التفاني، فإذا هم قد وجدوا حرمة أشهر الحج الثلاثة وحرمة شهر العمرة، وهو رجب الذي سنته مضر"وهم معظم ذرية إسماعيل"وتبعهم معظم العرب.وجدوا تلك الأشهر الأربعة ملجئة إياهم إلى المسالمة فيها فأصبح السلم سائدا بينهم مدة ثلث العام، يصلحون فيها شؤونهم، ويستبقون نفوسهم، وتسعى فيها سادتهم وكبراؤهم وذوو الرأي منهم بالصلح بينهم، فيما نجم من ترات وأحن.فهذا من قيام الكعبة لهم، لأن الأشهر الحرم من آثار الكعبة إذ هي زمن الحج والعمرة للكعبة.
وقد جعل إبراهيم للكعبة مكانا متسعا شاسعا يحيط بها من جوانبها أميالا كثيرة، وهو الحرم، فكان الداخل فيه آمنا.قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].فكان ذلك امنا مستمرا لسكان مكة وحرمها، وأمنا يلوذ اليه من عراه خوف من غير سكانها بالدخول إليه عائذا، ولتحقيق أمنه أمن الله وحوشه ودوابه تقوية لحرمته في النفوس، فكانت الكعبة قياما لكل عربي إذا طرقه ضيم.
وكان أهل مكة وحرمها يسيرون في بلاد العرب آمنين لا يتعرض لهم أحد بسوء، فكانوا يتجرون ويدخلون بلاد قبائل العرب، فيأتونهم بما يحتاجونه ويأخذون منهم ما لا يحتاجونه ليبلغوه إلى من يحتاجونه، ولولاهم لما أمكن لتاجر من قبيلة أن يسير في البلاد، فتعطلت التجارة والمنافع.ولذلك كان قريش يوصفون بين العرب بالتجار، ولأجل ذلك جعلوا رحلتي الشتاء والصيف اللتين قال الله تعالى فيهما :{لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ
الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش:2,1]وبذلك كله بقيت أمة العرب محفوظة الجبلة التي أراد الله أن يكونوا مجبولين عليها، فتهيأت بعد ذلك لتلقي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وحملها إلى الأمم، كما أراد الله تعالى وتم بذلك مراده.
وإذا شئت أن تعدو هذا فقل: إن الكعبة كانت قياما للناس وهم العرب، إذ كانت سبب اهتدائهم إلى التوحيد واتباع الحنيفية، واستبقت لهم بقية من تلك الحنيفية في مدة جاهليتهم كلها لم يعدموا عوائد نفعها.فلما جاء الإسلام كان الحج إليها من أفضل الأعمال، وبه تكفر الذنوب، فكانت الكعبة من هذا قياما للناس في أمور أخراهم بمقدار ما يتمسكون به مما جعلت الكعبة له قياما.
وعطف {الشَّهْرَ الْحَرَامَ} على {الكعبة} شبه عطف الخاص على العام باعتبار كون الكعبة أريد بها ما يشمل علائقها وتوابعها، فإن الأشهر الحرم ما اكتسبت الحرمة إلا من حيث هي أشهر الحج والعمرة للكعبة كما علمت.فالتعريف في {الشَّهْرَ} للجنس كما تقدم في قوله تعالى: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:2].ولا وجه لتخصيصه هنا ببعض تلك الأشهر.وكذلك عطف {الهدي} و {القلائد}. وكون الهدي قياما للناس ظاهر، لأنه ينتفع ببيعة للحاج أصحاب المواشي من العرب، وينتفع بلحومه من الحاج فقراء العرب، فهو قيام لهم.
وكذلك القلائد فإنهم ينتفعون بها؛ فيتخذون من ظفائرها مادة عظيمة للغزل والنسج، فتلك قيام لفقرائهم.ووجه تخصيصها بالذكر هنا، وإن كانت هي من أقل آثار الحج، التنبيه على أن جميع علائق الكعبة فيها قيام للناس، حتى أدنى العلائق، وهو القلائد، فكيف بما عداها من جلال البدن ونعالها وكسوة الكعبة، ولأن القلائد أيضا لا يخلو عنها هدي من الهدايا بخلاف الجلال والنعال.ونظير هذا قول أبي بكر: "والله لو منعوني عقالا"إلخ...
وقوله: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} الآية، مرتبط بالكلام الذي قبله بواسطة لام التعليل في قوله: {لِتَعْلَمُوا} وتوسط اسم الإشارة بين الكلامين لزيادة الربط مع التنبيه على تعظيم المشار اليه، وهو الجعل المأخوذ من قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ}، فتوسط اسم الإشارة هنا شبيه بتوسط ضمير الفصل، فلذلك كان الكلام شبيها بالمستأنف وما هو بمستأنف، لأن ما صدق اسم الإشارة هو الكلام السابق، ومفاد لام التعليل الربط بالكلام السابق، فلم يكن في هذا الكلام شيء جديد غيرالتعليل،
والتعليل اتصال وليس باستئناف، لأن الاستئناف انفصال.وليس في الكلام السابق ما يصلح لأن تتعلق به لام التعليل إلا قوله: {جَعَلَ}. وليست الإشارة إلا للجعل المأخوذ من قوله :{جَعَلَ}.
