كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}.
{اسْتَيْأَسُوا} بمعنى يئسوا فالسين والتاء للتأكيد، ومثلها {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} [سورة يوسف: 34] و {اسْتَعْصَمَ}.
واليأس منه: اليأس من إطلاقة أخاهم، فهو من تعليق الحكم بالذات. والمراد بعض أحوالها بقرينة المقام للمبالغة.
وقرأ الجمهور {اسْتَيْأَسُوا} بتحتية بعد الفوقية وهمزة بعد التحتية على أصل التصريف. وقرأه البزي عن ابن كثير بخلف عنه بألف بعد الفوقية ثم تحتية على اعتبار القلب من المكان ثم إبدال الهمزة.
و {خَلَصُوا} بمعنى اعتزلوا وانفردوا. واصله من الخلوص وهو الصفاء من الأخلاط. ومنه قول عبد الرحمان بن عوف لعمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر حجة حجها حيث عزم عمر رضي الله عنه على أن يخطب في الناس فيحذرهم من قوم يريدون المزاحة في الخلافة بغير حق، قال عبد الرحمان بن عوف - رضي الله عنه -: "يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس فأمهل حتى تقدم المدينة فتخلص بأهل الفقه..."الخ.
والنجي: اسم من المناجاة، وانتصابه على الحال. كان الوصف بالمصدر يلازم الإفراد والتذكير كقوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى}. والمعنى: انفردوا تناجيا.
والتناجي: المحادثة سرا، أي متناجين.
وجملة {قَالَ كَبِيرُهُمْ} بدل جملة {خَلَصُوا نَجِيّاً} وهو بدل اشتمال، لأن المناجاة تشتمل على أقوال كثيرة منها قول كبيرهم هذا، وكبيرهم هو أكبرهم سنا وهو روبين بكر يعقوب - عليه السلام -.
والاستفهام في {أَلَمْ تَعْلَمُوا} تقريري مستعمل في التذكير بعدم اطمئنان أبيهم بحفظهم لابنه.
وجملة {ومن قبل ما فرطتم} جملة معترضة، و {مَا} مصدرية، أي تفريطكم في يوسف - عليه السلام - كان من قبل الموثق، أي فهو غير مصدقكم فيما تخبرون به من اخذ بنيامين في سرقة الصواع. وفرع عليه كبيرهم أنه يبقى في مصر ليكون بقاؤه علامة عند يعقوب - عليه السلام - يعرف بها صدقهم في سبب تخلف بنيامين، إذ لا يرضى لنفسه أن
يبقى غريبا لولا خوفه من أبيه، ولا يرضى بقية أشقائه أن يكيدوا له كما يكيدون لغير الشقيق.
وقوله: {أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي} ترديد بين ما رسمه هو لنفسه وبين ما عسى أن يكون الله قدره له مما لا قبل له بدفعه، فحذف متعلق {يَحْكُمَ} المجرور بالباء لتنزيل فعل {يَحْكُمَ} منزلة ما لا يطلب متعلقا.
واللام للأجل، أي يحكم الله بما فيه نفعي. والمراد بالحكم التقدير.
وجملة {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} تذييل. و {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} إن كان على التعميم فهو الذي حكمه لا جور فيه أو الذي حكمه لا يستطيع أحد نقضه، وإن كان على إرادة وهو خير الحاكمين لي فالخبر مستعمل في الثناء للتعريض بالسؤال أن يقدر له ما فيه رأفة في رد غربته.
وعدم التعرض لقول صدر من بنيامين يدافع به عن نفسه يدل على أنه لازم السكوت لأنه مطالعا على مراد يوسف - عليه السلام - من استبقائه عنده، كما تقدم في قوله: {آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ} [سورة يوسف: 69].
ثم لقنهم كبيرهم ما يقولون لأبيهم. ومعنى {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} احتراس من تحقق كونه سرق، وهو إما لقصد التلطف مع أبيهم في نسبة ابنه إلى السرقة وإما لأنهم علموا من أمانة أخيهم ما خلجهم به الشك في وقوع السرقة منه.
والغيب: الأحوال الغائبة عن المرء. والحفظ: بمعنى العلم.
وسؤال القرية مجاز عن سؤال أهلها. والمراد بها مدينة مصر. والمدينة والقرية مترادفتان. وقد خصت المدينة في العرف بالقرية الكبيرة.
والمراد بالعير التي كانوا فيها رفاقهم في عيرهم القادمين إلى مصر من أرض كنعان، فأما سؤال العير فسهل وأما سؤال القرية فيكون بالإرسال أو المراسلة أو الذهاب بنفسه إن أراد الاستثبات.
[83] {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
جعلت جملة {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} في صورة الجواب عن الكلام الذي لقنه أخوهم
على طريقة الإيجاز. والتقدير: فرجعوا إلى أبيهم فقالوا ذلك الكلام الذي لقنه إياهم "روبين" قال أبوهم: بل سولت... الخ.
وقوله هنا كقوله لهم حين زعموا أن يوسف - عليه السلام - أكله الذئب، فهو تهمة لهم بالتغرير بأخيهم. قال ابن عطية ظن بهم سوءا فصدق ظنه في زعمهم في يوسف - عليه السلام - ولم يتحقق ما ظنه في أمر "بنيامين"، أي أخطأ في ظنه بهم في قضية بنيامين، ومستنده في هذا الظن علمه أن ابنه لا يسرق، فعلم أن في دعوى السرقة مكيدة. فظنه صادق على الجملة لا على التفصيل. وأما تهمته أبناءه بأن يكونوا تمالؤوا على أخيهم بنيامين فهو ظن مستند إلى القياس على ما سبق من أمرهم في قضية يوسف - عليه السلام - فإنه كان قال لهم: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} [سورة يوسف: 64]. ويجوز على النبي الخطأ في الظن في أمور العادات كما جاء في حديث ترك إبار النخل.
ولعله أتهم روبين أن يكون قد اختفى لترويج دعوى إخوته. وضمير {بِهِمْ} ليوسف - عليه السلام - وبنيامين وروبين. وهذا كشف منه إذ لم ييأس من حياة يوسف - عليه السلام -.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} تعليل لرجائه من الله بأن الله عليم فلا تخفى عليه مواقعهم المتفرقة. حكيم فهو قادر على إيجاد أسباب جمعهم بعد التفرق.
[84 - 87] {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ}.
انتقال إلى حكاية حال يعقوب - عليه السلام - في انفراده عن أبنائه ومناجاته نفسه، فالتولي حاصل عقب المحاورة. و {تَوَلَّى}: انصرف، وهو انصراف غضب.
ولما كان التولي يقتضي الاختلاء بنفسه ذكر من أحواله تجدد أسفه على يوسف - عليه السلام - فقال: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ}. والأسف: أشد الحزن، أسف كحزن.
ونداء الأسف مجاز. نزل الأسف منزلة من يعقل فيقول له: احضر فهذا أوان حضورك، وأضاف الأسف إلى ضمير نفسه لأن هذا الأسف جزئي مختص به من بين جزئيات جنس الأسف.
والألف عوض عن ياء المتكلم فإنها في النداء تبدل ألفا.
وإنما ذكر القرآن تحسره على يوسف - عليه السلام - ولم يذكر تحسره على ابنيه الآخرين لأن ذلك التحسر هو الذي يتعلق بهذه القصة فلا يقتضي ذكره أن يعقوب - عليه السلام - لم يتحسر قط إلا على يوسف، مع أن الواو لا تفيد ترتيب الجمل المعطوفة بها.
وكذلك عطف جملة {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} إذ لم يكن ابيضاض عينيه إلا في مدة طويلة. فكل من التولي والتحسر وابيضاض العينين من أحواله إلا أنها مختلفة الأزمان.
وابيضاض العينين: ضعف البصر. وظاهرة أنه تبدل لون سوادهما من الهزال. ولذلك عبر ب {ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ} دون عميت عيناه.
و {مِنَ} في قوله: {مِنَ الْحُزْنِ} سببية. والحزن سبب البكاء الكثير الذي هو سبب ابيضاض العينين. وعندي أن ابيضاض العينين كناية عن عدم الإبصار كما قال الحارث بن حلزة:
قبل ما اليوم بيضت بعيون ... الناس فيها تغيض وإباء
وأن الحزن هو السبب لعدم الإبصار كما هو الظاهر، فإن توالي إحساس الحزن على الدماغ قد أفضى إلى تعطيل عمل عصب الإبصار؛ على أن البكاء من الحزن أمر جبلي فلا يستغرب صدوره من نبي، أو أن التصبر عند المصائب لم يكن من سنة الشريعة الإسرائيلية بل كان من سننهم إظهار الحزن والجزع عند المصائب. وقد حكت التوراة بكاء بني إسرائيل على موسى - عليه السلام - أربعين يوما، وحكت تمزيق بعض الأنبياء ثيابهم من الجزع. وإنما التصبر في المصيبة كمال بلغت إليه الشريعة الإسلامية.
والكظيم: مبالغة للكاظم. والكظم: الإمساك النفساني، أي كاظم للحزن لا يظهره بين الناس، ويبكي في خلوته، أو هو فعيل بمعنى مفعول، أي محزون كقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ}.
وجملة {قَالُوا تَاللَّهِ} محاورة بنيه إياه عندما سمعوا قوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} وقد قالها في خلوته فسمعوها.
والتاء حرف قسم، وهي عوض عن الواو القسم. قال في "الكشاف" في سورة الأنبياء: "التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب". وسلمه في "مغنى اللبيب"، وفسره الطيبي بان المقسم عليه بالتاء يكون نادر الوقوع لأن الشيء المتعجب منه لا يكثر وقوعه ومن ثم قل استعمال التاء إلا مع اسم الجلالة لأن القسم باسم الجلالة أقوى القسم.
وجواب القسم هو {تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} باعتبار ما بعده من الغاية، لأن المقصود من هذا اليمين الإشفاق عليه بأنه صائر إلى الهلاك بسبب عدم تناسيه مصيبة يوسف - عليه السلام - وليس المقصود تحقيق أنه لا ينقطع عن تذكر يوسف. وجواب القسم هنا فيه حرف النفي مقدر بقرينة عدم قرنه بنون التوكيد لأنه لو كان مثبتا لوجب قرنه بنون التوكيد فحذف حرف النفي هنا.
ومعنى {تَفْتَأُ} تفتر. يقال: فتئ من باب علم. إذا فتر عن الشيء. والمعنى: لا تفتر في حال كونك تذكر يوسف. ولملازمة النفي لهذا الفعل ولزوم حال يعقب فاعله صار شبيها بالأفعال الناقصة.
و{حَرَضاً} مصدر هو شدة المرض المشفي على الهلاك، وهو وصف بالمصدر، أي حتى تكون حرضا، أي باليا لا شعور لك. ومقصودهم الإنكار عليه صدا له عن مداومة ذكر يوسف - عليه السلام - على لسانه لأن ذكره باللسان يفضي إلى دوام حضوره في ذهنه.
وفي جعلهم الغاية الحرض أو الهلاك تعريض بأنه يذكر أمرا لا طمع في تداركه، فأجابهم بان ذكره يوسف - عليه السلام - موجه إلى الله دعاء بان يرده عليه. فقوله: {يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} تعريض بدعاء الله أن يزيل أسفه برد يوسف - عليه السلام - إليه لأنه كان يعلم أن يوسف لم يهلك ولكنه بأرض غربة مجهولة، وعلم ذلك بوحي أو بفراسة صادقة وهي المسماة بالإلهام عند الصوفية.
فجملة {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} مفيدة قصر شكواه على التعلق باسم الله، أي يشكو إلى الله لا إلى نفسه ليجدد الحزن، فصارت الشكوى بهذا القصد ضراعة وهي عبادة لأن الدعاء عبادة. وصار ابيضاض عينيه الناشئ عن التذكر الناشئ عن الشكوى
أثرا جسديا ناشئا عن عبادة مثل تفطر أقدام النبي صلى الله عليه وسلم من قيام الليل.
والبث: الهم الشديد، وهو التفكير في الشيء المسيء. والحزن: الأسف على فائت. فبين الهم والحزن العموم والخصوص الوجهي، وقد اجتمعا ليعقوب - عليه السلام - لأنه كان مهتما بالتفكير في مصير يوسف - عليه السلام - وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفا على فراقه.
وقد أعقب كلامه بقوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} لينبههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العالية ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلموه أو يلوموه، أي أنا أعلم من عند الله علمنيه لا تعلمونه وهو علم النبوة. وقد تقدم نظير هذه الجملة في قصة نوح - عليه السلام - من سورة الأعراف فهي من كلام النبوة الأولى. وحكى مثلها عن شعيب - عليه السلام - في سورة الشعراء.
وفي هذا تعريض برد تعريضهم بأنه يطمع في المحال بان ما يحسبونه محالا سيقع.
ثم صرح لهم بشيء مما يعلمه وكاشفهم بما يحقق كذبهم ادعاء ائتكال الذئب يوسف - عليه السلام - حين أذنه الله بذلك عند تقدير انتهاء البلوى فقال: {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ}.
فجملة {يَابَنِيَّ اذْهَبُوا} مستأنفة استئنافا بيانيا، لأن في قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ما يثير في أنفسهم ترقب مكاشفته على كذبهم فإن صاحب الكيد كثير الظنون {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4].
والتحسس بالحاء المهملة: شدة التطلب والتعرف، وهو أعم من التجسس بالجيم فهو التطلب مع اختفاء وتستر.
والروح بفتح الراء: النفس بفتح الفاء استعير لكشف الكرب لأن الكرب والهم يطلق عليهما الغم وضيق النفس وضيق الصدر، بكذلك يطلق التنفس والتروح على ضد ذلك، ومنه استعارة قولهم: تنفس الصبح إذا زالت ظلمة الليل.
وفي خطابهم بوصف البنوة منه ترقيق لهم وتلطف ليكون أبعث على الامتثال.
وجملة {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} تعليل للنهي عن اليأس، فموقع إن التعليل. والمعنى: لا تيأسوا من الظفر بيوسف - عليه السلام - معتلين بطول
مدة البعد التي يبعد معها اللقاء عادة. فإن الله إذا شاء تفريج كربة هيأ لها أسبابها، ومن كان يؤمن بأن الله واسع القدرة لا يحيل مثل ذلك فحقه أن يأخذ في سببه ويعتمد على الله في تيسيره، وأما القوم الكافرون بالله فهم يقتصرون على الأمور الغالبة في العادة وينكرون غيرها.
وقرأ البزي بخلف عنه {وَلا تَيْأَسُوا} وإنه {لا يَيْأَسُ} بتقديم الهمزة على الياء الثانية، وتقدم في قوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ} [سورة يوسف: 80].
[88] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ}.
الفاء عاطفة على كلام مقدر دل عليه المقام، أي فارتحلوا إلى مصر بقصد استطلاق بنيامين من عزيز مصر ثم بالتعرض إلى التحسس من يوسف - عليه السلام - فوصلوا مصر، فدخلوا على يوسف، {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ} الخ... وقد تقدم آنفا وجه دعائهم يوسف - عليه السلام - بوصف العزيز.
وأرادوا بمس الضر إصابته. وقد تقدم إطلاق مس الضر على الإصابة عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ} في سورة الأنعام [17].
والبضاعة تقدمت آنفا. والمزجاة: القليلة التي لا يرغب فيها فكأن صاحبها يزجيها، أي يدفعها بكلفة ليقبلها المدفوعة إليه. والمراد بها مال قليل للامتيار، ولذلك فرع عليه {فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ}. وطلبوا التصدق منه تعريضا بإطلاق أخيهم لأن ذلك فضل منه إذ صار مملوكا له كما تقدم.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} تعليل لاستدعائهم التصدق عليهم.
[89 - 93] {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ}.
الاستفهام مستعمل في التوبيخ.
و {هَلْ} مفيدة للتحقيق لأنها بمعنى {قد} في الاستفهام، فهو توبيخ على ما يعلمونه محققا مع يوسف - عليه السلام - وأخيه، أي أفعالهم الذميمة بقرينة التوبيخ، وهي بالنسبة ليوسف - عليه السلام - واضحة، وأما بالنسبة إلى بنيامين فهي ما كانوا يعاملونه به مع أخيه يوسف - عليه السلام - من الإهانة التي تنافيها الأخوة، ولذلك جعل ذلك الزمن زمن جهالتهم بقوله: {إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ}.
وفيه تعريض بأنهم قد صلح حالهم من بعد، وذلك إما بوحي من الله إن كان صار نبيا أو بالفراسة لأنه لما رآهم حريصين على رغبات أبيهم في طلب فداء "بنيامين" حين أخذ في حكم تهمة السرقة وفي طلب سراحه في هذا الموقف مع الإلحاح في ذلك وكان يعرف منهم معاكسة أبيهم في شأن بنيامين علم أنهم ثابوا إلى صلاح.
وإنما كاشفهم بحاله الآن لأن الاطلاع حاله يقتضي استجلاب أبيه وأهله إلى السكنى بأرض ولايته، وذلك كان متوقفا على أشياء لعلها لم تتهيأ إلا حينئذ. وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ} [سورة يوسف: 79] فقد صار يوسف - عليه السلام - جد مكين عند فرعون.
وفي الإصحاح "45" من سفر التكوين أن يوسف - عليه السلام - قال لإخوته حينئذ "وهو أي الله قد جعلني أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلطا على كل أرض مصر". فالظاهر أن الملك الذي أطلق يوسف - عليه السلام - من السجن وجعله عزيز مصر قد توفي وخلفه ابن له فحجبه يوسف - عليه السلام - وصار للملك الشاب بمنزلة الأب، وصار متصرفا بما يريد، فرأى الحال مساعدا لجلب عشيرته إلى أرض مصر.
ولا تعرف أسماء ملوك مصر في هذا الزمن الذي كان فيه يوسف - عليه السلام - لأن المملكة أيامئذ كانت منقسمة إلى مملكتين: إحداهما ملوكها من القبط وهم الملوك الذين يقسمهم المؤرخون الإفرنج إلى العائلات الخامسة عشرة، والسادسة عشرة، والسابعة عشرة، وبعض الثامنة عشرة.
والمملكة الثانية ملوكها من الهكسوس. ويقال لهم: العمالقة أو الرعاة وهم عرب.
ودام هذا الانقسام خمسمائة سنة وإحدى عشرة سنة "2214" قبل المسيح إلى سنة "1703" قبل المسيح.
وقولهم: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} يدل على أنهم استشعروا من كلامه ثم من ملامحه ثم من تفهم قول أبيهم لهم {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} إذ قد اتضح لهم المعنى التعريضي من كلامه فعرفوا أنه يتكلم مريدا نفسه.
وتأكيد الجملة ب {إِنَّ} ولام الابتداء وضمير الفصل لشدة تحققهم أنه يوسف - عليه السلام -.
وأدخل الاستفهام التقريري على الجملة المؤكدة لأنهم تطلبوا تأييده لعلمهم به.
وقرأ ابن كثير {إِنَّكَ} بغير استفهام على الخبرية، والمراد لازم فائدة الخبر، أي عرفناك. ألا ترى أن جوابه ب {أَنَا يُوسُفُ} مجرد عن التأكيد لأنهم كانوا متحققين ذلك فلم يبق إلا تأييده لذلك.
وقوله: {وَهَذَا أَخِي} خبر مستعمل في التعجيب من جمع الله بينهما بعد طول الفرقة، فجملة {قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بيان للمقصود من جملة {وَهَذَا أَخِي}.
وجملة {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} تعليل لجملة {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا}. فيوسف - عليه السلام - اتقى الله وصبر وبينيامين صبر ولم يعص الله فكان تقيا. أراد يوسف - عليه السلام - تعليمهم وسائل التعرض إلى نعم الله تعالى، وحثهم على التقوى والتخلق بالصبر تعريضا بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم.
وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة، وهي فرصة تأثر السامع وانفعاله وظهور شواهد صدق الواعظ في موعظته.
وذكر المحسنين وضع للظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال: فإن الله لا يضيع أجرهم. فعدل عنه إلى المحسنين للدلالة على أن ذلك من الإحسان، وللتعميم في الحكم ليكون كالتذييل، ويدخل في عمومه هو وأخوه.
ثم إن هذا في مقام التحدث بالنعمة وإظهار الموعظة سائغ للأنبياء لأنه من التبليغ كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إني لأتقاكم لله وأعلمكم به".
والإيثار: التفضيل بالعطاء. وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبته، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك لأن يوسف - عليه السلام - يعلمه. والمراد: الإيثار في الدنيا بما أعطاه الله من النعم.
واعترفوا بذنبهم إذ قالوا {وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ}. والخاطئ: فاعل الخطيئة، أي الجريمة، فنفعت فيهم الموعظة.
ولذلك أعلمهم بأن الذنب قد غفر فرفع عنهم الذم فقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ}.
والتثريب: التوبيخ والتقريع. والظاهر أن منتهى الجملة هو قوله: {عَلَيْكُمُ} ، لأن مثل هذا الق ول مما يجري مجرى المثل فيبنى على الاختصار فيكتفي ب{لا تَثْرِيبَ} مثل قولهم: لا باس، وقوله تعالى: {لا وَزَرَ} [سورة القيامة: 11].
وزيادة {عَلَيْكُمُ} للتأكيد مثل زيادة لك بعد "سقيا ورعيا"، فلا يكون قوله: {الْيَوْمَ} من تمام الجملة ولكنه متعلق بفعل {يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ}.
وأعقب ذلك بأن أعلمهم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة لأنها ساعة توبة، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم.
وأطلق {الْيَوْمَ} على الزمن، وقد مضى عند قوله تعالى: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} في أول سورة العقود [3].
وقوله: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا} يدل على أنه أعطاهم قميصا، فلعله جعل قميصه علامة لأبيه على حياته، ولعل ذلك كان مصطلحا عليه بينهما. وكان للعائلات في النظام القديم علامات يصطلحون عليها ويحتفظون بها لتكون وسائل للتعارف بينهم عند الفتن والاغتراب، إذ كانت تعتريهم حوادث الفقد والفراق بالغزو والغارات وقطع الطريق، وتلك العلامات من لباس ومن كلمات يتعارفون بها وهي الشعار، ومن علامات في البدن وشامات.
وفائدة إرساله إلى أبيه القميص أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر. ولقصد تعجيل المسرة له.
والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف - عليه السلام - بجلبه فإن قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصا ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم، فجعل يوسف - عليه السلام - إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف - عليه السلام - بخبر صدق.
ومن البعيد ما قيل: إن القميص كان قميص إبراهيم - عليه السلام - مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب.
وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب.
وأما كونه يصير بصيرا فحصل ليوسف - عليه السلام - بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين. ولعل يوسف - عليه السلام - نبئ ساعتئذ.
وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجا بليغا إذ قال: {يَأْتِ بَصِيراً} ثم قال: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} لقصد صلة أرحام عشيرته. قال المفسرون: وكانت عشيرة يعقوب - عليه السلام - ستا وسبعين نفسا بين رجال ونساء.
[94] [95] {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
{وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً}.
التقدير: فخرجوا وارتحلوا في عير.
ومعنى {فَصَلَتِ} ابتعدت عن المكان، كما تقدم في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ} في سورة البقرة[249].
والعير تقدم آنفا، وهي العير التي أقبلوا فيها من فلسطين.
ووجدان يعقوب ريح يوسف - عليه السلام - إلهام خارق للعادة جعله الله بشارة له إذ ذكره بشمة الريح الذي ضمخ به يوسف - عليه السلام - حين خروجه مع إخوته وهذا من صنف الوحي بدون كلام ملك مرسل، وهو داخل في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}. [سورة الشورى: 51]
والريح: الرائحة، وهي ما يعبق من طيب تدركه حاسة الشم.
وأكد هذا الخبر ب {إِنَّ} واللام لأنه مظنة الإنكار ولذلك أعقبه ب {لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ}.
وجواب {لَوْلا} محذوف دل عليه التأكيد، أي لولا أن تفندوني لتحققتم ذلك.
والتفنيد: النسبة للفند بفتحتين، وهو اختلال العقل من الخوف.
وحذفت ياء المتكلم تخفيفا بعد نون الوقاية وبقيت الكسرة.
والذين قالوا: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} هم الحاضرون من أهله ولم يسبق ذكرهم لظهور المراد منهم وليسوا أبناءه لأنهم كانوا سائرين في طريقهم إليه.
والضلال: البعد عن الطريق الموصلة. والظرفية مجاز في قوة الاتصاف والتلبس وانه المظروف بالظرف. والمعنى: أنك مستمر في التلبس بتطلب شيء من غير طريقة. أرادوا طمعه في لقاء يوسف - عليه السلام - ووصفوا ذلك بالقديم لطول مدته، وكانت مدة غيبه يوسف عن أبيه عليهما السلام اثنين وعشرين سنة. وكان خطابهم إياه بهذا مشتملا على شيء من الخشونة إذ لم يكن أدب عشيرته منافيا لذلك في عرفهم.
و {أَنْ} في قوله: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} مزيدة للتأكيد. ووقوع أن بعد لما التوقيتية كثير من الكلام كما في مغني اللبيب.
وفائدة التأكيد في هذه الآية تحقيق هذه الكرامة الحاصلة ليعقوب - عليه السلام - لأنها خارق عادة، ولذلك لم يؤت ب {أَنْ} في نظائر هذه الآية مما لم يكن فيه داع للتأكيد.
والبشير: فعيل بمعنى مفعل، أي المبشر، مثل السميع في قول عمرو بن معد يكرب:
أمن ريحانة الداعي السميع
والتبشير: المبادرة بإبلاغ الخبر المسر بقصد إدخال السور. وتقدم عند قوله تعالى: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ} في سورة براءة [21]. وهذا البشير هو يهوذا بن يعقوب - عليه السلام - تقدم بين يدي العير ليكون أول من يخبر أباه بخبر يوسف - عليه السلام -.
وارتد: رجع، وهو افتعال مطاوع رده، أي رد الله إليه قوة بصره كرامة له وليوسف عليهما السلام وخارقة للعادة. وقد أشرت إلى ذلك عند قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ} [سورة يوسف: 84].
{قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
جواب للبشارة لأنها تضمنت القول. ولذلك جاء فعل {قَالَ} مفصولا غير معطوف لأنه على طريقة المحاورات، وكان بقية أبنائه قد دخلوا فخاطبهم بقوله: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} فبين لهم مجمل كلامه الذي أجابهم به حين قالوا: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} [سورة يوسف: 85] الخ.
وقولهم: {اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} توبة واعتراف بالذنب، فسألوا أباهم أن يطلب لهم المغفرة من الله. وإنما وعدهم بالاستغفار في المستقبل إذ قال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي} للدلالة على أنه يلازم الاستغفار لهم في أزمنة المستقبل. ويعلم منه أنه استغفر لهم في الحال بدلالة الفحوى، ولكنه أراد أن ينبههم إلى عظم الذنب وعظمة الله تعالى وأنه سيكرر الاستغفار لهم في أزمنة مستقبلة. وقيل: أخر الاستغفار لهم إلى ساعة هي مظنة الإجابة. وعن ابن عباس مرفوعا أنه أخر إلى ليلة الجمعة، رواه الطبري. وقال ابن كثير: في رفعة نظر.
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} في موضع التعليل لجملة {أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي}. وأكد بضمير الفصل لتقوية الخبر.
[99، 100] {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}.
طوى ذكر سفرهم من بلادهم إلى دخولهم على يوسف - عليه السلام - إذ ليس فيه من العبر شيء.
وأبواه أحدهما يعقوب - عليه السلام - وأما الآخر فالصحيح أن أم يوسف - عليه السلام - وهي "راحيل" توفيت قبل ذلك حين ولدت بنيامين، ولذلك قال جمهور المفسرين: أطلق الأبوان على الأب وزوج الأب وهي "ليئة" خالة يوسف - عليه السلام - وهي التي تولت تربيته على طريقة التغليب والتنزيل.
وإعادة اسم يوسف - عليه السلام - لأجل بعد المعاد.
وقوله: {ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} جملة دعائية بقرينة قوله: {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} لكونهم قد دخلوا مصر حينئذ. فالأمر في {ادْخُلُوا} للدعاء كالذي في قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ} [سورة الأعراف: 49].
والمقصود: تقييد الدخول ب {آمِنِينَ} وهو مناط الدعاء.
والأمن: حالة اطمئنان النفس وراحة البال وانتفاء الخوف من كل ما يخاف منه، وهو يجمع جميع الأحوال الصالحة للإنسان من الصحة والرزق ونحو ذلك، ولذلك قالوا في دعوة إبراهيم - عليه السلام - {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} إنه جمع في هذه الجملة جميع ما يطلب لخير البلد.
وجملة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} تأدب مع الله كالاحتراس في الدعاء الوارد بصيغة الأمر وهو لمجرد التيمن، فوقوعه في الوعد والعزم والدعاء بمنزلة وقوع التسمية في أول الكلام وليس هو من الاستثناء الوارد النهي عنه في الحديث: أن لا يقول اغفر لي إن شئت، فإنه لا مكره له لأن ذلك في الدعاء المخاطب به الله صراحة. وجملة {إِنْ شَاءَ اللَّهُ} معترضة بين جملة {ادْخُلُوا} والحال من ضميرها.
والعرش: سرير للقعود فيكون مرتفعا على سوق، وفيه سعة تمكن الجالس من الاتكاء. والسجود: وضع الجبهة على الأرض تعظيما للذات او لصورتها أو لذكرها، قال الأعشى:
فلما أتانا بعيد الكرى ... سجدنا له ورفعنا العمارا"1"
وفعله قاصر فيعدى إلى مفعوله باللام كما في الآية.
والخرور: الهوي والسقوط من علو إلى الأرض.
والذين خروا سجدا هم أبواه وإخوته كما يدل له قوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} وهم أحد عشر وهم:رأوبين، وسمعون، ولاوي، ويهوذا، ويساكر، وربولون، وجاد، وأشير،
ـــــــ
(1) العمار – بفتح العين المهملة وتخفيف الميم – هو الريحان أو الآس كانوا يحملونه عند تحية الملوك قال النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب
ودان، ونفتالي، وبنيامين، و {الشَّمْسَ} ، و {الْقَمَرَ} ، تعبيرهما أبواه يعقوب - عليه السلام - وراحيل.
وكان السجود تحية الملوك وأضرابهم، ولم يكن يومئذ ممنوعا في الشرائع وإنما منعه الإسلام لغير الله تحقيقا لمعنى مساواة الناس في العبودية والمخلوقية. ولذلك فلا يعد قبوله السجود من أبيه عقوقا لأنه لا غضاضة عليهما منه إذ هو عادتهم.
والأحسن أن تكون جملة {وَخَرُّوا} حالية لأن التحية كانت قبل أن يرفع أبويه على العرش، على أن الواو لا تفيد ترتيبا.
و {سُجَّداً} حال مبينة لأن الخرور يقع بكيفيات كثيرة.
والإشارة في قوله: {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ} إشارة إلى سجود أبويه وإخوته له هو مصداق رؤياه الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا سجدا له.
وتأويل الرؤيا تقدم عند قوله: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ} [سورة يوسف: 36].
ومعنى {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} أنها كانت من الأخبار الرمزية التي يكاشف بها العقل الحوادث المغيبة عن الحس، أي ولم يجعلها باطلا من أضعاث الأحلام الناشئة عن غلبة الأخلاط الغذائية أو الانحرافات الدماغية.
ومعنى {أَحْسَنَ بِي} أحسن إلي. يقال: أحسن به وأحسن إليه، من غير تضمين معنى فعل آخر. وقيل: هو بتضمين أحسن معنى لطف. وباء {بِي} للملابسة أي جعل إحسانه ملابسا لي، وخص من إحسان الله إليه دون مطلق الحضور للامتياز أو الزيادة إحسانين هما يوم أخرجه من السجن ومجيء عشيرته من البادية.
فإن {إذ} ظرف زمان لفعل {أَحْسَنَ} فهي بإضافتها إلى ذلك الفعل اقتضت وقوع إحسان غير معدود، فإن ذلك الوقت كان زمن ثبوت براءته من الإثم الذي رمته به امرأة العزيز وتلك منة، وزمن خلاصه من السجن فإن السجن عذاب النفس بالانفصال عن الأصدقاء والأحبة، وبخلطه من لا يشاكلونه، وبشغله عن خلوة نفسه بتلقي الآداب الإلهية، وكان أيضا زمن إقبال الملك عليه. وأما مجيء أهله فزوال ألم نفساني بوحشته في الانفراد عن قرابته وشوقه إلى لقائهم، فأفصح بذكر خروجه من السجن، ومجيء أهله من البدو إلى حيث هو مكين قوي.
وأشار إلى مصائبه السابقة من الإبقاء في الجب، ومشاهدة مكر إخوته به بقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}، فكلمة {بَعْدِ} اقتضت أن ذلك شيء انقضى أثره. وقد ألم به إجمالا اقتصارا على شكر النعمة وإعراضا عن التذكير بتلك الحوادث المكدرة للصلة بينه وبين إخوته فمر بها مر الكرام وباعدها عنهم بقدر الإمكان إذ ناطها بنزغ الشيطان.
والمجيء في قوله: {وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ} نعمة، فأسنده إلى الله تعالى وهو مجيئهم بقصد الاستيطان حيث هو.
والبدو: ضد الحضر، سمي بدوا لأن سكانه بادون، أي ظاهرون لكل وارد، إذ لا تحجبهم جدران ولا تغلق عليهم أبواب. وذكر {مِنَ الْبَدْوِ} إظهار لتمام النعمة، لأن انتقال أهل البادية إلى المدينة ارتقاء في الحضارة.
والنزغ: مجاز في إدخال الفساد في النفس. شبه بنزغ الراكب الدابة وهو نخسها. وتقدم عند قوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ} في سورة الأعراف[200].
وجملة {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} مستأنفة استئنافا ابتدائيا لقصد الاهتمام بها وتعليم مضمونها.
واللطف: تدبير الملائم. وهو يتعدى باللام على تقدير لطيف لأجل ما يشاء اللطف به، ويتعدى بالباء قال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [سورة الشورى: 19]. وقد تقدم تحقيق معنى اللطف عند قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} في سورة الأنعام[103].
وجملة {إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} مستأنفة أيضا أو تعليل لجملة {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ}. وحرف التوكيد للاهتمام. وتوسيط ضمير الفصل للتقوية.
وتفسير {الْعَلِيمُ} تقدم عند قوله تعالى: {إِنََّكَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} في سورة البقرة[32]. و {الْحَكِيمُ} تقدم عند قوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أواسط سورة البقرة[209].
[101] {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}.
أعقب ذكر نعمة الله عليه بتوجهه إلى مناجاة ربه بالاعتراف بأعظم نعم الدنيا والنعمة
العظمى في الآخرة، فذكر ثلاث نعم: اثنتان دنيويتان وهما: نعمة الولاية على الأرض ونعمة العلم، والثالثة أخروية وهي نعمة الدين الحق المعبر عنه بالإسلام - وجعل الذي أوتيه بعضا من الملك ومن التأويل لأن ما أوتيه بعض من جنس الملك وبعض من التأويل إشعارا بأن ذلك في جانب ملك الله وفي جانب علمه شيء قليل. وعلى هذا يكون المراد بالملك التصرف العظيم الشبيه بتصرف الملك إذ كان يوسف - عليه السلام - هو الذي يسير الملك برأيه. ويجوز أن يراد بالملك حقيقته ويكون التبعيض حقيقيا، أي آتيتني بعض الملك لأن الملك مجموع تصرفات في أمر الرعية، وكان ليوسف - عليه السلام - من ذلك الحظ الأوفر، وكذلك تأويل الأحاديث.
وتقدم معنى تأويل الأحاديث عند قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} [سورة يوسف: 6] في هذه السورة.
و {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} نداء محذوف حرف ندائه. والفاطر: الخالق. وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} في سورة الأنعام[14].
والولي: الناصر، وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} في سورة الأنعام.
وجملة {أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} من قبيل الخبر في إنشاء الدعاء وإن أمكن حمله على الإخبار بالنسبة لولاية الدنيا، قيل لإثباته ذلك الشيء لولاية الآخرة. فالمعنى: كن وليي في الدنيا والآخرة.
وأشار بقوله: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} إلى النعمة العظمى وهي نعمة الدين الحق، فإن طلب توفيه على الدين الحق يقتضي أنه متصف بالدين الحق المعبر عنه بالإسلام من الآن، فهو يسأل الدوام عليه إلى الوفاة.
والمسلم: الذي اتصف بالإسلام، وهو الدين الكامل، وهو ما تعبد الله به الأنبياء والرسل عليهم السلام. وقد تقدم عند قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في سورة آل عمران [102].
والإلحاق: حقيقته جعل الشيء لاحقا، أي مدركا من سبقه في السير. وأطلق هنا مجازا على المزيد في عداد قوم.
والصالحون: المتصفون بالصلاح، وهو التزام الطاعة. وأراد بهم الأنبياء. فإن كان يوسف - عليه السلام - يومئذ نبيا فدعاؤه لطلب الدوام على ذلك، وإن كان نبئ فيما بعد فهو دعاء بحصوله، وقد صار نبيا بعد ورسولا.
[102] {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ}.
تذييل للقصة عند انتهائها. والإشارة إلى ما ذكر من الحوادث، أي ذلك المذكور.
واسم الإشارة لتمييز الأنباء أكمل تمييز لتتمكن من عقول السامعين لما فيها من المواعظ.
والغيب: ما غاب عن علم الناس، وأصله مصدر غاب فسمي به الشيء الذي لا يشاهد. وتذكير ضمير {نُوحِيهِ} لأجل مراعاة اسم الإشارة.
وضمائر {لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} عائدة إلى كل من صدر منه ذلك في هذه القصة من الرجال والنساء على طريقة التغليب، يشمل إخوة يوسف - عليه السلام - والسيارة، وامرأة العزيز، ونسوتها.
