كتاب : التحرير والتنوير المعروف بتفسير ابن عاشور
المؤلف : محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي
ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول.
ورأيت في شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب1 في باب الأذان عن المطرز في كتاب اليواقيت: الأفعال التي نحتت من أسمائها سبعة: بسمل في بسم الله، وسبحل في سبحان الله، وحيعل في حي على الصلاة، وحوقل في لا حول ولا قوة إلا بالله، وحمدل في الحمد لله، وهلل في لا إله إلا الله، وجيعل إذا قال جعلت فداك، وزاد الطيقلة في أطال الله بقاءك، والد معزة في أدام الله عزك.
ولما كان كثير من أئمة الدين قائلا بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور. وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث. الأول في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا. الثاني في حكم الابتداء بها عند القراءة. الثالث في تفسير معناها المختص بها.
فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل:30] كما أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في الإسلام، وروي فيه حديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع" لم يروه أصحاب السنن ولا المستدركات، وقد وصف بأنه حسن، وقال الجمهور إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة، كما يؤخذ من محادثة ابن عباس مع عثمان، وقد مضت في المقدمة الثامنة، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها، وإنما اختلفوا في أن البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآنا، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في البداية، فذهب مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل، وذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة، إلى أنها آية في
ـــــــ
1 رقم 10520 بالمكتبة الصادقية "العبدلية" بتونس.
أول سورة الفاتحة خاصة، وذهب عبد الله بن مبارك والشافعي في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة. ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء، وأخذ منه صاحب الكشاف أنها ليست من السور عنده فعده في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه. قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين. وأزيد فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئا عن القراءة.
أما حجة مذهب مالك ومن وافقه فلهم فيها مسالك: أحدها من طريق النظر، والثاني من طريق الأثر، والثالث من طريق الذوق العربي.
فأما المسلك الأول: فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني وتابعه أبو بكر ابن العربي في أحكام القرآن والقاضي عبد الوهاب في كتاب الاشراف، قال الباقلاني: لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد، والأول باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة، والثاني أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، ولصار ذلك ظنيا، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف اهـ. وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها. زاد أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن فقال: يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها، والقرآن لا يختلف فيه اه. وزاد عبد الوهاب فقال: إن رسول الله بين القرآن بيانا واحدا متساويا ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان؛ ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حمل جمل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبينها رسول الله بيانا شافيا ا هـ. وقال ابن العربي في العارضة: إن القاضي أبا بكر بن الطيب، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول.
وقد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في المستصفى فقال نفى كون البسملة من القرآن أيضا إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف أي وهو ظاهر البطلان وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنيا، قال ولا يقال إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا
يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن، لأنا نجيب بأن هذا وإن كان عدما إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فها هنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه اه، وتبعه على ذلك الفخر الرازي في تفسيره ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف، وسنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي. وتعقب ابن رشد في بداية المجتهد كلام الباقلاني والغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به.
وأما المسلك الثاني: وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة:
الدليل الأول: ما روى مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن إلى أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فأقول حمدني عبدي إلخ، والمراد في الصلاة القراءة في الصلاة ووجه الدليل منه أنه لم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم.
الثاني : حديث أبي بن كعب في الموطأ والصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ألا أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها قبل أن تخرج من المسجد? قال: بلى، فلما قارب الخروج قال له: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة? قال أبي: فقرآت {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حتى أتيت على آخرها، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة.
الثالث : ما في صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن النسائي عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال: صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} لا يذكرون {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} لا في أول قراءة ولا في آخرها.
الرابع : حديث عائشة في صحيح مسلم وسنن أبي داود قالت: كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
الخامس : ما في سنن الترمذي والنسائي عن عبد الله بن مغفل قال: صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحدا منهم يقول {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ، إذا أنت صليت فقل {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
السادس : وهو الحاسم: عمل أهل المدينة، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك، صلى فيه رسول الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة الجهرية، وهل يقول عالم ان بعض السورة جهر وبعضها سر، فقد حصل التواتر بأن النبي والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية، فدل على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها.
وهناك دليل آخر لم يذكروه هنا وهو حديث عائشة، في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو معتبر مرفوعا إلى النبي، وذلك قوله ففجئه الملك فقال: اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارئ إلى أن قال فغطني الثالثة ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1] الحديث. فلم يقل فقال لي بسم الله الرحمن الرحيم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء الوحي.
وأما المسلك الثالث: وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة، وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في تفسيره وأجاب عنه بقوله: إن التكرار لآجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات وأنا أدفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل، ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين الكررين بعدا يقصيه عن السمع، وقد علمت أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار، والقرب بين الرحمن والرحيم حين كررا يمنع ذلك.
وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد، فقال السلكوتي
أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية: إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضيا بذكر صفتي {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا "بسم الله الحمد لله الخ".
وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن كلها متماثلة وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح، بل قد عد علماء البلاغة أهم مواضع التأنق فاتحة الكلام وخاتمته، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يدعى أن فواتح سورة جملة واحدة، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ الكلام.
وأما حجة مذهب الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهية إلا أمران: أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال فاتحة الكتاب سبع آيات. أولاهن { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} . وقول أم سلمة: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آية. الثاني: الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله.
والجواب أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة، وأما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي، وصحح بعض طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة، ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة، يعني أنه مقطوع، على أنه روى عنها ما يخالفه، على أن شيخ الإسلام زكريا قد صرح في حاشيته على تفسير البيضاوي بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روى بألفاظ تدل على أن {بِسْمِ اللَّهِ} آية وحدها، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون.
وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله، فالجواب: أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لا نزاع فيه، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها، فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة.
وهذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك من صنع المتأخرين وهو صريح كلام عبد الحكيم في حاشية البيضاوي، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين والأصوليين والقراء كما في لطائف الإشارات للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرأون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذ بالكتابة باطل من أصله ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحبر القرآن، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشيا.
وقد احتج بعضهم بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي، فقال: كانت مدا ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يمد {بِسْمِ اللَّهِ} ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم، اهـ. ولا حجة في هذا لأن ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى أنس، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة.
وحجة عبد الله بن المبارك وثاني قولي الشافعي، ما رواه مسلم عن أنس، قال: بينا رسول الله بين أظهرنا ذات يوم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله، قال: "أنزلت على سورة آنفا فقرأ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] السورة، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ولذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة.
والجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقدير أستعيذ باسم الله وحذف متعلق الفعل، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنسا بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول الله بسمل في الصلاة.
فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطرابا يوجب سقوطها.
والحق البين في أمر البسملة في أوائل السور، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون
الفصل مناسبا لابتداء المصحف، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن، وقد روى أبو داود في سننه والترمذي وصححه عن ابن عباس أنه قال. قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطرا بسم الله الرحمن الرحيم، قال عثمان كان النبي لما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها، فمن هناك وضعتها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطرا {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} .
وأرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غير الأنفال وبراءة إلا حين جمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.
وعلى أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غير براءة، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط، أو ليست بآية من أول شيء من السور؛ فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة. ورووا ذلك عمن تلقوا، فأما الذين منهم يروون اجتهادا أو تقليدا أن البسملة آية من أول كل سورة غير براءة، فأمرهم ظاهر، وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها، وأما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تعلل بالتيمن باقتفاء أثر كتاب المصحف، أي قصد التشبه في مجرد ابتداء فعل تشبيها لابتداء القراءة بابتداء الكتابة. فتكون قراءتهم البسملة أمرا مستحبا للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور من آخر المفصل، ولا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة، وهؤلاء إذا قرأوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد. وبهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قول لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب الكشاف والبيضاوي.
واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورة من أولها، أي في قراءة البسملة بين السورتين.
فورش عن نافع في أشهر الروايات عنه وابن عامر، وأبو عمرو، وحمزة، ويعقوب، وخلف، لا يبسملون بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبه بفعل كتاب المصحف خاص بالابتداء، وبحملهم رسم البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة، فكان صنيعهم وجيها لأنهم جمعوا بين ما رووه عن سلفهم وبين دليل قصد التيمن، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة.
وقالون عن نافع وابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة، وعدوه من سنة القراءة، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كتاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها.
واتفق المسلمون على ترك البسملة في أول سورة براءة وقد تبين وجه ذلك آنفا، ووجهه الأئمة بوجوه أخر تأتى في أول سورة براءة، وذكر الجاحظ في "البيان والتبيين"1 أن مؤرجا السدوسي البصري سمع رجلا يقول أمير المؤمنين يرد على المظلوم فرجع مؤرج إلى مصحفه فرد على براءة بسم الله الرحمن الرحيم، ويحمل هذا الذي صنعه مؤرج إن صح عنه إنما هو على التمليح والهزل وليس على الجد.
وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلا كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة، فإن قراءتها في الصلاة تجري على إحكام النظر في الأدلة وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير، فالقارئ يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم، تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء، كما يوضح
ـــــــ
1 صفحة 130 جزء 2 طبع الرحمانية- القاهرة.
تسامح صاحب الكشاف في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء. وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالبا في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشايخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد مثل سبق نافع بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول مالك بعدم جزئيتها؛ لأن مالكا تلقى أدلة نفي الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم. وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقا علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل [30] {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين.
واعلم أن متعلق المجرور في {بِسْمِ اللَّهِ} محذوف تقديره هنا أقرأ، وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فحذف متعلق المجرور فيها حذفا ملتزما إيجازا اعتمادا على القرينة، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ} [الشعراء: 44] وذكر صاحب الكشاف أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم باسم اللات باسم العزى فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفا مستقرا مثل الظروف التي تقع أخبارا، ودليل المتعلق ينبئ عنه العمل الذي شرع فيه فتعين أن يكون فعلا خاصا من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلق العام مثل: أبتدئ، لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة، فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل، ولا يجري1 في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسما نحو كائن أو مستقر أم فعلا نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخبارا أو أحوالا بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو، والأصل فيه أن يعدي الأفعال ويتعلق بها، ولأن مقصد المبتدئ بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارنا لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر
ـــــــ
1 هذا رد على ابن عطية وبعض المفسرين إذ فرضوا خلاف النجاة معتبرا هنا.
متعلق الجار لفظا دالا على الفعل المشروع فيه، وهو أنسب لتعميم التيمن لأجزاء الفعل، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموما، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به. وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمعرس "بالرفاء والبنين"1 وقول المسافر عند حلوله وترحاله باسم الله والبركات وقول نساء العرب عندما يزففن العروس باليمن والبركة وعلى الطائر الميمون ولذلك كان تقدير الفعل هاهنا واضحا. وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليبتدئ بها كل شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه، والحذف هنا من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو: عندك خير، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون: خير كائن عندك، ولذلك عدوا نحو قوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
من المساواة دون الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق. وإذ قد كان المتعلق محذوفا تعين أن يقدر في موضعه متقدما على المتعلق به كما هو أصل الكلام؛ إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحصر، ودعوى صاحب الكشاف تقديره مؤخرا تعمق غير مقبول، لا سيما عند حالة الحذف، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل.
والباء باء الملابسة، هي المصاحبة، وهي الإلصاق أيضا فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] وقولهم بالرفاء والبنين وهذا المعنى هو اكثر معاني الباء وأشهرها، قال سيبويه: الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب الكشاف وهذا الوجه أي الملابسة أعرب وأحسن أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى.
والاسم لفظ جعل دالا على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها. وجعله أئمة البصرة مشتقا من السمو وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل الاسم في كلام العرب هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به، وهذا اعتداد بالأصل والغالب، وإلا فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا فجار علم للفجرة.
ـــــــ
1 انظر: حديث بناء النبي صلى الله عليه وسلم بالسيدة عائشة رضي الله عنها.
فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سمو بوزن حمل، أو سمو بوزن قفل فحذفت اللام حذفا لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدر على الحرف المحذوف كما في نحو قاض وجوار، فلما جرى الأعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكنا نقلوا سكونه للمتحرك وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن؛ إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطرا ثانيا من التخفيف وهو عود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيد ودم لا تخلو من ثقل، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف وإلا لاجتلبوها في يد ودم وغد.
وقد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع، وبأنه جمع على أسامي وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافي وأماني، وبأنه صغر على سمي. وأن الفعل منه سميت، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي. وبأنه يقال سمى كهدى؛ لأنهم صاغوه على فعل كرطب فتنقلب الواو المتحركة ألفا إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القناني الراجز1:
والله أسماك سمى مباركا ... آثرك الله به إيثاركا
وقال ابن يعيش: لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك. وعندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصورا، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقا لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. ورأى البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. وذهب الكوفيون إلى أن أصله وسم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العلامة، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل، وكأنهم رأوا أن لا
ـــــــ
1 القناني – بفتح القاف والنون مخففا – نسبة إلى قنان بن سلمة من مذحج قاله شارح "القاموس" وشارح "الشواهد الكبرى" ولم يذكر بن الأثير ولا غيره القنان هذا في بطون مذحج فلعله قد دخل بنوه في قبيلة أخرى, ولم يوجد سلمة هذا وإنما الموجود مسلية – بالياء – بوزن مسلمة, وهم بطن من مذحج دخلوا في بني الحارث بن كعب.
وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمت وجه الجواب، ورأى الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره. وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم، ثم نقلت الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاما ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة. وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره. وزعم ابن حزم في كتاب الملل والنحل أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة، وقد قال تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]
وإنما أقحم لفظ اسم مضافا إلى علم الجلالة إذ قيل: بسم الله، ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 118] وقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 119] وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيرا وتصرفا من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع، فقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة:74] أمر بأن يقول سبحان الله، وقوله: {وَسَبِّحْهُ} [الإنسان:26] أمر بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم1، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه. والخلاصة2 أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}
ـــــــ
1 قال النابغة:
مستشعرين قد ألفوا في ديارهم ... دعاء سوع ودعمي وأيوب
2 وفي الخبر "كان شعار المسلمين يوم بدر أحد أحد".
[هود: من الآية41] وفي الحديث في دعاء الاضطجاع باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي قل سبحان الله {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:1]
وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسؤول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى {فَاسْجُدْ لَهُ} [الانسان: 6] وقوله في الحديث اللهم بك نصبح وبك نمسي أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى {فَاسْجُدْ لَهُ} {وَسَبِّحْهُ} أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص. فمعنى بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ قراءة ملابسه لبركة هذا الاسم المبارك.
هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة:
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ... يهدي إلى غرائب الأشعار
يعني أن السفاهة هي هي لا تعرف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطا} [البقرة: 143] أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحما زائدا كما في قول لبيد: إلى الحول ثم اسم السلام عليكما يعني ثم السلام عليكما وليس هذا خاصا بلفظ الاسم بل يجيء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] وكذلك لفظ في قول بشار هاجيا
وكذاك، كان أبوك يؤثر بالهنى ... ويظل في لفظ الندى يتردد
وقد يطلق الاسم وما في معناه كناية عن وجود المسمى، ومنه قوله {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ} [الرعد: 33] والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضع أسماء لهم. فهذه إطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة، ذكرتها هنا توضيحا ليكون نظركم فيها فسيحا فشدوا بها يدا. ولا تتبعوا طرائق قددا
وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ
كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.
والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي بتفسير قوله تعالى {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:2,3]
ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمن الرحيم، قال البيضاوي إن المسمى إذا قصد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر علم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن.
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات، يعني فهو رد عليهم بتغليط وتبليد. وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك إذ الناقل أمين فهي نكتة لطيفة.
وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ} [مريم: 45]، وقال {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم. وحكى عنه قوله {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 128]. وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل:31]
والمظنون أن سليمان افتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته، وان الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أحي له من الحنيفية كما قال تعالى {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج: 78]
[2] {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
{الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسبق للمخاطب به خطاب من نوعه أن يستأنس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيأ لتلقيه،وأن يشوق إلى سماع ذلك وتراض نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنه أن يكون عائقا عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات والنذر، ولا تشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان، وتخامر رشدها نزغات الشيطان، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفا نبه الله تعالى قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلى آخر السورة. فإنها تضمنت أصولا عظيمة: أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} . الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الثالث الرغبة في التحلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} . الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه {وَلا الضَّالِّينَ}
وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا.
وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يتوجون مناجاتهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق. ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.
وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون
سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثفته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله.
إن القرآن أنزل هدى للناس وتبيانا للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يهيأ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة. وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة. فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة. والتخلية عن السفاسف الرذيلة.
فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وعن الإشراك بما تضمنه {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم، ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشبه وغلط، ومن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما، وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دركة أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، وذلك بما تضمنه قوله {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} كما أجملناه قريبا. ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم.
ولما لقن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر
الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان: أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء إذا أثنى عليك المرء يوما كفاه عن تعرضه الثناء
فكان افتتاح الكلام بالتحميد، سنة الكتاب المجيد، لكل بليغ مجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع" 1. وقد لقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد. وكانت سورة الفاتحة لذلك منزلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة. ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعون للأفهام وأدعى لوعيها.
والحمد هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقا وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقا ولو بشر، ونسبا إلى ابن القطاع2 وغره في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم "من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار" وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلما في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدع، فسمى ذكرهم بالشر ثناء تنبيها على ذلك. وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل.
وأما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره. وقال صاحب الكشاف الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحو جبذ وجذب، وإن ذلك اصطلاح له في الكشاف في معنى أخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري، لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح الكشاف أنه أراد
ـــــــ
1 رواه البيهقي في "سننه" باللفظ الأول, ورواه أبو داود في "سننه" باللفظ الثاني وهو حديث حسن.
2 هو علي بن جعفر السعدي بن سعد بن مالك من بني تميم الصقلي, ولد بصقلية سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة, ورحل ألى القاهرة وتوفي بها سنة خمس عشرة وقيل أربع عشرة وخمسمائة.
من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه؛ ولأنه صريح قوله في الفائق الحمد هو المدح والوصف بالجميل ولأنه ذكر الذم نقيضا للحمد إذ قال في الكشاف والحمد نقيضه الذم مع شيوع كون الذم نقيضا للمدح، وعرف علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير :
ومن يجعل المعروف في غير أهله ... يكن حمده ذما عليه ويندم
لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق.
ثم اختلف في مراد صاحب الكشاف من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري، أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري، وعلى الأول حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعدالدين، واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْأِيمَانَ} [الحجرات: 7] إذ قال فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض وأخلاق محمودة، على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها ا ه. وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في حواشي التفسير فرضا أو نقلا لا ترجيحا بناء على أنه ظاهر كلامه في الكشاف والفائق إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين.
وبهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضا ظاهرا؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلا بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه
اختياريا.
وعندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادة في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلا على زيادة الكمال وفينا دليلا على النقص، وما كان نقصا فينا باعتبار ما قد يكون كمالا لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة حمد هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.
{الْحَمْدُ} مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية وقوله {لِلَّهِ} خبره فلام {لِلَّهِ} متعلق بالكون والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها وهو هنا من المصادر التي أتت بدلا عن أفعالها في معنى الإخبار، فاصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله وتقدير الكلام نحمد حمدا لله، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره وذلك قولك سقيا ورعيا وخيبة وبؤسا، والحذر بدلا عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق وأما قولهم سقيا لك نحو:
سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري
فإنما هو ليبينوا المعنى بالدعاء. ثم قال بعد أبواب: هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، من ذلك قولك: حمدا وشكرا، لا كفرا وعجبا، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد الله حمدا وإنما اختزل الفعل هاهنا لأنهم جعلوا هذا بدلا من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء وقد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ به ثم يبني عليه أي يخبر عنه. ثم قال بعد باب آخر: هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنيا عليها ما بعدها، وذلك قولك: {الْحَمْدُ لِلَّهِ}
والعجب لك، والويل له، وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر أي غير إنشاء فقوى في الابتداء أي أنه لما كان خبرا لا دعاء وكان معرفة بأل تهيأت فيه أسباب الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهيئ جانب المعنى للخبرية وكونه معرفة يصحح أن يكون مبتدأ بمنزلة عبدالله، والرجل، والذي تعلم من المعارف لأن الابتداء إنما هو خبر وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعراف وهو أصل الكلام. وليس كل حرف أي تركيب يصنع به ذاك، كما أنه ليس كل حرف أي كلمة من هذه المصادر يدخل فيه الألف واللام، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز يعني يقتصر فيه على السماع واعلم أن {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وإن ابتدأته ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك: أحمد الله.
وسمعنا ناسا من العرب كثيرا يقولون: التراب لك والعجب لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت: حمدا وعجبا، ثم جئت ب لك لتبين من تعني ولم تجعله مبنيا عليه فتبتدئه انتهى كلام سيبويه باختصار. وإنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم، وهو الذي أشار له صاحب الكشاف بقوله وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكرا، وكفرا، وعجبا، ينزلزنها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها، ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى الخ.
ومن شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله، والعدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم: الدلالة على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية؛ والدلالة على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية، والدلالة على الاهتمام المستفاد من التقديم. وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوبا إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام. ولأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام، ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع النصب كما قريء بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذ لا يكون دالا على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أحمد بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس، وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة {اهدنا الصراط المستقيم} وبقرينة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم، كيف وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية. قال أمية بن
أبي الصلت :
الحمد لله حمدا لا انقطاع له ... فليس إحسانه عنا بمقطوع
أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما سيأتي. فهذا معنى ما نقل عن سيبويه أنه قال: إن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.
واعلم أن قراءة النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور، وأن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية المطلقة. فقد بان أن قوله {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أبلغ من {الْحَمْدَ لِلَّهِ} بالنصب، وأن {الْحَمْدَ لِلَّهِ} بالنصب والتعريف أبلغ من حمدا لله بالتنكير. وإنما كان {الْحَمْدُ لِلَّهِ} بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات.
قال في الكشاف إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى {قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ} [هود: 69] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حياهم بتحية أحسن من تحيتهم اه.
فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام، قلت: قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أولى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين، فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكرا بما لمنزله تعالى من الصفات الجميلة، وذلك يذكر بوجوب حمده وأن لا يغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام. ثم إن ذلك الاهتمام تأتى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضا على ذكر الله تعالى اعتدادا بأهمية الحمد العارضة في المقام وإن كان ذكر الله أهم في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقام، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره.
فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذنا بالاهتمام مع أنه الأصل،
وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير.
قلت لو سلم ذلك فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدما مع إمكان الإتيان به مؤخرا؛ لأن للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد الله تعالى إحداهما {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كما في الفاتحة والأخرى {لِلَّهِ} الحمد كما في سورة الجاثية[36].
وأما قصد العموم فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه.
والتعريف فيه بالألف واللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون الدال على الفعل والساد مسده دالا على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنسا فاللام تدل على تعريفه. ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت: الحمد لله أو العجب لك، فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدى مخاطبك لا يلتبس بغيره كما أنك إذا قلت الرجل وأردت معينا في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظة الدال عليه لغة وهو كاف في عدم الدلالة على غيره؛ إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين بينك وبين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ، فلا يفيد هذا التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع؛ لأنك لما جعلته معهودا فقد دللت على أنه واضح ظاهر، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه من المعروف المشهور، وهذا معنى قول صاحب الكشاف وهو نحو التعريف في أرسلها العراك1، ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال وهو مأخوذ من كلام سيبويه.
وليست لام التعريف هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب
ـــــــ
1 إشارة إلى بيت لبيد :
فألرسلها العراك ولم يذدها ... ولم يشفق على نغص الدخال
يصف حمار وحش. والضمير المؤنث للأتن أي أطلقها الحمار أمامه إلى الماء فانطلقت متزاحمة. والنغص: الكمد. والدخال: دخول الدابة بين الدواب لتشرب.
الكشاف والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله {الْحَمْدُ} ولام الاختصاص في قوله {لِلَّهِ} يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه إذا اختص الجنس اختصت الأفراد؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي للمبالغة.
واللام في قوله تعالى {لِلَّهِ} يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر، ويجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية وزاده التعريف باللام ضعفا لأنه أبعد شبهه بالأفعال، ولا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد استفيد من تعريف الجزأين.
هذا وقد اختلف في أن جملة الحمد هل هي خبر أو إنشاء فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى المعنى بقول القائل: الحمد لله.
وجماع القول في ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء وذلك كصيغ العقود مثل بعت واشتريت، وكذلك أفعال المدح والذم والرجاء كعسى ونعم وبئس وهذا الأخير قسمان منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر ومنه ما خص بالإنشاء فالأول كصيغ العقود فإنها تستعمل أخبارا تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني إياها فهذا خبر، وتقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله، والثاني كنعم وعسى.
فإذا تقرر هذا فقد اختلف العلماء في أن جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هل هي إخبار عن ثبوت {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين، فذهب فريق إلى أنها خبر، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه بالإنشائية، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامدا لله تعالى مع أن القصد أنه يثنى ويحمد الله تعالى، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله المتكلم. ويمكن أن يجاب أيضا بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه. وأجيب أيضا
بأن كون المتكلم حامدا قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لان شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديما أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفا على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم، وقد خفي على كثير، أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني، مثل قولك: سهرت الليلة وأنت تريد أنك علمت بسهره، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامدا كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضا. ويرد على هذا التقدير أيضا أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلا بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له، ونظيره قولهم طويل النجاد والمراد طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة.
وذهب فريق ثان إلى أن جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو { إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} [آل عمران: من الآية36] وقول جعفر بن علبة الحارثي
هواي مع الركب اليمانين مصعد
فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء ولكن العدول إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على الاستغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جرم أنه منشئ ثناء عليه بذلك، وكون المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعا لأن مع تدخل على المتبوع.
المذهب الثاني أن جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية، على أنها من الصيغ التي نقلتها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلت صيغ العقود وأفعال المدح والذم أي نقلا مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال؛ فإنك قد تقول الحمد لله جوابا لمن قال: لمن الحمد? أو من أحمد?. ولكن تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة. والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو
الإنشائية لا محالة، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام، وشيء من ذلك لا يمكن حصوله بصيغة إنشاء نحو حمدا لله أو أحمد الله حمدا، ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبرا قول ذي الرمة :
ولما جرت في الجزل جريا كأنه ... سنا الفجر أحدثنا لخالقها شكرا1
1فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حمده الواقع حين التهابها في الحطب.
