كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ولما توفي ملك بعده ابنه عماد الدين شاهنشاه، وركب الناس معه، وبقي مالكاً لسنجار عدة شهور، وسار إلى تل أعفر وهي له، فدخل عليه أخوه عمر بن محمد بن زنكي، ومعه جماعة، فقتلوه، وملك أخوه عمر بعده فبقي كذلك إلى أن سلم سنجار إلى الملك الأشرف، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، ولم يمتع بملكه الذي قطع رحمه، وأراق الدم الحرام لأجله.
ولما سلم سنجار أخذ عوضها الرقة، ثم أخذت منه عن قريب، وتوفي بعد أخذها منه بقليل، وعدم روحه وشبابه. وهذه عاقبة قطيعة الرحم، فإن صلتها تزيد في العمر وقطيعتها تهدم العمر.
ذكر إجلاء بني معروف عن البطائح وقتلهمفي هذه السنة، في ذي القعدة، أمر الخليفة الناصر لدين الله الشريف معداً، متولي بلاد واسط، أن يسير إلى قتال بني معروف، فتجهز، وجمع معه من الرجالة من تكريت، وهيت، والحديثة، والأنبار، والحلة، والكوفة، وواسط، والبصرة، وغيرها، خلقاً كثيراً، وسار إليهم، ومقدمهم حينئذ معلى بن معروف، وهم قوم من ربيعة.
وكانت بيوتهم غبي الفرات، تحت سوراء، وما يتصل بذلك من البطائح، وكثر فسادهم وأذاهم لما يقاربهم من القرى، وقطعوا الطريق، وأفسدوا في النواحي المقاربة لبطيحة العراق، فشكا أهل تلك البلاد إلى الديوان منهم، فأمر معداً أن يسير إليهم في الجموع، فسار إليهم، فاستعد بنو معروف لقتاله، فاقتتلوا بموضع يعرف بالمقبر، وهو تل كبير بالبطيحة بقرب العراق، وكثر القتل بينهم، ثم انهزم بنو معروف، وكثر القتل فيهم، والأسر، والغرق، وأخذت أموالهم، حملت رؤوس كثيرة من القتلى إلى بغداد في ذي الحجة من السنة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، انهزم عماد الدين زنكي من عسكر بدر الدين.
وفيها، في العشرين من رجب، انهزم بدر الدين من مظفر الدين، صاحب إربل، وعاد مظفر الدين إلى بلده، وقد تقدم ذلك مستوفى في سنة خمس عشرة وستمائة.
وفيها، ثامن صفر، توفي قطب الدين محمد بن زنكي بن مودود ابن زنكي، صاحب سنجار، وملك بعده ابنه شاهنشاه.
وفيها، في التاسع والعشرين من شعبان، ملك الفرنج مدينة دمياط، وقد ذكر سنة أربع عشرة مشروحاً.
وفيها توفي افتخار الدين عبد المطلب بن الفضل الهاشمي العباسي، الفقيه الحنفي، رئيس الحنيفية بحلب، روى الحديث عن عمر البسطامي نزيل بلخ، وعن أبي سعد السمعاني وغيرهما.
وفيها توفي أبو البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبري، الضرير، النحوي وغيره، وفيها توفي أبو الحسن علي بن أبي محمد القاسم بن علي بن الحسن بن عبد الله الدمشقي، الحافظ ابن الحافظ، المعروف بابن عساكر، وكان قد قصد خراسان وسمع بها الحديث فأكثر، وعاد إلى بغداد، فوقع على القفل حرامية، فجرح، وبقي ببغداد، وتوفي في جمادى الأولى، رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وستمائة

ذكر خروج التتر إلى بلاد الشام
لقد بقيت عدة سنين معرضاً عن ذكر هذه الحادثة استعظاماً لها، كارهاً لذكرها، فأنا أقدم إليه رجلاً وأؤخر أخرى، فمن الذي يسهل عله أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين، ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً، إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ترك ذلك لا يجدي نفعاً، فنقول: عمت الخلائق، وخصت المسلمين، فلو قال قائل: إن العالم مذ خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وإلى الآن، لم يبتلوا بمثلها؛ لكان صادقاً، فإن التواريخ لم تتضمن ما يقاربها ولا ما يدانيها.
ومن أعظم ما يذكرون من الحوادث ما فعله بخت نصر ببني إسرائيل ن القتل، وتخريب البيت المقدس، وما البيت المقدس بالنسبة إلى ما خرب هؤلاء الملاعين من البلاد، التي كل مدينة منها أضعاف البيت المقدس، وما بنو إسرائيل بالنسبة إلى من قتلوا، فإن أهل مدينة واحدة ممن قتلوا أكثر من بني إسرائيل، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم، وتفنى الدنيا، إلا يأجوج ومأجوج.
وأما الدجال فإنه يبقي على من اتبعه، ويهلك من خالفه، وهؤلاء لم يبقوا على أحد، بل قتلوا النساء والرجال والأطفال، شقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

لهذه الحادثة التي استطار شررها، وعم ضررها، وسارت في البلاد كالسحاب استدبرته الريح، فإن قوماً خرجوا من أطراف الصين، فقصدوا بلا تركستان مثل كاشغر وبلاساغون، ثم منها إلى بلاد ما وراء النهر، مثل سمرقند وبخارى وغيرهما، فيملكونها، ويفعلون بأهلها ما نذكره، ثم تعبر طائفة منهم إلى خراسان، فيفرغون منها ملكاً، وتخريباً، وقتلاً، ونهباً، ثم يتجاوزونها إلى الري، وهمذان، وبلد الجبل وما فيه من البلاد إلى حد العراق، ثم يقصدون بلاد أذريبجان وأرانية، ويخربونها، ويقتلون أكثر أهلها، ولم ينج إلا الشريد النادر في أقل من سنة، هذا ما لم يسمع مثله.
ثم لما فرغوا من أذربيجان وأرانية ساروا إلى دربند شروان فملكوا مدنه، ولم يسلم غير القلعة التي بها ملكهم، وعبروا عندها إلى بلد اللان، واللكز، ومن في ذلك الصقع من الأمم المختلفة، فأوسعوهم قتلاً، ونهباً، وتخريباً؛ ثم قصدوا بلاد قفجاق، وهم من أكثر الترك عدداً، فقتلوا كل من وقف لهم، فهرب الباقون إلى الغياض ورؤس الجبال، وفارقوا بلادهم، واستولى هؤلاء التتر عليها، فعلوا هذا في أسرع زمان، ولم يلبثوا إلا بمقدار مسيرهم لا غير.
ومضى طائفة أخرى غير هذه الطائفة إلى غزنة وأعمالها، وما يجاورها من بلاد الهند وسجستان وكرمان، ففعلوا فيه مثل فعل هؤلاء وأشد.
هذا ما لم يطرق الأسماع مثله، فإن الإسكندر الذي اتفق المؤرخون على أنه ملك الدنيا لم يملكها في هذه السرعة، إنما ملكها في نحو عشر سنين، ولم يقتل أحداً، إنما رضي من الناس بالطاعة؛ وهؤلاء قد ملكوا أكثر المعمور من الأرض وأحسنه، وأكثره عمارة وأهلاً، وأعدل أهل الأرض أخلاقاً وسيرة، في نحو سنة، ولم يبق أحد في البلاد التي لم يطرقوها إلا وهو خائف يتوقعها، ويترقب وصولهم إليه.
ثم إنهم لا يحتاجون إلى ميرة ومدد يأتيهم، فإنهم معهم الأغنام، والبقر، والخيل، وغير ذلك من الدواب، يأكلون لحومها لا غير؛ وأما دوابهم التي يركبونها فإنها تحفر الأرض بحوافرها، وتأكل عروق النبات لا تعرف الشعير، فهم إذا نزلوا منزلاً لا يحتاجون إلى شيء من خارج.
وأما ديانتهم، فإنهم يسجدون للشمس عند طلوعها، ولا يحرمون شيئاً، فإنهم يأكلون جميع الدواب، حتى الكلاب، والخنازير، وغيرها، ولا يعرفون نكاحاً بل المرأة يأتيها غير واحد من الرجال، فإذا جاء الولد لا يعرف أباه.
ولقد بلي الإسلام والمسلمون في هذه المدة بمصائب لم يبتل بها أحد من الأمم، منها هؤلاء التتر، قبحهم الله، أقبلوا من المشرق، ففعلوا الأفعال التي يستعظمها كل من سمع بها، وستراها مشروحة متصلة، إن شاء الله تعالى.
ومنها خروج الفرنج، لعنهم الله، من المغرب إلى الشام، وقصدهم ديار مصر، وملكهم ثغر دمياط منها، وأشرفت ديار مصر والشام وغيرها على أن يملكوها لولا لطف الله تعالى ونصره عليهم، وقد ذكرناه سنة أربع عشرة وستمائة.
ومنها الذي سلم من هاتين الطائفتين فالسيف بينهم مسلول، والفتنة قائمة على ساق، وقد ذكرناه أيضاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فإن الناصر، والمعين، والذاب عن الإسلام معدوم، (وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من والٍ)، فإن هؤلاء التتر إنما استقام لهم هذا الأمر لعدم المانع.
وسبب عدمه أن خوارزم شاه محمداً كان قد استولى على البلاد، وقتل ملوكها، وأفناهم، وبقي هو وحده سلطان البلاد جميعها، فلما انهزم منهم لم يبق في البلاد من يمنعهم، ولا من يحميها (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً)، وهذا حين نذكر ابتداء خروجهم إلى البلاد.
ذكر خروج التتر إلى تركستان

وما وراء النهر وما فعلوه
في هذه السنة ظهر التتر إلى بلاد الإسلام، وهم نوع كثير من الترك، ومساكنهم جبال طمغاج من نحو الصين، وبينها وبين بلاد الإسلام ما يزيد على ستة أشهر.

وكان السب في ظهورهم أن ملكهم، ويسمى بجنكزخان، المعروف بتموجين، كان قد فارق بلاده وسار إلى نواحي تركستان، وسير جماعة من التجار والأتراك، ومعهم شيء كثير من النقرة والقندر وغيرهما، إلى بلاد ما وراء النهر سمرقند وبخارى ليشتروا له ثياباً للكسوة، فوصلوا إلى مدينة من بلاد الترك تسمى أوترا، وهي آخر ولاية خوارزم شاه، وكان له نائب هناك، فلما ورد عليه هذه الطائفة من التتر أرسل إلى خوارزم شاه يعلمه بوصولهم ويذكر له ما معهم من الأموال، فبعث إليه خوارزم شاه يأمره بقتلهم وأخذ ما معهم من الأموال وإنفاذه إليهم، فقتلهم، وسيّر ما معهم، وكان شيئاً كثيراً، فلما وصل إلى خوارزم شاه فرقه على تجار بخارى، وسمرقند، وأخذ ثمنه منهم.
وكان بعد أن ملك ما وراء النهر من الخطا قد سد الطرق عن بلاد تركستان وما بعدها من البلاد، وإن طائفة من التتر أيضاً كانوا قد خرجوا قديماً والبلاد للخطا، فلما ملك خوارزم شاه البلاد بما وراء النهر من الخطا، وقتلهم، واستولى هؤلاء التتر على تركستان: كاشغار، وبلاساغون وغيرهما، وصاروا يحاربون عساكر خوارزم شاه، فلذلك منع الميرة عنهم من الكسوات وغيرها. وقيل في سبب خروجهم إلى بلاد الإسلام غير ذلك مما لا يذكر في بطون الدفاتر:
فكان ما كان ما لست أذكره ... فظن خيراً ولا ولا تسأل عن الخبر
فلما قتل نائب خوارزم شاه أصحاب جنكزخان أرسل جواسيس إلى جنكزخان لينظر ما هو، وكم مقدار ما معه من الترك، وما يريد أن يعمل، فمضى الجواسيس، وسلكوا المفازة والجبال التي على طريقهم، حتى وصوا إليه، فعادوا بعد مدة طويلة وأخبروه بكثرة عددهم، وأنهم يخرجون عن الإحصاء، وأنهم من أصبر خلق الله على القتال لا يعرفون هزيمة، وأنهم يعملون ما يحتاجون إليه من السلاح بأيديهم، فندم خوارزم شاه على قتل أصحابهم وأخذ أموالهم، وحصل عنده فكر زائد، فأحضر الشهاب الخيوفي، وهو فقيه فاضل، كبير المحل عنده، لا يخالف ما يشير به، فحضر عنده، فقال له: قد حدث أمر عظيم لا بد من الفكر فيه وأخذ رأيك في الذي نفعله، وذاك أنه قد تحرك إلينا خصم من ناحية الترك في كثرة لا تحصى.
فقال له: في عساكرك كثرة ونكاتب الأطراف، ونجمع العساكر، ويكون النفير عاماً، فإنه يجب على المسلمين كافة مساعدتك بالمال والنفس، ثم نذهب بجميع العساكر إلى جانب سيحون، وهو نهر كبير يفصل بين بلاد الترك وبلاد الإسلام، فنكون هناك، فإذا جاء العدو، وقد سار مسافة بعيدة، لقيناه ونحن مستريحون، وهو وعساكره قد مسهم النصب والتعب.
فجمع خوارزم شاه أمراءه ومن عنده من أرباب المشورة، فاستشارهم، فلم يوافقوه على رأيه، بل قالوا: الرأي أن نتركهم يعبرون سيحون إلينا، ويسلكون هذه الجبال والمضايق، فإنهم جاهلون بطرقهم، ونحن عارفون بها، فنقوى حينئذ عليهم، ونهلكهم فلا ينجو منهم أحد.
فبينما هم كذلك إذ ورد رسول من هذا اللعين جنكزخان معه جماعة يتهد خوارزم شاه، ويقول: تقتلون أصحابي وتجاري وتأخذون مالي منهم! استعدوا للحرب فإني واصل إليكم بجمع لا قبل لكم به.
وكان جنكزخان قد سار إلى تركستان، فملك كاشغار، وبلاساغون، وجميع تلك البلاد، وأزال عنها التتر الأولى، فلم يظهر لهم خبر، ولا بقي لهم أثر، بل بادوا كما أصاب الخطا، وأرسل الرسالة المذكورة إلى خوارزم شاه؛ فلما سمعها خوارزم شاه أمر بقتل رسوله، فقتل، وأمر بحلق لحى الجماعة الذين كانوا معه، وأعادهم إلى صاحبهم جنكزخان يخبرونه بما فعل بالرسول، ويقولون له: إن خوارزم شاه يقول لك: أنا سائر إليك ولو أنك في آخر الدنيا، حتى أنتقم وأفعل بك كما فعلت بأصحابك.
وتجهز خوارزم شاه، وسار بعد الرسول مبادراً ليسبق خبره ويكسبهم، فأدمن السير، فمضى، وقطع مسيرة أربعة أشهر، فوصل إلى بيوتهم، فلم ير فيها إلا النساء والصبيان والأثقال، فأوقع بهم وغنم الجميع، وسبى النساء والذرية.
وكان سبب غيبة الكفار عن بيوتهم أنهم ساروا إلى محاربة ملك من ملوك الترك يقال له كشلوخان، فقاتلوه، وهزموه، وغنموا أمواله وعادوا، فلقيهم في الطريق الخبر بما فعل خوارزم شاه بمخلفيهم، فجدوا السير، فأدركوه قبل أن يخرج عن بيوتهم، وتصافوا للحرب، واقتتلوا قتالاً لم يسمع بمثله، فبقوا في الحرب ثلاثة أيام بلياليها، فقتل من الطائفتين ما لا يعد، ولم ينهزم أحد منهم.

أما المسلمون فإنهم صبروا حمية للدين، وعلموا أنهم إن انهزموا لم يبق للمسلمين باقية، وأنهم يؤخذون لبعدهم عن بلادهم.
وأما الكفار فصبروا لاستنقاذ أهليهم وأموالهم، واشتد بهم الأمر، حتى إن أحدهم كان ينزل عن فرسه ويقاتل قرنه رجلاً، ويتضاربون بالسكاكين، وجرى الدم على الأرض، حتى صارت الخيل تزلق من كثرته، واستنفذ الطائفتان وسعهم في الصبر والقتال. هذا القتال جميعه مع ابن جنكزخان ولم يحضر أبوه الوقعة، ولم يشعر بها، فأحصي من قتل من المسلمين في هذه الوقعة فكانوا عشرين ألفاً، وأما من الكفار فلا يحصى من قتل منهم.
فلما كان الليلة الرابعة افترقوا، فنزل بعضهم مقابل بعض، فلما أظلم الليل أوقد الكفار نيرانهم وتركوها بحالها وساروا، وكذلك فعل المسلمون أيضاً، كل منهم سئم القتال؛ فأما الكفار فعادوا إلى ملكهم جنكزخان؛ وأما المسلمون فرجعوا إلى بخارى، فاستعد للحصار لعلمه بعجزه، لأن طائفة عسكره لم يقدر خوارزم شاه على أن يظفر بهم، فكيف إذا جاؤوا جميعهم مع ملكهم؟ فأمر أهل بخار وسمرقند بالاستعداد للحصار، وجمع الذخائر للامتناع، وجعل في بخارى عشرين ألف فارس من العسكر يحمونها، وفي سمرقند خمسين ألفاً، وقال لهم: احفظوا البلد حتى أعود إلى خوارزم وخراسان وأجمع العساكر واستنجد بالمسلمين وأعود إليكم.
فلما فرغ من ذلك رحل عائداً إلى خراسان، فعبر جيحون، ونزل بالقرب من بلخ فعسكر هناك.
وأما الكفار فإنهم رحلوا بعد أن استعدوا يطلبون ما وراء النهر، فوصلوا إلى بخارى بعد خمسة أشهر من وصول خوارزم شاه، وحصروها، وقاتلوهما ثلاثة أيام قتالاً شديداً متتابعاً، فلم يكن للعسكر الخوارزمي بهم قوة، ففارقوا البلد عائدين إلى خراسان، فلما أصبح أهل البلد وليس عندهم من العسكر أحد ضعفت نفوسهم، فأرسلوا القاضي، وهو بدر الدين قاضي خان، ليطلب الأمان للناس، فأعطوهم الأمان.
وكان قد بقي من العسكر طائفة لم يمكنهم الهرب مع أصحابهم، فاعتصموا بالقلعة، فلما أجابهم جنكزخان إلى الأمان فتحت أبواب المدينة يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة من سنة ست عشرة وستمائة، فدخل الكفار بخارى، ومل يتعرضوا لأحد بل قالوا لهم: كل ما هو للسلطان عندكم من ذخيرة وغيره أخرجوه إلينا، وساعدونا على قتال من بالقلعة؛ وأظهروا عندهم العدل وحسن السيرة، ودخل جنكزخان بنفسه وأحاط بالقلعة، ونادى في البلد بأن لا يتخلف أحد ون تخلف قتل، فحضروا جميعهم، فأمرهم بطم الخندق، فطموه بالأخشاب والتراب وغير ذلك، حتى إن الكفار كانوا يأخذون المنابر وربعات القرآن فيلقونهم في الخندق، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وبحق سمى الله نفسه صبوراً حليماً، وإلا كان خسف بهم الأرض عند فعل مثل هذا.
ثم تابعوا الزحف إلى القلعة وبها نحو أربع مائة فارس من المسلمين، فبذلوا جهدهم، ومنعوا القلعة اثني عشر يوماً يقاتلون جميع الكفار وأهل البلد، فقتل بعضهم، ولم يزالوا كذلك حتى زحفوا إليهم، ووصل النقابون إلى سور القلعة فنقبوه، واشتد حينئذ القتال، ومن بها من المسلمين يرمون ما يجدون من حجارة ونار وسهام، فغضب اللعين، ورد أصحابه ذلك اليوم، وباكرهم من الغد، فجدوا في القتال، وقد تعب من بالقلعة ونصبوا، وجاءهم ما لا قبل لهم به، فقهرهم الكفار ودخلوا القلعة، وقاتلهم المسلمون الذين فيها حتى قتلوا عن آخرهم، فلما فرغ من القلعة نادى أن يكتب له وجوه الناس ورؤساؤهم، ففعلوا ذلك، فلما عرضوا عليه أمر بإحضارهم فحضروا، فقال: أريد منكم النقرة التي باعكم خوارزم شاه، فإنها لي، ومن أصحابي أخذت، وهي عندكم.
فأحضر كل من كان عنده شيء منها بين يديه، ثم أمرهم بالخرج من البلد، فخرجوا من البلد مجردين من أموالهم، ليس مع أحد منه غير ثيابه التي عليه، ودخل الكفار البلد فنهبوه وقتلوا من وجدوا فيه، وأحاط بالمسلمين، فأمر أصحابه أن يقتسموهم، فاقتسموهم.

وكان يوماً عظيماً من كثرة البكاء من الرجال والنساء والولدان، وتفرقوا أيدي سبا، وتمزقوا كل ممزق، واقتسموا النساء أيضاً، وأصبحت بخارى خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس، وارتكبوا من النساء العظيم، والناس ينظرون ويبكون، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم شيئاً مما نزل بهم، فمنهم من لم يرض بذلك، واختار الموت على ذلكن فقاتل حتى قتل، وممن فعل ذلك واختار أن يقتل ولا يرى ما نزل بالمسلمين، الفقيه الإمام ركن الدين إمام زاده وولده، فإنهما لما رأيا ما يفعل بالحرم قاتلا حتى قتلا.
وكذلك فعل القاضي صدر الدين خان، ومن استسلم أخذ أسيراً، وألقوا النار في البلد، والمدارس، والمساجد، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال؛ ثم رحلوا نحو سمرقند وقد تحققوا عجز خوارزم شاه عنهم، وهم بمكانه بين ترمذ وبلخ، واستصحبوا معهم من سلم من أهل بخارى أسارى، فساروا بهم مشاة على أقبح صورة، فكل من أعيا وعجز عن المشي قتلوه، فلما قاربوا سمرقند قدموا الخيالة، وتركوا الرجالة والأسارى والأثقال وراءهم، حتى تقدموا شيئاً فشيئاً، ليكون أرعب لقلوب المسلمين؛ فلما رأى أهل البلد سوادهم استعظموه.
فلما كان اليوم الثاني وصل الأسارى والرجالة والأثقال، ومع كل عشرة من الأسارى علم، فظن أهل البلد أن الجميع عساكر مقاتلة، وأحاطوا بالبلد وفيه خمسون ألف مقاتل من الخوارزمية، وأما عامة البلد فلا يحصون كثرة، فخرج إليهم شجعان أهله، وأهل الجلد والقوة رجالة، ولم يخرج معهم من العسكر الخوارزمي أحد لما في قلوبهم من خوف هؤلاء الملاعين، فقاتلهم الرجالة بظاهر البلد، فلم يزل التتر يتأخرون، وأهل البلد يتبعونهم، ويطمعون فيهم، وكان الكفار قد كمنوا لهم كميناً، فلما جاوزوا الكمين خرج عليهم وحال بينهم وبين البلد، ورجع الباقون الذين أنشبوا القتال أولاً، فبقوا في الوسط، وأخذهم السيف من كل جانب، فلم يسلم منهم أحد؛ قتلوا عن آخرهم شهداء، رضي الله عنهم، وكانوا سبعين ألفاً على ما قيل.
فلما رأى الباقون من الجند والعامة ذلك ضعفت نفوسهم وأيقنوا بالهلاك، فقال الجند، وكانوا أتراكاً: نحن من جنس هؤلاء ولا يقتلوننا؛ فطلبوا الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، ففتحوا أبواب البلد، ولم يقدر العامة على منعهم، وخرجوا إلى الكفار بأهلهم وأموالهم، فقال لهم الكفار: ادفعوا إلينا سلاحكم وأموالكم ودوابكم ونحن نسيركم إلى مأمنكم؛ ففعلوا ذلك، فلما أخذوا أسلحتهم ودوابهم وضعوا السيف فيهم وقتلوهم عن آخرهم، وأخذوا أموالهم ودوابهم ونساءهم.
فلما كان اليوم الرابع نادوا في البلد أن يخرج أهله جميعهم، ومن تأخر قتلوه، فخرج جميع الرجال والنساء والصبيان، ففعلوا مع أهل سمرقند مثل فعلهم مع أهل بخارى من النهب، والقتل، والسبي، والفساد، ودخلوا البلد فنهبوا ما فيه، وأحرقوا الجامع وتركوا باقي البلد على حاله، وافتضوا الأبكار، وعذبوا الناس بأنواع العذاب في طلب المال، وقتلوا من لم يصلح للسبي، وكان ذلك في المحرم سنة سبع عشرة وستمائة.
وكان خوارزم شاه بمنزلته كلما اجتمع إليه عسكر سيره إلى سمرقند، فيرجعون ولا يقدرون على الوصول إليها، نعوذ بالله من الخذلان؛ سير مرة عشرة آلاف فارس فعادوا كالمنهزمين من غير قتال، وسير عشرين ألفاً فعادوا أيضاً.
ذكر مسير التتر الكفار إلى خوارزم شاه

وانهزامه وموته
لما ملك الكفار سمرقند عمد جنكزخان، لعنه الله، وسير عشرين ألف فارس، وقال لهم: اطلبوا خوارزم شاه أين كان، ولو تعلق بالسماء، حتى تدركوه وتأخذوه.
وهذه الطائفة تسميها التتر المغربة لأنها سارت نحو غرب خراسان ليقع الفرق بينهم وبين غيرهم منهم، لأنهم هم الذين أوغلوا في البلاد؛ فلما أمرهم جنكزخان بالمسير ساروا وقصدوا موضعاً يسمى بنج آب، ومعناه خمسة مياه، فوصلوا إليه، فلم يجدوا هناك سفينة، فعلموا من الخشب مثل الأحواض الكبار وألبسوها جلود البقر لئلا يدخلها الماء، ووضعوا فيها سلاحهم وأمتعتهم وألقوا الخيل في الماء، وأمسكوا أذنابها، وتلك الحياض التي من الخشب مشدودة إليهم، فكان الفرس يجذب الرجل والرجل يجذب الحوض المملوء من السلاح وغيره، فعبروا كلهم دفعة واحدة، فلم يشعر خوارزم شاه إلا وقد صاروا معه على أرض واحدة.

وكان المسلمون قد ملئوا منهم رعباً وخوفاً، وقد اختلفوا فيما بينهم، إلا أنهم كانوا يتماسكون بسبب أن نهر جيحون بينهم، فلما عبروه إليهم لم يقدروا على الثبات، ولا على المسير مجتمعين، بل تفرقوا أيدي سبا، وطلب كل طائفة منهم جهة، ورحل خوارزم شاه لا يلوي على شيء في نفر من خاصته، وقصدوا نيسابور، فلا دخلها اجتمع عليه بعض العسكر، فلم يستقر حتى وصل أولئك التتر إليها.
وكانوا لا يتعرضون في مسيرهم لشيء لا بنهب ولا قتل بل يجدون السير في طلبه لا يمهلونه حتى يجمع لهم، فلما سمع بقربهم منه رحل إلى مازندران، وهي له أيضاً، فرحل التتر المغربون في أثره، ولم يعرجوا على نيسابور بل تبعوه، فكان كلما رحل عن منزلة نزلوها، فوصل إلى مرسى من بحر طبرستان يعرف بباب سكون، وله هناك قلعة في البحر، فلما نزل هو وأصحابه في السفن وصلت التتر، فلما رأوا خوارزم شاه وقد دخل البحر وقفوا على ساحل البحر، فلما أيسوا من لحاق خوارزم شاه رجعوا، فهم الذين قصدوا الري وما بعدها، على ما نذكره إن شاء الله.
هكذا ذكر لي بعض الفقها ممن كان ببخارى وأسروه معهم إلى سمرقند، ثم نجا منهم ووصل إلينا، وذكر غيره من التجار أن خوارزم شاه سار من مازندان حتى وصل إلى الري، ثم منها إلى همذان، والتتر في أثره، ففارق همذان في نفر يسير، جريدة، ليستر نفسه ويكتم خبر، وعاد إلى مازندران وركب في البحر إلى هذه القلعة.
وكان هذا هو الصحيح، فإن الفقيه كان حينئذ مأسوراً، وهؤلاء التجار أخبروا أنهم كانوا بهمذان، ووصل خوارزم شاه، ثم وصل بعده من أخبره بوصول التتر، ففارق همذان، وكذلك أيضاً هؤلاء التجار فارقوها، ووصل التتر إليها بعدهم ببعض نهار، فهم يخبرون عن مشاهدة؛ ولما وصل خوارزم شاه إلى هذه القلعة المذكورة توفي فيها.
ذكر صفة خوارزم شاه وشيء من سيرتههو علاء الدين محمد بن علاء الدين تكش، وكان مدة ملكه إحدى وعشرين سنة وشهوراً تقريباً، واتسع ملكه، وعظم محله، وأطاعه العالم بأسره، ولم يملك بعد السلجوقية أحد مثل ملكه، فإنه ملك من حد العراق إلى تركستان، وملك بلاد غزنة وبعض الهند، وملك سجستان وكرمان وطبرستان وجرجان وبلاد الجبال وخراسان وبعض فارس، وفعل بالخطا الأفاعيل العظيمة، وملك بلادهم.
وكان فاضلاً، عالماً بالفقه والأصول وغيرهما، وكان مكرماً للعلماء محباً لهم محسناً إليهم، يكثر مجالستهم ومناظراتهم بين يديه، وكان صبوراً على التعب وإدمان السير، وغير متنعم، ولا مقبل على اللذات، إنما همه في الملك وتدبيره، وحفظه ورعاياه؛ وكان معظماً لأهل الدين، مقبلاً عليهم، متبركاً بهم.
حكى لي بعض خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عاد من خراسان، قال: وصلت إلى خوارزم، فنزلت ودخلت الحمام، ثم قصدت باب السلطان علاء الدين، فحين حضرت لقيني إنسان، فقال: ما حاجتك؟ فقلت له: أنا من خدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأمرني بالجلوس، وانصرف عني قليلاً، ثم عاد إلي وأخذني وأدخلني إلى دار السلطان، فتسلمني منه حاجب من حجاب السلطان، وقال لي: قد أعلمت السلطان خبرك فأمر بإحضارك عنده؛ فدخلت إليه وهو جالس في صدر إيوان كبير، فحين توسطت صحن الدار قام قائماً، ومشى إلى بين يدي، فأسرعت السير فلقيته في وسط الإيوان، فأردت أن أقبل يده، فمنعني، واعتقني، وجلس وأجلسني إلى جانبه، وقال لي: أنت تخدم حجرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقلت: نعم؛ فأخذ يدي وأمرها على وجهه، وسألني عن حالنا وعيشنا، وصفة المدينة، ومقدارها، وأطال الحديث معين فلما خرجت من عنده قال: لولا أننا على عزم السفر هذه الساعة لما ودعتك، إنا نريد أن نعبر جيحون إلى الخطا، وهذا طريق مبارك حيث رأينا من يخدم حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم؛ وثم ودعني وأرسل إلي جملة كثيرة من النفقة، ومضى، وكان منه ومن الخطا ما ذكرناهن وبالجملة فاجتمع فيه ما تفرق في غيره من ملوك العالم، رحمه الله، ولو أردنا ذكر مناقبه لطال ذلك.
ذكر استيلاء التتر المغربة على مازندران

لما أيس التتر المغربة من إدراك خوارزم شاه، عادوا فقصدوا بلاد مازندران، فملكوها في أسرع وقت، مع حصانتها وصعوبة الدخول إليها، وامتنا قلاعها، فإنها لم تزل ممتنعة قديمة الزمان وحديثة، حتى إن المسلمين لما ملكوا بلاد الأكاسرة جميعها، من العراق إلى أقاصي خراسان، بقيت أعمال مازندران يؤخذ منهم الخراج، ولا يقدرون على دخول البلاد، إلى أن ملكت أيام سليمان بن عبد الملك سنة تسعين، وهؤلاء الملاعين ملكوها صفواً عفواً لأمر يريده الله تعالى.
ولما ملكوا بلد مازندران قتلوا، وسبوا، ونهبوا، وأحرقوا البلاد، ولما فرغوا من مازندران سلكوا نحو الري، فرأوا في الطريق والدة خوارزم شاه ونساءه، وأموالهم، وذخائرهم التي لم يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة، وكان سبب ذلك أن والدة خوارزم شاه لما سمعت بما جرى على ولدها خافت، ففارقت خوارزم وقصدت نحو الري لتصل إلى أصفهان وهمذان وبلد الجبل تمتنع فيها، فصادفوها في الطريق، فأخذوها وما معها قبل وصولهم إلى الري، فكان فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم، وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع، ونفيس من الجواهر، وغير ذلك، وسيروا الجميع إلى جنكزخان بسمرقند.
ذكر وصول التتر إلى الري وهمذانفي سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر، لعنهم الله، إلى الري في طلب خوارزم شاه محمد، لأنهم بلغهم أنه مضى منهزماً منهم نحو الري، فجدوا السير في أثره، وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين والكفار، وكذلك أيضاً من المفسدين من يريد النهب والشر، فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها، فلم يشعروا بهم إلا وقد وصلوا إليها، وملكوها، ونهبوها، وسبوا الحريم، واستقرقوا الأطفال، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها، ولم يقيموا، ومضوا مسرعين في طلب خوارزم شاه، فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها، وفعلوا في الجميع أضعاف ما فعلوا في الري، وأحرقوا، وخربوا ووضعوا السيف في الرجال والنساء والأطفال، فلم يبقوا على شيء.
وتموا على حالهم إلى همذان، وكان خوارزم شاه قد وصل إليها في نفر من أصحابه، ففارقها وكان آخر العهد به، فلا يدرى ما كان منه فيما حكاه بعضهم عنه، وقيل غير ذلك، وقد ذكرناه.
فلما قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال والثياب والدواب وغير ذلك، يطلب الأمان لأهل البلد، فأمنوهم، ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك؛ وساروا ووصلوا إلى قزوين، فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم، فقاتلوهم، وجدوا في قتالهم، ودخلوها عنوة بالسيف، فاقتتلوا هم وأهل البلد في باطنه، حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين، فقتل من الفريقين ما لا يحصى، ثم فارقوا قزوين، فعد القتلى من أهل قزوين، فزادوا على أربعين ألف قتيل.
ذكر وصول التتر إلى أذربيجانلما هجم الشتاء على التتر في همذان، وبلد الجبل، رأوا برداً شديداً، وثلجاً متراكماً، فساروا إلى أذربيجان، ففعلوا في طريقهم بالقرى والمدن الصغار من القتل والنهب مثل ما تقدم منهم، وخربوا وأحرقوا، ووصلوا إلى تبريز وبها صاحب أذربيجان أوزبك بن البهلوان، فلم يخرج إليهم، ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلاً ونهاراً لا يخرج إليهم، ولا حدث نفسه بقتالهم لاشتغاله بما هو بصدده من إدمان الشرب ليلاً ونهاراً لا يفيق، وإنما أرسل إليهم وصالحهم على مال، وثياب، ودواب، وحمل الجميع إليهم، فساروا من عنده يريدون ساحل البحر، لأنه يكون قليل البرد، ليشتوا عليه والمراعي به كثيرة لأجل دوابهم، فوصلوا إلى موقان، تطرقوا في طريقهم إلى بلاد الكرج، فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر، نحو عشرة آلاف مقاتل، فقاتلوهم، فانهزمت الكرج، وقتل أكثرهم.