و {أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ} تفسيره مثل قوله: {وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ} [سورة يوسف: 15].
والمكر تقدم، وهذه الجملة استخلاص لمواضع العبرة من القصة. وفيها منة على النبي صلى الله عليه وسلم، وتعريض للمشركين بتنبيههم لإعجاز القرآن من الجانب العلمي، فإن صدور ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم الأمي آية كبرى على أنه وحي من الله تعالى. ولذلك عقب بقوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وكان في قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} توركا على المشركين. وجملة {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} في موضع الحال إذ هي تمام التعجيب.
وجملة {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} حال من ضمير {أَجْمَعُوا} ، وأتي {يَمْكُرُونَ} بصيغة المضارع لاستحضار الحالة العجيبة.
[103، 104] {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ
مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}.
انتقال من سوق هذه القصة إلى العبرة بتصميم المشركين على التكذيب بعد هذه الدلائل البينة، فالواو للعطف على جملة {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف:102] باعتبار إفادتها أن هذا القرآن وحي من الله وأنه حقيق بأن يكون داعيا سامعيه إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم. ولما كان ذلك من شأنه أن يكون مطعما في إيمانهم عقب بإعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأن أكثرهم لا يؤمنون.
و {النَّاسِ} يجوز حمله على جميع جنس الناس، ويجوز أن يراد به ناس معينون وهم القوم الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم بمكة وما حولها، فيكون عموما عرفيا.
وجملة {وَلَوْ حَرَصْتَ} في موضع الحال معترضة بين اسم {مَا} وخبرها.
{وَلَوْ} هذه وصلية، وهي التي تفيد أن شرطها هو أقصى الأسباب لجوابها. وقد تقدم بيانها عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا ولو افتدى به} في سورة آل عمران[91].
وجواب {لَوْ} هو {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} مقدم عليها أو دليل الجواب.
والحرص: شدة الطلب لتحصيل شيء ومعاودته. وتقدم في قوله تعالى: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} في آخر سورة براءة[128].
وجملة {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} معطوفة على جملة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} إلى آخرها باعتبار ما أفادته من التأييس من إيمان أكثرهم، أي لا يسوءك عدم إيمانهم فلست تبتغي أن يكون إيمانهم جزاء على التبليغ بل إيمانهم لفائدتهم، كقوله: {قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [سورة الحجرات: 17].
وضمير الجمع في قوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ} عائد إلى الناس، أي الذين أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} بمنزلة التعليل لجملة {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}. والقصر إضافي، أي ما هو إلا ذكر للعالمين لا لتحصيل أجر مبلغه.
وضمير {عَلَيْهِ} عائد إلى القرآن المعلوم من قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف: 102].
[105، 106] {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}.
عطف على جملة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}، أي ليس إعراضهم عن آية حصول العلم للأمي بما في الكتب السالفة فحسب بل هم معرضون عن آيات كثيرة في السماوات والأرض.
و {كَأَيِّنْ} اسم يدل على كثرة العدد المبهم يبينه تمييز مجرور ب {مِنْ}. وقد تقدم عند قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في سورة آل عمران [146].
والآية: العلامة. والمراد هنا الدالة على وحدانية الله تعالى بقرينة ذكر الإشراك بعدها.
ومعنى {يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} يرونها، والمرور مجاز مكنى به عن التحقق والمشاهدة إذ لا يصح حمل المرور على المعنى الحقيقي بالنسبة لآيات السماوات، فالمرور هنا كالذي في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان: 72].
وضمير {يمرون} عائد إلى الناس من قوله تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.
وجملة {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ} في موضع الحال من ضمير {يَمُرُّونَ} أي وما يؤمن أكثر الناس إلا وهم مشركون. والمراد ب {أَكْثَرُ النَّاسِ} أهل الشرك من العرب. وهذا إبطال لما يزعمونه من الاعتراف بأن الله خالقهم كما في قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} ، وبأن إيمانهم بالله كالعدم لأنهم لا يؤمنون بوجود الله إلا في تشريكهم معه غيره في الإلهية.
والاستثناء من عموم الأحوال، فجملة {وَهُمْ مُشْرِكُونَ} حال من {أَكْثَرُهُمْ}. والمقصود من هذا تشنيع حالهم. والأظهر أن يكون هذا من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده على وجه التهكم. وإسناد هذا الحكم إلى {أَكْثَرُهُمْ} باعتبار أكثر أحوالهم وأقوالهم لأنهم قد تصدر عنهم أقوال خلية عن ذكر الشريك. وليس المراد أن بعضا منهم يؤمن بالله غير مشرك معه إلها آخر.
[107] {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ
لا يَشْعُرُونَ}.
اعتراض بالتفريع على ما دلت عليه الجملتان قبله من تفظيع حالهم وجرأتهم على خالقهم والاستمرار على ذلك دون إقلاع. فكأنهم في إعراضهم عن توقع حصول غضب الله بهم آمنون أن تأتيهم غاشية من عذابه في الدنيا أو تأتيهم الساعة بغتة فتحول بينهم وبين التوبة ويصيرون إلى العذاب الخالد.
والاستفهام مستعمل في التوبيخ.
والغشي والغشيان: الإحاطة من كل جانب {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} [سورة لقمان: 32]. وتقدم في قوله تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في سورة الأعراف [54].
والغاشية: الحادثة التي تحيط بالناس. والعرب يؤنثون هذه الحوادث مثل الطامة والصاخة والداهية والمصيبة والكارثة والحادثة والواقعة والحاقة.
والبغتة: الفجأة. وتقدمت عند قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} في آخر سورة الأنعام [31].
[108] {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
استئناف ابتدائي للانتقال من الاعتبار بدلالة نزول هذه القصة للنبي صلى الله عليه وسلم الأمي على صدق نبوءته وصدقه فيما جاء به من التوحيد إلى الاعتبار بجميع ما جاء به من هذه الشريعة عن الله تعالى، وهو المعبر عنه بالسبيل على وجه الاستعارة لإبلاغها إلى المطلوب وهو الفوز الخالد كإبلاغ الطريق إلى المكان المقصود للسائر. وهي استعارة متكررة في القرآن وفي كلام العرب.
والسبيل يؤنث كما في هذه الآية، ويذكر أيضا كما تقدم عند قوله تعالى: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} في سورة الأعراف [146].
والجملة استئناف ابتدائي معترضة بين الجمل المتعاطفة.
والإشارة إلى الشريعة بتنزيل المعقول منزلة المحسوس لبلوغه من الوضوح للعقول حدا لا يخفى فيه إلا عمن لا يعد مدركا.
وما في جملة {هَذِهِ سَبِيلِي} من الإبهام قد فسرته جملة {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ}.
و {عَلَى} فيه للاستعلاء المجازي المراد به التمكن, مثل {على هدى من ربهم}.
والبصيرة: فعلية بمعنى فاعلة، وهي الحجة الواضحة، والمعنى: أدعو إلى الله ببصيرة متمكنا منها. ووصف الحجة ببصيرة مجاز عقلي. والبصير: صاحب الحجة لأنه بها صار بصيرا بالحقيقة. ومثله وصف الآية بمبصرة في قوله: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [سورة النمل: 13]. وبعكسه يوسف الخفاء بالعمى كقوله: {وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} [سورة هود: 28].
وضمير {أَنَا} تأكيد للضمير المستتر في {أَدْعُو}. أتي به لتحسين العطف بقوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِي}. وهو تحسين واجب في اللغة.
وفي الآية دلالة على أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين آمنوا به مأمورون بأن يدعوا إلى الإيمان بما يستطيعون. وقد قاموا بذلك بوسائل بث القرآن وأركان الإسلام والجهاد في سبيل الله. وقد كانت الدعوة إلى الإسلام في صدر زمان البعثة المحمدية واجبا على الأعيان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عني ولو آية" أي بقدر الاستطاعة. ثم لما ظهر الإسلام وبلغت دعوته الأسماع صارت الدعوة إليه واجبا على الكفاية كما دل عليه قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} الآية في سورة آل عمران [104].
وعطفت جملة {وَسُبْحَانَ اللَّهِ} على جملة {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} ، أي أدعو إلى الله وأنزهه.
وسبحان: مصدر التسبيح جاء بدلا عن الفعل للمبالغة. والتقدير: وأسبح الله سبحانا، أي أدعو الناس إلى توحيده وطاعته وأنزهه عن النقائص التي يشرك بها المشركون من ادعاء الشركاء، والولد، والصاحبة.
وجملة {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} بمنزلة التذييل لما قبلها لأنها تعم ما تضمنته.
[109، 110] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ}.
عطف على جملة {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ} [سورة يوسف: 103] الخ. هاتان الآيتان متصل معناهما بما تضمنه قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف: 102] إلى قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} الآية [سورة يوسف: 108]، فإن تلك الآي تضمنت الحجة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به، وضمنت أن الذين أشركوا غير مصدقينه عنادا وإعراضا عن آيات الصدق. فالمعنى أن إرسال الرسل عليهم السلام سنة إلهية قديمة فلماذا يجعل المشركون نبوءتك أمرا مستحيلا فلا يصدقون بها مع ما قارنها من آيات الصدق فيقولون: {أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً}. وهل كان الرسل عليهم السلام السابقون إلا رجالا من أهل القرى أوحى الله إليهم فبماذا امتازوا عليك. فسلم المشركون ببعثتهم وتحدثوا بقصصهم وأنكروا نبوءتك.
وراء هذا معنى آخر من التذكير باستواء أحوال الرسل عليهم السلام وما لقوه من أقوامهم فهو وعيد باستواء العاقبة للفريقين.
و{مِنْ قَبْلِكَ} يتعلق ب {أَرْسَلْنَا} ف"مِنْ" لابتداء الأزمنة فصار ما صدق القبل الأزمنة السابقة. أي من أول أزمنة الإرسال. ولولا وجود من لكان {قَبْلِكَ} في معنى الصفة للمرسلين المدلول عليهم بفعل الإرسال.
والرجال: اسم جنس جامد لا مفهوم له. وأطلق هنا مرادا به أناسا كقوله - صلى الله عليه وسلم - "ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه". أي إنسان أو شخص. فليس المراد الاحتراز عن المرأة. واختير هنا دون غيره لمطابقته الواقع فإن الله لم يرسل رسلا من النساء لحكمة قبول قيادتهم في نفوس الأقوام إذ المرأة مستضعفة عند الرجال دون العكس، ألا ترى إلى قول قيس بن عاصم حين تنبأت سجاح:
أضحت نبيئتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وليس تخصيص الرجال وأنهم من أهل القرى لقصد الاحتراز عن النساء ومن أهل البادية ولكنه لبيان المماثلة بين من سلموا برسالتهم وبين محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] و {قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى} [القصص: 48], أي فما كان محمد صلى الله عليه وسلم بدعا من الرسل حتى تبادروا بإنكار رسالته وتعرضوا عن النظر في آياته.
فالقصر إضافي، أي لم يكن الرسل عليهم السلام قبلك ملائكة أو ملوكا من
ملوك المدن الكبيرة فلا دلالة في الآية على نفي إرسال رسول من أهل البادية مثل خالد بن سنان العبسي، ويعقوب - عليه السلام - حين كان ساكنا في البدو كما تقدم.
وقرأ الجمهور {يُوحَى} بتحية وبفتح الحاء مبنيا للنائب. وقرأه حفص بنون على أنه مبني للفاعل والنون نون العظمة.
وتفريع قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ} على ما دلت عليه جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} من الأسوة، أي فكذبهم أقوامهم من قبل قومك مثل ما كذبك قومك وكانت عاقبتهم العقاب، أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف مان عاقبة الأقوام السابقين، أي فينظروا آثار آخر أحوالهم من الهلاك والعذاب فيعلم قومك أن عاقبتهم على قياس عاقبة الذين كذبوا الرسل قبلهم، فضمير {يَسِيرُوا} عائد على معلوم من المقام الدال عليه {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [سورة يوسف: 108].
والاستفهام إنكاري، فإن مجموع المتحدث عنهم ساروا في الأرض فرأوا عاقبة المكذبين مثل عاد وثمود.
وهذا التفريع اعتراض بالوعيد والتهديد.
و {كَيْفَ } استفهام معلق لفعل النظر عن مفعوله.
وجملة {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} خبر، معطوفة على الاعتراض فلها حكمه، وهو اعتراض بالتبشير وحسن العاقبة للرسل عليهم السلام ومن آمن بهم وهم الذين اتقوا، وهو تعريض بسلامة عاقبة المتقين في الدنيا، وتعريض أيضا بأن دار الآخرة أشد أيضا على الذين من قبلهم من العاقبة التي كانت في الدنيا فحصل إيجاز بحذف جملتين.
وإضافة {دَارُ} إلى {آخرة} من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل "يا نساء المسلمات" في الحديث.
وقرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمر، وحفص عن عاصم، وأبو جعفر، ويعقوب {أَفَلا تَعْقِلُونَ} بتاء الخطاب على الالتفات، لأن المعاندين لما جرى ذكرهم وتكرر صاروا كالحاضرين فالتفت إليهم بالخطاب. وقرأه الباقون بياء الغيبة على نسق ما قبله.
و {حتى} من قوله: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} ابتدائية، وهي عاطفة جملة {إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ} على جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} باعتبار أنها
حجة على المكذبين، فتقدير المعنى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا يوحى إليهم فكذبهم المرسل إليهم واستمروا على التكذيب حتى إذا استيئس الرسل إلى آخره، فإن {إِذَا} اسم زمان مضمن معنى الشرط فهو يلزم الإضافة إلى جملة تبين الزمان، وجملة {اسْتَيْأَسَ} مضاف إليها {إِذَا} ، وجملة {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} جواب {إِذَا} لأن هذا الترتيب في المعنى هو المقصود من جلب {إِذَا} في مثل هذا التركيب. والمراد بالرسل عليهم السلام غير المراد ب {رِجَالاً} ، فالتعريف في الرسل عليهم السلام تعريف العهد الذكري وهو من الإظهار في مقام الإضمار لإعطاء الكلام استقلالا بالدلالة اهتماما بالجملة.
وآذن حرف الغاية بمعنى محذوف دل عليه جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً} بما قصد بها من معنى قصد الإسوة بسلفه من الرسل عليهم السلام. والمعنى: فدام تكذيبهم وإعراضهم وتأخر تحقيق ما أنذروهم به من العذاب حتى اطمأنوا بالسلامة وسخروا بالرسل وأيس الرسل عليهم السلام من إيمان قومهم.
و {اسْتَيْأَسَ} مبالغة في يئس، كما تقدم آنفا في قوله: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [سورة يوسف: 87].
وتقدم أيضا قراءة البزي بخلاف عنه بتقديم الهمزة على الياء. فهذه أربع كلمات في هذه السورة خالف فيها البزي رواية عنه.
وفي "صحيح البخاري" عن عروة أنه سأل عائشة رضي الله عنها: "أكذبوا أم كذبوا "أي بالخفيف أم بالشد"، قالت: كذبوا أي بالشد قال: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فما هو بالظن فهي قد كذبوا أي بالتخفيف، قالت: معاذ الله لم يكن الرسل عليهم السلام تظن ذلك بربها وإنما هم أتباع الذين آمنوا وصدقوا فطال عليهم البلاء واستأخر النصر حتى إذا استيأس الرسل عليهم السلام من إيمان من كذبهم من قومهم، وظنت الرسل عليهم السلام أن أتباعهم مكذبوهم" اه. وهذا الكلام من عائشة رضي الله عنها رأي لها في التفسير وإنكارها أن تكون {كُذِبُوا} مخففة إنكار يستند بما يبدو من عود الضمائر إلى أقرب مذكور وهو الرسل، وذلك ليس بمتعين، ولم تكن عائشة قد بلغتها رواية {كُذِبُوا} بالتخفيف.
وتفريع {فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ} على {جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} لأن نصر الرسل عليهم السلام هو تأييدهم بعقاب الذين كذبوهم بنزول العذاب وهو البأس، فينجي الله الذين آمنوا ولا يرد البأس عن القوم المجرمين.
والبأس: هو عذاب المجرمين الذي هو نصر الرسل عليهم السلام. والقوم المجرمون: الذين كذبوا الرسل.
وقرأ الجمهور {فَنُجِّيَ} بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء مضارع أنجى. و {مَنْ نَشَاءُ} مفعول {نُجِّيَ}. وقرأه ابن عامر وعاصم {فَنُجِّيَ} بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم مكسورة وفتح التحتية على أنه ماضي نجى المضاعف بني للنائب، وعليه ف {مَنْ نَشَاءُ} هو نائب الفاعل، والجمع بين الماضي في "نجّي" والمضارع في {نَشَاءُ} احتباك تقديره فنجي من شئنا ممن نجا في القرون السالفة وننجي من نشاء في المستقبل من المكذبين.
[111] {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.
هذا من رد العجز على الصدر فهي مرتبطة بجملة {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} [سورة يوسف: 102] وهي تتنزل منها منزلة البيان لما تضمنه معنى الإشارة في قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ} من التعجيب، وما تضمنه معنى {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ} من الاستدلال على أنه وحي من الله مع دلالة الأمية.
وهي أيضا تتنزل منزلة التذييل للجمل المستطرد بها لقصد الاعتبار بالقصة ابتداء من قوله: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [سورة يوسف: 103].
فلها مواقع ثلاثة عجيبة من النظم المعجز.
وتأكيد الجملة ب"قد" واللام للتحقيق.
وأولو الألباب: أصحاب العقول. وتقدم في قوله: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} في أواسط سورة البقرة [197].
والعبرة: اسم مصدر للاعتبار، وهو التوصل بمعرفة المشاهد المعلوم إلى معرفة الغائب. وتطلق العبرة على ما يحصل به الاعتبار المذكور من إطلاق المصدر على المفعول كما هنا. ومعنى كون العبرة في قصصهم أنها مظروفة فيه ظرفية مجازية، وهي ظرفية المدلول في الدليل فهي قارة في قصصهم سواء اعتبر بها من وفق للاعتبار أم لم يعتبر لها
بعض الناس.
وجملة {مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى} إلى آخرها تعليل لجملة {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ}، أي لأن ذلك القصص خبر صدق مطابق للواقع وما هو بقصة مخترعة. ووجه التعليل أن الاعتبار بالقصة لا يحصل إلا إذا كانت خبرا عن أمر وقع، لأن ترتب الآثار على الواقعات ترتب طبيعي فمن شانها أن تترتب أمثالها على أمثالها كلما حصلت في الواقع، ولأن حصولها ممكن إذ الخارج لا يقع فيه المحال ولا النادر وذلك بخلاف القصص الموضوعة بالخيال والتكاذيب فإنها لا يحصل بها اعتبار لاستبعاد السامع وقوعها لأن أمثالها لا يعهد، مثل مبالغات الخرافات وأحاديث الجن والغول عند العرب وقصة رستم وأسفنديار عند العجم، فالسامع يتلقاها تلقي الفكاهات والخبالات اللذيذة ولا يتهيأ للاعتبار بها إلا على سبيل الفرص والاحتمال وذلك لا تحتفظ به النفوس.
وهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى في أول السورة {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [سورة يوسف: 3] فكما سماه الله أحسن القصص في أول السورة نفى عنه الافتراء في هذه الآية تعريضا بالنضر ابن الحارث وأضرابه.
والافتراء تقدم في قوله: {وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} في سورة العقود [103].
و {الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} : الكتب الإلهية السابقة. وضمير بين {يَدَيْهِ} عائد إلى القرآن الذي من جملته هذه القصص.
والتفصيل: التبيين. والمراد ب {كُلِّ شَيْءٍ} الأشياء الكثيرة مما يرجع إلى الاعتبار بالقصص.
وإطلاق الكل على الكثرة مضى عند قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها} في سورة الأنعام [31].
والهدى الذي في القصص: العبر الباعثة على الإيمان والتقوى بمشاهدة ما جاء من الأدلة في أثناء القصص على أن المتصرف هو الله تعالى، وعلى أن التقوى هي أساس الخير في الدنيا والآخرة، وكذلك الرحمة فإن في قصص أهل الفضل دلالة على رحمة الله لهم وعنايته بهم، وذلك رحمة للمؤمنين لأنهم باعتبارهم بها يأتون ويذرون، فتصلح
أحوالهم ويكونون في اطمئنان بال، وذلك رحمة من الله بهم في حياتهم وسبب لرحمته إياهم في الآخرة كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الرعدهكذا سميت من عهد السلف. وذلك يدل على أنها مسماة بذلك من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يختلفوا في اسمها.
وإنما سميت بإضافتها إلى الرعد لورود ذكر الرعد فيها بقوله تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} [سورة الرعد: 13]. فسميت بالرعد لأن الرعد لم يذكر في سورة مثل هذه السورة، فإن هذه السورة مكية كلها أو معظمها. وإنما ذكر الرعد في سورة البقرة وهي نزلت بالمدينة وإذا كانت آيات {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [سورة الرعد: 12] مما نزل بالمدينة، كما سيأتي تعين أن ذلك نزل قبل نزول سورة البقرة.
وهذه السورة مكية في قول مجاهد وروايته عن ابن عباس ورواية علي بن أبي طلحة وسعيد بن جبير عنه وهو قول قتادة. وعن أبي بشر قال: سألت سعيد ابن جبير عن قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} أي في آخر سورة الرعد [43] أهو عبد الله بن سلام? فقال: كيف وهذه سورة مكية، وعن ابن جريج وقتادة في رواية عنه وعن ابن عباس أيضا: أنها مدنية، وهو عن عكرمة والحسن البصري، وعن عطاء عن ابن عباس. وجمع السيوطي وغيره بين الروايات بأنها مكية إلا آيات منها نزلت بالمدينة يعني قوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} إلى قوله: {شَدِيدُ الْمِحَالِ} وقوله: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [سورة الرعد: 43]. قال ابن عطيه: والظاهر أن المدني فيها كثير، وكل ما نزل في شأن عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة فهو مدني.
وأقول أشبه آياتها بأن يكون مدنيا قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [سورة الرعد: 41] كما ستعلمه، وقوله تعالى: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} – إلى -
{وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [سورة الرعد: 30]، فقد قال مقاتل وابن جريج: نزلت في صلح الحديبية كما سيأتي عند تفسيرها.
ومعانيها جارية على أسلوب معاني القرآن المكي من الاستدلال على الوحدانية وتفريع المشركين وتهديدهم. والأسباب التي أثارت القول بأنها مدنية أخبار واهية، وسنذكرها في مواضعها من هذا التفسير ولا مانع من أن تكون مكية. ومن آياتها نزلت بالمدينة وألحقت بها، فإن ذلك في بعض سور القرآن، فالذين قالوا: هي مكية لم يذكروا موقعها من ترتيب المكيات سوى أنهم ذكروها بعد سورة يوسف وذكروا بعدها سورة إبراهيم.
والذين جعلوها مدنية عدوها في النزول بعد سورة القتال وقبل سورة الرحمان وعدوها سابعة وتسعين في عداد النزول. وإذ قد كانت سورة القتال نزلت عام الحديبية أو عام الفتح تكون سورة الرعد بعدها.
وعدت آياتها ثلاثا وأربعين من الكوفيين وأربعا وأربعين في عدد المدنيين وخمسا وأربعين عند الشام.
مقاصدها
أقيمت هذه السورة على أساس إثبات صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أوحي إليه من إفراد الله بالإلهية والبعث وإبطال أقوال المكذبين فلذلك تكررت حكاية أقوالهم خمس مرات موزعة على السورة بدءا ونهاية.
ومهد لذلك بالتنويه بالقرآن وأنه منزل من الله، والاستدلال على تفرده تعالى بالإلهية بدلائل خلق العالمين ونظامهما الدال على انفراده بتمام العلم والقدرة وإدماج الامتنان لما في ذلك من النعم على الناس.
ثم انتقل إلى أقوال أهل الشرك ومزاعمهم في إنكار البعث.
وتهديدهم أن يحل بهم ما حل بأمثالهم.
والتذكير بنعم الله على الناس.
وإثبات أن الله هو المستحق للعبادة دون آلهتهم.
وأن الله العالم بالخفايا وأن الأصنام لا تعلم شيئا ولا تنعم بنعمة.
والتهديد بالحوادث الجوية أن يكون منها عذاب للمكذبين كما حل بالأمم قبلهم.
والتخويف من يوم الجزاء.
والتذكير بأن الدنيا ليست دار قرار.
وبيان مكابرة المشركين في اقتراحهم مجيء الآيات على نحو مقترحاتهم.
ومقابلة ذلك بيقين المؤمنين. وما أعد الله لهم من الخير.
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لقي من قومه إلا كما لقي الرسل عليهم السلام من قبله.
والثناء على فريق من أهل الكتب يؤمنون بأن القرآن منزل من عند الله.
والإشارة إلى حقيقة القدر ومظاهر المحو والإثبات.
وما تخلل ذلك من المواعظ والعبر والأمثال.
{ألمر} تقدم الكلام على نظائر {ألمر} مما وقع في أوائل بعض السور من الحروف المقطعة [1] {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}.
القول في {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} كالقول في نظيره من طالعة سورة يونس.
والمشار إليه ب {تِلْكَ} هو ما سبق نزوله من القرآن قبل هذه الآية أخبر عنها بأنها آيات، أي دلائل إعجاز، ولذلك أشير إليه باسم إشارة المؤنث مراعاة لتأنيث الخبر.
وقوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} يجوز أن يكون عطفا على جملة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} فيكون قوله: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إظهارا في مقام الإضمار. ولم يكتف بعطف خبر على خبر اسم الإشارة بل جيء بجملة كاملة مبتدئة بالموصول للتعريف بأن آيات الكتاب منزلة من عند الله لأنها لما تقرر أنها آيات استلزم ذلك أنها منزلة من عند الله ولولا أنها كذلك لما كانت آيات.
وأخبر عن الذي أنزل بأنه الحق بصيغة القصر، أي هو الحق لا غيره من الكتب، فالقصر إضافي بالنسبة إلى كتب معلومة عندهم مثل قصة رستم وإسفنديار اللتين عرفهما النضر ابن الحارث. فالمقصود الرد على المشركين الذين زعموه كأساطير الأولين، أو القصر حقيقي ادعائي مبالغة لعدم الاعتداد بغيره من الكتب السابقة، أي هو الحق الكامل، لأن غيره من الكتب لم يستكمل منتهى مراد الله من الناس إذ كانت درجات موصلة إلى الدرجة العليا، فلذلك ما جاء منها كتاب إلا ونسخ العمل به أو عين لأمة خاصة {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}.
ويجوز أن يكون عطف مفرد على قوله: {الْكِتَابِ} مفرد، من باب عطف الصفة على الاسم، مثل ما أنشد الفراء:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة بالمزدحم
والإتيان ب {رَبِّكَ} دون اسم الجلالة للتلطف. والاستدراك بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} راجع إلى ما أفاده القصر من إبطال مساواة غيره له في الحقية إبطالا يقتضي ارتفاع النزاع في أحقيته، أي ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بما دلت الأدلة على الإيمان به، فمن أجل هذا الخلق الذميم فيهم يستمر النزاع منهم في كونه حقا.
وابتداء السورة بهذا تنويه بما في القرآن الذي هذه السورة جزء منه مقصود به تهيئة السامع للتأمل مما سيرد عليه من الكلام.
[2] {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً}.
استئناف ابتدائي هو ابتداء المقصود من السورة وما قبله بمنزلة الديباجة من الخطبة، ولذا تجد الكلام في هذا الغرض قد طال واطرد.
ومناسبة هذا الاستئناف لقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} لأن أصل كفرهم بالقرآن ناشئ عن تمسكهم بالكفر وعن تطبعهم بالاستكبار والإعراض عن دعوة الحق.
والافتتاح باسم الجلالة دون الضمير الذي يعود إلى {رَبِّكَ} [سورة الرعد: 1] لأنه معين به لا يشتبه غيره من آلهتهم ليكون الخبر المقصود جاريا على معين لا يحتمل غيره إبلاغا في قطع شائبة الإشراك.
و {الَّذِي رَفَعَ} هو الخبر. وجعل اسم موصول لكون الصلة معلومة الدلالة على أن من تثبت له هو المتوحد بالربوبية إذ لا يستطيع مثل تلك الصلة غير المتوحد ولأنه مسلم له ذلك {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [سورة لقمان: 25].
والسماوات تقدمت مرارا، وهي الكواكب السيارة وطبقات الجو التي تسبح فيها.
ورفعها: خلقها مرتفعة، كما يقال: وسع طوق الجبة وضيق كمها، لا تريد وسعه بعد أن كان ضيقا ولا ضيقة بعد أن كان واسعا وإنما يراد اجعله واسعا واجعله ضيقا، فليس المراد أنه رفعها وبعد أن كانت منخفضة.
والعمد: جمع عماد، مثل إهاب وأهب، والعامد: ما تقام عليه القبة والبيت. وجملة {تَرَوْنَهَا} في موضع الحال من {السَّمَاوَاتِ} ، أي لا شبهة في كونها بغير عمد.
والقول في معنى {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في سورة الأعراف وفي سورة يونس.
وكذلك الكلام على {سَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} في قوله تعالى: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} في سورة الأعراف[54].
والجري: السير السريع. وسير الشمس والقمر والنجوم في مسافات شاسعة، فهو أسرع التنقلات في بابها وذلك سيرها في مداراتها.
واللام للعلة. والأجل: هو المدة التي تقدرها الله لدوام سيرها، وهي مدة بقاء النظام الشمسي الذي إذا اختل انتثرت العوالم وقامت القيامة.
والمسمى: أصله المعروف باسمه، وهو هنا كناية عن المعين المحدد إذ التسمية تستلزم التعيين والتمييز عن الاختلاط.
[2] {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ}.
جملة {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في موضع الحال من اسم الجلالة. وجملة {يُفَصِّلُ الْآياتِ} حال ثانية ترك عطفها على التي قبلها لتكون على أسلوب التعداد والتوقيف وذلك اهتمام باستقلالها. وتقدم القول على {يُفَصِّلُ الْآياتِ} عند قوله: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} في سورة يونس[3].
وتفصيل الآيات تقدم عند قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} في طالعة سورة هود [1].
ووجه الجمع بينهما هنا أن تدبير الأمر يشمل تقدير الخلق الأول والثاني فهو إشارة إلى التصرف بالتكوين للعقول والعوالم، وتفصيل الآيات مشير إلى التصرف بالإقامة الأدلة والبراهين، وشأن مجموع المرين أن يفيد اهتداء الناس إلى اليقين بأن بعد هذه الحياة حياة أخرى، لأن النظر بالعقل في المصنوعات وتدبيرها يهدي إلى ذلك، وتفصيل الآيات والأدلة ينبه العقول ويعينها على ذلك الاهتداء ويقربه. وهذا قريب من قوله في سورة يونس {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [سورة يونس: 3]. وهذا من إدماج غرض في أثناء غرض آخر لأن الكلام جار على إثبات الوحدانية. وفي أدلة الوحدانية دلالة على البعث أيضا.
وصيغ {يُدَبِّرُ} و {يُفَصِّلُ} بالمضارع عكس قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} لأن التدبير والتفصيل متجدد متكرر بتجدد تعلق القدرة بالمقدورات. وأما رفع السماوات وتسخير الشمس والقمر فقد تم واستقر دفعة واحدة.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}.
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}.
عطف على جملة {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} فبين الجملتين شبه التضاد اشتملت الأولى على ذكر العالم العلوية وأحوالها، واشتملت الثانية على ذكر العوالم السفلية. والمعنى: أنه خالق جميع العوالم وأعراضها.
والمد: البسط والسعة، ومنه: ظل مديد. ومنه مد البحر وجزره، ومد يده إذا بسطها. والمعنى: خلق الأرض ممدودة متسعة للسير والزرع لأنه لو خلقها أسنمة من حجر أو جبالا شاهقة متلاصقة لما تيسر للأحياء التي عليها الانتفاع بها والسير من مكان إلى آخر في طلب الرزق وغيره. وليس المراد أنها كانت غير ممدودة فمدها بل هو كقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ}. فهذه خلقة دالة على القدرة وعلى اللطف بعباده فهي آية ومنة.
والرواسي: جمع راس. وهو الثابت المستقر، أي جبالا رواسي. وقد حذف موصوفه لظهوره فهو كقوله: {وَلَهُ الْجَوَارِ} ، أي السفن الجارية. وسيأتي في قوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} في سورة النحل[15] بأبسط مما هنا.
وجيء في جمع راس بوزن فواعل لأن الموصوف به غير عاقل، ووزن فواعل يطرد فيما مفرده صفة لغير عاقل مثل: صاهل وبازل.
والاستدلال بخلق الجبال عل عظيم القدرة لما في خلقها من العظمة المشاهدة بخلاف خلقة المعادن والتراب فهي خفية، كما قال تعالى: {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [سورة الغاشية: 19].
والأنهار: جمع نهر، وهو الوادي العظيم. وتقدم في سورة البقرة {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ}. [249]
وقوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} عطف على {أَنْهَاراً} فهو معمول ل {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ}. ودخول {من} على {كل} جرى على الاستعمال العربي في ذكر أجناس غير العاقل كقوله: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}. و {من} هذه تحمل على التبعيض لأن حقائق الأجناس لا تنحصر والموجود منها ما هو إلا بعض جزئيات الماهية لأن منها جزئيات انقضت ومنها جزئيات ستوجد.
والمراد ب {الثَّمَرَاتِ} هي وأشجارها. وإنما ذكرت {الثَّمَرَاتِ} لأنها موقع منة مع العبرة كقوله: {فأخرجنا به من كل الثمرات} [سورة الأعراف: 57]. فينبغي الوقف على {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ، وبذلك انتهى تعداد المخلوقات المتصلة بالأرض. وهذا أحسن تفسيرا. ويعضده نظيره في قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} في سورة النحل[11].
وقيل إن قوله: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ابتداء كلام.
وتتعلق {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} ب {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}. وبهذا فسر أكثر المفسرين. ويبعده أنه لا نكتة في تقديم الجار والمجرور على عامله على ذلك التقدير. لأن جميع المذكور محل اهتمام فلا خصوصية للثمرات هنا، ولأن الثمرات لا يتحقق فيها وجود أزواج ولا كون الزوجين اثنين. وأيضا فيه فوات المنة يخلق الحيوان وتناسله مع أن منه معظم نفعهم ومعاشهم. ومما يقرب ذلك قوله تعالى في نحو هذا المعنى {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً} [النبأ: 6-8]. والمعروف أن الزوجين هما الذكر والأنثى قال تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [سورة القيامة: 39].
والظاهر أن جملة {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ} مستأنفة للاهتمام بهذا الجنس من
المخلوقات وهو جنس الحيوان المخلوق صنفين ذكرا وأنثى أحدهما زوج مع الآخر، وشاع إطلاق الزوج على الذكر والأنثى من الحيوان كما تقدم في قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة[35]، وقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} في أول سورة النساء [1]، وقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ}. وأما قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] فذلك إطلاق الزوج على الصنف بناء على شيوع إطلاقه على صنف الذكر وصنف الأنثى فأطلق مجازا على مطلق صنف من غير ما يتصف بالذكورة والأنوثة بعلاقة الإطلاق، والقرينة قوله: {أَنْبَتْنَا} مع عدم التثنية، كذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} في سورة طه [53].
وتنكير {زَوْجَيْنِ} للتنويع، أي جعل زوجين من كل نوع. ومعنى التثنية في زوجين أن كل فرد من الزوج يطلق عليه زوج كما تقدم في قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} الآية في سورة الأنعام [143].
والوصف بقوله: {اثْنَيْنِ} للتأكد تحقيقا للامتنان.
[3] {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. جملة {يُغْشِي} حال من ضمير {جعل}. وجيء فيه بالمضارع لما يدل عليه من التجدد لأن جعل الأشياء المتقدم ذكرها جعل ثابت مستمر، وأما إغشاء الليل والنهار فهو أمر متجدد كل يوم وليلة. وهذا استدلال بأعراض أحوال الأرض. وذكره مع آيات العالم السفلي في غاية الدقة العلمية لأن الليل والنهار من أعراض الكرة الأرضية بحسب اتجاهها إلى الشمس وليسا من أحوال السماوات إذ الشمس والكواكب لا يتغير حالها بضياء وظلمة.
وتقدم الكلام على نظير قوله: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} في أوائل سورة الأعراف[54].
وقرأ الجمهور بسكون الغين وتخفيف الشين مضارع أغشى. وقرأه حمزة والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، ويعقوب، وخلف بتشديد الشين مضارع غشى.
وقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} الإشارة إلى ما تقدم {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] إلى هنا بتأويل المذكور.
وجعل الأشياء المذكورات ظروفا ل {آياتٍ} لأن كل واحدة من الأمور المذكورة
تتضمن آيات عظيمة يجلوها النظر الصحيح والتفكير المجرد عن الأوهام. ولذلك أجرى صفة التفكير على لفظ قوم إشارة إلى أن التفكير المتكرر المتجدد هو صفة راسخة فيهم بحيث جعلت من مقومات قوميتهم، أي جبلتهم كما بيناه في دلالة لفظ {قَوْمٍ} على ذلك عند قوله تعالى: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} في سورة البقرة [164].
وفي هذا إيماء إلى أن الذين نسبوا أنفسهم إلى التفكير من الطبائعيين فعللوا صدور الموجودات عن المادة ونفوا الفاعل المختار ما فكروا إلا تفكيرا قاصرا مخلوطا بالأوهام ليس ما تقتضيه جبلة العقل إذ اشتبهت عليهم العلل والمواليد بأصل الخلق والإيجاد.
وجيء في التفكير بالصيغة الدالة على التكلف وبصيغة المضارع للإشارة إلى تفكير شديد ومكرر.
