كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

فسار في ثمانية آلاف فرقهم فيما بين نيسابور والري، وقدم بالأموال والخزائن فخلفها بالري، وجمع أيضاً أموال الجبل، وقدم في ألف، فأمر السفاح القواد وسائر الناس أن يتلقوه، فدخل أبو سملم على السفاح، فأكرمه وأعظمه، ثم استأذن السفاح في الحج، فاذن له وقال: لولا أن لأبا جعفر، يعني أخاه المنصور، يريد الحج لا ستعملتك على الموسم؛ وأنزله قريباً منه.
وكان ما بين أبي جعفر وأبي مسلم متباعداً لأن السفاح كان بعث أبا جعفر إلى خراسان بعدما صفت الأمور له ومعه عهد أبي مسلم بخراسان وبالبيعة للسفاح وأبي جعفر المنصور من بعده، فبايع لهما أبو مسلم وأهل خراسان، وكان أبو مسلم قد استخف بأبي جعفر؛ فلما رجع أخبر السفاح ما كان من أمر أبي مسلم، فلما قدم أبو سملم هذه المرة قال أبو جعفر للسفاح: أطعني وأتقل أبا مسلم، فوالله إن في رأسه لغدرة. فقال: قد عرفت بلاءه وما كان منه. فقال أبو جعفر: إنما كان بدولتنا، والله لو بعثت سنوراً لقام مقامه وبلغ ما بلغ. فقال: كيف نقتله؟ قال: إذا دخل عليك وحادثته ضربته أنا من خلفه ضربة قتلته بها. قال: فكيف بأصحابه؟ قال: أبو جعفر: لو قتل لتفرقوا وذلوا. فأمره بقتله، وخرج أبو جعفر. ثم ندم السفاح على ذلك فأمر أبا جعفر بالكف عنه.
وكان أبو جعفر قبل ذلك بحران وسار منها إلى الأنبار وبها السفاح، واستخلف على حران مقاتل بن حكيم العكي.
وحج أبو جعف وأبو مسلم، وكان أبو جعفر على الموسم.
وفيها مات زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب.
ذكر موت السفاحفي هذه السنة مات السفاح بالأنبار لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة، وقيل: لاثنتي عشرة مضت منه، بالجدري؛ وكان له يوم مات ثلاث وثلاثون سنة، وقيل: ست وثلاثون، وقيل: ثمان وعشرون سنة. وكانت ولايته من لدن قتل مروان إلى أن توفي أربع سنين؟. ومن لدن بويع له بالخلافة إلى أن مات أربع سنين وثماينة أشهر، وقيل: وتسعة أشهر، منها ثمانية أشهر يقاتل مروان وكان جعداً، طويلاً، أبيض، أقنى الأنف، حسن الوجه واللحية.
وأمه ريطة بنت عبد الله بن عبد المدان الحارثي، وكان وزيره أبا الجهم بن عطية.
وصلى عليه عمه عيسى بن علي ودفنه بالأنبار العتيقة في قصره. وخلف تسع جباب، وأربعة أقمصة فيهما وشمس في الناس، ولا يوجد، وهما:
يا آل مروان إن الله مهلككم ... ومبدل بكم خوفاً وتشريدا
لا عمر الله من إنشائكم أحداً ... وبثكم في بلاد الخوف تطريدا
قال: فعلت ذلك فدخلت قلوبهم مخافة.
قال جعفر بن يحيى: نظر السفاح يوماً في المرآة، وكان أجمل الناس وجهاً، فقال: أللهم إني لا أقول كما قال سليمان بن عبد الملك: أنا الملك الشاب، ولكني أقول: اللهم عمرني طويلاً في طاعتك ممتعاً بالعافية. فما استتم كلامه حتى سمع غلاماً يقول لغلام آخر: الأجل بيني وبينك شهران وخمسة أيام. فتطير من كلامه وقال: حسببي الله ولا قوة إلا بالله، عليك توكلت، وبك أستعين. فما مضت الأيام حتى أخذته الحمى واتصل مرضه فمات بعد شهرين وخمسة ايام.
ذكر خلافة المنصوروفي هذه السنة عقد السفاح عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس لأخيه أبي جعفر عبد الله بن محمد بالخلافة من بعده وجعله ولي عهد المسلمين، ومن بعد أبي جعفر ولد أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي، وجعل العهد في ثوب وختمة بخاتمه وخواتيم أهل بيته ودفعه إلى عيسى بن موسى.
فلما توفي السفاح كان أبو جعفر بمكة، فأخذ البيعة لأبي جعفر عيسى ابن موسى وكتب إليه يعلمه وفاة السفاح والبيعة له، فلقيه الرسول بمنزل صفية فقال: صفت لنا إن شاء الله. وكتب إلى أبي مسلم يستدعيه، وكان أبو جعفر قد تقدم، فأقبل أبو مسلم إلليه. فلما جلس وألقى إليه كتابه قرأه وبكى واسترجع ونظر إلى أبي جعفر وقد جزع جزعاً شديداً فقال: ما هذا الجزع وقد أتتك الخلافة؟ قال: أتخوف شر عمي عبد الله بن علي وشغبه علي. قال: لا تخفه فأنا أكفيكه إن شاء الله، وإنما عامة جنده ومن معه أهل خراسان وهم لا يعصونني. فسري عنه. وبايع له أبو مسلم والناس، وأقبلا حتى قدما الكوفة.

وقيل: إن أبا سملم هو الذي كان تقدم على أبي جعفر فعرف الخبر قبله فكب إليه: عافاك الله ومتع بك، إنه أتاني أمر أقطعني وبلغ مني مبلغاً لم يبلغه مني شيء قط، وفاة أمير المؤمنين، فنسأل الله أن يعظم أجرك ويحسن الخلافة عليك، وإنه ليس من أهلك أحد أشد تعظيماً لحقك وأصفى نصيحة لك وحرصاً على ما يسرك مني. ثم مكث يومين وكتب إلى أبي جعفر ببيعنه، وإنما أراد ترهيب أبي جعفر.
قال: ورد أبو جعفر زياد بن عبيد الله إلى مكة، وكان عاملاً عليها وعلى المدينة للسفاح؛ وقيل: كان قد عزله قبل موته عن مكة وولاها العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس.
ولما بلغ عيسى بن موسى الناس لأبي جعفر أرسل إلى عبد الله بن علي بالشام يخبره بوفاة السفاح وبيعة المنصور ويأمره بأخذ البيعة للمنصور، وكان قد قدم قبل ذلك على السفاح فجعله على الصائفة وسير معه أهل الشام وخراسان، فسار حتى بلغ دلوك ولم يدرك فأتاه موت السفاح، فعاد بمن معه من الجيوش وقد بايع لنفسه.
ذكر الفتنة بالأندلسوفي هذه السنة خرج في الأندلس الحباب بن رواحة بن عبد الله الزهري ودعا إلى نفسه واجتمع إليه جمع من اليمانية، فسار إلى الصميل وهو أمير قرطبة، فحصره بها وضيق عليه، فاستمد الصميل يوسف الفهري أمير الأندلس، فلم يفعل لتالي الغلاء والجوع على الأندلس ولأن يوسف قد كره الصميل واختار هلاكه ليستريح منه.
وثار بها أيضاً عامر العبدري وجمع جمعاً واجتمع مع الحباب على الصميل وقاما بدعوة بني العباس.
فلما اشتد الحصار على الصميل كتب إلى قومه يستمدهم، فسارعوا إلى نصرته واجتمعوا وساروا إليه، فلما سمع الحباب بقربهم سار الصميل عن سرقسطة وفارقها، فعاد الحباب ؟إليها وملكها، واستعمل يوسف الفهري الصميل على طيلطلة.
ذكر عدة حوادثكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى الشام عبد الله بن علي، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى المدينة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى مكة العباس بن عبد الله بن معبد.
وفيها مات ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وهو ربيعة الرأي، وقيل: مات سنة خمس وثلاثين ومائة، وقيل: سنة اثنتين وأربعين ومائة. وفيها مات عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم. وفيها توفي عبد الملك بن عمير بن سويد اللخمي الفرسي، وإنما قيل له الفرسي، بالفاء، نسبة إلى فرس له. وعطاء بن السائب أبو زيد الثقفي. وعروة بن وريم.
وفي هذه السنة قدم أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين من مكة فدخل الكوفة فصلى بأهلها الجمعة وخطبهم وسار إلى الأنبار فأقام بها وجمع إليه أطرافه، وكان عيسى بن موسى قد أحرز بيوت الأموال والخزائن والدواوين حتى قدم عليه أبو جعفر، فسلم الأمر إليه.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائة

ذكر خروج عبد الله بن علي وهزيمته
قد ذكرنا مسير عبد الله بن علي إلى الصائفة في الجنود، وموت السفاح، وإرسال عيسى بن موسى إلى عمه عبد الله بن علي يخبره بموته ويأمره بالبيعة لأبي جعفر المنصور، وكان السفاح قد أمر بذلك قبل وفاته.
فلما قدم الرسول على عبد الله بذلك لحقه بدلوك، وهي بأفواه الدروب، فأمر منادياً فنادى: الصلاة جامعة! فاجتمعوا عليه، فقرأ عليهم الكتاب بوفاة السفاح ودعا الناس إلى نفسه، وأعلمهم أن السفاح حين أراد أن يوجه الجنود إلى مروان بن محمد دعا بني أبيه فأرادهم على المسي إليه فقال: من انتدب منكم فسار إليه فهو ولي عهدي، فلم ينتدب له غيري، وعلى هذا خرجت من عنده وقتلت من قتلت، وشهد له أبو غانم لطائي وخفاف المروروذي وغيرهما من القواد، فبايعوه، وفيهم حميد بن قحطبة وغيرهم من أهل خراسان والشام والجزيرة، إلا أن حميداً فارقه، على ما نذكره.
ثم سار عبد الله حتى نزل حران، وبها مقاتل العكي قد استخلفه أبو جعفر لما سار إلى مكة، فتحصن منه مقاتل، فحصره أربعين يوماً.
وكان أبو مسلم قد عاد من الحج مع المنصو، كما ذكرناه، فقال للمنصور: إن شئت جمعت ثيابي في منطقتي وخدمتك، وإن شئت أتيت خراسان فأمددتك بالجنود، وإن شئت سرت إلى حرب عبد الله بن علي. فأمره بالمسير لحرب عبد الله، فسار أبو مسلم في الجنود نحو عبد الله، فلم يتخلف عنه أحد، وكان قد لحقه حميد بن قحطبة فسار معه، وجعل على مقدمته مالك بن الهيثم الخزاعي.

فلما بلغ عبد الله، وهو يحاصر حران، إقبال أبي مسلم خشي أن يهجم عليه عطاء العتكل أماناً، فنزل إليه فيمن معه وأقام معه أيايماً، ثم وجهه إلى عثمان بن عبد الأعلى بن سراقة الأزدي بالقرقة ومعه ابناه وكتب معه كتاباً.
فلما قدموا على عثمان دفع العتكي الكتاب إليه، فقتل العتكي واحتبس ابنيه، فلما هزم عبد الله قتلهما.
وكان عبد الله بن علي قد خشي أن لا يناصحه أهل خراسان فقتل منهم نحواً من يبعة عشر ألفاً واستعمل حميد بن قحطبة على حلب، وكتب معه كتاباً إلى زفر بن عاصم عاملها يأمره بقتل حميد إذا قدم عليه، فسار حميد والكتاب معه، فلما كان ببعض الطريق قال: إن ذهابي بكتاب لا أعلم ما فيه لغرر. فقرأه، فلما رأى ما فيه أعلم خاصته ما في هذا الكتاب وقال: من أراد المسير معي منكم فليسر. فاتبعه ناس كثير منهم، وسار على الرصافة إلى العراق.
فأمر المنصور محمد بن صول بالمسير إلى عبد الله بن علي ليمكر به، فلما أتاه قال له: إني سمعت أبا العباس يقول الخليفة بعدي عمر عبد الله. فقال له: كذبت، لإنما وضعك أبزو جعفر. فضرب عنقه.
ومحمد بن صول هو جد إبرايهمبن العباس الكاتب الصولي.
ثم أقبل عبد الله بن علي حتى نزل نصيبين وخندق عليه، وقدم أبو مسلم فيمن معه، وكان المنصور قد كتب إلى الحسن بن قحطبة، وكان خليفته بأرمينية، يأمره أن يوافي أبا مسلم، فقدم على أبي مسلم بالموصل، وأقبل أبو مسلم فنزل ناحية نصيبين فأخذ طريق الشام، ولم يعرض لعبد الله، وكتب إليه: إني لم أومر بقتالك ولكن أمير المؤمنين ولاني الشام فأنا أريدها. فقال من كان مع عبد الله من أهل الشام لعبد الله: كيف نقيم معك وهذا يأتي بلادنا فيقتل من قدر عليه من رجالنا ويسبي ذرارينا؟ ولكن نخرج إلى بلادنا فمنعه ونقاتله. فقال لهم عبد الله: إنه والله ما يريد الشام وما توجه إلا لقتالكم، وإن أقمتم ليأتينكم. فأبوا إلا المير إلى الشام، وأبو مسلم قريب منهم، فارتحل عبد الله نحو الشام، وتحول أبو مسلم فنزل في معسكر عبد الله بن علي في موضعه وعور ما حوله من المياه وألقى فيها الجيف.
وبلغ عبد الله ذلك فقال لأصحابه: ألم أقل لكم؟ورجع فنزل في موضع سعكر أبي مسلم الذي كان به، فاقتتلوا خمسة أشهر وأهل الشام أكثر فرساناً وأكمل عدة، وعلى ميمنة عبد الله بكار بن سلم العقيلي، وعلى ميسرته حبيب ابن سويد الأسدي، وعلى الخيل عبد الصمد بن علي أخو عبد الله، وعلى ميمنة أبي مسلم الحسن بن قحطبة، وعلى ميسرته خازم بن خيزمة، فاقتتلوا شهراً.
ثم إن أصحاب عبد الله حملوا على ععسكر أبي مسمل فأزالوهم عن مواضعهم ورجعوا، ثم حمل عليهم عبد الصمد بن علي في خيل مجردة فقتل منهم ثمانية عشر رجلاً ورجع في أصحابه، ثم تجمعوا وحملوا ثانية على أصحاب أبي مسلم فأزالوا صفهم وجالوا جولةً، فقيل لأبي مسلم: لو حولت دابتك إلى هذا التل ليراك الناس فيجعوا فإنهم قد انهزموا. فقال: إن أهل الحجى لا يعطفون دوابهم على هذه الحال. وأمر منادياً فنادى: يا أهل خراسان ارجعوا فإن العافية لمن اتقى.فتراجع الناس.وارتجز أبو مسلم يومئذ فقال:
من كان ينوي أهله فلا رجع ... فر من الموت وفي الموت وقع
وكان قد عمل لأبي مسلم عريش، كان يجلس عليه إذا التقى الناس فينظر إلى القتال، فإن رأى خللاً في الجيش سده وأمر مقدم تلك الناحية بالاحتياط وبما يفعل، فلا تزال رسله تختلف إليهم حتى ينصرف الناس بعضهم عن بعض.

فلما كان يوم الثلاثاء والأربعاء لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين التقوا فاقتتلوا، فمكر بهم أبو مسلم، وأمر الحسن بن قحطبة أن يعبيء الميمنة أكثرها إلى الميسرة وليترك في الميمنة حماعة أصحابه وأشداءهم، فلما رأى ذلك أهل الشام أعروا ميسرتهم وانضموا إلى ميممنتهم بإزاء ميسرة أبي مسلم، وأمر أبو سملم أهل القلب أن يحملوا مع من بقي في ميمنته على ميسرة أهل الشام فحملوا عليهم فحطموهم، وجال القلب والميمنة وركبهم أصحاب أبي مسلم، فانهزم أصحاب عبد الله، فقال عبد الله بن علي لابن سراقة الأزدي: يا ابن سراقة ما ترى؟ قال: أرى أن تصبر وتقاتل حتى تموت، فإن الفرار قبيح بمثلك وقد عبنته على مروان. قال: فإني أتي العاق. قال:فأنا معك. فانهزموا وتركوا عسكرهم، فحواه أبو سملم وكتب بذلك إلى المنصور، فأرسل أبا الخصيب مولاه يحصي ما أصابوا من العسكر، فغضب أبو مسلم.
ومضى عبد الله وعبد الصمد ابنا علي، فأما عبد الصمد فقدم الكوفة فاستأمن له عيسى بن موسى فأمنه المنصور، وقيل: بل أقام عبد الصمد بن علي بالرصافة حتى قدمها جمهور بن مرار العجلي في خيول أرسلها المنصور، فأخذه فبعث به إلى المنصور موثقاً مع أبي الخصيب فأطلقه؛ وأما عبد الله بن علي فأتى أخاه سليمان بن علي بالبصرة فأقام عنده زماناً متوارياً.
ثم إن أبا مسلم آمن الناس بعد الهزيمة وأمر بالكف عنهم.
ذكر قتل أبي مسلم الخراسانيوفي هذه السنة قتل أبو مسلم الخراساني، قتله المنصور.
وكان سبب ذلك أن أبا مسلم كتب إلى السفاح يستأذنه في الحج، على ما تقدم، وكتب السفاح إلى المنصور وهو على الجزيرة وأرمينية وأذربيجان: إن أبا مسلم كتب يستأذنني في الحج وقد أذنت له وهو يريد أن يسألني أن أوليه الموسم، فاكتب إلي تستأذنني في الحج فآذن لك، فإنك إن كنت بمكة لم يطمع أن يتقدمك.
فكتب المنصور إلى أخيه السفاح بستأذنه في الحج، فأذن له، فقدم الأنبار، فقال أبو مسلم: أما وجد أبو جعفر عاماً يحج فيه غير هذا؟ وحقدها عليه، وحجا معاً، فكان أبو مسلم يكسو الأعراب ويصلح الآبار والطريق، وكان الذكر له، وكان الأعراب يقولون: هذا المكذوب عليه. فلما قدم مكة ورأى أهل اليمن قال: أي جند هؤلاء لو لقيهم رجل ظريف اللسان غزير الدمعة! فلما صدر الناس عن الموسم تقدم أبو مسلم في الطريق على أبي جعفر، فأتاه خبر وفاة السفاح، فكتب إلى أبي جعفر يعزيه عن أخيه ولم يهنئه بالخلافة ولم يقم حتى يلحقه ولم يرجع. فغضب أبو جعفر وكتب إليه كتاباً غليظاً، فلما أتاه الكتاب كتب إليه يهنئه بالخلافة. وتقدم أبو مسلم فأتى الأنبار فدعا عيسى ابن موسى إلى أن يبايع له، فأتى عيسى، وقدم أبو جعفر وخلع عبد الله بن علي،فسير المنصور أبا مسلم إلى قتاله، كما تقدم مكاناً، مع الحسن بن قحطبة، فأرسل الحسن إلى أبي أيوب وزير المنصور: إني قد رأيت بأبي مسلم، أنه يأتيه كتاب أمير المؤمنين فيقرأه ثم يلقي الكتاب من يده إلى مالك بن الهيثم فيقرأه ويضحكان استهزاء، فلما ألقيت الرسالة إلى أبي أيوب ضحك وقال: نحن لأي مسلم أشد تهمة منا لعبد الله بن علي، إلا أنا نرجو واحدة، نعلم أن أهل خراسان لا يحبون عبد الله وقد قتل منهم من قتل. وكان قتل منهم سبعة عشرألفاً.
فلما انهزم عبد الله وجمع أبو مسلم ما غنم من عسكره بعث أبو جعفر أبا الخطيب إلى أبي مسلم ليكتب له ما أصاب من الأموال، فأراد أبو مسلم قتله، فتكلم فيه فخلى سبيله وقال: أنا أمين على الدماء خائن في الأموال. وشتم المنصور، فرجع أبو الخطيب إلا المنصور فأخبره، فخاف أن يمضي أبو مسلم إلى خراسان، فكتب إليه: إني قد وليتك مصر والشام فهي خير لك من خراسان، فوجه إلى مصر من أحببت وأقم بالشام فتكون بقرب أمير المؤمنين، فإن أحب لقاءك أتيته من قريب.
فلما أتاه الكتاب غضب وقال: يوليني الشام ومصر وخراسان لي! فكتب الرسول إلى المنصور بذلك. وأقبل أبو مسلم من الجزيرة مجمعاً على الخلاف، وخرج عن وجهه يريد خراسان.

فسار المنصور من الأنبار إلى المدائن وكتب إلى أبي مسلم في المسير إله، فكتب إليه أبو مسلم وهو بالزاب: إنه لم يبق لأمير المؤمنين، أكرمه الله، عدوا إلا أمكنه الله منه، وقد كنا نروي عن ملوك آل ساسان أن أخوف مايكون الوزراء إذا سكنت الدهماء، فنحن نافرون عن قربك، حريصون على الوفاء لك ما وفيت، حريون بالسمع والطاعة غير أنها من بعيد حيث يقارنها السلامة، فإن أرضاك ذلك فإنا كأحسن عبيدك، وإن أبيت إلا أن تعطي نفسك إرادتها نق2ضت ما أبرمت من عهدك ضناً بنفسي.
فلما وصل الكاب إلى المنصور كتب إلى أبي مسمل: قد فهمت كتابك وليست صفتك صفة أولئك الوزراء الغششة ملوكهم الذين يتمنون اضطراب حبل الدولة لكثرة جرائمهم، فإنما راحتهم في انتشار نظام الجماعة، فلم سويت نفسك بهم؟ فأنت في طاعتك وما صحتك واضلاعك بما حملت من أعباء هذا الأمر على ما أنت به، ليس مع الشرطة التي أوجبت منك سمعاً ولا طاعة، وحمل إليك أمير المؤمنين عيسى بن موسى رسالة لتسكن إليها إن أصغيت وأسأل الله أن يحول بين الشيطان ونزغاته وبينك، فإنه لم يجد باباً يفسد به نيتك أوكد عنده وأقرب من الباب الذي فتحه عليك.
وقيل: بل كتب إليه أبو مسمل: أما بعد فإني اتخذت رجلاً إماماً ودليلاً على ما افترض الله على خلقه، وكان في محله العلم نازلاً، وفي قرابته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، قريباً، فاستجهلني بالقرآن فحرفه عن مواضعه طمعاً في قليل قد نعاه الله إلى خلقه، فكان كالذي دلى بغرور وأمرني أن أجرد السيف وأرفع الرحمة، ولا أقبل المعذرة ولا أقيل العشرة، ففعلت توطئة لسلطانكم حتى عرفكم الله من كان يحملكم ثم استنقذنب الله بالتوبة، فإن يعف عني فقدماً عرف به ونسب إليه، وإن يعاقبني فيما قدمت يدياي وما الله بظلام للعبيد.
وخرج أبو مسلم مراغماً مشاقاً، وسار المنصور من الأنبار إلى المدائن، وأخذ أبو مسلم طريق حلوان، فقال المنصور لعمه عيسى بن علي ومن حضر من بني هاشم: اكتبوا إلى أبي مسلم. فكتبوا إليه يعظمون أمره ويشكرونه وسألونه أن يتم على ما كان منه وعليه من الطاعة ويحذرونه عاقبة البغي ويأمرونه بالرجوع إلى المنصور.
وبعث المنصور الكتاب مع أبي حميد المروروذي وقال له: كلم أبا مسمل بألين ما تكلم به أحداً، منه وأعلمه أني رافعه وصانع به ما لم يصنعه به أحد إن هو صلح وراجع ما أحب، فإن أبي أن يرجع فقل له: يقول لك أمير المؤمنين لست من العباس وإني بريء من محمد إن مضيت مشاقاً ولم تأتني إن وكلت أمرك إلى أحد سواي، وإن لم أل طلبك وقتالك بنفسي، ولو خضت البحر لخضته، ولو اقتحمت النار لاقتحمتها حتى أقتلك أو أموت قبل ذلك؛ ولا تقولن هذا الكلام حتى تيأس من رجوعه ولا تطمع منه خير.
فسار أبو حميد فقدم على أبي مسلم بحلوان فدفع إليه الكتاب وقال له: إن الناس يبلغونك عن أمير المؤمنين ما لم يقله وخلاف ما عليه رأيه منك حسداً وبغاً، يريدون إزالة النعمة وتغييرها، فلا تفسد ما كان منك. وكلمه وقال: يا أبا مسلم إنك لم تزل أمير آل محمد يعرفك بذلك الناس، وما ذخر الله لك من الأجر عنده في ذلك أعظم مما أنت فيه من ديناك، فلا تحبط أجرك ولا يستهوينك الشيطان.
فقال له أبو مسلم: متى كنت تكلمني بهذا الكلام؟ فقال: إنك دعوتنا إلى هذا الأمر وإلى طاعة أهل بيت النبي، صلى الله عليه وسلم، بني العباس، وأمرتنا من خالف ذلك فدعوتنا من أرضين متفرقة وأسباب مختلفة، فجمعنا الله على طاعتهم وألف ما بين قلوبنا بمحبتهم وأعزنا بنصرنا لهم، ولم نلق منهم رجلاً إلا بما قذف الله في قلوبنا حتى أتيناهم في بلادهم ببصائر نافذة، وطاعة خالصة، أفتريد حين بلغنا غاية منانا ومنتهى أملنا أن تفسد أمرنا وتفرق كلمتنا؟ زقد قلت لنا من خالفكم فاقتلوه وغن خالفتكم فاقتلوني! فأقبل أبو مسلم على أبي نصر مالك بن الهيثم فقال: أما تسمع ما يقول لي هذا؟ ما كان بكلامه يا مالك! قال: لا تسمع قوله ولا يهولنك هذا منه، فلعمري ما هذا كلامه ولما بعد هذا أشد منه، فامض لأمرك ولا ترجع، فوالله لئن أتيته ليقتلنك، ولقد وقع في نفسه منك شيء لا يأمنك أبداً.

فقال: قوموا، فنهضوا، فأرسل أبو مسلم إلى نيزك فعرض عليه الكتب وما قالوا، فقال: ما أرى أن تأتيه وأرى أن تأتي الري فتقيم بها فيصير ما بين خراسان والري لك، وهم جندك لا يخالفك أحد، فإن استقام لك استقمت له، وإن أبى كنت في جنك وكانت خراسان وراءك ورأيت رأيك.
فدعا أبا حميد فقال: ارجع إلى صاحبك فيس من رأيي أن آتيه. قال: قد عزمت على خلافه؟ قال: نعم. قال: لا تفعل! قال: لا أعود إليه أبداً. فلما يئس من رجوعه معه قال له ما أمره به أبو جعفر، فوجم طويلاً ثم قال: قم. فكسره ذلك القول ورعبه.
وكان أبو جعفر المنصور قد كتب إلى أبي داود خليفة أبي مسلم بخراسان حين اتهم أبا سملم: إن لك إمرة خراسان ما بقيت. فكتب أبو داود إلى أبي مسلم: إنا لم نخرج لمكعصية خلفاء الله وأهل بيت نبيه، صلى الله عليه وسلم ، فلا تخالفن إمامك ولا ترجعن إلا بإذنه. فوافاه كتابه على تلك الحال، فزاده رعباً وهماً، فأرسل إلى أبي حميد فقال له: إني كنت عازماً على المضي إلى خراسان ثم رأيت أن أوجه أبا إسحاق إلى أمير المؤمنين فيأتيني برأيه، فإنه ممن أثق به. فوجهه، فلما قدم تلقاه بنو هاشم بكل ما يحب، وقال له المنصور: اصرفه عن وجهه ولك ولاية خراسان؛ وأجازه.
فرج أبو إسحاق وقال لأبي مسلم: ما أنكرت شيئاً، رأيتهم معظمين لحقك يرون لك ما يرون لأنفسهم. وأشار عليه أن يرجع إلى أمير المؤمنين فيعتذر إليه مما كان منه، فأجمع على ذلك. فقال له نيزك: قد أحمعت على الرجوع؟ قال: نعم؛ وتمثل:
ما للرجال مع القضاء محالة ... ذهب القضاء بحيلة الأقوام
قال: إذا عزمت على هذا فخار الله لك. احفظ عني واحدةً، إذا دخلت عليه فاقتله ثم بايع من شئت، فإن الناس لا يخالفونك.
وكتب أبو مسلم إلى المنصور يخبره أنه منصرف إليه، وسار نحوه، واستخلف أبا نصر على عسكره، وقال له: أقم حتى يأتيك كتابي، فغن أتاك مختوماً بنصف خاتم فأنا كتبته، وإن أتاك بالخاتم كله فم أختمه. وقدم المدائن في ثلاثة آلاف رجل وخلف الناس بحلوان.
ولما ورد كتاب أبي مسلم على المنصور قرأه وألقاه إلى أبي أيوب وزيره، فقرأه وقال له المنصور: والله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه.
فخاف أبو أيوب من أصحاب أبي مسلم أن يقتلوا المنصور ويقتلوه معه، فدعا سلمة بن سعيد بن جابر وقال له: هل عندك شكر؟ فقال: نعم. قال: إن وليتك ولاية تصيب منها مثل ما يصيب صاحب العراق تدخل معك أخي حاتماً - وأراد بإدخال أخيه معه أن يطمع ولا ينكر - وتجعل له النصف؟ قال: نعم. قال له: إن كسكركانت عام أول كذا وكذا ومنها العام أصعاف ذلك، فإن دفعتهاإليك بما كانت أو بالأمانة أصبت ما يضيق به ذرعاً. قال: كيف لي بهذا المال؟ قال له أبو أيوب: تأتي أبا مسلم فتلقاه وتكلمه أن يجعل هذا فيما يرفع من حوائجه، فإن أمير المؤمنين يريد أن يوليه إذا قدم ما وراء بابه ويريح نفسه، قال: فكيف لي أن يأذن لي أمير المؤمنين في لقائه؟ فاستأذن له أبو أيوب في ذلك، فأذن له المنصور وأمره أن يبلغ سلامه وشوقه إلى أبي مسلم، فلقيه سلمة بالطريق وأخبره الخبر وطابت نفسه، وكان قبل ذلك كئياً حزيناً، ولم يزل مسروراً حتى قدم.
فلما دنا أبو مسلم من المنصور أمر الناس بتلقيه، فتلقاه بنو هاشم والناس، ثم قدم فدخل على المنصور فقبل يده، وأمره أن ينصرف ويروح نفسه لثلاثة ويدخل الحمام، فانصرف.
فلما كان الغد دعا المنصور عثمان بن نهيك وأربعةً من الحرس، منهم: شبيب بن واج وأبو حنيفة حرب بن قيس، فأمرهم بقتل أبي مسلم إذا صفق بيديه، وتركهم خلف الرواق.

وأرسل إلى أبي مسلم يستدعيه، وكان عنده عيسى بن موسى يتغدى، فدخل على المنصور، فقال له المنصور: أخبرني عن نصلين أصبتهما مع عبد الله بن علي. قال: هذا أحدهما. قال أرينيه. فانتضاه وناوله إياه، فوضعه المنصور تحت فراشه وأقبل عليه يعاتبه وقال له: أخبرني عن كتابك إلى السفاح تنهاه عن الموات، أردت أن تعلمنا الدين؟ قال: ظننت أخذه لا يحل، فلما أتاني كتابه علمت أن وأهل بيته معدن العلم. قال: فاخبرني عن تقدمك إياي بطريق مكة.قال: كرهت اجتماعنا على الماء فيضر ذلك بالناس فتقدمتك للرفق. قال: فقولك لمن أشار عليك بالانصراف إلي بطريق مكة حين أتاك موت أبي العباس إلى أن تقدم فنرى رأينا، ومضيت فلا أنت أقمت حتى ألحقك ولا أنت رجعت إلي! قال: منعني من ذلك ما أخبرتك من طلب الرفق بالناس، وقلت تقدم الكوفة وليس عليك من خلاف. قالك فجارية عبد الله أردت أن تتخذها؟ قال: لا، ولكني خفت أن تضيع فحملتها في قبة ووكلت بها من يحفظها. قال: فمراغمتك وخروجك إلى خراسان؟ قال: خفت أن يكون قد دخلك مني شيء فقلت آتي خراسان فأكتب إليك بعذري فأذهب ما في نفسك. قال: فالمال الذي جمعته بخراسان؟ قال: أنفقه بالجند تقويةً لهم واستصلاحاً. قال: ألست الكاتب إلي تبدأ بنفسك وتخطب عمتي آمنة ابنة علي وتزعم أنك ابن سليط بن عبد الله بن عباس؟ لقد ارتقيت، لا أم لك، مرتقى صعباً.
ثم قال: وما الذي دعاك إلى قتل سليمان بن كثير مع أثره في دعوتنا وهو أحد فتياننا قبل أن يدخلك في هذا الأمر؟ قال: أراد الخلاف وعصاني فقتلته.
فلما طال عتاب المنصور قال: لا يقال هذا لي بعد بلائي وما كان مني. قال: يابن الخبيثة! والله لو كانت أمة مكانك لأجزأت، إنما عملت في دولتنا ويريحنا، فلو كان ذلك إليك ما قطعت فتيلاً.
فأخذ أبو مسلم بيده يقبلها ويعتذر إليه، فقال له المنصور: ما رايت كاليوم! والله ما زدتني إلا غضباً! قال أبو مسلم: دع هذا فقد أصبحت ما أخاف إلا الله تعالى. فغضب المنصور وشتمه وصفق بيده على الأخرى، فخرج عليه الحرس، فضربه عثمان بن نهبك فقطع حمائل سيفه، فقال: استبقني لعدوك يا أمير المؤمنين! فقال: لا أبقاني الله إذاً، أعدوا أعدى لي منك؟ وأخذه الحرس بسيوفهم حتى قتلوه وهو يصيح العفو، فقال المنصور: يا بن اللخناء العفو والسيوف قد اعتورتك! فقتلوه في شعبان لخمس بقين منه. فقال المنصور:
زعمت أن الدين لا يقتضى ... فاستوف بالكيل أبا مجرم
سقيت كأساً كنت تسقي بها ... أمر في الحلق من العلقم
وكان أبو مسلم قد قتل في دولته ستمائة ألف صبراً.
فلما تقل أبو مسلم دخل أبو لجهم على المنصور فرأى أبا مسلم قتيلاً فقال: ألا أراد الناس؟ قال: بلى فمر بمتاع يحمل إلى رواق آخر.
وخرج أبو الجهم فقال: انصرفوا فإن الأمير يريد القائلة عند أمير المؤمنين. ورأوا المتاع ينقل فظنوه صادقاً فانصرفوا، وأمر لهم المنصور بالجوائز، فأعطى أبا إسحاق مائة ألف.
ودخل عيسى بن موسى على المنصور بعد قتل أبي مسلم فقال: يا أمير المؤمنين أين أبو مسلم؟ فقال: قد كان هاهنا. فقال عيسى: عرفت نصيحته وطاعته وري الإمام إبراهيم كان فيه. فقال: يا أحمق والله ما أعلم في الأرض عدواً أعدى لك منه! ها هوذا في البساط.
فقال عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون. وكان لعيسى فيه رأي. فقال له المنصور: خلع الله قلبك! وهل كان لكم ملك أو سلطان أو أمر أو نهي مع أبي مسلم؟ ثم دعا المنصور بجعفر بن حنظلة فدخل عليه، فقال: ما تقول في أمر أبي مسلم؟ قال: يا أمير المؤمنين إن كنت أخذت من رأسه شعرة فاقتل ثم اقتل. فقال له المنصور: وفقك الله! فلما نظر إلى أبي مسلم مقتولاً قال: يا أمير المؤمنين عد من هذا اليوم لخلافتك.
ثم دعا المنصور بأبي إسحاق، فلما دخل عليه قال له: أنت المانع عدو الله على ما أجمع عليه! وقد كان بلغه أنه أشار عليه بإتيان خراسان، قال: فكف أبو إسحاق وجعل يلتفت يميناً وشمالاً خوفاً من أبي مسلم، فقال له المنصور: تكلم بما أردت فقد قتل الله الفاسق، وأمر بإخراجه. فلما رآه أبو إسحاق خر ساجداً لله فأطال ورفع رأسه وهو يقول: الحمد لله الذي آمنني بك اليوم! والله أمنته يوماً واحداً، وما جئته يوماً قط إلا وقد أوصيت وتكفنت وتحنطت. ثم رفع ثيابه الظاهرة فإذا تحتها كتان حدد وقد تحنط.

فلما رأى أبو جعفر حاله رحمه وقال له: استقبل طاعة خليفتك وأحمد الله الذي أراحك من الفاسق هذا. ثم قال له: فرق عني هذه الجماعة.
ثم كتب المنصور بعد قتل أبي مسلم إلى أبي نصر مالك بن الهيثم عن لسان أبي مسلم يأمره بحمل ثقله وما خلف عنده وأني قدم، وختم الكتاب بخاتم أبي مسلم، فلما رأى الخاتم تاماً علم أن أبا مسلم لم يكتب، فقال: فعلتموها! وانحدر إلى همذان وهو يريد خراسان.
فكتب المنصور لأبي نصر عهده على شهرزور، وكتب إلى زهير بن التركي، وهو على همذان: إن مر بك أبو نصر فاحبسه. فسبق الكتاب إلى زهير وأبو نصر بهمذان، فقال له زهير: قد صنعت لك طعاماً فلو أكرمتني بدخول منزلي. فحضر عنده، فأخذه زهير فحبسه.
وكتب أبو جعفر إلى زهير كتاباً يأمره بقتل أبي نصر، وقدم صاحب العهد على أبي نصر بعهده على شهرزور، فخلى زهير سبيله لهواه فيه، فخرج ثم وصل بعد يوم الكتاب إلى زهير بقتل أبي نصر، فقال: جاءني كتاب بعهده فخليت سبيله.
وقدم أبو نصر على المنصور فقال له: أشرت على أبي مسلم بالمضي إلى خراسان؟ قال: نعم، كانت له عندي أيادٍ فنصحت له، وإن اصطنعني أمير المؤمنين نصحت له وشكرت. فعفا عنه.
فلما كان يوم الراوندية قام أبو نصر على باب القصر وقال: أنا البواب اليوم لا يدخل أحد وأنا حي. فسأل عنه المنصور فأخبر به، فعلم أنه قد نصح له. وقيل: إن زهيراً أبا نصر إلى المنصور مقيداً، فمن عليه واستعمله على الموصل.
ولما قتل المنصور أبا مسلم خطب الناس فقال: أيها الناس لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، وإن أبا مسلم أحسن مبتدأً وأساء معقباً، وأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله وعنفنا في إمهالنا، وما ال ينقض بيعته ويخفر ذمته حتى أحل لنا عقوبته وأباحنا دمه، فحكمنا فيه حكمه لنما في غيره ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق من إمضاء الحق فيه؛ وما أحسن ما قال النابغة الذبياني للنعمان - يعني ابن المنذر -
فمن أطاعك فانفعه بطاعته ... كما أطاعك وادلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة ... تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ثم نزل.
وكان أبو مسلم قد سمع الحديث من عكرمة، وأبي الزبير المكي، وثابت الناتي، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس، والسدير؛ وروى عنه إبراهيم ابن ميمون الصائغ، وعبد الله بن المبارك، وغيرهما.
خطب يوماً فقام إليه رجل فقال: ما هذا السواد الذي أرى عليك؟ فقال: حدثني أبو البير عن جبابر بن عبد الله أن النبي، صلى الله عليه وسلم ، دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء، وهذه وثياب الدولة، يا غلام اضرب عنقه.
قيل لعبد الله بن المبارك: أبو مسلم كان خيراً أو الحجاج؟ قال: لا أقول إن أبا مسلم كان خيراً من أحد، ولكن الحجاج كان شراً منه.
وكان أبو مسلم نازكاً شجاعاً ذا رأي وعقل وتدبير وحزم ومروءة، وقيل له: بم نلت ما أنت فيه من القهر للأعداء؟ فقال: ارتديت الصبر وآثرت الكتمان وحالفت الحزان والأشجان وشامخت المقادير والأحكام حتى بلغت غاية همتي وأدركت نهاية بغيتي؛ ثم قال:
قد نلت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني ساسان إذ حشدوا
ما زلت أضربهم بالسيف فانتبهوا ... من رقدةٍ لم ينمها قبلهم أحد
طفقت أسعى عليهم في ديارهم ... والقوم في ملكهم بالشام قد رقدوا
ومن رعى غنماً في أرض مسبعةٍ ... ونام عنها تولى رعيها الأسد
وقيل: إن أبا مسلم ورد نيسابور على حمار بإكافٍ وليس معه أدمي، فقصد في بعض الليالي داراً لفاذوسيان فدق عليه الباب، ففزع أصحابه وخرجوا إليه، فقال لهم: قولوا للدهقان إن أبا مسلم بالباب يطلب منك ألف درهم ودابة. فقالوا للدهقان ذلك، فقال الدهقان: في أي زي هو وأي عدة؟ فأخبروه أنه وحده في أدون زي، فسكت ساعةً ثم دعا بألف درهم ودابة من خواص دوابه وأذن له وقال: يا أبا مسلم قد أسعفناك بما طلبت، وإن عرضت حاجة أخرى فنحن بين يديك. فقال: ما نضيع لك ما فعلته.