وأرسل الكرج إلى أوزبك، صاحب أذربيجان، يطلبون منه الصلح والاتفاق معهم على دفع التتر، فاصطلحوا ليجتمعوا إذا انحسر الشتاء؛ وكذلك أرسلوا إلى الملك الأشرف ابن الملك العادل، صاحب خلاط وديار الجزيرة، يطلبون منه الموافقة عليهم، وظنوا جميعهم أن التتر يصبرون في الشتاء إلى الربيع، فلم يفعلوا كذلك، بل تحركوا وساروا نحو بلاد الكرج، وانضاف إليهم مملوك تركي من مماليك أوزبك، اسمه أقوش، وجمع أهل تلك الجبال والصحراء من التركمان والأكراد وغيرهم، فاجتمع معه خلق كثير؛ وراسل التتر في الانضمام إليهم، فأجابوه إلى ذلك، ومالوا إليه للجنسية، فاجتمعوا وساروا في مقدمة التتر إلى الكرج، فملكوا حصناً من حصونهم وخربوه، ونهبوا البلاد وخربوها، وقتلوا أهلها، ونهبوا أموالهم، حتى وصلوا إلى قرب تفليس.
فاجتمعت الكرج وخرجت بحدها وحديدها إليهم، فلقيهم أقوش ألاً فيمن اجتمع إليه، فاقتتلوا قتالاً شديداً صبروا فيه كلهم، فقتل من أسحاب أقوش خلق كثير، وأدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال، وقتل منهم أيضاً كثير، فلم يثبتوا للتتر، وانهزموا أقبح هزيمة، وركبهم السيف من كل جانب، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة، وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه السنة ونهبوا من البلاد ما كان سلم منهم.
ولقد جرى لهؤلاء التتر ما لم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه: طائفة تخرج من حدود الصين لا تنقضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية من هذه الناحية، ويجاوزوا العراق من ناحية همذان، وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا، إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى يجيء بعدنا، إذا بعد العهد، ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها، ويستبعدها، والحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أننا سطرنا نحن، وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة، استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها، يسر اله للمسلمين والإسلام من يحفظهم ويحوطهم، فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه وفرجه، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي، صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن.
هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ما وراء النهر وملكوها وخربوها، وناهيك به سعة بلاد، وتعدت هذه الطائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك، ثم إلى الري وبلد الجبل وأذربيجان، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم.
والعدو الآخر الفرنج قد ظهروا من بلادهم في أقصى بلاد الروم، بين الغرب والشمال، ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط، وأقاموا فيها، ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها، ولا إخراجهم منها، وباقي ديار مصر على خطر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزم شاه محمداً قد عدم لا يعرف حقيقة خبره، فتارة يقال مات عند همذان وأخفي موته، وتارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك وأخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره، وتارة يقال عاد إلى طبرستان وركب البحر، فتوفي في جزيرة هناك، وبالجملة فقد عدم، ثم صح موته ببحر طبرستان، وهذا عظيم، إن مثل خراسان وعراق العجم أصبح سائباً لا مانع له، ولا سلطان يدفع عنه، والعدو يجوس البلاد، يأخذ ما أراد ويترك ما أراد، على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوا كل ما مروا عليه، وأحرقوه، ونهبوه، وما لا يصلح لهم أحرقوه، فكانوا يجمعون الإبريسم تلالاً ويلقون فيه النار، وكذلك غيره من الأمتعة.
؟؟

ذكر ملك التتر مراغة
في صفر سنة ثماني عشرة وستمائة ملك التتر مدينة مراغة من أذربيجان.

وسبب ذلك أننا ذكرنا سنة سبع عشرة وستمائة ما فعله التتر بالكرج، وانقضت تلك السنة وهم في بلاد الكرج، فلما دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية، ومضايق تحتاج إلى قتال وصراع، فعدلوا عنهم، وهذه كانت عادتهم، إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعاً عدلوا عنها، فوصلوا إلى تبريز، وصانعهم صاحبها بمال وثياب ودواب، فساروا عنه إلى مدينة مراغة، فحصروها وليس بها صاحب يمنعها، لأن صاحبها كانت امرأة، وهي مقيمة بقلعة رويندز، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
فلما حصروها قاتلهم أهلها، فنصبوا عليها المجانيق، وزحفوا إليها، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون ويقاتلون، فإن عادوا قتلوهم، فكانوا يقاتلون كرهاً، وهم المساكين، كما قيل: (كالأشقر إن تقدم ينحر وإن تأخر يعقر)؛ وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين، فيكون القتل في المسلمين الأسارى، وهم بنجوة منه.
فأقاموا عليها عدة أيام، ثم ملكوا عنوة وقهراً رابع صفر، ووضعوا السيف في أهلها، فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء، ونهبوا كل ما يصلح لهم، وما لا يصلح لهم أحرقوه، واختفى بعض الناس منهم، فكانوا يأخذون الأسارى ويقولون لهم: نادوا في الدرب أن التتر قد رحلوا؛ فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ ويقتل.
وبلغني أن امرأة من التتر دخلت داراً وقتلت جماعة من أهلها وهم يظنونها رجلاً، فوضعت السلاح وإذا هي امرأة، فقتلها رجل أخذته أسيراً؛ وسمعت من بعض أهلها أن رجلاً من التتر دخل درباً فيه مائة رجل، فما زال يقتلهم واحداً واحداً حتى أفناهم، ولم يمد أحد يده إليه بسوء، ووضعت الذلة على الناس فلا يدفعون عن نفوسهم قليلاً ولا كثيراً، نعوذ بالله من الخذلان.
ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل، ووصل الخبر إلينا بذلك بالموصل، فخفنا، حتى إن بعض الناس هم بالجلاء خوفاً من السيف، وجاءت كتب مظفر الدين، صاحب إربل، إلى بدر الدين، صاحب الموصل، يطلب منه نجدة من العساكر، فسير إليه جمعاً صالحاً من عسكره، وأراد أن يمضي إلى طرف بلاده من جهة التتر، ويحفظ المضايق لئلا يجوزها أحد، فإنها جميعها جبال وعرة ومضايق لا يقدر أن يجوزها إلا الفارس بعد الفارس، ويمنعهم من الجواز إليه.
ووصلت كتب الخليفة ورسله إلى الموصل وإلى مظفر الدين يأمر الجميع بالاجتماع مع عساكره بمدينة دقوقا لمنعوا التتر، فإنهم ربما عدلوا عن جبال إربل، لصعوبتها، إلى هذه الناحية، ويطرقون العراق، فسار مظفر الدين من إربل في صفر، وسار إليهم جمع من عسكر الموصل، وتبعهم من المتطوعة كثير.
وأرسل الخليفة أيضاً إلى الملك الأشرف يأمره بالحضور بنفسه في عساكره ليجتمع الجميع على قصد التتر وقتالهم، فاتفق أن الملك المعظم ابن الملك العادل وصل من دمشق إلى أخيه الأشرف وهو بحران يستنجده على الفرنج الذين بمصر، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليسروا كلهم إلى مصر ليستنقذوا دمياط من الفرنج، فاعتذر إلى الخليفة بأخيه، وقوة الفرنج، وإن لم يتداركها، وإلا خرجت هي وغيرها، وشرع يتجهز للمسير إلى الشام ليدخل مصر. وكان ما ذكرناه من استنقاذ دمياط.
فلما اجتمع مظفر الدين والعساكر بدقوقا سير الخليفة إليهم مملوكه قشتمر، وهو أكبر أمير بالعراق، ومعه غيره من الأمراء، في نحو ثماني مائة فارس، فاجتمعوا هناك ليتصل بهم باقي عسكر الخليفة، وكان المقدم على الجميع مظفر الدين، فلما رأى قلة العسكر لم يقدم على قصد التتر.
وحكى مظفر الدين قال: لما أرسل إلي الخليفة في معنى قصد التتر قلت له: إن العدو قوي، وليس لي من العسكر ما ألقاه به، فإن اجتمع معي عشرة آلاف فارس استنقذت ما أخذ من البلاد؛ فأمرين بالمسير، ووعدني بوصول العسكر، فلما سرت لم يحضر عندي غير عدد لم يبلغوا ثماني مائة طواشي، فأقمت، وما رأيت المخاطرة بنفسي وبالمسلمين.
ولما سمع التتر باجتماع العساكر لهم رجعوا القهقرى ظناً منهم أن العسكر يتبعهم، فلما لم يروا أحداً يطلبهم أقاموا، وأقام العسكر الإسلامي عند دقوقا، فلما لم يروا العدو يقصدهم، ولا المدد يأتيهم، تفرقوا، وعادوا إلى بلادهم.
ذكر ملك التتر همذان وقتل أهلها

لما تفرق العسكر الإسلامي عاد التتر إلى همذان، فنزلوا بالقرب منها، وكان لهم بها شحنة يحكم فيها، فأرسلوا إليه ليطلب من أهلها مالاً وثياباً، وكانوا قد استنقذوا أموالهم في طول المدة. وكان رئيس همذان شريفاً علوياً، وهو من بيت رئاسة قديمة لهذه المدينة، هو الذي يسعى في أمورهم أهل البلد مع التتر، ويوصل إليهم ما يجمعه من الأموال؛ فلما طلبوا الآن منهم المال لم يجد أهل همذان ما يحملونه إليهم، فحضروا عند الرئيس ومعه إنسان فقيه قد قام في اجتماع الكلمة على الكفار قياماً مرضياً، فقالوا لهما: هؤلاء الكفار قد أفنوا أموالنا، ولم يبق لنا ما نعطيهم، وقد هلكنا من أخذهم أموالنا، وما يفعله النائب عنهم بنا من الهوان.
وكانوا قد جعلوا بهمذان شحنة لهم يحكم في أهلها بما يختاره، فقال الشريف: إذا كنا نعجز عنهم فكيف الحيلة؟ فليس لنا إلا مصانعتهم بالأموال؛ فقالوا له: أنت أشد علينا من الكفار! وأغلظوا له في القول، فقال: أنا واحد منكم، فاصنعوا ما شئتم. فأشار الفقيه بإخراج شحنة التتر من البلد والامتناع فيه، ومقاتلة التتر؛ فوثب العامة على الشحنة فقتلوه وامتنعوا في البلد؛ فتقدم التتر إليهم وحصروهم، وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها، لخرابها، وقتل أهلها، وجلاء من سلم منهم، فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلاً؛ وأما التتر فلا يبالون بعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم، ولا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض، حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها.
فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها والرئيس والفقيه في أوائلهم، فقتل من التتر خلق كثير، وجرح الفقيه عدة جراحات، وافترقوا، ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا أشد من القتال الأول، وقتل أيضاً من التتر أكثر من اليوم الأول، وجرح الفقيه أيضاً عدة جراحات وهو صابر؛ وأرادوا أيضاً الخروج، اليوم الثالث، فلم يطق الفقيه الركوب، وطلب الناس الرئيس العلوي فلم يجدوه، كان قد هرب في سرب صنعه إلى ظاهر البلد هو وأهله إلى قلعة هناك على جبل عال فامتنع فيها.
فلما فقده الناس بقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون، إلا أنهم اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن يموتوا، فأقاموا في البلد ولم يخرجوا منه.
وكان التتر قد عزموا على الرحيل عنهم لكثرة من قتل منهم؛ فلما لم يروا أحداً خرج إليهم من البلد طمعوا واستدلوا على ضعف أهله، فقصدوهم وقاتلوهم في رجب من سنة ثماني عشرة وستمائة، ودخلوا المدينة بالسيف، وقاتلهم الناس في الدروب، فبطل السلاح للزحمة، واقتتلوا بالسكاكين، فقتل من الفريقين ما لا يحصيه إلا الله تعالى، وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلاً، ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقاً يختفي فيه، وبقي القتل في المسلمين عدة أيام، ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه ورحلوا عنه إلى مدينة أردويل.
وقيل كان السبب في ملكها أن أهل البلد لما شكوا إلى الرئيس الشريف ما يفعل بهم الكفار، أشار عليهم بمكاتبة الخليفة لينفذ إليهم عسكراً مع أمير يجمع كلمتم، فاتفقوا على ذلك، فكتب إلى الخليفة ينهي إليه ما هم عليه من الخوف والذل، وما يركبهم به العدو من الصغار والخزي، ويطلب نجدة ولو ألف فارس مع أمير يقاتلون معه ويجتمعون عليه؛ فلما سار القصاد بالكتب أرسل بعض من علم بالحال إلى التتر يعلمهم ذلك، فأرسلوا إلى الطريق فأخذوهم، وأخذوا الكتب منهم، وأرسلوا إلى الرئيس ينكرون عليه الحال، فجحد، فأرسلوا إليه كتبه وكتب الجماعة، فسقط في أيديهم، وتقدم إليهم التتر حينئذ وقاتلوهم، وجرى في القتال كما ذكرنا.
ذكر مسير التتر إلى أذربيجان

وملكهم أردويل وغيرها
لما فرغ التتر من همذان ساروا إلى أذربيجان، فوصلوا إلى أردويل فملكوها وقتلوا فيها وأكثروا، وخربوا أكثرها، وساروا منها إلى تبريز، وكان قد قام بأمرها شمس الدين الطغرائي، وجمع كلمة أهلها، وقد فارقها صاحبها أوزبك بن البهلوان، وكان أميراً متخلفاً، لا يزال منهمكاً في الخمر ليلاً ونهاراً، يبقى الشهر والشهرين لا يظهر، وإذا سمع هيعة طار مجفلاً له، وله جميع أذربيجان وأران، وهو أعجز خلق الله عن حفظ البلاد من عدو يريدها ويقصدها.

فلما سمع بمسير التتر من همذان فارق هو تبريز وقصد نقجوان، وسير أهله ونساءه إلى خوي ليبعد عنهم، فقام هذا الطغرائي بأمر البلد، وجمع الكلمة وقوى نفوس الناس على الامتناع، وخذرهم عاقبة التخاذل والتواني، وحصن البلد بجهده وطاقته؛ فلما قاربه التتر، وسمعوا بما أهل البلد عليه من اجتماع الكلمة على قتالهم، وأنهم قد حصنوا المدينة، وأصلحوا أسواها وخندقها، أرسلوا يطلبون منهم مالاً وثياباً، فاستقر الأمر بينهم عل قدر معلوم من ذلك، فسيروه إليهم، فأخذوه ورحلوا إلى مدينة سراو فنهبوها، وقتلوا كل من فيها.
ورحلوا منها إلى بيلقان، من بلاد أران، فنهبوا كل ما مروا به من البلاد والقرى، وخربوا، وقتلوا من ظفروا به من أهلها، فلما وصولا إلى بيلقان حصروها، فاستدعى أهلها منهم رسولاً يقرون معه الصلح، فأرسلوا إليهم رسولاً من أكابرهم ومقدميهم، فقتله أهل البلد، فزحف التتر إليهم وقاتلوهم، ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثماني عشرة ووضعوا فيهم السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير، ولا امرأة، حتى إنهم كانوا يشقون بطون الحبالى، ويقتلون الأجنة، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها، وكان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة، فيقتلهم واحداً بعد واحد حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم إليه يداً.
فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها بالنهب والتخريب، وساروا إلى مدينة كنجة، وهي أم بلاد أران، فعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم لكثرة ذريتهم بقتال الكرج، وحصانتها، فلم يقدموا عليها، فساروا إلى أهلها يطلبون منهم المال والثياب، فحملوا إليهم ما طلبوا، فساروا عنهم.
ذكر قصد التتر بلاد الكرجلما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان وأران، بعضه بالملك، وبعضه بالصلح، ساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضاً، وكان الكرج قد أعدوا لهم، واستعدوا، وسيروا جيشاً كثيراً إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها، فوصل إليهم التتر، فالتقوا، فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين، فأخذهم السيف، فلم يسلم منهم إلا الشريد.
ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً، ونهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم، وخربوها، وفعلوا بها ما هو عادتهم، فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمعوا جموعاً أخرى وسيرهم إلى التتر أيضاً ليمنعوهم من توسط بلادهم، فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك، فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس، فأخلوا البلاد، ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب، والقتل، والتخريب، ورأوا بلاداً كثيرة المضايق والدربندات، فلم يتجاسروا على الوغول فيها، فعادوا عنها.
وداخل الكرج منهم خوف عظيم، حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج، قدم رسولاً، أنه قال: من حدثكم أن التتر انهزموا وأسروا فلا تصدقوه، وإذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا، فإن القوم لا يفرون أبداً، ولقد أخذنا أسيراً منهم، فألقى نفسه من الدابة وضرب رأسه بالحجر إلى أن مات، ولم يسلم نفسه للأسر.
ذكر وصولهم إلى دربند شروان

وما فعلوه فيه
لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا دربند شروان، فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها، فصبروا على الحصر، ثم إن التتر صعدوا سورها بالسلاليم، وقيل بل جمعوا كثيراً من الجمال والبقر والغنم وغير ذلك، ومن قتلى الناس منهم ومن غيرهم، وألقوا بعضه فوق بعض، فصار مثل التل، وصعدوا عليه فأشرفوا على المدينة وقاتلوا أهلها، فصبروا، واشتد القتال ثلاثة أيام، فأشرفوا على أن يؤخذوا، فقالوا: السيف لا بد منه، فالصبر أولى بنا نموت كراماً.
فصبوا تلك الليلة، فأنتنت تلك الجيف وانهضمت، فلم يبق للتتر على السور استعلاء، ولا تسلط على الحرب، فعاودوا الزحف وملازمة القتال، فضجر أهلها، ومسهم التعب والكلال والإعياء، فضعفوا، فملك التتر البلد، وقتلوا فيه فأكثروا، ونهبوا الأموال فاحتازوها.

فلما فرغوا منه أرادوا عبور الدربند، فلم يقدروا على ذلك، فأرسلوا رسولاً إلى شروان شاه ملك دربند شروان يقولون له ليرسل إليهم رسولاً يسعى بينهم في الصلح، فأرسل عشرة رجال من أعيان أصحابه، فأخذوا أحدهم فقتلوه، ثم قالوا للباقين: إن أنتم عرفتمونا طريقاً نعبر فيه فلكم الأمان، وإن لم تفعلوا قتلناكم كما قتلنا هذا. فقالوا لهم: إن هذا الدربند ليس فيه طريق البتة، ولكن فيه موضع هو أسهل ما فيه من الطرق؛ فساروا معهم إلى ذلك الطريق، فعبروا فيه، وخلفوه وراء ظهورهم.
ذكر ما فعلوه باللان وقفجاق لما عبر التتر دربند شروان ساروا في تلك الأعمال، وفيها أمم كثيرة منهم: اللان واللكز، وطوائف من الترك، فنهبوا، وقتلوا من اللكز كثيراً، وهم مسلمون وكفار، وأوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد، ووصلوا إلى اللان، وهم أمم كثيرة، وقد بلغهم خبرهم، فحذروا، وجمعوا عندهم جمعاً من قفجاق، فقاتلوهم، فلم تظفر أحدى الطائفتين بالأخرى، فأرسل التتر إلى قفجاق يقولون: نحن وأنتم جنس واحد، وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم، ولا دينكم مثل دينهم، ونحن نعاهدكم أننا لا نتعرض لكم، ونحمل إليكم من الأموال والثياب ما شئتم وتتركون بيننا وبينهم.
فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه وثياب وغير ذلك، فحملوا إليهم ما استقر وفارقهم قفجاق فأوقع التتر باللان، فقتلوا منهم وأكثروا ونهبوا، وسبوا، وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح، فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول، وأخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم، وسمع من كان بعيد الدار من قفجاق الخبر، ففروا من غير قتال، وأبعدوا، فبعضهم اعتصم بالغياض، وبعضهم بالجبال، وبعضهم لحق ببلاد الروس.
وأقام التتر في بلاد قفجاق، وهي أرض كثيرة المراعي في الشتاء والصيف، وفيها أماكن باردة في الصيف كثيرة المرعى، وأماكن حارة في الشتاء كثيرة المرعى، وهي غياض على ساحل البحر، ووصلوا إلى مدينة سوادق، وهي مدينة قفجاق التي منها مادتهم، فإنهم على بحر الخزر، والمراكب تصل إليها وفيها الثياب، فيشتري قفجاق منهم ويبيعون عليهم الجواري، والمماليك، والبرطاسي، والقندر، والسنجاب، وغير ذلك مما هو في بلادهم، وبحر الخزر هذا هو بحر متصل بخليج القسطنطينية.
ولما وصل التتر إلى سوادق ملكوها، وتفرق أهلها منها، فبعضهم صعد الجبال بأهله وماله، وبعضهم ركب البحر وسار إلى بلاد الروم التي بيد المسلمين من أولاد قلج أرسلان.
ذكر ما فعله التتر بقفجاق والروس لما استولى التتر على أرض قفجاق، وتفرق قفجاق، كما ذكرنا، سار طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس، وهي بلاد كثيرة، طويلة عريضة، تجاورهم، وأهلها يدينون بالنصرانية، فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم، واتفقت كلمتهم على قتال التتر إن قصدوهم، وأقام التتر بأرض قفجاق مدة، ثم إنهم ساروا سنة عشرين وستمائة إلى بلاد الروس، فسمع الروس وقفجاق خبرهم، وكانوا مستعدين لقتالهم، فساروا إلى طريق التتر ليلقوهم قبل أن يصلوا إلى بلادهم ليمنعوهم عنها، فبلغ مسيرهم إلى التتر، فعادوا على أعقابهم راجعين، فطمع الروس وقفجاق فيهم، وظنوا أنهم عادوا خوفاً منهم وعجزاً عن قتالهم، فجدوا في اتباعهم، ولم يزل التتر راجعين، وأولئك يقفون أثرهم، اثني عشر يوماً.
ثم إن التتر عطفوا على الروس وقفجاق، فلم يشعروا بهم إلا وقد لقوهم على غرة منهم، لأنهم كانوا قد أمنوا التتر، واستشعروا القدرة عليهم، فلم تتكامل عدتم للقتال إلا وقد بلغ التتر منهم مبلغاً عظيماً، فصبر الطائفتان صبراً لم يسمع بمثله.
ودام القتال بينهم عدة أيام، ثم إن التتر ظفروا واستظهروا، فانهزم قفجاق والروس هزيمة عظيمة بعد أن أثخن فيهم التتر، وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم إلا القليل، ونهب جميع ما معهم، ومن سلم وصل إلى البلاد على أقبح صورة لبعد الطريق والهزيمة، وتبعهم التتر يقتلون وينهبون ويخربون البلاد، حتى خلا أكثرها، فاجتمع كثير من أعيان تجار الروس وأغنيائهم وحملوا ما يعز عليهم، وساروا يقطعون البحر إلى بلاد الإسلام في عدة مراكب.

فلما قاربوا المرسى الذي يريدونه انكسر مركب من مراكبهم، فغرق إلا أن الناس نجوا، وكانت العادة جارية أن السلطان له كل مركب ينكسر، فأخذ من ذلك شيئاً كثيراً، وسلم باقي المراكب، وأخبر من بها بهذه الحال.
ذكر عود التتر من بلاد الروس

وقفجاق إلى ملكهم
لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه، ونهبوا بلادهم، عادوا عنها وقصدوا بلغار أواخر سنة عشرين وستمائة، فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع، وخرجوا إليهم فلقوهم، واستجروهم إلى أن جاوزوا موضع الكمناء، فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم، فبقوا في الوسط، وأخذهم السيف من كل ناحية، فقتل أكثرهم، ولم ينج منهم إلا القليل.
قيل: كانوا نحو أربعة آلاف رجل، فساروا إلى سقسين عائدين إلى ملكهم جنكزخان، وخلت أرض قفجاق منهم، فعاد من سلم منهم إلى بلادهم، وكان الطريق منقطعاً مذ دخلها التتر، فلم يصل منهم شيء من البرطاسي والسنجاب والقندر وغيرها مما يحمل من تلك البلاد، فلما فارقوها عادوا إلى بلادهم، واتصلت الطريق، وحملت الأمتعة كما كانت.
هذه أخبار التتر المغربة قد ذكرناها سياقة واحدة لئلا تنقطع.
ذكر ما فعله التتر بما وراء النهر بعد بخارى وسمرقندقد ذكرنا ما فعله التتر المغربة التي سيرها ملكهم جنكزخان، لعنه الله، إلى خوارزم شاه؛ وأما جنكزخان فإنه بعد أن سير هذه الطائفة إلى خوارزم شاه وبلغه انهزام خوارزم شاه من خراسان، قسم أصحابه عدة أقسام، فسير قسماً منها إلى بلاد فرغانة ليملكوها؛ وسيسر قسماً آخر منها إلى ترمذ؛ وسير قسماً منها إلى كلانة، وهي قلعة حصينة على جانب جيحون، من أحصن القلاع وأمنع الحصون، فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمرت بقصدها، ونازلتها، واستولت عليها، وفعلت من القتل، والأسر، والسبي، والنهب، والتخريب، وأنواع الفساد، مثل ما فعل أصحابها.
فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بسمرقند، فجهز جيشاً عظيماً مع أحد أولاده وسيرهم إلى خوارزم، وسير جيشاً فعبروا جيحون إلى خراسان.
ذكر ملك التتر خراسانلما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون، وقصدوا مدينة بلخ، فطلب أهلها الأمان، فأمنوهم، فسلم البلد سنة سبع عشرة وستمائة، ولم يتعرضوا له بنهب ولا قتل، بل جعلوا فيه شحنة وساروا وقصدوا الزوزان، وميمند، وأندخوي، وقاريات، فملكوا الجميع وجعلوا فيه ولاة، ولم يتعرضوا لأهلها بسوء ولا أذى، سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم، حتى وصلوا إلى الطالقان، وهي ولاية تشتمل على عدة بلاد، وفيها قلعة حصينة يقال لها منصوركوه، لا ترام علواً وارتفاعاً، وبها رجال يقاتلون، شجعان، فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلاً ونهاراً ولا يظفرون منها بشيء.
فأرسلوا إلى جنكزخان يعرفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة، لكثرة من فيها من المقاتلة، ولامتناعها بحصانتها، فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم، وحصرها، ومعه خلق كثير من المسلمين أسرى، فأمرهم بمباشرة القتال وإلا قتلهم، فقاتلوا معه، وأقام عليها أربعة أشهر أخرى فقتل من التتر عليها خلق كثير، فلما رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب والأخشاب ما أمكن جمعه، ففعلوا ذلك، وصاروا يعملون صفاً من خشب، وفوقه صفاً من تراب، فلم يزالوا كذلك حتى صار تلاً عالياً يوازي القلعة، وصعد الرجالة فوقه ونصبوا عليه منجنيقاً فصار يرمي إلى وسط القلعة وحملوا على التتر حملة واحدة فسلم الخيالة منهم ونجوا، وسلكوا تلك الجبال والشعاب.
وأما الرجالة فقتلوا، ودخل التتر القلعة، وسبوا النساء والأطفال، ونهبوا الأموال والأمتعة.
ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد الذين أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها، وسيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو، فوصلوا إليها وقد اجتمع بها من الأعراب والأتراك وغيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد على مائتي ألف رجل، وهم معسكرون بظاهر مرو، وهم عازمون على لقاء التتر، ويحدثون نفوسهم بالغلبة لهم، والاستيلاء عليهم؛ فلما وصل التتر إليهم التقوا واقتتلوا، فصبر المسلمون؛ وأما التتر فلا يعرفون الهزيمة، حتى إن بعضهم أسر، فقال وهو عند المسلمين: إن قيل إن التتر يقتلون فصدقوا، وإن قيل إنهم انهزموا فلا تصدقوا.

فلما رأى المسلمون صبر التتر وإقدامهم، ولو منهزمين، فقتل التتر منهم وأسروا الكثير، ولم يسلم إلا القليل، ونهبت أموالهم، وسلاحهم، ودوابهم، وأرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو، فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو وحصروها، وجدوا في حصرها، ولازموا القتال.
وكان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر، وكثرة القتل والأسر فيهم، فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أسل التتر إلى الأمي الذي بها متقدماً على من فيها يقولون له: لا تهلك نفسك وأهل البلد، واخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة ونرحل عنك؛ فأرسل يطلب الأمان لنفسه ولأهل البلد، فأمنهم، فخرج إليهم، فخلع عليه ابن جنكزخان، واحترمه، وقال له: أريد أن تعرض علي أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه، وأعطيناه إقطاعاً، ويكون معنا.
فلما حضروا عنده، وتمكن منهم، قبض عليهم وعلى أميرهم، وكتفوهم؛ فلما فرغ منهم قال لهم: اكتبوا إلى تجار البلد ورؤسائه، وأرباب الأموال في جريدة، واكتبوا إلى أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى، واعرضوا ذلك علينا؛ ففعلوا ما أمرهم، فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهليهم، فخرجوا كلهم، ولم يبق فيه أحد، فجلس على كرسي من ذهب وأمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم، فأحضروا، وضربت رقابهم صبراً والناس ينظرون إليهم ويبكون.
وأما العامة فإنهم قسموا الرجال والنساء والأطفال والأموال، فكان يوماً مشهوداً من كثرة الصراخ والبكاء والعويل، وأخذوا أرباب الأموال فضربوهم، وعذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال، فربما مات أحدهما من شدة الضرب، ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه، ثم إنهم أحرقوا البلد، وأحرقوا تربة السلطان سنجر، ونبشوا القبر طلباً للمال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة، وقال: هؤلاء عصوا علينا، فقتلوهم أجمعين؛ وأمر بإحصاء القتلى، فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل، فإنا لله وإنا إليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم.
ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام، وبها جمع صالح من العسكر الإسلامي، فلم يكن لهم بالتتر قوة، فملكوا المدينة، وأخرجوا أهلها إلى الصحراء فقتلوهم، وسبوا حريمهم، وعاقبوا من اتهموه بالمال، كما فعلوا بمرو، وأقاموا خمسة عشر يوماً يخربون، ويفتشون المنازل عن الأموال.
وكانوا لما قتلوا أهل مرو قيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير، ونجوا إلى بلاد الإسلام، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد، فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس، ففعلوا بها كذلك أيضاً، وخربوها وخربوا المشهد الذي فيه علي بن موسى الرضى، والرشيد، حتى جعلوا الجميع خراباً.
ثم ساروا إلى هراة، وهي من أحصن البلاد، فحصروها عشرة أيام فملكوها وأمنوا أهلها، وقتلوا منهم البعض، وجعلوا عند من سلم منهم شحنة، وساروا إلى غزنة، فلقيهم جلال الدين بم خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم على ما نذكره إن شاء الله، فوثب أهل هراة على الشحنة فقتلوه، فلما عاد المنهزمون إليهم دخلوا البلد قهراً وعنوة، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا الأموال وسوبا الحريم، ونهبوا السواد وخربوا المدينة جميعها وأحرقوها، وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان، ففعلوا بها كذلك، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد، وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة.
ذكر ملكهم خوارزم وتخريبهاوأما الطائفة من الجيش التي سيرها جنكزخان إلى خوارزم، فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلد، فساروا حتى وصلوا إلى خوارزم وفيها عسكر كبير، وأهل البلد معروفون بالشجاعة والكثرة، فقاتلوهم أشد قتال سمع به الناس، ودام الحصر لهم خمسة أشهر، فقتل من الفريقين خلق كثير، إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر لأن المسلمين كان يحميهم السور.

