كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
لغيره من الأصنام مثل ما له من القدرة والغيرة. فلا تزال آلهتهم في مغالبة ومنافرة. كما لا يزال أتباعهم كذلك، والذين حالهم كما وصفنا لا يستقر لهم قرار في الشقة بالنصر في حروبهم، إذ هم لا يدرون هل الربح مع آلهتهم أم مع أضدادها، وعليه فقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} صلة أجريت على المشرك به ليس القصد بها تعريف الشركاء، ولكن قصد بها الإيماء إلى أنه من أسباب إلقاء الرعب في قلوبهم، إذ هم على غير يقين فيما أشركوا واعتقدوا، فقلوبهم وجلة متزلزلة، إذ قد علم كل أحد أن الشركاء يستحيل أن ينزل بهم سلطان. فإن قلت: ما ذكرته يقتضي أن الشرك سبب في إلقاء الرعب في قلوب أهله، فيتعين أن يكون الرعب نازلا في قلوبهم من قبل هذه الوقعة، والله يقول {سنلقي} أي في الستقبل، قلت: هو كذلك إلا أن هذه الصفات تستكين في النفوس حتى يدعوا داعي ظهورها، فالرعب والشجاعة صفتان لا تظهران إلا عند القتال، وتقويان وتضعفان، فالشجاع تزيد شجاعته بتكرر الانتصار، وقد ينزوي قليلا إذا انهزم ثم تعود له صفته سرعى. كما وصفه عمرو بن الإطنابة في قوله:
وقولي كلما جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
وقول الحصين بن الحمام:
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وكذلك الرعب والجبن قد يضعف عند حصول بارقة انتصار، فالمشركون لما انهزموا بادئ الأمر يوم أحد، فلت عزيمتهم، ثم لمال ابتلى الله المؤمنين بالهزيمة راجعهم شيء من الشجاعة والازدهاء، ولكنهم بعد انصرافهم عاودته صفاتهم، وتأبى الطباع على الناقل. فقوله: {سنلقي} أي إلقاء إعادة الصفة إلى النفوس، ولك أن تجعل السين فيه لمجرد التأكيد أي ألقينا ونلقي، ويندفع الإشكال.
وكثير من المفسرين ذكروا أن هذا الرعب كانت له مظاهر: منها أن المشركين لما انتصروا على المسلمين كان في مكنتهم أن يوغلوا غي استئصالهم إلا أن الرعب صدهم عن ذلك، لأنهم لما انصرفوا قاصدين الرجوع إلى مكة عن لهم في الطريق ندم، وقالوا: لو رجعنا فاقتفينا آثار محمد وأصحابه، فإنا قتلناهم ولم يبق إلا الفل والطريد، فلنرجع إليهم حتى نستأصلهم، وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى لقائهم، فانتدبوا، وكانوا في غاية الضعف ومثقلين بالجراحة، حتى قيل: إن الواحد منهم كان يحمل الآخر ثم ينزل المحمول فيحمل الذي
كان حامله، فقيض الله معبد ابن أبي معبد الخزاعي وهو كافر فجاء إلى رسول الله فقال إن خزاعة قد ساءها ما أصاب ولوددنا أنك لم ترزأ في أصحابك ثم لحق معبد بقريش فأدركهم بالروحاء قد أجمعوا الرجعة إلى قتال المسلمين فقال له أبو سفيان: ما وراءك يا معبد، قال: محمد وأصحابه قد خرجوا يطلبونكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه، فقال: ويلك، ما تقول? قال: ما أرى أنك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل ولقد حملني ما رأيت منه على أن قلت فيه:
كادت تهد من الأصوات راحلتي ... إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل
تردي بأسد كرام لا تنابلة ... عند اللقاء ولا ميل معازيل
فظلت أعدو أظن الأرض مائلة ... لما سموا برئيس غير مخذول
فوقع الرعب في قلوب المشركين وقال صفوان لن أمية: لا ترجعوا فإني أرى أنه سيكون للقوم قتال غير الذي كان.
وقوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} أي ما لا سلطان له. والسلطان: الحجة والبرهان لأنه يتسلط على النفس، ونفي تنزيله وأريد نفي وجوده، لأنه لو كان لنزل أي لأوحى الله به إلى الناس، لأن الله لم يكتم الناس الإرشاد إلى ما يجب عليهم من اعتقاد على ألسنة الرسل، فالتنزيل إما بمعنى الوحي، وإما بمعنى نصيب الأدلة عليه كقولهم نزلت الحكمة على ألسنة العرب وعقول الفرس وأيدي الصين ولما كان الحق لا يعدو هذين الحالين: لأنه إما أن يعلم بالوحي، أو بالأمارات، كان نفي تنزيل السلطان على الإشراك كناية عن نفي السلطان نفسه، كقول الشاعر الذي لا يعرف اسمه:
لا تفزع الأرنب أهوالها ... ولا ترى الضب بها ينجحر
وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ} ذكر عقابهم في الآخرة. والمأوى مفعل من أوى إلى كذا إذا ذهب إليه، والمثوى مفعل من أوى إذا أقام، فالنار مصيرهم ومقرهم والمراد المشركون.
[152] {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} .
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ} عطف على قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} [آل عمران: 151] وهذا عود إلى التسلية على ما أصابهم، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وتبين لسبب هزيمة المسلمين: تطمينا لهم بذكر نظيره ومماثلة السابق، فإن لذلك موقعا عظيما في الكلام على حد قولهم التاريخ يعيد نفسه وليتوسل بذلك إلى إلقاء تبعة الهزيمة عليهم، وأن الله لم يخلفهم وعده، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله: {وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79].
وصدق الوعد: تحقيقه والوفاء به، لأن معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع، وقد عدي صدق هنا إلى مفعولين، وحقه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد. قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة الأحزاب [23] {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} يقال: صدقني أخوك وكذبني إذا قال لك الصدق والكذب، وأما المثل صدقني سن بكره فمعناه صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل. فنصب {وعده} هنا على الحذف والإيصال، وأصل الكلام صدقكم في وعده، أو على تضمين صدق معنى أعطى.
والوعد هنا وعد النصر الواقع بمثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] أو بخبر خاص في يوم أحد.
وإذن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب.
وإذ في قوله: {إذ تحسونهم} نصب على الظرفية لقوله: {صدقكم} أي: صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسونهم بإذنه فإن ذلك الحس تحقيق لوعد الله إياهم بالنصر، وإذ فيه للمضي، وأتي بعدها بالمضارع لإفادة التجدد أي لحكاية تجدد الحس في الماضي.
والحس بفتح الحاء القتل أطلقه أكثر اللغويين، وقيده في الكشاف بالقتل الذريع، وهو أصوب.
وقوله: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} حتى حرف انتهاء وغاية، يفيد أن مضمون الجملة التي بعدها غاية لمضمون الجملة التي قبلها، فالمعنى: إذ يلقونهم بتيسير الله، واستمر قتلكم إياهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم.
وحتى هنا جارة وإذا مجرور بها.
وإذا اسم زمان، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقا كما هنا، ولعل نكتة ذلك أنه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعا لقوله: {تحسونهم}.
وإذا هنا مجردة عن معنى الشرط لأنها إذا صارت للمضي انسلخت عن الصلاحية للشرطية، إذ الشرط لا يكون ماضيا إلا بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلف تقديره: انقسمتم، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلا عليه وهو قوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} إلى آخرها.
والفشل: الوهن والإعياء، والتنازع: التخالف، والمراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول، وقد رتبت الفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول، إذ كان الفشل، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة، قد حصل أولا فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسلام بملازمته وعدم الانصراف منه، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه.
والتعريف في قوله: {في الأمر} عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم.
ومعنى قوله: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} أراد به النصر إذ كانت الريح أول يوم أحد للمسلمين، فهزموا المشركين، وولوا الأدبار، حتى شوهدت نساؤهم مشمرات عن سوقهن في أعلى الجبل هاربات من الأسر، وفيهن هند بنت عتبة ابن ربيعة امرأة أبي سفيان، فلما رأى الرماة الذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين، الغنيمة، التحقوا بالغزاة، فرأى خالد بن الوليد، وهو قائد خيل المشركين يومئذ، غرة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا، فلذلك قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} فيكون المجرور متعلقا بفشلهم. والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم.
والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبون هو الغنيمة فإن المال محبوب، فيكون المجرور يتنازعه كل من فشلتم، وتنازعتم، وعصيتم، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها، إلى الموصول تنبيها على أنهم عجلوا في طلب المال المحبوب، والكلام على هذا تمهيدا لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبر عنه بإحدى الحسنيين ولم يكن ذلك عن جبن، ولا عن ضعف إيمان، أو قصد
خذلان المسلمين، وكله تمهيد لما يأتي من قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} .
وقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} تفصيل لتنازعتم، وتبيين لعصيتم، وتخصيص له بأن العاصين بعض المخاطبين المتنازعين إذ الذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين، ولذلك أخرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله: {وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز، والقرينة واضحة.
والمراد بقوله: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} إرادة نعمة الدنيا وخيرها، وهي الغنيمة، لأن من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل، وليس هو مفرطا في الآخرة مطلقا، ولا حاسبا تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتا عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل، فليس في هذا الكلام ما يدل على أن الفريق الذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدوا عن الإيمان حينئذ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة ن ذلك الفعل بدال على استخفاف بالآخرة، وإنكار لها، كما هو بين، ولا حاجة إلى تقدير: منكم من يريد الدنيا فقط. وإنما سميت من خالف أمر الرسول عصيانا، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف، إذ كانوا قالوا: إن رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين، فلما نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتى تفوتنا الغنائم، فكانوا متأولين، فإنما سميت هنا عصيانا لأن المقام ليس مقام اجتهاد، فإن شأن الحرب الطاعنة للقائد من دون تأويل، أو لأن التأويل كان بعيدا فلم يعذروا فيه، أو لأنه كان تأويلا لإرضاء حب المال، فلم يكن مكافئا لدليل وجوب طاعة الرسول.
وإنما قال: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} ليدل على أن ذلك الصرف بإذن الله وتقديره، كما كان القتل بإذن الله وأن حكمته الابتلاء، ليظهر للرسول وللناس من ثبت على الإيمان من غيره، ولأن في الابتلاء أسرارا عظيمة في المحاسبة بين العبد وربه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبينه.
وعقب هذا الملام بقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} تسكينا لخواطرهم، وفي ذلك تلطف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43]. فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو، وفيه أيضا دلالة على صدق إيمانهم إذ
عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفا من غضب الله تعالى.
وفي تذييله بقوله: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} تأكيد ما اقتضاه قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} والظاهر أنه عفو لأجل التأويل. فلا يحتاج إلى التوبة، ويجوز أن يكون عفوا بعدما ظهر منهم من الندم والتوبة، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأن المعصية تسلب الإيمان.
{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [153].
{إِذْ تُصْعِدُونَ} متعلق بقوله: {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} [آل عمران: 152] أي دفعكم عن المشركين حين أنتم مصعدون.
والإصعاد: الذهاب في الأرض لأن الأرض تسمى صعيدا، قال جعفر بن علبة:
هواي مع الركب اليمانين مصعد
والإصعاد أيضا السير في الوادي، قال قتادة والربيع: أصعدوا يوم أحد في الوادي. والمعنى: تفرون مصعدين، كأنه قيل: تذهبون في الأرض أي فرارا، إذ ظرف للزمان الذي عقب صرف الله إياهم وكان من آثاره.
{وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ} أي في هذه الحالة. واللي مجاز بمعنى الرحمة والرفق مثل العطف في حقيقته ومجازه، فالمعنى ولا يلوي أحد عن أحد فأوجز بالحذف، والمراد على أحد منكم، يعني: فررتم لا يرحم أحد أحدا ولا يرفق به، وهذا تمثيل للجد في الهروب حتى إن الواحد ليدوس الآخر لو تعرض في طريقه.
وجملة {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} حال، والأخرى آخر الجيش أي من ورائكم. ودعاء الرسول دعاؤه إياهم للثبات والرجوع عن الهزيمة، وهذا هو دعاء الرسول الناس بقوله "إلي عباد الله من يكر فله الجنة".
وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً} إن كان ضمير {فأثابكم} ضمير اسم الجلالة، وهو الأظهر والموافق لقوله بعده {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ} [آل عمران: 154] فهو عطف على {صرفكم} [آل عمران: 152] أي ترتب على الصرف إثابتكم. وأصل الإثابة إعطاء الثواب
وهو شيء يكون جزاء على عطاء أو فعل. والغم ليس بخير، فيكون أثابكم ما استعارة تهكمية كقول عمرو بن كلثوم:
قريناكم فعجلنا قراكم ... قبيل الصبح مرداة طحونا
أي جازاكم الله على ذلك الإصعاد المقارن للصرف أن أثابكم غما أي قلقا لكم في نفوسكم، والمراد أن عاقبكم بغم كقوله {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وفي هذا الوجه بعد: لأن المقام ملام لا توبيخ، ومقام معذرة لا تنديم، وإما مشاكلة تقديرية لأنهم لما خرجوا للحرب خرجوا طالبين الثواب، فسلكوا مسالك باءوا معها بعقاب فيكون كقول الفرزدق:
أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا1
وقول الآخر:
قلت: اطبخوا لي جبة وقميصا
ونكتة هذا المشاكلة أن يتوصل بها إلى الكلام على ما نشأ عن هذا الغم من عبرة، ومن عناية الله تعالى إليهم بعده.
والباء في قوله: {بغم} للمصاحبة أي غما مع غم، وهو جملة الغموم التي دخلت عليهم من خيبة الأمل في النصر بعد ظهور بوارقه، ومن الانهزام، ومن قتل من قتل، وجرح من جرح، ويجوز كون الباء للعوض، أي: جازاكم الله غما في نفوسكم عوضا عن الغم الذي نسبتم فيه للرسول وإن كان الضمير في قوله: {فأثابكم} عائدا إلى الرسول في قوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} ، وفيه بعد، فالإثابة مجاز في مقابلة فعل الجميل بمثله أي جازاكم بغم. والباء في قوله: {بغم} باء العوض. والغم الأول غم نفس الرسول، والغم الثاني غم المسلمين، والمعنى أن الرسول اغتم وحزن لما أصابكم، كما اغتممتم لما شاع من قتله فكان غمه لأجلكم جزاءا على غمكم لأجله.
وقوله: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} تعليل أول لأثابكم أي ألهاكم بذلك الغم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من الغنيمة، وما أصابكم من القتل والجراح، فهو أنساهم بمصيبة صغيرة مصيبة كبيرة، وقيل: لا زائدة والمعنى: لتحزنوا، فيكون زيادة في التوبيخ
ـــــــ
1 محدرجة بحاء مهملة وبجيم بعد الراء أي مفتولة: وهو صفة لموصوف محذوف أراد أسواطا.
والتنديم إن كان قوله: {أثابكم} تهكما، أو المعنى فأثابكم الرسول غما على ما فاتكم: أي سكت عن تثريبكم، ولم يظهر لكم إلا الاغتمام لأجلكم، لكيلا يذكركم بالتثريب حزنا على ما فاتكم، فأعرض عن ذكره جبرا لخواطركم. وقيل: المعنى أصابكم بالغم الذي نشأ عن الهزيمة اعتادوا نزول المصائب، فيذهب عنكم الهلع والجزع عند النوائب.
وفي الجمع بين {ما فاتكم} و {ما أصابكم} طباق يؤذن بطباق آخر مقدر، لأن ما فات هو من النافع وما أصاب هو من الضار.
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [154].
{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاساً يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}.
الضمير في قوله: {ثُمَّ أَنْزَلَ} ضمير أسم الجلالة، وهو يرجح كون ضمير {أثابكم} مثله لئلا يكون هذا رجوعا إلى سياق الضمائر المتقدمة من قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} والمعنى ثم أغشاكم بالنعاس بعد الهزيمة. وسمي الأغشاء إنزالا لأنه لما كان نعاسا مقدرا من الله لحكمة خاصة، كان كالنازل من العوالم المشرفة كما يقال: نزلت السكينة.
والأمنة بفتح الميم الأمن، والنعاس: النوم الخفيف أو أول النوم، وهو يزيل التعب ولا يغيب صاحبه، فلذلك كان أمنة إذ لو ناموا ثقيلا لأخذوا، قال أبو طلحة الأنصاري، والزبير، وأنس بن مالك: غشينا نعاسا حتى أن السيف ليسقط من يد أحدنا. وقد استجدوا بذلك نشاطهم، ونسوا حزنهم، لأن الحزن تبتدئ خفته بعد أول نومة تعفيه، كما هو مشاهد في أحزان الموت وغيرها. ونعاسا بدل على أمنة بدل مطابق.
وكان مقتضى الظاهر أن يقدم النعاس ويؤخر أمنة: لأن أمنة بمنزلة الصفة أو المفعول لأجله فحقه التقديم على المفعول كما جاء في آية الأنفال {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً
مِنْهُ} ولكنه قدم المنة هنا تشريفا لشأنها لأنها جعلت كالمنزل من الله لنصرهم، فهو كالسكينة، فناسب أن يجعل هو مفعول أنزل، ويجعل النعاس بدلا منه.
وقرأ الجمهور: {يغشى} بالتحتية على أن الضمير عائد إلى نعاس، وقرأه حمزة، والكسائي، وخلف بالفوقية بإعادة الضمير إلى أمنة، ولذلك وصفها بقوله {منكم} .
{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا}.
لما ذكر حال طائفة المؤمنين، تخلص منه لذكر حال طائفة المنافقين، كما علم من المقابلة، ومن قوله: {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ، ومن ترك وصفها بمنكم وصف الأولى.
{وطائفة} مبتدأ وصف بجملة {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} . وخبره جملة {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} والجملة من قوله {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} إلى قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} اعتراض بين جملة {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ} الآية. وجملة {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ} [آل عمران: 155] الآية.
ومعنى {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} أي حدثتهم أنفسهم بما يدخل عليهم الهم وذلك بعدم رضاهم بقدر الله، وبشدة تلهفهم على ما أصابهم وتحسرهم على ما فاتهم مما يظنونه منجيا لهم لو عملوه: أي من الندم على ما فات، إذ كانوا كذلك كانت نفوسهم في اضطراب بمنعهم من الاطمئنان ومن المنام، وهذا كقوله الآتي: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156]. وقيل معنى: {أهمتهم} أدخلت عليهم الهم بالكفر والارتداد، وكان رأس هذه الطائفة معتب بن قشير.
وجملة {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} إما استئناف بياني نشأ عن قوله: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وإما حال من طائفة. ومعنى {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} أنهم ذهبت بهم هواجسهم إلى أن يظنوا بالله ظنونا باطلة من أوهام الجاهلية. وفي هذا تعريض بأنهم لم يزالوا على جاهليتهم لم يخلصوا الدين لله، وقد بين بعض ما لهم من الظن بقوله: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} وهل للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، بقرينة زيادة من قبل النكرة، وهي من خصائص النفي، وهو تبرئة لأنفسهم من أن يكونوا سببا في مقابلة
العدو. حتى نشأ عنه ما نشأ، وتعريض بأن الخروج للقتال يوم أحد خطأ وغرور، ويظنون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس برسول إذ لو كان لكان مؤيدا بالنصر.
والقول في {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} كالقول في {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران: 128] المتقدم آنفا. والمراد بالأمر هنا شأن الخروج إلى القتال. والأمر بمعنى السيادة الذي منه الإمارة، ومنه أولو الأمر.
وجملة {يََقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} بدل اشتمال من جملة {يظنون} لأن ظن الجاهلية يشتمل على معنى هذا القول. ومعنى {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} أي من شأن الخروج إلى القتال، أو من تدبير الناس شيء، أي رأي ما قتلنا هاهنا، أي ما قومنا. وليس المراد انتفاء القتل مع الخروج إلى القتال في أحد، بل المراد انتفاء الخروج إلى أد الذي كان سببا في قتل من قتل، كما تدل عليه قرينة الإشارة بقوله هاهنا، فالكلام كناية. وهذا القول قاله عبد الله بن أبي ابن سلول لما أخبروه بمن استشهد من الخزرج يومئذ، وهذا تنصل من أسباب الحرب وتعريض بالنبي ومن أشار بالخروج من المؤمنين الذين رغبوا في إحدى الحسنيين.
وإنما كان هذا الظن غير الحق لأنه تخليط في معرفة صفات الله وصفات رسوله وما يجوز وما يستحيل، فإن الله أمرا وهديا وله قدر وتيسير، وكذلك لرسوله الدعوة والتشريع وبذل الجهد في تأييد الدين وهو في ذلك معصوم، وليس معصوما من جريان الأسباب الدنيوية عليه، ومن أن يكون الحرب بيته وبين عدوه سجالا، قال أبو سفيان لهرقل وقد سأله: كيف كان قتالكم له? فقال له أبو سفيان: ينال منا وننال منه، فقال هرقل: وكذلك الإيمان حتى يتم. فظنهم ذلك ليس بحق.
وقد بين الله تعالى أنه ظن الجاهلية الذين لم يعرفوا الإيمان أصلا فهؤلاء المتظاهرون بالإيمان في قلوبهم فبقيت معارفهم كما هي من عهد الجاهلية، والجاهلية صفة جرت على موصوف محذوف يقدر بالفئة أو الجماعة، وربما أريد به حالة الجاهلية في قولهم أهل الجاهلية، وقوله تعالى: {تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} ، والظاهر أنه نسبة إلى الجاهل أي الذي لا يعلم الدين والتوحيد، فإن العرب أطلقت الجهل على ما قابل الحلم، قال أبن الرومي:
بجهل كجهل السيف والسيف منتضى ... وحلم كحلم السيف والسيف مغمد
وأطلقت الجهل على عدم العلم قال السموأل:
فليس سواء عالم وجهول
وقال النابغة:
وليس جاهل شيء مثل من علما
وأحسب أن لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن، وصف به أهل الشرك تنفيرا من الجهل، وترغيبا في العلم، ولذلك يذكره القرآن في مقامات الذم في نحو قوله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50] {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب: 33] {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26[. وقال أبن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا، وفي حديث حكيم بن حزام: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يتحنث بها في الجاهلية من صدقة وعتاقة وصلة رحم، وقالوا: شعر الجاهلية، وأيام الجاهلية. ولم يسمع ذلك كله إلا بعد نزول القرآن وفي كلام المسلمين.
وقوله: {غَيْرَ الْحَقِّ} منتصب على أنه مفعول {يظنون} كأنه قيل الباطل. وانتصب قوله: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} على المصدر المبين للنوع إذ كل أحد يعرف عقائد الجاهلية إن كان متلبسا بها أو تاركا لها.
وجملة {يخفون} حال من الضمير في {يقولون} أي يقولون ذلك في حال نيتهم غير ظاهره، فـ {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} إعلان بنفاقهم، وأن قولهم {هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} وقولهم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} هو وإن كان ظاهره صورة العتاب عن ترك مشورتهم فنيتهم منه تخطئة النبي في خروجه بالمسلمين إلى أحد، وأنهم أسد رأيا منه.
وجملة {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} بدل اشتمال من جملة {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} إذ كانوا قد قالوا ذلك فيما بينهم ولم يظهروه، أو هي بيان لجملة {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} إذا أظهروا قولهم للمسلمين، فترجع الجملة إلى معنى بدل الاشتمال من جملة {يظنون} لأنها لما بينت جملة هي بدل فهي أيضا كالتي بينتها، وهذا أظهر لأجل قوله بعده {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} فإنه يقتضي أن تلك المقالة فشت وبلغت الرسول، ولا يحسن كون جملة {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ} إلى آخره مستأنفة خلافا لما في الكشاف .
وهذه المقالة صدرت من معتب بن قشير قال الزبير بن العوام: غشيني النعاس فسمعت معتب بن قشير يقول: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. فحكى القرآن مقالته كما قالها، وأسندت إلى جميعهم لأنهم سمعوها ورضوا بها.
وجملة {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} رد عليهم هذا العذر الباطل أي أن الله ورسوله غير محتاجين إلى أمركم. والجملة معترضة. وقرأ الجمهور: كله بالنصب تأكيدا لاسم إن، وقرأه أبو عمرو، ويعقوب بالرفع على نية الابتداء. والجملة خبر إن.
{قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
لقن الله رسوله الجواب عن قولهم: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا، والجواب إبطال لقولهم، وتعليم للمؤمنين لدفع ما عسى أن بقع في نفوسهم من الريب، إذا سمعوا كلام المنافقين، أو هو جواب للمنافقين ويحصل به علم للمؤمنين. وفصلت الجملة جريا على حكاية المقاولة كما قررنا غير مرة، وهذا الجواب جار على الحقيقة هي جريان الأشياء على قدر من الله والتسليم لذلك بعد استفراغ الجهد في مصادفة المأمول، فليس هذا الجواب ونظائره بمقتضى ترك الأسباب، لأن قدر الله تعالى وقضاءه غير معلومين لنا إلا بعد الوقوع، فنحن مأمورون بالسعي فيما عساه أن يكون كاشفا عن مصادقة الله لمأمولنا، فإن استغفرنا جهودنا وحرمنا المأمول، علمنا أن قدر الله جرى من قبل على خلاف مرادنا، فأما ترك الأسباب فليس من شأننا، وهو مخالف لما أراد الله منا، وإعراض عما أقامنا الله في هذا العالم وهو تحريف لمعنى القدر. والمعنى: لو لم تكونوا هاهنا وكنتم في بيوتكم لخرج الذين كتب الله عليهم أن يموتوا مقتولين فقتلوا في مضاجعهم التي اضطجعوا فيها يوم أحد أي مصارعهم فالمراد بقوله: {كتب} قدر، ومعنى {برز} خرج إلى البراز وهو الأرض.
وقرأ الجمهور باء بيوتكم بالكسر. وقرأه أبو عمرو، وورش عن نافع، وحفص وأبو جعفر بالضم.
والمضاجع جمع مضجع بفتح الميم وفتح الجيم وهو محل الضجوع، والضجوع: وضع الجنب بالأرض للراحة والنوم، وفعله من باب منع ومصدره القياسي الضجع، وأما الضجوع فغير قياسي، إطلاق المضجع على مكان النوم قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة: 16] وفي حديث أم زرعة: "نمضجعه كمسل شطبة" فحقيقة الضجوع هو وضع الجنب للنوم والراحة وأطلق هنا على مصارع سبيل
الاستعارة، وحسنها أن الشهداء أحياء، فهو استعارة أو مشاكلة تقديرية لأن قولهم ما قتلنا هاهنا يتضمن معنى أن الشهداء كانوا يبقون في بيوتهم متمتعين بفروشهم.
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}.
{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} عطف على قوله: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153] وما بينهما جعل بعضها عطف على الجملة المعللة، وبعضها معترضة، فهو خطاب للمؤمنين لا محالة، وهو عل ثانية لقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران: 153].
والصدور هنا بمعنى الضمائر، والابتلاء: الاختبار، وهو هنا عن أثره، وهو إظهار للناس والحجة على أصحاب تلك الضمائر بقرينة قوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} كما تقدم في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران: 140].
والتمحيص تلخيص مما يخالطه مما فيه عيب له فهو كالتزكية. والقلوب هنا بمعنى العقائد، ومعنى تمحيص ما في قلوبهم تطهيرها مما يخامرها من الريب حين سماع شبه المنافقين التي يبثونها بينهم.
وأطلق الصدور على الضمائر لأن الصدر في كلام العرب يطلق على الإحساس الباطني، وفي الحديث الإثم ما حاك في صدرك وأطلق القلب على الاعتقاد لأن القلب في لسان العرب هو ما به يحصل التفكر والاعتقاد. وعدي إلى الصدور فعل الابتلاء لأنه الأخلاق والضمائر: ما فيها من خير وشر، وليتميز ما في النفس. وعدي إلى القلوب فعل التمحيص لأن الظنون والعقائد محتاجة إلى التمحيص لتكون مصدر كل خير.
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [155].
استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفي، وهي استزلال الشيطان إياهم، وأراد ب {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} يوم أحد، واستزلهم بمعنى أزلهم أي جعلهم زالين، والزلل مستعار لفعل الخطيئة، والسين والتاء فيه للتأكيد، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النابغة:
وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة
أبا جابر فاستنكحوا أم جابر
أي نكحوا. ومنه قوله تعالى: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] وقوله: {أَبَى وَاسْتَكْبَرَ} [البقرة: 34]. ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأن المقصود لومهم على
وقوعهم في معصية الرسول، فهو زلل واقع.
والمراد بالزلل الانهزام، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضده وهو النصر قال تعالى: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران: 147].
والباء في {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} للسببية وأريد {بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} مفارقة موقفهم، وعصيان أمر الرسول، والتنازع، والتعجيل إلى الغنيمة، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان، وما هم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم، وإبطال ما عرض به المنافقون من رمي تبعة على أمر الرسول عليه الصلاة والسلام والخروج، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد. وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط وضع أهل المنطق باب القضية اللزومية والقضية الاتفاقية.
ومناسبة ذكر هذه الآية عقب التي قبلها أنه تعالى بعد أن بين لهم مرتبة حق اليقين بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ} انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة، فبين لهم أنه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم التي أملاها الشيطان عليهم وأضلهم، فلم يتفطنوا إلى السبب، والتبس عليهم بالمقارن، ومن شأن هذه الضلال أن يحول بين المخطئ وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بيم هذه الأغراض من العلم الصحيح، وتزكية النفوس، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين، وتعظيمه عندهم، وتنفيرهم من الشيطان، والأفعال الذميمة، ومعصية الرسول، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين. وعلى هذا فالمراد من الذين تولوا نفس المخاطبين بقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ...} [آل عمران: 152] الآيات. وضمير {منكم} راجع إلى عامة جيش أحد فشمل الذين ثبتوا ولم يفروا. وعن السدي أن الذين تولوا جماعة هربوا إلى المدينة.
وللمفسرين في قوله: {اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} احتمالات ذكرها صاحب الشاف والفخر، وهي بمعزل عن القصد.
وقوله: {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} أعيد الإخبار بالعفو تأنيسا لهم كقوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ}.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ
يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [156].
تحذي من العود إلى مخالجة عقائد المشركين، وبيتان لسوء عاقبة تلك العقائد في الدنيا أيضا. والكلام استئناف. والإقبال على المؤمنين بالخطاب تلطف بهم جميعا بعد تقريع فريق منهم الذين تولوا يوم التقى الجمعان. واللام في قوله {لإخوانهم} ليست لام تعدية فعل القول بل هي لام العلة كقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} لأن الإخوان ليسوا متكلما معهم بل هم الذين ماتوا وقتلوا، والمراد بالإخوان الأقارب في النسب، أي من الخزرج المؤمنين، لأن الشهداء من المؤمنين.
وإذا هنا ظرف للماضي بدليل فعلي قالوا وضربوا، وقد حذف فعل دل عليه قوله: {ما ماتوا} تقديره: فماتوا في سفرهم أو قتلوا في الغزو.
والضرب في الأرض هو السفر، فالضرب مستعمل في السير لأن أصل الضرب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به، فالسير ضرب في الأرض بالأرجل، فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20]، وعلى مطلق السفر كما هنا، وعلى السفر للغزو كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 94] وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: 101] والظاهر أن المراد هنا السفر في مصالح المسلمين لأن ذلك هو الذي يلومهم عليه الكفار، وقيل: أريد بالضرب في الأرض التجارة.
وعليه يكون قرنة مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفار.
و {غزى} جمع غاز. وفعل قليل في جمع فاعل الناقص. وهو مع ذلك فصيح. ونظيره عفى في قوله امرئ القيس:
لها قلب عفى الحياض أجون
وقوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ} علة لقالوا باعتبار ما يتضمنه من اعتقاد ذلك مع الإعلان به توجيها للنهي عن التشبيه بهم أي فإنكم إن اعتقدتم اعتقادهم لحقكم أثره كما لحقهم، فالإشارة بقوله ذلك إلى القول الدال على الاعتقاد، وعلى هذا الوجه فالتعليل خارج عن التشبيه. وقيل: اللام لام العاقبة، أي: لا تكونوا كالذين
قالوا فترتب على قولهم أن كان ذلك حسرة في قلوبهم، فيكون قوله: {ليجعل} على هذا الوجه من صلة الذين، ومن جملة الأحوال المشبهة بها، فيعلم أن النهي عن التشبيه بهم فيها لما فيها من الضر.
والحسرة: شدة الأسف أي الحزن، وكان هذا حسرة عليهم لأنهم توهموا أن مصابهم نشأ عن تضييعهم الحزم، وأنهم لو كانوا سلكوا غير ما سلكوه لنجوا فلا يزالون متلهفين على ما فاتهم. والمؤمن يبذل جهده فإذا خاب سل لحكم القدر.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} تحذير لهم من أن يضمروا العود إلى ما نهوا عنه.
{وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ[157] وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} [158].
ذكر ترغيبا وترهيبا، فجعل الموت في سبيل الله والموت في غير سبيل الله، إذا أعقبتهما المغفرة خيرا من الحياة وما يجمعون فيها، وجعل الموت والقتل في سبيل الله وسيلة للحشر والحساب فليعلم أحد بماذا يلاقي ربه. والواو للعطف على قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا} وعلى قوله: {والله يحيي ويميت} [آل عمران: 156].
واللام في قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} موطئة للقسم أي مؤذنة بأن قبلها قسما مقدار، ورد بعده شرط فلذلك لا تقع إلا مع الشرط. واللام في قوله: {لمغفرة} هي لام جواب القسم. والجواب هو قوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ} لظهور ان التقدير: لمغفرة ورحمة لكم.وقرأه نافع، وحمزة، والكسائي، وخلف: متم بكسر الميم على لغة الحجاز لأنهم جعلوا ماضيه مثل خاف، اعتبروه مكسور العين وجعلوا مضارعه من باب قام فقالوا: يموت، ولم يقولوا: يمات، فهو من تداخل اللغتين. وأما سفلى مضر فقد جاءوا به في الحالين من باب: قام فقرأوه: متم. وبها قرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وعاصم، وأبو جعفر، ويعقوب. وقرأ الجمهور، {مِمَّا يَجْمَعُونَ} بتاء الخطاب وقرأ حفص عن عاصم بياء الغائب على أن الضمير عائد إلى المشركين أبي خير لكم من غنائم المشركين التيس جمعوها وطمعتم أنتم في غناها.
وقدم القتل في الأولى والموت في الثانية اعتبارا بعطف ما يظن أنه عن الحكم فإن كون القتل في سبيل الله سببا للمغفرة أمر قريب، ولكن كون الموت في غير السبيل مثل ذلك أمر خفي مستبعد، وكذلك تقديم الموت في الثانية لأن القتل في سبيل الله قد
يظن أنه بعيد عن أن يعقبه الحشر، مع ما فيه من التفنن، ومن رد العجز على الصدر وجعل القتل مبدأ الكلام وعوده.
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [159].
الفاء للتفريع على ما اشتمل عليه الكلام السابق الذي حكي فيه مخالفة طوائف لأمر الرسول من مؤمنين ومنافقين، وما حكي من عفو الله عنهم فيما صنعوا. ولأن في تلك الواقعة المحكية بالآيات السابقة مظاهر كثيرة من لين النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين، حيث استشارهم في الخروج، وحيث لم يثربهم على ما صنعوا من مغادرة مراكزهم، ولما كان عفو الله عنهم يعرف في معاملة الرسول إياهم، ألان الله لهم الرسول تحقيقا لرحمته وعفوه، فكان المعنى: ولقد عفا الله عنهم برحمته فلان لهم الرسول بإذن الله وتكوينه إياه راحما، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107].
والباء للمصاحبة، أي لنت مع رحمة الله: إذ كان لينه في ذلك كله لينا لا تفريط معه لشيء من مصالحهم، ولا مجاراة لهم في التساهل في أمر الدين، فلذلك كان حقيقا باسم الرحمة.
وتقديم المجرور مفيد للحصر الإضافي، أي: برحمة من الله لا يغير ذلك من أحوالهم، وهذا القصر مفيد التعريض بأن أحوالهم كانت مستوجبة الغلط عليهم، ولكن الله ألان خلق رسوله رحمة بهم، لحكمة علمها الله في سياسة هذه الأمة.
وزيدت ما بعد باء الجر لتأكيد الجملة بما فيها من القصر، فتعين بزيادة كون التقديم للحصر، لا لمجرد الاهتمام، ونبه عليه في الكشاف .
واللين هنا في سعة الخلق مع أمة الدعوة والمسلمين، وفي الصفح عن جفاء المشركين، وإقالة العثرات. ودل فعل المضي في قوله: {لنت} على أن ذلك وصف تقرر وعرف م خلقه، وأن فطرته على ذلك برحمة من الله إذ خلقه كذلك {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]، فخلق الرسول مناسب لتحقيق حصول مراد الله تعالى من إرساله، لأن الرسول يجيء بشريعة يبلغها عن الله تعالى، فالتبليغ متعين لا مصانعة فيه، ولا يتأثر بخلق الرسول وهو أيضا مأمور بسياسة أمته بتلك الشريعة، وتنفيذها فيهم،
وهذا عمل له ارتباط قوي بمناسبة خلق الرسول لطباع أمته حتى يلائم خلقه الوسائل المتوسل بها لحمل أمته على الشريعة الناجحة في البلوغ بهم إلى مراد الله تعالى منهم.
أرسل محمد صلى الله عليه وسلم مفطورا على الرحمة، فكان رحمة من الله بالأمة في تنفيذ شريعته بدون تساهل وبرفق وإعانة على تحصيلها، فلذلك جعل لينه مصاحبا لرحمة من اله أودعها الله فيه، إذ هو بعث للناس كافة، ولكن اختار الله أن تكون دعوته بين العرب أول شيء لحكمة أرادها الله تعالى في أن يكون العرب هم مبلغ الشريعة للعالم.
والعرب أمة عرفت بالأنفة، وإباء الضيم، وسلامة الفطرة. وسرعة الفهم، وهم المتلقون الأولون للدين فلم تكن تليق بهم الشدة والغلظة، ولكنهم محتاجون إلى استنزال طائرهم في تبليغ الشريعة لهم، ليتجنبوا بذلك المكابرة التي هي الحائل الوحيد بينهم وبين الإذعان إلى الحق. وورد أن صفح النبي صلى الله عليه وسلم وعفوه ورحمته كان سببا في دخول كثير في الإسلام، كما ذكر بعض ذلك عياض في كتاب الشفاء.
فضمير {لهم} عائد على جميع الأمة كما هو مقتضى مقام التشريع وسياسة الأمة، وليس عائدا على المسلمين الذين عصوا أمر الرسول يوم أحد، لأنه لا يناسب قوله بعده {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} إذ لا يظن ذلك بالمسلمين، ولأنه لا يناسب قوله بعده {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} إذا كان المراد المشاورة للاستعانة بآرائهم، بل المعنى: لو كنت فظا لنفرك كثير ممن استجاب لك فهلكوا، أو يكون الضمير عائدا على المنافقين المعبر عنهم بقوله: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154] فالمعنى: ولو كنت فظا لأعلنوا الكفر وتفرقوا عنك، وليس المراد أنك لنت لهم في وقعة أحد خاصة، لأن قوله بعده {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} الخ ينافي ذلك المحمل.
واللفظ: السيئ الخلق، الجافي الطبع.
والغليظ القلب: القاسيه، إذ الغلظة مجاز عن القسوة وقلة التسامح، كما كان اللين مجازا في عكس ذلك، وقالت جواري الأنصار لعمر حين انتهرهن أنت أفظ وأغلظ من رسول الله يردن أنت فظ وغليظ دون رسول الله.
والانفضاض: التفرق. و {ومن حولك} أي من جهتك وإزائك، يقال: حوله وحوليه وحوليه وحواله وبحياله. والضمير للذين حول رسول الله، أي الذين دخلوا في الدين لأنهم لا يطيقون الشدة، والكلام تمثيل: شبهت هيئة النفور منه وكراهية الدخول في
دينه بالانفضاض من حوله أي الفرار عنه متفرقين، وهو بأنهم حوله أي متبعون له.
والتفريع في قوله: {فَاعْفُ عَنْهُمْ} على قوله: {لِنْتَ لَهُمْ} الآية، لأن جميع الأفعال المأمور بها مناسب للين، فأما العفو والاستغفار فأمرهما ظاهر، وأما عطف {وشاورهم} فلأن الخروج إلى أحد كان عن تشاور معهم وإشارتهم، ويشمل هذا الضمير جميع الذين لان لهم صلى الله عليه وسلم وهم أصحابه الذين حوله سواء م صدر منهم أمر يوم أحد وغيرهم.