والله هو اسم الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. وأصل هذا الاسم الإله بالتعريف وهو تعريف إله الذي هو اسم جنس للمعبود مشتق من أله بفتح اللام بمعنى عبد، أو من أله بكسر اللام بمعنى تحير أو سكن أو فزع أو ولع مما يرجع إلى معنى هو ملزوم للخضوع والتعظيم فهو فعال بكسر الفاء بمعنى مفعول مثل كتاب، أطلقه العرب على كل معبود من أصنامهم لأنهم يرونها حقيقة بالعبادة ولذلك جمعوه على آلهة بوزن أفعله مع تخفيف الهمزة الثانية مدة. وأحسب أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك فيهم فكان أصل وضعه دالا على انفراده بالألوهية إذ لا إله غيره فلذلك صار علما عليه، وليس ذلك من قبيل العلم بالغلبة بل من قبيل العلم بالانحصار مثل الشمس والقمر فلا بدع في اجتماع كونه اسم جنس وكونه علما، ولذلك أرادوا به المعبود بحق ردا على أهل الشرك قبل دخول الشرك في العرب وإننا لم نقف على أن العرب أطلقوا الإله معرفا باللام مفردا على أحد أصنامهم وإنما يضيفون فيقولون: إله بني فلان والأكثر أن يقولوا: رب بني فلان، أو يجمعون كما قالوا لعبد المطلب: أرض الآلهة، وفي حديث فتح مكة وجد رسول الله البيت فيه الآلهة فلما اختص الإله بالإله الواحد واجب الوجود اشتقوا له من اسم الجنس علما زيادة في الدلالة على أنه الحقيق بهذا الاسم ليصير الاسم خاصا به غير جائر الإطلاق على غيره على سنن الأعلام الشخصية،
ـــــــ
1 هو من قصيدة له ذكر فيها صفات النار بطريقة لغزية. وقبله:
فلما بدت كفنتها وهي طفلة ... بطلساء لم تكتمل ذراعا ولا شبرا
وقلت له ارفعها إليك فأحيها ... بروحك واقتته لها قيتة قدرا
وظاهر لها من يابس الشخت واستعن ... عليها الصفا واجعل يديك لها سترا
وأراهم أبدعوا وأعجبوا إذ جعلوا علم ذاته تعالى مشتقا من اسم الجنس المؤذن بمفهوم الألوهية تنبيها على أن ذاته تعالى لا تستحضر عند واضع العلم وهو الناطق الأول بهذا الاسم من أهل اللسان إلا بوصف الألوهية1 وتنبيها على أنه تعالى أولى من يؤله ويعبد لأنه خالق الجميع فحذفوا الهمزة من الإله لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى كما حذفوا همزة الأناس فقالوا: الناس؛ ولذلك أظهروها في بعض الكلام. قال البعيث بن حريث2:
معاذ الإله أن تكون كظبية ... ولا دمية ولا عقيلة ربرب
كما أظهروا همزة الأناس في قول عبيد بن الأبرص الأسدي
إن المنايا ليطلعن ... على الأناس الآمنين
ونزل هذا اللفظ في طوره الثالث منزلة الأعلام الشخصية فتصرفوا فيه هذا التصرف لينتقلوا به إلى طور جديد فيجعلوه مثل علم جديد، وهذه الطريقة مسلوكة في بعض الأعلام. قال أبو الفتح بن جني في شرح قول تأبط شرا في النشيد الثالث عشر من الحماسة:
إني لمهد من ثنائي فقاصد ... به لابن عم الصدق شمس بن مالك
ـــــــ
1 فيكون وصف الألوهية طريقا لاستحضار الذات المقصودة بالعلية ولذلك لا يجعل الاسم العلم وصفا قال السيد في شرح الكشاف : الاسم قد يوضع لذات مبهمة باعتبار معنى يقوم بها فيتركب مدلوله من صفة معنى ومن ذات مبهمة فيصح إطلاق الاسم على كل متصف بتلك الصفة وهذا يسمى صفة ولذلك المعنى المعتبر فيه يسمى مصحح الإطلاق كالمعبود مثلا. وقد يوضع لذات معينة من غير ملاحظة شيئ من المعاني القائمة بها وهذا يسمى اسما لا يشتبه بالصفة كإبل وفرس وقد يوضع لذات معينة ويلاحظ عند الوضع معنى له تعلق بها. وذلك نوعان:
الأول أن يكون المعنى خارجا عن الموضوع له ولكنه سبب باعث على تعيين الاسم بإزائه كأحمر إذا جعل علما لمولود فيه محمرة.النوع الثاني أن يكون ذلك المعنى داخلا في مفهومه كأسماء الزمان والمكان وهذان النوعان شديدا الا شتباه بالصفات ومعيار الفرق أنهما يوصفان ولا يوصف بهما اهـ يعني والإله من النوع الأول من القسم الثالث.
2 وبعد البيت:
ولكنها زادت على الحسن كله ... كمالا ومن طيب على كل طيب
وهذا من التنزيه على التشبيه وهذا الشاعر غير مولد كما هو ظاهر كلام المعري الذي نقله الخطيب التبريذي في "شرحه على الحماسة".
شمس بضم الشين وأصله شمس بفتحها كما قالوا حجر وسلمى فيكون مما غير عن نظائره أجل العلمية اه. وفي الكشاف في تفسير سورة أبي لهب بعد أن ذكر أن من القراء من قرأ أبي لهب بسكون الهاء ما نصه وهي من تغيير الأعلام كقولهم شمس بن مالك بالضم اهـ. وقال قبله "ولفليته بن قاسم أمير مكة ابنان أحدهما عبد الله بالجر، والآخر عبد الله بالنصب، وكان بمكة رجل يقال له عبد الله لا يعرف إلا هكذا" ا هـ. يعني بكسر دال عبد في جميع أحوال إعرابه، فهو بهذا الإيماء نوع مخصوص من العلم، وهو أنه أقوى من العلم بالغلبة لأن له لفظا جديدا بعد اللفظ المغلب. وهذه الطريقة في العلمية التي عرضت لاسم الجلالة لا نظير لها في الأعلام فكان اسمه تعالى غير مشابه لأسماء الحوادث كما أن مسمى ذلك الاسم غير مماثل لمسميات أسماء الحوادث. وقد دلوا على تناسيهم ما في الألف واللام من التعريف وأنهم جعلوهما جزءا من الكلمة بتجويزهم نداء اسم الجلالة مع إبقاء الألف واللام إذ يقولون يا الله مع أنهم يمنعون نداء مدخول الألف واللام.
وقد احتج صاحب الكشاف على كون أصله الإله ببيت البعيث المقدم، ولم يقرر ناظروه وجه احتجاجه به، وهو احتجاج وجيه لأن معاذ من المصادر التي لم ترد في استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة، مثل سبحان فأجريت مجرى الأمثال في لزومها لهاته الإضافة، إذ تقول معاذ الله فلما قال الشاعر معاذ الإله وهو من فصحاء أهل اللسان علمنا أنهم يعتبرون الإله أصلا للفظ الله، ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييرا إلا أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلاف وجوه الأداء مع كون اللفظ واحدا، ألا ترى أنهم احتجوا على أن لاه مخفف الله بقول ذي الأصبع العدواني
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ... عني ولا أنت دياني فتخزوني
وبقولهم لاه أبوك لأن هذا مما لزم حالة واحدة، إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنت.
وقد ذكرت وجوه أخر في أصل اسم الجلالة: منها أن أصله لاه مصدر لاه يليه ليها إذا احتجب سمي به الله تعالى، ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمجد اسمين، وهذا الوجه ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه.ومنها أن أصله ولاه بالواو فعال بمعنى مفعول من وله إذا تحير، ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها، كما قلبت في إعاء وإشاح، أي وعاء ووشاح، ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة.
ومنها أن أصله لاها بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه. ومنها أنه علم وضع لاسم الجلالة بالقصد الأولي من غير أخذ من أله وتصييره الإله فتكون مقاربته في الصورة لقولنا الإله مقاربة اتفاقية غير مقصودة، وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج ونسب إلى الخليل وسيبويه، ووجهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئا حتى وضعت له لفظا فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته.
وقد التزم في لفظ الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا يسلم من المنع، ولذلك أبى صاحب الكشاف التعريج عليه فقال وعلى ذلك أي التفخيم العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر.
وإنما لم يقدم المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال: لله الحمد؛ لأن المسند إليه حمد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام للاهتمام به اعتبارا لأهمية الحمد العارضة، وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحال. والبلاغة هي المطالبة لمقتضى الحال. على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام به اهتمام بشئون الله تعالى.
ومن أعجب الآراء ما ذكره صاحب المنهل الأصفى في شرح الشفاء التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه تعظيما وإجلالا ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع.
{رَبِّ الْعَالَمِينَ}
وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي، عقب بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلق متعلق أيضا، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته.
وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي: رب العالمين، الرحمان، الرحيم، ملك يوم الدين، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد
ملاحظة معانيها الأصلية. وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلا منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضا غنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة علمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كلا مدلولي الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له. مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يميزه عن الآلهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فعل من ربه يربه بمعنى رباه وهو رب بمعنى مرب وسائس. والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملكه، فإن كان مصدرا على الوجهين فالوصف به للمبالغة، وهو ظاهر، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فعل من فعل يفعل إلا قليلا، من ذلك قولهم نم الحديث ينمه فهو نم للحديث.
والأظهر أنه مشتق من ربه بمعنى رباه وساسه، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إليه هنا، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب الكشاف إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفى. والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقا ولا مقيدا لما علمت من وزنه واشتقاقه. قال الحرث بن حلزة:
وهو الرب والشهيد على يوم ... الحيارين والبلاء بلاء
يعني عمرو بن هند. وقال النابغة في النعمان بن الحارث:
تخب إلى النعمان حتى تناله ... فدى لك من رب طريفي وتالدي
وقال في النعمان بن المنذر حين مرض:
ورب عليه الله أحسن صنعه ... وكان له على البرية ناصرا
وقال صاحب الكشاف ومن تابعه: إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيت أن الاستعمال بخلافه، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس:
أرب يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب
وسموا العزى الربة. وجمعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى. وأما إطلاقه مضافا أو متعلقا بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان.
وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضا حين حكى عن يوسف عليه السلام قوله {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] إذا كان الضمير راجعا إلى العزيز وكذا قوله: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ} [يوسف: 39] فهذا إطلاق للرب مضافا وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام، وليس يوسف أطلق هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية معدل، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل: سيدي، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفا كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب.
والعالمين جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعل هذا الجمع إلا في لفظين عالم وياسم، اسم للزهر المعروف بالياسمين، قيل جمعوه على ياسمون وياسمين قال الأعشى:
وقابلنا الجل والياسمـ ... ـون والمسمعات وقصابها
والعالم الجنس من أجناس الموجودات وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقا من العلم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة، أو هو سبب العلم به فلا يختلط بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالبا كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع، أو العلم بالحقائق. ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليبا للعاقل.
وقد قال التفتزاني في شرح الكشاف العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق، يقال عالم الملك، عالم الإنسان، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافا لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان، عالم النبات وليس اسما لمجموع ما سواه تعالى بحيث لايكون له إجراء فيمتنع جمعه وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات.
والتعريف فيه للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعا للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب الكشاف ليشمل كل جنس مما سمي به إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاما واضحا إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق.
وإنما جمع العالم ولم يؤت به مفردا لأن الجمع قرينة على الاستغراق، لأنه لو أفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصا على الاستغراق، وهذه سنة الجموع مع "ال" الاستغراقية على التحقيق، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساويا لاستغراق المفردات أو أشمل منه.
وبطل ما شاع عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشمل كما سنبينه عند قوله تعالى {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [البقرة: 31]
[3] {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}
وصفان مشتقان من رحم، وفي تفسير القرطبي عن ابن الأنباري عن المبرد أن الرحمان اسم عبراني نقل إلى العربية قال وأصله بالخاء المعجمة أي فأبدلت خاؤه حاء مهملة عند أكثر العرب كشأن التغيير في التعريب وأنشد على ذلك قول جرير يخاطب الأخطل:
أو تتركن إلى القسيس هجرتكم ... ومسحكم صلبكم رخمان قربانا
الرواية بالخاء المعجمة ولم يأت المبرد بحجة على ما زعمه،ولم لا يكون الرحمن عربيا كما كان عبرانيا فإن العربية والعبرانية أختان وربما كانت العربية الأصلية
أقدم من العبرانية ولعل الذي جرأه على ادعاء أن الرحمان اسم عبراني ما حكاه القرآن عن المشركين في قوله {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} ويقتضي أن العرب لم يكونوا يعلمون هذا الاسم لله تعالى كما سيأتي. وبعض عرب اليمن يقولون رخم رخمة بالمعجمة.
واسم الرحمة موضوع في اللغة العربية لرقة الخاطر وانعطافه نحو حي بحيث تحمل من اتصف بها على الرفق بالمرحوم والإحسان إليه ودفع الضر عنه وإعانته على المشاق. فهي من الكيفيات النفسانية لأنها انفعال، ولتلك الكيفية اندفاع يحمل صاحبها على أفعال وجودية بقدر استطاعته وعلى قدرة قوة انفعاله. فأصل الرحمة من مقولة الانفعال وآثارها من مقولة الفعل، فإذا وصف موصوف بالرحمة كان معناه حصول الانفعال المذكور في نفسه، وإذا أخبر عنه بأنه رحم غيره فهو على معنى صدر عنه أثر من آثار الرحمة؛ إذ لا تكون تعدية فعل رحم إلى المرحوم إلا على هذا المعنى فليس لماهية الرحمة جزئيات وجودية ولكنها جزئيات من آثارها. فوصف الله تعالى بصفات الرحمة في اللغات ناشئ على مقدار عقائد أهلها فيما يجوز على الله ويستحيل، وكان أكثر الأمم مجسمة ثم يجيء ذلك في لسان الشرائع تعبيرا عن المعاني العالية بأقصى ما تسمح به اللغات مع اعتقاد تنزيه الله عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: من الآية11] فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي الرحمن الرحيم لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى من الأعراض، بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الأسمى من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة؛ لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لولا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم. ألا ترى أن المرء قد يرحم أحدا ولا يملك له نفعا لعجز أو نحوه.
وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في المقصد الأسنى بقوله الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادرا على قضائها لم يسم رحيما إذ لو تمت الإرادة لوفى بها وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما باعتبار ما اعتوره من الرحمة والرقة ولكنه ناقص وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه بكثرة استعماله وتحقق تنزه الله من لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن
الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل، وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون، ونطلق القدرة مع اليقين بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة. فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] فهي منقولة في لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالب الأسماء الحسنى من هذا القبيل. وأما المتشابه فهو ما كانت دلالته على المعنى المنزه عنه أقوى وأشد وسيأتي في سورة آل عمران عند قوله تعالى {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] والذي ذهب إليه صاحب الكشاف وكثير من المحققين أن الرحمان صفة مشبهة كغضبان وبذلك مثله في الكشاف.
وفعل رحم وإن كان متعديا والصفة المشبهة إنما تصاغ من فعل لازم إلا أن الفعل المتعدي إذا صار كالسجية لموصوفه ينزل منزلة أفعال الغرائز فيحول من فعل بفتح العين أو كسرها إلى فعل بضم العين للدلالة على أنه صار سجية كما قالوا فقه الرجل وظرف وفهم، ثم تشتق منه بعد ذلك الصفة المشبهة، ومثله كثير في الكلام، وإنما يعرف هذا التحويل بأحد أمرين إما بسماع الفعل المحول مثل فقه وإما بوجود أثره وهو الصفة المشبهة مثل بليغ إذا صارت البلاغة سجية له، مع عدم أو قلة سماع بلغ. ومن هذا رحمان إذ لم يسمع رحم بالضم. ومن النحاة من منع أن يكون الرحمان صفة مشبهة بناء على أن الفعل المشتق هو منه فعل متعد وإليه مال ابن مالك في شرح التسهيل في باب الصفة المشبهة ونظره برب وملك..
وأما الرحيم فذهب سيبويه إلى أنه من أمثلة المبالغة وهو باق على دلالته على التعدي وصاحب الكشاف والجمهور لم يثبتوا في أمثلة المبالغة وزن فعيل، فالرحيم عندهم صفة مشبهة أيضا مثل مريض وسقيم، والمبالغة حاصلة فيه على كلا الاعتبارين. والحق ما ذهب إليه سيبويه.
ولا خلاف بين أهل اللغة في أن الوصفين دالان على المبالغة في صفة الرحمة أي تمكنها وتعلقها بكثير من المرحومين وإنما الخلاف في طريقة استفادة المبالغة منهما وهل هما مترادفان في الوصف بصفة الرحمة أو بينهما فارق. والحق أن استفادة المبالغة حاصلة من تتبع الاستعمال وأن الاستعمال جرى على نكتة في مراعاة واضعي اللغة زيادة المبنى لقصد زيادة في معنى المادة قال في الكشاف ويقولون إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى وقال الزجاج في الغضبان هو الممتلئ غضبا. ومما طن على أذني من ملح العرب
أنهم يسمعون مركبا من مراكبهم بالشقدف وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق فقلت في طريق الطائف لرجل منهم ما اسم هذا المحمل أردت المحمل العراقي فقال: أليس ذاك اسمه الشقندف? قلت: بلى. فقال: هذا اسمه الشقنداف فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى وهي قاعدة أغلبية لا تتخلف إلا في زيادات معروفة موضوعة لزيادة معنى جديد دون زيادة في أصل معنى المادة مثل زيادة ياء التصغير فقد أفادت معنى زائدا على أصل المادة وليس زيادة في معنى المادة. وأما نحو حذر الذي هو من أمثلة المبالغة وهو أقل حروفا من حاذر فهو من مستثنيات القاعدة لأنها أغلبية
وبعد كون كل من صفتي الرحمان الرحيم دالة على المبالغة في اتصافه تعالى بالرحمة فقد قال الجمهور إن الرحمان أبلغ من الرحيم بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى وإلى ذلك مال جمهور المحققين مثل أبي عبيدة وابن جني والزجاج والزمخشري وعلى رعى هذه القاعدة أعنى أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى فقد شاع ورود إشكال على وجه إرداف وصفه الرحمان بوصفه بالرحيم مع أن شأن أهل البلاغة إذا أجروا وصفين في معنى واحد على موصوف في مقام الكمال أن يرتقوا من الأعم إلى الأخص ومن القوي إلى الأقوى كقولهم: شجاع باسل وجواد فياض، وعالم نحرير، وخطيب مصقع، وشاعر مفلق. وقد رأيت للمفسرين في توجيه الارتقاء من الرحمان إلى الرحيم أجوبة كثيرة مرجعها إلى اعتبار الرحمان أخص من الرحيم فتعقيب الأول بالثاني تعميم بعد خاص ولذلك كان وصف الرحمان مختصا به تعالى وكان أول إطلاقه مما خصه به القرآن على التحقيق بحيث لم يكن التوصيف به معروفا عند العرب كما سيأتي. ومدلول الرحيم كون الرحمة كثيرة التعلق إذ هو من أمثلة المبالغة ولذلك كان يطلق على غير الله تعالى كما في قوله تعالى في حق رسوله {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] فليس ذكر إحدى الصفتين بمغن عن الأخرى.
وتقديم الرحمان على الرحيم لأن الصيغة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلقاتها. وينسب إلى قطرب أن الرحمان والرحيم يدلان على معنى واحد من الصفة المشبهة فهما متساويان وجعل الجمع بينهما في الآية من قبيل التوكيد اللفظي ومال إليه الزجاج وهو وجه ضعيف إذ التوكيد خلاف الأصل والتأسيس خير من التأكيد والمقام هنا بعيد عن مقتضى التوكيد. وقد ذكرت وجوه في الجمع بين الصفتين ليست بمقنعة.
وقد ذكر جمهور الأئمة أن وصف الرحمان لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] وقال {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: من الآية30] وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة الملك. وقد ذكر الرحمان في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي في كلامهم. أو أنكروا أن يكون من أسماء الله.
ومن دقائق القرآن أنه آثر اسم الرحمان في قوله {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ} في سورة الملك،[19] وقال {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} في سورة النحل[79] إذ كانت آية سورة الملك مكية وآية سورة النحل القدر النازل بالمدينة من تلك السورة، وأما قول بعض شعراء بني حنيفة في مسيلمة:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا ... وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فإنما قاله بعد مجيء الإسلام وفي أيام ردة أهل اليمامة، وقد لقبوا مسيلمة أيامئذ رحمان اليمامة وذلك من غلوهم في الكفر. وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين أي مدبر شؤونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمان أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم، فلما كان ربا للعالمين وكان المربوبون ضعفاء كان احتياجهم للرحمة واضحا وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحا.
فإن قلت إن الربوبية تقتضي الرحمة لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا وذلك يجمع النعم كلها، فلماذا احتيج إلى ذكر كونه رحمانا? قلت لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده، فكانت الربوبية نعمة، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمان تنبيها على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة
باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق، ومنها ما منفعته للجمهور فتتبعها رحمات الجميع لأن في رحمة الجمهور رحمة بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة.
وقد اختلف في أن لفظ رحمان لو لم يقرن بلام التعريف هل يصرف أو يمنع من الصرف? قال في الكافية النون والألف إذا كانا في صفة فشرط منعه من الصرف انتفاء فعلانة، وقيل وجود فعلي، ومن ثم اختلف في رحمان، وبنو أسد يصرفون جميع فعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة واختار الزمخشري والرضي وابن مالك عدم صرفه.
[4] {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}
إتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة، فإنه لما وصف تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم وكان ذلك مفيدا لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر، وكان من جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة، وكان معظم تلك التشريعات مشتملا على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففا عن المكلفين عبء العصيان لما أمروا به ومثيرا لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحكم في يوم الجزاء {الْيَوْمَ1 تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: من الآية17] لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد، وجعل مصداق ذلك الجزاء يوم القيامة. ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافا إلى يوم الدين. فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم. ولو قيل رب يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب
ـــــــ
1 في المطبوعة: {يوم}.
رحمة وصفحا، وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها. فإن: قلت فإذا كان إجراء الأوصاف السابقة مؤذنا بأن جميع تصرفات الله تعالى فينا رحمة فقد كفى ذلك في الحث على الامتثال والانتهاء إذ المرء لا يخالف ما هو رحمة به فلا جرم أن ينساق إلى الشريعة باختياره. قلت: المخاطبون مراتب منهم من لا يهتدي لفهم ذلك إلا بعد تعقيب تلك الأوصاف بهذا الوصف، ومنهم من يهتدي لفهم ذلك ولكنه يظن أن في فعل الملائم له رحمة به أيضا فربما آثر الرحمة الملائمة على الرحمة المنافرة وإن كانت مفيدة له، وربما تأول الرحمة بأنها رحمة للعموم وأنه إنما يناله منها حظ ضعيف فآثر رحمة حظه الخاص به على رحمة حظه التابع للعامة. وربما تأول أن الرحمة في تكاليف الله تعالى أمر أغلبي لا مطرد وأن وصفه تعالى بالرحمان بالنسبة لغير التشريع من تكوين ورزق وإحياء، وربما ظن أن الرحمة في المآل فآثر عاجل ما يلائمه. وربما علم جميع ما تشتمل عليه التكاليف من المصالح باطراد ولكنه ملكته شهوته وغلبت عليه شقوته. فكل هؤلاء مظنة للإعراض عن التكاليف الشرعية، ولأمثالهم جاء تعقيب الصفات الماضية بهذه الصفة تذكيرا لهم بما سيحصل من الجزاء يوم الحساب لئلا يفسد المقصود من التشريع حين تتلقفه أفهام كل متأول مضيع.
ثم إن في تعقيب قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بقوله {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إشارة إلى أنه ولي التصرف في الدنيا والآخرة فهو إذن تتميم.
وقوله {مَلِكِ} قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف {مَالِك} بالألف فالأول صفة مشبهة صارت اسما لصاحب الملك بضم الميم والثاني اسم فاعل من ملك إذا اتصف بالملك بكسر الميم وكلاهما مشتق من ملك، فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز، والتحقيق والاعتبار، وقراءة {ملك} بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن الملك بفتح الميم وكسر اللام هو ذو الملك بضم الميم والملك أخص من الملك، إذ الملك بضم الميم هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم فلذلك يقال ملك الناس ولا يقال ملك الدواب أو الدراهم، وأما الملك بكسر الميم فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره.
وقرأ الجمهور {مَلِكِ} بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر في كتاب الترمذي. قال ابن عطية حكى أبو علي عن بعض القراء أن أول من قرأ {مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مروان بن الحكم فرده أبو بكر بن السراج بأن الأخبار الواردة تبطل ذلك فلعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ بها في بلد مخصوص. وأما قراءة مالك بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير، ورواها الترمذي في كتابه أنها قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه أيضا. وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات المتواترة كما تقدم في المقدمة السادسة. وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة {ملك} بدون ألف وقراءة {مالك} بالألف من خصوصيات بحسب قصر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة مالك، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شئون ذلك اليوم دون شبهة مشارك. ولا محيص عن اعتبار التوسع في إضافة ملك أو مالك إلى يوم بتأويل شئون يوم الدين. على أن مالك لغة في ملك ففي القاموس وكأمير وكتف وصاحب ذو الملك.
ويوم الدين يوم القيامة، ومبدأ الدار الآخرة، فالدين فيه بمعنى الجزاء، قال الفند الزماني1:
فلما صرح الشر ... فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا
أي جازيناهم على صنعهم كما صنعوا مشاكلة، أو كما جازوا من قبل إذا كان اعتداؤهم ناشئا عن ثأر أيضا، وهذا هو المعنى المتعين هنا وإن كان للدين إطلاقات كثيرة في كلام العرب.
ـــــــ
1الفند لقبه, وأصل الفند بكسر الفاء الجبل, واسمه شهل بن شيبان بشين معجمة وليس في أسماء العرب شهل بالشين المعجمة غيره وهو من شعراء حرب البسوس وإنما لقب الفند لأنه لما جاء لينصر بني بكر بن وائل قالوا ما يغني عنا هذا الهم – بكسر الهاء أي الشيخ, فقال لهم أما ترضون أن أكون لكم فندا تأوون إليه؟ أي معقلا ومرجعا في الرأي والحرب. والزماني – بكسر الزاي وتشديد الميم – نسبة هم أبناء عم حنيفة.