فلما ملك له بعض أقاربه: إن فتحت نيسابور أخذت كل ما تريده من مال الفاذوسيان دهقانها المجوسي. فقال أبو مسلم: له عندنا يد. فلما ملك نيسابور أتته هدايا الفاذوسيان، فقيل له: لا تقبلها واطلب منه الأموال. فقال: له عندي يد. ولم يتعرض له ولا لأحد من أصحابه وأمواله. وهذا يدل على علو همة وكمال مروءة.
وفي هذه السنة استعمل المنصور أبا داود على خراسان وكتب إليه بعهده.
ذكر خروج سنباد بخراسانوفي هذه السنة خرج ينباذ بخراسان يطلب بدم أبي مسلم، وكان مجوسياً من قرى نيسابور يقال لها أهروانه؛ كان ظهوره غضباً لقتل أبي ملم لأنه كان من صنائعه، وكثر أتباعه، وكان عامتهممن أهل الجبال، وغلب على نيسابور وقومس والري، وتسمى فيوز أصبهبذ،. فلما صار بالري أخذ خزائن أبي مسلم، وكان أبو مسلم خلفها بالري حين شخص إلى أبي العباس، وسبى الحرم، ونهب الأموال ولم يعرض للتجار، وكان يظهر أنه يقصد الكعبة ويهدمها.
فوجه إليه المنصور جمهور بن مرار العجلي في عشرة آلاف فارس، فالتقوا بين همذان والري على طرف المفازة، وعزم جمهور على مطاولته، فلما التقوا قدم سنباذ السبايا من النساء المسلمات على الجمال، فلما رأين عسكر المسلمين قمن في المحامل ونادين: وامحمداه! ذهب الإسلام! ووقعت الريح في أثوابهن فنفرت الإبل وعادت على عسكر سنباذ، فتفرق العسكر وكان ذلك سبب الهزيمة، وتبع المسلمون الإبل ووضعوا السيوف في المجوس ومن معهم فقتلوهم كيف شاؤوا، وكان عدد القتلى نحواً من ستين ألفاً، وسبى ذراريهم ونساءهم، ثم قتل سنباذ بين طبرستان وقومس.
وكان بين مخرج سنباذ وقتله سبعون ليلة، وكان سبب قتله أنه قصد طبرستان ملتجئاً إلى صاحبها، فأرسل إلى طريقه عاملاً له اسمه طوس، فتكبر عليه سنباذ، فضرب طوس عنقه وكتب إلى المنصور بقتله وأخذ ما معه من الأموال؛ وكتب المنصور إلى صاحب طبرستان يطلب منه الأموال، فأنكرها، فسير الجنود إليه، فهرب إلى الديلم.
ذكر خروج ملبد بن حرملةوفي هذه السنة خرج ملبد بن حرملة السيباني، فحكم بناحية الجزيرة، فسارت إليه روابط الجزيرة، وهو في نحو ألف فارس، فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم. ثم سار إليه يزيد بن حاتم المهلبي، فهزمه ملبد وأخذ جاريةً له كان يطأها، فوجه إليه المنصور مولاه مهلهل بن صفوان في ألفين من نخبة الجند، فهزمهم ملبد واستباح عسكرهم.
ثم وجه إليه نزاراً قائداً من قواد خراسان، فقتله ملبد وانهزم أصحابه.
ثم وجه إليه زياد بن مشكان في جمع كثير، فلقيهم ملبد فهزمهم. ثم وجه إليه صالح بن صبيح في جيش كثيف وخيل كثيرة وعدة، فهزمهم ملبد. ثم سار إليه حميد بن قحطبة وهو على الجزيرة يومئذ، فلقيه ملبد فهزمه، وتحصن منه حميد بن قحطبة وأعطاه مائة ألف درهم على أن يكف عنه.
وقيل: إن خروج ملبد كان ينة ثمان وثلاثين ومائة.
ذكر عدة حوادثولم يكن للناس هذه السنة صائفة لشغل السلطان بحرب سنباذ.
وحج بالناس هذه السنة إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الموصل، وكان على المدينة زياد بن عبد الله، وعلى مكة العباس بن عبد الله ابن معبد. ومات العباس عند انقضاء الموسم، فضم إسماعيل عمله إلى زياد ابن عبيد الله وأقره المنصور عليه. وكان على الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة وأعمالها سليمان بن علي، وعلى قضائها عمر بن عامر السلمي، وعلى خراسان أبو داود خالد بن إليراهيم، وعلى مصر صالح بن علي، وعلى الجزيرة حميد بن قحطبة، وعلى الموصل إسماعيل بن علي بن عبد الله، وهي على ما كانت عليه من الأجتدال.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائة

ذكر خلع جمهور بن مرار العجلي
وفيها خلع جمهور بن مرار المنصور بالري.
وكان سبب ذلك أن جمهوراً لما هرم سنباذ حوى ما في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم، فلم يوجهها إلى المنصور، فخاف فخلع ووجه إليه المنصوةر محمد بن الأشعث في جيش عظيم نحو الري، ففارقها جمهور نحو أصبهان، ودخل محمد الري، وملك جمهور أصبهان، فأرسل إليه محمد عسكراً، وبقي في الري، فأشار على جمهور بعض أصحابه أن يسير في نخبة عسكره نحو محمد فإنه في قلة، فإن ظفر لم يكن لمن بعده بقية، فسار إليه مجداً.

وبلغ خبره محمداً، فحذر واحتاط، وأتاه عسكر من خراسان فقوي بهم، فالتقوا بقصر الفيروزان بين الري وأصبهان فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ومع جمهور نخبة فرسان العجم، فهزم جمهور وقتل من أصحابه خلق كثير، وهرب جمهور فلحق بأذربيجان، ثم إنه بعد ذلك قتل بإسباذروا قتله أصحابه وحملوا رأسه إلى المنصور.
ذكر قتل ملبد الخارجيقد ذكرنا خروجه في السنة قبلها، وتحصن حميد منه، ولما بلغ المنصور ظفر ملبدٍ، وتحصن حميد منه، وجه إليه عبد العزيز بن عبد الرحمن أخا عبد الجبار وضم زياد بن مشكان، فأكمن له ملبد مائة فارس، فلما لقبه عبد العزيز خرج عليه الكمين فهزموه وقتلوه عامة أصحابه.
فوجه إليه خازم بن خزيمة في نحو ثمانية آلاف من المروروذية، فسار خازم حتى نزل الموصل، وبعث إلى ملبد بعض أصحابه، وعبر ملبد دجلة من بلد وسار نحو خازم، وسار إليه خازم وعلى مقدمته وطلائعه فضلة بن نعيم بن خازم بن عبد الله النهشلي، وعلى ميمنته زهير بن محمد العامري، وعلى ميسرته أبو حماد الأبرص، وخازم في القلب، فلم يزل يساير ملبداً وأصحابه إلى الليل وتواقفوا ليلتهم، فلما كان الغد سار ملبد نحو كورة حزة، وخازم في أثره وتركوا خندقهم، وكان خازم قد خندق على أصحابه بالحسك، فلما خرجوا منه حمل عليهم نملبد وأصحابه. فلما رأى ذلك خازم ألقى الحسك بين يديه ويدي أصحابه، فحملوا على ميمنة خازم فطووها، ثم حملوا على الميسرة وطووها، ثم انتهوا إلى القلب وفيه خازم، فنادى خازم في أصحابه: الأرض! فنزلوا ونزل ملبد وأصحابه وعقروا عامة دوابهم، ثم اضطربوا بالسيوف حتى تقطعت.
وأمر خازم فضلة بن نعيم أن إذا سطع الغبار ولم يبصر بعضنا بعضاً فارجع إلى خيلك وخيل أصحابك فاركبوها ثم ارموهم بنشاب؛ ففعل ذلك، وتراجعأصحاب خازم من الميمنة إلى الميسرة ثم رشقوا ملبداً وأصحابه بالنشاب، فقتل ملبد في ثمانمائة رجل ممن ترجل، وقتل منهم قبل أن يترجلوا زهاء ثلاثمائة وهرب الباقون، وتبعهم فضلة فقتل منهم مائة وخمسين رجلاً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج قسطنطين ملك الروم إلى بلد الإسلام فدخل ملطية عنوةً وقهراً وغلب أهلها وهدم سورها وعفا عمن فيها من المقاتلة والذرية.
وفيها غزا العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الصائفة مع صالح بن علي وعيسى بن علي، وقيل: كانت سنة تسع وثلاثين، فبنى صالح ما كان ملك الروم أخربنه من سور ملطية.
وفيها بايع عبد الله بن علي للمنصور وهو مقيم بالبصرة مع أخيه سليمان ابن علي. وفيها وسع المنصور المسجد الحرام.
وحج الناس هذه السنة الفضل بن صالح بن علي، وكان على المدينة ومكة والطائف زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة وسوادها عيسى بن موسى، وعلى البصرة سليمان بن علي، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى خراسان أو داود خالد بن ابراهيم، وعلى مصر صالح بن علي.
وفيها توفي السواد بن رفاعة بن أبي مالك القرطبي. وسعيد بن جمهان أبو حفص الأسلمي، يروي عن سفينة حديث الخلافة ثلاثون . ويونس بن عبيد البصري، وق5يل توفي سنة تسع وثلاثين ومائة.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائة

ذكر غزو الروم والفداء معهم
في هذه السنة فرغ صالح بن علي والعباس بن محمد من عمارة ما أخربه الروم من ملطية، ثم غزوا الصائفة من درب الحدث فوغلا في أرض الروم، وغزا مع صالح أختاه أم عيسى ولبابة بنتا علي، وكانتا نذرتا إن زال ملك بني أمية أن تجاهدا في سبيل الله. وغزا من درب ملطية جعفر بن حنظلة المرهاني.
وفي هذه السنة كان الفداء بين المنصور وملك الروم، فاستفدى المنصور أسرى قاليقلا وغيرهم من الروم، وبناها وعخمرها ورد إليها، وندب إليها جنداً من أهل الجزيرة وغيرهم، فأقاموا بها وحموها، ولم يكن بعد ذلك صائفة فيما قيل إلا سنة ست وأربعين، لاشتغال المنصور بابني عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، إلا أن بعضهم قال: إن الحسن بن قحطبة غزا الصائفة مع عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام في سنة أربعين، وأقبل قسطنتين ملك الروم في مائة ألف فبلغ جيحان فسمع كثرة المسلمين فأحجم عنهم، ثم لم يكن بعدها صائفة إلى سنة ست وأربعين.
ذكر دخول عبد الرحمن بن معاوية إلى الأندلسقد ذكرنا في سنة اثنتين وتسعين فتح الأندلس وعزل موسى بن نصير عنها.

فلما عزل عنها وسار إلى اشام استخلف عليها ابنه عبد العزيز وضبططها وحمى ثغورها وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، وكان خيراً فاضلاً، وبقي أميراً إلى سنة سبع وتسعين، وقيل: ثمانٍ وتسعين، فقتل بها. وقد تقدم سبب قتله.
فلما قتل بقي أهل الأندلس ستة أشهر لا يجمعهم والٍ، ثم اتفقوا على أيوب بن حبيب اللخمي، وهو ابن أخت موسى بن نصير، فكان يصلي بهم لصلاحه، وتحول إلى قرطبة وجعلها دار إمارة في أول سنة تسع وتسعين، وقيل سنة ثمان وتسعين.
ثم إن سليمان بن عبد الملك استعمل بعده الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فقدمها سنة ثمان وتسعين، فأقام والياً عليها سنتين وتسعة أشهر.
فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة استعمل على الأندلس السمح بن مالك الخولاني وأمره أن يميز أرضها ويخرج منها ما كان عنوةً ويأخذ منه الخمس ويكتب إليه بصفة الأندلس، وكان رأيه إقفال أهلها منها لانقاطاعهم عن المسلمين. فقدمها السمح سنة مائة في رمضان وفعل ما أمره عمر، وقتل عند انصرافه من دار الحرب سنة اثنتين ومائة، وكان قد بدا لعمر في نقل أهلها عنها وتركهم، ودعا لأهلها.
ثم وليها بعد السمح عنبسة بن سحيم الكلبي سنة ثلاثة ومائة، توفي في شعبان سنة سبع ومائة عند انصرافه من غزوة الإفرنج.
ثم وليها بعده يحيى بن سلمى الكلبيفي ذي القعدة سنة سبع، فبقي عليها والياً سنتين وستة أشهر، ثم دخل الأندلس حذيفة بن الأبرص الأشجعي سنة عشر ومائة فبقي والياً عليها ستة أشهر، ثم عزل. ثم وليها عثمان بن أبي نسعة الخثعمي، فقدمها سنة عشر ومائة وعزل آخر سنة عشر ومائة أيضاً، وكانت ولايته خمسة أشهر.
ثم وليها الهيثم بن عبيد الكناني، فقدمها في المرحم سنة إحدى عشرة ومائة، فأقام والياص عليها عشرة أشهر وأياماً ثم توفي في ذي الحجة، فقدم أهل الأندلس على أنفسهم محمد بن عبد الله الأشجعي، وكانت ولايته شهرين، وولي بعده عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي في صفر سنة اثنتي عشرة ومائة، واستشهد في أرض العدو في رمضان سنة أربع عشرة ومائة.
ثم وليها عبد الملك بن قطن الفهري، فأقام عليها سنتين وعزل. ثم وليها بعده عقبة بن الحجاج السلولي، دخلها سنة ست عشرة ومائة، فوليها خمس سنين، وثار أهل الأندلس به فخلعوه فولوه بعده عبد الملك بن قطن، وهي ولايته الثانية، وقد ذكر بعض مؤرخي الأندلس أنه توفي، فولى أهل الأندلس عبد الملك.
ثم وليها بلج نب بشر القشيري، بايعه أصحابه، فهرب عبد الملك ولحق بداره، وهرب ابناه قطن وأمية فلحق أحدهما بماردة والآخر بسرقسطة، ثم ثارت اليمن على بلج وسألوه قتل عبد الملك بن قطن، فلما خشي فسادهم أمر به فقتل وصلب، وكان عمره تسعين سنة، فلما بلغ ابنيه قتله حشدا من ماردة إلى أربونة، فاجتمع إليهما مائة ألف، وزحفوا إلى بلج ومن معه بقرطبة، فخرج إليهم بلج فلقيهم فيمن معه من أهل الشام بقرب قرطبة فهزمهما، ورجع إلى قرطبة فمات بعد أيام يسيرة.
وكان سبب قدوم بلج الأندلس أنه كان مع همه كلثوم بن عياض في وقعة البربر سنة ثلاث وعشرين، وقد تقدم ذكرها، فلما قتل عمه سار إلى الأندلس، فاجازه عبد الملك بن قطن إليها، وكان سبب قتله.
ثم ولى أهل الشام على الأندلس مكانه ثعلبة بن سلامة العاملي فأقام إلى أن قدم أبو الخطار والياً على الأندلس سنة خمس وعشرين ومائة، فدان له أهل الأندلس، وأقبل إليه ثعلبة وابن أبي نسعة وابنا عبد الملك فآمنهم وأحسن إليهم واستقام أمره، وكان شجاعاً ذا رأي وكرم، وكثر أهل الشام عنده، فلم تحملهم قرطبة، ففرقهم في البلاد، فانزل أهل دمشق إلبيرة لشبهها بها سوماها دمشق، وأنزل أهل حمص إسبيلية وسماها حمص، وأنزل أهل قنسرين بجيان وسماها قنسرين، وأنزل أهل الأردن برية وسماها الأردن، وأنزل أهل فلسطين بشذونة وسماها فلسطين، وأنزل أهل مصر بتدمير وسماها مصر لشبهها بها، ثم تعصب ليمانية، وكان ذلك سبباً لتألب الصميل بن حاتم عليه مع مضر وحربه وخلعه. وقامت هذه الفتنة سنة سبع وعشرين ومائة.

وكان الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن قد قدم الأندلس في أمداد الشام فرأس بها، فأراد أبو الخطار أن يضع منه فأمر به يوماً وعنده الجند فشتم وأهين، فخرج وعمامته مائلة، فقال له بعض الحجاب: ما بال عمامتك مائلة؟ فقال: إن كان لي قوم فسيقيمونها، وبعث إلى قومه فشكا إليهم ما لقي. فقالوا: نحن لك تبع، وكتبوا إلى ثوابة بن سلامة الجذامي، وهو من أهل فلسطين، فوفد عليهم وأجابهم وتبعهم لخم وجذام.
فبلغ ذلك إلى أبي الخطار فسار إليهم، فقاتلوه فانهزم أصحابه وأسر أبو الخطار ودخل ثوابة قصر قرطبة وأبو الخطار في قيوده، فولي ثوابة الأندلس سنتين ثم توفي، فأراد أهل اليمن إهادة أبي الخطار، وامتنعت مضر ورأسهم الصميل، فافترقت الكلمة، فأقامت الأندلس أربعة أشهر بغي أميرز وقد تقدم أبسط من هذا سنة سبع وعسرين ومائة.
فلما بقوا بغير أمير قدموا عبد الرحمن بن كثير اللخمي للأحكام. فلما تفاقم الأمر اتفق رأيهم على يوسف بت عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فوليها يوسف سنة تسع وعشرين،فاستقر الأمر أن يلي سنة ثم يرد الأمر إلى اليمن فيولون من أحبوا من قومهم.
فلما انقضت السنة أقبل أهل اليمن بأسهم يريدون أن يولوا رجلاً منهم، فبيتهم الصميل فقتل منهم خلقاً كثيراً، فهي وقعة شقندة المشهورة، وفيها قتل أبو الخطار واقتتلوا بالرماح حتى تقطعت وبالسيوف حتى تكسرت، ثم تجاذبوا بالشعور، وكان ذلك سنة ثلاثين، واجتمع الناس على يوسف ولم يعترضه أحد.
وقد قيل غير ما ذكرنا، وقد تقدم ذكره سنة سبع وعشرين ومائة.
ثم توالى القحط على الأندلس وجلا أهلها عنها وتضعضعت إلى سنة ست وثلاثين ومائة، وفيها اجتمع تميم بن معبد الفعري وعامر العبدري بمدينة سرقسطة، وحاربهما الصميل، ثم سار إليهما يوسف الفهري فحاربهما فقتلهما، وبقي يوسف على الأندلس إلى أن غلب عليها عبد الرحمن بن معاوية ابن هشام.
هذا ما ذكرناه من ولاة الأندلس على الاختصار، وقد تقدم أبسط من هذا متفرقاً، وإنما أوردناه هاهنا متتابعاً ليتصل بعض أخبار الأندلس ببعض لأنها وردت متفرقة. ونرجع إلى ذكر عبور عبد الرحمن بن معاوية بن هشام إليها.
وأما سبب مسير عبد الرحمن إلى الغرب فإنه يحكى عنه أنه لما ظهرت الدولة العابسية وقتل من بنني أمية من قتل ومن شيعتهم فر منهم من نجا في الأرض، وكان عبد الرحمن بن معاوية بذات الزيتون، ففر منها إلى فلسطين وأقام هو مولاه بدر يتجسس الأخبار، فحكي عنه أنه قال: لما أعطينا الأمان ثم نكث بنا بنهر أبي فطرس وأبيحت دماؤنا أتانا الخبر وكنت منتبذاً من الناس، فرجعت إلى منزلي أيساً ونظرت فيما يصلحني وأهلي وخرجت خائفاً حتى صرت إلى قرية على الفرات ذات شجر وغياض، فبينا أنا ذات يوم بها وولدي سليمان يلعب بين يدي، وهو يومئذ ابن أربع سنين، فخرج عني ثم دخل الصبي من باب البيت باكياً فزعاً فتعلق بي، وجعلت أدفعه وهو يتعلق بي، فخرجت لأنظر وإذ بالخوف قد نزل بالقرية، وإذا بالرايات السود منحطة عليها، وأخ لي حديث السن يقول ليك النجاء النجاء! فهذه رايات المسودة! فأخذت دنانير معي ونجوت بنفي وأخي وأعلمت أخوتي بمتوجهي فأمرتهن أن يلحقنني مولاي بداراً، وأحاطت الخيل بالقرية فلم يجدوا لي أثراً، فأتيت رجلاً من معارفي وأمته فاشترى لي دواب وما يصلحني، فدل علي عبد له العامل، فأقبل في خيله يطلبني، فخرجنا على أرجلنا خهراباً والخيل تبصرنا فدخلنا في بساتين على الفرات فسبقنا الخيل إلى الفرات فسبحنا. فأما أنا فنجوت والخيل ينادوننا بالأمان ولا أرجع. وأما أخي فإنه عجز عن السباحة في نصف الفرات فرجع إليهم بالأمان وأخذوه فقتلوه وأنا أنظر إليه، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاحتملت فيه ثكلاً ومضيت لوجهي فتواريت في غيضة أشبة حتى انقطع الطلب عني، وخرجت فقصدت المغرب فبلغت إفريقية.
ثم إن أخته أم الأصبغ ألحقته بدراً مولاه ومعه نفقة له وجوهر، فلما بلغ إفريقية لج عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري، قيل هو والد يوسف أمير الأندلس، وكان عبد الرحمن عامل إفريقية في طلبه، واشتد عليه، فهرب منه فأتى مكناسة، وهم قبيل من البربر، فلقي عندهم شدةً يطول ذكرها ثم هرب من عندهم فأتى نفراوة، وهم أخواله، وبدر معه.

وقيل: أتى قوماً من الزناتيين فأحسنوا قبوله واطمأن فيهم وأخذ في تدبير المكاتبة إلى الأمويين من اهل الأندلس يعلمهم بقدومه ويدعوهم إلى نفسه، ووجه بدراً مولاه إليهم، وأمي الأندلس حينئذ يوسف بن عبد الرحمن الفهري.
فسار بدر إليهم وأعلمهم حال عبد الرحمن ودعاهم إليه، فأجابوه ووجهوا له مركباً فيه ثمامة بن علقمة، ووهب بن الأصفر، وساكر بن أبي الأشمط، فوصلوا إليه وأبلغوه طاعتهم له وأخذوه ورجعوا إلى الأندلس، فأرسى في المنكب في شهر ربيع الأول سنة ثمان وثلاثيثن ومائة، فأتاه جماعة من رؤسائهم من أهل إشبيلية، وكانت أيضاً نفوس أهل اليمن حنقة على الصميل ويوف الفهري، فأتوه. ثم انتقل إلى كورة رية فبايعه إبراهيم ابن شجرة عاملها. ثم أتى إشبيلية فبايعه أبو الصباح يحيى بن يحيى، ونهد إلى قرطبة.
فبلغ خبره إلى يوسف وكان غائباً عن قرطبة بنواحي طليطلة، فاتاه الخبر وهو راجع إلى قرطبة، فسار عبد الرحمن نحو قرطبة.
فلما أتى قرطبة تراسل هو ويوسف في الصلح، فخادعه نحويومين، أحدهما يوم عرفة ولم يشك أحد من أصحاب يوسف أن الصلح قد ابرم، وأقبل على إعداد الطعام لياكله الناس على السماط يوم الأضحى، وعبد الرحمن مرتب خيله ورجله، وعبر النهر في أصحابه ليلاً، ونشب القتال ليلة الأضحى، وصبر الفريقان ألى أن ارتفع النهار، وركب عبد الرحمن على بغل لئلا يظن النماس أنه يهرب، فلما رأوه كذلك سكنت نفوسهم، وأسرع القتل في أصحاب يوسف وانهزم، وبقي الصميل يقاتل مع عصابة من عشيرته ثم انهزموا، فظفر عبد الرحمن، ولما انهزم يوسف أتى ماردة، وأتى عبيد الرحمن قرطبة فأخرج حشم يوسف من القصر على عودة ودخله بعد ذلك.
ثم سار في طلب يوسف، فلما أحس به يوسف خالفه إلى قرطية فدخلها وملك قصرها فأخذ جميع أهله وماله ولحق بمدينة إلبيرة، وكان الصميل لحق بمدينة شوذر.
وورد عبد الرحمن الخبر فرجع إلى قرطبة طمعاً في لحاقه بها، فلما لم يجده عزم على النهوض إليه، فسار إلى إلبيرة، وكان الصميل قد لحق بيوسف وتجمع لهما هناك جمع، فتراسلوا في الصلح، فاصطلحوا على أن ينزل يوسف بأمان هو ومن معه وأن يسكن مع عبد الرحمن بقرطبة، ورهنه يوسف ابنيه: أبا الأسود محمداً، وعبد الرحمن؛ وسار يوسف مع عبد الرحمن، فلما دخل قرطبة تمثل:
فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا ... إذا نحن فيهم سوقة نتنصف
واستقر عبد الرحمن بقرطبة ونى القصر والمسجد الجامع وأنفق فيه ثمانين ألف دينار، ومات قبل تمامه، وبني مساجد الجماعات، ووافاه جماعة من أهل بيته، وكان يدعو للمنصور.
وقد ذكر أبو جعفر أن دخول عبد الرحمن كان سنة تسع وثلاثين، وقيل: سنة ثمان وثلاثين، على ما ذكرنا.
وهذا القدر كافٍ في ذكر دخوله الأندلس لئلا نخرج عن الذي قصدنا له من الأختصار.
ذكر حبس عبد الله بن عليولما عزل سليمان عن البصرة اختفى أخوه عبد الله بن علي ومن معه من أصحابه خوفاً من المنصور، فبلغ ذلك المنصور فأرسل إلى سليمان وعيسى ابني علي بن عبد الله بن عباس في إشخاص عبد الله وأعطاهما الأمان لعبد الله وعزم عليهما أن يفعلا.
فخرج سليمان وعيسى بعبد الله وقواده ومواليه حتى قدموا على المنصور في ذي الحجة، فلما قدموا عليه أذن لسليمان وعيسى فدخلا عليه وأعلماه حضور عبد الله وسالاه الإذن له، فأحابهما إلى ذلك وسغلهما بالحديث، وكان قد هيأ لعبد الله مكاناً في قصره، فأمر به أن يصرف إليه بعد دخول سليمان وعيسى، ففعل به ذلك، ثم نهض المنصور وقال لسليمان وعيسى: خذا عبد الله معكما. فلما خرجا لم يجدا عبد الله، فعلما أنه قد حبس، فرجعا إلى المنصور فمنعا عنه وأخذت عند ذلك سيوف من حضر من أصحابه وحبسوا.
وقد كان خفاف بن منصور حذرم ذلك، وندم على مجيئه معهم، وقال: إن أطعمتموني شددنا شدة واحدة على أبي جعفر، فوالله لا يحول بين وبيننا حائل حتى نأتي عليه! ولا يعرض لنا أحد إلا قتلناه وننجو بأنفسنا! فعصوه.
فلما أخذت سيوفهم وحبسوا جعل خفاف يضرط في لحية نفسه ويتفل في وجوه أصحابه؛ ثم أمر المنصور بقتل بعضهم بحضرته وبعث الباقين إلى أبي داود خالد بن إباهيم بخراسان فقتلهم بها.
ذكر عدة حوادثعزل سليمان بن علي عن إمارة البصرة، وقيل: سنة أربعين، واستعمل عليها سفيان بن معاوية في رمضان.

وحج بالناس هذه السنة العباس بن محمد بن علي، وكان على مكة والمدينة والطائفة زياد بن عبيد الله الحارثي، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى قضائها سوار بن عبد الله، وعلى خراسان أبو داود.
وفيها مات عبد ربه سعيد بن قيس الأنصاري وقيل: سنة إحدى وأربعين. وفيها مات العلاء بن عبد الرحمن مولى الخرقة، ومحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابي صعصعة المازني، ويزيد بن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي، وكان موته بالإسكندرية.
ثم دخلت سنة أربعين ومائة

ذكر هلاك أبي داود عامل خراسان
وولاية عبد الجبار
وفي هذه السنة هلك أبو داود خالد بن إبراهيم الذهلي عامل خراسان.
وكان سبب هلاكه أن ناساً من الجند ثاروا به وهو بكشماهن ووصلوا إلى المنزل الذي هو فيه، فأشرف عليهم من الحائط ليلاً فوطئ حرف آجرة خارجة وجعل ينادي أصحابه ليعرفوا صوته، فانكسرت الآجرة تحته عند الصبح فسقط على الأرض فانكسر ظهره فمات عند صلاة العصر، فقالم عصام صاحب شرطته بعده حتى قدم عليه عبد الجبا بن عبد الرحمن الأزدي عاملاً على خراسان، فملا قدمها أخذ جماعةً من القواد أتهمهم بالدعاء إلى ولد علي بن أبي طالب، منهم: مجاشع بن حريث الأنصاري عامر بخارى، وأبو المغيرة خالد بن كثير مولى بني تميم عامل قوهستان، والحريش بن محمد الدهلي، وهو ابن عم أبي داود، فقاتلهم وحبس جماعةً غيرهم وألح على عمال أبي داود في استخراج ما عندهم من الأموال.
ذكر قتل يوسف الفهريفي هذه السنة نكث يوسف الفهري الذي كان أمير الأندلس، عهد عبد الرحمن الأموي.
وكان سبب ذلك أن عبد الرحمن كان يضع عليه من يهينه وينازعه في أملاكه، فإذا أظهر حجة الشريعة لا يعمل بها، ففطن لما يراد منه فقصد ما ردة واجتمع عليه عشرون ألفاً، فسار نحو عبد الرحمن، وخرج عبد الرحمن من قرطبة نحوه إلى حصن المدور.
ثم إن يوسف رأى أن يسير إلى عبد الملك بن عمر بن مروان، وكان والياً على إشبيلية وإلى ابنه عمر بن عبد الملك، وكان على المدور، فسار نحوها؛ وخرجا إليه فلقياه، فاققتلا قتالاً شديداً، فصبر الفريقان وانهزم أصحاب يوسف وقتل منهم خلق كثير وهرب يوسف وبقي متردداً في البلاد، فقتله بعض أصحابه في رجب من سنة اثنتين وأربعين بنواحي طليطلة وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فنصبه بقرطبة وقتل ابنه عبد الرحمن بن يوسف الذي كان عنده رهينةً، ونصب رأسه مع رأس أبيه، وبقي أبو الأسود بن يوسف عند عبد الرحمن الأموي رهينةً، وسأتي ذكره.
وأما الصميل فإنه لما فر يوسف من قرطبة لم يهرب معه، فدعاه الأمير عبد الرحن وسأله عنه، فقال: لم يعلمني بأمره ولا أعرف خبره، فقال: لا بد أن تخبر. فقال: لو كان تحت قديم ما رفعتهما عنه؛ فسجنه مع ابني يوسف. فلما هربا من السجن أنف من الهرب والفرار فبقي في السجن، ثم أدخل إليه بعد ذلك مشيخة مضر فوجدوه ميتاً وعنده كأس ونقل فقالوا: يا أبا جوشن قد علمنا أنك ما شربت ولكن سقيت! ودفع إلى أهله فدفنوه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة هلك أذفنش ملك جليقية وملك بعده ابنه تدويلية، وكان أشجع من أبيه وأحسن سياسة للملك وضبطاً له؛ وكان ملك أبيه ثماني عشرة سنة. ولما ملك ابنه قوي أمره وعظم سلكانه وأخرج المسلمين من ثغور البلاد وملك مدينة لك وبرطقال وشلمنقة وشمورة وأيلة وشقويبة وفشتيالة؛ وكل هذه من الأندلس.
وفيها سير المنصور عبد الوهاب، ابن أخيه إبراهيم الإمام، والحسن بن قحطبة في سبعين ألفاً من المقاتلة إلى ملطية، فنزلوا عليها وعمروا ما كان خربه الروم منها ففرغوا من العمارة في ستة أشهر، وكان للحسن في ذلك أثر عظيم، وأسكنها المنصور أربعة آلاف من الجند وأكثر فيها من السلاح والذخائر وبنى حصن قلوذية.
ولما سمع ملك الروم بمسير عبد الوهاب والحسن إلى ملطية سار إليهم في مائة ألف مقاتل فنزل جيحان، فبلغه كثرة المسملين فعاد عنهم. ولما عمرت ملطية عاد غليها من كان باقياًمن أهلها.
وفيها حج المنصور بعمارة مدينة المصيصة على يد جبرائيل بن يحيى، وكان سورها قد تشعث من الزلازل وأهلها قليل، فبنى السور وسماها المعمورة، وبنى بها مسجداً دامعاً، وفرض فيها لألف رجل، وأسكنها كثيراً من أهلها.

وفيها توفي سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة. وعمرو بن يحيى بن أبي حسن الأنصاري. وعمارة بن غزية الأنصاري. وعمارة بن غزية الأنصاري، وكان ثقة. وأبو العلاء أيوب القصاب. وأبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكانفي، وهومتكلمي المعتزل، وأئمتهم، وله طائفة تنسب إليه. وأسماء بن عبيد بن مخارق، والد حويزة بن أسماء.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين ومائة

ذكر خروج الراوندية
وفي هذه السنة كان خرروج الراوندية على المنصور؛ وهم قوم من أهل خراسان على رأي أبي مسملم صاحب الدعوة، يقولون بتناسخ الأرواح، يزعمون أن روح آدم في عثمان بن نهيك، وأن ربهم الذي يطعمهم ويسقيهم هو المنصور، وأن جبرائيل هو الهيثم نب معاوية.
فلما ظهروا وأوا قصر المنصور فقالزا: هذا قصر المنصور فقالوا: هذا قصر ربنا. فاخذ المنصور رؤساءهم فحبس منهم مائتين، فغضب أصحابهم وأخذوا نعاشلً وحملو السرير، وليس في النعش أحد، ومروا به حتى صاروا على باب السجن فرموا بالنعش، وحملوا على الناس ودخلوا السجن وأخرجوا أصحابهم،وقصدوا نحو المنصور، وهم يومئذ ستمائة رجل، فتنادى الناس وغلقت أبواب المدينة فلم يدخل أحد؛ فخرج المنصور من القصر ماشياً، ولم يكن في القصر دابة، فجعل بعد ذلك اليوم يرتبط دابه معه في القصر.
فلما خرج المنصور أتي بدابة فركبها وهويريدهم، وتكاثروا عليه حتى كادوا يقتلونه وجاء معن بن زائدة الشيباني، وكان مستتراً من المنصور بقتاله مع ابن هبيرة، كما ذكرناه والمنصور شديد الطلب له وقد بذل بلاء حسناً، وكان المنصور راكباً على بغلة ولجامها بيد الربيع حاجبه، فأتى معن وقال: تنح فأنا أحق بهذا اللجام منك في هذا الوقت وأعظم غناء. فقال المنصور: صدق فادفعه إليه. فلم يزل يقاتل حتى كشفت الحال وظفر بالرواندية. فقال له المنصور: من أنت؟ قال: طلبتك يا أمير المؤمنين معن بن زائدة. فقال: آمنك بالله على نفسك ومالك وأهلك، مثلك يصطنع.
وجاء أبو نصر مالك بن الهيثم فوقف على باب المنصور وقال: أنا اليوم بواب. ونودي في أهل السوق فرموهم وقاتلوهم وفتح باب المدينة فدخل الناس، فجاء خازم بن خزيمة فحمل عليهم حتى ألجأهم إلى الحائط، ثم حملوا عليه فكشفوه مرتين، فقال خازم للهيثم بن شعبة: إذا كروا علينا فاستبقهم إلى الحائط، فإذا رجعوا فاقتلهم. فحملوا على خازم، فاطرد لهم وصار الهيثم من ورائهم فقتلوا جميعاً.
وجاءهم يومئذ عثمان بن نهيك فكلمهم، فرموه بسهم عند رجوعه فوقع بين كتفيه فمرض أياماً ومات منها، فصلى عليه المنصور وجعل على حرسه بعده عيسى بن نهيك، فكان على الحرس حتى مات، فجعل على الحرس أبو العباس الطوسي، وكان ذلك كله بالمدينة الهاشمية بالكوفة.
فلما صلى المنصور الظهر دعا بالعشاء وأحضر معناً ورفع منزلته وقال لعمه عيسى بن علي بن عبد الله بن عابس: يا أبا العباس أسمعت بأشد رجل؟ قال: نعم. قال: لو رأيت اليوم معناً لعلمت أنه منهم. فقال معن: والله يا أمير المؤمنين لقد أتيتك وإني لوجل القلب، فلما رأيت ما عندك من الاستهانة بهم وشدة الإقدام عليهم رأيت ما لم أره من خلقٍ في حرب فشد ذلك من قلبي وحملني على ما رأيت مني.
وقيل: كان معن متخفياً من المنصور لما كان منه من قتاله مع ابن هبيرة، كما ذكرناه، وكان اختفاؤه عند أبي الخصيب حاجب المنصور، وكان على أن يطلب الأمان، فلما خرجت الراوندية جاء معن فوقف بالباب، فسأل المنصور أبا الخطيب: من بالباب؟ فقال: معن بن زائدة. فقال المنصور: رجل من العرب شديد النفس علم بالحرب كريم الحسب، أدخله، فلما دخل قال: أيه يا معن! ما الرأي؟ قال: الرأي أن تنادي في الناس فتأمرهم لهم بالأموال.