والمشاورة مصدر شاور، والاسم الشورى والمشورة بفتح الميم وضم الشين أصلها مفعلة بضم العين، فوقع فيها نقل حركة الواو إلى الساكن. قيل: المشاورة مستقو من شار الدابة إذا اختبر جريها عند العرض على المشتري، وفعل شار الدابة مشتق من المشوار وهو المكان الذي تركض فيه الدواب. وأصله معرب نشخوار بالفارسية وهو ما تبقيه الدابة من علفها، وقيل: مشتقة من شار العسل أي من الوقبة لأن بها يستخرج الحق والصواب، وإنما تكون في الأمر المهم المشكل من شؤون المرء في نفسه أو شؤون القبيلة أو شؤون الأمة.
و "أل" في الأمر للجنس، والمراد بالأمر المهم الذي يؤتمر له، ومنه قولهم: أمر، وقال أبو سفيان لأصحابه في حديث هرقل لقد أمر ابن أبي كبشة، إنه يخافه ملك بني الأصفر. وقيل: أريد بالأمر أمر الحرب فاللام للعهد.
وظاهر الأمر أن المراد المشاورة الحقيقية التي يقصد منها الاستعانة برأي المستشارين بدليل قوله عقبه {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} فضمير الجمع في قوله: {وشاورهم} عائد على المسلمين خاصة: أش شاور الذين أسلموا من بين من لنت لهم، أي لا يصدك خطل رأيهم فيما بدا لهم يوم أحد عن أن تستعين برأيهم في مواقع أخرى، فإنما كان ما حصل فلته منهم، وعشرة قد أقلتهم منها.
ويحتمل أن يراد استشارة عبد الله بن أبي وأصحابه، فالمراد الأخذ بظاهر أحوالهم وتأليفهم، لعلهم أن يخلصوا الإسلام أو لا يزيدوا نفاقا، وقطعا لأعذارهم فيما يستقبل.
وقد دلت الآية على أن الشورى مأمور بها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما عبر عنه بالأمر وهو مهمات الأمة ومصالحها في الحرب وغيره، وذلك في غير أمر التشريع لأن الأمر إن كان فيه وحي فلا محيد عنه، وإن لم يكن فيه وحي وقلنا بجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم
في التشريع فلا تدخل فيه الشورى لأن شأن الاجتهاد أن يستند إلى الأدلة لا الآراء، والمجتهد لا يستشعر غيره إلا عند القضاء باجتهاده كما فعل عمر وعثمان.
فتعين أن المشاورة المأمور بها هنا هي المشاورة في شؤون الأمة ومصالحها، وقد أمر الله هنا ومدها في ذكر الأنصار في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] واشترطها في أمر العائلة فقال: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [لبقرة: 233]. فشرع بهاته الآيات المشاورة في مراتب المصالح كلها: وهي مصالح العائلة ومصالح القبيلة أو البلد، ومصالح الأمة.
واختلف العلماء في مدلول قوله: {وشاورهم} هل هو للوجوب أو للندب، وهل هو خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام عليه الصلاة والسلام، أو عام له ولولاة أمور الأمة كلهم.
فذهب المالكية إلى الوجوب والعموم، قال ابن خوير منداد: واجب على الولاة المشاورة، فيشاورون العلماء فيما يشكل من أمور الدين، ويشاورون وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ويشاورون وجوه الناس فيما يتعلق بمصالحهم ويشاورون وجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصال البلاد وعمارتها. وأشار ابن العربي إلى وجوبها بأنها سبب للصواب فقال: والشورى مسبار العقل وسبب الصواب. يشير إلى أننا مأمورون بتحري الصواب في مصالح الأمة، وما يتوقف عليه الواجب فهو واجب. وقال ابن عطية: الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب. وهذا ما لا اختلاف فيه. واعترض عليه ابن عرفة قوله: فعزله واجب، ولم يعترض كونها واجبة، إلا أن ابن عطية ذكر تلك جازما به وابن عرفة اعترضه بالقياس على قول علماء الكلام بعدم عزل الأمير إذا ظهر فسقه، يعني ولا يزيد ترك الشورى على كونه ترك واجب فهو فسق. وقلت: من حفظ حجة على من لم يحفظ، وإن القياس فيه فارق معتبر فإن الفسق مضرته قاصرة على النفس وترك التشاور تعريض بمصالح المسلمين للخطر والفوات، ومحمل الأمر عند المالكية للوجوب والأصل عندهم عدم الخصوصية في التشريع إلا لدليل.
وعن الشافعي أن هذا للاستحباب، ولتقتدي به الأمة، وهو عام للرسول وغيره، تطييبا لنفوس أصحابه ورفعا لأقدارهم، وروي مثله عن قتادة، والربيع، وابن إسحاق. ورد هذا أبو بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي بالجصاص بقوله: لو كان معلوما عندهم أنهم إذا استفرغوا جهدهم في استنباط الصواب عما سئلوا عنه، ثم لم
يكن معمولا به، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم، بل فيه إيحاشهم فالمشاورة لم تفقد شيئا فهذا تأويل ساقط. وقال النووي، في صدر كتاب الصلاة م شرح مسلم: الصحيح عندهم وجوبها وهو المختار. وقال الفخر: ظاهر الأمر أنه للوجوب. ولم ينسب العلماء للحنفية قولا في هذا الأمر إلا أن الجصاص قال في كتابه أحكام القرآن عند قوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} : هذا يدل على جلالة موقع المشورة لذكرها مع الإيمان وإقامة الصلاة ويدل على أننا مأمورون بها. ومجموع كلامي الجصاص يدل أن مذهب أبي حنيفة وجوبها.
ومن السلف من ذهب إلى اختصاص الوجوب بالنبي صلى الله عليه وسلم قاله الحسن وسفيان، وإنما أمر بها ليقتدي به غيره وتشيع في أمته وذلك فيما لا وحي فيه. وقد استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لبدر، وفي الخروج إلى أحد، وفي شأن الأسرى يوم بدرا، واستشار عموم الجيش في رد سبي هوازن.
والظاهر أنها لا تكون في الأحكام الشرعية لأن الأحكام إن كانت بوحي فظاهر، وإن كانت اجتهادية، بناء على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم في الأمور الشرعية، فالاجتهاد إنما يستند للأدلة لا للآراء وإذا كان المجتهد من أمته لا يستشير في اجتهاده، فكيف تجب الاستشارة على النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لو اجتهد وقلنا بجواز الخطإ عليه فإنه لا يقر على خطإ باتفاق العلماء. ولم يزل من سنة خلفاء العدل استشارة أهل الرأي في مصالح المسلمين، قال البخاري في كتاب الاعتصام من صحيحه وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم، وكان القراء أصحاب مشورة عمر: كهولا أو شبانا، وكان وقافا عند كتاب الله. وأخرج الخطيب عن علي قال: قلت: يا رسول الله الأمر ينزل بعدك لم ينزل فيه القرآن ولم يسمع منك فيه شيء قال: "اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد". واستشار أبو بكر في قتال أهل الردة، وتشاور الصحابة في أمر الخليفة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل عمر رضي الله عنه الأمر شورى بعده في ستة عينهم، وجعل مراقبة الشورى لخمسين من الأنصار، وكان عمر يكتب لعماله يأمرهم بالتشاور، ويتمثل لهم في كتبه بقول الشاعر لم أقف على أسمه:
خليلي ليس الرأي في صدر واحد ... أشيرا علي بالذي تريان
هذا والشورى مما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة أي فطرة على محبة الصلاح وتطلب النجاح في المساعي، ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتشاور في
شأنه إذ قال للملائكة: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30]، إذ قد غني الله عن إعانة المخلوقات في الرأي ولكنه عرض على الملائكة مراده ليكون التشاور سنة في البشر ضرورة أنه مقترن بتكوينه، فإن مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه. ولما كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها في الوجود جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين. ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة في البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه بقوله: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} [الأعراف: 110]. واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله: {قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} وإنما يلهي الناس عنها حب الاستبداد، وكراهية سماع ما يخالف الهوى، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة، ولذلك يهرع المستبد إلى الشورى عند المضائق. قال ابن عبد البر في بهجة المجالس: الشورى محمودة عند عامة العلماء ولا أعلم أحدا رضي الاستبداد إلا رجل مفتون مخادع لمن يطلب عنده فائدة، أو رجل فاتك يحاول حين الغفلة، وكلا الرجلين فاسق. ومثل أولهما قول عمر بن أبي ربيعة:
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
ومثل قول سعد بن ناشب:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ... ونكب عن ذكر العواقب جانبا
ولم يستشر في أمره غير نفسه ... ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا
ومن أحسن ما قيل في الشورى قول بشار بن برد:
إذا بلغ الرأي المشورة فاستعن ... بحزم نصيح أو نصيحة حازم
ولا تحسب الشورى عليك غضاضة ... مكان الخوافي قوة للقوادم
وهي أبيات كثيرة مثبتة في كتب الأدب.
وقوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} العزم هو تصميم الرأي على الفعل. وحذف متعلق عزمت لأنه دل عليه التفريع عن قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} ، فالتقدير فإذا عزمت على الأمر. وقد ظهر من التفريع أن المراد: فإذا عزمت بعد الشورى أي تبين لك وجه السداد فيما يجب أن تسلكه فعزمت على تنفيذه سواء كان على وفق بعض آراء أهل الشورى أم كان رأيا آخر للرسول سداده فقد يخرج من آراء أهل الشورى رأي، وفي
المثل: "ما بين الرأي والرأي رأي".
وقوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} التوكل حقيقته الاعتماد، وهو هنا مجاز في الشروع في الفعل مع رجاء السداد فيه من الله، وهو شأن أهل الإيمان، فالتوكل انفعال قلبي عقلي يتوجه به إلى الله راجيا الإعانة ومستعيذا من الخيبة والعوائق، وربما رافقه قول لساني وهو الدعاء بذلك. وبذلك يظهر أن قوله: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} دليل على وجوب إذا، وفرع عنه، والتقدير: فإذا عزمت فبادر ولا تتأخر وتوكل على الله، لأن التأخير آفات، والتردد يضيع الأوقات، ولو كان التوكل هو جواب إذا لما كان للشورى فائدة لأن الشورى كما علمت لقصد استظهار أنفع الوسائل لحصول الفعل المرغوب على احسن وجه وأقربه، فإن القصد منها العمل بما يتضح منها، ولو كان المراد حصول التوكل من أول خطور الإرشاد إلى معنى التوكل الذي حرف القاصرون ومن كان على شاكلتهم معناه، فأفسدوا هذا الدين من مبناه.
وقوله: {إن الله يحب المتوكلين} لأن التوكل علامة صدق الإيمان، وفيه ملاحظة عظمة الله وقدرته، واعتقاده الحاجة إليه، وعدم الاستغناء عنه وهذا، أدب عظيم مع الخالق يدل على محبة العبد ربه فلذلك أحبه الله.
ِ{نْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [160].
استئناف نشأ عن قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ} [آل عمران: 157] أو عن قوله: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} [آل عمران: 156] الآية.
ولو حمل هذا الخبر على ظاهر الإخبار لكان إخبارا بأمر معلوم عند المخاطبين إذ هم مؤمنون، ولا يجهل مؤمن أن الله إذا قدر نصر أحد فلا راد لنصره، وأنه إذا قدر خذله فلا ملجأ له من الهزيمة، فإن مثل هذا المعنى محقق في جانب الله لا يجهله معترف بإلهيته، مؤمن بوحدانيته، وهل يعد اعتقاد نفي الشريك عن الله في ملكه مجال لاعتقاد وجود ممانع له في إرادته، فيتعين أن يكون هذا الخبر مرادا غير ظاهر الإخبار، وأحسن ما يحمل عليه أن يكون تقريرا لتسلية المؤمنين على ما أصابهم من الهزيمة، حتى لا يحزنوا على ما فات لأن رد الأمور إلى الله تعالى عند العجز عن تداركها مسلاة للنفس، وعزاء
على المصيبة، وفي ضمن ذلك تنبيه إلى أن نصر الله قوما في بعض الأيام، وخذله إياهم في بعضها، لا يكون إلا لحكم وأسباب، فعليهم السعي في أسباب الرضا الموجب للنصر، وتجنب أسباب السخط الموجب للخذل كما أشار إليه قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] وقوله: {فَأَثَابَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ} [آل عمران: 153] وقوله الآتي {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] قلتم أنى هذا وعليهم التطلب للأسباب التي قدر لهم النصر لأجلها في مثل يوم بدر، وأضدادها التي كان بها الخذل في يوم أحد، وفي التفكير في ذلك مجال أوسع لمكاشفات الحقائق والعلل والأسباب والحكم والمنافع والمضار على قدر سعة التفكير الجائل في ذلك، ففي هذا الخير العظيم إطلاق للأفكار من عقالها، وزج بها في مسارح العبر، ومراكض العظات، والسابقون الجياد، فالخبر مستعمل في لازم معناه وهو الحض على تحصيل ذلك. وعلى هذا الوجه تظهر مناسبة موقع هذا الاستئناف عقب ما تقدمه: لأنه بعد أن خاطبهم بفنون الملام والمعذرة والتسلية من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} [آل عمران: 137] إلى هنا، جمع لهم كل ذلك في كلام جامع نافع في تلقي الماضي، وصالح للعمل به في المستقبل، أن يكون الإخبار مبنيا على تنزيل العالم منزلة الجاهل، حيث اظهروا من الحرص على الغنيمة ومن التأول في أمر الرسول لهم في الثبات، ومن التلهف على ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجرح، ما جعل حالهم كحال من يجهل أن النصر والخذل بيد الله تعالى. فالخبر مستعمل في معناه على خلاف مقتضى الظاهر.
والنصر: الإعانة على الخلاص من غلب العدو ومريد الإضرار.
والخذلان ضده: وهو إمساك الإعانة مع القدرة، مأخوذة من خذلت الوحشية إذا تخلفت عن القطيع لأجل عجز ولدها عن المشي.
ومعنى {إِنْ يَنْصُرْكُمُ} {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} إن يرد هذا لكم، وإلا لما استقام جواب الشرط الأول وهو {فَلا غَالِبَ لَكُمْ} إذ لا فائدة في ترتيب عدم الغلب على حصول النصر بالفعل، ولا سيما مع نفي الجنس في قوله: {فَلا غَالِبَ لَكُمْ} ، لأنه يصير من الإخبار لامعلوم، كما تقول: إن قمت فأنت لست بقاعد. وأما فعل الشرط الثاني وهو {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ} فيقدر كذلك حم}لا على نظيره، وإن كان يستقيم المعنى بدون تأويل فيه. وهذا من استعمال الفعل في معنى إرادة الفعل كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية.
وجعل الجواب بقوله: {فَلا غَالِبَ لَكُمْ} دون أن يقول: لا تغلبوا، للتنصيص على التعميم في الجواب، لأن عموم ترتيب الجزاء على الشرط أغلبي وقد يكون جزئيا أي لا تغلبوا من بعض المغالبين، فأريد بإفادة التعميم دفع التوهم.
والاستفهام في قوله: {فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} إنكاري أي فلا ينصركم أحد غيره.
وكلمة {من بعده} هنا مستعملة في لازم معناها وهو المغايرة والمجاورة: أي فمن الذي ينصركم دونه أو غيره أي دون الله، فالضمير ضمير اسم الجلالة لا محالة، واستعمال بعد في مثل هذا شائع في القرآن قال تعالى: {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23]. وأصل هذا الاستعمال أنه كالتمثيلية المكنية: بأن مثلت الحالة الحاصلة من تقدير الانكسار بحالة من أسلم الذي استنصر به وخذله فتركه وانصرف عنه، لأن المقاتل معك إذا ولى عنك فقد خذلك، فحذف ما يدل على الحالة المشبهة بها ورمز بها إليه بلازمة وهو لفظ {من بعده}.
وجملة {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} تذييل قصد به الأمر بالتوكل المستند إلى ارتكاب أسباب نصر الله تعالى: من أسباب عادية وهي الاستعداد، وأسباب نفسانية وهي تزكية النفس وإتباع رضى الله تعالى.
{وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [161].
الأظهر أنه عطف على مجموع الكلام عطف الغرض على الغرض. وموقعه عقب جملة {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران: 160] الآية، لأنها أفادت أن النصر بيد الله والخذل بيده، يستلزم التحريض على طلب مرشاته ليكون لطيفا بمن يرضونه. وإذ قد كانت النصائح والمواعظ موجهة إليهم ليعملوا بها فيما يستقبل من غزواتهم، نبهوا إلى شيء يستخف به الجيش في الغزوات، وهو الغلول ليعلموا أن ذلك لا يرضي الله تعالى فيحذروه ويمونوا مما هو أدعى لغضب الله أشد حذرا فهذه مناسبة التحذير من الغلول ويعضد ذلك أن سبب هزيمتهم يوم أحد هو تعجلهم إلى أخذ الغنائم. والغلول: تعجل بأخذ شيء من غال الغنيمة.
ولا تجد غير هذا يصلح لأن يكون مناسبا لتعقيب آية النصر بآية الغلول، فإن غزوة
أحد التي أتت السورة على قصتها لم يقع فيها غلول ولا كائن للمسلمين فيها غنيمة وما ذكره بعض المفسرين من قضية غلول وقعت يوم بدر في قطيفة حمراء أو في سيف لا يستقيم هنا، لبعد ما بين غزوة بدر وغزوة أحد، فضلا على ما ذكره بعضهم من نزول هذه الآية في حرص الأعراب على قسمة الغنائم يوم حنين الواقع بعد غزوة أحد بخمس سنين.
وقرأ جمهور العشرة: يغل بضم التحتية وفتح الغين وقرأه أبن كثير، وأبو عمرو، وعاصم بفتح التحتية وضم الغين.
والفعل مشتق من الغلول وهو أخذ شيء من الغنيمة بدون إذن أمير الجيش، والغلول مصدر غير قياسي، ويطلق الغلول على الخيانة في المال مطلقا.
وصيغة {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} صيغة جحود تفيد مبالغة النفي. وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [آل عمران: 79] في هذه السورة فإذا استعملت في الإنشاء كما هنا المبالغة في النهي. والمعنى على قراءة الجمهور نهي جيش النبي عن أن يغلوا لأن الغلول في غنائم النبي صلى الله عليه وسلم غلول للمنبي، إذ قسمة الغنائم إليه. وأما على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم فمعنى أن النبي لا يغل أنه لا يقع الغلول في جيشه فإسناد الغلول إلى النبي مجاز لملابسة جيش النبي نبيهم، ولك أن تجعلهم على تقدير مضاف، والتقدير: ما كان لجيش نبي أن يغل.
ولبعض المفسرين من المتقدمين ومن بعدهم تأويلات للمعنى على هذه القراءة فيها سماحة.
ومعنى {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أنه يأتي به مشهرا مفضوحا بالسرقة.
ومن اللطائف ما في البيان والتبيين للجاحظ: أن مزيدا رجلا من الأعراب سرق نافجة مسك، فقيل له: كيف تسرقها وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ? فقال: إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. وهذا تلميح وتلقي المخاطب بغير ما يترقب. وقريب منه ما حكي عن عبد اله بن مسعود، والدرك على من حكاه، قالوا: لما بعث إليه عثمان ليسلم مصحفه ليحرقه بعد أن اتفق المسلمون على المصحف الذي كتب في عهد أبي بكر قال ابن مسعود: إن الله قال: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ} وإني غال مصحفي فمن استطاع منكم أن يغل مصحفه فليفعل. ولا أثق بصحة هذا الخبر لأن ابن مسعود يعلم أن هذا ليس من الغلول.
وقوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} تنبيه على العقوبة بعد التفضيح، إذ قد علم أن الكلام السابق مسوق مساق النهي، وجيء بثم للدلالة على طول مهلة التفضيح، ومن جملة النفوس التي توفى ما كسبت نفس من يغلل، فقد دخل في العموم.
وجملة {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} حال مؤكدة المضمون الجملة قبلها وهي {تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}.
والآية دلت على تحريم الغلول وهو أخذ شيء من الغنم بغير إذن أمير الجيش، وهو من الكبار لأنه مثل السرقة، وأصح ما في الغلول حديث الموطأ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رجع من خيبر قاصدا وادي القرى وكان له عبد أسود يدعى مدعما، فبينما هو يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه سهم عائر فقتله، فقال الناس، هنيئا له الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كلا والذي نفسي بيده إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من الغنائم لم تصبها القاسم لتشتعل عليه نارا" .
ومن غل في المغنم يؤخذ منه ما غله ويؤدب بالاجتهاد، ولا قطع فيه باتفاق، هذه قول الجمهور، وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد بن حنبل، وجماعة: يحرق متاع الغال كله عدا سلاحه وسرجه، ويرد ما غله إلى بيت المال، واستدلوا بحديث رواه صالح بن محمد زائدة أبو واقد الليثي، عن عمر بن الخطاب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وجدتم الرجل قد غل فاحرقوا متاعه واضربوه" وهو حديث ضعيف، قال الترمذي سالت محمدا يعني البخاري عنه فقال إنما رواه صالح بن محمد، وهو منكر الحديث. على أنه لو صح لوجب تأويله لأن قواعد الشريعة تدل على وجوب تأويله فالأخذ به إغراق في التعلق بالظواهر وليس من التفقه في شيء.
{أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ[162] هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [163].
تفريع على قوله: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} فهو كالبان لتوفية كل نفس بما كسبت.
والاستفهام إنكار للماثلة المستفادة من كلف التشبيه فهو بمعنى لا يستوون. والإتباع هنا التطلب: شبه حال المتوخي بأفعاله رضى الله بحال المتطلب لطلبه فهو يتبعها حيث حل ليقتنصها، وفي هذا التشبيه حسن التنبيه على أن التحصيل على رضوان الله تعالى محتاج إلى فرط اهتمام. وفي فعل باء من قوله: {كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} تمثيل لحال صاحب المعاصي بالذي خرج يطلب ما ينفعه فرجع بما يضره، أو رجع بالخيبة كما تقدم في معنى قوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} في سورة البقرة [16]. وقد علم من هذه المقابلة حال أهل الطاعة وأهل المعصية، أو أهل الإيمان وأهل الكفر.
وقوله: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} عاد الضمير ل {مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ} لأنهم المقصود من الكلام، ولقرينة قوله {درجات} لأن الدرجات منازل رفعة.
وقوله: {عند الله} تشريف لمنازلهم.
{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [164].
استئناف لتذكير رجال يوم أحد وغيرهم من المؤمنين بنعمة الله عليهم. ومنة ذكره هنا أن فيه من التسلية على مصيبة الهزيمة حظا عظيما، إذ قد شاع تصبير المحزون وتعزيته بتذكيره ما هو فيه من النعم، وله مزيد ارتباط بقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]، وكذلك جاءت آي هذا الغرض في قصة أحد ناشئا بعضها عن بعض، متفننة في مواقعها بحسب ما سمحت به فرص الفراغ من غرض والشروع في غيره فما تجد طراد الكلام يغدو طلقا في حلبة الاستطراد إلا وتجد له رواحا إلى منبعثه.
والمن هنا: إسداء المنة أي النعمة، وليس هو تعداد النعمة، على المنعم عليه مثل الذي في قوله: {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} في سورة البقرة [264]، وإن كان ذكر هذا المن منا بالمعنى الآخر، والكل محمود من الله تعالى لأن المن إنما كان مذموما لما فيه من إبداء التطاول على المنعم عليه، وطول الله ليس بمجحود.
والمراد بالمؤمنين هنا المؤمنون يومئذ وهم الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بقرينة السياق وهو قوله: {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي أمتهم العربية.
وإذ ظرف لمن لأن الإنعام بهذه النعمة حصل أوقات البعث.
ومعنى {مِنْ أَنْفُسِهِمْ} المماثلة لهم في الأشياء التي تكون المماثلة فيها سببا لقوة التواصل، وهي هنا النسب، واللغة، والوطن. والعرب تقول: فلان من بني فلان من أنفسهم، أي من صميمهم ليس انتسابه إليهم بولاء أو لصق، وكأن هذا وجه إطلاق النفس عليه التي هي في معنى المماثلة، فكونه من أهل نسبهم أي كونه عربيا يوجب أنسهم به والركون إليه وعدم الاستيحاش منه، وكونه يتكلم بلسانهم يجعلهم سريعين إلى فهم ما يجيء به، وكونه جارا لهم وربيا فيهم بعجل لهم التصديق برسالته، إذ يكونون قد خبروا أمره، وعلموا فضله، وشاهدوا استقامته ومعجزاته. وعن النقاش: قيل ليس في العرب قبيلة إلا ولها ولادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تغلب، وبذلك فسر قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى.
وهذه المنة خاصة بالعرب ومزية لهم، زيادة على المنة ببعثة محمد على جميع البشر، فالعرب وهم الذين تلقوا الدعوة قبل الناس كلهم، لأن الله أراد ظهور الدين بينهم ليتلقوه التلقوة الكامل المناسب لصفاء أذهانهم وسرعة فهمهم لدقائق اللغة، ثم يكونوا هم حملته إلى البشر، فيكونوا أعوانا على عموم الدعوة، ولمن بأخلاق العرب وأتقن لسانهم والتبس بعوائدهم وأذواقهم اقتراب من هذه المزية وهو معظمها، إذ لم يفته منها إلا النسب والموطن وما هما إلا مكملان لحسن التلقي، ولذلك كان المؤمن مدة حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب خاصة بحيث إن تلقيهم الدعوة كان على سواء في الفهم حتى استقر الدين. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من دخل في الإسلام فهو من العرب".
وقوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} أي يقرأ عليهم القرآن، وسميت جمل القرآن آيات لأن كل واحدة منها دليل على صدق الرسول من حيث بلاغة اللفظ وكمال المعنى، كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير، فكانوا صالحين لفهم ما يتلى عليهم من غير حاجة لترجمان.
والتزكية: التطهير، أي يطهر النفوس بهدي الإسلام.
وتعليم الكتاب هو تبيين مقاصد القرآن وأمرهم بحفظ ألفاظه، لتكون معانيه حاضرة عندهم.
والمراد بالحكمة ما اشتملت عليه الشريعة من تهذيب الأخلاق وتقنين الأحكام لأن ذلك كله مانع الأنفس من سوء الحال واختلال النظام، وذلك من معنى الحكمة، وتقدم
القول في ذلك عند قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} .
وعطف الحكمة على الكتاب عطف الأخص من وجه على الأعم من وجه، فمن الحكمة ما هو في الكتاب نحو {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ومنها ما ليس في الكتاب مثل قوله عليه السلام "لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" وفي الكتاب ما هو علم وليس حكمة مثل فرض الصلاة والحج.
وجملة {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} حال، وإن مخففة مهملة، والجملة بعدها خبر عن ضمير الشأن محذوف، والجملة خبره على رأي صاحب الكشاف ، وهو التحقيق إذ لا وجه لزوال عملها مع بقاء معناها، ولا وجهه للتفرقة بينها وبين المفتوحة إذا خففت فقد قدروا لها اسما هو ضمير الشأن، بل نجد المكسورة أولى ببقاء العمل عند التخفيف لأنها أم الباب فلا يزول عملها بسهولة، وقال جمهور النحاة: يبطل عملها وتكون بعدها جملة، وعلى هذا فالمراد بإهمالها أنها لا تنصب مفردين بل تعمل في ضمير شأن وجملة إما اسمية، أو فعلية فعلها من النواسخ غالبا.
ووصف الضلال بالمبين لأنه لا يلتبس على أحد بشائبة هدى، أو شبهة، فكان حاله مبينا كونه ضلالا كقوله: {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [النمل: 13].
والمراد به ضلال الشرك والجهالة والتقاتل وأحكام الجاهلية.
ويجوز أن يشمل قوله: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} المؤمنين في كل العصور ويراد بكونه من أنفسهم أنه من نوع البشر. ويراد بإسناد تعليم الكتاب والحكمة إليه ما يجمع بين الإسناد الحقيقي والمجازي، لأن تعليم ذلك متلقى منه مباشرة أو بالواسطة.
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [165].
عطف الاستفهام الإنكاري التعجيبي على ما تقدم، فإن قولهم: {أنى هذا} مما ينكر ويتعجب السامع من صدوره منهم بعد ما علموا ما أتوا من أسباب المصيبة، إذ لا ينبغي أن يخفى على ذي فطنة، وقد جاء موقع هذا الاستفهام بعد ما تكرر: من تسجيل تبعة الهزيمة عليهم بما ارتكبوا من عصيان أمر الرسول، ومن العجلة إلى الغنيمة، وبعد أن أمرهم بالرضا بما وقع، وذكرهم النصر الواقع يوم بدر، عطف على ذلك هنا إنكار
تعجبهم من إصابة الهزيمة إياهم.
ولما اسم زمان مضمن معنى الشرط فيدل على وجود جوابه لوجود شرطه، وهو ملازم الإضافة إلى جملة شرطه، فالمعنى: قلتم لما أصابتكم مصيبة: أنى هذا.
وجملة {قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا} صفة لمصيبة، والمعنى أصبتم غلبتم العدو ونلتم منه مثلي ما أصابكم به، يقال: أصاب إذا غلب، قال قطري بن الفجاءة:
ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ... جذع البصيرة فارح الإقدام
والمراد بمثليها المساويان في الجنس أو القيمة باعتبار جهة المماثلة أي: أنكم قد نلتم مثلي ما أصابكم، والمماثلة هنا مماثلة في القدر والقيمة، لا في الجنس، فإن رزايا الحرب أجناس: قتل، وأسر، وغنيمة، وأسلاب، فالمسلمون أصابهم يوم أحد القتل: إذ قتل منهم سبعون، وكانوا قد قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين، فهذا أحد المثلين، ثن إنهم أصابوا من المشركين أسرى يوم بدر فذلك مثل آخر في المقدار إذ الأيسر كالقتيل، أو أريد أنهم يوم أحد أصابوا قتلى إلا أن عددهم أقل فهو مثل في الجنس لا في المقدار والقيمة.
وأنى استفهام بمعنى من أين قصدوا به التعجب والإنكار، وجملة {قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا} جواب لما، والاستفهام بأنى هنا مستعمل في التعجب.
ثم ذيل الإنكار والتعجب بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إن الله على نصركم وعلى خذلانكم، فلما عصيتم وجررتم لأنفسكم الغضب قدر الله لكم الخذلان.
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ[166] وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ[167] الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [168].
عطف علة قوله: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} [آل عمران: 165] وهو كلام وارد على معنى التسليم أي: هبوا أن هذه مصيبة، ولم يكن عنها عوض، فهي بقدر الله، فالواجب
التسليم، ثم رجع إلى ذكر بعض ما في ذلك من الحكمة.
وقوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ} أراد به عين المراد بقوله: {أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ} وهي مصيبة الهزيمة. وإنما أعيد ما أصابكم ليعين اليوم بأنه يوم التقى الجمعان. وما موصولة مضمنة معنى الشرط كأنه قيل: وأما ما أصابكم، لأن قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ} معناه بيان سببه وحكمنه، فلذلك قرن الخبر بالفاء. و {يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} هو يوم أحد. وإنما لم يقل وهي بإذن الله لأن المقصود إعلان ذكر المصيبة وأنها بإذن الله إذ المقام مقام إظهار الحقيقة، وأما التعبير بلفظ {مَا أَصَابَكُمْ} دون أن يعاد لفظ المصيبة فتفنن، أو قصد الإطناب.
والإذن هنا مستعمل في غير معناه إذ لا معنى لتوجه الإذن إلى المصيبة فهو مجاز في تخلية الله تعالى بين أسباب المصيبة وبين المصابين، وعدم تدارك ذلك باللطف. ووجه الشبه أن الإذن تخلية بين المأذون ومطلوبه ومراده، ذلك أن الله تعالى رتب السباب والمسببات في هذا العالم على نظام، فإذا جاءت المسببات من قبل أسبابها فلا عجب، والمسلمون اقل من المشركين عددا وعددا فانتصار المسلمين يوم بدر كرامة لهم، وانهزامهم يوم أحد عادة وليس بإهانة. فهذا المراد بالإذن.
وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} عطف على {فبإذن الله} عطف العلة على السبب. والعلم هنا كناية عن الظهور والتقرر في الخارج كقول إياس بن قبيصة الطائي:
وأقبل والخطي يخطر بيننا
لأعلم من جبانها من شجاعها
أراد لتظهير شجاعتي وجبن الاخرين، وقد تقدم نظيره قريبا.
و {الَّذِينَ نَافَقُوا} هم عبد اله بن أبي ومن انخزل معه يوم أحد، وهم الذين قيل فيهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا، قاله لهم عبد الله بن عمر بن حرام الأنصاري، والد جابر بن عبد الله، فإنه لما رأى انخزالهم قال لهم: اتقوا الله ولا تتركوا نبيكم وقاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. والمراد بالدفع حراسة الجيش وهو الرباط أي: ادفعوا عنا من يريدنا من العدو فلما قال عبد الله بن عمر بن حرام ذلك أجابه عبد الله بن أبي وأصحابه بقولهم: لم نعلم قتالا لاتبعناكم، أي لو نعلم أنه قتال، قيل: أرادوا أن هذه ليس بقتال بل إلقاء باليد إلى التهلكة، وقيل: أرادوا أن قريشا لا ينوون القتال، وهذا لا يصح إلا لو كان قولهم هذا حاصلا قبل انخزالهم، وعلى هذين فالعلم بمعنى التحقق
المسمى بالتصديق عند المناطقة، وقيل: أرادوا لو نحسن القتال لاتبعناكم. فالعلم بمعنى المعرفة، وقولهم حينئذ تهكم وتعذر.
ومعنى {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِْ} أن ما يشاهد من حالهم يومئذ أقرب دلالة على الكفر من دلالة أقوالهم: إنا مسلمون، واعتذارهم بقولهم: لو نعلم قتالا لاتبعناكم. أي إن عذرهم ظاهر الكذب، والإرادة تفشيل المسلمين، والقرب مجاز في ظهور الكفر عليهم.
ويتعلق كل من المجرورين في قوله: {مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِْ} بقوله: {أقرب} لأن {أقرب} تفضيل يقتضي فاضلا ومفضولا، فلا يقع لبس في تعليق مجرورين به لأن السامع يرد كل مجرور إلى بعض معنى التفضيل.
وقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} استئناف لبيان مغزى هذا الاقتراب، لأنهم من حالهم أنهم مؤمنون، فكيف جعلوا إلى الكفر أقرب، فقيل: إن الذي يبدونه ليس موافقا لما في قلوبهم، وفي هذا الاستئناف ما يمنع أن يكون المارد من الكفر في قوله: {هم للكفر} أهل الكفر.
وقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} بدل من {الَّذِينَ نَافَقُوا} أو صفة له، إذا كان مضمون صلته أشهر عند السامعين، إذ لعلهم عرفوا من قبل بقولهم فيما تقدم {لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} فذكر هنا وصفا لهم ليتميزوا كمال تمييز. واللام في لإخوانهم للتعليل وليست للتعدية، قالوا: كما هي في قوله: {وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ} [آل عمران: 156].
والمراد بالإخوان هنا عين المراد هناك، وهم الخزرج الذين قتلوا يوم أحد، وهم من جلة المؤمنين.
وجملة {وقعدوا} حال معترضة، ومعنى لو أطاعونا أي امتثلوا إشارتنا في عدم الخروج إلى أحد، وفعلوا كما فعلنا، وقرأ الجمهور: ما قتلوا بتخفيف التاء من القتل. وقرأ هشام عن ابن عامر بتشديد التاء من التقتيل للمبالغة في القتل، وهو يفيد معنى تفظيعهم ما أصاب إخوانهم من القتل طعنا في طاعتهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي ادرأوه عند حلوله، فإن من لم يمت بالسيف مات بغيره أي: إن كنتم صادقين في أن سبب موت إخوانكم هو
عصيان أمركم.
[169 – 172] {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
قوله: {لا تحسبن} عطف على {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ} [آل عمران: 168]، فلما أمر الله نبيه أن يجيبهم بما فيه تبكيتهم على طريقة إرخاء العنان لهم في ظنهم أن الذين قتلوا من إخوانهم قد ذهبوا سدى، فقيل لهم، إن الموت لا مفر منه على كل حال، أعرض بعد ذلك عن خطابهم لقلة أهليتهم، وأقبل على خطاب من يستأهل المعرفة، فقال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} وهو إبطال لما تلهف منه المنافقون على إضافة قتلاهم.
والخطاب يجوز أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم تعليما له، وليعلم المسلمين، ويجوز أن يكون جاريا على طريقة العرب في عدم إرادة مخاطب معين.
والحسبان: الظن فهو نهي عن أن يظن أنهم أموات وبالأحرى يكون نهيا عن الجزم بأنهم أموات.
وقرأ الجمهور: الذين قتلوا بتخفيف التاء وقرأ ابن عامر بتشديد التاء أي قتلوا قتلا كثيرا.
وقوله: {بل أحياء} للإضراب عن قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا} فلذلك كان ما بعدها حملة غير مفرد، لأنها أضربت عن حكم الجملة ولم تضرب عن مفرد من الجملة، فالوجه في الجملة التي بعدها أن تكون اسمية من المبتدأ المحذوف والخبر الظاهر، فالتقدير: بل هم أحياء، ولذلك قرأه السبعة بالرفع، وقرئ بالنصب على أن الجملة فعلية، والمعنى: بل أحسبتم أحياء، وأنكرها أبو علي الفارسي.
وقد أثبت القرآن للمجاهدين موتا ظاهرا بقوله: {قتلوا} ، ونفي عنهم الموت الحقيقي بقوله: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} فعلمنا أنهم وإن كانوا أموات الأجسام فهم
أحياء الرواح، حياة زائدة على حقيقة بقاء الأرواح، غير مضمحلة، بل هي حياة بمعنى تحقق آثار الحياة لأرواحهم من حصول اللذات والمدركات السارة لنفسهم، ومسرتهم بإخوانهم، ولذلك كان قوله: {عِنْدَ رَبِّهِمْ} دليلا على أن حياتهم خاصة بهم، ليست هي الحياة المتعارفة في هذا العالم، أعني حياة الأجسام وجريان الدم في العروق، ونبضات القلب، ولا هي حياة الأرواح الثابتة لأرواح جميع الناس، وكذلك الرزق يجب أن يكون ملائما لحياة الأرواح وهو رزق النعيم في الجنة. فإن علقنا {عِنْدَ رَبِّهِمْ} بقوله أحياء كما هو الظاهر، فالمر ظاهر، وإن علقناه بقوله: {يرزقون} فكذلك، لأن هذه الحياة لما كان الرزق الناشئ عنها كائنا عند الله، كانت حياة غير مادية ولا دنيوية، وحينئذ فتقديم الظرف للاهتمام بكينونة هذا الرزق. وقوله: {فرحين} حال من ضمير {يرزقون}.
والاستبشار: حصول البشارة، فالسين والتاء فيه كما في قوله تعالى: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] وقد جمع الله لهم بين المسرة بأنفسهم والمسرة بمن بقي من إخوانهم، لأن في بقائهم نكاية لأعدائهم، وهم مع حصول فضل الشهادة لهم على أيدي الأعداء يتمنون هلاك أعدائهم، لأن في هلاكهم تحقيق أمنية أخرى لهم وهي أمنية نصر الدين.
فالمراد {بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ} رفقاؤهم الذي كانوا يجاهدون معهم، ومعنى لم يلحقوا بهم لم يستشهدوا فيصيروا إلى الحياة الآخرة.
و {مِنْ خَلْفِهِمْ} تمثيل بمعنى من بعدهم، والتقدير: ويستبشرون بالذين لم يصيروا إلى الدار الآخرة من رفاقهم بأمنهم وانتفاء ما يحزنهم. وقوله: {أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} بدل اشتمال، ولا عاملة ليس ومفيدة معناها، ولم يبن اسم لا على الفتح هنا لظهور أن المقصود نفي الجنس ولا احتمال لنفي الوحدة فلا حاجة لبناء النكرة على الفتح، وهو كقول إحدى نساء حديث زرع زوجي كليل تهامه، لا حر ولا قر ولا مخافة ولا سآمه برفع الأسماء النكرات الثلاثة.
وفي هذا دلالة على أن أرواح هؤلاء الشهداء منحت الكشف على ما يسرها من أحوال الذين يهمهم شأنهم في الدنيا. وأن هذا الكشف ثابت لجميع الشهداء في سبيل الله،وقد يكون خاصا بالأحوال السارة لأنها لذة لها. وقد يكون هاما لجميع الأحوال لأن لذة الأرواح تحصل بالمعرفة، على أن الإمام الرازي حصر اللذة الحقيقية في المعارف. وهي لذة الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء، ولو كانت سيئة.