والتفكير تقدم عند قوله تعالى: {أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ} في سورة الأنعام [50].
[4] {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.
لله بلاغة القرآن في تغيير الأسلوب عند الانتقال إلى ذكر النعم الدالة على قدرة الله تعالى فيما ألهم الناس من العمل في الأرض بفلحها وزرعها وغرسها والقيام عليها، فجاء ذلك معطوفا على الأشياء التي أسند جعلها إلى الله تعالى، ولكنه لم يسند إلى الله حتى بلغ إلى قوله: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}، لأن ذلك بأسرار أودعها الله تعالى فيها هي موجب تفاضلها. وأمثال هذه العبر، ولفت النظر مما انفرد به القرآن من بين سائر الكتب.
وأعيد اسم {الْأَرْضِ} الظاهر دون ضميرها الذي هو المقتضى ليستقل الكلام ويتجدد الأسلوب، وأصل انتظام الكلام أن يقال: جعل فيها زوجين اثنين، وفيها قطع متجاوزات، فعدل إلى هذا توضيحا وإيجازا.
والقطع: جمع قطعة بكسر القاف، وهي الجزء من الشيء تشبيها لها بما يقتطع. وليس وصف القطع متجاورات مقصودا بالذات في هذا المقام إذ ليس هو محل العبرة بالآيات، بل المقصود وصف محذوف دل عليه السياق تقديره؛ مختلفات الألوان
والمنابت، كما دل عليه قوله تعالى: {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ}.
وإنما وصفت متجاورات لأن اختلاف الألوان والمنابت مع التجاوز أشد دلالة على القدرة العظيمة، وهذا كقوله تعالى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [سورة فاطر: 27].
فمعنى {قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متلاصقة.
والاقتصار على ذكر الأرض وقطعها يشير إلى اختلاف حاصل فيها عن غير صنع الناس وذلك اختلاف المراعي والكلأ. ومجرد ذكر القطع كاف في ذلك فأحالهم على المشاهدة المعروفة من اختلاف منابت قطع الأرض من الأب والكلأ وهي مراعي أنعامهم ودوابهم، ولذلك لم يقع التعرض هنا لاختلاف أكله إذ لا مذاق للآدمي فيه ولكنه يختلف شره بعض الحيوانات على بعضه دون بعض.
وتقدم الكلام على {وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} عند قوله تعالى: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ} [الأنعام: 99].
والزرع تقدم في قوله: {وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} [الأنعام: 141].
والنخيل: اسم نخلة مثل النخل، وتقدم في ذلك الآية، وكلاهما في سورة الأنعام.
والزرع يكون في الجنات يزرع بين أشجارها.
وقرأ الجمهور {وزرع النخيل} بالجر عطفا على {أَعْنَابٍ} ، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفا على {جَنَّاتٍ}. والمعنى واحد لأن الزرع الذي في الجنات مساو للذي في غيرها فاكتفى به قضاء لحق الإيجاز. وكذلك على قراءة الرفع هو يغني عن ذكر الزرع الذي في الجنات، والنخل لا يكون إلا في جنات.
وصنوان: جمع صنو بكسر الصاد في الأفصح فيهما وهي لغة الحجاز، وبضمها فيها أيضا وهي لغة تميم وقيس. والصنو: النخلة المجتمعة مع نخلة أخرى نابتتين في أصل واحد أو نخلات. صنو والمثنى صنوان بدون تنوين، والجمع صنوان بالتنوين جمع تكسير. وهذه الزنة نادرة في صيغ أو الجموع في العربية لم يحفظ منها إلا خمسة جموع: صنو وصنوان، وقنو وقنوان، وزيد بمعنى مثل وزيدان، وشقد "بذال
معجمة اسم الحرباء" وشقذان، وحش "معنى بستان" وحشان.
وخص النخل بذكر صفة صنوان لأن العبرة بها أقوى. ووجه زيادة {وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} تجديد العبرة باختلاف الأحوال.
وقرأ الجمهور {صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} بجر {صِنْوَانٍ} وجر {غير} عطفا على {زرع} وقرأهما ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص، ويعقوب بالرفع عطفا على {وَجَنَّاتٍ}.
والسقي: إعطاء المشروب. والمراد بالماء هنا ماء المطر وماء الأنهار وهو واحد بالنسبة للمسقي ببعضه.
والتفضيل: منه الأفضل وعبرة به وبضده وكناية عن الاختلاف.
وقرأ الجمهور {تُسْقَى} بفوقية اعتبارا بجمع {جَنَّاتٍ} ، وقرأه ابن عامر، وعاصم، ويعقوب {يُسْقَى} بتحتية على تأويل المذكور.
وقرأ الجمهور {وَنُفَضِّلُ} بنون العظمة، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف {وَيُفَضِّلُ} بتحتية. والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ}. وتأنيث {بَعْضَهَا} عند من قرأ {يُسْقَى} بتحتية دون أن يقول بعضه لأنه أريد يفضل بعض الجنات على بعض الثمرة.
والأكل: بضم الهمزة وسكون الكاف وهو المأكول. ويجوز في اللغة ضم الكاف.
وظرفية التفضيل في {الْأُكُلِ} ظرفية في معنى الملابسة لأن التفاضل يظهر بالمأكول، أي نفضل بعض الجنات على بعض أو بعض الأعناب والزرع والنخيل على بعض من جنسه بما يثمره. والمعنى أن اختلاف طعومه وتفاضلها مع كون الأصل واحد والغذاء بالماء واحد ما هو إلا لقوى خفية أودعها الله فيها فجاءت آثارها مختلفة.
ومن ثم جاءت جملة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} مجيء التذييل.
وإشارة قوله: {ذَلِكَ} إلى جميع المذكور من قوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [سورة الرعد: 3] وقد جعل جميع المذكور بمنزلة الظرف للآيات. وجعلت دلالته على انفراده تعالى بالإلهية دلالات كثيرة إذ في كل شيء منها آية تدل على ذلك.
ووصفت الآيات بأنها من اختصاص الذين يعقلون تعريضا بأن من لم تقنعهم تلك
الآيات منزلون منزلة من لا يعقل. وزيد في الدلالة على أن العقل سجية للذين انتفعوا بتلك الآيات بإجراء وصف العقل على كلمة قوم إيماء إلى أن العقل من مقومات قوميتهم كما بيناه في الآية قبلها.
[5] {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
عطف على جملة {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [الرعد: 2] فلما قضي حق الاستدلال على الوحدانية نقل الكلام إلى الرد على منكري البعث وهو غرض مستقل مقصود من هذه السورة. وقد ادمج ابتداء خلال الاستدلال على الوحدانية بقوله: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد: 2] تمهيدا لما هنا، ثم نقل الكلام إليه باستقلاله بمناسبة التدليل على عظيم القدرة مستخرجا من الأدلة السابقة عليه أيضا كقوله: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} فصيغ بصيغة التعجيب من إنكار منكري البعث لأن الأدلة السالفة لم تبق عذرا لهم في ذلك فصار في إنكارهم محل عجب المتعجب.
فليس المقصود من الشرط في مثل هذا تعليق حصول مضمون جواب الشرط على حصول فعل الشرط كما شأن الشروط لأن قولهم {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً} عجبا أمر ثابت سواء عجب من المتعجب أم لم يعجب، ولكن المقصود أنه إن كان اتصاف بتعجب فقولهم ذلك هو أسبق من كل عجب لكل متعجب، ولذلك فالخطاب يجوز أن يكون موجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو المناسب بما وقع بعده من قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} [الرعد: 6] وما بعده من الخطاب الذي لا يصلح لغير النبي صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون الخطاب هنا لغير معين مثل {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [السجدة: 12].
والفعل الواقع في سياق الشرط لا يقصد تعلقه بمعمول معين فلا يقدر: إن تعجب من قول أو إن تعجب من إنكار، بل ينزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدر له مفعول. والتقدير: إن يكن منك تعجب فاعجب من قولهم الخ...
على أن وقوع الفعل في سياق الشرط يشبه وقوعه في سياق النفي فيكون لعموم
المفاعيل في المقام الخطابي، أي إن تعجب من شيء فعجب قولهم. ويجوز أن تكون جملة {وَإِنْ تَعْجَبْ} الخ عطفا على جملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ}. فالتقدير: إن تعجب من عدم إيمانهم بأن القرآن منزل من الله، فعجب إنكارهم البعث.
وفائدة هذا هو التشويق لمعرفة المتعجب منه تهويلا له أو نحوه، ولذلك فالتنكير في قوله: {فَعَجَبٌ} للتنوع لأن المقصود أن قولهم ذلك صالح للتعجيب منه، ثم هو يفيد معنى التعظيم في بابه تبعا لما أفاده التعليق بالشرط من التشويق.
والاستفهام في {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً} إنكاري، لأنهم موقنون بأنهم لا يكونون في خلق جديد بعد أن يكونوا ترابا. والقول المحكي عنهم هو في معنى الاستفهام عن مجموع أمرين وهما كونهم: ترابا، وتجديد خلقهم ثانية. والمقصود من ذلك العجب والإحالة.
وقرأ الجمهور {أَإِذَا كُنَّا} بهمزة استفهام في أوله قبل همزة {إذا}. وقرأه ابن عامر بحذف همزة الاستفهام.
وقرأ الجمهور {أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} بهمزة استفهام قبل همزة {إنا} وقرأه نافع وابن عامر وأبو جعفر بحذف همزة الاستفهام.
والإشارة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة من الخبر لأجل ما سبق اسم الإشارة من قولهم {أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد} بعد أن رأوا دلائل الخلق الأول فحق عليهم بقولهم ذلك حكمان: أحدهما أنهم كفروا بربهم لأن قولهم {أإذا كنا ترابا إنا لفي خلق جديد} لا يقوله إلا كافر بالله. أي بصفات الهيئة إذا جعلوه غير قادر على إعادة خلقه، وثانيهما استحقاقهم العذاب.
وعطف على هذه الجملة جملة {وَأُولَئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} مفتتحة باسم الإشارة لمثل الغرض الذي افتتحت به الجملة قبلها فإن مضمون الجملتين اللتين قبلها يحقق أنهم أحرياء بوضع الأغلال في أعناقهم وذلك جزاء الإهانة. وكذلك عطف جملة {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وقوله: {الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} وعيد بسوقهم إلى الحساب سوق المذلة والقهر، وكانوا يضعون الأغلال للأسرى المثقلين، قال النابغة:
أو حرة كمهاة الرمل قد كبلت ... فوق المعاصم منها والعراقيب
تدعوا قعينا وقد عض الحديد بها
عض الثقاف على صم الأنابيب والأغلال: جمع غل بضم الغين، وهو القيد الذي يوضع في العنق، وهو أشد التقيد. قال تعالى: {إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} [غافر: 71] وإعادة اسم الإشارة ثلاثا للتهويل.
وجملة {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بيان لجملة أصحاب النار.
[6] {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ}.
جملة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ} عطف على جملة {وَإِنْ تَعْجَبْ} [الرعد: 5] لأن كلتا الجملتين حكاية لغريب أحوالهم في المكابرة والعناد والاستخفاف بالوعيد. فابتدأ بذكر تكذيبهم بوعيد الآخرة لإنكارهم البعث، ثم عطف عليه تكذيبهم بوعيد الدنيا لتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم. وفي الاستخفاف بوعيد نزول العذاب وعدهم إياه مستحيلا في حال أنهم شاهدوا آثار العذاب النازل بالأمم قبلهم، وما ذلك إلا لذهولهم عن قدرة الله تعالى التي سبقت الكلام للاستدلال عليها والتفريع عنها، فهم يستعجلون بنزوله بهم استخفافا واستهزاء كقولهم {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]، وقولهم {أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً} [الإسراء: 93].
والباء في {بِالسَّيِّئَةِ} لتعدية الفعل إلى ما لم يكن يتعدى إليه. وتقدم عند قوله تعالى: {مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} في سورة الأنعام[93].
والسيئة: الحالة السيئة. وهي هنا المصيبة التي تسوء من تحل به. والحسنة ضدها، أي أنهم سألوا من الآيات ما فيه عذاب بسوء، كقولهم: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} [الأنفال: 32] دون أن يسألوا آية من الحسنات.
فهذه الآية نزلت حكاية لبعض أحوال سؤالهم الظانين أنه تعجيز، والدالين به على التهكم بالعذاب.
وقبلية السيئة قبلية اعتبارية، أي مختارين السيئة دون الحسنة. وسيأتي تحقيقه عند قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} في سورة النمل فانظره.
وجملة {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} في موضع الحال. وهو محل زيادة التعجيب لأن ذلك قد يعذرون فيه لو كانوا لم يروا أثار الأمم المعذبة مثل عاد وثمود.
والمثلات بفتح الميم وضم المثلثلة: جمع مثلة بفتح الميم وضم الثاء كسمرة، وبضم الميم وسكون الثاء كعرفة: وهي العقوبة الشديدة التي تكون مثالا تمثل به العقوبات.
وجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} عطف على جملة {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ}. وهذا كشف لغرورهم بتأخير العذاب عنهم لأنهم لما استهزأوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وتعرضوا لسؤال حلول العذاب بهم ورأوا أنه لم يعجل لهم حلوله اعترتهم ضراوة بالتكذيب وحسبوا تأخير العذاب عجزا من المتوعد وكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وهم يجهلون أن الله حليم يمهل عباده لعلهم يرجعون، فالمغفرة هنا مستعملة في المغفرة الموقتة، وهي التجاوز عن ضراوة تكذيبهم وتأخير العذاب إلى أجل، كما قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [سورة النحل: 34].
وقرينة ذلك أن الكلام جار على عذاب الدنيا وهو الذي يقبل التأخير كما قال تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15]، أي عذاب الدنيا، وهو الرجوع الذي أصيب به قريش بعد أن كان يطعمهم من جوع و{على} في قوله: {عَلَى ظُلْمِهِمْ} بمعنى مع.
وسياق الآية على أن المراد بالمغفرة هنا التجاوز عن المشركين في الدنيا بتأخير العقاب لهم إلى اجل أراده الله أو إلى يوم الحساب، وأن المراد بالعقاب في قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} ضد تلك المغفرة وهو العقاب المؤجل في الدنيا أو عقاب يوم الحساب، فمحمل الظلم على ما هو المشهور في اصطلاح القرآن من إطلاقه على الشرك.
ويجوز أن يحمل الظلم على ارتكاب الذنوب بقرينة السياق كإطلاقه في قوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} فلا تعارض أصلا بين هذا المحمل وبين قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} كما هو ظاهر.
وفائدة هذه العلاوة إظهار شدة رحمة الله بعباده في الدنيا كما قال {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ
النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [فاطر: 45].
وجملة {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ} احتراس لئلا يحسبوا أن المغفرة المذكورة مغفرة دائمة تعريضا بان العقاب حال بهم من بعد.
[7] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}.
عطف على جملة {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ} الآية. وهذه حالة من أعجوباتهم وهي عدم اعتدادهم بالآيات التي تأيد بها محمد صلى الله عليه وسلم وأعظمها آيات القرآن، فلا يزالون يسألون آية كما يقترحونها، فله اتصال بجملة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].
ومرادهم بالآية في هذا خارق عادة على حساب ما يقترحون، فهي مخالفة لما تقدم في قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ} لأن تلك في تعجيل ما توعدهم به. وما هنا في مجيء آية تؤيده كقولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8].
ولكون اقتراحهم آية يشف عن إحالتهم حصولها لجهلهم بعظيم قدرة الله تعالى سيق هذا في عداد نتائج عظيم القدرة، كما دل عليه قوله تعالى في سورة الأنعام {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: 36].
فبذلك انتظم تفرع الجمل بعضها على بعض وتفرع جميعها على الغرض الأصلي. والذين كفروا هم عين أصحاب ضمير {يَسْتَعْجِلُونَكَ} وإنما عدل عن ضميرهم إلى اسم الموصول لزيادة تسجيل الكفر عليهم، ولما يومئ إليه الموصول من تعليل صدور قولهم ذلك.
وصيغة المضارع تدل على تجدد ذلك وتكرره.
و {لَوْلا} حرف تحضيض. يموهون بالتخضيض أنهم حريصون وراغبون في نزول آية غير القرآن ليؤمنوا، وهم كاذبون في ذلك إذ لو أوتوا آية كما يقترحون لكفروا بها، كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ}.
وقد رد الله اقتراحهم من أصله بقوله: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}، فقصر النبي صلى الله عليه وسلم على
صفة الإنذار وهو قصر إضافي، أي أنت منذر لا موجد خوارق عادة. وبهذا يظهر وجه قصره على الإنذار دون البشارة لأنه قصر إضافي بالنسبة لأحواله نحو المشركين.
وجملة {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} تذييل بالأعم. أي إنما أنت منذر لهؤلاء لهدايتهم. ولكل قوم هاد أرسله الله ينذرهم لعلهم يهتدون. فما كنت بدعا من الرسل وما كان للرسل من قبلك آيات على مقترح أقوامهم بل كانت آياتهم بحسب ما أراد الله أن يظهره على أيديهم. على أن معجزات الرسل تأتي على حسب ما يلائم حال المرسل إليهم.
ولما كان الذين ظهرت بينهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم عربا أهل فصاحة وبلاغة جعل الله معجزته العظمى القرآن بلسان عربي مبين. وإلى هذا المعنى يشير قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فارجوا أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة".
وبهذا العموم الحاصل بالتذييل والشامل للرسول صلى الله عليه وسلم صار المعنى إنما أنت منذر لقومك هاد إياهم إلى الحق. فإن الإنذار والهدي متلازمان فما من إنذار إلا وهو هداية وما من هداية إلا وفيها إنذار، والهداية أعم من الإنذار. ففي هذا احتباك بديع.
وقرأ الجمهور {هَادٍ} بدون ياء في آخره في حالتي الوصل والوقف. أما في الوصل فلالتقاء الساكنين سكون الياء وسكون التنوين الذي يجب النطق به في حالة الوصل، وأما في حالة الوقف فتبعا لحالة الوصل، وهو لغة فصيحة وفيه متابعة رسم المصحف.
وقرأه ابن كثير في الوصل مثل الجمهور. وقراه بإثبات الياء في الوقف لزوال موجب حذف الياء وهو لغة صحيحة.
[8] [9] {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}.
انتقال إلى الاستدلال على تفرد الله تعالى بالإلهية، فهو متصل بجملة {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] الخ.
وهذه الجملة استئناف ابتدائي. فلما قامت البراهين العديدة بالآيات السابقة على وحدانية الله تعالى بالخلق والتدبير وعلى عظيم قدرته التي أودع بها في المخلوقات دقائق
الخلقة انتقل الكلام إلى إثبات العلم له تعالى علما عاما بدقائق الأشياء وعظائمها، ولذلك جاء افتتاحه على الأسلوب الذي افتتح به الغرض السابق بأن ابتدئ باسم الجلالة كما ابتدئ به هنالك في قوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2].
وجعلت هذه الجملة في هذا الموقع لأن لها مناسبة بقولهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}، فإن ما ذكر فيها من علم الله وعظيم صنعه صالح لأن يكون دليلا على أنه لا يعجزه الإتيان بما اقترحوا من ألايات؛ ولكن بعثة الرسول ليس المقصد منها المنازعات بل هي دعوة للنظر في الأدلة.
وإذ قد كان خلق الله العوالم وغيرها معلوما لدى المشركين ولكن الإقبال على عبادة الأصنام يذهلهم عن تذكره كانوا غير محتاجين لأكثر من التذكير بذلك وبالتنبيه إلى ما قد يخفى من دقائق التكوين كقوله آنفا {بِغَيْرِ عَمَدٍ} [الرعد: 2] - وقوله: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] الخ؛ صيغ الإخبار عن الخلق في آية {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} [الرعد: 2] الخ بطريقة الموصول للعلم بثبوت مضمون الصلة للمخبر عنه.
وجيء في تلك الصلة بفعل المضي فقال {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ} كما أشرنا إليه آنفا. فأما هنا فصيغ الخبر بصيغة المضارع المفيد للتجدد والتكرير لإفادة أن ذلك العلم متكرر متجدد التعلق بمقتضى أحوال المعلومات المتنوعة والمتكاثرة على نحو ما قرر في قوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ} [الرعد: 2].
وذكر من معلومات الله ما لا نزاع في أنه لا يعلمه أحد من الخلق يومئذ ولا تستشار فيه آلهتهم على وجه المثال بإثبات الجزئي لإثبات الكلي، فما تحمل كل أنثى هي أجنة الإنسان والحيوان. ولذلك جيء بفعل الحمل دون الحبل لاختصاص الحبل بحمل المرأة.
و {مَا} موصولة، وعمومها يقتضي علم الله بحال الحمل الموجود من ذكورة وأنوثة، وتمام ونقص، وحسن وقبح، وطول وقصر، ولون.
وتغيض: تنقص. والظاهر أنه كناية عن العلوق لأن غيض الرحم انحباس دم الحيض عنها، وازديادها: فيضان الحيض منها. ويجوز أن يكون الغيض مستعارا لعدم التعدد.
والازدياد: التعدد أي ما يكون في الأرحام من جنين واحد أو عدة أجنة وذلك في الإنسان والحيوان.
وجملة {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} معطوفة على جملة {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى}. فالمراد بالشيء الشيء من المعلومات، و {عِنْدَهُ} يجوز أن يكون خبرا عن {كُلُّ شَيْءٍ} و {بِمِقْدَارٍ} في موضع الحال من {كُلُّ شَيْءٍ}. ويجوز أن يكون {عِنْدَهُ} في موضع الحال من {مِقْدَارٍ} ويكون {بمقدار} خبرا عن {كُلُّ شَيْءٍ}.
والمقدار: مصدر ميمي بقرينة الباء، أي بتقدير، ومعناه: التحديد والضبط. والمعنى أنه يعلم كل شيء علما مفصلا لا شيوع فيه ولا إبهام. وفي هذا رد على الفلاسفة غير المسلمين القائلين أن واجب الوجود يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات فرارا من تعلق العلم بالحوادث. وقد أبطل مذهبهم علماء الكلام بما ليس فوقه مرام. وهذه قضية كلية أثبتت عموم علمه تعالى بعد أن وقع إثبات العموم بطريقة التمثيل بعلمه بالجزئيات الخفية في قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}.
وجملة {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} تذييل وفذلكة لتعميم العلم بالخفيات والظواهر وهما قسما الموجودات. وقد تقدم ذكر {الْغَيْبِ} في صدر سورة البقرة [4].
وأما {الشَّهَادَةِ} فهي هنا مصدر بمعنى المفعول، أي الأشياء المشهودة، وهي الظاهرة المحسوسة، المرئيات وغيرها من المحسوسات، فالمقصود من {الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} تعميم الموجودات كقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38- 39].
والكبير: مجاز في العظمة، إذ قد شاع استعمال أسماء الكثرة وألفاظ الكبر في العظمة تشبيها للمعقول بالمحسوس وشاع ذلك حتى صار كالحقيقة. والمتعالي: المترفع. وصيغت الصفة بصيغة التفاعل للدلالة على أن العلو صفة ذاتية له لا من غيره، أي الرفيع رفعة واجبة له عقلا. والمراد بالرفعة هنا المجاز عن العزة التامة بحيث لا يستطيع موجود أن يغلبه أو يكرهه، أو المنزه عن النقائص كقوله عز وجل {تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3].
وحذف الياء من {الْمُتَعَالِ} لمراعاة الفواصل الساكنة لأن الأفصح في المنقوص غير المنون إثبات الياء في الوقف إلا إذا وقعت في القافية أو في الفواصل كما في هذه الآية لمراعاة {مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11]. و { الْآصَالِ} [الرعد: 15].
وقد ذكر سيبويه أن ما يختار إثباته من الياءات والواوات يحذف في الفواصل والقوافي، والإثبات أقيس والحذف عربي كثير.
[10] {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}.
موقع هذه الجملة استئناف بياني لأن مضمونها بمنزلة النتيجة لعموم علم الله تعالى بالخفيات والظواهر. وعدل عن الغيبة المتبعة في الضمائر فيما تقدم إلى الخطاب هنا في قوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ} لأنه تعليم يصلح للمؤمنين والكافرين.
وفيها تعريض بالتهديد للمشركين المتآمرين على النبي صلى الله عليه وسلم.
و {سَوَاءٌ} اسم بمعنى مستو. وإنما يقع معناه بين شيئين فصاعدا. واستعمل سواء في الكلام ملازما حالة واحدة فيقال: هما سواء وهم سواء، قال تعالى: {فأنتم فيه سواء}. وموقع سواء هنا موقع المبتدأ. و {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} فاعل سد مسد الخبر، ويجوز جعل {سَوَاءٌ} خبرا مقدما و {مَنْ أَسَرَّ} مبتدأ مؤخرا و {مِنْكُمْ} حال {مَنْ أَسَرَّ}.
والاستخفاء: هنا الخفاء. فالسين والتاء للمبالغة في الفعل مثل استجاب.
والسارب: اسم فاعل من سرب إذا ذهب في السرب - بفتح السين وسكون الراء - وهو الطريق. وهذا من الأفعال المشتقة من الأسماء الجامدة. وذكر الاستخفاء مع الليل لكونه أشد خفاء. وذكر السروب مع النهار لكونه أشد ظهورا. والمعنى: أن هذين الصنفين سواء لدى علم الله تعالى.
والواو التي عطفت أسماء الموصول على الموصول الأول للتقسيم فهي بمعنى {أَوْ}.
[11] {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.
جملة {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} إلى آخرها، يجوز أن تكون متصلة ب {من} الموصولة من قوله: {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ}. على أن الجملة خبر ثان عن {مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} وما عطف عليه. والضمير في {لَهُ} والضمير المنصوب في {يَحْفَظُونَهُ}. وضميرا {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ} جاءت مفردة لأن كلا منها عائد إلى أحد أصحاب تلك الصلاة حيث إن ذكرهم ذكر أقسام من الذين جعلوا سواء في علم الله تعالى، أي لكل من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار معقبات يحفظونه من غوائل تلك الأوقات.
ويجوز أن تتصل الجملة ب {مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10]، وإفراد الضمير لمراعاة عطف صلة على صلة دون إعادة الموصول. والمعنى كالوجه الأول.
و"المعقبات" جمع معقبة بفتح العين وتشديد القاف مكسورة اسم فاعل عقبه إذا تبعه. وصيغة التفعيل فيه للمبالغة في العقب. يقال: عقبه إذا اتبعه واشتقاقه من العقب بفتح فكسر وهو اسم لمؤخر الرجل فهو فعل مشتق من الاسم الجامد لأن الذي يتبع غيره كأنه يطأ على عقبه، والمراد: ملائكة معقبات. والواحد معقب.
وإنما جمع مؤنث بتأويل الجماعات.
والحفظ: المراقبة، ومنه سمي الرقيب حفيظا، والمعنى: يراقبون كل أحد في أحواله من إسرار وإعلان، وسكون وحركة، أي في أحوال ذلك، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10].
و {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} مستعمل في معنى الإحاطة من الجهات كلها. وقوله: {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} صفة {مُعَقِّبَاتٌ} ، أي جماعات من جند الله وأمره، كقوله تعالى: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] يعني القرآن.
ويجوز أن يكون الحفظ على الوجه المراد به الوقاية والصيانة، أي يحفظون من هو مستخف بالليل وسارب بالنهار، أي يقونه أضرار الليل من اللصوص وذوات السموم، وأضرار النهار نحو الزحام والقتال، فيكون {مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} جارا ومجرورا لغوا متعلقا ب {يَحْفَظُونَهُ} ، أي يقونه من مخلوقات الله. وهذا منة العبادة بلطف الله بهم وإلا لكان أدنى شيء يضر بهم. قال تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [سورة الشورى: 19].
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.
جملة معترضة بين الجمل المتقدمة المسوقة للاستدلال على عظيم قدرة الله تعالى وعلمه بمصنوعاته وبين التذكير بقوة قدرته وبين جملة {هو هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً
وَطَمَعاً}. والمقصود تحذيرهم من الإصرار على الشرك بتحذيرهم من حلول العقاب في الدنيا في مقابلة استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة، ذلك أنهم كانوا في نعمة من العيش فبطروا النعمة وقابلوا دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالهزء وعاملوا المؤمنين بالتحقير {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 31]، {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً} [المزمل: 11].
فذكرهم الله بنعمته عليهم ونبههم إلى أن زوالها لا يكون إلا بسبب أعمالهم السيئة بعد ما أنذرهم ودعاهم.
والتغير: التبديل بالمغاير، فلا جرم أنه تهديد لأولى النعمة من المشركين بأنهم قد تعرضوا لتغيرها. فما صدق {مَا} الموصولة حالة، والباء للملابسة، أي حالة ملابسة لقوم، أي حالة نعمة لأنها محل التحذير من التغير، وأما غيرها فتغييره مطلوب. وأطلق التغيير في قوله: {حَتَّى يُغَيِّرُوا} على التسبب فيه على طريقة المجاز العقلي.
وجملة {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ} تصريح بمفهوم الغاية المستفاد من {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} تأكيدا للتحذير، لأن المقام لكونه مقام خوف ووجل يقتضي التصريح دون التعريض ولا ما يقرب منه، أي إذا أراد الله أن يغير ما بقوم حين يغيرون ما بأنفسهم لا يرد إرادته شيء. وذلك تحذير من الغرور أن يقولوا: سنسترسل على ما نحن فيه فإذا رأينا العذاب آمنا. وهذا كقوله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [سورة يونس: 98] الآية.
وجملة {وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} زيادة في التحذير من الغرور لئلا يحسبوا أن أصنامهم شفعاؤهم عند الله.
والوالي: الذي يلي أمر أحد، أي يشتغل بأمره اشتغال بأمره اشتغال تدبير ونفع، مشتق من ولي إذا قرب، وهو قرب ملابسة ومعالجة.
وقرأ الجمهور من {وَالٍ} تنوين {وَالٍ} دون ياء في الوصل والوقف. وقرأه ابن كثير بياء اللام وقفا فقط دون الوصل كما علمته في قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} في هذه السورة[الرعد: 33].
[12، 13] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ
وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ}.
استئناف ابتدائي على أسلوب تعداد الحجج الواحدة تلوى الأخرى، فلأجل أسلوب التعداد إذ كان كالتكرير لم يعطف على جملة {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} [الرعد: 10].
وقد أعرب هذا عن مظهر من مظاهر قدرة الله وعجيب صنعه. وفيه من المناسبة للإنذار بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} [الرعد: 11] الخ أنه مثال لتصرف الله بالإنعام والانتقام في تصرف واحد مع تذكيرها بالنعمة التي هم فيها. وكل ذلك مناسب لمقاصد الآيات الماضية في قوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [سورة الرعد: 8]، فكانت هذه الجملة جديرة بالاستقلال وأن يجاء بها مستأنفة لتكون مستقلة في عداد الجمل المستقلة الواردة في غرض السورة.
وجاء هنا بطريق الخطاب على أسلوب قوله: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ} [الرعد: 10] لأن الخوف والطمع يصدران من المؤمنين ويهدد بهما الكفرة.
وافتتحت الجملة بضمير الجلالة دون اسم الجلالة المفتتح به في الجمل السابقة، فجاءت على أسلوب مختلف. وأحسب أن ذلك مراعاة لكون هاته الجملة مفرعة عن أغراض الجمل السابقة فإن جمل فواتح الأغراض افتتحت بالاسم العلم كقوله: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ} [سورة الرعد: 2] وقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} [سورة الرعد: 11]، وجمل التفاريع افتتحت بالضمائر كقوله: {يدبر الأمر} وقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [سورة الرعد: 3] وقوله: {جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ}.
و {خَوْفاً وَطَمَعاً} مصدران بمعنى التخويف والإطاع، فهما في محل المفعول لأجله لظهور المراد.
وجعل البرق آية نذارة وبشارة معا لأنهم كانوا يسمون البرق فيتوسمون الغيث وكانوا يخشون صواعقه.
وإنشاء السحاب: تكوينه من عدم بإثارة الأبخرة التي تتجمع سحابا.
والسحاب: اسم جمع لسحابة. والثقال: جمع ثقيلة. والثقل كون الجسم أكثر كمية
أجزاء من أمثاله، فالثقل أمر نسبي يختلف باختلاف أنواع الأجسام، فرب شيء يعد ثقيلا في نوعه وهو خفيف بالنسبة لنوع آخر. والسحاب يكون ثقيل بمقدار ما في خلاله من البخار. وعلامة ثقله قربه من الأرض وبطء تنقله بالرياح. والخفيف منه يسمى جهاما.
وعطف الرعد على ذكر البرق والسحاب لأنه مقارنهما في كثير من الأحوال.
ولما كان الرعد صوتا عظيما جعل ذكره عبرة للسامعين لدلالة الرعد بلوازم عقلية على أن الله منزه عما يقوله المشركون من ادعاء الشركاء، وكان شان تلك الدلالة أن تبعث الناظر فيها على تنزيه الله عن الشريك جعل صوت الرعد دليلا على تنزيه الله تعالى، فإسناد التسبيح إلى الرعد مجاز عقلي. ولك أن تجعله استعارة مكنية بأن شبه الرعد بآدمي يسبح الله تعالى، وأثبت شيء من علائق المشبه به وهو التسبيح، أي قول سبحان الله.
والباء في {بِحَمْدِهِ} للملابسة، أي ينزه الله تنزيها ملابسا لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجب الحمد. فالقول في ملابسة الرعد للحمد مساو للقول في إسناد التسبيح إلى الرعد. فالملابسة مجازية عقلية أو استعارة مكنية.
و {الْمَلائِكَةِ} عطف على الرعد، أي وتسبح الملائكة من خيفته، أي من خوف الله.
و {مِنْ} للتعليل، أي ينزهون الله لأجل الخوف منه، أي الخوف مما لا يرضي به وهو التقصير في تنزيهه.
وهذا اعتراض بين تعداد المواعظ لمناسبة التعريض بالمشركين، أي أن التنزيه الذي دلت عليه آيات الجو يقوم به الملائكة، فالله غني عن تنزيهكم إياه، كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} [سورة الزمر: 7]، وقوله: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} [سورة إبراهيم: 8].
واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآله من آلات التخويف والإنذار، كما قال في آية سورة البقرة {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} [سورة البقرة: 19]. وكان العرب يخافون الصواعق. ولقبوا خويلد بن نفيل الصعق لأنه أصابته صاعقة أحرقته.
ومن هذا القبيل قول النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، أي بكسوفهما فاقتصر في آيتهما على الإنذار إذ لا يترقب الناس من كسوفهما نفعا.
وجملة {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} في موضع الحال لأنه من متممات التعجب الذي في قوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] الخ. فضمائر الغيبة كلها عائدة إلى الكفار الذين تقدم ذكرهم في صدر السورة بقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} [الرعد: 1] وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ} [الرعد: 5] وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [الرعد: 7]. وقد أعيد الأسلوب هنا إلى ضمائر الغيبة لانقضاء الكلام على ما يصلح لموعظة المؤمنين والكافرين فتمحض تخويف الكافرين.
والمجادلة: المخاصمة والمراجعة بالقول. وتقدم في قوله تعالى: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} في سورة النساء[107].
وقد فهم أن مفعول {يُجَادِلُونَ} هو النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون. فالتقدير: يجادلونك أو يجادلونكم، كقوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ} في سورة الأنفال [6].
والمجادلة إنما تكون في الشؤون والأحوال، فتعليق اسم الجلالة المجرور بفعل {يُجَادِلُونَ} يتعين أن يكون على تقدير مضاف تدل عليه القرينة، أي في توحيد الله أو في قدرته على البعث.
ومن جدلهم ما حكاه قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ}. في سورة يس[77, 78].
والمحال: بكسر الميم يحتمل هنا معنيين، لأنه إن كانت الميم فيه أصلية فهو فعال بمعنى الكيد وفعله محل، ومنه قولهم تمحل إذا تحيل. جعل جدالهم في الله جدال كيد لأنهم يبرزونه في صورة الاستفهام في نحو قولهم: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} فقوبل ب {شَدِيدُ الْمِحَالِ} على طريقة المشاكلة، أي وهو شديد المحال لا يغلبونه، ونظيره {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة آل عمران: 54].
وقال نفطويه: هو من ماحل عن أمره، أي جادل. والمعنى: وهو شديد المجادلة، أي قوي الحجة.
وإن كانت الميم زائدة فهو مفعل من الحول بمعنى القوة، وعلى هذا فإبدال الواو ألفا على غير قياس لأنه لا موجب للقلب لأن ما قبل الواو ساكن سكونا حيا، فلعلهم
قلبوها ألفا للتفرقة بينه وبين محول بمعنى صبي ذي حول، أي سنة.
وذكر الواحدي والطبري أخبارا عن أنس وابن عباس - رضي الله عنهما - أن هذه الآية نزلت في قضية عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة حين وردا المدينة يشترطان لدخولهما في الإسلام شروطا لم يقبلها منهما النبي صلى الله عليه وسلم، فهم أربد بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فصرفه الله، فخرج هو وعامر بن الطفيل قاصدين قومهما وتواعدا النبي صلى الله عليه وسلم بان يجلبا عليه خيل بني عامر. فأهلك الله أربد بصاعقة أصابته وأهلك عامرا بغدة نبتت في جسمه فمات منها وهو في بيت امرأة من بني سلول في طريقه إلى أرض قومه، فنزلت في أربد {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ} وفي عامر {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ}.
وذكر الطبري عن صحار العبدي: أنها نزلت في جبار آخر. وعن مجاهد: أنها نزلت في يهودي جادل في الله فأصابته صاعقة.