والمعنى: جعل الله الكعبة قياما للناس لتعلموا أن الله يعلم الخ..، أي أن من الحكمة التي جعل الكعبة قياما للناس لأجلها أن تعلموا أنه يعلم.فجعل الكعبة قياما مقصود منه صلاح الناس بادىء ذى بدء لأنه المجعولة عليه، ثم مقصود منه علم الناس بأنه تعالى عليم.وقد تكون فيه حكم أخرى لأن لام العلة لا تدل على انحصار تعليل الحكم الخبري في مدخولها لإمكان تعدد العلل للفعل الواحد، لأن هذه علل جعلية لا إيجادية، وإنما اقتصر على هذه العلة دون غيرها لشدة الاهتمام بها، لأنها طريق إلى معرفة صفة من صفات الله تحصل من معرفتها فوائد جمة للعارفين بها في الامتثال والخشية والاعتراف بعجز من سواه وغير ذلك.فحصول هذا العلم غاية من الغايات التي جعل الله الكعبة قياما لأجلها.
والمقصود أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض قبل وقوعه لأنه جعل التعليل متعلقا بجعل الكعبة وما تبعها قياما للناس.وقد كان قيامها للناس حاصلا بعد وقت جعلها بمدة، وقد حصل بعضه يتلو بعضا في أزمنة متراخية كما هو واضح.وأما كونه يعلم ذلك بعد وقوعه فلا يحتاج للاستدلال لأنه أولى، ولأن كثيرا من الخلائق قد علم تلك الأحوال بعد وقوعها.
ووجه دلالة جعل الكعبة قياما للناس وما عطف عليها، على كونه تعالى يعلم ما في السماوات وما في الأرض، أنه تعالى أمر ببناء الكعبة في زمن إبراهيم، فلم يدر أحد يومئذ إلا أن إبراهيم اتخذها مسجدا، ومكة يومئذ قليلة السكان، ثم إن الله أمر بحج الكعبة وبحرمة حرمها وحرمة القاصدين اليها، ووقت للناس أشهرا القصد منها وهدايا يسوقونها إليها فإذا في جميع ذلك صلاح عظيم وحوائل دون مضار كثيرة بالعرب لولا إيجاد الكعبة، كما بيناه آنفا.فكانت الكعبة سبب بقائهم حتى جاء الله بالإسلام.فلا شك أن الذي أمر ببنائها قد علم أن ستكون هنالك أمة كبيرة، وأن ستحمد تلك الأمة عاقبة بناء الكعبة وما معه من آثارها.وكان ذلك تمهيدا لما علمه من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فيهم، وجعلهم حملة شريعته إلى الأمم، وما عقب ذلك من عظم سلطان المسلمين وبناء حضارة الإسلام.ثم هو يعلم ما في الأرض وليس هو في الأرض بدليل المشاهدة، أو بالترفع عن
النقص فلا جرم أن يكون عالما بما في السماوات، لأن السماوات إما أن تكون مساوية للأرض في أنه تعالى ليس بمستقر فيها، ولا هي أقرب إليه من الأرض، كما هو الاعتقاد الخاص، فثبت له العلم بما في السماوات بقياس المساواة؛ وإما أن يكون تعالى في أرفع المكان وأشرف العوالم، فيكون علمه بما في السماوات أحرى من علمه بما في الأرض، لأنا أقرب إليه وهو بها أعنى، فيتم الاستدلال للفريقين.
وأما دلالة ذلك على أنه بكل شيء عليم فلأن فيما ثبت من هذا العلم الذي تقرر من علمه بما في السماوات وما في الأرض أنواعا من المعلومات جليلة ودقيقة؛ فالعلم بها قبل وقوعها لا محالة، فلو لم يكن يعلم جميع الأشياء لم يخل من جهل بعضها، فيكون ذلك الجهل معطلا لعلمه بكثير مما يتوقف تدبيره على العلم بذلك المجهول فهو ما دبر جعل الكعبة قياما وما نشأ عن ذلك إلا عن عموم علمه بالأشياء ولولا عمومه ما تم تدبير ذلك المقدر.
[98ـ99] {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}.