وفي الآية بشارة لأصحاب أحد الحياء بأنهم لا تلحقهم نكبة بعد ذلك اليوم.
وضمير {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} يجوز أن يعود إلى الذين لم يلحقوا بهم فتكون الجملة حالا من الذين لم يلحقوا بهم أي لا خوف عليهم ولا حزن فهم مستبشرون بنعمة من الله، ويحتمل أن يكون تكريرا لقوله: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا} والضمير ل {الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} ، وفائدة التكرير تحقق معنى البشارة كقوله: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] فكرر أغويناهم، ولأن هذا استبشار منه عائد لأنفسهم، ومنه عائد لرفاقهم الذين استجابوا لله من بعد القرح، والأولى عائد لإخوانهم. والنعمة: هي ما يكون به صلاح، والفضل: الزيادة في النعمة.
وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} قرأه الجمهور بفتح همزة أن على انه عطف على {نِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ} ، والمقصود من ذلك تفخيم ما حصل لهم من الاستبشار وانشراح الأنفس بأن جمع الله لهم المسرة الجثمانية الجزئية والمسرة العقلية الكلية، فإن إدراك الحقائق الكلية لذة روحانية عظيمة لشرف الحقائق الكلية، وشرف العلم بها، وحصول المسرة للنفس من انكشاف لها وإدراكها،أي استبشروا بأن علموا حقيقة كلية وسرا جليلا من أسرار العلم بصفات الله وكمالاته، التي نعم آثارها أهل الكمال كلهم،فتشمل الذين أدركوا وغيرهم، ولولا هذا المعنى الجليل لم يكن داع إلى زيادة {وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} إذ لم يحصل بزيادة نعمة وفضل للمستبشرين من جنس النعمة والفضل الأولين، بل حصلت نعمة وفضل آخران. وقرأ الكسائي بكسر همزة إن على أنه عطف على جملة {يستبشرون} في معنى التذييل فهو غير داخل فيما استبشر به الشهداء. ويجوز أن تكون الجملة على هذا الوجه ابتداء كلام،فتكون الواو للاستئناف.
وجملة {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} صفة للمؤمنين أو مبتدأ خبره {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} وهذه الاستجابة تشير إلى ما وقع إثر أحد من الإرجاف بأن المشركين، بعد أن بلغوا الروحاء، خطر لهم أن لو لحقوا المسلمين فاستأصلوهم. وقد مر ذكر هذا وما وقع لمعبد بن أبي معبد الخزاعي عند قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 149]. وقد تقدم القول في القرح عند قوله: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140]. والظاهر أنه هنا القرح المجازي، ولذلك لم يجمع فيقال القروح.
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [173] فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ [174] إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين} [175].
يجوز أن يكون {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} إلى آخره، بدلا من {الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [آل عمران: 172] أو صفة له، أو صفة ثانية للمؤمنين في قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 171] على طريقة ترك العطف في الأخبار. وإنما بإعادة الموصول، دون أن تعطف الصلة على الصلة، بشأن هذه الصلة الثانية حتى لا تكون كجزء صلة، ويجوز أن يكون ابتداء كلام مستأنف، فيكون مبتدأ وخبره قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} [آل عمران: 175] أي ذلك القول، كما سيأتي. وهذا تخلص بذكر شأن من شؤون المسلمين كفاهم الله به بأس عدوهم بعد يوم أحد بعام، إنجازا لوعدهم مع أبي سفيان إذ قال: موعدكم بدر في العام القابل، وكان أبو سفيان قد كره الخروج إلى لقاء المسلمين في ذلك الأجل، وكاد للمسلمين ليظهر إخلاف الوعد منهم ليجعل ذلك ذريعة إلى الإرجاف بين العرب بضعف المسلمين، فجاعل ركبا من عبد القيس مارين بمر الظهران قرب مكة قاصدين المدينة للميرة، أن يخبروا المسلمين بأن قريشا جمعوا لهم جيشا عظيما، وكان مع الركب نعيم بن مسعود الأشجعي، فأخبر نعيم ومن معه المسلمين بذلك فزاد ذلك استعدادا وحمية للدين، وخرجوا إلى الموعد وهو بدر فلم يجدوا المشركين وانتظروهم هناك، وكانت هنالك سوق فاتجروا ورجعوا سالمين غير مذمومين، فذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أي الركب العبديون {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} أي إن قريشا قد جمعوا لكم. وحذف مفعول {جمعوا} أي جمعوا أنفسهم وعددهم وأحلافهم كما فعلوا يوم بدر الأول.
وقال بعض المفسرين وأهل العربية: إن لفظ الناس هنا أطلق على نعيم بن مسعود وأبي سفيان، وجهلوه شاهدا على استعمال الناس بمعنى الواحد والآية تحتمله، وإطلاق لفظ الناس مرادا به واحد أو نحوه مستعمل لقصد الإبهام، ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء: 54] قال المفسرون: يعني بالناس محمدا صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} أي زادهم قول الناس، فضمير الرفع المستتر في
{فزادهم} عائد إلى القول المستفاد من فعل {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} أو عائد إلى الناس، ولما كان ذلك القول مرادا به تخويف المسلمين ورجوعهم عن قصدهم. وحصل منه خلاف ما أراد به المشركون، جعل ما حصل به زائدا في إيمان المسلمين. فالظاهر أن الإيمان أطلق هنا على العمل، أي العزم ونقصه مسألة قديمة، والخلاف فيها مبني على أن الأعمال يطلق عليها اسم الإيمان، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] يعني صلاتكم. أما التصديق القلبي وهو عقد القلب على إثبات وجود الله وصفاته وبعثه الرسل وصدق الرسول، فلا يقبل النقص، ولا يقبل الزيادة، ولذلك لا خلاف بين المسلمين في هذا المعنى، وإنما هو خلاف مبني على اللفظ، غير أنه قد تقرر في علم الخلاق أن الاعتقاد الجازم إذا تكررت أدلته، أو طال زمانه، أو قارنته التجارب، يزداد جلاء وانكشافا، وهو المعبر عنه بالملكة، فلعل هذا المعنى مما يراد بالزيادة، بقرينة أن القرآن لم يطلق وصف النقص في الإيمان بل ما ذكر إلا الزيادة، وقد قال إبراهيم عليه السلام {بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].
وقولهم: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} كلمة لعلهم ألهموها أو تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحسب أي كاف، وهو اسم جامد بمعنى الوصف ليس له فعل، قالوا: ومنه اسمه تعالى الحسيب، فهو فعيل بمعنى مفعل. وقيل: الإحساب هو الإكفاء، وقيل: هو اسم فعل بمعنى كفى، وهو ظاهر القاموس. ورده ابن هشام في توضيحه بأن دخول العوامل عليه نحو {فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ} ، وقولهم: بحبسك درهم، ينافى دعوى كونه اسم فعل لأن أسماء الأفعال لا تدخل عليها العوامل، وقيل: هو مصدر، وهو ظاهر كلام سيبويه. وهو من الأسماء اللازمة للإضافة لفظا دون معنى، فيبنى على الضم مثل: قبل وبعد، كقولهم: أعطه درهمين فحسب، ويتجدد له معنى حينئذ فيكون بمعنى لا غير. وإضافة لا تفيده تعريضا لأنه في قوة المشتق ولذلك توصف به النكرة، وهو ملازم الإفراد والتذكير فلا يثنى زلا يجمع ولا يؤنث لأنه لجمدوه شابه المصدر، أو لأنه لما كان أسم فعل فهو كالمصدر، أو لأنه مصدر، وهو شأن المصادر، ومعناها: إنهم اكتفوا بالله ناصرا وإن كانوا في قلة وضعف.
وجملة {وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} معطوفة على {حَسْبُنَا اللَّهُ} في كلام القائلين، فالواو من المحكي لا من الحكاية، وهو من عطف الإنشاء على الخبر الذي لا تطلب فيه إلا
المناسبة. بالمدح محذوف لتقدم دليله.
و {الوكيل} فعيل بمعنى مفعول أي موكول إليه. يقال: وكل حاجته إلى فلان إذا اعتمد عليه في قضائها وفوض إليه تحصيلها، ويقال للذي لا يستطيع القيام بشؤونه بنفسه: رجل وكل بفتحتين أي كثير الاعتماد على غيره، فالوكيل هو القائم بشأن من وكله، وهذا القيام بشأن الموكل يختلف باختلاف الأحوال الموكل فيها، وبذلك الاختلاف يختلف معنى الوكيل، فإن كان القيام في دفع العداء والجور فالوكيل الناصر والمدافع {قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66]، ومنه {فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً}. ومنه الوكيل في الخصومة، وإن كان في شؤون الحياة فالوكيل الكافل والكافي ومنه: {أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً} [الإسراء: 2] كما قال: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} [النحل: 91] ولذلك كان من أسمائه تعالى: الوكيل، وقوله: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} ومنه الوكيل على المال، ولذلك أطلق على هذا المعنى أيضا اسم الكفيل في قوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}. وقد حمل الزمخشري الوكيل على ما يشمل هذا عند قوله تعالى: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} في سورة الأنعام [102]، فقال: وهو مالك لكل شيء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال. وذلك يدل على أن الوكيل اسم جامع للرقيب والحافظ في الأمور التي يعنى الناس بحفظها ورقابتها وادخارها، ولذلك يتقيد ويتعمم بحسب المقامات.
وقوله: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} تعقيب للإخبار عن ثبات إيمانهم وقولهم: حسبنا الله ونعم الوكيل، وهو تعقيب لمحذوف يدل عليه فعل {فانقلبوا} ، لأن الانقلاب يقتضي أنهم خرجوا للقاء العدو الذي بلغ عنهم أنهم جمعوا لهم ولم يعبأوا بتخويف الشيطان، والتقدير: فخرجوا فانقلبوا بنعمة من الله.
والباء للملابسة أي ملابسين لنعمة وفضل من الله. فالنعمة هي ما أخذوه من الأموال، والفضل فضل الجهاد. ومعنى لم يمسسهم سوء لم يلاقوا حربا مع المشركين.
وجملة {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} إما استئناف بياني إن جعلت قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} بدلا أو صفة كما تقدم، وإما خبر عن {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} إن جعلت قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} مبتدأ، والتقدير: الذين قال لهم الناس إلى آخره إنما مقالهم يخوف الشيطان به. ورابط هذه الجملة بالمبتدأ، وهو الذين قال لهم الناس على هذا التقدير، عن اسم الإشارة، واسم مبتدأ.
ثم الإشارة بقوله: {ذلكم} إما عائد إلى المقال فلفظ الشيطان على هذا مبتدأ ثان، ولفظه مستعمل في معناه الحقيقي، والمعنى: أن ذلك المقال ناشئ عن وسوسة الشيطان في نفوس الذين دبروا مكيدة الإرجاف بتلك المقالة لتخويف المسلمين بواسطة ركب عبد القيس.
وإما أن تعود الإشارة إلى {الناس} من قوله: {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} لأن الناس مؤول بشخص، أعني نعميا بن مسعود، فالشيطان بدل أو بيان من اسم الإشترة، وأطلق عليه لفظ شيطان على طريقة التشبيه البليغ.
وقوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} تقديره يخوفكم أولياءه، فحذف المفعول الأول يخوف بقرينة قوله بعده: {فَلا تَخَافُوهُمْ} فإن خوف يتعدى إلى مفعولين إذ هو مضاعف خاف المجرد، وخاف يتعدى إلى مفعول واحد فصار بالتضعيف متعديا إلى مفعولين من باب كسا كما قال تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران: 28].
وضمير {فَلا تَخَافُوهُمْ} على هذا يعود إلى {أولياءه} . وجملة {وخافون} معترضة بين جملة {فَلا تَخَافُوهُمْ} وجملة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.
وقولهك {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} شرط مؤخر تقدم دليل جوابه، وهو تذكير جوابه، وهو تذكير وإحماء لإيمانهم، وإلا فقد علم أنهم مؤمنون حقا.
{وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [176].
نهي للرسول عن أن يحزن م فعل قوم يحرصون على الكفر، أي على أعماله، ومعنى {يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} يتوغلون فيه ويعجلون إلى إظهاره وتأييده والعمل به عند سنوح الفرص، ويحرصون على إلقائه في نفوس الناس، فعبر عن هذا المعنى بقوله: {يُسَارِعُونَ} ، فقيل: ذلك من التضمين، ضمن هذا المعنى بقوله: {يسارعون} ، فقيل: ذلك من التضمين، ضمن يسارعون معنى يقعون، فعدي بفي، وهي طريقة الكشاف وشروحه، وعندي أن هذا استعارة تمثيلية: شبه حال حرصهم وجدهم في تكفير الناس وإدخال الشك على المؤمنين وتربصهم الدوائر وانتهازهم الفرص بحال الطالب المسارع إلى تحصيل شيء يخشى أن يفوته وهو متوغل فيه متلبس به، فلذلك عدي ففي الدالة على سرعتهم سرعة الطالب التمكين، لا طالب الحصول، إذ هو حاصل عندهم، ولو عدي بإلى لفهم منه أنهم لو يكفروا عند المسارعة. قبل: هؤلاء هم المنافقون، وقيل:
قوم أسلموا ثم خافوا من المشركين فارتدوا.
وجملة {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} تعليل للنهي عن أن يحزنه تسارعهم إلى الكفر بعلة يوقن بها الرسول عليه الصلاة والسلام. وموقع إن في مثل هذا المقام إفادة التعليل، وإن تغني غناء فاء التسبب، كما تقدم غير مرة.
ونفي {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ} مراد به نفي أن يعطلوا ما أراده إذ قد كان الله وعد الرسول إظهار دينه على الدين كله، وكان سعي المنافقين في تعطيل ذلك، نهى الله رسوله أن يحزن لما يبدو له من اشتداد المنافقين في معاكسة الدعوة، وبين له أنهم لن يستطيعوا إبطال مراد الله، تذكيرا له بأنه وعده بأنه متم نوره.
ووجه الحاجة إلى النهي: هو أن نفس الرسول، وإن بلغت مرتقى الكمال، لا تعدوا، تعتريها في بعض أوقات الشدة أحوال النفوس البشرية: من تأثير مظاهر الأسباب، وتوقع حصول المسببات العادية عندها، كما رقع للرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وهو في العريش، وإذا انتفى إضرارهم الله انتفى إضرارهم المؤمنين فيما وعدهم الله.وقرأ الجمهور: يحزنك بفتح الياء وضم الزاي من حزنه إذا أدخل عليه الحزن، وقرأه نافع بضم الياء وكسر الزاي من أحزانه.
وجملة {يريد الله} استئناف لبيان جزائهم على كفرهم في الآخرة، بعد أن بين السلامة من كيدهم في الدنيا، والمعنى: أن الله خذلهم وسلبهم التوفيق فكانوا مسارعين في الكفر لأنه أراد أن لا يكون لهم حظ في الآخرة. والحظ: النصيب من شيء نافع.
{إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [177].
تكرير لجملة {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} قصد به، مع التأكيد، إفادة هذا الخبر استقلالا للاهتمام به بعد أن ذكر على وجه التعليل لتسلية الرسول، وفي اختلاف الصلتين إيماء إلى أن مضمون كل صلة منهما هو سبب الخبر الثابت لموصولها، وتأكيد لقوله: {إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} المتقدم، كقول لبيد:
كدخان نار ساطع أسنامها
بعد قوله:
كدخان مشعلة يشب ضرامها
مع زيادة بيان اشتهارهم هم بمضمون الصلة.
والاشتراء مستعار للاستبدال كما تقدم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى} في سورة البقرة [16].
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [178].
عطف على قوله: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169] والمقصود مقابلة الإعلام بخلاف الحسبان في حالتين: إحداهما تلوح للناظر حالة ضر، والأخرى تلوح حالة خير، فأعلم الله أن كلتا الحالتين على خلاف ما يتراءى للناظرين.
ويجوز كونه معطوفا على قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} [آل عمران: 176] إذ نهاه عن أن يكون ذلك موجبا لحزنه، لأنهم لا يضرون الله شيئا، ثم ألقى إليه خبرا لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين: أن لا يحسبوا ثم ألقى إليه خبرا لقصد إبلاغه إلى المشركين وإخوانهم المنافقين: أن لا يحسبوا أن بقاءهم نفع لهم بل هو إملاء لهم يزدادون به آثاما، ليكون أخذهم بعد ذلك أشد. وقرأه الجمهور {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} بياء الغيبة وفاعل الفعل الذين كفروا، وقرأه حمزة وحده بتاء الخطاب.
فالخطاب أما للرسول عليه الصلاة والسلام وهو نهي عن حسبان لم يقع، فالنهي للتحذير منه أو عن حسبان هو خاطر خطر للرسول صلى الله عليه وسلم غير أنه حسبان تعجب، لأن الرسول يعلم أن الإملاء ليس خيرا لهم، أو المخاطب الرسول والمقصود غيره، ممن يظن ذلك من المؤمنين على طريقة التعريض مثل {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]، أو المراد من الخطاب كل مخاطب يصلح لذلك.
وعلى قراءة الياء التحتية فالنهي مقصود به بلوغ إليهم ليعلموا سوء عاقبتهم، ويمر عيشهم بهذا الوعيد، لأن المسلمين لا يحسبون ذلك من قبل. والإملاء: الإمهال في الحياة، والمراد به هنا تأخير حياتهم، وعدم استئصالهم في الحرب، حيث فرحوا بالنصر يوم أحد، وبأن قتلى المسلمين يوم أحد كانوا أكثر من قتلاهم.
ويجوز أن يراد بالإملاء التخلية بينهم وبين أعمالهم في كيد المسلمين وحربهم وعدم
الأخذ على أيديهم بالهزيمة والقتل كما كان يوم بدر، يقال: أملى لفرسه إذا أرخى له الطول في المرعى، وهو مأخوذ من الملو بالواو وهو سير البعير الشديد، ثم قالوا: أمليت للبعير والفرس إذا وسعت له في القيد لأنه يتمكن بذلك من الخبب والركض، فسبه فعله بشدة السير، وقالوا: أم ليت زيد في غيه أي تركته: على وجه الاستعارة، وأملي الله لفلان أخر عقابه، قال تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183] واستعير التملي لطول المدة تشبيها للمعقول بالمحسوس فقالوا: ملاك الله حبيبك تمليئة، أي أطال عمرك معه.
وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} أن أخت إن المكسورة الهمزة، و ما موصولة وليست الزائدة، وقد كتبت في المصحف كلمة واحدة كما تكتب إنما المركبة من إن أخت أن وما الزائدة الكافة، التي هي حرف حصر بمعنى ما و إلا، وكان القياس أن تكتب مفصولة وهو اصطلاح حدث بعد كتابة المصاحف لم يكن مطردا في الرسم القديم، على هذا اجتمعت كلمات المفسرين من المتقدمين والمتأخرين. وأنا أرى أنه يجوز أن يكون أنما من قوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} هي أنما أخت إنما المكسورة وأنها مركبة من أن وما الكافة الزائدة وأنها طريق من طرق القصر عند المحققين، وأن المعنى: ولا يحسبن الذين كفروا انحصار إمهالنا لهم في أنه خير لهم لأنهم لما فرحوا بالسلامة من القتل وبالبقاء بقيد الحياة قد أضمروا في أنفسهم اعتقاد أن بقاءهم ما إلا خير لهم لأنهم يحسبون القتل شرا لهم، إذ لا يؤمنون بجزاء الشهادة في الآخرة لكفرهم بالبعث. فهو قصر حقيقي في ظنهم.
ولهذا يكون رسمهم كلمة أنما المفتوحة الهمزة في المصحف جاريا على ما يقتضيه اصطلاح الرسم.و {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} هو بدل اشتمال من {الَّذِينَ كَفَرُوا} ، فيكون سادا مسد المفعولين، لأن المبدل منه صار كالمتروك، وسلكت طريقة الإبدال لما فيه من الإجمال، ثم التفصيل، لأن تعلق الظن بالمفعول الأول يستدعي تشوف السامع للجهة التي تعلق بها الظن، وهي مدلول المفعول الثاني، فإذا سمع ما يسد مسد المفعولين بعد ذلك تمكن من نفسه فضل تمكن وزاد تقريرا.
وقوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} استئناف واقع موقع التعليل للنهي عن حسبان الإملاء، خيرا، أي ما هو بخير لأنهم يزدادون في تلك المدة إثما.
وإنما هذه كلمة مركبة من إن حرف التوكيد وما الزائدة الكافة وهي أداة حصر أي: ما نملي لهم إلا ليزدادوا إثما، أي فيكون أخذهم به أشد. فهو قصر قلب.
ومعناه أنه يملي لهم ويؤخرهم وهم على كفرهم فيزدادوا إثما في تلك المدة، فيشتد عقابهم على ذلك، وبذلك لا يكون الإملاء لهم خيرا لهم، بل هو شر لهم.
واللام {لِيَزْدَادُوا إِثْماً} لام العاقبة كما هي في قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] أي: إنما نملي لهم فيزدادون إثما، فلما كان ازدياد الإثم ناشئا عن الإملاء، كان كالعلة له، لا سيما وازدياد الإثم يعلمه الله فهو حين أملى لهم علم أنهم يزدادون به إثما، فكان الازدياد من الإثم شديد الشبه بالعلة، أما علة الإملاء في الحقيقة ونفس الأمر فهي شيء آخر يعلمه الله، وهو داخل في جملة حكمة خلق أسباب الضلالة وأهله والشياطين والأشياء الضارة. وهي مسألة مفروغ منها في علم الكلام، وهي مما أستأثر الله بعلم الحكمة في شأنه.وتعليل النهي على حسبان الإملاء لهم خيرا لأنفسهم حاصل، لأن في شأنه. وتعليل النهي على حسبان الإملاء لهم خيرا لأنفسهم حاصل، لأن مداره على التلازم بين الإملاء لهم وبين ازديادهم من الإثم في مدة الإملاء.
{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [179].
استئناف ابتدائي، وهو رجوع إلى بيان ما في مصيبة المسلمين من الهزيمة يوم أحد من الحكم النافعة دنيا وأخرى، فهو عود إلى الغرض المذكور في قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166] بين هنا أن الله لم يرد دوام اللبس في حال المؤمنين والمنافقين واختلاطهم، فقدر هنا زمانا كانت الحكمة في مثله تقتضي بقاءه وذلك أيام ضعف المؤمنين عقب هجرتهم وشدة حاجتهم إلى الاقتناع من الناس بحسن الظاهر حتى لا يبدأ الانشقاق من أول أيام الهجرة، فلما استقر الإيمان في النفوس، وقر للمؤمنين الخالصين المقام في أمن، أراد الله تعالى تنهية الاختلاط وأن يميز الخبيث من الطيب وكان المنافقون يكتمون نفاقهم لما رأوا أمر المؤمنين في إقبال، ورأوا انتصارهم يوم بدر، فأراد الله أن يفضحهم ويظهر نفاقهم، بأن أصاب المؤمنين بقرح الهزيمة حتى أظهر المنافقون فرحهم بنصرة المشركين، وسجل الله عليهم نفاقهم باديا للعيان كما قال:
جزى الله المصائب كل خير ... عرفت عدوي من صديقي
وما صدق {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} هو اشتباه المؤمن والمنافق في ظاهر الحال.
وحرفا على الأول والثاني، في قوله على: {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} للاستعلاء المجازي، وهو التمكن من معنى مجرورها ويتبين الوصف المبهم في الصلة بما ورد بعد حتى من قوله: {عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} حتى يميز الخبيث من الطيب، فيعلم أن ما هم عليه هو عدم التمييز بين الخبيث والطيب.
ومعنى {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ} نفي هذا عن أن يكون مرادا لله نفيا مؤكدا بلام الجحود، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ} [آل عمران: 79] الخ...
فقوله: {عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} أي من اختلاط المؤمن الخالص والمنافق، فالضمير في قوله: {أَنْتُمْ عَلَيْهِ} مخاطب به المسلمون كلهم باعتبار من فيهم من المنافقين.
والمراد بالمؤمنين الخلص من النفاق، ولذلك عبر عنهم بالمؤمنين، وغير الأسلوب لأجل ذلك، فلم يقل: ليذركم على ما أنتم عليه تنبيها على أن المراد بضمير الخطاب أكثر من المراد بلفظ المؤمنين، ولذلك لم يقل على ما هم عليه.
وقوله: {حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} غاية الجحود المستفاد من قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} المفيد أن هذا الوذر لا تتعلق به إرادة الله بعد وقت الإخبار ولا واقعا منه تعالى إلى أن يحصل تمييز الخبيث من الطيب، فإذا حصل تمييز الخبيث من الطيب صار هذا الوذر ممكنا، فقد تتعلق الإرادة بحصوله وبعدم حصوله، ومعناه رجوع إلى الاختيار بعد الإعلام بحالة الاستحالة.
ولحتى استعمال خاص بعد نفي الجحود، فمعناها تنهية الاستحالة: ذلك أن الجحود أخص من النفي لأن أصل وضع الصيغة الدلالة على أن ما بعد لام الجحود مناف لحقيقة اسم كان المنفية، فيكون حصوله كالمستحيل، فإذا إياه المتكلم بغاية كانت تلك الغاية غاية للاستحالة المستفادة من الجحود، وليست غاية للنفي حتى يكون مفهومها أنه بعد حصول الغاية يثبت ما كان منفيا، وهذا كله لمح لأصل وضع صيغة الجحود من الدلالة على مبالغة النفي لا لغلبة الكشاف ومتابعوه، وتنبيه لها أبو حيان، فاستشكلها حتى اضطر إلى تأويل النفي بالإثبات، فجعل التقدير: إن الله يخلص بينكم بالامتحان حتى يميز. وأخذ هذا التأويل من كلام عطية، ولا حاجة إليه، على أنه يمكن أن يتأول تأويلا أحسن، وهو أن يجعل مفهوم الغاية معطلا لوجود قرينة على عدم إرادة المفهوم، ولكن فيما ذكرته بوضوح وتوقيف على استعمال عربي رشيق.
ومن في قوله: {من الطيب} معناها الفصل أي أحد الضدين من الآخر، وهو معنى أثبته ابن مالك وبحث فيه صاحب مغنى اللبيب ، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} وقد تقد القول فيه عند قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} في سورة البقرة [220].
وقيل: الخطاب بضمير {ما أنتم} للكفار، أي: لا يترك الله المؤمنين جاهلين بأحوالكم من النفاق.
وقرأ الجمهور: يميز بفتح ياء المضارعة وكسر الميم وياء تحتية بعدها ساكنة من ماز يميز، وقرأه حمزة، والكسائي ويعقوب، وخلف بضم ياء المضارعة وفتح الميم وياء مشددة مكسورة من ميز مضاعف ماز.
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ} عطف على قوله: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ} يعني أنه أراد أن يميز لكم الخبيث فتعرفوا أعداءكم، ولم يكن من شأن الله إطلاعكم على الغيب، فلذلك جعل أسبابا من شأنها أن تستنفر أعداءكم فيظهروا لكم العداوة فتطلعوا عليهم، وإنما قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} لأنه تعالى جعل نظام هذا العالم مؤسسا على استفادة المسببات من أسبابها، والنتائج من مقدماتها.
وقوله: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} يجوز أنه استدراك ما أفاده قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} حتى لا يجعله المنافقون حجة على المؤمنين، في نفي الوحي والرسالة، فيكون المعنى: وما كان الله ليطلعكم على الغيب إلا ما أطلع عليه رسوله ومن شأن الرسول أن لا يفشي ما أسره الله إليه كقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26، 27] الآية، فيكون كاستثناء من عموم {ليطلعكم} . ويجوز أنه استدراك على ما يفيده {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} من انتفاء اطلاع أحد على علم الله تعالى فيكون كاستثناء من مفاد الغيب أي: إلا الغيب الراجع إلى إبلاغ الشريعة، وأما ما عداه فلم يضمن الله لرسله إطلاعهم عليه بل قد يطلعهم، وقد لا يطلعهم، قال تعالى: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60].
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} إن كان خطابا للمؤمنين فالمقصود منه الإيمان الخاص، وهو التصديق بأنهم لا ينطقون عن الهوى، وبأن وعد الله لا يخلف، فعليهم الطاعة في الحرب وغيره أو أريد الدوام على الإيمان، لأن الحالة المتحدث عنها قد يتوقع
منها تزلزل إيمان الضعفاء ورواج شبه المنافقين، وموقع {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} ظاهر على الوجهين، وإن كان قوله: {فآمنوا} خطابا للكفار من المنافقين بناء على أن الخطاب في قوله {عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} وقوله: {لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} للكفار فالأمر بالأيمان ظاهر، ومناسبة تفريعه عما تقدم انتهاز فرص الدعوة حيثما تأتت.
{وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [180].
عطف على {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} ، لأن الظاهر أن هذا أنزل في شأن أحوال المنافقين، فإنهم كانوا يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، كما حكى الله عنهم في سورة النساء [37] بقوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} وكانوا يقولون: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وغير ذلك، ولا يجوز بحال أن يكون نازلا في شأن بعض من المسلمين لأن المسلمين يومئذ مبرؤون من هذا الفعل ومن هذا الحسبان، ولذلك قال معظم المفسرين: إن الآية نزلت في منع الزكاة، أي فيمن منعوا الزكاة، وهل يمنعها يومئذ إلا منافق. ولعل مناسبة ذكر نزول هذه الآية هنا أن بعضهم منع النفقة في سبيل الله في غزوة أحد. ومعنى حسبانه خيرا أنهم حسبوا أن قد استبقوا مالهم وتنصلوا عن دفعه بمعاذير قبلت منهم.
أما شمولها لمنع الزكاة، فإن لم يكن بعموم صلة الموصول إن كان الموصول للعهد لا للجنس، فبدلالة فحوى الخطاب.
وقرأ الجمهور: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بياء الغيبة، وقرأه حمزة بتاء الخطاب كما تقدم في نظيره. وقرأ الجمهور: تحسبن بكسر السين، وقرأه ابن عامر، وحمزة، وعاصم بفتح السين.
وقوله: {هُوَ خَيْراً لَهُمْ} قال الزمخشري هو ضمير فصل، وقد بنى كلامه على أن ضمير الفصل لا يختص بالوقوع مع الأنفال التي تطلب اسما وخبرا، ونقل الطيبي عن الزجاج أنه قال: زعم سيبويه أنه إنما يكون فصلا مع المبتدأ والخبر، يعني فلا يصح أن يكون هنا ضمير فصل ولذلك حكى أبو البقاء فيه وجهين: أحدهما أن يكون هو ضميرا واقعا موقع المفعول الأول على أنه من إنابة ضمير الرفع عن ضمير النصب، ولعل الذي
حسنه أن المعاد غير مذكور فلا يهتدي إليه بضمير النصب، بخلاف ضمير الرفع لأنه كالعمدة في الكلام، وعلى كل تقدير فالضمير عائد على البخل المستفاد من {ينخلون} ، مثل {اعدلوا هو أقرب للتقوى} ، ومثل قوله:
إذا نهي السفيه جرى إليه ... وخالف والسفيه إلى خلاف
ثم إذا كان ضمير فصل فأحد مفعولي حسب محذوف اختصارا لدلالة ضمير الفصل عليه، فعلى قراءة الفوقية فالمحذوف مضاف حل المضاف إليه محله، أي لا تحسبن الذين يبخلون خيرا، وعلى قراءة التحتية: ولا يحسبن الذين يبخلون بخلهم خيرا.
والبخل بضم الباء وسكون الخاء ويقال: بخل بفتحهما، وفعله في لغة أهل الحجاز مضموم العين في الماضي والمضارع. وبقية العرب تجعله بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع، وبلغة غير أهل الحجاز جاء القرآن لخفة الكسرة ولذا لم يقرأ إلا بها. وهو ضد الجود، فهو الانقباض على إعطاء المال بدون عوض، هذا حقيقته، ولا يطلق على منع صاحب شيء غير مال أن ينتفع غيره بشيئه بدون مضرة إلا مجازا، وقد ورد في أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم "البخيل الذي أذكر عنده فلا يصلي علي" ويقولون: بخلت العين بالدموع، ويرادف البخل الشح، كما يرادف الجود السخاء والسماح.
وقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} تأكيد لنفي كونه خيرا، كقول امرئ القيس:
وتعطو برخص غير شئن
وهذا كثير في كلام العرب، على أن في هذا المقام إفادة نفي توهم الواسطة بين الخير والشر.
وجملة {سيطوقون} واقعة موقع العلة لقوله: {بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ} .
ويطوفون يحتمل أنه مشتق من الطاقة، وهي تحمل ما فوق القدرة أي سيحملون ما بخلوا به، أي يكون عليهم وزرا يوم القيامة، والأظهر أنه مشتق من الطوق، وهو ما يلبس تحت الرقبة فوق الصدر، أي تجعل أموالهم أطواقا يوم القيامة فيعذبون بحملها، وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أغصب شبرا من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة". والعرب يقولن في أمثالهم تقلدها أي الفعلة الذميمة طوق الحمامة. وعلى كلا الاحتمالين فالمعنى أنهم يشهرون بهده المذمة بين أهل المحشر، ويلزمون عقاب ذلك. وقوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} تذييل لموعظة الباخلين وغيرهم: بأن المال مال الله، وما من
بخيل إلا سيذهب ويترك ماله، والمتصرف في ذلك كله هو الله،فهو يرث السماوات والأرض، أي يستمر ملكه عليهما بعد زوال البشر كلهم المنتفعين ببعض ذلك، وهو يملك ما في ضمنها تبعا لهما، وهو عليم بما يعمل الناس من بخل وصدقة، فالآية موعظة ووعيد ووعد لأن المقصود لازم قوله: {خبير} .
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ[181] ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [182].
استئناف جملة {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} لمناسبة ذكر البخل لأنهم قالوه في معرض دفع الترغيب في الصدقات، والذين قالوا ذلم هم اليهود، كما هو صريح آخر الآية في قوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} ، وقائل ذلك: قيل هو حيي بن أخطب اليهودي، حبر اليهود، لما سمع قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] فقال حيي: إنما يستقرض الفقير الغني، وقيل: قاله فنحاص بن عازوراء لأبي بكر الصديق بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل أبا بكر إلى يهود يدعوهم، فأتى بيت المدراس فوجد جماعة منهم قد اجتمعوا على فنحاص حبرهم، فدعاهم أبو بكر، فقال فنحاص: ما بنا إلى الله من حاجة، وإنه إلينا لفقير ولم كان غنيا لما استقرضنا أموالنا كما يزعم صاحبكم، فغضب أبو بكر ولطم فنحاص وهم بقتله، فنزلت الآية. وشاع قولهما في اليهود.
وقوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ} تهديد، وهو يؤذن بأن هذا القول جراءة عظيمة، وإن كان القصد منها التعريض ببطلان كلام القرآن، لأنهم أتوا بهاته العبارة بدون محاشاة، ولأن الاستخفاف بالرسول وقرآنه إثم عظيم وكفر على كفر، ولذلك قال تعالى: {لَقَدْ سَمِعَ} المستعمل في لازم معناه، وهو التهديد على كلام فاحش، إذ قد علم أهل الأديان أن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فليس المقصود إعلامهم بأن الله علم ذلك لازمه وهو مقتضى قوله: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} . والمراد بالكتابة إما كتابته في صحائف آثامهم إذ لا يخطر ببال أحد أن يكتب في صحائف الحسنات، وهذا بعيد، لأن وجود علامة الاستقبال يؤذن بأن الكتابة أمر يحصل فيما بعد. فالظاهر أنه أريد من الكتابة عدم الصفح عنه ولا العفو بل سيثبت لهم ويجاوزون عنه فتكون الكتابة كناية عن المحاسبة. فعلى الأول يكون وعيدا وعلى الثاني يكون تهديدا.
وقرأ الجمهور {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ} بنون العظمة من سنكتب وبنصب اللام من قتلهم على انه مفعول نكتب ونقول بنون. وقرأه حمزة: سيكتب بياء الغائب مضمومة وفتح المثناة الفوقية مبينا للنائب لأن فاعل الكتابة معلوم وهو الله تعالى، وبرفع اللام من قتلهم على أنه نائب فاعل. ويقول بياء الغائب، والضمير عائد إلى اسم الجلالة في قوله: {إن الله} .
وعطف قوله: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} زيادة غفي مذمتهم بذكر مساوي أسلافهم، لأن الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} بل هم من أسلافهم، فذكر هنا ليدل على أن هذه شنشنة قديمة فيهم، وهي الاجتراء على الله ورسله، واتحاد الضمائر مع اختلاف المعاد طريقة عربية في المحامد والمذام التي تناط بالقبائل. قال الحجاج في خطبته بعد يوم دير الجماجم يخاطب اهل العراق: ألستم أصحابي بالأهواز حين أضمرتم الشر واستنبطتم الكفر إلى أن قال: ثم يوم الزاوية وما يوم الزاوية..الخ، مع أن فيهم من مات ومن طرأ بعد.
وقوله: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} عطف أثر الكتب أي سيجاوزون عن ذلك بدون صفح، {وَنَقُولُ ذُوقُوا} وهو أمر الله بأن يدخلوا النار.
والذوق حقيقته إدراك الطعوم، واستعمل هنا مجازا مرسلا في الإحساس بالعذاب فعلاقته الإطلاق، ونكتته أن الذوق في العرف يستتبع تكرر ذلك الإحساس لأن الذوق يتبعه الأكل، وبهذا الاعتبار يصح أن يكون ذوقوا استعارة.
وقد شاع في كلام العرب إطلاق الذوق على الإحساس بالخير أو بالشر، وورد في القرآن كثيرا.
والإشارة في قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} للعذاب المشاهد يومئذ، وفيه تهويل للعذاب. والباء للسببية على أن هذا العذاب لعظم هوله مما يتساءل عن سببه. وعطف قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} على مجرور الباء، ليكون لهذا العذاب سببان: ما قدمته أيديهم، وعدل الله تعالى، فما قدمت أيديهم أوجب حصول العذاب، وعدل الله أوجب كون هذا العذاب في مقداره المشاهد من الشدة حتى لا يظنون أن في شدته إفراطا عليهم في التعذيب.
[183 – 184] {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا
بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} .
أبدل {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ} من {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] لذكر قولة أخرى شنيعة منهم، وهي كذبهم على الله في أنه عهد إليهم على ألسنة أنبيائهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بقربان، أي حتى يذبح قربانا فتأكله نار تنزل حين ذبح أول قربان على النحو الذي شرعه الله لبني إسرائيل فخرجت نار من عند الرب فأحرقته. كما في سفر اللاويين. إلا أنه معجزة لا تطرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأن معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمة. وفي الحديث: "ما من الأنبياء نبي إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة" فقال الله تعالى: {قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ} .
وهذا الضرب من الجدل مبني على التسليم، أي إذا سلمنا ذلك فليس امتناعنا من اتباع الإسلام لأجل انتظار هذه المعجزة فإنكم قد كذبتم الرسل الذين جاءوكم بها وقتلتموهم، ولا يخفى أن التسليم يأتي على مذهب الخصم إذ لا شك أن بني إسرائيل قتلوا أنبياء منهم بعد أن آمنوا بهم، مثل زكريا ويحيى وأشعياء وأرمياء، فالإيمان بهم أول الأمر يستلزم أنهم جاءوا بالقربان تأكله النار على قولهم، وقتلهم أخروا يستلزم أن عدم الثبات على الإيمان بالأنبياء شنشنة قديمة في اليهود وأنهم إنما يتبعون أهوائهم، فلا عجب أن يأتي خلفهم بمثل ما أتى به سلفهم.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ظهر في أن ما زعموه من العهد لهم بذلك كذب معاذير باطلة.
وإنما قال: {وَبِالَّذِي قُلْتُمْ} عدل إلى الموصول للاختصار وتسجيلا عليهم في نسبة ذلك لهم ونظيره قوله تعالى: {وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} إلى قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 77، 80] أي نرث ماله وولده.
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: " فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ" والمذكور بعد
الفاء دليل الجواب لأنه علته، والتقدير: فإن كذبوك فلا عجب أو فلا تحزن سنة قديمة في الأمم مع الرسل مثلك، وليس ذلك لنقص فيما جئت به. والبيانات: الدلائل على الصدق، والزبر جمع زبور وهو فعول بمعنى مفعول مثل رسول، أي مزبور بمعنى مخطوط. وقد قيل: إنه مأخوذ من زبر إذا زجر أو حبس لأن الكتاب يقصد للحكم. وأريد بالزبر كتب الأنبياء والرسل، مما يتضمن مواعظ وتذكيرا مثل كتاب داود والإنجيل.