واعلم أن وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى، فإنه بعد أن وصف بأنه رب العالمين وذلك معنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان فقد كانت الأمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} [طه: 88] وقال {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [لأعراف: 138] وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة، فقد عبدت ثقيف اللات قال الشاعر:
ووقرت ثقيف إلى لاتها1
وفي حديث عائشة في الموطأ كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل الحديث2.
فوصف الله تعالى بإنه رب العالمين كلهم، ثم عقب بوصفي الرحمان الرحيم لإفادة عظم رحمته، ثم وصف بأنه ملك يوم الدين وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود، فملك ذلك الزمان هو صاحب الملك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت ملكه، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي، فأين هذا الوصف من أوصاف المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك: مثل ملك الملوك شاهان شاه وملك الزمان وملك الدنيا شاه جهان وما شابه ذلك. مع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين أي الجزاء من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ الدين أي الجزاء للإشعار بأنه معاملة العامل بما يعادل أعماله المجزي عليها في الخير والشر، وذلك العدل الخاص قال تعالى {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17] فلذلك لم يقل ملك يوم الحساب فوصفه بأنه ملك يوم العدل الصرف وصف له بأشرف معنى الملك فإن الملوك تتخلد محامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب المدحة بذلك. قال النابغة يمدح الملك
ـــــــ
1 تمامه:
بمنقلب الخائب الخاسر
كذا في "تريخ العرب" في باب أديان العرب من كتابنا "تاريخ العرب قبل الإسلام" مخطوط.
2 في "الصحيحين" واللفظ للبخاري "ومناة" اسم صنم يعبده المشركون من العرب وهو صخرة كانوا يذبحون عندها. والمشلل- بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولام مشددة مفتوحة ولام أخرى – اسم ثنية مشرفة على قديد بين مكة والمدينة.
عمرو بن الحارث الغساني ملك الشام:
وكم جزانا بأيد غير ظالمة ... عرفا بعرف وإنكارا بإنكار
وقال الحارث بن حلزة يمدح الملك عمرو بن هند اللخمي ملك الحيرة:
ملك مقسط وأفضل من يمشي ... ومن دون ما لديه القضاء
وإجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ، لأن تقييد مفاد الكلام بأوصاف متعلق ذلك المفاد يشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مفاد الكلام مناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في مقام هذه الآية.
[5] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}
إذا أتم الحامد حمد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالا من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة فهذا الكلام استئناف ابتدائي.
ومفاتحة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قبل أن يخاطبوا طريقة عربية.روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال: كنت عند النعمان فنادمته وأكلت معه فبينا أنا على ذلك معه في قبة إذا دخل يرتجز حولها: أصم أم يسمع رب القبه:
يا أوهب الناس لعيسى صلبه ... ضرابة بالمشغر الأذبة
ذات هباب في يديها خلبه ... في لاحب كأنه الأطبة1
فقال النعمان: أليس بأبي أمامة? كنية النابغة قالوا: بلى، قال: فأذنوا له فدخل.
والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإ من قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى
ـــــــ
1 الهمزة في قوله: أصم للأستفهام المستعمل في تنبيه. والمشغر: آلة الشغار أي الطرد وهو يعني ذنب البعير. والأذبة – يكسر الذال المعجمة- جمع ذبابة. والخلبة- بضم الخاء المعجمة وسكون اللام حلقة من ليف. واللاحب: الطريق وهو متعلق بقوله هباب. والأطبة – جمع طباب – وهو الشراك يجمع بين الأديمين.
قوله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداء من قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} إلى آخر السورة، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتا. وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة: أحدهما رأى من عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلا عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها.
ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته
طحا بك قلب في الحسان طروب
مخاطبا نفسه على طريقة التجريد، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي، فتسمية الالتفات التفاتا على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه، وأما تسميته التفاتا على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم. ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين، ولذلك كان قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} التفاتا على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تعبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته.
ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه. قال السكاكي في المفتاح بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات: أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب. فهذه فائدة مطردة في الالتفات. ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه.
وما هنا التفات بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به
الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، كعكس هذا الالتفات في قول محمد بن بشير الخارجي "نسبة إلى بني خارجة قبيلة":
ذممت ولم تحمد وأدركت حاجة ... تولى سواكم أجرها واصطناعها
أبى لك كسب الحمد رأي مقصر ... ونفس أضاق الله بالخير باعها
إذا هي حثته على الخير مرة ... عصاها وإن همت بشر أطاعها
فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه. وبعكس ذلك قوله تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت: 23] لاعتبار تشنيع كفر المتحدث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم. ومما يزيد الالتفات وقعا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تخلصا يجيء بعده {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني:
أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته ... تحرك داء في فؤادي داخل
وأن تلادى إن نظرت وشكتي ... ومهري وما ضمت إلي الأنامل
حباؤك والعيس العتاق كأنها ... هجان المهى تزجي عليها الرحائل
وأبو الفتح ابن جني يسمى الالتفات شجاعة العربية كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغى بالكر والفر.
و"إياك" ضمير خطاب في حالة النصب والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليعتمد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو: إياي تعني، وإياك أعني، وإياهم أرجو. ومن هنالك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل. ومن النحاة من جعل "إيا" ضميرا منفصلا ملازما حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد. ومنهم من جعل "إيا" هو الضمير وجعل ما بعده حروفا لبيان الضمير. ومنهم من جعل "إيا" اعتمادا للضمير كما كانت أي اعتمادا للمنادى الذي فيه ال. ومنهم من جعل "إيا" اسما ظاهرا مضافا للمضمرات.
والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس. وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز. والعبادة في الشرع أخص فتعرف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق. وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة ا ه فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها.
وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب. والعبودية بالرضا بما يفعل الرب. فهي أقوى. وقال بعضهم: العبودية الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود. والصبر على المفقود، وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها.
قال الفخر مراتب العبادة ثلاث: الأولى أن يعبد الله طمعا في الثواب وخوفا من العقاب وهي العبادة، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب. الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله. الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقا مستحقا للعبادة وكونه هو عبدا له، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية اه.
قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في الإشارات العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه وتعبده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة اه فجعلهما حالة واحدة.
وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف، كيف وقد قال تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم، ومع ذلك لا
محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر. وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الاسراء: 57] والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له كيف تجهد نفسك في العبادة وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبدا شكورا لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع1.
واعلم أن من أهم المباحث البحث عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهرا لكمال صفاته تعالى: الوجود، والعلم، والقدرة. وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رقي آجل لا يضمحل، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفا على التلقين من السفرة الموحى إليهم بأصول الفضائل. ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نفراتها وشرداتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المجازي بالخير وضده، شرعت العبادة لتذكر ذلك المجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابه بسبحات الجلال يسرب نسيانه إلى النفوس، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصل الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسد النظام، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضا شرعت العبادة لتذكر به، على أن في ذلك التذكر دوام الفكر في الخالق وشؤونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجا فظهر أن العبادة هي
ـــــــ
1 كأنهم اصطلحوا على أن العبودية أبلغ من العبادة لما فيها من النسب لأن الأوصاف التي تلحقها ياء النسب يقصد منها المبالغة في الوصفية وذلك للجمع بين طريقي توصيف فإن صيغة الوصف تفيد التوصيف وصيغة النسب كذلك ولهذا كان قولهم أسحمي أبلغ من أسحم, ولحياني أبلغ من لحيان فالعبودية مصدر من هذا النوع. واعلم أن كون الشكر يشتمل على حظ للمشكور قد تقرر في بحث {الْحَمْدُ} إذ بينا أن الحمد والشكر تزين للعرض المحمود والمشكور لقول النابغة:
شكرت لك النعمى
البيت.
طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مبدأ ونهاية، وبه يتضح معنى قوله تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذريات:56] فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محققة للمقصد من الخلق، ولما كان سر الخلق والغاية منه خفية الإدراك عرفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعا لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة {إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في الإشارات لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكان مما يتعسر إن أمكن، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير، فوجب معرفة المجازي والشارع وأن يكون مع معرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكرة للمعبود، وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير اه.
لا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله قال:
أهابك إجلالا وما بك قدرة ... علي ولكن ملء عين حبيبها
وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب قال محمود الوراق، أو منصور الفقيه
تعصي الإله وأنت تظهر حبه ... هذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته ... إن المحب لمن يحب مطيع
ولذلك قال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: من الآية31] فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبي:
أنت الحبيب ولكني أعوذ به ... من أن أكون محبا غير محبوب
وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} [البقرة: من الآية165]. ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت
المانوية من المجوس المعبود "أهرمن" وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب يزدان إله الخير، قال المعري:
فكر يزدان على غرة ... فصيغ من تفكيره أهرمن
والحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله. وزعم ابن الحاجب في إيضاح المفصل في شرح ديباجة المفصل عند قول الزمخشري الله أحمد أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: من الآية66] ضعيف لورود {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر: من الآية2] وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني.
وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى {فَاعْبُدِ اللَّهَ} لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام، {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} جملة معطوفة على جملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} وإنما لم تفصل عن جملة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلا أو بعضا للإشارة إلى خطور الفعلين جميعا في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص، أي نخصك بالاستعانة أيضا مع تخصيصك بالعبادة.
والاستعانة طلب العون. والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشق ويعسر على المستعين وحده، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقود، أو بقول كالإرشاد والتعليم، أو برأي كالنصيحة. قال الحريري في المقامة وخلقي نعم العون ، أو بمال كدفع المغرم، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين.
وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على مالا قبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعا وقد فسرها العلماء بأنها هي خلق ما به تمام الفعل أو تيسيره، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع.
القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المعين ما يتيسر به الفعل للمعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي. وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق؛ والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكل ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل. وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوع تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة. ولذلك حذف متعلق {نَسْتَعِينُ} الذي حقه أن يذكر مجرورا بعلى، وقد أفاد هذا الحذف الهام عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدبا معه تعالى، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادئ العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق، قال {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ، فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلها المحسوسات وأعلاها المبصرات، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم، والثالث إلى الشرائع.
والحصر المستفاد من التقديم في قوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شئونهم، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى. ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أن ولعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سبأ الشمس وعبد الفرس النور والظلمة، وعبد القبط العجل وألهوا الفراعنة، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين. ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب، فقد عبدت ضبة وتيم وعكل الشمس، وعبدت كنانة القمر، وعبدت لخم وخزاعة وبعض قريش الشعري، وعبدت تميم الدبران، وعبدت طيء الثريا، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأن جعلهم وسيلة إلى الله ضرب من الاستعانة، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا
تعريضا لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في حاشية التفسير.
فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم عبد الله ابن عباس قال له"إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله" فلم يأت بصيغة قصر، قلت: قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم. وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصورا في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام اه.
وأقول تقفية على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرر قصر الحكم لديه على طرف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أي سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضا بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم. ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام.
وضميرا {نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ} ، يعودان إلى تالي السورة ذاكرا معه جماعة المؤمنين. وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات. ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عزة ومنعة، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:
قعودا له غسان يرجون أوبة ... وترك ورهط الأعجمين وكابل
إذ قصد من تعداد أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته.
فكأن الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها.
ووجه تقديم قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} على قوله {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أن العبادة تقرب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة. وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدم المناجى ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك
ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبودا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل. وقد حصل من ذلك التقديم أيضا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان،
وأعيد لفظ {إِيَّاكَ} في الاستعانة دون أن يعطف فعل {نَسْتَعِينُ} على {نَعْبُدُ} مع أنهما مقصودان جميعا كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقا، فالحصر في {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} حقيقي والقصر في {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى.
[6] {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
تهيأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة ثم أتبعوا ذلك بقولهم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار العبودية وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى، فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجوا من فضله، أفضوا إلى سؤل حظهم فقالوا {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم، فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للناس ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة، أو الموضوع من الخطبة، أو التخلص من القصيدة، ولاختلاف الجمل المتقدمة معها بالخبرية والإنشائية فصلت هذه عنهن، وهذا أولى في التوجيه من جعلها جوابا لسؤال مقدر على ما ذهب إليه صاحب الكشاف.
والهداية الدلالة بتلطف ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير، وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه لأن معناه معنى الإرشاد، ويتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه بإلى وباللام والاستعمالان واردان، تقول هديته إلى كذا على معنى أوصلته إلى معرفته، وهديته لكذا على معنى أرشدته لأجل كذا {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} [لأعراف: 43]
وقد يعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا على تضمينه معنى عرف قيل هي لغة أهل الحجاز وأما غيرهم فلا يعديه بنفسه وقد جعلوا تعديته بنفسه من التوسع المعبر عنه بالحذف والإيصال. وقيل الفرق بين المتعدي وغيره أن المتعدي يستعمل في الهداية لمن كان في الطريق ونحوه ليزداد هدى ومصدره حينئذ الهداية، وأما هداه إلى كذا أو لكذا فيستعمل لمن لم يكن سائرا في الطريق ومصدره هدى، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى أن المتعدي بالحرف إنما عدي لتقويته والتقوية إما أن يقصد بها تقوية العامل لضعفه في العمل بالفرعية أو التأخير، وإما أن يقصد بها تقوية معناه، والحق أن هذا إن تم فهو أغلبي على أنه تخصيص من الاستعمال فلا يقتضي كون الفعل مختلف المعنى لأن الفعل لا تختلف معانيه باعتبار كيفية تعديته إلا إذا ضمن معنى فعل آخر، على أن كلا من الهدى والهداية اسم مصدر والمصدر هو الهدى. والذي أراه أن التعدية والقصور ليسا من الأشياء التي تصنع باليد أو يصطلح عليها أحد، بل هي جارية على معنى الحدث المدلول للفعل فإن كان الحدث يتقوم معناه بمجرد تصور من قام به فهو الفعل القاصر وإن كان لا يتقوم إلا بتصور من قام به ومن وقع عليه فهو المتعدي إلى واحد أو أكثر، فإن أشكلت أفعال فإنما إشكالها لعدم اتضاح تشخص الحدث المراد منها لأن معناها يحوم حول معان متعددة. وهدى متعد لواحد لا محالة، وإنما الكلام في تعديته لثان فالحق أنه إن اعتبر فيه معنى الإرادة والإبانة تعدى بنفسه وإن اعتبر فيه مطلق الإرشاد والإشارة فهو متعد بالحرف فحالة تعديته هي المؤذنة بالحدث المتضمن له.
وقد قيل إن حقيقة الهداية الدلالة على الطريق للوصول إلى المكان المقصود فالهادي هو العارف بالطرق وفي حديث الهجرة إن أبا بكر استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا وإن ما نشأ من معاني الهداية هو مجازات شاع استعمالها. والهداية في اصطلاح الشرع حين تسند إلى الله تعالى هي الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير ويقابلها الضلالة وهي التغرير.
واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول الأشاعرة وهو الحق. وذهب جماعة منهم الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله
ومشيئته وإرادته وأمره، فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر. والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلق، ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من المهدي وهذا معنى ما اختار عبد الحكيم أنها موضوعة في الشرع لقدر المشترك لورودها في القرآن في كل منهما قال: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] والأصل عدم الاشتراك وعدم المجاز.
والهداية أنواع تندرج كثرتها تحت أربعة أجناس مترتبة: الأول إعطاء القوى المحركة والمدركة التي بها يكون الاهتداء إلى انتظام وجود ذات الإنسان، ويندرج تحتها أنواع تبتدئ من إلهام الصبي التقام الثدي والبكاء عند الألم إلى غاية الوجدانيات التي بها يدفع عن نفسه كإدراك هول المهلكات وبشاعة المنافرات، ويجلب مصالحه الوجودية كطلب الطعام والماء وذود الحشرات عنه وحك الجلد واختلاج العين عند مرور ما يؤذي تجاهها، ونهايتها أحوال الفكر وهو حركة النفس في المعقولات أعني ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول في البديهيات وهي القوة الناطقة التي انفرد بها الإنسان المنتزعة من العلوم المحسوسة.
الثاني نصب الأدلة الفارقة بين الحق والباطل والصواب والخطأ، وهي هداية العلوم النظرية. الثالث الهداية إلى ما قد تقصر عنه الأدلة أو يفضي إعمالها في مثله إلى مشقة وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وموازين القسط وإليها الإشارة بقوله تعالى في شأن الرسل: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الانبياء: 73]. الرابع أقصى أجناس الهداية وهي كشف الحقائق العليا وإظهار أسرار المعاني التي حارت فيها ألباب العقلاء إما بواسطة الوحي والإلهام الصحيح أو التجليات، وقد سمى الله تعالى هذا هدى حين أضافه للأنبياء فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90].
ولا شك أن المطلوب بقوله: {اهْدِنَا} الملقن للمؤمنين هو ما يناسب حال الداعي بهذا إن كان باعتبار داع خاص أو طائفة خاصة عندما يقولون: اهدنا، أو هو أنواع الهداية على الجملة باعتبار توزيعها على من تأهل لها بحسب أهليته إن كان دعاء على لسان المؤمنين كلهم المخاطبين بالقرآن، وعلى كلا التقديرين فبعض أنواع الهداية مطلوب حصوله لمن لم يبلغ إليه، وبعضها مطلوب دوامه لمن كان حاصلا له خاصة أو لجميع
الناس الحاصل لهم، وذلك كالهداية الحاصلة لنا قبل أن نسألها مثل غالب أنواع الجنس الأول.
وصيغة الطلب موضوعة لطلب حصول الماهية المطلوبة من فعل أو كف فإذا استعملت في طلب الدوام كان استعمالها مجازا نحو {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء: 136] وذلك حيث لا يراد بها إلا طلب الدوام. وأما إذا استعملت في طلب الدوام للزيادة مما حصل بعضه ولم يحصل بعضه فهي مستعملة في معناها وهو طلب الحصول لأن الزيادة في مراتب الهداية مثلا تحصيل لمواد أخرى منها. ولما كان طلب الزيادة يستلزم طلب دوام ما حصل إذ لا تكاد تنفع الزيادة إذا انتقض الأصل كان استعمالها حينئذ في لازم المعنى مع المعنى فهو كناية. أما إذا قال {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} من بلغ جميع مراتب الهداية ورقي إلى قمة غاياتها وهو النبي صلى الله عليه وسلم فإن دعاءه حينئذ يكون من استعمال اللفظ في مجاز معناه ويكون دعاؤه ذلك اقتباسا من الآية وليس عين المراد من الآية لأن المراد منها طلب الحصول بالمزيد مع طلب الدوام بطريقة الالتزام ولا محالة أن المقصود في الآية هو طلب الهداية الكاملة.
والصراط الطريق وهو بالصاد وبالسين وقد قرئ بهما في المشورة وكذلك نطقت به بالسين جمهور العرب إلا أهل الحجاز نطقوه بالصاد مبدلة عن السين لقصد التخفيف في الانتقال من السين إلى الراء ثم إلى الطاء قال في لطائف الإشارات عن الجعبري إنهم يفعلون ذلك في كل سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء وإنما قلبوها هنا صادا لتطابق الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخم مع الراء استثقالا للانتقال من سفل إلى علو اه. أي بخلاف العكس نحو طست لأن الأول عمل والثاني ترك. وقيس قلبوا السين بين الصاد والزاي وهو إشمام وقرأ به حمزة في رواية خلف عنه. ومن العرب من قلب السين زايا خالصة قال القرطبي: وهي لغة عذرة وكلب وبنى القين وهي مرجوحة ولم يقرأ بها، وقد قرأ باللغة الفصحى بالصاد جمهور القراء وقرأ بالسين ابن كثير في رواية قنبل، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها ورسم المصحف وكونها اللغة الفصحى.
فإن قيل كيف كتبت في المصحف بالصاد وقرأها بعض القراء بالسين? قلت إن الصحابة كتبوها بالصاد تنبيها على الأفصح فيها لأنهم يكتبون بلغة قريش واعتمدوا على علم العرب. فالذين قرأوا بالسين تأولوا أن الصحابة لم يتركوا لغة السين للعلم بها فعادلوا الأفصح بالأصل ولو كتبوها بالسين مع أنها الأصل لتوهم الناس عدم جواز العدول عنه
لأنه الأصل والمرسوم كما كتبوا المصيطر بالصاد مع العلم بأن أصله السين فهذا مما يرجع الخلاف فيه إلى الاختلاف في أداء اللفظ لا في مادة اللفظ لشهرة اختلاف لهجات القبائل في لفظ مع اتحاده عندهم.
والصراط اسم عربي ولم يقل أحد من أهل اللغة أنه معرب ولكن ذكر في الإتقان عن النقاش وابن الجوزي أنه الطريق بلغة الروم وذكر أن أبا حاتم ذكر ذلك في كتاب الزينة له وبنى على ذلك السيوطي فزاده في منظومته في المعرب،
والصراط في هذه الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه ألى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز هو الذيب جاء الإسلام بطلبه.
والمستقيم اسم فاعل استقام مطاوع قومته فاستقام، والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعاريج، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيما وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره فلا يضل فيه سالكه ولا يتردد ولا يتحير. والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخلطة شبهة باطل فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيات، عن ابن عباس أن الصراط المستقيم دين الحق، ونقل عنه أنه ملة الإسلام، فكلامه يفسر بعضه بعضا ولا يريد أنهم لقنوا الدعاء بطلب الهداية إلى دين مضى وإن كانت الأديان الإلهية كلها صرطا مستقيمة بحسب أحوال أممها يدل لذلك قوله تعالى في حكاية غواية الشيطان: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} [لأعراف:16]
فالتعريف في "الصراط المستقيم" تعريف العهد الذهني، لأنهم سألوا الهداية لهذا الجنس في ضمن فرد وهو الفرد المنحصر فيه الاستقامة لأن الاستقامة لا تتعدد كما قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس: 32] ولأن الضلال أنواع كثيرة كما قال {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100] وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام فعلمهم الله هذا الدعاء لإظهار منته وقد هداهم الله بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة ويهديهم بما لحق من القرآن والإرشاد النبوي. وإطلاق الصراط المستقيم على دين الإسلام ورد في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} [الأنعام: 161].
والأظهر عندي أن المراد بالصراط المستقيم المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل بأن يوقفهم إلى الحق والتمييز بينه وبين الضلال على مقادير استعداد النفوس وسعة
مجال العقول النيرة والأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ وشبهات في دينهم وهذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب وإن المراد بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شؤونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه. والهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتباعه وتقلده بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص أو الاستنباط. وبه يظهر موقع قوله {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} مصادفا المحز.
[7] {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}
بدل أو عطف بيان من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم، لفائدتين: الأولى : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله. الفائدة الثانية: ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساو لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافا لمن حاول التفاضل بينهما، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهدا يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر.
قال في الكشاف فإن قلت ما فائدة البدل قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير اه فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل: اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين ، وسماه تكريرا لأنه إعادة للفظ بعينه،
بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع.
وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان ليبنى عليه ما يراد تعلقه بالاسم الأول أسلوب بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلوله بمحل العناية وأنه حبيب إلى النفس، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان: 72] وقوله {رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص:63] فإن إعادة فعل {مَرُّوا} وفعل {أَغْوَيْنَاهُمْ} وتعليق المتعلق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تجد له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به. قال ابن جني في شرح مشكل الحماسة عند قول الأحوص:
فإذا تزول تزول عن متخمط ... تخشى بوادره على الأقران
محال أن تقول إذا قمت قمت وإذا أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة، ومثله قول الله تعالى {هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} وقد كان أبو علي يعني الفارسي امتنع في هذه الآية مما أخذناه اه.
قلت: ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار {أَغْوَيْنَاهُمْ} بدلا من {أَغْوَيْنَا} وجعله استئنافا وإن كان المآل واحدا. وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، تنويه بشأنهم خلافا لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين.
ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمت عليهم دون بقية أوصافه تمهيدا لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيت فلانا كان ذلك أنشط لكرمه، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى الله عليه وسلم: "كما صليت على إبراهيم" ، فيقول السائلون: اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذي هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمما بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة: 6]، وتوطئة لما سيأتي بعد من التبرئ
من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلا وتعوذا.
والنعمة بالكسر وبالفتح مشتقة من النعيم وهو راحة العيش وملائم الإنسان والترفه، والفعل كسمع ونصر وضرب. والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذات الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} النعمة التي لم يشبها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سوأى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبي منها والكسبي، والروحاني والجثماني،ويشمل النعم الأخروية. والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيوي وإلى الأخروي كله ظاهرة فيها حقيقة الهداية، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلا بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وهب لأجله.
فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة. ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذ فيكون في إبدال {صِرَاطَ الَّذِينَ} من {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعم عليهم بالنعمة الكاملة قد هدوا إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة.وإنما يلتئم كون المسئول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دين الإسلام الذي جاء من بعد باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى، فسألوا دينا قويما يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها. أو المراد من المنعم عليهم الأنبياء والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم، ولذلك وصف الله كثيرا من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه {فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132] ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية، ولنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدر غير المسكر منه مباحا وإنما يحرم السكر أو لا يحرم أصلا غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أتباعهم أو بالمسلمين السابقين فالمقصد
الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولا في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانه والتي لم يبلغ إلى نهايتها.
والقول في المطلوب من {اهْدِنَا} على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون {اهْدِنَا} لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام.
والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمتري في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة. فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين.
{غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ}
كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة وهي صفة للذين أنعمت عليهم. أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود، وإنما قدم في الكشاف بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة غير التي لا تتعرف، وإلا فإن جعل {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له، يريد أن معنى التوصيف في {غَيْرِ} أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب الكشاف إلى تأويل {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} بالذين سلموا من الغضب، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل {غَيْرِ} بل أراد بيان المعنى. وإنما صح وقوع غير صفة للمعرفة مع قولهم: إن {غَيْرِ} لتوغلهم في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفا أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف، ف {غَيْرِ} وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو. فالتوصيف هنا إما باعتبار كون {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ليس مرادا به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظا ومعنى، وهو {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين، وإما باعتبار تعريف {غَيْرِ} في مثل
هذا لأن {غَيْرِ} إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون، فلما كان من أنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ونقل عن سيبويه أن غيرا إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألحق بها مثلا وسوى وحسب وقال إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت. وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيرا إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبدا فقولك: عليك بالحركة غير السكون هو غير قولك مررت بزيد غير عمرو وقوله {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} من النوع الأول.