ولما كان عامر بن الطفيل إنما جاء المدينة بعد الهجرة وكان جدال اليهود لا يكون إلا بعد الهجرة أقدم أصحاب هذه الأخبار على القول بان السورة مدنية أو أن هذه الآيات منها مدنية، وهي أخبار ترجع إلى قول بعض الناس بالرأي في أسباب النزول. ولم يثبت في ذلك خبر صحيح صريح فلا اعتداد بما قالوه فيها ولا يخرج السورة عن عداد السور المكية. وفي هذه القصة أرسل عامر ابن الطفيل قوله: "أغدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية" مثلا. ورثى لبيد ابن ربيعة أخاه أربد بأبيات منها:
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أرهب نوء السماك والأسد1
فجعني الرعد والصواعق بالف ... ارس يوم الكريهة النجد
[14] {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ}.
استئناف ابتدائي بمنزلة النتيجة ونهوض المدلل عليه بالآيات السالفة التي هي براهين الانفراد بالخلق الأول، ثم الخلق الثاني، وبالقدرة التامة التي لا تدانيها قدرة قدير، وبالعلم العام، فلا جرم أن يكون صاحب تلك الصفات هو المعبود بالحق وأن عبادة غيره ضلال.
ـــــــ
1 السماك – بكسر السين – اسم لنجوم.
والدعوة: طلب الإقبال، وكثر إطلاقها على طلب الإقبال للنجدة أو للبذل وذلك متعين فيها إذا أطلقت في جانب الله لاستحالة الإقبال الحقيقي، فالمراد طلب الإغاثة أو النعمة.
ولإضافة الدعوة إلى الحق إما من إضافة الموصوف إلى الصفة إن كان الحق بمعنى مصادفة الواقع، أي الدعوة التي تصادف الواقع، أي استحقاقه إياها، وإما من إضافة الشيء إلى منشئه كقولهم: برود اليمن، أي الدعوة الصادرة عن حق وهو ضد الباطل، فإن دعاء الله يصدر عن اعتقاد الوحدانية وهو الحق، وعبادة الأصنام تصدر عن اعتقاد الشرك وهو الباطل.
واللام للملك المجازي وهو الاستحقاق. وتقديم الجار والمجرور على المبتدأ لإفادة التخصيص، أي دعوة الحق ملكه لا ملك غيره، وهو قصر إضافي.
وقد صرح بمفهوم جملة القصر بجملة {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ} [سورة الرعد: 14]، فكانت بيانا لها. وكان مقتضى الظاهر أن تفصل ولا تعطف وإنما عطفت لما فيها من التفضيل والتمثيل، فكانت زائدة على مقدار البيان. والمقصود بيان عدم استحقاق الأصنام أن يدعوها الداعون. واسم الموصول صادق على الأصنام. وضمير {يَدْعُونَ} للمشركين. ورابط الصلة ضمير نصب محذوف. والتقدير: والذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم.
وأجري على الأصنام ضمير العقلاء في قوله: {لا يَسْتَجِيبُونَ} مجاراة للاستعمال الشائع في كلام العرب لأنهم يعاملون الأصنام معاملة عاقلين.
والاستجابة: إجابة نداء المنادي ودعوة الداعي، فالسين والتاء لقوة الفعل.
والباء في {بِشَيْءٍ} لتعدية {يَسْتَجِيبُونَ} لأن فعل الإجابة يتعدى إلى الشيء المجاب به بالباء. وإذا أريد من الاستجابة تحقيق المأمول اقتصر على الفعل، كقوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} [سورة يوسف: 34].
فلما أريد هنا نفي إجداء دعائهم الأصنام جعل نفي الإجابة متعديا بالباء إلى انتفاء أقل ما يجيب به المسؤول وهو الواعد بالعطاء أو الاعتذار عنه، فهم عاجزون عن ذلك وهم أعجز عما فوقه.
وتنكير "شيء" للتحقير. والمراد أقل ما يجاب به من الكلام.
والاستثناء في {إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ} من عموم أحوال الداعين والمستجيبين والدعوة والاستجابة، لأنه تشبيه هيئة فهو يسري إلى جميع أجزائها فلك أن تقدر الكلام إلا كداع باسط أو إلا كحال باسط. والمعنى: لا يستجيبونهم في حال من أحوال الدعاء والاستجابة إلا في حال لداع ومستجيب كحال باسط كفيه إلى الماء. وهذا الاستثناء من تأكيد الشيء بما يشبه ضده فيؤول إلى نفي الاستجابة في سائر الأحوال بطريق التمليح والكناية.
والمراد ب"بَاسِطِ كَفَّيْهِ" من يغترف ماء بكفين مبسوطتين غير مقبوضتين إذ الماء لا يستقر فيهما. وهذا كما يقال: هو كالقابض على الماء، في تمثيل إضاعة المطلوب. وأنشد أبو عبيدة:
فأصبحت فيما كان بيني وبينهما ... من الود مثل القابض الماء باليد
و {إِلَى} للانتهاء لدلالة {بَاسِطِ} على أنه مد إلى الماء. وكذلك ضمير {هُوَ} والضمير المضاف إليه في "بَالِغِهِ" للفم.
والكلام تمثيلية. شبه حال المشركين في دعائهم الأصنام وجلب نفعهم وعدم استجابة الأصنام لهم بشيء بحال الظمآن يبسط كفيه يبتغي أن يرتفع الماء في كفيه المبسوطتين إلى فمه ليرويه وما هو ببالغ إلى فمه بذلك الطلب فيذهب سعيه وتعبه باطلا مع ما فيه من كناية وتمليح كما ذكرناه.
وجملة {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} عطف على جملة {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} لاستيعاب حال المدعو وحال الداعي. فبينت الجملة السابقة حال عجز المدعوم عن الإجابة وأعقبت بالتمثيل المشتمل على كناية وتمليح. واشتمل ذلك أيضا بالكناية على خيبة الداعي.
وبينت هذه الجملة الثانية حال خيبة الداعي بالتصريح عقب تبيينه بالكناية. فاختلاف الغرض والأسلوب حسن العطف، وبالمآل حصل توكيد الجملة الأولى وتقريرها وكانت الثانية كالفذلكة لتفصيل الجملة الأولى.
والضلال: التلف والضياع. و {فِي} للظرفية المجازية للدلالة على التمكن في الوصف، أي إلا ضائع ضياعا شديدا.
[15] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ}.
عطف على جملة {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد: 14] أي له دعوة الحق وله يسجد من في السماوات والأرض وذلك شعار الإلهية، فأما الدعوة فقد اختص بالحقة منها دون الباطلة، وأما السجود وهو الهوي إلى الأرض بقصد الخضوع فقد اختص الله به على إطلاق، لأن الموجودات العليا والمؤمنين بالله يسجدون له، والمشركين لا يسجدون للأصنام ولا لله تعالى، ولعلهم يسجدون لله في بعض الأحوال.
وعدل عن ضمير الجلالة إلى اسمه تعالى العلم تبعا للأسلوب السابق في افتتاح الأغراض الأصلية.
والعموم المستفاد من {مَنْ} الموصولة عموم عرفي يراد به الكثرة الكاثرة.
والمقصود من {طَوْعاً وَكَرْهاً} تقسيم أحوال الساجدين. والمراد بالطوع الانسياق من النفس تقربا وزلفى لمحض التعظيم ومحبة الله. وبالكره الاضطرار عند الشدة والحاجة كما في قوله تعالى: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [سورة النحل: 53]. ومنه قولهم: مكره أخوك لا بطل، أي مضطر إلى المقاتلة. وليس المراد من الكره الضغط والإلجاء كما فسر به بعضهم فهو بعيد عن الغرض كما سيأتي.
والظلال: جمع ضل، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور.
والضمير راجع إلى {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مخصوص بالصالح له من الأجسام الكثيفة ذات الظل تخصيصا بالعقل والعادة. وهو عطف على {مَنْ} أي يسجد من في السماوات وتسجد ظلالهم.
والغدو: الزمان الذي يغدو فيه الناس، أي يخرجون إلى حوائجهم: إما مصدرا على تقدير مضاف. أي وقت الغدو، وإما جمع غدوة. فقد حكي جمعها على غدو، وتقدم آخر سورة الأعراف.
والآصال: جمع أصيل، وهو وقت الشمس في آخر المساء. والمقصود من ذكرهما استيعاب أجزاء أزمنة الظل.
ومعنى سجود الظلال أن الله خلقها من أعراض الأجسام الأرضية، فهي مرتبطة بنظام انعكاس أشعة الشمس عليها وانتهاء الأشعة إلى صلابة وجه الأرض حتى تكون
الظلال واقعة على الأرض وقوع الساجد، فإذا كان من الناس من يأبى السجود لله أو يتركه اشتغالا عنه بالسجود للأصنام فقد جعل الله مثاله شاهدا على استحقاق الله السجود إليه شهادة رمزية ولو جعل الله الشمس شمسين متقابلتين على السواء لانعدمت الظلال، ولو جعل وجه الأرض شفافا أو لامعا كالماء لم يظهر الظل بينا، فهذا من رموز الصنعة التي أوجدها الله وأدقها دقة بديعة. وجعل نظام الموجودات الأرضية مهيئة لها في الخلقة لحكم مجتمعة، منها: أن تكون رموزا دالة على انفراد تعالى بالإلهية، وعلى حاجة المخلوقات إليه، وجعل أكثرها من نوع الإنسان لأن نوعه مختص بالكفران دون الحيوان.
والغرض من هذا الاستدلال الرمزي التنبيه لدقات الصنع الإلهي كيف جاء على نظام مطرد دال بعضه على بعض، كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل ... على أنه الواحد
والاستدلال مع ذلك على أن الأشياء تسجد لله لأن ظلالها واقعة على الأرض في كل مكان وما هي مساجد للأصنام وأن الأصنام لها أمكنة معينة هي حماها وحريمها وأكثر الأصنام، في البيوت مثل: العزى وذي الخلصة وذي الكعبات حيث تنعدم الظلال في البيوت.
وهذه الآية موضع سجود من سجود القرآن، وهي السجدة الثانية في ترتيب المصحف باتفاق الفقهاء. ومن حكمة السجود عند قراءتها أن يضع المسلم نفسه في عداد ما يسجد لله طوعا بإيقاعه السجود. وهذا اعتراف فعلي بالعبودية لله تعالى.
{قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}.
لما نهضت الأدلة الصريحة بمظاهر الموجودات المتنوعة على انفراده بالإلهية من قوله: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها} [سورة الرعد: 2] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} [سورة الرعد: 3] وقوله: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى} [سورة الرعد: 8] وقوله: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ} [سورة الرعد: 12] الآيات، وبما فيها من دلالة رمزية دقيقة من قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ} [سورة الرعد: 14] وقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} [سورة الرعد: 15] إلى آخرها لا جرم تهيأ المقام لتقرير المشركين تقريرا لا يجدون معه عن الإقرار مندوحة، ثم لتقريعها على الإشراك تقريعا لا يسعهم إلا تجرع مرارته، لذلك استؤنف الكلام وافتتح بالأمر بالقول تنويها بوضوح الحجة.
ولكون الاستفهام غير حقيقي جاء جوابه من قبل المستفهم. وهذا كثير في القرآن وهو من بديع أساليبه، كقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [سورة النبأ: 1-2] وتقدم عند قوله تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في سورة الأنعام [12].
وإعادة فعل الأمر بالقول في {قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} الذي هو تفريع على الإقرار بأن الله رب السماوات والأرض لقصد الاهتمام بذلك التفريع لما فيه من الحجة الواضحة.
فالاستفهام تقرير وتوبيخ وتسفيه لرأيهم بناء على الإقرار المسلم. وفيه استدلال آخر على عدم أهلية أصنامهم للإلهية فأن اتخاذهم أولياء من دونه معلوم لا يحتاج إلى الاستفهام عنه.
وجملة {لا يَمْلِكُونَ} صفة ل {أَوْلِيَاءَ}. والمقصود منها تنبيه السامعين للنظر في تلك الصفة فإنهم إن تدبروا علموها وعلموا أن من كانت تلك صفته فليس بأهل لأن يعبد.
ومعنى الملك هنا القدرة كما في قوله تعالى: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} في سورة العقود [76]. وفي الحديث "أوَ أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة".
وعطف الضر على النفع استقصاء في عجزهم لأن شأن الضر أنه أقرب للاستطاعة وأسهل.
{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ}.
إعادة الأمر بالقول للاهتمام الخاص بهذا الكلام لأن ما قبله إبطال لاستحقاق آلهتهم العبادة. وهذا إظهار لمزية المؤمنين بالله على أهل الشرك، ذلك أن قوله: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ} تضمن أن الرسول – عليه الصلاة والسلام - دعا إلى إفراد الله بالربوبية وأن المخاطبين أثبتوا الربوبية للأصنام فكان حالهم وحاله كحال الأعمى والبصير وحال الظلمات والنور.
ونفي التسوية بين الحالين يتضمن تشبيها بالحالين وهذا من صيغ التشبيه البليغ.
و {أَمْ} للإضراب الانتقالي في التشبيه، فهي لتشبيه آخر بمنزلة {أَوْ} في قول لبيد:
أو رجع واشمة أسف نؤورها
وقوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ}.
وأظهر حرف {هَلْ} بعد {أَمْ} لأن فيه إفادة تحقيق الاستفهام. وذلك ليس مما تغني فيه دلالة {أَمْ} على أصل الاستفهام ولذلك لا تظهر الهمزة بعد {أَمْ} اكتفاء بدلالة {أَمْ} على تقدير استفهام.
وجمع الظلمات وإفراد النور تقدم عند قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} في أول سورة الأنعام [1].
واختير التشبيه في المتقابلات العمى والبصر، والظلمة والنور، لتمام المناسبة لأن حال المشركين أصحاب العمى كحال الظلمة في انعدام إدراك المبصرات، وحال المؤمنين كحال البصر في العلم وكحال النور في الإفاضة والإرشاد.
وقرأ الجمهور {تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ} بفوقية في أوله مراعاة لتأنيث الظلمات. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم، وخلف بتحية في أوله وذلك وجه في الجمع غير المذكر السالم.
[16] {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ}.
{أَمْ} للإضراب الانتقالي في الاستفهام مقابلة قوله: {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرّاً}. فالكلام بعد "أم"استفهام حذفت أداته لدلالة "أم" عليها. والتقدير: أم جعلوا لله شركاء. والتفت عن الخطاب إلى الغيبة إعراضا عنهم لما مضى من ذكر ضلالهم.
والاستفهام مستعمل في التهكم والتغليط. فالمعنى: لو جعلوا لله شركاء يخلقون كما يخلق الله لكانت لهم شبهة في الاغترار واتخاذهم آلهة، أي فلا عذر لهم في عبادتهم، فجملة {خَلَقُوا} صفة ل {شُرَكَاءَ}.
وشبه جملة {كَخَلْقِهِ} في معنى المفعول المطلق، أي خلقوا خلقا مثل ما خلق الله. والخلق في الموضعين مصدر.
وجملة فتشابه عطف على جملة {خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} فهي صفة ثانية ل {شُرَكَاءَ}،
والرابط اللام في قوله: {الْخَلْقُ} لأنها عوض عن الضمير المضاف إليه. والتقدير: فتشابه خلقهم عليهم. والوصفان هما مصب التهكم والتغليظ.
وجملة {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} فذلكة لما تقدم ونتيجة له، فإنه لما جاء الاستفهام التوبيخي في {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} [سورة الرعد: 168] وفي {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ} كان بحيث ينتج أن أولئك الذين اتخذوهم شركاء والذين تبين قصورهم عن أن يملكوا لأنفسهم نفعا أوضرا، وأنهم لا يخلقون كخلق الله إن هم إلا مخلوقات لله تعالى، وأن الله خالق كل شيء، وما أولئك الأصنام إلا أشياء داخلة في عموم {كل شيء} وأن الله هو المتوحد بالخلق، القهار لكل شيء دونه. ولتعين موضوع الوحدة ومتعلق القهر حذف متعلقها. والتقدير: الواحد بالخلق القهار للموجودات.
والقهر: الغلبة. عند قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} في سورة النعام [18].
[17] {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.
جملة {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} استئناف ابتدائي أفاد تسجيل حرمان المشركين من الانتفاع بدلائل الاهتداء التي مكن شأنها أن تهدي من لم يطبع الله على قلبه فاهتدى بها المؤمنون.
وجيء في هذا التسجيل بطريقة ضرب المثل بحالي فريقين في تلقي شيء واحد انتفع فريق بما فيه من منافع وتعلق فريق بما فيه من مضار. وجيء في ذلك التمثيل بحالة فيها دلالة على بديع تصرف الله تعالى ليحصل التخلص من ذكر دلائل القدرة إلى ذكر عبر الموعظة، فالمركب مستعمل في التشبيه التمثيلي بقرينة قوله: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ} الخ.
شبه إنزال القرآن الذي به الهدى من السماء بإنزال الماء الذي به النفع والحياة من السماء. وشبه ورود القرآن على أسماع الناس بالسيل يمر على مختلف الجهات فهو يمر على التلال والجبال فلا يستقر فيها ولكنه يمضي إلى الأودية والوهاد فيأخذ منه كل بقدر سعته. وتلك السيول في حال نزولها تحمل في أعاليها زبدا، وهو رغوة الماء التي تربو
وتطفو على سطح الماء، فيذهب الزبد غير منتفع به ويبقى الماء الخالص الصافي ينتفع به الناس للشراب والسقي.
ثم شبهت هيئة نزول الآيات وما تحتوي عليه من إيقاظ النظر فيها فينتفع به من دخل الإيمان قلوبهم على مقادير قوة إيمانهم وعملهم، ويمر على قلوب قوم لا يشعرون به وهم المنكرون المعرضون، ويخالط قلوب قوم فيتأملونه فيأخذون منه ما يثير لهم شبهات وإلحادا، كقولهم: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}. ومنه الأخذ بالمتشابه قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [سورة آل عمران: 7].
شبه ذلك كله بهيئة نزول الماء فانحداره على الجبال والتلال وسيلانه في الأودية على اختلاف مقاديرها، ثم ما يدفع من نفسه زبدا لا ينتفع به ثم لم يلبث الزبد أن ذهب وفني والماء بقي في الأرض للنفع.
ولما كان المقصود التشبيه بالهيئة كلها جيء في حكاية ما ترتب على إنزال الماء بالعطف بفاء التفريع في قوله: {فَسَالَتْ} وقوله: {فَاحْتَمَلَ}. فهذا تمثيل صالح لتجزئة التشبيهات التي تركب منها وهو أبلغ التمثيل.
وعلى نحو هذا التمثيل وتفسيره جاء ما يبينه من التمثيل الذي في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
والأودية: جمع الوادي، وهو الحفير المتسع الممتد من الأرض الذي يجري فيه السيل. وتقدم في سورة براءة عند قوله تعالى: {وَلا يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [سورة التوبة: 121].
والقدر بفتحتين: التقدير، فقوله: {بِقَدَرِهَا} في موضع الحال من {أَوْدِيَةٌ} ، وذكره لأنه من مواضع العبرة، وهو أن كانت أخاديد الأودية على قدر ما تحتمله من السيول بحيث لا تفيض عليها وهو غالب أحوال الأودية. وهذا الحال مقصود في التمثيل
لأنه حال انصراف الماء لنفع لا ضر معه، لأن من السيول جواحف تجرف الزرع والبيوت والأنعام.
وأيضا هو دال على تفاوت الأودية في مقادير المياه. ولذلك حظ من التشبيه وهو اختلاف الناس في قابلية الانتفاع بما نزل من عند الله كاختلاف الأودية في قبول الماء على حسب ما يسيل إليها من مصاب السيول، وقد تم التمثيل هنا.
وجملة {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} معترضة بين جملة {فَاحْتَمَلَ} الخ وجملة {فَأَمَّا الزَّبَدُ} الخ.
وهذا تمثيل آخر ورد استطرادا عقب ذكر نظيره يفيد تقريب التمثيل لقوم لم يشاهدوا سيول الأودية من سكان القرى مثل أهل مكة وهم المقصود، فقد كان لهم في مكة صواعون كما دل عليه حديث الإذخر، فقرب إليهم تمثيل عدم انتفاعهم بما انتفع به غيرهم بمثل ما يصهر من الذهب والفضة في البواتق فإنه يقذف زبدا ينتفي عنه وهو الخبث وهو غير صالح لشيء في حين صلاح معدنه لاتخاذه حلية أو متعاعا. وفي الحديث كما ينفي الكير خبث الحديد. فالكلام من قبيل تعدد التشبيه القريب، كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} ثم قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [سورة البقرة: 19].
وأقرب إلى ما هنا قول لبيد:
فتنازعا سبطا يطير ظلاله ... كدخان مشعلة يشب ضرامها
مشمولة غلثت بنابت عرفج ... كدخان نار ساطع إسنامها
وأفاد ذلك في هذه الآية قوله: {زَبَدٌ مِثْلُهُ}.
وتقديم المسند على المسند إليه في هذه الجملة للاهتمام بالمسند لأنه موضع اعتبار أيضا ببديع صنع الله تعالى إذ جعل الزبد يطفو على أرق الأجسام وهو الماء وعلى أغلظها وهو المعدن فهو ناموس من نواميس الخلقة، فبالتقديم يقع تشويق السامع إلى ترقب المسند إليه.
وهذا الاهتمام بالتشبيه يشبه الاهتمام بالاستفهام في قول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جهنم "فإذا فيها كلاليب مثل حسك السعدان هل رأيتم حسك السعدان".
وعدل عن تسمية الذهب والفضة إلى الموصولية بقوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ
فِي النَّارِ} لأنها أخصر وأجمع، ولأن الغرض في ذكر الجملة المجعولة صلة. فلو ذكرت بكيفية غير صلة كالوصفية مثلا لكانت بمنزلة الفضلة في الكلام ولطال الكلام بذكر اسم المعدنين مع ذكر الصلة إذ لا محيد عن ذكر الوقود لأنه سبب الزبد، فكان الإتيان بالموصول قضاء لحق ذكر الجملة مع الاختصار البديع.
ولأن في العدول عن ذكر اسم الذهب والفضة إعراضا يؤذن بقلة الاكتراث بهما ترفعا عن ولع الناس بهما فإن اسميهما قد اقترنا بالتعظيم في عرف الناس.
و {منْ} في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} ابتدائية.
و {ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} مفعول لأجله متعلق ب {يُوقِدُونَ}. ذكر لإيضاح المراد من الصلة ولإدماج ما فيه من منة تسخير ذلك للناس. لشدة رغبتهم فيهما.
والحلية: ما يتحلى به، أي يتزين وهو المصوغ.
والمتاع: ما يتمتع به وينتفع، وذلك المسكوك الذي يتعامل به الناس من الذهب والفضة.
وقرا الجمهور {تُوقِدُونَ} بفوقية في أوله على الخطاب. وقراه حمزة، والكسائي، وحفص عن عاصم، وخلف بتحتية على الغيبة.
وجملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} معترضة. هي فذلكة التمثيل ببيان الغرض منه، أي مثل هذه الحالة يكون ضرب مثل للحق والباطل. فمعنى {يَضْرِبُ} يبين ويمثل. وقد تقدم معنى يضرب عند قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً} في سورة البقرة [26].
فحذف مضاف في قوله: {يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ} ، والتقدير: يضرب الله مثل الحق والباطل، لدلالة فعل {يَضْرِبُ} على تقدير هذا المضاف.
وحذف الجار من {الْحَقَّ} لتنزيل المضاف إليه منزلة المضاف المحذوف.
وقد علم أن الزبد مثل للباطل وأن الماء مثل للحق، فارتقى عند ذلك إلى ما في المثلين من صفتي البقاء والزوال ليتوصل بذلك إلى البشارة والنذارة لأهل الحق وأهل الباطل بأن الفريق الأول هو الباقي الدائم، وأن الفريق الثاني زائل بائد، كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ
عَابِدِينَ} [سورة الأنبياء: 105, 106]، فصار التشبيه تعريضا وكناية عن البشارة والنذارة، كما دل عليه قوله عقب ذلك {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} [سورة الرعد: 18] الخ كما سيأتي قريبا.
فجملة {فَأَمَّا الزَّبَدُ} معطوفة على جملة {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً} مفرعة على التمثيل. وافتتحت ب {فَأَمَّا} للتوكيد وصرف ذهن السامع إلى الكلام لما فيه من خفي البشارة والنذارة، ولأنه تمام التمثيل. والتقدير: فذهب الزبد جفاء ومكث ما ينفع الناس في الأرض.
والجفاء: الطريح المرمي. وهذا وعيد للمشركين بأنهم سيبيدون بالقتل ويبقى المؤمنون.
وعبر عن الماء بما ينفع الناس للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو البقاء في الأرض تعريضا للمشركين بأن يعرضوا أحوالهم على مضمون هذه الصلة ليعلموا أنهم ليسوا مما ينفع الناس، وهذه الصلة موازنة للوصف في قوله تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء: 105].
واكتفى بذكر وجه شبه النافع بالماء وغير النافع بالزبد عن ذكر وجه شبه النافع بالذهب أو الفضة وغير النافع بزبدهما استغناء عنه.
وجملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} مستأنفة تذييلية لما في لفظ {الْأَمْثَالَ} من العموم. فهو أعم من جملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} لدلالتها على صنف من المثل دون جميع أصنافه فلما أعقب بمثل آخر وهو {فأما الزبد فيذهب جفاء} جيء بالتنبيه إلى الفائدة العامة من ضرب الأمثال. وحصل أيضا توكيد جملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} لأن العام يندرج فيه الخاص.
فإشارة {كَذَلِكَ} إلى التمثيل السابق في جملة {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي مثل ذلك الضرب البديع بضرب الله الأمثال، وهو المقصود بهذا التذييل.
والإشارة للتنويه بذلك المثل وتنبيه الأفهام إلى حكمته وحكمة التمثيل، وما فيه من المواعظ والعبر، وما جمعه من التمثيل والكناية التعريضية، وإلى بلاغة القرآن وإعجازه، وذلك تبهيج للمؤمنين وتحد للمشركين، وليعلم أن جملة {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} لم يؤت بها لمجرد تشخيص دقائق القدرة الإلهية والصنع البديع بل ولضرب المثل، فيعلم الممثل له بطريق التعريض بالمشركين والمؤمنين، فيكون الكلام قد تم عند قوله: {كَذَلِكَ
يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} كما هو شأن التذييل.
[18] {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.
استئناف بياني لجملة {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} ، أي فائدة هذه الأمثال أن للذين استجابوا لربهم حين يضربها لهم الحسنى إلى آخره.
فمناسبته لما تقدم من التمثيلين أنهما عائدان إلى أحوال المسلمين والمشركين. ففي ذكر هذه الجملة زيادة تنبيه للتمثيل وللغرض منه مع ما في ذلك من جزاء الفريقين لأن المؤمنين استجابوا لله بما عقلوا الأمثال فجوزوا بالحسنى، وأما المشركون فاعرضوا ولم يعقلوا الأمثال، قال تعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [سورة العنكبوت: 43]، فكان جزاؤهم عذابا عظيما وهو سوء الحساب الذي عاقبته المصير إلى جهنم. فمعنى {اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ} استجابوا لدعوته بما تضمنه المثل السابق وغيره.
وقوله: {الْحُسْنَى} مبتدأ و {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا} خبره. وفي العدول إلى الموصولين وصلتيهما في قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا} {وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ} إيماء إلى أن الصلتين سببان لما حصل للفريقين.
وتقديم المسند في قوله: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} لأنه الأهم لأن الغرض التنويه بشان الذين استجابوا مع جعل الحسنى في مرتبة المسند إليه، وفي ذلك تنويه بها أيضا.
وأما الخبر عن وعيد الذين لم يستجيبوا فقد أجري على أصل نظم الكلام في التقديم والتأخير لقلة الاكتراث بهم. وتقدم نظير قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} في سورة العقود[36].
وأتي باسم الإشارة في {أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ} للتنبيه على أنهم أحرياء بما بعد اسم الإشارة من الخبر بسبب ما قبل اسم الإشارة من الصلة.
و {سُوءُ الْحِسَابِ} ما يحف بالحساب من إغلاظ وإهانة للمحاسب، وأما أصل الحساب فهو حسن لأنه عدل.
[19] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}.
تفريع على جملة {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى} الآية[سورة الرعد: 13]. فالكلام لنفي استواء المؤمن والكافر في صورة الاستفهام تنبيها على غفلة الضالين عن عدم الاستواء، كقوله: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [سورة السجدة: 18].
واستعير لمن لا يعلم أن القرآن حق اسم الأعمى لأنه انتفى علمه بشيء ظاهر بين فأشبه الأعمى. فالكاف للتشابه مستعمل في التماثل. والاستواء المراد به التماثل في الفضل بقرينة ذكر العمى. ولهذه الجملة في المعنى اتصال بقوله في أول السورة {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} إلى {لا يُؤْمِنُونَ} [سورة الرعد: 1].
وجملة {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} تعليل للإنكار الذي هو بمعنى الانتفاء بان سبب عدم علمهم بالحق أنهم ليسوا أهلا للتذكر لأن التذكر من شعار أولي الألباب. أي العقول.
والقصر ب {إِنَّمَا} إضافي، أي لا غير أولي الألباب. فهو تعريض بالمشركين بأنهم لا عقول لهم إذ انتفت عنهم فائدة عقولهم.
والألباب: العقول. وتقدم في آخر سورة آل عمران.
[20, 22] {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}.
يجوز أن يكون {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} ابتداء كلام فهو استئناف ابتدائي جاء لمناسبة ما أفادت الجملة التي قبلها من إنكار الاستواء بين فريقين، ولذلك ذكر في هذه الجمل حال فريقين في المحامد والمساوي ليظهر أن نفي التسوية بينهما في الجملة السابقة ذلك النفي المراد به تفضيل أحد الفريقين على الآخر هو نفي مؤيد بالحجة، وبذلك يصير موقع هذه الجملة مفيدا تعليلا لنفي التسوية المقصود منه تفضيل المؤمنين على المشركين، فيكون قوله: {الَّذِينَ يُوفُونَ} مسندا إليه وكذلك ما عطف عليه. وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} مسندا.
ـــــــ
في المطبوعة: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ}.
واجتلاب اسم الإشارة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} للتنبيه على أن المشار إليهم جديرون بما بعد اسم الإشارة من أجل الأوصاف التي قبل اسم الإشارة، كقوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في أول سورة البقرة [5].
ونظير هذه الجملة قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} [سورة الفرقان: 34] من قوله: {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [سورة الفرقان: 33].
وقد ظهر بهذه الجملة كلها وبموقعها تفضيل الذين يعلمون أن ما أنزل حق بما لهم من صفات الكمال الموجبة للفضل في الدنيا وحسن المصير في الآخرة وبما لأضدادهم من ضد ذلك في قوله: {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة الرعد: 25].
والوفاء بالعهد: أن يحقق المرء ما عاهد على أن يعمله. ومعنى العهد: الوعد الموثق بإظهار العزم على تحقيقه من يمين أو تأكيد.
ويجوز أن يكون {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} نعتا لقوله: {أُولُو الْأَلْبَابِ} وتكون جملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} نعتا ثانيا. والإتيان باسم الإشارة للغرض المذكور آنفا.
وعهد الله مصدر مضاف لمفعوله. أي ما عاهدوا الله على فعله، أو من إضافة المصدر إلى فاعله، أي ما عهد الله به إليهم. وعلى كلا الوجهين فالمراد به الإيمان الذي أخذه الله على الخلق المشار إليه بقوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى}. وتقدم في سورة الأعراف[172]، فذلك عهدهم ربهم. وأيضا بقوله: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي} [سورة يس: 60-61]، وذلك عهد الله لهم بأن يعبدوه ولا يعبدوا غيره. فحصل العهد باعتبار إضافته إلى مفعوله وإلى فاعله.
وذلك أمر أودعه الله في فطرة البشر فنشأ عليه أصلهم وتقلده ذريته، واستمر اعترافهم لله بأنه خالقهم. وذلك من آثار عهد الله. وطرأ عليهم بعد ذلك تحريف عهدهم فأخذوا يتناسون وتشتبه الأمور على بعضهم فطرأ عليهم الإشراك لتفريطهم النظر في دلائل التوحيد، ولأنه بذلك العهد قد أودع الله في فطرة العقول السليمة دلائل الوحدانية لمن تأمل وأسلم للدليل، ولكن المشركين أعرضوا وكابروا ذلك العهد القائم في الفطرة، فلا جرم أن كان الإشراك إبطالا للعهد ونقضا له، ولذلك عطفت جملة {وَلا يَنْقُضُونَ
الْمِيثَاقَ} على جملة {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}.
والتعريف في {الْمِيثَاقَ} يحمل على تعريف الجنس فيستغرق جميع المواثيق وبذلك يكون أعم من عهد الله فيشمل المواثيق الحاصلة بين الناس من عهود وأيمان.
وباعتبار هذا العموم حصلت مغايرة ما بينه وبين عهد الله. وتلك هي مسوغة عطف {وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} على {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} مع حصول التأكيد لمعنى الأولى بنفي ضدها، وتعريضا بالمشركين لاتصافهم بضد ذلك الكمال فعطف التأكيد باعتبار المغايرة بالعموم والخصوص.
والميثاق والعهد مترادفان. والإيفاء ونفي النقض متحدا المعنى. وابتدئ من الصفات بهذه الخصلة لأنها تنبئ عن الإيمان أصل الخيرات وطريقها، ولذلك عطف على {يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ} قوله: {وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} تحذيرا من كل ما فيه فقضه.
وهذه الصلات صفات لأولي الألباب فعطفها من باب عطف الصفات للموصوف الاحد، وليس من عطف الأصناف. وذلك مثل العطف في قول الشاعر الذي أنشده الفراء في معاني القرآن:
إلى الملك القرم وابن الهمام ... وليث الكتيبة في المزدحم
فالمعنى: الذين يتصفون بمضمون كل صلة من هذه الصلات كلما عرض مقتض لاتصافهم بها بحيث إذا وجد المقتضي ولم يتصفوا بمقتضاه كانوا غير متصفين بتلك الفضائل، فمنها ما يستلزم الاتصاف بالضد، ومنها ما لا يستلزم إلا التفريط في الفضل.
وأعيد اسم الموصول هذا وما عطف عليه من الأسماء الموصولة، للدلالة على أن صلاتها خصال عظيمة تقتضي الاهتمام بذكر من اتصف بها، ولدفع توهم أن عقبى الدار لا تتحقق لهم إلا إذا جمعوا كل هذه الصفات.
فالمراد ب {الَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} ما يصدق على الفريق الذين يوفون بعهد الله.
ومناسبة عطفه أن وصل ما أمر الله به أن يوصل أثر من آثار الوفاء بعهد الله وهو عهد الطاعة الداخل في قوله: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} في سورة يس [61].
والوصل: ضم شيء لشيء، وضده القطع. ويطلق مجازا على القرب وضده الهجر. واشتهر مجازا أيضا في الإحسان والإكرام ومنه قولهم، صلة الرحم، أي الإحسان لأجل الرحم، أي لأجل القرابة الآتية من الأرحام مباشرة أو بواسطة، وذلك النسب الجائي من الأمهات. وأطلقت على قرابة النسب من جانب الآباء أيضا لأنها لا تخلو غالبا من اشتراك في الأمهات ولو بعدن.
و {مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} عام في جميع الأواصر والعلائق التي أمر الله بالمودة والإحسان لأصحابها، فمنها آصرة الإيمان، ومنها آصرة القرابة وهي صلة الرحم. وقد اتفق المفسرون على أنها مراد الله هنا، وقد تقدم مثله عند قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} في سورة البقرة [26, 27].
وإنما أطنب في التعبير عنها بطريقة اسم الموصول {مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} لما في الصلة من التعريض بان واصلها آت بما يرضي الله لينتقل من ذلك إلى التعريض بالمشركين الذين قطعوا أواصر القرابة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وأساءوا إليهم في كل حال وكتبوا صحيفة القطعية مع بني هاشم.
وفيها الثناء على المؤمنين بأنهم يصلون الأرحام ولم يقطعوا أرحام قومهم المشركين إلا عند ما حاربوهم وناووهم.
وقوله: {أَنْ يُوصَلَ} بدل من ضمير {بِهِ} ، أي ما أمر الله يوصله. وجيء بهذا النظم لزيادة تقرير المقصود وهو الأرحام بعد تقريره بالموصولية.
والخشية: خوف بتعظيم المخوف منه. وتقدمت في قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} في سورة البقرة [45]. وتطلق على مطلق الخوف.
والخوف: ظن وقوع المضرة من شيء. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} في سورة البقرة [229].
و {سُوءَ الْحِسَابِ} ما يحف به مما يسوء المحاسب، وقد تقدم آنفا أي يخافون وقوعه عليهم فيتركون العمل السيء.
وجاءت الصلات {الَّذِينَ يُوفُونَ} {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ} وما عطف عليهما بصيغة المضارع في تلك الأفعال الخمسة لإفادة التجدد كناية عن الاستمرار.
وجاءت صلة {وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} وما عطف عليها وهو {أقاموا الصلاة وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا} بصيغة المضي لإفادة تحقق هذه الأفعال الثلاثة لهم وتمكنها من أنفسهم تنويها بها لأنها أصول لفضائل الأعمال.
فأما الصبر فلأنه ملاك استقامة الأعمال ومصدرها فإذا تخلق به المؤمن صدرت عنه الحسنات والفضائل بسهولة، ولذلك فان تعالى {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر: 2-3].
وأما الصلاة فلأنها عماد الدين وفيها ما في الصبر من الخاصية لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} وقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [سورة البقرة: 45].
وأما الإنفاق فأصله الزكاة، وهي مقارنة للصلاة كلما ذكرت، ولها الحظ الأوفى من اعتناء الدين بها، ومنها النفقات والعطايا كلها، وهي أهم الأعمال، لأن بذل المال يشق على النفوس فكان له من الأهمية ما جعله ثانيا للصلاة.