والمراد بالكتاب المنير: إن كان التعريف للجنس فهو كتب الشرائع مثل التوراة والإنجيل، وإن كان للعهد فهو التوراة، ووصفه بالمنير وجاز بمعنى المبين للحق كقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة: 44] والعطف منظور فيه إلى التوزيع، فبعض الرسل جاء بالزبر، وبعضهم بالكتاب المنير، وكلهم جاء بالبينات.
وقرأ الجمهور {والزبر} بعطف الزبر بدون إعادة باء الجر.
وقرأه ابن عامر: وبالزبر بإعادة باء الجر بعد واو العطف وكذلك هو مرسوم في المصحف الشامي.
وقرأ الجمهور: والكتاب بدون إعادة باء الجر وقرأه هشام عن ابن عامر وبالكتاب بإعادة باء الجر وهذا انفرد به هشام، وقد قيل: إنه كتب كذلك في بعض مصاحف الشام العتيقة، وليست في المصحف الإمام. ويوشك أن تكون هذه الرواية لهشام عن ابن عامر شاذة في هذه الآية، وأن المصاحف التي كتبت بإثبات الباء في قوله: {وبالكتاب} [فاطر: 25] كانت مملاة من حفاظ هذه الرواية الشاذة.
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [185].
هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أحد، وتفيد المنافقين في مزاعمهم أن الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا، فبعد أن بين لهم ما يدفع توهمهم أن الانهزام كان خذلانا من الله وتعجبهم منه كيف يلحق قوما خرجوا لنصر الدين وان سبب للهزيمة بقوله: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ} [آل عمران: 155] ثم بين لهم أن في تلك الرزية فوائد بقوله الله تعالى: {لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [آل عمران: 153] وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 166]، ثم أمرهم بالتسليم لله في كل حال فقال {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ
فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ} [آل عمران: 156] الآية. وبين لهم أن قتلى المؤمنين الذين حزنوا لهم إنما هم أحياء، وأن المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم لا يضيع الله أجرهم ولا فضل ثباتهم، وبين لهم أن سلامة الكفار لا ينبغي أن تحزن المؤمنين ولا أن تسر الكافرين، وأبطل في خلال ذلك مقال المنافقين بقوله: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154] وبقوله: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا} [آل عمران: 168] إلى قوله: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168] ختم ذلك كله بما هو جامع للغرضين في قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} لأن المصيبة والحزن إنما نشأ على الموت من استشهد من خيرة المؤمنين، يعني أن الموت لما كان غاية كل حي فلو لم يموتوا اليوم لماتوا بعد ذلك فلا تأسفوا على موت قتلاكم في سبيل الله، ولا يفتنكم المنافقون بذلك، ويكون قوله بعده: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قصر قلب لتنزيل المؤمنين فيما أصابهم من الحزن على قتلاهم وعلى هزيمتهم، منزلة من لا يترقب من عمله إلا منافع الدنيا وهو النصر والغنيمة، مع أن نهاية الأجر في نعيم الآخرة، ولذلك قال: {تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} أي تكمل لكم، وفيه تعريض بأنهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين: منها النصر يوم بدر، ومنها كف أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم إلى أن تمكنوا من الهجرة.
والذوق هنا أطلق على وجدان الموت، وقد تقدم بيان استعماله عند قوله آنفا: {وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [آل عمران: 181] وشاع إطلاقه على حصول الموت، قال تعالى: {لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ} [الدخان: 56] ويقال ذاق طعم الموت.
والتوفية: إعطاء الشيء وافيا. ويطلقها الفقهاء على مطلق الإعطاء والتسليم، والأجور جمع الأجر بمعنى الثواب، ووجه جوعه مراعاة أنواع الأعمال. ويوم القيامة يوم الحشر سمي بذلك لأنه يقوم فيه الناس من خمود الموت إلى نهوض الحياة.
والفاء في قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ} للتفريع على {تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} ومعنى زحزح أبعد. وحقيقة فعل {زُحْزِحَ} أنها جذب بسرعة، وهو مضاعف زحه عن المكان إذ جذبه بعجلة.
وإنما جمع بين {زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ} ، مع أن في الثاني غنمة عن الأول، للدلالة على أن دخول الجنة يشمل على نعمتين عظيمتين: النجاة من النار، ونعيم الجنة.
ومعنى {فَقَدْ فَازَ} نال مبتغاه من الخير لأن ترتب الفوز على دخول الجنة والزحزحة عن النار معلوم فلا فائدة في ذكر الشرط إلا لهذا. والعرب تعتمد في هذا على القرائن، فقد يكون الجواب عين الشرط لبيان التحقيق، نحو قول القائل: من عرفني فقد عرفني، وقد يكون عينه بزيادة قيد، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} وقد يكون معنى بلوغ أقصى غايات نوع الجواب والشرط كما في هذه الآية وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} على أحد وجهين، وقول العرب من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك وجميع ما قرر في الجواب يأتي مثله في الصفة ونحوها كقوله {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63].
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [186].
استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحق وأصار الرسل من البلوى، وتنبيه لهم على أنهم إن كانوا ممن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحق، وأكد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة.
فأصل {لتبلون} لتبلوونن فلما توالى ثلاث نونات ثقل في النطق فحذفت نون الرفع فالتقى ساكنان: واو الرفع ونون التوكيد الشديدة، فحذف واو الرفع لأنها ليست أصلا في الكلمة فصار لتبلون. وكذلك القول في تصريف قوله تعالى: {ولتسمعن} وفي توكيده.
والابتلاء: الاختبار، ويراد به هنا لازمة وهو المصيبة، لأن في المصائب اختبارا لمقدار الثبات. والايتلاء في النفس هو القتل والجراح. وجمع مع ذلك سماع المكروه من أهل الكتاب والمشركين في يوم أحد وبعده.
والأذى هو الضر بالقول كقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران: 111] كما تقدم آنفا، ولذلك وصفه هنا بالكثير، أي الخارج عن الحد الذي تحتمله النفوس غالبا، وكل ذلك مما يفضي إلى الفشل، فأمرهم الله بالصبر على ذلك حتى يحصل لهم النصر، وأمرهم بالتقوى أي الدوام على أمور الإيمان والإقبال على بثه وتأييده، فأما الصبر على
الابتلاء في الأموال والنفس فيشمل الجهاد، وأما الصبر على الأذى ففي وقتي الحرب والسلم، فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفار حتى تكون منسوخة بآيات السيف، لأن الظاهر أن الآية نزلت بعد وقعة أحد، وهي بعد الأمر بالقتال. قاله القفال.
وقوله: {فَإِنَّ ذَلِكَ} الإشارة إلى ما تقدم من الصبر والتقوى بتأويل: فإن المذكور. و عزم الأمور من إضافة الصفة إلى الموصوف أي الأمور العزم، ووصف الأمور وهو جمع بعزم وهو مفرد لأن أصل عزم أنه مصدر فيلزم لفظه حالة واحدة، وهو هنا مصدر بمعنى المفعول، أي من الأمور المعزوم عليها. والعزم إمضاء الرأي وعدم التردد تبيين السداد. قال تعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران: 159] والمراد هنا العزم في الخيرات قال تعالى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وقال: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115].
ووقع قوله فإن ذلك من عزم الأمور دليلا على جواب الشرط، والتقدير: وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أهل العزم {فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} .
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [187].
معطوف على قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186] فإن تكذيب الرسول من أكبر الأذى للمسلمين. وإن الطعن في كلامه وأحكام شريعته من ذلك كقولهم: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران: 181] والقول في معنى أخذ الله تقدم في قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34] ونحوه.
و {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} هم اليهود، وهذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبيائهم، وكان فيه ما يدل على عمومه لعلماء أمتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول.
وجملة {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} بيان الميثاق،فهي حكاية اليمين حين اقترحت عليهم، ولذلك جاءت بصيغة خطابهم بالمحلوف عليه كما قرأ بذلك الجمهور، وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: ليبيننه بياء الغيبة على طريقة الحكاية بالمعنى، حيث
كان المأخوذ عليهم هذا العهد غائبين في وقد الإخبار عنهم. وللعرب في مثل هذه الحكايات وجوه: باعتبار كلام الحاكي، وكلام المحكي عنه، فقد يكون فيه وجهان كالمحكي بالقول في نحو: أقسم زيد لا يفعل كذا، وقد يكون فيه ثلاثة أوجه: كما في قوله تعالى: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل: 49] قرئ بالنون والتاء الفوقية والياء التحتية لنبيتنه لتبيتنه، إذا جعل تقاسموا فعلا ماضيا فإذا جعل أمرا جاز وجهان: في لنبيننه النون والتاء الفوقية. والقول في تصريف وإعراب {لتبيننه} كالقول في {لتبلون} المتقدم قريبا.
وقد أخذ عليهم الميثاق بأمرين: هما الكتاب أي عدم إجمالي معانيه أو تحريف تأوله، وعدم كتمانه أي إخفاء شيء منه. فقوله {وَلا تَكْتُمُونَهُ} عطف على لتنيننه للناس ولم يقرن بنون التوكيد لأنها لا تقارن الفعل المنفي لتنافي مقتضاهما.
وقوله: {فنبذوه} عطف بالفاء الدالة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك، والذين نبذوه هم علماء اليهود في عصورهم الأخيرة القريبة من عهد الرسالة المحمدية، فالتعقيب الذي بين أخذ الميثاق عليهم وبين أخذ الميثاق عليهم وبين نبذهم إياه منظور فيه إلى مبادرتهم عقب الوقت الذي تحقق فيه أخذ الميثاق، وهو وقت تأهل كل واحد من علمائهم لتبيين الكتاب وإعلانه فهو إذا أنس من نفسه المقدرة على فهم الكتاب والتصرف في معانيه بادر باتخاذ تلك المقدرة وسيلة لسوء التأويل والتحريف والكتمان. ويجوز أن تكون الفاء مستعملة في لازم التعقيب، وهو شدة المسارعة لذلك عند اقتضاء الحال والاهتمام به وصرف الفكرة فيه. ويجوز أن يكون التعقيب بحسب الحوادث التي أساءوا التأويل واشتروا بها الثمن القليل، لأن الميثاق لما كان عاما كانت كل جزئية مأخوذا عليها الميثاق، فالجزئية التي لم يعملوا فيها بالميثاق يكون فيها تعقيب ميثاقها بالنبذ الاشتراء.
والنبذ: الطرح والإلقاء، وهو هنا مستعار لعدم العمل بالعهد تشبيها للعهد بالشيء المنبوذ في عدم الانتفاع به.
ووراء الظهور هنا تمثيل الإضاعة والإهمال، لأن شأن الشيء المهتم به المتنافس فيه أن يجعل نصب عينيه ويحرس ويشاهد،. وقال تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]. وشأن الشيء المرغوب عنه أن يستدبر ولا يلتفت إليه، وفي هذا التمثيل ترشيح لاستعارة النبذ لإخلاف العهد.
والضميران: المنصوب والمجرور، يجوز عودهما إلى الميثاق أي استخفوا بعهد الله
وعوضه بثمن قليل، وذلك يتضمن أنهم أهملوا ما واثقوا عليه من تبيين الكتاب وعد كتمانه، ويجوز عودهما إلى الكتاب أي أهملوا الكتاب ولم يعتنوا به، والمراد إهمال أحكامه وتعويض إقامتها بنفع قليل، وذلك يدل على نوعي الإهمال، وهما إهمال آياته وإهمال معانيه.
والاشتراء هنا مجاز في المبادلة والثمن القليل، وهو نا يأخذونه من الرشى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة، وتأويل كل حكم فيه ضرب على أيدي الجبابرة والظلمة بما يطلق أيديهم في ظلم الرعية من ضروب التأويلات الباطلة، وتحذيرات الذين يصدعون المنكر. وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلا أن حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتحاد جنس الحكم والعلة فيه.
{لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [188].
تكملة لأحوال أهل الكتاب المتحدث عنهم ببيان حالة خلقهم بعد أن بين اختلال أمانتهم في تبليغ الدين، وهذا ضرب آخر جاء به فريق آخر من أهل الكتاب فلذلك عبر عنهم بالموصول للتوصل إلى ذكر صلته العجيبة من حال من يفعل الشر والخسة ثم لا يقف عند حد الانكسار لما فعل أو تطلب الستر على شنعته، بل يرتقي فيترتب ثناء الناس على سوء صنعه، ويتطلب المحدة عليه. وقيل: نزلت في المنافقين، والخطاب لكل من يصلح له الخطاب، والموصول هنا بمعنى المعرف بلام العهد لأنه أريد به قوم معينون من اليهود أو المنافقين، فمعنى {يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} أنهم يفرحون بما فعلوا مما تقدم ذكره، وهو نبذ الكتاب والاشتراء به ثمنا قليلا وإنما فرحوا بما نالوا بفعلهم من نفع في الدنيا.
ومعنى: {يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} أنهم يحبون الثناء عليهم بأنهم حفظة الشريعة وحراسها والعالمون بتأويلها، وذلك خلاف الواقع. هذا ظاهر معنى الآية. وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس أنهم أتوا إضلال أتباعهم عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأحبوا الحمد بأنهم علماء بكتب الدين.
وفي البخاري ، عن أبي سعيد الخدري: أنها نزلت في المنافقين، كانوا يتخلفون عن الغزو بالمعاذير، فيقبل منهم النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون أن يحمدوا بأن لهم نية
المجاهدين، وليس الموصول بمعنى لام الاستغراق. وفي البخاري : أن مروان بن الحكم قال لبوابة اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنغذبن أجمعون قال أبن عباس وما لكم ولهذه إنما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فاخبروه بغيره فأروه أنهم قد استحمدوا إليه بما أخبروه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ثم قرأ ابن عباس {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [آل عمران: 187] حتى قوله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا} [آل عمران: 188] الآية.
والمفازة: مكان الفوز. وهو المكان الذي من يحله يفوز بالسلامة من العدو سميت البيداء الواسعة مفازة لأن المنقطع فيها يفوز بنفسه م أعدائه وطلبة الوتر عنده وكانوا يتطلبون الإقامة فيها. قال النابغة:
أو أضع البيت في صماء مظلمة ... تفيد العير لا يسرى بها الساري
تدافع الناس عنا حين نركبها ... من المظالم تدعى أم صبار
ولما كانت المفازة مجملة بالنسبة للفوز الحاصل فيها بين ذلك بقوله: {مِنَ الْعَذَابِ} . وحرف من معناه البدلية، مثل قوله تعالى: {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7]، أو بمعنى عن بتضمين مفازة معنى منجاة.
وقرأ نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو، وأبو جعفر: لا يحسبن الذين يفرحون بالباء التحتية على الغيبة، وقرأه الباقون بتاء الخطاب.
أما سين تحسبن فقرأها بالكسر نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وابوجعفر، ويعقوب. وقرأها بالفتح الباقون.
وقد جاء تركيب الآية على نظم بديع إذ حذف المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول لدلالة ما يدل عليه وهو مفعول {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ} ، والتقدير: لا يحسبن الذين يفرحون الخ أنفسهم. وأعيد فعل الحسبان في قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ} [آل عمران: 188] مسندا إلى المخاطب على طريقة الاعتراض بالفاء وأتى بعده بالمفعول الثاني: وهو {بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ} [آل عمران: 188] فتنازعه كلا الفعلين. وعلى قراءة الجمهور {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} [آل عمران: 188] بتاء الخطاب يكون خطابا لغير معين ليعم كل مخاطب، ويكون قوله: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ} اعتراضا بالفاء أيضا والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم مع ما في حذف
المفعول الثاني لفعل الحسبان الأول، وهو محل الفائدة، من تشويق السامع إلى سماع المنهي عن حسبانه. وقرأ الجمهور فلا تحسبنهم: بفتح الباء الموحدة على أن الفعل لخطاب الواحد؛ وقرأ ابن كير، وأبو عمرو، ويعقوب بضم الباء الموحدة على أنه لخطاب الجمع، وحيث أنهما قرءا أوله بياء الغيبة فضم الياء يجعل فاعل يحسبن ومفعوله متحدين أي لا يحسبون أنفسهم، واتحاد الفاعل والمفعول للفعل الواحد من خصائص أفعال الظن كما هنا وألحقت بها أفعال قليلة، وهي: وجد وعدم وفقد.
وأما سين تحسبنهم فالقراءات مماثلة لما في سين {يحسبن} .
{وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [189].
تذييل بوعيد بدل على أن الله لا يخفى عليه ما يكتمون من خلائقهم.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ[190] الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ[191] رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ[192] رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ[193] رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [194].
هذا غرض أنف بالنسبة لما تتابع من أغراض السورة، انتقل به من المقدمات والمقصد والتخللات بالمناسبات، إلى غرض جديد هو الاعتبار بخلق العوالم وأعراضها والتنويه بالذين يعتبرون بما فيها من آيات.
ومثل هذا الانتقال يكون إيذانا بانتهاء الكلام على أغراض السورة، على تفننها، فقد كان التنقل فيها من الغرض إلى مشاكله وقد وقع الانتقال الآن إلى غرض عام: وهو الاعتبار بخلق السماوات والأرض وحال المؤمنين في الاتعاض بذلك، وهذا النحو في الانتقال يعرض للخطيب ونحوه من أغراضه عقب إيفائها حقها إلى غرض آخر إيذانا بأنه أشرف على الانتهاء، وشأن القرآن أن يختم بالموعظة لأنها أهم أغراض الرسالة، كما وقع في ختام سورة البقرة.
وحرف إن للاهتمام بالخبر.
والمراد بـ {خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} هنا: إما آثار خلقها، وهو النظام الذي جعل فيها، وإما ن يراد بالخلق المخلوقات كقوله تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} [لقمان: 11]. و {أُولُو الْأَلْبَابِ} أهل العقول الكاملة لأن لب الشيء خلاصته. وقد قدمنا في سورة البقرة بيان ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات عند قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ} [البقرة: 164] الخ.
و {يَذْكُرُونَ اللَّهَ} إما من الذكر اللساني وإما من الذكر القلبي وهو التفكير، وأراد بقوله: {قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} عموم الأحوال كقولهم: ضربه الظهر والبطن، وقولهم: اشتهر كذا عند أهل الشرق والغرب، على أن هذه الأحوال هي متعارف أحوال البشر في السلامة، أي أحوال الشغل والراحة وقصد النوم. وقيل: أراد أحوال المصلين: من قادر، وعاجز وشديد العجز. وسياق الآية بعيد عن هذا المعنى.
وقوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} عطف مرادف إن كان المراد بالذكر فيما سبق التفكير، وإعادته لأجل اختلاف المتفكر فيه، أو هو عطف مغاير إذا كان المراد من قوله: {يذكرون} ذكر اللسان. والتفكير عبادة عظيمة. وروى ابن القاسم عن مالك رحمه الله في جامع العتيبة قال: يل لأم الدرداء: ما كان شأن أبي الدرداء? قالت: كان أكثر شأنه التفكير، قيل له: أترى التفكير عملا من الأعمال? قال: نعم، هو اليقين.
{والخلق} بمعنى كيفية أثر الخلق، أو المخلوقات التي في السماء والأرض، فالإضافة إنا على معنى اللام، وإما على معنى في.
وقوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} وما بعده جملة واقعة موقع الحال على تقدير قول: أي يتفكرون قائلين: ربنا الخ لأن هذا الكلام أريد به حكاية قولهم بدليل ما بعده من الدعاء.
فإن قلت: كيف تواطأ الجميع من أولي الألباب على قول هذا التنزيه والدعاء عند التفكير مع اختلاف تفكيرهم وتأثرهم ومقاصدهم. قلت: يحتمل أنهم تلقوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانوا يلازمونه عند التفكر وعقبه، ويحتمل أن الله ألهمهم إياه فصار هجرانهم مثل قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] الآيات. ويدل لذلك حديث ابن عباس في الصحيح قال: بت عند خالتي ميمونة فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح النوم عن وجهه ثم قرأ العشر الآيات من سورة آل عمران إلى آخر الحديث.
ويجوز عندي أن يكون قوله: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} حكاية لتفكرهم في نفوسهم، فهو كلام النفس يشترك فيه جميع المتفكرين لاستوائهم في صحة التفكر لأنه تنقل من معنى إلى متفرع عنه، وقد استوى أولو الألباب المتحدث عنهم هنا في إدراك هذه المعاني، فأول التفكير أنتهج لهم أن المخلوقات لم تخلق باطلا، ثم تفرغ عنه تنزيه الله وسؤاله أن يقيهم عذاب النار، لأنهم رأوا في المخلوقات طائعا وعاصيا، فعلموا أن وراء هذا العالم ثوابا وعقابا، فاستعاذوا أن يكونوا ممن حقت عليه كلمة العذاب.وتوسلوا إلى ذلك بأنهم بذلوا غاية مقدورهم في طلب النجاة إذ استجابوا منادي الإيمان وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، وسالوا غفران الذنوب، وتكفير السيئات، والموت على البر إلى آخره... فلا يكاد أحد من أولي الألباب يخلو من هذه التفكرات وربما زاد عليها، ولما نزلت هذه الآية وشاعت بينهم، اهتدى لهذا التفكير من لم يكن انتبه له من قبل فصار شائعا بين المسلمين بمعانيه وألفاظه.
ومعنى {مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً} أي خلقا باطلا، أو ما خلقت هذا في حال أنه باطل، فهي حال لازمة الذكر في النفي وإن كانت فضلة في الإثبات، كقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} [الدخان: 38] فالمقصود نفي عقائد من يفضي اعتقادهم إلى أن هذا الخلق باطل أو خلي عن الحكمة، والعرب تبني صيغة النفي على اعتبار سبق الإثبات كثيرا.
وجيء بفاء التعقيب في حكاية قولهم: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} لأنه ترتب على العلم بأن هذا الخلق حق، ومن جملة الحق أن لا يستوي الصالح والطالح، والمطيع العاصي، فعلموا أن لكل مستقرا مناسبا فسألوا أن يكونا من أهل الخير المجنبين عذاب النار.
وقولهم: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} مسوق مساق التعليل لسؤال الوقاية من النار، كما تؤذن به إن المستعملة لإرادة الاهتمام إذ لا مقام للتأكيد هنا. والخزي مصدر خزى بمعنى ذل وهان بمرأى من الناس، وأخزاه أذله على رؤوس الأشهاد، ووجه تعليل طلب الوقاية من النار بأن دخولها خزي بعد الإشارة إلى موجبة ذلك الطلب بقولهم {عَذَابَ النَّارِ} أن النار مع ما فيها من العذاب الأليم فيها قهر للمعذب وإهانة علنية، وذلك معنى مستقر في نفوس الناس، ومنه قول إبراهيم عليه السلام {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] وذلك لظهور وجه الربط بين الشرط والجزاء، أي من يدخل النار فقد أخزيته. ولخزي لا تطيقه الأنفس، فلا حاجة إلى تأويل تأولوه على معنى فقد أخزيته
خزيا عظيما. ونظرة صاحب الكشاف بقول رعاة العرب من أرك مرعى الصمان فقد أدرك أي فقد أدرك مرعى لئلا يكون معنى الجزاء ضروري الحصول من الشرط فلا تظهر فائدة لتعليق بالشرط، لأنه يخلي الكلام عن الفائدة حينئذ. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185].
ولأجل هذا أعقبوه بما في الطباع التفادي به عن الخزي والمذلة بالهرع إلى أحلافهم وأنصارهم، فعملوا أن لا نصير في الآخرة للظالم فزادوا بذلك تأكيدا للحرص على الاستعاذة من عذاب النار إذ قالوا: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} أي لأهل النار أنصار تدفع عنهم الخزي.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً} أرادوا به النبي محمدا صلى الله عليه وسلم. والمنادي، الذي يرفع صوته بالكلام. والنداء: رفع الصوت بالكلام رفعا قويا لأجل الإسماع، وهو مشتق من النداء بكسر النون وبضمها وهو الصوت المرتفع. يقال: هو أندى صوتا أي أرفع، فأصل النداء الجهر بالصوت والصياح به، منه سمي دعاء الشخص شخصا ليقبل إليه نداء، لأن من شأنه أن يرفع الصوت به؛ ولذلك جعلوا له حروفا ممدودة مثل يا وآ وأيا وهيا. ومنه سمي الأذان نداء، وأطلق هنا على المبالغة في الإسماع والدعوة وإن لم يكن في ذلك رفع صوت، ويطلق النداء على طلب الإقبال بالذات أو بالفهم بحروف معلومة كقوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} [فصلت: 104، 105] ويجوز أن يكون هو المراد هنا لأن النبي يدعو الناس بنحو: يا أيها الناس ويا بني فلان آوي أمة محمد ونحو ذلك. وسيأتي تفسير معاني النداء عند قوله تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ} في سورة الأعراف [43]. واللام لام العلة، أي لأجل الإيمان بالله.
وأن في {أن آمنوا} تفسيرية لما في فعل ينادي من معنى القول دون حروفه.
وجاءوا بفاء التعقيب في فآمنا: للدلالة على المبادرة والسبق إلى الإيمان، وذلك دليل سلامة فطرتهم من الخطأ والمكابرة، وقد توسموا أن تكون مبادرتهم لإجابة دعوة الإسلام مشكورة عند الله تعالى، فلذلك فرعوا عليه قولهم: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} لما بذلوا كل ما في وسعهم من اتباع الدين كانوا حقيقين بترجي المغفرة.
والغفر والتكفير متقاربان في المادة المشتقين منها إلا أنه شاع الغفر والغفران في العفو عن الذنب والتكفير في تعويض الذنب بعوض، فكأن العوض كفر الذنب أي ستره، ومنه سميت كفارة الإفطار في رمضان. وكفارة الحنث في اليمين إلا أنهم أرادوا بالذنوب
ما كان قاصرا على ذواتهم، ولذلك طلبوا مغفرته،وأرادوا من السيئات ما كان فيه حق الناس، فلذلك سألوا تكفيرها عنهم. وقيل هو مجرد تأكيد، وهو حسن، وقيل أرادوا من الذنوب الكبائر ومن السيئات الصغائر لأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، بناء على الذنب أدل على الإثم من السيئة.
وسألوا الوفاة مع الأبرار، أي أن يموتوا على حالة البر، بأن يلازمهم البر إلى الممات وأن لا يرتدوا على أدبارهم، فإذا ماتوا كذلك ماتوا من جملة الأبرار. فالمعية هنا معية اعتبارية، وهي المشاركة في الحالة الكاملة، والمعية مع الأبرار أبلغ في الاتصاف بالدلالة، لأنه بر يرجى دوامه وتزايده لكون صاحبه ضمن جمع يزيدونه إقبالا على البر بلسان المقال ولسان الحال.
ولما سألوا المثوبة في الدنيا والآخرة ترقوا في السؤال إلى طلب تحقيق المثوبة، فقالوا: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} .
وتحتل كلمة عل أن تكون لتعدية فعل الوعد، ومعناها التعليل فيكون الرسل هم الموعود عليهم، ومعنى الوعد على الرسل أنه وعد على تصديقهم فتعين تقدير مضاف، وتحتمل أن تكون على ظرفا مستقرا، أي وعدا كائنا على رسلك أي، منزلا عليهم، ومتعلق الجار في مثله كون غير عام بل هو كون خاص، ولا ضير في ذلك إذا قامت القرينة، ومعنى على حينئذ الاستعلاء المجازي، أو تعجيل على ظرفا مستقرا حالا من {مَا وَعَدْتَنَا} أيضا، بتقدير كون عام لكن مع تقدير مضاف إلى رسلك، أي على ألسنة رسلك.
والموعود على ألسنة الرسل أو على التصديق بهم الأظهر أنه ثواب الآخرة وثواب الدنيا: لقوله تعالى: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران: 148] وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور: 55] الآية وقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105]. والمراد بالرسل في قوله: {عَلَى رُسُلِكَ} خصوص محمد صلى الله عليه وسلم أطلق عليه وصف رسل تعظيما له لقوله تعالى: {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47]. ومنه قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37].
فإن قلت: إذا كانوا عالمين بأن الله وعدهم ذلك وبأنه لا يخلف الميعاد فما فائدة سؤالهم ذلك في دعائهم? قلت: له وجوه: أحدهما: أنهم سألوا ذلك ليكون حصوله أمارة
على حصول قبول العمال التي وعد الله عليها بما سألوه فقد يظنون أنفسهم آتين بما يبلغهم تلك المرتبة ويخشون لعلهم قد خلطوا أعمالهم الصالحة بما يبطلها، ولعل هذا هو السبب في مجيء الواو في قولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا} دون الفاء إذ جعلوه دعوة مستقلة لتحقق سببها، ولم يجعلوها نتيجة فعل مقطوع بحصوله، ويدل لصحة هذا التأويل قوله بعد: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 195] مع أنهم لم يطلبوا هنا عدم إضاعة أعمالهم.
الثاني: قال في الكشاف : أرادوا التوفيق إلى أسباب ما وعدهم الله على رسله. فالكلام مستعمل كناية عن سبب ذلك من التوفيق الأعمال الموعود عليها.
الثالث: قال فيه ما حاصله: أن يكون هذا من باب الأدب مع الله حتى لا يظهروا بمظهر المستحق لتحصيل الموعود به تذللا، أي كسؤال الرسل عليهم السلام المغفرة وقد علموا أن الله غفر لهم.
الرابع: أجاب القرافي في الفرق 273 بأنهم سألوه ذلك لأن حصوله مشروط بالوفاة على الإيمان، وقد يؤيد هذا بأنهم قدموا قبله قولهم: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} لكن هذا الجواب يقتضي قصر الموعود به على ثواب الآخرة، وأعادوا سؤال النجاة من خزي يوم القيامة لشدته عليهم.
الخامس: أن الموعود الذي سألوه النصر على العدو خاصة، فالدعاء بقولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} مقصود منه تعجيل ذلك لهم، يعني أن الوعد كان لمجموع الأمة، فكل واحد إذا دعا بهذا فإنما يعني أن يجعله الله ممن يرى مصداق وعد الله تعالى خشية أن يفوقهم. وهذا كقول خباب ابن الأرت: هاجرنا مع النبي نلتمس وجه الله تعالى فوقع أجرنا على الله فمننا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، ومنا من مات لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم نجد له ما نكفنه إلا بردة الخ.
وقد ابتدأوا دعائهم وخللوه بندائه تعالى: خمس مرات إظهار للحاجة إلى إقبال الله عليهم. وعم جعفر بن محمد رضي الله عنه من حز به أمر فقال: يا رب خمس مرات أنجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد، واقرأوا: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً} إلى قوله: {إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} .
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ
مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [195].
دلت الفاء على سرعة الإجابة بحصول المطلوب، ودلت على أن مناجاة العبد ربه بقلبه ضرب من ضروب الدعاء قابل للإجابة.
واستجاب بمعنى أجاب عند جمهور أئمة اللغة، فالسين والتاء للتأكيد، مثل: استوقد واستخلص. وعن القراء، وعلي بن عيسى الربعي: أن استجاب أخص من أجاب لأن استجاب يقال لمن قبل ما دعي إليه، وأجاب أعم، فيقال لمن أجاب بالقبول بالرد. وقال الراغب: الاستجابة هي التحري للجواب والتهيؤ له، لكن عبر به عن الإجابة لقلة انفكاكها منه. ويقال: استجاب له واستجابه، فعدي في الآية بالأم، كما قالوا: حمد له وشكر له، ويعدى بنفسه أيضا مثلها. قال كعب بن سعد الغنوي، يرثي قريبا له:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب
وتعبيرهم في دعائهم بوصف {ربنا} دون أسم الجلالة لما في وصف الربوبية من الدلالة على الشفقة بالمربوب، ومحبة الخير له، ومن الاعتراف بأنهم عبيده ولتتأتى الإضافة المفيدة التنشريف والقرب، ولرد حسن دعائهم بمثله بقولهم ربنا، ربنا.
ومعنى نفي إضاعة عملهم نفي إلغاء الجزاء عنه: جعله كالضائع غير الحاصل في يد صاحبه.
فنفي إضاعة العمل بالاعتداد بعلمهم وحسبانه لهم، فقد تضمنت الاستجابة تحقيق عدم إضاعة العمل تطمينا لقلوبهم من وجل عدم القبول، وفي هذا دليل على أنهم أرادوا في قولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} تحقيق قبول أعمالهم والاستعاذة من الحبط.
وقوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بيان لعامل ووجه الحاجة إلى هذا البيان هنا أن الأعمال التي أتوا بها أكبرها الإيمان، ثم الهجرة، ثم الجهاد، ولما كان الجهاد أكثر تكررا خيف أن يتوهم أن النساء لاحظ لهن في ذلك فهن في الإيمان والهجرة يساوين الرجال، وهن لهن حظهن في ثواب الجهاد لأنهن يقمن على المرضى ويداوين الكلمى، ويسقين
الجيش، وذلك عمل عظيم به استبقاء نفوس المسلمين، فهو لا يقصر عن القتال الذي بع إتلاف نفوس عو المؤمنين.
وقوله: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} من فيه اتصالية أي بعض المستجاب لهم متصل ببعض، وهي كلمة تقولها العرب بمعنى أن شأنهم واحد وأمرهم سواء. قال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} [التوبة: 67] الخ... وقولهم: هو مني وأنا منه، وفي عكسه يقولون كما قال النابغة:
فإني لست منك ولست مني
وقد حملها جمهور المفسرين على معنى أن نساءكم ورجالكم يجمعهم أصل واحد، وعلى هذا فموقع هذه الجملة موقع التعليل للتعميم في قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} أي لأن شأنكم واحد. وكل قائم بما لو لم يقم بع لضاعت مصلحة الآخر، فلا جزم أن كانوا سواء في تحقيق وعد الله إياهم، وإن اختلفت أعمالهم وهذا كقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32].
والأظهر عندي أن ليس هذا تعليلا لمضمون قوله: {مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} بل هو بيان للتساوي في الأخبار المتعلقة بضمائر المخاطبين أي أنتم في عنايتي بأعمالكم سواء، وهو قضاء لحق ما لهم من الأعمال الصالحة المتساوين فيها، ليكون تمهيدا لبساط تمييز المهاجرين بفضل الهجرة الآتي في قوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} ، الآيات.
وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا} تفريع عن قوله: {لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ} وهو من ذكر الخاص بعد العام للاهتمام بذلك الخاص، واشتمل على بيان ما تفضلوا فيه العمل، وهو الهجرة التي فاز بها المهاجرون.
والمهاجرة: هي ترك الموطن بقصد استيطان غيره، والمفاعلة فيها للتقوية كأنه هجر قومه وهجروه لأنهم لم يحصروا على بقائه، وهذا أصل المهاجرة أن تكون لمنافرة ونحوها، وهي تصديق بهجرة الذين هاجروا إلى بلاد الحبشة وبهجرة الذين هاجروا إلى المدينة.
وعطف قوله: {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} على {هاجروا} لتحقيق معنى المفاعلة في هاجر أي هاجروا مهاجرة لزهم إليها قومهم، سواء كان الإخراج بصريح القول أن بالإلجاء، من جهة سوء المعاملة، ولقد هاجر المسلمون الهجرة الأولى إلى الحبشة لما
لاقوه من سوء معاملة المشركين، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هجرته إلى المدينة والتحق به المسلمون كلهم، لما لاقوه من أذى المشركين. ولا يوجد ما يدل على أن المشركين أخرجوا المسلمين، وكيف واختفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجه إلى المدينة يدل على حرص المشركين على صده عن الخروج، ويدل لذلك أيضا قول كعب:
في فتية من قريش قال قائلهم ... ببطن مكة لما أسلموا زولوا
أي قال قائل من المسلمين اخرجوا من مكة، وعليه فكل ما ورد مما فيه أنهم أخرجوا من ديارهم بغير حق فتأويله أنه الإلجاء إلى الخروج، ومنه قول ورقة ابن نوفل يا ليتني أكونة معك إذ يخرجك قومك، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له "أو مخرجي هم?" فقال: ما جاء نبي بمثل ما جئت به إلا عودي. وقوله: {وََأُوذُوا فِي سَبِيلِي} أي أصابهم الأذى وهو مكروه قليل من قول أو فعل وفهم منه أن من أصابهم الضر أولى بالثواب وأوفى. وهذه حالة تصديق بالذين أوذوا قبل الهجرة وبعدها.
وقوله: {وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} جمع بينهما الإشارة إلى أن للقسمين ثوابا. وقرأ الجمهور: وقاتلوا وقتلوا وقرأ حمزة. والكسائي، وخلف: وقتلوا وقاتلوا عكس قراءة الجمهور ومآل القراءتين واحد، وهذه حالة تصديق على المهجرين والأنصار من الذين جاهدوا فاستشهدوا أو بقوا. وقوله: {لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} الخ مؤكد بلام القسم. وتكفير السيئات تقدم السيئات تقدم آنفا.
{لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ[196] مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ[197] لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [198].
اعتراض في أثناء هذه الخاتمة، نشأ عن قوله: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ} [آل عمران: 195] باعتبار ما يتضمنه عدم إضاعة العمل كم الجزاء عليه جزاء كاملا في الدنيا والآخرة، وما يستلزمه ذلك من حرمان الذين لم يستجيبوا لداعي الإيمان وهم المشركون، وهم المراد بالذين كفروا كما هو مصطلح القراء.
والخطاب لغير معين ممن يتوهم أن يغره حسن حال المشركين في الدنيا.
والغرر والغرور: الإطماع في أمر محبوب على نية عدم وقوعه، أو إظهار الأمر المضر في صورة النافع، وهو مشتق من الغرة بكسر الغين وهي الغفلة، ورجل غر
بكسر الغين إذا كان ينخدع لمن خادعه. وفي الحديث المؤمن غر كريم أي يظن الخير بأهل الشر إذا أظهروا له الخير.
وهو هنا مستعار لظهور الشيء في مظهر محبوب، وهو في العاقبة مكروه.
وأسند فعل الغرور إلى التقلب لأن التقلب سببه، فهو مجاز عقلي، والمعنى لا ينبغي أن لا يغرك. ونظيره لا يفتننكم الشيطان ولا ناهية لأن نون التوكيد لا تجيء مع النفي.
وقرأ الجمهور: لا يغرنك بتشديد الراء وتشديد النون وهي نون التوكيد الثقيلة، وقرأها رويس عن يعقوب بنون ساكنة، وهي نون التوكيد الخفيفة.
والتقلب: تصرف على حسب المشيئة في الحروب والتجارات والغرس ونحو ذلك، قال تعالى {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} [غافر: 4].
والبلاد: الأرض، والمتاع: الشيء الذي يشتري للتمتع به.
وجملة {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} إلى آخرها بيان لجملة {لا يغرنك} . والمتاع: المنفعة العاجلة، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} [آل عمران: 185].
وجملة {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} إلى آخرها افتتحت بحرف الاستدراك لأن مضمونها ضد الكلام الذي قبلها لأن معنى {لا يغرنك} الخ وصف ما هم فيه بأنه متاع قليل، أي غير دائم، وأن المؤمنين المتقين لهم منافع دائمة.
وقرأ الجمهور: بتخفيف النون ساكنة مخففة من الثقيلة وهي مهملة، وقرأه أبو جعفر بتشديد النون مفتوحة وهي عاملة عمل إن.
والنزل بضم النون والزاي وبضمنها مع سكون الزاي ما يعد للنزيل والضيف من الكرامة والقرى، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 31، 32].
والأبرار جمع البر وهو الموصوف بالمبرة والبر، وهو حسن العمل ضد الفجور.
{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ
خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [199].
عطف على جملة {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} [آل عم ران: 198] استكمالا لذكر الفرق في تلقى الإسلام: فهؤلاء فريق الذين آمنوا من أهل الكتاب ولم يظهروا إيمانهم لخوف قومهم مثل النجاشي أصحمة، وأثنى الله عليهم بأنهم لا يحرفون الدين، والآية مؤذنة بأنهم لم يكونوا معروفين بذلك لأنهم لو عرفوا بالإيمان لما كان من فائدة في وصفهم بأنهم من أهل الكتاب، وهذا الصنف بعكس حال المنافقين. وأكيد الخبر بإن وبلام الابتداء للرد على المنافقين الذين قالوا لرسول الله لما صلى على النجاشي: انظروا إليه يصلي على نصراني ليس على دينه ولم يره قط. على ما روي عن ابن عباس وبعض أصحابه أن ذلك سبب نزول هذه الآية. ولعل وفاة النجاشي حصلت قبل غزوة أحد.
وقيل: أريد بهم هنا من أظهر إيمانه وتصديقه من اليهود مثل عبد الله بن سلام ومخيرق، وكذا من آمن من نصارى نجران أي الذين أسلموا ورسول الله بمكة إن صح خبر إسلامهم.