ومن غرض وصف الذين أنعمت عليهم بأنهم {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} التعوذ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعوها حق رعايتها، والتبرؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالا.
والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديما واليهود من جملة الفريق الأول، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم. وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المراد دين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلا للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخا لهما.
ويشمل المغضوب عليهم والضالون فرق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا، والضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته، واليهود من الفريق الأول
والنصارى من الفريق الثاني. وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه. وقد تبين لك من هذا أن عطف {وَلا الضَّالِّينَ} على {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غضب الله لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} على {وَلا الضَّالِّينَ} ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى، مع رعاية الفواصل.
والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضب الله وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفية سبب لطلب الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام. والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضي ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه. فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنوا على القوانين العربية.
وإذ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقة أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.
وكان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بدا من توسيع أساليب التأويل
الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد، فقام الدين بصنيعهم على قواعده. وتميز المخلص له عن ماكره وجاحده. وكل فيما صنعوا على هدى. وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبدا. وما تأولوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.
فغضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار، ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث "ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال" ، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غير المشيئة والإرادة بمعنى التقدير والتكوين، {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: 112] {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً} [يونس:99] وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام.
واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي: الحكمة والعفة والشجاعة، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأخلاق كثيرة متطرفة ومعتدلة فيلقبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السبعية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكبر الهمة، وثبات القلب في المخاوف، وانحرافها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبر والعجب والشراسة والحقد والحسد والقساوة، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أطلق الغضب لغة انصرف إلى بعض انحراف الغضبية، ولذلك كان من جوامع كلم النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له أوصني قال: "لا تغضب" فكر مرارا فقال: "لا تغضب" رواه الترمذي.
وسئل بعض ملوك الفرس: بم دام ملككم? فقال: لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب.
فالغضب المنهي عنه هو الغضب للنفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان، ومن الغضب محمود وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصا الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله.
وقوله: {وَلا الضَّالِّينَ} معطوف على {الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} كما هو متبادر، قال ابن عطية: قال مكي ابن أبي طالب: إن دخول "لا" لدفع توهم عطف "الضالين" على "الذين أنعم عليهم"، وهو توجيه بعيد فالحق أن "لا" مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ "غير" على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ
بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة: 19] وهو أسلوب في كلام العرب. وقال السيد في حواشي الكشاف لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوز ثبوت أحدهما، ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها، وليست زيادة "لا" هنا كزيادتها في نحو {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [لأعراف: 12] كما توهمه بعض المفسرين؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي.
والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطأ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم، ومنه ضالة الإبل، وهو مقابل الهدى وإطلاق الضال على المخطئ في الدين أو العلم استعارة كما هنا. والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك، قالوا وله عرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف، فالضلال عدم ذلك، ويطلق على أقصى أنواعه الختم والطبع والأكنة.
والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسا فرق الكفر، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جدا تحمل عليه غلبة الهوى، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.
والضالون جنس للفرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون بإتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته. والحذر من مخالفة مقاصده.
وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادوا عن الصراط الذي هدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى، وأن الضالين قد ضلوا الصراط، فحصل شبه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظا من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضبا شديدا لأن ضلالهم شنيع. فاليهود مثل للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في جامع الترمذي وحسنه. وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى، فهو من قبيل التمثيل بأشهر الفرق التي حق عليها هذان
الوصفان، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن.وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك.
فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمدا فلزمهم وصف المغضوب عليهم وعلق بهم في آيات كثيرة. والنصارى ضلوا بعد الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77]
وفي وصف الصراط المسئول في قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يهوي أهله إلى هوة الضلالة كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً} [الأنعام: 161] وقال {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153]، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد" ولم يترك بيان الشريعة مجاري اشتباه بين الخلاف الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلاف الذي يخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} [النمل: 79].
واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، وقوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة، فالجمهور قرأوها بكسر الهاء تخلصا من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكان ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر. وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين. وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه باء ساكنة بضم الهاء. وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير.
واختلفوا أيضا في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا {عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشيعة {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} وهي لغة لبعض العرب
وعليها قول لبيد:
وهمو فوارسها وهم حكامها
فجاء باللغتين، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف.
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة البقرةكذا سميت هذه السورة سورة البقرة في المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم وما جرى في كلام السلف، فقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه" ، وفيه عن عائشة لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأهن رسول الله ثم قام فحرم التجارة في الخمر.
ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة تمييزا لها عن السور آل آلم~ من الحروف المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المقطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها وعرفوها بها نحو: طه، ويس، وص وفي الاتفاق عن المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنها سنام القرآن" ، وسنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علما لها ولكنه وصف تشريف. وكذلك قول خالد بن معدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة.
نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في المدينة وحكى ابن حجر في شرح البخاري الاتفاق عليه، وقيل نزلت سورة المطففين قبلها بناء على أن سورة المطففين مدنية، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام، والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة، فرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية لأن النبي صلى الله عليه وسلم صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة. فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية.
وفي البخاري عن عائشة ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده تعني النبي صلى الله عليه وسلم وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة. وقيل في أول السنة
الثانية، وقد روى عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة وبنى بها وهي بنت تسع سنين، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة وعلى أحكام القتال من المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة ست كما سنبينه عند آية {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وقد يكون ممتدا إلى ما بعد سنة ثمان كما يقتضيه قوله {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] الآيات إلى قوله {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة: 203]. على أنه قد قيل إن قوله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآية هو آخر ما نزل من القرآن، وقد بينا في المقدمة الثامنة أنه قد يستمر نزول السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى.
وقد عدت سورة البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة المطففين وقبل آل عمران.
وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهد بإقامة الجامعة الإسلامية واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم كان من أول أغراض هذه السورة تصفية الجامعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة لما أقام الله لها من الصلاح سعيا لتكوين المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل والدخل.
وإذ كانت أول سورة نزلت بعد الهجرة فقد عني بها الأنصار وأكبوا على حفظها، يدل لذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنين قال النبي صلى الله عليه وسلم للعباس: "اصرخ يا معشر الأنصار يا أهل السمرة - يعني شجرة البيعة في الحديبية - يا أهل سورة البقرة" فقال الأنصار: لبيك لبيك يا رسول الله أبشر. وفي الموطأ قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها، وفي صحيح البخاري: كان نصراني أسلم فقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد إلى آخر القصة.
وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة ومكة والشام، وست وثمانون عند أهل العدد بالكوفة، وسبع وثمانون عند أهل العدد بالبصرة.
محتويات هذه السورة
هذه السورة مترامية أطرافها، وأساليبها ذات أفنان. قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن. فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها، ولكن هذا لا يحجم بنا
عن التعرض إلى لائحات منها، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام، وسدى متين من فصاحة الكلمات.
ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين: قسم يثبت سمو هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس، وقسم يبين شرائع هذا الدين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم.
وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية، وأساليب الكتب التشريعية، وأساليب التذكير والموعظة، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحول الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] الآيات.
فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة "وكانوا قبل الهجرة صنفين" بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي. وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة يعني المسلمين ابتدئ بذكرهم، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفا المشركين الصرحاء والمنافقين لف الفريقان لفا واحدا فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ورد مطاعنهم، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة. ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة، ويلقى في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم، فكان ذلك من رد العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا. وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها. فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشد الناس مقاومة لهدى القرآن، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل
الكتاب يومئذ هم أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40] الآيات، فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل، وبيان أخطائهم، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم من تعلق الحياة {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ومحاولة العمل بالسحر {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] الخ وأذى النبي بموجه الكلام {لا تَقُولُوا رَاعِنَا} [البقرة:104].
ثم قرن اليهود والنصارى والمشركون في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: من الآية105] إلى قوله {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 112]، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ} [البقرة: من الآية113] إلى {يَخْتَلِفُونَ} [البقرة: 113] ثم خص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.
وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام، وبانيه، ودعوته لذريته بالهدى، والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية، وذكر شعائر الله بمكة، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما.
ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ} [البقرة: 164] إلخ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرأون فيه من قادتهم، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [البقرة: 204]
ولما قضي حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان، انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177]، ثم تفصيلا: القصاص، الوصية، الصيام، الاعتكاف، الحج، الجهاد، ونظام المعاشرة والعائلة، المعاملات المالية، والإنفاق في سبيل الله، والصدقات، والمسكرات، واليتامى، والمواريث، والبيوع والربا، والديون، والإشهاد، والرهن، والنكاح، وأحكام النساء، والعدة، والطلاق، والرضاع، والنفقات، والأيمان.
وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلا وفذلكة {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] الآيات.
وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا لنشاط القارئ والسامع، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع، وتخرج بوادر الزهر عقب الرعود القوارع، من تمجيد الله وصفاته {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 255] ورحمته وسماحة الإسلام، وضرب أمثال {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] واستحضار نظائر {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} [البقرة: 74] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] وعلم وحكمة، ومعاني الإيمان والإسلام، وتثبيت المسلمين {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} [البقرة: 153] والكمالات الأصلية، والمزايا التحسينية، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189] {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة: 177] {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217] والنظر والاستدلال، ونظام المحاجة، وأخبار الأمم الماضية، والرسل وتفاضلهم، واختلاف الشرائع.
[1] {ألم}
تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور، وفي فواتح سور
أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي {نْ وَالْقَلَمِ} [القلم: من الآية1] وأخلق بها أن تكون مثار حيرة ومصدر أقوال متعددة وأبحاث كثيرة، ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف: السور المكية عدا البقرة وآل عمران، والحروف الواقعة في السور هي ا، ح، ر، س، ص، ط، ع، ق، ك، ل، م، ن، ه، ي، بعضها تكرر في سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها.
ولا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارئ أسماء الحروف التهجي التي ينطق في الكلام بمسمياتها وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول القارئ ألف لام ميم مثلا ولا يقول {ألم}. وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف التي يتهجى بها في الكلام التي يقوم رسم شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم يكتبوها بدوال ما يقرأونها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي تكتب بصورها لا بأسمائها. وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى إنه لأشمل للأقوال المندرجة تحتها، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها؛ لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال.
وعرفت اسميتها من دليلين: أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول: الألف، والباء، ومثل الجمع حين تقول الجيمات، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيوية في كتابه: قال الخليل يوما وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في لك والباء التي في ضرب فقيل نقول: كاف. باء. فقال: إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال أقول كه، وبه يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذا بقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفردا
والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخلة وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولا ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بدا من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كلم أو جمل، فكانت أسرارا يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال: الأول أنها علم استأثر الله تعالى به ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون إطلاع الله على المقصود منها رسوله صلى الله عليه وسلم وقاله الشعبي وسفيان.
والثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقاله محمد بن القرظي أو الربيع ابن أنس فالم مثلا. الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي، واللام إلى لطيف، والميم إلى ملك أو مجيد، ونحو ذلك، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به،
الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول عليه السلام والملائكة فالم مثلا، الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، قاله الضحاك، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه،
الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في الفصل 27 منه من كنابه الفتوحات أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر، ويقولون هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق فيستغفرون له، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى.
الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبي صلى الله عليه وسلم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن ملوكة التونسي1 في رسالة له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسماء الكريمة وأوصافه الخاصة، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم، واللام مكنى به عن صفاته مثل لب الوجود، والميم مكنى به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر، فكلها منادى بحرف نداء
ـــــــ
1 كان من الزهاد والمربين درس علوما كثيرة وخاصة الفرائض والحساب وله شرحان على "الدرة البيضاء" توفي في تونس.
مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس. ولم يعز هذا القول إلى أحد، وعلق على هذه الرسالة تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية تعليقة أكثر فيها من التعداد، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد وهي وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد 514 ويرد هذا القول التزام حذف حرف النداء وما قاله من ظهوره في يس مبني على قول من قال إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء ولأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من {كهيعص} [مريم:1]
القول السادس أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمل1 قاله أبو العالية أخذا بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب قال: جاء أبو ياسر بن أخطب وحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوا رسول الله عن الم وقالوا: هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة فضحك رسول الله وقال لهم "ص والمر" فقالوا اشتبه علينا الأمر فلا ندري أبا القليل نأخذ أم بالكثير اه. وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزا لأعداد مدة هذه الأمة، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له. وأما ضحكه صلى الله عليه وسلم فهو تعجب من جهلهم.
القول السابع أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو"الم" أنا الله أعلم، و"المر" أنا الله أرى، و"المص" أنا الله أعلم وأفصل. رواه أبو الضحى عن ابن عباس، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها. ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلا من كلمات تتألف من تلك الحروف نظما ونثرا، من ذلك قول زهير:
بالخير خيرات وإن شرفا ... ولا أريد الشر إلا إن تا
ـــــــ
1 حساب الجمل بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة هو جعل أعداد لكل حرف من حروف المعجم من آحاد وعشرات ومئات وألف واحد, فإذا أريد خط رقم حسابي وضع الحرف عوضا عن القم وقد كان هذا الإصطلاح قديما ووسمت به عدة أناشيد من كتاب داود واشتهر ترقيم التاريخ به عند الرومان ولعله نقل إلى العرب منهم أو من اليهود.
أراد وإن شر فشر وأراد إلا أن تشا، فأتى بحرف من كل جملة. وقال الآخر قرطبي
ناداهم ألا الجموا ألا تا ... قالوا جميعا كلهم ألا فا
أراد بالحرف الأول ألا تركبون، وبالثاني ألا فأركبوا. وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم:
قلت لها قفي لنا قالت قاف ... لا تحسبني قد نسيت الإيجاف1
أراد قالت وقفت. وفي الحديث: "من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة" قال شقيق: هو أن يقول أق مكان اقتل. وفي الحديث أيضا "كفى بالسيف شا" أي شاهدا2. وفي كامل المبرد من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مولد:
ولبس العجاجة والخافقات ... تريك المنا برؤوس الأسل
أي تريك المنايا. وفي تلع من صحاح الجوهري قال لبيد:
درس المنا بمتالع فأبان ... فتقادمت بالحبس فالسوبان
أراد درس المنازل. وقال علقمة الفحل خصائص ص 82
كأن إبريقهم ظبيى على شرف ... مفدم بسبا الكتان ملثوم
أراد بسبائب الكتان. وقال الراجز
حين ألقت بقباء بركها ... واستمر القتل في عبد الأشل
أي عبد الأشهل. وقول أبي فؤاد:
يدرين حندل حائر لجنوبها ... فكأنما تذكى سنابكها الحبا
أراد الحباحب. وقال الأخطل:
أمست مناها بأرض ما يبلغها ... بصاحب الهم إلا الجسرة الأجد
ـــــــ
1 يوجد في أكثر الكتب قلت لها قفي فقالت قاف, وهو مشتمل على زحاف ثقيل. وفي بعض نسخ البضاوي فقالت لي وهي مصححة, وفي "الخصائص"لابن جني: قلت لها قفي لنا قالت قاف, وبعد هذا البيت:
والنشوات من معتق صاف ... وعزف قينات عاينا عزاف
2 هو حديث سعد بن عبادة "كفى بالسيف شاهدا" أخرجه ابن ماجه.
أراد منازلها. ووقع طراز المجالس-المجلس1 للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس:
لم أنس بدرا زارني ليلة ... مستوفزا مطلعا للخطر
فلم يقم إلا بمقدار ما ... قلت له أهلا وسهلا ومر
أراد بعض كلمة مرحبا.وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل مر من المرور.
القول الثامن: أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب، وجعلها في الفتوحات في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "الإيمان بضع وسبعون شعبة" فهذه الحروف هي شعب الإيمان، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها. وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند، ولولا أنهم فهموا منها معنى معروفا دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك المعاندون.
قال القاضي أبو بكر بن العربي لولا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم بل تلا عليهم حم فصلت وص~ وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا {وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان: 60] ، وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد.
النوع الثاني: يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا وفيه من الأقوال أربعة.
التاسع: في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء والمتكلمين واختاره الفخر
ـــــــ
1 نسبه إليه المبرد في "الكامل" ص 245. وسيبويه في "كتابه" ص 57 جزء 2 وتبعهما المفسرون.
أنها أسماء للسور التي وقعت فيها، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في كتابه باب أسماء السور من أبواب مالا ينصرف أو للخليل ونسبه صاحب الكشاف للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور، وسميت بها كما نقول الكراسة ب والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لام الطائي والد حارثة، وسموا الذهب عين، والسحاب غين، والحوت نون، والجبل قاف، وأقول: وحاء قبيلة من مذحج، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم1
يريد {حم عسق} [الشورى:2,1] التي فيها {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]. ويبعد هذا القول بعدا ما إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل آلم~ وآلر وحم. وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها.
القول العاشر وقال جماعة إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة. ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن، نحو {آلم غُلِبَتِ الرُّومُ} ، و {آلم أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت: 2].
القول الحادي عشر أن كل حروف مركبة منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق وسكت عن الحروف المفردة فيرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله مثل {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: من الآية2] ، و {آلمص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [لأعراف: 2].
الثاني عشر قال الماوردي هي أفعال فإن حروف آلمص كتاب فعل ألم بمعنى نزل فالمراد {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} أي نزل عليكم، ويبطل كلامه أنها لا تقرأ بصيغ الأفعال على
ـــــــ
1 الضمير في يذكروني راجع لمحمد بن طلحة السجاد بن عبيد الله القرشي من بني مرة بن كعب وأراد بحم سورة الشورى لأن فيها : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: من الآية23] فكانت دالة على قرابة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش الذين منهم محمد السجاد.
أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعص وآلمص وآلر ولولا غرابة هذا القول لكان حريا بالإعراض عنه.
النوع الثالث تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك وفيه من الأقوال:
القول الثالث عشر أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويها بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسما بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو {نْ وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] و {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف:2] قال صاحب الكشاف: وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في قوله تعالى {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:2] أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف، والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تندفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين، قال النابغة:
والله والله لنعم الفتى الـ ... ـحارث لا النكس ولا الخامل
القول الرابع عشر أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتا للمشركين وإيقاظا لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضا بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة. فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزا لا معذرة لهم فيه، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء، قال في الكشاف وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزلة، وقلت وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون
أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ، ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في كهيعص و {آلم، أَحَسِبَ النَّاسُ} [العنكبوت: 2] ، {وآلم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله لمراعاة فصاحة الكلام، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي، ويؤيده أيضا الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتاب طلبا للخفة كما سيأتي قريبا في آخر هذا المبحث من تفسير {آلم}
القول الخامس عشر: أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز ابن يحيى، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيء وبعض قريش وكنانة من أهل مكة، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة، فكانوا بادئ الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن، والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين، ثم إن العرب لما بادوا أي سكنوا البادية تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادئ العلوم، فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها فكانت طيء بنجد يعرفون القراءة والكتابة، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيء يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد، وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة. ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين، قد تناسوا الكتابة إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب، فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال له من الأسرى يفتدى
بأن يعلم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين. ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي أن المحض ابن جندل من أهل مدين وكان ملكا كان له ستة أبناء وهم: أبجد، وهوز، وحطي، وكلمن، وسعفص، وقرشت. فجعل أبناءه ملوكا على بلاد مدين وما حولها فجعل أبجد بمكة وجعل هوزا وحطيا بالطائف ونجد، وجعل الثلاثة الباقين بمدين، وأن كلمنا كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة1 قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغظ فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز، وحقا إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي بيانه من كلام الكشاف.
القول السادس عشر أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يا فتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل لا، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت: إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يقدم على الكلام المقصود شيئا ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاما مثل النداء وحروف الاستفتاح، وقد يكون المقدم صوتا كمن يصفق ليقبل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفا من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم.
القول السابع عشر أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق
ـــــــ
1 الظلة: السحابة وقد أصابتهم صواعق فذكروا أن حارثة ابنة كلمن قالت ترثي اباها:
كلمن هدم ركني ... هلكه وسط المحله
سيد القوم أتاه الـ ... ـحتف نارا وسط ظله
كونت نارا وأضحت ... دار قومي مضمحلة
ومسحة التوليد ظاهرة على هاته الأبيات.
بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بين البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف.
القول الثامن عشر: أن الكفار كانوا يعرضون عن سماع القرآن فقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قصد، قاله قطرب وهو قريب من القول السادس عشر.
القول التاسع عشر: أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة.
القول العشرون: قال التبريزي علم الله أن قوما سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام، وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها.
القول الحادي والعشرون: روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني.
هذا جماع الأقوال، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف. لام. ميم دون أن يقرأوا ألم وأن رسمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول، فإن الأقوال الثاني، والسابع، والثامن، والثاني عشر، والخامس عشر، والسادس عشر، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بسمياتها لا بأسمائها. فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهيا، خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة: وهي كون تلك الحروف لتبكيت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية. وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها.
قال في الكشاف: ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء،
والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم، وهذه الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف ففيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين والحاء، ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون، ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف، ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون. ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها القاف، والصاد، والطاء. ومن المستفلة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء. ثم إن الحروف التي ألغي ذكرها مكثورة بالمذكورة، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته اه وزاد البيضاوي على ذلك أصنافا أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء فليراجعها. ومحصول كلامهما أنه قد قضي بذكر ما ذكر من الحروف وإهمال ذكر ما أهمل منها حق التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف، وترك النصف من باب وليقس ما لم يقل لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة، وحق الإيجاز في الكلام. فيكون ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.
وكيفية النطق أن ينطق بها موقوفة دون علامات إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل فحالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثه أربعه خمسه. وكحال أسماء الأشياء التي تملى على الجارد لها، إذ تقول مثلا: ثوب، بساط، سيف، دون إعراب، ومن أعربها كان مخطئا. ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها صحيح الآخر نطق به ساكنا نحو ألف، لام، ميم. وما كان من أسماء الحروف ممدود الآخر نطق به في أوائل السور ألفا مقصورا لأنها مسوقة مساق المتهجي بها وهي في حالة التهجي مقصورة طلبا للخفة لأن التهجي إنما يكون غالبا لتعليم المبتدئ، واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعديد أو مأخوذة منه.
ولكن الناس قد يجعلون فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأت {كهيعص} كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسما للقصيدة فيقولون قرأت قفا نبك و بانت سعاد فحينئذ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا يصرف حاميم كما قال شريح بن أوفى العنسي المتقدم آنفا:
يذكرني حاميم والرمح شاجر ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وكما قال الكميت:
قرأنا لكم في آل حاميم آية ... تأولها منا فقيه ومعرب
ولا يعرب {كهيعص} [مريم:1] إذ لا نظير له في الأسماء إفرادا ولا تركيبا. وأما طسم فيعرب اعتراب المركب المزجي نحو حضرموت ودارا بجرد1 وقال سيبويه: إنك إذا جعلت هود اسم السورة لم تصرفها فتقول قرأت هود للعلمية والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتها بعمرو. ولك في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما يليها من حيث الإعراب، فإن جعلتها حروفا للتهجي تعريضا بالمشركين وتبكيتا لهم فظاهر أنها حينئذ محكية ولا تقبل إعرابا، لأنها حينئذ بمنزلة أسماء الأصوات لا يقصد إلا صدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيئ السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها، أو يطرح، أو يقسم، فلا إعراب لها مع ما يليها، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصود لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها من التعريض لأن الذي يتهجى الحروف لمن ينافى في حاله أن يقصد تعليمه يتعين من المقام أنه يقصد التعريض. وإذا قدرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسما بها فقيل إن لها أحكاما مع ما يليها من الإعراب بعضها محتاج للتقدير الكثير، فدع عنك الإطالة بها فإن الزمان قصير.
وهاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور
ـــــــ
1 دار بجرد اسم بلدة بفارس مركبة من دار اسم ملك. واب اسم الماء وجرد بمعنى بلد فهي بفتحات ثم جيم مكسورة.
القراء.وروى عن قراء الكوفة أن بعضها عدوه آيات مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب الكشاف إن هذا لا دخل للقياس فيه. والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم؛ لأن الدليل مفقود. والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقبها من الكلام ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالة المطابقة في هذه الحروف تقديرية إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام. ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرأونها إذا قرأوا الآية المتصلة بها، ففي جامع الترمذي في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم. فنزلت {وآلم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] وفيه أيضا فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة {وآلم غُلِبَتِ الرُّومُ} وفي سيرة ابن إسحاق من رواية ابن هشام عنه فقرأ رسول الله على عتبة بن ربيعة {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} حتى بلغ قوله {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] الحديث.
وعلى هذا الخلاف اختلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة.
[2] {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
{ذَلِكَ الْكِتَابُ}
مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف {الم} كما علمت مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر. وقد جوز صاحب الكشاف على احتمال أن تكون حروف {الم} مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن، أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى {الم} باعتباره حرفا مقصودا للتعجيز، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتاب أي منها تراكيبه فما أعجز كم عن معارضته، فيكون {الم} جملة مستقلة مسوقة للتعريض.
واسم الإشارة مبتدأ والكتاب خبرا. وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذ. واسم الإشارة مبتدأ والكتاب بدل وخبره ما بعده، فالإشارة إلى
الكتاب النازل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به، فيكون الكتاب على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كتب بالفعل، ويكون قوله الكتاب على هذا الوجه خبرا عن اسم الإشارة، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله نترقب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله الكتاب حينئذ بدلا أو بيانا من {ذَلِكَ} والخبر هو {لا رَيْبَ فِيهِ} .
ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد، قال الرضى1 وضع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حسا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول: "والله وذلك قسم عظيم"، لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول: وهذا قسم عظيم اه، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر، وعكس ذلك في الإشارة للقول.
وابن مالك في التسهيل سوى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال: وقد يتعاقبان أي اسم القريب والبعيد مشارا بهما إلى ما ولياه أي من الكلام، ومثله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ} [آل عمران:58]
ثم قال {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} [آل عمران: 62] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة. وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثل الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضا، ففي القرآن: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالا لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد
ـــــــ
1 "شرح كافية ابن الحاجب" صفحة 32 جزء 2 طبع الآستانة.
مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا، وكما قال خفاف بن ندبة1:
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمل خفافا إنني أنا ذلك2
وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخطيم في الحماسة:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة ... لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة. وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في {آلم} كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم {افْتَرَاهُ} [يونس: 38] وقولهم {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} [الأنعام: 25]. ولا يرد على هذا قوله {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنعام: 92] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه. ولعل صاحب الكشاف بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعد {ذَلِكَ الْكِتَابُ} تنبيها على التعظيم أو الاعتبار، فلله در صاحب المفتاح إذ لم يغفل ذلك فقال في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة: أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عز وعلا {آلم ذَلِكَ الْكِتَابُ} ذهابا إلى بعده درجة.
ـــــــ
1 خفاف بضم الخاء وتخفيف الفاء هو خفاف بن عمير وأمه ندبة أمة سوداء. وهي بفتح النون. وخفاف أحد فرسان العرب وشعرائهم ممن لقب بالغراب, وأغربة العرب سودانهم وهم خمسة جاهليون, وثمانية مسلمون, فأما الجاهليون فهم: عنترة, وخفاف, وأبو عمير بن الحباب, وسليك بن السلكة, وهشام بن عقبة بن أبي معيط, فخفاف وهشام أدركا الإسلام وعدا في الصحابة وشهد خفاف فتح مكة وأبلى البلاء الحسن. وأما الأغربة المسلمون فهم :تأبط شرا والشنفرى – عمرو بن براقة – وعبد الله بن حازم, وعمير بن أبي عمير, وهمام بن مطرف ومنتشر بن وهب, ومطر بن أبي أوفى, وحاجز بحاء ثم زاي معجمة غير منسوب.
2 يأطر مضارع أطر كنصر وضرب, بمعنى أحنى وكسر قال طرفة: "وأطر قسي فوق صلب مؤيد".
وقوله {الْكِتَابُ} يجوز أن يكون بدلا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته، فالتعريف فيه إذن للعهد، ويكون الخبر هو جملة {لا رَيْبَ فِيهِ} ويجوز أن يكون {الْكِتَابُ} خبرا عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزئين فهو إذن قصر ادعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصف الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه آلم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال.
والكتاب فعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتب المصوغ للمبالغة في الكتابة، فإن المصدر يجيء بمعنى المفعول كالخلق، وإما فعال بمعنى مفعول كلباس بمعنى ملبوس وعماد بمعنى معمود به. واشتقاقه من كتب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتابا، وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه. وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين.
{لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ}
حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريبا. والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس، وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك، قال الله تعالى {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بجعل ما أوجب الشك في حاله فهو متعد، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لحق وألحق، وزلقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قربه من أن يشك قاله أبو زيد، وعلى التفرقة بينهما قال بشار:
أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أربت وإن عاتبته لان جانبه1
ـــــــ
1 أي إن فعلت معه ما يوجب شكه في مودتك راجع نفسه. وقال: إنما قربني من الشك ولم أشك فيه. أي التمس لك العذر.
وفي الحديث "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.
ولم يختلف متواتر القراء في فتح {لا رَيْبَ} نفيا للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفع لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كانت الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى الحروف المجتمعة في: {آلم} على إرادة التعريض بالمتحدين وكان قوله: {الْكِتَابُ} خبرا لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله: {لا رَيْبَ} نفيا لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفا من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء، فتكون جملة {لا رَيْبَ} منزلة منزلة التأكيد لمفاد الإشارة في قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله: {فِيهِ} متعلقا بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله: {فِيهِ} وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7] وقوله {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 9] ويجوز أن يكون قوله فيه ظرفا مستقرا خبرا لقوله بعده: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} ومعنى "في" هو الظرفية المجازية العرفية تشبيها لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا: {لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} [فصلت: 26] استنزالا لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر" "إنك امرؤ فيك جاهلية" ويكون خبر "لا" محذوفا لظهوره أي لا ريب موجود، وحذف الخبر مستعمل كثيرا في أمثاله نحو {قَالُوا لا ضَيْرَ} [الشعراء: 50] وقول العرب لا بأس، وقول سعد بن مالك:
من صد عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح
أي لا بقاء في ذلك، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله {لا رَيْبَ} وفي الكشاف أن نافعا وعاصما وقفا على قوله: {رَيْبَ}
وإن كانت الإشارة بقوله: {ذَلِكَ} إلى {الْكِتَابُ} باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله الكتاب بدلا من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله: {فِيهِ} ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله، والوقف على قوله: {فِيهِ} فيه معنى نفى وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفى الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجيء خطابهم
بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] فارتيابهم واقع مشتهر، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم. قال صاحب المفتاح: ويقلبون القضية1 مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام: الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن: {لا رَيْبَ فِيهِ} وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملا في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلا على طريقة التمثيل.
ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابا في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازا في سببه ويكون المجرور ظرفا مستقرا خبر "لا" فينظر إلى قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] أي أن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضا أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبر فيه المتدبر وجده مفيدا اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة.
وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغنى عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للأخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر، هذا أساطير الأولين، يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لا سيما بعد قوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنت ساكت: هذا الكلام صواب تعرض بغيره.
وبهذا الوجه أيضا يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على {فِيهِ} ولدى
ـــــــ
1 أي قضية التأكيد للخبر الموجه إلى منكر مضمون الخبر.
من وقف على {رَيْبَ} ، لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفا أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة، وقد ذكر الكشاف أن الظرف وهو قوله {فِيهِ} لم يقدم على المسند إليه وهو {رَيْبَ} ، أي على احتمال أن يكون خبرا عن اسم لا كما قدم الظرف في قوله {لا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتابا آخر فيه الريب اه. يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيدا أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا. وليس الحصر في قوله {لا رَيْبَ فِيهِ} بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدين بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يرد عليهم. وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دعوا إلى معارضته فعجزوا. نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآن لعلو شأنه بين نظرائه من الكتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلا من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدل المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها. والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها. وقد بنى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفى وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفي القصر، وأمثلة صاحب المفتاح في تقديم المسند للاختصاص سوى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي. وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: 272].وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها.
وقوله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} الهدى اسم مصدر الهدى ليس له نظير في لغة العرب إلا سرى وتقى وبكى ولغى مصدر لغى في لغة قليلة. وفعله هدى هديا يتعدى إلى المفعول الثاني بإلى وربما تعدى إليه بنفسه على طريقة الحذف المتوسع فيما تقدم في قوله تعالى {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]
والهدى على التحقيق هو الدلالة التي من شأنها الإيصال إلى البغية وهذا هو الظاهر في معناه لأن الأصل عدم الترادف فلا يكون هدى مرادفا لدل ولأن المفهوم من الهدى الدلالة الكاملة وهذا موافق للمعنى المنقول إليه الهدى في العرف الشرعي. وهو أسعد بقواعد الأشعري لأن التوفيق الذي هو الإيصال عند الأشعري من خلق الله تعالى في قلب الموفق فيناسب تفسير الهداية بما يصلح له ليكون الذي يهدى يوصل الهداية الشرعية.
فالقرآن هدى ووصفه بالمصدر للمبالغة أي هو هاد.
والهدى الشرعي هو الإرشاد إلى ما فيه صلاح العاجل الذي لا ينقض صلاح الآجل. وأثر هذا الهدى هو الاهتداء فالمتقون يهتدون بهديه والمعاندون لا يهتدون لأنهم لا يتدبرون، وهذا معنى لا يختلف فيه وإنما اختلف المتكلمون في منشأ حصول الاهتداء وهي مسألة لا حاجة إليها في فهم الآية. وتفصيل أنواع الهداية تقدم عند قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} . ومحل "هدى" إن كان هو صدر جملة أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف هو ضمير الكتاب فيكون المعنى الإخبار عن الكتاب بأنه الهدى وفيه من المبالغة في حصول الهداية به ما يقتضيه الإخبار بالمصدر للإشارة إلى بلوغه الغاية في إرشاد الناس حتى كان هو عين الهدى تنبيها على رجحان هداه على هدى ما قبله من الكتب، وإن كان الوقف على قوله: {لا رَيْبَ} وكان الظرف هو صدر الجملة الموالية وكان قوله: {هُدىً} مبتدأ خبره الظرف المتقدم قبله فيكون إخبارا بأن فيه هدى فالظرفية تدل على تمكن الهدى منه فيساوي ذلك في الدلالة على التمكن الوجه المتقدم الذي هو الإخبار عنه بأنه عين الهدى.
والمتقي من اتصف بالاتقاء وهو طلب الوقاية، والوقاية الصيانة والحفظ من المكروه فالمتقي هو الحذر المتطلب للنجاة من شيء مكروه مضر، والمراد هنا المتقين الله، أي الذين هم خائفون غضبه واستعدوا لطلب مرضاته واستجابة طلبه فإذا قرئ عليهم القرآن استمعوا له وتدبروا ما يدعو إليه فاهتدوا.
والتقوى الشرعية هي امتثال الأوامر واجتناب المنهيات من الكبائر وعدم الاسترسال على الصغائر ظاهرا وباطنا أي اتقاء ما جعل الله الاقتحام فيه موجبا غضبه وعقابه، فالكبائر كلها متوعد فاعلها بالعقاب دون اللمم.
والمراد من الهدى ومن المتقين في الآية معناهما اللغوي فالمراد أن القرآن من شأنه الإيصال إلى المطالب الخيرية وأن المستعدين للوصول به إليها هم المتقون أي هم الذين تجردوا عن المكابرة ونزهوا أنفسهم عن حضيض التقليد للمضلين وخشوا العاقبة وصانوا أنفسهم من خطر غضب الله هذا هو الظاهر، والمراد بالمتقين المؤمنون الذين آمنوا بالله وبمحمد وتلقوا القرآن بقوة وعزم على العمل به كما ستكشف عنهم الأوصاف الآتية في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} إلى قوله: {مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4]
وفي بيان كون القرآن هدى وكيفية صفة المتقي معان ثلاثة:
الأول: أن القرآن هدى في زمن الحال لأن الوصف بالمصدر عوض عن الوصف باسم الفاعل وزمن الحال هو الأصل في اسم الفاعل والمراد حال النطق. والمتقون هم المتقون في الحال أيضا لأن اسم الفاعل حقيقة في الحال كما قلنا، أي أن جميع من نزه نفسه وأعدها لقبول الكمال يهديه هذا الكتاب، أو يزيده هدى كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17]
الثاني: أنه هدى في الماضي أي حصل به هدى أي بما نزل من الكتاب، فيكون المراد من المتقين من كانت التقوى شعارهم أي أن الهدى ظهر أثره فيهم فاتقوا وعليه فيكون مدحا للكتاب بمشاهدة هديه وثناء على المؤمنين الذين اهتدوا به. وإطلاق المتقين على المتصفين بالتقوى فيما مضى، وإن كان غير الغالب في الوصف باسم الفاعل، إطلاق يعتمد على قرينة سياق الثناء على الكتاب.
الثالث: أنه هدى في المستقبل للذين سيتقون في المستقبل وتعين عليه هنا قرينة الوصف بالمصدر في {هُدىً} لأن المصدر لا يدل على زمان معين.
حصل من وصف الكتاب بالمصدر من وفرة المعاني ما لا يحصل، لو وصف باسم الفاعل فقيل هاد للمتقين، فهذا ثناء على القرآن وتنويه به وتخلص للثناء على المؤمنين الذين انتفعوا بهديه، فالقرآن لم يزل ولن يزال هدى للمتقين، فإن جميع أنواع هدايته نفعت المتقين في سائر مراتب التقوى، وفي سائر أزمانه وأزمانهم على حسب حرصهم ومبالغ علمهم واختلاف مطالبهم، فمن منتفع بهديه في الدين. ومن منتفع في السياسة وتدبير أمور الأمة. ومن منتفع به في الأخلاق والفضائل، ومن منتفع به في التشريع والتفقه في الدين. وكل أولئك من المتقين وانتفاعهم به على حسب مبالغ تقواهم. وقد جعل أئمة الأصول الاجتهاد في الفقه من التقوى، فاستدلوا على وجوب الاجتهاد بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: من الآية16] فإن قصر بأحد سعيه عن كمال الانتفاع به، فإنما ذلك لنقص فيه لا في الهداية، ولا يزال أهل العلم والصلاح يتسابقون في التحصيل على أوفر ما يستطيعون من الاهتداء بالقرآن.
وتلتئم الجمل الأربع كمال الالتئمام: فإن جملة {الم} تسجيل لإعجاز القرآن وإنحاء على عامة المشركين عجزهم عن معارضته وهو مؤلف من حروف كلامهم وكفى بهذا نداء على تعنتهم.
وجملة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} تنويه بشأنه وأنه بالغ حد الكمال في أحوال الكتب، فذلك
موجه إلى الخاصة من العقلاء أن يقول لهم هذا كتاب مؤلف من حروف كلامهم، وهو بالغ حد الكمال من بين الكتب، فكان ذلك مما يوفر دواعيكم على اتباعه والافتخار بأن منحتموه فإنكم تعدون أنفسكم أفضل الأمم، فكيف لا تسرعون إلى متابعة كتاب نزل فيكم هو أفضل الكتب فوزان هذا وزان قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} إلى قوله: {وَرَحْمَةً} ، وموجه إلى أهل الكتاب بإيقاظهم إلى أنه أفضل مما أوتوه.
وجملة {لا رَيْبَ} أن كان الوقف على قوله: {لا رَيْبَ} تعريض بكل المرتابين فيه من المشركين وأهل الكتاب أي أن الارتياب في هذا الكتاب نشأ عن المكابرة، وأن لا ريب فإنه الكتاب الكامل، وإن كان الوقف على قوله: {فِيهِ} كان تعريضا بأهل الكتاب في تعلقهم بمحرف كتابيهم مع ما فيهما من مثار الريب والشك من الاضطراب الواضح الدال على أنه من صنع الناس، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]
وقال في الكشاف ثم لم تخل كل واحدة من هذه الأربع بعد أن نظمت هذا التنظيم السري من نكتة ذات جزالة: ففي الأولى الحذف والرمز إلى الغرض بألطف وجه، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة، وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر- وهو الهدى- موضع الوصف وإيراده منكرا والإيجاز في ذكر المتقين ا ه. فالتقوى إذن بهذا المعنى هي أساس الخير، وهي بالمعنى الشرعي الذي هو غاية المعنى اللغوي جماع الخيرات. قال ابن العربي لم يتكرر لفظ في القرآن مثلما تكرر لفظ التقوى اهتماما بشأنها.
[3] {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3]
{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}
يتعين أن يكون كلاما متصلا بقوله: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2] على أنه صفة لإرداف صفتهم الإجمالية بتفصيل يعزف به المراد، ويكون مع ذلك مبدأ استطراد لتصنيف أصناف الناس بحسب اختلاف أحوالهم في تلقي الكتاب المنوه به إلى أربعة أصناف بعد أن كانوا قبل الهجرة صنفين، فقد كانوا قبل الهجرة صنفا مؤمنين وصنفا كافرين مصارحين، فزاد بعد الهجرة صنفان: هما المنافقون وأهل الكتاب، فالمشركون الصرحاء هم أعداء الإسلام
الأولون، والمنافقون ظهروا بالمدينة فاعتز بهم الأولون الذين تركهم المسلمون بدار الكفر، وأهل الكتاب كانوا في شغل عن التصدي لمناوأة الإسلام، فلما أصبح الإسلام في المدينة بجوارهم أوجسوا خيفة فالتفوا مع المنافقين وظاهروا المشركين. وقد أشير إلى أن المؤمنين المتقين فريقان: فريق هم المتقون الذين أسلموا ممن كانوا مشركين وكان القرآن هدى لهم بقرينة مقابلة هذا الموصول بالموصول الآخر المعطوف بقوله {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]
الخ فالمثني عليهم هنا هم الذين كانوا مشركين فسمعوا الدعوة المحمدية فتدبروا في النجاة واتقوا عاقبة الشرك فآمنوا، فالباعث الذي بعثهم على الإسلام هو التقوى دون الطمع أو التجربة، فوائل بن حجر مثلا لما جاء من اليمن راغبا في الإسلام هو من المتقين، ومسيلمة حين وفد مع بني حنيفة مضمر العداء طامعا في الملك هو من غير المتقين. وفريق آخر يجيء ذكره بقوله {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة:4] الآيات.
وقد أجريت هذه الصفات للثناء على الذين آمنوا بعد الإشراك بأن كان رائدهم إلى الإيمان هو التقوى والنظر في العاقبة، ولذلك وصفهم بقوله {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} أي بعد أن كانوا يكفرون بالبعث والمعاد كما حكى عنهم القرآن في آيات كثيرة، ولذلك اجتلبت في الإخبار عنهم بهذه الصلات الثلاث صيغة المضارع الدالة على التجدد إيذانا بتجدد إيمانهم بالغيب وتجدد إقامتهم الصلاة والإنفاق إذ لم يكونوا متصفين بذلك إلا بعد أن جاءهم هدى القرآن.
وجوز صاحب الكشاف كونه كلاما مستأنفا مبتدأ وكون {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} خبره. وعندي أنه تجويز لما لا يليق، إذ الاستئناف يقتضي الانتقال من غرض إلى آخر، وهو المسمى بالاقتضاب وإنما يحسن في البلاغة إذا أشيع الغرض الأول وأفيض فيه حتى أوعب أو حتى خيفت سآمة السامع، وذلك موقع أما بعد أو كلمة هذا ونحوهما، وإلا كان تقصيرا من الخطيب والمتكلم لا سيما وأسلوب الكتاب أوسع من أسلوب الخطابة لأن الإطالة في أغراضه أمكن.
والغيب مصدر بمعنى الغيبة {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} [يوسف: 52] {لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ} [المائدة: 94] وربما قالوا بظهر الغيب قال الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لام بظهر الغيب تأتيني
وفي الحديث: "دعوة المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجابة" . والمراد بالغيب ما لا
يدرك بالحواس مما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم صريحا بأنه واقع أو سيقع مثل وجود الله، وصفاته، ووجود الملائكة، والشياطين، وأشراط الساعة، وما أستأثر الله بعلمه. فإن فسر الغيب بالمصدر أي الغيبة كانت الباء للملابسة ظرفا مستقرا فالوصف تعريض بالمنافقين، وإن فسر الغيب بالاسم وهو ما غاب عن الحس من العوالم العلوية والأخروية، كانت الباء متعلقة بيؤمنون، فالمعنى حينئذ: الذين يؤمنون بما أخبر الرسول من غير عالم الشهادة كالإيمان بالملائكة والبعث والروح ونحو ذلك. وفي حديث الإيمان "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" . وهذه كلها من عوالم الغيب،
كان الوصف تعريضا بالمشركين الذين أنكروا البعث وقالوا: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [سبأ: 7] فجمع هذا الوصف بالصراحة ثناء على المؤمنين، وبالتعريض ذما للمشركين بعدم الاهتداء بالكتاب، وذما للمنافقين الذين يؤمنون بالظاهر وهم مبطنون الكفر، وسيعقب هذا التعريض بصريح وصفهم في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] الآيات، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8]. ويؤمنون معناه يصدقون، وآمن مزيد أمن وهمزته المزيدة دلت على التعدية، فأصل آمن تعدية أمن ضد خاف فآمن معناه جعل غيره آمنا ثم أطلقوا آمن على معنى صدق ووثق حكى أبو زيد عن العرب ما آمنت أن أجد صحابة يقوله المسافر إذا تأخر عن السفر، فصار آمن بمعنى صدق على تقدير أنه آمن مخبره من أن يكذبه، أو على تقدير أنه آمن نفسه من أن تخاف من كذب الخبر مبالغة في أمن كأقدم على الشيء بمعنى تقدم إليه وعمد إليه، ثم صار فعلا قاصرا إما على مراعاة حذف المفعول لكثرة الاستعمال بحيث نزل الفعل منزلة اللازم، وإما على مراعاة المبالغة المذكورة أي حصل له الأمن أي من الشك واضطراب النفس واطمأن لذلك لأن معنى الأمن والاطمئنان متقارب، ثم إنهم يضمنون آمن معنى أقر فيقولون آمن بكذا أي أقربه كما في هذه الاية، ويضمنونه معنى اطمأن فيقولون آمن له: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة: 75].
ومجيء صلة الموصول فعلا مضارعا لإفادة أن إيمانهم مستمر متجدد كما علمت آنفا، أي لا يطرأ على إيمانهم شك ولا ريبة.
وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان لأن الإيمان بالغيب أي ما غاب عن الحس هو الأصل في اعتقاد إمكان ما تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم
العلوي، فإذا آمن به المرء تصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله تعالى فسهل عليه إدراك الأدلة، وأما من يعتقد أن ليس وراء عالم الماديات عالم آخر وهو ما وراء الطبيعة فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة إلى الإيمان بوجود الله وعالم الآخرة كما كان حال الماديين وهم المسمون بالدهريين الذين قالوا: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] وقريب من اعتقادهم اعتقاد المشركين ولذلك عبدوا الأصنام المجسمة ومعظم العرب كانوا يثبتون من الغيب وجود الخالق وبعضهم يثبت الملائكة ولا يؤمنون بسوى ذلك. والكلام على حقيقة الإيمان ليس هذا موضعه ويجيء عند قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]
{وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ}
الإقامة مصدر أقام الذي هو معدى قام، عدى إليه بالهمزة الدالة على الجمل، والإقامة جعلها قائمة، مأخوذ من قامت السوق إذا نفقت وتداول الناس فيها البيع والشراء وقد دل على هذا التقدير تصريح بعض أهل اللسان بهذا المقدر. قال أيمن ابن خريم الانطري1:
أقامت غزالة سوق الضراب ... لأهل العراقين حولا قميطا
وأصل القيام في اللغة هو الانتصاب المضاد للجلوس والاضطجاع، وإنما يقوم القائم لقصد عمل صعب لا يتأتى من قعود، فيقوم الخطيب ويقوم العامل ويقوم الصانع ويقوم الماشي فكان للقيام لوازم عرفية مأخوذة من عوارضه اللازمة ولذلك أطلق مجازا على النشاط في قولهم قام بالأمر، ومن أشهر استعمال هذا المجاز قولهم قامت السوق وقامت الحرب، وقالوا في ضده ركدت ونامت، ويفيد في كل ما يتعلق به معنى مناسبا لنشاطه المجازي وهو من قبيل المجاز المرسل وشاع فيها حتى ساوى الحقيقة فصارت كالحقائق ولذلك صح بناء المجاز الثاني والاستعارة عليها، فإقامة الصلاة استعارة تبعية شبهت المواظبة على الصلوات والعناية بها بجعل الشيء قائما، وأحسب أن تعليق هذا
ـــــــ
1 أيمن بن خريم بالخاء المعجمة المضموعة والراء المفتوحة من قصيدة يحرض أهل العراق على قتال الخوارج, ويذكر غزالة بنت طريف زوجة شبيب الخارجي كانت تولت قيادة الخوارج بعد قتل زوجها وحاربت الحجاج عاما كاملا ثم قتلت وأول قصيدة:
أبى الجبناء من أهل العراق ... على الله والناس إلا سقوطا
الفعل بالصلاة من مصطلحات القرآن وقد جاء به القرآن في أوائل نزوله فقد ورد في سورة المزمل[20] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} وهي ثالثة السور نزولا. وذكر صاحب الكشاف وجوها أخر بعيدة عن مساق الآية.
وقد عبر هنا بالمضارع كما وقع في قوله {يُؤْمِنُونَ} ليصلح ذلك للذين أقاموا الصلاة فيما مضى وهم الذين آمنوا من قبل نزول الآية، والذين هم بصدد إقامة الصلاة وهم الذين يؤمنون عند نزول الآية، والذين سيهتدون إلى ذلك وهم الذين جاءوا من بعدهم إذ المضارع صالح لذلك كله لأن من فعل الصلاة في الماضي فهو يفعلها الآن وغدا، ومن لم يفعلها فهو إما يفعلها الآن أو غدا وجميع أقسام هذا النوع جعل القرآن هدى لهم. وقد حصل من إفادة المضارع التجدد تأكيد ما دل عليه مادة الإقامة من المواظبة والتكرر ليكون الثناء عليهم بالمواظبة على الصلاة أصرح.
والصلاة اسم جامد بوزن فعله محرك العين "صلوة" ورد هذا اللفظ في كلام العرب بمعنى الدعاء كقول الأعشى:
تقول بنتي وقد يممت مرتحلا ... يارب جنب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صليت فاغتمضي ... جفنا فإن لجنب المرء مضطجعا
وورد بمعنى العبادة في قول الأعشى:
يراوح من صلوات المليك ... طورا سجودا وطورا جؤارا1
فأما الصلاة المقصودة في الآية فهي العبادة المخصوصة المشتملة على قيام وقراءة وركوع وسجود وتسليم. قال ابن فارس كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغاتهم فلما جاء الله تعالى بالإسلام حالت أحوال ونقلت ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات، ومما جاء في الشرع الصلاة وقد كانوا عرفوا الركوع والسجود وإن لم يكن على هاته الهيأة قال النابغة:
أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد2
ـــــــ
1 عائد إلى أيبلي في قوله قبله:
وما أيبلي على هيكل ... بناه وصلب فيه وصارا
والأيبلي الراهب
2 يهل: أي يرفع صوته فرحا بما أتيح له ويسجد شكرا لله تعالى.
وهذا وإن كان كذا فإن العرب لم تعرفه بمثل ما أتت به الشريعة من الأعداد والمواقيت اه.
قلت لا شك أن العرب عرفوا الصلاة والسجود والركوع وقد أخبر الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام فقال {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [ابراهيم: 37] وقد كان بين ظهرانيهم اليهود يصلون أي يأتون عبادتهم بهيأة مخصوصة، وسموا كنيستهم صلاة، وكان بينهم النصارى وهم يصلون وقد قال النابغة في ذكر دفن النعمان بن الحارث الغساني:
فآب مصلوه بعين جلية ... وغودر بالجولان حزم ونايل1
على رواية مصلوه بصاد مهملة أراد المصلين عليه عند دفنه من القسس والرهبان، إذ قد كان منتصرا ومنه البيت السابق. وعرفوا السجود. قال النابغة:
أو درة صدفية غواصها ... بهج متى يرها يهل ويسجد
وقد تردد أئمة اللغة في اشتقاق الصلاة، فقال قوم مشتقة من الصلا وهو عرق غليظ في وسط الظهر ويفترق عند عجب الذنب فيكتنفه فيقال حينئذ هما صلوان، ولاما كان المصلي إذا انحنى للركوع ونحوه تحرك ذلك العرق اشتقت الصلاة منه كما يقولون أنف من كذا إذا شمخ بأنفه لأنه يرفعه إذا اشمأز وتعاظم فهو من الاشتقاق من الجامد كقولهم استنوق الجمل وقولهم تنمر فلان، وقولها: "زوجي إذا دخل فهد وإذا خرج أسد"2 والذي دل على هذا الاشتقاق هنا عدم صلوحية غيره فلا يعد القول به ضعيفا لأجل قلة الاشتقاق من الجوامد كما توهمه السيد.