ثم أعيد أسلوب التعبير بالمضارع في المعطوف على الصلة وهو قوله: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} لاقتضاء المقام إفادة التجدد إيماء إلى أن تجدد هذا الدرء مما يحرص عليه لأن الناس عرضة للسيئات على تفاوت، فوصف لهم دواء ذلك بأن يدفعوا السيئات بالحسنات.
والقول في عطف {وَالَّذِينَ صَبَرُوا} وفي إعادة اسم الموصول كالقول في {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ}.
والصبر: من المحامد. وتقدم في قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} في سورة البقرة [45]. والمراد الصبر على مشاق أفعال الخبر ونصر الدين.
و {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ} مفعول لأجله ل {صَبَرُوا}. والابتغاء: الطلب. ومعنى ابتغاء وجه الله ابتغاء رضاه كأنه فعل فعلا يطلب به إقباله عند لقائه. وتقدم في قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} في آخر سورة البقرة [272].
والمعنى أنهم صبروا لأجل أن الصبر مأمور به من الله لا لغرض آخر كالرياء ليقال ما أصبره على الشدائد ولاتقاء شماتة الأعداء.
والسر والعلانية تقدم وجه ذكرهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} أواخر سورة البقرة [274].
والدرء: الدفع والطرد. وهو هنا مستعار لإزالة أثر الشيء فيكون بعد حصول المدفوع وقبل حصوله بأن يعد ما يمنع حصوله. فيصدق ذلك بأن يتبع السيئة إذا صدرت منه بفعل الحسنات فإن ذلك كطرد السيئة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ اتق الله حيث كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها". وخاصة فيما بينه وبين ربه.
ويصدق بان لا يقابل من فعل معه سيئة بمثلها بل يقابل ذلك بالإحسان، قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [سورة فصلت: 34] بأن يصل من قطعه ويعطي من حرمه ويعفو عمن ظلمه. وذلك فيما بين الأفراد وكذلك بين الجماعات إذا لم يفض إلى استمرار الضر. قال تعالى في ذلك {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [سورة الأنفال: 3].
ويصدق بالعدول عن فعل السيئة بعد العزم فإن ذلك العدول حسنة درأت السيئة المعزوم عليها. قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: "من هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله له حسنة".
فقد جمع {يَدْرَأُونَ} جميع هذه المعاني ولهذا لم يعقب بما يقتضي أن المراد معاملة المسيء بالإحسان كما أتبع في قوله: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} في سورة فصلت [34]. وكما في قوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} في سورة المؤمنون [96].
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} خبر عن {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ}. ودل اسم الإشارة على أن المشار إليهم جديرون بالحكم الوارد بعد اسم الإشارة لأجل ما وصف به المشار إليهم من الأوصاف. كما في قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} في أول سورة البقرة [5].
و {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ} جملة جعلت خبرا عن اسم الإشارة. وقدم المجرور على المبتدأ للدلالة على القصر، أي لهم عقبى الدار لا للمتصفين بأضداد صفاتهم. فهو قصر إضافي.
والعقبى: العاقبة. وهي الشيء الذي يعقب، أي يقع عقب شيء آخر. وقد اشتهر استعمالها في آخرة الخير، قال تعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [سورة القصص: 83]. ولذلك
وقعت هنا في مقابلة ضدها في قوله: {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [سورة غافر: 52].
وأما قوله: {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [سورة الرعد: 35] فهو مشاكلة كما سيأتي في آخر السورة عند قوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد: 42]. وانظر ما ذكرته في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ} في سورة القصص [37] فقد زدته بيانا.
وإضافتها إلى {الدَّارِ} من إضافة الصفة إلى الموصوف. والمعنى: لهم الدار العاقبة. أي الحسنة.
[24، 23] {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
{جَنَّاتِ عَدْنٍ} بدل من {عُقْبَى الدَّارِ}. والعدن: الاستقرار. وتقدم في قوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} في سورة براءة [72].
وذكر {يَدْخُلُونَهَا} لاستحضار الحالة البهيجة. والجملة حال من {جَنَّاتِ} أو من ضمير {لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}. والواو في {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} واو المعية وذلك زيادة الإكرام بأن جعل أصولهم وفروعهم وأزواجهم المتأهلين لدخول الجنة لصلاحهم في الدرجة التي هم فيها؛ فمن كانت مرتبته دون مراتبهم لحق بهم، ومن كانت مرتبته فوق مراتبهم لحقوا هم به، فلهم الفضل في الحالين. وهذا كعكسه في قوله تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [سورة الصافات: 22] الآية لأن مشاهدة عذاب الأقارب عذاب مضاعف.
وفي هذه الآية بشرى لمن كان له سلف صالح أو خلف صالح أو زوج صالح ممن تحققت فيهم هذه الصلات أنه إذا صار إلى الجنة لحق بصالح أصوله أو فروعه أو زوجه. وما ذكر الله هذا إلا لهذه البشرة كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الطور: 21].
والآباء يشمل الأمهات على طريقة التغليب كما قالوا: الأبوين.
وجملة {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} عطف على {يَدْخُلُونَهَا} فهي في موقع الحال. وهذا من كرامتهم والتنويه بهم، فإن تردد رسل الله عليهم مظهر من مظاهر إكرامه.
وذكر {مِنْ كُلِّ بَابٍ} كناية عن كثرة غشيان الملائكة إياهم بحيث لا يخلو باب من أبواب بيوتهم لا تدخل منه ملائكة. ذلك أن هذا الدخول لما كان مجلبة مسرة كان كثيرا في الأمكنة. ويفهم منه أن ذلك كثير في الأزمنة فهو متكرر لأنهم ما دخلوا من كل باب إلا لأن كل باب مشغول بطائفة منهم، فكأنه قيل من كل باب في كل آن.
وجملة {سَلامٌ عَلَيْكُمْ} مقول قول محذوف لأن هذا لا يكون إلا كلاما من الداخلين. وهذا تحية يقصد منها تأنيس أهل الجنة.
والباء في {مَا صَبَرْتُمْ} للسببية، وهي متعلقة بالكون المستفاد من المجرور وهو {عَلَيْكُمْ}. والتقدير: نالكم هذا التكريم بالسلام بسبب صبركم. ويجوز أن يكون متعلقا بمحذوف مستفاد من المقام، أي هذا النعيم المشاهد بما صبرتم.
والمراد: الصبر على مشاق التكاليف وعلى ما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم.
وفرع على ذلك {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} تفريع ثناء على حسن عاقبتهم، والمخصوص بالمدح محذوف لدلالة مقام الخطاب عليه. والتقدير: فنعم عقبى الدار دار عقباكم. وتقدم معنى {عُقْبَى الدَّارِ} آنفا.
[25] {وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
هذا شرح حال أضداد الذين يوفون بعهد الله، وهو ينظر إلى شرح مجمل قوله: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [سورة الرعد: 19]. والجملة معطوفة على جملة {الَّذِينَ يُوفُونَ} [سورة الرعد: 20].
ونقض العهد: إبطاله وعدم الوفاء به.
وزيادة {مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ} زيادة في تشنيع النقض، أي من بعد توثيق العهد وتأكيده.
وتقدم نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ} في أوائل سورة البقرة [26-27].
وجملة {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} خبر عن {والذين ينقضون} ، وهي مقابل جملة {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}.
والبعد عن الرحمة والخزي وإضافة سوء الدار كإضافة عقبى الدار. والسوء ضد العقبى كما تقدم.
[26] {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}.
هذه الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا عما يهجس في نفوس السامعين من المؤمنين والكافرين من سماع قوله: {أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} المفيد أنهم مغضوب عليهم، فأما المؤمنون فيقولون: كيف بسط الله الرزق لهم في الدنيا فازدادوا به طغيانا وكفرا وهلا عذبهم في الدنيا بالخصاصة كما قدر تعذيبهم في الآخرة، وذلك مثل قول موسى - عليه السلام - {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ} [سورة يونس: 88]، وأما الكافرون فيسخرون من الوعيد مزدهين بما لهم من نعمة. فأجيب الفريقان بأن الله يشاء بسط الرزق لبعض عباده ونقصه لبعض آخر لحكمة متصلة بأسباب العيش في الدنيا، ولذلك اتصال بحال الكرامة عنده في الآخرة. ولذلك جاء التعميم في قوله: {لِمَنْ يَشَاءُ} ، ومشيئته تعالى وأسبابها لا يطلع عليها أحد.
وأفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ} تقوية للحكم وتأكيدا، لأن المقصود أن يعلمه الناس ولفت العقول إليه على رأي السكاكي في أمثاله. وليس المقام مقام إفادة الحصر كما درج عليه "الكشاف" إذ ليس ثمة من يزعم الشركة لله في ذلك، أو من يزعم أن الله لا يفعل ذلك فيقصد الرد عليه بطريق القصر.
والبسط: مستعار للكثرة وللدوام. والقدر: كناية عن القلة.
ولما كان المقصود الأول من هذا الكلام تعليم المسلمين كان الكلام موجها إليهم.
وجيء في جانب الكافرين بضمير الغيبة إشارة إلى أنهم أقل من أن يفهموا هذه الدقائق لعنجهية نفوسهم فهم فرحوا بما لهم في الحياة الدنيا وغفلوا عن الآخرة، فالفرح المذكور فرح بطر وطغيان كما في قوله تعالى في شأن قارون {ذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} [سورة القصص: 76]، فالمعنى فرحوا بالحياة الدنيا دون اهتمام بالآخرة. وهذا المعنى أفاده الاقتصار على ذكر الدنيا في حين ذكر الآخرة أيضا بقوله: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ}.
والمراد بالحياة الدنيا وبالآخرة نعيمهما بقرينة السياق، فالكلام من إضافة الحكم إلى الذات والمراد أحوالها.
و {فِي} ظرف مستقر حال من {الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. ومعنى {فِي} الظرفية المجازية بمعنى المقايسة، أي إذا نسبت أحوال الحياة الدنيا بأحوال الآخرة ظهر أن أحوال الدنيا متاع قليل، وتقدم عند قوله: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} في سورة براءة [38].
والمتاع: ما يتمتع به وينقضي. وتنكيره للتقليل كقوله: {لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ} [سورة آل عمران: 196-197].
[27] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}.
عطف غرض على غرض وقصة على قصة. والمناسبة ذكر فرحهم بحياتهم الدنيا وقد اغتروا بما هم عليه من الرزق فسألوا تعجيل الضر في قولهم: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة الأنفال: 32]. وهذه الجملة تكرير لنظيرتها السابقة {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [سورة الرعد: 7]. فأعيدت تلك الجملة إعادة الخطيب كلمة من خطبته ليأتي بما بقي عليه في ذلك الغرض بعد أن يفصل بما اقتضى المقام الفصل به ثم يتفرغ إلى ما تركه من قبل، فإنه بعد أن بينت الآيات السابقة أن الله قادر على أن يعجل لهم العذاب ولكن حكمته اقتضت عدم التنازل ليتحدى عبيده فتبين ذلك كله كمال التبيين. وكل ذلك لاحق بقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سورة الرعد: 5]، وعود إلى المهم من غرض التنويه بآية القرآن ودلالته على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ولهذا أطيل الكلام على هدي القرآن عقب هذه الجملة.
ولذلك تعين أن موقع جملة {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} موقع الخبر المستعمل في تعجيب الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة ضلالهم بحيث يوقن من شاهد حالهم أن الضلال والاهتداء بيد الله وأنهم لولا أنهم جبلوا من خلقة عقولهم على اتباع الضلال لكانوا مهتدين لأن أسباب الهداية واضحة.
وتحت هذا التعجيب معان أخرى.
أحدهما: أن آيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم واضحة لولا أن عقولهم لم تدركها لفساد إدراكهم.
الثاني: أن الآيات الواضحة الحسية قد جاءت لأمم أخرى فرأوها ولم يؤمنوا. كما قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} [سورة الإسراء: 59 8].
الثالث: أن لعدم إيمانهم أسبابا خفية يعلمها الله قد أبهمت بالتعليق على المشيئة في قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} منها ما يومئ إليه قوله في مقابلة {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} وذلك أنهم تكبروا وأعرضوا حين سمعوا الدعوة إلى التوحيد فلم يتأملوا، وقد ألقيت إليهم الأدلة القاطعة فأعرضوا عنها ولو أنابوا وأذعنوا لهداهم الله ولكنهم نفروا. وبهذا يظهر موقع ما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يجيب به عن قولهم {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} بأن يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} وأن ذلك تعريض بأنهم ممن شاء الله أن يكونوا ضالين وبأن حالهم مشار تعجب.
والإنابة: حقيقتها الرجوع. وأطلقت هنا على الاعتراف بالحق عند ظهور دلائله لأن النفس تنفر من الحق ابتداء ثم ترجع إليه، فالإنابة هنا ضد النفور.
[28] [29] {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}.
استئناف اعتراضي مناسبته المضادة لحال الذين أضلهم الله، والبيان لحال الذين هداهم مع التنبيه على أن مثال الذين ضلوا وهو عدم اطمئنان قلوبهم لذكر الله، وهو القرآن، لأن قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يتضمن أنهم لم يعدوا القرآن آية من الله، ثم التصريح بجنس عاقبة هؤلاء، والتعريض بضد ذلك لأولئك، فذكرها عقب الجملة السابقة يفيد الغرضين ويشير إلى السببين. ولذلك لم يجعل {الَّذِينَ آمَنُوا} بدلا من {مَنْ أَنَابَ} [سورة الرعد: 27] لأنه لو كان كذلك لم تعطف على الصلة جملة {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ} ولا عطف {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} على الصلة الثانية، ف {الَّذِينَ آمَنُوا} الأول مبتدأ، وجملة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} معترضة، و {الَّذِينَ آمَنُوا} الثاني بدل مطابق من {الَّذِينَ آمَنُوا} الأول، وجملة {طُوبَى لَهُمْ} خبر المبتدأ.
والاطمئنان: السكون، واستعير هنا لليقين وعدم الشك، لأن الشك يستعار له
الاضطراب. وتقدم عند قوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} في سورة البقرة [260].
و {ذكر الله} يجوز أن يراد به خشية الله ومراقبته بالوقوف عند أمره ونهيه. ويجوز أن يراد به القرآن قال {وإنه لذكر لك ولقومك} [سورة الزخرف: 44]، وهو المناسب قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} لأنهم لم يكتفوا بالقرآن آية على صدق الرسول فقالوا: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}. وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى في سورة الزمر {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 22]، أي للذين كان قد زادهم قسوة قلوب، وقوله في آخرها {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 23].
والذكر من أسماء القرآن. ويجوز أن يراد ذكر الله باللسان فإن إجراءه على اللسان ينبه القلوب إلى مراقبته.
وهذا وصف لحسن حال المؤمنين ومقايسته بسوء حالة الكافرين الذين غمر الشك قلوبهم، قال تعالى: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [سورة المؤمنون: 63].
واختير المضارع في {تَطْمَئِنُّ} مرتين لدلالته على تجدد الاطمئنان واستمراره وأنه لا يتخلله شك ولا تردد.
وافتتحت جملة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ} بحرف التنبيه اهتماما بمضمونها وإغراء بوعيه. وهي بمنزلة التذييل لما في تعريف {الْقُلُوبُ } من التعميم. وفيه إثارة الباقين على الكفر على أن يتسموا بسمة المؤمنين من التدبير في القرآن لتطمئن قلوبهم، كأنه يقول: إذا علمتم راحة بال المؤمنين فماذا يمنعكم بأن تكونوا مثلهم فإن تلك في متناولكم لأن ذكر الله بمسامعكم.
وطوبى: مصدر من طاب طيبا إذا حسن. وهي بوزن البشرى والزلفى، قلبت ياؤها واوا لمناسبة الضمة، أي لهم الخير الكامل لأنهم اطمأنت قلوبهم بالذكر. فهم في طيب حال: في الدنيا بالاطمئنان، وفي الآخرة بالنعيم الدائم وهو حسن المئاب وهو مرجعهم في آخر أمرهم.
وإطلاق المآب عليه باعتبار أنه آخر أمرهم وقرارهم كما أن قرار المرء بيته يرجع إليه بعد الانتشار منه. على أنه يناسب ما تقرر أن الأرواح من أمر الله، أي من عالم الملكوت وهو عالم الخلد فمصيرها إلى الخلد رجوع إلى عالمها الأول. وهذا مقابل قوله في المشركين {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
واللام في قوله: {لَهُمْ} للملك.
[30] {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ}.
هذا الجواب عن قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} لأن الجواب السابق بقوله: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} جواب بالإعراض عن جهالتهم والتعجب من ضلالهم وما هنا هو الجواب الراد لقولهم. فيجوز جعل هذه الجملة من مقول القول. ويجوز جعلها مقطوعة عن جملة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ}. وأياما كان فهي بمنزلة البيان لجملة القول كلها، أو البيان لجملة المقول وهو التعجب.
وفي افتتاحها بقوله: {كَذَلِكَ} الذي هو اسم إشارة تأكيد للمشار إليه وهو التعجب من ضلالتهم إذ عموا عن صفة الرسالة.
والمشار إليه: الإرسال المأخوذ من فعل {أَرْسَلْنَاكَ} ، أي مثل الإرسال البين أرسلناك، فالمشبه به عين المشبه، إشارة إلى أنه لوضوحه لا يبين ما وضح من نفسه. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} في سورة البقرة [143].
ولما كان الإرسال قد علق بقوله: {فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} صارت الإشارة أيضا متحملة لمعنى إرسال الرسل من قبله إلى أمم يقتضي مرسلين، أي ما كانت رسالتك إلا مثل رسالة الرسل من قبلك، كقوله: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} [سورة الأحقاف: 9] وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [سورة الفرقان: 20] لإبطال توهم المشركين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يأتهم بما سألوه فهو غير مرسل من الله. وفي هذا الاستدلال تمهيد لقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [سورة الرعد: 31] الآيات. ولذلك أردفت الجملة بقوله: {تَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}.
والأمة: هي أمة الدعوة {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ}.
وتقدم معنى {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} في سورة آل عمران عند قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ}. ويتضمن قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} التعريض بالوعيد بمثل مصير الأمم الخالة التي كذبت رسلها.
وتضمن لام التعليل في قوله: {لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ} أن الإرسال لأجل الإرشاد والهداية
بما أمر الله لا لأجل الانتصاب لخوارق العادات.
والتلاوة: القراءة. فالمقصود لتقرأ عليهم القرآن، كقوله: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [سورة النمل: 92] الآية.
وفيه إيماء إلى أن القرآن هو معجزته لأنه ذكره في مقابلة إرسال الرسل الأولين ومقابلة قوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [سورة الرعد: 7]. وقد جاء ذلك صريحا في قوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [سورة العنكبوت: 51]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي".
وجملة {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} عطف على جملة {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} ، أي أرسلناك بأوضح الهداية وهم مستمرون على الكفر لم تدخل الهداية قلوبهم، فالضمير عائد إلى المشركين المفهومين من المقام لا إلى {أُمَّةٍ} لأن الأمة منها مؤمنون.
والتعبير بالمضارع في {يَكْفُرُونَ} للدلالة على تجدد ذلك واستمراره ومعنى كفرهم بالله إشراكهم معه غيره في الإلهية، فقد أبطلوا حقيقة الإلهية فكفروا به.
واختيار اسم "الرَّحْمَنِ" من بين أسمائه تعالى لأن كفرهم بهذا الاسم أشد لأنهم أنكروا أن يكون الله رحمان، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} في سورة الفرقان [60]، فأشارت الآية إلى كفرين من كفرهم: جحد الوحدانية، وجحد اسم الرحمن، ولأن لهذه الصفة مزيد اختصاص بتكذيبهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - وتأييده بالقرآن لأن القرآن هدى ورحمة للناس, وقد أرادوا تعويضه بالخوارق التي لا تكسب هديا بذاتها ولكنها دالة على صدق من جاء بها.
قال مقاتل وابن جريج: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية حين أرادوا أن يكتبوا كتاب الصلح فقال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: "اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقال سهيل بن عمرو: ما نعرف الرحمان إلا صاحب اليمامة، يعني مسيلمة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتب باسمك اللهم". ويبعده أن السورة مكية كما تقدم.
وعن ابن عباس نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمان فنزلت.
وقد لقن النبي صلى الله عليه وسلم بإبطال كفرهم المحكي إبطالا جامعا بأن يقول: {هُوَ رَبِّي}،
فضمير {هُوَ} عائد إلى "الرَّحْمَان" باعتبار المسمى بهذا الاسم، أي المسمى هو ربي وأن الرحمن اسمه.
وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إبطال لإشراكهم معه في الإلهية غيره. وهذا مما أمر الله نبيه أن يقول، فهو احتراس لرد قولهم: إن محمدا صلى الله عليه وسلم يدعوا إلى رب واحد وهو يقول: إن ربه الله وإن ربه الرحمن، فكان قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إخبار من جانب الله على طريقة الاعتراض.
وجملة {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} هي نتيجة لكون ربا واحد. ولكونها كالنتيجة لذلك فصلت عن التي قبلها لما بينها من الاتصال.
وتقديم المجرورين وهما {عَلَيْهِ} و {إِلَيْهِ} لإفادة اختصاص التوكل والمتاب بالكون عليه. أي لا على غيره، لأنه لما توحد بالربوبية كان التوكل عليه، ولما اتصف بالرحمانية كان المتاب إليه، لأن رحمانيته مظنة لقبوله توبة عبده.
والمتاب: مصدر ميمي على وزن مفعل، أي التوبة، يفيد المبالغة لأن الأصل في المصادر الميمية أنها أسماء زمان جعلت كناية عن المصدر، ثم شاع استعمالها حتى صارت كالصريح.
ولما كان المتاب متضمنا معنى الرجوع إلى ما يأمر الله به عدي المتاب بحرف {إِلَى}.
وأصل {مَتَابِ} متابي بإضافة إلى ياء المتكلم فحذفت الياء تخفيفا وأبقيت الكسرة دليلا على المحذوف كما حذف في المنادي المضاف إلى الياء.
[31] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً}.
يجوز أن تكون عطفا على جملة {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} لأن المقصود من الجملة المعطوف عليها أن رسالته لم تكن إلا مثل رسالة غيره من الرسل - عليهم السلام - كما أشار إليه صفة {أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ} ، فتكون جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} تتمة للجواب عن قولهم: {وْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.
ويجوز أن تكون معترضة بين جملة {قُلْ هُوَ رَبِّي} وبين جملة {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} [سورة الرعد: 33] كما سيأتي هنالك. ويجوز أن تكون محكية بالقول عطفا على جملة {هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}.
والمعنى: لو أن كتابا من الكتب السالفة اشتمل على أكثر من الهداية فكانت مصادر لإيجاد العجائب لكان هذا القرآن كذلك ولكن لم يكن قرآن كذلك، فهذا القرآن لا يتطلب منه الاشتمال إذ ليس ذلك من سنن الكتب الإلهية.
وجواب {لَوْ} محذوف لدلالة المقام عليه. وحذف جواب {لَوْ} كثير في القرآن كقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [سورة الأنعام: 27] وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ} [سورة السجدة: 12].
ويفيد ذلك معنى تعريضيا بالنداء عليهم بنهاية ضلالتهم، إذ لم يهتدوا بهدي القرآن ودلائله والحال لو أن قرآنا أمر الجبال أن تسير والأرض أن تتقطع والموتى أن تتكلم لكان هذا القرآن بالغا ذلك ولكن ذلك ليس من شأن الكتب، فيكون على حد قول أبي بن سلمى من الحماسة:
ولو طار ذو حافر قبلها ... لطارت ولكنه لم يطير
ووجه تخصيص هذه الأشياء الثلاثة من بين الخوارق المفروضة ما رواه الواحدي والطبري عن ابن عباس: إن كفار قريش أبا جهل وابن أبي أمية جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: لو وسعت لنا جبال مكة فسيرتها حتى تتسع أرضنا فنحترثها فإنها ضيقة، أو قرب إلينا الشام فإنا نتجر إليها، أو أخرج قصيا نكلمه.
وقد يؤيد هذه الرواية أنه تكرر رفض تكليم الموتى بقوله في سورة الأنعام {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى} [سورة الأنعام: 111]، فكان في ذكر هذه الأشياء إشارة إلى تهكمهم. وعلى هذا يكون {قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} قطعت مسافات الأسفار كقوله تعالى: {لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [سورة الأنعام: 94].
وجملة {بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً} عطف على {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} بحرف الإضراب. أي ليس ذلك من شأن الكتب بل الله أمر كل محدث فهو الذي أنزل الكتاب وهو الذي يخلق العجائب إن شاء، وليس ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند سؤالكم. فأمر الله نبيه بأن يقول هذا الكلام إجراء لكلامهم على خلاف مرادهم على طريقة الأسلوب الحكيم. لأنهم ما أرادوا بما قالوه إلا التهكم، فحمل كلامهم على خلاف مرادهم تنبيها على أن الأولى بهم أن ينظروا هل كان في الكتب السابقة قرآن يتأتى به مثل ما سألوه.
ومثل ذلك قول الحجاج للقبعثري: لأحملنك على الأدهم "يريد القيد". فأجابه القبعثري بأن قال: مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب، فصرفه إلى لون فرس.
والأمر هنا: التصرف التكويني، أي ليس القرآن ولا غيره بمكون شيئا مما سألتم بل الله الذي يكون الأشياء.
وقد أفادت الجملتان المعطوفة والمعطوف عليها معنى القصر لأن العطف ب بل من طرق القصر، فاللام في قوله: {الْأَمْرُ} للاستغراق، و {جَمِيعاً} تأكيد له. وتقديم المجرور على المبتدأ لمجرد الاهتمام لأن القصر أفيد ب بل العاطفة.
وفرع على الجملتين {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً} استفهاما إنكاريا إنكارا لانتفاء يأس الذين آمنوا، أي فهم حقيقيون بزوال يأسهم وأن يعلموا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا.
وفي هذا الكلام زيادة تقرير لمضمون جملة {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [سورة الرعد: 27].
و {يَيْأَسِ} بمعنى يوقن ويعلم، ولا يستعمل هذا الفعل إلا مع {أَنَّ} المصدرية، وأصله مشتق من الياس الذي هو تيقن عدم حصول المطلوب بعد البحث، فاستعمل في مطلق اليقين على طريقة المجاز المرسل بعلاقة اللزوم لتضمن معنى اليأس معنى العلم وشاع ذلك حتى صار حقيقة، ومنه سحيهم بن وثيل الريحاني:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم تأيسوا أني ابن فارس زهدم
وشواهد أخرى.
وقد قيل: إن استعمال يئس بمعنى علم لغة هوازن أو لغة بني وهبيل "فخذ من النخع سمي باسم جد". وليس هنالك ما يلجئ إلى هذا. هذا إذا جعل {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ}
مفعولا ل {يَيْأَسِ}. ويجوز أن يكون متعلق {يَيْأَسِ} محذوفا دل عليه المقام. تقديره: من إيمان هؤلاء، ويكون {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ} مجرورا بلام تعليل محذوفة. والتقدير: لأنه لو يشاء الله لهدى الناس، فيكون تعليلا لإنكار عدم يأسهم على تقدير حصوله.
[31] {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}.
معطوفة على جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} على بعض الوجوه في تلك الجملة. وهي تهديد بالوعيد على تعنتهم وإصرارهم على عدم الاعتراف بمعجزة القرآن، وتهكمهم باستعجال العذاب الذي توعدوا به، فهددوا بما سيحل بهم من الخوف بحلول الكتائب والسرايا بهم تنال الذين حلت فيهم وتخييف من حولهم حتى يأتي وعد الله بيوم بدر أو فتح مكة.
واستعمال {لا يَزَالُ} في أصلها تدل على الإخبار باستمرار شيء واقع، فإذا كانت هذه الآية مكية تعين أن تكون نزلت عند وقوع بعض الحوادث المؤلمة بقريش من جوع أو مرض. فتكون هذه الآية تنبيها لهم بأن ذلك عقاب من الله تعالى ووعيد بأن ذلك دائم فيهم حتى يأتي وعد الله. ولعلها نزلت في مدة إصابتهم بالسنين السبع المشار إليها بقوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [سورة البقرة: 155].
ومن جعلوا هذه السورة مدنية فتأويل الآية عندهم أن القارعة السرية من سرايا المسلمين التي تخرج لتهديد قريش ومن حولهم. وهو لا ملجئ إليه.
والقارعة: في الأصل وصف من القرع. وهو ضرب جسم بجسم آخر. يقال: قرع الباب إذا ضربه بيده بحلقة. ولما كان القرع يحدث صوتا مباغتا يكون مزعجا لأجل تلك البغتة صار القرع مجازا للمباغتة والمفاجأة، ومثله الطرق، وصاغوا من هذا الوصف صيغة تأنيث إشارة إلى موصوف ملتزم الحذف اختصارا لكثرة الاستعمال، وهو ما يؤول بالحادثة أو الكائنة أو النازلة، كما قالوا: داهية وكارثة، أي نازلة موصوفة بالإزعاج فإن بغت المصائب أشد وقعا على النفس. ومنه تسمية ساعة البعث بالقارعة.
والمراد هنا الحادثة المفجعة بقرينة إسناد الإصابة إليها. وهي مثل الغارة والمكارثة تحل فيهم فتصيبهم عذابا، أو تقع بالقرب منهم فيصيبهم الخوف من تجاوزها إليهم،
فليس المراد بالقارعة الغزو والقتال لأنه لم يتعارف إطلاق اسم القارعة على موقعة القتال. ولذلك لم يكن في الآية ما يدل على أنها مما نزل بالمدينة.
ومعنى {بِمَا صَنَعُوا} بسبب فعلهم وهو كفرهم وسوء معاملتهم نبيهم، وأتى في ذلك بالموصول لأنه أشمل لأعمالهم.
وضمير {تَحُلُّ} عائد إلى {قَارِعَةٌ} فيكون ترديدا لحالهم بين إصابة القوارع إياهم وبين حلول القوارع قريبا من أرضهم فهم في رعب منها وفزع. ويجوز أن يكون {تَحُلُّ} خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم أي أو تحل أنت مع الجيش قريبا من دارهم. والحلول: النزول.
وتحل: بضم الحاء مضارع حل اللازم. وقد التزم فيه الضم، وهذا الفعل مما استدركه بحرق اليمني على ابن مالك في شرح الأفعال، وهو وجيه.
و {وَعْدُ اللَّهِ} من إطلاق المصدر على المفعول، أي موعود الله، وهو ما توعدهم به من العذاب، كما في قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [سورة آل عمران: 12]، فأشارت الآية إلى استئصالهم لأنها ذكرت الغلب ودخول جهنم، فكان المعنى أنه غلب القتل بسيوف المسلمين وهو البطشة الكبرى. ومن ذلك يوم بدر ويوم حنين ويوم الفتح.
وإتيان الوعد: مجاز في وقوعه وحلوله.
وجملة {إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} تذييل لجملة {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ} إيذانا بأن إتيان الوعد المغيا به محقق وأن الغاية به غاية بأمر قريب الوقوع. والتأكيد مراعاة لإنكار المشركين.
[32] {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}.
عطف على جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [سورة الرعد: 31] الخ، لأن تلك المثل الثلاثة التي فرضت أريد بها أمور سألها المشركون النبي صلى الله عليه وسلم استهزاء وتعجيزا لا لتقرب حصولها.
وجاءت عقب الجملتين لما فيها من المناسبة لهما من جهة المثل التي في الأولى ومن جهة الغاية التي في الثانية.
وقد استهزأ قوم نوح به - عليه السلام - {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ}، واستهزأت عاد بهود - عليه السلام - {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [سورة الشعراء: 187]، واستهزأت ثمود بصالح - عليه السلام - {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [سورة الأعراف: 66]، واستهزأوا بشعيب - عليه السلام - {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [سورة هود: 87]، واستهزأ فرعون بموسى - عليه السلام - {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ} [سورة الزخرف: 43].
والاستهزاء: مبالغة في الهزء مثل الاسسخار في السخرية.
والإملاء: الإمهال والترك مدة. ومنه {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} وقد تقدم في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ} في سورة الأعراف.
والاستفهام في {فكيف كان عقاب} للتعجيب.
و {عِقَابِ} أصله عقابي مثل ما تقدم آنفا في قوله: {وَإِلَيْهِ مَتَابِ} والكلام تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ووعيد للمشركين.
[33] {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
الفاء الواقعة بعد همزة الاستفهام مؤخرة من تقديم لأن همزة الاستفهام لها الصدارة. فتقدير أصل النظم: فأمن هو قائم. فالفاء لتفريع الاستفهام وليس استفهاما على التفريع، وذلك هو الوجه في وقوع حروف العطف الثلاثة الواو والفاء وثم بعد الاستفهام وهو رأي المحققين، خلافا لمن يجعلون الاستفهام وارد على حرف العطف وما عطفه.
فالفاء تفريع على جملة {قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [الرعد: 30] المجاب به حكاية كفرهم المضمن في جملة {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]،
فالتفريع في المعنى على مجموع الأمرين: كفرهم وإيمان النبي صلى الله عليه وسلم بالله.
ويجوز أن تكون تفريعا على جملة {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} [الرعد: 31]، فيكون ترقيا في إنكار سؤالهم إتيان معجزة غير القرآن، أي إن تعجب من إنكارهم آيات القرآن فإن أعجب منه جعلهم القائم على كل نفس بما كسبت مماثلا لمن جعلوه لله شركاء.
واعترض أثر ذلك برد سؤالهم أن تسير الجبال أو تقطع الأرض أو تكلم الموتى، وتذكيرهم بما حل بالمكذبين من قبلهم مع إدماج تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، لم فرع على ذلك الاستفهام الإنكاري.
وللمفسرين في تصوير الآية محامل مختلفة وكثير منها متقاربة، ومرجع المتجه منها إلى أن في النظم حذفا يدل عليه ما هو مذكور فيه، أو يدل عليه السياق. والوجه في بيان النظم أن التفريع على مجموع قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ} أي أن كفرهم بالرحمن وإيمانك بأنه ربك المقصورة عليه الربوبية يتفرع على مجموع ذلك استفهامهم استفهام إنكار عليهم تسويتهم من هو قائم على كل نفس بمن ليس مثله من جعلوه له شركاء، أي كيف يشركونهم وهم ليسوا مع الله.
وما صدق {مَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} هو الله الإله الق الخالق المدبر.
وخبر {مَنْ هُوَ قَائِمٌ} محذوف دلت عليه جملة {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} والتقدير: أمن هو قائم على كل نفس ومن جعلوهم به شركاء سواء في استحقاق العبادة. دل على تقديره ما تقتضيه الشركة في العبادة من التسوية في الإلهية واستحقاق العبادة. والاستفهام إنكار لتلك التسوية من لفظ {شُرَكَاءَ}، وبهذا المحذوف استغنى عن تقدير معادل للهمزة كما نبه عليه صاحب "مغنى اللبيب"، لأن المقدر المدلول عليه بدليل خاص أقوى فائدة من تقدير المعادل الذي حاصله أن يقدر: أم من ليس كذلك. وسيأتي قريبا بيان موقع {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ}.
والعدول عن اسم الجلالة إلى الموصول في قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ} لأن في الصلة دليلا على انتفاء المساواة، وتخطئة لأهل الشرك في تشريك آلهتهم لله تعالى في الإلهية، ونداء على غباوتهم إذ هم معترفون بأن الله هو الخالق. والمقدر باعتقادهم ذلك هو أصل إقامة الدليل عليهم بإقرارهم ولما في هذه الصلة من التعريض لما سيأتي قريبا.
والقائم على الشيء: الرقيب، فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد، ولتضمنه معنى
الرقيب عدي بحرف {عَلَى} المفيد للاستعلاء المجازي. وأصله من القيام وهو الملازمة كقوله: {إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [سورة آل عمران: 75]. ويجيء من معنى القائم أنه العليم بحال كل شيء لأن تمام القيومية يتوقف على إحاطة العلم.
فمعنى {قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} متوليها ومدبرها في جميع شؤونها في الخلق والأجل والرزق، والعالم بأحوالها وأعمالها، فكان إطلاق وصف {قَائِمٌ} هنا من إطلاق المشترك على معنييه. والمشركون لا ينازعون في انفراد الله بهذا القيام ولكنهم لا يراعون ذلك في عبادتهم غيره، فمن أجل ذلك لزمتهم الحجة ولمراعاة هذا المعنى تعلق قائم بقوله: {عَلَى كُلِّ نَفْسٍ} ليعم القيام سائر شؤونها.
والباء في قوله: {بِمَا كَسَبَتْ} للملابسة. وهي في موقع الحال من {نَفْسٍ} أو من {قَائِمٌ} باعتبار ما يقتضيه القيام من العلم، أي قياما ملابسا لما عملته كل نفس، أي قياما وفاقا لأعمالها من عمل خير يقتضي القيام عليها باللطف والرضى فتظهر آثار ذلك في الدنيا والآخرة لقوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل: 97]، وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [سورة النور: 55]، أو من عمل شر يقتضي قيامه على النفس بالغضب والبلايا. ففي هذه الصلة بعمومها تبشير وتهديد لمن تأمل من الفريقين. فهذا تعريض بالأمرين أفادته صلة الموصول.
وجملة {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ} في موضع الحال، أي والحال جعلوا له شركاء.
وإظهار اسم الجلالة إظهار في مقام الإتيان بضمير {مَنْ هُوَ قَائِمٌ}. وفائدة هذا الإظهار التعبير عن المسمى باسمه العلم الذي هو الأصل إذ كان قد وقع الإيفاء بحق العدول عنه إلى الموصول في الجملة السابقة فتهيأ المقام للاسم العلم، وليكون تصريحا بأنه المراد من الموصول السابق زيادة في التصريح بالحجة.