وجيء باسم الإشارة في قوله: {أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} للتنبيه على أن المشار إليهم به أحرياء بما سيرد من الإخبار عنهم لأجل ما تقدم اسم الإشارة.
وأشار بقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} إلى أنه يبادر لهم بأجرهم في الدنيا ويجعله لهم يوم القيامة.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [200].
ختمت السورة بوصاية جامعة للمؤمنين تجدد عزيمتهم وتبعث الهمم إلى دوام الاستعداد للعدو كي لا يثبطهم ما حصل من الهزيمة، فأمرهم بالصبر الذي هو جماع الفضائل وخصال الكمال، ثم بالمصابرة وهي الصبر في وجه الصابر، وهذا أشد الصبر ثباتا في النفس وأقربه إلى التزلزل، وذلك أن الصبر في وجه صابر آخر شديد على نفس الصبر لما يلاقيه من مقاومة قرن له في الصبر قد يساويه فإنه لا يجتني من صبره شيئا، لأن نتيجة الصبر تكون لأطول الصابرين صبرا، كما قال زفر بن الحارث في اعتذاره عن الانهزام:
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
فالمصابرة هي سبب نجاح الحرب كما قال شاعر العرب الذي لم يعرف اسمه:
هل أنت في الهيجا مصابرة ... يصلى بها كل من عاداك نيرانا
وقوله: {ورابطوا} أمر لهم بالمرابطة، وهي مفاعلة من الربط، وهو ربط الخيل للحراسة عن غير الجهاد خشية أن يفجأهم العدو، أمر الله به المسلمين ليكونوا دائما على حذر من عدوهم تنبيها لهم على ما يكبد به المشركون من مفاجاتهم على غرة بعد وقعة أحد كما قدمناه آنفا، وقد وقع ذلك منهم في وقعة الأحزاب فلما أمرهم الله بالجهاد أمرهم بأن يكونوا بعد ذلك أيقاظا من عدوهم. وفي كتاب الجهاد من البخاري : باب فضل رباط يوم في سبيل الله وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} الخ. وكانت المرابطة معروفة في الجاهلية وهي ربط الفرس للحراسة في الثغور أي الجهات التي يستطيع العدو الوصول منها إلى الحي مثل الشعاب بين الجبال. وما رأيت من وصف ذلك مثل لبيد في معلقته إذ قال:
ولقد حميت الحي تحميل شكتي ... فرط وشاحي إذ غدوت لجامها
فعلوت مرتقبا على ذي هبوة ... حرج إلى إعلامهن قتامها
حتى إذا ألفت يدا في كافر ... واجن عورات الثغور ظلامها
فذكر انه حرس الحي على مكان مرتقب، أي عال بربط فرسه في الثغر.وكان المسلمون يرابطون في ثغور بلاد فارس والشام والأندلس في البر، ثم لما اتسع سلطان الإسلام وامتلكوا البحار صار الرباط في ثغور البحار وهي الشطوط التي يخشى نزول العدو منها: مثل رباط المنستير بتونس بإفريقية، رباط سلا بالمغرب، وربط تونس ومحارسها: مثل محروس علي بن سالم قرب صفاقس. فأمر الله بالرباط كما أمر بالجهاد بهذا المعنى. وقد خفي على بعض المفسرين فقال بعضهم: أراد بقوله: {ورابطوا} إعداد الخيل مربوطة للجهاد، قال: ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم غزو في الثغور. وقال بعضهم: أراد بقوله: {ورابطوا} انتظار الصلاة بعد الفراغ من التي قبلها، لما روى مالك في الموطأ ، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة، وقال: "فذلكم الرباط، فذلكم الرباط". ونسب هذا لأبي سلمة بن عبد الرحمان. قال ابن عطية: والحق أن معنى هذا الحديث على التشبيه، كقوله "ليس الشديد بالصرعة" وقوله "ليس المسكين بهذا الطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان"، أي وكقوله صلى الله عليه وسلم "رجعنا من
الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".
وأعقب هذا الأمر بالأمر بالتقوى لأنها جماع الخيرات وبها يرجى الفلاح.
المجلد الرابع
سورة النساء...
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة النساء
سميت هذه السورة في كلام السلف سورة النساء؛ ففي صحيح البخاري عن عائشة قالت ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده. وكذلك سميت في المصاحف وفي كتب السنة وكتب التفسير، ولا يعرف لها أسم آخر، لكن يؤخذ مما روي في صحيح البخاري عن ابن مسعود من قوله لنزلت سورة النساء القصرى يعني سورة الطلاق أنها شاركت هذه السورة في التسمية الطولى، ولم أقف عيه صريحا. ووقع كتاب بصائر ذوي خبرة التمييز للفيروز أبادي أن هذه السورة تسمى سورة النساء الكبرى، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى. ولم أره لغيره1.
ووجه تسميتها بإضافة إلى النساء أنها افتتحت بأحكام صلة الرحم، ثم بأحكام تخص النساء، وأن بها أحكاما كثيرة من أحكام النساء: الأزواج، والبنات،وختمت بأحكام تخص النساء.
وكان ابتداء نزولها بالمدينة، لما صح عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة البقرة وسورة النساء إلا وأنا عنده. وقد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم بنى بعائشة في المدينة في شوال، لثمان أشهر خلت من الهجرة، واتفق العلماء على أن سورة النساء نزلت بعد البقرة، فتعين أن يكون نزولها متأخرا عن الهجرة بمدة طويلة. والجمهور قالوا: نزلت بعد آل عمران، ومعلوم أن آل عمران نزلت في خلال ثلاث أي بعد أحد، فيتعين أن تكون سورة النساء نزلت بعدها. وعن ابن عباس: أن أول ما نزل بالمدينة سورة البقرة، ثم الأنفال ثم
ـــــــ
1 صفحة 169 جزء 1 مطابع شركة الإعلانات الشرقية بالقاهرة سنة 1384.
آل عمران، ثم سورة الأحزاب، ثم الممتحنة، ثم النساء، فإذا كان كذلك تكون سورة النساء نازلة بعد الأحزاب التي هي في أواخر سنة أربع أو أول سنة خمس من الهجرة، وبعد صلح الحديبية الذي هو في سنة ست حيث تضمنت سورة الممتحنة شرط إرجاع من يأتي المشركين هاربا إلى المسلمين عدا النساء، وهي آية {إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة:10] الآية. وقد قيل: إن آية {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] نزلت في رجل من غطفان له ابن أخ له يتيم، وغطفان أسلموا بعد وقعة الأحزاب، إذ هم من جملة الأحزاب، أي بعد سنة خمس. ومن العلماء من قال: نزلت سورة النساء عند الهجرة. وهو بعيد. وأغرب منه من قال: إنها نزلت بمكة لأنها افتتحت ب يا أيها الناس، وما كان يا أيها الناس فهو مكي، ولعله يعني أنها نزلت بمكة أيام الفتح لا قبل الهجرة لأنهم يطلقون المكي بإطلاقين. وقال بعضهم: نزل صدرها بمكة وسائرها بالمدينة. والحق أن الخطاب ب يا أيها الناس لا يدل إلا على إرادة دخول أهل مكة في الخطاب، ولا يلزم أن يكون ذلك بمكة، ولا قبل الهجرة، فإن كثيرا مما فيه يا أيها الناس مدني بالاتفاق. ولا شك في أنها نزلت بعد آل عمران لأن في سورة النساء من تفاصيل الأحكام ما شأنه أن يكون بعد استقرار المسلمين بالمدينة، وانتظام أحواله وأمنهم من أعدائهم. وفيها آية التيمم، والتيمم شرع يوم غزوة المريسيع سنة خمس، وقيل: سنة ست. فالذي يظهر أن نزول سورة النساء كان في حدود سنة سبع وطالت مدة نزولها، ويؤيد ذلك أن كثيرا من الأحكام التي جاءت فيها مفصلة تقدمت مجملة في سورة البقرة من أحكام الأيتام والنساء والمواريث، فمعظم ما في سورة النساء شرائع تفصيلية في معظم نواحي حياة المسلمين الاجتماعية من نظم الموال والمعاشرة والحكم وغير ذلك، على أنه قد قيل: إن آخر آية منها، آية الكلالة، هي آخر آية نزلت من القرآن، على أنه يجوز أن يكون بين نزول سائر سورة النساء وبين نزول آية الكلالة، التي في آخرها مدة طويلة، وأنه لما نزلت آية الكلالة الأخيرة أمروا بإلحاقها بسورة النساء التي فيها الآية الأولى. ووردت في السنة تسمية آية الكلالة الأولى آية الشتاء، وآية الكلالة الأخيرة آية الصيف. ويتعين ابتداء نزولها قبل فتح مكة لقوله تعالى {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75] يعني مكة. وفيها آية {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] نزلت يوم فتح مكة في قصة عثمان بن طلحة الشيبي، صاحب مفتاح الكعبة، وليس فيها جدال مع المشركين سوى تحقير دينهم، نحو قوله {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً
عَظِيماً} {فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} الخ، وسوى التهديد بالقتال، وقطع معذرة المتقاعدين عن الهجرة. وتوهين بأسهم عن المسلمين، مما يدل على أن أمر المشركين قد صار إلى وهن، وصار المسلمون في قوة عليهم، وأن معظمها، بعد التشريع، جدال كثير مع اليهود وتشويه لأحوال المنافقين، وجدال مع النصارى ليس بكثير، ولكنه أوسع مما في سورة آل عمران، مما يدل على أن مخاطبة المسلمين للنصارى أخذت تظهر بسبب تفشي الإسلام في تخوم الحجاز الشامية لفتح معظم الحجاز وتهامة.
وقد عدت الثالثة والتسعين من السور، نزلت بعد سورة الممتحنة وقبل سورة {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلت:1].
وعدد آيها مائة وخمس وسبعون في عدد أهل المدينة ومكة والبصرة، ومائة وست وسبعون في عدد أهل الكوفة، ومائة وسبع وسبعون في عدد أهل الشام.
وقد اشتملت على أغراض وأحكام كثيرة أكثرها تشريع معاملات الأقرباء وحقوقهم، فكانت فاتحتها مناسبة لذلك بالتذكير بنعمة خلق الله، وأهم محقوقون بأن يشكروا ربهم على ذلك، وأن يراعوا حقوق النوع الذي خلقوا منه، بأن يصلوا أرحامهم القريبة والبعيدة، وبالرفق بضعفاء النوع من اليتامى، ويراعوا حقوق صنف النساء من نوعهم بإقامة العدل في معاملاتهن، والإشارة إلى النكاح والصداق، وشرع قوانين المعاملة مع النساء في حالتي الاستقامة والانحراف من كلا الزوجين، ومعاشرتهن والمصالحة معهن، وبيان ما يحل للتزوج منهن، والمحرمات بالقرابة أو الصهر، وأحكام الجواري بملك اليمين. وكذلك حقوق مصير المال إلى القرابة، وتقسيم ذلك، وحقوق حفظ اليتامى في أموالهم وحفظها لهم والوصاية عليهم.
ثم أحكام المعاملات بين جماعة المسلمين في الأموال والدماء وأحكام القتل عمدا وخطأ، وتأصيل الحكم الشرعي بين المسلمين في الحقوق والدفاع عن المعتدى عليه، والأمر بإقامة العدل بدون مصانعة، والتحذير من اتباع الهوى، والأمر بالبر، والمواساة، وأداء الأمانات، والتمهيد لتحريم شرب الخمر.
وطائفة من أحكام الصلاة، والطهارة، وصلاة الخوف. ثم أحوال اليهود، لكثرتهم بالمدينة، وأحوال المنافقين وفضائحهم، وأحكام الجهاد لدفع شوكة المشركين. وأحكام معاملة المشركين ومساويهم، ووجوب هجرة المؤمنين من مكة، وإبطال مآثر الجاهلية.
وقد تخلل ذلك مواعظ وترغيب، ونهي عن الحسد، وعن تمني ما للغير من المزايا التي حرم منها من حرم بحكم الشرع، أو بحكم الفطرة. والترغيب في التوسط في الخير والإصلاح. وبث المحبة بين المسلمين.
{يََا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [1].
{يََا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً}
جاء الخطاب بيا أيها الناس: ليشمل جميع أمة الدعوة الذين يسمعون القرآن يومئذ وفيما يأتي من الزمان. فضمير الخطاب في قوله {خلقكم} عائد إلى الناس المخاطبين بالقرآن، أي لئلا يختص بالمؤمنين إذ غير المؤمنين حينئذ هم كفار العرب وهم الذين تلقوا دعوة الإسلام قبل جميع البشر لأن الخطاب جاء بلغتهم، وهم المأمورون بالتبليغ لبقية الأمم، وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتبه للروم وفارس ومصر بالعربية لتترجم لهم بلغاتهم. فلما كان ما بعد هذا النداء جامعا لما يؤمر به الناس بين مؤمن وكافر، نودي جميع الناس، فدعاهم الله إلى التذكر بأن أصلهم واحد، إذ قال {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} دعوة تظهر فيها المناسبة بين وحدة النوع ووحدة الاعتقاد، فالمقصود من التقوى في {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} اتقاء غضبه، ومراعاة حقوقه، وذلك حق توحيده والاعتراف له بصفات الكمال، وتنزيه عن الشركاء في الوجود والأفعال والصفات.
وفي هذه الصلة براعة استهلال مناسبة لما اشتملت عليه السورة من الأغراض الأصلية، فكانت بمنزلة الديباجة.
وعبر بربكم، دون الاسم العالم، لأن في معنى الرب ما يبعث العباد على الحرص في الإيمان بوحدانيته، إذ الرب هو المالك الذي يرب مملوكه أي، يدبر شؤونه، وليتأتى بذكر لفظ الرب طريق الإضافة الدالة على أنهم محقوقون بتقواه حق التقوى، والدالة على أن بين الرب والمخاطبين صلة تعد إضاعة حماقة وضلالا. وأما التقوى في قوله {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} فالمقصد الأهم منها: تقوى المؤمن بالحذر من التساهل في حقوق الأرحام واليتامى من النساء والرجال. ثم جاء باسم الموصول {الَّذِي خَلَقَكُمْ} الإيمان إلى وجه بناء الخير لأن الذي خلق الإنسان حقيق بأن يتقى.
ووصل {خلقكم} بصلة {مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إدماج للتنبيه على عجيب هذا الخلق وحقه بالاعتبار. وفي الآية تلويح للمشركين بأحقية اتباعهم دعوة الإسلام، لأن الناس أبناء أب واحد، وهذا الدين يدعو الناس كلهم إلى متابعته ولم يخص أمة من الأمم أو نسبا من الأنساب، فهو جدير بأن يكون دين جميع البشر، بخلاف بقية الشرائع فهي مصرحة باختصاصها بأمم معينة. وفي الآية تعريض للمشركين بأن أولى الناس بأن يتبعوه هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من ذوي رحمهم. وفي الآية تمهيد لما سيبين في هذه السورة من الأحكام المرتبة على النسب والقرابة.
والنفس الواحدة: هي آدم. والزوج: حواء، فإن حواء أخرجت من آدم من ضلعه، كما يقتضيه ظاهر قوله {منها} .
ومن تبعيضية. ومعنى التبغيض أن حواء خلقت من جزء من آدم. قيل: من بقية الطينة التي خلق منها آدم. وقيل: فصلت قطعة من ضلعه وهو ظاهر الحديث الوارد في الصحيحين.
ومن قال: إن المعنى وخلق منها زوجها من نوعها لم يأت بطائل، لأن ذلك لا يختص بنوع الإنسان فإن انثنى كل نوع هي من نوعه.
يخلق هذا الخلق العجيب جدير بأن يتقى، ولأن في معاني هذه لبصلات زيادة تحقيق اتصال الناس بعضهم ببعض، إذ الكل من أصل واحد، وإن كان خلقهم ما حصل إلا من زوجين فكل أصل من أصولهم ينتمي إلى أصل فوقه.
وقد حصل من ذكر هذه الصلات تفصيل لكيفية خلق الله الناس من نفس واحدة. وجاء الكلام على هذا النظم توفية بمقتضى الحال الداعي الإتيان باسم الموصول، ومقتضى الحال الداعي لتفصيل حالة الخلق العجيب. ولو غير هذا الأسلوب فجيء بالصورة المفصلة دون سبق إجمال، فقيل: الذي خلقكم من نفس واحدة وبث منها رجالا كثيرا ونساء لفاتت الإشارة إلى الحالة العجيبة. وقد ورد في الحديث: "أن حواء خلقت من ضلع آدم" ، فلذلك يكون حرف من في قوله {وَخَلَقَ مِنْهَا} للابتداء، أي أخرج خلق حواء من ضلع آدم. والزوج هنا أريد به الأنثى الأولى التي تناسل منها البشر، وهي حواء. وأطلق عليها اسم الزوج لأن الرجل يكون منفردا فإذا اتخذ امرأة فقد صار زوجا
في بيت، فكل واحد منهما زوج للآخر بهذا الاعتبار، وإن كان أصل لفظ الزوج أن يطلق على مجموع الفردين، فإطلاق الزوج على كل واحد من الرجل والمرأة المتعاقدين تسامح صار حقيقة، عرفية، ولذلك استوى الرجل والمرأة لأنه من الوصف بالجامد، فلا يقال للمرأة زوجة، ولم يسمع في فصيح الكلام، ولذلك عده بعض أهل اللغة لحنا. وكان الأصمعي ينكره أشد الإنكار. قيل له: فقد قال ذو الرمة:
أذو زوجة أم ذو خصومة
...
أراك لها بالبصرة العام ثاويا
فقال: إن الرمة أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين، يريد أنه مولده.
وقال الفرزدق:
وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي
...
كساع إلى أسد الشرى يستبيلها
وشاع ذلك في كلام الفقهاء، قصدوا به التفرقة بين الرجل والمرأة عند ذكر الأحكام، وهي تفرقة حسنة. وتقدم عند قوله تعالى {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} في سورة البقرة [35].
وقد شمل قوله {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} العبرة بهذا الخلق العجيب الذي أصله واحد، ويخرج هو مختلف الشكل والخصائص، والمنة على الذكران بخلق النساء لهم، والمنة على النساء بخلق الرجال لهم، ثم من على النوع بنعمة النسل في قوله {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} مع ما في ذلك من الاعتبار بهذا التكوين العجيب.
والبث: النشر والتفريق للأشياء الكثيرة قال تعالى {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة:4].
ووصف الرجال، وهو جمع، بكثير، وهو مفرد، لأن كثير يستوي فيه المفرد والجمع، وقد تقدم في قوله تعالى {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} في سورة آل عمران [146] البث من الكثرة.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [1].
شروع في التشريع المقصود من السورة، وأعيد فعل {اتقوا} : لأن هذه التقوى مأمور بها المسلمون خاصة، فإنهم قد بقيت فيهم بقية من عوائد الجاهلية لا يشعرون بها،
وهي التساهل في حقوق الأرحام والأيتام.
واستحضر أسم الله العلم هنا دون ضمير يعود إلى ربكم لإدخال الروع في ضمائر السامعين. لأن المقام مقام تشريع يناسبه إيثار المهابة بخلاف مقام قوله {اتَّقُوا رَبَّكُمُ} فهو مقام ترغيب. ومعنى {تَسَاءَلُونَ بِهِ} يسأل بعضكم بعضا به في القسم فالمسائلة به تؤذن بمنتهى العظمة، فكيف لا تتقونه.
وقرأ الجمهور {تساءلون} بتشديد السين لإدغام التاء الثانية، وهي تاء التفاعل في السين، لقرب المخرج واتحاد الصفة، وهي الهمس. وقرأ حمزة، وعاصم، والكسائي، وخلف: تساءلون بتخفيف السين على أن تاء الافتعال حذفت تخفيفا.
{والأرحام} قرأه الجمهور بالنصب عطفا على أسم الله. وقرأه حمزة بالجر عطفا على الضمير المجرور. فعلى قراءة الجمهور يكون الأرحام مأمورا بتقواها على المعنى المصدري أي اتقائها، وهو على حذف مضاف، أي اتقاء حقوقها، فهو من استعمال المشرك في معنييه، وعلى هذه القراءة فالآية ابتداء تشريع وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} وعلى قراءة حمزة يكون تعظيما لشأن الأرحام أي التي يسأل بعضكم بعضا بها، وذلك قول العرب ناشدتك الله والرحم كما روي في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قرأ على عتبة بن ربيعة سورة فصلت حتى بلغ {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] فأخذت عتبة رهبة وقال: ناشدتك الله والرحم. وهو ظاهر محمل هذه الرواية وإن أباه جمهور النحاة استعظاما لعطف الاسم على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، حتى قال المبرد لو قرأ الإمام بهاته القراءة لأخذت نعلي وخرجت من الصلاة وهذا من ضيق العطن وغرور بأن العربية منحصرة فيما يعلمه، ولقد أصاب مالك في تجويزه العطف على المجرور بدون إعادة الجار، فتكون تعريضا بعوائد الجاهلية، إذ يتساءلون بينهم بالرحم وأواصر القرابة ثم يهملون حقوقها ولا يصلونها، ويعتدون على الأيتام من إخوتهم وأبناء أعمامهم، فناقضت أفعاله، وأيضا هم آذوا النبي صلى الله عليه وسلم وظلموه، وهو من ذوي رحمهم وأحق الناس بصلتهم كما قال تعالى {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} [التوبة:128] وقال {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ} [آل عمران:164]. وقال {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23]. وعلى قراءة حمزة يكون معنى الآية تتمة لمعنى التي قبلها.
[2] {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الخبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً}.
مناسبة عطف المر على ما قبله أنه من فروع تقوى الله في حقوق الأرحام، لأن المتصرفين في أموال اليتامى في غالب الأحوال هم أهل قرابتهم، أومن فروع تقوى الله الذي يتساءلون به والأرحام فيجعلون الأرحام من الحظ ما جعلهم يقسمون بها كما يقسمون بالله. وشيء هذا شأنه حقيق بأن تراعى أواصره ووشائجه وهم لم يرقبوا ذلك. وهذا مما أشار إليه قوله تعالى {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ....} [النساء:1]
والإيتاء حقيقته الدفع والإعطاء الحسي، ويطلق على تخصيص الشيء بالشيء مجعله حقا له، مثل إطلاق الإعطاء في قوله تعالى {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] وفي الحديث "رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها".
واليتامى جمع يتيم وجمع يتيمة، فإذا جمعت به يتيمة فهو فعائل أصله يتائم، فوقع فيه قلب مكاني فقالوا يتامىء ثم خفقوا الهمزة فصارت ألفا وحركت الميم بالفتح، وإذا جمع به يتيم فهو إما جمع الجمع بأن جمع أولا على يتمى، كما قالوا: أسير وأسرى، ثم جمع يتامى مثل أسارى بفتح الهمزة، أو جمع فغيل على فعائل لكونه صار اسما مثل أفيل وأفائل، ثم صنع به من القلب ما ذكرناه آنفا. وقد نطقت العرب بجمع يتيمة على يتائم، وبجمع فعيل على فعائل في قول بشر النجدي:
أأطلال حسن في البراق التائم
...
سلام على أطلالهن القدائم
واستقاق اليتيم من الانفراد، ومنه الدرة اليتيمة أي المنفردة بالحسن، وفعله من باب ذرب وهو قاصر، وأطلقه العرب على من فقد أبوه في حال صغره كأنه بقي منفردا لا يجد من يدفع عنه، ولم يعتد العرب بفقد الأم في إطلاق وصف اليتيم إذ لا يعدم الولد كافلة، ولكنه يعدم بفقد أبيه من يدافع عنه وينفقه. وقد ظهر مما راعوه في الاشتقاق أن الذي يبلغ الرجال لا يستحق أن يسمى يتيما إذ قد بلغ الدفع عن نفسه، وذلك هو إطلاق الشريعة لاسم اليتيم، والأصل عدم النقل.
وقيل: هو في اللغة فقد أبوه، ولو كان كبيرا، أو كان صغيرا وكبر، ولا أحسب هذا الإطلاق صحيحا. وقد أريد باليتامى هنا ما يشمل الذكور والإناث وغلب في ضمير
التذكير في قوله {أموالهم}.
وظاهر الآية الأمر بدفع المال لليتيم، ولا يجوز في حكم الشرع أن يدفع المال له ما دام مطلقا عليه اسم اليتيم، إذ اليتيم خاص بمن لم يبلغ، وهو حينئذ غير صالح للتصرف في ماله، فتعين تأويل الآية إما بتأويل لفظ الإيتاء أو بتأويل اليتيم، فلنا أن نؤول {آتوا} بغير معنى ادفعوا. وذلك بما نقل عن جابر بن زيد أنه قال: نزلت هذه الآية في الذين لا يورثون الصغار مع وجود الكبار في الجاهلية، فيكون {آتوا} بمعنى عينوا لهم حقوقهم، وليكون هذا الأمر وما يذكر بعده تأسيسات أحكام، ل تأكيد بعضها لبعض. وقال صاحب الكشاف يراد بإيتائهم أموالهم أن لا يطمع فيها الأولياء والأوصياء وولاة السوء وقضاته ويكفوا عنها أيديهم الخاطفة حتى تأتي اليتامى إذا بلغوا سالمة فهو تأويل للإيتاء بلازمة وهو الحفظ الذي يترتب عليه الإيتاء كناية بإطلاق اللازم وإرادة الملزوم، أو مجاز بالمآل إذ الحفظ يؤول إلى الإيتاء، عليه فيكون هو معنى قوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} . وعلى هذين الوجهين فالمارد هنا الأمر بحفظ حقوق اليتامى من الإضاعة لا تسليم المال إليهم وهو الظاهر من الآية إذ سيجيء في قوله {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء:6] الآية. ولنا أن نؤول اليتامى بالذين جاوزوا حد اليتم ويبقى الإيتاء بمعنى الدفع، ويكون التعبير عنهم باليتامى للإشارة إلى وجوب دفع أموالهم إليهم في فور خروجهم من حد اليتيم، أو يبقى على حاله ويكون هذا الإطلاق مقيدا بقوله الآتي {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء:6]. ومن الناس من قال: اليتيم يطلق على الصغير والكبير لأنه مشتق من معنى الانفراد أي انفراده عن أبيه، ولا يخفى أن هذا القول جمود على توهم أن الانفراد حقيقي وإنما وضع اللفظ للانفراد المجازي، وهو انعدام الأب المنزل منزلة بقاء الولد منفردا وما هو بمنفرد فإن له أما وقوما.
قيل: نزلت هذه الآية في رجل من غطفان كان له ابن أخ في حجره، فلما بلغ طلب ماله، فمنعه عمه، فنزلت هذه الآية، فرد المال لابن أخيه، وعلى هذا فهو المراد من قوله تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ}.
وقوله {وَلا تَتَبَدَّلُوا الخبِيثَ بِالطَّيِّبِ} أي لا تأخذوا الخبيث وتعطوا الطيب. والقول في تعدية فعل تبدل ونظائره مضى عند قوله تعالى في سورة البقرة [61] قال {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} وعلى ما تقرر هناك يتعين أن يكون الخبيث هو
المأخوذ، والطيب هو المتروك.
والخبيث والطيب أريد هما الوصف المعنوي دون الحسي، وهما استعارتان؛ فالخبيث المذموم أو الحارم، والطيب عكسه وهو الحلال: وتقدم في قوله تعالى {يًَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} في البقرة [168]. فالمعنى: ولا تكسبوا المال الحرام وتتركوا الحلال أي لو اهتممتم بإنتاج أموالكم وتوفيرها بالعمل والتجر لكان لكم من خلالها ما فيه غنية عن الحرام، فالمنهي عنه هنا هو ضد المأمور به قبل تأكيدا للأمر، ولكن النهي بين ما فيه من الشناعة إذا لم يمتثل المر، وهذا الوجه ينبئ عن جعل التبديل مجازا والخبيث والطيب كذلك، ولا ينبغي حمل الآية على غير هذا المعنى وهذا الاستعمال. وعن السدي ما يقتضي خلاف هذا المعنى وهو غير مرضي.
وقوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} نهي ثالث عن أخذ أموال اليتامى وضمها إلى أموال أوليائهم، فينتسق في الآية أمر ونهيان: أمروا أن لا يمنعوا اليتامى من مواريثهم ثم نهوا عن اكتساب الحرام، ثم نهوا عن الاستيلاء على أموالهم أو بعضها، والنهي والأمر الأخير تأكيدان للأمر الأول.
والأكل استعارة للانتفاع المانع من انتفاع الغير وهو الملك التام، لأن الأكل هو أقوى أحوال الاختصاص بالشيء لأنه يحرزه في داخل جسده، ولا مطمع في إرجاعه، وضمن تأكلوا معنى تضموا فذلك عدى بإلى أي: لا تأكلوها بأن تضموها إلى أموالكم.
وليس قيد {إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وحط النهي، بل النهي واقع عن أكل أموالهم مطلقا سواء كان للآكل مال يضم إليه مال يتيمه أم لم يكن، ولكن لما كان الغالب وجود أموال للأوصياء، وأنهم من أكل أموال اليتامى التكثير، ذكر هذا القيد رعيا للغالب، ولأنه أدخل في النهي لما فيه من التشنيع عليهم حيث يأكلون حقوق الناس مع أنهم أغنياء؛ على أن التضمين ليس من التقييد بل هو قائم مقام نهيين، ولذلك روي: أن المسلمين تجنبوا بعد هذه الآية مخالطة أموال اليتامى فنزلت آية البقرة [220] {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} فقد فهموا أن ضم مال اليتيم إلى مال الوصي حرام، مع علمهم بأن ذلك ليس مشمولا للنهي عن الأكل ولكن للنهي عن الضم. وهما في فهم العرب نهيان، وليس هو نهيا عن أكل الأغنياء أموال اليتامى حتى يكون النهي عن أكل الفقراء ثابتا بالقياس لا بمفهوم الموافقة إذ ليس الأدون بصالح لأن يكون مفهوم موافقة.
والحوب بضم الحاء لغة الحجاز، و بفتحها لغة تميم، وقيل: هي حبشية،
ومعناه، الإثم والجملة تعليل للنهي: لموقع إن منها، أي نهاكم الله عن أكل أموالهم لأنه إثم عظيم. ولكون في مثله لمجرد الاهتمام لتقييد التعليل أكد الخبر بكان الزائدة.
{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [3].
اشتمال هذه الآية على كلمة {اليتامى} يؤذن بمناسبتها للآية السابقة، بيد أن الأمر بنكاح النساء وعددهن في جواب شرط الخوف من عدم العدل في اليتامى مما خفي وجهه على كثير من علماء سلف الأمة، إذ لا تظهر مناسبة أي ملازمة بين الشرط وجوابه. واعلم أن في الآية إيجاز بديعا إذ أطلق فيها لفظ اليتامى في الشرط وقوبل بلفظ النساء في الجزاء فعلم السامع أن اليتامى هنا يتيمة وهي صنف من اليتامى في قوله السابق {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]. وعلم أن بين عدم القسط في يتامى النساء، وبين الأمر بنكاح النساء، ارتباطا لا محالة وإلا لكان الشرط عبثا. وبيانه ما في صحيح البخاري: أن عروة بن الزبير سأل عائشة عن هذه الآية فقالت: يابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يقسط في صداقها فلا يعطيها غيره، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق فأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء غيرهن. ثم إن الناس استفتوا رسول الله بعد هذه الآية فأنزل الله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء:127].
فقول الله تعالى {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} رغبة أحدكم عن يتيمة حين تكون قليلة المال والجمال، فنهوا عن أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال. وعائشة لم تسند هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سياق كلامها يؤذن بأنه عن توقيف، ولذلك أخرجه البخاري في باب تفسير سورة النساء بسياق الأحاديث المرفوعة اعتدادا بأنها ما قالت ذلك إلا عن معاينة حال النزول، وأفهام المسلمين التي أقرها الرسول عليه السلام، لا سيما وقد قالت: ثم إن الناس استفتوا رسول الله، وعليه فيكون إيجاز لفظ الآية اعتدادا بما فهمه الناس مما يعلمون من أحوالهم، وتكون قد جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقها البنات اليتامى من مهور أمثالهن، وموعظة الرجال بأنهم لما لم يجعلوا أواصر القرابة
شافعة النساء اللاتي لا مرغب فيهن لهم فيرغبون عن نكاحهن، فكذلك لا يجعلون القرابة سببا للإجحاف بهن في مهورهن. وقولها: ثم إن الناس استفتوا رسول الله، معناه استفتوه في حكم نكاح اليتامى، ولم يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية، فنزل قوله {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} الآية، وأن الإشارة بقوله {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} أي ما يتلى من هذه الآية الأولى، أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة، وكلامها هذا أحسن تفسير لهذه الآية. وقال ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي، وقتادة: كانت العرب تتحرج في أموال اليتامى ولا تنحرج في العدل بين النساء، فكانوا يتزوجون العشر فأكثر فنزلت هذه الآية في ذلك، وعلى هذا القول فمحمل الملازمة بين الشرط والجزاء إنما هو فيما تفرع عن الجزاء من قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، فيكون نسيج الآية قد حيك على هذا الأسلوب ليدمج في خلاله تحديد النهاية إلى الربع. وقال عكرمة: نزلت في قريش، كان الرجل يتزوج العشر فأكثر فإذا ضاق ماله عن إنفاقهن أخذ مال يتيمة فتزوج منه، وعلى هذا الوجه فالملازمة ظاهرة، لأن تزوج ما لا يستطاع القيام به صار ذريعة إلى أموال اليتامى، فتكون الآية دليلا على مشروعية سد الذرائع إذا غلبت. وقال مجاهد: الآية تحذير من الزنا، وذلك أنهم كانوا يتحرجون من أكل أموال اليتامى ولا يتحرجون من الزنا، فقيل لهم: إن كنتم تخافون من أموال اليتامى فخافوا الزنا، لأن شأن المتنسك أن يهجر جميع الآثم لا سيما ما كانت مفسدته أشد. وعلى هذا الوجه تضعف الملازمة بين الشرط وجوابه ويكون فعل الشرط ماضيا لفظا ومعنى. وقيل في هذا وجوه أخر هي أضعف مما ذكرنا.
ومعنى {ما طاب} ما حسن بدليل قوله {لكم} ويفهم منه أنه مما حل لكم لأن الكلام في سياق التشريع.
وما صدق {ما طاب} النساء فكان الشأن أن يؤتي بمن الموصولة لكن جيء بما الغلبة في غير العقلاء، لأنها نحيب بها منحى الصفة وهو الطيب بلا تعيين ذات، ولو قال من لتبادر إلى إرادة نسوة طيبات معروفات بينهم، وكذلك حال ما في الاستفهام، كما قال صاحب الكشاف وصاحب المفتاح، فإذا قلت: ما تزوجت? فأنت تريد ما صفتها أبكرا أم ثيبا مثلا، وإذا قلت: من تزوجت? فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها.
والآية ليست هي المثبتة لمشروعية النكاح، لأن المر فيها معلق على حالة الخوف من الجور في اليتامى، فالظاهر أن الأمر فيها للإرشاد، وأن النكاح شرع بالتقرير للإباحة
الأصلية لما عليه الناس قبل الإسلام مع إبطال ما لا يرضاه الدين كالزيادة على الأربع، وكنكاح المقت، والمحرمات من الرضاعة، والأمر بأن لا يخلوه عن الصداق، ونحو ذلك.
وقوله {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أحوال من {طاب} ولا يجوز كونها أحوالا من النساء لأن النساء أريد به الجنس كله لأن من إما تبعيضية أو بيانية وكلاهما تقضي بقاء البيان على عمومه، ليصلح للتبغيض وشبهه، والمعنى: أن الله وسع عليكم فلكم في نكاح غير أولئك اليتامى مندوحة عن نكاحهن مع الإضرار بهن في الصداق، وفي هذا إدماج شرعي لحكم شرعي آخر في خلال حكم القسط لليتامى إلى قوله {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}.
وصيغة مفعل وفعال في أسماء العداد من واحد إلى أربعة، وقيل إلى ستة وقيل إلى عشرة، وهو الأصح، وهو مذهب الكوفيين، وصححه المعري في شرح ديوان المتنبي عند قول أبي الطيب
أحادأم سداس في آحاد
...
لييلتنا المنوطة بالتنادي
تدل كلها على معنى تكرير اسم لقصد التوزيع كقوله تعالى {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1] أي لطائفة جناحان، ولطائفة ثلاثة، ولطائفة أربعة. والتوزيع والتوزيع هنا باعتبار اختلاف المخاطبين في السعة والطول، فمنهم فريق يستطيع أن يتزوجوا أثنين، فهؤلاء تكون أزواجهم اثنتين اثنتين، وهلم جرا، كقولك لجماعة: اقتسموا هاذ المال درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، على حسب أكبركم سنا. وقد دل على ذلك قوله بعد {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} . والظاهر أن تحريم الزيادة على الأربع مستفاد من غيره هذه الآية لأن مجرد الاقتصار غي كاف في الاستدلال ولكنه يستأنس به، وأن هذه الآية قررت ما ثبت من الاقتصار على أربع زوجات كما دل على ذلك الحديث الصحيح: إن غيلان بن سلمة أسلم على عشر زوجات كما دل على ذلك الحديث الصحيح: إن غيلان بن سلمة أسلم على عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم "أمسك أربعا وفارق سائرهن". ولعل الآية صدرت بذكر العدد المقرر من قبل نزولها، تمهيدا لشروع العدل بين النساء، فإن قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} صريح في اعتبار العدل في التنازل في مراتب العدد ينزل بالمكلف إلى الواحدة. فلا جرم أن يكون خوفه في كل مرتبة من مراتب العدد ينزل به إلى التي دونها. ومن العجب ما حكاه ابن العربي في الأحكام عن قوم من الجهال لم يعينهم أنهم توهموا أن هذه الآية تبيح لرجال تزوج تسع نساء توهما بأن مثنى وثلاث ورباع مرادفة لاثنين وثلاثا وأربعا، وأن الواو للجمع، فحصلت
تسعة وهي العدد الذي جمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين نسائه، وهذا جهل شنيع في معرفة الكلام العربي. وفي تفسير القرطبي نسبة هذا القول إلى الرافضة، وإلى بعض أهل الظاهر، ولم يعينه، وليس ذلك قولا لداود الظاهري ولا لأصحابه، ونسبة ابن الفرس في أحكام القرآن إلى قوم لا يعبأ بخلافهم، وقال الفخ: هم قوم سدى، ولم يذكر الجصاص، مخالفا أصلا. ونسب ابن الفرس إلى قوم القول بأنه لا حصر في عدد الزوجات وجعلوا الاقتصار في الآية بمعنى:إلى ما كان من العدد، وتمسك هذان الفريقان بأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة، وهو تمسك واه، فإن تلك خصوصية له، كما دل على ذلك الإجماع، وتطلب الأدلة القواطع في انتزاع الأحكام من القرآن تطلب لما يقف بالمجتهدين في استنباطهم موقف الحيرة، فإن مبنى كلام العرب على أساس الفطنة، ومسلكه هو مسلك اللمحة الدالة.
وظاهر الخطاب للناس يعم الحر والعبد، فللعبد أن يتزوج أربع نسوة على الصحيح، وهو قول مالك، ويعزى إلى أبي الدرداء، والقاسم بن محمد، وسالم، وربيعة ابن أبي عبد الرحمان، ومجاهد، وذهب إليه داود الظاهري. وقيل: لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين، وهو قول أبي حنيفة، وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وينسب إلى عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وابن سيرين، والحسن، وليس هذا من مناسب التنصيف للعبيد، لأن هذا من مقتضى الطبع الذي لا يختلف في الأحرار والعبيد. ومن أدعى إجماع الصحابة على أمه لا يتزوج أكثر من اثنتين فقد جازف القول.
وقوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ، أي فواحدة لكل من يخاف عدم العدل. وإنما لم يقل فأحاد أو فموحد لأن وزن مفعل وفعال لا يأتي إلى بعد جمع ولم يجر جمع هنا. وقرأ الجمهور: فواحدة بالنصب ، وانتصب واحدة على أنه مفعول لمحذوف أي فانكحوا واحدة. وقرأه أبو جعفر بالرفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي كفاية.
وخوف عدم العدل معناه عدم العدل بين الزوجات، أي عدم التسوية، وذلك في النفقة والكسوة والبشاشة والمعاشرة وترك الضر في كل ما يدخل تحت قدرة الكلف وطوقه دون ميل القلب.