فقال: واين الناس والأموالل؟ ومنة تقدم على أن يعرض نفسه لهؤلاء العلوج! لم تصنع شيئاً يا معن! الرأي أن اخرج فأقف للناس، فإذا رأوني قاتلوا وتراجعوا إلي، وإن أقمت تهاونوا وتخاذلو: فأخذ معن بيده وقال: لا أمير المؤمنين إذاً، والله تقتل الساعة، فأنشدك الله في نفسك! فقال له أبو الخطيب مثلها، فجذب ثوبه مهما وركب دابته وخرج ومعن آخذ بلجام دابته وأبو الخصيب مع ركابه، وأتاه رجل فقتله معن حتى قتل أربعةً في تلك الحالة، حتى اجتمع إليه الناس فلم يكن إلا ساعة حتى أفنوهم، ثم تغيب معن، فسأل المنصور عنه أبا الخطيب فقال: لا أعلم مكانه. فقال المنصور: ايظن معن أن لا أغفر ذنبه بعد بلائه؟ أعطه الأمان وأدخله علي فأدخله إليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم ولاه اليمن.
ذكر خلع عبد الجبار بخراسان وسمير المهدي إليهفي هذه السنة خلع عبد الجبار بن عبد الرحمن عامل خراسان للمنصور.
وسبب ذلك أن عبد الجبار لما استعمله المنصور على خراسان عمد إلى القواد فقتل بعضهم وحبس بعضهم، فبلغ ذلك المنصور وأتاه من بعضهم كتاب: قد نغل الأديم. فال لأبي أيوزب: إن عبد الجبار قد أفنى شيعتنا، وما فعل ذلك إلا وهو يريد أن يخلع. فقال له: اكتب إليه أنك تريد غزو الروم فليوجه إليك الجنود من خاسان وعليهم فرسانهم ووجوههم، فغذا خرجوا منها فابعث إليه من شئت فلا تمنع.
فكتب المنصور إليه بذلك، وأجابه: إن الترك قد جاشت وإن فرقت الجنود ذهبت خراسان. فألقى الكتاب إلى أبي أيوب وقال له: ما ترى؟ قال: قد أمكنك من قياده، اكتب إليه: إن خراسان أهم إلي من غيرها وأنا موجه إليك الجنود، ثم وجه إليه الجنود ليكونوا بخراسان، فإن هم بخلعٍ أخذوا بعنقه.
فلما ورد الكتاب بهذا على عبد الجبار أجابه: إن خراسان لم تكن قط أسوأ حالاً منها في هذا العام، وإن دخلها الجنود هلكوا لضيق ما هم فيه من الغلاء. فلما أتاه الكتاب أقلاه إلى أبي أيوبن فقال له اظبو أيوب: قد أبدى صفحته وقد خلع فلا تناظره.
ووجه المنصور ابنه لمهدي وأمره بنزول الري، فسار إليها المهدي، ووجه خازم بن خزيمة بين يديه لحرب عبد الجبار، وسار المهدي فنزل نيسابور، فلما لغ ذلك أهل مرو الورذ ساروا إلى عبد الجبار وحاربوه وقاتلوه قتالاً شديداً، فانهزم منهم لجأ إى معطنة فتوارى فيها، فعبر إليه المجشر بن مزاحم، من أهل مرو الروذ، فاخذه أسيراً، فلما قدم خازم أتاه به فألبسه جبة صوف وحمله على بعير وجعل وجهه مما يلي عجز البعير وحمله إلى المنصور ومعه ولده وأصحابه، فبسط عليهم العذاب حتى استخرج منهم الأموال، ثم أمر فقطعت يدا عبد الجبار ورجلاه وضرب عنقه، وأمر بتسيير ولده إلى دهلك، وهي جزيرة باليمن، فلم يزالوا بها حتى أغار عليهم الهند فسبوهم فيمن سبوا ثم فودوا بعد ذلك. وكان ممن نجا منهم عبد الرحمن بن عبد الجبار، صحب الخلفاء ومات أيام الرشيد سنة سبعين ومائة.
قيل: وكان أمر عبد الجبار اثنتين وأربعين في ربيع الأول، وقيل:س نة أربعين.
ذكر فتح طبرستانولما ظفر المهدي بعبد الجبار بغير تعب ولا مباشرة قتل كره المنصور أن تبطل تلك النفقات التي أنفق على المهدي، فكتب إليه أن يغزو طبرستان وينزل الري ويجه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة والجنود إلى الأصبهبذ، وكان الأصبهبذ يومئذ محارباً للمصمغان، ملك دنباوند، معسكراً بإزائه، فلما بلغه دخول الجنود بلاده ودخول أبي الخصيب سارية قال المصمغان للأصبهبذ: متى قهروك صاروا إلي؛ فاجتمعا على حرب المسلمين. فانصرفالأصبهبذ إلى بلاده فحارب المسلمين، فطالت تلك الحروب، فوجه المنصور عمر بن العلاء إلى طبرستان؛ وهو الذي يقول فيه بشار:
إذا أيقظتك حروب العدى ... فنبه لها عمراً ثم نم

وكان علماً ببلاد طبرستان، فأخذ الجنود وقصد الرويان وفتحها، وأخذ قلعة الطاق وما فيها، وطالت الحرب، فألح خازم على القتال ففتح طبرستان وقتل منهم فأكثر، وسار الأصبهبذ إلى قلعته فطلب الأمان على أن يسلم القلعة بما فها من الذخائر، وكتب المهدي بذلك إلى المنصور، فوجه المنصور صالحاً صاحب المصلى، فأحصوا ما في الحصن وانصرفوا، ودخل الأصبهبذ بلاد جيلان من الديلم فمات بها، وأخذت ابنته، وهي أم إبراهيم بن العباس بن محمد، وقصدت الجنود بلد المصمغان فظفروا به وبالبحيرة، أم منصور بن المهدي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل زياد بن عبيد الله الحارثي عن مكة والمدنة والطائف، واستعمل على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري في رجب، وعلى الطائف ومكة الهيثم بن معاوية العتكي من أهل خراسان.
وفيها نوفي موسى بن كعب وهو على شرط المنصور وعلى مصر والهند، وخليفته على الهند عيينة أبنه، وكان قد عزل موسى عن مصر ووليها محمد ابن الأشعث ثم عزل ووليها نوفل بن محمد بن الفارت.
وحج بالناس هذه السنة صالح بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على الشام، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى خراسان المهدي، وخليفته بها السري بن عبد الله، وعلى الموصل إسماعيل بن علي.
وفيها مات سعد بن سعيد أخو يحيى بن سعيد الأنصاري. وأبان بن تغلب القارئ.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين ومائة

ذكر خلع عيينة بن موسى بن كعب
في هذه السنة خلع عيينة بن موسى بالسند وكان عاملاً عليها.
وسبب خلعه أن أباه كان استخلف المسيب بن زهير على الشرط، فلما مات موسى أقام المسيب على ماكان يلي من الشرط، وخاف أن يحضر المنصور عيينة فيوليه ما كان إلى أبيه، فكتب إليه ببيت شعر، ولم ينسب الكتاب إلى نفسه:
فأرضك أرضك إن تأتينا ... تنم نومةً ليس فيها حلم
فخلع الطاعة. فلما بلغ الخبر ؟إلى المنصور سار بعسكره حتى نزل على جسر البصرة ووجه عمر بن حفص بن أبي صفراء والعتكي عاملاً على السند والهند، فحاربه عيينة، فسار حتى ورد السند فغلب عليها.
ذكر نكث الأصبهبذفي هذه السنة نكث الأصبهبذ بطربرستان العهد بينه وبين المسلخمين وقتل من كان ببلاده منهم، فلما انتهى الخبر إلى المنصور سير مولاه أبا الخصيب وخازم بن خزيمة وروح بن حاتم فأقاموا على الحصن يحاصرونه وهو فيه، فلما طال عليهم المقام احتال أو الخصيب في ذلك فقال لأصحابه: اضربوني واحلقوا رأسي ولحيتي. ففعلوا ذلك به. ولحق بالأصبهبذ فقال له: فعل بي هذا تهمةً منهم لي أن يكون هواي معك؛ وأخبره أنه معه وأنه دليل على عورة عسكرهم. فقبل ذلك الأصبهبذ وجعله في خاصته وألطفه.
وكان باب حصنهم من حجر يلقى إلقاء، ترفعه الرجال وتضعه عند فتحه وإغلاقه، وكان الأصبهبذ يوكل به ثقات أصحابه نوباً بينهم، فلما وثق الأصبعبذ بأبي الخصيب وكله بالباب، فتولى فتحه وإغلاقه حتى أنس به.
ثم كتب أبو الخصيب إلى روح وخازم وألقى الكتاب في سهم وأعلمهم أنه قد ظفر بالحيلة، وواعدهم ليلةً في فتح الباب، فلما كان تلك الليلة فتح لهم، فقتلوا من في الحصن من المقاتلة وسبوا الذرية وأخذوا شكلة، أم إباهيم بن المهدي. وكان مع الأصبهببذ سم فشربه فمات.
وقد قيل: إن ذلك سنة ثلاث وأربعين ومائة.
ذكر عدة حوادثوفيها مات سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس وهو على البصرة في جمادى الآخرة وعمره تسع وخمسون سنة، وصلى عليه أخوه عبد الصمد.
وفيها عزل نوفل بن الفرات عن مصر ووليها حميد بن قحطبة.
وحج بالناس إسماعيل بن علي بن عبد الله، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وولى المنصور بالجزيرة والثغر والعواصم أخاه العباس بن محمد، وعزل المنصور عمه إسماعيل بن علي عن الموصل واستعمل عليها مالك ابن الهيثم الخزاعي جد أحمد بن نصير الذي قتله الواثق، وكان خير أمير.
فيها مات يحيى بن سعيد الأنصاري أبو سعيد قاضي المدينة، وقيل سنة ثلاث، وقيل سنة أربع وأربعين. وفيها مات موسى بن عقبة مولى آل الزبير. وفيها توفي أيضاً عاصم بن سليمان الأحول، وقيل سنة ثلاث وأربعين. وفيها مات حميد بن أبي حميد طرخان، وقيل مهران مولى طلحة بن عبد الله الخزاعي، وهو حميد الطويل، يروي عن أنس بن مالك، وعمره خمس وسبعون سنة.

ثم دخلت ستة ثلاث وأربعين ومائة
في هذه السنة ثار الديلم بالمسلمين فتلوا منهم مقتلةً عظيمة، فبلغ ذلك المنصور فندب الناس إلى قتال الديلم وجهادهم.
وفيها عزل الهيثم بن معاوية عن مكة والطائف، وولي ذلك السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس، وكان على اليمامة، فسار إلى مكة واستعمل المنصور على اليمامة قثم بن عباس بن عبد الله. وفيها عزل حميد بن قحطبة عن مصر، واستعمل عليها نوفل بن الفرات، ثم عزل نوفل واستعمل عليها يزيد بن حاتم.
وحج بالناس هذه السنة عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله، وكان إليه ولاية الكوفة.
وفيهاثار بالأندلس رزق بن النعمان الغساني على عبد الرحمن، وكان رزق على الجزيرة الخضراء، فاجتمع إليه خلق عظيم، فسار إلى شذونة فملكها ودخل مدينة إسبيلية، وعاجله عبد الرحمن فحصره فيها وضيق على من بها، فتقربوا إليه بتسلمي رزق إليه فقتله فأمنهم ورجع عنهم.
وفيها مات عبد الرحمن بن عطاء صاحب الشارعة، وهي نخل. وسليمان ابن طرخان التيمي. واشعث بن سوار. ومجالد بن سعيد.
ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائةفي هذه السنة سير أبو جعفر الناس من الكوفة والبصرة والحزيرة والموصل إلى غزو الديلم وساتعمل عليهم محمد بن أبي العباس السفاح.
وفيها رجع المهدي من خراسان إلى العراق ونى بريطة ابنة عمه السفاح.
وفيها حج المنصور واستعمل على عسكره والميرة خازم بن خزيمة.
ذكر استعمال رياح المري على المدينة
وأمر محمد بن عبد الله بن الحسن
وفيها استعمل المنصور على المدينة رياح بن عثمان المري وعزل محمد بن خالد بن عبد الله القسري عنها.
وكان سبب عزله وعزل زياد قبله أن المنصور أهمه أمر محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بت الحسن علي بن أبي طالب وتخلفهما عن الحضور عنده مع من حضره من بني هاشم عام حج أيام السفاح سنة ست وثلاثين، وذكر أن محمد بن عبد الله كان يزعم أن المنصور ممن بايعه ليلة تشاور بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين اضطرب أمر مروان بن محمد، فلما حج المنصور سنة ست وثلاثين سأل عنهما، فقال له زياد بن عبيد الله الحارثي: ما يهمك من أمرهما؟ أنا آتيك بهما. وكان معه بمكة فرده المنصور إلى المدينة.
فلما استخلف المنصور لم يكن همه إلا أمر محمد والمسألة عنه وما يريد، فدعا بني هاشم رجلاً رجلاً يسأله سراً عنه، فكلهم يقول: قد علم أنك عرفته يطلب هذا الأمر فهو يخافك على نفسه وهو لا يريد لك خلافاً، وما أشبه هذا الكلام، إلا الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب فإنه أخبره خبره وقال له: والله ما آمن وثوبه عليك، فغنه لا ينام عنك؛ فأيقظ بكلامه من لاي نام، فكان موسى بن عبد الله بن الحسن يقول بعد ذلك: اللهم اطلب حسن بن زيد بدمائنا.
ثم ألح المنصور على عبد الله بن الحسن في إحضار ابنه محمد سنة حج، فقال عبد الله لسليمان بن علي بن عبد الله بن عباس: يا أخي بيننا من الصهر والرحم ما تعلم، فما ترى؟ فقال سليمان: والله لكأنني أنظر إلى أخي عبد الله بن علي حين حال الستر بينه وبيننا وهويشير إلينا: هذا الذي فعلتم بي؛ فلو كان عافياً عفا عن عمه. فقبل عبد الله رأي سليمان وعلم أنه قد صدقه ولم يظهر ابنه.
ثم إن المنصور اشترى رقياً من رقيق الأعراب وأعطى الرجل منهم البعير والرجل البعيرين والرجل الذود وفرقهم في طلب محمد في ظهر المدينة، وكان الرجل منهم يرد الماء كالمار وكالضال يسألون عنه، وبعث المنصور عيناً آخر وكتب معه كتاباً على ألسن الشيعة إلى محمد يذكرون طاعتهم ومسارعتهم وبعث معه بمال وألطافٍ، وقدم الرجل المدينة فدخل على عبد الله بن الحسن ابن الحسن فسأله عن ابنه محمد، فذكر له، فكتم له خبره، فتردد الرجل إليه وألح في المسألة، فذكر أنه في جبل جهينة، فقال له: امرر بعلي ابن الرجل الصالح الذي يدعى الأعر وهو بذي الأبر فهور يرشدك؛ فأتاه فأرشده.

وكان للمنصور كاتب على سره يتشيع، فكتب إلى عبد الله بن الحسن يخبره بذلك العين، فلما قدم الكاتب ارتاعوا له وبعثوا أبا هبار إلى محمد وإلى علي بن الحسن يحذرهما الرجل، فخرج أبو هبار فنزل بعلي بن الحسن وأخبره، ثم سار إلى محمد بن عبد الله في موضعه الذي هو به، فإذا هو جالس في كهف ومعه جماعة من أصحابه، وذلك العين معهم أعلاهم صوتاً وأشدهم انبساطاً، فلما رأى أبا هبار خافه، فقال أبو هبار لمحمد: لي حاجة. فقالم معه، فأخبره الخبر، قال: فما الرأي ؟ قال: أرى إحى ثلاث. قال: تدعني أقتل هذا لارجل. قال: ما أنا مقارف دماً إلا كرهاً.قال: أثقله حديداً وتنقله معك حيث تنقلب. قال: وهل لنا فرار مع الخوف والإعجال؟ قال: نشدهونودعه عند بعض أهلك من جهينة. قال: هذه إذاً.
فرجعا فلم يريا الرجل.فقال محمد: أين الرجل؟ قالوا تركوه مهملاً وتوارى بهذا الطريق يتوضأ، فطلبوه ولم يجدوه فكأن الأرض التأمت عليه؛ وسعى على قدميه حتى اتصل بالطريق، فمر به الأعراب معهم حمولة إلى المدينة، فقال لعضهم: فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلاً لصاحبتها ولك كذا وكذا. ففعل وحمله حتى أقدمه المدينة.
ثم قدم على المنصور وأخبره خبره كله ونسي اسم أبي هبار وكنيته وقال: وبار. فكتب أبو جعفر في طلب وبار المري، فحمل إليه رجل اسمه وبر، فسأله عن قصة محمد فحلف له أنه لا يعرف من ذلك شيئاً، فأمر به وضرب سبعمائة سوط وحبس حتى مات المنصور.
ثم إنه أحضر عقبة بن سلم الأزدي فقال: أريدك لأمر أنا به معني لم أزل أرتاد له رجلاً عسى أن تكونه، زإن كفيتنيه رفعتك. فقال: أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين في. قال: فأخف سخصك واستر أمرك وأتني يوم كذا فيوقت كذا. فأتاه ذلك الوقت. فقال له : إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا لملكنا واعتيالاً له، ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات أموالهم وألطاف من ألطافب بلادهم ، فاخرج بكسىً وألطافٍ وعين حتى تأتيهم متنكراً بكتاب تكتبه عن أهل هذه القرية ثم لعلم حالهم، فإن كانوا نزعوا عن رأيهم فأحبب والله بهم وأقرب، وإن كانو على رأيهم عملت ذلك وكنت على حذر، فاشخص حتى تلقى عبد الله بهم وأقرب، وإن كانوا على رأيهم علملت ذلك وكنت على حذر، فاشخص حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعاً ومنتقشفاً، فإن جبهك، وهو فاعل، فاصبر وعادوه حتى يأنس ويلين لك ناحيته، فإذا أظهر لك ما قبله فاعجل علي.
فشخص حتى قدم على عبد الله فلقيه بالكتاب، فأكره وهره وقال: ما أعرف هؤلاء القوم.فلم يزل يتردد إليه حتى قبل كتابه وألطافه وأنس به، فسأله عقبة الجواب. فقال: أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام وأعالمهم أنني خارج لوقت كذا وكذا.
ورجع عقبة إلى المنصور فأعلمه الخبر، فانسأ المنصور الحج وقال لعقبة: إذا لقيني بنو الحسن فيهم عبد الله بن الحسن فأنا مكرمه ورافع محلته وداع بالغداء، فإذا فرغنا من طعامنا فلحظتك فامثل بين يديه قائماً، فإنه سيصرف عنك بصره، قاستدر حتى ترمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينه منك ثم حسبك وإياك أن راك ما دام يأكل.
فخرج إلى الحج، فلما لقيه بنو الحسن أجلس عبد الله إلى جانبه ثم دعا بالغداء فأصابوا منه، ثم رفع فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال له: قد علمت ما أعطيتني من العهود والمواثيق ألا تبغيني بسوء ولا تكيد لي سلطاناً؟ قال: فأنا على ذلك يا أمير المؤمنين. فلحظ المنصور عقبة بن سلم فاستدار حتى وقف بين يدي عبد الله فأعرض عنه، فاستدار حتى قام وراء ظهره فغمزه بإصبعه، فرفع رأسه فملأ عينه منه، فوثب حتى قعد بين يدي المنصور فقال: أقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله! قال: لا أقالني الله إن أقلتك! ثم أمر بحبسه.
وكان محمد قد قدم قبل ذلك البصرة فنزلها في نبي راسب يدعو إلى نفسه، وقيل: نزل على عبد الله بن شيبان أحد بني مرة بن عبيد، قم خرج منها، فبلغ المنصور مقدمة البصرة، فسار إليها مجداً فنزل عند الجسر الأكبر، فلقيه عمرو بن عبيد فقال له: يا أبا عمان هل بالبصرة أحد نخافه على أمرنا؟ قال: لا. قال: فأقتصر على قولك وأنصرف. قال: نعم.

وكان محمد قد سار عنها قبل مقدم المنصور، فرجع المنصور واشتد الخوف على محمد وإبراهيم ابني عبد الله فخرجا حتى تيا عدن، ثم سار إلى السند ثم إلى الكوفة ثم إلى المدينة.
وكان المنصور قد حج سنة أربعين ومائة فقسم أموالاً عظيمة في آل أبي طالب، فلم يظهر محمد وإبراهيم، فسأل أباهما عبد الله عنهما، فقال: لا علم لي بهم، فتغالظا، فأمصه أبو جعفر المنصور حتى قال له: امصص كذا وكذا من أمك! فقال: يا أبا جعفر بأي أمهاتي تمصني؟ أبفاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ أم بفاطمة بنت الحسن بن علي؟ أم بأم إسحاق بنت طلحة؟ أم بخديجة بنت خويلد؟ قال: لا بواحدة منهن ولكن بالجرباء بنت قسامة بن زيهر! وهي امرأة من طيء، فقال المسيب بن زيهر: يا أمير المؤمنين دعني أضرب عنق ابن الفاعلة! فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال: هبه لي يا أمير المؤمنين فأستخرج لك ابنيه؛ فتخلصه منه.
وكان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله قد تغيبا حين حج المنصور سنة أربعين ومائة عن المدينة، وحج أيضاً فاجتمعوا بمكة وأرادوا اغيتال المنصور، فقال لهم الأشتر عبد الله بن محمد: أنا أكفيكموه! فقال محمد: لا والله لا أقتله أبداً غيلةً أدعوه. فنقض ما كانوا أجمعوا عليه. وكان قد دخل علهم قائد من قواد المنصور من أهل خراسان اسمه خالد بن حسان يدعى أبا العساكر على ألف رجل، فنمى الخبر إلى المنصور فطلب، فلم يظفر به، فظفر بأصحابه فقتلهم، وأما القائد فإنه لحق بمحمد بن عبد الله بن محمد.
ثم إن المنصور حث زياد بن عبيد الله على طلب محمد وإبراهيم، فضمن له ذلك ووعده به، فقدم محمد المدينة قدمة، فبلغ ذلك زياداً فتلطف له وأعطاه الأمان على أن يظهر وجهه للناس، فوعده محمد ذلك، فركب زياد مع المساء وواعد محمداً سوق الظهر، وركب محمد، فتصايح الناس: يا أهل المدينة المهدي المهدي ! فوقف هو وزياد، فقال زياد: يا أيها الناس هذا محمد بن عبد الله بن الحسن؛ ثم قال له: الحق بأي بلاد الله شئت. فتوارى محمد.
وسمع المنصور الخبر فأرسل أبا الأزهر في جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين ومائة إلى المدينة، فأمره أن يستعمل على المدينة عبد العزيز بن المطلب وأن يقبض على زياد وأصحابه ويسير بهم إليه، فقدم أبو الأزهر المدينة ففعل ما أمره وأخذ زياداً وأصحابه وسار نحو المنصور، وخلف زياد في بيت مال المدينة ثمانين ألف دينار، فسجنهم المنصور ثم من عليهم بعد ذلك.
واستعمل المنصور على المدينة محمد بن خالد بن عبد الله القسري، وأمره بطلب محمد بن عبد الله وبسط يده في النفقة في طلبه. فقدم المدينة في رجب سنة إحدى وأربعين، فأخذ المال ورفع في محاسبته أموالاً كثيرة أنفقها في طلب محمد، فاستبطأه أبو جعفر واتهمه، فكتب إليه يأمره بكشف المدينة وأعراضها، فطاف ببيوت الناس فلم يجد محمداً.
فلما رأى المنصور ما قد أخرج من الأموال ولم يظفر بمحمد استشار أبا العلاء، رجلاً من قيس عيلان، في أمر محمد بن عبد الله وأخيه، فقال: أرى أن تستعمل رجلاً من ولد الزبير أو طلحة فإنهم يطلبونهما بذحلٍ ويخرجونهما إليك. فقال: قاتلك الله ما أجود ما رأيت ! والله ما خفي علي هذا، ولكني أعاهد الله لا أنتقم من بني عمي وأهل بيتي بعدوي وعدوهم، ولكني أبعث عليهم صعلوكاً من العرب يفعل بهم ما قلت.
فاستشار يزيد بن يزيد السلمي وقال له: دلني على فتى مقلٍ من قيس أغنيه وأشرفه وأمكنه من سيد اليمن، يعني ابن القسري، قال: هو رياح بن عثمان بن حيان المري، فسيره أميراً على المدينة في رمضان سنة أربع وأربعين.

وقيل: إن رياحاً ضمن للمنصور أن يخرج محمداً وإبراهيم ابني عبد الله إن استعمله على المدينة، فاستعمله عليها، فسار حتى دخلها، فلما دخل دار مروان، وهي التي كان ينزلها الأمراء، قال لحاجب كان له يقال له أبو البختري: هذه دار مروان ؟ قال: نعم. قال: أما إنها محلال مظعان ونحن أول من يظعن منها. فلما تفرق الناس عنه قال لحاجبه: يا أبا البختري خذ بيدي ندخل على هذا الشيخ، يعني عبد الله بن الحسن؛ فدخلا عليه، وقال رياح: أيها الشيخ إن أمير المؤمنين والله ما استعملني لرحم قريبة ولا ليد سلفت إليه، والله لا لعبت في كما لعبت بزياد وابن القسري، والله لأزهقن نفسك أو لتأتيني بابنيك محمد وإبراهيم ! فرفع رأسه إليه وقال: نعم، أما والله إنك لأزيرق قيس المذبوح فيها كما تذبح الشاة ! قال أبو البختري: فانصرف والله رياح آخذاً بيدي أجد برد يده وإن رجليه لتخطان الأرض مما كلمه. قال: فقلت له: إن هذا ما اطلع على الغيب. قال: إيهاً ويلك ! فوالله ما قال إلا ما سمع. فذبح كما تذبح الشاة.
ثم إنه دعا بالقسري وسأله عن الأموال، فضربه وسجنه وأخذ كاتبه زراعاً وعاقبه فأكثر، وطلب إليه أن يذكر ما أخذ محمد بن خالد من الأموال، وهو لا يجيبه، فلما طال عليه العذاب أجابه إلى ذلك، فقال له رياح: احضر الرفيعة وقت اجتماع الناس، ففعل ذلك، فلما اجتمع الناس أحضره فقال: أيها الناس إن الأمير أمرني أن أرفع على ابن خالد، وقد كتبت كتاباً لأنجو به وإنا لنشهدكم أن كل ما فيه باطل. فأمر رياح فضرب مائة سوط ورد إلى السجن.
وجد رياح في طلب محمد، فأخبر أنه في شعب من شعاب رضوى، جبل جهينة، وهو في عمل ينبع، فأمر عامله في طلب محمد، فهرب منه راجلاً فأفلت وله ابن صغير ولد في خوفه وهو مع جارية له فسقط من الجبل فتقطع، فقال محمد:
منخرق السّربال يشكو الوجى ... تنكبه أطراف مروٍ حداد
شرّده الخوف فأزرى به ... كذاك من يكره حرّ الجلاد
قد كان في الموت له راحة ... والموت حتم في رقاب العباد
وبينا رياح يسير في الحرة إذ لقي محمداً، فعدل محمد إلى بئر هناك فجعل يستقي، فقال رياح: قاتله الله أعرابياً ما أحسن ذراعه !
ذكر حبس أولاد الحسنقد ذكرنا قبل أن المنصور حبسهم، وقد قيل أيضاً إن رياحاً هو الذي حبسهم.
قال علي بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي: حضرنا باب رياح في المقصورة، فقال الآذن: من كان ها هنا من بني الحسين فليدخل. فدخلوا من باب المقصورة وخرجوا من باب مروان. ثم قال: من ها هنا من بني الحسن فليدخل. فدخلوا من باب المقصورة ودخل الحدادون من بني مروان، فدعا بالقيود فقيدهم وحبسهم، وكانوا: عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، والحسن وإبراهيم ابني الحسن بن الحسن، وجعفر بن الحسن بن الحسن، وسليمان وعبد الله ابني داود بن الحسن بن الحسن، ومحمد وإسماعيل وإسحاق بني إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وعباس بن الحسن بن الحسن بن علي، وموسى ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن.
فلما حبسهم لم يكن فيهم علي بن الحسن بن الحسن بن علي العابد. فلما كان الغد بعد الصبح إذ قد أقبل رجل متلفف، فقال له رياح: مرحباً بك، ما حاجتك ؟ قال: جئتك لتحبسني مع قومي، فإذا هو علي بن الحسن بن الحسن، فحبسه معهم.
وكان محمد قد أرسل ابنه علياً إلى مصر يدعو إليه، فبلغ خبره عامل مصر، وقيل: إنه على الوثوب بك والقيام عليك بمن شايعه، فقبضه وأرسله إلى المنصور، فاعترف له وسمى أصحاب أبيه، وكان فيمن سمى عبد الرحمن بن أبي الوالي، وأبو حنين، فضربهما المنصور وحبسهما وحبس علياً، فبقي محبوساً إلى أن مات.
وكتب المنصور إلى رياح أن يحبس معهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان المعروف بالديباج، وكان أخا عبد الله بن الحسن بن الحسن، لأن أمهما جميعاً فاطمة بنت الحسين بن علي، فأخذه معهم.

وقيل: إن المنصور حبس عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي وحده وترك باقي أولاد الحسن، فلم يزل محبوساً، فبقي الحسن بن الحسن بن الحسن قد نصل خضابه حزناً على أخيه عبد الله، وكان المنصور يقول: ما فعلت الحادة ؟ ومر الحسن بن الحسن بن الحسن على إبراهيم بن الحسن وهو يعلف إبلاً له فقال: أتعلف إبلك وعبد الله محبوس ! يا غلام أطلق عقلها ! فأطلقها ثم صاح في أدبارها فلم يوجد منها بعير.
فلما طال حبس عبد الله بن الحسن قال عبد العزيز بن سعيد للمنصور: أتطمع في خروج محمد وإبراهيم وبنو الحسن مخلون ؟ والله للواحد منهم أهيب في صدور الناس من الأسد ! فكان ذلك سبب حبس الباقين.
ذكر حملهم إلى العراقولما حج المنصور سنة أربع وأربعين ومائة أرسل محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد بن طلحة، ومالك بن أنس إلى بني الحسن، وهم في الحبس، يسألهم أن يدفعوا إليه محمداً وإبراهيم ابني عبد الله، فدخلا عليهم وعبد الله قائم يصلي، فأبلغاهم الرسالة، فقال الحسن بن الحسن أخو عبد الله: هذا عمل ابني المشومة ! أما والله ما هذا عن رأينا ولا عن ملاءٍ منا ولنا فيه حكم. فقال له أخوه إبراهيم: علام تؤذي أخاك في ابنيه وتؤذي ابن أخيك في أمه ؟ ثم فرغ عبد الله من صلاته فأبلغاه الرسالة، فقال: لا والله لا أريد عليكما حرفاً، إن أحب أن يأذن لي فألقاه فليفعل. فانطلق الرسولان فأبلغا المنصور، فقال: أيسخر بي، لا والله لا ترى عينه عيني حتى يأتيني بابنيه.
وكان عبد الله لا يحدث أحداً قط إلا قلبه عن رأيه.
ثم سار المنصور لوجهه، فلما حج ورجع لم يدخل المدينة ومضى إلى الربذة، فخرج إليه رياح إلى الربذة فرده إلى المدينة وأمره بإشخاص بني الحسن إليه ومعهم محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان أخو بني الحسن لأمهم، فرجع رياح فأخذهم وسار بهم إلى الربذة، وجعلت القيود والسلاسل في أرجلهم وأعناقهم، وجعلهم في محامل بغير وطاء؛ ولما خرج بهم رياح من المدينة وقف جعفر بن محمد من وراء ستر يراهم ولا يرونه وهو يبكي ودموعه تجري على لحيته وهو يدعو الله، ثم قال: والله لا يحفظ الله حرميه بعد هؤلاء.
ولما ساروا كان محمد وإبراهيم ابنا عبد الله يأتيان كهيئة الأعراب فيسايران أباهما ويستأذنانه بالخروج، ويقول: لا تعجلا حتى يمكنكما ذلك. وقال لهما: إن منعكما أبو جعفر، يعني المنصور، أن تعيشا كريمين فلا يمنعكما أن تموتا كريمين.
فلما وصلوا إلى الربذة أدخل محمد بن عبد الله العثماني على المنصور وعليه قميص وإزار رقيق، فلما وقف بين يديه قال: إيهاً يا ديوث ! قال محمد: سبحان الله ! لقد عرفتني بغير ذلك صغيراً وكبيراً ! قال: فممن حملت ابنتك رقية ؟ وكانت تحت إبراهيم بن عبد الله بن الحسن، وقد أعطيتني الأيمان أن لا تغشني ولا تمالئ علي عدواً، أنت ترى ابنتك حاملاً وزوجها غائب وأنت بين أن تكون حانثاً أو ديوثاً ! وايم الله إني لأهم برجمها ! قال محمد: أما أيماني فهي علي إن كنت دخلت لك في أمر غش علمته، وأما ما رميت به هذه الجارية فإن الله قد أكرمها بولادة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إياها، ولكني ظننت حين ظهر حمله أن زوجها ألم بها على حين غفلة. فاغتاظ المنصور من كلامه وأمر بشق ثيابه عن إزاره، فحكي أن عورته قد كشفت، ثم أمر به فضرب خمسين ومائة سوط، فبلغت منه كل مبلغٍ والمنصور يفتري عليه لا يكنى، فأصاب سوط منها وجهه، فقال: ويحك اكفف عن وجهي ! فإن له حرمة برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأغرى المنصور فقال للجلاد: الرأس الرأس ! فضرب على رأسه نحواً من ثلاثين سوطاً وأصاب إحدى عينيه سوط فسالت، ثم أخرج وكأنه زنجي من الضرب، وكان من أحسن الناس، وكان يسمى الديباج لحسنه.
فلما أخرج وثب إليه مولى له فقال: ألا أطرح ركاني عليك ؟ قال: بلى جزيت خيراً ! والله إن لشفوف إزاري أشد علي من الضرب.
وكان سبب أخذه أن رياحاً قال للمنصور: يا أمير المؤمنين أما أهل خراسان فشيعتك، وأما أهل العراق فشيعة آل أبي طالب، وأما أهل الشام فوالله ما عليٌ عندهم إلا كافر، ولكن محمد بن عبد الله العثماني لو دعا أهل الشام ما تخلف عنه منهم أحد. فوقعت في نفس المنصور، فأمر به فأخذ معهم، وكان حسن الرأي فيه قبل ذلك.

ثم إن أبا عون كتب إلى المنصور: إن أهل خراسان قد تغاشوا عني وطال عليهم أمر محمد بن عبد الله. فأمر المنصور بمحمد بن عبد الله بن عمر العثماني فقتل، وأرسل رأسه إلى خراسان، وأرسل معه من يحلف أنه رأس محمد بن عبد الله وأن أمه فاطمة بنت سول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما قتل قال أخوه عبد الله بن الحسن: إنا لله وإنا إليه راجعون ! إن كنا لنأمن به في سلطانهم ثم قد قتل منا في سلطاننا ! ثم إن المنصور أخذهم وسار بهم من الربذة فمر بهم على بغلة شقراء، فناداه عبد الله بن الحسن: يا أبا جعفر ما هكذا فعلنا بأسرائكم يوم بدر ! فأخسأه أبو جعفر وثقل عليه ومضى، فلما قدموا إلى الكوفة قال عبد الله لمن معه: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية ؟ قال: فلقيه الحسن وعلي ابنا أخيه مشتملين على سيفين فقالا له: قد جئناك يا بن رسول الله فمرنا بالذي تريد. قال: قد قضيتما ما عليكما ولن تغنيا في هؤلاء شيئاً، فانصرفا.
ثم إن المنصور أودعهم بقصر ابن هبيرة شرقي الكوفة، وأحضر المنصور محمد بن إبراهيم بن الحسن، وكان أحسن الناس صورةً، فقال له: أنت الديباج الأصغر ؟ قال: نعم. قال: لأقتلنك قتلةً لم أقتلها أحداً ! ثم أمر به فبني عليه أسطوانة وهو حي فمات فيها.
وكان إبراهيم بن الحسن أول من مات منهم، ثم عبد الله بن الحسن فدفن قريباً من حيث مات، فإن يكن في القبر الذي يزعم الناس أنه قبره وإلا فهو قريب منه. ثم مات علي بن الحسن.
وقيل: إن المنصور أمر بهم فقتلوا، وقيل: بل أمر بهم فسقوا السم، وقيل: وضع المنصور على عبد الله من قال له إن ابنه محمداً قد خرج فقتل فانصدع قلبه فمات، والله أعلم.
ولم ينج منهم إلا سليمان وعبد الله ابنا داود بن الحسن بن الحسن بن علي، وإسحاق وإسماعيل ابنا إبراهيم بن الحسن بن الحسن، وجعفر بن الحسن، وانقضى أمرهم.
ذكر عدة حوادثكان على مكة هذه السنة السري بن عبد الله، وعلى المدينة رياح بن عثمان، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سفيان بن معاوية، وعلى مصر يزيد بن حاتم بن قتيبة بن المهلب بن أبي صفرة، وهو الذي قال فيه يزيد ابن ثابت يمدحه ويهجو يزيد بن أسيد السلمي:
لشتّان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليمٍ والأغرّ بن حاتم
في أبيات كثيرة. وكان ممدحاً جواداً.
وفيها ثار هشام بن عذرة الفهري، وهو من بني عمرو، ويوسف بن عبد الرحمن الفهري بطليطلة على الأمير عبد الرحمن الأموي، فاتبعه من فيها، فاسر إليه عبد الرحمن فحاصره وشدد عليه الحصار، فمال إلى الصلح وأعطاه ابنه أفلح رهينةً، فأخذه عبد الرحمن ورجع إلى قرطبة، فرجع هشام وخلع عبد الرحمن، فعاد إليه عبد الرحمن وحاصره ونصب عليه المجانيق، فلم يؤثر فيها لحصانتها، فقتل أفلح ابنه ورمى رأسه في المنجنيق ورحل إلى قرطبة ولم يظفر بهشام.
وفيها مات عبد الله بن شبرمة. وعمرو بن عبيد المعتزلي، وكان زاهداً. وبريد بن أبي مريم مولى سهل بن الحنظلية. وعقيل بن خالد الأيلي صاحب الزهري، وكان موته بمصر فجأةً. ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي أبو الحسن المدني. وهاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص المدني.
بريد بضم الباء الموحدة، وفتح الراء المهملة. وعقيل بضم العين المهملة، وفتح القاف.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائة

ذكر ظهور محمد بن عبد الله بن الحسن
في هذه السنة كان ظهور محمد بن عبد الله نب الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، وقيل: رابع عشر شهر رمضان. وقد ذكرنا فيما تقدم أخباره وتبعته وحمل المنصور أهله إلى العراق.
فلما حملهم وسار بهم رد رياحاً إلى المدينة أميراً عليها، فألح في طلب محمد وضيق عليه وطلبه حتى سقط ابنه فمات، وأرهقه الطلب يوماً فتدلى في بئر بالمدينة يناول أصحابه الماء وانغمس في الماء إلى حلقه، وكان بدنه لا يخفى لعظمه، وبلغ رياحاً خبر محمد وأنه بالمذار، فركب نحوه في جنده، فتنحى محمد عن طريقه واختفى في دار الجهنية، فحيث لم يره رياح رجع إلى دار مروان.
وكان الذي أعلم رياحاً سليمان بن عبد الله بن أبي سبرة.

فلما اشتد الطلب بمحمد خرج قبل وقته الذي واعد أخاه إبراهيم على الخروج فيه، وقيل: بل خرج محمد لميعاده مع أخيه، وإنما أخوه تأخر لجدري لحقه، وكان عبيد الله بن عمرو بن أبي ذئب وعبد الحميد بن جعفر يقولان لمحمد بن عبد الله: ما تنتظر بالخروج ! فوالله ما على هذه الأمة أشأم منك. اخرج ولو وحدك. فتحرك بذلك أيضاً ؟! وأتى رياحاً الخبر أن محمداً خارجٌ الليلة، فأحضر محمد بن عمران بن إبراهيم بن محمد قاضي المدينة، والعباس بن عبد الله بن الحارث بن العباس وغيرهما عنده، صمت طويلاً ثم قال لهم: يا أهل المدينة أمير المؤمنين يطلب محمداً في شرق الأرض وغربها وهو بين أظهركم، وأقسم بالله لئن خرج لأقتلنكم أجمعين ! وقال لمحمد بن عمران: أنت قاضي أمير المؤمنين فادع عشيرتك فأرسل تجمع بني زهرة، فأرسل فجاؤوا في جمع كثير فأجلسهم بالباب، فأرسل فأخذ نفراً من العلويين وغيرهم، فيهم: جعفر بن محمد بن علي بن الحسين، والحسين بن علي بن الحسين بن علي، والحسن بن علي بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي، ورجال من قريش فيهم إسماعيل بن أيوب بن سلمة بن عبد الله بن الوليد بن المغيرة وابنه خالد.
فبينما هم عنده إذ ظهر محمد، فسمعوا التكبير، فقال ابن مسلم بن عقبة المري: أطعني في هؤلاء واضرب أعناقهم. فقال له الحسين بن علي ابن الحسين بن علي: والله ما ذاك إليك، إنا لعلى السمع والطاعة.
وأقبل محمد من المذار في مائة وخمسين رجلاً، فأتى في بني سلمة بهؤلاء تفاؤلاً بالسلامة، وقصد السجن فكسر بابه وأخرج من فيه، وكان فيهم محمد بن خالد بن عبد الله القسري، وابن أخي النذير بن يزيد ورزام، فأخرجهم وجعل على الرجالة خوات بن بكير بن خوات بن جبير، وأتى دار الإمارة وهو يقول لأصحابه: لا تقتلوا إلا يقتلوا.
فامتنع منهم رياح، فدخلوا من باب المقصورة وأخذوا رياحاً أسيراً وأخاه عباساً وابن مسلم بن عقبة المري فحبسهم في دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد فصعد المنبر فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإنه قد كان من أمر هذا الطاغية عدو الله أبي جعفر ما لم يخف عليكم، من بنائه القبة الخضراء التي بناها معاندةً لله في ملكه وتصغيراً للكعبة الحرام، وإنما أخذ الله فرعون حين قال: " أنا ربّكم الأعلى " النازعات: 24، وإن أحق الناس بالقيام في هذا الدين أبناء المهاجرين والأنصار المواسين، اللهم إنهم قد أحلوا حرامك وحرموا حلالك، وآمنوا من أخفت وأخافوا من آمنت ! اللهم فاحصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً ! أيها الناس إني والله ما خرجت من بين أظهركم وأنتم عندي أهل قوة ولا شدة، ولكني اخترتكم لنفسي ! والله ما جئت هذه وفي الأرض مصر يعبد الله فيه إلا وقد أخذ لي فيه البيعة ! وكان المنصور يكتب إلى محمد على ألسن قواده يدعونه إلى الظهور ويخبرونه أنهم معه، فكان محمد يقول: لو التقيانا مال إلي القواد كلهم. واستولى محمد على المدينة واستعمل عليها عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير وعلى قضائها عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله المخزومي، وعلى بيت السلاح عبد العزيز الداروردي، وعلى الشرط أبا القلمس عثمان بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى ديوان العطاء عبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة؛ وقيل: كان على شرطه عبد الحميد بن جعفر فعزله.
وأرسل محمد إلى محمد بن عبد العزيز: إني كنت لأظنك ستنصرنا وتقوم معنا. فاعتذر إليه وقال: أفعل؛ ثم انسل منه وأتى مكة. ولم يتخلف عن محمد أحد من وجوه الناس إلا نفر، منهم: الضحاك بن عثمان بن عبد الله بن خالد بن حزام، وعبد الله بن المنذر بن المغيرة بن عبد الله بن خالد، وأبو سلمة ابن عبيد الله بن عبيد الله بن عمر، وحبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير.
وكان أهل المدينة قد استفتوا مالك بن أنس في الخروج مع محمد وقالوا: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين. فأسرع الناس إلى محمد ولزم مالك بيته.
فأرسل محمد إلى إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وكان شيخاً كبيراً، فدعاه إلى بيعته، فقال: يا بن أخي أنت والله مقتول فكيف أبايعك ؟ فارتدع الناس عنه قليلاً.