وجملة {قُلْ سَمُّوهُمْ} استئناف أعيد الأمر بالقول لاسترعاء الأفهام لوعي ما سيذكر. وهذه كلمة جامعة، أعني جملة {سَمُّوهُمْ} ، وقد تضمنت ردا عليهم. فالمعنى: سموهم شركاء فليس لهم حظ 'لا التسمية، أي دون مسمى الشريك، فالأمر مستعمل في معنى الإباحة كناية عن قلة المبالاة بدعائهم أنهم شركاء، مثل {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً} [سورة
الإسراء: 50]، وكما تقول للذي يخطئ في كلامه: قل ما شئت. والمعنى: إن هي إلا أسماء سميتموها لا مسميات لها بوصف الإلهية لأنها حجارة لا صفات لها من صفات التصرف. وهذا كقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [سورة يوسف: 40] وقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [سورة النجم: 23]. وهذا إفحام لهم وتسفيه لأحلامهم بأنهم ألهوا ما لا حقائق لها فلا شبهة لهم في ذلك، كقوله تعالى: {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ} [سورة الرعد: 16]، وقد تكحل المفسرون في تأويل {قُلْ سَمُّوهُمْ} بما لا محصل له من المعنى.
ثم أضرب عن ذلك بجملة {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} وهي أم المنقطعة. ودلت {أَمْ} على أن ما بعدها في معنى الاستفهام، وهو إنكاري توبيخي، أي ما كان لكم أن تفتروا على الله فتضعوا له شركاء لم ينبئكم بوجودهم، فقوله: {بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ} كناية غير الموجود لأن ما لا يعلمه الله لا وجود له إذ لو كان موجودا لم يخف على علم العلام بكل شيء. وتفقد ذلك ب {الْأَرْضِ} لزيادة تجهيلهم لأنه لو كان يخفي عن علمه شيء لخفي عنه ما لا يرى ولما خفيت عنه موجودات عظيمة بزعمكم.
وفي سورة يونس [18] {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} زيادة في التعميم.
و{أَمْ} الثانية متصلة هي معادلة همزة الاستفهام المقدرة في {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ}. وإعادة الباء للتأكيد بعد أم العاطفة. والتقدير: بل أتنبئونه بما لا يعلم في الأرض بل أتنبئونه بظاهر من القول.
وليس الظاهر هنا من الظهور بمعنى الوضوح بل هو مشتق من الظهور بمعنى الزوال كناية عن البطلان، أي بمجرد لاثبات له وليس بحق، كقول أبي ذؤيب:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقول سبرة بن عمرو الفقعسي:
أعيرتنا ألبانها ولحومها ... وذلك عاريا يا ابن ريطة ظاهر
وقوله: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ} إضراب عن الاحتجاج عليهم بإبطال إلهية
أصنامهم إلى كشف السبب، وهو أن أيمة المشركين زينوا للذين كفروا مكرهم بهم إذ بهم وضعوا لهم عبادتها.
والمكر: إخفاء وسائل الضر, وتقدم عند قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} في أوائل سورة آل عمران [54]، وعند قوله: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} في سورة الأعراف، وعند قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} في سورة الأنفال [30]، والمراد هنا أن أيمة الكفر مثل عمرو بن لحي وضعوا للعرب عبادة الأصنام وحسنوها إليهم مظهرين لهم إنها حق ونفع وما أرادوا بذلك إلا أن يكونوا قادة لهم ليسودوهم ويعبوهم.
فلما كان الفعل المبني للمجهول يقتضي فاعلا منويا كان قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في قوة قولك: زين لهم مزين. والشيء المزين "بالفتح" هو الذي الكلام فيه وهو عبادة الأصنام فهي المفعول في المعنى لفعل التزيين المبني للمجهول، فتعين أن المرفوع بعد ذلك الفعل هو المفعول في المعنى، فلا جرم أن مكرهم هو المفعول في المعنى، فتعين أن المكر مراد به عبادة الأصنام. وبهذا يتجه أن يكون إضافة "مَكْرَ" إلى ضمير الكفار من إضافة المصدر إلى ما هو في قوة المفعول وهو بباء التعدية، أي المكر بهم ممن زينوا لهم.
وقد تضمن هذا الاحتجاج أساليب وخصوصيات:
أحدها: توبيخهم على قياسهم أصنامهم على الله في إثبات الإلهية لها قياسا فاسدا لانتفاء الجهة الجامعة فكيف يسوي من هو قائم على كل نفس بمن ليسوا في شيء من ذلك.
ثانيها: تبهيلهم في جعلهم أسماء لا مسميات لها آلهة.
ثالثها: إبطال كون أصنامهم آلهة بأن لا يعلمها آلهة، وهو كناية عن انتفاء إلهيتها.
رابعها: أن ادعاءهم آلهة مجرد كلام لا انطباق له مع الواقع، وهو قوله: {أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ}.
خامسها: أن ذلك تمويه باطل روجه فيهم دعاة الكفر، وهو معنى تسميته مكرا في قوله: {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}.
سادسها: أنهم يصدون الناس عن سبيل الهدى.
وعطف {وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ} على جملة {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ}. وقرأه الجمهور - بفتح الصاد - فهو باعتبار كون مضمون كلتا الجملتين من أحوال المشركين: فالأولى باعتبار كونهم مفعولين، والثانية باعتبار كونهم فاعلين للصد بعد أن انفعلوا بالكفر، وقرأه عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {وَصُدُّوا} - بضم الصاد - فهو كجملة {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} في كون مضمون كلتيهما جعل الذين كفروا مفعولا للتزيين والصد.
وجملة {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} تذييل لما فيه من العموم.
وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في إثبات ياء {هَادٍ} في حالة الوصل عند قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} في هذه السورة [7].
[34] {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ}.
استئناف بياني نشأ عن قوله: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [سورة الرعد: 33] لأن هذا التهديد يومئ إلى وعيد يسال عنه السامع. وفيه تكملة للوعيد المتقدم في قوله: {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} مع زيادة الوعيد بما بعد ذلك في الدار الآخرة.
وتنكير {عَذَابٌ} للتعظيم، وهو عذاب القتل والخزي والأسر. وإضافة {عَذَابٌ} إلى {الْآخِرَةِ} على معنى {فِي}.
و {مِنَ} الداخلة على اسم الجلالة لتعدية {وَاقٍ}. و {مِنَ} الداخلة على {وَاقٍ} لتأكيد النفي للتنصيص على العموم.
والواقي: الحائل دون الضر، والوقاية من الله على حذف مضاف، أي من عذابه بقرينة ما ذكر قبله.
[35] {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ}.
استئناف ابتدائي يرتبط بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ}. ذكر هنا بمناسبة ذكر ضده في قوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} [سورة الرعد: 34].
والمثل: هنا الصفة العجيبة، قيل: هو حقيقة من معاني المثل، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [سورة النحل: 60]، وقيل: هو مستعار من المثل الذي هو الشبيه في حالة عجيبة أطلق على الحالة العجيبة غير الشبيهة لأنها جديرة بالتشبيه بها.
وجملة {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} خبر عن {مَثَلُ} باعتبار أنها من أحوال المضاف إليه. فهي من أحوال المضاف لشدة الملابسة بين المتضايفين، كما يقال: صفة زيد أسمر.
وجملة {أُكُلُهَا دَائِمٌ} خبر ثان، والأكل بالضم: المأكول، وتقدم.
ودوام الظل كناية عن التفاف الأشجار بحيث لا فراغ بينها تنفذ منه الشمس، كما قال تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً} [سورة النبأ: 16]، وذلك من محامد الجنات وملاذها.
وجملة {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} مستأنفة.
والإشارة إلى الجنة بصفاتها بحيث صارت كالمشاهدة، والمعنى: تلك هي التي سمعتم أنها عقبى الدار للذين يوفون بعهد الله إلى قوله: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} إلى قوله: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [سورة الرعد: 24] هي الجنة التي وعد المتقون. وقد علم أن الذين اتقوا هم المؤمنون الصالحون كما تقدم. وأول مراتب التقوى الإيمان. وجملة {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} مستأنفة للمناسبة بالمضادة. وهي كالبيان لجملة {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ} الواو للاستئناف. وهذا استئناف ابتدائي انتقل به إلى فضل لبعض أهل الكتاب في حسن تلقيهم للقرآن بعد الفراغ من ذكر أحوال المشركين من قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} [سورة الرعد: 36] الخ، ولذلك جاءت على أسلوبها في التعقيب بجملة {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ}.
والمناسبة هي أن الذين أرسل إليهم بالقرآن انقسموا في التصديق بالقرآن فرقا: ففريق آمنوا بالله وهم المؤمنون، وفريق كفروا به وهم مصداق قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [سورة الرعد: 30]. كما تقدم أنه عائد إلى المشركين المفهومين من المقام كما هو مصطلح القرآن.
وهذا فريق آخر أيضا أهل الكتاب وهو منقسم أيضا في تلقي القرآن فرقتين: فالفريق الأول صدقوا بالقرآن وفرحوا به وهم الذين ذكروا في قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ} في سورة العقود [83]، وكلهم من النصارى مثل ورقة بن نوفل وكذلك غيره ممن بلغهم القرآن أيام مقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة قبل أن تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فإن اليهود كانوا قد سروا بنزول القرآن مصدقا للتوراة، وكانوا يحسبون دعوة النبي صلى الله عليه وسلم مقصورة على العرب فكان اليهود يستظهرون بالقرآن على المشركين، قال تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [سورة البقرة: 89]. وكان النصارى يستظهرون به على اليهود؛ وفريق لم يثبت لهم الفرح بالقرآن وهم معظم اليهود والنصارى البعداء عن مكة. وما كفر الفريقان به إلا حين علموا أن دعوة الإسلام عامة.
وبهذا التفسير تظهر بلاغة التعبير عنهم بـ {يَفْرَحُونَ} دون يؤمنون. وإنما سكنا هذا الوجه بناء على أن هذه السورة مكية كان نزولها قبل أن يسلم عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وبعض نصارى نجران وبعض نصارى اليمن. فإن كانت السورة مدنية أو كان هذا من المدني فلا إشكال. فالمراد بالذين آتيناهم الكتاب الذين أوتوه إيتاء كاملا، وهو المجرد عن العصبية لما كانوا عليه وعن الحسد، فهو كقوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [سورة البقرة: 121].
فالأظهر أن المراد بالأحزاب أحزاب الذين أوتوا الكتاب، كما جاء في قوله تعالى: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} في سورة مريم [37]، أي ومن أحزابهم من ينكر بعض القرآن. فاللام عوض عن المضاف إليه. ولعل هؤلاء هم خبثاؤهم ودهاتهم الذين توسموا أن القرآن يبطل شرائعهم فأنكروا بعضه. وهو ما فيه من الإيماء إلى ذلك من إبطال أصول عقائدهم مثل عبودية عيسى - عليه السلام - بالنسبة للنصارى. ونبوءته بالنسبة لليهود.
وفي التعبير عنهم بالأحزاب إيماء إلى أن هؤلاء هم المتحزبون المتصلبون لقومهم ولما كانوا عليه. هكذا كانت حالة اضطراب أهل الكتاب عندما دمغتهم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ أمر الإسلام يفشو.
[36] {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ}.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعلن للفريقين بأنه ما أمر إلا بتوحيد الله كما في الآية الأخرى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [سورة آل عمران: 64]، فمن فرح بالقرآن فليزدد فرحا ومن أنكر بعضه فليأخذ بما لا ينكره وهو عدم الإشراك. وقد كان النصارى يتبرؤون من الشرك ويعدون اعتقاد بنوة عيسى - عليه السلام - غير شرك.
وهذه الآية من مجاراة الخصم واستنزال طائر نفسه كيلا ينفر من النظر. وبهذا التفسير يظهر موقع جملة {قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} بعد جملة {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ} وأنها جواب للفريقين.
وأفادت {إِنَّمَا} أنه لم يؤمر إلا بأن يعبد الله ولا يشرك به، أي لا بغير ذلك مما عليه المشركون، فهو قصر إضافي دلت عليه القرينة.
ولما كان المأمور به مجموع شيئين: عبادة الله، وعدم الإشراك به في ذلك آل المعنى: أني ما أمرت إلا بتوحيد الله.
ومن بلاغة الجدل القرآني أنه لم يأت بذلك من أول الكلام بل أتى به متدرجا فيه فقال {أن أعبد الله} لأنه لا ينازع في ذلك أحد من أهل الكتاب ولا المشركين، ثم جاء بعده {وَلا أُشْرِكَ بِهِ} به لإبطال إشراك المشركين وللتعريض بإبطال إلهية عيسى - عليه السلام - لأن ادعاء بنوته من الله تعالى يؤول إلى الإشراك.
وجملة {إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} بيان لجملة {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ}، أي أن أعبده وأن أدعو الناس إلى ذلك، لأنه لما أمر بذلك من قبل الله استفيد أنه مرسل من الله فهو مأمور بالدعوة إليه.
وتقديم المجرور في الموضعين للاختصاص، أي إليه لا إلى غيره أدعو، أي بهذا القرآن، وإليه لا إلى غيره مئابي، فإن المشركين يرجعون في مهمهم إلى الأصنام يستنصرونها ويستغيثونها، وليس في قوله هذا ما ينكره أهل الكتاب إذ هو مما كانوا فيه سواء مع الإسلام. على أن قوله: {وَإِلَيْهِ مَآبِ} يعم الرجوع في الآخرة وهو البعث. وهذا من وجوه الوفاق في أصل الدين بين الإسلام واليهودية والنصرانية.
وحذف ياء المتكلم من {مئابي} كحذفها في قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ} [سورة الرعد: 30]، وقد مضى قريبا.
[37] {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ}.
اعتراض وعطف على جملة {وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [سورة الرعد: 36]. لما ذكر حال تلقي أهل الكتابين للقرآن عند نزوله عرج على حال العرب في ذلك بطريقة التعريض بسوء تلقي مشركيه له مع أنهم أولى الناس بحسن تلقيه إذ نزل بلسانهم مشتملا على ما فيه صلاحهم وتنوير عقولهم. وقد جعل أهم هذا الغرض التنويه بعلو شأن القرآن لفظا معنى. وأدمج في ذلك تعريض بالمشركين من العرب.
والقول في اسم الإشارة في قوله: {وَكَذَلِكَ} مثل ما تقدم في قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ} [سورة الرعد: 30].
وضمير الغائب في {أَنْزَلْنَاهُ} عائد إلى {مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} في قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ}.
والجار والمجرور من اسم الإشارة نائب عن المفعول المطلق. والتقدير: أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال.
و {حُكْماً عَرَبِيّاً} حالان من ضمير {أَنْزَلْنَاهُ}. والحكم: هنا بمعنى الحكمة كما في قوله: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [سورة مريم: 12]. وجعل نفس الحكم حالا منه مبالغة. والمراد أنه ذو حكم، أي حكمة. والحكمة تقدمت.
و {عَرَبِيّاً} حال ثانية وليس صفة ل {حُكْماً} إذ الحكمة لا توصف بالنسبة إلى الأمم وإنما المعنى أنه حكمة معبر عنها بالعربية. والمقصود أنه بلغة العرب التي هي أفصح اللغات وأجملها وأسهلها، وفي ذلك إعجازه. فحصل لهذا الكتاب كمالان: كمال من جهة معانيه ومقاصده وهو كونه حكما، وكمال من جهة ألفاظه وهو المكنى عنه بكونه عربيا، وذلك ما لم يبلغ إليه كتاب قبله لأن الحكمة أشرف المعقولات فيناسب شرفها أن يكون إبلاغها بأشرف لغة وأصلحها للتعبير عن الحكمة، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 192-195].
ثم في كونه عربيا امتنان على العرب المخاطبين به ابتداء بأنه بلغتهم وبأن في ذلك
حسن سمعتهم، ففيه تعريض بأفن رأي الكافرين منهم إذ لم يشكروا هذه النعمة كما قال تعالى: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الأنبياء: 10]. قال مالك: فيه بقاء ذكركم.
وجملة {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} معترضة، واللام موطئة للقسم وضمير الجمع في قوله: {أَهْوَاءَهُمْ} عائد إلى معلوم من السياق وهم المشركون الذين وجه إليهم الكلام.
واتباع أهوائهم يحتمل السعي لإجابة طلبتهم إنزال آية غير القرآن تحذيرا من أن يسأل الله إجابتهم لما طلبوه كما قال لنوح - عليه السلام - {فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.
ومعنى {مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} ما بلغك وعلمته، فيحتمل أن يراد بالموصول القرآن تنويها به، أي لئن شايعتهم فسألتنا آية غير القرآن بعد أن نزل عليك القرآن، أو بعد أن أعلمناك أنا غير متنازلين لإجابة مقترحاتهم. ويحتمل اتباع دينهم فإن دينهم أهواء ويكون ما صدق {مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ} هو دين الإسلام.
والولي: النصير. والواقي: المدافع.
وجعل نفي الولي والنصير جوابا للشرط كناية عن الجواب، وهو المؤاخذة والعقوبة.
والمقصود من هذا تحذير المسلمين من أن يركنوا إلى تمويهات المشركين، والتحذير من الرجوع إلى دينهم تهييجا لتصلبهم في دينهم على طريقة قوله تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} ، وتأييس المشركين من الطمع في مجيء آية توافق مقترحاتهم.
و {مِنَ} الداخلة على اسم الجلالة تتعلق ب {وَلِيٍّ وَاقٍ} ، و {من} الداخلة على {وَلِيٍّ} لتأكيد النفي تنصيصا على العموم. وتقدم الخلاف بين الجمهور وابن كثير في حذفهم ياء {و مِنْ وَاقٍ} في حالتي الوصل والوقف وإثبات ابن كثير الياء في حالة الوقف دون الوصل عند قوله تعالى: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} في هذه السورة [الرعد: 7].
[38, 39] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ
الْكِتَابِ}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}.
هذا عود إلى الرد على المشركين في إنكارهم آية القرآن وتصميمهم على المطالبة بآية من مقترحاتهم تماثل ما يؤثر من آيات موسى وآيات عيسى عليهما السلام ببيان أن الرسول لا يأتي بآيات إلا بإذن الله، وأن ذلك لا يكون على مقترحات الأقوام، وذلك قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} ، فالجملة عطف على جملة {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [سورة الرعد: 37].
وأدمج في هذا الرد إزالة شبهة قد تعرض أو قد عرضت لبعض المشركين فيطعنون أو طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بأنه يتزوج النساء وأن شأن النبي أن لا يهتم بالنساء. قال البغوي: روي أن اليهود وقيل إن المشركين قالوا: إن هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء اه. فتعين إن صحت الرواية في سبب النزول أن القائلين هم المشركون إذ هذه السورة مكية ولم يكن لليهود حديث مع أهل مكة ولا كان منهم في مكة أحد. وليس يلزم أن يكون هذا نازلا على سبب. وقد تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ثم سودة رضي الله عنهما في مكة فاحتمل أن المشركين قالوا قالة إنكار تعلقا بأوهن أسباب الطعن في النبوءة. وهذه شبهة تعرض للسذج أو لأصحاب التمويه، وقد يموه بها المبشرون من النصارى على ضعفاء الإيمان فيفضلون عيسى - عليه السلام - على محمد صلى الله عليه وسلم بان عيسى لم يتزوج النساء. وهذا لا يروج على العقلاء لأن تلك بعض الحظوظ المباحة لا تقتضي تفضيلا. وإنما التفاضل في كل عمل بمقادير الكمالات الداخلة في ذلك العمل. ولا يدري أحد الحكمة التي لأجلها لم يتزوج عيسى - عليه السلام - امرأة. وقد كان يحيى - عليه السلام - حصورا فلعل عيسى - عليه السلام - قد كان مثله لأن الله لا يكلفه بما يشق عليه وبما لم يكلف به غيره من الأنبياء والرسل. وأما وصف الله يحيى - عليه السلام - بقوله: {وَحَصُوراً} فليس مقصودا منه أنه فضيلة ولكنه أعلم أباه زكرياء - عليه السلام - بأنه لا يكون له نسل ليعلم أن الله أجاب دعوته فوهب له يحيى - عليه السلام - كرامة له. ثم قدر أنه لا يكون له نسل إنفاذا لتقديره فجعل امرأته عاقرا. وقد تقدم بيان ذلك في تفسير سورة آل عمران. وقد كان لأكثر الرسل أزواج ولأكثرهم ذرية مثل نوح وإبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان وغير هؤلاء - عليهم السلام -.
والأزواج: جمع زوج، وهو من مقابلة الجمع بالجمع، فقد يكون لبعض الرسل زوجة واحدة مثل: نوح ولوط - عليهما السلام - وقد يكون للبعض عدة زوجات مثل: إبراهيم وموسى وداود وسليمان --- عليهم السلام -.
ولما كان المقصود من الرد هو عدم منافاة اتخاذ الزوجة لصفة الرسالة لم تكن داع إلى تعداد بعضهم زوجات كثيرة.
وتقدم الكلام على الزوج عند قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة[35].
والذرية: النسل. وتقدم عند قوله تعالى: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} في سورة البقرة [124].
وجملة {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} هي المقصود وهي معطوفة على جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ}. وتركيب {مَا كَانَ} يدل على المبالغة في النفي، كما تقدم عند قوله: {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} في سورة العقود[116]. والمعنى: أن شأنك شأن من سبق من الرسل لا يأتون من الآيات إلا بما آتاهم الله.
وإذن الله: هو إذن التكوين للآيات وإعلام الرسول بان ستكون آية، فاستعير الإتيان للإظهار، واستعير الإذن للخلق والتكوين.
[38] [39] {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
تذييل لأنه أفاد عموم الآجال فشمل أجل الإتيان بآية من قوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}. وذلك إبطال لتوهم المشركين أن تأخر الوعيد يدل على عدم صدقه. وهذا ينظر إلى قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمّىً لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} [سورة العنكبوت: 53] فقد قالوا {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ} الآية[سورة الأنفال: 32].
وإذ قد كان ما سألوه من جملة الآيات وكان ما وعده آية على صدق الرسالة ناسب أن يذكر هنا أن تأخير ذلك لا يدل على عدم حصوله، فإن لذلك آجالا أرادها الله واقتضتها حمته وهو أعلم بخلقه وشؤونهم ولكن الجهلة يقيسون تصرفات الله بمثل ما
تجري به تصرفات الخلائق.
والأجل: الوقت الموقت به عمل معزوم أو موعود.
والكتاب: المكتوب، وهو كناية عن التحديد والضبط، لأن شأن الأشياء التي يراد تحققها أن تكتب لئلا يخالف عليها. وفي هذا الرد تعريض بالوعيد. والمعنى: لكل واقع أجل يقع عنده، ولكل أجل كتاب، أي تعيين وتحديد لا يتقدمه ولا يتأخر عنه.
وجملة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} مستأنفة استئنافا بيانيا لأن جملة {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} تقتضي أن الوعيد كائن وليس تأخيره مزيلا له. ولما كان في ذلك تأييس للناس عقب بالإعلام بأن التوبة مقبولة وبإحلال الرجاء محل اليأس، فجاءت جملة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} احتراسا.
وحقيقة المحو: إزالة شيء، وكثر في إزالة الخط أو الصورة، ومرجع ذلك إلى عدم المشاهدة، قال تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [سورة الإسراء: 12]. ويطلق مجازا على تغيير الأحوال وتبديل المعاني كالأخبار والتكاليف والوعد والوعيد فإن لها نسبا ومفاهيم إذا صادفت ما في الواقع كانت مطابقتها إثباتا لها وإذا لم تطابقه كان عدم مطابقتها محوا لأنه إزالة لمدلولاتها.
والتثبيت: حقيقته جعل الشيء ثابتا قارا في مكان، قال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [سورة الأنفال: 45]. ويطلق مجازا على أضداد معاني المحو المذكورة. فيندرج في ما تحتمله الآية عدة معان: منها أنه يعدم ما يشاء من الموجودات ويبقي ما يشاء منها، ويعفو عما يشاء من الوعيد ويقرر، وينسخ ما يشاء من التكاليف ويبقي ما يشاء.
وكل ذلك مظاهر لتصرف حكمته وعلمه وقدرته. وإذ قد كانت تعلقات القدرة الإلهية جارية على وفق علم الله تعالى كان ما في علمه لا يتغير فإنه إذا أوجد شيئا كان عالما أنه سيوجده، وإذا أزال شيئا كان عالما أنه سيزيله وعالما بوقت ذلك.
وأبهم الممحو والمثبت بقوله: {مَا يَشَاءُ} لتتوجه الأفهام إلى تعرف ذلك والتدبر فيه لأن تحت هذا الموصول صورا لا تحصى، وأسباب المشيئة لا تحصى.
ومن مشيئة الله تعالى محو الوعيد أن يلهم المذنبين التوبة والإقلاع ويخلق في قلوبهم داعية الامتثال. ومن مشيئة التثبيت أن يصرف قلوب قوم عن النظر في تدارك أمورهم، وكذلك القول في العكس من تثبيت الخير ومحوه.
ومن آثار المحو تغير إجراء الأحكام على الأشخاص، فبينما ترى المحارب مبحوثا عنه مطلوبا للأخذ فإذا جاء تائبا قبل القدرة عليه قبل رجوعه ورفع عنه ذلك الطلب، وكذلك إجراء الأحكام على أهل الحرب إذا آمنوا ودخلوا تحت أحكام الإسلام.
وكذلك الشأن في ظهور آثار رضي الله أو غضبه على العبد فبينما ترى أحدا مغضوبا عليه مضروبا عليه المذلة لانغماسه في المعاصي إذا بك تراه قد أقلع وتاب فأعزه الله ونصره.
ومن آثار ذلك أيضا تقليب القلوب بان يجعل الله البغضاء محبة، كما قالت هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أسلمت: "ما كان أهل خباء أحب إلي أن يذلوا من أهل خبائك واليوم أصبحت وما أهل خباء أحب إلي أن يعزوا من أهل خبائك".
وقد محا الله وعيد من بقي من أهل مكة فرفع عنهم السيف يوم فتح مكة قبل أن يأتوا مسلمين، ولو شاء لأمر النبي صلى الله عليه وسلم باستئصالهم حين دخوله مكة فاتحا.
وبهذا يتحصل أن لفظ {مَا يَشَاءُ} عام يشمل كل ما يشاؤه الله تعالى ولكنه مجمل في مشيئة الله بالمحو والإثبات، وذلك لا تصل الأدلة العقلية إلى بيانه، ولم يرد في الأخبار المأثورة ما يبينه إلا القليل على تفاوت في صحة أسانيده. ومن الصحيح فيما ورد من ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى يكون بينه وبينها إلا ذراع فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها".
والذي يلوح في معنى الآية أن ما في أم الكتاب لا يقبل محوا، فهو ثابت وهو قسيم لما يشاء الله محوه.
ويجوز أن يكون ما في أم الكتاب هو عين ما يشاء الله محوه أو إثباته سواء كان تعينا بالأشخاص أو بالذوات أو بالأنواع وسواء كانت الأنواع من الذوات أو من الأفعال، وأن جملة {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أفادت أن ذلك لا يطلع عليه أحد.
ويجوز أن يكون قوله: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} مرادا به الكتاب الذي كتبت به الآجال وهو قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. وأن المحو في غير الآجال.
ويجوز أن يكون أم الكتاب مرادا به علم الله تعالى. أي يمحو ويثبت وهو عالم بأن الشيء سيمحى أو يثبت. وفي تفسير القرطبي عن ابن عمر قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"يمحو الله ما يشاء ويثبت ألا السعادة والشقاوة والموت". وروي مثله عن مجاهد. وروي عن ابن عباس {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} إلا أشياء الخلق - بفتح الخاء وسكون اللام - والخلق - بضم الخاء واللام - والأجل والرزق والسعادة والشقاوة، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} الذي لا يتغير منه سيء. قلت: وقد تفرع على هذا قول الأشعري: إن السعادة والشقاوة لا يتبلان خلافا للماتريدي.
وعن عمر وابن مسعود ما يقتضي أن السعادة والشقاوة يقبلان المحو والإثبات.
فإذا حمل المحو على ما يجمع معاني الإزالة، وحمل الإثبات على ما يجمع معاني الإبقاء، وإذا حمل معنى {أُمُّ الْكِتَابِ} على معنى ما لا يقبل إزالة ما قرر أنه حاصل أو أنه موعود به ولا يقبل إثبات ما قرر انتفاؤه، سواء في ذلك الأخبار والأحكام، كان ما في أم الكتاب قسيما لما يمحى ويثبت.
وإذا حمل على أن ما يقبل المحو والإثبات معلوم لا يتغير علم الله به كان ما في أم الكتاب تنبيها على أن التغيرات التي تطرأ على الأحكام أو على الأخبار ما هي إلا تغيرات مقررة من قبل وإنما كان الإخبار عن إيجادها أو عن إعدامها مظهرا لما اقتضته الحكمة الإلهية في وقت ما.
و {أُمُّ الْكِتَابِ} لا محالة شيء إلى مضاف إلى الكتاب الذي ذكر في قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. فإن طريقة إعادة النكرة بحرف التعريف أن تكون المعادة عين بأن يجعل التعريف تعريف العهد، أي وعنده أم ذلك الكتاب، وهو كتاب الأجل.
فكلمة {أم} مستعملة مجازا فيما يشبه الأم في كونها أصلا لما تضاف إليه {أم} لأن الأم يتولد منها المولود فكثر إطلاق أم الشيء على أصله، فالأم هنا مراد به ما هو أصل للمحو والإثبات اللذين هما من مظاهر قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. أي لما محو وإثبات المشيئات مظاهر له وصادره عنه، فأم الكتاب هو علم الله تعالى بما سيريد محوه وما سيريد إثباته كما تقدم.
والعندية عندية الاستئثار بالعلم وما يتصرف عنه، أي وفي ملكه وعلمه أم الكتاب لا يطلع عليها أحد. ولكن الناس يرون مظاهرها دون اطلاع على مدى ثبات تلك المظاهر وزوالها، أي أن الله المتصرف بتعيين الآجال والمواقيت فجعل لكل أجل حدا معينا، فيكون أصل الكتاب على هذا التفسير بمعنى كله وقاعدته.
ويحتمل أن يكون التعريف في {الْكِتَابِ} الذي أضيف إليه أم أصل ما يكتب، أي يقدر في علم الله من الحوادث فهو الذي لا يغير، أي يمحو ما يشاء ويثبت في الأخبار من وعد ووعيد، وفي الآثار من ثواب وعقاب، وعنده ثابت التقادير كلها غير متغيرة.
والعندية على هذا عندية الاختصاص، أي العلم، فالمعنى: أنه يمحو ما يشاء ويثبت فيما يبلغ إلى الناس وهو يعلم ما ستكون عليه الأشياء وما تستقر عليه، فالله يأمر الناس بالإيمان وهو يعلم من سيؤمن منهم ومن لا يؤمن فلا يفجؤه حادث. ويشمل ذلك نسخ الأحكام التكليفية فهو يشرعها لمصالح ثم ينسخها لزوال أسباب شرعها وهو في حال شرعها يعلم أنها آيلة إلى أن تنسخ.
وقرأ الجمهور {وَيُثْبِتُ} بتشديد الموحدة من ثبت المضاعف. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، ويعقوب {وَيُثْبِتُ} - بسكون المثلثة وتخفيف الموحدة -.
[40] {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}.
عطف على جملة {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [سورة الرعد: 39] باعتبار ما تفيده من إبهام مراد الله في آجال الوعيد ومواقيت إنزال الآيات، فبينت هذه الجملة أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس مأمورا بالاشتغال بذلك ولا بترقبه وإنما هو مبلغ عن الله لعباده والله يعلم ما يحاسب به عباده سواء شهد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أم لم يشهده.
وجعل التوفي كناية عن عدم رؤية حلول الوعيد بقرينة مقابلته بقوله: {نُرِيَنَّكَ}. والمعنى: ما عليك إلا البلاغ سواء رأيت عذابهم أو لم تره.
وفي الإتيان بكلمة {بَعْضَ} إيماء إلى أنه يرى البعض. وفي هذا إنذار لهم بأن الوعيد نازل بهم ولو تأخر؛ وأن هذا الدين يستمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه إذا كان الوعيد الذي أمر بإبلاغه واقعا ولو بعد وفاته فبالأولى أن يكون شرعه الذي لأجله جاء وعيد الكافرين به شرعا مستمرا بعده، ضرورة أن الوسيلة لا تكون من الأهمية بأشد من المقصد المقصودة لأجله.
وتأكيد الشرط بنون التوكيد و {مَا} المزيدة بعد {إِنْ} الشرطية مراد منه تأكيد الربط
بين هذا الشرط وجوابه وهو {إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ}. على أن نون التوكيد لا يقترن بها فعل الشرط إلا إذا زيدت {مَا} بعد {إِن} الشرطية فتكون إرادة التأكيد مقتضية لاجتلاب مؤكدين، فلا يكون ذلك إلا لغرض تأكيد قوي.
وقد أرى الله نبيه بعض ما توعد به المشركين من الهلاك بالسيف يوم بدر ويوم الفتح ويوم حنين وغيرها من أيام الإسلام في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره بعضه مثل عذاب أهل الردة فإن معظمهم كان من المكذبين المبطنين الكفر مثل: مسيلمة الكذاب.
وفي الآية إيماء إلى أن العذاب الذي يحل بالمكذبين لرسوله صلى الله عليه وسلم عذاب قاصر على المكذبين لا يصيب غير المكذب لأنه استئصال بالسيف قابل للتجزئة واختلاف الأزمان رحمة من الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
و {عَلَى} في قوله: {عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} مستعملة في الإيجاب والإلزام، وهو في الأول حقيقة وفي الثاني مجاز في الوجوب لله بالتزامه به.
و {إِنَّمَا} للحصر، والمحصور فيه هو البلاغ لأنه المتأخر في الذكر من الجملة المدخولة لحرف الحصر، والتقدير: عليك البلاغ لا غيره من إنزال الآيات أو من تعجيل العذاب، ولهذا قدم الخبر على المبتدأ لتعيين المحصور فيه.
وجملة {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} عطف على جملة {عَلَيْكَ الْبَلاغُ} فهي مدخولة في المعنى لحرف الحصر. والتقدير: وإنما علينا الحساب، أي محاسبتهم على التكذيب لا غير الحساب من إجابة مقترحاتهم.
[41] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
عطف على جملة {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} المتعلقة بجملة {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ}. عقبت بهذه الجملة لإنذار المكذبين بان ملامح نصر النبي صلى الله عليه وسلم قد لاحت وتباشير ظفره قد طلعت ليتدبروا في أمرهم، فكان تعقيب المعطوف عليها بهذه الجملة للاحتراس من أن يتوهموا أن العقاب بطيء وغير واقع بهم. وهي أيضا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بان الله مظهر نصره في حياته وقد جاءت أشراطه، فهي أيضا احتراس من أن ييأس النبي صلى الله عليه وسلم من رؤية نصره مع علمه بأن الله متم نوره بهذا الدين.
والاستفهام في {أَوَلَمْ يَرَوْا} إنكاري، والضمير عائد إلى المكذبين العائد إليهم
ضمير {نَعِدُهُمْ}. والكلام تهديد لهم بإيقاظهم إلى ما دب إليهم من أشباح الاضمحلال بإنقاص الأرض، أي سكانها.
والرؤية يجوز أن تكون بصرية. والمراد: رؤية آثار ذلك النقص، ويجوز أن تكون، أي ألم يعملوا ما حل بأرضي الأمم السابقة من نقص.
وتعريف {الْأَرْضَ} تعريف الجنس، أي نأتي أية أرض من أرضي الأمم. وأطلقت الأرض هنا على أهلها مجازا، كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [سورة يوسف: 82] بقرينة تعلق فعل النقص بها، لأن النقص لا يكون في ذات الأرض ولا يرى نقص فيها ولكنه يقع فيمن عليها. وهذا باب قوله تعلى {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [سورة محمد: 10].
وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد ب {الْأَرْضَ} أرض الكافرين من قريش فيكون التعريف للعهد، وتكون الرؤية بصرية، ويكون ذلك إيقاظا لهم كما غلب عليه المسلمون من أرض العدو فخرجت من سلطانه فتنقص الأرض التي كانت في تصرفهم وتزيد الأرض الخاضعة لأهل الإسلام. وبنوا على ذلك أن هذه الآية نزلت بالمدينة وهو الذي حمل فريقا على القول بأن سورة الرعد مدنية فإذا اعتبرت مدنية صح أن تفسر الأطراف بطرفين وهما مكة والمدينة فإنهما طرفا العرب، فمكة طرفها من جهة اليمن، والمدينة طرف البلاد من جهة الشام، ولم يزل عدد الكفار في البلدين في انتقاص بإسلام كفارها إلى أن تمحضت المدينة ثم تمحضت مكة له بعد يوم الفتح.
وأياما كان تفسير الآية وسبب نزولها ومكانه فهي للإنذار بأنهم صائرون إلى زوال وأنهم مغلوبون زائلون، كقوله في الآية الأخرى في سورة الأنبياء {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} [سورة الأنبياء: 51]، أي ما هم الغالبون. وهذا إمهال لهم وإعذار لعلهم يتداركون أمرهم.
وجملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [سورة الرعد: 41] عطف على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا} مؤكدة للمقصود منها، وهو الاستدلال على أن تأخير الوعيد لا يدل على بطلانه، فاستدل على ذلك بجملة {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} ثم بجملة {أو لم يروا أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} ثم بجملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ} ، لأن المعنى: أن ما حكم الله به من العقاب لا يبطله أحد وأنه واقع ولو تأخر.