فأرسل التتر إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد، فأمدهم بخلق كثير، فلما وصلوا إلى البلد زحفوا زحفاً متتابعاً، فملكوا طرفاً منه، فاجتمع أهل البلد وقاتلوهم في طرف الموضع الذي ملكوا، فلم يقدروا على إخراجهم، ولم يزالوا يقاتلونهم، والتتر يملكون منهم محلة بعد محلة، وكلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم، فكان الرجال والنساء والصبيان يقاتلون، فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه، وقتلوا كل من فيه، ونهبوا كل ما فيه؛ ثم إنهم فتحوا السكر الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء، فغرق البلد جميعه، وتهدمت الأبنية، وبقي موضعه ماء، ولم يسلم من أهله أحد البتة، فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله، منهم من يختفي، ومنهم من يهرب، ومنهم من يخرج ثم يسلم، ومنهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو؛ وأما أهل خوارزم فمن اختفى من التتر غرقه الماء، أو قتله الهدم، فأصبحت خراباً يباباً:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وهذا لم يسمع بمثله في قديم الزمان وحديثه، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الخذلان بعد النصر، فلقد عمت هذه المصيبة الإسلامية وأهله، فكم من قتيل من أهل خراسان وغيرها، لأن القاصدين من التجار وغيرهم كانوا كثيراً، مضى الجميع تحت السيف.
ولما فرغوا من خراسان وخوارزم عادوا إلى ملكهم بالطالقان.
ذكر ملك التتر غزنة وبلاد الغورلما فرغ التتر من خراسان وعادوا إلى ملكهم جهز جيشاً كثيفاً وسيره إلى غزنة وبها جلال الدين بن خوارزم شاه مالكاً لها، وقد اجتمع إليه من سمل من عسكر أبيه، قيل: كانوا ستين ألفاً، فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خوارزم شاه إلى موضع يقال له بلق، فالتقوا هناك واقتتلوا قتالاً شديداً، وبقوا كذلك ثلاثة أيام، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم التتر وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا، ومن سلم منهم عاد إلى ملكهم بالطالقان، فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي الذي عندهم للتتر فقتلوه، فسير إليهم جنكزخان عسكراً فملكوا البلد وخربوه كما ذكرناه.
فما انهزم التتر أرسل جلال الدين رسولاً إلى جنكزخان يقول له: في أي موضع تريد أن يكون الحرب حتى نأتي أليه؟ فجهز جنكزخان عسكراً كثيراً، أكثر من الأول مع بعض أولاده، وسيره إليه، فوصل إلى كابل، فتوجه العسكر الإسلامي إليهم، وتصافوا هناك، وجرى بنيهم قتال عظيم، فانهزم الكفار ثانياً، فقتل كثير منهم، وغنم المسلمون ما معهم، وكان عظيماً؛ وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير، فاستنقذوهم وخلصوهم.
ثم إن المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل الغنيمة، وسبب ذلك أن أميراً منهم يقال له سيف الدين بغراق، أصله من الأتراك الخلج، كان شجاعاً مقداماً، ذا رأي في الحرب ومكيدة، واصطلى الحرب مع التتر بنفسه، وقال العسكر جلال الدين: تأخروا أنتم فقد ملثم منهم رعباً؛ وكان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير، فاستنقذوهم وخلصوهم.
وكان من المسلمين أيضاً أمير كبير يقال له ملك خان، بينه وبين خوارزم شاه نسب، وهو صاحب هراة، فاختلف هذان الأميران في الغنيمة، فاقتتلوا، فقتل بينهم أخ لبغراق. فقال بغراق: أنا أهزم الكفار ويقتل أخي لأجل هذا السحت! فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند، فتبعه من العسكر ثلاثون ألفاً كلهم يريدونه، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق، وسار بنفسه إليه، وذكره الجهاد، وخوفه من الله تعالى، وبكى بين يديه، فلم يرجع، وسار مفارقاً، فانكسر لذلك المسلمون وضعفوا.
فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكزخان قد وصل في جموعه وجيوشه، فلما رأى جلال الدين ضعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر، ولم يقدر على المقام، سار نحو بلاد الهند، فوصل إلى ماء السند، وهو نهر كبير، فلم يجد من السفن ما يعبر فيه.

وكان جنكزخان يقص أثره مسرعاً، فلم يتمكن جلال الدين من العبور، حتى أدركه جنكزخان في التتر، فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال والصبر لتعذر العبور عليهم، وكانوا في ذلك كالأشقر إن تأخر يقتل وإن تقدم يعقر، فتصافوا واقتتلوا أشد قتال، اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال، فبقوا كذلك ثلاثة أيام، فقتل الأمير ملك خان المقدم ذكره وخلق كثير، وكان القتل في الكفار أكثر، و الجراح أعظم، فرجع الكفار عنهم، فأبعدوا، ونزلوا على بعد، فلما رأى المسلمون أنهم لا مدد لهم، وقد ازدادوا ضعفاً بمن قتل منهم وجرح، ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك، أرسلوا يطلبون السفن، فوصلت، وعبر المسلمون ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فلما كان الغد عاد الكفار إلى غزنة، وقد قويت نفسوهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم، فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العسكر والمحامي، فقتلوا أهلها، ونهبوا الأموال، وسبوا الحريم، ولم يبق أحد، وخربوها وأحرقوها، وفعلوا بسوادها كذلك، ونهبوا وقتلوا وأحرقوا، فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس، خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس.
ذكر تسليم الأشرف خلاط إلى أخيه

شهاب الدين غازي
أواخر هذه السنة أقطع الملك الأشرف موسى بن العادل مدينة خلاط وجميع الأعمال: أرمينية، ومدينة ميافارقين من ديار بكر، ومدينة حاني، أخاه شهاب الدين غازي بن العادل، وأخذ منه مدينة الرها، ومدينة سروج من بلاد الجزيرة، وسيره إلى خلاط أول سنة ثماني عشرة وستمائة.
وسب ذلك أن الكرج لما قصد التتر بلادهم وهزموهم، ونهبوها، وقتلوا كثيراً من أهلها، أرسلوا إلى أوزبك، صاحب أذربيجان وأران، يطلبون منه المهادنة والموافقة على دفع التتر، وأرسلوا إلى الملك الأشرف في هذا المعنى، وقالوا للجميع: إن لم توافقونا على قتال هؤلاء القوم ودفعهم عن بلادنا، وتحضروا بنفوسكم وعساكركم لهذا المهم، وإلا صالحناهم عليكم.
فوصلت رسلهم إلى الأشرف وهو يتجهز إلى الديار المصرية لأجل الفرنج، وكانوا عنده أهم الوجوه، لأسباب: أولها أن الفرنج كانوا قد ملكوا دمياط، وقد أشرفت الديار المصرية على أن تملك، فلو ملكوها لم يبق بالشام ولا غيره معهم ملك لأحد.
وثانيها أن الفرنج أشد شكيمة، وطالبوا ملك، فإذا ملكوا قرية لا يفارقونها إلا بعد أن يعجزوا عن حفظها يوماً واحداً.
وثالثها أن الفرنج قد طمعوا في كرسي مملكة البيت العادلي، وهي مصر، والتتر لم يصلوا إليها، ولم يجاوزوا شيئاً من بلادهم، وليسوا أيضاً ممن يريد المنازعة في الملك، وما غرضهم إلا النهب، والقتل، وتخريب البلاد، والانتقال من بلد إلى آخر.
فلما أتاه رسل الكرج بما ذكرناه، أجابهم يعتذر بالمسير إلى مصر لدفع الفرنج، ويقول لهم: إنني قد أقطعت ولاية خلاط لأخي، وسيرته إليها ليكون بالقرب منكم، وتركت عنده العساكر، فمتى احتجتم إلى نصرته حضر لدفع التتر؛ وسار هو إلى مصر كما ذكرناه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك بدر الدين قلعة تل أعفر.
وفيها، في جمادى الأولى، ملك الأشرف مدينة سنجار.
وفيها أيضاً وصل الموصل، وأقام بظاهرها، ثم سار يريد إربل لقصد صاحبها، فترددت الرسل بينهم في الصلح، فاصطلحوا في شعبان، وقد تقدم هذا جميعه مفصلاً سنة خمس عشرة وستمائة.
وفيها وصل التتر الري فملكوها وقتلوا كل من فيها، ونهبوها، وساروا عنها، فوصلوا إلى همذان، فلقيهم رئيسها بالطاعة والحمل، فأبقوا على أهلها وساروا إلى أذربيجان، فخربوا، وحرقوا البلاد، وقتلوا، وسبوا، وعملوا ما لم يسمع بمثله، وقد تقدم أيضاً مفصلاً.
وفيها توفي نصير الدين ناصر بن مهدي العلوي الذي كان وزير الخليفة، وصلي عليه بجامع القصر، وحضره أرباب الدولة ودفن بالمشهد.
وفيها توفي صدر الدين أبو الحسن محمد بن حموية الجويني، شيخ الشيوخ بمصر والشام، وكان موته بالموصل وردها رسولاً، وكان فقيهاً فاضلاً، وصوفياً صالحاً، من بيت كبير من خراسان، رحمه الله، كان نعم الرجل.

وفيها عاد جمع بني معروف إلى مواضعهم من البطيحة، وكانوا قد ساروا إلى الأجنا والقطيف، فلم يمكنهم المقام لكثرة أعدائهم، فقصدوا شحنة البصرة، وطلبوا منه أن يكاتب الديوان ببغداد بالرضى عنهم، فكتب معهم بذلك وسيرهم مع أصحابه إلى بغداد، فلما قاربوا واسط لقيهم قاصد من الديوان بقتلهم، فقتلوا.
؟

ثم دخلت سنة ثماني عشرة وستمائة
ذكر وفاة قتادة أمير مكة
وملك ابنه الحسن وقتل أمير الحاج
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، توفي قتادة بن إدريس العلوي، ثم الحسني، أمير مكة، حرسها الله، بها، وكان عمره نحو تسعين سنة، وكانت ولايته قد اتسعت من حدود اليمن إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وله قلعة ينبع بنواحي المدينة، وكثر عسكره، واستكثر من المماليك، وخافه العرب في تلك البلاد خوفاً عظيماً.
وكان، في أول ملكه، لما ملك مكة، حرسها الله، حسن السيرة أزال عنها العبيد المفسدين، وحمى البلاد، وأحسن إلى الحجاج، وأكرمهم، وبقي كذلك مدة، ثم إنه بعد ذلك أساء السيرة، وجدد المكوس بمكة، وفعل أفعالاً شنيعة، ونهب الحاج في بعض السنين كما ذكرناه.
ولما مات ملك بعده ابنه الحسن، وكان له ابن آخر اسمه راجح، مقيم في العرب بظاهر مكة، يفسد، وينازع أخاه في ملك مكة، فلما سار حاج العراق كان الأمير عليهم مملوكاً من مماليك الخليفة الناصر لدين الله اسمه أقباش، وكان حسن السيرة مع الحاج في الطريق، كثير الحماية، فقصده راجح ابن قتادة، وبذل له وللخليفة مالاً ليساعده على ملك مكة، فأجابه إلى ذلك، ووصولا إلى مكة، ونزلوا بالزاهر، وتقدم إلى مكة مقاتلاً لصاحبها حسن.
وكان حسن قد جمع جموعاً كثيرة من العرب وغيرها، فخرج إليه من مكة وقاتله، وتقدم أمير الحاج من بين يدي عسكره منفرداً، وصعد الجبل إدلالاً بنفسه، وأنه لا يقدم أحد عليه، فأحاط به أصحاب حسن، وقتلوه، وعلقوا رأسه، فانهزم عسكر أمير المؤمنين، وأحاط أصحاب حسن بالحاج لينهبوهم، فأرسل إليهم حسن عمامته أماناً للحجاج، فعاد أصحابه ولم ينهبوا منهم شيئاً وسكن الناس، وأذن لهم حسن في دخول مكة وفعل ما يريدونه من الحج والبيع وغير ذلك، وأقاموا بمكة عشرة أيام، وعادوا، فوصلوا إلى العراق سالمين، وعظم الأمر على الخليفة، فوصلت رسل حسن يعتذرون، ويطلبون العفو عنه، فأجيب إلى ذلك.
وقيل في موت قتادة: إن ابنه حسناً خنقه فمات؛ وسبب ذلك أن قتادة جمع جموعاً كثيرة وسار عن مكة يريد المدينة، فنزل بوادي الفرع وهو مريض، وسير أخاه على الجيش ومعه ابنه الحسن بن قتادة، فلما أبعدوا بلغ الحسن أن عمه قال لبعض الجند: إن أخي مريض، وهو ميت لا محالة؛ وطلب منهم أن يحلفوا له ليكون هو الأمير بعد أخيه قتادة، فحضر الحسن عند عمه، واجتمع إليه كثير من الأجناد والمماليك الذي لأبيه، فقال الحسن لعمه: قد فعلت كذا وكذا، فقال: لم أفعل؛ فأمر حسن الحاضرين بقتله، فلم يفعلوا، وقالوا: أنت أمير وهذا أمير، ولا نمد أيدينا إلى أحدكما. فقال له غلامان لقتادة: نحن عبيدك، فمرنا بما شئت؛ فأمرهم أن يجعلا عمامة عمه في عنقه، ففعلا، ثم قتله.
فسمع قتادة الخبر، فبلغ منه الغيظ كل مبلغ، وحلف ليقتلن ابنه، وكان على ما ذكرناه من المرض، فكتب بعض أصحابه إلى الحسن يعرفه الحال، ويقول له: ابدأ به قبل أن يقتلك؛ فعاد الحسن إلى مكة، فلما وصلها قصد دار أبيه في نفر يسير فوجد على باب الدار جمعاً كثيراً، فأمرهم بالانصراف إلى منازلهم، ففارقوا الدار وعادوا إلى مساكنهم، ودخل الحسن إلى أبيه، فلما رآه أبوه شمته، وبالغ في ذمه وتهديده، فوثب إليه الحسن فخنقه لوقته، وخرج إلى الحرم الشريف، وأحضر الأشراف، وقال: إن أبي قد اشتد مرضه، وقد أمركم أن تحلفوا لي أن أكون أنا أميركم؛ فحلفوا له، ثم إنه أظهر تابوتاً ودفنه ليظن الناس أنه مات، وكان قد دفنه سراً.
فلما استقرت الإمارة بمكة له أرسل إلى أخيه الذي بقلعة الينبع على لسان أبيه يستدعيه، وكتم موت أبيه عنه، فلما حضر أخوه قتله أيضاً، واستقر أمره، وثبت قدمه، وفعل بأمير الحاج ما تقدم ذكره، فارتكب عظيماً: قتل أباه وعمه وأخاه في أيام يسيرة، لا جرم لم يمهله الله، سبحانه وتعالى، نزع ملكه، وجعله طريداً شريداً خائفاً يترقب.

وقيل إن قتادة كان يقول شعراً، فمن ذلك أنه طلب ليحضر عند أمير الحاج، كما جرت عادة أمراء مكة، فامتنع، فعوتب من بغداد، فأجاب بأبيات شعر منها:
ولي كف ضرغام أدل ببطشها ... وأشري بها بين الورى وأبيع
تظل ملوك الأرض تلثم ظهرها ... وفي وسطها للمجدبين ربيع
أأجعلها تحت الرحا ثم أبتغي ... خلاصاً لها؟ إني إذاً لرقيع!
وما أنا إلا المسك في كل بلدة ... يضوع، وأما عندكم فيضيع
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعاد المسلمون مدينة دمياط بالديار المصرية من الفرنج، وقد تقدم ذكرها مشروحاً مفصلاً.
وفيها، في صفر، ملك التتر مراغة وخربوها وأحرقوها وقتلوا أكثر أهلها ونهبوا أموالهم وسبوا حريمهم.
وسار التتر منها إلى همذان وحصروها، فقاتلهم أهلها وظفر بهم التتر منهم ما لا يحصى، ونهبوا البلد.
وساروا إلى أذربيجان فاعادوا النهب، ونهبوا ما بقي من البلاد، ولم ينهبوه أولاً.
ووصلوا إلى بيلقان من بلاد أران، فحصروها وملكوها وقتلوا أهلها حتى كادوا يفنونهم ونهبوا أموالهم، وساروا إلى بلاد الكرج من أذربيجان وأران، فلقيهم خلق كثير من الكرج فقاتلوهم وانهزم الكرج وكثر القتل فيهم ونهب أكثر بلادهم وقتل أهلها، وساروا من هناك إلى دربند شروان، فحصروا مدينة شماخي وملكوها، وقتلوا كثيراً من أهلها.
وساروا إلى بلد اللان واللكز ومن عندهم من الأمم، فأوقعوا، ورحلوا عن فقجاق، وأجلوهم عنها، واستولوا عليها، وساحوا في تلك الأرض حتى وصولا إلى بلاد الروس، وقد تقدم ذكر جميعه مستقصى، وإنما أوردناه هاهنا جملة ليعلم الذي كان في هذه السنة من حوادثهم.
وفيها توفي صديقنا أمين الدين ياقوت الكاتب الموصلي، ولم يكن في زمانه من يكتب ما يقاربه، ولا من يؤدي طريقة ابن البواب مثله؛ وكان ذا فضائل جمة من علم الأدب وغيره، وكان كثير الخير، نعم الرجل، مشهوراً في الدنيا، والناس متفقون على الثناء الجميل عليه والمدح له، ولهم فيه أقوال كثيرة نظماً ونثراً، فمن ذلك ما قاله نجيب الدين الحسين بن علي الواسطي من قصيدة يمدحه بها:
جامع شارد العلوم ولولا ... ه لكانت أم الفضائل ثكلى
ذو يراع تخاف سطوته الأس ... د وتعنو له الكتائب ذلاً
وإذا افتر ثغره عن سواد ... في بياض فالبيض والسمر خجلى
أنت بدر والكاتب ابن هلال ... كأبيه لا فخر فيمن تولى
ومنها:
إن يكن أولاً، فإنك بالتف ... ضيل أولى، لقد سبقت وصلى
وهي طويلة، والكاتب ابن هلال هو ابن البواب الذي هو أشهر من أن يعرف.
وفيها توفي جلال الدين الحسن، وهو من أولاد الحسن بن الصباح، الذي تقدم ذكره، صاحب الموت وكردكوه، وهو مقدم الإسماعيلية؛ وقد ذكرنا أنه كان قد أظهر شريعة الإسلام من الأذان والصلاة، وولي بعد ابنه علاء الدين محمد.
ثم دخلت سنة تسع عشرة وستمائة

ذكر خروج طائفة من قفجاق إلى أذربيخان
وما فعلوه بالكرج وما كان منهم
في هذه السنة اجتمع طائفة كثيرة من القفجاق وفارقوا بلادهم لما استولى عليها التتر، وساروا إلى دربند شروان، وأرسلوا إلى صاحبه، واسمه رشيد، وقالوا له: إن التتر قد ملكوا بلادنا، ونهبوا أموالنا، وقد قصدناك لنقيم في بلادك، ونحن مماليك لك، ونفتح البلاد لك، وأنت سطاننا؛ فمنعهم من ذلك وخافهم، فأعادوا الرسالة إليه: إننا نحن نرهن عندك أولادنا ونساءنا على الطاعة والخدمة لك، والانقياد لحكمك؛ فلم يجبهم إلى ما طلبوا، فسألوه أن يمكنهم ليتزودوا من بلده، تدخل عشرة عشرة، فإذا اشتروا ما يحتاجون إليه فارقوا بلاده، فأجابهم إلى ذلك، فصاروا يدخلون متفرقين، ويشترون ما يريدون، ويخرجون.

ثم إن بعض كبرائهم والمقدمين منهم جاء إلى رشيد وقال: إنني كنت في خدمة السلطان خوارزم شاه، وأنا مسلم، والدين يحملني على نصحك؛ اعلم أن قفجاق أعداؤك، ويريدون الغدر بك، فلا تمكنهم من المقام ببلادك، فأعطني عسكراً حتى أقاتلهم وأخرجهم من البلاد. ففعل ذلك، وسلم إليه طائفة من عسكره، وأعطاهم ما يحتاجون إليه من سلاح وغيره، فساروا معه، فأوقعوا بطائفة من قفجاق، فقتل منهم جماعة ونهب منهم، فلم يتحرك قفجاق لقتال بل قالوا: نحن مماليك الملك شروان شاه رشيد، ولولا ذلك لقاتلنا عسكره؛ فلما عاد ذلك المقدم القفجاقي ومعه عسكر رشيد سالمين، فرح بهم.
ثم إن قفجاق فارقوا موضعهم، فساروا ثلاثة أيام فقال ذلك القفجاقي لرشيد: أريد عسكراً أتبعهم؛ فأمر له من العسكر بما أراد، فسار يقفو أثر القفجاق، فأوقع بأواخرهم، وغنم منهم.
وقصده جمع كثير من قفجاق من الرجال والنساء يبكون، وقد جزوا شعورهم، ومعهم تابوت، وهم محيطون به يبكون حلوه، وقالوا له: إن صديقك فلاناً مات، وقد أوصى أن نحمله إليك فتدفنه في أي موضع شئت، ونكون نحن عندك؛ فحمله معه والذين يبكون عليه أيضاً، وعاد إلى شروان شاه رشيد، وأعلمه أن الميت صديق له، وقد حمله معه، وقد طلب أهله أن يكونوا عنده في خدمته، فأمر أن يدخلوا البلد، وأنزلهم فيه.
فكان أولئك الجماعة يسيرون مع ذلك المقدم، ويركبون بركوبه، ويصعدون معه إلى القلعة التي لرشيد، ويقعدون عنده، ويشربون معه هم ونساؤهم، فأحب رشيد امرأة ذلك الرجل الذي قيل له: إنه ميت، ولم يكن مات، وإنما فعلوا هكذا مكيدة حتى دخلوا البلد والذي أظهروا موته معهم في المجلس، ولا يعرفه رشيد، وهو من أكبر مقدمي قفجاق، فبقوا كذلك عدة أيام، فكل يوم يجيء جماعة من قفجاق متفرقين، فاجتمع بالقلعة منهم جماعة، وأرادوا قبض رشيد وملك بلاده، ففطن لذلك، فخرج عن القلعة من باب السر، وهرب ومضى إلى شروان. وملك قفجاق القلعة، وقالوا لأهل البلد: نحن خير لكم من رشيد؛ وأعادوا باقي أصحابهم إليهم، وأخذوا السلاح الذي في البلد جميعه، واستولوا على الأموال التي كانت لرشيد في القلعة، ورحلوا عن القلعة، وقصدوا قبلة، وهي للكرج، فنزلوا عليها وحصروها.
فلما سمع رشيد بمفارقتهم القلعة رجع إليها وملكها، وقتل من بها من قفجاق، ولم يشعر القفجاق الذين عند قبلة بذلك، فأرسلوا طائفة منهم إلى القلعة، فقتلهم رشيد أيضاً، فبلغ الخبر إلى القفجاق، فعادوا إلى دربند، فلم يكن لهم في القلعة طمع.
وكان صاحب قبلة، لما كانوا يحصرونه، قد أرسل إليهم، وقال لهم: أنا أرسل إلى ملك الكرج حتى يرسل إليكم الخلع والأموال، ونجتمع نحن وأنتم ونملك البلاد، فكفوا عن نهب ولايته أياماً، ثم إنهم مدوا أيديهم بالنهب والفساد، ونهبوا بلاد قبلة جميعها، وساروا إلى قرب كنجة من بلاد أران، وهي للمسلمين، فنزلوا هناك، فأرسل إليهم الأمير بكنجة، وهو مملوك لأوزبك صاحب أذربيجان اسمه كوشخرة، عسكراً فمنعهم من الوصول إلى بلاده، وسير رسولاً إليهم يقول لهم: غدرتم بصاحب شروان، وأخذتم قلعته، وغدرتم بصاحب قبلة، ونهبتم بلاده، فما يثق بكم أحد؛ فأجابوا: إننا ما جئنا إلا قصداً لخدمة سلطانكم، فمنعنا شروان شاه عنكم، فلهذا قصدنا بلاده، وأخذنا قلعته، ثم تركناها من غير خوف؛ وأما صاحب قبلة فهو عدوكم وعدونا، ولو أردنا أن نكون عند الكرج لما كنا جعلنا طريقنا على دربند شروان، فإنه أصعب وأشق وأبعد، وكنا جئنا إلى بلادهم على عادتنا ونحن نوجه الرهائن إليكم.
فلما سمع كوشخرة هذا سار إليهم، فسمع به قفجاق، فركب أميران منهم، هما مقدماهم، في نفر يسير، وجاءوا إليه ولقوه وخدموه، وقالوا له: قد أتيناك جريدة في قلة من العدد لتعلم أننا ما قصدنا إلا الوفاء والخدمة لسلطانكم، فأمرهم كوشخرة بالرحيل والنزول عند كنجة، وتزوج ابنه أحدهم، وأرسل إلى صاحبه وأزبك يعرفه حالهم، فأمر لهم بالخلع النزول بجبل كيلكون، ففعلوا ذلك.

وخافهم الكرج، فجمعوا لهم ليكبسوهم، فوصل الخبر بذلك إلى كوشخرة أمير كنجة، فأخبر قفجاق، وأمرهم بالعود والنزول عند كنجة، فعادوا ونزلوا عندها، وسار أمير من أمراء قفجاق في جمع منهم إلى الكرج، فكبسهم، وقتل كثيراً منهم، وهزمهم، وغنم ما معهم، وأكثر القتل فيهم والأسر منهم، وتمت الهزيمة عليهم، ورجع قفجاق إلى جبل كيلكون، فنزلوا فيه كما كانوا.
فلما نزلوا أراد الأمير الآخر من أمراء قفجاق أن يؤثر في الكرج مثل ما فعل صاحبه، فسمع كوشخرة، فأرسل إليه ينهاه عن الحركة إلى أن يكشف له خبر الكرج، فلم يقف، فسار إلى بلادهم في طائفته، ونهب وخرب وأخذ الغنائم، فسار الكرج في طريق يعرفونها وسبقوه، فلما وصل إليهم قاتلوه، وحملوا عليه وعلى من معه على غرة وغفلة، فوضعوا السيف فيهم، وأكثروا القتل فيهم، واستنقذوا الغنائم منه، فعاد هو ومن معه على أقبح حالة، وقصدوا برذعة.
وأرسلوا إلى كوشخرة يطلبون أن يحضر عندهم هو بنفسه وعسكره ليقصدوا الكرج فيأخذوا بثأرهم منهم، فلم يفعل، وأخافهم، وقال: أنتم خالفتموني، وعملتم برأيكم، فلا أنجدكم بفارس واحد؛ فأرسلوا يطلبون الرهائن الذين لهم، فلم يعطهم، فاجتمعوا وأخذوا كثيراً من المسلمين عوضاً من الرهائن، فثأر بهم المسلمون من أهل البلاد، وقاتلوهم، فقتلوا منهم جماعة كثيرة، فخافوا، وساروا نحو شروان، وجازوا إلى بلد اللكز، فطمع الناس فيهم، المسلمون والكرج واللكز وغيرهم، فأفنوهم قتلاً ونهباً وأسراً وسبياً بحيث إن المملوك منهم كان يباع في دربند شروان بالثمن البخس.
ذكر نهب الكرج بيلقانفي هذه السنة، في شهر رمضان، سار الكرج من بلادهم إلى بلاد أران وقصدوا مدينة بيلقان، وكان التتر قد خربوها، ونهبوها كما ذكرناه قبل، فلما سرا التتر إلى بلاد قفجاق عاد من سلم من أهلها إليها، وعمروا ما أمكنهم عمارته من سورها.
فبينما هم كذلك إذ أتاهم الكرج ودخلوا البلد وملكوه. وكان المسلمون في تلك البلاد ألفوا من الكرج أنهم إذا ظفروا ببلد صانعوه بشيء من المال فيعودون عنهم، فكانوا أحسن الأعداء مقدرة؛ فلما كانت هذه الدفعة ظن المسلمون أنهم يفعلون مثل ما تقدم، فلم يبالغوا في الامتناع منهم، ولا هربوا من بين أيديهم، فلما ملك الكرج المدينة وضعوا السيف في أهلها، وفعلوا من القتل والنهب أكثر مما فعل بهم التتر.
هذا جميعه يجري، وصاحب بلاد أذربيجان أوزبك بن البهلوان بمدينة تبريز، ولا يتحرك في صلاح، ولا يتجه لخير بل قد قنع بالأكل وإدمان الشرب والفساد، فقبحه الله، ويسر للمسلمين من يقوم بنصرهم وحفظ بلادهم بمحمد وآله.
ذكر ملك بدر الدين قلعة شوشفي هذه السنة ملك بدر الدين، صاحب الموصل، قلعة شوش من أعمال الحميدية، وبينها وبين الموصل اثنا عشر فرسخاً.
وسبب ذلك أنها كانت هي وقلعة العقر متجاورتين لعماد الدين زنكي ابن أرسلان شاه، وكان بينهما من الخلف ما تقدم ذكره.
فلما كان هذه السنة سار زنكي إلى أذربيجان ليخدم صاحبها أوزبك ابن البهلوان، فاتصل به، وصار معه، وأقطعه إقطاعات، وأقام عنده، فسار بدر الدين إلى قلعة شوش فحاصرها، وضيق عليها، وهي على راس جبل عال فطال مقامه عليها لحصانتها، فعاد إلى الموصل، وترك عسكره محاصراً لها، فلما طال الأمر على من بها، ولم يروا من يرحله عنهم، ولا من ينجدهم، سلموها على قاعدة استقرت بينهم، من أقطاع وخلع وغير ذلك، فتسلمها نوابه في التاريخ، ورتبوا أمورها وعادوا إلى الموصل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في العشرين من شعبان، ظهر كوكب في السماء في الشرق، كبير له ذؤابة طويلة غليظة، وكان طلوعه وقت السحر، فبقي كذلك عشرة أيام، ثم إنه ظهر أول الليل في الغرب مما يلي الشمال، فكان كل ليلة يتقدم إلى جهة الجنوب نحو عشرة أذرع في رأي العين، فلم يزل يقرب من الجنوب حتى صار غرباً محضاً، ثم صار غرباً مائلاً إلى الجنوب، بعد أن كان غرباً مما يلي الشمال، فبقي كذلك إلى آخر شهر رمضان من السنة ثم غاب.
وفيها توفي ناصر الدين محمود بن محمد قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا وآمد، وكان ظالماً قبيح السيرة في ريعته. قيل: إنه كان يتظاهر بمذهب الفلاسفة في أن الأجساد لا تحشر؛ كذبوا لعنهم الله. ولما مات ملك ابنه الملك المسعود.
ثم دخلت سنة عشرين وستمائة