استئناف ابتدائي وتذييل لما سبق من حظر الصيد للمحرم وإباحة صيد البحر والامتنان بما جعل للكعبة من النعم عليهم ليطمئنوا لما في تشريع تلك الأحكام من تضييق على تصرفاتهم ليعلموا أن ذلك في صلاحهم، فذيل بالتذكير بأن الله منهم بالمرصاد يجازي كل صانع بما صنع من خير أو شر.وافتتاح الجملة بـ {اعلموا} للاهتمام بمضمونها كما تقدم عند قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة[223].وقد استوفى قوله: {أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أقسام معاملته تعالى فهو شديد العقاب لمن خالف أحكامه وغفور لمن تاب وعمل صالحا.وافتتاح الجملة بلفظ{اعلموا} للاهتمام بالخبر كما تقدم عند قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} في سورة البقرة[223]
وجملة {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} معترضة ذيل بها التعريض بالوعيد والوعد.ومضمونها إعذار الناس لأن الرسول قد بلغ إليهم ما أراد الله منهم فلا عذر لهم في التقصير، والمنة لله ولرسوله فيما أرشدهم إليه من خير.
والقصر ليس بحقيقي لأن على الرسول أمورا أخر غير البلاغ مثل التعبد لله تعالى،
والخروج إلى الجهاد، والتكاليف التي كلفه الله بها مثل قيام الليل، فتعين أن معنى القصر:ما عليه إلا البلاغ، أي دون إلجائكم إلى الإيمان، فالقصر إضافي فلا ينافي أن على الرسول أشياء كثيرة.
والإتيان بحرف"على"دون"اللام"ونحوها مؤذن بأن المردود شيء يتوهم أنه لازم للرسول من حيث إنه يدعي الرسالة عن الله تعالى.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} عطف على جملة {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}. وهي تتميم للتعريض بالوعيد والوعد تذكيرا بأنه لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها وباطنها.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوي الحكم وليس لإفادة التخصيص لنبو المقام عن ذلك.
وذكر {مَا تُبْدُونَ} مقصود منه التعميم والشمول مع {مَا تَكْتُمُونَ} وإلا فالغرض هو تعليمهم أن الله يعلم ما يسرونه أما ما يبدونه، فلا يظن أن الله لا يعلمه.
[100] {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
لما آذن قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:98]وقوله: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة:99]بأن الناس فريقان: مطيعون وعصاة، فريق عاندوا الرسول ولم يمتثلوا، وهم من بقي من أهل الشرك ومن عاضدهم من المنافقين، وربما كانوا يظهرون للقبائل أنهم جمع كثير، وأن مثلهم لا يكون على خطأ، فأزال الله الأوهام التي خامرت نفوسهم فكانت فتنة أو حجة ضالة يموه بها بعض منهم على المهتدين من المسلمين.فالآية تؤذن بأن قد وجدت كثرة من أشياء فاسدة خيف أن تستهوي من كانوا بقلة من الأشياء الصالحة، فيحتمل أن تكون تلك الكثرة كثرة عدد في الناس إذ معلوم في متعارف العرب في الجاهلية وفي أول الإسلام الاعتزاز بالكثرة والإعجاب بها.قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ... وإنما العزة للكاثر
وقال السمؤال أو عبد الملك الحارثي:تعيرنا أنا قليل عديدنا
وقد تعجب العنبري إذ لام قومه فقال:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد ... ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
قال السدي: "كثرة الخبيث هم المشركون، والطيب هم المؤمنون". وهذا المعنى يناسب لو يكون نزول هذه الآية قبل حجة الوداع حين كان المشركون أكثر عددا من المسلمين؛ لكن هذه السورة كلها نزلت في عام حجة الوداع فيمكن أن تكون إشارة إلى كثرة نصارى العرب في الشام والعراق ومشارف الشام لأن المسلمين قد تطلعوا يومئذ إلى تلك الأصقاع، وقيل: "أريد منها الحرام والحلال من المال"، ونقل عن الحسن.
ومعنى {لا يَسْتَوِي} نفي المساواة، وهي المماثلة والمقاربة والمشابهة.والمقصود منه إثبات المفاضلة بينهما بطريق الكناية، والمقام هو الذي يعين الفاضل من المفضول، فإن جعل أحدهما خبيثا والآخر طيبا يعين أن المراد تفضيل الطيب.وتقدم عند قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً} في سورة آل عمران[113].ولما كان من المعلوم أن الخبيث لا يساوي الطيب وأن البون بينهما بعيد، علم السامع من هذا أن المقصود استنزال فهمه إلى تمييز الخبيث من الطيب في كل ما يلتبس فيه أحدهما بالآخر، وهذا فتح لبصائر الغافلين كيلا يقعوا في مهواة الالتباس ليعلموا أن ثمة خبيثا قد التف في لباس الحسن فتموه على الناظرين، ولذلك قال: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ}. فكان الخبيث المقصود في الآية شيئا تلبس بالكثرة فراق في أعين الناظرين لكثرته، ففتح أعينهم للتأمل فيه ليعلموا خبثه ولا تعجبهم كثرته.
فقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} من جملة المقول المأمور به النبي صلى الله عليه وسلم أي قل لهم هذا كله، فالكاف في قوله: {أَعْجَبَكَ} للخطاب، والمخاطب بها غير معين بل كل من يصلح للخطاب، مثل{وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام:27]، أي ولو أعجب معجبا كثرة الخبيث.وقد علمت وجه الإعجاب بالكثرة في أول هذه الآية.
وليس قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} بمقتض أن كل خبيث يكون كثيرا ولا أن يكون أكثر من الطيب من جنسه، فإن طيب التمر والبر والثمار أكثر من خبيثها، وإنما المراد أن لا تعجبكم من الخبيث كثرته إذا كان كثيرا فتصرفكم عن التأمل من خبثه وتحدوكم إلى متابعته لكثرته، أي ولكن انظروا إلى الأشياء بصفاتها ومعانيها لا بأشكالها ومبانيها، أو كثرة الخبيث في ذلك الوقت بوفرة أهل الملل الضالة.والإعجاب يأتي الكلام عليه عند قوله تعالى: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ} في سورة براءة[55].
وفي تفسير ابن عرفة قال: "وكنت بحثت مع ابن عبد السلام وقلت له: هذه تدل
على الترجيح بالكثرة في الشهادة لأنهم اختلفوا إذا شهد عدلان بأمر وشهد عشرة عدول بضده، فالمشهور أن لا فرق بين العشرة والعدلين، وهما متكاملان.وفي المذهب قول آخر بالترجيح بالكثرة.فقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} يدل على أن الكثرة لها اعتبار بحيث إنها ما أسقطت هنا إلا للخبث، ولم يوافقني عليه ابن عبد السلام بوجه.ثم وجدت ابن المنير ذكره بعينه".اهـ.
والواو في قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكَ} واو الحال، و {لو} اتصالية، وقد تقدم بيان معناهما عند قوله تعالى: {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} في سورة آل عمران[91].
وتفريع قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} على ذلك مؤذن بأن الله يريد منا إعمال النظر في تمييز الخبيث من الطيب، والبحث عن الحقائق، وعدم الاغترار بالمظاهر الخلابة الكاذبة، فإن الأمر بالتقوى يستلزم الأمر بالنظر في تمييز الأفعال حتى يعرف ما هو تقوى دون غيره.
ونظير هذا الاستدلال استدلال العلماء على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، لأن مما يدخل تحت الاستطاعة الاجتهاد بالنسبة للمتأهل إليه الثابت له اكتساب أداته.ولذلك قال هنا {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} فخاطب الناس بصفة ليومئ إلى أن خلق العقول فيهم يمكنهم من التمييز بين الخبيث والطيب لاتباع الطيب ونبذ الخبيث.ومن أهم ما يظهر فيه امتثال هذا الأمر النظر في دلائل صدق دعوى الرسول وأن لا يحتاج في ذلك إلى تطلب الآيات والخوارق كحال الذين حكى الله عنهم {وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً} [الاسراء:90]الآية، وأن يميز بين حال الرسول وحال السحرة والكهان وإن كان عددهم كثيرا.
وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} تقريب لحصول الفلاح بهم إذا اتقوا هذه التقوى التي منها تمييز الخبيث من الطيب وعدم الاغترار بكثرة الخبيث وقلة الطيب في هذا.
[102,101] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ}.
استئناف ابتدائي للنهي عن العودة إلى مسائل سألها بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليست في شؤون الدين ولكنها في شؤون ذاتية خاصة بهم، فنهوا أن يشغلوا الرسول بمثالها بعد أن قدم لهم بيان مهمة الرسول بقوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] الصالح لأن يكون مقدمة لمضمون هذه الآية ولمضمون الآية السابقة، وهي قوله: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة:100]فالآيتان كلتاهما مرتبطتان بآية {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99]، وليست إحدى هاتين الآيتين بمرتبطة بالأخرى.
وقد اختلفت الروايات في بيان نوع هذه الأشياء المسؤول عنها والصحيح من ذلك حديث موسى بن أنس بن مالك عن أبيه في الصحيحين قال: "سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة، فصعد المنبر ذات يوم فقال:"لا تسألونني عن شيء إلا بينت لكم"، فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى لغير أبيه، فقال:"يا رسول الله من أبي؟"قال:"أبوك حذافة"أي فدعاه لأبيه الذي يعرف به"، والسائل هو عبد الله بن حذافة السهمي، كما ورد في بعض روايات الحديث.وفي رواية لمسلم عن أبي موسى:فقام رجل آخر فقال:"من أبي؟"، قال:"أبوك سالم مولى شيبة".وفي بعض روايات هذا الخبر في غير الصحيح عن أبي هريرة أن رجلا آخر قام فقال:"أين أبي؟".وفي رواية:أين أنا?"فقال:"في النار".