وقد شرع الله تعدد النساء للقادر العادل لمصالح جمة: منها أن في ذلك وسيلة إلى تكثير عدد الأمة بازدياد المواليد فيها، ومنها أن ذلك يعين على كفالة النساء اللائي هن
أكثر من الرجال في كل أمة لأن الأنوثة في المواليد أكثر من الذكور، ولأن الرجال يعرض لهم من أسبب الهلاك في الحروب والشدائد ما لا يعرض للنساء، ولأن النساء أطول أعمارا من الرجال غالبا، بما فطرهن الله عليه، ومنها أن الشريعة قد حرمت الزنا وضيقت في تحريمه لما يجر إليه من الفساد في الأخلاق والأنساب ونظام العائلات، فناسب أن توسع على الناس في تعدد النساء لمن كان من الرجال ميالا للتعدد مجبولا عليه، ومنها قصد الابتعاد عن الطلاق إلا لضرورة.
ولم يكن في الشرائع السالفة ولا في الجاهلية حد للزوجات، ولم يثبت أن جاء عيسى عليه السلام بتحديد للتزوج، وإن كان ذلك توهمه بعض علمائنا مثل القرافي، ولا أحسبه صحيحا. والإسلام هو الذي جاء بالتحديد. فإما أصل التحديد فحكمته ظاهرة: من حيث إن العدل لا يستطيعه كل أحد، وإذا لم يقم تعدد الزوجات على قاعدة العدل بينهن اختل نظام العائلة، وحدثت الفتن فيها، ونشأ عقوق الزوجات أزواجهن، وعقوق الأبناء آباءهم بأذاهم في زوجاتهم وفي أبنائهم، فلا جرم أن كان الأذى في التعدد لمصلحة يجب أن تكون مضبوطة غير عائدة على الأصل بالإبطال.
وأما الانتهاء في التعدد إلى الأربع فقد حاول كثير من العلماء توجيهه فلم يبلغوا إلى غاية مرضية، وأحسب أن حكمته ناظرة إلى نسبته عدد النساء من الرجال في غالب الأحوال، واعتبار المعدل في التعدد فليس كل رجل يتزوج أربعا، فلنفرض المعدل يكشف عن امرأتين لكل رجل، يدلنا على أن النساء ضعف الرجال. وقد أشار إلى هذا ما جاء في الصحيح: أنه يكثر النساء في آخر الزمان حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد.
وقوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إن عطف على قوله {فواحدة} ، فقد خير بينه وبين الواحدة باعتبار التعدد، أي فواحدة من الأزواج أو عدد مما ملكت أيمانكم، وذلك أن المملوك لا يشترط فيهن من العدل ما يشترط في الأزواج، ولكن يشترط حسن المعاملة وتركالضر، وإن عطفته على قوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ} كان تخييرا بين التزوج والتسري بحسب أحوال الناس، وكان العدل في الإماء المتخذات للتسري مشروطا قياسا على الزوجات، وكذلك العدد بحسب المقدرة غير أنه لا يمتنع في التسري الزيادة على الأربع لأن القيود المذكورة بين الجمل ترجع إلى ما تقدم منها. وقد منع الإجماع من قياس الإماء على الحرائر في نهاية العدد، وهذا الوجه أدخل في حكمة التشريع وأنظم في
معنى قوله {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}.
والإشارة بقوله {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} إلى الحكم المتقدم، وهو قوله {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} إلى قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} باعتبار ما اشتمل عليه من التوزيع حسب العدل. وإفراد اسم الإشارة باعتبار المذكور كقوله تعالى {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً}.
وأدنى بمعنى أقرب، وهو قرب مجازي أي أحق وأعون على أن لا تعدلوا، وتعولوا مضارع عال عولا، وهو فعل واوي العين، بمعنى جار ومال، وهو مشهور في كلام العرب، وبه فسر ابن عباس وجمهور السلف، يقال: عال الميزان عولا إذا مال، وعال فلان في حكمه أي جار، وظاهر أن نزول المكلف إلى العدد الذي لا يخاف معه عدم العدل أقرب إلى عدم الجور، فيكون قوله {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} في معنى قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} فيفيد زيادة تأكيد كراهية الجور.
ويجوز أن تكون الإشارة إلى الحكم المتضمن له قوله {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي ذلك اسلم من الجور، لأن التعدد يعرض المكلف إلى الجور وإن بذل جهده في العدل، إذ للنفس رغبات وغفلات، وعلى هذا الوجه لا يكون قوله {أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} تأكيدا لمضمون {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا} ويكون ترغيبا في الاقتصار على المرأة الواحدة أو التعدد بملك اليمين، إذ هو سد ذريعة الجور، وعلى هذا الوجه لا يكون العدل شرطا في ملك اليمين، وهو الذي نحاه جمهور فقهاء الأمصار في ملك اليمين.
وقيل: معنى أن لا تعولوا أن لا تكثر عيالكم، مأخوذ من قولهم عال الرجل أهله يعولهم بمعنى مانهم، يعني فاستعمل نفي كثرة العيال على طريق الكناية لأن العول يستلزم وجود العيال، والإخبار عن الرجل بأنه يعول يستلزم العيال، لأنه إخبار بشيء لا يخلو عنه أحدا فما يخبر المخبر به إلا إذا رآه تجاوز الحد المتعارف. كما تقول فلان يأكل وفلان ينام، أي يأكل كثيرا وينام كثيرا، ولا يصح أن يراد كونه معنى لعال صريحا، لأنه لا يقال عال بمعنى كثرت عياله، وإنما يقال أعال. وهذا التفسير مأثور عن زيد بن أسلم، وقاله الشافعي، وقال به ابن الأعرابي من علماء اللغة وهو تفسير بعيد وكناية خفية، لا يلائم إلا أن تكون الإشارة بقوله {ذلك} إلى ما تضمنه قوله {فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ويكون في الآية ترغيب في الاقتصار على الواحدة لخصوص الذي لا يستطيع السعة في الإنفاق، لأن الاقتصار على الواحدة يقلل النفقة ويقلل النسل فيبقي عليه ماله، ويدفع عنه الحاجة، أي أن هذا الوجه لا يلائم قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
لأن تعدد الإماء يفضي إلى كثرة العيال في النفقة عليهن وعلى ما يتناسل منهن، ولذلك رد جماعة على الشافعي هذا الوجه بين مفرط ومقتصد.
وقد أغلظ في الرد أبو بكر الجصاص في أحكامه حتى زعم هذا غلط في اللغة، اشتبه به عال يعيل بعال يعول. واقتصد ابن العربي في رد هذا القول في كتاب الأحكام. وانتصر صاحب الكشاف للشافعي، وأورد عليهم أن ذلك لا يلاقي قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فإن تعدد الجواري مثل تعدد الحرائر فلا مفر من الإعالة على هذا التفسير. وأجيب عنه بجواب فيه تكلف.
وحكم هذه الآية مما أشار إليه قوله تعالى {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [4]. جانبان مستضعفا في الجاهلية: اليتيم، والمرأة. وحقان مغبون فيهما أصحابهما: مال الأيتام ، ومال النساء، فلذلك حرسهما القرآن أشد الحراسة فابتدأ بالوصاية بحق المرأة في مال ينجر إليها لا محالة، وكان توسط حكم النكاح بين الوصايتين أحسن مناسبة تهيئ لعطف هذا الكلام.
فقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ} عطف على قوله {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] والقول في معنى الإيتاء فيه سواء. وزاده اتصالا بالكلام السابق أن ما قبله أن ما قبله جرى على وجوب القسط في يتامى النساء، فكان ذلك مناسبة الانتقال. والمخاطب بالأمر في أمثال هذا كل من له نصيب في العمل بذلك، فهو خطاب لعموم الأمة على معنى تناوله لكل من له فيه من الأزواج والأولياء ثم ولاة الأمور الذين إليهم المرجع في الضرب على أيدي ظلمة أربابها. والمقصود بالخطاب ابتداء هم الأزواج، لكيلا يتذرعوا بحياء النساء وضعفهن وطلبهن مرضاتهم إلى غمص حقوقهن في أكل مهورهم، أو يجعلوا حاجتهن للتزوج لأجل إيجاد كافل لهن ذريعة لإسقاط المهر في النكاح، فهذا ما يمكن في أكل مهورهن، وإلا فلهن أولياء يطالبون الأزواج بتعيين المهور، ولكن دون الوصول إلى ولاة الأمور متاعب وكلف قد يملها صاحب الحق فيترك طلبه، وخاصة النساء ذوات الأزواج. والى كون الخطاب للأزواج ذهب ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن جريج، فالآية على هذا قررت دفع المهور وجعلته شرعا، فصار المهر ركنا من أركان النكاح في الإسلام،
وقد تقرر في عدة آيات كقوله {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء:24] وغير ذلك.
والمهر علامة معروفة للتفرقة بين النكاح وبين المخادنة، لكنهم في الجاهلية كان الزوج يعطي مالا لولي المرأة ويسمونه حلوانا بضم الحاء ولا تأخذ المرأة شيئا، فأبطل الله ذلك في الإسلام بأن جعل المال للمرأة بقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ}.
وقال جماعة: الخطاب للأولياء، ونقل ذلك عن أبي صالح قال: لأن عادة بعض العرب أن يأكل ولي المرأة مهرها فرفه الله ذلك بالإسلام. وعن الحضرمي: خاطبت الآية المتشاغرين الذين كانوا يتزوجون امرأة بأخرى، ولعل هذا أخذ بدلالة الإشارة وليس صريح اللفظ، وكل ذلك مما يحتمله عموم النساء وعموم الصدقات.
والصدقات جمع صدقة بضم الدال والصدقة: مهر المرأة، مشتقة من الصدق لأنها عطية يسبقها الوعد بها فيصدقه المعطي.
والنحلة بكسر النون العطية بلا قصد عوض، ويقال نحل بضم فسكون .
وانتصب نحلة على الحال من صدقاتهن، وإنما صح مجيء الحال مفردة وصاحبها جمع لأن المراد بهذا المفرد الجنس الصالح للأفراد كلها، ويجوز أن يكون نحلة منصوبا على المصدرية لآتوا لبيان النوع من الإيتاء أي إعطاء كرامة.
وسميت الصدقات نحلة إبعادا للصدقات عن أنواع الأعواض، وتقريبا بها إلى الهدية، إذ ليس الصداق عوضا عن منافع المرأة عند التحقيق، فإن النكاح عقد بين الرجل والمرأة قصد منه المعاشرة، وإيجاد آصرة عظيمة، وتبادل حقوق بين الزوجين، وتلك أغلى من أن يكون لها عوض مالي، ولو جعل لكان عوضها جزيلا ومتجددا بتجدد المنافع، وامتداد أزمانها، شأن الأعواض كلها، ولكن الله جعله هدية واجبة على الأزواج إكراما لزوجاتهم، وإنما أوجبه الله لأنه تقرر أنه الفارق بين النكاح وبين المخادنة والسفاح، إذ كان أصل النكاح في البشر اختصاص الرجل بامرأة تكون له دون غيره، فكان هذا الاختصاص ينال بالقوة، ثم اعتاض الناس عن القوة بذل الأثمان لأولياء النساء بيعهن بناتهن ومولياتهن، ثم ارتقى التشريع وكمل عقد النكاح، وصارت المرأة حليلة الرجل شريكته في شؤونه وبقيت الصدقات أمارات على ذلك الاختصاص القديم تميز عقد النكاح عن بقية أنواع المعاشرة المذمومة شرعا وعادة، وكانت المعاشرة على غير وجه النكاح خالية عن بذل المال للأولياء إذ كانت تنشأ عن الحب أو الشهوة من الرجل للمرأة على انفراد وخفية من أهلها، فمن ذلك الزنى الموقت، ومنه المخادنة، فهي زنا مستمر، وأشار
إليها القرآن في قوله {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ} [النساء:25] ودون ذلك البغاء وهو الزنا بالإماء بأجور معينة، وهو الذي ذكر الله النهي عنه بقوله {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [النور:33] وهنالك معاشرات أخرى، مثل الضماد وهو أن تتخذ ذات الزوج رجلا خليلا لها في سنة القحط لينفق عليها مع نفقة زوجها، فلأجل ذلك سمى الله الصداق نحلة، فأبعد الذين فسروها بلازم معناها فجعلوها كناية عن طيب نفس الأزواج أو الأولياء بإيتاء الصدقات، والذين فسروها بأنها عطية من الله للنساء فرضها لهن، والذين فسروها بمعنى الشرع الذي ينتحل أي يتبع.
وقوله {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} الآية أي فإن طابت أنفسهن لكم بشيء منه أي المذكور. وأفرد ضمير منه لتأويله بالمذكور حملا على اسم الإشارة كما قال رؤبة:
فيها خطوط من سواد وبلق
...
كأنه في الجلد توليع البهق
فقال له أبو عبيدة: إما أن تقول: كأنها إن أردت الخطوط، وإما أن تقول: كأنهما إن أردت السواد والبلق فقال: أردت كأنها إن أردت كأن ذلك، ويلك أي أجرى الضمير كما يجري اسم الإشارة. وقد تقدم عند قوله تعالى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} في سورة البقرة [68]. وسيأتي الكلام على ضمير مثله عند قوله تعالى {وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ} في سورة العقود [36].
وجيء بلفظ {نفسا} مفردا تمييز نسبة {طبن} إلى ضمير جماعة النساء لأن التمييز اسم جنس نكرة يستوي فيه المفرد والجمع. وأسند الطيب إلى ذوات النساء ابتداء ثم جيء بالتمييز للدلالة على قوة هذا الطيب على ما هو مقرر في علم المعاني: من الفرق بين واشتعل الرأس شيبا وبين اشتعل شيب رأسي، ليعلم أنه طيب نفس لا يشوبه شيء من الضغط والإلجاء.
وحقيقة فعل طاب اتصاف الشيء بالملاءمة للنفس، واصله طيب الرائحة لحسن مشمومها،، وطيب الريح موافقتها للسائر في البحر {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس:22]. ومنه أيضا ما ترضى به النفس كما تقدم في قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً} [البقرة:168] ثم استعير لما يزكو بين جنسه كقوله {وَلا تَتَبَدَّلُوا الخبِيثَ بِالطَّيِّبِ} [البقرة:2] ومنه فعل {طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} هنا أي رضين
بإعطائه دون حرج ولا عسف، فهو استعارة.
وقوله {فكلوه} استعمل الأكل هنا في معنى الانتفاع الذي لا رجوع فيه لصاحب الشيء المنتفع به، أي في معنى تمام التملك. وأصل الأكل في كلامهم يستعار للاستيلاء على مال الغير استيلاء لا رجوع فيه، لأن الكل أشد أنواع الانتفاع حائلا بين الشيء وبين رجوعه إلى مستحقه. ولكنه أطلق هنا على الانتفاع لأجل المشاكلة مع قوله السابق {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2] فتلك محسن الاستعارة.
و{هَنِيئاً مَرِيئاً} حالان من الضمير المنصوب وهما صفتان مشبهتان من هنا وهنيء بفتح النون وكسرها بمعنى ساغ ولم يعقب نغصا. والمريء من مرو الطعام مثلث الراء بمعنى هنيء، فهو تأكيد يشبه الإتباع. وقيل: الهنيء الذي يلذه الآكل والمريء ما تحمد عاقبته. وهذان الوصفان يجوز كونهما ترشيحا لاستعارة {كلوه} بمعنى خذوه أخذ ملك، ويجوز كونهما مستعملين في انتفاء التبعة عن الأزواج في أخذ ما طابت لهم به نفوس أزواجهم، أي حلالا مباحا، أو حلالا لا غرم فيه. وإنما قال {عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ} فجيء بحرف التبغيض إشارة إلى أن الشأن أن لا يعري العقد عن الصداق، فلا تسقطه كله إلا أن الفقهاء لما تأولوا ظاهر الآية من التبغيض، وجعلوا هبة جميع الصداق كهبته كله أخذا بأصل العطايا، لأنها لما قبضته فقد تقرر ملكها إياه، ولم يأخذ علماء المالكية في هذا بالتهمة لأن مبنى النكاح على المكارمة، وإلا فإنهم قالوا في مسائل البيع: إن الخارج من اليد ثم الراجع إليها يعتبر كأنه لم يخرج، وهذا عندنا في المالكات أمر أنفسهن دون المحجورات تخصيصا للآية بغيرها من أدلة الحجر فإن الصغيرات غير داخلات هنا بالإجماع. فدخل التخصيص للآية. وقال جمهور الفقهاء: ذلك للثيب والبكر، تمسكا بالعموم. وهو ضعيف في حمل الأدلة بعضها على بعض.
واختلف الفقهاء في رجوع المرأة هبتها بعض صداقها: فقال الجمهور: لا رجوع لها، وقال شريح، وعبد الملك بن مروان: لها الرجوع، لأنها لو طابت نفسها لما رجعت. رووا أن عمر بن الخطاب كتب إلى قضاته إن النساء يعطين رغبة ورهبة فأينما امرأة أعطيته، ثم أرادت أن ترجع فذلك لها وهذا يظهر إذا كان بين العطية وبين الرجوع قريبا، وحدث من معاملة الزوج بعد العطية خلاف ما يؤذن به حسن المعاشرة السابق للعطية.
وحكم هذه الآية مما أشار إليه قوله تعالى {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} [النساء:1].
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [5].
عطف على قوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ} [النساء:4] لدفع توهم إيجاب أن يؤتى كل مال لمالكه من أجل تقدم الأمر بإتيان الأموال مالكيها مرتين في قوله {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ}. أو عطف على قوله {وَآتُوا الْيَتَامَى} وما بينهما اعتراض.
والمقصود بيان الحال التي يمنع فيها السفيه من ماله، والحال التي يؤتى فيها ماله، وقد يقال كان مقتضى الظاهر على هذا الوجه أن يقدم هنالك حكم منع تسليم مال اليتامى لأنه أسبق في الحصول، فيتجه لمخالفة هذا المقتضى أن نقول قدم حكم التسليم، لأن الناس أحرص على ضده، فلو ابتدأ بالنهي عن تسليم الأموال للسفهاء لاتخذه الظالمون حجة لهم، وتظاهروا بأنهم إنما يمنعون الأيتام أموالهم خشية من استمرار السفه فيهم، كما يفعله الآن كثير من الأوصياء والمقدمين الأتقياء، إذ يتصدون للمعارضة في بينات ثبوت الرشد لمجرد الشغب وإملاء المحاجير من طلب حقوقهم.
والخطاب في قوله {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ} كمثل الخطاب في {وَآتُوا الْيَتَامَى} {وَآتُوا النِّسَاءَ} هو لعموم الناس المخاطبين بقوله {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [الحج:1] ليأخذ كل من يصلح لهذا الحكم حظه من الامتثال.
والسفهاء يجوز أن يراد به اليتامى، لأن الصغر هو حالة السفه الغالبة، فيكون مقابلا لقوله {وَآتُوا الْيَتَامَى} لبيان الفرق بين الإيتاء بمعنى الحفظ والإيتاء بمعنى التمكين، ويكون العدول عن التعبير عنهم باليتامى إلى التعبير هنا بالسفهاء لبيان اختلال المنع. ويجوز أن يراد به مطلق من ثبت له السفه، سواء كان عن صغر أم عن اختلال تصرف، فتكون الآية قد تعرضت للحجر على السفيه الكبير استطرادا للمناسبة، وهذا هو الأظهر لأنه أوفر معنى وأوسع تشريعا. وتقدم بيان معاني السفه عند قوله تعالى {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} في سورة البقرة [130].
والمراد بالأموال أموال المحاجير المملوكة لهم، ألا ترى إلى قوله {وَارْزُقُوهُمْ
فِيهَا} وأضيفت الأموال إلى ضمير المخاطبين بيا أيها الناس إشارة بديعة إلى أن المال الرائج بين الناس هو حق لمالكيه المختصين به في ظاهر الأمر، ولكنه عند التأمل تلوح فيه حقوق الملة جمعاء لأن في حصوله منفعة للأمة كلها، لأن ما في أيدي بعض أفرادها من الثروة يعود إلى الجميع بالصالحة، فمن تلك الأموال ينفق أربابها ويستأجرون ويشترون ويتصدقون ثم تورث عنهم إذا ماتوا فيتقبل المال بذلك من يد إلى غيرها فينتفع العاجز والعامل والتاجر والفقير وذو الكفاف، ومتى قلت الأموال من أيدي أناسا تقاربوا في الحاجة، والخصاصة، فأصبحوا في ضنك وبؤس، واحتاجوا إلى قبيلة أو أمة أخرى وذلك من أسباب ابتزاز عزهم، وذلك من أسباب ابتزاز عزهم، وامتلاك بلادهم، وتصبير منافعهم لخدمة غيرهم، فلأجل هاته الحكمة أضاف الله تعالى الأموال إلى جميع المخاطبين ليكون لهم الحق في إقامة الأحكام التي تحفظ الأموال والثروة العامة.
وهذه إشارة لا أحسب أن حكيما من حكماء الاقتصاد سبق القرآن إلى بيانها. وقد أبعد جماعة جعلوا الإضافة لأدنى ملابسة، لأن الأموال في يد الأولياء، وجعلوا الخطاب للأولياء خاصة. وجماعة جعلوا الأولياء خاصة. وجماعة الإضافة المخاطبين لأن الأموال من نوع أموالهم،وإن لم تكن أموالهم حقيقة، واليه مال الزمخشري. وجماعة جعلوا الإضافة لأن السفهاء من نوع المخاطبين فكأن أموالهم أموالهم وإليه مال فخر الدين. وقارب ابن العربي إذ قال لأن الموال مشتركة بين الخلق تنتقل من يد إلى يد وتخرج من ملك إلى ملك وبما ذكرته من البيان كان لكلمته هذه شأن. وأبعد آخرون فريق آخرون فجعلوا الإضافة حقيقية أي لا تؤتوا يا أصحاب الأموال أموالكم لمن يضيعها من أولادكم ونسائكم، وهذا أبعد الوجوه، ولا إخال الحامل على هذا التقدير إلا الحيرة في وجه الجميع بين كون الممنوعين من الأموال السفهاء، وبين إضافة تلك الأموال إلى ضمير المخاطبين، وإنما وصفته بالبعد لأن قائله جعله هو المقصود من الآية ولو جعله وجها جائزا يقوم من لفظ الآية لكان وجه وجيه بناء على ما تقرر في المقدمة التاسعة.
وأجري على الأموال صفة تزيد إلى المخاطبين وضوحا وهي قوله {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} فجاء في الصفة بموصول إلى تعليل النهي، وإيضاحا لمعنى الإضافة، فإن قياما مصدر على وزن فعل بمعنى فعال: مثل عوذ بمعنى عياذ، وهو من الواوي وقياسه قوم، إلا أنه أعلى بالياء شذوذا كما شذ جياد في جمع جواد وكما شذ طيال في لغة ضبة في جمع طويل، قصدوا قلب الواو ألفا بعد الكسرة كما فعلوه في قيام ونحوه، إلا أن ذلك ف وزن فعال مطرد، وفي غيره شاذ لكثرة فعال في المصادر، وقلة
فعل فيها، وقيم من غير الغالب. كذا قرأه نافع، وابن عامر: قيما بوزن فعل، وقرأه الجمهور قياما، والقيام ما به يتقوم المعاش وهو واوي أيضا وعلى القراءتين فالإخبار عن الأموال به إخبار بالمصدر للمبالغة مثل قول الخنساء:
فإنما هي إقبال وإدبار
والمعنى أنها تقويم عظيم لأحوال الناس. وقيل: قيما جمع قيمة أي التي جعلها الله قيما أي أثمانا للأشياء، وليس فيه إيذان بالمعنى الجليل المتقدم.
ومعنى قوله {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} واقع موقع الاحتراس أي لا تؤتوهم الموال إيتاء تصرف مطلق، ولكن آتوهم إياها بمقدار انتفاعهم من نفقة وكسوة، ولذلك قال فقهاؤنا: تسلم للمحجور نفقته وكسوته إذا أمن عليها بحسب حاله وماله، وعدل عن تعدية {َارْزُقُوهُمْ ا وَاكْسُوهُمْ} بمن إلى تعديتها بفي الدالة على الظرفية المجازية، على طريقة الاستعمال في أمثاله، حين لا يقصد التبغيض الموهم للإنقاص من ذات الشيء، ما يحصل به الفعل: تارة من عينه، وتارة من ثمنه، وتارة من نتاجه، وأن ذلك يحصل مكررا مستمرا. وانظر ذلك في قول سبرة بن عمرو الفقعي:
نحابي بها أكفاءنا ونهينها
...
ونشرب في أثمانها ونقامر
يريد الإبل التي سبقت إليهم في دية قتل منهم، أي نشرب بأثمانها ونقامر، فغما شربنا بجميعها أو ببعضها أو نسترجع منها القمار، وهذا معنى بديع في الاستعمال لم يسبق إليه المفسرون هنا، فأهمل معظم التنبيه على وجه العدول إلى في، واهتدى إليه صاحب الكشاف بعض الاهتداء فقال: أي اجعلوها مكانا لرزقهم بأن تتجروا فيها وتتربحوا حتى تكون نفقتهم من الربح لا من طلب المال. فقوله لا من صلب المال مستدرك، ولو كان كما قال لا قضي نهيا عن الإنفاق من صلب المال.
وإنما قال {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} ليسلم إعطاؤهم النفقة والكسوة من الأذى، فإن شأن من يخرج المال من يده أن يستثقل سائل المال، وذلك سواء في العطايا التي من مال المعطي، ولأن جانب السفيه ملموز بالهون، لقلة تدبيره، فلعل ذلك يحمل وليه على القلق من معاشرة اليتيم فيسمعه ما يكره مع أن نقصان عقله خلل في الخلقة، فلا ينبغي أن يشتم عليه، ولأن ألفيه غالبا يستنكر منع ما يطلبه من واسع المطالب، فقد يظهر عليه، أو يصدر منه كلمات مكروهة لوليه، فأمر الله لأجل ذلك كله الأوليان بأن لا يبتدئوا محاجيرهم بسيئ الكلام، ولا يجيبوهم بما يسوء، بل يعظون
المحاجير، ويعلمونهم طرق الرشاد ما استطاعوا، ويذكرونهم بأن المال مالهم، وحفظه لمصالحهم فإن في ذلك خيرا كثيرا، وهو بقاء الكرامة بين الأولياء ومواليهم، ورجاء انتفاع الموالي بتلك المواعظ في إصلاح حالهم حتى لا يكونوا كما قال:
إذا نهي السفيه جرى إليه
...
وخالف والسفيه إلى خلاف
وقد شمل القول المعروف كل قول له موقع حال مقاله. وخرج عنه كل قول منكر لا يشهد العقل ولا الخلق بمصادفته المحز، فالمعروف قد يكون مما يكرهه السفيه إذا كان فيه صلاح نفسه.
[6] {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}.
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا}.
يجوز أن يكون جملة {وابتلوا} معطوفة على جملة {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} لتنزيلها منها منزلة الغاية للنهي. فإن كان المراد من السفهاء هنالك خصوص اليتامى فيتجه أن يقال: لماذا عدل عم الضمير إلى الاسم الظاهر وعن الاسم الظاهر المساوي للأولى إلى التعبير بآخر أخص وهو اليتامى، ويجاب بأن العدول عن الإضمار لزيادة الإيضاح والاهتمام بالحكم، وأن العدول عن إعادة لفظ السفهاء إيذان بأنهم في حالة الابتلاء مرجو كمال عقولهم، ومتفائل بزوال السفاهة عنهم، لئلا يلوح شبه تناقض بين وصفهم بالسفه وإيناس الرشد منهم، وإن كان المراد من السفهاء هنالك أعم من اليتامى، وهو الأظهر، فيتجه أن يقال: ما وجه تخصيص حكم الابتلاء والاستئناس باليتامى دون السفهاء? ويجاب بأن الإخبار لا يكون إلا عند الوقت الذي يرجى فيه تغيير الحال، وهو مراهقة البلوغ، حين يرجى كمال العقل والتنقل من حال الضعف إلى حال الرشد، أما من كان سفهه في حين الكبر فلا يعرف وقت هو مظنة لانتقال حاله وابتلائه.
ويجوز أن تكون جملة {وابتلوا} معطوفة على جملة {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2] لبيان كيفية الإيتاء ومقدماته، وعليه فالإظهار في قوله {اليتامى} لبعد ما بين المعاد والضمير، لو عبر بالضمير.
والابتلاء: الاختبار، وحتى ابتدائية، وهي مفيدة للغاية، لأن إفادتها الغاية بالوضع، وكونها ابتدائية أو جارة استعمالات بحسب مدخولها، كما تقدم عند قوله تعالى {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ} في سورة آل عمران [152]. وإذا ظرف مضمن معنى الشرط، وجمهور النحاة على أن حتى الداخلة على إذا ابتدائية لا جارة.
والمعنى: ابتلوا اليتامى حتى وقت أن بلغوا النكاح فادفعوا إليهم أموالهم وما بعد ذلك ينتهي عنده الابتلاء، وحيث علم أن الابتلاء لأجل تسليم المال فقد تقرر أن مفهوم الغاية مراد منه لازمه وأثره، وهو تسليم الموال. وسيصرح بذلك في جواب الشرط الثاني.
والابتلاء هنا: هو إخبار تصرف اليتيم في المال باتفاق العلماء، قال المالكية: يدفع لليتيم شيء من المال يمكنه التصرف فيه من غير إجحاف، ويرد النظر إليه في نفقة الدار شهرا كاملا، وإن كانت بنتا يفوض إليها ما يفوض لربة المنزل، وضبط أموره، ومعرفة الجيد من الرديء، ونحو ذلك، بحسب أحوال الأزمان والبيوت. وزاد بعض العلماء الأخبار في الدين. قاله الحسن، وقتادة، والشافعي. وينبغي أن يكون ذلك غير شرط إذ مقصد الشريعة هنا حفظ المال، وليس هذا الحكم من آثار كلية حفظ الدين.
وبلوغ النكاح على حذف مضاف، أي بلوغ وقت النكاح أي التزوج، وهو كناية عن الخروج من حالة الصبا للذكر والأنثى، وللبلوغ علامات معروفة، عبر عنها في الآية ببلوغ النكاح على المتعارف عند العرب من التبكير بتزويج البنت عند البلوغ، ومن طلب الرجل الزواج بلوغه، وبلوغ صلاحية الزواج تختلف باختلاف البلاد في الحرارة والبرودة، وباختلاف أمزجة أهل البلد الواحد في القوة والضعف، والمزاج الدموي والمزاج الفراوي، فلذلك أحاله القرآن على بلوغ أمد النكاح، والغالب في بلوغ البنت أنه أيبق من بلوغ الذكر، فإن تخلفت عن وقت مظنتها فقال الجمهور: يستدل بالسن الذي لا يتخلف عنه أقصى البلوغ عادة، فقال مالك، في رواية ابن القاسم عنه: هو ثمان عشرة سنة للذكور والإناث. وروي مثله عن أبي حنيفة في الذكور، وقال: في الجارية سبع عشرة سنة، وروى غير ابن القاسم عن مالك أنه سبع عشرة سنة. والمشهور عن أبي حنيفة: أنه تسع عشرة سنة للذكور وسبع عشرة للبنات، وقال الجمهور: خمس عشرة سنة. قاله القاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله ابن عمر، وإسحاق، والشافعي، وأحمد، والأوزاعي، وابن الماجشون، وبه قال أصبغ، وابن وهب، من أصحاب مالك، واختاره البهري من المالكية، وتمسكوا بحديث ابن عمر أنه عرضه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهو
ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، وعرضه يوم أحد وهو ابن خمس عشرة فأجازه. ولا حجة فيه إذ ليس يلزم أن يكون بلوغ عبد الله بن عمر هو معيار بلوغ عموم المسلمين، فصادف أن رآه النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ملامح الرجال، فأجازه، وليس ذكر السن في كلام ابن عمر إيماء إلى ضبط الإجازة. وقد غفل عن هذا ابن العربي في أحكام القرآن، فتعجب من ترك هؤلاء الأئمة تحديد سن البلوغ بخمس عشرة سنة، والعجب منه أشد من عجبه منهم، فإن قضية ابن عمر قضية عين، وخلاف العلماء في قضايا الأعيان معلوم، واستدل الشافعية بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استكمل الولد خمس عشرة سنة كتب ما له وما عليه، وأقيمت عليه الحدود" وهو حيث ضعيف لا ينبغي الاستدلال به.
ووقت الابتلاء يكون بعد التمييز لا محالة، وقيل البلوغ: قاله ابن المواز عن مالك، ولعل وجهه أن الابتلاء قبل البلوغ فيه تعريض بالمال الإضاعة لأن عقل اليتيم غي كامل، وقال البغداديون من المالكية: الابتلاء قبل البلوغ. وعبر عن استكمال قوة النماء الطبيعي ب {بَلَغُوا النِّكَاحَ}، فأسند البلوغ إلى ذواتهم لأن ذلك الوقت يدعو الرجل للتزوج ويدعو أولياء البنت لتزويجها، فهو البلوغ المتعارف الذي لا تأخر بعده، فلا يشكل بأن الناس قد يزوجون بناتهم قبل سن البلوغ، وأبناءهم أيضا في بعض الأحوال، لأن ذلك تعجل من الأولياء لأغراض عارضة، وليس بلوغا من الأبناء أو البنات.
وقوله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} شرط ثان مقيد للشرط الأول المستفاد من {إذا بلغوا}. وهو وجوابه جواب إذا، ولذلك قرن بالفاء ليكون نصا في الجواب، وتكون إذا نصا في الشرط، فإن جواب إذا نستغن عن الربط بالفاء لو لا قصد التنصيص على الشرطية.
وجاءت الآية على هذا التركيب لتدل على أن انتهاء الحجر إلى البلوغ بالأصالة، ولكن يشترط أن يعرف من المحجور الرشد، وكل ذلك قطع لمعاذير الأوصياء من أن يمسكوا أموال محاجيرهم عندهم مدة لزيادة التمتع بها.
ويتحصل من معنى اجتماع الشرطين في الكلام هنت، إذ كان بدون عطف ظاهر أو مقدر بالقرينة، أن مجموعهما سبب لتسليم المال إلى المحجور، فلا يكفي حصول أحدهما ولا نظر إلى الذي يحصل منهما ابتداء، وهي القاعدة العامة في كل جملة شرط بنيت على جملة شرط آخر، فلا دلالة لهما إلا على لزوم حصول المرين في مشروط واحد، وعلى هذا جرى قول المالكية، وإمام الحرمين. ومن العلماء من زعم أن ترتيب
الشرطين يفيد كون الثاني منهما في الذكر هو الأول في الحصول. ونسبه الزجاجي في كتاب الأذكار إلى ثعلب، واختاره ابن مالك وقال به من الشافعية:البغوي، والغزالي في الوسيط، ومن العلماء من زعم أن ترتيب الشرطين في الحصول يكون على نحو ترتيبهما في اللفظ، ونسبه الشافعي إلى القفال، والقاضي الحسين، والغزالي في الوجيز، والإمام الرازي في النهاية، وبنوا على ذلك فروعا في تعليق الشرط على الشرط في الإيمان، وتعليق الطلاق والعتاق، وقال إمام الحرمين: لا معنى لاعتبار الترتيب، وهو الحق، فإن المقصود حصولها بقطع النظر عن التقدم والتأخر، ولا يظهر أثر للخلاف في الإخبار وإنشاء الأحكام، كما هنا، وإنما قد يظهر له أثر في إنشاء التعاليق في الأيمان، وأيمان الطلاق والعتاق، وقد علمت أن المالكية لا يرون لذلك تأثيرا. وهو الصواب.
وأعلم أن هذا إذا قامت القرينة على أن المراد جعل الشرطين شرطا في الجواب، وذلك إذا تجرد عن العطف بالواو ولو تقديرا، فلذلك يتعين جعل جملة الشرط الثاني وذلك إذا تجرد عن لعطف بالواو ولو تقديرا، فذلك يتعين جعل جملة الشرط الثاني وجوابه جوابا للشرط الأول، سواء ارتبطت بالفاء كما في هذه الآية أم لم ترتبط، كما في قوله {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود:34]. وأما إذا كان الشرطان على اعتبار الترتيب فلكل منهما جواب مستقل نحو قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} [الأحزاب:50]. فقوله {إِنْ وَهَبَتْ} شرط في إحلال امرأة مؤمنة له، وقوله {أَرَادَ النَّبِيُّ} شرط في انعقاد النكاح، لئلا يتوهم أن هبة المرأة نفسها للنبي تعين عليه تزوجها، فتقدير جوابه: إن أراد فله ذلك، وليسا شرطين للإحلال لظهور أن إحلال المرأة لا سبب له في هذه الحالة إلا أنها وهبت نفسها.
وفي كلتا حالتي الشرط الوارد على شرط، يجعل جواب أحدهما محذوفا دل عليه المذكور، أو جواب أحدهما جوابا للآخر: على الخلاف بين الجمهور والأخفش، إذ ليس ذلك من تعدد الشروط وإنما يتأتى ذلك في نحو قولك "إن دخلت دار أبي سفيان، وإن دخلت المسجد الحرام، فأنت آمن" وفي نحو قولك إن صليت إن صمت اثبت من كل تركيب لا تظهر فيه ملازمة بين الشرطين، حتى يصير أحدهما شرطا في الآخر.
هذا تحقيق هذه المسألة الذي أطال فيه كثير وخصها تقي الدين السبكي برسالة. وهي مسألة سأل عنها القاضي ابن خلكان الشيخ ابن الحاجب كما أشار إليه في ترجمته من كتاب الوفيات، ولم يفصلها الدماميني في حاشية مغنى اللبيب.
وإيناس الرشد هنا علمه، وأصل الإيناس رؤية الإنسي أي الإنسان، ثم أطلق على أول ما يتبادر من العلم، سواء في المبصرات، نحو {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} [القصص:29]أم في المسموعات، نحو قول الحارث بن حلوة في بقرة وحشية:
أنت نبأة وأفزعها الق ... ناص عصرا وقد دنا الإمساء
وكأن اختيار {آنستم} هنا دون علمتم للإشارة إلى أنه إن حصل أول العلم برشدهم يدفع إليهم مالهم دون تراخ ولا مطل.
والرشد بضم الراء وسكون الشين، وتفتح الراء فيفتح الشين ، وهما مترادفان وهو انتظام تصرف العقل، وصدور الأفعال عن ذلك بانتظام، وأريد به هنا حفظ المال وحسن التدبير فيه كما تقدم في {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى}.
ولمخاطب في الآية الأوصياء، فيكون مقتضى الآية أن الأوصياء هم الذين يتولون ذلك، وقد جعله الفقهاء حكما، فقالوا: يتولى الوصي دفع مال حجوره عندما يأنس منه الرشد، فهو الذي يتولى ترشيد محجوره بتسليم ماله له.
وقال اللخمي: من أقامه الأب والقاضي لا يقبل قوله بترشيد المحجور إلا بعد الكشف لفساد الناس اليوم وعدم أمنهم أن يتواطئوا مع المحاجير ليرشدوهم فيسمحوا لهم قبل ذلك. وقال ابن عطية: والصواب في أوصياء زماننا أن لا يستغني عن رفعهم إلى السلطان وثبوت الرشد عنده لما عرف من تواطؤ الأوصياء على أن يرشد الوصي محجوره ويبرئ المحجور الوصي لسفهه وقلة تحصيله في ذلك الوقت. إلا أن هذا لم يجر عليه عمل، ولكن استحسن الموثقون الإشهاد بثبوت رشد المحجور الموصي عليه من أبيه للاحتياط، أما وصي القاضي فاختلف فيه أقوال الفقهاء، والأصح أنه لا يرشد محجوره إلا بعد ثبوت ذلك لدى القاضي، وبه جرى العمل.
وعندي أن الخطاب في مثله لعموم الأمة، ويتولى تنفيذه من إليه تنفيذ ذلك الباب من الولادة، كشأن خطابات القرآن الواردة لجماعة غير معينين، ولا شك أن الذي إليه تنفيذ أمور المحاجير والأوصياء هو القاضي، ويحصل المطلوب بلا كلفة.
والآية ظاهرة في تقدم الابتلاء والاستئناس على البلوغ لمكان حتى المؤذنة بالانتهاء، وهو المعروف من المذهب، وفيه قول أنه لا يدفع للمحجور شيء من المال للابتلاء إلا بعد البلوغ.
والآية أيضا صريحة في أنه لم يحصل الشرطان معا: البلوغ والرشد، لا يدفع المال للمحجور. واتفق على ذلك عامة علماء الإسلام، فمن لم يكن رشيدا بعد بلوغه يستمر عله الحجر، ولم يخالف في ذلك إلا أبو حنيفة. قال: ينتظر سبع سنين بعد البلوغ فإن لم يؤنس منه الرشد أطلق من الحجر. وهذا يخالف مقتضى الشرط من قوله تعالى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} لأن أبا حنيفة لا يعتبر مفهوم الشرط،وهو أيضا يخالف القياس إذ ليس الحجر إلا لأجل السفه وسوء التصرف فأي أثر للبلوغ لولا أنه مظنة الرشد، وإذا لم يحصل مع البلوغ فما أثر سبع السنين في تمام رشده.