ذكر ملك صاحب اليمن مكة
حرسها الله تعالى
في هذه السنة سار الملك المسعود أتسز ابن الملك الكامل محمد، صاحب مصر، إلى مكة وصاحبها حينئذ حسن بن قتادة بن إديس، العلوي الحسيني، قد ملكها بعد أبيه، كما ذكرناه.
وكان حسن قد أساء إلى الأشراف والمماليك الذين كانوا لأبيه، وقد تفرقوا عنه، ولم يبق عنده غير أخواله من غيره، فوصل صاحب اليمن إلى مكة، ونهبها عسكره إلى العصر.
فحدثني بعض المجاورين المتأهلين أنهم نهبوها، حتى أخذوا الثياب عن الناس، وأفقروهم، وأمر صاحب اليمن أن ينبش قبر قتادة ويحرق، فنبشوه، فظهر التابوت الذي دفنه انبه الحسن والناس ينظرون إليه، فلم يروا فيه شيئاً، فعلموا حينئذ أن الحسن دفن أباه سراً، وأنه لم يجعل في التابوت شيئاً.
وذاق الحسن عاقبة قطيعة الرحم، وعجل الله مقابلته، وأزال عنه ما قتل أباه وأخاه وعمه لأجله؛ خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين.
ذكر حرب بين المسلمين والكرج بأرمينيةفي هذه السنة، في شعبان، سار صاحب قلعة سرماري، وهي من أعمال أرمينية إلى خلاط، لأنه كان في طاعة صاحب خلاط، وهو حينئذ شهاب الدين غازي بن العادل أبي بكر بن أيوب، فحضر عنده، واستخلف ببلده أميراً من أمرائه، فجمع هذا الأمير جمعاً وسار إلى بلاد الكرج، فنهب منها عدة قرى وعاد.
فسمعت الكرج بذلك، فجمع صاحب دوين، واسمه شلوة، وهو من أكابر أمراء الكرج، عسكره وسار إلى سرماري فحضرها أياماً، ونهب بلدها وسوادها ورجع.
فسمع صاحب سرماري الخبر، فعاد إلى سرماري، فوصل إليها في اليوم الذي رحل الكرج عنها، فأخذ عسكره وتبعهم، فأوقع بساقتهم، فقتل منهم وغنم، واستنقذ بعض ما أخذوا من غنائم بلاده.
ثم إن صاحب دوين جمع عسكره وسار إلى سرماري ليحصرها، فوصل الخبر إلى صاحبها بذلك، فحصنها، وجمع الذخائر وما يحتاج إليه، فأتاه من أخبره أن الكرج نزلوا بوادي بني دوين وسرماري، وهو وادي ضيق، فسار بجميع عسكره جريدة، وجد السير ليكبس الكرج، فوصل إلى الوادي الذي هم فيه وقت السحر، ففرق عسكره فرقتين: فرقة من أعلى الوادي، وفرقة من أسفله، وحملوا عليهم وهم غافلون، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا وأسروا، فكان في جملة الأسرى شلوة أمير دوين، في جماعة كثيرة من مقدميهم، ومن سلم من الكرج عاد إلى بلدهم على حال سيئة.
ثم إن ملك الكرج أرسل إلى الملك الأشرف موسى بن العادل، صاحب ديار الجزيرة، وهو الذي أعطى خلاط وأعمالها الأمير شهاب الدين، يقول له: كنا نظن أننا صلح، والآن فقد عمل صاحب سرماري هذا العمل، فإن كنا على الصلح فنريد إطلاق أصحابنا من الأسر، وإن كان الصلح قد انفسخ بيننا فتعرفنا حتى ندبر أمرنا.
فأرسل الأشرف إلى صاحب سرماري يأمره بإطلاق الأسرى وتجديد الصلح مع الكرج، ففعل ذلك واستقرت قاعدة الصلح، وأطلق الأسرى.
ذكر الحرب بين غياث الدين وخالهفي هذه السنة في جمادى الآخرة، انهزم إيغان طائيسي، وهو خال غياث الدين بن خوارزم شاه محمد بن تكش، وغياث الدين هذا هو صاحب بلاد الجبل والري وأصبهان وغير ذلك، وله أيضاً بلاد كرمان.
وكان سبب ذلك أن خاله إيغان طائيسي كان معه، وفي خدمته، وهو أكبر أمير معه لا يصدر غياث الدين إلا عن رأيه، والحكم إليه في جميع المملكة، فلما عظم شأنه حدث نفسه بالاستيلاء على الملك، وحسن له ذلك غيره، وأطمعه فيه، قيل: إن الخليفة الناصر لدين الله أقطعه البلاد سراً، وأمره بذلك، فقويت نفسه على الخلاف، فاستفسد جماعة من العسكر واستمالهم.
فلما تم له أمره أظهر الخلاف على غياث الدين، وخرج عن طاعة أوزبك، وصار في البلاد يفسد، ويقطع الطريق، وينهب ما أمكنه من القرى وغيرها. وانضاف إليه جمع كثير من أهل العنف والفساد، ومعه مملوك آخر اسمه أيبك الشامي، وساروا جميعهم إلى غياث الدين ليقاتلوه ويملكوا بلاده ويخرجوه منها، فجمع غياث الدين عسكره والتقوا بنواحي ..... واقتتلوا، فانهزم خال غياث الدين ومن معه، وقتل من عسكره وأسر كثير، وعاد المنهزمون إلى أذربيجان على أقبح حال، وأقام غياث الدين في بلاده وثبت قدمه.
حادثة غريبة لم يوجد مثلها

كان أهل المملكة في الكرج لم يبق منهم غير امرأة، وقد انتهى الملك إليها فوليته، وقامت بالأمر فيهم، وحكمت، فطلبوا لها رجلاً يتزوجها ويقوم بالملك نيابة عنها، ويكون من أهل بيت مملكة، فلم يكن فيهم من يصلح لهذا الأمر.
وكان صاحب أرزن الروم، هذا الوقت، هو مغيث الدين طغرل شاه بن قلج أرسلان بن مسعود قلج أرسلان، وبيته مشهور من أكابر ملوك الإسلام، وهم من الملوك السلجوقية، وله ولد كبير، فأرسل إلى الكرج يطلب الملكة لولده ليتزوجها، فامتنعوا من إجابته، وقالوا: لا نفعل هذا، لأننا لا يمكنا أن يملك أمرنا مسلم. فقال لهم: إن ابني يتنصر ويتزوجها؛ فأجابوه إلى ذلك، فأمر ابنه فتنصر ودان بالنصرانية، وتزوج الملكة، وانتقل إليها، وأقام عند الكرج حاكماً في بلادهم، واستمر على النصرانية، نعوذ بالله من الخذلان، ونسأله أن يجعل خير أعمالنا آخرها، وخير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاه.
ثم كانت هذه الملكة الكرجية تهوى مملوكاً لها، فكان زوجها يسمع عنها القبائح ولا يمكنه الكلام لعجزه، ثم إنه يوماً دخل عليها فرآها نائمة مع مملوكها في فراش، فأنكر ذلك وواجهها بالمنع منه، فقالت: إن رضيت بهذا، وإلا أنت أخبر. فقال: إنني لا أرضى بهذا، فنقلته إلى بلد آخر، ووكلت به من يمنعه من الحركة، وحجرت عليه، وأرسلت إلى بلد اللان وأحضرت رجلين كانا قد وصفا بحسن الصورة، فتزوجت أحدهما، فبقي معها يسيراً، ثم إنها فارقته، وأحضرت إنساناً آخر من كنجة، وهو مسلم، فطلبت منه أن يتنصر ليتزوجها، فلم يفعل، فأرادت أن تتزوجه وهو مسلم، فقام عليها جماعة من الأمراء، ومعهم إيواني، وهو مقدم العساكر الكرجية، فقالوا لها: قد افتضحنا بين الملوك بما تفعلين ثم تريدين أن يتزوجك مسلم، وهذا لا نمكن منه أبداً، والأمر بينهم متردد والرجل الكنجي عندهم لم يجبهم إلى الدخول في النصرانية وهي تهواه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان الجراد في أكثر البلاد، وأهلك كثيراً من الغلات والخضر بالعراق والجزيرة وديار بكر وكثير من الشام وغيرها.
وفيها، في رمضان، توفي عبد الرحمن بن هبة الله بن عساكر، الفقيه الشافعي الدمشقي، بها، وكان غزير العلم، عالماً بالمذهب، كثير الصلاح والزهد والخير، رحمه الله.
وفيها خرج العرب في خلق كثير على حجاج الشام، وأرادوا قطع الطريق عليهم وأخذهم، وكان الأمير على الحجاج شرف الدين يعقوب، بن محمد، وهو من أهل الموصل، أقام بالشام، وتقدم فيه، فمنعهم بالرغبة والرهبة، ثم صانعهم بمال وثياب وغير ذلك، فأعطى الجميع من ماله، ولم يأخذ من الحجاج الدرهم الفرد، وفعل فعلاً جميلاً. وكان عنده كثير من العلوم، ويرجع إلى دين متين.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وستمائة

ذكر عود طائفة من التتر إلى الري
وهمذان وغيرهما
أول هذه السنة وصل طائفة من التتر من عند ملكهم جنكزخان، وهؤلاء غير الطائفة الغربية التي ذكرنا أخبارها قبل وصول هؤلاء الري؛ وكان من سلم من أهلها قد عادوا إليها وعمروها، فلم يشعوا بالتتر إلا وقد وصلوا إليها، فلم يمتنعوا عنهم، فوضعوا في أهلها السيف وقتلوهم كيف شاؤوا، ونهبوا البلد وخربوه، وساروا إلى ساوة ففعلوا بها كذلك، ثم إلى قم وقاشان، وكانتا قد سلمتا من التتر أولاً، فإنهم لم يقربوهما، ولا أصاب أهلهما أذى، فأتاهما هؤلاء وملكوهما، وقتلوا أهلهما، وخربوها، وألحقوهما بغيرهما من البلاد الخراب.
ثم ساروا في البلاد يخربون ويقتلون وينهبون، ثم قصدوا همذان، وكان قد اجتمع بها كثير ممن سلم من أهلها، فأبادوهم قتلاً وأسراً ونهباً، وخربوا البلد.

وكانوا لما وصلوا إلى الري رأوا بها عسكراً كثيراً من الخوارزمية، فكبسوهم وقتلوا منهم، وانهزم الباقون إلى أذربيجان، فنزلوا بأطرافها، فلم يشعروا إلا والتتر أيضاً قد كبسوهم ووضوا السيف فيهم، فولوا منهزمين، فوصل طائفة منهم إلى تبريز، وأرسلوا إلى صاحبها أوزبك بن البهلوان يقولون: إن كنتم موافقنا فسلم إلينا من عندك من الخوارزمية، وإلا فعرفنا أنك غير موافق لنا، ولا في طاعتنا؛ فعمد إلى من عنده من الخوارزمية فقتل بعضهم وأسر بعضهم، وحمل الأسرى والرؤوس إلى التتر، وأنفذ معها من الأموال والثياب والدواب شيئاً كثيراً، فعادوا عن بلاده نحو خراسان، فعلوا هذا وليسوا في كثرة؛ كانوا نحو ثلاثة آلاف فارس، وكان الخوارزمية الذين انهزموا منهم نحو ستة آلاف راجل، وعسكر أوزبك أكثر من الجميع، ومع هذا فلم يحدث نفسه ولا الخوارزمية بالامتناع منهم.
نسأل الله أن ييسر للإسلام والمسلمين من يقوم بنصرتهم، فقد دفعوا إلى أمر عظيم من قتل النفوس، ونهب الأموال، واسترقاق الأولاد، وسبي الحريم وقتلهن، وتخريب البلاد.
ذكر ملك غياث الدين بلاد فارسقد ذكرنا أن غياث الدين بن خوارزم شاه محمد كان بالري، وله معها أصفهان وهمذان وما بينهما من البلاد، وله أيضاً بلاد كرمان، فلما هلك أبوه، كما ذكرناه، وصل التتر إلى بلاه، وامتنع بأصفهان، وحصره التتر فيها فلم يقدروا عليها، فلما فارق التتر بلاده، وساروا إلى بلاد قفجاق، عاد ملك البلاد وعمر ما أمكنه منها، وأقام بها إلى أواخر سنة عشرين وستمائة، وجرى له ما ذكرناه.
ففي آخر سنة عشرين وستمائة سار إلى بلا فارس فلم يشعر صاحبها، وهو أتابك سعد بن دكلا، إلا وقد وصل غياث الدين إلى أطراف بلاده، فلم يتمكن من الامتناع، فقصد قلعة إصطخر فاحتمى بها، وسار غياث الدين إلى مدينة شيراز، وهي كرسي مملكة فارس، وأكبرها وأعظمها، فملكها بغير تعب أو سنة إحدى وعشرين وستمائة، وبقي غياث الدين بها، واستولى على أكثر البلاد، ولم يبق بيد سعد إلا الحصون المنيعة.
فلما طال الأمر على سعد صالح غياث الدين على أن يكون لسعد من البلاد قسم اتفقوا عليه، ولغياث الدين الباقي، وأقام غياث الدين بشيراز، وازداد إقامة وعزماً على ذلك لما سمع أن التتر قد عادوا إلى الري والبلاد التي له وخربوها.
عصيان شهاب الدين على الملك الأشرف

ذكر عصيان شهاب الدين غازي على أخيه الملك الأشرف وأخذ خلاط منه
كان الملك الأشرف موسى بن العادل أبي بكر بن أيوب قد أقطع أخاه شهاب الدين غازي مدينة خلاط وجميع أعمال أرمينية، وأضاف إليها ميافارقين وخاني وجبل جور، ولم يقنع بذلك حتى جعله ولي عهده في البلاد التي له جميعها، وحلف له جميع النواب والعساكر في البلاد.
فلما سلم إليه أرمينية سار إليها، كما ذكرناه، وأقام بها إلى آخر سنة عشرين وستمائة، فأظهر مغاضبة أخيه الملك الأشرف، والتجني عليه والعصيان، والخروج عن طاعته، فراسله الأشرف يستميله ويعاتبه على ما فعل، فلم يرعوا، ولا ترك ما هو عليه، بل أصر على ذلك، واتفق هو وأخوه المعظم عيسى، صاحب دمشق، ومظفر الدين بن زيد الدين، صاحب إربل، على الخلاف للأشرف، والاجتماع على محاربته، وأظهروا ذلك.
وعلم الأشرف فأرسل إلى أخيه الكامل بمصر يعرفه ذلك، وكانا متفقين، وطلب منه نجدة، فجهز العساكر وأرسل إلى أخيه، صاحب دمشق، يقول له: إن تحركت من بلدك سرت إليه وأخذته؛ وكان قد سار نحو ديار الجزيرة للميعاد الذي بينهم، فلما وصلت إليه رسالة أخيه، وسمع بتجهيز العساكر، وعاد إلى دمشق.
وأما صاحب إربل فإنه جمع العساكر وسار إلى الموصل، فكان منه ما نذكره إن شاء الله.
وأما الأشرف فإنه لما تيقن عصيان أخيه جمع العساكر من الشام، والجزيرة، والموصل، وسار إلى خلاط، فلما قرب منها خافه أخوه غازي، ولم يكن له قوة على أن يلقاه محارباً، ففرق عسكره في البلاد ليحصنها، وانتظر أخوه صاحب دمشق أن يسير صاحب إربل إلى ما يجاوره من الموصل وسنجار، وأن يسير أخوه إلى بلاد الأشراف عند الفرات: الرقة وحران وغيرهما، فيضطر الأشرف حينئذ إلى العود عن خلاط.

فسار الأشرف إليه، وقصد خلاط، وكان أهلها يريدونه، ويختارون دولته لحسن سيرته، كانت فيهم، وسوء سيرة غازي، فلما حصرها سلمها أهلها إليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، وبقي غازي في القلعة ممتنعاً، فلما جنه الليل نزل إلى أخيه معتذراً ومتنصلاً، فعاتبه الأشرف وأبقى عليه ولم يعاقبه على فعله، لكن أخذ البلاد منه وأبقى عله ميافارقين.
ذكر حصار صاحب إربل الموصلقد ذكرنا اتفاق مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، وشهاب الدين غازي، صاحب خلاط، المعظم عيسى، صاحب دمشق، على قصد بلاد الملك الأشرف، فأما صاحب دمشق فإنه سار عنها مراحل يسيرة وعاد إليها لأن أخاه صاحب مصر أرسل إليه يتهدده إن سار عن دمشق أنه يقصدها ويحصرها، فعاد.
وأما غازي فإنه استحصر في خلاط، وأخذت منه كما ذكرناه.
وأما صاحب إربل فإنه جمع عسكره وسار إلى بلد الموصل وحصرها ونازلها يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الآخرة، ظناً منه أن الملك الأشرف إذا سمع بنزوله عليها رحل عن خلاط، ويخرج غازي في طلبه، فتتخبط أحواله، وتقوى نفس صاحب دمشق على المجيء إليهم، فلا نازل الموصل كان صاحبها بدر الدين لؤلؤ قد أحكم أمورها من استخدام الجند على الأسوار، وإظهار آلة الحصار، وإخراج الذخائر.
وإنما قوي طمع صاحب إربل على حصر الموصل لأن أكثر عسكرها كان قد سار إلى الملك الأشرف إلى خلاط وقد قل العسكر فيها، وكان الغلاء شديداً في البلاد جميعها، والسعر في الموصل كل ثلاثة مكاكيك بدينار، فلهذا السبب أقدم على حصرها؛ فلما نزل عليها أقام عشرة أيام ثم رحل عنها يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الآخرة.
وكان سبب رحيله أنه رأى امتناع البلد عليه، وكثرة من فيه، وعندهم من الذخائر ما يكفيهم الزمان الكثير، ووصل إليه خبر الملك الأشرف أنه ملك خلاط، فانفسخ عليه كل ما كان يؤمله من صاحبها ومن دمشق، وبقي وحده متلبساً بالأمر، فلما وصلت الأخبار إليه بذلك سقط في يده، ورأى أنه قد أخطأ الصواب، فرحل عائداً إلى بلده، وأقام على الزاب؛ ومدة مقامه على الموصل لم يقاتلها، إنما كان في بعض الأوقات يجيء بعض اليزك الذين له يقاتلون البلد، فيخرج إليهم بعض الفرسان، وبعض الرجال، فيجري بينهم قتال ليس بالكثير ثم يتفرقون، وترجع كل طائفة إلى صاحبها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، أول آب، جاء ببغداد مطر برعد وبرق، وجرت المياه بباب البصرة والحربية، وكذلك بالمحول، بحيث إن الناس كانوا يخوضون في الماء والوحل بالمحول.
وفيها سار صاحب المخزن إلى بعقوبا في ذي القعدة، فعسف أهلها، فنقل إليه عن إنسان منها أنه يسبه، فأحضره وأمر بمعاقبته، وقال له: لم تسبني؟ فقال له: أنتم تسبون أبا بكر وعمر لأجل أخذهما فدك، وهي عشر نخلات لفاطمة، عليها السلام، وأنتم تأخذون مني ألف نخلة ولا أتكلم؟ فعفا عنه.
وفيها وقعت فتنة بواسط بين السنة والشيعة على جاري عادتهم.
وفيها قلت الأمطار في البلاد، فمل يجيء منها شيء إلى سباط، ثم إنها كانت تجيء في الأوقات المتفرقة مجيئاً قريباً لا يحصل منه الري للزرع، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج عليها الجراد، ولم يكن في الأرض من النبات ما يشتغل به عنها، فأكلها إلا القليل، وكان كثيراً خارجاً عن الحد، فغلت الأسعار في العراق، والموصل، وسائر ديار الجزيرة، وديار بكر، وغيرها، وقلت الأقوات، إلا أن أكثر الغلاء كان بالموصل وديار الجزيرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وستمائة

ذكر حصر الكرج مدينة كنجة
في هذه السنة سارت الكرج في جموعها إلى مدينة كنجة من بلاد أران قصداً لحصرها، واعتدوا لها بما أمكنهم من القوة لأن أهل كنجة كثير عددهم، قوية شوكتهم، وعندهم شجاعة كثيرة من طول ممارستهم للحرب مع الكرج، فلما وصلوا إليها ونازلوها قاتلوا أهلها، عدة أيام، من وراء السور، لم يظهر من أهلها أحد، ثم في بعض الأيام خرج أهل كنجة ومن عندهم من العسكر من البلد، وقاتلوا الكرج بظاهر البلد أشد قتال وأعظمه، فلما رأى الكرج ذلك علموا أنهم لا طاقة لهم بالبلد، فرحلوا بعد أن اثخن أهل كنجة فيهم. (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً) الأحزاب: 25.
ذكر وصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى خوزستان والعراق

في أول هذه السنة وصل جلال الدين بن خوارزم شاه محمد بن تكش إلى بلاد خوزستان والعراق، وكان مجيئه من بلاد الهند، لأنه كان وصل إليها لما قصد التتر غزنة، وقد ذكرنا ذلك جميعه، فلما تعذر عليه المقام ببلاد الهند سار عنها على كرمان، ووصل إلى أصفهان، وهي بيد أخيه غياث الدين، وقد تقدمت أخباره فملكها، وسار عنها إلى بلاد فارس، وكان أخوه قد استولى على بعضها، كما ذكرناه، فأعاد ما كان أخوه أخذه منها إلى أتابك سعد صاحبها، وصالحه، وسار من عنده إلى خوزستان، فحصر مدينة تستر في المحرم وبها الأمير مظفر الدين المعروف بوجه السبع، مملوك الخليفة الناصر لدين الله، حافظاً لها، وأميراً عليها، فحصره جلال الدين، وضيق عليه، فحفظها وجه السبع، وبالغ في الحفظ والاحتياط، وتفرق الخوارزمية ينهبون، حتى وصلوا إلى بادرايا وباكسايا وغيرهما، وانحدر بعضهم إلى ناحية البصرة، فنهبوا هنالك، فسار إليهم شحنة البصرة، وهو الأمير ملتكين، فسار إليهم فأوقع بهم، وقتل منهم جماعة، فدام الحصار نحو شهرين، ثم رحل عنها بغتة.
وكانت عساكر الخليفة، مع مملوكه جمال الدين قشتمر، بالقرب منه، فلما رحل جلال الدين لم يقدر العسكر على منعه، فسار إلى أن وصل إلى بعقوبا، وهي قرية مشهورة بطريق خراسان، بينها وبين بغداد نحو سبعة فراسخ، فلما وصل الخبر إلى بغداد تجهزوا للحصار، وأصلحوا السلاح من الجروخ، والقسي والنشاب، والنفط، وغير ذلك، وعاد عسكر الخليفة إلى بغداد.
وأما عسكر جلال الدين فنهب البلاد وأهلكها، وكان قد وصل هو وعسكره إلى خوزستان في ضر شديد وجهد جهيد، وقلة من الدواب، والذي معهم فهو من الضعف فهو من الضعف إلى حد لا ينتفع به، فغنموا من البلاد جميعها، واستغنوا، وأكثروا من أخذ الخيل والبغال، فإنهم كانوا في غاية الحاجة إليها.
وسار من بعقوبا إلى دقوقا فحصرها، فصعد أهلها إلى السور وقاتلوه، وسبوه، وأكثروا من التكبير، فعظم ذلك عنده، وشق عليه، وجد في قتالهم، ففتحها عنوة وقهراً، ونهبتها عساكره، وقتلوا كثيراً من أهلها، فهرب من سلم منهم من القتل وتفرقوا في البلاد.
ولما كان الخوارزميون على دقوقا سارت سرية منهم إلى البت والراذان، فهرب أهلها إلى تكريت، فتبعهم الخوارزمية، فجرى بينهم وبين عسكر تكريت وقعة شديدة، فعادوا إلى العسكر.
ولقد رأيت بعض أعيان أهل دقوقا وهم بنو يعلى، وهم أغنياء، فنهبوا، وسلم أحدهم، ومعه ولدان له، وشيء يسير من المال، فسير ما سلم معه إلى الشام مع الولدين ليتجر بما ينفعون به وينفقونه على نفوسهم، فمات أحد الولدين بدمشق، واحتاط الحاكم على ما معهم، فلقد رأيت أباهم على حالة شديدة لا يعلمها إلا الله، يقول: أخذت الأموال والأملاك، وقتل بعض الأهل، وفارق من سلم منهم الوطن بهذا القدر الحقير، أردنا أن نكف به وجوهنا من السؤال، ونصون أنفسنا، فقد ذهب الولد والمال.
ثم سار إلى دمشق ليأخذ ما سلم مع ابنه الآخر، فأخذه وعاد إلى الموصل، فلم يبق غير شهر حتى توفي؛ إن الشقي بكل حبل يخنق.
وأما جلال الدين فإنه لما فعل بأهل دقوقا ما فعل خافه أهل البوازيج، و هي لصاحب الموصل، فأرسلوا إليه يطلبون منه إرسال شحنة إليهم يحميهم، وبذلوا له شيئاً من المال، فأجابهم إلى ذلك، وسير إليهم من يحميهم، قيل: كان بعض أولاد جنكزخان، مل التتر، أسره جلال الدين في بعض حروبه مع التتر، فأكرمه، فحماهم، وأقام بمكانه إلى أواخر ربيع الآخر، والرسل مترددة بينه وبين مظفر الدين، صاحب إربل، فاصطلحوا، فسار جلال الدين إلى أذربيجان، وفي مدة مقام جلال الدين بخوزستان والعراق ثارت العرب في البلاد يقطعون الطريق، وينهبون القرى، ويخيفون السبيل، فنال الخلق منهم أذى شديد، وأخذوا في طريق العراق قفلين عظيمين كانا سائرين إلى الموصل، فلم يسلم منهما شيء البتة.
ذكر وفاة الملك الأفضل وغيره من الملوك

في هذه السنة، في صفر، توفي الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف ابن أيوب فجأة بقلعة سميساط، وكان عمره نحو سبع وخمسين سنة، وقد ذكرنا سنة تسع وثمانين وخمسمائة عند وفاة والده، رحمه الله، ملكه مدينة دمشق والبيت المقدس، وغيرهما من الشام، وذكرنا سنة اثنتين وتسعين أخذ الجميع منه، ثم ذكرنا سنة خمس وتسعين ملكه ديار مصر، وذكرنا سنة ست وتسعين أخذها منه، وانتقل إلى سميساط وأقام بها، ولم يزل بها إلى الآن، فتوفي بها.
وكان رحمه الله، من محاسن الزمان، لم يكن في الملوك مثله، كان خيراً عادلاً فاضلاً حليماً كريماً قل أن عاقب على ذنب، ولم يمنع طالباً، وكان يكتب خطاً حسناً، وكتابة جيدة، وبالجملة، فاجتمع فيه من الفضائل والمناقب ما تفرق في كثير من الملوك، لا جرم حرم الملك والدنيا، وعاداه الدهر، ومات بموته كل فعل جليل، فرحمه الله ورضي عنه.
ورأيت من كتابته أشياء حسنة، فما بقي على خاطري منها أنه كتب إلى بعض أصحابه، لما أخذت دمشق منه، كتاباً من فصوله: وأما أصحابنا بدمشق فلا علم لي بأحد منهم، وسبب ذلك أني:
أي صديق سألت عنه، ففي الذ ... ل وتحت الخمول في الوطن
وأي ضد سألت حالته ... سمعت ما لا تحبه أذني
فتركت السؤال عنهم؛ وهذا غاية الجودة في الاعتذار عن ترك السؤال والصاحب.
ولما مات اختلف أولاده وعمهم قطب الدين موسى، ولم يقو أحد منهم على الباقين ليستبد بالأمر. ومات في هذه السنة صاحب أرزن الروم، وهو مغيث الدين طغرل بن قلج أرسلان، وهو الذي سير ولده إلى الكرج، وتنصر وتزوج ملكة الكرج؛ ولما مات ملك بعده ابنه.
ومات فيها ملك أرزنكان.
وتوفي فيها عز الدين الخضر بن إبراهيم بن أبي بكر بن قرا أرسلان بن داود أبن سقمان، صاحب خرت برت، وملك بعده ابنه نور الدين أرتق شاه، وكان المدبر لدولته ولدولته ودولة والده معين الدين بدر بن عبد الرحمن البغدادي الأصل الموصلي المنشإ.
ذكر خلع شروان شاه وظفر المسلمين بالكرجفي هذه السنة ثار على شروان شاه ولده فنزعه من الملك، وأخرجه من البلاد، وملك بعده.
وسبب ذلك أن شروان شاه كان سيء السيرة، كثير الفساد والظلم، يتعرض لأموال الرعايا وأملاكهم؛ وقيل أيضاً: إنه كان يتعرض للنساء والولدان، فاشتدت وطأته على الناس، فاتفق بعض العسكر مع ولده، وأخرجوا أباه من البلاد، وملك الابن، وأحسن السيرة، فأحبه العساكر والرعية، وأرسل الولد إلى أبيه يقول له: إني أردت أن أتركك في بعض القلاع وأجري لك الجرايات الكثيرة، ولكل من تحب أن يكون عندك، والذين حملني على ما فعلت معك سوء سيرتك وظلمك لأهل البلاد، وكراهيتهم لك ولدولتك.
فلما رأى الأب ذلك سار إلى الكرج واستنصر بهم، وقرر معهم أن يرسلوا معه عسكراً يعيدونه إلى ملكه، ويعطيهم نصف البلاد، فسيروا معه عسكراً كثيراً، فسار حتى قارب مدينة شروان، فجمع ولده العسكر، وأعلمهم الحال، وقال: إن الكرج متى حصرونا ربما ظفروا بنا، وحينئذ لا يبقي أبي على أحد منا، ويأخذ الكرج نصف البلاد، وربما أخذوا الجميع، وهذا أمر عظيم، والرأي أننا نسير إليهم جريدة ونلقاهم، فإن ظفرنا بهم فالحمد لله، وإن ظفروا بنا فالحصر بين أيدينا؛ فأجابوه إلى ذلك.
فخرج في عسكره، وهم قليل، نحو ألف فارس، ولقوا الكرج وهم في ثلاثة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا، وصبر أهل شروان، فانهزم الكرج، فقتل كثير منهم، وأسر كثير، ومن سلم عاد بأسوإ حال، وشروان شاه المخلوع معهم، فقال له مقدمو الكرج: إننا لم نلق بسببك خيراً، ولا نؤاخذك بما كن منك، فلا تقم ببلادنا؛ ففارقهم وبقي متردداً لا يأوي إلى أحد، واستقر ولده في الملك وأحسن إلى الجند والرعية، وأعاد إلى الناس أملاكهم ومصارداتهم، فاغتبطوا بولايته.
ذكر ظفر المسلمين بالكرج أيضاً
وفي هذه السنة أيضاً سار جمع من الكرج من تفليس يقصدون أذربيجان والبلاد التي بيد أوزبك، فنزلوا وراء مضيق في الجبال لا يسلك إلا للفارس بعد الفارس، فنزلوا آمنين من المسلمين استضعافاً لهم، واغتراراً بحصانة موضعهم، وأنه لا طريق إليهم.

وركب طائفة من العساكر الإسلامية وقصدوا الكرج، فوصلوا إلى ذلك المضيق، فجاوزوه مخاطرين، فلم يشعر الكرج إلا وقد غشيهم المسلمون ووضعوا فيهم السيف فقتلوهم كيف شاؤوا، وولى الباقون منهزمين لا يلوي والد على ولده، ولا أخ على أخيه، وأسر منهم جمع كثير صالح، فعظم الأمر عليهم، وعزموا على الأخذ بثأرهم، والجد في قصد أذربيجان واستئصال المسلمين منه، وأخذوا يتجهزون على قدر عزمهم.
فبينما هم في ذلك إذ وصل إليهم الخبر بوصول جلال الدين بن خوارزم شاه إلى مراغة، على ما نذكره إن شاء الله، فتركوا ذلك وأرسلوا إلى أوزبك، صاحب أذربيجان، يدعونه إلى الموافقة على رد جلال الدين، وقالوا: إن لم نتفق نحن وأنت، وإلا أخذك، ثم أخذنا؛ فعاجلهم جلال الدين قبل اتفاقهم واجتماعهم، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك جلال الدين أذربيجانفي هذه السنة استولى جلال الدين على أذربيجان؛ وسبب ذلك أنه لما سار من دقوقا، كما ذكرناه، قصد مراغة فملكها وأقام بها، وشرع في عمارة البلد، فاستحسنه؛ فلما وصل إليها أتاه الخبر أن الأمير إيغان طائيس، وهو خال أخيه غياث الدين، قد قصد همذان قبل وصول جلال الدين بيومين.
وكان إيغان طائيسي هذا قد جمع عسكراً كثيراً يبلغون خمسة آلاف فارس. ونهب كثيراً من أذربيجان، وسار إلى البحر من بلد أران، فشتى هنالك لقلة البرد، ولما عاد إلى همذان نهب أذربيجان أيضاً مرة ثانية.
وكان سبب مسيره إلى همذان أن الخليفة الناصر لدين الله راسله وأمره بقصد همذان وأقطعه إياها وغيرها، فسار ليستولي عليها كما أمر، فلما سمع جلال الدين بذلك سار جريدة إليه، فوصل إلى إيغان طائيسي ليلاً، وكان إذا نزل جعل حول عسكره جميع ما غنموا من أذربيجان وأران من خيل، وبغال، وحمير، وبقر، وغنم. فلما وصل جلال الدين أحاط بالجميع، فلما أصبح عسكر إيغان طائيسي ورأى العسكر والجتر الذي يكون على رأس السلطان، علموا أنه جلال الدين، وبقي إيغان طائيسي وحده إلى أن أضاف إليه جلال الدين عسكراً غير عسكره، وعاد إلى مراغة، و أعجبه المقام بها.
وكان أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان وأران، قد سار من تبريز إلى كنجة خوفاً من جلال الدين، وأرسل جلال الدين إلى من في تبريز من وال وأمير ورئيس يطلب منهم ن يتردد عسكره إليهم يمتارون، فأجابوه إلى ذلك وأطاوه، فتردد العسكر إليها، وباعوا واشتورا الأقوات والكسوات وغيرها، ومدوا أيديهم إلى أموال الناس، فكان أحدهم يأخذ الشيء ويعطي الثمن ما يريد؛ فشكا بعض أهل تبريز إلى جلال الدين منهم، فأرسل إليهم شحنة يكون عندهم، وأمره أن يقيم بتبريز، ويكف أيدي الجند عن أهلها، ومن تعدى على أحد منهم صلبه.
فأقام الشحنة، ومنع الجند من التعدي على أحد من الناس، وكانت زوجة أوزبك، وهي ابنة السلطان طغرا بن أسلان بن طغرل بن محمد بن ملكشاه، مقيمة بتبريز، وهي كانت الحاكمة في بلاد زوجها، وهو مشغول بلذاته من أكل وشرب ولعب.
ثم إن أهل تبريز شكو شكوا من الشحنة وقالوا: إنه يكلفنا أكثر من طاقتنا؛ فأمر جلال الدين أنه لا يعطى إلا ما يقمي به لا غير، فعلوا ذلك، وسار جلال الدين إلى تبريز وحصرها خمسة أيام، وقاتل أهلها قتالاً شديداً، وزحف إليها فوصل العسكر إلى السور، فأذعن أهلها بالطاعة، وأرسلوا يطلبون الأمان منه لأنه كان يذمهم، ويقول: قتلوا أصحابنا المسلمين وأرسلوا رؤوسهم إلى التتر الكفار؛ وقد تقدمت الحادثة سنة إحدى وعشرين وستمائة، فخافوا منه لذلك، فلما طلبوا الأمان ذكر لهم فعلهم بأصحاب أبيه وقتلهم، فاعتذروا بأنهم لم يفعلوا شيئاً من ذلكن وإنما فعله صاحبهم، ولم يكن لهم من القدرة ما يمنعونه، فعذرهم، وأمنهم، وطلبوا منه أن يؤمن زوجة أوزبك، ولا يعارضها في الذي لها بأذربيجان وهو مدينة خوي وغيرها من ملك ومال وغيره. فأجابهم إلى ذلك.
وملك البلد سابع عشر رجب من هذه السنة، وسير زوجة أوزبك إلى خوي، ومعها طائفة من العسكر، مع رجل كبير القدر، عظيم المنزلة، وأمرهم بخدمتها، فإذا وصلت إلى خوي عادوا عنها.