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس قال : "كان قوم، أي من المنافقين، يسألون رسول الله استهزاء فيقول الرجل تضل ناقته:"أين ناقتي؟"، ويقول الرجل:"من أبي"، ويقول المسافر:"ماذا ألقى في سفري؟"فأنزل الله فيهم هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . قال الأئمة:"وقد انفرد به البخاري".ومحمله أنه رأي من ابن عباس، وهو لا يناسب افتتاح الآية بخطاب الذين آمنوا اللهم إلا أن يكون المراد تحذير المؤمنين من نحو تلك المسائل عن غفلة من مقاصد المستهزئين، كما في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104]، أو أريد بالذين آمنوا الذين أظهروا الإيمان، على أن لهجة الخطاب في الآية خالية عن الإيماء إلى قصد المستهزئين، بخلاف قوله: {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} فقد عقب بقوله: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:104].
وروى الترمذي والدارقطني عن علي بن أبي طالب: "لما نزلت {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]قالوا: "يا رسول الله في كل عام؟"، فسكت، فأعادوا.فقال:"لا، ولو قلت:نعم لوجبت"، فأنزل الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}"
قال: هذا حديث حسن غريب.وروى الطبري قريبا منه عن أبي أمامة وعن ابن عباس.وتأويل هذه الأسانيد أن الآية تليت عند وقوع هذا السؤال وإنما كان نزولها قبل حدوثه فظنها الراوون نزلت حينئذ.وتأويل المعنى على هذا أن الأمة تكون في سعة إذا لم يشرع لها حكم، فيكون الناس في سعة الاجتهاد عند نزول الحادثة بهم بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا سألوا وأجيبوا من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم تعين عليهم العمل بما أجيبوا به.وقد تختلف الأحوال والأعصار فيكونون في حرج إن راموا تغييره؛ فيكون معنى {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} على هذا الوجه أنها تسوء بعضهم أو تسوءهم في بعض الأحوال إذا شقت عليهم.وروى مجاهد عن ابن عباس:نزلت في قوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى.وقال مثله سعيد بن جبير والحسن.
وقوله: {أشياء} تكثير شيء، والشيء هو الموجود، فيصدق بالذات وبحال الذات، وقد سألوا عن أحوال بعض المجهولات أو الضوال أو عن أحكام بعض الأشياء.
و"أشياء"كلمة تدل على جمع"شيء"، والظاهر أنه صيغة جمع لأن زنة شيء"فعل"، و"فعل"إذا كان معتل العين قياس جمعه أفعال مثل بيت وشيخ.فالجاري على متعارف التصريف أن يكون"أشياء"جمعا وأن همزته الأولى همزة مزيدة للجمع.إلا أن"أشياء"ورد في القرآن هنا ممنوعا من الصرف، فتردد أئمة اللغة في تأويل ذلك، وأمثل أقوالهم في ذلك قول الكسائي:"إنه لما كثر استعماله في الكلام أشبه"فعلاء"، فمنعوه من الصرف لهذا الشبه، كما منعوا سراويل من الصرف وهو مفرد لأنه شابه صيغة الجمع مثل مصابيح".
وقال الخليل وسيبويه: "أشياء"اسم جمع"شيء"وليس جمعا، فهو مثل طرفاء وحلفاء فأصله شيئا، فالمدة في آخره مدة تأنيث، فلذلك منع من الصرف، وادعى أنهم صيروه أشياء بقلب مكاني.وحقه أن يقال:شيئاء بوزن"فعلاء"فصار بوزن"لفعاء".
وقوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} صفة {أشياء} ، أي إن تظهر لكم وقد أخفيت عنكم يكن في إظهارها ما يسوءكم، ولما كانت الأشياء المسؤول عنها منها ما إذا ظهر ساء من سأل عنه ومنها ما ليس كذلك، وكانت قبل إظهارها غير متميزة كان السؤال عن مجموعها معرضا للجواب بما بعضه يسوء، فلما كان هذا البعض غير معين للسائلين كان سؤالهم عنها سؤالا عن ما إذا ظهر يسوءهم، فإنهم سألوا في موطن واحد أسئلة منها:ما سرهم جوابه، وهو سؤال عبد الله بن حذافة عن أبيه فأجيب بالذي يصدق نسبه، ومنها ما ساءهم جوابه، وهو سؤال من سأل أين أبي، أو أين أنا فقيل: "له في النار"، فهذا يسوءه لا
محالة.فتبين بهذا أن قوله: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} روعي فيه النهي عن المجموع لكراهية بعض ذلك المجموع.والمقصود من هذا استئناسهم للإعراض عن نحو هذه المسائل، وإلا فإن النهي غير مقيد بحال ما يسوءهم جوابه، بدليل قوله بعده: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} لأن العفو لا يكون إلا عن ذنب وبذلك تعلم أنه لا مفهوم للصفة هنا لتعذر تمييز ما يسوء عما لا يسوء.