وكان بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر قد أسرعوا إلى محمد، فأتت حمادة بنت معاوية إلى إسماعيل بن عبد الله وقالت له: يا عم إن إخوتي قد أسرعوا إلى ابن خالهم، وإنك إن قلت هذه المقالة ثبطت الناس عنه فيقتل ابن خالي وإخوتي. فأبى إسماعيل إلا النهي عنه، فيقال: إن حمادة عدت عليه فقتلته، فأراد محمد الصلاة عليه فمنعه عبد الله بن إسماعيل وقال: أتأمر بقتل أبي وتصلي عليه ؟ فنحاه الحرس وصلى عليه محمد.
ولما ظهر محمد كان محمد بن خالد القسري بالمدينة في حبس رياح فأطلقه.
وقال ابن خالد: فلما سمعت دعوته التي دعا إليها على المنبر قلت: هذه دعوة حق، والله لأبلين لله فيها بلاء حسناً. فقلت: يا أمير المؤمنين إنك قد خرجت بهذا البلد، والله لو وقف على نقب من أنقابه أحد لمات أهله جوعاً وعطشاً، فانهض معي فإنما هي عشر حتى أضربه بمائة ألف سيف. فأبى علي، فبينا أنا عنده إذ قال: ما وجدنا من خير المتاع شيئاً أجود من شيء وجدناه عند أبن أبي فروة ختن أبي الخصيب، وكان انتهبه، قال: فقلت: ألا أراك قد أبصرت خير المتاع ! فكتبت إلى المنصور فأخبرته بقلة من معه، فأخذني محمد فحبسني حتى أطلقني عيسى بن موسى بعد قتله بأيام.
وكان رجل منآل أويس بن أبي سرح العامري، عامر بن لؤي، اسمه الحسين بن صخر بالمدينة لما ظهر محمد، فسار من ساعته إلى المنصور فبلغه في تسعة أيام، فقدم ليلاً فقام على أبواب المدينة فصاح حتى علموا به وأدخلوه، فقال الربيع: ما حاجتك هذه الساعة وأمير المؤمنين نائم؟ قال: لا بد لي منه. فدخل الربيع على المنصور فأخبره خبره وأنه قد طلب مشافهته، فأذن له، فدخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين خرج محمد بن عبد الله بالمدينة ! قال: قتلته والله إن كنت صادقاً، أخبرني من معه. فسمى له نن معه من وجوه أهل المدينة وأهل بيته. قال: أنت رأيته وعاينته ؟ قال: أنا رأيته وعاينته وكلمته على منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جالساً، فأدخله أبو جعفر بيتاً، فلما أصبح جاء رسولٌ لسعيد بن دينار غلام عيسي بن موسى يلي أمواله بالمدينة فأخبره بأمر محمد، وتواترت عليه أخباره، فأخرج الأويسي، فقال: لأوطئن الرجال عقبيك ولأعيننك ! فأمر له بتسعة آلاف درهم لكل ليلة ألف درهم.
وأشفق من محمد فقال له الحارثي المنجم: يا أمير المؤمنين ما يجزعك منه ؟ والله لو ملك الأرض ما لبث إلا تسعين يوماً.
فأرسل المنصور إلى عمه عبد الله بن علي، وهو محبوس: إن هذا الرجل قد خرج فإن كان عندك رأي فأشر به علينا، وكان ذا رأي عندهم، فقال: إن المحبوس محبوس الرأي. فأرسل إليه المنصور: لو جاءني حتى يضرب بابي ما أخرجتك، وأنا خير لك منه، وهو ملك أهل بيتك. فأعاد عليه عبد الله: ارتحل الساعة حتى تأتي الكوفة فاجثم على أكبادهم، فإنهم شيعة أهل هذا البيت وأنصارهم، ثم احففها بالمسالح، فمن خرج منها إلى وجه من الوجوه أو أتاها من وجه من الوجوه فاضرب عنقه، وابعث إلى سلم بن قتيبة ينحدر إليك، وكان بالري، واكتب إلى أهل الشام فمرهم أن يحملوا إليك من أهل البأس والنجدة ما حمل البريد فأحسن جوائزهم ووجههم مع سلم. ففعل.
وقيل: أرسل المنصور إلى عبد الله مع إخوته يستشيرونه في أمر محمد، وقال لهم: لا يعلم عبد الله أني أرسلتكم إليه. فلما دخلوا عليه قال: لأمرٍ ما جئتم، ما جاء بكم جميعاً وقد هجرتموني مذ دهر ؟ قالوا: إنا استأذنا أمير المؤمنين فأذن لنا. قال: ليس هذا بشيء، فما الخبر؟ قالوا: خرج محمد بن عبد الله. قال: فما ترون ابن سلامة صانعاً ؟ يعني المنصور. قالوا: لا ندري والله. قال: إن البخل قد قتله، فمروه فليخرج الأموال وليعط الأجناد، فإن غلب فما أسرع ما يعود إليه ماله، وإن غلب لم يقدم صاحبه على دينار ولا درهم.
ولما ورد الخبر على المنصور بخروج محمد كان المنصور قد خط مدينة بغداد بالقصب، فسار إلى الكوفة ومعه عبد الله بن الربيع بن عبيد الله بن المدان، فقال له المنصور: إن محمداً قد خرج بالمدينة. فقال عبد الله: هلك وأهلك، خرج في غير عدد ولا رجال.

حدثني سعيد بن عمرو بن جعدة المخزومي قال: كنت مع مروان يوم الزاب واقفاً فقال لي مروان: من هذا الذي يقاتلني ؟ قلت: عبد الله بن علي ابن عبد الله بن عباس. قال: وددت والله أن علي بن أبي طالب يقاتلني مكانه، إن علياً وولده لا حظ لهم في هذا الأمر، وهل هو إلا رجل من بني هاشم وابن رسول الله معه ريح الشام ونصر الشام ؟ يا بن جعدة أتدري ما حملني أن عقدت لعبد الله وعبيد الله بعدي وتركت عبد الملك وهو أكبر من عبدي الله ؟ قال ابن جعدة: لا. قال: وجدت الذي يلي هذا الأمر عبد الله وعبيد الله، وكان عبيد الله أقرب إلى عبد الله من عبد الملك، فعقدت له، فاستحلفه المنصور على صحة ذلك، فحلف له، فسري عنه.
ولما بلغ المنصور خبر ظهور محمد قال لأبي أيوب وعبد الملك: هل من رجل تعرفانه بالرأي يجمع رأيه إلى رأينا ؟ قالا: بالكوفة بديل بن يحيى، وكان السفاح يشاوره، فأرسل إليه وقال له: إن محمداً قد ظهر بالمدينة. قال: فاشحن الأهواز بالجنود. قال: إنه ظهر بالمدينة ! قال: قد فهمت وإنما الأهواز الباب الذي تؤتون منه. فلما ظهر إبراهيم بالبصرة قال له المنصور ذلك، قال: فعاجله بالجنود واشغل الأهواز عليه.
وشاور المنصور أيضاً جعفر بن حنظلة البهراني عند ظهور محمد، فقال: وجه الجنود إلى البصرة. قال: انصرف حتى أرسل إليك. فلما صار إبراهيم إلى البصرة أرسل إليه فقال له ذلك، فقال: إني خفت بادرة الجنود. قال: وكيف خفت البصرة ؟ قال: لأن محمداً ظهر بالمدينة وليسوا أهل الحرب، بحسبهم أن يقيموا شأن أنفسهم، وأهل الكوفة تحت قدمك، وأهل الشام أعداء آل أبي طالب، فلم يبق إلا البصرة.
ثم إن المنصور كتب إلى محمد: بسم الله الرحمن الرحيم " إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرْضِ فَسَاداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا أوْ تُقَطَّعَ أيْدِيهمْ وَأرْجُلُهُم مِنْ خِلاَفٍ أوْ يُنْفَوْا مَنَ الأرْضِ " المائدة: 33 - 34 الآيتين؛ ولك عهد الله وميثاقه وذمة رسوله أن أؤمنك وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعكم على دمائكم وأموالكم، وأسوغك ما أصبت من دم أو مال، وأعطيك ألف ألف درهم وما سألت من الحوائج، وأنزلك من البلاد حيث شئت، وأن أطلق من في حبسي من أهل بيتك، وأن أؤمن كل من جاءك وبايعك واتبعك أو دخل في شيء من أمرك ثم لا أتبع أحداً منهم بشيء كان منه أبداً، فإن أردت أن تتوثق لنفسك فوجه إلي من أحببت يأخذ لك من الأمان والعهد والميثاق ما تتوثق به، والسلام.
فكتب إليه محمد: " طسمِ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤمِنُونَ " إلى: " يَحْذَرُونَ " القصص: 1 - 5 وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علي، فإن الحق حقنا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضله، فإن أبانا علياً كان الوصي وكان الإمام، فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء ؟ ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد له مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لسنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، وإنا بنو أم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم. إن الله اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين محمد أفضلهم، ومن السلف أولهم إسلاماً علي، ومن الأزواج أفضلهن خديجة الطاهرة وأول من صلى إلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء العالمين وأهل الجنة، ومن المولودين في الإسلام حسن وحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإن هاشماً ولد علياً مرتين، وإن عبد المطلب ولد حسناً مرتين، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولدني مرتين من قبل حسن وحسين، وإني أوسط بني هاشم نسباً وأصرحهم أباً، لم تعرق في العجم، ولم تنازع في أمهات الأولاد، فما زال الله يختار لي الآباء والأمهات في الجاهلية والإسلام حتى اختار لي في الأشرار، فأنا ابن أرفع الناس درجة في الجنة، وأهونهم عذاباً في النار، ولك الله علي إن دخلت في طاعتي وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك ومالك وعلى كل أمر أحدثته إلا حداً من حدود الله أو حقاً لمسلم أو معاهد، فقد علمت ما يلزمني من ذلك.

وأنا أولى بالأمر منك وأوفى بالعهد، لأنك أعطيتني من الأمان والعهد ما أعطيته رجالاً قبلي، فأي الأمانات تعطيني ؟ أمان ابن هبيرة أم أمان عمك عبد الله بن علي أم أمان أبي مسلم ؟ فلما ورد كتابه على المنصور قال له أبو أيوب المورياني: دعني أجبه عليه. قال: لا إذاً تقارعنا على الأحساب، فدعني وإياه. ثم كتب إليه المنصور: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني كلامك وقرأت كتابك، فإذا جل فخرك بقرابة النساء لتضل به الجفاة والغوغاء، ولم يجعل الله النساء كالعمومة والآباء، ولا كالعصبة والأولياء، ولأن الله جعل العم أباً، وبدأ به في كتابه على الوالدة الدنيا، ولو كان اختيار الله لهن على قدر قرابتهن كانت آمنة أقربهن رحماً، وأعظمهن حقاً، وأول من يدخل الجنة، ولكن اختيار الله لخلقه على علمه فيما مضى منهم واصطفائه لهم.
وأما ما ذكرت من فاطمة أم أبي طالب وولادتها فإن الله لم يرزق أحداً من ولدها الإسلام لا بنتاً ولا ابناً، ولو أن رجلاً رزق الإسلام بالقرابة رزقه عبد الله ولكان أولاهم بكل خير في الدنيا والآخرة، ولكن الأمر لله يختار لدينه من يشاء، قال الله تعالى: " إنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يهدي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أعْلَمُ بِاْلمُهْتَدِينَ " القصص: 56. ولقد بعث الله محمدا، صلى الله عليه وسلم، وله عمومة أربعة، فأنزل الله، عز وجل: " وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ " الشعراء: 214 فأنذرهم ودعاهم، فأجاب اثنان، أحدهما أبي، وأبي اثنان، أحدهما أبوك، فقطع الله ولايتهما منه ولم يجعل بينه وبينهما إلا ولا ذمة ولا ميراثاً.
وزعمت أن ابن أخف أهل النار عذاباً وابن خير الأشرار، وليس في الكفر بالله صغير ولا في عذاب الله خفيف ولا يسير، وليس في الشر خيار، ولا ينبغي لمؤمن يؤمن بالله أن يفخر بالنار، وسترد فتعلم " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا " الآية الشعراء: 227.
وأما أمر حسن وأن عبد المطلب ولده مرتين وأن النبي، صلى الله عليه وسلم، ولدك مرتين، فخير الأولين والآخرين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يلده إلا مرة، ولا عبد المطلب إلا مرة. وزعمت أنك أوسط بني هاشم وأصرحهم أماً وأباً، وأنه لم يلدك العجم ولم تعرف فيك أمهات الأولاد، فقد رأيتك فخرت على بني هاشم طراً، فانظر، ويحك، أين أنت من الله غداً ! فإنك قد تعديت طورك وفخرت على من هو خير منك نفساً وأباً وأولاداً وأخاً إبراهيم بن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما خيار بني أبيك خاصة وأهل الفضل منهم إلا بنو أمهات الأولاد، ما ولد فيكم بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أفضل من علي بن الحسين، وهو لأم ولد، ولهو خير من جدك حسن بن حسين، وما كان فيكم بعده مثل محمد ابن علي، وجدته أم ولد، ولهو خير من أبيك، ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد، وهو خير منك.
وأما قولك إنكم بنو رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإن الله تعالى يقول في كتابه: " مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أبَا أحَدٍ مِنْ رِجَالِكُم " الأحزاب: 40 ولكنكم بنو بنته، وإنها لقرابة قريبة ولكنها لا يجوز لها الميراث ولا ترث الولاية، ولا يجوز لها الإمامة، فكيف تورث بها ؟ ولقد طلبها أبوك بكل وجه فأخرج فاطمة نهاراً ومرضها سراً ودفنها ليلاً، فأبى الناس إلا الشيخين، ولقد جاءت السنة التي لا اختلاف فيها من المسلمين أن الجد أبا الأم والخال والخالة لا يورثون.
وأما ما فخرت به من علي وسابقته فقد حضرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الوفاة فأمر غيره بالصلاة ثم أخذ الناس رجلاً بعد رجل فلم يأخذوه، وكان في الستة فتركوه كلهم دفعاً له عنها ولم يروا له حقاً فيها.

وأما عبد الرحمن فقدم عليه عثمان وهو له متهم، وقاتله طلحة والزبير، وأبي سعد بيعته فأغلق بابه دونه، ثم بايع معاوية بعده، ثم طلبها بكل وجه وقاتل عليها وتفرق عنه أصحابه وشك فيه شيعته قبل الحكومة، ثم حكم حكمين رضي بهما وأعطاهما عهد الله وميثاقه فاجتمعا على خلعه، ثم كان حسن فباعها من معاوية بخرق ودراهم ولحق بالحجاز وأسلم شيعته بيد معاوية ودفع الأمر إلى غير أهله وأخذ مالاً من غير ولاية ولا حله، فإن كان لكم فيها شيء فقد بعتموه وأخذتم ثمنه، ثم خرج عمك حسين على ابن مرجانة فكان الناس معه عليه حتى قتلوه وأتوا برأسه إليه، ثم خرجتم على بني أمية فقتلوكم وصلبوكم على جذوع النخل وأحرقوكم بالنيران ونفوكم من البلدان حتى قتل يحيى بن زيد بخراسان وقتلوا رجالكم وأسروا الصبية والنساء وحملوهم بلا وطاءٍ في المحامل كالسبي المجلوب إلى الشام حتى خرجنا عليهم فطلبنا بثأركم وأدركنا بدمائكم وأورثناكم أرضهم وديارهم وسنينا سلفكم وفضلناه، فاتخذت ذلك عينا حجة وظننت أنا إنما ذكرنا أباك للتقدمة منا له على حمزة والعباس وجعفر، وليس ذلك كما ظننت، ولكن خرج هؤلاء من الدنيا سالمين متسلماً منهم مجتمعاً عليهم بالفضل، وابتلي أبوك بالقتال والحرب، وكانت بنو أمية تلعنه كما تلعن الكفرة في الصلاة المكتوبة، فاحتججنا له وذكرناهم فضله وعنفناهم وظلمناهم بما نالوا منه.
فلقد علمت أن مكرمتنا في الجاهلية سقاية الحاج الأعظم وولاية زمزم، فصارت للعباس من بين إخوته، فنازعنا فيها أبوك فقضى لنا عليه عمر، فلم نزل نليها في الجاهلية والإسلام، ولقد قحط أهل المدينة فلم يتوسل عمر إلى ربه ولم يتقرب إليه إلا بأبينا حتى يغيثهم الله وسقاهم الغيث وأبوك حاضر لم يتوسل به، ولقد علمت أنه لم يبق أحد من بني عبد المطلب بعد النبي، صلى الله عليه وسلم، غيره فكانت وراثة من عمومته، ثم طلب هذا الأمر غير واحد من بني هاشم فلم ينله إلا ولده، فالسقاية سقايته، وميراث النبي له، والخلافة في ولده، فلم يبق شرف ولا فضل في جاهلية ولا إسلام في الدنيا والآخرة إلا والعباس وارثه مورثه.
وأما ما ذكرت من بدر فإن الإسلام جاء والعباس يمون أبا طالب وعياله وينفق عليهم للأزمة التي أصابته، ولولا أن العباس أخرج إلى بدر كارهاً لمات طالب وعقيل جوعاً وللحسا جفان عتبة وشيبة، ولكنه كان من المطعمين فأذهب عنكم العار والسبة وكفاكم النفقة والمؤونة، ثم فدى عقيلاً يوم بدر، فكيف تفخر علينا وقد علناكم في الكفر وفديناكم وجزنا عليكم مكارم الآباء وورثنا دونكم خاتم الأنبياء وطلبنا بثأركم فأدركنا منه ما عجزتم عنه، ولم تدركوا لأنفسكم ! والسلام عليكم ورحمة الله.
فكان محمد قد استعمل محمد بن الحسن بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على مكة، والقاسم بن إسحاق على اليمن، وموسى بن عبد الله على الشام؛ فأما محمد بن الحسن والقاسم فسارا إلى مكة، فخرج إليهما السري ابن عبد الله عامل المنصور على مكة فلقيهما ببطن أذاخر فهزماه.
ودخل محمد مكة وأقام بها يسيراً، فأتاه كتاب محمد بن عبد الله يأمره بالمسير إليه فيمن معه ويخبره بمسير عيسى بن موسى إليه ليحاربه، فسار إليه من مكة هو والقاسم، فبلغه بنواحي قديد قتل محمد، فهرب هو وأصحابه وتفرقوا، فلحق محمد بن الحسن بإبراهيم فأقام عنده حتى قتل إبراهيم واختفى القاسم بالمدينة حتى أخذت له ابنة عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر، امرأة عيسى، الأمان له ولإخوته معاوية وغيره.
وأما موسى بن عبد الله فسار نحو الشام ومعه رزام مولى محمد بن خالد القسري، فانسل منه رزام وسار إلى المنصور برسالة من مولاه محمد القسري، فظهر محمد بن عبد الله على ذلك، فحبس محمداً القسري، ووصل موسى إلى الشام فرأى منهم سوء رد عليه وغلظة، فكتب إلى محمد: أخبرك أني لقيت الشام وأهله، فكان أحسنهم قولاً الذي قال: والله لقد مللنا البلاء وضقنا حتى ما فينا لهذا الأمر موضع ولا لنا به حاجة، ومنهم طائفة تحلف لئن أصبحنا من ليلتنا وأمسينا من غدٍ ليرفعن أمرنا، فكتبت إليك وقد غيبت وجهي وخفت على نفسي. ثم رجع إلى المدينة.

وقيل: أتى البصرة وأرسل صاحباً له يشتري له طعاماً، فاشتراه وجاء به على حمال أسود فأدخله الدار التي سكنها وخرج، فلم يكن بأسرع من أن كبست الدار وأخذ موسى وابنه عبد الله وغلامه، فأخذوا وحملوا إلى محمد ابن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، فلما رأى موسى قال: لا قرب الله قرابتكم ولا حيا وجوهكم ! تركت البلاد كلها إلا بلداً أنا فيه، فإن وصلت أرحامكم أغضبت أمير المؤمنين، وإن أطعته قطعت أرحامكم. ثم أرسلهم إلى المنصور، فأمر فضرب موسى وابنه كل واحد خمسمائة سوط، فلم يتأوهوا. فقال المنصور: أعذرت أهل الباطل في صبرهم، فما بال هؤلاء ؟ فقال موسى: أهل الحق أولى بالصبر. ثم أخرجهم وأمر بهم فسجنوا.
خبيب بن ثابت بالخاء المعجمة المضمومة، وببائين موحدتين وبينهما ياء مثناة من تحتها.
ذكر مسير عيسى بن موسى إلى محمد بن عبد الله وقتلهثم إن المنصور أحضر ابن أخيه عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وأمره بالمسير إلى المدينة لقتال محمد. فقال: شاور عمومتك يا أمير المؤمنين. ثم قال: فأين قول ابن هرثمة:
نزور أمرأً لا يمحض القوم سرّه ... ولا ينتجي الأدنين عمّا يحاول
إذا ما أتى شيئاً مضى كالذي أتى ... وإن قال إنّي فاعلٌ فهو فاعل
فقال المنصور: امض أيها الرجل، فوالله ما يراد غيري وغيرك، وما هو إلا أن تشخص أنت أو أشخص أنا. فسار وسير معه الجنود. وقال المنصور لما سار عيسى: لا أبالي أيهما قتل صاحبه. وبعث معه محمد بن أبي العباس السفاح، وكثير بن حصين العبدي، وابن قحطبة، وهزارمرد وغيرهم، وقال له حين ودعه: يا عيسى إني أبعثك إلى ما بين هذين، وأشار إلى جنبيه، فإن ظفرت بالرجل فأعمد سيفك وابذل الأمان، وإن تغيب فضمنهم إياه فإنهم يعرفون مذابه، ومن لقيك من آل أبي طالب فاكتب إلي باسمه، ومن لم يلقك فاقبض ماله.
وكان جعفر الصادق تغيب عنه فقبض ماله، فلما قدم المنصور المدينة قال له جعفر في معنى ماله، فقال: قبضه مهديكم.
فلما وصل عيسى إلى فيد كتب إلى الناس في خرق حرير، منهم: عبد العزيز بن المطلب المخزومي، وعبيد الله بن محمد بن صفوان الجمحي، وكتب إلى عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب يأمره بالخروج من المدينة فيمن أطاعه، فخرج هو وعمر بن محمد بن عمر، وأبو عقيل محمد بن عبد الله بن عقيل، وأبو عيسى.
ولما بلغ محمداً قرب عيسى من المدينة استشار أصحابه في الخروج من المدينة أو المقام بها، فأشار بعضهم بالخروج عنها، وأشار بعضهم بالمقام بها لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: رأيتني في درع حصينة فأولتها المدينة فأقام ثم استشارهم في حفر خندق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له جابر بن أنس، رئيس سليم: يا أمير المؤمنين نحن أخوالك وجيرانك وفينا السلاح والكراع، فلا تخندق الخندق، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خندق خندقه لما الله أعلم به، وإن خندقته لم يحسن القتال رجالة ولم توجه لنا الخيل بين الأزقة، وإن الذين تخندق دونهم هم الذين يحول الخندق دونهم. فقال أحد بني شجاع: خندق، خندق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاقتد به، وتريد أنت أن تدع أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لرأيك ! قال: إنه والله يا بن شجاع ما شيء أثقل عليك وعلى أصحابك من لقائهم، وما شيء أحب من مناجزتهم. فقال محمد: إنما اتبعنا في الخندق أثر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلا يردني أحد عنه فلست بتاركه. وأمر به فحفر، وبدأ هو فحفر بنفسه الخندق الذي حفره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للأحزاب.
وسار عيسى حتى نزل الأعوص، وكان محمد قد جمع الناس وأخذ عليهم الميثاق وحصرهم فلا يخرجون، وخطبهم محمد بن عبد الله فقال لهم: إن عدو الله عدوكم قد نزل الأعوص، وإن أحق الناس بالقيام بهذا الأمر لأبناء المهاجرين والأنصار، ألا وإنا قد جمعناكم وأخذنا عليكم الميثاق، وعدوكم عدد كثير والنصر من الله والأمر بيده، وإنه قد بدا لي أن آذن لكم، فمن أحب منكم أن يقيم أقام، ومن أحب أن يظعن ظعن.
فخرج عالم كثير، وخرج ناسٌ من أهل المدينة بذراريهم وأهليهم إلى الأعراض والجبال، وبقي محمد في شرذمة يسيرة، فأمر أبا القلمس برد من قدر عليه، فأعجزه كثير منهم، فتركهم.

وكان المنصور قد أرسل ابن الأصم مع عيسى ينزله المنازل، فلما قدموا نزلوا على ميل من المدينة، فقال ابن الأصم: إن الخيل لا عمل لها مع الرجالة، وإني أخاف إن كشفوكم كشفة أن يدخلوا عسكركم. فتأخروا إلى سقاية سليمان بن عبد الملك بالجرف، وهي على أربعة أميال من المدينة، وقال: لا يهرول الراجل أكثر من ميلين أو ثلاثة حتى تأخذه الخيل. وأرسل عيسى خمسمائة رجل إلى بطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة، فأقاموا بها، وقال: أخاف أن ينهزم محمد فيأتي مكة فيرده هؤلاء؛ فأقاموا بها حتى قتل.
وأرسل عيسى إلى محمد يخبره أن المنصور قد آمنه وأهله، فأعاد الجواب: يا هذا إن لك برسول الله، صلى الله عليه وسلم، قرابة قريبة، وإني أدعوك إلى كتاب الله وسنة نبيه والعمل بطاعته، وأحذرك نقمته وعذابه، وإني والله ما أنا منصرف عن هذا الأمر حتى ألقى الله عليه، وإياك أن يقتلك من يدعوك إلى الله فتكون شر قتيل، أو تقتله فيكون أعظم لوزرك. فلما بلغته الرسالة قال عيسى: ليس بيننا وبينه إلا القتال. وقال محمد للرسول: علام تقتلونني وإنما رجل فر من أن يقتل ؟ قال: القوم يدعونك إلى الأمان، فإن أبيت إلا قتالهم قاتلوك على ما قاتل عليه خير آبائك عليٌ طلحة والزبير على نثك بيعتهم وكيد ملكه. فلما سمع المنصور قوله قال: ما سرني أنه قال غير ذلك.
ونزل عيسى بالجرف لإثنتي عشرة من رمضان يوم السبت، فأقام السبت والأحد وغدا يوم الاثنين فوقف على سلع فنظر إلى المدينة ومن فيها فنادى: يا أهل المدينة إن الله حرم دماء بعضنا على بعض فهلموا إلى الأمان ! فمن قام تحت رايتنا فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن خرج من المدينة فهو آمن، خلوا بيننا وبين صاحبنا فإما لنا وإما له ! فشتموه. وانصرف من يومه، وعاد من الغد وقد فرق القواد من سائر جهات المدينة وأخلى ناحية مسجد أبي الجراح، وهو على بطحان، فإنه أخلى تلك الناحية لخروج من ينهزم، وبرز محمد في أصحابه، وكانت رايته مع عثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، وكان شعاره: أحد أحد. فبرز أبو القلمس، وهو من أصحاب محمد، فبرز إليه أخو أسد واقتتلوا طويلاً، فقتله أبو القلمس، وبرز إليه آخر فقتله، فقال حين ضربه: خذها وأنا ابن الفاروق. فقال رجل من أصحاب عيسى: قتلت خيراً من ألف فاروق.
وقاتل محمد بن عبد الله يومئذ قتالاً عظيماً فقتل بيده سبعين رجلاً، وأمر عيسى حميد بن قحطبة فتقدم في مائة كلهم راجل سواه فزحفوا حتى بلغوا جداراً دون الخندق عليه ناس من أصحاب محمد، فهدم حميد الحائط وانتهى إلى الخندق ونصب عليه أبواباً وعبر هو وأصحابه عليها فجازوا الخندق وقاتلوا من ورائه أشد قتال من بكرة إلى العصر، وأمر عيسى أصحابه فألقوا الحقائب وغيرها في الخندق وجعل الأبواب عليها وجازت الخيل فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانصرف محمد قبل الظهر فاغتسل وتحنط ثم رجع، فقال له عبد الله بن جعفر: بأبي أنت وأمي؛ والله ما لك بما ترى طاقة ! فلو أتيت الحسن ابن معاوية بمكة فإن جل أصحابك. فقال: لو خرجت لقتل أهل المدينة، والله لا أرجع حتى أقتل أو أقتل، وأنت مني في سعة فاذهب حيث شئت.
فمشى معه قليلاً ثم رجع عنه، وتفرق عنه جل أصحابه حتى بقي في ثلاثمائة رجل يزيدون قليلاً، فقال لبعض أصحابه: نحن اليوم بعدة أهل بدر. وصلى محمد الظهر والعصر، وكان معه عيسى بن خضير وهو يناشده إلا ذهبت إلى البصرة أو غيرها، ومحمد يقول: والله لا تبتلون بي مرتين، ولكن اذهب أنت حيث شئت. فقال ابن خضير: واين المذهب عنك ؟ ثم مضى فأحرق الديوان الذي فيه أسماء من بايعه، وقتل رياح بن عثمان وأخاه عباس بن عثمان وقتل ابن مسلم بن عقبة المري ومضى إلى محمد بن القسري وهو محبوس ليقتله، فعلم به فردم الأبواب دونه، فلم يقدر عليه ورجع إلى محمد فقاتل بين يديه حتى قتل.
وتقدم حميد بن قحطبة وتقدم محمد، فلما صار ينظر مسيل سلع عرقب فرسه وعرقب بنو شجاع الخميسيون دوابهم ولم يبق أحد إلا كسر جفن سيفه، فقال لهم محمد: قد بايعتموني ولست بارحاً حتى أقتل، فمن أحب أن ينصرف فقد أذنت له.

واشتد القتال فهزموا أصحاب عيسى مرتين وثلاثاً، وقال يزيد بن معاوية بن عباس بن جعفر: ويل امه فتحاً لو كان له رجال ! فصعد نفر من أصحاب عيسى على جبل سلع وانحدروا منه إلى المدينة، وأمرت أسماء بنت حسن بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس بخمار أسود فرفع على منارة محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب محمد: دخلت المدينة، فهربوا، فقال يزيد: لكل قوم جبل يعصمهم، ولنا جبل لا نؤتى إلا منه، يعني سلعاً.
وفتح بنو أبو عمرو الغفاريون طريقاً في بني غفار لأصحاب عيسى ودخلوا منه أيضاً وجاؤوا من وراء أصحاب محمد، ونادى محمد حميد بن قحطبة: ابرز إلي فأنا محمد بن عبد الله. فقال حميد: قد عرفتك وأنت الشريف ابن الشريف الكريم ابن الكريم، لا والله لا أبرز إليك وبين يدي من هؤلاء الأغمار أحد، فإذا فرغت منهم فسأبرز إليك.
وجعل حميد يدعو ابن خضير إلى الأمان ويشح به على الموت، وابن خضير يحمل على الناس راجلاً لا يصغي إلى أمانه وهو يأخذه بين يديه، فضربه رجل من أصحاب عيسى على أليته فخلها، فرجع إلى أصحابه فشدها بثوب ثم عاد إلى القتال، فضربه إنسان على عينه فغاص السيف وسقط، فابتدروه فقتلوه واحتزوا رأسه وكأنه باذنجانة مفلقة من كثرة الجراح فيه. فلما قتل تقدم محمد فقاتل على جيفته، فجعل يهذ الناس هذاً، وكان أشبه الناس بقتال حمزة. ولم يزل يقاتل حتى ضربه رجل دون شحمة أذنه اليمنى فبرك لركبته وجعل يذب عن نفسه ويقول: ويحكم ابن نبيكم مجرح مظلوم ! فطعنه ابن قحطبة في صدره فصرعه، ثم نزل إليه فاحتز رأسه وأتى به عيسى، وهو لا يعرف من كثرة الدماء.
وقيل: إن عيسى اتهم بن قحطبة، وكان في الخيل، فقال له: ما أراك تبالغ. فقال له: أتتهمني ؟ فوالله لأضربن محمداً حين أراه بالسيف أو أقتل دونه. قال: فمر به وهو مقتول فضربه ليبر يمينه.
وقيل: بل رمي بسهم وهو يقاتل فوقف إلى جدار فتحاماه الناس، فلما وجد الموت تحامل على سيفه فكسره، وهو ذو الفقار سيف علي، وقيل: بل أعطاه رجلاً من التجار كان معه وله عليه أربعمائة دينار وقال: خذه فإنك لا تلقى أحداً من آل أبي طالب إلا أخذه وأعطاك حقك؛ فلم يزل عنده حتى ولي جعفر بن سليمان المدينة فأخبر به، فأخذ السيف منه وأعطاه أربعمائة دينار ولم يزل معه حتى أخذه منه المهدي، ثم صار إلى الهادي، فجربه على كلب فانقطع السيف، وقيل: بل بقي إلى أيام الرشيد، وكان يتقلده وكان به ثماني عشرة فقارة.
ولما أتي عيسى برأس محمد قال لأصحابه: ما تقولون فيه ؟ فوقعوا فيه، فقال بعضهم: كذبتم، ما لهذا قاتلناه، ولكنه خالف أمير المؤمنين وشق عصا المسلمين وإن كان لصواماً قواماً ! فسكتوا. فأرسل عيسى الرأس إلى المنصور مع محمد بن أبي الكرام بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وبالبشارة مع القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فأرسل مع رؤوس بني شجاع، فأمر المنصور فطيف برأس محمد في الكوفة وسيره إلى الآفاق؛ ولما رأى المنصور رؤوس بني شجاع قال: هكذا فليكن الناس، طلبت محمداً فاشتمل عليه هؤلاء ثم نقلوه وانتقلوا معه، ثم قاتلوا معه حتى قتلوا.
وكان قتل محمد وأصحابه يوم الاثنينبعد العصر لأربع عشرة خلت من شهر رمضان. وكان المنصور قد بلغه أن عيسى قد هزم فقال: كلا، أين لعب أصحابنا وصبياننا بها على المنابر ومشورة النساء ؟ ما أنى لذلك بعد ! ثم بلغه أن محمداً هرب فقال: كلا، إنا أهل بيت لا نفر. فجاءته بعد ذلك الرؤوس.
ولما وصل رأس محمد إلى المنصور كان الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عنده، فلما رأى الرأس عظيم عليه فتجلد خوفاً من المنصور، وقال لنقيب المنصور: أهو ؟ قال: هو فلذهم، وقال: لوددت أنا الركانة إلى طاعته وأنه لم يكن فعل ولا قال وإلا فأم موسى طالق، وكانت غاية أيمانه، ولكنه أراد قتله، وكانت نفسه أكرم علينا من نفسه، فبصق بعض الغلمان في وجهه، فأمر المنصور بأنفه فكسر عقوبة له.
ولما ورد الخبر بقتل محمد على أخيه إبراهيم بالبصرة كان يوم العيد، فخرج فصلى بالناس ونعاه على المنبر وأظهر الجزع عليه، وتمثل على المنبر:
يا با المنازل يا خير الفوارس من ... يفجع بمثلك في الدنيا فقد فجعا
الله يعلم أنّي لو خشيتهم ... وأوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسلم أخي أبداً ... حتّى نموت جميعاً أو نعيش معا
ولما قتل محمد أرسل عيسى ألويةً فنصبت في مواضع بالمدينة ونادى مناديه: من دخل تحت لواء منها فهو آمن. وأخذ أصحاب محمد فصلبهم ما بين ثنية الوداع إلى دار عمر بن عبد العزيز صفين ووكل بخشبة ابن خضير من يحفظها، فاحتمله قومٌ من الليل فواروه سراً وبقي الآخرون ثلاثاً، فأمر بهم عيسى، فألقوا على مقابر اليهود، ثم ألقوا بعد ذلك في خندق في أصل ذباب، فأرسلت زينب بنت عبد الله أخت محمد وابنة فاطمة إلى عيسى: إنكم قد قتلتموه وقضيتم حاجتكم منه، فلو أذنتم لنا في دفنه ؟ فأذن لها، فدفن بالبقيع.
وقطع المنصور الميرة في البحر إلى المدينة ثم أذن فيها المهدي.
ذكر بعض المشهورين ممن كان معهوكان فيمن معه من بني هاشم أخوه موسى بن عبد الله، وحسين وعلي ابنا زيد بن علي بن الحسين بن علي. ولما بلغ المنصور ابني زيد أعانا محمداً عليه قال: عجباً لهما قد خرجا علي وقد قتلنا قاتل أبيهما كما قتله، وصلبناه كما صلبه، وأحرقناه كما أحرقه ! وكان معه حمزة بن عبد الله بن محمد بن الحسين وعلي وزيد ابنا الحسن ابن زيد بن علي بن أي طالب، وكان أبوهما مع المنصور، والحسن ويزيد وصالح بنو معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر، والمرجى علي بن جعفر بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن جعفر، وكان أبوه مع المنصور، ومن غيرهم: محمد بن عبد الله بن عمرو ابن سعيد بن العباس، ومحمد بن عجلان، وعبد الله بن عمر بن حفص ابن عاصم، أخذ أسيراً فأتي به المنصور، فقال له: أنت الخارج علي ؟ قال: لم أجد إلا ذلك أو الكفر بما أنزل الله على محمد.
وكان معه أبو بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة، وعبد الواحد إبن أبي عون مولى الأزد، وعبد الله بن جعفر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الله بن عطاء بن يعقوب مولى بني سباع، وإبراهيم وإسحاق وربيعة وجعفر وعبد الله وعطاء ويعقوب وعثمان وعبد العزيز بنو عبد الله بن عطاء، وعيسى ابن خضير، وعثمان بن خضير، وعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، هرب بعد قتل محمد فأتى البصرة، فأخذ منها وأتي به المنصور، فقال له: هيه يا عثمان ! أنت الخارج علي مع محمد ؟ قال: بايعته أنا وأنت بمكة فوفيت ببيعتي وغدرت بيعتك ! قال: يا ابن اللخناء ! قال: ذاك من قامت عنه الإماء ! يعني المنصور، فأمر به فقتل.
وكان مع محمد عبد العزيز بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، وأخذ أسيراً، فأطلقه المنصور؛ وعبد العزيز بن إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، وعلي بن عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب، وإبراهيم بن جعفر بن مصعب بن الزبير، وهشام بن عمارة بن الوليد بن عدي بن الخيار، وعبد الله ابن يزيد بن هرمز، وغيرهم ممن تقدم ذكرهم.
ذكر صفة محمد والأخبار بقتلهكان محمد أسمر شديد السمرة، وكان المنصور يسميه محمماً، وكان سميناً شجاعاً كثير الصوم والصلاة، شديد القوة، وكان يخطب على المنبر، فاعترض في حلقه بلغم فتنحنح فذهب ثم عاد فتنحنح فذهب ثم عاد فتنحنح فنظر فلم ير موضعاً يبصق فيه فرمى بنخامته في سقف المسجد فألصقها فيه.
وسئل جعفر الصادق عن أمر محمد فقال: فتنة يقتل فيها محمد ويقتل أخوه لأبيه وأمه بالعراق وحوافر فرسه في ماء.
فلما قتل محمد قبض عيسى أموال بني الحسن كلها وأموال جعفر، فلقي جعفرٌ المنصور فقال له: رد علي قطيعتي من أبي زياد. قال: إياي تكلم بهذا ؟ والله لأزهقن نفسك ! قال: فلا تعجل علي، قد بلغت ثلاثاً وستين سنة وفيها مات أبي وجدي وعلي بن أبي طالب، وعلي كذا وكذا إن ربتك بشيء، وإن بقيت بعدك إن ربت الذي يقوم بعدك. فرق له المنصور ولم يرد عليه قطيعته، فردها المهدي على ولده.
وقال محمد لعبد الله بن عامر الأسلمي: تغشانا سحابة فإن أمطرتنا ظفرنا وإن تجاوزتنا إليهم فانظر إلى دمي عند أحجار الزيت. قال: فوالله لقد أظلتنا سحابة فلم تمطرنا، وتجاوزنا إلى عيسى وأصحابه فظفروا وقتلوا محمداً ورأيت دمه عند أحجار الزيت.
وكان قتله يوم الاثنين لأربع عشرة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة.
وكان يلقب المهدي والنفس الزكية.