ولما رحل جلال الدين إلى تبريز أمر أن لا يمنعوا عنه أحداً من أهلها، فأتاه الناس مسلمين عليه، فلم يحجبوا عنه، وأحسن إليهم، وبث فيهم العدل، ووعدهم الإحسان والزيادة منه، وقال لهم: قد رأيتم ما فعلت بمراغة من الإحسان والعمارة بعد أن كانت خراباً، وسترون كيف أصنع معكم من العدل فيكم، وعمارة بلادكم.
وأقام إلى يوم الجمعة، فحضر الجامع، فلما خطب الخطيب ودعا للخليفة قام قائماً، ولم يزل كذلك حتى فرغ من الدعاء وجلس.
ودخل إلى كشك كان أوزبك قد عمره، وأخرج عليه من الأموال كثيراً، فهو في غاية الحسن، مشرف على البساتين، فلما طاف فيه خرج منه وقال: هذا مسكن الكسالى لا يصلح لنا. وأقام أياماً استولى فيها على غيرها من البلاد، وسير الجيوش إلى بلاد الكرج.
ذكر انهزام الكرج من جلال الدينقد ذكرنا فيما تقدم من السنين ما كان الكرج يفعلونه في بلاد الإسلام: خلاط، وأذربيجان، وأران، وأرزن الروم، ودربند شروان؛ وهذه ولايات تجاور بلادهم، وما كانوا يسفكون من دماء المسلمين، وينهبون من أموالهم، ويملكون من بلادهم، والمسلمون معهم في هذه البلاد تحت الذل والخزي، كل يوم قد أغاروا عليهم وقتلوا فيهم، وقاطعوهم على ما شاؤوا من الأموال، فكنا كلما سمعنا بشيء من ذلك سألنا الله تعالى، نحن والمسلمون، في أن ييسر للإسلام والمسلمين من يحميهم وينصرهم، ويأخذ بثأرهم، فإن أوزبك، صاحب أذربيجان، منعكف على شهوة بطنه وفرجه، لا يفيق من سكره، وإن أفاق فهو مشغول بالقمار بالبيض.
وهذا ما لم يسمع بمثله أن أحداً من الملوك فعله، لا يهتدي لمصلحة، ولا يغضب لنفسه بحيث إن بلاده مأخوذة، وعساكره طماعة، ورعيته قد قهرها، وقد كان كل من أراد أن يجمع جمعاً ويتغلب على بعض البلاد فعل، كما ذكرناه من حال بغدي، وأيبك الشامي، وإيغان طائيسي، فنظر الله تعالى إلى أهل هذه البلاد المساكين بعين الرحمة؛ فرحمهم ويسر لهم جلال الدين هذا، ففعل بالكرج ما تراه، وانتقم للإسلام والمسلمين منهم فنقول: في هذه السنة كان المصاف بين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الكرج، في شهر شعبان، فإن جلال الدين من حين وصل إلى هذه النواحي لا يزال يقول: إنني أريد أقصد بلاد الكرج وأقاتلهم وأملك بلادهم؛ فلما ملك أذربيجان أسل إليهم يؤذنهم بالحرب، فأجابوه بأننا قد قصدنا التتر الذين فعلوا بأبيك، وهو أعظم منك ملكاً، وأكثر عسكراً، وأقوى نفساً، ما تعلمه، وأخذوا بلادكم، فلم نبال بهم، وكان قصاراهم السلامة منا.
وشرعوا يجمعون العساكر، فجمعوا ما يزيد على سبعين ألف مقاتل، فسار إليهم، فملك مدينة دوين، وهي للكرج، كانوا قد أخذوها من المسلمين، كما ذكرناه، وسار منهم إليهم، فلقوه وقاتلوه أشد قتال وأعظمه، وصبر كل منهم لصاحبه، فانهزم الكرج، وأمر أن يقتلوا بكل طريق، ولا يبقوا على أحد منهم؛ فالذي تحققناه أنه قتل منهم عشرون ألفاً، وقيل: أكثر من ذلك، فقيل: الكرج جميعهم قتلوا، وافترقوا، وأسر كثير من أعيانهم، من جملتهم شلوة، فنمت الهزيمة عليهم، ومضى إيواني منهزماً، وهو المقدم على الكرج جميعهم، ومرجعهم إليه، ومعولهم عليه، وليس لهم ملك، إنما الملك امرأة، ولقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة).
فلما انهزم إيواني أدركه الطلب، فصعد قلعة لهم على طريقهم، فاحتمى فيها، وجعل جلال الدين عليها من يحصرها ويمنعه من النزول، وفرق عساكره في بلاد الكرج ينهبون، ويقتلون، ويسبون، ويخربون البلاد، فلولا ما أتاه من تبريز ما أوجب عوده لملك البلاد بغير تعب ولا مشقة، لأن أهلها كانوا قد هلكوا، فهم بين قتيل وأسير وطريد.
ذكر عود جلال الدين إلى تبريز

وملكه مدينة كنجة ونكاحه زوجة أوزبك
لما فرغ جلال الدين من هزيمة الكرج، ودخل البلاد وبث العساكر فيها، أمرهم بالمقام بها مع أخيه غياث الدين، وعاد إلى تبريز.

وسبب عوده أنه كان قد خلف وزيره شرف الملك في تبريز ليحفظ البلد، وينظر في مصالح الرعية، فبلغه عن رئيس تبريز وشمس الدين الطغرائي، وهو المقدم على كل من في البلد، وعن غيرهما من المقدمين، أنهم قد اجتمعوا، وتحالفوا على الامتناع على جلال الدين، وإعادة البلد إلى أوزبك، وقالوا: إن جلال الدين قد قصد بلاد الكرج، فإذا عصينا عليه وأحضرنا أوزبك ومن معه من العساكر، يضطر جلال الدين إلى العود، فإذا عاد تبعه الكرج فلا يقدر على المقام، ويجتمع أوزبك والكرج ويقصدونه، فينحل نظام أمره، وتتم عليه الهزيمة.
فبنوا أمرهم على أن جلال الدين يسير الهوينا إلى بلاد الكرج، ويتريث في الطريق احتياطاً منهم؛ فلما اتفقوا على ذلك أتى الخبر إلى الوزير، فأرسل إلى جلال الدين يعرفه الحال، فأتاه الخبر، وقد قارب بلاد الكرج، فلم يظهر من ذلك شيئاً، وسار نحو الكرج مجداً، فلقيهم وهزمهم، فلما فرغ منهم قال لأمراء عسكره: إنني قد بلغني من الخبر كذا وكذا، فتقيمون أنتم في البلاد على ما أنتم عليه من قتل من ظفرتم به، وتخريب ما أمكنكم من بلادهم، فإنني خفت أن أعرفكم قبل هزيمة الكرج لئلا يلحقكم وهن وخوف.
فأقاموا على حالهم، وعاد هو إلى تبريز، وقبض على الرئيس والطغرائي وغيرهما، فأما الرئيس فأمر أن يطاف به على أهل البلد، وكل من له عليه مظلمة فليأخذها منه، وكان ظالماً، ففرح الناس بذلك، ثم قتله؛ وأما الباقون فحبسوا، فلما فرغ منهم واستقام له أمر البلد تزوج زوجة أوزبك ابنة السلطان طغرل، وإنما صح له نكاحها لأنه ثبت عن أوزبك أنه حلف بطلاقها أنه لا يقتل مملوكاً له اسمه ... ثم قتله، فلما وقع الطلاق بهذه اليمن نكحها جلال الدين، وأقام بتبريز مدة، وسير منها جيشاً إلى مدينة كنجة فملكوها، وفارقها أوزبك إلى قلعة كنجة فتحصن فيها.
فبلغني أن عساكر جلال الدين تعرضوا لأعمال هذه القلعة بالنهب والأخذ، فأرسل أوزبك إلى جلال الدين يشكو، ويقول: كنت لا أرضى بهذه الحال لبعض أصحابي، فأنا أسأل أن تكف الأيدي المتطرقة إلى هذه الأعمال عنها. فأرسل جلال الدين إليها من يحميها من التعرض لها من أصحابه وغيرهم.
ذكر وفاة الخليفة الناصر لدين اللهفي هذه السنة، آخر ليلة من شهر رمضان، توفي الخليفة الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله أبي محمد الحسن بن المستنجد بالله أبي عبد الله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد بن المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله أبي العباس محمد بن المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة محمد بن القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله أبي العباس أحمد بن إسحق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق أبي أحمد محمد بن جعفر المتوكل على الله، ولم يكن الموفق خليفة، وإنما كان ولي عهد أخيه المعتمد على الله، فمات قبل المعتمد، فصاروا ولده المعتضد بالله ولي عهد المعتمد على الله.
وكان المتوكل على الله ابن المعتصم بالله أبي إسحق محمد بن هرون الرشيد ابن محمد المهدي بن أبي جعفر عبد الله المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عنهم.
نسب كأن عليه من شمس الضحى ... نوراً، ومن فلق الصباح عمودا
فكان في آبائه أربعة عشر خليفة، وهم كل من له لقب، والباقون غير خلفاء، وكان فيهم من ولي العهد محمد بن القائم، والمرفق بن المتوكل، وأما باقي الخلفاء من بني العباس فلم يكونوا من آبائه، فكان الشفاح أبو العباس عبد الله أخا المنصور ولي قبله، وكان موسى الهادي أخا الرشيد ولي قبله؛ وكان محمد الأمين وعبد الله المأمون ابنا الرشيد أخوي المعتصم ولياً قبله، وكان محمد المنتصر بن المتوكل ولي بعده.
ثم ولي بعد المنتصر بالله المستعين بالله أبو العباس أحمد بن محمد بن المعتصم، وولي بعد المستعين المعاز بالله محمد، وقيل طلحة، وهو ابن المتوكل، وولي بعد المعتز المهتدي بالله محمد بن الواثق، ثم ولي بعده المعتمد على الله أحمد بن المتوكل، فالمنتصر، والمعتز، والمعتمد إخوة الموفق، والمهتدي ابن عمه، والموفق من أجداد الناصر لدين الله.

ثم ولي المعتضد بعد المعتمد، وولي بعد المعتضد ابنه أبو محمد علي المكتفي بالله، وهو أخو المقتدر بالله، وولي بعد المقتدر بالله أخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد، وولي بعد القاهر الراضي بالله أبو العباس محمد بن المقتدر.
ثم ولي بعده المتقي لله أبو إسحق إبراهيم بن المقتدر؛ ثم ولي بعده المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله علي بن المعتضد، ثم ولي بعده المطيع لله أبو بكر عبد الكريم، فالقاهر، والراضي، والمتقي، والمطيع بنوه، والمستكفي ابن أخيه المكتفي.
ثم ولي الطائع لله بن المقتدر؛ ثم ولي بعد الطائع القادر بالله، وهو من أجداد الناصر لدين الله؛ ثم ولي بعده المستظهر بالله؛ ثم ولي بعده ابنه المسترشد بالله أبو منصور، وولي بعد المسترشد بالله ابنه الراشد أبو جعفر، فالمسترشد أخو المتقي، والراشد بالله ابن أخيه، فجمع من ولي الخلافة ممن ليس في سياق نسب الناصر تسعة عشر خليفة.
وكانت أم الناصر أم ولد، تركية، اسمها زمرد، وكانت خلافته ستاً وأربعين سنة وعشرة أشهر وثمانية وعشرين يوماً، وكان عمره نحو سبعين سنة تقريباً، فلم يل الخلافة أطول مدة منه إلا ما قيل عن المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، فإنه ولي ستين سنة، ولا اعتبار به، فإنه ولي وله سبع سنين فلا تصح ولايته.
وبقي الناصر لدين الله ثلاث سنين عاطلاً عن الحركة بالكلية، وقد ذهبت إحدى عينيه والأخرى يبصر بها إبصاراً ضعيفاً، وفي آخر الأمر أصابه دوسنطاريا عشرين يوماً ومات.
ووزر له عدة وزراء، وقد تقدم ذكرهم، ولم يطلق في طول مرضه شيئاً كان أحدثه من الرسوم الجائرة؛ وكان قبيح السيرة في رعيته، ظالماً، فخرب في أيامه العراق، وتفرق أهله في البلاد، وأخذ أملاكهم وأموالهم، وكان يفعل الشيء وصده، فمن ذلك أنه عمل دور الضيافة ببغداد ليفطر الناس عليها في رمضان، فبقيت مدة، ثم قطع ذلك، ثم عمل دور الضيافة للحجاج، فبقيت مدة، ثم بطلها، وأطلق بعض المكوس التي جددها ببغداد خاصة، ثم أعادها. وجعل جل همه في رمي البندق، والطيور المناسيب، وسراويلات الفتوة، فبطل الفتوة في البلاد جميعها، إلا من يلبس منه سراويل يدعى إليه، ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة.
وكذلك أيضاً مع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يؤخذ من طيوره، ومنع الرمي بالندق إلا من ينتمي إليه؛ فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك إلا إنساناً واحداً يقال له ابن السفت من بغداد، فإنه هرب من العراق ولحق بالشام، فأرسل إليه يرغبه في المال الجزيل ليرمي عنه، وينسب في الرمي إليه: فلم يفعل، فبلغني أن بعض أصدقائه أنكر عليه الامتناع من أخذ المال، فقال: يكفيني فخراً أنه ليس في الدنيا أحد إلا يرمي للخليفة، إلا أنا.
فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعظم الأمور، وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحاً من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد، وراسلهم في ذلك، فهو الطامة الكبرى التي يصغر عندها كل ذنب.
ذكر خلافة الظاهر بأمر اللهقد ذكرنا سنة خمس وثمانين وخمسمائة الخطبة للأمير أبي نصر محمد ابن الخليفة الناصر لدين الله بولاية العهد في العراق وغيره من البلاد، ثم بعد ذلك خلعه الخليفة من ولاية العهد، وأرسل إلى البلاد في قطع الخطبة له، وإنما فعل ذلك لأنه كان يميل إلى ولده الصغير علي، فاتفق أن الولد الصغير توفي سنة اثنتي عشرة وستمائة، ولم يكن للخليفة ولد غير ولي العهد، فاضطر إلى إعادته، إلا أنه تحت الاحتياط والحجر لا يتصرف في شيء.
فلما توفي أبوه ولي الخلافة، وأحضر الناس لأخذ البيعة، وتلقب بأمر الله، وعنى أن أباه وجميع أصحابه أرادوا صرف الأمر عنه، فظهر وولي الخلافة بأمر الله لا بسعي أحد.

ولما ولي الخلافة أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سنة العمرين، فلو قيل إنه لم يل الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقاً، فإنه أعاد الخراج القديم في جميع العراق، وأن يسقط جميع ما جدده أبوه، وكان كثيراً لا يحصى؛ فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يحصل منها قديماً نحو عشرة آلاف دينار، فلما تولى الناصر لدين الله كان يؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار، فحضر أهلها واستغاثوا، وذكروا أن أملاكهم أخذت حتى صار يحصل منها هذا المبلغ، فأمر أن يؤخذ الخراج القديم وهو عشرة آلاف دينار، فقيل له إن هذا المبلغ يصل إلى المخزن، فمن أين يكون العوض؟ فأقام لهم العوض من جهات أخرى؛ فإذا كان المطلق من جهة واحدة سبعين ألف دينار، فما الظن بباقي البلاد؟ ومن أفعاله الجميلة أنه أمر بأخذ الخراج الأول من باقي البلاد جميعها، فحضر كثير من أهل العراق، وذكروا أن الأملاك التي كان يؤخذ منها الخراج قديماً يبس أكثر أشجارها وخربت، ومتى طولبوا بالخراج الأول لا يفي دخل الباقي بالخراج، فأمر أن لا يؤخذ الخراج إلا من كل شجرة سليمة، وأما الذاهب فلا يؤخذ منه شيء، وهذا عظيم جداً.
ومن ذلك أيضاً أن المخزن كان له صنجة الذهب تزيد على صنجة البلد نصف قيراط، يقبضون بها المال، ويعطون بالصنجة التي للبلد يتعامل بها الناس، فسمع بذلك فخرج خطه إلى الوزير، وأوله (ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم) المطففين: 1. قد بلغنا أن الأمر كذا وكذا، فتعاد صنجة المخزن إلى الصنجة التي يتعامل بها المسلمون، واليهود، والنصارى.
فكتب بعض النواب إليه يقول: إن هذا مبلغ كثير، وقد حسبناه فكان في السنة الماضية خمسة وثلاثين ألف دينار؛ فأعاد الجواب ينكر على القائل، ويقول: لو أنه ثلاث مائة ألف وخمسون ألف دينار يطلق.
وكذلك أيضاً فعل في إطلاق زيادة الصنجة التي للديوان، وهي في كل دينار حبة، وتقدم إلى القاضي أن كل من عرض عليه كتاباً صحيحاً بملك يعيده إليه من غير إذن؛ وأقام رجلاً صالحاً في ولاية الحشري وبيت المال، وكان الرجل حنبلياً، فقال: إنني من مذهبي أن أورث ذوي الأرحام، فإن أذن أمير المؤمنين أن أفعل ذلك وليت وإلا فلا. فقال له: أعط كل ذبي حق حقه، واتق الله ولا تتق سواه.
ومنها أن العادة كانت ببغداد أن الحارس بكل درب يبكر، ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة، أو سماع، أو غير ذلك، ويكتب ما سوى ذلك من صغير كبير، فكان الناس من هذا في حجر عظيم، فلما ولي هذا الخليفة، جاه الله خيراً، أتته المطالعات على العادة، فأمر بقطعها، وقال: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم؟ فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا؛ فقيل له: إن العامة تفسد بذلك، ويعظم شرها؛ فقال: نحن ندعو الله أن يصلحهم.
ومنها أنه لما ولي الخلافة وصل صاحب الديوان من واسط، وكان قد سار إليها أيام الناصر لتحصيل الأموال، فأصعد، ومعه من المال ما يزيد على مائة ألف دينار، وكتب مطالعة تتضمن ذكر ما معه، ويستخرج الأمر في حمله؛ فأعاد الجواب بأن يعاد إلى أربابه، فلا حاجة لنا إليه، فأعيد عليهم.
ومنها أنه أخرج كل من كان في السجون، وأمر بإعادة ما أخذ منهم. وأرسل إلى القاضي عشرة آلاف دينار ليعطيها عن كل من هو محبوس في حبس الشرع وليس له مال.
ومن سن نيته للناس أن الأسعار في الموصل وديار الجزيرة كانت غالية، فرخصت الأسعار، وأطلق حمل الأطعمة إليها، وأن يبيع كل من أراد البيع للغلة، فحمل منها الكثير الذي لا يحصى، فقيل له: إ، السعر قد غلا شيئاً، والمصلحة المنع منه؛ فقال: أولئك مسلمون، وهؤلاء مسلمون، وكما يجب علينا النظر في أمر هؤلاء كذلك يجب علينا النظر لأولئك.
وأمر أن يباع من الأهراء التي له طعام أرخص ما يبيع غيره، ففعلوا ذلك، فرخصت الأسعار عندهم أيضاً أكثر مما كانت أولاً، وكان السعر في الموصل، لما ولي، كل مكوك بدينار وثلاثة قراريط، فصار كل أربعة مكاكيك بدينار في أيام قليلة، وكذلك باقي الأشياء من التمر، والدبس، والأرز، والسمسم وغيرها، فالله تعالى يؤيده، وينصره، ويبقيه، فإنه غريب في هذا الزمان الفاسد.

ولقد سمعت عنه كلمة أعجبتني جداً، وهي أنه قيل له في الذي يخرجه ويطلقه من الأموال التي لا تسمح نفس ببعضها؛ فقال لهم: أنا فتحت الدكان بعد العصر، فاتركوني أفعل الخير، فكم أعيش؟ وتصدق ليله عيد الفطر من هذه السنة، وفرق في العلماء وأل الدين مائة ألف دينار.
ذكر ملك بدر الدين قلعتي العمادية وهرورفي هذه السنة ملك بدر الدين قلعة العمادية من أعمال الموصل، وقد تقدم ذكر عصيان أهلها عليه سنة خمس عشرة وستمائة، وتسليمها إلى عماد الدين زنكي، ثم عودهم إلى طاعة بدر الدين، وخلافهم على عماد الدين، فلما عادوا إلى بدر الدين أحسن إليهم، وأعطاهم الإقطاع الكثير، وملكهم القرى، ووصلهم بالأموال الجزيلة والخلع السنية، فبقوا كذلك مدة يسيرة.
ثم شرعوا يراسلون عماد الدين زنكي، ومظفر الدين صاحب إربل، وشهاب الدين غازي بن العادل، لما كان بخلاط، ويعدون كلاً منهم بالانحياز إليه والطاعة له، وأظهروا من المخالفة لبدر الدين ما كانوا يبطنونه، فكانوا لا يمكنون أن يقيم عندهم من أصحاب بدر الدين إلا من يريدونه، ويمنعون من كرهوه، فطال الأمر، وهو يحتمل فعلهم ويداريهم، وهم لا يزدادون إلا طمعاً وخروجاً عن الطاعة.
وكانوا جماعة، فاختلفوا، فقوي بعضهم، وهم أولاد خواجه إبراهيم وأخوه ومن معهم، على الباقين، فأخرجوهم عن القلعة، وغلبوا عليها، وأصروا على ما كانوا عليه من النفاق.
فلما كان هذه السنة سار بدر الدين إليهم في عساكره، فأتاهم بغتة، فحصرهم، وضيق عليهم، وقطع الميرة عنهم، وأقام بنفسه عليهم، وجعل قطعة من الجيش على قلعة هرور يحصرونها، وهي من أمنع الحصون وأحصنها، لا يوجد مثلها، وكان أهلها أيضاً قد سلكوا طريق أهل العمادية من عصيان، وطاعة، ومخادعة، فأتاهم العسكر وحصروهم وهم في قلة من الذخيرة، فحصروها أياماً، ففني ما في القلعة، فاضطر أهلها إلى التسليم، فسلموها ونزلوا منها.
وعاد العسكر إلى العمادية، فأقاموا عليها مع بدر الدين، فبقي بدر الدين بعد أخذ هرور يسيراً، وعاد إلى الموصل، وترك العسكر بحاله مع ابنه أمين الدين لؤلؤ، فبقي الحصار إلى أول ذي القعدة، فأرسلوا يذعنون بالطاعة، ويطلبون العوض عنها ليسلموها، فاستقرت القواعد على العوض من قلعة يحتمون فيها، وأقطاع، ومال ، وغير ذلك، فأجابهم بدر الدين إلى ما طلبوا، وحضر نوابهم ليحلفوا بدر الدين.
فبينما هو يريد أن يحلف لهم وقد أحضر من يشهد اليمين إذ قد وصل طائر من العمادية وعلى جناحه رقعة من أمين الدين لؤلؤ يخبر أنه قد ملك العمادية قهراً وعنوة، وأسر بني خواجه الذين كانوا تغلبوا عليه، فامتنع بدر الدين من اليمين.
وأما سبب غلبة أمين الدين عليها، فإنه كان قد ولاه بدر الدين عليها لما عاد أهلها إلى طاعته، فبقي فيها مدة، وأحسن فيهم، واستمال جماعة منهم ليتقوى بهم على الحرب للذين عصوا أولاً، فنمى الخبر إليهم، فأساؤوا مجاورته، واستقالوا من ولايته عليهم، ففارقهم إلى الموصل.
وكان أولئك الذين استمالهم يكاتبونه ويراسلونه، فلما حصرهم كانوا أيضاً يكاتبونه في النشاب يخبرونه بكل ما يفعله أولاد خواجة من إنفاذ رسول وغير ذلك، وبما عندهم من الذخائر وغيرها، إلا إنهم لم يكونوا من الكثرة إلى حد أنهم يقهرون أولئك.
فلما كان الآن واستقرت القواعد من التسليم لم يذكر أولاد خواجه أحداً من جند القلعة في نسخة اليمين بمال، ولا غيره من أمان، وإقطاع، فسخطوا هذه الحال، وقالوا لهم: قد حلفتم لأنفسكم بالحصون والقرى والمال، ونحن قد خربت بيوتنا لأجلكم، فلم تذكرونا؛ فأهانوهم، ولم يلتفتوا إليهم، فحضر عند أمين الدين رجلان منهم ليلاً، وطلبوا منه أن يرسل إليهم جمعاً يصعدونهم إلى القلعة، ويثبون بأولئك ويأخذونهم، فامتنع، فقال: أخاف أن لا يتم هذا الأمر ويفسد علينا كل ما فعلناه. فقالوا: نحن نقبض عليهم غداً بكرة، وتكون أنت والعسكر على ظهر، فإذا سمعتم النداء باسم بدر الدين وشعاره تصعدون إلينا؛ فأجابهم إلى ذلك.

وركب بنفسه بكرة هو والعسكر على العادة، وأما أولئك فإنهم اجتمعوا، وقبضوا على أولاد خواجة ومن معهم، ونادوا بشعار بدر الدين، فبينما العسكر قيام إذا الصوت من القلعة باسم بدر الدين، فصعدوا إليها وملكوها، وتسلم أمين الدين أولاد خواجه فحبسهم، وكتب الرقعة على جناح الطائر بالحال، وملكوا القلعة صفواً وعفواً بغير عوض، وكان يريد أن يغرم مالاً جليلاً، وأقطاعاً كثير، وحصناً منيعاً، فتوفر الجميع عليه، وأخذ منهم كل ما احتقبوه وادخروه؛ وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ليلة الأحد العشرين من صفر زلزلت الأرض بالموصل، وديار الجزيرة والعراق، وغيرها، زلزلة متوسطة.
وفيها اشتد الغلاء بالموصل، وديار الجزيرة جميعها، فأكل الناس الميتة، والكلاب، والسنانير، فقلت الكلاب والسنانير بعد أن كانت كثيرة. ولقد دخلت يوماً إلى داري، فرأيت الجواري يقطعن اللحم ليطبخنه، فرأيت سنانير استكثرتا، فعددتها، فكانت اثني عشر سنوراً، ورأيت اللحم في هذا الغلاء في الدار وليس عنده من يحفظه من السنانير لعدمها، وليس بين المرتين كثير. وغلا مع الطعام كل شيء فبيع رطل الشيرج بقيراطين بعد أن كان بنصف قيراط قبل الغلاء، وأما قبل ذلك فكان كل ستين رطلاً بدينار.
ومن العجب أن السلق والجزر والشلجم بيع كل خمسة أرطال بدرهم، وبيع البنفسج كل ستة أرطال بدرهم، وبيع في بعض الأوقات كل سبعة أرطال بدرهم، وهذا ما لم يسمع بمثله. فإن الدنيا ما زالت قديماً وحديثاً، إذا غلت الأسعار، متى جاء المطر رخصت، إلا هذه السنة فإن الأمطار ما زالت متتابعة من أول الشتاء إلى آخر الربيع، وكلما جاء المطر غلت الأسعار، وهذا ما لم يسمع بمثله، فبلغت الحنطة مكوك وثلث بدينار وقيراط، يكحون وزنه خمسة وأربعين رطلاً دقيقاً بالبغدادي، وكان الملح مكوك بدرهم، فصار المكوك بعشرة دراهم، وكان الأرز مكوك باثني عشر درهماً، فصار المكوك بخمسين درهماً، وكان التمر كل أربعة أرطال وخمسة أرطال بقيراط، فصار كل رطلين بقيراط.
ومن عجيب ما يحكى أن السكر النادر الأسمر كان كل رطل بدرهم وربع، وكان السكر الأبلوج المصري النقي كل رطل بدرهمين، فصار السكر الأسمر كل رطل بثلاثة دراهم ونصف، والسكر الأبلوج كل رطل بثلاثة دراهم وربع؛ وسبه أن الأمراض لما كثرت، واشتد الوباء، قالت النساء: هذه الأمراض باردة والسكر الأسمر حار فينفع منها، والأبلوج بارد يقويها؛ وتبعهن الأطباء استمالة لقلوبهن، ولجهلهم، فغلا الأسمر بهذا السبب؛ وهذا من الجهل المفرط.
وما زالت الأشياء هكذا إلى أول الصيف، واشتد الوباء، وكثر الموت والمرض في الناس، فكان يحمل على النعش الواحد عدة من الموتى، فممن مات فيه شيخنا عبد المحسن بن عبد الله الخطيب، الطوسي، خطيب الموصل، وكان من صالحي المسلمين، وعمره ثلاث وثمانون سنة وشهور.
وفيها انخسف القمر ليلة الثلاثاء خامس عشر صفر.
وفيها هرب أمير حاج العراق، وهو حسام الدين أبو فراس الحلي، الكردي، والورامي، وهو ابن أخي الشيخ ورام؛ وكان عمه من صالحي المسلمين وخيارهم من أهل الحلة السيفية، فارق الحاج بين مكة والمدينة وسار إلى مصر.
حكى لي بعض أصدقائه أنه إنما حمله على الهرب كثرة الخرج في الطريق، وقلة المعونة من الخليفة، ولما فارق الحاج خافوا خوفاً شديداً من العرب، فأمن الله خوفهم، ولم يذعرهم ذاعر في جميع الطريق، ووصلوا آمنين، إلا أن كثيراً من الجمال هلك، أصابها غدة عظيمة فلم يسلم إلا القليل.
وفيها، في آب، جاء مطر شديد ورعد وبرق، ودام حتى جرت الأودية، وامتلأت الطرق بالوحل؛ ثم جاء الخبر من العراق، والشام، والجزيرة، وديار بكر، أنه كان عندهم مثله، ولم يصل إلينا بالموصل أحد إلا وأخبر أن المطر كان عندهم مثله في ذلك التاريخ.
وفيها كان في الشتاء ثلج كثير، ونزلت بالعراق، فسمعت أنه نزل في جميع العراق، حتى في البصرة؛ أما إلى واسط فلا شك فيه؛ وأما البصرة فإن الخبر لم يكثر عندنا بنزوله فيها.
وفيها خربت قلعة الزعفران من أعمال الموصل، وهي حصن مشهور يعرف قديماً بدير الزعفران، وهو على جبل عال قريب من فرشابور.
وفيها أيضاً خربت قلعة الجديدة من بلد الهكارية، من أعمال الموصل أيضاً، وأضيف عملها وقراها إلى العمادية.