وجملة {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} عطف على جملة {لا تَسْأَلوا}، وهي تفيد إباحة السؤال عنها على الجملة لقوله: {وَإِنْ تَسْأَلوا} فجعلهم مخيرين في السؤال عن أمثالها، وأن ترك السؤال هو الأولى لهم، فالانتقال إلى الإذن رخصة وتوسعة، وجاء بـ {إن} للدلالة على أن الأولى ترك السؤال عنها لأن الأصل في"إن"أن تدل على أن الشرط نادر الوقوع أو مرغوب عن وقوعه.
وقوله: {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ} ظرف.يجوز تعلقه بفعل الشرط وهو {تَسْأَلوا} ، ويجوز تعلقه بفعل الجواب وهو {تُبْدَ لَكُمْ} ، وهو أظهر إذ الظاهر أن حين نزول القرآن لم يجعل وقتا لإلقاء الأسئلة بل جعل وقتا للجواب عن الأسئلة.وتقديمه على عامله للاهتمام، والمعنى أنهم لا ينتظرون الجواب عما يسألون عنه إلا بعد نزول القرآن، لقوله تعالى: {قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} إلى قوله ـ {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيّ} [الأنعام:50] فنبههم الله بهذا على أن النبي يتلقى الوحي من علام الغيوب.فمن سأل عن شيء فلينتظر الجواب بعد نزول القرآن، ومن سأل عند نزول القرآن حصل جوابه عقب سؤاله.ووقت نزول القرآن يعرفه من يحضر منهم مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فإن له حالة خاصة تعتري الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفها الناس، كما ورد في حديث يعلى بن أمية في حكم العمرة. ومما يدل لهذا ما وقع في حديث أنس من رواية ابن شهاب في صحيح مسلم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى لهم صلاة الظهر فلما سلم قام على المنبر فذكر الساعة وذكر أن قبلها أمورا عظاما ثم قال:"من أحب أن يسألني عن شيء فليسألني عنه فو الله لا تسألونني عن شيء إلا أخبرتكم به ما دمت في مقامي هذا.ثم قال:لقد عرضت علي الجنة والنار آنفا في عرض هذا الحائط فلم أر كاليوم في الخير والشر" الحديث، فدل ذلك على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذلك الحين في حال نزول وحي عليه". وقد جاء في رواية موسى بن أنس عن أبيه أنس أنه أنزل عليه حينئذ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} الآية.فتلك لا محالة ساعة نزول القرآن واتصال الرسول عليه الصلاة والسلام ـ بعالم
الوحي.
وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} يحتمل أنه تقرير لمضمون قوله: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ}، أي أن الله نهاكم عن المسألة وعفا عنكم أن تسألوا حين ينزل القرآن.وهذا أظهر لعوذ الضمير إلى أقرب مذكور باعتبار تقييده {حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ}. ويحتمل أن يكون إخبارا عن عفوه عما سلف من إكثار المسائل وإحفاء الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لأن ذلك لا يناسب ما يناسب ما يجب من توقيره.
وقوله: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} استئناف بياني جواب سؤال يثيره النهي عن السؤال ثم الإذن فيه في حين ينزل القرآن، أن يقول سائل:إن كان السؤال في وقت نزول القرآن وأن بعض الأسئلة يسوء جوابه قوما، فهل الأولى ترك السؤال أو إلقاؤه.فأجيب بتفصيل أمرها بأن أمثالها قد كانت سببا في كفر قوم قبل المسلمين.
وضمير {سألها} جوز أن يكون عائدا إلى مصدر مأخوذ من الكلام غير مذكور دل عليه فعل {تسألوا}، أي سأل المسألة، فيكون الضمير منصوبا على المفعولية المطلقة.وجرى جمهور المفسرين على تقدير مضاف، أي سأل أمثالها.والمماثلة في ضآلة الجدوى.والأحسن عندي أن يكون ضمير {سألها} عائدا إلى {أشياء}، أي إلى لفظه دون مدلوله.فالتقدير:قد سأل أشياء قوم من قبلكم، وعدي فعل {سأل} إلى الضمير على حذف حرف الجر، وعلى هذا المعنى يكون الكلام على طريقة قريبة من طريقة الاستخدام بل هي أحق من الاستخدام، فإن أصل الضمير أن يعود إلى لفظ باعتبار مدلوله وقد يعود إلى لفظ دون مدلوله، نحو قولك:لك درهم ونصفه، أي نصف درهم لا الدرهم الذي أعطيته إياه.والاستخدام أشد من ذلك لأنه عود الضمير على اللفظ مع مدلول آخر.