وإنما أطلقت على الدعاء لأنه يلازم الخشوع والانخفاض والتذلل، ثم اشتقوا من الصلاة التي هي اسم جامد صلى إذا فعل الصلاة واشتقوا صلى من الصلاة كما اشتقوا صلى الفرس إذا جاء معاقبا للمجلي في خيل الحلبة، لأنه يجيء مزاحما له في السبق،
ـــــــ
1 روى مصلوه بالصاد فقال في "شرح ديوانه" إن معناه رجع الرهبان الذين صلوا عليه صلاة الجنازة وروى بالضاد المعجمة ومعناه دافنوه أي رجع الذين أضلوه أي غيبوه في الأرض قال تعالى {وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10]
2 في حديث أم زرع.
واضعا رأسه على صلا سابقه واشتقوا منه المصلى اسما للفرس الثاني في خيل الحلبة، وهذا الرأي في اشتقاقها مقتضب من كلامهم وهو الذي يجب اعتماده إذ لم يصلح لأصل اشتقاقها غير ذلك. وما أورده الفخر في التفسير أن دعوى اشتقاقها من الصلوين يفضي إلى طعن عظيم في كون القرآن حجة لأن لفظ الصلاة من أشد الألفاظ شهرة، واشتقاقه من تحريك الصلوين من أبعد الأشياء اشتهارا فيما بين أهل النقل، فإذا جوزنا أنه خفي واندرس حتى لا يعرفه إلا الآحاد لجاز مثله في سائر الألفاظ فلا نقطع بان مراد الله تعالى من هذه الألفاظ ما يتبادر منها إلى أفهامنا في زماننا هذا لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعان أخر خفيت علينا اه يرده أنه لا مانع من أن يكون لفظ مشهور منقولا من معنى خفي لأن العبرة في الشيوع بالاستعمال وأما الاشتقاق فبحث علمي ولهذا قال البيضاوي واشتهار هذا اللفظ في المعنى الثاني مع عدم اشتهاره في الأول لا يقدح في نقله منه.
ومما يؤيد أنها مشتقة من هذا كتابتها بالواو في المصاحف إذ لولا قصد الإشارة إلى ما اشتقت منه ما كان وجه لكتابتها بالواو وهم كتبوا الزكاة والربا والحياة بالواو إشارة إلى الأصل. وأما قول الكشاف وكتابتها بالواو على لفظ المفخم أي لغة تفخيم اللام يرده أن ذلك لم يصنع في غيرها من اللامات المفخمة.
ومصدر صلى قياسه التصلية وهو قليل الورود في كلامهم. وزعم الجوهري أنه لا يقال صلى تصلية وتبعه الفيروزابادي، والحق أنه ورد بقلة في نقل ثعلب في أماليه.
وقد نقلت الصلاة في لسان الشرع إلى الخضوع بهيأة مخصوصة ودعاء مخصوص وقراءة وعدد. والقول بأن أصلها في اللغة الهيئة في الدعاء والخضوع هو أقرب إلى المعنى الشرعي وأوفق بقول القاضي أبي بكر ومن تابعه بنفي الحقيقة الشرعية، وأن الشرع لم يستعمل لفظا إلا في حقيقته اللغوية بضميمة شروط لا يقبل إلا بها. وقالت المعتزلة الحقائق الشرعية موضوعة بوضع جديد وليست حقائق لغوية ولا مجازات. وقال صاحب الكشاف: الحقائق الشرعية مجازات لغوية اشتهرت في معان. والحق أن هاته الأقوال ترجع إلى أقسام موجودة في الحقائق الشرعية.
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}
صلة ثالثة في وصف المتقين مما يحقق معنى التقوى وصدق الإيمان من بذل عزيز على النفس في مرضاة الله؛ لأن الإيمان لما كان مقره القلب ومترجمه اللسان كان محتاجا
إلى دلائل صدق صاحبه وهي عظائم الأعمال، من ذلك التزام آثاره في الغيبة الدالة عليه {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} ومن ذلك ملازمة فعل الصلوات لأنها دليل على تذكر المؤمن من آمن به. ومن ذلك السخاء ببذل المال للفقراء امتثالا لأمر الله بذلك.
والرزق ما يناله الإنسان من موجودات هذا العالم التي يسد بها ضروراته وحاجاته وينال بها ملائمة، فيطلق على كل ما يحصل به سد الحاجة في الحياة من الأطعمة والأنعام والحيوان والشجر المثمر والثياب وما يقتنى به ذلك من النقدين، قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8]. أي مما تركه الميت وقال: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الرعد: 26] وقال في قصة قارون: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ} إلى قوله {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ} [القصص: 82] مرادا بالرزق كنوز قارون وقال: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27] وأشهر استعماله بحسب ما رأيت من كلام العرب وموارد القرآن أنه ما يحصل من ذلك للإنسان، وأما إطلاقه على ما يتناوله الحيوان من المرعى والماء فهو على المجاز، كما في قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وقوله {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 37] وقوله: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} [يوسف: 37]
والرزق شرعا عند أهل السنة كالرزق لغة إذ الأصل عدم النقل إلا لدليل، فيصدق اسم الرزق على الحلال والحرام لأن صفة الحل والحرمة غير ملتفت إليها هنا فبيان الحلال من الحرام له مواقع أخرى ولا يقبل الله إلا طيبا وذلك يختلف باختلاف أحوال التشريع مثل الخمر والتجارة فيها قبل تحريمها، بل المقصود أنهم ينفقون مما في أيديهم. وخالفت المعتزلة في ذلك في جملة فروع مسألة خلق المفاسد والشرور وتقديرهما، ومسألة الرزق من المسائل التي جرت فيها المناظرة بين الأشاعرة والمعتزلة كمسألة الآجال، ومسألة السعر، وتمسك المعتزلة في مسألة الرزق بأدلة لا تنتج المطلوب.
والإنفاق إعطاء الرزق فيما يعود بالمنفعة على النفس والأهل والعيال ومن يرغب في صلته أو التقرب لله بالنفع له من طعام أو لباس. وأريد به هنا بثه في نفع الفقراء وأهل الحاجة وتسديد نوائب المسلمين بقرينة المدح واقترانه بالإيمان والصلاة فلا شك أنه هنا خصلة من خصال الإيمان الكامل، وما هي إلا الإنفاق في سبيل الخير والمصالح العامة إذ لا يمدح أحد بإنفاقه على نفسه وعياله إذ ذلك مما تدعو إليه الجبلة فلا يعتني الدين
بالتحريض عليه؛ فمن الإنفاق ما هو واجب وهو حق على صاحب الرزق، للقرابة وللمحاويج من الأمة ونوائب الأمة كتجهيز الجيوش والزكاة، وبعضه محدد وبعضه تفرضه المصلحة الشرعية الضرورية أو الحاجة وذلك مفصل في تضاعيف الأحكام الشرعية في كتب الفقه، ومن الإنفاق تطوع وهو ما فيه نفع من دعا الدين إلى نفعه.
وفي إسناده فعل "رزقنا" إلى ضمير الله تعالى وجعل مفعوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} تنبيه على أن ما يصير الرزق بسببه رزقا لصاحبه هو حق خاص له خوله الله إياه بحكم الشريعة على حسب الأسباب والوسائل التي يتقرر بها ملك الناس للأموال والأرزاق، وهو الوسائل المعتبرة في الشريعة التي اقتضت استحقاق أصحابها واستئثارهم بها بسبب الجهد مما عمله المرء بقوة بدنه التي لا مرية في أنها حقه مثل انتزاع الماء واحتطاب الحطب والصيد وجني الثمار والتقاط ما لا ملك لأحد عليه ولا هو كائن في ملك أحد، ومثل خدمته بقوته من حمل ثقل ومشى لقضاء شؤون من يؤجره وانحباس للحراسة، أو كان مما يصنع أشياء من مواد يملكها وله حق الانتفاع بها كالخبز والنسج والتجر وتطريق الحديد وتركيب الأطعمة وتصوير الآنية من طين الفخار، أو كان مما أنتجه مثل الغرس والزرع والتوليد، أو مما ابتكره بعقله مثل التعليم والاختراع والتأليف والطب والمحاماة والقضاء ونحو ذلك من الوظائف والأعمال التي لنفع العامة أو الخاصة، أو مما أعطاه إياه مالك رزق من هبات وهدايا ووصايا، أو أذن بالتصرف كإحياء الموات، أو كان مما ناله بالتعارض كالبيوع والإجارات والأكرية والشركات والمغارسة، أو مما صار إليه من مال انعدم صاحبه بكونه أحق الناس به كالإرث. وتملك اللقطة بعد التعريف المشروط، وحق الخمس في الركاز. فهذه وأمثالها مما شمله قول الله تعالى: {مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} .
وليس لأحد ولا لمجموع الناس حق فيما جعله الله رزق الواحد منهم لأنه لا حق لأحد في مال لم يسع لاكتسابه بوسائله وقد جاءت هند بنت عقبة زوج أبي سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبا سفيان رجل مسيك فهل أنفق من الذي له عيالنا فقال لها لا إلا بالمعروف أي إلا ما هو معروف أنه تتصرف فيه الزوجة مما في بيتها مما وضعه الزوج في بيته لذلك دون مسارقة ولا خلسة.
وتقديم المجرور المعمول على عامله وهو: {يُنْفِقُونَ} لمجرد الاهتمام بالرزق في عرف الناس فيكون في التقديم إيذان بأنهم ينفقون مع ما للرزق من المعزة على النفس كقوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الانسان: 8]، مع رعي فواصل الآيات على
حرف النون، وفي الإتيان بمن التي هي للتبعيض إيماء إلى كون الإنفاق المطلوب شرعا هو إنفاق بعض المال لأن الشريعة لم تكلف الناس حرجا، وهذا البعض يقل ويتوفر بحسب أحوال المنفقين. فالواجب منه ما قدرت الشريعة نصبه ومقاديره من الزكاة وإنفاق الأزواج والأبناء والعبيد، وما زاد على الواجب لا ينضبط تحديده وما زاد فهو خير، ولم يشرع الإسلام وجوب تسليم المسلم ما ارتزقه واكتسبه إلى يد غيره. وإنما اختير ذكر هذه الصفات لهم دون غيرها لأنها أول ما شرع من الإسلام فكانت شعار المسلمين وهي الإيمان الكامل وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإنهما أقدم المشروعات وهما أختان في كثير من آيات القرآن، ولأن هذه الصفات هي دلائل إخلاص الإيمان لأن الإيمان في حال الغيبة عن المؤمنين وحال خويصة النفس أدل على اليقين والإخلاص حين ينتفي الخوف والطمع إن كان المراد ما غاب، أو لأن الإيمان بما لا يصل إليه الحس أدل دليل على قوة اليقين حتى أنه يتلقى من الشارع ما لا قبل للرأي فيه وشأن النفوس أن تنبو عن الإيمان به لأنها تميل إلى المحسوس فالإيمان به على علاته دليل قوة اليمين بالمخبر وهو الرسول إن كان المراد من الغيب ما قابل الشهادة، ولأن الصلاة كلفة بدنية في أوقات لا يتذكرها مقيمها أي محسن أدائها إلا الذي امتلأ قلبه بذكر الله تعالى على ما فيها من الخضوع وإظهار العبودية، ولأن الزكاة أداء المال وقد علم شح النفوس قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} [المعارج:21] ولأن المؤمنين بعد الشرك كانوا محرومين منها في حال الشرك بخلاف أهل الكتاب فكان لذكرها تذكير بنعمة الإسلام.
[4] {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4]
عطف على {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: من الآية3] طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} وهما معا قسمان للمتقين، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين، ذكر فريقا آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بمحمد، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام، وبعض النصارى مثل صهيب الرومي ودحية الكلبي، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة
الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وصف به المسلمون الأولون، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص، ولما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء، وكيف وفيهم من خيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاء واهتداء إذ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني، دفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأول هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة. ويكون الموصولان للعهد، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضا ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبي، وفي التعبير بالمضارع من قوله: {يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} من إفادة التجدد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدث جديدا، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء، فأبو بكر وعمر أفضل من دحية وعبد الله بن سلام.
والإنزال جعل الشيء نازلا، والنزول الانتقال من علو إلى سفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عمل بالنزول لاعتبار شرف ورفعة معنوية كما في قوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} [لأعراف: 26] وقوله: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] لأن خلق الله وعطاءه يجعل كوصول الشيء من جهة عليا لشرفه، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعا لنزول الملك مبلغه الذي يتصل بهذا العالم نازلا من العالم العلوي قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ} [البقرة: 194,195] فإن الملك ملابس للكلام المأمور بتبليغه، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تلقى إلى النبي بشيء وصل من مكان عال، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لا سيما إذا كان الوحي كلاما سمعه الرسول كالقرآن وكما أنزل إلى موسى وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بعض أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله " وأحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس فيفصم عني وقد وعيت ما قال" وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمى إنزالا،
والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا توقع إيمانهم بما سينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أنزل يستمر إيمانه بكل ما ينزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر، فإذا زالا بالإيمان أمنوا من الارتداد وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولا للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى: {بِمَا أُنْزِلَ} والمراد ما أنزل وما سينزل كما في الكشاف.
وعدى الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمنزل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يعدى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [آل عمران: 3] وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} [البقرة: 57] واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام.
ثم إن فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجيء في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه ملاك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دهريون، وأما ما يحكى عنهم من
أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حي يركبها فلا يحشر راجلا ويسمونها البلية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل.
والآخرة في اصطلاح القرآن هي الحياة الآخرة فإن الآخرة صفة تأنيث الآخر بالمد وكسر الخاء وهو الحاصل المتأخر عن شيء قبله في فعل أو حال، وتأنيث وصف الآخرة منظور فيه إلى أن المراد إجراؤه على موصوف مؤنث اللفظ حذف لكثرة استعماله وصيرورته معلوما وهو يقدر بالحياة الآخرة مراعاة لضده وهو الحياة الدنيا أي القريبة بمعنى الحاضرة، ولذلك يقال لها العاجلة ثم صارت الآخرة علما بالغلبة على الحياة الحاصلة بعد الموت وهي الحاصلة بعد البعث لإجراء الجزاء على الأعمال. فمعنى {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} أنهم يؤمنون بالبعث والحياة بعد الموت.
واليقين هو العلم بالشيء عن نظر واستدلال أو بعد شك سابق ولا يكون شك إلا في أمر ذي نظر فيكون أخص من الإيمان ومن العلم. واحتج الراغب لذلك بقوله تعالى {لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر:6] ولذلك لا يطلقون الإيقان على علم الله ولا على العلوم الضرورية وقيل هو العلم الذي لا يقبل الاحتمال وقد يطلق على الظن القوى إطلاقا عرفيا حيث لا يخطر بالبال أنه ظن ويشتبه بالعلم الجازم فيكون مرادفا للإيمان والعلم.
فالتعبير عن إيمانهم بالآخرة بمادة الإيقان لأن هاته المادة، تشعر بأنه علم حاصل عن تأمل وغوص الفكر في طريق الاستدلال لأن الآخرة لما كانت حياة غائبة عن المشاهدة غريبة بحسب المتعارف وقد كثرت الشبه التي جرت المشركين والدهريين على نفيها وإحالتها، كان الإيمان بها جديرا بمادة الإيقان بناء على أنه أخص من الإيمان، فلإيثار {يُوقِنُونَ} هنا خصوصية مناسبة لبلاغة القرآن، والذين جعلوا الإيقان والإيمان مترادفين جعلوا ذكر الإيقان هنا لمجرد التفنن تجنبا لإعادة لفظ يؤمنون بعد قوله {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وفي قوله تعالى {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} تقديم للمجرور الذي هو معمول {يُوقِنُونَ} على عامله، وهو تقديم لمجرد الاهتمام مع رعاية الفاصلة، وأرى أن في هذا التقديم ثناء على هؤلاء بأنهم أيقنوا بأهم ما يوقن به المؤمن فليس التقديم بمفيد حصرا إذ لا يستقيم معنى الحصر هنا بأن يكون المعنى أنهم يوقنون بالآخرة دون غيرها، وقد تكلف
صاحب الكشاف وشارحوه لإفادة الحصر من هذا التقديم ويخرج الحصر عن تعلقه بذات المحصور فيه إلى تعلقه بأحواله وهذا غير معهود في الحصر.
وقوله: {هُمْ يُوقِنُونَ} جيء بالمسند إليه مقدما على المسند الفعلي لإفادة تقوية الخبر إذ هو إيقان ثابت عندهم من قبل مجيء الإسلام على الإجمال، وإن كانت التوراة خالية عن تفصيله والإنجيل أشار إلى حياة الروح، وتعرض كتابا حزقيال وأشعياء لذكره. وفي كلا التقديمين تعريض بالمشركين الدهريين ونداء على انحطاط عقيدتهم، وأما المتبعون للحنيفية في ظنهم مثل أمية بن أبي الصلت وزيد بن عمرو بن نفيل فلم يلتفت إليهم لقلة عددهم أو لأنهم ملحقون بأهل الكتاب لأخذهم عنهم كثيرا من شرائعهم بعلة أنها من شريعة إبراهيم عليه السلام.
[5] {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
{أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ}
اسم الإشارة متوجه إلى {الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] الذين أجري عليهم من الصفات ما تقدم، فكانوا فريقين. وأصل الإشارة أن تعود إلى ذات مشاهدة معينة إلا أن العرب قد يخرجون بها عن الأصل فتعود إلى ذات مستحضرة من الكلام بعد أن يذكر من صفاتها وأحوالها ما ينزلها منزلة الحاضر في ذهن المتكلم والسامع، فإن السامع إذا وعى تلك الصفات وكانت مهمة أو غريبة في خير أو ضده صار الموصوف بها كالمشاهد، فالمتكلم يبني على ذلك فيشير إليه كالحاضر المشاهد، فيؤتي بتلك الإشارة إلى أنه لا أوضح في تشخصه، ولا أغنى في مشاهدته من تعرف تلك الصفات، فتكفي الإشارة إليها، هذا أصل الاستعمال في إيراد الإشارة بعد ذكر صفات مع عدم حضور المشار إليه. ثم إنهم قد يتبعون اسم الإشارة الوارد بعد تلك الأوصاف بأحكام فيدل ذلك على أن منشأ تلك الأحكام هو تلك الصفات المتقدمة على اسم الإشارة، لأنها لما كانت هي طريق الاستحضار كانت الإشارة لأهل تلك الصفات قائمة مقام الذوات المشار إليها. فكما أن الأحكام الواردة بعد أسماء الذوات تفيد أنها ثابتة للمسميات فكذلك الأحكام الواردة بعد ما هو للصفات تفيد أنها ثبتت للصفات، فكقوله {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} بمنزلة أن يقول: إن تلك الأوصاف هي سبب تمكنهم من هدي ربهم إياهم. ونظيره قول حاتم الطائي:
ولله صعلوك يساور همه ... ويمضي على الأحداث والدهر مقدما
فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ... ولا شبعة إن نالها عد مغنما
إلى أن قال:
فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ... وإن عاش لم يقعد ضعيفا مذمما1
فقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لأن السامع إذا سمع ما تقدم من صفات الثناء عليهم ترقب فائدة تلك الأوصاف، واسم الإشارة هنا حل محل ذكر ضميرهم والإشارة أحسن منه وقعا لأنها تتضمن جميع أوصافهم المتقدمة فقد حققه التفتزاني في باب الفصل والوصل من الشرح المطول أن الاستئناف بذكر اسم الإشارة أبلغ من الاستئناف الذي يكون بإعادة اسم المستأنف عنه. وهذا التقدير أظهر معنى وأنسب بلاغة وأسعد باستعمال اسم الإشارة في مثل هاته المواقع، لأنه أظهر في كون الإشارة لقصد التنويه بتلك الصفات المشار إليها وبما يرد بعد اسم الإشارة من الحكم الناشئ عنها، وهذا لا يحصل إلا بجعل اسم الإشارة مبتدأ أول صدر جملة استئناف. فقوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} رجوع إلى الإخبار عنهم بأن القرآن هدى لهم والإتيان بحرف الاستعلاء تمثيل لحالهم بأن شبهت هيئة تمكنهم من الهدى وثباتهم عليه ومحاولتهم الزيادة به والسير في طريق الخيرات بهيأة الراكب في الاعتلاء على المركوب والتمكن من تصريفه والقدرة على إراضته فشبهت حالتهم المنتزعة من متعدد بتلك الحالة المنتزعة من متعدد تشبيها ضمنيا دل عليه حرف الاستعلاء لأن الاستعلاء أقوى أنواع تمكن شيء من شيء، ووجه جعلنا إياها مؤذنة بتقدير مركوب دون كرسي أو مسطبة مثلا، لأن ذلك هو الذي تسبق إليه أفهامهم عند سماع ما يدل على الاستعلاء، إذ الركوب هو أكثر أنواع استعلائهم فهو الحاضر في أذهانهم، ولذلك تراهم حين يصرحون بالمشبه به أو يرمزون إليه ما يذكرون إلا المركوب وعلائقه، فيقولون جعل الغواية مركبا وامتطى الجهل وفي المقامة لما اقتعدت غارب الاغتراب وقالوا في الأمثال ركب متن عمياء. تخبط خبط عشواء. وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل الغنوي:
ـــــــ
1 الصعلوك – بضم الصاد – أصله الفقير, ويطلق على المتلصص لأن الفقر يدعوه للتلصص عندهم لأنهم ماكانوا يرضون باكتساب ينافي الشجاعة ويكسب المذلة كالسرقة والسؤال. فحاتم يمدح الصعلوك الذي لا يقتصر على التلصص بل يكون بشجاعته عدة لقومه عند الحاجة.
فإن يك عامر قد قال جهلا ... فإن مطية الجهل الشباب
فتكون كلمة "على" هنا بعض المركب الدال على الهيأة المشبه بها على وجه الإيجاز وأصله أولئك على مطية الهدى فهي تمثيلية تصريحية إلا أن المصرح به بعض المركب الدال لا جميعه. هكذا قرر كلام الكشاف فيها شارحوه والطيبي، والتحتاني والتفتزاني والبيضاوي. وذهب القزويني في الكشف والسيد الجرجاني إلى أن الاستعارة في الآية تبعية مقيدة بأن شبه التمسك بالهدى عند المتقين بالتمكن من الدابة للراكب، وسرى التشبيه إلى معنى الحرف وهو على، وجوز السيد وجها ثالثا وهو أن يكون هنا استعارة مكنية مفردة بأن شبه الهدى بمركوب وحرف الاستعلاء قرينة على ذلك على طريقة السكاكي في رد التبعية للمكنية. ثم زاد الطيبي والتفتزاني فجعلا في الآية استعارة تبعية مع التمثيلية قائلين إن مجيء كلمة على يعين أن يكون معناها مستعارا لما يماثله وهو التمكن فتكون هنالك تبعية لا محالة.
وقد انتصر سعد الدين التفتزاني لوجه التمثيلية وانتصر السيد الجرجاني لوجه التبعية. واشتد السيد في إنكار كونها تمثيلية ورآه جمعا بين متنافيين لأن انتزاع كل من طرفي التشبيه من أمور متعددة يستلزم تركبه من معان متعددة، كيف ومتعلق معنى الحرف من المعاني المفردة كالاستعلاء هنا؛ فإذا اعتبر التشبيه هنا مركبا استلزم أن لا يكون معنى على ومتعلق معناها مشبها به ولا مستعارا منه لا تبعا ولا أصالة، وأطال في ذلك في حاشيته للكشاف وحاشيته على المطول كما أطال السعد في حاشية الكشاف وفي المطول، وتراشقا سهام المناظرة الحادة. ونحن ندخل في الحكومة بين هذين العلمين بأنه لا نزاع بين الجميع أن في الآية تشبيه أشياء بأشياء على الجملة حاصلة من ثبوت الهدى للمتقين ومن ثبوت الاستعلاء على المركوب غير أن اختلاف الفريقين هو في تعيين الطريقة الحاصل بها هذا التشبيه فالأكثرون يجعلونها طريقة التمثيلية بأن يكون تشبيه تلك الأشياء حاصلا بالانتزاع والتركيب لهيئة، والسيد يجعلها طريقة التبعية بأن يكون المشبه والمشبه به هما فردان من تلك الأشياء ويحصل العلم ببقية تلك الأشياء بواسطة تقييد المفردين المشبه والمشبه به، ويجوز طريقة التمثيل وطريقة المكنية. فينصرف النظر هنا إلى أي الطريقتين أرجح اعتبارا وأوفى في البلاغة مقدارا.
وإلى أن الجمع بين طريقتي التمثيلية والتبعية هل يعد متناقضا في اعتبار القواعد البيانية كما زعمه السيد. تقرر في علم البيان أن أهله أشد حرصا على اعتبار تشبيه الهيئة
فلا يعدلون عنه إلى المفرد مهما استقام اعتباره ولهذا قال الشيخ في دلائل الإعجاز عند ذكر بيت بشار:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
قصد تشبيه النقع والسيوف فيه بالليل المتهاوية كواكبه، لا تشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب، ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا في حكم الصلة للمصدر أي مثار لئلا يقع في تشبيهه تفرق، فإن نصب الأسياف على أن الواو بمعنى مع لا على العطف. إذا تقرر هذا تبين لديك أن للتشبيه التمثيلي الحظ الأوفى عند أهل البلاغة ووجهه أن من أهم أغراض البلغاء وأولها باب التشبيه وهو أقدم فنونها، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع التشبيه لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني.
ونحن نجد اعتبار التمثيلية في الآية أرجح لأنها أوضح وأبلغ وأشهر وأسعد بكلام الكشاف، أما كونها أوضح فلأن تشبيه التمثيل منزع واضح لا كلفة فيه فيفيد تشبيه مجموع هيئة المتقين في اتصافهم بالهدى بهيئة الراكب إلخ بخلاف طريقة التبعية فإنها لا تفيد إلا تشبيه التمكن بالاستعلاء ثم يستفاد ما عدا ذلك بالتقييد. وأما كونها أبلغ فلأن المقام لما سمح بكلا الاعتبارين باتفاق الفريقين لا جرم كان أولاهما بالاعتبار ما فيه خصوصيات أقوى وأعز. وأما كونها أشهر فلأن التمثيلية متفق عليها بخلاف التبعية. وأما كونه أسعد بكلام الكشاف فلأن ظاهر قوله مثل أنه أراد التمثيل، لأن كلام مثله من أهل هذه الصناعة لا تخرج فيه اللفظة الاصطلاحية عن متعارف أهلها إلى أصل المعنى اللغوي.