وفيها، في ذي الحجة، سار جلال الدين بن خوارزم شاه من تبريز إلى بلد الكرج قاصداً لأخذ بلادهم واستئصالهم، وخرجت السنة ولم يبلغنا أنه فعل بهم شيئاً، ونحن نذكر ما فعله بهم سنة ثلاث وعشرين وستمائة إن شاء الله.
وفيها، ثالث شباط، سقط ببغداد ثلج، وبرد الماء برداً شديداً، وقوي البرد حتى مات به جماعة من الفقراء.
وفيه، في ربيع الأول، زادت دجلة زيادة عظيمة، واشتغل الناس بإصلاح سكر القورج، وخافوا، فبلغت الزيادة قريباً من الزيادة الأولى ثم نقص الماء واستبشر الناس.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وستمائة

ذكر ملك جلال الدين تفليس
في هذه السنة، ثامن ربيع الأول، فتح جلال الدين بن خوارزم شاه مدينة تفليس من الكرج؛ وسبب ذلك أنا قد ذكرنا سنة اثنتين وعشرين وستمائة الحرب بينه وبينهم، وانهزامهم منه، وعوده إلى تبريز بسبب الخلف الواقع فيها، فلما استقر الأمر في أذربيجان عاد إلى بلد الكرج في ذي الحجة من السنة، وخرجت سنة اثنتين وعشرين وستمائة، ودخلت هذه السنة، فقصد بلادهم، وقد عادوا فحشدوا وجمعوا من الأمم المجاورة لهم اللان واللكز وقفجاق وغيرهم، فاجتمعوا في جمع كثير لا يحصى، فطمعوا بذلك، ومنتهم أنفسهم الأباطيل، ووعدهم الشيطان الظفر، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً، فلقيهم، وجعل لهم الكمين في عدة مواضع، والتقوا واقتتلوا، فولى الكرج منهزمين لا يلو ي الأخ على أخيه، ولا الوالد على ولده، وكل منهم قد أهمته نفسه، وأخذتهم سيوف المسلمين من كل جانب، فلم ينج منهم إلا اليسير الشاذ الذي لا يعبأ به؛ وأمر جلال الدين عسكره أن لا يبقوا على أحد، وأن يقتلوا من وجدوا، فتبعوا المنهزمين يقتلونهم، وأشار عليه أصحابه بقصد تفليس دار ملكهم، فقال: لا حاجة لنا إلى أن نقتل رجالنا تحت الأسوار، إنما إذا أفنيت الكرج أخذت البلاد صفواً عفواً.
ولم تزل العساكر تتبعهم وتستقصي في طلبهم إلى أن كادوا يفنونهم، فحينئذ قصد تفليس ونزل بالقرب منها. وسار في بعض الأيام في طائفة من العسكر، وقصدها لينظر إليها، ويبصر مواضع النزول عليها، وكيف يقاتلها، فلما قاربها كمن أكثر العسكر الذي معه في عدة مواضع، ثم تقدم إليها في نحو ثلاثة آلاف فارس، فلما رآه من بها من الكرج طمعوا فيه لقلة من معه، ولم يعلموا أنه معهم، فظهروا إليه فقاتلوه، فتأخر عنهم، فقوي طمعهم فيه لقلة من معه، فظنوه منهزماً، فتبعوه، فلما توسطوا العساكر خرجوا عليهم ووضعوا السيف فيهم، فقتل أكثرهم، وانهزم الباقون إلى المدينة فدخلوها، وتبعهم المسلمون، فلما وصلوا إليها نادى المسلمون من أهلها بشعار الإسلام، وباسم جلال الدين، فألقى الكرج بأيديهم واستسلموا، لأنهم كانوا قد قتل رجالهم في الوقعات المذكورة، فقل عددهم، وملئت قلوبهم خوفاً ورعباً، فملك المسلمون البلد عنوة وقهراً بغير أمان، وقتل كل من فيه من الكرج، ولم يبق على كبير ولا صغير إلا من أذعن بالإسلام، وأقر بكلمتي الشهادة، فإنه أبقى عليه، وأمرهم فتختنوا وتركهم.
ونهب المسلمون الأموال، وسبوا النساء واسترقوا الأولاد، ووصل إلى المسلمين الذين بها بعض الأذى من قتل ونهب وغيره.
وتفليس هذه من أحصن البلاد وأمنعها، وهي على جانبي نهر الكر، وهو نهر كبير، ولقد جل هذا الفتح وعظم موقعه في بلاد الإسلام وعند المسلمين، فإن الكرج كانوا قد استطالوا عليهم، وفعلوا بهم ما أرادوا، فكانوا يقصدون أي بلاد أذربيجان أرادوا، فلا يمنعهم عنها مانع، ولا يدفعهم عنها دافع؛ وهكذا أرزن الروم، حتى إن صاحبها لبس خلعة ملك الكرج، ورفع على رأسه علماً في أعلاه صليب، وتنصر ولده رغبة في نكاح ملكة الكرج، وخوفاً منهم، ليدفع الشر عنه، وقد تقدمت القصة، وهكذا دربند شروان.
وعظم أمرهم إلى حد أن ركن الدين بن قلج أرسلان، صاحب قونية، وأقصرا، وملطية، وسائر بلاد الروم التي للمسلمين، جمع عساكره، وحشد معها غيرها فاستكثر، وقصد أرزن الروم، وهي لأخيه طغرل شاه بن قلج أرسلان، فأتاه الكرج وهزموه، وفعلوا به وبعسكره كل عظيم، وكان أهل دربند شروان معهم في الضنك والضيقة.

وأما أرمينية، فإن الكرج دخلوا مدينة أرجيش، وملكوا قرس وغيرها، وحصروا خلاط، فلولا أن الله سبحانه من على المسلمين بأسر إيواني، مقدم عساكر الكرج، لملكوها، فاضطر أهلها إلى أن بنوا لهم بيعة في القلعة يضرب فيها الناقوس، فرحلوا عنهم، وقد تقدم تفصيل هذه الحلمة.
ولم يزل هذا الثغر من أعظم الثغور ضرراً على المجاورين له من الفرس، قبل الإسلام، وعلى المسلمين بعدهم، من أول الإسلام إلى الآن، ولم يقدر أحد عليهم هذا الإقدام، ولا فعل بهم هذه الأفاعيل، فإن الكرج ملكوا تفليس سنة خمس عشرة وخمسمائة، والسلطان حينئذ محمود بن محمود بن ملكشاه السلجوقي، وهو من أعظم السلاطين منزلة، وأوسعهم مملكة، وأكثرهم عساكر، فلم يقدر على منعهم عنها؛ هذا مع سعة بلاده، فإنه كان له الري وأعمالها، وبلد الجبل، وأصفهان، وفارس، وخوزستان، والعراق، وأذربيجان، وأران، وأرمينية، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، والشام، وغير ذلك، وعمه السلطان سنجر له خراسان وما وراء النهر، فكان أكثر بلاد الإسلام بأيديهم، ومع هذا فإنه جمع عساكره سنة تسع عشرة وخمسمائة، وسار إليهم بعد أن ملكوها، فلم يقدر عليهم.
ثم ملك بعده أخوه السلطان مسعود، وملك الدكز بلد الجبل والري وأصفهان وأذربيجان وأران، وأطاعه صاحب خلاط، وصاحب فارس، وصاحب خوزستان، وجمع وحشد لهم، وكان قصاره أن يتخلص منهم، ثم ابنه البهلوان بعده؛ وكانت البلاد في أيام أولئك عامرة كثيرة الأموال والرجال، فلم يحدثوا أنفسهم بالظفر بهؤلاء، حتى جاء هذا السلطان والبلاد خراب قد أضعفها الكرج أولاً، ثم استأصلها التتر، لعنهم الله، على ما ذكرنا، ففعل بهم هذه الأفاعيل، فسبحان من إذا أراد أمراً قال له كن فيكون.
ذكر مسير مظفر الدين صاحب إربل إلى الموصل وعوده عنهافي هذه السنة، في جمادى الآخرة، سار مظفر الدين بن زين الدين، صاحب إربل، إلى أعمال الموصل، قاصداً إليها. وكان السبب في ذلك أنه استقرت القاعدة بينه وبين جلال الدين بن خوارزم شاه وبين الملك المعظم، صاحب دمشق، وبين صاحب آمد، وبين ناصر الدين، صاحب ماردين، ليقصدوا البلاد التي بيد الأشرف، ويتغلبوا عليها، ويكون لكل منهم نصيب ذكره؛ واستقرت القواعد بينهم على ذلك، فبادر فظفر الدين إلى الموصل.
وأما جلال الدين فإنه سار من تفليس يريد خلاط، فأتاه الخبر أن نائبه ببلاد كرمان، واسمه بلاق حاجب، قد عصى عليه، على ما نذكره، فلما أتاه الخبر بذلك ترك خلاط ولم يقصدها، إلا أن عسكره نهب بعض بلدها وخرب كثيراً منه، وسار مجداً إلى كرمان، فانفسخ جميع ما كانوا عزموا عليه، إلا أن مظفر الدين سار من إربل ونزل على جانب الزابن ولم يمكنه العبور إلى بلد الموصل.
وكان بدر الدين قد أرسل من الموصل إلى الأشرف، وهو بالرقة، يستنجده، ويطلب منه أن يحضر بنفسه الموصل ليدفع مظفر الدين، فسار منها إلى حران، ومن حران إلى دنيسر، فخرب بلد ماردين وأهله تخريباً ونهباً.
وأما المعظم، صاحب دمشق، فإنه قصد بلاد حمص وحماة، وأرسل إلى أخيه الأشرف يقول: إن رحلت عن ماردين وحلب، وأنا عن حمص وحماة، وأرسلت إلى مظفر الدين ليرجع عن بلد الموصل؛ فرحل الأشرف عن ماردين وعاد كل منهم إلى بلده، وخربت أعمال الموصل، وأعمال ماردين بهذه الحركة، فإنها كانت قد أجحف بها تتابع الغلاء وطول مدته، وجلاء أكثر أهلها، فأتتها هذه الحادثة فازدادت خراباً على خراب.
ذكر عصيان كرمان على جلال الدين

ومسيره إليها
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، وصل الخبر إلى جلال الدين أن نائبه بكرمان، وهو أمير كبير اسمه بلاق حاجب، قد عصى عليه، وطمع في البلاد أن يتملكها ويستبد بها لبعد جلال الين عنها، واشتغاله بما ذكرناه من الكرج وغيرهم، وأنه أرسل إلى التتر يعرفهم قوة جلال الدين وملكه كثيراً من البلاد، وإن أخذ الباقي عظمت مملكته، وكثرت عساكره، وأخذ ما بأيديكم من البلاد.

فلما سمع جلال الدين ذلك كان قد سار يريد خلاط، فتركها وسار إلى كرمان يطوي المراحل، وأرسل بين يديه رسولاً إلى صاحب كرمان، ومعه الخلع ليطمئن ويأتيه وهو غير محتاط ولا مستعد للامتناع منه؛ فلما وصل الرسول علم أن ذلك مكيدة عليه لما يعرفه من عادته، فأخذ ما يعز عليه، وصعد إلى قلعة منيعة فتحصن بها، وجعل من يثق به من أصحابه في الحصون يمتنعون بها، وأسل إلى جلال الدين يقول: إنني أنا العبد والمملوك؛ ولما سمعت بمسيرك إلى هذه البلاد أخليتها لك لأنها بلادك، ولو علمت أنك تبقي علي لحضرت بابك، ولكني أخاف هذا جميعه؛ والرسول يحلف له أن جلال الدين بتفليس، وهو لا يلتفت إلى قوله، فعاد الرسول، فعلم جلال الدين أنه لا يمكنه أخذ ما بيده من الحصون لأنه يحتاج أن يحصرها مدة طويلة، فوقف بالقرب من أصفهان، وأرسل إليه الخلع، وأقره على ولايته.
فبينما الرسل تتردد إذ وصل رسول من وزير جلال الدين إليه من تفليس يعرفه أن عسكر الملك الأشرف الذي بخلاط قد هزموا بعض عسكره وأوقعوا بهم، ويحثه على العود إلى تفليس فعاد إليهم مسرعاً.
ذكر الحب بين عسكر الأشرف وعسكر جلال الدينلما سار جلال الدين إلى كرمان ترك بمدينة تفليس عسكراً مع وزيره شرف الملك، فقلت عليهم الميرة، فساروا إلى أعمال أرزن الروم، فوصلوا إليها، ونهبوها، وسبوا النساء، وأخذوا من الغنائم شيئاً كثيراً لا يحصى، وعادوا فكان طريقهم على أطراف ولاية خلاط، فسمع النائب عن الأشرف بخلاط، وهو الحاجب حسام الدين علي الموصل، فجمع العسكر وسار إليهم، فأوقع بهم، واستنقذ ما معهم من الغنائم، وغنم كثيراً مما معهم، وعاد هو وعساكره سالمين.
فلما فعل ذلك خاف وزير جلال الدين منهم، فأرسل إلى صاحبه بكرمان يعرفه الحال، ويحثه على العود إليه، ويخوفه عاقبة التواني والإهمال، فرجع فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة الخليفة الظاهر بأمر اللهفي هذه السنة، في الرابع عشر من رجب، توفي الإمام الظاهر بأمر الله أمير المؤمنين أبو نصر محمد بن الناصر لدين الله أبي العباس أحمد بن المستضيء بأمر الله، وقد تقدم نسبه عند وفاة أبيه، رضي الله عنهما، فكانت خلافته تسعة أشهر وأربعة وعشرين يوماً، وكان نعم الخليفة، جمع الخشوع مع الخضوع لربه، والعدل والإحسان إلى رعيته، وقد تقدم عند ذكر ولايته الخلافة من أفعاله ما فيه كفاية؛ ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية، فرضي الله عنه وأرضاه، وأحسن منقلبه ومثواه، فلقد جدد من العدل ما كان دارساً، وأذكر من الإحسان ما كان منسياً.
وكان قبل وفاته أخرج توقيعاً إلى الوزير بخطه ليقرأه على أرباب الدولة، وقال الرسول: أمير المؤمنين يقول: ليس غرضنا أن يقال برز مرسوم، أو نفذ مناك، ثم لا يبين له أثر، بل أنتم إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال؛ فقرأوه، فإذا في أوله بعد البسملة: اعلموا أنه ليس إمهالنا إهمالاً، ولا إغضاؤنا إغفالاً، ولكن لنبلوكم أيكم أحسن عملاً، وقد عفونا لكم ما سلف من إخراب البلاد، وتشريد الرعايا، وتقبيح السمعة، وإظهار الباطل الجلي في صورة الحق الخفي حيلة ومكيدة، وتسمية الاستئصال والاجتياح استيفاء واستدراكاً لأغراض انتهزتم فرصتها مختلسة من براثن ليث باسل، وأنياب أسد مهيب، تتفقون بألفاظ مختلفة على معنى واحد وأنتم أمناؤه وثقاته، فتميلون رأيه إلى هواكم، وتمرجون باطلكم بحقه، فيطيعكم وأنتم له عاصون، ويوافقكم وأنتم له مخالفون، والآن قد بدل الله سبحانه بخوفكم أمناً، وبفقركم غنى، وبباطلكم حقاً، ورزقكم سلطاناً يقيل العثرة ويقبل المعذرة، ولا يؤاخذ إلا من أصر، ولا ينتقم إلا ممن استمر؛ يأمركم بالعدل وهو يريده منكم، وينهاكم عن الجور وهو يكرهه لكم، يخاف الله تعالى، فيخوفكم مكره، ويرجوا الله تعالى، ويرغبكم في طاعته، فإن سلكتم مسالك خلفاء الله في أرضه وأمنائه على خلقه وإلا هلكتم، والسلام.
ولما توفي وجدوا في بيت، في داره، ألوف رقاع كلها مختومة لم يفتحها، فقيل له ليفتحها، فقال: لا حاجة لنا فيها، كلها سعايات.
ولم أزل، علم الله سبحانه، مذ ولي الخلافة، أخاف عليه قصر المدة لخبث الزمان وفساد أهله، وأقول لكثير من أصدقائنا: وما أخوفني أن تقصر مدة خلافته، لأن زماننا وأهله لا يستحقون خلافته؛ فكان كذلك.

ذكر خلافة ابنه المستنصر بالله
لما توفي الظاهر بأمر الله بويع بالخلافة ابنه الأكبر أبو جعفر المنصور، ولقب المستنصر بالله، وسلك في الخير والإحسان إلى الناس سيرة أبيه، رضي الله عنه، وأمر فنودي ببغداد بإفاضة العدل، وإن من كان له حاجة، أو مظلمة يطالع بها، تقضى حاجته، وتكشف مظلمته.
فلما كان أول جمعة أتت على خلافته أراد أن يصلي الجمعة في المقصورة التي كان يصلي فيها الخلفاء، فقيل له إن المطبق الذي يسلك يه إليها خراب لا يمكن سلوكه، فركب فرساً وسار إلى الجامع، جامع القصر، ظاهراً يراه الناس بقميص أبيض وعمامة بيضاء، بسكاكين حرير، ولم يترك أحداً يمشي معه بل أمر كل من أراد أن يمشي معه من أصحابه بالصلاة في الموضع الذي كان يصلي فيه، وسار هو ومعه خادمان وركابدار لا غير، وكذلك الجمعة الثانية حتى أصلح له المطبق.
وكان السعر قد تحرك بعد وفاة الظاهر بأمر الله، رضي الله عنه، فبلغت الكارة ثمانية عشر قيراطاً، فأمر أن تباع الغلات التي له كل كارة بثلاثة عشر قيراطاً، فرخصت الأسعار واستقامت الأمور.
ذكر الحرب بين كيقباذ وصاحب آمدفي هذه السنة، في شعبان، سار علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو ابن قلج أرسلان، ملك بلاد الروم، إلى بلاد المللك المسعود، صاحب آمد، وملك عدة من حصونه.
وسبب ذلك ما ذكرناه من اتفاق صاحب آمد مع جلال الدين بن خوارزم شاه والملك المعظم، صاحب دمشق، وغيرهما على خلاف الأشرف؛ فلما رأى الأشرف ذلك أرسل إلى كيقباذ، ملك الروم، وكانا متفقين، يطلب منه أن يقصد بلد صاحب آمد ويحاربه، وكان الأشرف حينئذ على ماردين، فسار ملك الروم إلى ملطية، وهي له، فنزل عندها، وسير العساكر إلى ولاية صاحب آمد، ففتحوا حصن منصور وحصن سمكاراد وغيرهما؛ فلما رآى صاحب آمد ذلك راسل الأشرف، وعاد إلى موافقته، فأرسل الأشرف إلى كيقباذ يعرفه ذلك، ويقول له ليعيد إلى صاحب آمد ما أخذ منه، فلم يفعل، وقال: لم أكن نائباً للأشرف يأمرني وينهاني.
فاتفق أن الأشرف سار إلى دمشق ليصلح أخاه الملك المعظم، وأمر العساكر التي له بديار الجزيرة بمساعدة صاحب آمد، إن أصر ملك الروم على قصده، فسارت عساكر الأشرف إلى صاحب آمد وقد جمع عسكره، ومن ببلاده ممن يصلح للحرب وسار إلى عسكر ملك الروم وهم يحاصرون قلعة الكختا بعد الهزيمة، وهي من أمنع الحصون والمعاقل، فلما ملكوها عادوا إلى صاحبها.
ذكر حصر جلال الدين مدينتي آني وقرسفي هذه السنة، في رمضان، عاد جلال الدين من كرمان، كما ذكرناه؛ إلى تفليس، وسار منها إلى مدينة آني، وهي للكرج، وبها إيواني مقدم عساكر الكرج فيمن بقي معه من أعيان الكرج، فحصره وسير طائفة من العسكر إلى مدينة قرس وهي للكرج أيضاً، وكلاهما من أحصن البلاد وأمنعها، فنازلهما وحصرهما، وقاتل من بهما، ونصب عليهما المجانيق، وجد في القتال عليهما، وحفظهما الكرج، وبالغوا في الحفظ والاحتياط لخوفهم منه أن يفعل بهم ما فعل بأشياعهم من قبل بمدينة تفليس، وأقام عليهما إلى أن مضى بعض شوال، ثم ترك العسكر عليهم يحصرونهم وعاد إلى تفليس.
وسار من تفليس مجداً إلى بلاد ابخار وبقايا الكرج، فأوقع بمن فيها، فنهب، وقتل، وسبى، وخرب البلاد وأحرقها، وغنم عساكره ما فيها، وعاد منها إلى تفليس.
ذكر حصر جلال الدين خلاطقد ذكرنا أن جلال الدين عاد من مدينة آني إلى تفليس ودخل بلاد ابخاز، وكان رحيله مكيدة لأنه بلغه أن النائب عن الملك الأشرف، وهو الحاجب حسام الدين علي بمدينة خلاط، قد احتاط، واهتم بالأمر وحفظ البلد لقربه منه؛ فعاد إلى تفليس ليطمئن أهل خلاط ويتكروا الاحتياط والاستظهار ثم يقصدهم بغتة؛ فكانت غيبته ببلاد ابخاز عشرة أيام، وعاد، وسار مجداً يطوي المراحل على عادته، فلو لم يكن عنده من يراسل نواب الأشرف بالأخبار لفجأهم على حين غفلة منهم، وإنما كان عنده بعض ثقاته يعرفهم أخباره، وكتب إليهم فوصل الخبر إليهم قبل وصوله بيومين.

ووصل جلال الدين فنازل مدينة ملازكرد يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة، ثم رحل عنها؛ فنازل مدينة خلاط يوم الاثنين خامس عشر ذي القعدة، فلم ينزل حتى زحف إليها، وقاتل أهلها قتالاً شديداً، فوصل عسكره سور البلد، وقتل بينهم قتل كثيرة، ثم زحف إليها مرة ثانية، وقاتل أهل البلد قتالاً عظيماً، فعظمت نكاية العسكر في أهل خلاط، ووصلوا إلى سور البلد، ودخلوا الربض الذي له، ومدوا أيديهم في النهب وسبي الحريم.
فلما رأى أهل خلاط ذلك تذامروا، وحرض بعضهم بعضاً، فعادوا إلى العسكر فقاتلوهم فأخرجوهم من البلد، وقتل بينهم خلق كثير، وأسر العسكر الخوارزمي من أمراء خلاط جماعة، وقتل منهم كثير، وترجل الحاجب علي، ووقف في نحر العدو، وأبلى بلاء عظيماً.
ثم إن جلال الدين استراح عدة أيام، وعاود الزحف مثل أول يوم، فقاتلوه حتى أبعدوا عسكره عن البلد. وكان أهل خلاط مجدين في القتال، حريصين على المنع عن أنفسهم، لما رأوا من سوء سيرة الخوارزميين ونهبهم البلاد، وما فيهم من الفساد، فهم يقاتلون قتال من يمنع عن نفسه وحريمه وماله، ثم أقام عليها إلى أن اشتد البرد، ونزل شيء من الثلج، فرحل عنها يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة من السنة، وكان سبب رحيله مع خوف الثلج ما بلغه عن التركمان الإيوانية من الفساد ببلاده.
ذكر إيقاع جلال الدين بالتركمان الإيوانيةكان التركمان الإيوانية قد تغلبوا على مدينة أسنة وأرمية، من نواحي أذربيجان، وأخذوا الخراج من أهل خوي ليكفوا عنهم، واغتروا باشتغال جلال الدين بالكرج، وبعدهم بخلاط، وازداد طمعهم، وانبسطوا بأذربيجان ينهبون، ويقطعون الطريق؛ والأخبار تأتي إلى خوارزم شاه جلال الدين بن خوارزم شاه، وهو يتغافل عنهم لاشتغاله بما هو المهم عنده؛ وبلغ من طمعهم أنهم قطعوا الطريق بالقرب من تبريز، وأخذوا من تجار أهلها شيئاً كثيراً، ومن جملة ذلك أنهم اشتروا غنماً من أرزن الروم وقصدوا بها تبريز، فلقيهم الإيوانية قبل وصولهم إلى تبريز، فأخذوا جميع ما معهم، ومن جملته عشرون ألف رأس غنم.
فلما اشتد ذلك على الناس وعظم الشر أرسلت زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل ونوابه في البلاد إليه يستغيثون، ويعرفونه أن البلاد قد خربها الإيوانية، ولئن لم يلحقها، وإلا هلكت بالمرة.
فاتفق هذا إلى خوف الثلج، فرحل عن خلاط، وجد السير إلى الإيوانية، وهم آمنون مطمئنون، لعلمهم أن خوارزم شاه على خلاط، وظنوا أنه لا يفارقها، فلولا هذا الاعتقاد لصعدوا إلى جبال لهم منيعة شاقة لا يرتقى إليها إلا بمشقة وعناء، فإنهم كانوا إذا خافوا صعدوا إليها وامتنعوا بها، فلم يرعهم إلا والعساكر الجلالية قد أحاطت بهم، وأخذهم السيف من كل جانب، فأكثروا القتل فيهم، والنهب، والسبي، واسترقوا الحريم والأولاد، وأخذوا من عندهم ما لا يدخل تحت الحصر، فرأوا كثيراً من الأمتعة التي أخذوها من التجار بحالها في الشذوات، هذا سوى ما كانوا قد حلوه وفصلوه، فلما فرغ عاد إلى تبريز.
ذكر الصلح بين المعظم والأشرافنبتدئ بذكر سبب الاختلاف، فنقول: لما توفي الملك العادل أبو بكر ابن أيوب، اتفق أولاده الملوك بعده اتفاقاً حسناً، وهم: الملك الكامل محمد، صاحب مصر، والملك المعظم عيسى، صاحب دمشق، والملك الأشرف موسى، وهو صاحب ديار الجزيرة وخلط، واجتمعت كلمتهم على دفع الفرنج عن الديار المصرية.
ولما رحل الكامل عن دمياط لما كان الفرنج يحصرونها، صادفه أخوه المعظم من الغد، وقويت نفسه، وثبت قدمه، ولولا ذلك لكان الأمر عظيماً، وقد ذكرنا ذلك مفصلاً، ثم إنه عاد من مصر وسار إلى أخيه الأشرف ببلاد الجزيرة مرتين يستنجده على الفرنج، ويحثه على مساعدة أخيهما الكامل، ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر، وأزالوا الفرنج، ويحثه على مساعدة أخيهما الكامل، ولم يزل به حتى أخذه وسار إلى مصر، وأزالوا الفرنج عن الديار المصرية، كما ذكرناه قبل، فكان اتفاقهم على الفرنج سبباً لحفظ بلاد الإسلام، وسر الناس أجمعون بذلك.
فلما فارق الفرنج مصر وعاد كل من الملوك أولاد العادل إلى بلده بقوا كذلك يسيراً، ثم سار الأشرف إلى أخيه الكامل بمصر، فاجتاز بأخيه المعظم بدمشق، فلم يستصحبه معه، وأطال المقام بمصر، فلا شك أن المعظم ساءه ذلك.

ثم إن المعظم سار إلى مدينة حماة وحصرها، فأرسل إليه أخو من مصر ورحلاه عنها كارهاً، فازداد نفوراً، وقيل: إنه نقل إليه عنهما أنهما اتفقا عليه، والله أعلم بذلك.
ثم انضاف إلى ذلك أن الخليفة الناصر لدين الله، رضي الله عنه، كان قد استوحش من الكامل لما فعله ولده صاحب اليمن من الاستهانة بأمير الحاج العراقي، فأعرض عنه وعن أخيه الأشرف لاتفاقهما، وقاطعهما، وراسل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي، صاحب إربل، يعلمه بانحرافه عن الأشرف، واستماله، واتفقا على مراسلة المعظم، وتعظيم الأمر عليه، فمال إليهما، وانحرف عن إخوته.
ثم اتفق ظهور جلال الدين وكثرة ملكه، فاشتد الأمر على الأشرف بمجاورة جلال الدين خوارزم شاه ولاية خلاط، ولأن المعظم بدمشق يمنع عنه عساكر مصر أن تصل إليه، وكذلك عساكر حلب وغيرها من الشام، فرأى الأشرف أن يسير إلى أخيه المعظم بدمشق، فسار إليه في شوال واستماله وأصلحه، فلما سمع الكامل بذلك عظم عليه؛ ثم إنها راسلاه، أعلماه بنزول جلال الدين على خلاط، وعظما الأمر عليه، وأعلماه أن هذه الحال تقتضي الاتفاق لعمارة البيت العادلي، وانقضت السنة والأشرف بدمشق والناس عل مواضعهم ينتظرون خروج الشتاء ما يكون من الخوارزميين، وسنذكر ما يكون سنة أربع وعشرين وستمائة إن شاء الله تعالى.
ذكر الفتنة بين الفرنج والأرمنفي هذه السنة جمع البرنس الفرنجي، صاحب أنطاكية، جموعاً كثيرة وقصد الأرمن الذين في الدروب بلاد ابن ليون، فكان بينهم حرب شديد.
وسبب ذلك أن ابن ليون الأرمني، صاحب الدروب، توفي قبل ولم يخلف ولداً ذكراً، إنما خلف بنتاً، فملكها الأرمن عليهم، ثم علموا أن الملك لا يقوم بامرأة، فزوجوها من ولد البرنس، فتزوجها، وانتقل إلى بلدهم، واستقر في الملك نحو سنة، ثم ندموا على ذلك، وخافوا أن يستولي الفرنج على بلادهم، فثاروا بابن البرنس، فقبضوا عليه وسجنوه، فأرسل أبوه يطلب أن يطلق ويعاد في الملك، فلم يفعلوا، فأرسل إلى بابا ملك الفرنج برومية الكبرى يستأذنه في قصد بلادهم، وملك رومية هذا أمره عند الفرنج لا يخالف، فمنعه عنهم، وقال: إنهم أهل ملتنا، ولا يجوز قصد بلادهم، فخالفه وأرسل إلى علاء الدين كيقباذ ملك قونية وملطية وما بينهما من بلاد المسلمين، وصالحه، ووافقه على قصد بلاد ابن ليون، والاتفاق على قصدها، فاتفقا على ذلك، وجمع البرنس عساكره ليسير إلى بلاد الأرمن، فخالف عليه الداوية والاسبتارية، وهما جمرة الفرنج، فقالوا: إن ملك رومية نهانا عن ذلك؛ إلا أنه أطاعه غيرهم، فدخل أطراف بلاد الأرمن، وهي مضايق وجبال وعرة، فلم يتمكن من فعل ما يريد.
وأما كيكاوس، فإنه قصد بلاد الأمن من جهته، وهي أسهل من جهة الشام، فدخلها سنة اثنتين وعشرين وستمائة، فنهبها، وأحرقها، وحصر عدة حصون، ففتح أربعة حصون، وأدركه الشتاء فعاد عنها.
فلما سمع بابا ملك الفرنج برومية أرسل إلى الفرنج بالشام يعلمهم أنه قد حرم البرنس، فكان الداوية والاسبتارية وكثير من الفرسان لا يحضرون معه، ولا يسمعون قوله؛ وكان أهل بلاده، وهي أنطاكية وطرابلس، إذا جاءهم عيد يخرج من عندهم، فإذا فرغوا من عيدهم دخل البلد.
ثم إنه أرسل إلى ملك رومية يشكو من الأرمن، وأنهم لم يطلقوا ولده، ويستأذنه في أن يدخل بلادهم ويحاربهم إن لم يطلقوا ابنه، فأرسل إلى الأرمن يأمرهم بإطلاق ابنه وإعادته إلى الملك، فإن فعلوا وإلا فقد أذن له في قصد بلادهم؛ فلما بلغتهم الرسالة لم يطلقوا ولده، فجمع البرنس وقصد بلاد الأرمن، فأسل الأرمن إلى الأتابك شهاب الدين بحلب يستنجدونه، ويخوفونه من البرنس وقصد بلاد الأرمن، فأرسل الأرمن إلى الأتابك شهاب الدين بحلب يستنجدونه، ويخفونه من البرنس إن استولى على بلادهم لأنها تجاور أعمال حلب، فأمدهم بجند وسلاح.
فلما سمع البرنس ذلك صمم العزم على قصد بلادهم، فسار إليهم وحاربهم، فلم يحصل على غرض، فعاد عنهم.
حدثني بهذا رجل من عقلاء النصارى ممن دخل تلك البلاد وعرف حالها، وسألت غيره، فعرف البعض وأنكر البعض.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة انخسف القمر مرتين: أولاهما ليلة رابع عشر صفر، وفيها كانت أعجوبة بالقرب من الموصل حامة تعرف بعين القيارة، شديدة الحرارة، تسميها الناس عين ميمون، ويخرج مع الماء قليل من القار، فكان الناس يسبحون فيها دائماً في الربيع والخريف، لأنها تنفع من الأمراض الباردة، كالفالج وغيره، نفعاً عظيماً، فكان من يسبح فيها يجد الكرب الشديد من حرارة الماء، ففي هذه السنة برد الماء فيها، حتى كان السابح فيها يجد البر، فتركوها وانتقلوا إلى غيرها.
وفيها كثيرت الذئاب والخنازير والحيات، فقتل كثير، فقد بلغني أن ذئباً دخل الموصل فقتل فيها، وحدثني صديق لنا له بستان بظاهر الموصل أنه قتل فيه، في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، جميع الصيف حيتين، وقتل هذه السنة إلى أول حزيران سبع حيات لكثرتها.
وفيها انقطع المطر بالموصل وأكثر البلاد الجزرية من خامس شباط إلى ثاني عشر نيسان، ولم يجر شيء يعتد به، لكنه سقط اليسير منه في بعض القرى، فجاءت الغلات قليلة، ثم خرج الجراد الكثير، فازداد الناس أذى، وكانت الأسعار قد صلحت شيئاً، فعاد لكثرة الجراد فغلت، ونزل أيضاً في أكثر القرى برد كبير أهلك زروع أهلها وأفسدها، واختلفت أقاويل الناس في أكبره، كان وزن بردة مائتي درهم، وقيل رطل، وقيل غير ذلك، إلا أنه أهلك كثيراً من الحيوان، وانقضت هذه السنة والغلاء باق وأشده بالموصل.
وفيها اصطاد صديق لنا أرنباً فرآه وله أنثيان وذكر وفرج أنثى، فلما شقوا بطنها رأوا فيها حريفين، سمعت هذا منه ومن جماعة كانوا معه، وقالوا: ما زلنا نسمع أن الأرنب يكون سنة ذكراً وسنة أنثى، ولا نصدق ذلك، فلما رأينا هذا علمنا أنه قد حمل، وهو أنثى، وانقضت السنة فصار ذكراً، فإن كان كذلك وإلا فيكون في الأرانب كالخنثى في بني آدم، يكون لأحدهم فرج الرجل وفرج الأنثى، كما أن الأرنب تحيض كما تحيض النساء، فإني كنت بالجزيرة، ولنا جار له بنت اسمها صفية، فبقيت كذلك نحو خمس عشرة سنة، وإذا قد طلع لها ذكر رجل، ونبتت لحيته، فكان له فرج امرأة وذكر رجل.
وفيها ذبح إنسان عندنا رأس غنم، فوجد لحمه مراً شديد المرارة، حتى رأسه وأكارعه ومعلاقه وجميع أجزائه، وهذا ما لم يسمع بمثله.
وفيها يوم الأربعاء الخامس والعشرين من ذي القعدة، ضحوة النهار، زلزلت الأرض بالموصل وكثير من البلاد العربية والعجمية، وكان أكثرها بشهرزور، فإنها خرب أكثرها، ولا سيما القلعة، فإنها أجحفت بها؛ وخرب من تلك الناحية ست قلاع، وبقيت الزلزلة تتردد فيها نيفاً ثلاثين يوماً، ثم كشفها الله عنهم؛ وأما القرى بتلك الناحية فخرب أكثرها.
وفيها، في رجب، توفي القاضي الحاج أبو المظفر بن عبد القاهر بن الحسن بن علي بن القاسم الشهرزوري، قاضي الموصل، بها، وكان قد أضر قبل وفاته بنحو سنتين، وكان عالماً بالقضاء، عفيفاً، نزهاً، ذا رئاسة كبيرة، وله صلات دارة للمقيم والوارد، رحمه الله، فلقد كان من محاسن الدنيا، ولم يخلف غير بنت توفيت بعده بثلاثة أشهر.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وستمائة