و{ثم}في قوله: {ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} للترتيب الرتبي كشأنها في عطف الجمل فإنها لا تفيد فيه تراخي الزمان وإنما تفيد تراخي مضمون الجملة المعطوفة في تصور المتكلم عن تصور مضمون الجملة المعطوف عليها، فتدل على أن الجملة المعطوفة لم يكن يترقب حصول مضمونها حتى فاجأ المتكلم.وقد مرت الإشارة إلى ذلك عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} في سورة البقرة[85].
والباء في قوله: {بها} يجوز أن تكون للسببية، فتتعلق بـ {أصبحوا}، أي كانت تلك المسائل سببا في كفرهم، أي باعتبار ما حصل من جوابها، ويحتمل أن تكون"للتعدية"
تتعلق بـ {كافرين} أي كفروا بها، أي بجوابها بأن لم يصدقوا رسلهم فيما أجابوا به، وعلى هذا الوجه فتقديم المجرور على عامله مفيد للتخصيص، أي ما كفروا إلا بسببها، أي كانوا في منعة من الكفر لولا تلك المسائل، فقد كانوا كالباحث على حتفه بظلفه، فهو تخصيص ادعائي، أو هو تقديم لمجرد الاهتمام للتنبيه على التحذير منها.وفعل {أصبحوا} مستعمل بمعنى صاروا، وهو في هذا الاستعمال مشعر بمصير عاجل لا تريث فيه لأن الصباح أول أوقات الانتشار للأعمال.
والمراد بالقوم بعض الأمم التي كانت قبل الإسلام، سألوا مثل هذه المسائل، فلما أعطوا ما سألوا لم يؤمنوا، مثل ثمود، سألوا صالحا آية، فلما أخرج لهم ناقة من الصخر عقروها، وهذا شأن أهل الضلالة متابعة الهوى فكل ما يأتيهم مما لا يوافق أهواءهم كذبوا به، كما قال الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور:49,48]، وكما وقع لليهود في خبر إسلام عبد الله بن سلام.وقريب مما في هذه الآية ما قدمناه عند تفسير قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} في سورة البقرة[97].فإن اليهود أبغضوا جبريل لأنه أخبر دانيال باقتراب خراب أورشليم، وتعطيل بيت القدس، حسبما في الإصحاح التاسع من كتاب دانيال.وقد سأل اليهود زكرياء وابنه يحيى عن عيسى، وكانا مقدسين عند اليهود، فلما شهدا لعيسى بالنبوءة أبغضهما اليهود وأغروا بهما زوجة هيرودس فحملته على قتلها كما في الإصحاح الرابع من إنجيل متى والإصحاح الثالث من مرقس.
والمقصود من هذا ذم أمثال هذه المسائل بأنها لا تخلو من أن تكون سببا في غم النفس وحشرجة الصدر وسماع ما يكره ممن يحبه.ولولا أن إيمان المؤمنين وازع لهم من الوقوع في أمثال ما وقع فيه قوم من قبلهم لكانت هذه المسائل محرمة عليهم لأنها تكون ذريعة للكفر.
فهذا استقصاء تأويل هذه الآية العجيبة المعاني البليغة العبر الجديرة باستجلائها، فالحمد لله الذي من باستضوائها.
[103] {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
استئناف ابتدائي جاء فارقا بين ما أحدثه أهل الجاهلية من نقائض الحنيفية وبين ما
نوه الله به مما كانوا عليه من شعائر الحج، فإنه لما بين أنه جعل الكعبة قياما للناس وجعل الهدي والقلائد قياما لهم، بين هنا أن أمورا ما جعلها الله ولكن جعلها أهل الضلالة ليميز الخبيث من الطيب، فيكون كالبيان لآية {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ} [المائدة:100]، فإن البحيرة وما عطف عليها هنا تشبه الهدي في أنها تحرر منافعها وذواتها حية لأصنامهم كما تهدى الهدايا للكعبة مذكاة، فكانوا في الجاهلية يزعمون أن الله شرع لهم ذلك ويخلطون ذلك بالهدايا، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} ، وقال في هذه الآية {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} فالتصدي للتفرقة بين الهدى وبين البحيرة والسائبة ونحوهما، كالتصدي لبيان عدم التفرقة بين الطواف وبين السعي للصفا والمروة في قوله: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة:158]كما تقدم هنالك.وقد قدمنا ما رواه مجاهد عن ابن عباس:أن ناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة ونحوهما فنزلت هذه الآية.
ومما يزيدك ثقة بما ذكرته أن الله افتتح هذه الآية بقوله :{مَا جَعَلَ اللَّهُ} لتكون مقابلا لقوله في الآية الأخرى {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ} [المائدة:97]ولولا ما توسط بين الآيتين من الآي الكثيرة لكانت هذه الآية معطوفة على الأولى بحرف العطف إلا أن الفصل هنا كان أوقع ليكون به استقلال الكلام فيفيد مزيد اهتمام بما تضمنه.