ودلت الآية بحم القياس على أن من طرأ عليه السفه وهو بالغ أو أختل عقله لأجل مرض في فكره، أو لأجل خرف م شدة الكبر، أنه يحجر عليه إذ علة التحجير ثابتة، وخالف في ذلك أيضا أبو حنيفة. قال: لا حجر على بالغ.
وحمك الآية شامل للذكور والإناث بطريق التغلب: فالأنثى اليتيمة إذا بلغت رشيدة دفع مالها إليها.
والتنكير في قوله {رشدا} تنكير النوعية، ومهناه إرادة نوع الماهية لأن المواهي العقلية متحدة لا أفراد لها، وإنما أفرادها اعتبارية باعتبار تعدد المحال أو تعدد المتعلقات، فرشد غير رشد عمرو، والرشد في المال غير الرشد في سياسة الأمة، وفي الدعوة إلى الحق، قال تعالى {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود:97]، وقال عن قوم شعيب {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود:87]. وماهية الرشد هي انتظام الفكر وصدور الأفعال على نحوه بانتظام، وقد علم السامعون أن المراد هنا الرشد في التصرف المالي، فالمراد من النوعية نحو المراد من الجنس، ولذلك ساوى المعرف بلام الجنس النكرة، فمن العجائب توهم الجصاص أن في تنكير رشدا دليلا لأبي حنيفة في عدم اشتراط حسن التصرف واكتفائه بالبلوغ، بدعوى أن الله رشدا ما وهو صادق بالعقل إذ العقل رشد في الجملة، ولم يشترط الرشد كله. وهذا ضعف في العربية، وكيف يمكن العموم في المواهي العقلية المحضة مع أنها لا أفراد لها. وقد أضيفت الأموال هنا إلى ضمير اليتامى: لأنها قوي اختصاصها بهم عندما صاروا رشداء فصار تصرفهم فيها لا يخاف منه إضاعا ما للقرابة ولعموم الأمة من الحق في الأموال.
وقوله {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} عطف على {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} باعتبار ما اتصل به من الكلام في قوله {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} الخ وهو تأكيد للنهي عن أكل أموال اليتامى
الذي تقدم في قوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2] وتفضيح لحياة كانوا يحتالونها قبل بلوغ اليتامى أشدهم: وهي أن يتعجل الأولياء استهلاك أموال اليتامى قبل أن يتهيئوا لمطالبتهم ومحاسبتهم، فيأكلوها بالإسراف في الإنفاق، وذلك أن أكثر أموالهم في وقت النزول كانت أعيانا من أنعام وتمر وحب وأصواف فلم يكن شأنها مما يكتم ويختزن، ولا مما يعسر نقل الملك فيه كالعقار، فكان أكلها هو استهلاكها في منافع الأولياء وأهليهم، فإذا وجد الولي مال محجوره جشع إلى أكله بالتوسع في نفقاته ولباسه ومراكبه وإكرام سمرائه مما لم يكن ينفق فيه مال نفسه، وهذا هو المعنى الذي عبر عنه بالإسراف الإفراط في الإنفاق والتوسع في شؤون اللذات.
وانتصب إسرافا على الحال: أو على النيابة عن المفعول المطلق، وأيا ماكان، فليس القصد تقييد النهي عن الأكل بذلك، بل المقصود تشويه حالة الأكل.
والبدار مصدر بادره، وهو مفاعلة من البدر، وهو العجلة إلى الشيء، بدره عجله، وبارده عاجله، والمفاعلة هنا قصد منها تمثيل هيئة الأولياء في إسرافهم في أكل أموال محاجيرهم عند مشارفتهم البلوغ، وتوقع الأولياء سرعة إبانه، بحال من يبدر غيره إلى غاية والآخر يبدر إليها فهما يتبادرانها، كأن المحجور يسرع إلى البلوغ ليأخذ ماله، والوصي يسرع إلى أكله لكيلا يجد اليتيم ما يأخذ مه، فيذهب يدعي عليه، وبقيم البينات حتى يعجز عن إثبات حقوقه، فقوله {أَنْ يَكْبَرُوا} في موضع المفعول لمصدر المفاعلة. ويكبر بفتح الموحدة مضارع كبر كعلم إذا راد في السن، وأما كبر بضم الموحدة إذا عظم في القدر، ويقال: كبر عليه الأمر بضم الموحدة شق.
{وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} .
عطف على {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً} الخ المقرر به قوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} [النساء:2] ليتقرر النهي عن أكل أموالهم. وهو تخصيص لعموم النهي عن أكل أموال اليتامى في الآيتين السابقتين للترخيص في ضرب من ضروب الكل، وهو أن يأكل الوصي الفقير من مال محجوره بالمعروف، وهو راجع إلى إنفاق بعض مال اليتيم في مصلحته، لأنه إذا لم يعط الفقير بالمعروف ألهه التدبير لقوته عن تدبير مال محجوره.
وفي لفظ المعروف حوالة على ما يناسب حال الموصي ويتيمه بحسب الأزمان
والأماكن وقد أرشد إلى ذلك حديث أبي داود: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني فقير وليس لي شيء قال "كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبادر ولا متأثل". وفي صحيح مسلم عن عائشة: نزلت الآية في ولي اليتيم إذا كان محتاجا أن يأكل منه بقدر ماله بالمعروف، ولذلك قال المالكية: يأخذوا الوصي بقدر أجرة مثله، وقال عمر بن الخطاب، وابن عباس، وأبو عبيدة، وابن جبير، والشعبي، ومجاهد: إن الله أذن في القرض لا غير. قال عمر إني نزلت نفسي من مال الله منزلة الوصي من مال اليتم، إن استغنيت استعففت وإن احتجت أكلت بالمعروف، فإذا أيسرت قضيت. وقال عطاء، وإبراهيم: لا قضاء على الوصي إن أيسر. وقال الحسن، والشعبي، وابن عباس، في رواية: إن معناه أن يشرب اللبن ويأكل من الثمر ويهنأ الجربى من إبله ويلوط الحوض. وقيل: إنما ذلك عند الاضطرار كأكل الميتة والخنزير: روي عن عكرمة، وابن عباس، والشعبي، وه أضعف الأقوال لأن الله ناط الحكم بالفقر لا بالاضطرار، وناطه بمال اليتيم، والاضطرار لا يختص بالتسليط على مال اليتيم بل على كل مال. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يأخذ إلا إذا سافر من أجل اليتيم يأخذ قوته في السفر. واختلف في وصي الحاكم هل هو مثل وصي الأب. فقال الجمهور: هما سواء، وهو الحق، وليس في الآية تخصيص.
ثم اختلفوا في الوصي الغني هل يأخذ أجر مثله على عمله بناء على الخلاف في أن الأمر في قوله {فليستعفف} للوجوب أو للندب، فمن قال للوجوب قال: لا يأكل الغني شيئا، وهذا قول كلمن منعه الانتفاع بأكثر من السلف والشيء القليل، وهم جمهور تقدمت أسماءهم. وقيل: الأمر للندب فإذا أراد أن يأخذ أجر مثله جاز له إذا كان له عمل وخدمة، أما إذا كان عمله مجرد التفقد لليتيم والإشراف عليه فلا أجر له.
وهذا كله بناء على الآية محكمة. ومن العلماء من قال: هي منسوخة بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء:10] الآية، وقوله {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] وإليه مال أبو يوسف، وهو قول مجاهد، وزيد بن أسلم.
ومن العلماء من سلك بالآية مسلك التأويل فقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: المراد فمن كان غنيا أي من اليتامى، ومن كان فقيرا كذلك، وهي بيان لكيفية الإنفاق على اليتامى فالغني يعطي كفايته، والفقير يعطي بالمعروف، وهو بعيد، فإن فعل استعفف:
بدل على الاقتصاد والتعفف عن المسألة.
وقال النخعي، وروي عن ابن عباس: من كان من الأوصياء غنيا فليستعفف بماله ولا يتوسع بمال محجوره ومن كان فقيرا فإنه يقتر على نفسه لئلا يمد يده إلى مال اليتيم. واستحسنه المحاس والكيا الطبري1 في أحكام القرآن.
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [6].
تفريع عن قوله {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وهو أمر الإشهاد عند الدفع، ليظهر جليا ما يسلمه الأوصياء لمحاجيرهم، حتى بمكن الرجوع عليهم يوما ما بما يطلع عليه مما تخلف عند الأوصياء، وفيه براءة للأوصياء أيضا من دعاوي المحاجير من بعد. وحسبك بهذا التشريع قطعا للخصومات.
والأمر هنا يحتمل الوجوب ويحتمل الندب، وبكل قالت طائفة من العلماء لم يسم أصحابها: فإن لوحظ ما فيه من الاحتياط لحق الوصي كان الإشهاد مندوبا لأنه حقه فله أن لا بفعله، وإن لوحظ ما فيه من تحقيق مقصد الشريعة من رفع التهارج وقطع الخصومات، كان الإشهاد واجبا نظير ما تقدم في قوله تعالى {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] وللشريعة اهتمام بتوثيق الحقوق لأن ذلك أقوم لنظام المعاملات. وأيا ما كان فقد جعل الوصي غير مصدق في الدفع إلا ببينة عند مالك قال ابن الفرس: لولا أنه يتضمن إذا أنكره المحجور لم يكن للأمر بالتوثيق فائدة، ونقل الفخر عن الشافعي موافقة قول مالك، إلا أن الفخر أحتج بأن ظاهر الأمر للوجوب وهو احتجاج واه لأنه لا أثر لكون الأمر للوجوب أو للندب في ترتب حكم الضمان، إذ الضمان من آثار خطاب الوضع، وسببه هو انتفاء الإشهاد، وأما الوجوب والندب فمن خطاب التكليف وأثرهما العقاب والثواب. وقال أبو حنيفة: هو مصدق بيمينه لأنه عده أمينا، وقيل: لأنه رأى الأمر للندب. وقد علمت أن محمل الأمر بالإشهاد لا يؤثر في حكم الضمان. وجاء بقوله {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} تذييلا لهذه الأحكام كلها، لأنها وصيات وتحريضات فوكل
ـــــــ
1 هو علي بن علي الطبري نسبة إلى طبرستان كورة قرب الري الملقب الكيا الطبري ويقال الكيا الهراسي والكيا بهمزة مكسورة في أوله فكاف مكسورة معناه الكبير بلغة الفرس والهراسي بفتح الهاء وتشديد الراء نسبة إلى الهريسة إما إلى بيعها أو بيعها أو صنعها الشافعي ولد سنة 450وتوفي في بغداد سنة 504.
الأمر فيها إلى مراقبة الله تعالى. والحسيب: المحاسب. والباء زائدة للتوكيد.
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} [7].
استئناف ابتدائي، وهو جار مجرى النتيجة لحكم إيتاء أموال اليتامى، ومجرى المقدمة لأحكام المواريث التي في قوله تعالى {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11].
ومناسبة تعقيب الآي السابقة بها: أنهم كانوا قد اعتادوا إيثار الأقوياء والأشداء بالأموال، وحرمان الضعفاء، وإبقاءهم عالة على أشدائهم حتى يكونوا في مقاتهم، فكان الأولياء يمنعون عن محاجيرهم أموالهم، وكان أكبر العائلة يحرم إخوته من الميراث معه فكان لضعفهم يصبرون على الحرمان، ويقنعون العائلة بالعيش في ظلال أقاربهم، لأنهم نازعوهم وطردوهم وحرموهم، فصاروا عالة على الناس.
وأخص الناس بذلك النساء فإنهن يجدن ضعفا من أنفسهن، ويخشين عار الضيعة، ويتقين انحراف الأزواج، فيتخذن رضا أولياءهن عدة لهن من حوادث الدهر، فلنا أمرهم الله أن يؤتوا اليتامى أموالهم، أمر عقبه بأمرهم بأن يجعلوا للرجال والنساء نصيبا مما ترك الوالدان والأقربون.
فإيتاء مال اليتيم تحقيق لإيصال نصيبه مما ترك له الوالدان والأقربون، وتوريث القرابة إثبات لنصيبهم مما ترك الوالدان والأقربون، وذكر النساء هناك تمهيدا لشرع الميراث، وقد تأيد ذلك بقوله {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [النساء:8] فإن ذلك إيناس الميراث، ولا يناسب إيتاء أموال اليتامى.
ولا جرم أن أهم شرائع الإسلام الميراث، فقد كانت العرب في الجاهلية يجعلون أموالهم بالوصية لعظماء القبائل ومن تلحقهم بالانتساب إليهم حسن الأحدوثة، وتجمعهم بهم صلات الحلف أو الاعتزاز والود، وكانوا إذا لم يوصوا أو تركوا بعض مالهم بلا وصية يصرف لأبناء الذكور، فإن لم يكن له ذكور فقد حكى أنهم يصرفونه إلى عصبة من أخوات وأبناء عم، ولا تعطى بناته شيئا، أما الزوجات فكن موروثات لا وارثات.
وكانوا في الجاهلية لا يورثون بالبنوة إلا إذا كان الأبناء ذكورا، فلا ميراث للنساء
لأنهم كانوا يقولون إنما يرث أموالنا من طاعن بالرمح، وضرب بالسيف. فإن لن تكن الأبناء الذكور ورث أقرب العصبة: الأب ثم الأخ ثم العم وهكذا، وكانوا يورثون بالتبني وهو أن يتخذ الرجل ابن غيره ابنا له فتنعقد بين المتبني والمتبنى جميع أحكام الأبوة.
ويورثون أيضا بالحلف وهو أن يرغب رجلان في الخلة بينهما فيتعاقدا أن دمهما واحد ويتوارثان، فلما جاء الإسلام لم يقع في مكة تغيير لأحكام الميراث بين المسلمين لتعذر تنفيذ ما يخالف أحكام سكانها، ثم لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقي معظم أقارب المهاجرين المشركون بمكة صار التوريث: بالهجرة، فالمهاجر يرث المهاجر، وبالحلف، وبالمعاقدة، وبالإخوة التي آخاها الرسول عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، ونزل في ذلك قوله تعالى {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء:33] الآية من هاته السورة. وشرع الله وجوب الوصية للوالدين والأقربين بآية سورة البقرة، ثم توالد المسلمون ولحق بهم آباؤهم وأبناؤهم مؤمنين، فشرع الله الميراث بالقرابة، وجعل للنساء حظوظا في ذلك فأتم الكلمة، وأسبغ النعمة، وأومأ إلى أن حكمة الميراث صرف المال إلى القرابة بالولادة وما دونها.
وقد كان قوله تعالى {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} أول إعطاء لحق الإرث للنساء في العرب.
ولكون هذه الآية كالمقدمة جاءت بإجمال الحق والنصيب في الميراث وتلاه تفصيله، لقصد تهيئة النفوس، وحكمة ورود الأحكام المراد نسخها إلى أثقل لتسكن النفوس إليها بالتدريج.
روى الواحدي، أسباب النزول، والطبري، عن عكرمة، وأحدهما يزيد على الآخر ما حاصله: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة1 فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن زوجي قتل معك يوم أحد وهاتان بنتاه وقد استوفى عمهما مالهما فما ترى يا رسول الله? فوالله ما تنكحان أبدا إلا ولهما مال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يقضي الله في ذلك" . فنزلت سورة النساء وفيها {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11]. قال جابر بن عبد الله: فقال لي رسول الله "ادع لي المرأة وصاحبها" فقال لعمهما "أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك" . ويروى: أن ابني عمه
ـــــــ
1 الكحة بضم الكاف وتشديد الحاء المهملة لغة في القحة وهي الخالصة.
سويد وعرفطة، وروى أنهما قتادة وعرفجة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دعا العم أو ابني العم قال، أو قالا يا رسول الله لا نعطي من لا يركب فرسا ولا يحمل كل ولا ينكي عدوا فقال "انصرف أو انصرفا، حتى أنظر ما يحدث الله فيهن" فنزلت آية {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} الآية. وروي أنه لما نزلت هاته الآية أرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ولي البنتين فقال: "لا تفرق من مال أبيهما شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا" .
والنصيب تقدم عند قوله {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} في سورة آل عمران [23].
وقوله {مِمَّا تَرَكَ} بيان لما ترك لقصد تعميم ما ترك الوالدان والأقربون وتنصيص على أن الحق متعلق بكل جزء من المال، حتى لا يستأثر بعضهم بشيء، وقد كان الرجل في الجاهلية يعطي أبناءه من ماله على قدر ميله كما أوصى نزار بن سعد ابن عدنان لأبنائه: مضر، وربيعة، وإياد، وأنمار، فجعل لمضر الحمراء كلها، وجعل لربيعة الفرس، وجعل لإياد الخادم، وجعل لأنمار الحمار، ووكلهم في إلحاق بقية ماله بهاته الأصناف الأربعة إلى الأفعى الجرهمي في نجران، فانصرفوا إليه، فقسم بينهم، وهو الذي أرسل المثل: إن العصا من العصية.
وقوله {نَصِيباً مَفْرُوضاً} حال من نصيب في قوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} وحيث أريد بنصيب الجنس جاء الحال منه منفردا ولم يراع تعدده، فلم يقل: نصيبين مفروضين، على اعتبار كون المذكور نصيبين، ولا قيل: أنصاب مفروضة، على اعتبار كون المذكور موزعا للرجال وللنساء، بل وروعي الجنس فجيء بالحال مفردا و {مفروضا} وصف. ومعنى كونه مفروضا أنه معين المقدار لمل صنف من الرجال والنساء، كما قال تعالى في الآية الآتية {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11]. وهذا أوضح دليل على أن المقصود بهذه الآية تشريع المواريث.
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [8].
جملة معطوفة على جملة {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [النساء:7] إلى آخرها. وهذا أمر بعطية تعطى من الموال الموروثة: أمر الورثة أن يسهموا لمن لم يحضر القسمة من ذوي قرابتهم غير الذين لهم حق في الإرث، ممن شأنهم أن يحضروا مجالس الفصل بين الأقرباء.
وقوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [النساء:7] وقوله {وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} [النساء:7] يقتضيان مقسوما، فالتعريف في قوله { القسمة} تعريف العهد الذكري.
والأمر في قوله {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} محمول عند جمهور أهل العلم على الندب من أول الأمر، ليس في الصدقات الواجبة غير الزكاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي لما قال له: هل علي غيرها? "لا إلا أن تطوع" وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وفقهاء الأمصار، وجعلوا المخاطب بقوله {فارزقوهم} الورثة المالكين أمر أنفسهم، والآية عند هؤلاء محكمة غير منسوخة، وذهب فريق من أهل العلم إلى حمل الأمر بقوله {فارزقوهم} على الوجوب، فعن ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، والزهري، وعطاء، والحسن، والشعبي: أن ذلك حق واجب على الورثة المالكين أمر أنفسهم المخاطبون بقوله {فارزقوهم}.
وعن ابن عباس، أبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب: وأبي صالح: أن ذلك كان فرضا قبل نزول آية المواريث، ثم نسخ بآية المواريث، ومآل هذا القول إلى موافقة قول الجمهور أهل العلم.
وعن أبن عباس أيضا، وزيد بن أسلم: أن الأمر موجه إلى صاحب المال في الوصية التي كانت مفروضة قبل شرع الميراث واجب عليه أن يجعل في وصيته شيئا لمن يحضر وصيته من أولي القربى واليتامى والمساكين غي الذين أوصى لهم، وأن ذلك نسخ تبعا لنسخ وجوب الوصية، وهذا يقتضي تأويل قوله {القسمة} بمعنى تعيين ما لكل موصى له من مقدار.
وعن سعيد بن جبير: أن الآية في نفس الميراث وأن المقصود منها هو قوله {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} قال: فقوله {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} هو الميراث نفسه.
وقوله {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} أي قولا لغير الورثة بأن يقال لهم إن الله قسم المواريث.
وقد علمت أن موقع الآية تمهيد لتفصيل الفرائض، وأن ما ذهب إليه جمهور أهل العلم هو التأويل الصحيح للآية، وكفاك باضطراب الرواية عن ابن عباس في تأويلها توهينا لتأويلاتهم.
والأمر بأن يقولا لهم قولا معروفا أي قولا حسنا وه ضد المنكر تسلية لبعضهم
عل ما حرموا منه من مال الميت كما كانوا في الجاهلية.
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [9].
موعظة لكل من أمر أو نهي أو حذر أو رغب في الآي السابقة، في شأن أموال اليتامى وأموال الضعفاء من النساء والصبيان، فابتدئت الموعظة بالأمر بخشية الله تعالى أي خشية عذابه، ثم أعقب بإثارة شفقة الآباء على ذريتهم بأن ينزلوا أنفسهم منزلة الموروثين، الذين اعتدوا هم على أموالهم، وينزلوا ذرياتهم منزلة الذرية الذين أكلوا هم حقوقهم، وهذه الموعظة مبنية على قياس قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وزاد إثارة الشفقة التنبيه على أن المعتدى عليهم خلق ضعاف بقوله {ضعافا} ، ثم أعقب بالرجوع إلى الغرض المنتقل منه وهو حفظ أموال اليتامى، بالتهديد على أكله بعذاب الآخرة بعد التهديد بسوء الحال في الدنيا. فيفهم من الكلام تعريض بالتهديد بأن نصيب أبناءهم مثلما فعلوه بأبناء غيرهم والأظهر أن مفعول يخش حذف لتذهب نفس السامع في تقديره كل مذهب محتمل، فينظر كل سامع بحسب الأهم عنده مما يخشاه أن يصيب ذريته.
وجملة {لَوْ تَرَكُوا} إلى {خَافُوا عَلَيْهِمْ} صلة الموصول، وجملة {خَافُوا عَلَيْهِمْ} جواب لو.
وجيء بالموصول لأن الصلة لما كانت وصفا مفروضا حسن التعريف بها إذ المقصود تعريف من هذه حاله، وذلك كاف في التعريف للمخاطبين بالخشية إذ كل سامع يعرف مضمون هذه الصلة لو فرض حصولها له، إذ هي أمر يتصوره كل الناس.
ووجه اختيار لو هنا من بين أدوات الشرط أنها هي الأداة الصالحة لفرض الشرط من غير تعرض لإمكانه، فيصدق معها الشرط المتعذر الوقوع والمستبعده والممكنه: فالذين بلغوا اليأس من الولادة، ولهم أولاد كبار أو لا أولاد لهم، يدخلون في فرض هذا الشرط لأنهم لو كان لهم أولاد صغار لخافوا عليهم، والذين لهم أولاد صغار أمرهم أظهر.
وفعل تركوا ماض مستعمل في مقاربة حصول الحدث مجازا بعلاقة الأول، كقوله تعالى {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} [البقرة:240] وقوله تعالى {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الشعراء:201] وقول الشاعر:
إلى ملك الجبال لفقده
...
تزول زوال الراسيات من الصخر
أي وقاربت الراسيات الزوال إذ الخوف إنما يكون عند مقاربة الموت لا بعد الموت. فالمعنى: لو شارفوا أن يتركوا ذرية ضعافا لخافوا عليهم من أولياء السوء.
والمخاطب بالأمر من يصلح له من الأصناف المتقدمة: من الأوصياء، ومنن الرجال الذين يحرمون النساء ميراثهم، ويحرمون صغار إخوتهم أو أبناء إخوتهم وأبناء أعمامهم من ميراث آبائهم، كل أولئك داخل في الأمر بالخشية، والتخويف بالموعظة، ولا يتعلق هذا الخطاب بأصحاب الضمير في قوله {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] لأن تلك الجملة وقعت كالاستطراد، ولأنه لا علاقة لمضمونها بهذا التخويف.
وفي الآية ما يبعث الناس كلهم على أن يبغضوا للحق من الظلم، وأن يأخذوا على أيدي أولياء السوء، وأن يحرسوا أموال اليتامى ويبلغوا حقوق الضعفاء إليهم، لأنهم إن أضاعوا ذلك يوشك أن يلحق أبناءهم وأموالهم مثل ذلك، وأن يأكل قويهم ضعيفهم، فإن اعتياد السوء ينسي الناس شناعته، ويكسب النفوس ضراوة على عمله. وتقدم تفسير الذرية عند قوله تعالى {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} في سورة آل عمران [34].
وقوله {فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} فرع الأمر بالتقوى على الأمر بالخشية وإن كانا أمرين متقاربين: لأن الأمر الأول لما عضد بالحجة اعتبر كالحاصل فصح التفريع عليه، والمعنى: فليتقوا الله في أموال الناس وليحسنوا إليهم القول.
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [10].
جملة معترضة تفيد تكرير التحذير من أكل مال اليتامى، جرته مناسبة التعرض لقسمة أموال الأموات، لأن الورثة يكثر أن يكون فيهم يتامى لكثرة تزوج الرجال في مدة أعمارهم، فقلما يخلوا ميت عن ورثة صغار، وهو مؤذن بشدة عناية الشارع بهذا الغرض، فذلك عاد إليه بهذه المناسبة.
وقوله {ظلما} حال من {يأكلون} مقيدة ليخرج الكل المأذون فيه بمثل قوله {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6]، فيكون كقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء:29]
ثم يجوز أن يكون نارا من قوله {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} مرادا بها نار جهنم، كما هو الغالب في القرآن، وعليه ففعل {يأكلون} ناصب نارا المذكور على تأويل يأكلون ما يفضي بهم إلى النار، فأطلق النار مجازا مرسلا بعلاقة الأول أو السببية أي ما يفضي بهم إلى عذاب جهنم، فالمعنى أنهم حين يأكلون أموال اليتامى قد أكلوا ما يفضي بهم إلى جهنم.
وعلى هذا فعطف جملة {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} عطف مرادف لمعنى جملة {يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} .
ويجوز أن يكون اسم النار مستعارا للألم بمعنى أسباب الألم فيكون تهديدا بعذاب دنيوي أو مستعارا للتلف لأن شأن النار أن تلتهم ما تصيبه، والمعنى إنما يأخذون أموالا هي سبب في مصائب تعريتهم في ذواتهم وأموالهم كالنار إذا تدنوا من أحد فتؤلمه وتتلف متاعه، فيكون هذا تهديدا بمصائب في الدنيا على نحو قوله تعالى {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا} ويكون عطف جملة {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} جاريا على ظاهر العطف من اقتضاء المغايرة بين المتعاطفين، فالجملة الأولى تهديد بعذاب في الدنيا، والجملة الثانية وعيد بعذاب الآخرة.
وذكر {في بطونهم} على كلا المعنيين مجرد تخييل وترشيح لاستعارة {يأكلون} لمعنى يأخذون ويستحوذون.
والسين في {سيصلون} حرف تنفيس أي استقبال، أي تدخل على المضارع فتمحضه للاستقبال، سواء كان استقبالا قريبا أو بعيدا، وهي مرادفة سوف، وقيل: إن سوف أوسع زمانا. وتفيدان في مقام الوعد تحقيق الوعد وكذلك التوعد.
ويصلون مضارع صلي كرضي إذا قاسى حر النار بشدة، كما هنا، يقال: صلى بالنار، ويكثر حذف حرف الجر مع فعل صلي ونصب الاسم بعده على نزع الخافض، قال حميد بن ثور:
لا تصطلي النار إلا يجمرا أرجا
...
قد كسرت من يلجوج له وقصا
وهو الوارد في استعمال القرآن باطراد.
وقرأ الجمهور: وسيصلون بفتح التحتية مضارع صلي، وقرأه ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية مضارع أصلاه أحرقه ومبنيا للنائب.
{والسعير} النار المسعرة أي الملتهبة، وهو فعيل بمعنى مفعول، بني بصيغة المجرد، وهو من المضاعف، كما بني السميع من أسمع، والحكيم من أحكم.
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [11].
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ}.
تتنزل آية {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} منزلة البيان والتفصيل لقوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء:7] وهذا المقصد الذي جعل قوله {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} [النساء:7] الخ بمنزلة المقدمة له فلذلك كانت جملة {يوصيكم} مفصولة لأن كلا الموقعين مقتض للفصل.
ومن الاهتمام بهذه الأحكام تصدير تشريعها بقوله يوصيكم لأن الوصاية هي الأمر بما فيه المأمور وفيه اهتمام الآمر لشدة صلاحه، ولذلك سمي ما يعهد به الإنسان، فيما يصنع بأبنائه وبماله وبذاته بعد الموت، وصية.
وقد رويت في سبب نزول الآية أحاديث كثيرة. ففي صحيح البخاري، عن جابر بن عبد الله: أنه قال مرضت فعادني رسول الله وأبو بكر في بني سلمة فوجداني لا أعقل فدعا رسول الله بماء فتوضأ، ثم رش علي منه فأفقت فقلت كيف أصنع في مالي يا رسول الله فنزلت {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}.
وروى الترمذي، وأبو داود، وابن ماجه، عن جابر، قال: جاءت امرأة سعد ابن الربيع فقالت لرسول الله إن سعا هلك وترك ابنتين وأخاه، فعمد أخوه فقبض ما ترك سعد، وإنما تنكح النساء على أموالهن فلم يجبها في مجلسها ذلك، ثم جاءته فقالت يا رسول الله ابنتا سعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ادع لي أخاه" ، فجاءه، فقال "ادفع إلى ابنتيه الثلثين وإلى امرأته الثمن ولك ما بقي" ونزلت آية الميراث.
بين الله في هذه الآيات فروض الورثة، وناط الميراث كله بالقرابة القريبة، سواء كانت جبلية وهي النسب، أو قريبة من الجبلية، وهي عصمة الزوجية، لأن طلب الذكر للأنثى جبلي، وكونها المرأة المعينة يحصل بالألف، وهو ناشيء عن الجبلة. وبين أهل الفروض ولم يبين مرجع المال بعد إعطاء أهل الفروض فروضهم، وذلك لأنه تركه على المتعارف عندهم قبل الإسلام من احتواء أقرب العصبة على مال الميت، وقد بين هذا المقصد قول النبي صلى الله عليه وسلم "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر".
ألا ترى قوله تعالى بعد هذا {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فلم يبين حظ الأب، لأن الأب في تلك الحالة قد رجع إلى حالته المقررة، وهي احتواء المال فاحتج إلى ذكر فرض الأم.
وابتدأ الله تعالى بميراث الأبناء لأنهم أقرب الناس.
والأولاد جمع ولد بوزن فعل مثل أسد ووثن، وفيه لغة ولد بكسر الواو وسكون اللام وكأنه حينئذ فعل الذي بمعنى المفعول كالذبح والسلخ. والولد اسم للابن ذكرا كان أو أنثى، ويطلق على الواحد وعلى الجماعة من الأولاد، والوارد في القرآن بمعنى الواحد وجمعه أولاد.
و {في} هنا للظرفية المجازية، جعلت الوصية كأنها مظروفة في شأن الأولاد لشدة تعلقها به كاتصال المظروف بالظرف، ومجرورها محذوف قام المضاف إليه مقامه، لظهور أن ذوات الأولاد لا تصلح ظرفا للوصية، فتعين تقدير مضاف على طريقة دلالة الاقتضاء، وتقديره: في إرث أولادكم، والمقام يدل على المقدرة على حد {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] فجعل الوصية مظروفة في هذا الشأن لشدة تعلقها به واحتوائه عليها.
وجملة {ِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} بيان لجملة {يوصيكم} لأن مضمونها هو معنى مضمون الوصية، فهي مثل البيان في قوله تعالى {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ} وتقديم الخبر على المبتدأ في هذه الجملة للتنبيه من أول الأمر على أن الذكر صار له شريك في الإرث وهو الأنثى لأنه لم يكن لهم به عهد من قبل إذ كان الذكور يأخذون المال الموروث كله ولاحظ للإناث، كما تقدم آنفا في تفسير قوله تعالى {لِِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء:7].
وقوله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} جعل حظ الأنثيين هو المقدار الذي يقدر به حظ
الذكر، ولم يكن قد تقدم تعيين حظ للأنثيين حتى يقدر به، فعلم أن المراد تضعيف حظ الذكر من الأولاد على حظ الأنثى منهم، وقد كان هذا المراد صالحا لأن يؤدي بنحو: للأنثى نصف حظ ذكر، أو للأنثيين مثل حظ ذكر، إذ ليس المقصود إلا بيان المضاعفة. ولكن قد أوثر هذا التعبير لنكتة لطيفة وهي الإيمان إلى أن حظ الأنثى صار في اعتبار الشرع أهم من حظ الذكر، إذ كانت مهضومة الجانب عند أهل الجاهلية فصار الإسلام ينادي بحظها في أول ما يقرع الأسماع قد علم أن قسمة المال تكون باعتبار عدد البنين والبنات.
وقوله {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} الخ معاد الضمير هو لفظ الأولاد، وهو جمع ولد غير مؤنث اللفظ ولا المدلول لأنه صالح للمذكر والمؤنث، فلما كان ما صدقه هنا النساء خاصة أعيد عليه الضمير بالتأنيث.
ومعنى {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} أكثر من اثنتين، ومن معاني فوق الزيادة في العدد، وأصل ذلك مجاز، ثم شاع حتى صار كالحقيقة، والآية صريحة في أن الثلثين لا يعطيان إلا للبنات الثلاث فصاعدا لأن تقسيم الأنصباء لا ينتقل فيه من مقدار إلى مقدار أزيد منه إلا عند انتهاء من يستحق المقدار الأول.
والوصف ب {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} يفيد مفهوما وهو أن البنتين لا تعطيان الثلثين، وزاد فقال {وََإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فبقي ميراث البنتين المنفردتين غير منصوص في الآية فألحقها الجمهور بالثلاثة لأنهما أكثر من واحدة، وأحسن ما وجه به ذلك ما قاله القاضي إسماعيل بن إسحاق إذا كانت تأخذ البنت مع أخيها انفرد الثلث فأحرى أن تأخذ الثلث مع أختها يعني أن كل واحدة من البنتين هي مقارنة لأختها الأخرى فلا يكون حظها نع أخت أنثى أقل من حظها مع أخ ذكر، فإن الذكر أولى بتوفير نصيبه، وقد تلقته المحققون من بعده، وربما نسب لبعض الذين تلقفوه. وعلله ووجهه آخرون: بأن الله جعل للأختين عند انفرادهما الثلثين فلا تكون البنتان أقل منهما. وقال ابن عباس أقل منهما. وقال ابن عباس: للبنتين كالبنت الواحدة، وكأنه لم ير لتوريثهما أكثر من الشريك في النصف محملا في الآية، ولو أريد ذلك لما قال {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ}. ومنهم من جعل لفظ فوق زائدا، ونظره بقوله تعالى {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال:12]. وشتان بين فوق التي مع أسماء العدد وفوق التي بمعنى مكان الفعل. قال ابن عطية: وقد أجمع الناس في الأمصار والأعصار على أن للبنتين الثلثين، أي وهذا الإجماع مستند لسنة عرفوها. ورد القرطبي دعوى
الإجماع بأن ابن عباس صح عنه أنه أعطى البنتين النصف. قلت: لعل الإجماع انعقد بعدما أعطى ابن عباس البنتين النصف على أن اختلال الإجماع لمخالفة واحد مختلف فيه، أما حديث امرأة سعد ابن الربيع المتقدم فلا يصلح للفصل في هذا الخلاف، لأن في روايته اختلافا هل ترك بنتين أو ثلاثا.
وقوله {فلهن} أعيد الضمير إلى نساء، والمراد ما يصدق بالمرأتين تغليبا للجمع على المثنى اعتمادا على القرينة.
وقرأ الجمهور {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} بنصب واحدة عل أنه خبر كانت، واسم كانت ضمير عائد إلى ما يفيد قوله {في أولادكم} من مفرد ولد، أي وإن كانت الولد بنتا واحدة، وقرأ نافع، وأبو جعفر بالرفع على أن كان تامة، والتقدير: وإن وجدت بنت واحدة، لما دل عليه قوله {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً}.
وصيغة {أولادكم} صيغة عموم لأن أولاد جمع معرف بالإضافة، والجمع المعرف الإضافة من صيغ العموم، وهذا العموم، خصصه أربعة أشياء: الأول: خص منه عند أهل السنة النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه عنه أبو بكر أنه قال "لا نورث ما تركنا صدقة" ووافقه عليه عمر بن الخطاب وجميع الصحابة وأمهات المؤمنين. وصح أن عليا رضي الله عنه وافق عليه في مجلس عمر بن الخطاب ومن حضر من الصحابة كما في الصحيحين.
الثاني: اختلاف الدين بالإسلام وغيره، بالإسلام وغيره، وقد أجمع المسلمون على أنه لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
الثالث: قاتل العمد لا يرث قريبه في شيء.
الرابع: قاتل الخطأ لا يرث من الدية شيئا.
{وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ}.
الضمير المفرد عائد إلى الميت المفهوم من قوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} إذ قد تقرر أن الكلام على طريقة الإجمال والتفصيل ليكون كالعنوان، فلذلك لم يقل: ولكل من أبويه السدس، وهو كقوله السابق {فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11].
وقوله {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} زاده للدلالة على الاقتصار أي: لا غيرهما، ليعلم من قوله {فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} أن للأب الثلثين، فإن كان مع الأم صاحب فرض لا تحجبه كان على فرضه معها وهي على فرضها. واختلفوا في زوجة وأبوين وزوج وأبوين: فقال أبن عباس: للزوج أو الزوجة فرضهما وللأم ثلثها وما بقي الأب، حملا على قاعدة تعدد أهل الفروض، وقال زيد بن ثابت: لأحد الزوجين فرضه وللأم ثلث ما بقي وما بقي للأب، لئلا تأخذه الأم أكثر من الأب في صورة زوج وأبوين، وعلى قول زيد ذهب جمهور العلماء. وفي سنن ابن أبي شيبة: أن ابن عباس أرسل إلى زيد أين تجد كتاب الله ثلث ما بقي فأجاب زيد إنما أنت رجل تقول برأيك وأنا أقول برأيي.
وقد علم أن للأب مع الأم الثلثين، وترك ذكره لأن مبنى الفرائض على أن ما بقي بدون فرض يرجع إلى أصل العصابة عند العرب.
وقرأ الجمهور: فلمه بضم همزة أمه ، وقرأ حمزة، والكسائي بكسر الهمزة اتباعا لكسرة اللام.
وقوله {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} أي إن كان إخوة مع الأبوين وهو صريح في أن الإخوة يحجبون الأم فينقلونها من الثلث إلى السدس. والمذكور في الآية صيغة جمع فهي ظاهرة في أنها لا ينقلها إلى السدس إلا جماعة من الإخوة ثلاثة فصاعدا ذكورا أو مختلطين. وقد اختلف فيما دون الجمع، وما إذا كان الإخوة إناثا: فقال الجمهور الأخوان يحجبان الأم، والأختان أيضا، وخالفهم ابن عباس أخذا بظاهر الآية. أما الأخ الواحد أو الأخت فلا يحجب الأم والله أعلم بحكمه ذلك. واختلفوا في السدس الذي يحجب الإخوة عنه الأم: هل يأخذه الإخوة أم يأخذه الأب، فقال بالأول ابن عباس رضي الله عنه وهو أظهر، وقال بالثاني الجمهور بناء على أن الحاجب قد يكون محجوبا. وكيفما كان فقد اعتبر الله للأخوة حظا مع وجود الأبوين في حالة خاصة، ولو كان الإخوة مع الأم ولم يكن أب لكان للأم السدس وللأخوة بقية المال باتفاق، وربما كان في هذا تعضيد لابن عباس.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
المجرور في موضع الحال، فهو ظرف مستقر، وهو قيد يرجع إلى الجمل المتقدمة:
أي تقتسمون المال على حسب تلك الأنصباء لكل نصيبه حالة كونه من بعد وصية أو دين.
وجيء بقوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} بعد ذكر صنفين من الفرائض: فرائض الأبناء، وفرائض الأبوين، لأن هذين الصنفين كصنف واحد إذ كان سببهما عمود النسب المباشر. والمقصد هنا التنبيه على أهمية الوصية وتقدمها. وإنما ذكر الدين بعدها تتميما لما يتعين تقديمه على الميراث مع علم السامعين أن الدين يتقدم على الوصية أيضا لأنه حق سابق في مال الميت، لأن المدين لا يملك من ماله إلا ما هو فاضل عن دين دائنه. فموقع عطف {أو دين} موقع الاحتراس، ولأجل هذا الاهتمام كرر الله هذا القيد أربع مرات في هذه الآيات.