ذكر دخول الكرج مدينة تفليس وإحراقه
في هذه السنة، في بيع الأول، وصل الكرج مدينة تفليس، ولم يكن بها من العسكر الإسلامي من يقوم بحمايته أن وسبب ذلك أن جلال الدين لما عاد من خلاط، كما ذكرنا قبل، وأوقع بالإيوانية، فرق عساكره إلى المواضع الحارة الكثيرة المرعى، ليشتوا بها، وكان عسكره قد أساؤوا السيرة في رعية تفليس، وهم مسلمون، وعسفوهم، فكاتبوا الكرج يستدعونهم إليهم، ليملكوهم البلد، فاغتنم الكرج ذلك لميل أهل البلد إليهم، وخلوه من العسكر، فاجتمعوا، وكانوا بمدينتي قرس وآني وغيرهما من الحصون، وساروا إلى تفليس، وكانت خالية كما ذكرناه، ولأن جلال الدين استضعف الكرج الكثرة من قتل منهم، ولم يظن فيهم حركة، فملكوا البلد، ووضعوا السيف فيمن بقي من أهله، وعلموا أنهم لا يقدرون على حفظ البلد من جلال الدين، فأحرقوه جميعه.
وأما جلال الدين فإنه لما بلغه الخبر سار فيمن عنده من العساكر ليدركهم، فلم ير منهم أحداً، كانوا قد فارقوا تفليس لما أحرقوها.
ذكر نهب جلال الدين بلد الإسماعيلية

في هذه السنة قتل الإسماعيلية أميراً كبيراً من أمراء جلال الدين، وكان قد أقطعه جلال الدين مدينة كنجة وأعمالها، وكان نعم الأمير، كثير الخير، حسن السيرة، ينكر على جلال الدين ما يفعله عسكره من النهب وغيره من الشر.
فلما قتل ذلك الأمير عظم قتله على جلال الدين، واشتد عليه، فسار في عساكره إلى بلاد الإسماعيلية، من حدود الموت إلى كردكوه بخراسان، فخرب الجميع، وقتل أهلها، ونهب الأموال، وسبى الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وعمل بهم الأعمال العظيمة، وانتقم منهم؛ وكانوا قد عظم شرهم وازداد ضرهم، وطمعوا مذ خرج التتر إلى بلاد الإسلام إلى الآن، فكف عاديتهم وقمعهم، ولقاهم الله ما عملوا بالمسلمين.
ذكر الحب بين جلال الدين والتترلما فرغ جلال الدين من الإسماعيلية بلغه الخبر أن طائفة من التتر عظيمة قد بلغوا إلى دامغان. بالقرب من الري، عازمين على قصد بلاد الإسلام، فسار إليهم وحاربهم، واشتد القتال بينهم، فانهزموا منه، فأوسعهم قتلاً، وتبع المنهزمين عدة أيام يقتل ويأسر، فبينما هو كذلك قد أقام بنواحي الري خوفاً من جمع آخر للتتر، إذ أتاه الخبر بأن كثيراً منهم واصلون إليه، فأقام ينتظرهم، وسنذكر خبرهم سنة خمس وعشرين وستمائة.
ذكر دخول العساكر الأشرفية إلى أذربيجان وملك بعضهافي هذه السنة، في شعبان، سار الحاجب علي حسام الدين، وهو النائب عن الملك الأشرف بخلاط، والمقدم على عساكرها، إلى بلاد أذربيجان فيمن عنده من العساكر.
وسبب ذلك أن سيرة جلال الدين كانت جائرة، وعساكره طامعة في الرعايا، وكانت زوجته ابنة السلطان طغرل السلجوقي، وهي التي كانت زوجة أوزبك بن البهلوان، صاحب أذربيجان، فتزوجها جلال الدين، كما ذكرناه قبل، وكانت مع أوزبك تحكم في البلاد جميعها، ليس له ولا لغيره معها حكم.
فلما تزوجها جلال الدين أهملها ولم يلتفت إليها، فخافته مع ما حرمته من الحكم والأمر والنهي، فأسلت هي وأهل خوي إلى حسام الدين الحاجب يستدعونه ليسلموا البلاد، فسار ودخل البلاد، بلاد أذربيجان، فملك مدينة خوي وما يجاورها من الحصون التي بيد امرأة جلال الدين، وملك مرند، وكاتبه أهل مدينة نقجوان، فمضى إليهم، فسلموها إليه، وقويت شوكتهم بتلك البلاد، ولو داموا لملكوها جميعها، وإنما عادوا إلى خلاط، واستصحبوا معهم زوجة جلال الدين ابنة السلطان طغرل إلى خلاط، وسنذكر باقي خبرهم سنة خمس وعشرين إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة المعظم صاحب دمشق

وملك ولده
في هذه السنة توفي الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل يوم الجمعة سلخ ذي القعدة، وكان مرضه دوسنطاريا، وكان ملكه لمدينة دمشق، من حين وفاة والده الملك العادل، عشر سنين وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً.
وكان عالماً بعدة علوم، فاضلاً فيها، منها الفقه على مذهب أبي حنيفة، فإنه كان قد اشتغل به كثيراً، وصار من المتيزين فيه، ومنها علم النحو، فإنه اشتغل به أيضاً اشتغالاً زائداً، وصار فيه فاضلاً، وكذلك اللغة وغيرها، وكان قد أمر أن يجمع له كتاب في اللغة جامع كبير، فيه كتاب الصحاح للجوهري، ويضاف إليه ما فات الصحاح من التهذيب للأرموي والجمهرة لابن دريد وغيرهما، وكذلك أيضاً أمر بأن يرتب مسند أحمد بن حنبل على الأبواب، ويرد كل حديث إلى الباب الذي يقتضيه معناه، مثاله: أن يجمع أحاديث الطهارة، وكذلك يفعل في الصلاة وغيرها من الرقائق، والتفسير، والغزوات، فيكون كتاباً جامعاً.
وكان قد سمع المسند من بعض أصحاب ابن الحصين، ونفق العلم في سوقه، وقصده العلماء من الآفاق، فأكرمهم، وأجرى عليهم الجرايات الوافرة، وقربهم، وكان يجالسهم، ويستفيد منهم، ويفيدهم، وكان يرجع إلى علم وصبر على سماع ما يكره، لم يسمع أحد ممن يصحبه منه كلمة تسوءه.
وكان حسن الاعتقاد يقول كثيراً: إن اعتقادي في الأصول ما سطره أبو جعفر الطحاوي؛ ووصى عند موته بأن يكفن في البياض، ولا يجعل في أكفانه ثوب فيه ذهب، وأن يدفن في لحد، ولا يبنى عليه بناء بل يكون قبره في الصحراء تحت السماء، ويقول في مرضه: لي عند الله تعالى في أمر دمياط ما أرجو أن يرحمني به.
ولما توفي ولي بعده ابنه داود ويلقب الملك الناصر، وكان عمره قد قارب عشرين سنة.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة دام الغلاء في ديار الجزيرة، ودامت الأسعار تزيد قليلاً وتنقص قليلاً، وانقطع المطر جميع شباط وعشرة أيام من آذار، فازداد الغلاء، فبلغت الحنطة كل مكوكين بدينار وقيراطين بالموصل، والشعير كل ثلاثة مكاكيك بالموصلي بدينار وقيراطين أيضاً، وكل شيء بهذا السنة في الغلاء.
وفيها، في الربيع، قل لحم الغنم بالموصل، وغلا سعره، حتى بيع كل رطل لحم بالبغدادي بحبتين بالصنجة، وربما زاد في بعض الأيام على هذا الثمن.
وحكى لي من يتولى بيع الغنم بالموصل أنهم باعوا خروفاً واحداً لا غير، وفي بعضها خمسة أرؤس، وفي بعضها ستة، وأقل وأكثر، وهذا ما لم يسمع بمثله، ولا رأيناه في جميع أعمارنا، ولا حكي لنا مثله لأن الربيع مظنة رخص اللحم بها، لأن التركمان والأكراد والكيلكان ينتقلون من الأمكنة التي شتوا بها إلى الزوزان فيبيعون الغنم رخيصاً.
وكان اللحم كل سنة في هذا الفصل كل ستة أرطال وسبعة بقيراط، صار هذه السنة الرطل بحبتين.
وفيها عاشر آذار، وهو العشرون من ربيع الأول، سقط الثلج بالموصل مرتين، وهذا غريب جداً لم يسمع بمثله، فأهلك الأزهار التي خرجت كزهر اللوز، والمشمش، والإجاص، والسفرجل وغيرها، ووصلت الأخبار من العراق جميعه مثل ذلك، فهلكت به أزهارها والثمار، وهذا أعجب من حال ديار الجزيرة والشام فإنه أشد حراً من جميعها.
وفيها ظفر جمع من التركمان، كانوا بأطراف أعمال حلب، بفارس مشهور من الفرنج الدواية بأنطاكية فقتلوه، فعلم الداوية بذلك فساروا وكبسوا التركمان، فقتلوا منهم وأسروا، وغنموا من أموالهم، فبلغ إلى أتابك شهاب الدين المتولي لأمور حل، فراسل الفرنج، وتهددهم بقصد بلادهم، واتفق أن عسكر حلب قتلوا فارسين كبيرين من الداوية أيضاً، فأذعنوا بالصلح، وردوا إلى التركمان كثيراً من أموالهم وحريمها وأسراهم.
وفيها، في رجب، اجتمع طائفة كثيرة من ديار بكر، وأرادوا الإغارة على جزيرة ابن عمر، وكان صاحب الجزيرة قد قتل، فلما قصدوا بلد الجزيرة اجتمع أهل قرية كبيرة من بلد الجزيرة اسمها سلكون، ولقوهم من ضحوة النهار إلى العصر، وطال القتال بينهم، ثم حمل أهل القرية على الأكراد فهزموهم وقتوا فيهم، وخرجوا ونهبوا ما معهم وعادوا سالمين.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وستمائة

ذكر الخلف بين جلال الدين وأخيه
في هذه السنة خاف غياث الدين بن خوارزم شاه، وهو أخو جلال الدين من أبيه، أخاه، وخافه معه جماعة من الأمراء، واستشعروا منه، وأرادوا الخلاص منه، فلم يتمكنوا من ذلك إلى أن خرجت التتر، واشتغل بهم جلال الدين، فهرب غياث الدين ومن معه، وقصدوا خوزستان، وهي من بلاد الخليفة، وأرادوا الدخول في طاعة الخليفة، فلم يمكنهم النائب بها من الدخول إلى البلد، مخافة أن تكون هذه مكيدة، فبقي هناك، فلما طال عليه الأمر فارق خوزستان وقصد بلاد الإسماعيلية، فوصل إليهم، واحتمى بهم واستجار بهم.
وكان جلال الدين قد فرغ من أمر التتر وعاد إلى تبريز، فأتاه الخبر وهو بالميدان يلعب بالكرة أن أخاه قد قصد أصفها، فألقى الجوكان من يده، وسار مجداً، فسمع أن أخاه قد قصد الإسماعيلية ملتجئاً إليهم، ولم يقصد أصفهان، فعاد إلى بلاد الإسماعيلية لينهب بلادهم إن لم يسلموا إليه أخاه، وأرسل يطلبه من مقدم الإسماعيلية، فأعاد الجواب يقول: إن أخاك قد قصدنا، وهو سلطان ابن سلطان، ولا يجوز لنا أن نسلمه، لكن نحن نتركه عندنا ولا نكنه أن يأخذ شيئاً من بلادك، ونسألك أن تشفعني فيه والضمان علينا بما قلنا، ومتى كان منه ما تكره في بلادك، فبلادنا حينئذ بين يديك تفعل فيها ما تختار. فأجابهم إلى ذلك، واستحلفهم على الوفاء بذلك، وعاد عنهم وقصد خلاط، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين جلال الدين والتترفي هذه السنة عاود التتر الخروج إلى الري، وجرى بينهم وبين جلال الدين حروب كثيرة اختلف الناس علينا في عددها، كان أكثرها عليه، وفي الأخير كان الظفر له.

وكانت أول حرب بينهم عجائب غريبة، وكان هؤلاء التتر قد سخط ملكهم جنكزخان على مقدمهم، وأبعده عنه، وأخرجه من بلاده، فقصد خراسان، فرآها خراباً، فقصد الري ليتغلب على تلك النواحي والبلاد، فلقيه بها جلال الدين، فاقتتلوا أشد قتال، ثم انهزم جلال الدين وعاد ثم انهزم، وقصد أصفهان، وأقام بنيها وبين الري، وجمع عساكره ومن في طاعته، فكان فيمن أتاه صاحب بلاد فارس، وهو ابن أتابك سعد ملك بعد وفاة أبيه، كما ذكرناه، وعاد جلال الدين إلى التتر فلقيهم.
فبينما هم مصطفون كل طائفة مقابل الأخرى انعزل غياث الدين أخو جلال الدين فيمن وافقه من الأمراء على مفارقة جلال الدين، واعتزلوا، وقصدوا جهة ساروا إليها، فلما رآهم التتر قد فارقوا العسكر ظنوهم يريدون أن يأتوهم من وراء ظهورهم ويقاتلوهم من جهتين، فانهزم التتر لهذا الظن وتبعهم صاحب بلاد فارس.
وأما جلال الدين فإنه لما رأى مفارقة أخيه إياه ومن معه من الأمراء ظن أن التتر قد رجعوا خديعة ليستدرجوه، فعاد منهزماً، ولم يجسر أن يدخل أصفهان لئلا يحصره التتر، فمضى إلى سميرم.
وأما صاحب فارس فلما أبعد في أثر التتر، ولم ير جلال الدين ولا عسكره معه، خاف التتر فعاد عنهم.
وأما التتر فلما لم يروا في آثارهم أحداً يطلبهم وقفوا، ثم عادوا إلى أصفهان، فلم يجدوا في طريقهم من يمنعهم، فوصلوا إلى أصفهان فحصروها، وأهلها يظنون أن جلال الدين قد عدم، فبينما هم كذلك والتتر يحصرونهم إذ وصل قاصد من جلال الدين إليهم يعرفهم سلامته، ويقول: إني أدور حتى يجتمع إلي من سلم من العسكر وأقصدكم ونتفق أنا وأنتم على إزعاج التتر وترحيلهم عنكم.
فأرسلوا إليه يستدعونه إليهم، ويعدونه النصرة والخروج معه إلى عدوه، وفيهم شجاعة عظيمة، فسار إليهم، واجتمع بها، وخرج أهل أصفهان معه، فقاتلوا التتر، فانهزم التتر أقبح هزيمة، وتبعهم جلال الدين إلى الري يقتل ويأسر، فلما أبعدوا عن الري أقام بها، وأرسل إليه ابن جنكزخان يقول: إن هؤلاء ليسوا من أصحابنا، إنما نحن أبعدناهم عنا، فلما أمن جانب جنكزخان أمن وعاد إلى أذربيجان.
ذكر خروج الفرنج إلى الشام وعمارة صيداوفي هذه السنة خرج كثير من الفرنج من بلادهم، التي هي في الغرب من صقلية وما وراءها من البلاد، إلى بلادهم التي بالشام: عكا وصور وغيرهما من ساحل الشام، فكثر جمعهم، وكان قد خرج قبل هؤلاء جمع آخر أيضاً إلا أنهم لم تمكنهم الحركة والشروع في أمر الحب لأجل أن ملكهم الذي هو المقدم عليهم هو ملك الألمان، ولقبه أنبرور، قيل: معناه ملك الأمراء، ولأن المعظم كان حياً، وكان شهماً شجاعاً مقداماً، فلما توفي المعظم، كما ذكرناه، وولي بعده ابنه وملك دمشق طمع الفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا، وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمروها، واستولوا عليها.
وإنما تم لهم ذلك بسبب تخريب الحصون القريبة منها، تبنين وهونين وغيرهما. وقد تقدم ذكر ذلك قبل مستقصى؛ فعظمت شوكة الفرنج، وقوي طمعهم، واستولى في طريقه على جزيرة قبرس، وملكها، وسار منها إلى عكا، فارتاع المسلمون لذلك، والله تعالى يخذله وينصر المسلمين بمحمد وآله؛ ثم إن ملكهم أنبرور وصل إلى الشام.
ذكر ملك كيقباذ أرزنكانوفي هذه السنة ملك علاء الدين كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان، وهو صاحب قونية، وأقصرا، وملطية، وغيرها من بلاد الروم، أرزنكان.
وسبب ملكه إياها أن صاحبها بهرام شاه كان قد طال ملكه لها، وجاوز ستين سنة، توفي ولم يزل في طاعة قلج أرسلان وأولاده بعده، فلما توفي ملك بعده ولده علاء الدين داود شاه، فأرسل إليه كيقباذ يطلب منه عسكراً ليسير معه إلى مدينة أرزن الروم ليحصرها، ويكون هو مع العسكر، ففعل ذلك، وسار في عسكره إليه، فلما وصل قبض عليه، وأخذ مدينة أرزنكان منه، وله حصن من أمنع الحصون اسمه كماخ، وفيه مستحفظ لداود شاه، فأرسل إليه ملك الروم يحصره، فلم يقدر العسكر على القرب منه لعلوه وارتفاعه وامتناعه، فتهدد داود شاه إن لم يسلم كماخ، فأرسل إلى نائبه في التسليم، فسلم القلعة إلى كيقباذ.

وأراد كيقباذ المسير إلى أرزن الروم ليأخذها وبها صاحبها ابن عمه طغرل شاه بن قلج أرسلان، فلما سمع صاحبها بذلك أرسل إلى الأمير حسام الدين علي، النائب عن الملك الأشرف بخلاط، يستنجده، وأظهر طاعة الأشرف، فسار حسام الدين فيمن عنده من العساكر، وكان قد جمعها من الشام، وديار الجزيرة، خوفاً من ملك الروم، خافوا أنه إذا ملك أرزن الروم يتعدى، ويقصد خلاط، فسار الحاجب حسام الدين إلى الروم ومنع عنها.
ولما سمع كيقباذ بوصول العساكر إليها لم يقدم على قصدها، فسار من أرزنكان إلى بلاده، وكان قد أتاه الخبر أن الروم الكفار المجاورين لبلاده قد ملكوا منه حصناً يسمى صنوب، وهو من أحصن القلاع، مطل على البحر السياه بحر الخزر، فلما وصل إلى بلاده سير العسكر إليه وحصره براً وبحراً، فاستعاده من الروم، وسار إلى أنطاكية ليشتي بها على عادته.
ذكر خروج الملك الكاملفي هذه السنة، في شوال، سار الملك الكامل محمد ابن الملك العادل، صاحب مصر، إلى الشام، فوصل إلى البيت المقدس، حرسه الله تعالى، وجعله دار الإسلام أبداً؛ ثم سار عنه، وتولى بمدينة نابلس، وشحن على تلك البلاد جميعها، وكانت من أعمال دمشق، فلما سمع الأشرف يستنجده، ويطلبه ليحضر عنده بدمشق، فسار إليه جريدة، فدخل دمشق.
فلما سمع الكامل بذلك لم يتقدم لعلمه أن البلد منيع، وقد صار به من يمنعه ويحميه؛ وأرسل إليه الملك الأشرف يستعطفه، ويعرفه أنه ما جاء إلى دمشق إلا طاعة له، وموافقة لأغراضه، والاتفاق معه على منع الفرنج عن البلاد، فأعاد الكامل الجواب يقول: إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الفرنج، فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه، وقد عمروا صيدا، وبعض قيسارية، ولم يمنعوا، وأنت تعلم أن عمنا السلطان صلاح الدين فتح البيت المقدس، فصار لنا بذلك الجميل على تقضي الأعصار وممر الأيام، فإن أخذه الفرنج حصل لنا من سوء الذكر وقبح الأحدوثة ما ينقض ذلك الذكر الجميل الذي ادخره عمنا، وأي وجه يبقى لنا عند الناس وعند الله تعالى؟ ثم إنهم ما يقنعون حينئذ بمن أخذوه، ويتعدون إلى غيره، وحيث قد حضرت أنت فأنا أعود إلى مصر، واحفظ أنت البلاد، ولست بالذي يقال عني إني قاتلت أخي، وحصرته، حاشا لله تعالى.
وتأخر عن نابلس نحو الديار المصرية، ونزل تل العجول، فخاف الأشرف والناس قاطبة بالشام، وعلموا أنه إن عاد استولى الفرنج على البيت المقدس وغيره مما يجاوره، لا مانع دونه، فترددت الرسل، وسار الأشرف بنفسه إلى الكامل أخيه، فحضر عنده، وكان وصلوه ليلة عيد الأضحى، ومنعه من العود إلى مصر، فأقام بمكانها.
ذكر نهب جلال الدين بلاد أرمينةفي هذه السنة وصل جلال الدين خوارزم شاه إلى بلاد خلاط، وتعدى خلاط إلى صحراء موش، وجبل جور، ونهب الجميع، وسبى الحريم، واسترق الأولاد، وقتل الرجال، وخرب القرى، وعاد إلى بلاده.
ولما وصل الخبر إلى البلاد الجزرية: حران وسروج وغيرهما، أنه قد جاز خلاط إلى جور، وأنه قد قرب منهم، خاف أهل البلاد أن يجيء إليهم، لأن الزمان كان شتاء، وظنوا أنه يقصد الجزيرة ليشتي بها، لأن البرد بها ليس بالشديد، وعزموا على الانتقال من بلادهم إلى الشام، ووصل بعض أهل سروج إلى منبج من أرض الشام، فأتاهم الخبر أنه قد نهب البلاد وعاد، فأقاموا، وكان سبب عوده أن الثلج سقط ببلاد خلاط كثيراً، لم يعهد مثله، فأسرع العود.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة رخصت الأسعار بديار الجزيرة جميعها، وجاءت الغلات التي لهم من الحنطة والشعير جيداً، إلا أن الرخص لم يبلغ الأول الذي كان قبل الغلاء، إنما صارت الحنطة كل خمسة مكاكيك بدينار، والشعير كل سبعة عشر مكوكاً بالموصلي بدينار.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وستمائة

ذكر تسليم البيت المقدس إلى الفرنج
في هذه السنة، أول ربيع الآخر، تسلم الفرنج، لعنهم الله، البيت المقدس صلحاً، أعاده الله إلى الإسلام سريعاً.

وسبب ذلك ما ذكرناه سنة خمس وعشرين وستمائة من خروج الأنبرور، ملك الفرنج، في البحر من داخل بلاد الفرنج إلى ساحل الشام، وكانت عساكره قد سبقته، و نزلوا بالساحل، وأفسدوا فيما يجاورهم من بلاد المسلمين، ومضى إليهم، وهم بمدينة صور، طائفة من المسلمين يسكنون الجبال المجاورة لمدينة صور وأطاعوهم، وصاروا معهم، وقوي طمع الفرنج بموت الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، صاحب دمشق.
ولما وصل الأنبرور إلى الساحل نزل بمدينة عكا، وكان الملك الكامل، رحمه الله تعالى، ابن الملك العادل، صاحب مصر، قد خرج من الديار المصرية يريد الشام بعد وفاة أخيه المعظم، وهو نازل بتل العجول، يريد أن يملك دمشق من الناصر داود ابن أخيه المعظم، وهو صاحبها يومئذ، وكان داود لما سمع بقصد عمه الملك الكامل له قد أرسل إلى عمه الملك الأشرف، صاحب البلاد الجزرية، يستنجده، ويطلب منه المساعدة على دفع عمه عنه، فسار إلى دمشق، وترددت الرسل بينه وبين أخيه الملك الكامل في الصلح، فاصطلحا، واتفقا، وسار الملك الأشرف إلى الملك الكامل واجتمع به.
فلما اجتمعا ترددت الرسل بينهما وبين الأنبرور، ملك الفرنج، دفعات كثيرة، فاستقرت القاعدة على أن يسلموا إليه البيت المقدس ومعه مواضع يسيرة من بلاده، ويكون باقي البلاد مثل الخليل، ونابلس، والغور، وملطية، وغير ذلك بيد المسلمين، ولا يسلم إلى الفرنج إلا البيت المقدس والمواضع التي استقرت معه.
وكان سور البيت المقدس خراباً ق خربه الملك المعظم، وقد ذكرنا ذلك، وتسلم الفرنج البيت المقدس، واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه، ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه؛ يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين.
ذكر ملك الملك الأشرف مدينة دمشقوفي هذه السنة يوم الاثنين ثاني شعبان ملك الملك الأشرف ابن الملك العادل مدينة دمشق من ابن أخيه صلاح الدين داود بن المعظم.
وسبب ذلك ما ذكرناه أن صاحب دمشق لما خاف من عمه الملك الكامل أرسل إلى عمه الأشرف يستنجده، ويستعين به على دفع الكامل عنه، فسار إليه من البلاد الجزرية، ودخل دمشق، وفرح به صاحبها وأهل البلد، وكانوا قد احتاطوا، وهم يتجهزون للحصار، فأمر بإزالة ذلك، وترك ما عزموا عليه من الاحتياط، وحلف لصاحبها على المساعدة والحفظ له ولبلاده عليه، وراسل الملك الكامل واصلحا وظن صاحب دمشق أنه معهما في الصلح.
وسار الأشرف إلى أخيه الكامل، واجتمعا في ذي الحجة من سنة خمس وعشرين، يوم العيد، وسار صاحب دمشق إلى بيسان وأقام بها، وعاد الملك الأشرف من عند أخيه، واجتمع هو وصاحب دمشق، ولم يكن الأشرف في كثرة من العسكر، فبينما هما جالسان في خيمة لهما إذ قد دخل عز الدين أيبك، مملوك المعظم الذي كان صاحب دمشق، وهو أكبر أمير مع ولده، فقال لصاحبه داود: قم اخرج وإلا قبضت الساعة؛ فأخرجه، ولم يمكن الأشرف منعه لأن أيبك كان قد أركب العسكر الذي لهم جميعه، وكانوا أكثر من الذين مع الأشرف، فخرج داود وسار هو وعسكره إلى دمشق.
وكان سبب ذلك أن أيبك قيل له: إن الأشرف يريد القبض على صاحبه وأخذ دمشق منه، ففعل ذلك، فلما عادوا وصلت العساكر من الكامل إلى الأشرف، وسار فنازل دمشق وحصرها، وأقام محاصراً لها إلى أن وصل إليه الملك الكامل، فحينئذ اشتد الحصار، وعظم الخطب على أهل البلد، وبلغت القلوب الحناجر.
وكان من أشد الأمور على صاحبها أن المال عنده قليل لأن أمواله بالكرك، ولوثوقه بعمه الأشرف لم يحضر منها شيئاً فاحتاج إلى أن باع حلى نسائه وملبوسهن، وضاقت الأمور عليه، فخرج إلى عمه الكامل وبذل له تسليم دمشق وقلعة الشوبك على أن يكون له الكرك والغور وبيسان ونابلس، وأن يبقي على أيبك قلعة صرخد وأعمالها.
وتسلم الكامل دمشق، وجعل نائبه بالقلعة إلى أن سلم إليه أخوه الأشرف حران والرها والرقة وسروج ورأس عين من الجزيرة، فلما تسلم ذلك سلم قلعة دمشق إلى أخيه الأشرف، فدخلها، وأقام بها، وسار الكامل إلى الديار الجزرية فأقام بها إلى أن استدعى أخاه الأشرف بسبب حصر جلال الدين ابن خوارزم شاه مدينة خلاط، فلما حضر عنده بالرقة عاد الكامل إلى ديار مصر، وأما الأشرف فكان منه ما نذكره، إن شاء الله تعالى.
ذكر القبض على الحاجب علي وقتله

وفي هذه السنة أرسل الملك الأشرف مملوكه عز الدين أيبك، وهو أمير كبير في دولته، إلى مدينة خلاط، وأمره بالقبض على الحاجب حسام الدين علي بن حماد، وهو المتولي لبلاد خلاط والحاكم فيها من قبل الأشرف.
ولم نعلم شيئاً يوجب القبض عليه، لأنه كان مشفقاً عليه، ناصحاً له، حافظاً لبلاده، وحسن السيرة مع الرعية، ولقد وقف هذه المدة الطويلة في وجه خوارزم شاه جلال الدين، وحفظ خلاط حفظاً يعجز غيره عنه، وكان مهتماً بحفظ بلاده، وذاباً عنها، وقد تقدم من ذكر قصده بلاد جلال الدين والاستيلاء على بعضها ما يدل على همة عالية، وشجاعة تامة، وصار لصاحبه به منزلة عظيمة، فإن الناس يقولون: بعض غلمان الملك الأشرف يقاوم خوارزم شاه.
وكان رحمه الله كثير الخير والإحسان لا يمكن أحداً من ظلم، وعمل كثيراً من أعمال البر من الخانات في الطرق، والمساجد في البلاد، وبنى بخلاط بيمارستاناً وجامعاً، وعمل كثيراً من الطرق، وأصلحها كان يشق سلوكها.
فلما وصل أيبك إلى خلاط قبض عليه، ثم قتله غيلة، لأنه كان عدوه، ولما قتل ظهر أثر كفايته، فإن جلال الدين حصر خلاط بعد قبضه وملكها، على ما نذكه إن شاء الله، ولم يمهل الله أيبك بل انتقم منه سريعاً، فإن جلال الدين أخذ أيبك أسيراً لما ملك خلاط مع غيره من الأمراء، فلما اصطلح الأشرف وجلال الدين أطلق الجميع، وذكر أن أيبك قتل.
وكان سبب قتله أن مملوكاً للحاجب علي كان قد هرب إلى جلال الدين، فلما أسر أيبك طلبه ذلك المملومك من جلال الدين ليقتله بصاحبه الحاجب علي، فسلمه إليه فقتله، وبلغني أن الملك الأشرف رأى في المنام كأن الحاجب علياً قد دخل إلى مجلس فيه أيبك فأخذ منديلاً وجعله في رقبة أيبك وأخذه وخرج، فأصبح الملك الأشرف وقال: قد مات أيبك، فإني رأيت في المنام كذا وكذا.
ذكر ملك الكامل مدينة حماةوفي هذه السنة أواخر شهر رمضان، ملك الملك الكامل مدينة حماة. وسبب ذلك أن الملك المنصور محمد بن تقي الدين عمر، وهو صاحب حماة، توفي، على ما نذكره، وملا حضرته الوفاة حلف الجند وأكابر البلد لولده الأكبر، ويلقب بالملك المظفر، وكان قد سيره أبوه إلى الملك الكامل، صاحب مصر، لأنه كان قد تزوج بابنته، وكان لمحمد ولد آخر اسمه قلج أرسلان، ولقبه صلاح الدين، وهو بدمشق، فحضر إلى مدينة حماة فسلمت إليه، واستولى على المدينة وعلى قلعتها، فأرسل الملك الكامل يأمره أن يسلم البلد إلى أخيه الأكبر، فإن أباه أوصى له به، فلم يفعل، وتردد الرسل في ذلك إلى الملك المعظم، صاحب دمشق، فلم تقع الإجابة.
فلما توفي المعظم، وخرج الكامل إلى الشام وملك دمشق، سير جيشاً إلى حماة فحصرها ثالث شهر رمضان، وكان المقدم على هذا الجيش أسد الدين شيركوه، صاحب حمص، وأمير كبير من عسكره يقال له فخر الدين عثمان، ومعهما ولد محمد بن تقي الدين محمد الذي كان عند الكامل، فبقي الحصار على البلد عدة أيام.
وكان الملك الكامل قد سار عن دمشق ونزل على سلمية يريد العبور إلى البلاد الجزرية، حران وغيرها، فلما نازلها قصده صاحب حماة صلاح الدين، ونزل إليه من قلعته، ولم يكن لذلك سبب إلا أمر الله تعالى، فإن صلاح الدين قال لأصحابه: أريد النزول إلى الملك الكامل، فقالوا له: ليس بالشام أحصن من قلعتك، وقد جمعت من الذخائر ما لا حد له، فلأي شيء تنزل إليه؟ ليس هذا برأي، فأصر على النزول، وأصروا على منعه، فقال في آخر الأمر: اتركوني أنزل، وإلا ألقيت نفسي من القلعة؛ فحينئذ سكتوا عنه، فنزل في نفر يسير، ووصل إلى الكامل، فاعتقله إلى أن سلم مدينة حماة وقلعتها إلى أخيه الأكبر الملك المظفر، وبقي بيده قلعة بارين، فإنها كانت له، وكان هو كالباحث عن حتفه يظلفه.
ذكر حصر جلال الدين خلاط وملكهاوفي هذه السنة، أوائل شوال، حصر جلال الدين خوارزم شاه مدينة خلاط، وهي للملك الأشرف، وبها عسكره، فامتنعوا بها، وأعانهم أهل البلد خوفاً من جلال الدين لسوء سيرته، وأسرفوا في الشتم والسفه، فأخذه اللجاج معهم، وأقام عليهم جميع الشتاء محاصراً، وفرق كثيراً من عساكره في القرى والبلاد القريبة من شدة البرد وكثرة الثلج، فإن خلاط من أشد البلاد برداً وأكثرها ثلجاً.