والجعل هنا بمعنى الأمر والتشريع، لأن أصل"جعل"إذا تعدى إلى مفعول واحد أن يكون بمعنى الخلق والتكوين، ثم يستعار إلى التقدير والكتب كما في قولهم:فرض عليه جعالة، وهو هنا كذلك فيؤول إلى معنى التقدير والأمر بخلاف ما وقع في قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97]فالمقصود هنا نفي تشريع هذه الأجناس من الحقائق فإنها موجودة في الواقع.فنفي جعلها متعين لأن يكون المراد منه نفي الأمر والتشريع، وهو كناية عن عدم الرضا به والغضب على من جعله، كما يقول الرجل لمن فعل شيئا:ما أمرتك بهذا.فليس المراد إباحته والتخيير في فعله وتركه كما يستفاد من المقام، وذلك مثل قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام:150]فإنه كناية عن الغضب على من حرموه، وليس المراد أن لهم أن يجتنبوه.
وأدخلت"من"الزائدة بعد النفي للتنصيص على أن النفي نفي الجنس لا نفي أفراد معينة، فقد ساوى أن يقال:لا بحيرة ولا سائبة مع قضاء حق المقام من بيان أن هذا ليس من جعل الله وأنه لا يرضى به فهو حرام.
والبحيرة بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة فعيلة بمعنى مفعولة، أي مبحورة، والبحر الشق.يقال:بحر شق.وفي حديث حفر زمزم أن عبد المطلب بحرها بحرا، أي شقها ووسعها.فالبحيرة هي الناقة، كانوا يشقون أذنها بنصفين طولا علامة على تخليتها، أي أنها لا تركب ولا تنحر ولا تمنع عن ماء ولا عن مرعى ولا يجزرونها ويكون لبنها لطواغيتهم، أي أصنامهم، ولا يشرب لبنها إلا ضيف، والظاهر أنه يشربه إذا كانت ضيافة لزيارة الصنم أو إضافة سادنه، فكل حي من أحياء العرب تكون بحائرهم لصنمهم.وقد كانت للقبائل أصنام تدين كل قبيلة لصنم أو أكثر.وإنما يجعلونها بحيرة إذا نتجت 1عشرة أبطن على قول أكثر أهل اللغة.وقيل:إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس ذكرا.وإذا ماتت حتف أنفها حل أكل لحمها للرجال وحرم على النساء.
والسائبة:البعير أو الناقة يجعل نذرا عن شفاء من مرض أو قدوم من سفر، فيقول:"أجعله لله سائبة".فالتاء فيه للمبالغة في الوصف كتاء نسابة، ولذلك يقال:"عبد سائبة"، وهو اسم فاعل بمعنى الانطلاق والإهمال، وقيل:فاعل بمعنى مفعول، أي مسيب.
وحكم السائبة كالبحيرة في تحريم الانتفاع، فيكون ذلك كالعتق وكانوا يدفعونها إلى السدنة ليطعموا من ألبانها أبناء السبيل.وكانت علامتها أن تقطع قطعة من جلدة فقار الظهر، فيقال لها:صريم وجمعه صرم، وإذا ولدت الناقة عشرة أبطن كلهن إناث متتابعة سيبوها أيضا فهي سائبة، وما تلده السائبة يكون بحيرة في قول بعضهم.والظاهر أنه يكون مثلها سائبة.
والوصيلة من الغنم هي الشاة تلد أنثى بعد أنثى، فتسمى الأم وصيلة لأنها وصلت أنثى بأنثى، كذا فسرها مالك في رواية ابن وهب عنه، فعلى هذه الرواية تكون الوصيلة هي المتقرب بها، ويكون تسليط نفي الجعل عليها ظاهرا.وقال الجمهور:"الوصيلة أن تلد الشاة خمسة أبطن أو سبعة"على اختلاف مصطلح القبائل"فالأخير إذا كان ذكرا ذبحوه لبيوت الطواغيت وإن كانت أنثى استحيوها، أي للطواغيت، وإن أتأمت استحيوهما جميعا وقالوا:وصلت الأنثى أخاها فمنعته من الذبح، فعلى هذا التأويل فالوصيلة حالة من حالات نسل الغنم، وهي التي أبطلها الله تعالى، ولم يتعرضوا لبقية أحوال الشاة.والأظهر أن الوصيلة اسم للشاة التي وصلت سبعة أبطن إناثا، جمعا بين تفسير مالك
ـــــــ
1 نتجت مبني لمفعول وهو يتعدى إلى مفعولين؛فأولهما جعل نائب فاعل وثانيهما المنصوب.