ومما رثي به هو وأخوه قول عبد الله بن مصعب بن ثابت:
يا صاحبيّ دعا الملامة واعلما ... أن لست في هذا بألوم منكما
وقفا بقبر للنبيّ فسلّما ... لا بأس أن تقفا به وتسلّما
قبر تضمّن خير أهل زمانه ... حسباً وطيب سجيّةٍ وتكرّما
رجلٌ نفى بالعدل جور بلادنا ... وعفا عظيمات الأمور وأنعما
لم يجتنب قصد السبيل ولم يجر ... عنه ولم يفتح بفاحشةٍ فما
لو أعظم الحدثان شيئاً قبله ... بعد النبيّ به لكنت المعظّما
أو كان أمتع بالسلامة قبله ... أحداً لكان قصاره أن يسلما
ضحّوا بإبراهيم خير ضحيّة ... فتصرّمت أيّامه فتصرّما
بطلاً يخوض بنفسه غمراته ... لا طائشاً رعشاَ ولا مستسلما
حتّى مضت فيه السيوف وربّما ... كانت حتوفهم السيوف وربّما
أضحى بنو حسنٍ أبيح حريمهم ... فينا وأصبح نهبهم متقسّما
ونساؤهم في دورهنّ نوائح ... سجع الحمام إذا الحمام ترنّما
يتوسلون بقتله ويرونه ... شرفاً لهم عند الإمام ومغنما
والله لو شهد النبيّ محمّدٌ ... صلّى الاله على النبيّ وسلّما
إشراع أمّته الأسنّة لابنه ... حتّى تقطّر من ظباتهم دما
حقّاً لأيقن أنّهم قد ضيّعوا ... تلك القرابة واستحلّوا المحرّما
ولما قتل محمد قام عيسى بالمدينة أياماً ثم سار عنها صبح تسع عشرة خلت من رمضان يريد مكة معتمراً، واستخلف على المدينة كثير بن حصين، فأقام بها شهراً ثم استعمل المنصور عليه عبد الله بن الربيع الحارثي.
ذكر وثوب السودان بالمدينةوفيها ثار السودان بالمدينة على عاملها عبد الله بن الربيع الحارثي فهرب منهم.
وسبن ذلك أن المنصور استعمل عبد الله بن الربيع على المدينة وقدمها لخمس بقين من شوال، فنازع جنده التجار في بعض ما يشترونه منهم، فشكا ذلك التجار إلى ابن الربيع، فانتهرهم وشتمهم، فتزايد طمع الجند فيهم فعدوا على رجل صيرفي فنازعوه كيسه، فاستعان بالناس فخلص ماله منهم، وشكا أهل المدينة ذلك منهم، فلم ينكره ابن الربيع، ثم جاء رجلٌ من الجند فاشترى من جزار لحماً يوم جمعة ولم يعطه ثمنه وشهر عليه السيف، فضربه الجزار بشفرة في خاصرته فقتله، واجتمع الجزارون وتنادى السودان على الجند وهم يروحون إلى الجمعة فقتلوهم بالعمد، ونفخوا في بوق لهم، فسمعه السودان من العالية والسافلة فأقبلوا واجتمعوا، وكان رؤساؤهم ثلاثة نفر: وثيق، ويعقل، وزمعة، ولم يزالوا على ذلك من قتل الجند حتى أمسوا.
فلما كان الغد قصدوا ابن الربيع فهرب منهم وأتى بطن نخل على ليلتين من المدينة فنزل به، فانتهبوا طعاماً للمنصور وزيتاً وقسباً فباعوا حمل الدقيق بدرهمين، وراوية الزيت بأربعة دراهم.
وسار سليمان بن مليح ذلك اليوم إلى المنصور فأخبره.

وكان أبو بكر بن أبي سبرة في الحبس قد أخذ مع محمد بن عبد الله فضرب وحبس مقيداً، فلما كان من السودان ما كان خرج في حديده من الحبس فأتى المسجد فأرسل إلى محمد بن عمران ومحمد بن عبد العزيز وغيرهما فأحضرهم عنده فقال: أنشدكم الله وهذه البلية التي وقعت ! فوالله إن ثبتت علينا عند أمير المؤمنين بعد الفعلة الأولى إنه لهلاك البلد وأهله والعبيد في السوق بأجمعهم، فاذهبوا إليهم فكلموهم في الرجعة والعود إلى رأيكم فإنهم أخرجتهم الحمية. فذهبوا إلى العبيد فكلموهم، فقالوا: مرحباً بموالينا، والله ما قمنا إلا أنفةً مما عمل بكم، فأمرنا إليكم؛ فأقبلوا بهم إلى المسجد، فخطبهم ابن أبي سبرة وحثهم على الطاعة، فتراجعوا، ولم يصل الناس يومئذ جمعة؛ فلما كان وقت العشاء الآخرة لم يجب المؤذن أحد إلى الصلاة بهم، فقدم الأصبغ ابن سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان، فلما وقف للصلاة واستوت الصفوف أقبل عليهم بوجهه ونادى بأعلى صوته: أنا فلان بن فلان أصلي بالناس على طاعة أمير المؤمنين، يقول ذلك مرتين وثلاثاً، ثم تقدم فصلى بهم، فلما كان الغد قال لهم ابن أبي سبرة: إنكم قد كان منكم بالأمس ما قد علمتم ونهبتم طعام أمير المؤمنين، فلا يبقين عند أحد منه شيء إلا رده؛ فردوه؛ ورجع ابن الربيع من بطن نخل فقطع يد وثيق ويعقل وغيرهما.
ذكر بناء مدينة بغدادفيها ابتدأ المنصور في بناء مدينة بغداد.
وسبب ذلك أنه كان قد ابتنى الهاشمية بنواحي الكوفة، فلما ثارت الراوندية فيها كره سكانها لذلك ولجوار أهل الكوفة أيضاً، فإنه كان لا يأمن أهلها على نفسه، وكانوا قد أفسدوا جنده. فخرج بنفسه يرتاد له موضعاً يسكنه هو وجنده، فانحدر إلى جرجرايا، ثم أصعد إلى الموصل وسار نحو الجبل في طلب منزل يبني به. وكان قد تخلف بعض جنده بالمدائن لرمد لحقه، فسأله الطبيب الذي يعالجه عن سبب حركة المنصور، فأخبره، فقال: إنا نجد في كتاب عندنا أن رجلاً يدعى مقلاصاً يبني مدينة بين دجلة والصلاة تدعى الزوراء، فإذا أسسها وبنى بعضها أتاه فتقٌ من الحجاز فقطع بناءها وأصلح ذلك الفتق، ثم أتاه فتقٌ من البصرة أعظم منه فلا يلبث الفتقان أن يلتئما ثم يعود إلى بنائها فيتمه، ثم يعمر عمراً طويلاً ويبقى الملك في عقبه.
فقدم ذلك الجندي إلى عسكر المنصور وهو بنواحي الجبل فأخبره الخبر، فرجع وقال: إني أنا والله كنت أدعى مقلاصاً وأنا صبي ثم زال عني، وسار حتى نزل الدير الذي حذاء قصره المعروف بالخلد، ودعا بصاحب الدير وبالبطريق صاحب رحا البطريق وصاحب بغداد وصاحب المخرم وصاحب بستان النفس وصاحب العتيقة فسألهم عن مواضعهم وكيف هي في الحر والبرد والأمطار والوحول والبق والهوام، فأخبره كل منهم بما عنده، ووقع اختيارهم على صاحب بغداد، فأحضره وشاوره.
فقال: يا أمير المؤمنين سألتني عن هذه الأمكنة وما تختار منها، وإني أرى أن تنزل أربعة طساسيج في الجانب الغربي طسوجين وهما بقطريل وبادوريا، وفي الجانب الشرقي طسوجين وهما نهر بوق وكلواذى، فيكون بين نخل وقرب ماء، وإن أجدب طسوجٌ وتأخرت عمارته كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من الشام والرقة، والغرب في طوائف مصر، وتجيئك الميرة من الصين والهند والبصرة وواسط وديار بكر والروم والموصل وغيرها في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها في تامرا حتى يتصل بالزاب، فأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخربت بالقنطرة لم يصل إليك، ودجلة والفرات والصراة خنادق هذه المدينة، وأنت متوسط للبصرة والكوفة وواسط والموصل والسواد، وأنت قريب من البر والبحر والجبل. فازداد المنصور عزماً على النزول في ذلك الموضع.
وقيل: إن المنصور لما أراد أن يبني مدينته بغداد رأى راهباً فناداه، فأجابه، فقال: هل تجدون في كتبكم أنه يبني ها هنا مدينة ؟ قال: نعم يبنيها مقلاص. قال: فأنا كنت أدعى مقلاصاً في حداثتي. قال: فإذاً أنت صاحبها.

فابتدأ المنصور بعملها سنة خمس وأربعين، وكتب إلى الشام والجبل والكوفة وواسط والبصرة في معنى إنفاذ الصناع والفعلة، وأمر باختيار قوم من ذوي الفضل والعدالة والفقه، وأمر باختيار قوم من ذوي الأمانة والمعرفة بالهندسة، فكان ممن أحضر لذلك الحجاج بن أرطاة، وأبو حنيفة، وأمر فخطت المدينة وحفر الأساس وضرب اللبن وطبخ الآجر، فكان أول ما ابتدأ به منها أنه أمر بخطها بالرماد، فدخلها من أبوابها وفصلانها وطاقاتها ورحابها وهي مخطوطة بالرماد، ثم أمر أن يجعل على الرماد حب القطن ويشعل بالنار، ففعلوا، فنظر إليها وهي تشتعل ففهمها وعرف رسمها وأمر أن يحفر الأساس على ذلك الرسم، ووكل بها أربعة من القواد، كل قائد بربع، ووكل أبا حنيفة بعدد الآجر واللبن، وكان قبل ذلك قد أراد أبا حنيفة أن يتولى القضاء والمظالم، فلم يجب، فحلف المنصور أنه لا يقلع عنه أو يعمل له. فأجابه إلى أن ينظر في عمارة بغداد ويعد اللبن والآجر بالقصب، وهو أول من فعل ذلك.
وجعل المنصور عرض أساس السور من أسفله خمسين ذراعاً، ومن أعلاه عشرين ذراعاً، وجعل في البناء القصب والخشب، ووضع بيده أول لبنة، وقال: بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. ثم قال: ابنوا على بركة الله.
فلما بلغ السور مقدار قامة جاء الخبر بظهور محمد بن عبد الله، فقطع البناء ثم أقام بالكوفة حتى فرغ من حرب محمد وأخيه إبراهيم ثم رجع إلى بغداد فأتم وأقطع فيها القطائع لأصحابه.
وكان المنصور قد أعد جميع ما يحتاج إليه من بناء المدينة من خشب وساج وغير ذلك، واستخلف حين يشخص إلى الكوفة على إصلاح ما أعد أسلم مولاه، فبلغه أن إبراهيم قد هزم عسكر المنصور، فأحرق ما كان خلفه عليه المنصور، فبلغ المنصور ذلك فكتب إليه يلومه، فكتب إليه أسلم يخبره أنه خاف أن يظفر بهم إبراهيم فيأخذه، فلم يقل له شيئاً.
وسنذكر كيفية بنائها في سنة ست وأربعين إن شاء الله.
؟؟؟

ذكر ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن أخي محمد
فيها كان ظهور إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أخو محمد، المقدم ذكره، وكان قبل ظهوره قد طلب أشد الطلب، فحكت جاريةٌ له أنه لم تقرهم أرضٌ خمس سنين، مرةً بفارس ومرةً بكرمان ومرةً بالجبل ومرةً بالحجاز ومرةً باليمن ومرةً بالشام، ثم إنه قدم الموصل وقدمها المنصور في طلبه، فحكى إبراهيم قال: اضطرني الطلب بالموصل حتى جلست على مائدة المنصور ثم خرجت وقد كف الطلب؛ وكان قوم من أهل العسكر يتشيعون فكتبوا إلى إبراهيم يسألونه القدوم إليهم ليثبوا بالمنصور، فقدم عسكر أبي جعفر وهو ببغداد وقد خطها، وكانت له مرآة ينظر فيها فيرى عدوه من صديقه، فنظر فيها فقال: يا مسيب قد رأيت إبراهيم في عسكري وما في الأرض أعدى لي منه، فانظر أي رجل يكون.
ثم إن المنصور أمر ببناء قنطرة الصراة العتيقة، فخرج إبراهيم ينظر إليها مع الناس، فوقعت عليه عين المنصور، فجلس إبراهيم وذهب في الناس فأتى قامياً فلجأ إليه، فأصعده غرفة له، وجد المنصور في طلبه ووضع الرصد بكل مكان، فنشب إبراهيم مكانه، فقال له صاحبه سفيان بن حيان القمي: قد نزل بنا ما ترى ولا بد من المخاطرة. قال: فأنت وذاك. فأقبل سفيان إلى الربيع فسأله الإذن على المنصور، فأدخله عليه، فلما رآه شتمه، فقال: يا أمير المؤمنين أنا أهلٌ لما تقول، غير أني أتيتك تائباً ولك عند كل ما تحب، وأنا آتيك بإبراهيم بن عبد الله، إني قد بلوتهم فلم أجد فيهم خيراً، فاكتب لي جوازاً ولغلامٍ معي يحملني على البريد ووجه معي جنداً. فكتب له جوازاً ودفع إليه جنداً وقال: هذا ألف دينار فاستعن بها. قال: لا حاجة لي فيها، وأخذ منها ثلاثمائة دينار وأقبل والجند معه فدخل البيت، وعلى إبراهيم جبة صوف وقباءٌ كأقبية الغلمان، فصاح به، فوثب وجعل يأمره وينهاه، وسار على البريد.
وقيل: لم يركب البريد.

وسار حتى قدم المدائن، فمنعه صاحب القنطرة بها، فدفع جوازه إليه، فلما جازها قال له الموكل بالقنطرة: ما هذا غلام وإنه لإبراهيم بن عبد الله، اذهب راشداً، فأطلقهما، فركبا سفينة حتى قدما البصرة، فجعل يأتي بالجند الدار لها بابان فيقعد البعض منهم على أحد البابين ويقول: لا تبرحوا حتى آتيكم، فيخرج من الباب الآخر ويتركهم، حتى فرق الجند عن نفسه وبقى وحده.
وبلغ الخبر سفيان بن معاوية أمير البصرة، فأرسل إليهم فجمعهم، وطلب القمي فأعجزه، وكان إبراهيم قد قدم الاهواز قبل ذلك واختفى عند الحسن ابن خبيب، وكان محمد بن الحصين يطلبه، فقال يوماً: إن أمير المؤمنين كتب إلي يخبرني أن المنجمين أخبروه أن إبراهيم نازلٌ بالأهواز في جزيرة بين نهرين، وقد طلبته في الجزيرة وليس هناك، وقد عزم أن أطلبه غداً بالمدينة، لعل أمير المؤمنين يعني بقوله بين نهرين بين دجيل والمسرقان. فرجع الحسن بن خبيب إلى إبراهيم فأخبره وأخرجه إلى ظاهر البلد، ولم يطلبه محمد ذلك اليوم.
فلما كان آخر النهار خرج الحسن إلى إبراهيم فأدخله البلد، وهما على حمارين، وقت العشاء الآخرة، فلقيه أوائل خيل ابن الحصين، فنزل إبراهيم عن حماره كأنه يبول، فسأل ابن الحصين الحسن بن خبيب عن مجيئه، فقال: من عند بعض أهلي. فمضى وتركه. ورجع الحسن إلى إبراهيم فأركبه وأدخله إلى منزله، فقال له إبراهيم: والله لقد بلت دماً. قال: فأتيت الموضع فرأيته قد بال دماً.
ثم إن إبراهيم قدم البصرة، فقيل: قدمه سنة خمس وأربعين بعد ظهور أخيه محمد بالمدينة، وقيل: قدمها سنة ثلاث وأربعين ومائة، وكان الذي أقدمه وتولى كراه، في قول بعضهم، يحيى بن زياد بن حيان النبطي وأنزله في داره في بني ليث، وقيل: نزل في دار أبي فروة، ودعا الناس إلى بيعة أخيه؛ وكان أول من بايعه نميلة بن مرة العبشمي، وعفو الله بن سفيان، وعبد الواحد بن زياد، وعمرو بن سلمة الهجيمي، وعبد الله بن يحيى بن حصين الرقاشي، وندبوا الناس، فأجابهم المغيرة بن الفزع وأشباهٌ له، وأجابه أيضاً عيسى بن يونس، ومعاذ بن معاذ، وعباد بن العوام، وإسحاق بن يوسف الأزرق، ومعاوية بن هشيم بن بشير، وجماعة كثيرة من الفقهاء وأهل العلم، حتى أحصى ديوانه أربعة آلاف. وشهر أمره، فقالوا له: لو تحولت إلى وسط البصرة أتاك الناس وهم مستريحون. فتحول فنزل دار أبي مروان مولى بني سليم في مقبرة بني يشكر، وكان سفيان بن معاوية قد مالأ على أمره.
ولما ظهر أخوه محمد كتب إليه يأمره بالظهور، فوجم لذلك واغتم، فجعل بعض أصحابه يسهل عليه ذلك وقال له: قد اجتمع لك أمرك فتخرج إلى السجن فتكسره من الليل فتصبح وقد اجتمع لك عالمٌ من الناس. وطابت نفسه، وكان المنصور بظاهر الكوفة، كما تقدم، في قلةٍ من العساكر، وقد أرسل ثلاثةً من القواد إلى سفيان بن معاوية بالبصرة مدداً ليكونوا عوناً له على إبراهيم إن ظهر.
فلما أراد إبراهيم الظهور أرسل إلى سفيان فأعلمه، فجمع القواد عنده، وظهر إبراهيم أول شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة فغنم دواب أولئك الجند وصلى بالناس الصبح في الجامع وقصد دار الإمارة وبها سفيان متحصناً في جماعة فحصره، وطلب سفيان منه الأمان فآمنه إبراهيم ودخل الدار ففرشوا له حصيراً، فهبت الريح فقلبته قبل أن يجلس، فتطير الناس بذلك، فقال إبراهيم: إنا لا نتطير. وجلس عليه مقلوباً وحبس القواد وحبس أيضاً سفيان ابن معاوية في القصر وقيده بقيدٍ ليعلم المنصور أنه محبوس.
وبلغ جعفراً ومحمداً ابني سليمان بن علي ظهور إبراهيم، فأتيا في ستمائة رجل، فأرسل إليهما إبراهيم المضاء بن القاسم الجزري في خمسين رجلاً، فهزمهما، ونادى منادي إبراهيم: لا يتبع مهزوم ولا يذفف على جريح.
ومضى إبراهيم بنفسه إلى باب زينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وإليها ينسب الزينبيون من العباسيين، فنادى بالأمان وأن لا يعرض لهم أحد، فصفت له البصرة، ووجد في بيت مالها ألفي ألف درهم، فقوي بذلك وفرض لأصحابه لكل رجل خمسين خمسين.

فلما استقرت له البصرة أرسل المغيرة إلى الأهواز، فبلغها في مائتي رجل، وكان بها محمد بن الحصين عاملاً للمنصور، فخرج إليه في أربعة آلاف فالتقوا، فانهزم ابن الحصين ودخل المغيرة الأهواز، وقيل: إنما وجه المغيرة بعد مسيره إلى باخمرى، وسير إبراهيم إلى فارس عمرو بن شداد، فقدمها وبها إسماعيل وعبد الصمد ابنا علي بن عبد الله بن عباس، فبلغهما دنو عمرو وهما بإصطخر، فقصدا دار ابجرد فتحصنا بها، فصارت فارس في يد عمرو، وأرسل إبراهيم مروان بن سعيد العجلي في سبعة عشر ألفاً إلى واسط، وبها هارون بن حميد الإيادي من قبل المنصور، فملكها العجلي، وأرسل المنصور لحربه عامر بن إسماعيل المسلي في خمسة آلاف، وقيل: في عشرين ألفاً، فكانت بينهم وقعات ثم تهادنوا على ترك الحرب حتى ينظروا ما يكون من إبراهيم والمنصور، فلما قتل إبراهيم هرب مروان ابن سعيد عنهما فاختفى حتى مات.
فلم يزل إبراهيم بالبصرة يفرق العمال والجيوش حتى أتاه نعي أخيه محمد قبل عيد الفطر بثلاثة أيام، فخرج بالناس يوم العيد وفيه الانكسار فصلى بهم وأخبرهم بقتل محمد، فازدادوا في قتال المنصور بصيرةً، وأصبح من الغد فعسكر واستخلف على البصرة نميلة وخلف ابنه حسناً معه.
ذكر مسير إبراهيم وقتلهثم إن إبراهيم عزم على المسير، فأشار أصحابه البصريون أن تقيم وترسل الجنود، فيكون إذا انهزم لك جند أمددتهم بغيرهم فخيف مكانك واتقاك عدوك وجبيت الأموال وثبت وطأتك. فقال من عنده من أهل الكوفة: إن بالكوفة أقواماً لو رأوك ماتوا دونك، وإن لم يروك قعدت بهم أسباب شتى. فسار على البصرة إلى الكوفة.
وكان المنصور لما بلغه ظهور إبراهيم في قلة من العسكر قال: والله ما أدري كيف أصنع ! ما في عسكري إلا ألفا رجل، فرقت جندي: مع المهدي بالري ثلاثون ألفاً، ومع محمد بن الأشعث بإفريقية أربعون ألفاً، والباقون مع عيسى بن موسى، والله لئن سلمت من هذه لا يفارق عسكري ثلاثون ألفاً.
ثم كتب إلى عيسى بن موسى يأمره بالعود مسرعاً، فأتاه الكتاب وقد أحرم بعمرةٍ، فتركها وعاد. وكتب إلى سلم بن قتيبة فقدم عليه من الري، فقال له المنصور: اعمد إلى إبراهيم ولا يروعنك جمعه، فوالله إنهما جملا بني هاشم المقتولان ! فثق بما أقول. وضم إليه غيره من القواد. وكتب إلى المهدي يأمره بإنفاذ خزيمة بن خازم إلى الأهواز، فسيره في أربعة آلاف فارس، فوصلها وقاتل المغيرة، فرجع المغيرة إلى البصرة، واستباح خزيمة الأهواز ثلاثاً.
وتوالت على المنصور الفتوق من البصرة والأهواز وفارس وواسط والمدائن والسواد، وإلى جانبه أهل الكوفة في مائة ألف مقاتل ينتظرون به صيحةً، فلما توالت الأخبار عليه بذلك أنشد:
وجعلت نفسي للرماح دريئةً ... إنّ الرئيس لمثل ذاك فعول
ثم إنه رمى كل ناحية بحجرها، وبقي المنصور على مصلاه خمسين يوماً ينام عليه، وجلس عليه وعليه جبة ملونة قد اتسخ جيبها لا غيرها ولا هجر المصلى، إلا أنه كان إذا ظهر للناس لبس السواد فإذا فارقهم رجع إلى هيئته. وأهديت إليه امرأتان من المدينة، إحداهما فاطمة بنت محمد بن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، والأخرى أم الكريم ابنة عبد الله من ولد خالد بن أسيد، فلم ينظر إليهما، فقيل له: إنهما قد ساءت ظنونهما. فقال: ليست هذه أيام نساء ولا سبيل إليهما حتى أنظر رأس إبراهيم لي أو رأسي له.
قال الحجاج بن قتيبة: لما تتابعت الفتوق على المنصور دخلت مسلماً عليه وقد أتاه خبر البصرة والأهواز وفارس، وعساكر إبراهيم قد عظمت، وبالكوفة مائة ألف سيف بإزاء عسكره ينتظر صيحة واحدة فيثبون به، فرأيته أحوذياً مشمراً قد قام إلى ما نزل به من النوائب يعركها فقام بها ولم تقعد به نفسه، وإنه كما قال الأول:
نفس عصامٍ سوّدت عصاما ... وعلّمته الكرّ والإقداما
وصيّرته ملكاً هماما
ثم وجه المنصور إلى إبراهيم عيسى بن موسى في خمسة عشر ألفاً، وعلى مقدمته حميد بن قحطبة في ثلاثة آلاف، وقال له لما ودعه: إن هؤلاء الخبثاء، يعني المنجمين، يزعمون أنك إذا لاقيت إبراهيم يجول أصحابك جولةً حتى تلقاه ثم يرجعون إليك وتكون العاقبة لك.

ولما سار إبراهيم عن البصرة مشى ليلته في عسكره سراً فسمع أصوات الطنابير، ثم فعل ذلك مرة أخرى فسمعها أيضاً، فقال: ما أطمع في نصر عسكر فيه مثل هذا ! وسمع ينشد في طريقه أبيات القطامي:
أمورٌ لو يدبّرها حليمٌ ... إذاً لنهى وهيّب ما استطاعا
ومعصية الشقيق عليك ممّا ... يزيدك مرّة منه استماعا
وخير الأمر ما استقبلت منه ... وليس بأن تتبّعه اتّباعا
ولكنّ الأديم إذا تفرّى ... بلىً وتعيباً غلب الصّناعا
فعلموا أنه نادم على مسيره.
وكان ديوانه قد أحصى مائة ألف، وقيل: كان معه في طريقه عشرة آلاف، وقيل له في طريقه ليأخذ غير الوجه الذي فيه عيسى ويقصد الكوفة فإن المنصور لا يقوم له وينضاف أهل الكوفة إليه ولا يبقى للمنصور مرجع دون حلوان، فلم يفعل. فقيل له ليبيت عيسى. فقال: أكره البيات إلا بعد الإنذار. وقال بعض أهل الكوفة ليأمره بالمسير إليها ليدعو إليه الناس وقال: أدعوهم سراً ثم أجهر، فإذا سمع المنصور الهيعة بأرجاء الكوفة لم يرد وجهه شيء دون حلوان. فاستشار بشيراً الرحال فقال: لو وثقنا بالذي تقول لكان رأياً، ولكنا لا نأمن أن تجيئك منهم طائفة فيرسل إليهم المنصور الخيل فيأخذ البريء والصغير والمرأة فيكون ذلك تعرضاً للمأثم. فقال الكوفي: كأنكم خرجتم لقتال المنصور وأنتم تتقون قتل الضعيف والمرأة والصغير ! أولم يكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبعث سراياه ليقاتل ويكون نحو هذا ؟ فقال بشير: أولئك كفار وهؤلاء مسلمون.
وابتع إبراهيم رأيه وسرا حتى نزل باخمرى، وهي من الكوفة على ستة عشر فرسخاً، مقابل عيسى بن موسى، فأرسل إليه سلم بن قتيبة: إنك قد أصحرت ومثلك أنفس به عن الموت، فخندق على نفسك حتى لا تؤتى إلا من مأتى واحد، فإن أنت لم تفعل فقد أغرى أبو جعفر عسكره، فتخفف في طائفة حتى تأتيه فتأخذه بقفاه. فدعا إبراهيم أصحابه وعرض عليهم ذلك؛ فقالوا: نخندق على أنفسنا ونحن الظاهرون عليهم ! لا والله لا نفعل. قال: فنأتي أبا جعفر. قالوا: ولم وهو في أيدينا متى أردناه ؟ فقال إبراهيم للرسول: أتسمع ؟ فارجع راشداً.
ثم إنهم تصافوا، فصف إبراهيم أصحابه صفاً واحداً، فأشار عليه بعض أصحابه بأن يجعلهم كراديس، فإذا انهزم كردوس ثبت كردوس، فإن الصف إذا انهزم بعضه تداعى سائره. فقال الباقون: لا نصف إلا صف أهل الإسلام، يعني قول الله تعالى: " إنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ في سَبِيِلِهِ صَفّاً " الآية الصف: 4.
فاقتتل الناس قتالاً شديداً وانهزم حميد بن قحطبة وانهزم الناس معه، فعرض لهم عيسى يناشدهم الله والطاعة فلا يلوون عليه. فأقبل حميد منهزماً، فقال له عيسى: الله الله والطاعة ! فقال: لا طاعة في الهزيمة ! ومر الناس فلم يبق مع عيسى إلا نفر يسير، فقيل له: لو تنحيت عن مكانك حتى تؤوب إليك الناس فتكر بهم. فقال: لا أزول عن مكاني هذا أبداً حتى أقتل أو يفتح الله على يدي، والله لا ينظر أهل بيتي إلى وجهي أبداً وقد انهزمت عن عدوهم ! وجعل يقول لمن يمر به: أقريء أهل بيتي السلام وقل لهم لم أجد فداً أفديكم به أعز من نفسي وقد بذلتها دونكم ! فبيناهم على ذلك لا يلوي أحد على أحد إذ أتى جعفر ومحمد ابنا سليمان ابن علي من ظهور أصحاب إبراهيم، ولا يشعر باقي أصحابه الذين يتبعون المنهزمين حتى نظر بعضهم فرأى القتال من ورائهم فعطفوا نحوه، ورجع أصحاب المنصور يتبعونهم، فكانت الهزيمة على أصحاب إبراهيم، فلولا جعفر ومحمد لتمت الهزيمة، وكان من صنع الله للمنصور أن أصحابه لقيهم نهر في طريقهم فلم يقدروا على الوثوب ولم يجدوا مخاضة، فعادوا بأجمعهم، وكان أصحاب إبراهيم قد مخروا الماء ليكون قتالهم من وجه واحد، فلما انهزموا منعهم الماء من الفرار، وثبت إبراهيم في نفر من أصحابه يبلغون ستمائة، وقيل أربعمائة، وقاتلهم حميد وجعل يرسل بالرؤوس إلى عيسى، وجاء إبراهيم سهمٌ عائر فوقع في حلقه فنحره، فتنحى عن موقفه وقال: أنزلوني، فأنزلوه عن مركبه وهو يقول: " وَكَانَ أمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً " الأحزاب: 38، أردنا أمراً وأراد الله غيره.

واجتمع عليه أصحابه وخاصته يحمونه ويقاتلون دونه، فقال حميد بن قحطبة لأصحابه: شدوا على تلك الجماعة حتى تزيلوهم عن موضعهم وتعلموا ما اجتمعوا عليه؛ فشدوا عليهم فقاتلوهم أشد قتال حتى أفرجوهم عن إبراهيم ووصلوا إليه وحزوا رأسه فأتوا به عيسى، فأراه ابن أبي الكزام الجعفري فقال: نعم هذا رأسه. فنزل عيسى إلى الأرض فسجد وبعث برأسه إلى المنصور.
وكان قتله يوم الأثنين لخمس ليالٍ بقين من ذي القعدة سنة خمس وأربعين ومائة، وكان عمره ثمانياً وأربعين سنة، ومكث منذ خرج إلى أن قتل ثلاثة أشهر إلا خمسة أيام.
وقيل: كان سبب انهزام أصحابه أنهم لما هزموا أصحاب المنصور وتبعوهم ونادى منادي إبراهيم: ألا لا تتبعوا مدبراً ! فرجعوا، فلما رآهم أصحاب المنصور راجعين ظنوهم منهزمين فعطفوا في آثارهم، وكانت الهزيمة.
وبلغ المنصور الخبر بهزيمة أصحابه أولاً فعزم على إتيان الري، فأتاه نوبخت المنجم وقال: يا أمير المؤمنين الظفر لك وسيقتل إبراهيم ! فلم يقبل منه. فبينما هو كذلك إذ جاءه الخبر بقتل إبراهيم، فتمثل:
فألقت عصاها واستقرّ بها النّوى ... كما قرّ عيناً بالإياب المسافر
فأقطع المنصور نوبخت ألفي جريب بنهر حويزة.
وحمل رأس إبراهيم إلى المنصور فوضع بين يديه، فلما رآه بكى حتى خرجت دموعه على خد إبراهيم ثم قال: أما والله إني كنت لهذا كارهاً ! ولكنك ابتليت بي وابتليت بك ! ثم جلس مجلساً عاماً وأذن للناس. فكان الداخل يدخل فيتناول إبراهيم ويسيء القول فيه ويذكر فيه القبيح التماساً لرضاء المنصور، والمنصور ممسك متغير لونه، حتى دخل جعفر بن حنظلة الدارمي فوقف فسلم ثم قال: أعظم الله أجرك يا أمير المؤمنين في ابن عمك، وغفر له ما فرط فيه من حقك ! فأسفر لون المنصور وأقبل عليه وقال: يا أبا خالد مرحباً ها هنا ! فعلم الناس أن ذلك يرضيه، فقاتلوا مثل قوله.
وقيل: لما وضع الرأس بصق في وجهه رجل من الحرس، فأمر به المنصور فضرب بالعمد فهشمت أنفه ووجهه، وضرب حتى خمد، وأمر به فجروا رجله فألقوه خارج الباب.
وقي: ونظر المنصور إلى سفيان بن معاوية بعد مدة راكباً فقال: لله العجب كيف يفلتني ابن الفاعلة ! انقضى أمر إبراهيم رضي الله عنه.
ذكر عدة حوادثوفيها خرجت الترك والخزر بباب الأبواب فقتلوا من المسلمين بأرمينية جماعة كثيرة.
وحج بالناس هذه السنة السري بن عبد الله بن الحارث بن العباس، وكان على مكة، وكان على المدينة عبد الله بن الربيع، وعلى الكوفة عيسى بن موسى، وعلى البصرة سلم بن قتيبة الباهلي، وعلى قضائها عباد بن منصور، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
وفيها عزل المنصور مالك بن الهيثم عن الموصل بابنه جعفر بن أبي جعفر المنصور وسير معه حرب بن عبد الله، وهو من أكابر قواده، وهو صاحب الحربية ببغداد، وبنى بأسفل الموصل قصراً وسكنه، فهو يعرف إلى اليوم بقصر حرب، وفيه ولدت زبيدة بنت جعفر زوجة الرشيد، وعنده يومنا هذا قرية كانت ملكاً لنا فبنينا فيها رباطاً للصوفية وقفنا القرية عليه، قد جمعت كثيراً من هذا الكتاب في هذه القرية في دار لنا بها، وهي من أنزه المواضع وأحسنها، وأثر القصر باقٍ بها إلى الآن. سبحان من لا يزول ولا تغيره الدهور.
وفيها مات عمرو بن ميمون بن مهران. والحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، وكان موته في حبس المنصور، لأنه أخذه من المدينة، كما ذكرناه، وهو عم محمد وإبراهيم. وفيها مات عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، ويحيى بن الحارث الذماري، وله سبعون سنة. وإسماعيل بن أبي خالد البجلي، وحبيب بن الشهيد مولى الأزد، وكنيته أبو شهيد.
ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائة

ذكر انتقال المنصور إلى بغداد
وكيفية بنائها
وفيها، في صفر، تحول المنصور من مدينة ابن هبيرة إلى بغداد وبنى مدينتها، وقد ذكرنا في سنة خمس وأربعين ومائة السبب الباعث للمنصور على بناء مدينة بغداد، ونذكر الآن بناءها.

ولما عزم المنصور على بناء بغداد شاور أصحابه، وكان فيهم خالد بن برمك، فأشار أيضاً بذلك، وهو خطها، فاستشاره في نقض المدائن وإيوان كسرى ونقل نقضها إلى بغداد، فقال: لا أرى ذلك، لأنه علم من أعلام الإسلام يستدل به الناظر على أنه لم يكن ليزال مثل أصحابه عنه بأمر الدنيا، وإنما هو على أمر دين، ومع هذا ففيه مصلى علي بن أبي طالب. قال المنصور: لا، أبيت يا خالد إلا الميل إلى أصحابك العجم ! وأمر بنقض القصر الأبيض، فنقضت ناحية منه وحمل نقضه، فنظر، فكان مقدار ما يلزمهم له أكثر من ثمن الحديد. فدعا خالد بن برمك فأعلمه ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين قد كنت أرى أن لا تفعل، فأما إذ فعلت فإني أرى أن تهدم لئلا يقال إنك عجزت عن هدم ما بناه غيرك. فأعرض عنه وترك هدمه.
ونقل أبواب مدينة واسط فجعلها على بغداد، وباباً جيء به من الشام، وباباً آخر جيء به من الكوفة كان عمله خالد بن عبد الله القسري؛ وجعل المدينة مدورةً لئلا يكون بعض الناس أقرب إلى السلطان من بعض، وعمل لها سورين، السور الداخل أعلى من الخارج، وبنى قصره في وسطها، والمسجد الجامع بجانب القصر، وكان الحجاج بن أرطأة هو الذي خط المسجد وقبلته غير مستقيمة يحتاج المصلي أن ينحرف إلى باب البصرة لأنه وضع بعد القصر، وكان القصر غير مستقيم على القبلة.
وكان اللبن الذي يبنى به ذراعاً في ذراع، ووزن بعضها لما نقض، وكان وزن لبنة منه مائة رطل وستة عشر رطلاً، وكانت مقاصير جماعة من قواد المنصور وكتابه تشرع أبوابها إلى رحبة الجامع، فطلب إليه عمه عيسى ابن علي أن يأذن له في الركوب من باب الرحبة إلى القصر لضعفه، فلم يأذن له، قال: فاحسبني راوية، فأمر الناس بإخراج أبوابهم من الرحبة إلى فصلان الطاقات.
وكانت الأسواق في المدينة، فجاء رسول الله لملك الروم، فأمر الربيع فطاف به في المدينة، فقال: كيف رأيت ؟ قال: رأيت بناء حسناً إلا أني رأيت أعداءك معك وهم السوقة. فلما عاد الرسول عنه أمر بإخراجهم إلى ناحية الكرخ.
وقيل: إنما أخرجهم لأن الغرباء يطرقونها ويبيتون فيها وربما كان فيهم الجاسوس.
وقيل: إن المنصور كان يتبع من خرج مع إبراهيم بن عبد الله، وكان أبو زكرياء يحيى بن عبد الله، محتسب بغداد، له مع إبراهيم ميل، فجمع جماعةً من السفلة فشغبوا على المنصور، فسكنهم وأخذ أبا زكرياء فقتله وأخرج الأسواق، فكلم في بقال، فأمر أن يجعل في كل ربع بقال يبيع البقل والخل حسب.
وجعل الطريق أربعين ذراعاً.
وكان مقدار النفقة على بنائها وبناء المسجد والقصر والأسواق والفصلان والخنادق وأبوابها أربعة آلاف ألف وثمانمائة وثلاثة درهماً.
وكان الأستاذ من البنائين يعمل يومه بقيراط فضة، والروزكاري بحبتين، وحاسب القواد عند الفراغ منها فألزم كلاً منهم بما بقي عنده فأخذه، حتى إن خالد بن الصلت بقي عليه خمسة عشر درهماً فحبسه وأخذها منه.
ذكر خروج العلاء بالأندلسوفيها سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى مدينة بناحية من الأندلس ولبس السواد وقام بالدولة العباسية وخطب للمنصور، واجتمع إليه خلقٌ كثير، فخرج إليه الأمير عبد الرحمن الأموي، فالتقيا بنواحي إشبيلية، ثم تحاربا أياماً، فانهزم العلاء وأصحابه، وقتل منهم في المعركة سبعة آلاف، وقتل العلاء، وأمر بعض التجار بحمل رأسه ورؤوس جماعة من مشاهير أصحابه إلى القيروان وإلقائها بالسوق سراً، ففعل ذلك، ثم حمل منها شيء إلى مكة، فوصلت وكان بها المنصور، وكان مع الرؤوس لواء أسود وكتاب كتبه المنصور للعلاء.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل سلم بن قتيبة عن البصرة.
وكان سبب عزله أن المنصور كتب إليه يأمره بهدم دور من خرج مع إبراهيم وبعقر نخلهم؛ فكتب سلم: بأي ذلك أبدأ، بالدور أم بالنخل ؟ فأنكر المنصور ذلك عليه وعزله واستعمل محمد بن سليمان، فعاث بالبصرة وهدم دار أبي مروان، ودار عون بن مالك، ودار عبد الواحد بن زياد وغيرهم.
وغزا الصائفة هذه السنة جعفر بن حنظلة البهراني.
وفيها عزل عن المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي، وولي مكانه جعفر بن سليمان، فقدمها في ربيع الأول. وفيها عزل عن مكة السري بن عبد الله ووليها عبد الصمد بن علي.
وحج بالناس هذه السنة عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام.