ولذلك فجملة {لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} في موضع الحال، وهي المقيدة للفعل المراد إذ هي مصب الكلام إذ ليس الغرض الإعلام بأن الله يحكم إذ لا يكاد يخفى، وإنما الغرض التنبيه إلى أنه لا معقب لحكمه. وأفاد نفي جنس المعقب انتفاء كل ما من شأنه أن يكون معقبا من شريك أو شفيع أو داع أو راغب أو مستعصم أو مفتد.
والمعقب: الذي يعقب عملا فيبطله، مشتق من العقب، وهو استعارة غلبت حتى صارت حقيقة. وتقدم عند قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} [سورة الرعد: 11] في هذه السورة، كأنه يجيء عقب الذي كان عمل العمل.
وإظهار اسم الجلالة بعد الإضمار الذي في قوله: {أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ} لتربية المهابة، وللتذكير بما يحتوي عليه الاسم العظيم من معنى الإلهية والوحدانية المقتضية عدم المنازع، وأيضا لتكون الجملة مستقلة بنفسها لأنها بمنزلة الحكمة والمثل.
وجملة {وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} يجوز أن تكون عطفا على جملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ} فتكون دليلا رابعا على أن وعده واقع وأن تأخره وإن طال فما هو إلا سريع باعتبار تحقق وقوعه؛ ويجوز أن يكون عطفا على جملة الحال. والمعنى: بحكم غير منقوص حكمه وسريعا حسابه. ومآل التقديرين واحد.
والحساب: كناية عن الجزاء والسرعة: العجلة، وهي في كل شيء بحسبه.
[42] {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}.
لما كان قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [سورة الرعد: 41] تهديدا وإنذارا مثل قوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [سورة محمد: 18] وهو إنذار بوعيد على تظاهرهم بطلب الآيات وهم يضمرون التصميم على التكذيب والاستمرار عليه. شبه عملهم بالمكر وشبه بعمل المكذبين السابقين كقوله: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [سورة الأنبياء: 6]. وفي هذا التشبيه رمز إلى أن عاقبتهم كعاقبة الأمم التي عرفوها. فنقص أرض هؤلاء من أطرافها من مكر الله بهم جزاء مكرهم، فلذلك أعقب بقوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي كما مكر هؤلاء. فجملة {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} حال أو معترضة.
وجملة {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} تفريع على جملة {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} وجملة {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [سورة الرعد: 41].
والمعنى: مكر هؤلاء ومكر الذين من قبلهم وحل العذاب بالذين من قبلهم فمكر الله بهم وهو يمكر بهؤلاء مكرا عظيما كما مكر بمن قبلهم.
وتقديم المجرور في قوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} للاختصاص، أي له لا لغيره، لأن مكره لا يدفعه دافع فمكر غيره كلا مكر بقرينة أنه أثبت لهم مكرا بقوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}. وهذا بمعنى قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.
وأكد مدلول الاختصاص بقوله: {جَمِيعاً} وهو حال من المكر. وتقدم في قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} في [سورة يونس4].
وإنما جعل جميع المكر لله بتنزيل مكر غيره منزلة العدم، فالقصر في قوله: {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ} ادعائي، والعموم في قوله: {جَمِيعاً} تنزيلي.
وجملة {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} بمنزلة العلة لجملة {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً} ، لأنه لما كان يعلم ما تكسب كل نفس من ظاهر الكسب وباطنه كان مكره أشد من مكر كل نفس لأنه لا يفوته شيء مما تضمره النفوس من المكر فيبقى بعض مكرهم دون مقابلة بأشد منه فإن القوي الشديد الذي لا يعلم الغيوب قد يكون عقابه أشد ولكنه قد يفوقه الضعيف بحيلته.
وجملة {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} عطف على جملة {فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً}. والمراد بالكافر الجنس، أي الكفار. و {عُقْبَى الدَّارِ} تقدم آنفا، أي سيعلم أن عقبى الدار للمؤمنين لا للكافرين، فالكلام تعريض بالوعيد.
وقرأ الجمهور: {وسيعلم الكافر} بإفراد الكافر. وقرأه ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} بصيغة الجمع. والمفرد والجمع سواء في المعرف بلام الجنس.
[43] {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ}.
عطف على ما تضمنته جملة {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [سورة الرعد: 42] من التعريض بأن قولهم: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [سورة الأنعام: 37] ضرب من المكر بإظهارهم
أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، مظهرين أنهم في شك قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا: {لَسْتَ مُرْسَلاً}.
وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} [سورة هود: 38] وقوله: {يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ} [سورة هود: 11].
ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم.
وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بان يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع.
ولما كانت الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم.
وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود - عليه السلام - {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ} [سورة هود: 54].
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل {كَفَى} في المعنى للتأكيد. وأصل التركيب: كفى الله. و {شَهِيداً} حال لازمة أو تمييز، أي كفى الله من جهة الشاهد.
{وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} معطوف على اسم الجلالة.
والموصول في {وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة. والمعنى: وكل من عندهم علم الكتاب. وإفراد الضمير المضاف إليه {عند} لمراعاة لفظ {من}. وتعريف {الْكِتَابِ} تعريف للعهد، وهو التوراة. أي وشهادة علماء الكتاب. وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبي المصدق للتوراة.
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معينا، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الناموس الذي أنزل على موسى -
عليه السلام - كما في حديث بدء الوحي في الصحيح. وكان ورقة منفردا بمعرفة التوراة والإنجيل. وقد كان خبر قوله للنبي صلى الله عليه وسلم ما قاله معروفا عند قريش.
فالتعريف في {الْكِتَابِ} تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل.
وقيل: أريد به عبد الله بن سلام الذي آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول مقدمة المدينة. ويبعده أن السورة مكية كما تقدم.
ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقا لسن الشرائع الإلهية ومفسرا للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبي صلى الله عليه وسلم المصدق الموعود به. ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية ب {مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم. قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ} [سورة الشعراء: 97].
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة إبراهيمأضيفت هذه السورة إلى اسم إبراهيم - عليه السلام - فكان ذلك اسما لها لا يعرف لها غيره. ولم أقف على إطلاق هذا الاسم عليها في كلام النبيء - صلى الله عليه وسلم - ولا في كلام أصحابه في خبر مقبول.
ووجه تسميتها بهذا وإن كان ذكر إبراهيم - عليه السلام - جرى في كثير من السور أنها من السور ذوات {ألر}. وقد ميز بعضها عن بعض بالإضافة إلى أسماء الأنبياء - عليهم السلام - التي جاءت قصصهم فيها، أو إلى مكان بعثة بعضهم وهي سورة الحجر، ولذلك لم تضف سورة الرعد إلى مثل ذلك لأنها متميزة بفاتحتها بزيادة حرف ميم على ألف ولام وراء.
وهي مكية كلها عند الجمهور. وعن قتادة إلا آيتي {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً} إلى قوله: {وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [سورة إبراهيم: 28]، وقيل: إلى قوله: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} [سورة إبراهيم: 30]. نزل ذلك في المشركين في قضية بدر، وليس ذلك إلا توهما كما ستعرفه.
نزلت هذه السور بعد سورة الشورى وقبل سورة الأنبياء. وقد عدت السبعين في ترتيب السور في النزول.
وعدت آياتها أربعا وخمسين عند المدنين وخمسين عند أهل الشام، وإحدى وخمسين عند أهل البصرة. واثنتين وخمسين عند أهل الكوفة.
واشتملت من الأغراض على أنها ابتدأت بالتنبيه إلى إعجاز القرآن، وبالتنويه بشأنه، وأنه أنزل لإخراج الناس من الضلالة. والامتنان بأن جعله بلسان العرب. وتمجيد الله
تعالى الذي أنزله. ووعيد الذين كفروا به بمن أنزل عليه.
وإيقاظ المعاندين بأن محمد صلى الله عليه وسلم ما كان بدعا من الرسل. وأن كونه بشرا أمر غير مناف لرسالته من عند الله كغيره من الرسل. وضرب له مثلا برسالة موسى - عليه السلام - إلى فرعون لإصلاح حال بني إسرائيل وتذكيره قومه بنعم الله ووجوب شكرها وموعظته إياهم بما حل بقوم نوح وعاد ومن بعدهم وما لاقته رسلهم من التكذيب.
وكيف كانت عاقبة المكذبين.
وإقامة الحجة على تفرد الله تعالى بالإلهية بدلائل مصنوعاته وذكر البعث وتحذير الكفار من تغرير قادتهم وكبرائهم بهم من كيد الشيطان وكيف يتبرأون منهم يوم الحشر ووصف حالهم وحال المؤمنين يومئذ.
وفضل كلمة الإسلام وخبث كلمة الكفر ثم التعجيب من حال قوم كفروا نعمة الله وأوقعوا من تبعهم في دار البوار بالإشراك والإيماء إلى مقابلته بحال المؤمنين.
وعد بعض نعمة على الناس تفضيلا ثم جمعها إجمالا.
ثم ذكر الفريقين بحال إبراهيم - عليه السلام - ليعلم الفريقان من هو سالك سبيل إبراهيم - عليه السلام - ومن هو ناكب عنه من ساكني البلد الحرام وتحذيرهم من كفران النعمة.
وإنذارهم أن يحل بالذين ظلموا من قبل.
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم بوعد النصر.
وما تخلل ذلك من الأمثال.
وختمت بكلمات جامعة من قوله: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ} [سورة إبراهيم: 52] إلى آخرها.
[1] {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
{ألر}.
تقدم الكلام على الحروف المقطعة في فاتحة سورة البقرة وعلى نظير هذه الحروف في سورة يونس.
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}.
الكلام على تركيب {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [سورة الأعراف: 1-2] كالكلام على قوله تعالى: {ألمص كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} عدا هذه الآية ذكر فيها فاعل الإنزال وهو معلوم من مادة الإنزال المشعرة بأنه وارد من قبل العالم العلوي،فللعلم بمنزلة حذف الفاعل في آية سورة الأعراف، وهو مقتضى الظاهر والإيجاز، ولكنه ذكرها هنا لأن المقام مقام الامتنان على الناس المستفاد من التعليل بقوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، ومن ذكر صفة الربوبية بقوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} ، بخلاف آية سورة الأعراف فإنها في مقام الطمأنة والتصبير للنبي عليه الصلاة والسلام المنزل إليه الكتاب، فكان التعرض لذكر المنزل إليه والاقتصار عليه أهم في ذلك المقام مع ما فيه من قضاء حق الإيجاز.
أما التعرض للمنزل إليه هنا فللتنويه بشأنه، وليجعل له حظ في هذه المنة وهو حظ الوساطة، كما دل عليه قوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} ، ولما فيه من غم المعاندين والمبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولأجل هذا المقصد وقع إظهار صفات فاعل الإنزال ثلاث مرات في قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} بعد أن كان المقام للإضمار تبعا لقوله: {أَنْزَلْنَاهُ}.
وإسناد الإخراج إلى النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يبلغ هذا الكتاب المشتمل على تبيين طرق الهداية إلى الإيمان وإظهار فساد الشرك والكفر، وهو مع التبليغ يبين للناس ويقرب إليهم معاني الكتاب بتفسيره وتبيينه، ثم بما يبنيه عليه من المواعظ والنذر والبشارة. وإذا قد أسند الإخراج إليه في سياق تعليل إنزال الكتاب إليه علم أن إخراجه إياهم من الظلمات بسبب هذا الكتاب المنزل، أي بما يشتمل عليه من معاني الهداية.
وتعليل الإنزال بالإخراج من الظلمات دل على أن الهداية هي مراد الله تعالى من الناس، وأنه لم يتركهم في ضلالهم، فمن اهتدى فبإرشاد الله ومن ضل فبإرشاد الضال هوى على دلائل الإرشاد، وأمر الله لا يكون إلا لحكم ومصالح بعضها أكبر من بعض.
والإخراج: مستعار للنقل من حال إلى حال. شبه الانتقال بالخروج فشبه النقل بالإخراج.
و {الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} استعارة للكفر والإيمان، لأن الكفر يجعل صاحبه في حيرة فهو كالظلمة في ذلك، والإيمان يرشد إلى الحق فهو كالنور في إيضاح السبيل. وقد يستخلص السامع من ذلك تمثيل حال المنغمس في الكفر بالمتحير في ظلمة، وحال انتقاله إلى الإيمان بحال الخارج من ظلمة إلى مكان نير.
وجمع {الظُّلُمَاتِ} وإفراد {النُّورَ} تقدم في أول سورة الأنعام [1].
والباء في {بإذن ربهم} للسببية، والأذن: الأمر بفعل يتوقف على رضي الآمر به، وهو أمر الله إياه بإرساله إليهم لأنه هو الإذن الذي يتعلق بجميع الناس، كقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}. ولما كان الإرسال لمصلحتهم أضيف الإذن إلى وصف الرب المضاف إلى ضمير الناس، أي بإذن الذي يدبر مصالحهم.
وقوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سورة إبراهيم: 1] بدل من {النُّورَ} بإعادة الجار للمبدل منه لزيادة بيان المبدل منه اهتماما به، وتأكيد للعامل كقوله تعالى: {قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم} في سورة الأعراف[88].
ومناسبة الصراط المستعار للدين الحق، لاستعارة الإخراج والظلمات والنور ولما يتضمنه من التمثيل، ظاهرة.
واختيار وصف {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} من بين الصفات العلى لمزيد مناسبتها للمقام، لأن الذي لا يغلب. وإنزال الكتاب برهان على أحقية ما أراده الله من الناس فهو به غالب للمخالفين مقيم الحجة عليهم.
والحميد: بمعنى المحمود، لأن في إنزال هذا الكتاب نعمة عظيمة ترشد إلى حمده عليه، وبذلك استوعب الوصفان الإشارة إلى الفريقين من كل منساق إلى الاهتداء من أول وهلة ومن مجادل صائر إلى الاهتداء بعد قيام الحجة ونفاذ الحيلة.
[2, 3] {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.
قرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر برفع اسم الجلالة على أنه خبر عن مبتدإ محذوف. والتقدير: هو أي {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} الله الموصوف بالذي له ما في السماوات والأرض. وهذا الحذف جار على حذف المسند إليه عند علماء المعاني تبعا للسكاكي بالحذف لمتابعة الاستعمال، أي استعمال العرب عند ما يجري ذكر موصوف بصفات أن ينتقلوا من ذلك إلى الإخبار عنه بما هو أعظم مما تقدم ذكره ليكسب ذلك الانتقال تقريرا للغرض، كقول إبراهيم الصولي:
سأشكر عمرا إن تراخت منيتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
أي هو فتى من صفته كيت وكيت.
وقرأه الباقون إلا رويسا عن يعقوب بالجر على البدلية من {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، وهي طريقة عربية. ومآل القراءتين واحد وكلتا الطريقتين تفيد أن المستقل إليه أجدر بالذكر عقب ما تقدمه، فإن اسم الجلالة أعظم من بقية الصفات لأنه علم الذات الذي لا يشاركه موجود في إطلاقه ولا في معناه الأصلي المنقول منه إلى العلمية إلا أن الرفع أقوى وأفخم.
وقرأه رويس عن يعقوب بالرفع إذا وقف على قوله: {الْحَمِيدِ} وابتدئ باسم {اللَّهِ} ، فإذا وصل {الْحَمِيدِ} باسم {اللَّهِ} جر اسم الجلالة على البدلية.
وإجراء الوصف بالموصول على اسم الجلالة لزيادة التفخيم لا للتعريف. لأن ملك سائر الموجودات صفة عظيمة والله معروف بها عند المخاطبين. وفيه تعريض بأن صراط غير الله من طرق آلهتهم ليس بواصل إلى المقصود لنقصان ذويه. وفي ذكر هذه الصلة إدماج تعريض بالمشركين الذين عبدوا ما ليس له السماوات والأرض.
{وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
لما أفاد قوله: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} تعريضا بالمشركين الذين اتبعوا صراط غير الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض عطف الكلام إلى تهديدهم وإنذارهم بقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}. أي للمشركين به آلهة أخرى.
وجملة {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ} إنشاء دعاء عليهم في مقام الغضب والذم، مثل قولهم: ويحك، فعطفه من عطف الإنشاء على الخبر.
{وَوَيْلٌ} مصدر لا يعرف له فعل. ومعناه الهلاك وما يقرب منه من سوء الحالة، ولأنه لا يعرف له فعل كان اسم مصدر وعومل معاملة المصادر، ينصب على المفعولية المطلقة ويرفع لإفادة الثبات، كما تقدم في رفع {الْحَمْدُ لِلَّهِ} في سورة الفاتحة. ويقال: ويل لك وويلك. بالإضافة. ويقال: يا ويلك، بالنداء. وقد يذكر بعد هذا التركيب سببه فيؤتى به مجرورا بحرف {من} الابتدائية كما في قوله هنا {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} ، أي هلاكا ينجر لهم من العذاب الشديد الذي يلاقونه وهو عذاب النار. وتقدم الويل عند قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} في سورة البقرة [79].
والكافرون هم المعهودون وهم الذين لم يخرجوا من الظلمات إلى النور، ولا اتبعوا صراط العزيز الحميد، ولا انتفعوا بالكتاب الذي أنزل لإخراجهم من الظلمات إلى النور.
و {يَسْتَحِبُّونَ} بمعنى يحبون، فالسين والتاء للتأكيد مثل استقدم واستأخر. وضمن {يَسْتَحِبُّونَ} معنى يؤثرون، لأن المحبة تعدت إلى الحياة الدنيا عقب ذكر العذاب الشديد لهم، فأنبأ ذلك أنهم يحبون خير الدنيا دون خير الآخرة إذ كان في الآخرة في شقاء، فنشأ من هذا معنى الإيثار، فضمنه فعدي إلى مفعول آخر بواسطة حرف {على} في قوله: {عَلَى الْآخِرَةِ} أي يؤثرونها عليها.
وقوله: {الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدم نظيره في قوله: {أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} في سورة الأعراف، وعند قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} في سورة آل عمران[99]، فأنظره هنالك.
والصد عن سبيل الله: منع الداخلين في الإسلام من الدخول فيه. شبه ذلك بمن
يمنع المار من سلوك الطريق. وجعل الطريق طريق الله لأنه موصل إلى مرضاته فكأنه موصل إليه. أو يصدون أنفسهم عن سبيل الله لأنهم عطلوا مواهبهم ومداركهم من تدبر آيات القرآن، فكأنهم صدوها عن السير في سبيل الله ويبغون السبيل العوجاء، فعلم أن سبيل الله مستقيم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} [سورة الأنعام: 153].
والإشارة في قوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [سورة إبراهيم: 3] للتنبيه على أنهم أحرياء بما وصفوا به من الضلال بسبب صدهم عن سبيل الحق وابتغائهم سبيل الباطل. ف {أُولَئِكَ} في محل مبتدأ و {فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} خبر عنه. ودل حرف الظرفية على أن الضلال محيط بهم فهم متمكنون منه.
ووصف الضلال بالبعيد يجوز أن يكون على وجه المجاز العقلي، وإنما البعيد هم الضالون، أي ضلالا بعدوا به عن الحق فأسند البعد إلى سببه.
ويجوز أن يراد وصفه بالبعد على تشبيهه بالطريق الشاسعة التي يتعذر رجوع سالكها، أي ضلال قوي يعسر إقلاع صاحبه عنه. ففيه استبعاد لاهتداء أمثالهم كقوله: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [سورة الشورى: 18] وقوله: {بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} [سورة سبأ: 8]. وتقدم في قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} في سورة النساء[116].
[4] {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
إذا كانت صيغة القصر مستعملة في ظاهرها ومسلطة على متعلقي الفعل المقصور كان قصرا إضافيا لقلب اعتقاد المخاطبين، فيتعين أن يكون ردا على فريق من المشركين قالوا: هلا أنزل القرآن بلغة العجم. وقد ذكر في "الكشاف" في سورة فصلت عند قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [سورة فصلت: 44] فقال: كانوا لتعنتهم يقولون: هلا نزل القرآن بلغة العجم، وهو مروي في "تفسير الطبري" هنالك عن سعيد بن جبير أن العرب قالوا ذلك.
ثم يجوز أن يكون المراد بلغة العجم لغة غير العرب مثل العبرانية أو السريانية من
اللغات التي أنزلت بها التوراة والإنجيل، فكان من جملة ما موهت لهم أوهامهم أن حسبوا أن للكتب الإلهية لغة خاصة تنزل بها ثم تفسر للذين لا يعرفون تلك اللغة. وهذا اعتقاد فاش بين أهل العقول الضعيفة، فهؤلاء الذين يعالجون سر الحرف والطلسمات يموهون بأنها لا تكتسب إلا باللغة السريانية ويزعمون أنها لغة الملائكة ولغة الأرواح. وقد زعم السراج البلقيني: أن سؤال القبر يكون باللغة السريانية وتلقاه عنه جلال الدين السيوطي واستغربه فقال:
ومن عجيب ما ترى العينان ... أن سؤال القبر بالسرياني
أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... ولم أره لغيره بعيني
وقد كان المتنصرون من العرب والمتهودون منهم مثل عرب اليمن تترجم لهم بعض التوراة والإنجيل بالعربية كما ورد في حديث ورقة بن نوفل في كتاب بدء الوحي من "صحيح البخاري"، فاستقر في نفوس المشركين من جملة مطاعنهم أن القرآن لو كان من عند الله لكان باللغة التي جاءت بها الكتب السالفة. فصارت عربيته عندهم من وجوه الطعن في أنه منزل من الله، فالقصر هنا لرد كلامهم، أي ما أرسلنا من رسول بلسان إلا لسان قومه المرسل إليهم لا بلسان قوم آخرين.
فموقع هذه الآية عقب آية {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} بين المناسبة.
وتقدير النظم: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنزلناه بلغة قومك لتبين لهم الذي أوحينا إليك وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيخرجهم من الظلمات إلى النور.
وإذا كانت صيغة القصر جارية على خلاف مقتضى الظاهر ولم يكن ردا لمقالة بعض المشركين يكن تنزيلا للمشركين منزلة من ليسوا بعرب لعدم تأثرهم بآيات القرآن، ولقولهم {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} وكان مناط القصر هو ما بعد لام العلة. والمعنى: ما أرسلناك إلا لتبيين لهم وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه، وكان قوله: {إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} إدماجا في الاستثناء المتسلط عليه القصر، أو يكون متعلقا بفعل {لِيُبَيِّنَ} مقدما عليه. والتقدير: ما أرسلناك إلا لتبين لهم بلسانهم، وما أرسلنا من رسول إلا ليبين لقومه بلسانهم، فما لقومك لم يهتدوا بهذا القرآن وهو بلسانهم، وبذلك يتضح موقع التفريع في قوله: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}.
واللسان: اللغة وما به التخاطب. أطلق عليها اللسان من إطلاق اسم المحل على الحال به، مثل: سال الوادي.
والباء للملابسة، فلغة قومه ملابسة لكلامه والكتاب المنزل إليه لإرشادهم.
والقوم: الأمة والجماعة، فقوم كل أحد رهطه الذين جماعتهم واحدة ويتكلمون بلغة واحدة، وقوم كل رسول أمته المبعوث إليهم، إذ كان الرسل يبعثون إلى أقوامهم، وقوم محمد صلى الله عليه وسلم هم العرب، وأما أمته فهم الأقوام المبعوث إليهم وهم الناس كافة.
وإنما كان المخاطب أولا هم العرب الذين هو بين ظهرانيهم ونزل الكتاب بلغتهم لتعذر نزوله بلغات الأمم كلها، فاختار الله أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم من أمة هي أفصح الأمم لسانا، وأسرعهم أفهاما، وألمعهم ذكاء، وأحسنهم استعدادا لقبول الهدى والإرشاد، ولم يؤمن برسول من الرسل في حياته عدد من الناس مثل الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم في حياته فقد عم الإسلام بلاد العرب وقد حج مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نحو خمسين ألفا أو أكثر. وقيل مائة ألف وهم الرجال المستطيعون.
واختار أن يكون الكتاب المنزل إليهم بلغة العرب، لأنها أصلح اللغات جمع معان، وإيجاز عبارة، وسهولة جري على الألسن، مسرعة حفظ، وجمال وقع في الأسماع، وجعلت الأمة العربية هي المتلقية للكتاب بادئ ذي بدء، وعهد إليها نشره بين الأمم.
وفي التعليل بقوله: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} إيماء إلى هذا المعنى، لأنه لما كان المقصود من التشريع البيان كانت أقرب اللغات إلى التبيين من بين لغات الأمم المرسل إليهم هي اللغة التي هي أجدر بان يأتي الكتاب بها، قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [سورة الشعراء: 195]. فهذا كله من مطاوي هذه الآية.
ولكن لما كان المقصود من سياقها الرد على طعنهم في القرآن بأنه نزل بلغة لم ينزل بها كتاب قبله اقتصر في رد خطئهم على أنه إنما كان كذلك ليبين لهم لأن ذلك هو الذي يهمهم.
وتفريع قوله: {فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ} الخ على مجموع جملة {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، ولذلك جاء فعل {يُضِلُّ} مرفوعا غير منصوب إذ ليس عطفا على فعل {لِيُبَيِّنَ} لأن الإضلال لا يكون معلولا للتبيين ولكنه مفرع على الإرسال المعلل
بالتبيين. والمعنى أن الإرسال بلسان قومه لحكمة التبيين. وقد يحصل أثر التبيين بمعونة الاهتداء وقد لا يحصل أثره بسبب ضلال المبين لهم.
والإضلال والهدى من الله بما أعد في نفوس الناس من اختلاف الاستعداد.
وجملة {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} تذييل لأن العزيز قوي لا ينفلت شيء من قدرته ولا يخرج عما خلق له، والحكيم يضع الأشياء مواضعها، فموضع الإرسال والتبيين يأتي على أكمل وجه من الإرشاد. وموقع الإضلال والهدى هو التكوين الجاري على أنسب حال بأحوال المرسل إليهم، فالتبيين من مقتضى أمر التشريع والإضلال من مقتضى أمر التكوين.
[5] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
لما كانت الآيات السابقة مسوقة للرد على من أنكروا أن القرآن منزل من الله أعقب الرد بالتمثيل بالنظر وهو إرسال موسى - عليه السلام - إلى قومه بمثل ما أرسل به محمد صلى الله عليه وسلم وبمثل الغاية التي أرسل لها محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج قومه من الظلمات إلى النور.
وتأكيد الإخبار عن إرسال موسى - عليه السلام - بلام القسم وحرف التحقيق لتنزيل المنكرين رسالة محمد صلى الله عليه وسلم منزلة من ينكر رسالة موسى - عليه السلام - لأن حالهم في التكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم يقتضي ذلك التنزيل، لأن ما جاز على المثل يجوز على المماثل، على أن منهم من قال: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ}.
والباء في {بِآياتِنَا} للمصاحبة، أي إرسال مصاحبا للآيات الدالة على صدقه في رسالته، كما أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مصاحبا لآية القرآن الدال على أنه من عند الله، فقد تم التنظير وانتهض الدليل على المنكرين.
و {أَنْ} تفسيرية، فسر الإرسال بجملة {أَخْرِجْ قَوْمَكَ} الخ، والإرسال فيه معنى القول فكان حقيقا بموقع {أن} التفسيرية.
و {الظُّلُمَاتِ} مستعار للشرك والمعاصي، و {النُّورِ} مستعار للإيمان الحق والتقوى، وذلك أن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد في مصر بعد وفاة يوسف - عليه السلام -
سرى إليهم الشرك واتبعوا دين القبط، فكانت رسالة موسى - عليه السلام - لإصلاح اعتقادهم مع دعوة فرعون وقومه للإيمان بالله الواحد، وكانت آيلة إلى إخراج بني إسرائيل من الشرك والفساد وإدخالهم في حظيرة الإيماء والصلاح.
والتذكير: إزالة نسيان شيء. ويستعمل في تعليم مجهول كان شأنه أن يعلم. ولما ضمن التذكير معنى الإنذار والوعظ عدي بالباء، أي ذكرهم تذكير عظة بأيام الله.
و {أَيَّامِ اللَّهِ} أيام ظهور بطشه وغلبه من عصوا أمره، وتأييده المؤمنين على عدوهم، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر عزة الله تعالى. وشاع إطلاق اسم اليوم مضافا إلى اسم شخص أو قبيلة على يوم انتصر فيه مسمى المضاف إليه على عدوه، يقال: أيام تميم، أي أيام انتصارهم، فـ {أَيَّامِ اللَّهِ} أيام ظهور قدرته وإهلاكه الكافرين به ونصره أولياءه والمطيعين له.
فالمراد بـ {أَيَّامِ اللَّهِ} هنا الأيام التي أنجى الله فيها بني إسرائيل من أعدائهم ونصرهم وسخر لهم أسباب الفوز والنصر وأغدق عليهم النعم في زمن موسى - عليه السلام - فإن ذلك كله مما أمر موسى - عليه السلام - بأن يذكرهموه، وكله يصح أن يكون تفسيرا لمضمون الإرسال. لأن إرسال موسى - عليه السلام - ممتد زمنه، وكلما أوحى الله إليه بتذكير في مدة حياته فهو من مضمون الإرسال الذي جاء به مشمول لتفسير الإرسال، فقول موسى - عليه السلام – {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [سورة المائدة: 20, 21] هو من تذكير المفسر به إرسال موسى - عليه السلام - وهو إن كان واقعا بعد ابتداء رسالته بأربعين سنة فما هو إلا تذكير صادر في زمن رسالته، وهو من التذكير بأيام نعم الله العظيمة التي أعطاهم، وما كانوا يحصلونها لولا نصر الله إياهم، وعنايته بهم ليعلموا أنه رب ضعيف غلب قويا ونجا بضعفه ما لم ينج مثله القوي في قوته.
واسم الإشارة في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ} عائد إلى ما ذكر من الإخراج والتذكير، فالإخراج من الظلمات بعد توغلهم فيها وانقضاء الأزمنة الطويلة عليها آية من آيات قدرة الله تعالى.
والتذكير بأيام الله على آيات قدرة الله وعزته وتأييد من أطاعه. وكل ذلك
آيات كائنة في الإخراج والتذكير على اختلاف أحواله.
وقد أحاط بمعنى هذا الشمول حرف الظرفية من قوله: {فِي ذَلِكَ} لأن الظرفية تجمع أشياء مختلفة يحتويها الظرف، ولذلك كان لحرف الظرفية هنا موقع بليغ.
ولكون الآيات مختلفة، بعضها آيات موعظة وزجر وبعضها آيات منه وترغيب، جعلت متعلقة ب {كُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إذ الصبر المناسب للزجر لأن التخويف يبعث النفس على تحمل معاكسة هواها خيفة الوقوع في سوء العاقبة، والإنعام يبعث النفس على الشكر، فكان الصفتين توزيعا لما أجمله ذكر أيام الله من أيام بؤس وأيام نعيم.
[6] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
عطف على جملة {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} باعتبار غرض الجملتين، وهو التنظير بسنن ما جاء به الرسل السابقون من إرشاد الأمم وتذكيرها، كما أنزل القرآن لذلك.
{وَإِذْ} ظرف للماضي متعلق بفعل تقديره: اذكر، دل عليه السياق الذي هو ذكر شواهد التاريخ بأحوال الرسل عليهم السلام مع أمم. والمعنى: واذكر قول موسى لقومه الخ.
وهذا مما قاله موسى لقومه بعد أن أنجاهم الله من استبعاد القبط وإهانتهم، فهو تفاصيل ما فسر به إرسال موسى - عليه السلام - وهو من التذكير بأيام الله الذي أمر الله موسى - عليه السلام - أن يذكره قومه.
و {إِذْ أَنْجَاكُمْ} ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي الإنعام الحاصل في وقت إنجاكم إياكم من آل فرعون. وقد تقدم تفسير نظيرها في قوله تعالى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} في سورة البقرة، وكذا في سورة الأعراف {يُقَتِّلُونَ} ، سوى أن هذه الآية عطف فيها جملة {وَيُذَبِّحُونَ} على جملة {يَسُومُونَكُمْ} وفي آية البقرة والأعراف جعلت جملة {يذبحون} وجملة {يُقَتِّلُونَ} بدون عطف على أنها بدل اشتمال من جملة {يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}. فكان مضمون جملة {وَيُذَبِّحُونَ} هنا مقصودا بالعد كأنه صنف آخر غير سوء العذاب اهتماما بشانه، فعطفه من عطف الخاص على العام. وعلى
كلا النظمين قد حصل الاهتمام بهذا العذاب المخصوص بالذكر، فالقرآن حكى مراد كلام موسى - عليه السلام - من ذكر العذاب الأعم وذكر الأخص للاهتمام به، وهو حاصل على كلا النظمين. وإنما حكاه القرآن في كل موضع بطريقة تفننا في إعادة القصة بحصول اختلاف في صورة النظم مع الحفاظ على المعنى المحكي، وهو ذكر سوء العذاب مجملا، وذكر أفظع أنواعه مبينا.
وأما عطف جملة {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} في الآيات الثلاث فلأن مضمونها باستقلاله لا يصلح لبيان سوء العذاب، لأن استحياء النساء في ذاته نعمة ولكنه يصير من العذاب عند اقترانه بتذبيح الأبناء، إذ يعلم أن مقصودهم من استحياء النساء استرقاقهن وإهانتهن فثار الاستحياء بذلك القصد تهيئة لتعذيبهن. ولذلك سمي جميع ذلك بلاء.
وأصل البلاء: الاختبار. والبلاء هنا المصيبة بالشر، سمي باسم الاختبار لأنه اختبار لمقدار الصبر، فالبلاء مستعمل في شدة المكروه من تسمية الشيء باسم ما يؤول إليه على طريقة المجاز المرسل. وقد شاع إطلاق هذا بصيغة اسم المصدر بحيث يكاد لا يطلق إلا على المكروه. وما ورد منه مستعملا في الخير فإنما ورد بصيغة الفعل كقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [سورة الأنبياء: 35]، وقوله: {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [سورة محمد: 31]، وتقدم في نظيرها من سورة البقرة.
وجعل هذا الضر الذي لحقهم واردا من جانب الله لأن تخليه آل فرعون لفعل ذلك وعدم إلطافه ببني إسرائيل يجعله كالوارد من الله، وهو جزاء على نبذ بني إسرائيل دينهم الحق الذي أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب عليهم السلام واتباعهم دين القبط وعبادة آلهتهم.
واختيار وصف الرب هنا للإيماء إلى أنه أراد به صلاح مستقبلهم وتنبيههم لاجتناب عبادة الأوثان وتحريف الدين كقوله: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} [سورة الإسراء: 8].
وهذه الآية تضمنت ما في فقرة "17" من "الإصحاح" "21"، وفقرة "3" من "الإصحاح "13" من سفر "الخروج"، وما في فقرة "13" من الإصحاح "26" من "سفر اللاويين".
[7] {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
عطف على {إِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} فهو من كلام موسى - عليه السلام -. والتقدير: واذكروا نعمة الله عليكم إذ تأذن ربكم لئن شكرتم الخ، لأن الجزاء عن شكر النعمة بالزيادة منها نعمة وفضل من الله، لأن شكر المنعم واجب فلا يستحق جزاء لولا سعة فضل الله. وأما قوله: {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} فجاءت به المقابلة.
ويجوز أن يعطف {وَإِذْ تَأَذَّنَ} على {نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} ، فيكون التقدير: واذكروا إذ تأذن ربكم، على أن {إِذْ} منصوبة على المفعولية وليست ظرفا وذلك من استعمالاتها. وقد تقدم عند قوله تعالى في سورة الأعراف[167] {وإذ تأذن ربك ليبعئن عليهم} وقوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [سورة الأعراف: 86].
ومعنى {تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} تكلم كلاما علنا، أي كلم موسى - عليه السلام - بما تضمنه هذا الذي في الآية بمسمع من جماعة بني إسرائيل. ولعل هذا الكلام هو الذي في الفقرات "9- 20" من الإصحاح "91" من سفر الخروج، والفقرات "1- 18- 22" من الإصحاح "20" منه، والفقرات "من 20 إلى 30"من الإصحاح "23"منه.
والتأذن مبالغة في الأذان يقال: أذن وتأذن كما يقال: توعد وأوعد، وتفضل وأفضل. ففي صيغة تفعل زيادة معنى على صيغة أفعل.
وجملة {لَئِنْ شَكَرْتُمْ} موطئة للقسم والقسم مستعمل في التأكيد. والشكر مؤذن بالنعمة. فالمراد: شكر نعمة الإنجاء من آل فرعون وغيرها، ولذلك حذف مفعول {شَكَرْتُمْ} ومفعول {لَأَزِيدَنَّكُمْ} ليقدر عاما في الفعلين.
والكفر مراد به كفر النعمة وهو مقابلة المنعم بالعصيان. وأعظم الكفر جحد الخالق أو عبادة غيره معه وهو الإشراك، كما أن الشكر مقابلة النعمة بإظهار العبودية والطاعة.
واستغنى ب {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} عن {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} [سورة النمل: 21] لكونه أعم وأوجز، ولكون إفادة الوعيد بضرب من التعريض أوقع في النفس. والمعنى: إن عذابي لشديد لمن كفر فأنتم إذن منهم.
[8] {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ}.
أعيد فعل القول في عطف بعض كلام موسى - عليه السلام - على بعض لئلا يتوهم
أن هذا مما تأذن به الرب وإنما هو تنبيه على كلام الله. وفي إعادة فعل القول اهتمام بهذه الجملة وتنويه بها حتى تبرز مستقلة وحتى يصغي إليها السامعون للقرآن.