وأبان جلال الدين عن عزم قوي، وصبر تحار العقول منه، ونصب عليها عدة مجانيق، ولم يزل يرميها بالحجارة حتى خربت بعض سورها، فأعاد أهل البلد عمارته، ولم يزل مصابرهم وملازمهم إلى أواخر جمادى الأولى من سنة سبع وعشرين، فزحف إليها زحفاً متتابعاً وملكها عنوة وقهراً يوم الأحد الثامن والعشرين من جمادى الأولى، سلمها إليه بعض الأمراء غدراً.
فلما ملك البلد صعد من فيه من الأمراء إلى القلعة التي لها وامتنعوا بها، وهو منازلهم، ووضع السيف في أهل البلد، وقتل من وجد به منهم، وكانوا قد قلوا، فإن بعضهم فارقوه خوفاً، وبعضهم خرج منه من شدة الجوع، وبعضهم مات من القلة وعدم القوت، فإن الناس في خلاط أكلوا الغنم، ثم البقر، ثم الجواميس، ثم الخيل، ثم الحمير، ثم البغال والكلاب والسنانير، وسمعنا أنهم كانوا يصطادون الفأر ويأكلونه، وصبروا صبراً لم يلحقهم فيه أحد.
ولم يملك من البلاد خلاط غيرها، وما سواها من البلاد لم يكونوا ملكوه، وخربوا خلاط، وأكثروا القتل فيها، ومن سلم هرب في البلاد، وسبوا الحريم، واسترقوا الأولاد، وباعوا الجميع، فتمزقوا كل ممزق، وتفرقوا في البلاد، ونهبوا الأموال، وجرى على أهلها ما لم يسمع بمثله أحد، لا جرم لم يمهله الله تعالى. وجرى عليه من الهزيمة بني المسلمين والتتر ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي أواخر هذه السنة قصد الفرنج حصن بارين بالشام، ونهبوا بلاده، وأعماله، وأسروا وسبوا، ومن جملة من ظفروا به طائفة كثيرة من التركمان، فأخذوا الجميع، ولم يسلم منهم إلا النادر والشاذ، والله أعلم.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وستمائة

ذكر انهزام جلال الدين من كيقباذ والأشرف
في هذه السنة، يوم السبت الثامن والعشرين من رمضان، انهزم جلال الدين ابن خوارزم شاه من عبد الله بن كيقباذ بن كيخسرو بن قلج أرسلان، صاحب بلاد الروم، قونية، وأقصرا، وسيواس، وملطية، وغيرها، ومن الملك الأشرف، صاحب دمشق وديار الجزيرة وخلاط.
وسبب ذلك أن جلال الدين كان قد أطاعه صاحب أرزن الروم، وهو ابن عم علاء الدن، ملك الروم، وبينه وبين ملك الروم عداوة مستحكمة، وحضر صاحب أرزن الروم عند جلال الدين على خلاط، وأعانه على حصرها، فخافهما علاء الدين، فأرسل إلى الملك الكامل، وهو حينئذ بحران، يطلب منه أن يحضر أخاه الأشرف من دمشق، فإنه كان مقيماً بها بعد أن ملكها.
وتابع علاء الدين الرسل بذلك خوفاً من جلال الدين، فأحضر الملك الكامل أخاه الأشرف من دمشق، فحضر عنده، ورسل علاء الدين إليهما متتابعة، يحث الأشرف على المجيء إليه والاجتماع به، حتى قيل إنه في يوم واحد وصل إلى الكامل والأشرف من علاء الدين خمسة رسل، ويطلب مع الجميع وصول الأشرف إليه ولو وحده، فجمع عساكر الجزيرة والشام وسار إلى علاء الدين، فاجتمعا بسيواس، وسارا نحو خلاط؛ فسمع جلال الدين بهما، فسارا إليهما مجداً في السير، فوصل إليهما بمكان يعرف بباسي حمار، وهو من أعمال أرزنجان، فالتقوا هناك.
وكان مع علاء الدين خلق كثير، قيل: كانوا عشرين ألف فارس، وكان مع الأشرف نحو خمسة آلاف فارس، إلا أنهم من العساكر الجيدة الشجعان، لهم السلاح الكثير، والدواب الفارهة من العربيات، وكل منهم قد جرب الحرب. وكان المقدم عليهم أمير من أمراء عساكر حلب يقال له عز الدين عمر بن علي، وهو من الأكراد الهكارية، ومن الشجاعة في الدرجة العليا، وله الأوصاف الجميلة والأخلاق الكريمة.
فلما التقوا بهت جلال الدين لما رأى من كثرة العساكر، ولا سيما لما رأى عسكر الشام، فإنه شاهد من تجملهم، وسلاحهم، ودوابهم ما ملأ صدره رعباً، فأنشب عز الدين بن علي القتال، ومعه عسكر حلب، فلم يقم لهم جلال الدين ولا صبر، ومرى منهزماً هو وعسكره وتمزقوا لا يلوي الأخ على أخيه، وعادوا إلى خلاط فاستصحبوا معهم من فيها من أصحابهم، وعادوا إلى أذربيجان فنزلوا عند مدينة خوي، ولم يكونوا قد استولوا على شيء من أعمال خلاط سوى خلاط، ووصل الملك الأشرف إلى خلاط وقد استصحبوا معهم من فيها فبقيت خاوية على عروشها، خالية من الأهل والسكان قد جرى عليهم ما ذكرناه قبل.
ذكر ملك علاء الدين أرزن الروم

قد ذكرنا أن صاحب أرزن الروم كان مع جلال الدين على خلاط، ولم يزل معه، وشهد معه المصاف المذكور، فلما انهزم جلال الدين أخذ صاحب أرزن الروم أسيراً، فأحضر عند علاء الدين كيقباذ ابن عمه، فأخذه، وقصد أرزن الروم، فسلمها صاحبها إليه وهي وما يتبعها من القلاع والخزائن وغيرها، فكان كما قيل: خرجت النعامة تطلب قرنين، فعادت بلا أذنين.
وهكذا المسكين جاء إلى جلال الدين يطلب الزيادة، فوعده بشيء من بلاد علاء الدين، فأخذ ماله وما بيديه من البلاد وبقي أسيراً، فسبحانه من لا يزول ملكه.
ذكر الصلح بين الأشرف وعلاء الدين وبين جلال الدينلما عاد الأشرف إلى خلاط، ومضى جلال الدين منهزماً إلى خوي، ترددت الرسل بينهما، فاصطلحوا كل منهم على ما بيده، واستقرت القواعد على ذلك، وتحالفا، فلما استقر الصلح وجرت الأيمان عاد الأشرف إلى سنجار، وسار منها إلى دمشق، فأقام جلال الدين ببلاده من أذربيجان إلى أن خرج عليه التتر، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك شهاب الدين غازي مدينة أرزنكان حسام الدين صاحب مدينة أرزن من ديار بكر لم يزل مصاحباً للملك الأشرف، مشاهداً جميع حروبه وحوادثه، وينفق أمواله في طاعته، ويبذل نفسه وعساكره في مساعدته، فهو يعادي أعداءه، ويوالي أولياءه.
ومن جملة موافقته أنه كان في خلاط لما حصرها جلال الدين، فأسره جلال الدين، وأراد أن يأخذ منه مدينة أرزن، فقيل له: إن هذا من بيت قديم عريق في الملك، وإنه ورث أرزن هذه من أسلافه، وكان لهم سواها من البلاد فخرج الجميع من أيديهم؛ فعطف عليه ورق له، وأبقى عليه مدينة، وأخذ عليه العهود والمواثيق أنه لا يقاتله.
فلما جاء الملك الأشرف وعلاء الدين محاربين لجلال الدين لم يحضر معهم في الحرب، فلما انهزم جلال الدين سار شهاب الدين غازي ابن الملك العادل، وهو أخو الأشرف، وله مدينة ميافارقين، ومدينة حاني، وهو بمدينة أرزن، فحصره بها، ثم ملكها صلحاً، وعوضه عنها بمدينة حاني من ديار بكر.
وحسام الدين هذا نعم الرجل، حسن السيرة، كريم، جواد، لا يخلو بابه من جماعة يردون إليه يستمنحونه، وسيرته جميلة في ولايته ورعيته، وهو من بيت قديم يقال له بيت طغان أسلان، كان له مع أرزن بدليس ووسطان وغيرهما، ويقال لهم بيت الأحدب، وهذه البلاد معهم من أيام ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي، فأخذ بكتمر صاحب خلاط منهم بدليس، أخذها من عم حسام الدين هذا، لأنه كان موافقاً لصلاح الدين يوسف بن أيوب، فقصده بكتمر لذلك، وبقيت أرزن بيد هذا إلى الآن، فأخذت منه، ولكل أول آخر، فسبحان من لا أول له ولا آخر لبقائه.
ذكر ملك سونج قشيالوا قلعة رويندروفي هذه السنة ظهر أمير من أمراء التركمان اسمه سونج، ولقبه شمس الدين، واسم قبيلته قشيالوا، وقوي أمره، وقطع الطريق، وكثر جمعه، وكان بين إربل وهمذان، وهو ومن معه يقطعون الطريق، ويفسدون في الأرض، ثم إنه تعدى إلى قلعة منيعة اسمها سارو، وهي لمظفر الدين، من أعمال إربل، فأخذها وقتل عندها أميراً كبيراً من أمراء مظفر الدين، فجمع مظفر الدين، وأراد استعادتها منه، فلم يمكنه لحصانتها، ولكثرة الجموع مع هذا الرجل، فاصطلحا على ترك القلعة بيده.
وكان عسكر لجلال الدين بن خوارزم شاه يحصرون قلعة رويندز، وهي من قلاع أذربيجان، من أحصن القلاع وأمنعها، لا يوجد مثلها، وقد طال الحصار على من بها فأذعنوا بالتسليم، فأرسل جلال الدين بعض خواص أصحابه وثقاته ليتسلهما وأرسل معه الخلع والمال لمن بها، فلما صعد ذلك القاصد إلى القلعة وتسلمها أعطى بعض من بالقلعة، ولم يعط البعض واستذلهم وطمع فيهم حيث استولى على الحصن، فلما رأى من لم يأخذ شيئاً من الخلع والمال ما فعل هم أسلوا إلى سونج يطلبونه ليسلموا إليه القلعة، فسار إليهم في أصحابه فسلموها إليه، فسبحان من إذا أراد أمراً سهله.
قلعة رويندز هذه لم تزل تتقاصر عنها قدرة أكابر الملوك وعظمائهم من قديم الزمان وحديثه، وتضرب الأمثال بحصانتها، لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يملكها هذا الرجل الضعفيف سهل له الأمور، فملكها بغير قتال ولا تعب، وأزال عنها أصحاب مثل جلال الدين الذي كل ملوك الأرض تهابه وتخافه، وكان أصحاب جلال الدين، كما قيل: (رب ساع لقاعد).

فلما ملكها سونج طمع في غيرها، ولا سيما مع اشتغال جلال الدين بما أصابه من الهزيمة ومجيء التتر، فنزل من القلعة إلى مراغة، وهي قريب منها، فحصرها، فأتاه سهم غرب فقتله، فلما قتل ملك رويندز أخوه، ثم إن هذا الأخ الثاني نزل من القعلة، وقصد أعمال تبريز ونهبها، وعاد إلى القلعة ليجعل فيها من ذلك النهب والغنيمة ذخيرة خوفاً من التتر، وكانوا قد خرجوا؛ فصادفه طائفة من التتر، فقتلوه وأخذوا ما معه من النهب؛ ولما قتل ملك القلعة ابن أخت له، وكان هذا جميعه في مدة سنتين، فأف لدنيا لا تزال فرحة بترحة، وكل حسنة بسيئة.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وستمائة

ذكر خروج التتر إلى أذربيجان
وما كان منهم
في هذه السنة وصل التتر من بلاد ما وراء النهر إلى أذربيجان، وقد ذكرنا قبل كيف ملكوا ما وراء النهر، وما صنعوه بخراسان وغيرها من البلاد، من النهب، والتخريب، والقتل، واستقر ملكهم بما وراء النهر، وعادت بلاد ما وراء النهر فانغمرت، وعمروا مدينة تقارب مدينة خوارزم عظيمة، وبقيت مدن خراسان خراباً لا يجسر أحد من المسلين أن يسكنها.
وأما التتر فكانوا تغير كل قليل طائفة منهم ينهبون ما يرونه بها، فالبلاد خاوية على عروشها، فلم يزالوا كذلك إلى أن ظهر منهم طائفة سنة خمس وعشرين، فكان بينهم وبين جلال الدين ما ذكرناه، وبقوا كذلك، فلما كان الآن، وانهزم جلال الدين من علاء الدين كيقباذ ومن الأشرف، كما ذكرناه سنة سبع وعشرين، أرسل مقدم الإسماعيلية الملاحدة إلى التتر يعرفهم ضعف جلال الدين بالهزيمة الكائنة عليه، ويحثهم على قصده عقيب الضعف، ويضمن لهم الظفر به للوهن الذي صار إليه.
وكان جلال الدين سيء السيرة، قبيح التدبير لملكه، لم يترك أحداً من الملوك المجاورين له إلا عاداه، ونازعه الملك، وأساء مجاورته، فمن ذلك أنه أول ما ظهر في أصفهان وجمع العساكر قصد خوزستان، فحصر مدينة ششتر، وهي للخليفة، وسار إلى دقوقا فنهبها، وقتل فيها فأكثر، وهي للخليفة أيضاً، ثم ملك أذربيجان، وهي لأوزبك، وقصد الكرج وهزمهم وعاداهم، ثم عادى الملك الأشرف، صاح خلاط، ثم عادى علاء الدين، صاحب بلاد الروم، وعادى الإسماعيلية، ونهب بلادهم، وقتل فيهم فأكثر، وقرر عليهم وظيفة من المال كل سنة، وكذلك غيرهم، فكل من الملوك تخلى عنه، ولم يأخذ بيده.
فلما وصل كتب مقدم الإسماعيلية إلى التتر يستدعيهم إلى قصد جلال الدين بادر طائفة منهم فدخلوا بلادهم واستولوا على الري وهمذان وما بينهما من البلاد، ثم قصدوا أذربيجان فخربوا ونهبوا وقتلوا من ظفروا به من أهلها؛ وجلال الدين لا يقدم على أن يلقاهم، ولا يقدر أن يمنعهم عن البلاد، قد ملئ رعباً وخوفاً، وانضاف إلى ذلك أن عسكره اختلفوا عليه، وخرج وزيره عن طاعته في طائفة كثيرة من العسكر.
وكان السبب غريباً أظهر من قلة عقل جلال الدين ما لم يسمع بمثله، وذلك أنه كان له خادم خصي، وكان جلال الدين يهواه، واسمه قلج، فاتفق أن الخادم مات، فأظهر من الهلع والجزع عليه ما لم يسمع بمثله، ولا لمجنون ليلى، وأمر الجند والأمراء أن يمشوا في جنازته رجالة، وكان موته بموضع بينه وبين تبريز عدة فراسخ، فمشى الناس رجالة، ومشى بعض الطريق راجلاً، فألزمه أمراؤه ووزيره بالركوب، فلما وصل إلى تبريز أرسل إلى أهل البلد، فأمرهم بالخروج عن البلد لتلقي تابوت الخادم، ففعلوا، فأنكر عليهم حيث لم يبعدوا، ولم يظهروا من الحزن والبكاء أكثر مما فعلوا، وأراد معاقبتهم على ذلك فشفع فيهم أمراؤه فتركهم.
ثم لم يدفن ذلك الخصي، وإنما يستصحبه معه حيث سار، وهو يلطم ويبكي، فامتنع من الأكل والشرب، وكان إذا قدم له طعام يقول: احملوا من هذا إلى فلان، يعني الخادم، ولا يتجاسر أحد أن يقول إنه مات، فإنه قيل له مرة إنه مات، فقتل القاتل له ذلك، إنما كانوا يحملون إليه الطعام، ويعودون فيقولون: إنه يقبل الأرض ويقول: إنني الآن أصلح مما كنت؛ فلحق أمراءه من الغيظ والأنفة من هذه الحالة ما حملهم على مفارقة طاعته والانحياز عنه مع وزيره، فبقي حيران لا يدري ما يصنع، ولا سيما لما خرج التتر، فحينئذ دفن الغلام الخصي، وراسل الوزير واستماله وخدعه إلى أن حضر عنده، فلما وصل إليه بقي أياماً وقتله جلال الدين، وهذه نادرة غريبة لم يسمع بمثلها.

ذكر ملك التتر مراغة
وفي هذه السنة حصر التتر مراغة من أذربيجان، فامتنع أهلها، ثم أذعن أهلها بالتسليم على أمان طلبوه، فبذلوا لهم الأمان، وتسلموا البلد وقتلوا فيه إلا أنهم لم يكثروا القتل وجعلوا في البلد شحنة، وعظم حينئذ شأن التتر، واشتد خوف الناس منهم بأذربيجان، فالله تعالى ينصر الإسلام والمسلمين نصراً من عنده، فما نرى في ملوك الإسلام من له رغبة في الجهاد، ولا في نصرة الدين، بل كل منهم مقبل على لهوه ولعبه وظلم رعيته، وهذا أخوف عندي من العدو، وقال الله تعالى: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) الأنفال: 25.
ذكر وصول جلال الدين إلى آمد
وانهزامه عندها وما كان منه
لما رأى جلال الدين ما يفعله التتر في بلاد أذربيجان، وأنهم مقيمون بها يقتلون، وينهبون ويأسرون، ويخربون البلاد، ويجبون الأموال، وهم عازمون على قصده، ورأى ما هو عليه من الوهن والضعف، فارق أذربيجان إلى بلاد خلاط، وأرسل إلى النائب بها عن الملك الأشرف يقول له: ما جئنا للحرب ولا للأذى، إنما خوف هذا العدو حملنا على قصد بلادنا.
وكان عازماً على أن يقصد ديار بكر والجزيرة، ويقصد باب الخليفة يستنجده وجميع الملوك على التتر، ويطلب منهم المساعدة على دفعهم، ويحذرهم عاقبة إهمالهم، فوصل إلى خلاط، فبلغه أن التتر يطلبونه، وهم مجدون في أثره، فسار إلى آمد، وجعل له اليزك في عدة مواضع خوفاً من البيات، فجاءت طائفة من التتر يقصون أثره، فوصلوا إليه وهم على غير الطريق الذي فيه اليزك، فأوقعوا به ليلاً وهو بظاهر مدينة آمد، فمضى منهزماً على وجهه، وتفرق من منعه من العسكر وتمزقوا في كل وجه، فأخذوا ما معهم من مال، وسلاح، ودواب، وقصد طائفة منهم نصيبين، والموصل، وسنجار، وإربل وغير ذلك من البلاد، فتخطفهم الملوك والرعايا، وطمع فيهم كل أحد، حتى الفلاح، والكردي، والبدوي، وغيرهم، وانتقم منهم وجازام على سوء صنيعهم، وقبيح فعلهم في خلاط وغيرها، وبما سعوا في الأرض من الفساد، والله لا يحب المفسدين، فازداد جلال الدين ضعفاً إلى ضعفه، ووهناً إلى وهنه بمن تفرق من عسكره، بما جرى عليهم.
فلما فعل التتر بهم ذلك، ومضى منهزماً منهم، دخلوا ديار بكر في طلبه، لأنهم لم يعلموا أين قصد، ولا أي طريق سلك، فسبحان من بدل أمنهم خوفاً، وعزهم ذلاً، وكثرتهم قلة، فتبارك الله رب العالمين الفعال لما يشاء.
ذكر دخول التتر ديار بكر والجزيرة
وما فعلوه في البلاد من الفساد
لما انهزم جلال الدين من التتر على آمد نهب التتر سواد آمد وأرزن وميافارقين، وقصدوا مدينة أسعرد، فقاتلهم أهلها، فبذل لهم التتر الأمان، فوثقوا منهم واستسلموا، فلما تمكن التتر منهم وضعوا فيهم السيف وقتلوهم حتى كادوا يأتون عليهم، فلم يسلم منهم إلا من اختفى؛ وقليل ما هم.
حكى لي بعض التجار، وكان قد وصل آمد، أنهم حزروا القتلى ما يزيد على خمسة عشرة ألف قتيل، وكان مع هذا التاجر جارية من أسعرد، فذكرت أن سيدها خرج ليقاتل، وكان له أم، فمنعته، ولم يكن لها ولد سواه، فلم يصغ إلى قولها، فمشت معه، فقتلا جميعاً، وورثها ابن أخ للأم فباعها من هذا التاجر، وذكرت من كثرة القتلى أمراً عظيماً، وأن مدة الحصار كانت خمسة أيام.
ثم ساروا منها إلى مدينة طنزة ففعلوا فيها كذلك، وساروا من طنزة إلى واد بالقرب من طنزة يقال له وادي القريشية، فيه مياه جارية، وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فقاتلم أهل القريشية، فمنعوهم عنه، وامتنعوا عليهم، وقتل بينهم كثير، فعاد التتر ولم يبلغوا منهم غرضاً، وساروا في البلاد لا مانع يمنعهم، ولا أحد يقف بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما وجدوا من بلدها، واحتمى صاحب ماردين وأهل دنيسر بقلعة ماردين، وغيرهم ممن جاور القلعة احتمى بها أيضاً.
ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة، فأقاموا عليها بعض نهار، ونهبوا سوادها وقتلوا من ظفروا به، وغلقت أبوابها، فعادوا عنها، ومضوا إلى بلد سنجار، ووصلوا إلى الجبال من أعمال سنجار، فنهبوها ودخلوا إلى الخابور، فوصلوا إلى عرابان، فنهبوا، وقتلوا، وعادوا.

ومضى طائفة منهم على طريق الموصل، فوصل القوم إلى قرية تسمى المؤنسة، وهي على مرحلة من نصيبين، بينها وبين الموصل، فنهبوها واحتمى أهلها وغيرهم بخان فيها، فقتلوا كل من فيه.
وحكي لي عن رجل منهم أنه قال: اختفيت منهم بيت فيه تبن، فلم يظفروا بي، وكنت أراهم من نافذة في البيت، فكانوا إذا أرادوا قتل إنسان، فيقول: لا بالله، فيقتلونه، فلما فرغوا من القرية، ونهبوا ما فيها، وسبوا الحريم، رأيتهم وهم يلعبون على الخيل، ويضحكون، ويغنون بلغتهم بقول: لا بالله.
ومضى طائفة منهم إلى نصيبين الروم، وهي على الفرات، وهي من أعمال آمد، فنهبوها، وقتلوا فيها، ثم عادوا إلى آمد، ثم إلى بلد بدليس، فتحصن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيراً، وأحرقوا المدينة.
وحكى إنسان من أهلها قال: لو كان عندنا خمس مائة فارس لم يسلم من التتر أحد لأن الطريق ضيق بين الجبال، والقليل يقدر على منع الكثير.
ثم ساروا من بدليس إلى خلاط، فحصروا مدينة من أعمال خلاط يقال لها: باكرى، وهي من أحصن البلاد، فملكوها عنوة، وقتلوا كل من بها، وقصدوا مدينة أرجيش من أعمال خلاط، وهي مدينة كبيرة عظيمة، ففعلوا كذلك، وكان هذا في ذي الحجة.
ولقد حكي لي عنهم حكايات يكاد سامعها يكذب بها من الخوف الذي ألقى الله سبحانه وتعالى في قلوب الناس منهم، حتى قيل إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية أو الدرب وبه جمع كثير من الناس فلا يزال يقتلهم واحداً بعد واحد، لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس.
ولقد بلغني أن إنساناً منهم أخذ رجلاً، ولم يكن مع التتري ما يقتله به، فقال له: ضع رأسك على الأرض ولا تبرح؛ فوضع رأسه على الأرض، ومضى التتري فأحضر سيفاً وقتله به.
وحكى لي رجل قال: كنت أنا ومعي سبعة عشر رجلاً في طريق، فجاءنا فارس من التتر وقال لنا حتى يكتف بعضنا بعضاً، فشرع أصحابي يفعلون ما أمرهم، فقلت لهم: هذا واحد فلم لا نقتله ونهرب؟ فقالوا: نخاف. فقلت: هذا يريد قتلكم الساعة، فنحن نقتله، فلعل الله يخلصنا؛ فوالله ما جسر أحد أن يفعل، فأخذت سكيناً وقتلته وهربنا فنجونا، وأمثال هذا كثير.
وصول طائفة من التتر إلى إربل ودقوقافي هذه السنة، في ذي الحجة، وسل طائفة من التتر من أذربيجان إلى أعمال إربل، فقتلوا من على طريقهم من التركمان الإيوانية والأكراد الجوزقان وغيرهم إلى أن دخلوا بلد إربل، فنهبوا القرى، وقتلوا من ظفروا به من أهل تلك الأعمال، وعملوا الأعمال الشنيعة التي لم يسمع بمثلها من غيرهم.
وبرز مظفر الدين، صاحب إربل، في عسكره، واستمد عساكر الموصل فساروا إليه، فلما بلغه عود التتر إلى أذربيجان أقام في بلاده ولم يتبعهم، فوصلوا إلى بلد الكرخيني، وبلد دقوقا، وغير ذلك، وعادوا سالمين لم يذعرهم أحد، ولا وقف في وجوههم فارس.
وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها، فالله سبحانه وتعالى يلطف بالمسلمين، ويرحمهم، ويرد هذا العدو عنهم، وخرجت هذه السنة ولم نتحقق لجلال الدين خبيراً، ولا نعلم هل قتل، أو اختفى، لم يظهر نفسه خوفاً من التتر، أو فارق البلاد إلى غيرها، والله أعلم.
ذكر طاعة أهل أذربيجان للتترفي أواخر هذه السنة أطاع أهل بلاد أذربيجان جميعها للتتر، وحملوا إليهم الأموال والثياب الخطائي، والخوبي، والعتابي، وغير ذلك، وسبب طاعتهم أن جلال الدين لما انهزم على آمد من التتر، وتفرقت عساكر، وتمزقوا كل ممزق، وتخطفهم الناس، وفعل التتر بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا، ولم يمنعهم أحد، ولا وقف في وجوههم واقف، وملوك الإسلام منجحرون في الأثقاب، وانضاف إلى هذا انقطاع أخبار جلال الدين، فإنه لم يظهر له خبر، ولا علموا له حالة، سقط في أيديهم، وأذعنوا للتتر بالطاعة، وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموال والثياب.

من ذلك مدينة تبريز التي هي أصل بلاد أذربيجان، ومرجع الجميع إليها وإلى من بها، فإن ملك التتر نزل في عساكره بالقرب منها، وأرسل إلى أهلها يدعوهم إلى طاعته، ويتهددهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه المال الكثير، والتحف من أنواع الثياب الإبريسم وغيرها، وكل شيء حتى الخمر، وبذلوا له الطاعة، فأعاد الجواب يشكرهم، ويطلب منهم أن يحضر مقدموهم عنده، فقصده قاضي البلد ورئيسه، وجماعة من أعيان أهله، وتخلف عنهم شمس الدين الطغرائي، وهو الذي يرجع الجميع إليه، إلا أنه لا يظهر شيئاً من ذلك.
فلما حضروا عنده سألهم عن امتناع الطغرائي من الحضور فقالوا؛ إنه رجل منقطع، ما له بالملوك تعلق، ونحن الأصل؛ فسكت ثم طلب أن يحضروا عنده من صناع الثياب الخطائي وغيرها، ليستعمل لملكهم الأعظم، فإن هذا هو من أتباع ذلك الملك، فأحضروا الصناع، فاستعملهم في الذي أرادوا، ووزن أهل تبريز الثمن، وطلب منهم خركاة لملكه أيضاً، فعملوا له خركاة لم يعمل مثلها، وعملوا غشاءها من الأطلس الجيد المزركش، وعملوا من داخلها السمور والقندر، فجاءت عليهم بجملة كثيرة، وقرر عليهم شيئاً من المال كل سنة، وترددت رسلهم إلى ديوان الخلافة وإلى جماعة من الملوك يطلبون منهم أنهم لا ينصرون خوارزم شاه.
ولقد وقفت على كتاب وصل من تاجر من أهل الري في العام الماضي، قبل خروج التتر، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها، وساروا إلى أذربيجان، سار هو معهم إلى تبريز، فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافر، لعنه الله، ما نقدر نصفه، ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوب المسلمين، فإن الأمر عظيم، ولا تظنوا أن هذه الطائفة التي وصلت إلى نصيبين والخابور، والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا، كان قصدهم النهب، إنما أرادوا أن يعملوا هل في البلاد من يردهم أم لا، فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلاد من مانع ومدافع، وأن البلاد خالية من ملك وعساكر، فقوي طمعهم، وهم في الربيع يقصدونك، وما يبقى عندكم مقام، إلا إن كان في بلد الغرب، فإن عزمهم على قصد البلاد جميعها، فانظروا لأنفسكم.
هذا مضمون الكتاب، فإن لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأما جلال الدين فإلى آخر سنة ثمان وعشرين لم يظهر له خبر، وكذلك إلى سلخ صفر سنة تسع لم نقف له على حال، والله المستعان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلت الأمطار بديار الجزيرة والشام، ولا سيما حلب وأعمالها فإنها كانت قليلة بالمرة، وغلت الأسعار بالبلاد، وكان أشدها غلاء حلب، إلا أنه لم يكن بالشديد مثل ما تقدم في السنين الماضية، فأخرج أتابك شهاب الدين، وهو والي الأمر بحلب، والمرجع إلى أمره ونهبه، وهو المدبر لدولة سلطانها الملك العزيز ابن الملك الظاهر، والمربي له، من المال والغلات كثيراً، وتصدق صدقات دارة، وساس البلاد سياسة حسنة بحيث لم يظهر للغلاء أثر، فجزاه الله خيراً.
وفيها بنى أسد الدين شيركوه، صاحب حمص والرحبة، قلعة عند سلمية، وسماها سميمس، وكان الملك الكامل لما خرج من مصر إلى الشام قد خدمه أسد الدين، ونصح له، وله أثر عظيم في طاعته والمقاتلة بين يديه، فأقطعه مدينة سليمة، فبنى هذه القلعة بالقرب من سليمة، وهي على تل عال.
وفيها قصد الفرنج الذين بالشام مدينة جبلة، وهي بين جملة المدن المضافة إلى حلب، ودخلوا إليها، وأخذوا منها غنيمة وأسرى، فسير أتابك شهاب الدين إليهم العساكر مع أمير كان أقطعها، فقاتل الفرنج، وقتل منهم كثيراً، واسترد الأسرى والغنيمة.
وفيها توفي القاضي ابن غنائم بن العديم الحلبي، الشيخ الصالح، وكان من المجتهدين في العبادة والرياضة والعاملين بعلمه، فلو قال قائل: إنه لم يكن في زمانه أعبد منه، لكان صادقاً، فرضي الله عنه وأرضاه، فإنه من جملة شيوخنا، سمعنا عليه الحديث، وانتفعنا برؤيته وكلامه.
وفيها أيضاً في الثاني عشر من ربيع الأول توفي صديقنا أبو القاسم عبد المجيد بن العجمي الحلبي، وهو وأهل بيته مقدمو السنة بحلب، وكان رجلاً ذا مروءة غزيرة، وخلق حسن، وحلم وافر، ورئاسة كثيرة، يحب إطعام الطعام، وأحب الناس إليه من يأكل طعامه، ويقبل بره؛ وكان يلقى أضيافه بوجه منبسط ولا يقعد عن إيصال راحة، وقضاء حاجة، فرحمه الله رحمة واسعة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34