وفيها مات هشام بن عروة بن الزبير، وقيل سنة سبع وأربعين في شعبان. وعوف الأعرابي. وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التميمي الكوفي.
وفيها غزا مالك بن عبد الله الخثعمي، الذي يقال له مالك الصوائف، وهو من أهل فلسطين، بلاد الروم فغنم غنائم كثيرة ثم قفل، فلما كان من درب الحدث على خمسة عشر ميلاً بموضع يدعى الرهوة نزل بها ثلاثاً وباع الغنائم وقسم سهام الغنيمة، فسميت تلك الرهوة رهوة مالك.
وفيها توفي ابن السائب الكلبي النسابة.
ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

ذكر قتل حرب بن عبد الله
فيها أغار أسترخان الخوارزمي في جمع من الترك على المسلمين بناحية أرمينية وسبى من المسلمين وأهل الذمة خلقاً ودخلوا تفليس، وكان حرب مقيماً بالموصل في ألفين من الجند لمكان الخوارج الذين بالجزية، وسير المنصور إلى محاربة الترك جبرائيل بن يحيى وحرب بن عبد الله، فقاتلوهم، فهزم جبرائيل وقتل حرب، وقتل من أصحاب جبرائيل خلقٌ كثير.
ذكر البيعة للمهدي وخلع عيسى بن موسىوفيها خلع عيسى بن موسى بن محمد بن علي من ولاية العهد وبويع للمهدي محمد بن المنصور.
وقد اختلف في السبب الذي خلع لأجله نفسه، فقيل: إن عيسى لم يزل على ولاية العهد وإمارة الكوفة ومن أيام السفاح إلى الآن، فلما كبر المهدي وعزم المنصور على البيعة له كلم عيسى بن موسى في ذلك، وكان يكرمه ويجلسه عن يمينه ويجلس المهدي عن يساره، فلما قال له المنصور في معنى خلع نفسه وتقديم المهدي عليه أبى وقال: يا أمير المؤمنين كيف بالأيمان علي وعلى المسلمين من العتق والطلاق وغير ذلك ؟ ليس إلى الخلع سبيل ! فتغير المنصور عليه وباعده بعض المباعدة وصار يأذن للمهدي قبله، وكان يجلس عن يمينه في مجلس عيسى ثم يؤذن لعيسى فيدخل فيجلس إلى جانب المهدي، ولم يجلس عن يسار المنصور، فاغتاظ منه ثم صار يأذن للمهدي ولعمه عيسى بن علي، ثم لعبد الصمد بن علي، ثم لعيسى بن موسى، وربما قدم وأخر، إلا أنه يبدأ بالإذن للمهدي على كل حال.
وتوهم عيسى أنه يقدم إذنهم لحاجةٍ له إليهم، وعيسى صامت لا يشكو، ثم صار حال عيسى إلى أعظم من ذلك، فكان يكون في المجلس معه بعض ولده فيسمع الحفر في أصل الحائط وينثر عليه التراب وينظر إلى الخشبة من السقف قد حفر عن أحد طرفيها لتقلع فيسقط التراب على قلنسوته وثيابه فيأمر من معه من ولده بالتحول ويقوم هو يصلي ثم يؤذن له فيدخل بهيئته والتراب على رأسه وثيابه لا ينفضه، فيقول له المنصور: يا عيسى ما يدخل علي أحد بمثل هيئتك من كثرة الغبار والتراب ! أفكل هذا من الشارع ؟ فيقول: أحسب ذلك يا أمير المؤمنين، ولا يشكو شيئاً.
وكان المنصور يرسل إليه عمه عيسى بن علي في ذلك، فكان عيسى بن موسى لا يؤثره ويتهمه. فقيل: إن المنصور أمر أن يسقى عيسى بن موسى بعض ما يتلفه فوجد الماء في بطنه فاستأذن في العود إلى بيته بالكوفة، فأذن له، فمرض من ذلك واشتد مرضه ثم عوفي بعد أن أشفى.
وقال عيسى بن علي للمنصور: إن ابن موسى إنما يتربص بالخلافة لابنه موسى فابنه الذي يمنعه، فقال له: خوفه وتهدده، فكلمه عيسى بن علي في ذلك وخوفه، فخاف موسى بن عيسى وأتى العباس بن محمد فقال: يا عم إني أرى ما يسام أبي من إخراج هذا الأمر عن عنقه وهو يؤذى بصنوف الأذى والمكروه، فهو يهدد مرة، ويؤخر إذن مرة، ويهدم عليه الحيطان مرة، وتدس إليه الحتوف مرة، وأبي لا يعطي على ذلك شيئاً ولا يكون ذلك أبداً، ولكن ها هنا طريق لعله يعطي عليها وإلا فلا، قال: وما هو ؟ قال: يقبل عليه أمير المؤمنين وأنا شاهد فيقول له: إني أعلم أنك لا تبخل بهذا الأمر عن المهدي لنفسك لكبر سنك وأنه لا تطول مدتك فيه، وإنما تبخل به لإبنك، أفتراني أدع ابنك يبقى بعدك حتى يلي على ابني ؟ كلا والله لا يكون ذلك أبداً، ولأثبن على ابنك تنظر حتى تيأس منه. فإن فعل ذلك فلعله أن يجيب إلى ما يراد منه.

فجاء العباس إلى المنصور وأخبره بذلك، فلما اجتمعوا عنده قال ذلك، وكان عيسى بن علي حاضراً، فقام ليبول، فأمر عيسى بن موسى ابنه موسى ليقوم معه يجمع عليه ثيابه، فقام معه، فقال له عيسى بن علي: بأبي أنت وبأبي أبٌ ولدك ! والله إني لأعلم أنه لا خير في هذا الأمر بعدكما، وإنكما لأحق به، ولكن المرء مغرىً بما تعجل، فقال موسى في نفسه: امكنني هذا والله من مقاتله وهو الذي يغري بأبي، والله لأقتلنه ! فلما رجعا قال موسى لأبيه ذلك سراً، فاستأذنه في أن يقول للمنصور ما سمع منه، فقال له أبوه: أف لهذا رأياً ومذهباً ! ائتمنك عمك على مقالة أراد أن يسرك بها فجعلتها سبباً لمكروهه، لا يسمعن هذا أحد، ارجع إلى مكانك.
فلما رجع إلى مكانه أمر المنصور الربيع فقام إلى موسى فخنقه بحمائله، وموسى يصيح: الله الله في دمي يا أمير المؤمنين ! وما يبالي عيسى أن تقتلني وله بضعة عشر ذكراً، والمنصور يقول: يا ربيع أزهق نفسه، والربيع يوهم أنه يريد تلفه وهو يرفق به وموسى يصيح. فلما رأى ذلك أبوه قال: والله يا أمير المؤمنين ما كنت أظن أن الأمر يبلغ منك هذا كله ! فاكفف عنه، فها أنا ذا أشهدك أن نسائي طوالق ومماليكي أحرار وما أملك في سبيل الله تصرف ذلك في من رأيت يا أمير المؤمنين ! وهذه يدي بالبيعة للمهدي. فبايعه للمهدي. ثم جعل عيسى بن موسى بعد المهدي.
فقال بعض أهل الكوفة: هذا الذي كان غداً فصار بعد غد.
وقيل: إن المنصور وضع الجند وكانوا يسمعون عيسى بن موسى ما يكره، فشكا ذلك من فعلهم، فنهاهم المنصور عنه، وكانوا يكفون ثم يعودون، ثم إنهما تكاتبا مكاتبات أغضبت المنصور، وعاد الجند معه لأشد ما كانوا، منهم: أسد بن المرزبان، وعقبة بن سلم، ونصر بن حرب بن عبد الله، وغيرهم، فكانوا يمنعون من الدخول عليه ويسمعونه، فشكاهم إلى المنصور، فقال له: يا بن أخي أنا والله أخافهم عليك وعلى نفسي، فإنهم يحبون هذا الفتى، فلو قدمته بين يديك لكفوا. فأجاب عيسى إلى ذلك.
وقيل: إن المنصور استشار خالد بن برمك في ذلك وبعثه إلى عيسى، فأخذ معه ثلاثين من كبار شيعة المنصور ممن يختارهم وقال لعيسى في أمر البيعة، فامتنع، فرجعوا إلى المنصور وشهدوا على عيسى أنه خلع نفسه فبايع للمهدي، وجاء عيسى فأنكر ذلك فلم يسمع منه، وشكر لخالد صنيعه.
وقيل: بل اشترى المنصور منه ذلك بمال قدره أحد عشر ألف ألف درهم له ولأولاده وأشهد على نفسه بالخلع.
وكانت مدة ولاية عيسى بن موسى الكوفة ثلاث عشرة سنةً، وعزله المنصور واستعمل محمد بن سليمان بن علي عليها ليؤذي عيسى ويستخف به، فلم يفعل ولم يزل معظماً له مبجلاً.
ذكر موت عبد الله بن عليوكان المنصور قد أحضر عيسى بن موسى بعد أن خلع نفسه وسلم إليه عمه عبد الله بن علي وأمره بقتله، وقال له: إن الخلافة صائرةٌ إليك بعد المهدي فاضرب عنقه، وإياك أن تضعف فتنقض علي أمري الذي دبرته؛ ثم مضى إلى مكة وكتب إلى عيسى من الطريق يستعلم منه ما فعل في الأمر الذي أمره، فكتب عيسى في الجواب: قد أنفذت ما أمرت به؛ فلم يشك أنه قتله.
وكان عيسى حين أخذ عبد الله من عند المنصور دعا كاتبه يونس بن فروة وأخبره الخبر، فقال: أراد أن تقتله ثم يقتله لأنه أمر بقتله سراً ثم يدعيه عليك علانيةً، فلا تقتله ولا تدفعه إليه سراً أبداً واكتم أمره. ففعل ذلك عيسى.
فلما قدم المنصور وضع على أعمامه من يحركهم على الشفاعة في أخيهم عبد الله، ففعلوا وشفعوا، فشفعهم وقال لعيسى: إني كنت دفعت إليك عمي وعمك عبد الله ليكون في منزلك، وقد كلمني عمومتك فيه، وقد صفحت عنه فأتنا به.

قال: يا أمير المؤمنين أل تأمرني بقتله ؟ فقتلته ! قال: ما أمرتك ! قال: بلى أمرتني. قال: ما أمرتك إلا بحبسه وقد كذبت ! ثم قال المنصور لعمومته: إن هذا قد أقر لكم بقتل أخيكم، قالوا: فادفعه إلينا نقيده به. فسلمه إليهم، وخرجوا به إلى الرحبة، واجتمع الناس وشهر الأمر، وقام أحدهم ليقتله، فقال له عيسى: أفاعل أنت ؟ قال: إي والله ! قال: ردوني إلى أمير المؤمنين. فردوه إليه. فقال له: إنما أردت بقتله أن تقتلني. هذا عك حي سوي. قال: ائتنا به. فأتاه به. قال: يدخل حتى أرى رأيي؛ ثم انصرفوا، ثم أمر به فجعل في بيت أساسه ملح وأجرى الماء في أساسه فسقط عليه، فمات فدفن في مقابر باب الشام، فكان أول من دفن فيها؛ وكان عمره اثنتين وخمسين سنة.
قيل: ركب المنصور يوماً ومعه ابن عياش المنتوف، فقال له المنصور: تعرف ثلاثة خلفاء أسماؤهم على العين قتلت ثلاثة خوارج مبدأ أسمائهم على العين ؟ قال: لا أعرف إلا ما يقول العامة: إن علياً قتل عثمان، وكذبوا؛ وعبد الملك قتل عبد الرحمن بن الأشعث؛ وعبد الله بن الزبير قتل عمرو ابن سعيد؛ وعبد الله بن علي سقط عليه البيت. فقال المنصور: إذا سقط عليه فما ذنبي أنا ؟ قال: ما قلت إن لك ذنباً.
قوله: ابن الزبير قتل عمرو بن سعيد ليس بصحيح، إنما قتله عبد الملك.
عياش بالياء المثناة من تحت، والشين المعجمة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولى المنصور محمداً ابن أخيه أبي العباس السفاح، البصرة، فاستعفى منها، فأعفاه، فانصرف إلى بغداد واستخلف بها نخبة بن سالم، فأقره المنصور عليها، فلما رجع إلى بغداد مات بها.
وحج بالناس هذه السنة المنصور، وكان عامله على مكة والطائف عمه عبد الصمد بن علي، وعلى المدينة جعفر بن سليمان، وعلى مصر يزيد بن حاتم المهلبي.
وفيها أغزى عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس مولاه بدراً، وتمام ابن علقمة طليطلة، وبها هاشم بن عذرة، وضيقا عليه، ثم أسراه هو وحياة ابن الوليد اليحصبي وعثمان بن حمزة بن عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وأتيا بهم إلى عبد الرحمن في جباب صوف وقد حلقت رؤوسهم ولحاهم وقد أركبوا الحير وهم في السلاسل، ثم صلبوا بقرطبة.
وفيها قدم رسول عبد الرحمن الذي أرسله إلى الشام في إحضار ولده الأكبر سليمان فحضر وسليمان معه، وكان قد ولد لعبد الرحمن بالأندلس ولد هشام، فقدمه الأمير عبد الرحمن على سليمان، فحصل بينهما حقدٌ وغل أوجبا ما نذكره فيما بعد.
وفيها تناثرت النجوم.
وفيها مات أشعث بن عبد الملك الحمراني البصري. وهشام بن حسان مولى لعتيك، وقيل: مات سنة ثمان وأربعين. وعبد الرحمن بن زبيد بن الحارث اليامي أبو الأشعث الكوفي.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائة

ذكر خروج حسان بن مجالد
وفيها خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني. ومالك هذا هو أخو مسروق بن الأجدع. وكان خروجه بنواحي الموصل بقرية تسمى بافخارى قريب من الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكر الموصل، وعليها الصقر بن نجدة، وكان قد وليها بعد حرب بن عبد الله، فالتقوا واقتتلوا وانهزم عسكر الموصل على الجسر، وأحرق الخوارج أصحاب حسان السوق هناك ونهبوه.
ثم إن حسان سار إلى الرقة ومنها إلى البحر ودخل إلى بلد السند، وكانت الخوارج من أهل عمان يدخلونهم ويدعونهم، فاستأذنهم في المصير إليهم، فلم يجيبوه، فعاد إلى الموصل، فخرج إليه الصقر أيضاً والحسن بن صالح بن حسان الهمداني وبلال القيسي، فالتقوا فانهزم الصقر وأسر الحسن بن صالح وبلال، فقتل حسان بلالاً واستبقى الحسن لأنه من همدان، ففارقه بعض أصحابه لهذا.
وكان حسان قد أخذ رأي الخوارج عن خاله حفص بن أشيم، وكان من علماء الخوارج وفقهائهم.

ولما بلغ المنصور خروج حسان قال: خارجي من همدان ؟ قالوا: إنه ابن أخت حفص بن أشيم. فقال: فمن هناك ؟ وإنما انكر المنصور ذلك لأن عامة همدان شيعة لعلي، وعزم المنصور على إنفاذ الجيوش إلى الموصل والفتك بأهلها، فأحضر أبا حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وقال لهم: إن أهل الموصل شرطوا إلي أنهم لا يخرجون علي، فإن فعلوا حلت دماؤهم وأموالهم، وقد خرجوا. فسكت أبو حنيفة وتكلم الرجلان وقالا: رعيتك، فإن عفوت فأهل ذلك أنت، وإن عاقبت فبما يستحقون. فقال لأبي حنيفة: أراك سكت يا شيخ ؟ فقال: يا أمير المؤمنين أباحوك ما لا يملكون أرأيت لو أن امرأة أباحت فرجها بغير عقد نكاح وملك يمين أكان يجوز أن توطأ ؟ قال: لا ! وكف عن أهل الموصل وأمر أبا حنيفة وصاحبيه بالعود إلى الكوفة.
ذكر استعمال خالد بن برمكوفيها استعمل المنصور على الموصل خالد بن برمك وسبب ذلك أنه بلغه انتشار الأكراد بولايتها وإفسادهم، فقال: من لها ؟ فقالوا: المسيب بن زهير، فأشار عمارة بن غمرة بخالد بن برمك، فولاه وسيره إليها وأحسن الناس وقهر المفسدين وكفهم، وهابه أهل البلد هيبةً شديدة مع إحسانه إليهم.
وفيها ولد الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك لسبع بقين من ذي الحجة قبل أن يولد الرشيد بن المهدي بسبعة أيام، فأرضعته الخيزران أم الرشيد بلبن ابنها، فكان الفضل بن يحيى أخا الرشيد من الرضاعة؛ ولذلك يقول سلم الخاسر:
أصبح الفضل والخليفة هارو ... ن رضيعي لبان خير النساء
وقال أبو الجنوب:
كفى لك فضلاً أنّ أفضل خرّةٍ ... غذتك بثديٍ والخليفة واحد
ذكر ولاية الأغلب بن سالم إفريقيةلما بلغ المنصور خروج محمد بن الأشعث من إفريقية بعث إلى الأغلب ابن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي عهداً بولاية إفريقية. وكان هذا الأغلب ممن قام مع أبي مسلم الخراساني وقدم إفريقية مع محمد بن الأشعث؛ فلما أتاه العهد القيروان في جمادى الآخرة سنة ثمانٍ وأربعين ومائة وأخرج جماعةً من قواد المضرية وسكن الناس.
وخرج عليه أبو قرة في جمعٍ كثير من البربر، فسار إليه الأغلب، فهرب أبو قرة من غير قتال، وسار الأغلب يريد طنجة، فاشتد ذلك على الجند وكرهوا المسير وتسللوا عنه إلى القيروان، فلم يبق معه إلا نفر يسي.
وكان الحسن بن حرب الكندي بمدينة تونس، وكاتب الجند ودعاهم إلى نفسه، فأجابوه، فسار حتى دخل القيروان من غير مانع.
وبلغ الأغلب الخبر فعاد مجداً، فقال له بعض أصحابه: ليس من الرأي أن تعدل إلى لقاء العدو في هذه العدة القليلة، ولكن الرأي أن تعدل إلى قابس، فإن أكثر من معه يجيء إليك لأنهم كرهوا المسير إلى طنجة لا غير وتقوى بهم وتقاتل عدوك. ففعل ذلك وكثر جمعه وسار إلى الحسن بن حرب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الحسن وقتل من أصحابه جمع كثير، ومضى الحسن إلى تونس في جمادى الآخرة سنة خمسين ومائة، ودخل الأغلب القيروان.
وحشد الحسن وجمع فصار في عدة عظيمة، فقصد الأغلب، فخرج إليه الأغلب من القيروان، فالتقوا واقتتلوا، فأصاب الأغلب سهمٌ فقتله، وثبت أصحابه، فتقدم عليهم المخارق بن غفار، فحمل المخارق على الحسن، وكان في ميمنة الأغلب، فهزمه، فمضى منهزماً إلى تونس في شعبان سنة خمسين ومائة، وولي المخارق إفريقية في رمضان، ووجه الخيل في طلب الحسن، فهرب الحسن من تونس إلى كنايه فأقام شهرين، ثم رجع إلى تونس، فخرج إليه من بها من الجند فقتلوه.
وقد قيل: إن الحسن قتل بعد قتل الأغلب، لأن أصحاب الأغلب ثبتوا بعد قتله في المعركة، فقتل الحسن بن حرب أيضاً وولى أصحابه منهزمين، وصلب الحسن، ودفن الأغلب وسمي الشهيد، وكانت هذه الوقعة في شعبان سنة خمسين ومائة.
ذكر الفتن بالأندلسفي هذه السنة خرج سعيد اليحصبي المعروف بالمطري بالأندلس بمدينة لبلة.

وسبب ذلك أنه سكر يوماً فتذكر من قتل من أصحابه اليمانية مع العلاء، وقد ذكرناه، فعقد لواء، فلما صحا رآه معقوداً فسأل عنه فأخبر به، فأراد حله ثم قال: ما كنت لأعقد لواء ثم أحله بغير شيء ؟! وشرع في الخلاف، فاجتمعت اليمانية إليه وقصد إشبيلية وتغلب عليها وكثر جمعه، فبادره عبد الرحمن صاحب الأندلس في جموعه، فامتنع المطري في قلعة زعواق لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، فحصره عبد الرحمن فيها وضيق عليه ومنع أهل الخلاف من الوصول إليه.
وكان قد وافقه على الخلاف غياث بن علقمة اللخمي، وكان بمدينة شذونة، وقد انضاف إليه جماعةٌ من رؤساء القبائل يريدون إمداد الطري، وهم في جمع كثير.
فلما سمع عبد الرحمن ذلك سير إليهم بدراً مولاه في جيش، فحال بينهم وبين الوصول إلى المطري، فطال الحصار عليه وقلت رجاله بالقتل، ففارقه بعضهم، فخرج يوماً من القلعة وقاتل فقتل وحمل رأسه إلى عبد الرحمن.
فقدم أهل القلعة عليهم خليفة بن مروان، فدام الحصار عليهم، فأرسل أهلها يطلبون الأمان من عبد الرحمن ليسلموا إليه خليفة، فأجابهم إلى ذلك وآمنهم، فسلموا إليه الحصن وخليفة، فخرب الحصن وقتل خليفة ومن معه، ثم انتقل إلى غياث، وكان موافقاً للمطري على الخلاف، فحصرهم وضيق عليهم، فطلبوا الأمان فآمنهم إلا نفراً كان يعرف كراهتهم لدولته، فإنه قبض عليهم، وعاد إلى قرطبة، فلما عاد إليها خرج عليه عبد الله بن خراشة الأسدي بكورة جيان، فاجتمعت إليه جموعٌ، فأغار على قرطبة، فسير إليه عبد الرحمن جيشاً، فتفرق جمعه، فطلب الأمان، فبذله له عبد الرحمن ووفى له.
ذكر عدة حوادثوفيها عسكر صالح بن علي بدابق ولم يغز.
وحج بالناس أبو جعفر المنصور، وكان ولاة الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات سليمان بن مهران الأعمش، وكان مولده سنة ستين. وفيها مات جعفر بن محمد الصادق وقبره بالمدينة يزال، وهو وأبوه وجده في قبر واحد مع الحسن بن علي بن أبي طالب. وفيها مات زكرياء بن أبي زائدة. وأبو أمية عمرو بن الحارث بن يعقوب مولى قيس بن سعد بن عبادة، وقيل غير ذلك، وكان مولده سنة تسعين. وعبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان، ويقال مولى تميم، وهو ثقة. ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى القاضي. ومحمد ابن الوليد الزبيدي. ومحمد بن عجلان المدني. وعوام بن حوشب بن يزيد ابن رويم الشيباني الواسطي. ويحيى بن أبي عمرو السيباني، من أهل الرملة.
سيبان بالسين المهملة، ثم بالياء المثناة من تحت، ثم بالباء الموحدة: بطن من حمير.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين ومائةوفيها غزا العباس بن محمد الصائفة أرض الروم ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، فمات محمد في الطريق.
وفيها استتم المنصور بناء سور بغداد وخندقها وفرغ من جميع أمورها وسار إلى حديثة الموصل ثم عاد.
وحج بالناس محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. وفيها عزل عبد الصمد بن علي على مكة في قول بعضهم، واستعمل محمد بن إبراهيم. وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم سوى مكة والطائف.
وفيها أغزى عبد الرحمن صاحب الأندلس بدراً مولاه إلى بلاد العدو فجاوز إليه وأخذ جزيتها. وكان أبو الصباح حي بن يحيى على إشبيلية فعزله فدعا إلى الخلاف، فأنفذ إليه عبد الرحمن وخدعه حتى حضر عنده فقتله.
وفيها مات سلم بن قتيبة الباهلي بالري، وكان مشهوراً عظيم القدر. وكهمس بن الحسن أبو الحسن التميمي البصري. وفيها توفي عيسى بن عمر الثقفي النحوي المشهور، وعنه أخذ الخليل النحو، وله فيه تصنيف.
ثم دخلت سنة خمسين ومائة

ذكر خروج أستاذ سيس
وفيها خرج أستاذ سيس في أهل هراة وباذغيس وسجستان وغيرها من خراسان، وكان فيما قيل في ثلاثمائة ألف مقاتل، فغلبوا على عامة خراسان، وساروا حتى التقوا هم وأهل مرو الروذ، فخرج إليهم الأجشم المروروذي في أهل مرو الروذ فقاتلوه قتالاً شديداً، فقتل الأجشم وكثر القتل في أصحابه وهزم عدة من القواد، منهم: معاذ بن مسلم، وجبرائيل بن يحيى، وحماد ابن عمرو، وأبو النجم السجستاني، وداود بن كرار.

ووجه المنصور، وهو بالرذان، خازم بن خزيمة إلى المهدي، فولاه المهدي محاربة أستاذ سيس وضم إليه القواد. فسار خازم وأخذ معه من انهزم وجعلهم في أخريات الناس يكثر بهم من معه، وكان معه من هذه الطبقة اثنان وعشرون ألفاً. ثم انتخب منهم ستة آلاف رجل وضمهم إلى اثني عشر ألفاً كانوا معه من المنتخبين، وكان بكار بن سلم فيمن انتخب، وتعبأ للقتال، فجعل الهيثم بن شعبة بن ظهير على ميمنته، ونهار بن حصين السعدي على ميسرته، وبكار بن سلم العقيلي في مقدمته، وكان لواؤه مع الزبرقان.
فمكر بهم وراوغهم في أن ينقلهم من موضع إلى موضع وخندق إلى خندق حتى قطعهم، وكان أكثرهم رجالة، ثم سار خازم إلى موضع فنزله وخندق عليه وعلى جميع أصحابه، وجعل له أربعة أبواب، وجعلى على كل باب ألفاً من أصحابه الذين انتخب. وأتى أصحاب أستاذ سيس ومعهم الفؤوس والمرور والزبل ليطموا الخندق، فأتوا الخندق من الباب الذي عليه بكار بن سلم، فحملوا على أصحاب بكار حملة هزموهم بها، فرمى بكار بنفسه، فترجل على باب الخندق وقال لأصحابه: لا يؤتى المسلمون من ناحيتنا. فترجل معه من أهله وعشيرته نحو من خمسين رجلاً وقاتلوهم حتى ردوهم من بابهم، ثم أقبل إلى الباب الذي عليه خازم رجل من أصحاب أستاذ سيس من أهل سجستان اسمه الحريش، وهو الذي كان يدبر أمره، فلما رآه خازم مقبلاً بعث إلى الهيثم بن شعبة، وكان في الميمنة، يأمره أن يخرج من الباب الذي عليه بكار، فإن من بإزائه قد شغلوا عنهم، ويسير حتى يغيب عن أبصارهم، ثم يرجع من خلف العدو، وقد كانوا يتوقعون قدوم أبي عون بن سلم بن قتيبة من طخارستان.
وبعث خازم إلى بكار: إذا رأيت رايات الهيثم قد جاءت كبروا وقولوا: قد جاء أهل طخارستان. ففعل ذلك الهيثم، وخرج خازم في القلب على الحريش وشغلهم بالقتال وصبر بعضهم لبعض.
فبينا هم على ذلك نظروا إلى أعلام الهيثم فتنادوا بينهم: جاء أهل طخارستان، فلما نظروا إليها حمل عليهم أصحاب خازم فكشفوهم، ولقيهم أصحاب الهيثم فطعنوهم بالرماح ورموهم بالنشاب.
وخرج عليهم نهار بن حصين من ناحية الميسرة وبكار بن سلم وأصحابه من ناحيتهم فهزموهم ووضعوا فيهم السيوف، فقتلهم المسلمون فأكثروا، وكان عدد من قتل سبعين ألفاً، وأسروا أربعة عشر ألفاً، ونجا أستاذ سيس إلى جبل في نفر يسير، فحصرهم خازم وقتل الأسرى، ووافاه أبو عون وعمرو ابن سلم ومن معهما، فنزل أستاذ سيس على حكم أبي عون، فحكم أن يوثق أستاذ سيس وبنوه وأهل بيته بالحديد، وأن يعتق الباقون وهم ثلاثون ألفاً، فأمضى خازم حكمه وكسا كل رجل ثوبين، وكتب إلى المهدي بذلك، فكتب المهدي إلى المنصور.
وقيل: إن خروج أستاذ سيس كان سنة خمسين، وكانت هزيمته سنة إحدى وخمسين ومائة.
وقد قيل: إن أستاذ سيس ادعى النبوة وأظهر أصحابه الفسق وقطع السبيل.
وقيل: إنه جد المأمون أبو أمه مراجل، وابنه غالب خال المأمون، وهو الذي قتل ذا الرياستين الفضل بن سهل لمواطأة من المأمون، وسيرد ذكره إن شاء الله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل المنصور جعفر بن سليمان عن المدينة وولاها الحسن ابن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي.
وفيها خرج بالأندلس غياث بن المسير الأسدي بنائحة فجمع العمال لعبد الرحمن جمعاً كثيراً وسار إلى إياث، فواقعه، فانهزم غياث ومن معه وقتل غياث وبعث برأسه إلى عبد الرحمن بقرطبة وفيها مات جعفر بن أبي جعفر المنصور، وصلى عليه أبوه، ودفن ليلاً في مقابر قريش، ولم يكن للناس في هذه السنة صائفة.
وحج بالناس عبد الصمد بن علي، وكان هو العامل على مكة في قول بعضهم، وقال بعضهم: بل كان العامل محمد بن إبراهيم. وكان على الكوفة محمد بن سليمان بن علي، وعلى البصرة عقبة بن سلم، وعلى قضائها سوار، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
وفي هذه السنة مات الإمام الأعظم أو حنيفة النعمان بن ثابت. ومعمر ابن راشد.

وعمر بن ذر، وقيل: مات عمر سنة خمس وخمسين ومائة، وكان من الصالحين، يقول بالإرجاء. وفي سنة خمسين مات عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. ومحمد بن إسحاق بن يسار صاحب المغازي، وقيل: مات سنة إحدى وخمسين. وفيها مات مقاتل بن سليمان البلخي المفسر، وكان ضعيفاً في الحديث. وأبو جناب الكلبي. وعثمان بن الأسود. وسعيد ابن أبي عروبة، واسم أبي عروبة مهران مولى بني يشكر، كنيته أبو النضر.
يسار بالياء تحتها نقطتان، وبالسين يسار المهملة.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين ومائةفيها أغارت الكرك على جدة.
ذكر عزل عمر بن حفص عن السند

وولاية هشام بن عمرو
وفيها عزل المنصور بن حفص بن عثمان بن قبيصة بن أبي صفرة المعروف بهزارمرد، يعني ألف رجل، عن السند، واستعمل عليها هشام بن عمرو التغلبي، واستعمل عمر بن حفص على إفريقية.
وكان سبب عزله عن السند أنه كان عليها لما ظهر محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن، فوجه محمد ابنه عبد الله المعروف بالأشتر إلى البصرة، فاشترى منها خيلاً عتاقاً ليكون سبب وصولهم إلى عمر بن حفص لأنه كان فيمن بايعه من قواد المنصور، وكان يتشيع، وساروا في البحر إلى السند، فأمرهم عمر أن يحضروا خيلهم، فقال له بعضهم: إنا جئناك بما هو خير من الخيل وبما لك فيه خير الدنيا والآخرة فأعطنا الأمان إما قبلت منا وإما سترت وأمسكت عن إيذائنا حتى نخرج عن بلادك راجعين. فآمنه.
فذكر له حالهم وحال عبد الله بن محمد بن عبد الله أرسله أبوه إليه، فرحب بهم وبايعهم وأنزل الأشتر عنده مختفياً، ودعا كبراء أهل البلد وقواده وأهل بيته إلى البيعة، فأجابوه، فقطع ألويتهم البيض وهيأ لبسه من البياض ليخطب فيه وتهيأ لذلك يوم الخميس، فوصله مركب لطيف فيه رسول من امرأة عمر ابن حفص تخبره بقتل محمد بن عبد الله، فدخل على الأشتر فأخبره وعزاه، فقال له الأشتر: إن أمري قد ظهر ودمي في عنقك. قال عمر: قد رأيت رأياً، ها هنا من ملوك السند عظيم الشأن كثير المملكة، وهو على شوكة، أشد الناس تعظيماً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو وفي، أرسل إليه فاعقد بينك وبينه عقداًفأوجهك إليه فلست ترام معه. ففعل ذلك، وسار إليه الأشتر، فأكرمه وأظهر بره، وتشللت إليه الزيدية حتى اجتمع معه أربعمائة إنسان من أهل البصائر، فكان يركب فيهم ويتصيد في هيئة الملوك وآلاتهم.
فلما انتهى ذلك إلى المنصور بلغ منه وكتب إلى عمر بن حفص يخبره ما بلغه، فقرأ الكتاب على أهله وقال لهم: إن أقررت بالقصة عزلني، وإن صرت إليه قتلني، وإن امتنعت حاربني. فقال له رجل منهم : ألق الذنب علي وخذني وقيدني، فإنه سيكتب في حملي إليه، فاحملن فإنه لا يقدم علي لمكانك في السند وحال أهل بيتك بالبصرة. فقال عمر: أخاف عليك خلاف ما تظن. قال: إن قتلت فنفسي فدا لنفسك.
فقيده وحبسه وكتب إلى المنصور بأمره، فكتب إليه المنصور يأمره بحمله، فلما صار إليه رب عنقه.
ثم استعمل على السند هشام بن عمرو التغلبي؛ وكان سبب استعماله أن المنصور كان تفكر فيمن يوليه السند، فبينا هو راكب والمنصور ينظر إليه إذ غاب يسيراً ثم عاد فاستأذن على المنصور، فأدخله، فقال: إني لما انصرفت من الموكب لقيتني أختي فلانة، فرأيت من جمالها وعقلها ودينها ما رضيتها لأمير المؤمنين. فأطرق ثم قال: اخرج يأتك أمري. فلما خرج قال المنصور لحاجبه الربيع: لولا قول جرير:
لا تطلبن خؤولة في تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالا
لتزوجت إليه قل له لو كان لنا حاجة في النكاح لقبلت، فجزاك الله خيراً وقد وليتك السند.
فتجهز إليها، وأمره أن يكاتب ذلك الملك بتسليم عبد الله، فإن سلمه وإلا حاربه، وكتب إلى عمر بن حفص بولايته إفريقية.

فسار هشام إلى السند فملكها، وسار عمر إلى إفريقية فوليها، فلما صار هشام بالسند كره أخذ عبد الله الأشتر وأقبل يري الناس أنه يكاتب ذلك الملك، واتصلت الأخبار بالمنصور بذلك، فجعل يكتب إليه يستحثه، فبينا هو كذلك إذ خرجت خارجة ببلاد السند، فوجه هشام أخاه سفنجا، فخرج في جيشه وطريقه بجنبات ذلك الملك، فبينا هو يسير إذا غبرة قد ارتفعت، فظن أنهم مقدمة العدو الذي يقصده، قفوجه طلائعه، فزحفت إليه، فقالوا: هذا عبد الله بن محمد العلوي يتنزه على شاطئ مهران. فمضى يريده، فقال نصحاؤه: هذا ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد تركه أخوك متعمداً فخافه أن يبوء بدمه، فلم يقصده، فقال: ما كنت لأدع أخذه ولا أدع أحداً يحظى بأخذه أو قتله عند المنصور. وكان عبد الله في عشرة، فقصده فقاتله عبد الله وقاتل أصحابه حتى قتل وقتلوا جميعاً، فلم يفلت منهم مخبر، وسقط عبد الله بين القتلى فلم يشعر به.
وقيل: إن أصحابه قذفوه في مهران حتى لا يحمل رأسه، فكتب هشام بذلك إلى المنصور، فكتب إليه إليه المنصور يشكره ويأمره بمحاربة ذلك الملك، فحاربه حتى ظفر به وقتله وغلب على مملكته.
وكان عبد الله قد اتخذ سراري فأولد واحدة منهن ولداً، وهو محمد ابن عبد الله الذي يقال له ابن الأشتر، فأخذ هشام السراري والولد معهن فسيرهن إلى المنصور، فسير المنصور والولد إلى عامله بالمدينة وكتب معه بصحة نسبه وتسليمه إلى أهله.
ذكر ولاية أبي جعفر عمر بن حفص إفريقيةوفي هذه السنة استعمل المنصور على إفريقية أبا جعفر عمر بن حفص من ولد قبيصة بن أبي صفرة أخي المهلب، وإنما نسب إلي بيت المهلب لشهرته.
وكان سبب مسيره إليها أن المنصور لما بلغه قتل الأغلب بن سالم خاف على إفريقية، فوجه إليها عمر والياً، فقدم القيروان في صفر سنة إحدى وخمسين ومائة في خمسمائة فارس، فاجتمع وجوه البلد فوصلهم وأحسن إليهم وأقام والأمور مستقيمة ثلاث سنين.
فسار إلى الزاب لبناء مدينة طبنة بأمر المنصور، واستخلف على القيروان حبيب بن حبيب المهلبي، فخلت إفريقية من الجند، فتار بها البربر، فخرج إليهم حبيب فقتل، واجتمع البربر بطرابلس وولوا عليهم أبا حاتم الإباضي واسمه يعقوب بن حبيب مولى كندة، وكان عامل عمر بن حفص على طرابلس الجنيد بن بشار الأسادي، وكتب إلى عمر يستمده، فأمده بعسكر، فالتقوا وقاتلوا أبا حاتم الإباضي، فهمزمهم، فساروا إلى قابس، وحصرهم أبو حاتم وعمر مقيم بالزاب على عمارة طبنة، وانتقضت إفريقية من كل ناحية ومضوا إلى طبنة فأحاطوا بها في اثني عشر عسكراً، منهم: أبو قرة الصفري في أربعين ألفاً، وعبد الرحمن بن رستم في خمسة عشر ألفاً، وأبو حاتم في عسكر كثير، وعاصم السدراتي الإباضي في ستة آلاف، والمسعود الزناتي الإباضي في عشرة آلاف فارس، وغير من ذكرنا.
فلما رأى عمر بن حفص إحاطتهم به عزم على الخروج إلى قتالهم، فمنعه أصحابه وقالوا: إن أصبت تلف العرب. فعدل إلى إعمال الحيلة، فأرسل إلى أبي قرة مقدم الصفرية يبذل له ستين ألف درهم ليرجع عنه، فقال: بعد أن سلم علي بالخلافة أربعين سنة أبيع حربكم بعرض قليل من الدنيا ؟ فلم يجبهم إلى ذلك.
فأرسل إلى أخي أبي قرة فدفع إليه أربعة آلاف درهم وثياباً عل أن يعمل في صرف أخيه الصفرية، فأجابهم وارتحل من ليلته وتبعه العسكر منصرفين إلى بلادهم، فاضطر أبو قرة إلى أتباعهم. فلما سارت الصفرية سير عمر جيشاً إلى ابن رستم وهو في تهوذا، قبيلة من البربر، فقاتلوه، فانهزم ابن رستم إلى تاهرت، فضعف أمر الإباضية عن مقاومة عمر، فساروا عن طبنة إلى القيروان، فحصرها أبو حاتم وعمر بطبنة يصلح أمورها ويحفظها ممن يجاوره من الخوارج، فلما علم ضيق الحال بالقيروان سار إليها. ولما سار عمر بن حفص إلى القيروان استخلف على طبنة عسكراً.
فلما سمع أبو قرة بمسير عمر بن حفص سار هو إلى طبنة فحصرها، فخرج إليه من بها من العساكر وقاتلوه، فانهزم منهم وقتل من عسكره خلق كثير.