ووصف الوصية بجملة {يُوصِي بِهَا} لئلا يتوهم أن المراد الوصية التي كانت مفروضة قبل شرع الفرائض، وهي التي في قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة:180]. وقرأ الجمهور {يُوصِي بِهَا} في الموضعين في هذه الآية بكسر الصاد والضمير عائد إلى معلوم من الكلام وهو الميت، كما عاد الضمير {ما ترك} [النساء:7] وقرأه ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، في الموضعين أيضا: يوصى بفتح الصاد مبينا للنائب أي يوصي بها موص.
{آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [11].
ختم هذه الفرائض المتعلقة بالأولاد والوالدين، وهي أصول الفرائض بقوله {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ} الآية، فهما إما مسند إليهما قدما للاهتمام، وليتمكن الخبر في ذهن السامع إذ يلقي سمعه عند ذكر المسند إليهما بشراشره، وإما أن تجعلهما خبرين عن مبتدأ محذوف هو المسند إليه، على طريقة الحذف المعبر عنه عند علماء المعاني بمتابعة الاستعمال، وذلك عندما يتقدم حديث عن شيء ثم يراد جمع الخبر عنه كقول الشاعر:
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
بعد قوله:
سأشكر عمرا إن تداينت منيتي
أيادي تمنن وإن هي جلت أي: المذكورون آباؤكم وأبناؤكم لاشك في ذلك. ثم قال {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} فهو إما مبتدأ وإما حال، بمعنى أنهم غير مستوين في نفعكم متفاوتون تفاوتا
يتبع الشفقة الجبلية في الناس ويتبع البرور ومقدار تفوت الحاجات.فرب رجل لم تعرض له حاجة إلى أن ينفعه أبواه وأبناؤه، وربما عرضت حاجات كثيرة في الحالين، وربما لم تعرض، فهم متفاوتون من هذا الاعتبار الذي كان يعتمده أهل الجاهلية في قسمة أموالهم، فاعتمدوا أحوالا غير منضبطة ولا موثوقا بها، ولذلك قال تعالى {لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} فشرع الإسلام ناط الفرائض بما لا يقبل التفاوت وهي الأبوة والبنوة، ففرض الفريضة لهم نظرا لصلتهم الموجبة كونهم أحق البناء بمال الأبناء أو الآباء.
والتذييل بقوله {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} واضح المناسبة.
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [12].
{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.
هذه فريضة الميراث الذي سببه العصمة، وقد أعطاها الله حقها المهجور عند الجاهلية إذ كانوا لا يورثون الزوجين: أما الرجل فلا يرث امرأته لأنها إن لم يكن لها أولاد منه، فهو قد صار بموتها بمنزلة الأجنبي عن قرابتها من آباء وإخوة وأعمام، وإن كان لها أولاد أحق بميراثها إن كانوا كبارا، فإن كانوا صغارا قبض أقرباؤهم مالهم وتصرفوا فيه، وأما المرأة فلا ترث زوجها بل كانت تعد موروثة عند عنه يتصرف فيها ورثته كما سيجيء في قوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء:19]. فنوه الله في هذه الآية بصلة العصمة، وهي التي وصفها بالميثاق الغليظ في قوله {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} النساء:21].
والجمع في {أزواجكم} وفي قوله {مما تركتم} كالجمع في الأولاد والآباء، مراد به أفراد الوارثين من الأمة، وهاهنا قد اتفقت الأمة على أن الرجل إذا كانت له زوجات يشتركن في الربع أو في الثمن من غير زيادة لهن، لأن تعدد الزوجات بيد صاحب المال فكان تعددهن وسيلة لإدخال المضرة على الورثة الآخرين بخلاف تعدد البنات والأخوات فإنه لا خيار فيه لرب المال. والمعنى: ولكل واحد منكم نصف ما تركت كل زوجة من أزواجه وكذلك قوله {فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ}.
وقوله {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} أي لمجموعهن الربع مما ترك زوجهن. وكذلك قوله {فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} وهذا حذق يدل عليه إيجاز الكلام.
وأعقبت فريضة الأزواج بذكر {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لئلا يتوهم متوهم أنهن ممنوعات من الإيصاء ومن التداين كما كان الحال في زمان الجاهلية. وأما ذكر تلك الجملة عقب ذكر ميراث النساء من رجالهن فجريا على الأسلوب المتبع في هذه الآيات، وهو يعقب كل صنف من الفرائض بالتنبيه على أنه لا يستحق إلا بع إخراج الوصية وقضاء الدين.
{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}.
بعد أن بي ن ميراث ذي الأولاد أو الوالدين وفصله في أحواله حتى حالة ميراث الزوجين، انتقل هنا إلى ميراث من ليس له ولد ولا والد، هو الموروث كلالة، ولذلك قابل بها ميراث الأبوين.
والكلالة اسم للكلال وهو التعب والإعياء قال الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة
...
ولا من حفي حتى ألاقي محمدا
وهو اسم مصدر لا ينثني ولا يجمع.
ووصفت العرب بالكلالة القرابة غير القربى، كأنهم جعلوا وصوله لنسب قريبة عن بعد، فأطلقوا عليه الكلالة على طريق الكناية واستشهدوا له بقول من لم يسووه:
فإن أبا المرء أحمى له
...
ومولى الكلالة لا يغضب
ثم أطلقوه على إرث البعيد، وأحسب أن ذلك من مصطلح القرآن إذ لم أره في كلام العرب إلا ما بعد نزول الآية. قال الفرزدق:
ورثتم قناة لا عن كلالة
...
عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
ومنه قولهم: ورث المجد كلالة. وقد عد الصحابة معنى الكلالة هنا من مشكل القرآن حتى قال عمر بن الخطاب: ثلاث لأن يكون رسول الله بينهم أحب إلي من الدنيا: الكلالة، والربا، والخلافة. وقال أبو بكر أقول فيها برأيي، فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء، الكلالة ما خلا الولد والوالد. وهذا قول عمر، وعلي، وابن عباس، وقال به الزهري، وقتادة والشعبي، وهو قول الجمهور، وحكي الإجماع عليه، وروي عن أبن عباس الكلالة من لا ولد له أي ولو كان له والد وينسب ذلك لأبي بكر وعمر أيضا ثم رجعا عنه، وقد يستدل له بظاهر الآية في آخر السورة {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء:176] وسياق الآية يرجح ما ذهب إليه الجمهور لأن ذكرها بعد ميراث الأولاد والأبوين مؤذن بأنها حالة مخالفة للحالين.
وانتصب قوله {كلالة} على الحال من الضمير في {يورث} الذي هو كلالة من وارثه أي قريب غير الأقرب لأن الكلالة يصح أن يوصف بها كلا القريبين.
وقوله {أو امرأة} عطف على {رجل} الذي هو اسم كان فيشارك المعطوف المعطوف عليه في خبر كان إذ لا يكون لها اسم بدون خبر في حال نقصانها.
وقوله {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} يتعين على قول الجمهور في معنى الكلالة أن يكون المراد بهما الأخ والأخت للأم خاصة لأنه إذا كان الميت لا ولد له ولا والد وقلنا له أخ أو أخت وجعلنا لكل واحد منهما السدس نعلم بحكم ما يشبه دلالة الاقتضاء أنهما الأخ للأم لأنهما لما كانت نهاية حظهما الثلث فقد بقي الثلثان فلو كان الأخ والأخت هما الشقيقين أو الذين للأب لاقتضى أنهما أخذا أقل المال وترك الباقي لغيرهما وهل يكون غيرهما أقرب منهما فتعين أن الأخ والأخت مراد بهما اللذان للأم خاصة ليكون الثلثان للإخوة الأشقاء أو الأعمام أو بني الأعمام. وقد أثبت الله بهذا فرضا للإخوة للأم إبطالا لما كان عليه أهل الجاهلية من إلغاء جانب الأمومة أصلا، لأنه جانب نساء ولم يحتج للتنبيه على مصير بقية المال لما قدمنا بيانه آنفا من أن الله تعالى أحال أمر العصابة على ما هو متعارف بين من نزل فيهم القرآن.
وعلى قول ابن عباس في تفسير الكلالة لا يتعين أن يكون المراد بالأخ والأخت اللذين للأم إذ قد يفرض للإخوة الأشقاء نصيب هو الثلثان لعاصب أقوى وهو الأب في بعض صور الكلالة غير أن ابن عباس وافق الجمهور على أن المراد بالأخ والأخت اللذان للأم وكان سبب ذلك عنده أن الله أطلق الكلالة وقد لا يكون فيها أب فلو كان المراد بالأخ والأخت الشقيقين أو اللذين للأب لأعطيناهما الثلث عند عدم الأب وبقي معظم المال لمن هو دون الإخوة في التعصب فهذا فيما أرى هو الذي حدا سائر الصحابة والفقهاء إلى حمل الأخ والأخت على الذين للأم. وقد ذكر الله تعالى الكلالة في آخر السورة بصورة أخرى سنتعرض لها.
{غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
{غَيْرَ مُضَارٍّ} حال من ضمير {يوصي} الأخير، ولما كان فعل يوصي تكريرا، كان حالا من ضمائر نظائره.
ومضار الظهر أنه اسم فاعل بتقدير كسر الراء الأولى المدغمة أي غير مضار ورثته بإكثار الوصايا، وهو نهي عن أن يقصد من وصيته الإضرار بالورثة. والإضرار منه ما حدده الشرع، وهو أن يتجاوز الموصي بوصيته ثلث ماله وقد حدده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لسعد بن أبي وقاص "الثلث والثلث كثير". ومنه ما يحصل بقصد الموصي بوصيته الإضرار بالوارث ولا يقصد القربة بوصيته، وهذا هو المارد من قوله تعالى {غَيْرَ مُضَارٍّ}. ولما كانت نية الموصي وقصده الإضرار لا يطلع عليه فهو موكول لدينه وخشية ربه، فإن ما يدل على قصده الإضرار دلالة واضحة، فالوجه أن تكون تلك الوصية باطلة لأن قوله تعالى {غَيْرَ مُضَارٍّ} هي عن الإضرار، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه.
ويتعين أن يكون هذا القيد للمطلق في الآي الثلاث المتقدمة من قوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} الخ، لأن هذه المطلقات متحدة الحكم والسبب. فيحمل المطلق منها على المقيد كما تقرر في الأصول.
وقد أخذ الفقهاء من هذه الآية حكم مسألة قصد المعطي من عطيته الإضرار بوارثه في الوصية وغيرها من العطايا، والمسألة مفروضة في الوصية خاصة. وحكى ابن عطية عن مذهب مالك وابن القاسم أن قصد المضارة في الثلث لا ترد به الوصية لأن الثلث حق جعله الله له فهو على الإباحة في التصرف فيه. ونازعه ابن عرفة في التفسير بأن ما في
الوصايا الثاني: من المدونة، صريح في أن قصد الإضرار يوجب رد الوصية. وبحث ابن عرفة مكين. ومشهور مذهب ابن القاسم أن الوصية ترد بقصد الإضرار إذا تبين القصد غير أن ابن عبد الحكم لا يرى تأثير الإضرار. وفي شرح ابن ناجي على تهذيب المدونة أن قصد الإضرار بالوصية في أقل من الثلث لا يوهن الوصية على الصحيح. وبه الفتوى.
وقوله {وصية} منصوب على أنه مفعول مطلق جاء بدلا من فعله، والتقدير: يوصيكم الله بذلك وصية منه فهو ختم للأحكام بمثل ما بدئت بقوله {يُوصِيكُمُ اللَّهُ} [النساء:11] وهذا من رد العجز على الصدر.
وقوله {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} تذييل، وذكر وصف العلم والحلم هنا لمناسبة أن الأحكام المتقدمة إبطال لكثير من أحكام الجاهلية، وقد كانوا شرعوا مواريثهم تشريعا مثاره الجهل والقساوة. فإن حرمان البنت والأخ للأم من الإرث جهل بأن صلة النسبة من جانب الأم مماثلة لصلة نسبة جانب الأب. فهذا ونحوه جهل، وحرمانهم الصغار من الميراث قساوة منهم.
وقد بينت الآيات في هذه السورة الميراث وانصباءه بين أهل أصول النسب وفروعه وأطرافه وعصمة الزوجية، وسكتت عما عدا ذلك من العصبة وذوي الأرحام وموالي العتاقة وموالي الحلف، وقد أشار قوله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} في سورة الأنفال [75] وقوله {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} في سورة الأحزاب [6] إلى ما أخذ منه كثير من الفقهاء توريث ذوي الأرحام. وأشار قوله الآتي قريبا {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] إلى ما يؤخذ منه التوريث بالولاء على الإجمال كما سنبينه، وبين النبي صلى الله عليه وسلم توريث العصبة بما رواه أهل الصحيح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" وما رواه الخمسة غير النسائي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن مات وترك مالا فماله لموالي العصبة ومن ترك كلا أو ضياعا فأنا وليه" وسنفصل القول في ذلك في مواضعه المذكورة.
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [النساء:13] وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } [النساء:14].
الإشارة إلى المعاني والجمل المتقدمة.
والحدود جمع حد، وهو ظرف المكان الذي يميز عن مكان آخر بحيث يمنع تجاوزه، واستعمل الحدود هنا مجازا في العمل الذي لا تحل مخالفته على طريقة التمثيل.
ومعنى {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} انه يتابع حدوده كما دل عليه قوله في مقابله {ويتعد حدوده} .
وقوله {خَالِداً فِيهَا} استعمل الخلود في طول المدة. أو أريد من عصيان الله ورسوله العصيان الإثم وهو نبذ الإيمان، لأن القوم يومئذ كانوا قد دخلوا في الإيمان ونبذوا الكفر، فكانوا حريصين على العمل بوصايا الإسلام، فما يخالف ذلك إلا من كان غير ثابت الإيمان إلا من تاب.
ولعل قوله {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} تقسيم، لأن العصيان أنواع: منه ما يوجب الخلود، ومنه ما يوجب العذاب المهين، وقرينة ذلك أن عطف {وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} على الخلود في النار لا يحتاج إليه إذا لم يكن مرادا به التقسيم، فيضطر إلى جعله زيادة توكيد، أو تقول إن محط العطف هو وصفه بالمهين لأن العرب أباة الضيم، شم الأنوف، فقد يحذرون عذاب النار، ومن الأمثال المأثورة في حكاياته النار ولا العار. وفي كتاب الآداب في أعجاز أبياته والحر يصبر خوف العار للنساء.
وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو جعفر {ندخله} في الموضعين هنا بنون العظمة، وقرأ الجمهور بياء الغيبة والضمير عائد إلى اسم الجلالة.
{وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:16].
موقع هذه الآية في هذه السورة معضل، وافتتاحها بواو العطف أعضل، لاقتضائه اتصالها بكلام قبلها. وقد جاء حد الزنا في سورة النور، وهي نازلة في سنة ست بعد
غزوة بني المصطلق على الصحيح، والحكم الثابت في سورة النور أشد من العقوبة المذكورة هنا، ولا جائز أن يكون الحد الذي في سورة النور قد نسخ بما هنا لأنه لا قائل به. فإذا مضينا على معتادنا في اعتبار الآي نازلة على ترتيبها في القراءة في سورها، قلنا إن هذه الآية نزلت في سورة النساء عقب أحكام المواريث وحراسة أموال اليتامى، وجعلنا الواو عاطفة هذا الحكم على ما تقدم من الآيات في أول السورة بما يتعلق بمعاشرة النساء، كقوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] وجزمنا بأن أول هذه السورة نزل قبل أول سورة النور، وأن هذه العقوبة كانت مبدأ شرع العقوبة على الزنا فتكون هاته الآية منسوخة بآية سورة النور لا محالة، كما يدل عليه قوله {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} قال ابن عطية: أجمع العلماء على أن هاتين الآيتين منسوختان بآية الجلد في سورة النور. اه . وحكى ابن الفرس في ترتيب النسخ أقوالا ثمانية لا نطيل فيها. فالواو عاطفة حكم تشريع عقب تشريع لمناسبة: هي الرجوع إلى أحكام النساء، فإن الله لما ذكر أحكاما من النكاح إلى قوله {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} وما النكاح إلا إجماع الرجل والمرأة على معاشرة عمادها التأنس والسكون إلى الأنثى، ناسب أن يعطف إلى ذكر أحكام اجتماع الرجل بالمرأة على غير الوجه المذكور فيه شرعا، وهو الزنا المعبر عنه بالفاحشة.
فالزنا هو أن يقع شيء من تلك المعاشرة على غير الحال المعروف المأذون فيه، فلا جرم أن كان يختلف باختلاف أحوال الأمم والقبائل في خرق القوانين المجعولة لإباحة اختصاص الرجل بالمرأة.
ففي الجاهلية كان طريق الاختصاص بالمرأة السبي أو الغرة أو التعويض أو رغبة في مصاهرة قوم ورغبتهم فيه أو إذن الرجل امرأته بأن تستبضع من رجل ولدا تقدم.
وفي الإسلام بطلت الغارة وبطل الاستبضاع، ولذلك تجد الزنا لا يقع إلا خفية لأنه مخالفة لقوانين الناس لقوانين الناس في نظامهم وأخلاقهم. وسمي الزنا الفاحشة لأنه تجاوز الحد في الفساد وأصل الفحش الأمر الشديد الكراهية والذم، من فعل أو قبول، أو حال ول أقف على وقوع العمل بهاتين الآيتين قبل نسخهما.
ومعنى {يأتين} يفعلن، وأصل الإيتاء المجيء إلى شيء فاستعير هنا الإتيان لفعل شيء لأن فاعل شيء عن شيء عن قصد يشبه السائر إلى مكان حتى بصله ، يقال: أتى الصلاة، أي صلاها ، وقال الأعشى:
ليعلم كل الورى أنني
...
أتيت المروءة من بابها
وربما قالوا: أتى بفاحشة وبمكروه كأنه جاء مصاحبا له.
وقوله {من نسائكم} بيان للموصول وصلته. والنساء اسم جمع امرأة، وهي الأنثى من الإنسان، وتطلق المرأة على الزوجة فلذلك يطلق النساء على الإناث مطلقا، وعلى الزوجات خاصة ويعرف المراد بالقرينة، قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات:11] ثم قال {وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} [الحجرات:11] فقابل بالنساء القوم. والمراد الإناث كلهن، وقال تعالى {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} [النساء:11] الآية المتقدمة آنفا. والمراد هنا مطلق النساء فيشمل العذارى العزبات.
وضمير جمع المخاطبين في قوله {من نسائكم} والضمائر الموالية له، عائدة إلى المسلمين على الإجمال، ويتعين للقيام بما خوطبوا به من لهم أهلية القيام بذلك. فضمير {نسائكم} عام مراد به نساء المسلمين، وضمير {فاستشهدوا} مخصوص بمن يهمه الأمر من الأزواج، وضمير {فأمسكوهن} مخصوص بولاة الأمور، لأن الإمساك المذكور سجن وهو حكم لا يتولاه إلا القضاة، وهم الذين ينظرون في قبول الشهادة فهذه عمومها مراد به الخصوص.
وهذه الآية الأصل في اشتراط أربعة في الشهادة على الزنى، وقد تقرر ذلك بآية سورة النور.
ويعتبر في الشهادة الموجبة للإمساك في البيوت ما يعتبر في شهادة الزنى لإقامة الحد سواء.
والمراد بالبيوت البيوت التي يعينها ولاة الأمور لذلك. وليس المراد إمساكهن في بيوتهن بل يخرجن من بيوتهن إلى بيوت أخرى إلا إذا حولت بيت المسجونة إلى الوضع تحت نظر القاضي وحراسته، وقد دل على هذا المعنى قوله تعالى في آية سورة الطلاق عند ذكر العدة {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق:1].
ومعنى {يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ} يتقاضاهن. يقال: توفى فلان حقه من فلان واستوفاه حقه. والعرب تتخيل العمر مجوءا. فالأيام والزمان والموت يستخلصه من صاحبه منجما إلى تتوفاه. قال طرفة:
أرى العمر ناقصا كل ليلة
...
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
وقال أبو حية النميري:
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة
...
تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا
ولذلك يقولون توفي فلان بالبناء للمجهول أي توفي عمره. فجعل الله الموت هو المتقاضي لأعمار الناس على استعمالهم في التعبير، وإن كان الموت هو أثر آخر أنفاس المرء، فالتوفي في هذه الآية وارد على أصل معناه الحقيقي في اللغة.
ومعنى {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} أي حكما آخر. فالسبيل مستعار للأمر البين بمعنى العقاب المناسب تشبها له بالطريق الجادة. وفي هذا إشارة إلى أن إمساكهن في البيوت زجر مؤقت سيعقبه حكم شاف لما يجده الناس في نفوسهم من السخط عليهن مما فعلن.
ويشمل قوله {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} جميع النساء اللاتي يأتين الفاحشة من محصنات وغيرهن.
وأما قوله {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا} فهو مقتض نوعين من الذكور فإنه تثنية الذي وهو اسم موصول للمذكر، وقد قوبل به اسم موصول النساء الذي في قوله {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ} ولا شك أن المراد ب {اللذان} صنفان من الرجال: وهما صنف المحصنين، وصنف غير المحصنين منهم، وبذلك فسره ابن عباس في رواية مجاهد، وهو الوجه في تفسير الآية، وبه يتقوم معنى بين غير متداخل ولا مكرر. ووجه الإشعار بصنفي الزناة من الرجال التحرز من التماس العذر فيه لغير المحصنين. ويجوز أن يكون أطلق على صنفين مختلفين أي الرجال والنساء على طريقة التغليبي الذي يكثر في مثله، وهو تفسير السدي وقتادة، فعلى الوجه الأول تكون الآية قد جعلت للنساء عقوبة واحدة على الزنى وهي عقوبة الحبس في البيوت، وللرجال عقوبة على الزنا، هي الأذى سواء كانوا محصنين بزوجات أم غير محصنين، وهم الأعزبون. وعلى الوجه الثاني تكون قد جعلت للنساء عقوبتين: عقوبة خاصة بهن وهي الحبس، وعقوبة لهن كعقوبة الرجال وهي الأذى، فيكون الحبس لهن مع عقوبة الأذى. وعلى كلا الوجهين يستفاد استواء المحصن وغير المحصن من الصنفين في كلتا العقوبتين، فأما الرجال فبدلالة تثنية اسم الموصول المراد بها صنفان اثنان، وأما النساء فبدلالة عموم صيغة {نسائكم} .
وضمير النصب في قوله {يأتيانها} عائد إلى الفاحشة المذكورة وهي الزنا. زلا التفات لكلام من توهم غير ذلك. والإيذاء: الإيلام غير الشديد بالفعل كالضرب غير المبرح، والإيلام بالقول من شتم وتوبيخ، فهو أعلم من الجلد، والآية أجملته، فهو موكول إلى اجتهاد الحاكم.
وقد اختلف أئمة الإسلام في كيفية انتزاع هذين العقوبتين من هذه الآية: فقال ابن عباس، ومجاهد: اللاتي يأتين الفاحشة يعم النساء خاصة فشمل كل امرأة في سائر الأحوال بكرا أن ثيبا، وقوله {اللذان} تثنية أريد بها نوعان من الرجال، وهم المحصن والبكر، فيقتضي أن حكم الحبس في البيوت يختص بالزواني كلهن، وحكم الأذى يختص بالزناة كلهم، فاستفيد التعميم في الحالتين إلا أن استفادته في الأولى من صيغة العموم، وفي الثانية من انحصار النوعين، وقد كان يغني أن يقال: واللاتي يأتين، والذين يأتون، إلا أنه سلك هذا الأسلوب ليحصل العموم بطريقين مع التنصيص على شمول النوعين.
وجعل لفظ اللاتي للعموم ليستفاد العموم من صيغة الجمع فقط.
وجعل لفظ اللذان للنوعين لأن مفرده وهوا الذي صالح للدلالة على النوع، إذ النوع يعبر عنه بالمذكر مثل الشخص، ونحو ذلك، وحصل مع ذلك كله تفن بديع في العبارة فكانت بمجموع ذلك هاته الآية غاية في الإعجاز، وعلى هذا الوجه فالمراد من النساء معنى ما قبل الرجال وهذا هو الذي يجدر حمل معنى الآية عليه.
والأذى أريه به هنا غير الحبس لأنه سبق تخصيصه بالنساء وغير الجلد، لأنه لم يشرع بعد، فقيل: هو الكلام الغليظ والشتم والتعيير. وقال ابن عباس: هو النيل باللسان واليد وضرب النعال، بناء على تأويله أن الآية شرعت عقوبة للزنا قبل عقوبة الجلد. واتفق العلماء على أن هذا الحكم منسوخ بالجلد المذكور في سورة النور، وبما ثبت في السنة من رجم المحصنين وليس تحديد هذا الحكم بغاية قوله {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} بصارف معنى النسخ عن هذا الحكم كما توهم ابن العربي، لأن الغاية جعلت مبهمة، فالمسلمون يترقبون ورود حكم آخر، بعد هذا، لا غنى لهم عن إعلامهم به.
واعلم أن شأن النسخ في العقوبات على الجرائم التي لم تكن فيها عقوبة قبل الإسلام، أن تنسخ بأثقل منها، فشرع الحبس والأذى للزناة في هذه السورة، وشرع الجلد بآية سورة النور، والجلد أشد من الحبس ومن الأذى، وقد سوي في الجلد بين المرأة
والرجل، إذ التفرقة بينهما لا وجه لبقائها، إذ كلاهما قد خرق حكما شرعيا تبعا لشهوة نفسية أو طاعة لغيره.
ثم إن الجلد المعين شرع بآية سورة النور مطلقا أو عاما على الاختلاف في محمل التعريف في قوله {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور:2]؛ فإن كان قد وقع العمل به كذلك في الزناة والزواني: محصنين أو أبكارا، فقد نسخه الرجم في خصوص المحصنين منهم، وهو ثابت بالعمل المتواتر، وإن كان الجلد لم يعمل به إلا في البكرين فقد قيد أو خصص بغير المحصنين، إذ جعل حكمهما الرجم. والعلماء متفقون على أن حكم المحصنين من الرجال والنساء والرجم. والمحصن هو من تزوج بعقد شرعي صحيح ووقع البناء بعد ذلك العقد بناء صحيحا. وحكم الرجم ثبت من قبل الإسلام في شريعة التوراة للمرأة إذا زنت وهي ذات زوج، فقد أخرج مالك، في الموطأ، ورجال الصحيح كلهم، حديث عبد الله بن عمر: أن اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا وامرأة زنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم" فقالوا نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها، فوضع أحدهم يده على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها الرجم. فقالوا صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما. وقد ذكر حكم الزنا في سفر التثنية فقال إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان، وإذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فاضطجع معها فوجدا، يعطي الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين من الفضة وتكون هي له زوجة ولا يقدر أن يطلقها كل أيامه.
وقد ثبت الرجم في الإسلام بما رواه عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر ضرب مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم" . ومقتضاه بين الرجم والجلد، ولا أحسبه توهما من الراوي عن عبادة أو اشتبه عليه، وأحسب أنه لذلك لم يعمل به العلماء فلا يجمع بين الجلد والرجم. ونسب ابن العربي إلى أحمد بن حنبل الجمع بين الرجم والجلد. وهو خلاف المعروف من مذهبه. وعن علي بن أبي طالب أنه جمع بين الجلد والرجم. ولم يصح. ثم ثبت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في القضاء بالرجم ثلاثة أحاديث : أولها قضية ماعز بن مالك الأسلمي، أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه ثلاث مرات ثم بعث
إلى أهله فقال: "به جنون?" قالوا: لا، "وأبكر هو أم ثيب?" قالوا: بل ثيب. فأمر به فرجم.
الثاني: قضية الغامدية، أنها جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا وهي حبلى فأمرها أن تذهب حتى تضع، ثم حتى ترضعه، فلما أتمت رضاعه جاءت فأمر بها فرجمت.
الثالث: حديث أبي هريرة، وخالد الجهني، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله. وقال الآخر وهو أفقههما : أجل يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي في أن أتكلم? قال: تكلم. قال: إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة وبجارية لي، ثم غني سألت أهل العلم فأخبروني أنما على ابني جلد مائة وتغريب عام، وأخبروني أنما الرجم على امرأته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة وغربه عاما وأغد يا أنيس" هو أنيس بن الضحاك ويقال ابن مرثد الأسلمي "على زوجة هذا، فإن اعترفت فارجمهما"، فاعترفت فرجمهما. قال مالك والعسيف الأجير. هذه الأحاديث مرسل منها اثنان في الموطأ، وهي مسندة في غيره، فثبت بها وبالعمل حكم الرجم للمحصنين، قال ابن العربي: هو خبر متواتر نسخ القرآن. يريد أنه متواتر لدى الصحابة فلتواتره أجمعوا على العمل به. وأما ما بلغ إلينا وإلى ابن العربي وإلى من قبله فهو أخبار آحاد لا تبلغ مبلغ التواتر، فالحق أن دليل رجم المحصنين هو ما نقل إلينا من إجماع الصحابة وسنتعرض إلى ذلك في سورة النور، ولذلك قال بالرجم الشافعي مع أنه لا يقول بنسخ القرآن بالسنة.
والقائلون بأن حكم الرجم ناسخ لحكم الحبس في البيوت قائلون بأن دليل النسخ هو حديث "قد {جعل الله لهن سبيلا} وفيه والبكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام فتضمن الجلد" ، ونسب هذا القول للشافعي وجماعة، وأورد الجصاص على الشافعي أنه يلزمه أن القرآن نسخ بالسنة، وأن السنة نسخت بالقرآن، وهو لا يرى الأمرين، وأجاب الخطابي بأن آية النساء مغياة، فالحديث بين الغاية، وأن آية النور نزلت بعد ذلك، والحديث خصصها من قبل نزولها. قلت: وعلى هذا تكون آية النور نزلت تقريرا لبعض الحكم الذي في حديث الرجم، على أن قوله: إن آية النساء مغياة، لا يجدى لأن الغاية المبهمة لما كان بيانه إبطالا لحكم المغيى فاعتبارها اعتبار النسخ، وهل النسخ كله إلا إيذان بوصول غاية الحكم المراد لله غير مذكورة في اللفظ، فذكرها في بعض الأحكام على إبهامها لا يكسو النزول غير شعار النسخ، وقال بعضهم شرع الأذى ثم نسخ بالحبس في
البيوت وإن كان في القراءة متأخرا. وهذا قول لا ينبغي الالتفات إليه فلا مخلص من هذا الإشكال إلا بأن نجعل إجماع الصحابة على ترك الإمساك في البيوت، وعلى تعويضه بالحد في زمان النبوة فيؤول إلى نسخ القرآن بالسنة المتواترة، ويندفع ما أورده الجصاص على الشافعي، فإن مخالفة الإجماع للنص تتضمن أن مستند الإجماع ناسخ للنص.
ويتعين أن يكون حكم الرجم للمحصن شرع بعد الجلد، لأن الأحاديث المروية فيه تضمنت التغريب مع الجلد، ولا يتصور تغريب بعد الرجم، وهو زيادة لا محالة لم يذكرها القرآن، ولذلك أنكر أبو حنيفة التغريب لأنه زيادة على النص فهو نسخ عنده. قال أبن العربي في الأحكام: أجمع رأي خيار بني إسماعيل على أن من أحدث حدثا غب من بلده إلى أن جاء الإسلام فأقره في الزنا خاصة. قلت: وكان في العرب لا يطالب بها قومه، وإن اعتدى عليه لا يطلب قومه دية ولا نحوها، وقد قال امرؤ القيس:
به الذيب يعوي كالخليع المعيل
واتفقوا على أن المرأة لا تغرب لأن تغريبها ضيعة، وأنكر أبو حنيفة التغريب لأنه نقل ضر من مكان إلى آخر وعوضه بالسجن ولا يعرف بين أهل العلم الجمع بين الرجم والضرب ولا يظن بشريعة الإسلام ذلك. وروي أن عليا جلد شراحة الهمدانية ورجمها بعد الجلد، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله.
وقرن بالفاء خبر الموصولين من قوله {فاستشهدوا} وقوله {فآذوهما} لأن الموصول أشرب معنى الشرط تنبيها على أن صلة الموصول سبب في الحكم الدال عليه خبره، فصار خبر الموصول مثل جواب الشرط ويظهر لي أن ذلك عندما يكون الخبر جملة، وغير صالحة لمباشرة أدوات الشرط، بحيث لو كانت جزاء للزم اقترانها بالفاء. هكذا وجدنا من استقراء كلامهم، وهذا الأسلوب إنما يقع في الصلات التي تومئ إلى وجه بناء الخير، لأنها التي تعطي رائحة التسبب في اخبر الوارد بعدها. ولك أن تجعل دخول الفاء علامة على كون الفاء نائبة عن أما.
ومن البين أن إتيان النساء بالفاحشة هو الذي سبب إمساكهن في البيوت، وإن كان قد بنى نظم الكلام على جعل {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ} هو الخبر، لكنه خبر صوري وإلا فإن الخبر هو {فأمسكوهن} ، لكنه جيء به جوابا لشرط هو متفرع على {فَإِنْ شَهِدُوا} ففاء
{فاستشهدوا} هي الفاء المشبهة لفاء الجواب، وفاء {فإن شهدوا} تفريعية، وفاء {فأمسكوهن} جزائية، ولولا قصد الاهتمام بإعداد الشهادة قبل الحكم بالحبس في البيوت لقيل: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فامسكوهن في البيوت إن شهد عليهن أربعة منكم.
{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:17] {وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:18].
استطراد جر إليه قوله {فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء:16]. والتوبة تقدم الكلام عليها مستوفى في قوله، في سور آل عمران [90] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ}.
و {إنما} للحصر.
و {على} هنا حرف للاستعلاء المجازي بمعنى التعهد والتحقق كقولك: علي لك كذا، فهي تحقق التعهد. والمعنى: التوبة تحق على الله، وهذا مجاز في تأكيد الوعد بقبولها حتى كالحق على الله، ولا شيء بواجب على الله إلا وجوب وعده بلفظه. قال ابن عطية: إخباره تعالى عن أشياء أوجبها على نفسه يقتضي وجوب تلك الأشياء سمعا وليس وجوبا.
وقد تسلط الحصر على الخبر، وهو {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ} ، وذكر له قيدان وهما {بجهالة} و {من قريب} . والجهالة تطلق على سوء المعاملة وعلى الإقدام على العمل دون روية، وهي ما قابل الحلم، ولذلك تطلق الجهالة على الظلم. قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا
...
فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وقال تعالى، حكاية عن يوسف {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} . والمراد هنا ظلم النفس ، وذكر هذا القيد هنا لمجرد تشويه عمل السوء، فالباء للملابسة، إذ لا يكون عمل السوء إلا كذلك. وليس المراد بالجهالة ما يطلق عليه اسم الجهل، وهو انتفاء العلم بما فعله، لأن ذلك لا يسمى جهالة. وإنما هو معاني لفظ
الجهل، ولو عمل أحد معصية وهو غير عالم بأنها معصية لم يكن آثما ولا يجب عليه إلا أن يتعلم ذلك ويتجنبه.
وقوله {من قريب} من فيه للابتداء و {قريب} صفة لمحذوف، أي من زمن قريب من وقت عمل السوء.
وتأويل بعضهم معنى {من قريب} بأن القريب هو ما قبل الاحتضار، وجعلوا قوله بعده {حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} يبين المراد من معنى قريب.
واختلف المفسرون من السلف ومن بعدهم في أعمال مفهوم القيدين بجهالة ومن قريب حتى قيل إن حكم الآية منسوخ بآية {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48]، والأكثر على أن قيد بجهالة كوصف كاشف لعمل السوء لأن المراد عمل السوء مع الإيمان. فقد روى عبد الرزاق عن قتادة قال: اجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل عمل عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو غيره.
والذي يظهر أنهما قيدان ذكرا للتنبيه على أن شأن المسلم أن يكون عمله جاريا على اعتبار مفهوم القيدين وليس مفهومهما بشرطين لقبول التوبة، وان قوله تعالى {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} إلى {وَهُمْ كُفَّارٌ} قسيم لمضمون قوله {إنما التوبة على الله} الخ، ولا واسطة بين هذين القسمين.
وقد اختلف علماء الكلام في قبول التوبة؛ هل هو قطعي أو ظني فيها لتفرع أقوالهم فيها على أقوالهم في مسألة وجوب الصلاح والأصلح لله تعالى ووجوب العدل. فأما المعتزلة فقالوا: التوبة الصادقة مقبولة قطعا بدليل العقل، وأحسب أن ذلك ينحون به إلى أن التائب قد أصلح حاله، ورغب في اللحاق بأهل الخير، فلو لم يقبل الله منه ذلك لكان إبقاء له في الضلال والعذاب، وهو منزه عنه تعالى على أصولهم، وهذا إن أرادوه كان سفسطة لأن النظر هنا في العفو عن عقاب استحقه التائب من قبل توبته لا في ما سيأتي به بعد التوبة.
وأما علماء السنة فافترقوا فرقتين: فذهب جماعة إلى أن قبول التوبة مقطوع به الأدلة سمعية، هي وإن كانت ظواهر، غير أن كثرتها أفادت القطع كإفادة المتواتر القطع مع أن كل خير من آحاد المخبرين به لا يفيد إلا الظن، فاجتماعهما هو الذي فاد القطع، وفي تشبيه ذلك بالتواتر نظر، وإلى هذا ذهب الأشعري، والغزالي، والرازي، وابن عطية، ووالده أو بكر ابن عطية، وذهب جماعة إلى القبول ظني لا قطعي، وهو قول أبي بكر
الباقلاني، وإمام الحرمين، والمازري والتفتراني، وشرف الدين الفهري وابن الفرس في أحكام القرآن بناء على أن كثرة الظواهر لا تفيد اليقين. وهذا الذي ينبغي اعتماده نظرا. غير أن قبول التوبة ليس من مسائل أصول الدين فلماذا نطلب في إثباته الدليل القطعي.
والذي أراه أنهم لما ذكروا القبول ذكروه على إجماله، فكان اختلافهم اختلافا في حالة، فالقبول يطلق ويراد به معنى رضى الله عن التائب، وإثباته في زمرة التقين الصالحين، وكأن هذا هو الذي نظر إليه المعتزلة لما قالوا بأن قبولهم قطعي عقلا. وفي كونه قطعيا، وكونه عقلا، نظر واضح، ويدل لذلك أنهم قالوا: إن التوبة لا تصح إلا بعد الإقلاع عن سائر الذنوب ليتحقق معنى صلاحه. ويطلق القبول ويراد ما وعد الله به من غفران الذنوب الماضية قبل التوبة، وهذا أحسبهم لا يختلفون في كونه سمعيا لا عقليا، إذ العقل لا يقضي الذنوب الفارطة عند الإقلاع عن إتيان أمثالها في المستقبل، وهذا هو المختلف في كونه قطعيا أو ظنيا، ويطلق القبول على معنى قبول التوبة من حيث إنها في ذاتها عمل مأمور به كل مذنب، أي بمعنى إبطال الإصرار على الذنوب التي كان مصرا على إتيانها، فإن إبطال الإصرار مأمور به لأنه من ذنوب القلب فيجب تطهير القلب منه، فالتائب من هذه الجهة يعتبر ممتثلا لأمر شرعي، فالقبول بهذا المعنى قطعي لأنه صار بمعنى الأجزاء. ونحن نقطع بأن من أتى عملا مأمورا به بشروطه كان عملا مقبولا بمعنى ارتفاع آثار النهي عنه، ولكن الظن في حصول الثوابت على ذلك. ولعل هذا المعنى هو الذي نظر إليه الغزالي إذ فال في كتاب التوبة إنك إذا فهمت معنى القبول لم تشك في أن كل توبة صحيحة هي مقبولة إذ القلب خلق سليما في الأصل، إذ كل مولود يولد على الفطرة وإنما تفوته السلامة بكدرة ترهقه من غبرة الذنوب، وأن نور الندم يمحو عن القلب تلك الظلمة كما يمحو الماء والصابون عن الثوب الوسخ. فمن توهم أن التوبة تصح ولا تقبل كمن توهم أن الشمس تطلع والظلام لا يزول، أو أن الثوب يغسل والوسخ لا يزول، نعم قد يقول التائب باللسان تبت ولا يقلع. فذلك كقول القصار بلسانه غسلت الثوب وهو لم يغسله فذلك لا ينظف الثوب. وهذا الكلام تقريب إقناعي. وفي كلامه نظر بين لأنا إنما نبحث عن طرح عقوبة ثابتة هل حدثان التوبة يمحوها.
والإشارة في المسند إليه في قوله {فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} للتنبيه استحضارهم باعتبار الأوصاف المتقدمة البالغة غاية الخوف من الله تعالى والمبادرة إلى