ووجه الاهتمام بها إن أكثر الكفار يحسبون أنهم يحسنون إلى الله بإيمانهم، وأن أنبياءهم حين يلحون عليهم بالإيمان إنما يبتغون بذلك تعزيز جانبهم والحرص على مصلحتهم. فلما وعدهم على الشكر بالزيادة وأوعدهم على الكفر بالعقوبة خشي أن يحسبوا ذلك لانتقام المثيب بما أثاب عليه، ولتضرره مما عاقب عليه، فنبههم إلى هذا الخاطر الشيطاني حتى لا يسري إلى نفوسهم فيكسبهم إدلالا بالإيمان والشكر والإقلاع عن الكفر.
و {أَنْتُمْ} فصل بين المعطوف والمعطوف عليه إذ كان هذا المعطوف عليه ضميرا متصلا.
و {جَمِيعاً} تأكيد لمن في الأرض للتنصيص على العموم. وتقدم نظيره ونصبه غير بعيد.
والغني: الذي لا حاجة له في شيء، فدخل في عموم غناه أنه غني عن الذين يكفرون به.
والحميد: المحمود. والمعنى: أنه محمود من غيركم مستغن عن حمدكم؛ على أنهم لو كفروا به لكانوا حامدين بلسان حالهم كرها، فإن كل نعمة تنالهم فيحمدونها فإنما يحمدون الله تعالى، كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} [سورة الرعد: 15]. وهذه الآية تضمنت ما في الفقرات "30 إلى 33" من الإصحاح "32" من "سفر الخروج".
[9] {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}.
هذا الكلام استئناف ابتدائي رجع به الخطاب إلى المشركين من العرب على طريقة الالتفات في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ} ، لأن الموجه إليه الخطاب هنا هم الكافرون المعنيون بقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سورة إبراهيم: 2]، وهم معظم المعني من
الناس في قوله: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [سورة إبراهيم: 1]، فإنهم بعد أن أجمل لهم الكلام في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [سورة إبراهيم: 4] الآية، ثم فصل بأن ضرب المثل للإرسال إليهم لغرض الإخراج من الظلمات إلى النور بإرسال موسى - عليه السلام - لإخراج قومه، وقضي حق ذلك عقبه بكلام جامع لأحوال الأمم ورسلهم، فكان بمنزلة الحوصلة والتذييل مع تمثيل حالهم بحال الأمم السالفة وتشابه عقلياتهم في حججهم الباطلة ورد الرسل عليهم ما رد به القرآن على المشركين في مواضع، ثم ختم بالوعيد.
والاستفهام إنكاري لأنهم قد بلغتهم أخبارهم؛ فأما قوم نوح فقد تواتر خبرهم بين الأمم بسبب خبر الطوفان، وأما عاد وثمود فهم من العرب ومساكنهم في بلادهم وهم يمرون عليها ويخبر بعضهم بعضا بها، قال تعالى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} وقال {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [سورة الصافات: 137].
{وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} يشمل أهل مدين وأصحاب الرس وقوم تبع وغيرهم من أمم انقرضوا وذهبت أخبارهم فلا يعلمهم إلا الله. وهذا كقوله تعالى: {وَعَاداً وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [سورة الفرقان: 38].
وجملة {لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} معترضة بين {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبين جملة {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} الواقعة حالا من {الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ، وهو كناية عن الكثرة التي يستلزمها انتفاء علم الناس بهم.
ومعنى {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ} جاء كل أمة رسولها.
وضمائر {رُدُّوا} و {أَيْدِيَهُمْ} و {أَفْوَاهِهِمْ} عائد جميعها إلى قوم نوح والمعطوفات عليه.
وهذا التركيب لا أعهد سبق مثله في كلام العرب فلعله من مبتكرات القرآن.
ومعنى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} يحتمل عدة وجوه أنهاها في "الكشاف" إلى سبعة وفي بعضها بعد، وأولاها بالاستخلاص أن يكون المعنى: أنهم وضعوا أيديهم على أفواههم إخفاء لشدة الضحك من كلام الرسل كراهية أن تظهر دواخل أفواههم. وذلك تمثيل لحالة الاستهزاء بالرسل.
والرد: مستعمل في معنى تكرير جعل الأيدي في الأفواه كما أشار إليه "الراغب".
أي وضعوا أيديهم على الأفواه ثم أزالوها ثم أعادوا وضعها فتلك الإعادة رد.
وحرف {فِي} للظرفية المجازية المراد بها التمكين، فهي بمعنى {عَلَى} كقوله: {أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [سورة الزمر: 22]. فمعنى {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} جعلوا أيديهم على أفواههم.
وعطفه بفاء التعقيب مشير إلى أنهم بادروا برد أيديهم في أفواههم بفور تلقيهم دعوة رسلهم، فيقتضي أن يكون رد الأيدي في الأفواه تمثيلا لحال المتعجب المستهزئ، فالكلام تمثيل للحالة المعتادة وليس المراد حقيقته، لأن وقوعه خبرا عن الأمم مع اختلاف عوائدهم وإشاراتهم واختلاف الأفراد في حركاتهم عند التعجب قرينة على أنه ما أريد به إلا بيان عربي.
ونظير هذا قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [سورة الزمر: 74]، فميراث الأرض كناية عن حسن العاقبة جريا على بيان العرب عند تنافس قبائلهم أن حسن العاقبة يكون لمن أخذ أرض عدوه.
وأكدوا كفرهم بما جاءت به الرسل بما دلت عليه {إن} وفعل المضي في قوله: {إِنَّا كَفَرْنَا}. وسموا ما كفروا به مرسلا به تهكما بالرسل، كقوله تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [سورة الحجر: 6]، فمعنى ذلك: أنهم كفروا بان ما جاءوا به مرسل به من الله، أي كفروا بان الله أرسلهم. فهذا مما أيقنوا بتكذيبهم فيه.
وأما قولهم {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ} فذلك شك في صحة ما يدعونهم إليه وسداده، فهو عندهم معرض للنظر وتمييز صحيحه من سقيمه، فمورد الشك ما يدعونهم إليه، ومورد التكذيب نسبة دعوتهم إلى الله. فمرادهم: أنهم وإن كانوا كاذبين في دعوى الرسالة فقد يكون في بعض ما يدعون إليه ما هو صدق وحق فإن الكاذب قد يقول حقا.
وجعلوا الشك قويا فلذلك عبر عنه بأنهم مظروفون فيه، أي هو محيط بهم ومتمكن كمال التمكن.
و {مُرِيبٍ} تأكيد لمعنى {فِي شَكٍّ} ، والمريب: الموقع في الريب، وهو مرادف الشك، فوصف الشك بالمريب من تأكيد ماهيته، كقولهم: ليل أليل، وشعر شاعر.
وحذفت إحدى النونين من قوله: {إِنَّا} تخفيفا تجنبا للثقل الناشئ من وقوع نونين آخرين بعد في قوله: {تَدْعُونَا} [سورة هود: 62] اللازم ذكرهما، بخلاف آية سورة هود [62] {وَإِنَّنَا لَفِي
شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا}.
إذ لم يكن موجب للتخفيف لأن المخاطب فيها بقوله: {تَدْعُونَا} واحد.
[10] {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً}.
استفهام إنكاري. ومورد الإنكار هو وقوع الشك في وجود الله، فقدم متعلق الشك للاهتمام به، ولو قال: أشك في الله، لم يكن له هذا الوقع، مثل قول القطامي:
أكفرا بعد رد الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
فكان أبلغ له لو أمكنه أن يقول: أبعد رد الموت عني كفر.
وعلق اسم الجلالة بالشك، والاسم العلم يدل على الذات. والمراد: إنكار وقوع الشك في أهم الصفات الإلهية وهي صفة التفرد بالإلهية، أي صفة الوحدانية.
وأتبع اسم الجلالة بالوصف الدال على وجوده وهو وجود السماوات والأرض الدال على أن لهما خالقا حكيما لاستحالة صدور تلك المخلوقات العجيبة المنظمة عن غير فاعل مختار، وذلك معلوم بأدنى تأمل، وذلك تأييد لإنكار وقوع الشك في انفراده بالإلهية لأن انفراده بالخلق يقتضي انفراده باستحقاقه عبادة مخلوقاته.
وجملة {تَدْعُونَا} حال من اسم الجلالة، أي يدعوكم أن تنبذوا الكفر ليغفر لكم ما أسلفتم من الشرك ويدفع عنكم عذاب الاستئصال فيؤخركم في الحياة إلى أجل معتاد.
والدعاء: حقيقته النداء. فأطلق على الأمر والإرشاد مجازا لأن الآمر ينادي المأمور.
ويعدى فعل الدعاء إلى الشيء المدعو إليه بحرف الانتهاء غالبا وهو {إلى}، نحو قوله تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [سورة غافر: 41].
وقد يعدى بلام التعليل داخلة على ما جعل سببا للدعوة فإن العلة تدل على المعلول، كقوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} [سورة نوح: 7]، أي دعوتهم إلى سبب المغفرة لتغفر، أي دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم، وهو في هذه الآية كذلك، أي يدعوكم إلى التوحيد ليغفر لكم من ذنوبكم.
وقد يعدى فعل الدعوة إلى المدعو إليه باللام تنزيلا للشيء الذي يدعى إلى الوصول إليه منزلة الشيء الذي لأجله يدعى، كقول أعرابي من بني أسد:
دعوت لما نابني مسورا ... فلبى فلبي يدي مسور
{قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}.
أرادوا إفحام الرسل بقطع المجادلة النظرية، فنفوا اختصاص الرسل بشيء زائد في صورتهم البشرية يعلم به أن الله اصطفاهم دون غيرهم بان جعلهم رسلا عنه، وهؤلاء الأقوام يحسبون أن هذا أقطع لحجة الرسل لأن المماثلة بينهم وبين قومهم محسوسة لا تحتاج إلى تطويل في الاحتجاج، فلذلك طالبوا رسلهم أن يأتوا بحجة محسوسة تثبت أن الله اختارهم للرسالة عنه، وحسبانهم بذلك التعجيز.
فجملة {تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} في موضع الحال، وهي قيد لما دل عليه الحصر في جملة {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} من جحد كونهم رسلا من الله بالدين الذي جاءوهم به مخالفا لدينهم القديم، فبذلك الاعتبار كان موقع التفريع لجملة {فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} لأن مجرد كونهم بشرا لا يقتضي مطالبتهم بالإتيان بسلطان مبين وإنما اقتضاه أنهم جاءوهم بإبطال دين قومهم، وهو مضمون ما أرسلوا به.
وقد عبروا عن دينهم بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التنويه بدينهم بأنه متقلد آبائهم الذين يحسبونهم معصومين من اتباع الباطل، وللأمم تقديس لأسلافها فلذلك عدلوا عن أن يقولوا: تريدون أن تصدونا عن ديننا.
والسلطان: الحجة. وقد تقدم في قوله: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} في سورة الأعراف [71].
المبين: الواضح الذي لا احتمال فيه لغير ما دل عليه.
[11, 12] {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ}.
قول الرسل {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} جواب بطريق القول بالموجب في علم آداب البحث، وهو تسليم الدليل مع بقاء الأنواع ببيان محل الاستدلال فير تام الإنتاج، وفيه إطماع في الموافقة. ثم كر على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم.
ونظيره قوله تعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [سورة المنافقون: 8].
وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر، فليس قول الرسل {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تقريرا للدليل ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله. ومحل البيان هو الاستدراك في قوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [سورة إبراهيم: 11]. والمعنى: أن الممثالة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمن على من يشاء من عباده بنعم لم يعطها غيرهم.
فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة.
وأورد الشيخ محمد بن عرفة في "التفسير" وجها للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة لهم في قوله: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها {قَالَتْ رُسُلُهُمْ} [سورة إبراهيم: 10] بوجهين: أحدهما: أن هذه المقالة خاصة بالمكذبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم، أي لمصدقين والمكذبين.
وثانيهما: أن وجود الله أمر نظري، فكان كلام الرسل في شانه خطابا لعموم قومهم، وأما بعثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر، فكانه قال: ما قالوا هذا إلا للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم.
وأجاب الأبي أن {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} خطاب لمن عاند في أمر ضروري، فكأن
المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو معرض عنه بخلاف قولهم {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} فإنه تقرير لمقالتهم فهم يقبلون عليهم بالجواب لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اهـ.
والحاصل أن زيادة {لَهُمْ} تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللام الداخلة بعد فعل القول في نحو: أقول لك، لام تعليل، أي أقول قولي لأجلك.
ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكره على إجابة من يتحداه.
وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أمر لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا} إلى آخره.
ولما كان حصول إذن الله تعالى بتأييد الرسل بالحجة المسؤولة غير معلوم الميقات ولا متعين الوقوع وكانت مدة ترقب ذلك مظنة لتكذيب الذين كفروا رسلهم تكذيبا قاطعا وتوقع الرسل أذاة قومهم إياهم شان القاطع بكذب من زعم أنه مرسل من الله، ولأنهم قد بدأوهم بالأذى كما دل عليه قولهم {وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا}. أظهر الرسل لقومهم أنهم غير غافلين عن ذلك وأنهم يتلقون ما عسى أن يواجههم به المكذبون من أذى بتوكلهم على الله هم ومن آمن معهم؛ فابتدأوا بأن أمروا المؤمنين بالتوكل تذكيرا لهم لئلا يتعرض إيمانهم إلى زعزعة الشك حرصا على ثبات المؤمنين، كقول النبيء صلى الله عليه وسلم لعمر - رضي الله عنه -: "أفي شك أنت يا بن الخطاب". وفي ذلك الأمر إيذان بأنهم لا يعبأون بما يضمره لهم الكافرون من الأذى، كقول السحرة لفرعون حين آمنوا {لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [سورة الشعراء: 50].
وتقديم المجرور في قوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} مؤذن بالحصر وأنهم لا يرجون نصرا من غير الله تعالى لضعفهم وقلة ناصرهم. وفيه إيماء إلى أنهم واثقون بنصر الله.
والجملة معطوفة بالواو عطف الإنشاء على الخبر.
والفاء في قوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} رابطة لجملة "فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" بما أفاده
تقديم المجرور من معنى الشرط الذي يدل عليه المقام. والتقدير: إن عجبتم من قلة اكتراثنا بتكذيبكم أيها الكافرون. وإن خشيتم هؤلاء المكذبين أيها المؤمنون فليتوكل المؤمنون على الله فإنهم لن يضيرهم عدوهم. وهذا كقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} كما تقدم في سورة العقود [23].
والتوكل: الاعتماد وتفويض التدبير إلى الغير ثقة بأنه أعلم بما يصلح، فالتوكل على الله تحقق أنه أعلم بما ينفع أولياءه من خير الدنيا والآخرة. وقد تقدم الكلام على التوكل عند قوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} في سورة آل عمران [59].
وجملة {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ} استدلال على صدق رأيهم في تفويض أمرهم إلى الله، لأنهم رأوا بوارق عنايته بهم إذ هداهم إلى طرائق النجاة والخير، ومبادئ الأمور تدل على غاياتها.
وأضافوا السبل إلى ضميرهم للاختصار لأن أمور دينهم صارت معروفة لدى الجميع فجمعها قولهم {سُبُلَنَا}.
{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ} استفهام إنكاري لانتفاء توكلهم على الله، أتوا به في صورة الإنكار بناء على ما هو معروف من استحماق الكفار إياهم في توكلهم على الله، فجاءوا بإنكار نفي التوكل على الله. ومعنى {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ} ما ثبت لنا من عدم التوكل، فاللام للاستحقاق.
وزادوهم قومهم تأييسا بالأذى فأقسموا على أن صبرهم على أذى قومهم سيستمر، فصيغة الاستقبال المستفادة من المضارع المؤكد بنون التوكيد في {لَنَصْبِرَنَّ} دلت على أذى مستقبل. ودلت صيغة المضي المنتزع منها المصدر في قوله: {مَا آذَيْتُمُونَا} على أذى مضى، فحصل من ذلك معنى نصبر على أذى متوقع كما صبرنا على أذى مضى، وهذا إيجاز بديع.
وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} يحتمل أن تكون من بقية كلام الرسل فتكون تذييلا وتأكيد لجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} فكانت تذييلا لما فيها من العموم الزائد في قوله: {الْمُتَوَكِّلُونَ} على عموم {فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} وكانت تأكيدا لأن المؤمنون من جملة المتوكلين. والمعنى: من كان متوكلا في أمره على غيره فليتوكل على الله.
ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى، فهي تذييل للقصة وتنويه بشأن المتوكلين على الله، أي لا ينبني التوكل إلا عليه.
[13, 14] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}.
تغيير أسلوب الحكاية بطريق الإظهار دون الإضمار يؤذن بأن المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا غير الكافرين الذين تقدمت الحكاية عنهم فإن الحكاية عنهم كانت بطريق الإضمار. فالظاهر عندي أن المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا كفار قريش على طريقة التوجيه. وأن المراد بـ {رُسُلِهِمْ} الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، أجريت على وصفه صيغة الجمع على طريقة قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} في سورة غافر، فإن المراد المشركون من أهل مكة كما هو مقتضى قوله: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وقوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} إلى قوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} ، فإن المراد بالرسل في الموضعين الأخيرين الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لأنه الرسول الذي أنزل معه الحديد، أي القتال بالسيف لأهل الدعوة المكذبين، وقوله: {فَكَذَّبُوا رُسُلِي} في سورة سبا [45] على أحد تفسيرين في المراد بهم وهو أظهرهما.
وإطلاق صيغة الجمع على الواحد مجاز: إما استعارة إن كان فيه مراعاة تشبيه الواحد بالجمع تعظيما له كما في قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} [سورة المؤمنون: 99].
وإما مجاز مرسل إذا روعي فيه قصد التعمية، فعلاقته الإطلاق والتقيد. والعدول عن الحقيقة إليه لقصد التعمية.
فلا جرم أن يكون المراد بـ {الَّذِينَ كَفَرُوا} هنا كفار مكة ويؤيده قوله بعد ذلك {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} فإنه لا يعرف أن رسولا من رسل الأمم السالفة دخل أرض مكذبيه بعد هلاكهم وامتلكها إلا النبي محمدا صلى الله عليه وسلم، قال في حجة الوداع "منزلنا إن
شاء الله غدا بالخيف خيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر".
وعلى تقدير أن يكون المراد ب {الَّذِينَ كَفَرُوا} في هذه الآية نفس المراد من الأقوام السالفين فالإظهار في مقام الإضمار لزيادة تسجيل اتصافهم بالكفر حتى صار الخصلة التي يرفون بها. وعلى هذا التقدير يكون المراد من الرسل ظاهر الجمع فيكون هذا التوعد شنشنة الأمم ويكون الإيماء إليهم به سنة الله مع رسله.
وتأكيد توعدهم بالإخراج بلام القسم ونون التوكيد ضراوة في الشر.
و"أو" لأحد الشيئين، أقسموا على حصول أحد الأمرين لا محالة، أحدهما من فعل المقسمين، والآخر من فعل من خوطب بالقسم، وليست هي {أَوْ} التي بمعنى {إِلَى} أو بمعنى {إِلَّا}.
والعود: الرجوع إلى شيء بعد مفارقته. ولم يكن أحد من الرسل متبعا ملة الكفر بل كانوا منعزلين عن المشركين دون تغيير عليهم. فكان المشركون يحسبونهم موافقين لهم. وكان الرسل يتجنبون مجتمعاتهم بدون أن يشعروا بمجانبتهم، فلما جاءوهم بالحق ظنوهم قد انتقلوا من موافقتهم إلى مخالفتهم فطلبوا منهم أن يعودوا إلى ما كانوا يحسبونهم عليه.
والظرفية في قوله: {فِي مِلَّتِنَا} مجازية مستعملة في التمكن من التلبس بالشيء المتروك فكأنه عاد إليه.
والملة: الدين. وقد تقدم عند قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في آخر سورة الأنعام [161]، وانظر قوله: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} في أوائل سورة آل عمران [95].
وتفريع جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} على قول الذين كفروا لرسلهم {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا} الخ تفريع على ما يقتضيه قول الذين كفروا من العزم على إخراج الرسل من الأرض، أي أوحى الله إلى الرسل ما يثبت به قلوبهم، وهو الوعد بإهلاك الظالمين.
وجملة {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} بيان لجملة "أوحى...".
وإسكان الأرض: التمكين منها وتخويلها إياهم، كقوله: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ} [سورة الأحزاب: 27].
والخطاب في {لَنُسْكِنَنَّكُمُ} للرسل والذين آمنوا بهم، فلا يقتضي أن يسكن الرسول بأرض عدوه بل يكفي أن يكون له السلطان عليها وأن يسكنها المؤمنون، كما مكن الله لرسوله مكة وأرض الحجاز وأسكنها الذين آمنوا بعد فتحها.
{ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}
{ذَلِكَ} إشارة إلى المذكور من الإهلاك والإسكان المأخوذين من {لَنُهْلِكَنَّ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ}. عاد إليهما اسم الإشارة بالإفراد بتأويل المذكور، كقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [سورة الفرقان: 68].
واللام للملك، أي ذلك عطاء وتمليك لمن خاف مقامي، كقوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [سورة البينة: 8].
والمعنى: ذلك الوعد لمن خاف مقامي، أي ذلك لكم لأنكم خفتم مقامي، فعدل عن ضمير الخطاب إلى {مَنْ خَافَ مَقَامِي} لدلالة الموصول على الإيماء إلى أن الصلة علة في حصول تلك العطية.
ومعنى {خَافَ مَقَامِي} خافني، فلفظ {مَقَامِ} مقحم للمبالغة في تعلق الفعل بمفعوله، كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [سورة الرحمن: 64]، لأن المقام أصله مكان القيام، وأريد فيه بالقيام مطلق الوجود لأن الأشياء تعتبر قائمة، فإذا قيل {خَافَ مَقَامِي} كان فيه من المبالغة ما ليس في "خافني" بحيث إن الخوف يتعلق بمكان المخوف منه، كما يقال: قصر في جانبي. ومنه قوله تعالى: {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [سورة الزمر: 56]. وكل ذلك كناية عن المضاف إليه كقول زياد الأعجم:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
أي في ابن الحشرج من غير نظر إلى وجود قبة. ومنه ما في الحديث "إن الله لما خلق الرحم أخذت بساق العرش وقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة"، أي هذا العائذ بك القطيعة.
وخوف الله: هو خوف غضبه لأن غضب الله أمر مكروه لدى عبيده.
وعطف جملة {وَخَافَ وَعِيدِ} على {خَافَ مَقَامِي} مع إعادة فعل {خَافَ} دون اكتفاء بعطف {وَعِيدِي} على {مَقَامِي} لأن هذه الصلة وإن كان صريحها ثناء على
المخاطبين فالمراد منها التعريض بالكافرين بأنهم لا يخافون وعيد الله، ولولا ذلك لكانت جملة {خَافَ مَقَامِي} تغني عن هذه الجملة، فإن المشركين لم يعبأوا بوعيد الله وحسبوه عبثا، قال تعالى: {يسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [سورة إبراهيم: 47]، ولذلك لم يجمع بينهما في سورة البينة [8] {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} لأنه في سياق ذكر نعيم المؤمنين خاصة.
وهذه الآية في ذكر إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين أرضهم فكان المقام للفريقين، فجمع في جزاء المؤمنين بإدماج التعريض بوعيد الكافرين، وفي الجمع بينهما دلالة على أن من حق المؤمن أن يخاف غضب ربه وأن يخاف وعيده، والذين يخافون غضب الله ووعيده هم المتقون الصالحون، فآل معنى الآية إلى معنى الآية الأخرى {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء: 105].
وقرأ الجمهور {وعيد} بدون ياء وصلا ووقفا. وقراه ورش عن نافع بدون ياء في الوقف وبإثباتها في الوصل. وقراه يعقوب بإثبات الياء في حالي الوصل والوقف. وكل ذلك جائز في ياء المتكلم الواقعة مضافا إليها في غير النداء. وفيها في النداء لغتان أخريان.
[15- 17] {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}.
جملة {وَاسْتَفْتَحُوا} يجوز أن تكون معطوفة على جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} ، أو معترضة بين جملة {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} وبين جملة {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}. والمعنى: أنهم استعجلوا النصر. وضمير {وَاسْتَفْتَحُوا} عائد إلى الرسل، ويكون جملة {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} عطفا على جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} الخ، أي فوعدهم الله النصر وخاب الذين كفروا، أي لم يتحقق توعدهم الرسل بقولهم: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}. ومقتضى الظاهر أن يقال: وخاب الذين كفروا، فعدل عنه إلى {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} للتنبيه على أن الذين كفروا كانوا جبابرة عنداء وأن كل جبار عنيد يخيب.
ويجوز أن تكون جملة {وَاسْتَفْتَحُوا} عطفا على جملة {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ} ويكون ضمير {اسْتَفْتَحُوا} عائدا على الذين {كَفَرُوا} ، أي وطلبوا النصر على رسلهم فخابوا في ذلك. ولكون في قوله: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} إظهار في مقام الإضمار عدل
عن أن يقال: وخابوا، إلى قوله: {كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} لمثل الوجه الذي ذكر آنفا.
والاستفتاح: طلب الفتح وهو النصر، قال تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ} [سورة الأنفال: 19].
والجبار: المتعاظم الشديد التكبر.
والعنيد: المعاند للحق. وتقدما في قوله: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} في سورة هود [59]. والمراد بهم المشركون المتعاظمون، فوصف {جَبَّارٍ} خلق نفساني، ووصف {عَنِيدٍ} من أثر وصف {جبار} لأن العنيد المكابر المعرض للحجة.
وبين {وَخَافَ وَعِيدِ} {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} جناس مصحف.
وقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} صفة ل {جَبَّارٍ عَنِيدٍ} أي خاب الجبار العنيد في الدنيا وليس ذلك حظة من العقاب بل وراءه عقاب الآخرة.
والوراء: مستعمل في معنى ما ينتظره ويحل به من بعد، فاستعير لذلك بجامع الغفلة عن الحصول كالشيء الذي يكون من وراء المرء لا يشعر به لأنه لا يراه، كقوله تعالى: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف: 79]، أي وهم غافلون عنه ولو ظفر بهم لأفتك سفينتهم، وقول هدبة بن خشرم:
عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب
وأما إطلاق الوراء على معنى {مِنْ بَعْدِ} فاستعمال آخر قريب من هذا وليس عينه.
والمعنى: أن جهنم تنتظره، أي فهو صائر إليها بعد موته.
والصديد: المهلة. أي مثل الماء يسيل من الدمل ونحوه، وجعل الصديد ماء على التشبيه البليغ في الإسقاء، لأن شأن الماء أن يسقى. والمعنى: ويسقى صديدا عوض الماء إن طلب الإسقاء، ولذلك جعل {صَدِيدٍ} عطف بيان ل {مَاءٍ}. وهذا وجوه التشبيه البليغ.
وعطف جملة {يُسْقَى} على جملة {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} لأن السقي من الصديد شيء زائد على نار جهنم.
والتجرع: التكلف الجرع، والجرع: بلع الماء.
ومعنى {يُسِيغُهُ} يفعل سوغة في حلقة. والسوغ: انحدار الشراب في الحلق بدون غصة، وذلك إذا كان الشراب غير كريه الطعم ولا الريح، يقال: ساغ الشراب، وشراب سائغ. ومعنى {لا يَكَادُ يُسِيغُهُ} لا يقارب أن يسيغه فضلا عن أن يسيغه بالفعل، كما تقدم في قوله تعالى: {وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} في سورة البقرة [71].
وإتيان الموت: حلوله، أي حلول آلمه وسكراته، قال قيس بن الخطيم:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
بقرينة قوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} ، أي فيستريح.
والكلام على قوله: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} مثل الكلام في قوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}، أي ينتظره عذاب آخر بعد العذاب الذي هو فيه.
والغليظ: حقيقته الخشن الجسم، وهو مستعمل هنا في القوة والشدة بجامع الوفرة في كل، أي عذاب ليس بأخف مما هو فيه. وتقدم عند قوله: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} في سورة هود [58].
[18] {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}.
تمثيل لحال ما عمله المشركون من الخيرات حيث لم ينتفعوا بها يوم القيامة. وقد أثار هذا التمثيل ما دل عليه الكلام السابق من شدة عذابهم، فيخطر ببالهم أو ببال من يسمع من المسلمين أن يسأل نفسه أن لهم أعمالا من الصلة والمعروف: من إطعام الفقراء، ومن عتق رقاب، وقرى ضيوف، وحمالة ديات، وفداء أسارى، واعتمار، ورفادة الحجيج، فهل يجدون ثواب ذلك? وأن المسلمين لما علموا أن ذلك لا ينفع الكافرين تطلبت نفوسهم وجه الجمع بين وجود عمل صالح وبين عدم الانتفاع به عند الحاجة إليه، فضرب هذا المثل لبيان ما يكشف جميع الاحتمالات.
والمثل: الحالة العجيبة، أي حال الذين كفروا العجيبة أن أعمالهم كرماد الخ. فالمعنى: حال أعمالهم، بقرينة الجملة المخبر عنها لأنه مهما أطلق مثل كذا إلا والمراد حال خاصة من أحواله يفسرها الكلام، فهو من الإيجاز الملتزم في الكلام.
فقوله: {أَعْمَالُهُمْ} مبتدأ ثان، و {كَرَمَادٍ} خبر عنه، والجملة خبر عن المبتدأ
الأول.
ولما جعل الخبر عن {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا} {أَعْمَالُهُمْ} آل الكلام إلى أن مثل أعمال الذين كفروا كرماد.
شبهت أعمالهم المتجمعة العديدة برماد مكدس فإذا اشتدت الرياح بالرماد انتثر وتفرق تفرقا لا يرجى معه اجتماعه. ووجه الشبه هو الهيئة الحاصلة من اضمحلال شيء كثير بعد تجمعه، والهيئة المشبهة معقولة.
ووصف اليوم بالعاصف مجاز عقلي، أي عاصف ريحه، كما يقال: يوم ماطر، أي سحابه.
والرماد: ما يبقى من احتراق الحطب والفحم. والعاصف تقدم في قوله: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} في سورة يونس [22].
ومن لطائف هذا التمثيل أن اختير له التشبيه بهيئة الرماد المجتمع، لأن الرماد أثر لأفضل أعمال الذين كفروا وأشيعها بينهم وهو قرى الضيف حتى صارت كثرة الرماد كناية في لسانهم عن الكرم.
وقرأ نافع وأبو جعفر {اشتدت به الرياح} . وقراه البقية {اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ} بالإفراد، وهما سواء لأن التعريف تعريف الجنس.
وجملة {لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ} بيان لجملة التشبيه، أي ذهبت أعمالهم سدى فلا يقدرون أن ينتفعوا بشيء منها.
وجملة {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} تذييل جامع لخلاصة حالهم، وهي أنها ضلال بعيد.
والمراد بالبعيد البالغ نهاية ما تنتهي إليه ماهيته، أي بعيد في مسافات الضلال، فهو كقولك: أقصى الضلال أو جد ضلال، وقد تقدم في قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} في سورة النساء [116].
[19, 20] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}.
استئناف بياني ناشئ عن جملة {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ} فإن هلاك فئة كاملة شديدة القوة والمرة أمر عجيب يثير في النفوس السؤال: كيف تهلك فئة مثل هؤلاء? فيجاب بأن الله الذي قدر على خلق السماوات والأرض في عظمتها قادر على إهلاك ما هو دونها، فمبدأ الاستئناف هو قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ}.
وموقع جملة {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} موقع التعليل لجملة الاستئناف، قدم عليها كما تجعل النتيجة مقدمة في الخطابة والجدال على دليلها. وقد بيناه في كتاب "أصول الخطابة".
ومناسبة موقع هذا الاستئناف ما سبقه من تفرق الرماد في سوم عاصف.
والخطاب في {أَلَمْ تَرَ} لكل من يصلح للخطاب غير معين، وكل من يظن به التساؤل عن إمكان إهلاك المشركين.
والرؤية: مستعملة في العلم الناشئ عن النظر والتأمل، لأن السماوات والأرض مشاهدة لكل ناظر، وأما كونها مخلوقة لله فمحتاج إلى أقل تأمل لسهولة الانتقال من المشاهدة إلى العلم، وأما كون ذلك ملتبسا بالحق فمحتاج إلى تأمل عميق. فلما كان أصل ذلك كله رؤية المخلوقات المذكورة علق الاستدلال على الرؤية. كقوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [سورة يونس: 101].
والحق هنا: الحكمة، أي ضد العبث، بدليل مقابلته به في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [سورة الدخان: 38, 39].
وقرأ الجمهور {خَلَقَ} بصيغة الفعل على أن {السَّمَاوَاتِ} مفعوله {وَالْأَرْضَ} عطف على المفعول بالنصب.
وقراه حمزة، والكسائي، وخلف {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} بصيغة اسم الفاعل مضافا إلى {السَّمَاوَاتِ} ويخفض {الْأَرْضَ}.
والخطاب في {يُذْهِبْكُمْ} لجماعة من جملتهم المخاطب ب {أَلَمْ تَرَ}. والمقصود: التعريض بالمشركين خاصة. تأكيدا لوعيدهم الذي اقتضاه قوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ}، أي إن شاء أعدم الناس كلهم وخلق ناسا آخرين.
وقد جيء في الاستدلال على عظيم القدرة بالحكم الأعم إدماجا للتعليم بالوعيد وإظهار لعظيم القدرة. وفيه إيماء إلى أنه يذهب الجبابرة المعاندين ويأتي في مكانهم في سيادة الأرض بالمؤمنين ليمكنهم من الأرض.
وجملة {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} عطف على جملة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} مؤكد لمضمونها، وإنما سلك بهذا التأكيد مسلك العطف لما فيه من المغايرة للمؤكد في الجملة بأنه يفيد أن هذا المشي سهل عليه هين، كقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [سورة الروم: 27].
والعزيز على أحد: المتعاصي عليه الممتنع بقوته وأنصاره.
[21] {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}.
عطف على جملة {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ} [سورة إبراهيم: 20] باعتبار جواب الشرط وهو الإذهاب، وفي الكلام محذوف، إذ التقدير: فأذهبهم وبرزوا لله جميعا، أي يوم القيامة.
وكان مقتضى الظاهر أن يقول: ويبرزون لله، فقد دل عن المضارع إلى الماضي للتنبيه على تحقيق وقوعه حتى كأنه قد وقع، مثل قوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [سورة النحل: 1].
والبروز: الخروج من مكان حاجب من بيت أو قرية. والمعنى: حشروا من القبور.
و{جَمِيعاً} تأكيد ليشمل جميعهم من سادة ولفيف.
وقد جيء في هذه الآية بوصف حال الفرق يوم القيامة، ومجادلة أهل الضلالة مع قادتهم، ومجادلة الجميع للشيطان، وكون المؤمنين في شغل عن ذلك ينزل الكرامة. والغرض من ذلك تنبيه الناس إلى تدارك شأنهم قبل الفوات. فالمقصود: التحذير مما يفضي إلى سوء المصير.
واللام الجارة لاسم الجلالة معدية فعل {بَرَزُوا} إلى المجرور. يقال: برز لفلان، إذا ظهر له، أي حضر بين يديه، كما يقال: ظهر له.
والضعفاء: عوام الناس والأتباع. والذين استكبروا: السادة، لأنهم يتكبرون على العموم وكان التكبر شعار السادة. والسين والتاء للمبالغة في الكبر. والتبع: اسم جمع التابع مثل الخدم والخول، والفاء لتفريع الاستكبار على التبعية لأنها سبب يقتضي الشفاعة لهم.
وموجب تقديم المسند إليه على المسند في {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا} أن المستفهم عنه هو كون المستكبرين يغنون عنهم لا أصل الغناء عنهم، لأنهم آيسون منه لما رأوا آثار الغضب الإلهي عليهم وعلى سادتهم. كما تدل عليه حكاية قول المستكبرين {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} ، فعلموا أنهم قد غروهم في الدنيا، فتعين أن الاستفهام مستعمل في التورك والتوبيخ والتنكيت، أي فأظهروا مكانتكم عند الله التي كنتم تدعونها وتغروننا بها في الدنيا. فالأيلاء المسند إليه حرف الاستفهام قرينة على أنه استفهام غير حقيقي، وبينه ما في نظيره من سورة غافر [47, 48] {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ}.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ عَذَابِ اللَّهِ} بدلية، أي غناء بدلا عن عذاب الله.
و {مِنْ} في قوله: {مِنْ شَيْءٍ} مزيدة لوقوع مدخولها في سياق الاستفهام بحرف هل. و {شَيْءٍ} في معنى المصدر، وحقه النصب على أنه مفعول مطلق فوقع جره بحرف الجر الزائد. والمعنى: هل تغنون عنا شيئا.
وجواب المستكبرين اعتذار عن تغريرهم بأنهم ما قصدوا به توريط أتباعهم كيف وقد ورطوا أنفسهم أيضا. أي لو كنا نافعين لنفعنا أنفسنا. وهذا الجواب جار على معنى الاستفهام التوبيخي العتابي إذ لم يجيبوهم بانا لا نملك لكم غناء ولكن ابتدأوا بالاعتذار عما صدر منهم نحوهم في الدنيا علما بان الضعفاء عالمون بأنهم لا يملكون لهم غناء من العذاب.
وجملة {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} من كلام الذين استكبروا. وهي مستأنفة تبيين عن سؤال من الضعفاء يستفتون المستكبرين أيصبرون أم يجزعون تطلبا للخلاص من العذاب، فأرادوا تأييسهم من ذلك يقولون: لا يفيدنا جزع ولا صبر، فلا نجاة من العذاب. فضمير المتكلم المشارك شامل للمتكلمين والمجابين، جمعوا أنفسهم إتماما للاعتذار عن توريطهم.
والجزع: حزن مشوب باضطراب، والصبر تقدم.
وجملة {مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} واقعة موقع التعليل لمعنى الاستواء، أي حيث لا محيص ولا نجاة فسواء الجزع والصبر.