وأما أبو حاتم فإنه لما حصر القيروان كثر جمعه ولازم حصارها وليس في بيت مالها دينار ولا في أهرائها شيء من الطعام، فدام الحصار ثمانية أشهر، وكان الجند يخرجون فيقاتلون الخوارج طرفي النهار حتى جهدهم الجوع وأكلوا دوابهم وكلابهم ولحق كثير من أهلها بالبربر ولم يبق غير دخول الخوارج إليها، فأتاهم الخبر بوصول عمر بن حف من طبنة، فنزل الهريش، وهو في سبعمائة فارس، فزحف الخوارد إليه بأجمعهم وتركوا القيروان، فلما فارقوها سار عمر إلى تونس، فتبعه البربر، فعاد إلى القيروان مجداً وأدخل إليها ما يحتاج من طعام ودواب وحطب وغير ذلك، ووصل أبو حاتم والبربر إليه فحصروه، فطال الحصار حتى أكلوا دوابهم، وفي ك يوم يكون بينهم قتال وحرب، فلما ضاق الأمر بعمر وبمن معه قال لهم: الرأي أن أخرج من الحصار وأغير على بلاد البربر وأحمل إليكم الميرة. قالوا: إنا نخاف بعدك، قال: فأرسل فلاناً وفلاناً يفعلان ذلك، فأجابوه، فلما قال للرجلين قالا: لا نتركك في الحصار ونسير عنك.
فعزم على إلقاء نفسه إلى الموت، فأتى الخبر أن المنصور قد سير إيه يزيد ابن حاتم بن قتيبة بن المهلب في ستين ألف مقاتل، وأشار عليه من عنده بالتوقف عن القتال إلى أن يصل العسكر، فلم يفعل وخرج وقاتل، فقتل منتصف ذي الحجة سنة أربع وخمسين ومائة، وقام بأمر الناس حميد بن صخر، وهو أخو عمر لأمه، فوادع أبا حاتم وصالحه على أن حميداً ومن معه لا يخلعون المنصور ولا ينازعهم أبو حاتم في سوادهم وسلاحهم، وأجابهم إلى ذلك وفتحت له القيروان، وخرج أكثر الجند إلى طبنة، وأحرق أبو حاتم أبواب القيروان وثلم سورها.
وبلغه وصول يزيد بن حاتم فسار إلى طرابلس وأمر صاحبه بالقيروان بأخذ سلاح الجند وأن يفرق بينهم، فخالف بعض أصحابه وقالوا: لا نغدر بهم، وكان المقدم على المخالفيين عمر بن عثمان الفهري، وقام في القيروان وقتل أصحاب أبي حاتم، فعاد أبو حاتم، فهرب عمر بن عثمان من بين يديه إلى تونس، وعاد أبو حاتم إلى طرابلس لقتال يزيد بن حاتم.
فقيل: كان بين الخوارج والجنود من لدن عمر بن حفص إلى انقضاء أمرهم ثلاثمائة وخمس وسبعون وقعة.
ذكر ولاية يزيد بن حاتم إفريقية وقتال الخوارجلما بلغ المنصور ما حل بعمر بن حفص من الخوارج جهز يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن أي صفرة في ستين ألف فارس وسيره إلى إفريقية، فوصلها سنة أربع وخمسين ومائة. فلما قاربها سار إليه بعض جندها واجتمعوا به وساروا معه إلى طرابلس، فسار أبو حاتم الخارجي إلى جبال نفوسة، وسير يزيد طائفة من العسكر إلى قابس، فلقيهم أبو حاتم فهزمهم، فعادوا إلى يزيد، ونزل أبو حاتم في مكان وعر وخندق على عسكره، وعبأ يزيد أصحابه وسار إليه، فالتقوا في ربيع الأول سنة خمس وخمسين، فاقتتلوا أشد قتال، فانهزمت البربر وقتل أبو حاتم وأهل نجدته، وطلبهم يزيد في كل سهل وجبل فقتلهم قتلاً ذريعاً، وكان عدة من قتل في المعركة ثلاثين ألفاً.
وجعل آل المهلب يقتلون الخوارج ويقولون: يا لثارات عمر بن حفص ! وأقام شهراً يقتل الخوارج، ثم رحل إلى القيروان.
فكان عبد الرحمن بن حبيب بن عبد الرحمن الفهري مع أبي حاتم، فهرب إلى كتامة، فسير إليهم يزيد بن حاتم جيشاً فحصروا البربر وظفروا بهم وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وهرب عبد الرحمن وقتل جميع من كان معه وصفت إفريقية، وأحسن يزيد السيرة وآمن الناس إلى أن انتقضت ورفجومة سنة أربع وستين ومائة بأرض الزاب وعليها أيوب الهواري، فسير إليهم عسكراً كثيراً، واستعمل عليهم يزيد بن مجزاء المهلبي، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم يزيد وقتل كثير من أصحابه، وقتل المخارق بن غفار صاحب الزاب، فولي مكانه المهلب بن يزيد المهلبي وأمدهم يزيد بن حاتم بجمع كثير، واستخمل عليهم العلاء بن سعيد المهلبي، وانضم إليهم المنهزمون ولقوا ورفجومة واقتتلوا، واشتد القتال، فانهزمت البربر وأيوب وقتلوا بكل مكان حتى أتي على آخرهم، ولم يقتل من الجند أحد.
ثم مات يزيد في رمضان سنة سبعين ومائة، وكانت ولايته خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر، واستخلف ابنه داود على إفريقية.
ذكر بناء الرصافة للمهدي

وفي هذه السنة قدم المهدي من خراسان في شوال، فقدم عيه أهل بيته من الشام والكوفة والبصرة وغيرها فهنأوه بمقدمه، وفأجازهم وحملهم وكساهم، وفعل بهم المنصور مثل ذلك، وبنى له الرصافة.
وكان سبب بنائها أن بعض الجند شغبوا على المنصور وحاربوه على باب الذهب، فدخل عليه قثم بن العباس، وهو شيخهم، وله الحرمة والتقدم عندهم، فقال له المنصور: أما ترى ما نحن فيه من التياث الجند علينا ؟ وقد خفت أن تجتمع كلمتهم فيخرج هذا الأمر من أيدينا، فما ترى ؟ قال: يا أمير المؤمنينعندي رأي إن اظهرته لك فسد، وإن تركتني أمضيه وصلحت خلافتك وهابك جندك. قال له: أفتمضي في خلافتي شيئاً لا أعلمه ؟ فقال له: إن كنت عندك متهماً فلا تشاورني، وإن كنت مأموناً عليها فدعني أفعل رأيي. قال له المنصور: فأمضه.
فانصرف قثم إلى منزله، فدعا غلاماً له فقال له: إذا كان غداً فتقدمن واجلس في دار أمير المؤمنين، فإذا رأيتني قد دخلت وتوسطت أصحاب المراتب فخذ بعنان بغلتي فاستحلفني بحق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبحق العباس وبحق أمير المؤمنين إلا ما وقفت لك وسمعت مسألتك وأجبتك عنها، فإني سأنتهرك وأغلظ لك القول فلا تخف وعاود المسألة، فإني سأضربك فعاود وقل لي: أي الحيين أشرف، اليمن أم مضر ؟ فإذا أجبتك فاترك البغلة وأنت حر.
ففعل الغلام ما أمره، وفعل قثم به ما قاله، ثم قال: مضر أشرف لأن منها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفيها كتاب الله، وفيها بيت الله، ومنها خليفة الله.
فامتعضت لذلك اليمن إذ لم يذكر لهم شيئاً من شرفها، وقال بعض قوادهم: ليس الأمر كذلك مطلقاً بغير فضيلة لليمن؛ ثم قال لغلام له: قم إلى بغلة الشيخ فاكبحها. ففعل حتى كاد يقعيها، فامتعضت مضر وقالوا: أيفعل هذا بشيخنا ؟ فأمر بعضهم غلامه فضرب يد ذلك الغلام فقطعها، فنفر الحيان.
ودخل قثم على المنصور فافترق الجند، فصارت مضر فرقة، وربيعة فرقة، والخراسانية فرقة. فقال قثم للمنصور: قد فرقت بين جندك وجعلتهم أحزاباً كل حزب منهم يخاف أن يحدث عليك حدثاً فتضربه بالحزب الآخر، وقد بقي عليك في التدبير بقية، وهي أن تعبر بابنك فتنزله في ذلك الجانب وتحول معه قطعة من جيشك فيصير ذلك بلداً وهذا بلداً، فإن فسد عليك أولئك ضربتهم بهؤلاء، وإن فسد عليك هؤلاء ضربتهم بأولئك، وإن فسد عيك بعض القبائل ضربتهم بالقبيلة الأخرى. فقبل رأيه واستقام ملكه وبنى الرصافة، وتولى صالح صاحب المصلى ذلك.
ذكر قتل سليمان بن حكيم العبديفي هذه السنة سار عقبة بن سلم من البصرة - واستخلف عليها نافع بن عقبة - إلى البحرين، فقتل سليمان بن حكيم وسبى أهل البحرين وأنفذ بعض السبي والأسارى إلى المنصور، فقتل بعضهم ووهب الباقين للمهدي، فأطلقهم وكساهم، ثم عزل عقبة عن البصرة لأنه لم يستقص على أهل البحرين.
وزعم بعضهم أن المنصور استعمل معن بن زائدة الشيباني على سجستان هذه السنة.
وحج بالنس هذه السنة محمد بن إبراهيم الإمام، وكان هو العامل بمكة والطائف؛ وعلى المدينة الحسن بن زيد، وعلى البضرة جابر بن توبة الكلابي، وعلى الكوفة محمد بن سليمان، وعلى مصر يزيد بن حاتم.
ذكر ابتداء أمر شقنا وخروجه بالأندلسوفيها ثار في الشرق من الأندلس رجل من بربر مكناسة كان يعلم الصبيان، وكان اسمه شقنا بن عبد الواحد، وكانت أمه تسمى فاطمة، وادعى أنه من ولد فاطمة، عليها السلام، ثم من ولد الحسين، عليه السلام، وتسمى بعبد الله بن محمد، وسكن شنت برية، واجتمع عليه خلق كثير من البربر، وعظم أمره، وسار إلى عبد الرحمن الأموي فلم يقف له وراغ في الجبال، فكان إذا أمن انبسط، وإذا خاف صعد الجبال بحيث يصعب طلبه.
فاستعمل عبد الرحمن على طليطلة حبيب بن عبد الملك، فاستعمل حبيب على شنت برية سليمان بن عثمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان وأمره بطلب شقنا. فنزل شقنا إلى شنت برية وأخذ سليمان فقتله، واشتد أمره، وطار ذكره وغلب على ناحية قورية وأفسد في الأرض.

فعاد عبد الرحمن الأموي فغزاه في سنة اثنتين وخمسين ومائة بنفسه، فلم يثبت له فأعياه أمره، فعاد عنه وسير إليه سنة ثلاث وخمسين بدراً مولاه، فهرب شقنا وأخلى حصنه شطران، ثم غزاه عبد الرحمن الأموي بنفسه سنة أربع وخمسين ومائة، فلم يثبت له شقنا، ثم سير إليه سنة خمس وخمسين أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، فخدعه شقنا وأفسد عليه جنده، فهرب عبيد الله، وغنم شقنا عسكره وقتل جماعة من بني أمية كانوا في العسكر.
وفي سنة خمس وخمسين أيضاً سار شقنا بعد أن غنم عسكر عبيد الله إلى حصن الهواريين المعروف بمدائن، وبه عامل لعبد الرحمن، فمكر به شقنا حتى خرج إليه، فقتله شقنا وأخذ خيله وسلاحه وجميع ما كان معه.
ذكر قتل معن بن زائدةفي هذه السنة قتل معن بن زائدة الشيباني بسجستان، وكان المنصور قد استعمله عليها، فلما وصلها أرسل إلى رتبيل يأمره بحمل القرار الذي عليه كل سنة، فبعث إليه عروضاً وزاد في ثمنها، فغضب معن وسار إلى الرخج وعلى مقدمته ابن أخيه مزيد بن زائدة، فوجد رتبيل قد خرج عنها إلى زابلستان ليصيف بها، ففتحها وأصاب سبياً كثيراً، وكان في السبي فرج الرخجي، وهو صبي، وأبوه زياد، فرأى معن غباراً ساطعاً أثارته حمر الوحش، فظن أنه جيش أثبل نحوه ليخلص السبي والأسرى، فأمر بوضع السيف فيهم، فقتل منهم عدة كثيرة، ثم ظهر له أمر الغبار فأمسك.
فخاف معن الشتاء وهجومه فانصرف إلى بست، وأنكر قوم من الخوارج سرته فاندسوا مع فعلة كانوا يبنون فيء منزله، فلما بلغوا التسقيف أخفوا سيوفهم في القصب ثم دخلوا عليه بيته وهو يحتجم ففتكوا به، وشق بعضهم بطنه بخنجر كان معه، وقال أحدهم لما ضربه: أنا الغلام الطاقي ! والطاق رستاق بقرب زرنج، فقتلهم يزيد بن مزيد، فلم ينج منهم أحد.
ثم إن يزيد قام بأمر سجستان واشتدت على العرب والعجم من أهلها وطأته، فاحتال بعض العرب فكتب على لسانه إلى المنصور كتاباً يخبره فيه أن كتب المهدي إليه قد خيرته وأدهشته، ويسأل أن يعفيه من معاملته، فأغضب ذلك المنصور وشتمه وأقر المهدي كتابه، فعزله وأمر بحبسه وبيع كل شيء له، ثم إنه كلم فيه فأشخص إلى مدينة السلام، فلم يزل بها مجفواً حتى لقيه الخوارج على الجسر فقاتلهم، فتحرك أمره قليلاً، ثم وجه إلى يوسف البرم بخراسان فلم يزل في ارتفاع إلى أن مات.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام.
وفيها استعمل المنصور على الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري.
وفيها مات عبد الله بن عون، وكان مولده سنة ست وستين. وفيها ومات أسيد بن عبد الله في ذي الحجة، وهو أمير خراسان، وحنظلة بن أبي سفيان الجمحي. وعلي بن صالح بن حبي أخو الحسن بن صالح، وكانا تقيين، فيهما تشيع.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين ومائةوفيها غزا حميد بن قحطبة كابل، وكان قد استعمله المنصور على خراسان سنة إحدى وخمسين.
وغزا الصائفة عبد الوهاب بن إبراهيم، وقيل أخوه محمد بن إبراهيم الإمام، ولم يدرب.
وفيها عزل المنصور جابر بن توبة عن البصرة واستعمل عليها يزيد بن منصور.
وفيها قتل المنصور هاشم بن الأساجيج، وكان قد خالف وعصى بإفريقية، فحمل إليه فقتله.
وحج بالناس هذه السنة المنصور.
وفيها عزل يزيد بن حاتم عن مصر واستعمل عليها محمد بن سعيد، وكان عمال الأمصار سوى ما ذكرنا الذين تقدم ذكرهم.
وفيها مات محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبد الله بن شهاب، وهو ابن أخي محمد بن شهاب الزهري، روي عنه عمه. وفيها مات يونس بن يزيد الأيلي، روى عنه الزهري أيضاً. وفيها مات طلحة بن عمرو الحضرمي. وإبراهيم بن أبي عبلة، واسم أبي عبلة شمر بن يقظان بن عامر العقيلي.
الأيلي بفتح الهمزة، وبالياء تحتها نقطتان. والعقيلي بضم العين، وفتح القاف.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين ومائةفيها عاد المنصور من مكة إلى البصرة فجهز جيشاً في البحر إلى الكرك الذين تقدم ذكر إغارتهم على جدة.
وفيها قبض المنصور على أبي أيوب المورياني وعلى أخيه وبني أخيه، وكانت منازلهم المناذر، وكان قد سعى به كاتبه أبان بن صدقة.

وقيل: كان سبب قبضه أن المنصور في دولة بني أمية ورد على الموصل وأقام بها مستتراً وتزوج امرأة من الأزد، فحملت منه، ثم فارق الموصل وأعطاها تذكرة وقال لها: إذا سمعت بدولة لبني هاشم فأرسلي هذه التذكرة إلى صاحب الأمر فهو يعرفها، فوضعت المرأة ولداً سمته جعفراً، فنشأ وتعلم الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب.
وولي المنصور الخلافة، فقدم جعفر إلى بغداد واتصل بأبي أيوب فجعله كاتباً بالديوان، فطلب المنصور يوماً من أبي أيوب كاتباً يكتب له شيئاً، فأرسل جعفراً إليه، فلما رآه المنصور مال إليه وأحبه، فلما أمره بالكتابة رآه حاذقاً ماهراً، فسأله من أين هو ومن أبوه، فذكر فله الحال وأراه التذكرة، وكانت معه، فعرفه المنصور وصار يطلبه كل وقت بحجة الكتابة، فخافه أبو أيوب.
ثم إن المنصور أحضره يوماً وأعطاه مالاً وأمر أن يصعد إلى الموصل ويحضر والدته، فسار من بغداد، وكان أبو أيوب قد وضع عليه العيون يأتونه بأخباره، فلما علم مسيره سير وراءه من اغتاله في الطريق فقتله، فلما أبطأ على المنصور أرسل إلى أمه بالموصل من يسألها عنه، فذكرت له أنها لا علم لها به إلا أنه ببغداد يكتب في ديوان الخليفة، فلما علم المنصور ذلك أرسل من يقص أثره، فانتهى إلى موضع وانقطع خبره، فعلم أنه قتل هناك، وكشف الخبر فرأى أن قتله من يد أبي أيوب، فنكبه وفعل به ما فعل.
وقبض المنصور أيضاً على عباد مولاه، وعلى هرثمة بن أعين بخراسان وأحضرا مقيدين لتعصبهما لعيسى بن موسى.
وفيها أخذ المنصور الناس بتلبيس القلانس الطوال المفرطة الطول، فقال أبو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
وفيها توفي عبيد ابن بنت ابن أبي ليلى قاضي الكوفة، فاستقضي مكانه شريك بن عبد الله النخعي.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى الحجوري فوصل إلى حصن من حصون الروم ليلاً وأهله نيام، فسبى وأسر من كان فيه، ثم قصد اللاذقية الخراب فسبى منها ستة آلاف رأس سوى الرجال البالغين.
وحج بالناس هذه السنة المهدي، وكان أمير مكة محمد بن إبراهيم، وأمير المدينة الحسن بن زيد، وأمير مصر محمد بن سعيد، وكن يزيد بن منصور على اليمن في قول بعضهم، وعلى الموصل إسماعيل بن خالد بن عبد الله ابن خالد.
وفيها مات هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي، وقيل: سنة ست وخمسين، وقيل: تسع وخمسين. والحسن بن عمارة. وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر. وثور بن يزيد. وعبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري. والضحاك ابن عثمان بن عبد الله بن خالد بن خزام من ولد أخي حكيم بن حزام. وفطر ابن خليفة الكوفي.
فطر بالفاء والراء المهملة. والجرشي بضم الجيم، وبالشين المعجمة.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين ومائةفي هذه السنة سار المنصور إلى الشام وبيت المقدس وسير يزيد بن حاتم ابن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة إلى إفريقية في خمسين ألفاً لحرب الخوارج الذين قتلوا عمر بن حفص، وأراد المنصور بناء الرافق فمنعه أهل الرقة، فهم لمحاربتهم.
وسقطت في هذه السنة الصاعقة فقتلت بالمسجد الحرام خمسة نفر.
وفيها هلك أبو أيوب المورياني، وأخوه خالد، وأمر المنصور بقطع أيدي بني أخيه وأرجلهم وضرب أعناقهم.
وفيها استعمل على البصرة عبد الملك بن ظبيان النميري، وغزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي فبلغ الفرات.
وحج بالناس محمد بن إبراهيم وهو على مكة.
وكان على إفريقية يزيد بن حاتم، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أو عمرو بن العلاء، وقيل: مات سنة سبع وخمسين، وكان عمره ستاً وثمانين سنة. ومحمد بن عبد الله الشعيثي النصري بالنون. وفيها مات عثمان بن عطاء. وجعفر بن برقان الجزري. وأشعب الطامع. وعلي بن صالح بن حبي. وعمر بن إسحاق بن يسار أخو محمد بن إسحاق. ووهيب بن الورد المكي الزاهد. وقرة بن خالد أبو خالد السدوسي البصري وهشام الدستوائي، وهو هشام بن أبي عبد الله البصري.
الشعيثي بضم السين المعجمة، وفي آخره ثاء مثلثة.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين ومائةفيها دخل يزيد بن حاتم إفريقية، وقتل أبا حاتم، وملك القيروان وسائر الغرب. وقد تقدم ذكر مسيره ورحوبه مستقصى.

وفيها سير المنصور المهدي لبناء الرافقة، فسار إليها، فبناها على بناء مدينة بغداد، وعمل للكوفة والبصرة سوراً وخندقاً، وجعل ما أنفق فيه من الأموال على أهلها. ولما أراد المنصور معرفة عددهم أمر أن يقسم فيهم خمسة دراهم خمسة دراهم، فلما علم عددهم، أمر بجبايتهم أربعين درهماً لكل واحد، فقال الشاعر:
يا لقومي ما لقينا ... من أمير المؤمنينا
قسم الخمسة فينا ... وجبانا الأربعينا
وفيها طلب ملك الروم الصلح إلى المنصور على أن يؤدي إليه الجزية.
وفيها غزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي. وعزل عبد الملك بن أيوب بن ظبيان عن البصرة، واستعمل عليها الهيثم بن معاوية العتكي.
ذكر عزل العباس بن محمد عن الجزيرة

واستعمال موسى بن كعب
وفيها عزل المنصور أخاه العباس بن محمد عن الجزيرة، وغضب عليه، وغرمه مالاً فلم يزل ساخطاً عليه، حتى غضب على عمه إسماعيل بن علي، فشفع فيه عمومة المنصور، وضيقوا عليه، حتى رضي عنه، فقال عيسى بن موسى للمنصور: يا أمير المؤمنين، أرى آل علي بن عبد الله، وإن كانت نعمك عليهم سابغة، فإنهم يرجعون إلى الحسد لنا، فمن ذلك أنك غضبت على إسماعيل بن علي، منذ أيام فضيقوا عليك، حتى رضيت عنه، وأنت غضبان على أخيك العباس منذ كذا وكذا، فما كلمك فيه أحد منهم؛ فرضي عنه.
وكان المنصور قد استعمل العباس على الجزيرة بعد يزيد بين أسيد، فشكا يزيد منه وقال: إنه أساء عزلي، وشتم عرضي. فقال له المنصور: أجمع بني إحساني وإساءته يعتدلا. فقال له يزيد بن أسيد: إذا كان إحسانكم جزاء لإساءتكم كانت طاعتنا تفضلا منا عليكم.
ولما عزل المنصور أخاه عن الجزيرة استمل عليها موسى بن كعب.
ذكر عزل محمد بن سليمان عن الكوفة واستعمال عمرو بن زهيروفيها عزل محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس عن الكوفة، واستعمل عليها عمرو بن زهير الضبي أخاً المسيب بن زهير؛ وقيل: إنما عزل سنة ثلاث وخمسين، وكان عزله لأسباب بلغته عنه، منها أنه قتل عبد الكريم بن أبي العوجاء، وكان قد حبسه على الزندقة، وهو خال معن بن زائدة الشيباني، فكثر شفعاؤه عند المنصور، ولم يتكلم فيه إلا ظنين منهم، فكتب إلى محمد بن سليمان بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه.
وكان ابن أبي العوجاء قد أرسل إلى محمد بن سليمان يسأله أن يؤخره ثلاثة أيام، ويعطيه مائة ألف، فلما ذكر لمحمد أمر بقتله، فلما أيقن أنه مقتول قال: والله لقد وضعت أربعة آلاف حديث حللت فيها الحرام، وحرمت فيها الحلال، والله لقد فطرتكم يوم صومكم، وصومتكم يوم فطركم؛ فقتل.
وورد كتاب المنصور إلى محمد يأمره بالكف عنه، فوصل وقد قتله، فلما بلغ قتله المنصور غضب، وقال: والله لقد هممت أن أقيده به ! ثم أحضر عمه عيسى بن علي وقال له: هذا عملك؛ أنت أشرت بتولية هذا الغلام الغر؛ قتل فلاناً بغير أمري، وقد كتبت بعزله، وتهدده؛ فقال له عيسى: إن محمداً إنما قتله على الزندقة، فإن كان أصاب فهو لك، وإن أخطأ فعليه، ولئن عزلته على أثر ذلك ليذهبن بالثناء والذكر، ولترجعن بالمقالة من العامة عليك؛ فمزق الكتاب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أنكرت الخوارج الصفرية المجتمعة بمدينة سجلماسة على أميرهم عيسى بن جرير أشياء، فشدوه وثاقاً، وجعلوه على رأس الجبل، فلم يزل كذلك حتى مات، وقدموا على أنفسهم أبا القاسم سمكو بن واسول المكناسي جد مدرار.
وفيها ولد أبو سنان الفقيه المالكي بمدينة القيروان من إفريقية.
وفيها عزل الحسن بن زيد بن الحسن بن علي عن المدينة، واستعمل عليها عمه عبد الصمد بن علي، وكان على مكة والطائف محمد بن إبراهيم؛ وعلى الكوفة عمرو بن زهير؛ وعلى البصرة الهيثم بن معاوية؛ وعلى مصر محمد بن سعيد؛ وعلى إفريقية يزيد بن حاتم؛ وعلى الموصل خالد بن برمك، وقيل: موسى بن كعب بن سفيان الخثعمي.
وفي هذه السنة مات مسعر بن كدام الكوفي الهلالي.
ثم دخلت سنة ست وخمسين ومائة
ذكر عصيان أهل إشبيلية على عبد الرحمن الأموي

في هذه السنة سار عبد الرحمن الأموي، صاحب الأندلس، إلى حرب شقنا، وقصد حصن شيطران، فحصره وضيق عليه، فهرب إلى المفازة كعادته، وكان قد استخلف على قرطبة ابنه سليمان، فأتاه كتابه يخبره بخروج أهل إشبيلية مع عبد الغفار وحيوة بن ملابس عن طاعته، وعصيانهم عليه، واتفق من بها من اليمانية معهما، فرجع عبد الرحمن ولم يدخل قرطبة، وهاله ما سمع من اجتماعهم وكثرتهم، فقدم ابن عمه عبد الملك بن عمر، وكان شهاب آل مروان، وبقي عبد الرحمن خلفه كالمدد له.
فلما قارب عبد الملك أهل إشبيلية قدم ابنه أمية ليعرف حالهم، فرآهم مستيقظين، فرجع إلى أبيه، فلامه أبوه على إظهار الوهن، وضرب عنقه، وجمع أهل بيته وخاصته، وقال لهم: طردنا من المشرق إلى أقصى هذا الصقع، ونحسد على لقمة تبقي الرمق؛ اكسروا جفون السيوف، فالموت أولى أو الظفر.
ففعلوا، وحمل بين أيديهم، فهزم اليمانية وأهل إشبيلية، فلم تقم بعدها لليمانية قائمة، وجرح عبد الملك.
وبلغ الخبر إلى عبد الرحمن، فأتاه وجرحه يجري دماً، وسيفه يقطر دماً، وقد لصقت يده بقائم سيفه، فقبله بين عينيه، وجزاه خيراً، وقال: يا إبن عم قد أنكحت ابني وولي عهدي هشاماً ابنتك فلانة، وأعطيتها كذا وكذا، وأعطيتك كذا، وأولادك كذا، وأقطعتك وإياهم، ووليتكم الوزارة.
وهذا عبد الملك هو الذي ألزم عبد الرحمن بقطع خطبة المنصور، وقال له: تقطعها وإلا قتلت نفسي ! وكان قد خطب له عشرة أشهر، فقطعها.
وكان عبد الغفار وحيوة بن ملابس قد سلما من القتل. فلما كانت سنة سبع وخمسين ومائة سار عبد الرحمن إلى إشبيلية، فقتل خلقاً كثيراً ممن كان مع عبد الغفار وحيوة ورجع. وبسبب هذه الوقعة وغش العرب مال عبد الرحمن إلى اقتناء العبيد.
ذكر الفتنة بإفريقية مع الخوارجقد ذكرنا هرب عبد الرحمن بن حبيب، الذي كان أبوه أمير إفريقية، مع الخوارج، واتصاله بكتامة، فسير يزيد بن حاتم أمير إفريقية العسكر في أثره، وقاتلوا كتامة.
فلما كانت هذه السنة سير يزيد عسكراً آخر مدداً للذين يقاتلون عبد الرحمن، فاشتد الحصار على عبد الرحمن، فمضى هارباً، وفارق مكانه، فعادت العساكر عنه.
ثم ثار في هذه السنة على يزيد بن حاتم أبو يحيى بن فانوس الهواري بناحية طرابلس، فاجتمع عليه كثر من البربر، وكان عسكر ليزيد بن حاتم مع عامل البلد، فخرج العامل والجيش معه، فالتقوا على شاطئ البحر من أرض هوارة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أبو يحيى بن فانوس وقتل عامة أصحابه، وسكن الناس بإفريقية وصفت ليزيد بن حاتم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ظفر الهيثم بن معاوية، عامل البصرة، بعمرو بن شداد الذي كان عامل إبراهيم بن عبد الله على فارس؛ وسبب ظفره به أنه ضرب غلاماً له، فأتى الهيثم، فدله عليه، فأخذه، فقتله، وصلبه بالمربد.
وفيها عزل الهيثم عن البصرة، واستعمل سوار القاضي على الصلاة مع القضاء، واستعمل سعيد بن دعلج على شرط البصرة وأحداثها، ولما وصل الهيثم إلى بغداد مات بها، وصلى عليه المنصور.
وفيها غزا الصائفة زفر بن عاصم الهلالي؛ وحج بالناس العباس بن محمد بن علي، وكان على مكة محمد بن إبراهيم الإمام، وعلى الكوفة عمرو بن زهير، وعلى الأحداث والجوالي والشرط بالبصرة سعيد بن دعلج، وعلى الصلاة والقضاء سوار بن عبد الله، وعلى كور دجلة والأهواز وفارس عمارة بن حمزة، وعلى كرمان والسند هشام بن عمرو، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر محمد بن سعيد.
وفيها سخط عبد الرحمن الأموي على مولاه بدرٍ لفرط إدلاله عليه، ولم يرع حق خدمته وطول صحبته، وصدق مناصحته، فأخذ ماله، وسلبه نعمته، ونفاه إلى الثغر، فبقي به إلى أن هلك.
وفيها مات عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، قاضي إفريقية وقد تكلم الناس في حديثه.
وفيها توفي حمزة بن حبيب الزيات المقرئ، أحد القراء السبعة.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائةفي هذه السنة بني المنصور قصره الذي يدعى الخلد.
وفيها حول المنصور الأسواق إلى الكرخ وغيره، وقد تقدم سبب ذلك. واستعمل سعيد بن دعلج على البحرين، فأنفذ إليها ابنه تميماً؛ وعرض المنصور جنده في السلاح، وجلس لذلك، وخرج هو لابساً درعاً وبيضة.

وفيها مات عامر بن إسماعيل المسلي، وصلى عليه المنصور، وتوفي سوار بن عبد الله، قاضي البصرة، واستعمل مكانه عبيد الله بن الحسن بن الحصين العنبري؛ وعزل محمد بن سليمان الكاتب عن مصر، واستعمل مولاه مطرٌ، واستعمل معبد بن الخليل على السند وعزل هشام بن عمرو.
وغزا الصائفة يزيد بن أسيد السلمي، فوجه سناناً مولى البطال إلى حصن، فسبى وغنم؛ وقيل: إنما غزا الصائفة زفر بن عاصم.
وحج بالناس إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان على مكة، وقيل كان عليها عبد الصمد بن علي، وعلى الأمصار من ذكرنا.
وفيها قتل المنصور يحيى بن زكرياء المحتسب، وكان يطعن على المنصور، ويجمع الجماعات فيما قيل.
وفيها مات عبد الوهاب بن إبراهيم الإمام، وقيل: سنة ثمان وخمسين: وفي سنة سبع وخمسين مات الأوزاعي الفقيه، وإسمه عبد الرحمن بن عمرو، وله سبعون سنة؛ ومصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، جد الزبير بن بكار.
وفيها أخرج سليمان بن يقظان الكلبي قارله ملك الإفرنج إلى بلاد المسلمين، من الأندلس، ولقيه بالطريق، وسار معه إلى سرقسطة، فسبقه إليها الحسين بن يحيى الأنصاري من ولد سعد بن عبادة، وامتنع بها، فاتهم قارله ملك الإفرنج سليمان، فقبض عليه، وأخذه معه إلى بلاده، فلما أبعد من بلاد المسلمين واطمأن هجم عليه مطروحٌ وعيشون ابنا سليمان في أصحابهما، فاستنقذا أباهما، ورجعا به إلى سرقسطة، ودخلوا مع الحسين، ووافقوا على خلاف عبد الرحمن.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائة

ذكر عزل موسى عن الموصل
وولاية خالد بن برمك
في هذه السنة عزل المنصور موسى بن كعب عن الموصل، وكان قد بلغه عنه ما أسخطه عليه، فأمر ابنه المهدي أن يسير إلى الرقة، وأظهر أنه يريد بيت المقدس، وأمره أن يجعل طريقه على الموصل، فإذا صار بالبلد أخذ موسى وقيده واستعمل خالد بن برمك.
وكان المنصور قد ألزم خالد بن برمك ثلاثة آلاف ألف درهم، وأجله ثلاثة أيام، فإن أحضر المال وإلا قتله؛ فقال لابنه يحيى: يا بني الق إخواننا عمارة بن حمزة، ومباركاً التركي، وصالحاً صاحب المصلى وغيرهم وأعلمهم حالنا.
قال يحيى: فأتيتهم، فمنهم من منعني من الدخول عليه ووجه المال، ومنهم من تجهمني بالرد ووجه المال سراً إلي، قال: فأتيت عمارة بن حمزة ووجهه إلى الحائط، فما أقبل به علي، فسلمت، فرد رداً ضعيفاً، وقال: كيف أبوك ؟ فعرفته الحال، وطلبت قرض مائة ألفٍ، فقال: إن أمكنني شيء فسيأتيك، فانصرفت وأنا ألعنه من تيهه، وحدثت أبي بحديثه، وإذ قد أنفذ المال، قال: فجمعنا في يومين ألفي ألف وسبعمائة ألف، وبقي ثلاثمائة ألف تبطل الجميع بتعذرها.
قال: فعبرت على الجسر وأنا مهموم، فوثب إلي زاجرٌ فقال: فرخ الطائر أخبرك، فطويت، فلحقني، وأخذ بلجام دابتي، وقال لي: أنت مهموم، والله لتفرحن ولتمرن غداً في هذا الموضع واللواء بين يديك. فعجبت من قوله، فقال: إن كان ذلك فلي عليك خمسة آلاف درهم. فقلت: نعم ؟! وأنا أستبعد ذلك.
وورد على المنصور انتقاض الموصل والجزيرة، وانتشار الأكراد بها، فقال: من لها ؟ فقال المسيب بن زهير: عندي رأيٌ أعلم أنك لا تقبله مني، وأعلم أنك ترده علي، ولكني لا أدع نصحك. قال: قل ! قلت: ما لها مثل خالد بن برمك. قال: فكيف يصلح لنا بعد ما فعلنا ؟ قال: إنما قومته بذلك، وأنا الضامن له. قال: فليحضرني غداً، فأحضره، فصفح له عن الثلاثمائة ألف الباقية، وعقد له، وعقد لابنه يحيى على أذربيجان، فاجتاز يحيى بالزاجر، فأخذه معه، وأعطاه خمسين ألف درهم، وأنفذ خالدٌ إلى عمارة بالمائة ألف التي أخذها منه مع ابنه يحيى، فقال له: صيرفياً كنت لأبيك ؟ قم عني، لا قمت ! فعاد بالمال، وسار مع المهدي فعزل موسى بن كعب وولاهما.
فلم يزل خالدٌ على الموصل وابنه يحيى على أذربيجان إلى أن توفي المنصور، فذكر أحمد بن محمد بن سوار الموصلي قال: ما هبناه أميراً قط هيبتنا خالداً، من غير أن يشتد علينا، ولكن هيبة كانت له في صدورنا.
ذكر موت المنصور ووصيتهوفي هذه السنة توفي المنصور لست خلوان من ذي الحجة ببئر ميمون، وكان على ما قيل قد هتف به هاتف من قصره، فسمعه يقول:
أما وربّ السّكون والحرك ... إنّ المنايا كثيرة الشّرك

عليك، يا نفس، إن أسأت، وإن ... أحسنت بالقصد، كلّ ذاك لك
ما اختلف اللّيل والنّهار، ولا ... دارت نجوم السّماء في الفلك
إلاّ تنقّل السّلطان عن ملكٍ ... إذا انتهى ملكه إلى ملك
حتى يصيرا به إلى ملكٍ ... ما عزّ سلطانه بمشترك
ذاك بديع السّماء والأرض وال ... مرسي الجبال المسخّر الفلك
فقال المنصور: هذا أوان أجلي. قال الطبري: وقد حكى عبد العزيز بن مسلم أنه قال: دخلت على المنصور يوماً أسلم عليه، فإذا هو باهت لا يحير جواباً، فوثبت لما أرى منه لأنصرف، فقال لي بعد ساعة: إني رأيت في المنام كأن رجلاً ينشدني هذه الأبيات:
أأخيّ خفّض من مناكا ... فكأنّ يومك قد أتاكا
ولقد أراك الدّهر من ... تصريفه ما قد أراكا
فإذا أردت النّاقص العب ... د الذّليل، فأنت ذاكا
ملّكت ما ملّكته، ... والأمر فيه إلى سواكا
هذا الذي ترى من قلقي وغمي لما سمعت ورأيت؛ فقلت: خيراً رأيت يا أمير المؤمنين؛ فلم يلبث أن خرج إلى مكة، فلما سار من بغداد ليحج نزل قصر عبدويه، فانقض في مقامه هنالك كوكبٌ لثلاث بقين من شوال، بعد إضاءة الفجر، فبقي أثره بيناً إلى طلوع الشمس، فأحضر المهدي وكان قد صحبه ليودعه، فوصاه بالمال والسلطان، يفعل ذلك كل يوم من أيام مقامه، بكرة وعشية، فلما كان اليوم الذي ارتحل فيه قال له: إني لم أدع شيئاً إلا وقد تقدمت إليك فيه، وسأوصيك بخصال ما أظنك تفعل واحدةً منها.
وكان له سفط فيه دفاتر علمه، وعليه قفل لا يفتحه غيره، فقال للمهدي: انظر إلى هذا السفط فاحتفظ به، فإن فيه علم آبائك، ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، فإن أحزنك أمر فانظر في الدفتر الكبير، فإن أصبت فيه ما تريد، وإلا ففي الثاني والثالث، حتى بلغ سبعة، فإن ثقل عليك، فالكراسة الصغيرة، فأنك واجدٌ فيها ما تريد، وما أظنك تفعل.
وانظر هذه المدينة، وإياك أن تستبدل بها غيرها، وقد جمعت لك فيها من الأموال ما إن كسر عليك الخراج عشر سنين كفاك لأرزاق الجند، والنفقات، والذرية، ومصلحة البعوث، فاحتفظ بها، فإنك لا تزال عزيزاً ما دام بيت مالك عامراً، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل بيتك أن تظهر كرامتهم، وتحسن إليهم، وتقدمهم، وتوطئ الناس أعقابهم، وتوليهم المنابر، فإن عزك عزهم، وذكرهم لك، وما أظنك تفعل. وانظر مواليك فأحسن إليهم، وقربهم، واستكثر منهم، فإنهم مادتك لشدة إن نزلت بك، وما أظنك تفعل. وأوصيك بأهل خراسان خيراً، فإنهم أنصارك وشيعتك الذين بذلوا أموالهم ودماءهم في دولتك، ومن لا تخرج محبتك من قلوبهم، أن تحسن إليهم، وتتجاوز عن مسيئهم، وتكافئهم عما كان منهم، وتخلف من مات منهم في أهله وولده، وما أظنك تفعل. وأياك أن تبني مدينة الشرقية، فأنك لا تتم بناءها، وأظنك ستفعل. وإياك أن تستعين برجل من بني سليم، وأظنك ستفعل. وإياك إن تدخل النساء في أمرك، وأظنك ستفعل.
وقيل: قال له: إني ولدت في ذي الحجة ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فأتق الله فيما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك فيما كربك وحزنك فرجاً ومخرجاً، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.
يا بني احفظ محمداً، صلى الله عليه وسلم، في أمته، يحفظك الله ويحفظ عليك أمورك، وإياك والدم الحرام، فإنه حوبٌ عند الله عظيمٌ، وعارٌ في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود، فإن فيها خلاصك في الآجل وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله تعالى لو علم أن شيئاً أصلح منها لدينه وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه.