فإذا صح أن التمثيلية أرجح فلننقل الكلام إلى تصحيح الجمع بينها وبين التبعية وهو المجال الثاني للخلاف بين العلامتين فالسعد والطيبي يجوزان اعتبار التبعية مع التمثيلية في الآية والسيد يمنع ذلك كما علمتم ويقول إذا كان التشبيه منتزعا من متعدد فقد انتزع كل جزء في المشبه من جزئي المشبه به وهو معنى التركيب فكيف يعتبر بعض المشبه به مستعارا لبعض المشبه فينتقض التركيب. وهذا الدليل ناظر إلى قول أئمة البلاغة إن أصل مفردات المركب التمثيلي أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية وإنما المجاز في جملة المركب أي في إطلاقه على الهيئة المشبهة، فكلام السيد وقوف عندها. ولكن التفتزاني لم ير مانعا من اعتبار المجاز في بعض مفردات المركب التمثيلي إذا لم يكن فيه تكلف، ولعله يرى ذلك زيادة في خصوصيات إعجاز هذه الآية، ومن شأن البليغ أن لا يفيت ما
يقتضيه الحال من الخصوصيات، وبهذا تفاوتت البلغاء كما تقرر في مبحث تعريف البلاغة وحد الإعجاز هو الطرف الأعلى للبلاغة الجامع لأقصى الخصوصيات كما بيناه في موضعه وهو المختار فلما وجد في الهيئة المشبهة والهيئة المشبه بها شيئان يصلحان لأن يشبه أحدهما بالآخر تشبيها مستقلا غير داخل في تشبيه الهيئة كان حق هذا المقام تشبيه التمكن بالاستعلاء وهو تشبيه بديع وأشير إليه بكلمة على وأما غير هذين من أجزاء الهيأتين فلما لم يحسن تشبيه شيء منها بآخر ألغي التشبيه المفرد فيها إذ لا يحسن تشبيه المتقي بخصوص الراكب ولا الهدى بالمركوب فتكون "على" على هذا الوجه بعضا من المجاز المركب دليلا عليه باعتبار ومجازا مفردا باعتبار آخر.
والذي أختاره في هذه الآية أن يكون قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً} استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال راكبين مطية الهدى وأبقى ما يدل على المشبه وهو {أُولَئِكَ} والهدى، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه وهو لفظ {عَلَى} الدال على الركوب عرفا كما علمتم، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية الأقسام الثلاثة: الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة نحو أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ومنه مكنية كما في الآية على رأينا، ومنه تبعية كما في قول الحماسي:
وفارس في غمار الموت منغمس ... إذا تألى على مكروهة صدقا
فإن منغمس تمثيل لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة.
وإنما نكر هدى ولم يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عرف لكان التعريف تعريف الجنس فرجح التنكير تمهيدا لوصفه بأنه من عند ربهم، فهو مغاير للهدى السابق في قوله {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} مغايرة بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلا إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد التعظيم. فقوله {مِنْ رَبِّهِمْ} تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه.
وإنما وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه
بالقرينة.
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
مرجع الإشارة الثانية عين مرجع الأولى، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين جديرة بالاعتناء والتنويه، فلا تذكر إحداهما تبعا للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهارا بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين.
ووجه العطف بالواو دون الفصل أن بين الجملتين توسطا بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين. وإن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى، وكون كل منهما مقصودا بالوصف كانتا متصلتين، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلا إياهما منزلة المتوسطتين، كذا قرر شراح الكشاف ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني، وتعليله عندي أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر الجمل بعضها بعد بعض.
وقوله {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الضمير للفصل، والتعريف في المفلحون للجنس وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون، وتعريف المسند بلام الجنس إذا حمل على مسند إليه معرف أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد تأكيد النسبة، أي تأكيدا للاختصاص. فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالبا لكنه هنا مجرد عن إفادة الاختصاص الحقيقي، ومفيد شيئا من الاهتمام بالخبر، فلذلك جلب له التعريف دون التنكير وهذا مثله عبد القاهر بقولهم: هو البطل الحامي، أي إذا سمعت بالبطل الحامي وأحطت به خبرا فهو فلان. وإليه أشار في الكشاف هنا بقوله أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم والسكاكي لم يتابع الشيخين على هذا فعدل عنه في المفتاح ولله دره.
والفلاح: الفوز وصلاح الحال، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة. والفعل منه، أفلح أي صار ذا فلاح، وإنما اشتق منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثا قائما
بالذات بل هو جنس تحف أفراده بمن قدرت له: قال في الكشاف: انظر كيف كرر الله عز وجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين {أُولَئِكَ} ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا.
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:6]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ}
هذا انتقال من الثناء على الكتاب ومتقلديه ووصف هديه وأثر ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لما كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء، ولما كان الشيء قد يقدر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نبوا بها عن ذلك، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم، وقد قرنت الآيات فريقين فريقا أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ: {الَّذِينَ كَفَرُوا} وفريقا أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: من الآية8]. وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة. وتصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون رد الإنكار أو الشك؛ لأن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وللأمة وهو خطاب أنف بحيث لم يسبق شك في وقوعه، ومجيء "إن" للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير. وقد تكون "إن" هنا لرد الشك تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر؛ لأن حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار، أو لأن السامعين لما أجري على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك. وقد نقل عن المبرد أن "إن" لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك.
وقد تبين أن "الذين كفروا" المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول: إما أن يكون لتعريف العهد مرادا منه قوم معهودون كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رؤوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركا في أيام نزول هذه الآية ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مسلمة الفتح، وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله: {لا يُؤْمِنُونَ} فيكون عاما مخصوصا بالحس لمشاهدة من آمن منهم أو يكون عاما مرادا به الخصوص بالقرينة وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعين أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر.
ومن المفسرين من تأول قوله تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا} على معنى الذين قضي عليهم بالكفر والشقاء ونظره بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:96] وهو تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره. ومن المفسرين من حمل {الَّذِينَ كَفَرُوا} على رؤساء اليهود مثل حيى بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين وهذا بعيد من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدى القرآن في مقابلة من حصل لهم الاهتداء به، وأيا ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقا خاصا من الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وروى ذلك عن ابن عباس والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه.
والكفر بالضم إخفاء النعمة، وبالفتح: الستر مطلقا وهو مشتق من كفر إذا ستر. ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضربا من كفران نعمته على جاحدها، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى وهو في الشرع إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده ولذلك عد أهل الشرك فيما بين الفترة كفارا. وإنكار ما علم بالضرورة مجيء النبي محمد صلى الله عليه وسلم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب. ويلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو
فعل لا يجترئ عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتا ونفيا بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك. ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده والإيمان بالله هو العلم بوجوده فالكفر لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور: أحدها الجهل بالله تعالى. الثاني أن يأتي بفعل أو قول أخبر الله ورسوله أو أجمع المؤمنون على أنه لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم. الثالث أن يكون له قول أو فعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى.
ونقل ابن راشد في الفائق عن الأشعري رحمه الله أن الكفر خصلة واحدة. قال القرافي في الفرق 241 أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ويكون بالجهل بالله وبصفاته أو بالجرأة عليه وهذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله.
وقوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} خبر {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} و {سَوَاءٌ} اسم بمعنى الاستواء فهو اسم مصدر دل على ذلك لزوم إفراده وتذكيره مع اختلاف موصوفاته ومخبراته فإذا أخبر به أو وصف كان ذلك كالمصدر في أن المراد به معنى اسم الفاعل لقصد المبالغة. وقد قيل إن {سَوَاءٌ}اسم بمعنى المثل فيكون التزام إفراده وتذكيره لأن المثلية لا تتعدد، وإن تعدد موصوفها تقول هم رجال سواء لزيد بمعنى مثل لزيد.
وإنما عدى سواء بعلى هنا وفي غير موضع ولم يعلق بعند ونحوها مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه فالمعنى سواء عندهم الإنذار وعدمه.
واعلم أن للعرب في سواء استعمالين: أحدهما أن يأتوا بسواء على أصل وضعه من الدلالة على معنى التساوي في وصف بين متعدد فيقع معه {سَوَاءٌ} ما يدل على متعدد نحو ضمير الجمع في قوله تعالى: {فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [النحل: 71] ونحو العطف في قول بثينة:
سواء علينا يا جميل بن معمر ... إذا مت بأساء الحياة ولينها
ويجري إعرابه على ما يقتضيه موقعه من التركيب؛ وثانيهما أن يقع مع همزة التسوية وما هي إلا همزة استفهام كثر وقوعها بعد كلمة {سَوَاءٌ} ومعها {أَمْ} العاطفة التي تسمى المتصلة كقوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} وهذا أكثر استعماليها وتردد النحاة في إعرابه وأظهر ما قالوه وأسلمه أن {سَوَاءٌ} خبر مقدم وأن الفعل الواقع بعده مقترنا بالهمزة في تأويل مبتدأ لأنه صار بمنزلة المصدر إذ تجرد عن النسبة وعن الزمان، فالتقدير في الآية سواء عليهم إنذارك وعدمه.
وأظهر عندي مما قالوه أن المبتدأ بعد {سَوَاءٌ} مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} وهذا يجري على نحو قول القائل علمت أزيد قائم إذ تقديره علمت جواب هذا السؤال، ولك أن تجعل {سَوَاءٌ} مبتدأ رافعا لفاعل سد مسد الخبر لأن {سَوَاءٌ} في معنى مستو فهو في قوة اسم الفاعل فيرفع فاعلا سادا مسد خبر المبتدأ وجواب مثل هذا الاستفهام لما كان واحدا من أمرين كان الإخبار باستوائهما عند المخبر مشيرا إلى أمرين متساويين ولأجل كون الأصل في خبره الإفراد كان الفعل بعد {سَوَاءٌ} مؤولا بمصدر ووجه الأبلغية فيه أن هذين الأمرين لخلفاء الاستواء بينهما حتى ليسأل السائلون: أفعل فلان كذا وكذا فيقال إن الأمرين سواء في عدم الاكتراث بهما وعدم تطلب الجواب على الاستفهام من أحدهما فيكون قوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} مشيرا إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل: إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى الأمرين، وبهذا انتفى جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام فيما قبله إذا أعرب {سَوَاءٌ} خبرا والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجردا عن الزمان، وككون الفعل مرادا منه مجرد الحدث، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازا بعلاقة اللزوم، وكون {أَمْ} بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك، ولا نحتاج إلى تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى {سَوَاءٌ} إذ يؤول إلى معنى استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكرارا خاليا من الفائدة فيجاب بما نقل عن صاحب الكشاف أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب هما مستويان في عدم النفع، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتزاني في شرح الكشاف.
ويتعين إعراب {سَوَاءٌ} في مثله مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الاستفهام تقديره جواب هذا الاستفهام فسواء في الآية مبتدأ ثان والجملة خبر {الَّذِينَ كَفَرُوا} . ودع عنك كل ما خاض فيه الكاتبون على الكشاف، وحرف "على" الذي يلازم كلمة {سَوَاءٌ} غالبا هو للاستعلاء المجازي المراد به التمكن أي إن هذا الاستواء متمكن منهم لا يزول عن نفوسهم ولذلك قد يجيء بعض الظروف في موضع على مع كلمة سواء مثل عند، ولدى، قال أبو الشغب العبسي1:
لا تعذلي في جندج إن جندجا ... وليث كفرين لدي سواء
وسيأتي تحقيق لنظير هذا التركيب عند قوله تعالى في سورة الأعراف {سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} [لأعراف: 193] وقرأ ابن كثير {أَأَنْذَرْتَهُمْ} بهمزتين أولهما محققة والثانية مسهلة. وقرأ قالون عن نافع وورش عنه في رواية البغداديين وأبو عمرو وأبو جعفر كذلك مع إدخال ألف بين الهمزتين، وكلتا القرائتين لغة حجازية. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم. وروى أهل مصر عن ورش إبدال الهمزة الثانية ألفا. قال الزمخشري وهو لحن، وهذا يضعف رواية المصريين عن ورش، وهذا اختلاف في كيفية الأداء فلا ينافي التواتر.
{لا يُؤْمِنُونَ}
الأظهر أن هاته الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ} الخ فلك أن تجعلها خبرا ثانيا عن "إن" واستفادة التأكيد من السياق ولك أن تجعلها تأكيدا وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازا على الأول وإما وجوبا على الثاني، وقد فرضوا في إعرابها وجوها أخر لا نكثر بها لضعفها، وقد جوز في الكشاف جعل جملة {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} اعتراضا لجملة {لا يُؤْمِنُونَ} وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد، إذ ليس محل الإخبار هو لا يؤمنون إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم، وعذرا للنبي صلى الله عليه وسلم في الحرص على إيمانهم، وتسجيلا بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل {لا
ـــــــ
1 هو من شعراء ديوان الحماسة إلا أن هذا الشعر في ديوان "الحماسة" غير منسوب في غالب النسخ, وفي بعضها منسوب لأبي الشغب وهو بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين, اسمه عكرشة بن أربد شاعر مقل من الشعراء العصر الأموي.
يُؤْمِنُونَ} خبرا إلا أن المقصود من الكلام هو الأولى بالإخبار، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون، فقد علم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل، وإن كان المراد من {لا يُؤْمِنُونَ} استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيرا للخبر.
وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجا على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زمانا غير محررة، وكان كل من لاح له فيها دليل استدل به، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنونها التكليف بالمحال، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية، ومرة للذاتية العادية، ومرة للعرضية، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الاسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاما وانقلب قتادها ثماما. وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلا كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء ولده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة، وأطلق عليها المحال حقيقة ومطابقة في بعضها والتزاما في البعض، ومجازا في البعض، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك، كما أطلق الجواز على الإمكان، وعلى الإمكان للحكمة، وعلى الوقوع. فنشأ من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء. وكانت للمخالفين كحجر المضاء، فلما قيض الله أعلاما نفوا ما شاكها، وفتحوا أغلاقها، تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء، لا يخالف في ذلك مسلم. وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع. وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازا ووقوعا، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك، وثبت ما هو أخص وهو رفع الحرج الخارجي عن الحد المتعارف، تفضلا من الله تعالى لقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل:20] أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في الأحكام،
هذا ملاك هاته المسألة على وجه يلتئم به متناثرها، ويستأنس متنافرها. وبقي أن نبين لكم وجه تعلق التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في هاته الآية، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم كما هو وجه استدلال المستدل بها، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وجه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خص أفرادا بالدعوة إلا وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه، بقوله: "أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله" وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريبا من تلكم المقالة، وخص عمه أبا طالب بمثلها، ولم تكن يومئذ قد نزلت هذه الآية، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي، فلم يبق إلا أن يقال لماذا لم يخصص من علم عدم امتثاله من عموم الدعوة، ودفع ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم، ويوهم عدم عموم الرسالة، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدره وعلمه، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف، وسر الحكمة في ذلك بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير، وأحسب أن تفطنكم إلى مجمله ليس بعسير.
[7] {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة:7]
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}
هذه الجملة جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله، فإذا علم أن على قلوبهم ختما وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة علم سبب ذلك كله وبطل العجب، فالجملة استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون، وموقع هذه الجملة في نظم الكلام مقابل موقع جملة {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] فلهذه الجملة مكانة بين ذم أصحابها بمقدار ما لتلك من المكانة في الثناء على أربابها.
والختم حقيقته السد على الإناء والغلق على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة
مرسومة في خاتم ليمنع ذلك من فتح المختوم، فإذا فتح علم صاحبه أنه فتح لفساد يظهر في أثر النقش وقد اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتما لذلك، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها. وأما تسمية البلوغ لآخر الشيء ختما فلأن ذلك الموضع أو ذلك الوقت هو ظرف وضع الختم فيسمى به مجازا. والخاتم بفتح التاء الطين الموضوع على المكان المختوم، وأطلق على القالب المنقوش فيه علامة أو كتابة يطبع بها على الطين الذي يختم به. وكان نقش خاتم النبي صلى الله عليه وسلم محمد رسول الله. وطين الختم طين خاص يشبه الجبس يبل بماء ونحوه ويشد على الموضع المختوم فإذا جف كان قوى الشد لا يقلع بسهولة وهو يكون قطعا صغيرة كل قطعة بمقدار مضغة وكانوا يجعلونه خواتيم في رقاب أهل الذمة قال بشار:
ختم الحب لها في عنقي
موضع الخاتم من أهل الذمم والغشاوة فعالة من غشاه وتغشاه إذا حجبه ومما يصاغ له وزن فعالة بكسر الفاء معنى الاشتمال على شيء مثل العمامة والعلاوة واللفافة. وقد قيل إن صوغ هذه الزنة للصناعات كالخياطة لما فيها من معنى الاشتمال المجازي، ومعنى الغشاوة الغطاء.
وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية، كأنها مختوم عليها ومغشي دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ ختم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن المشبه محقق عقلا لا حسا.
ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلا بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة- كما تقدم- بهيئة الختم، وتشبيه هيئة متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة وكل ذينك من تشبيه المعقول بالمحسوس، ولك أن تجعل الختم والغشاوة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس، والختم في اصطلاح الشرع استمرار الضلالة في نفس الضال أو خلق الضلالة، ومثله الطبع، والأكنة.
والظاهر أن قوله {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} معطوف على قوله {قُلُوبِهِمْ} فتكون الأسماع مختوما عليها وليس هو خبرا مقدما لقوله {غِشَاوَةٌ} فيكون وَعَلَى {أَبْصَارِهِمْ} معطوفا عليه لأن الغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى الغلق والسد، فإن العرب تقول: استك سمعه ووقر سمعه وجعلوا أصابعهم في آذانهم.
والمراد من القلوب هنا الألباب والعقول، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية، وتطلقه على الإدراك والعقل، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان، وهو المراد هنا، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك.
وإنما أفرد السمع ولم يجمع كما جمع "قلوبهم" و"أبصارهم" إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] وقوله: {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: من الآية5] فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر، وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم. وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك، وكانت الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق، وفي الأنفس التي فيها دلالة، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يلقي إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعا واحدا.
وإطلاق أسماء الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح، قال الجاحظ في البيان1 قال بعضهم لغلام له: اشتر لي رأس كبشين، فقيل له: ذلك لا
ـــــــ
1 انظر: صحيفة 201 من الجزء الأول طبع بولاق.
يكون، فقال إذا فرأسي كبش فزاد كلامه إحالة. وفي الكشاف أنهم يقولون ذلك إذا أمن اللبس كقول الشاعر:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص
وهو نظير ما قاله سيبويه في باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع من نحو قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]. ويقولون: ضع رحالهما وإنما هما اثنان وهو خلاف كلام الجاحظ وقد يكون ما عده الجاحظ على القائل خطأ لأن مثل ذلك القائل لا يقصد المعاني الثانية فحمل كلامه على الخطأ لجهله بالعربية ولم يحمل على قصد لطيفة بلاغية بخلاف ما في البيت فضلا عن الآية كقول علي رضي الله عنه لمن سأله حين مرت جنازة: من المتوفي بصيغة اسم الفاعل فقال له علي الله لأنه علم أنه أخطأ أراد أن يقول المتوفي وإلا فإنه يصح أن يقال توفي فلان بالبناء للفاعل فهو متوف أي استوفى أجله، وقد قرأ علي نفسه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} بصيغة المبني للفاعل.
وبعد كون الختم مجازا في عدم نفوذ الحق لعقولهم وأسماعهم وكون ذلك مسببا لا محالة عن إعراضهم ومكابرتهم أسند ذلك الوصف إلى الله تعالى لأنه المقدر له على طريقة إسناد نظائر مثل هذا الوصف في غير ما آية من القرآن نحو قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108] وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} [الكهف: 28] ونظائر ذلك كثيرة في القرآن كثرة تنبو عن التأويل ومحملها عندنا على التحقيق أنها واردة على اعتبار أن كل ولقع هو بقدر الله تعالى وأن الله هدى ووفق بعضا، وأضل وخذل بعضا في التقدير والتكوين، فلا ينافي ذلك ورود الآية ونظائرها في معنى النعي على الموصوفين بذلك والتشنيع بحالهم لأن ذلك باعتبار ما لهم من الميل والاكتساب، وبالتحقيق القدرة على الفعل والترك التي هي دون الخلق، فالله تعالى قدر الشرور وأوجد في الناس القدرة على فعلها ولكنه نهاهم عنها لأنه أوجد في الناس القدرة على تركها أيضا، فلا تعارض بين القدر والتكليف إذ كل راجع إلى جهة خلاف ما توهمته القدرية فنفوا القدر وهو التقدير والعلم وخلاف ما توهمته المعتزلة من عدم تعلق قدرة الله تعالى بأفعال المكلفين ولا هي مخلوقة له وإنما المخلوق له ذواتهم وآلات أفعالهم، ليتوسلوا بذلك إلى إنكار صحة إسناد مثل هاته الأفعال إلى الله تعالى تنزيها له عن إيجاد الفساد، وتأويل ما ورد من ذلك: على أن ذلك لم يغن عنهم شيئا لأنهم قائلون بعلمه تعالى بأنهم سيفعلون وهو قادر على سلب القدر منهم فبتركه إياهم على تلك القدرة إمهال لهم على فعل القبيح وهو
قبيح، فالتحقيق ما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة أن الله هو مقدر أفعال العباد إلا أن فعلها هو من العبد لا من الله وهو الذي أفصح عنه إمام الحرمين وأضرابه من المحققين. ولا يرد علينا أنه كيف أقدرهم على فعل المعاصي? لأنه يرد على المعتزلة أيضا أنه كيف علم بعد أن أقدرهم بأنهم شارعون في المعاصي ولم يسلب عنهم القدرة? فكان مذهب الأشاعرة أسعد بالتحقيق وأجرى على طريق الجمع بين ما طفح به الكتاب والسنة من الأدلة. ولنا فيه تحقيق أعلى من هذا بسطناه في رسالة القدرة والتقدر التي لما تظهر.
وإسناد الختم المستعمل مجازا إلى الله تعالى للدلالة على تمكن معنى الختم من قلوبهم وأن لا يرجى زواله كما يقال خلقة في فلان، والوصف الذي أودعه الله في فلان أو أعطاه فلانا، وفرق بين هذا الإسناد وبين الإسناد في المجاز العقلي لأن هذا أريد منه لازم المعنى والمجاز العقلي إنما أسند فيه فعل لغير فاعله لملابسة، والغالب صحة فرض الاعتبارين فيما صلح لأحدهما وإنما يرتكب ما يكون أصلح بالمقام.
وجملة {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} معطوفة على قوله: {عَلَى قُلُوبِهِمْ} بإعادة الجار لزيادة التأكيد حتى يكون المعطوف مقصودا لأن على مؤذنة بالمتعلق فكأن: {خَتَمَ} كرر مرتين. وفيه ملاحظة كون الأسماع مقصودة بالختم إذ ليس العطف كالتصريح بالعامل. وليس قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} خبرا مقدما لغشاوة لأن الأسماع لا تناسبها الغشاوة وإنما يناسبها السد ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: من الآية23] ولأن تقديم قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} دليل على أنه هو الخبر لأن التقديم لتصحيح الابتداء بالنكرة فلو كان قوله: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} هو الخبر لا ستغنى بتقديم أحدهما وأبقى الآخر على الأصل من التأخير فقيل وعلى سمعهم غشاوة وعلى أبصارهم.
وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة.
{وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
العذاب: الألم. وقد قيل إن أصله الإعذاب مصدر أعذب إذا أزال العذوبة لأن العذاب يزيل حلاوة العيش فصيغ منه اسم مصدر بحذف الهمزة، أو هو اسم موضوع للألم بدون ملاحظة اشتقاق من العذوبة إذ ليس يلزم مصير الكلمة إلى نظيرتها في الحروف. ووصف العذاب بالعظيم دليل على أن تنكير عذاب للنوعية وذلك اهتمام بالتنصيص على عظمه لأن التنكير وإن كان صالحا للدلالة على التعظيم إلا أنه ليس بنص فيه ولا يجوز أن يكون {عَظِيمٌ} تأكيدا لما يفيده التنكير من التعظيم كما ظنه صاحب المفتاح لأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية، والمدلولات غير الوضعية يستغني عنها إذا ورد ما يدل عليها وضعا فلا يعد تأكيدا. والعذاب في الآية، إما عذاب النار في الآخرة، وإما عذاب القتل والمسبغة في الدنيا.
[8] {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8]
هذا فريق آخر وهو فريق له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر وهو لا يعدوا أن يكون مبطنا الشرك أو مبطنا التمسك باليهودية ويجمعه كله إظهار الإيمان كذبا، فالواو لعطف طائفة من الجمل على طائفة مسوق كل منهما لغرض جمعتهما في الذكر المناسبة بين الغرضين فلا يتطلب في مثله إلا المناسبة بين الغرضين لا المناسبة بين كل جملة وأخرى من كلا الغرضين على ما حققه التفتزاني في شرح الكشاف، وقال السيد إنه أصل عظيم في باب العطف لم ينتبه له كثيرون فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى وأصله مأخوذ من قول الكشاف وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة {الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] كما تعطف الجملة على الجملة فأفاد بالتشبيه أن ذلك ليس من عطف الجملة على الجملة. قال المحقق عبد الحكيم: وهذا ما أهمله السكاكي أي في أحوال الفصل والوصل وتفرد به صاحب الكشاف.
واعلم أن الآيات السابقة لما انتقل فيها من الثناء على القرآن بذكر المهتدين به بنوعيهم الذين يؤمنون بالغيب والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى آخر ما تقدم، وانتقل من الثناء عليهم إلى ذكر أضدادهم وهم الكافرون الذين أريد بهم الكافرون صراحة وهم المشركون، كان السامع قد ظن أن الذين أظهروا الإيمان داخلون في قوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فلم يكن السامع سائلا عن قسم آخر وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الشرك أو غيره وهم المنافقون الذين هم المراد هنا بدليل قوله {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] الخ، لأنه لغرابته وندرة وصفه بحيث لا يخطر بالبال وجوده ناسب
أن يذكر أمره للسامعين، ولذلك جاء بهذه الجملة معطوفة بالواو إذ ليست الجملة المتقدمة مقتضية لها ولا مثيرة لمدلولها في نفوس السامعين، بخلاف جملة {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] ترك عطفها على التي قبلها لأن ذكر مضمونها بعد المؤمنين كان مترقبا للسامع، فكان السامع كالسائل عنه فجاء الفصل للاستئناف البياني.
وقوله {وَمِنَ النَّاسِ} خبر مقدم لا محالة وقد يتراءى أن الإخبار بمثله قليل الجدوى لأنه إذا كان المبتدأ دالا على ذات مثله، أو معنى لا يكون إلا في الناس كان الإخبار عن المبتدأ بأنه من الناس أو في الناس غير مجد بخلاف قولك: الخضر من الناس، أي لا من الملائكة فإن الفائدة ظاهرة، فوجه الإخبار بقولهم من الناس في نحو الآية ونحو قول بعض أعزة الأصحاب في تهنئة لي بخطة القضاء:
في الناس من ألقي قلادتها إلى ... خلف فحرم ما ابتغى وأباحا
إن القصد إخفاء مدلول الخبر عنه كما تقول قال هذا إنسان وذلك عندما يكون الحديث يكسب ذما أو نقصانا، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله" وقد كثر تقديم الخبر في مثل هذا التركيب لأن في تقديمه تنبيها للسامع على عجيب ما سيذكر، وتشويقا لمعرفة ما يتم به الإخبار ولو أخر لكان موقعه زائدا لحصول العلم بأن ما ذكره المتكلم لا يقع إلا من إنسان كقول موسى بن جابر الحنفي:
ومن الرجال أسنة مذروبة ... ومزندون وشاهد كالغائب
وقد قيل إن موقع {مِنَ النَّاسِ} مؤذن بالتعجب وإن أصل الخبر إفادة أن فاعل هذا الفعل من الناس لئلا يظنه المخاطب من غير الناس لشناعة الفعل، وهذا بعيد عن القصد لأنه لو كان كما قال لم يكن للتقديم فائدة بل كان تأخيره أولى حتى يتقرر الأمر الذي يوهم أن المبتدأ ليس {مِنَ النَّاسِ} هذا توجيه هذا الاستعمال وذلك حيث لا يكون لظاهر الإخبار بكون المتحدث عنه من أفراد الناس كبير فائدة فإن كان القصد إفادة ذلك حيث يجهله المخاطب كقولك: من الرجال من يلبس برقعا، تريد الإخبار عن القوم المدعون بالملثمين من لمتونة، أو حيث ينزل المخاطب منزلة الجاهل كقول عبد الله بن الزبير بفتح الزاي وكسر الباء:
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
إذا كان حال المخاطبين حال من يظن أن المتكلم لا يجد من يصله إن قطعه هو،
فذكر {مِنَ النَّاسِ} ونحوه في مثل هذا وارد على أصل الإخبار، وتقديم الخبر هنا للتشويق إلى استعلام المبتدأ وليس فيه إفادة تخصيص. وإذا علمت أن قوله {مِنَ النَّاسِ} مؤذن بأن المتحدث عنهم ستساق في شأنهم قصة مذمومة وحالة شنيعة إذ لا يستر ذكرهم إلا لأن حالهم من الشناعة بحيث يستحيي المتكلم أن يصرح بموصوفها وفي ذلك من تحقير شأن النفاق ومذمته أمر كبير، فوردت في شأنهم ثلاث عشرة آية نعي عليهم فيها خبثهم، ومكرهم، وسوء عواقبهم، وسفه أحلامهم، وجهالتهم، وأردف ذلك بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذ النفاق يجمع الكذب، والجبن، والمكيدة، وأفن الرأي، والبله، وسوء السلوك، والطمع، وإضاعة العمر، وزوال الثقة، وعداوة الأصحاب، واضمحلال الفضيلة.
أما الكذب فظاهر، وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن، وأما المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن، وأما أفن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك، وأما البله فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به، وأما سوء السلوك فلأن طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة، والصفات المذمومة إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها، وأما الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا، وأما عداوة الإصحاب فكذلك لأنه إذا علم أن ذلك خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله.
وقد أشار قوله تعالى {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} إلى الكذب، وقوله {يُخَادِعُونَ} [البقرة: 9] إلى المكيدة والجبن، وقوله {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] إلى أفن الرأي، وقوله {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] إلى البله، وقوله {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] إلى سوء السلوك، وقوله {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة: 10] إلى دوام ذلك وتزايده مع الزمان، وقوله {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] إلى إضاعة العمر في غير المقصود، وقوله
{قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] مؤكدا بإن إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم، وقوله {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم، وقوله {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] إلى اضمحلال الفضيلة منهم وسيجيء تفصيل لهذا، وجمع عند قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}
والناس اسم جمع إنسي بكسر الهمزة وياء النسب فهو عوض عن أناسي الذي هو الجمع بالقياس لإنس وقد عوضوا عن أناسي أناس بضم الهمزة وطرح ياء النسب، دل على هذا التعويض ظهور ذلك في قول عبيد بن الأبرص الأسدي يخاطب امرأ القيس:
إن المنايا يطلعـ ... ـن على الأناس الآمنينا
ثم حذفوا همزته تخفيفا، وحذف الهمزة للتخفيف شائع كما قالوا لوقة في ألوقة وهي الزبدة، وقد التزم حذف همزة أناس عند دخول أل عليه غالبا بخلاف المجرد من أل فذكر الهمزة وحذفها شائع فيه وقد قيل إن ناس جمع وإنه من جموع جاءت على وزن فعال بضم الفاء مثل ظؤار جمع ظئر، ورخال جمع رخل وهي الأنثى الصغيرة من الضأن ووزن فعال قليل في الجموع في كلام العرب وقد اهتم أئمة اللغة بجمع ما ورد منه فذكرها ابن خالويه في كتاب "ليس" وابن السكيت وابن بري. وقد عد المتقدمون منها ثمانية جمعت في ثلاثة أبيات تنسب للزمخشري والصحيح أنها لصدر الأفاضل تلميذه ثم ألحق كثير من اللغويين بتلك الثمان كلمات أخر حتى أنهيت إلى أربع وعشرين جمعا ذكرها الشهاب الخفاجي في شرح درة الغواص وذكر معظمها في حاشيته على تفسير البيضاوي وهي فائدة من علم اللغة فارجعوا إليها إن شئتم.
وقيل إن ما جاء بهذا الوزن أسماء جموع، وكلام الكشاف يؤذن به ومفرد هذا الجمع إنسي أو إنس أو إنسان وكله مشتق من أنس ضد توحش لأن الإنسان يألف ويأنس.
والتعريف في الناس للجنس لأن ما علمت من استعماله في كلامهم يؤيد إرادة الجنس ويجوز أن يكون التعريف للعهد والمعهود هم الناس المتقدم ذكرهم في قوله {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] أو الناس الذين يعهدهم النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون في هذا الشأن، و"من" موصولة والمراد بها فريق وجماعة بقرينة قوله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وما بعده من صيغ الجمع.
والمذكور بقوله {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ} الخ قسم ثالث مقابل للقسمين المتقدمين
للتمايز بين الجميع بأشهر الصفات وإن كان بين البعض أو الجميع صفات متفقة في الجملة فلا يشتبه وجه جعل المنافقين قسيما للكافرين مع أنهم منهم لأن المراد بالتقسيم الصفات المخصصة.
وإنما اقتصر القرآن من أقوالهم على قولهم: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} . مع أنهم أظهروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، إيجازا لأن الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل إلى الإيمان بالرسول إذ الإيمان بالله هو الأصل وبه يصلح الاعتقاد وهو أصل العمل، والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها وفيه صلاح الحال العملي. أو هم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول لأنهم لغلوهم في الكفر لا يستطيعون أن يذكروا الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم استثقالا لهذا الاعتراف فيقتصرون على ذكر الله واليوم الآخر إيهاما للاكتفاء ظاهرا ومحافظة على كفرهم باطنا لأن أكثرهم وقادتهم من اليهود.
وفي التعبير بيقول في مثل هذا المقام إيماء إلى أن ذلك غير مطابق للواقع لأن الخبر المحكي عن الغير إذا لم يتعلق الغرض بذكر نصه وحكى بلفظ {يَقُولُ} أومأ ذلك إلى أنه غير مطابق لاعتقاده أو أن المتكلم يكذبه في ذلك، ففيه تمهيد لقوله {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وجملة وما هم بمؤمنين في موضع الحال من ضمير {يَقُولُ} أي يقول هذا القول في حال أنهم غير مؤمنين.
والآية أشارت إلى طائفة من الكفار وهم المنافقون الذين كان بعضهم من أهل يثرب وبعضهم من اليهود الذين أظهروا الإسلام وبقيتهم من الأعراب المجاورين لهم، ورد في حديث كعب بن مالك أن المنافقين الذين تخلفوا في غزوة تبوك بضعة وثمانون، وقد عرف من أسمائهم عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين، والجد بن قيس، ومعتب بن قشير، والجلاس بن سويد الذي نزل فيه {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74]، وعبد الله بن سبأ اليهودي ولبيد ابن الأعصم من بني زريق حليف اليهود كما في باب السحر من كتاب الطب من صحيح البخاري، والأخنس أبي بن شريق الثقفي كان يظهر الود والإيمان وسيأتي عند قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ} [البقرة: 204]، وزيد بن اللصيت القينقاعي ووديعة بن ثابت من بني عمرو بن عوف، ومخشن بن حمير الأشجعي اللذين كانا يثبطان المسلمين، من غزوة تبوك وقد قيل إن زيد بن اللصيت تاب وحسن حاله، وقيل لا، وأما مخشن فتاب وعفا الله عنه وقتل شهيدا يوم اليمامة.
وفي كتاب المرتبة الرابعة لابن حزم قد ذكر قوم معتب ابن قشير الأوسي من بني
عمرو بن عوف في المنافقين وهذا باطل لأن حضوره بدرا يبطل هذا الظن بلا شك ولكنه ظهر منه يوم أحد ما يدل على ضعف إيمانه فلمزوه بالنفاق فإنه القائل يوم أحد: { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران: 154] ، رواه عنه الزبير بن العوم قال ابن عطية كان مغموصا بالنفاق.
ومن المنافقين أبو عفك أحد بني عمرو بن عوف ظهر نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن صامت وقال شعرا يعرض بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد أمر رسول الله بقتل أبي عفك فقتله سالم بن عمير، ومن المنافقات عصماء بنت مروان من بني أمية ابن زيد نافقت لما قتل أبو عفك وقالت شعرا تعرض بالنبي قتلها عمير بن عدي الخطمي وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينتطح فيها عنزان" ، ومن المنافقين بشير بن أبيرق كان منافقا يهجو أصحاب رسول الله وشهد أحدا ومنهم ثعلبة بن حاطب وهو قد أسلم وعد من أهل بدر، ومنهم بشر المنافق كان من الأنصار وهو الذي خاصم يهوديا فدعا اليهودي بشرا إلى حكم النبي فامتنع بشر وطلب المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وهذا هو الذي قتله عمر وقصته في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [النساء: 60]. وعن ابن عباس أن المنافقين على عهد رسول الله كانوا ثلاثمائة من الرجال ومائة وسبعين من النساء، فأما المنافقون من الأوس والخزرج فالذي سن لهم النفاق وجمعهم عليه هو عبد الله بن أبي حسدا وحنقا على الإسلام لأنه قد كان أهل يثرب بعد أن انقضت حروب بعاث بينهم وهلك جل ساداتهم فيها قد اصطلحوا على أن يجعلوه ملكا عليهم ويعصبوه بالعصابة. قال سعد بن عبادة للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث البخاري: "اعف عنه يا رسول الله واصفح فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك" اه،.
وأما اليهود فلأنهم أهل مكر بكل دين يظهر ولأنهم خافوا زوال شوكتهم الحالية من جهات الحجاز، وأما الأعراب فهم تبع لهؤلاء ولذلك جاء: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} [التوبة: 97] الآية، لأنهم يقلدون عن غير بصيرة وكل من جاء بعدهم على مثل صفاتهم فهو لاحق بهم فيما نعى الله عليهم وهذا معنى قول سلمان الفارسي في تفسير هذه الآية "لم يجيء هؤلاء بعد" قال ابن عطية معنى قوله أنهم لم ينقرضوا بل يجيئون من كل زمان اه، يعني أن سلمان لا ينكر ثبوت هذا الوصف لطائفة في زمن النبوة ولكن لا يرى المقصد من الآية حصر المذمة فيهم بل وفي الذين يجيئون من بعدهم.
وقوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} جيء في نفي قولهم بالجملة الاسمية ولم يجيء على
وزان قولهم: {آمَنَّا} بأن يقال وما آمنوا لأنهم لما أثبتوا الإيمان لأنفسهم كان الإتيان بالماضي أشمل حالا لاقتضائه تحقق الإيمان فيما مضى بالصراحة ودوامه بالالتزام؛ لأن الأصل ألا يتغير الاعتقاد بلا موجب كيف والدين هو هو، ولما أريد نفي الإيمان عنهم كان نفيه في الماضي لا يستلزم عدم تحققه في الحال بله الاستقبال فكان قوله: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} دالا على انتفائه عنهم في الحال؛ لأن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال وذلك النفي يستلزم انتفاءه في الماضي بالأولى، ولأن الجملة الفعلية تدل على الاهتمام بشأن الفعل دون الفاعل فلذلك حكى بها كلامهم لأنهم لما رأوا المسلمين يتطلبون معرفة حصول إيمانهم قالوا: {آمَنَّا} والجملة الاسمية تدل على الاهتمام بشأن الفاعل أي أن القائلين: {آمَنَّا} لم يقع منهم إيمان فالاهتمام بهم في الفعل المنفي تسجيل لكذبهم وهذا من مواطن الفروق بين الجملتين الفعلية والاسمية وهو مصدق بقاعدة إفادة التقديم الاهتمام مطلقا وإن أهملوا التنبيه على جريان تلك القاعدة عندما ذكروا الفروق بين الجملة الفعلية والاسمية في كتب المعاني وأشار إليه صاحب الكشاف هنا بكلام دقيق الدلالة.
فإن قلت كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم ثم ارتد وزعم بعد ردته أنه كان يكتب القرآن وأنه كان يملي النبي صلى الله عليه وسلم عزيز حكيم مثلا فيكتبها غفور رحيم مثلا والعكس وهذا من عدم الإيمان فيكون حينئذ من المنافقين الذين آمنوا بعد فالجواب أن هذا من نقل المؤرخين وهم لا يعتد بكلامهم في مثل هذا الشأن لا سيما وولاية عبد الله ابن أبي سرح الإمارة من جملة ما نقمه الثوار على عثمان وتحامل المؤرخين فيها معلوم لأنهم تلقوها من الناقمين وأشياعهم، والأدلة الشرعية تنفي هذا لأنه لو صح للزم عليه دخول الشك في الدين ولو حاول عبد الله هذا لأعلم الله تعالى به رسوله لأنه لا يجوز على الرسول السهو والغفلة فيما يرجع إلى التبليغ على أنه مزيف من حيث العقل إذ لو أراد أن يكيد للدين لكان الأجدر به تحريف غير ذلك، على أن هذا كلام قاله في وقت ارتداده وقوله حينئذ في الدين غير مصدق لأنه متهم بقصد ترويج ردته عند المشركين بمكة وقد علمت من المقدمة الثامنة من هذا التفسير أن العمدة في آيات القرآن على حفظ حفاظه وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان يأمر بكتابته لقصد المراجعة للمسلمين إذا احتاجوا إليه، ولم يرو أحد أنه وقع الاحتياج إلى مراجعة ما كتب من القرآن إلا في زمن أبي بكر، ولم ينقل أن حفاظ القرآن وجدوا خلافا بين محفوظهم وبين الأصول المكتوبة، على أن عبد الله بن أبي سرح لم يكن منفردا بكتابة الوحي فقد كان يكتب معه آخرون.
ونفى الإيمان عنهم مع قولهم: {آمَنَّا} . دليل صريح على أن مسمى الإيمان التصديق وأن النطق بما يدل على الإيمان قد يكون كاذبا فلا يكون ذلك النطق إيمانا، والإيمان في الشرع هو الاعتقاد الجازم بثبوت ما يعلم أنه من الدين علما ضروريا بحيث يكون ثابتا بدليل قطعي عند جميع أئمة الدين ويشتهر كونه من مقومات الاعتقاد الإسلامي اللازم لكل مسلم اشتهارا بين الخاصة من علماء الدين والعامة من المسلمين بحيث لا نزاع فيه فقد نقل الإيمان في الشرع إلى تصديق خاص وقد أفصح عنه الحديث الصحيح عن عمر أن جبريل جاء فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: "الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" .
وقد اختلفت علماء الأمة في ماهية الإيمان ما هو وتطرقوا أيضا إلى حقيقة الإسلام ونحن نجمع متناثر المنقول منهم مع ما للمحققين من تحقيق مذاهبهم في جملة مختصرة.وقد أرجعنا متفرق أقوالهم في ذلك إلى خمسة أقوال:
القول الأول: قول جمهور المحققين من علماء الأمة قالوا: إن الإيمان هو التصديق لا مسمى له غير ذلك وهو مسماه اللغوي فينبغي ألا ينقل من معناه لأن الأصل عدم النقل إلا أنه أطلق على تصديق خاص بأشياء بينها الدين وليس استعمال اللفظ العام في بعض أفراده بنقله له عن معناه اللغوي وغلب في لسان الشرعيين على ذلك التصديق واحتجوا بعدة أدلة هي من أخبار الآحاد ولكنها كثيرة كثرة تلحقها بالمستفيض.
من ذلك حديث جبريل المتقدم وحديث سعد أنه قال يا رسول الله: مالك عن فلان فإني لأراه مؤمنا. فقال: "أو مسلما" ، قالوا وأما النطق والأعمال فهي من الإسلام لا من مفهوم الإيمان لأن الإسلام الاستسلام والانقياد بالجسد دون القلب ودليل التفرقة بينهما اللغة وحديث جبريل، وقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: من الآية14] ولما رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله أنه جاء رجل من نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول فإذا هو يسأل عن الإسلام فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا" ، ونسب هذا القول إلى مالك بن أنس أخذا من قوله في المدونة من اغتسل وقد أجمع على الإسلام بقلبه إجزأه، قال ابن رشد لأن إسلامه بقلبه فلو مات مات مؤمنا وهو مأخذ بعيد وستعلم أن قول مالك بخلافه. ونسب هذا أيضا إلى الأشعري قال إمام الحرمين في الإرشاد وهو المرضي
عندنا. وبه قال الزهري من التابعين.
القول الثاني: إن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان بالشهادتين للإقرار بذلك الاعتقاد فيكون الإيمان منقولا شرعا لهذا المعنى فلا يعتد بالاعتقاد شرعا إلا إذا انضم إليه النطق ونقل هذا عن أبي حنيفة ونسبه النووي إلى جمهور الفقهاء والمحدثين والمتكلمين ونسبه الفخر إلى الأشعري وبشر المريسي. ونسبه الخفاجي إلى محققي الأشاعرة واختاره ابن العربي، قال النووي وبذلك يكون الإنسان من أهل القبلة.
قلت ولا أحسب أن بين هذا والقول الأول فرقا وإنما نظر كل قيل إلى جانب، فالأول نظر إلى جانب المفهوم والثاني نظر إلى الاعتداد ولم يعتنوا بضبط عباراتهم حتى يرتفع الخلاف بينهم وإن كان قد وقع الخلاف بينهم في أن الاقتصار على الاعتقاد هل هو منج فيما بين المرء وبين ربه أو لابد من الإقرار، حكاه البيضاوي في التفسير ومال إلى الثاني ويؤخذ من كلامهم أنه لو ترك الإقرار لا عن مكابرة كان ناجيا مثل الأخرس والمغفل والمشتغل شغلا اتصل بموته. واحتجوا بإطلاق الإيمان على الإسلام والعكس في مواضع من الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذريات:36] وفي حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله? شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة" الخ وهذه أخبار آحاد فالاستدلال بها في أصل من الدين إنما هو مجرد تقريب على أن معظمها لا يدل على إطلاق الإيمان على حالة ليس معها حالة إسلام.
القول الثالث: قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ذلك أنهم لكمال حالهم ومجيئهم في فاتحة انبثاق أنوار الدين لم يكونوا يفرضون في الإيمان أحوالا تقصر في الامتثال، ونسب ذلك إلى مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي وابن جريج والنخمي والحسن وعطاء وطاووس ومجاهد وابن المبارك والبخاري ونسب لابن مسعود وحذيفة وبه قال ابن حزم من الظاهرية وتمسك به أهل الحديث لأخذهم بظاهر ألفاظ الأحاديث، وبذلك أثبتوا الزيادة والنقص في الإيمان بزيادة الأعمال ونقصها لقوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] الخ. وجاء في الحديث: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" فدل ذلك على قبوله للتفاضل. وعلى ذلك حمل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" أي ليس متصفا حينئذ بكمال الإيمان.
ونقل عن مالك أنه يزيد ولا ينقص فقيل إنما أمسك مالك عن القول بنقصانه خشية أن يظن به موافقة الخوارج الذين يكفرون بالذنوب. قال ابن بطال وهذا لا يخالف قول مالك بأن الإيمان هو التصديق وهو لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق أول منازل الإيمان ويوجب للمصدق الدخول فيه ولا يوجب له استكمال منازله وإنما أراد هؤلاء الأئمة الرد على المرجئة في قولهم إن الإيمان قول بلا عمل اه. ولم يتابعهم عليه المتأخرون لأنهم روأه شرحا للإيمان الكامل وليس فيه النزاع إنما النزاع في أصل مسمى الإيمان وأول درجات النجاة من الخلود ولذلك أنكر أكثر المتكلمين أن يقال: الإيمان يزيد وينقص وتأولوا نحو قوله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [الفتح: 4] بأن المراد تعدد الأدلة حتى يدوموا على الإيمان وهو التحقيق.
القول الرابع: قول الخوارج والمعتزلة إن الإيمان اعتقاد ونطق وعمل كما جاء في القول الثالث إلا أنهم أرادوا من قولهم حقيقة ظاهره من تركيب الإيمان من مجموع الثلاثة بحيث إذا اختل واحد منها بطل الإيمان، ولهم في تقرير بطلانه بنقص الأعمال الواجبة مذاهب غير منتظمة ولا معضودة بأدلة سوى التعلق بظواهر بعض الآثار مع الإهمال لما يعارضها من مثلها.
فإما الخوارج فقالوا إن تارك شيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد في النار فالأعمال جزء من الإيمان وأرادوا من الأعمال فعل الواجبات وترك المحرمات ولو صغائر، إذ جميع الذنوب عندهم كبائر. وأما غير ذلك من الأعمال كالمندوبات والمستحبات فلا يوجب تركها خلودا، إذ لا يقول مسلم إن ترك السنن والمندوبات يوجب الكفر والخلود في النار، وكذلك فعل المكروهات.
وقالت الإباضية من الخوارج إن تارك بعض الواجبات كافر لكن كفره كفر نعمة لا شرك، نقله إمام الحرمين عنهم وهو الذي سمعناه من طلبتهم.
وأما المعتزلة فقد وافقوا الخوارج في أن للأعمال حظا من الإيمان إلا أنهم خالفوهم في مقاديرها ومذاهب المعتزلة في هذا الموضع غير منضبطة، فقال قدماؤهم وهو المشهور عنهم إن العاصي مخلد في النار لكنه لا يوصف بالكفر ولا بالإيمان، ووصفوه بالفسق وجعلوا استحقاق الخلود لارتكاب الكبيرة خاصة، وكذلك نسب إليهم ابن حزم في كتاب الفصل، وقال واصل بن عطاء الغزال إن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين أي لا يوصف بإيمان ولا كفر فيفارق بذلك قول الخوارج وقول المرجئة ووافقه عمرو بن عبيد
على ذلك. وهذه هي المسألة التي بسببها قال الحسن البصري لواصل وعمرو بن عبيد اعتزل مجلسنا. ودرج على هذا جميعهم، لكنهم اضطربوا أو اضطرب النقل عنهم في مسمى المنزلة بين المنزلتين، فقال إمام الحرمين في الإرشاد إن جمهورهم قالوا إن الكبيرة تحبط ثواب الطاعات وإن كثرت، ومعناه لا محالة أنها توجب الخلود في النار وبذلك جزم التفتزاني في شرح الكشاف وفي المقاصد، وقال إن المنزلة بين المنزلتين هي موجبة للخلود وإنما أثبتوا المنزلة لعدم إطلاق اسم الكفر ولإجراء أحكام المؤمنين على صاحبها في ظاهر الحال في الدنيا بحيث لا يعتبر مرتكب المعصية كالمرتد فيقتل. وقال في المقاصد ومثله في الإرشاد: المختار عندهم خلاف المشتهر فإن أبا علي وابنه وكثيرا من محققيهم ومتأخريهم قالوا: إن الكبائر إنما توجب دخول النار إذا زاد عقابها على ثواب الطاعات فإن أربت الطاعات على السيئات درأت السيئات، وليس النظر إلى أعداد الطاعات ولا الزلات، وإنما النظر إلى مقدار الأجور والأوزار فرب كبيرة واحدة يغلب وزرها طاعات كثيرة العدد، ولا سبيل إلى ضبط هذه المقادير بل أمرها موكول إلى علم الله تعالى. فإن استوت الحسنات والسيئات فقد اضطربوا في ذلك فهذا محل المنزلة بين المنزلتين. ونقل ابن حزم في الفصل عن جماعة منهم، فيهم بشر المريسي والأصم أن من استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف ولهم وقفة لا يدخلون النار مدة ثم يدخلون الجنة ومن رجحت سيئاته فهو مجازي بقدر ما رجح له من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها بالشفاعة. وهذا يقتضي أن هؤلاء لا يرون الخلود. وقد نقل البعض عن المعتزلة أن المنزلة بين المنزلتين لا جنة ولا نار إلا أن التفتزاني في المقاصد غلط هذا البعض وكذلك قال في شرح الكشاف. وقد قرر صاحب الكشاف حقيقة المنزلة بين المنزلتين بكلام مجمل فقال في تفسير قوله تعالى: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26] والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلتي المؤمن والكافر. وقالوا إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء وكونه بين بين أن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسل ويصلي عليه ويدفن في مقابر المسلمين وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة اه، فتراه مع إيضاحه لم يذكر فيه أنه خالد في النار وصرح في قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] بما يعمم خلود أهل الكبائر دون توبة في النار.