وأعلم أن من شدة غضب الله لسلطانه أنه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعي في الأرض فساداً مع ما ذخر له من العذاب العظيم، فقال: " إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَونْ في الأرَضِ فَسَاداً أنْ يُقَتَّلُوا أوْ يُصَلَّبُوا " المائدة: 33 الآية. فالسلطان، يا بني، حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه، وحصنه، وذب عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه، واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن، واحكم بالعدل، ولا تشطط، فإن ذلك أقطع للشغب، وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء.
وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع ما خلفه الله لك، وافتتح عملك بصلة الرحم وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل، وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم، وادفع المكاره عنهم، وأعد الأموال، واخزنها، وإياك والتبذير، فأن النوائب غير مأمونة، وهي من شيم الزمان.
وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت؛ وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد، فتتدارك عليك الأمور وتضيع، جد في إحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولاً فأولاً واجتهد وشمر فيها؛ وأعد رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار، ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل، وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر، ولا تكسل، واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على بابك، وسهل إذنك للناس، وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية، ولا تنم، فإن أباك لم ينم منذ ولي الخلافة، ولا دخل عينه الغمض إلا وقلبه مستيقظٌ. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك.
ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه، ثم سار إلى الكوفة، وجمع بين الحج والعمرة، وساق الهدي، وأشعره، وقلده لأيام خلت من ذي القعدة. فلما سار منازل من الكوفة عرض له وجعه الذي مات به، وهو القيام، فلما اشتد وجعه جعل يقول للربيع: بادرني حرم ربي هارباً من ذنوبي؛ وكان الربيع عديله؛ ووصاه بما أراد، فلما وصل إلى بئر ميمون مات بها مع السحر لست خلون من ذي الحجة، ولم يحضره عند وفاته إلا خدمة، والربيع مولاه، فكتم الربيع موته، ومنع من البكاء عليه، ثم أصبح، فحضر أهل بيته كما كانوا يحضرون، وكان أول من دعا عمه عيسى بن علي، فمكث ساعة، ثم أذن لأبن أخيه عيسى بن موسى، وكان فيما خلا يقدم على عيسى بن علي، ثم أذن للأكابر وذوي الأسنان منهم، ثم لعامتهم، فبايعهم الربيع للمهدي، ولعيسى بن موسى بعده على يدي موسى الهادي بن المهدي.
فلما فرغ من بيعه بني هاشم بايع القواد، وبايع عامة الناس، وسار العباس بن محمد ومحمد بن سليمان إلى مكة ليبايعا الناس، فبايعوا بين الركن والمقام، واشتغلوا بتجهيز المنصور، ففرغوا منه العصر، وكفن، وغطي وجهه وبدنه، وجعل رأسه مكشوفاً لأجل إحرامه، وصلى عليه عيسى بن موسى، وقيل إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، ودفنت في مقبرة المعلاة، وحفروا له مائة قبر ليغموا على الناس، ودفن في غيرها، ونزل في قبره عيسى بن علي، وعيسى بن محمد، والعباس بن محمد، والربيع والريان مولياه، ويقطين، وكان عمره ثلاثاً وستين سنة، وقيل أربعاً وستين، وقيل ثمانياً وستين سنة، فكانت مدة خلافته اثنتين وعشرين سنة إلا أربعة وعشرين يوماً، وقيل إلا ثلاثة أيام، وقيل إلا يومين؛ وقيل في موته: إنه لما نزل آخر منزل بطريق مكة نظر في صدر البيت، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
أبا جعفرٍ حانت وفاتك وانقضت ... سنوك، وأمر الله لا بدّ واقع
أبا جعفرٍ هل كاهنٌ أو منجّمٌ ... لك اليوم من حرّ المنيّة مانع
فأحضر متولي المنازل، وقال له: ألم آمرك أن لا يدخل المنازل أحد الناس ؟ قال: والله ما دخلها أحد منذ فرغ. فقال: اقرأ ما في صدر البيت ! فقال: ما أرى شيئاً، فأحضر غيره، فلم ير شيئاً، فأملى البيتين، ثم قال لحاجبه: اقرأ آية، فقرأ: " وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُون " الشعراء: 227، فأمر به فضرب، ورحل من المنزل تطيراً، فسقط عن دابته، فاندق ظهره ومات، فدفن ببئر ميمون، والصحيح ما تقدم.
ذكر صفة المنصور وأولاده

كان أسمر نحيفاً، خفيف العارضين، ولد بالحميمة من أرض الشراة. وأما أولاده فالمهدي محمد، وجعفر الأكبر، وأمهما أروى بنت منصور أخت يزيد بن منصور الحميري، وكانت تكنى أم موسى؛ ومات جعفر قبل المنصور؛ ومنهم سليمان؛ وعيسى، ويعقوب، أمهم فاطمة بنت محمد من ولد طلحة بن عبيد الله، وجعفر الأصغر، أمه أم ولد، كردية، وكان يقال له: ابن الكردية؛ وصالح المسكين، أمه أم ولد رومية؛ والقاسم، مات قبل المنصور وله عشر سنين، أمه أم ولد تعرف بأم القاسم، ولها بباب الشام بستان يعرف ببستان أم القاسم؛ والعالية، أمها امرأة من بني أمية.
ذكر بعض سيرة المنصورقال سلام الأبرش: كنت أخدم المنصور داخلاً في منزله، وكان من أحسن الناس خلقاً، ما لم يخرج إلى الناس، وأشد احتمالاً لما يكون من عبث الصبيان، فإذا لبس ثوبه اربد لونه، واحمرت عيناه فيخرج منه ما يكون.
وقال لي يوماً: يا بني ! إذا رأيتني قد لبست ثيابي، أو رجعت من مجلسي فلا يدنون مني منكم أحد مخافة أن أغره بشيء.
قال: ولم ير في دار المنصور لهوٌ، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث، إلا مرة واحدة، رؤي بعض أولاده وقد ركب راحلة، وهو صبي، وتنكب قوساً في هيئة الغلام الأعرابي، بين جوالقين فيهما مقل ومساويل وما يهديه الأعراب، فعجب الناس من ذلك، وأنكروه، فعبر إلى المهدي بالرصافة فأهداه له، فقبله وملأ الجوالقين دراهم، فعاد بينهما، فعلم أنه ضرب من عبث الملوك.
قال حماد التركي: كنت واقفاً على رأس المنصور، فسمع جلبة، فقال: انظر ما هذا ! فذهبت، فإذا خادمٌ له قد جلس حوله الجواري، وهو يضرب لهن بالطنبور، وهن يضحكن، فأخبرته، فقال: وأي شيء الطنبور ؟ فوصفته له، فقال: ما يدريك أنت ما الطنبور ؟ قلت: رأيته بخراسان. فقام ومشى إليهن، فلما رأينه تفرقن، فأمر بالخادم فضرب رأسه بالطنبور، حتى تكسر الطنبور، وأخرج الخادم فباعه.
قال: وكان المنصور قد استعمل معن بن زائدة على اليمن، لما بلغه من الاختلاف هناك، فسار إليه وأصلحه. وقصده الناس من أقطار الأرض لاشتهار جوده، ففرق فيهم الأموال، فسخط عليه المنصور، فأرسل إليه معن بن زائدة وفداً من قومه، فيهم مجاعة بن الأزهر، وسيرهم إلى المنصور ليزيلوا غيظه وغضبه، فلما دخل على المنصور ابتدأ مجاعة بحمد الله والثناء عليه، وذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، فأطنب في ذلك حتى عجب القوم، ثم ذكر المنصور وما شرفه الله به، وذكر بعد ذلك صاحبه. فلما انقضى كلامه قال: أما ما ذكرت من حمد الله، فالله أجل من أن تبلغه الصفات؛ وأما ما ذكرت من النبي، صلى الله عليه وسلم، فقد فضله الله تعالى بأكثر مما قلت؛ وأما ما وصفت به أمير المؤمنين، فإنه فضله الله بذلك، وهو معينه على طاعته، إن شاء الله تعالى؛ وأما ما ذكرت من صاحبك، فكذبت ولؤمت؛ إخرج، فلا يقبل ما ذكرته.
فلما صاروا بآخر الأبواب أمر برده مع أصحابه، فقال: ما قلت ؟ فأعاده عليه، فأخرجوا، ثم أمر بهم، فأوقفوا، ثم التفت إلى من حضر من مضر، فقال: هل تعرفون فيكم مثل هذا ؟ والله لقد تكلم حتى حسدته، وما منعني أن أتم على رده إلا أن يقال حسده لأنه من ربيعة، وما رأيت مثله رجلاً أربط جأشاً، ولا أظهر بياناً؛ رده يا غلام.
فلما صار بين يديه قال: اقصد لحاجتك ! قال: يا أمير المؤمنين، معن بن زائدة عبدك، وسيفك، وسهمك، رميت به عدوك، فضرب، وطعن، ورمى حتى سهل ما حزن، وذل ما صعب، واستوى ما كان معوجاً من اليمن، فأصبحوا من خول أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه، فإن كان في نفس أمير المؤمنين هنة من ساعٍ، أو واشٍ، فأمير المؤمنين أولى بالفضل على عبده، ومن أفنى عمره في طاعته.
فقبل عذره وأمر بصرفهم إليه، فلما قرأ معن الكتاب بالرضا، قبل ما بين عينيه، وشكر أصحابه، وأجازهم على أقدارهم، وأمرهم بالرحيل إلى المنصور، فقال مجاعة:
آليت في مجلسٍ من وائلٍ قسماً ... ألاّ أبيعك يا معنٌ بأطماع
يا معن ! إنّك أوليتني نعماً ... عمّت لحيماً وخصّت آل مجّاع
فلا أزال إليك الدّهر منقطعاً ... حتى يشيد بهلكي هتفه الناعي
وكان من نعم معن على مجاعة أنه قضى له ثلاث حوائج منها: أنه كان يتعشق جارية من أهل

بيت معن، اسمها زهراء، فطلبها، فلم يجبه لفقره، فطلبها من معن، فأحضر أباها، فزوجه إياها على عشرة آلاف درهم، وأمهرها من عنده.
ومنها: أنه طلب منه حائطاً بعينه، فاشتراه له.
ومنها أنه استوهب منه شيئاً، فوهب له ثلاثين ألف درهم تمام مائة ألف.
قيل: وكان المنصور يقول: ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعف منهم، هم أركان الدولة ولا يصلح الملك إلا بهم، أما أحدهم: فقاضٍ لا تأخذه في الله لومة لائم؛ والآخر صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي؛ والثالث صاحب خراج يستقصي ولا يظلم الرعية.
ثم عض على إصبعه السبابة ثلاث مرات، يقول في كل مرة: آه آه. قيل: ما هو يا أمير المؤمنين ؟ قال: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة.
وقيل: دعا المنصور بعامل قد كسر خراجه، فقال له: أد ما عليك ! فقال: والله ما أملك شيئاً. وأذن مؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله ! فقال: يا أمير المؤمنين هب ما علي لله وشهادة أن لا إله إلا الله. فخلى سبيله.
وقيل: وأتي بعامل، فحبسه وطالبه، فقال العامل: عبدك يا أمير المؤمنين؛ فقال: بئس العبد أنت! فقال: لكنك نعم المولى. قال: أما لك فلا.
قيل: وأتي بخارجي قد هزم له جيوشاً، فأراد ضرب رقبته، ثم ازدراه فقال: يا ابن الفاعلة ! مثلك يهزم الجيوش ؟ فقال له: ويلك وسوأة لك، أمس بيني وبينك السيف، واليوم القذف والسب، وما كان يؤمنك أن أرد عليك وقد يئست من الحياة فلا تستقيلها أبداً ؟ فاستحيا منه المنصور وأطلقه.
قيل: وكان شغل المنصور، في صدر نهاره، بالأمر والنهي، والولايات، والعزل، وشحن الثغور والأطراف، وأمن السبل، والنظر في الخراج والنفقات، ومصلحة معاش الرعية، والتلطف بسكونهم وهديهم، فإذا صلى العصر جلس لأهل بيته؛ فإذا صلى العشاء الآخرة جلس ينظر فيما ورد من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره؛ فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه، وانصرف سماره؛ وإذا مضى الثلث الثاني قام فتوضأ وصلى، حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه.
قيل: وقال للمهدي: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه، فإن فكر العاقل مرآته تريه حسنه وسيئه. يا بني ! لا يصلح السلطان إلا بالتقوى، ولا تصلح رعيته إلا بالطاعة، ولا تعمر البلاد بمثل العدل، وأقدر الناس على العفو أقدرهم على العقوبة، وأعجز الناس من ظلم من هو دونه، واعتبر عمل صاحبك وعلمه باختياره.
يا أبا عبد الله ! لا تجلس مجلساً إلا ومعك من أهل العلم من يحدثك؛ ومن أحب أن يحمد أحسن السيرة، ومن أبغض الحمد أساءها، وما أبغض الحمد أحدٌ إلا استذم، وما استذم إلا كره.
يا أبا عبد الله ! ليس العاقل الذي يحتال للأمر الذي غشيه، بل العاقل الذي يحتال للأمر حتى لا يقع فيه.
وقال للمهدي يوماً: كم راية عندك ؟ قال: لا أدري. قال: إنا لله أنت لأمر الخلافة أشد تضييعاً، ولكن قد جمعت لك ما لا يضرك معه ما ضيعت، فاتق الله فيما خولك.
قيل: وقال إسحاق بن عيسى: لم يكن أحد من بني العباس يتكلم فيبلغ حاجته على البديهة، غير المنصور، وأخيه العباس بن محمد، وعمهما داود بن علي؛ قيل: وخطب المنصور يوماً، فقال: الحمد لله أحمده وأستعينه، وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فاعترضه إنسان فقال: أيها الإنسان أذكرك من ذكرت به ! فقطع الخطبة، ثم قال: سمعاً، سمعاً لمن حفظ عن الله، وأعوذ بالله أن أكون جباراً عنيداً، أو تأخذني العزة بالإثم، لقد ضللت، إذاً، وما أنا من المهتدين. وأنت أيها القاتل، فوالله ما أردت بهذا القول الله، ولكنك أردت أن يقال قام، فقال، فعوقب، فصبر، وأهون بها، ويلك، لقد هممت، واغتنمها إذ عفوت، وإياك، وإياكم معاشر المسلمين أختها، فإن الحكمة علينا نزلت، ومن عندنا فصلت، فردوا الأمر إلى أهله، توردوه موارده، وتصدروه مصادره.
ثم عاد إلى خطبته، كأنما يقرأها، فقال: وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

وقال عبد الله بن صاعد: خطب المنصور بمكة، بعد بناء بغداد، فكان مما قال: ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون الأنبياء: 105. أمر مبرم، وقول عدل، وقضاء فصل، والحمد لله الذي أفلج حجته، وبعداً للقوم الظالمين الذين اتخذوا الكعبة غرضاً، والفيء إرثاً وجعلوا القرآن عضين، لقد حاق بهم ما كانوا به يستهزئون النحل: 34، فكم من بئر معطلة، وقصر مشيد، أهملهم الله حين بدلوا السنة، وأهملوا العبرة، وعندوا، واعتدوا، واستكبروا وخاب كل جبار عنيد؛ فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً.
قال: وكتب إليه رجل يشكو بعض عماله، فوقع إلى العامل في الرقعة: إن آثرت العدل صحبتك السلامة؛ وإن آثر الجور فما أقربك من الندامة، فأنصف هذا المتظلم من الظلامة.
قيل: وكتب إلى المنصور صاحب أرمينية يخبره أن الجند قد شغبوا عليه، ونهبوا ما في بيت المال، فوقع في كتابه: اعتزل عملنا مذموماً مدحوراً، فلو عقلت لم يشغبوا، ولو قويت لم ينهبوا.
وهذا وما تقدم من كلامه ووصاياه يدل على فصاحته وبلاغته، وقد تقدم له أيضاً من الكتب وغيرها ما يدل على أنه كان واحد زمانه، إلا أنه كان يبخل، ومما نقل عنه من ذلك قول الوضين بن عطاء: استزارني المنصور، وكان بيني وبينه خلة قبل الخلافة، فخلونا يوماً، فقال: يا أبا عبد الله ! ما لك ؟ قلت: الخبر الذي تعرفه. قال: وما عيالك ؟ قلت: ثلاث بنات، والمرأة، وخادم لهن. فقال: أربع في بيتك ؟ قلت: نعم ! فرددها، حتى ظننت أنه سيعينني، ثم قال: أنت أيسر العرب، أربعة مغازل يدرن في بيتك.
قيل: رفع غلام لأبي عطاء الخراساني أن له عشرة آلاف درهم، فأخذها منه وقال: هذا مالي. قال: من أين يكون مالك، ووالله ما وليتك عملاً قط، ولا بيني وبينك رحم ولا قرابة ! قال: بلى! كنت تزوجت امرأة لعيينة ابن موسى بن كعب، فورثتك مالاً، وكان قد عصى بالسند، وهو والٍ على السند، وأخذ مالي فهذا المال من ذاك.
وقيل لجعفر الصادق: إن المنصور يكثر من لبس جبة هروية، وإنه يرقع قميصه. فقال جعفر: الحمد لله الذي لطف به، حتى ابتلاه بفقر نفسه في ملكه.
قيل: وكان المنصور إذا عزل عاملاً أخذ ماله وتركه في بيت مال مفرد سماه بيت مال المظالم، وكتب عليه اسم صاحبه، وقال للمهدي: قد هيأت لك شيئاً فإذا أنا مت فادع من أخذت ماله فاردده عليه، فإنك تستحمد بذلك إليهم وإلى العامة؛ ففعل المهدي ذلك.
وله في ضد ذلك أشياء كثيرة.
قيل: وذكر زيد مولى عيسى بن نهيك قال: دعاني المنصور، بعد موت مولاي، فسألني: كم خلق من مال ؟ قلت: ألف دينار، وأنفقته امرأته في مأتمه. قال: كم خلف من البنات ؟ قلت: ستاً؛ فأطرق، ثم رفع رأسه وقال: اغد إلى المهدي، فغدوت إليه، فأعطاني مائة ألف وثمانين ألف دينار، لكل واحدة منهن ثلاثين ألفاً، ثم دعاني المنصور فقال: عد علي بأكفائهن حتى أزوجهن، ففعلت، فزوجهن، وأمر أن تحمل إليهن صدقاتهن من ماله، لكل واحدة منهن ثلاثون ألف درهم، وأمرني أن أشتري بمالهن ضياعاً لهن يكون معاشهن منها.
قيل: وفرق المنصور على جماعة من أهل بيته في يوم واحد، عشرة آلاف ألف درهم، وأمر لجماعة من أعمامه منهم: سليمان، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، لكل رجل منهم بألف ألف، وهو أول من وصل بها.
وله في ذلك أيضاً أخبار كثيرة، وأما غير ذلك، قال يزيد بن عمر بن هبيرة: ما رأيت رجلاً قط في حرب، ولا سمعت به في سلم أنكر، ولا أمكر، ولا أشد تيقظاً من المنصور. لقد حصرني تسعة أشهر، ومعي فرسان العرب، فجهدنا بكل الجهد أن ننال من عسكره شيئاً نكسره به، فما تهيأ، ولقد حصرني وما في رأسي شعرة بيضاء، فخرجت إليه وما في رأسي شعرة سوداء.

وقيل: وأرسل ابن هبيرة إلى المنصور، وهو محاصره، يدعوه إلى المبارزة، فكتب إليه: إنك متعد طورك، جار في عنان غيك، يعدك الله ما هو مصدقه، ويمنيك الشيطان ما هو مكذبه، ويقرب ما الله مباعده، فرويداً يتم الكتاب أجله، وقد ضربت مثلي ومثلك: بلغني أن أسداً لقي خنزيراً، فقال له الخنزير: قاتلني ! فقال الأسد: إنما أنت خنزير، ولست بكفؤ لي ولا نظير، ومتى قاتتك فقتلتك قيل لي: قتل خنزيراً، فلا أعتقد فخراً، ولا ذكراً؛ وإن نالني منك شيء كان سبة علي. فقال الخنزير: إن لم تفعل أعلمت السباع أنك نكلت عني؛ فقال الأسد: احتمال عار كذبك علي أيسر من لطخ شرابي بدمك.
قيل: وكان المنصور أول من علم الخيش، فإن الأكاسرة كانوا يطينون كل يوم بيتاً يسكنونه في الصيف، وكذلك بنو أمية.
قيل: وأتي برجل من بني أمية، فقال: إني أسألك عن أشياء، فاصدقني ولك الأمان. قال: نعم ! قال: من أين أتي بنو أمية ؟ قال: من تضييع الأخبار. قال: فأي الأموال وجدوها أنفع ؟ قال: الجوهر. قال: فعند من وجدوا الوفاء ؟ قال: عند مواليهم؛ فأراد المنصور أن يستعين في الأخبار بأهل بيته، فقال: اضع منهم، فاستعان بمواليه.
ذكر خلافة المهدي والبيعة لهذكر علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال: خرجت من البصرة حاجاً، فاجتمعت بالمنصور بذات عرق، فكنت أسلم عليه كلما ركب، وقد أشفى على الموت، فلما صار ببئر ميمون نزل به، ودخلنا مكة، فقضيت عمرتي، وكنت أختلف إلى المنصور، فلما كان في الليلة التي مات فيها، ولم نعلم، صليت الصبح بمكة، وركبت أنا ومحمد بن عون بن عبد الله بن الحارث، وكان من مشايخ بني هاشم وسادتهم، فلما صرنا بالأبطح لقينا العباس بن محمد ومحمد بن سليمان في خيل إلى مكة، فسلمنا عليهما ومضينا، فقلت لمحمد: أحسب الرجل قد مات، فكان كذلك.
ثم أتينا العسكر، فإذا موسى بن المهدي قد صدر عند عمود السرادق، والقاسم بن المنصور في ناحية من السرداق، وقد كان قبل ذلك يسير بين المنصور وبين صاحب الشرطة، ورفع الناس إليه القصص، فلما رأيته علمت أن المنصور قد مات.
وأقبل الحسن بن زيد العلوي، وجاء الناس حتى ملؤوا السرداق، وسمعنا همساً من بكاء، وخرج أبو العنبر، خادم المنصور، مشقق الأقبية، وعلى رأسه التراب، وصاح: واأمير المؤمنيناه ! فما بقي أحد إلا قام، ثم تقدموا ليدخلوا إليه، فمنعهم الخدم، وقال ابن عياش المنتوف: سبحان الله ! أما شهدتم موت خليفة قط ؟ اجلسوا، فجلسوا، وقام القاسم فشق ثيابه، ووضع التراب على رأسه، وموسى على حاله.
ثم خرج الربيع وفي يده قرطاس، ففتحه، فقرأه، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله المنصور، أمير المؤمنين، إلى من خلف من بني هاشم، وشيعته من أهلب خراسان، وعامة المسلمين، ثم بكى، وبكى الناس، ثم قال: قد أمكنكم البكاء، فأنصتوا، رحمكم الله؛ ثم قرأ: أما بعد، فإني كتبت كتابي هذا، وأنا حي في آخر يوم من أيام الدنيا، وأول يوم من أيام الآخرة، أقرأ عليكم السلام وأسأل الله أن لا يفتنكم بعدي ولا يلبسكم شيعاً، ولا يذيق بعضكم بأس بعض.
ثم أخذ في وصيتهم بالمهدي، وإذكارهم البيعة له، وحثهم على الوفاء بعهده، ثم تناول يد الحسن، بن زيد وقال: قم فبايع ! فقام إلى موسى فبايعه، ثم بايعه الناس الأول فالأول، ثم أدخل بنو هاشم على المنصور وهو في أكفانه، مكشوف الرأس، فحملناه، حتى أتينا به مكة ثلاثة أميال، فكأني أنظر إليه والريح تحرك شعر صدغيه، وذلك أنه كان وفر شعره للحلق، وقد نصل خضابه، حتى أتينا به حفرته.
وكان أول شيء ارتفع به علي بن عيسى بن ماهان أن عيسى بن موسى أبى البيعة، فقال علي بن عيسى بن ماهان: والله لتبايعن أو لأضربن عنقك ! فبايع؛ ثم وجه موسى بن المهدي والربيع إلى المهدي بخبر وفاة المنصور، وبالبيعة له مع منارة مولى المنصور، وبعثا أيضاً بالقضيب، وبردة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبخاتم الخلافة، وخرجوا من مكة، فقدم الخبر على المهدي مع منارة، منتصف ذي الحجة، فبايعه أهل بغداد.

وقيل: إن الربيع كتم موت المنصور، وألبسه، وسنده، وجعل على وجهه كلة خفيفة يرى شخصه منها، ولا يفهم أمره، وأدنى أهله منه، ثم قرب منه الربيع كأنه يخاطبه، ثم رجع إليهم، وأمرهم عنه بتجديد البيعة للمهدي، فبايعوا، ثم أخرجهم، وخرج إليهم باكياً مشقق الجيب، لاطماً رأسه. فلما بلغ ذلك المهدي أنكره على الربيع، وقال: أما منعتك جلالة أمير المؤمنين أن فعلت به ما فعلت ؟ وقيل ضربه، ولم يصح ضربه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل المنصور المسب بن زهير عن شرطته، وحبسه مقيداً، وسبب ذلك أنه ضرب أبان بن بشير الكاتب بالسياط، حتى قتله، لأنه كان شريك أخيه عمرو بن زهير في ولاية الكوفة، واستعمل على شرطته الحكم بن يوسف، صاحب الحراب، ثم كلم المهدي أباه في المسيب. فرضي عنه، وأعاده إلى شرطته.
وفيها استعمل المنصور نصر بن حرب بن عبد الله على فارس.
وفيها عاد المهدي من الرقة في شهر رمضان.
وفيها غزا الصائفة معيوف بن يحيى من درب الحدث، فلقي العدو، فاقتتلوا، ثم تحاجزوا.
وفيها حبس محمد بن إبراهيم الإمام، وهو أمير مكة، جماعة أمر المنصور بحبسهم، وهم رجل من آل علي بن أبي طالب كان بمكة، وابن جريح، وعباد بن كثير، وسفيان الثوري، ثم أطلقهم من الحبس بغير أمر المنصور، فغضب.
وكان سبب إطلاقهم أنه أنكر، وقال: عمدت إلى ذي رحم فحبسته، يعني بعض ولد علي، وإلى نفر من أعلام المسلمين فحبستهم، وتقدم أمير المؤمنين، فلعله يأمر بقتلهم، فيشد سلطانه، وأهلك فأطلقهم، وتحلل منهم، فلما قارب المنصور مكة أرسل إليه محمد بن إبراهيم بهدايا فردها عليه.
وفيها شخص المنصور من بغداد إلى مكة، فمات في الطريق قبل أن يبلغها.
وفي هذه السنة غزا عبد الرحمن، صاحب الأندلس، مدينة قورية، وقصد البربر الذين كانوا أسلموا عامله إلى شقنا فقتل منهم خلقاً من أعيانهم، واتبع شقنا، حتى جاوز القصر الأبيض والدرب، ففاته.
وفيها مات أورالي ملك جليقية، وكان ملكه ست سنين، وملك بعده شيالون.
وفيها توفي مالك بن مغول، الفقيه البجلي بالكوفة؛ وحيوة بن شريح بن مسلم الحضرمي المصري، وكان العامل على مكة والطائف إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي بن عبد الله، وعلى المدينة عبد الصمد بن علي، وعلى الكوفة عمرو بن زهير الضبي، وقيل إسماعيل بن إسماعيل الثقفي، وعلى قضائها شريك بن عبد الله النخغي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى خراسان حميد بن قحطبة، وعلى قضاء بغداد عبد الله بن محمد بن صفوان، وعلى الشرطة بها عمر بن عبد الرحمن أخو عبد الجبار بن عبد الرحمن، وقيل موسى بن كعب، وعلى خراج البصرة وأرضها عمارة بن حمزة، وعلى قضائها والصلاة عبيد الله بن الحسن العنبري.
وأصاب الناس هذه السنة وباء عظيم.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائة

ذكر الحسن بن إبراهيم بن عبد الله
في هذه السنة حول المهدي الحسن بن إبراهمي بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي من محبسه.
وسبب ذلك أنه كان محبوساً مع يعقوب بن داود في موضع واحد، فلما أطلق يعقوب وبقي هو ساء ظنه، فالتمس مخرجاً، فأرسل إلى بعض من يثق إليه، فحفر سرباً إلى الموضع الذي هو فيه، فبلغ ذلك يعقوب فأتى ابن علاثة القاضي، وكان قد اتصل به، فقال: عندي نصيحة للمهدي، وطبب إليه إيصاله إلى أبي عبيد الله وزيره، ليرفعها إليه، فأحضره عنده، فلما سأله عن نصيحته، سأله عن إيصاله إلى المهدي ليعلمه بها، فأوصله إليه، فاستخلاه، فأعلمه المهدي ثقته بوزيره وابن علاثة، فلم يقل شيئاً، حتى قاما، فأخبرهخبر الحسن، فأنفذ من يثق به، فأتاه بتحقيق الحال، فأمر بتحويل الحسن، فحول، ثم احتيل له فيما بعد، فهرب وطلب، فلم يظفر به، فأحضر المهدي يعقوب وسأله عنه، فأخبره أنه لا يعلم مكانه، وأنه إن أعطاه الأمان أتاه به فآمنه وضمن له الإحسان، فقال له: اترك طلبه، فإن ذلك يوحشه، فترك طلبه، ثم إن يعقوب تقدم عند المهدي، فأحضر الحسن بن إبراهيم عنده.
ذكر تقدم يعقوب عند المهدي

قد تقد ذكر وصوله إليه، فلما أحضره المهدي عنده في أمر الحسن بن إبراهيم، كما تقدم، قال له: يا أمير المؤمنين ! إنك قد بسطت عدلك لرعيتك، وأنصفتهم، وأحسنت إليهم، فعظم رجاؤهم، وقد بقيت أشياء لو ذكرتها لك لم تدع النظر فيها، وأشياء خلف بابك تعمل فيها ولا تعلم بها، فإن جعلت إلي السبيل إليك رفعتها.
فأمر بذلك. فكان يدخل عليه كلما أراد، ويرفع إليه النصائح في الأمور الحسنة الجميلة، من أمر الثغور، وبناء الحصون، وتقوية الغزاة وتزويج العزاب، وفكاك الأسرى والمحبوسين، والقضاء علن الغارمين، والصدقة على المتعففين، فحظي عنده بذلك، وعلت منزلته، حتى سقطت منزلة أبي عبيد الله، وحبس، وكتب المهدي توقيعاً بأنه قد اتخذه أخاً في الله ووصله بمائة ألف.
ذكر ظهور المقنع بخراسانوفي هذه السنة قبل موت حميد بن قحطبة، ظهر المقنع بخراسان، وكان رجلاً أعور، قصيراً، من أهل مرو، ويسمى حكيماً، وكان اتخذ وجهاً من ذهب فجعله على وجهه لئلا يرى، فسمي المقنع وادعى الألوهية، ولم يظهر ذلك إلى جميع أصحابه، وكان يقول: إن الله خلق آدم، فتحول في صورته، ثم في صورة نوح، وهكذا هلم جرا إلى أبي مسلم الخراساني، ثم تحول إلى هاشم، وهاشم، في دعواه، هو المقنع، ويقول بالتناسخ؛ وتابعه خلق من ضلال الناس وكانوا يسجدون له من أي النواحي كانوا، وكانوا يقولون في الحرب: يا هاشم أعنا.
واجتمع إليه خلق كثير، وتحصنوا في قلعة بسنام، وسنجردة، وهي من رساتيق كش، وظهرت المبيظة ببخارى والصغد معاونين له، وأعانه كفار الأتراك، وأغاروا على أموال المسلمين.
وكان يعتقد أن أبا مسلم أفضل من النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان ينكر قتل يحيى بن زيد، وادعى أنه يقتل قاتليه.
واجتمعوا بكش، وغلبوا على بعض قصورها، وعلى قلعة نواكث، وحاربهم أبو النعمان، والجنيد، وليه بن نصر، مرة بعد مرة، وقتلوا حسان بن تميم بن نصر بن سيار، ومحمد بن نصر وغيرهما.
وأنفذ إليهم جبرائيل بن يحيى وأخاه يزيد، فاشتغلوا بالمبيضة الذين كانوا ببخارى، فقاتلوهم أربعة أشهر في مدينة بومجكث، ونقبها عليهم، فقتل منهم سبعمائة، وقتل الحكم، ولحق منهزموهم بالمقنع، وتبعهم جبرائيل، وحاربهم؛ ثم سير المهدي أبا عون لمحاربة المقنع، فلم يبالغ في قتاله، واستعمل معاذ بن مسلم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل المهدي إسماعيل عن الكوفة، واستعمل عليها إسحاق بن الصباح الكندي ثم الأشعثي، وقيل عيسى بن لقمان بن محمد بن حاطب الجمحي.
وفيها عزل سعيد بن دعلج عن أحداث البصرة، وعبيد الله بن الحسن عن الصلاة، واستعمل مكانهما عبد الملك بن أيوب بن ظبيان النميري، وأمره بإنصاف من تظلم من سعيد بن دعلج، ثم صرفت الأحداث فيها إلى عمارة بن حمزة فولاها المسور بن عبد الله الباهلي.
وفيها عزل قثم بن العباس عن اليمامة، فوصل كتاب عزله وقد مات واستعمل مكانه بشر بن المنذر البجلي.
وفيها عزل الهيثم بن سعيد بن الجزيرة، واستعمل عليها الفضل بن صالح.
وفيها أعتنف المهدي الخيزران أم ولده، وتزوجها وتزوج أم عبد الله بنت صالح بن علي أخت الفضل وعبد الملك.
وفيها احترقت السفن عند قصر عيسى ببغداد بما فيها واحترق ناس كثير.
وفيها عزل مطر مولى المنصور عن مصر، واستعمل عليها أبو ضمرة محمد بن سليمان.
وفيها غزا العباس بن محمد الصائفة الرومية، وعلى المقدمة الحسن الوصيف، فبلغوا أنقرة، وفتحوا مدينة للروم، ومطمورة، ولم يصب من المسلمين أحد ورجعوا سالمين.
وفيها عزل عبد الصمد بن علي علن المدينة، واستعمل عليها محمد بن عبد الله الكثيري. ثم عزله واستعمل مكانه محمد بن عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن صفوان الجمحي.
وفيها بني المهدي سور الرصافة ومسجدها، وحفر خندقها.
وفيها توفي معبد بن الخليل بالسند، وهو عامل المهدي عليها، واستعمل مكانه روح بن حاتم، أشار به أبو عبيد الله وزير المهدي.
وفيها أطلق المهدي من كان في حبوس المنصور، إلا من كان عنده تبعة من دم أو مال، أو من يسعى في الأرض بالفساد. وكان فيمن أطلق يعقوب بن داود، مولى بني سليم.
وفيها توفي حميد بن قحطبة وهو على خراسان، واستعمل المهدي بعده عليها أبا عون عبد الملك بن يزيد.

وحج بالناس هذه السنة يزيد بن منصور خال المهدي، عند قدومه من اليمن، وكان المهدي قد كتب إليه بالقدوم عليه وتوليته الموسم.
وكان أمير المدينة عبد الله بن صفوان الجمحي، وعلى أحداث الكوفة إسحاق بن الصباح الكندي، وعلى خراجها ثابت بن موسى، وعلى قضائها شريك ، وعلى صلاة البصرة عبد الملك بني أيوب، وعلى أحداثها عمارة بن حمزة، وعلى قضائها عبيد الله بن الحسن، وعلى كور دجلة وكور الأهواز وكور فارس عمارة بن حمزة، وعلى السند بسطام بن عمرو، وعلى اليمن رجاء بن روح، وعلى اليمامة بشر بن المندر، وعلى خراسان أبو عون عبد الملك بن يزيد، وكان حميد بن قحطبة قد مات فيها، فول المهدي أبا عون.
وكان على الجزيرة الفضل بن صالح، وعلى إفريقية يزيد بن حاتم، وعلى مصر أبو ضمرة محمد بن سليمان.
وفيها كان شقنا قد انتشر في نواحي شنت برية، فسير إليه عبد الرحمن، صاحب الأندلس، جيشاً، ففارق مكانه، وصعد الجبال كعادته فعاد الجيش عنه.
وفيها مات محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، الفقيه، بالكوفة، وهو مدني، وعمره تسع وسبعون سنة.
وفيها توفي عبد العزيز بن أبي رواد مولى المغيرة بني المهلب، ويونس بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني، ومخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج المصري، وحسين بن واقد مولى ابن عامر، وكان على قضاء مرو، وكان يشتري الشيء من السوق فيحمله إلى عياله.
ثم دخلت سنة ستين ومائة

ذكر خروج يوسف البرم.
في هذه السنة خرج يوسف بن إبراهيم، المعروف بالبرم، بخراسان، منكراً هو ومن معه على المهدي سيرته التي يسر بها، واجتمع معه بشر كثير، فتوجه إليه يزيد بن مزيد الشيباني، وهو ابن أخي معن بن زائدة، فلقه، فاقتتلا، حتى صارا إلى المعانقة، فأسره يزيد بن مزبد وبعث به إلى المهدي، وبعث معه وجوه أصحابه، فلما بلغوا النهروان حمل يوسف على بعير، قد حول وجهه إلى ذنبه، وأصحابه مثله، فأدخلوهم الرصافة على تلك الحال، وقطعت يدا يوسف ورجلاه، وقتل هو وأصحابه، وصلبوا على الجسر.
وقد قيل إنه كان حرورياً، وتغلب على بوشنج وعليها مصعب بن زريق، جد طاهر بن الحسين، فهرب منه، وتغلب أيضاً على مرو الروذ والطالقان والجوزجان، وقد كان من جملة أصحابه أبو معاذ الفريابي، فقبض معه.
ذكر بيعة موسى الهاديكان جماعة من بني هامش وشيعة المهدي قد خاضوا في خلع عيسى بن موسى من ولاية العهد، والبيعة لموسى الهادي بن المهدي، فلما علم المهدي بذلك سره، وكتب إلى عيسى بن موسى بالقدوم عليه، وهو بقرية الرحبة، من أعمال الكوفة، فأحس عيسى بالذي يراد منه، فامتنع من القدوم، فاستعمل المهدي على الكوفة روح بن حاتم، للإضرار به، فلم يجد روح إلى الإضرار به سبيلاً، لأنه كان لا يقرب البلد إلا كل جمعة أو يوم عيد.
وألح المهدي عليه وقال له: إنك لم تجبني إلى أن تنخلع من ولاية العهد لموسى وهارون استحللت منك، بمعصيتك، ما يستحل من أهل المعاصي، وإن أجبتني عوضتك منها ما هو أجدى عليك وأعجل نفعاً؛ فلم يقدم عليه، وخيف انتفاضه، فوجه إليه المهدي عمه العباس بن محمد برسالة وكتاب يستدعيه، فلم يحضر معه، فلما عاد والعباس، وجه المهدي إليه أبا هريرة محمد بن فروخ القائد في ألف من أصحابه ذوي البصائر في التشيع للمهدي، وجعل مع كل واحد منهم طبلاً، وأمرهم أن يضربوا طبولهم جميعاً عند قدومهم إليه، فوصلوا سحراً، وضربوا طبولهم، فارتاع عيسى روعاً شديداً، ودخل عليه أبو هريرة، وأمره بالشخوص معه فاعتل بالشكوى، فلم يقبل منه وأخذه معه.
فلما قدم عيسى بن موسى نزل دار محمد بن سليمان في عسكر المهدي، فأقام أياماً يختلف إلى المهدي ولا يكلم بشيء، ولا يرى مكروهاً، فحضر الدار يوماً قبل جلوس المهدي فجلس في مقصورة للربيع، وقد اجتمع شيعة رؤساء المهدي على خلعه، فثاروا به وهو في المقصورة، فأغلق الباب دونهم، فضربوا الباب بالعمد، حتى هشموه، وشتموا عيسى أقبح الشتم، وأظهر المهدي إنكاراً لما فعلوه، فلم يرجعوا، فبقوا في ذلك أياماً إلى أن كاشفه أكابر أهل بيته، وكان أشدهم عليه محمد بن سليمان.

وألح عليه المهدي، فأبى، وذكر أن عليه إيماناً في أهله وماله، فأحضر له من القضاة والفقهاء عدة، منهم: محمد بن عبد الله بن علاثة، ومسلم بن خالد الزنجي، فأفتوه بما رأوا، فأجاب إلى خلع نفسه لأربع بقين من المحرم، وبايع للمهدي ولابنه موسى الهادي.
ثم جلس المهدي من الغد، وأحضر أهل بيته، وأخذ بيعتهم، ثم خرج إلى الجامع، وعيسى معه، فخطب الناس، وأعلمهم بخلع عيسى والبيعة للهادي، ودعاهم إلى البيعة، فسارع الناس إليها، وأشهد على عيسى بالخلع، فقال بعض الشعراء: ؟كره الموت أبو موسى وقد كان في الموت نجاةٌ وكرم
خلع الملك وأضحى ملبساً ... ثوب لؤمٍ ما ترى منه القدم
الرحبة بضم الراء قرية عند الكوفة، وصبح بضم الصاد المهملة، وكسر الباء الموحدة.
ذكر فتح مدينة باربدكان المهدي قد سير، سنة تسع وخمسين ومائة، جيشاً في البحر، وعليهم عبد الملك بن شهاب المسمعي إلى بلاد الهند في جمع كثير من الجند والمتطوعة، وفيهم الربيع بن صبيح، فساروا حتى نزلوا على باربد، فلما نازلوها حصروها من نواحيها، وحرص الناس بعضهم بعضاً على الجهاد، وضايقوا أهلها، ففتحها الله عليهم هذه السنة عنوةً واحتمى أهلها بالبد الذي لهم، فأحرقه المسلمون عليهم، فاحترق بعضهم، وقتل الباقون، واستشهد من المسلمين بضعةٌ وعشرون رجلاً، وأفاءها الله عليهم، فهاج عليهم البحر، فأقاموا إلى أن يطيب، فأصابهم مرض في أفواههم، فمات منهم نحو من ألف رجل فيهمالربيع بن صبيح، ثم رجعوا.
فلما بلغوا ساحلاً من فارس يقال له بحر حمران عصفت بهم الريح ليلاً، فانكسر عامة مراكبهم، فغرق البعض، ونجا البعض.
قيل: وفيها جعل أبان بن صدقة كاتباً لهارون الرشيد ووزيراً له.
وفيها عزل أبو عون عن خراسان عن سخطة، واستعمل عليها معاذ بن مسلم.
وفيها غزا ثمامة بن العبس الصائفة، وغزا الغمر بن العباس الخثعمي بحر الشام.
ذكر رد نسب آل أبي بكرة وآل زيادوفي هذه السنة أمر المهدي برد نسب آل أبي بكر من ثقيف إلى ولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وسبب ذلك أن رجلاً منهم رفع ظلامته إلى المهدي، وتقرب إليه فيها بولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال له المهدي: إن هذا نسب ما يقرون به إلا عند الحاجة، والاضطرار إلى التقرب إلينا. فقال له: من جحد ذلك، يا أمير المؤمنين، فإنا سنقر، وأنا أسألك أن تردني ومعشر آل أبي بكرة إلى نسبنا من ولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتأمر بآل زياد فيخرجوا من نسبهم الذي ألحقوا به، ورغبوا عن قضاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إن الولد للفراش، وللعاهر الحجر، ويردوا إلى عبيد في موالي ثقيف.
فأمر المهدي برد آل أبي بكرة إلى ولاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكتب فيه إلى محمد بن موسى بذلك، وأن من أقر منهم بذلك ترك ماله بيده، ومن أباه اصطفى ماله.
فعرضهم، فأجابوا جميعاً إلا ثلاثة نفر، وكذلك أيضاً أمر برد نسب آل زياد إلى عبيد وأخرجهم من قريش.
فكان الذي حمل المهدي على ذلك، مع الذي ذكرناه، أن رجلاً من آل زياد قدم عليه يقال له الصغدي بن سلم بن حرب بن زياد، فقال له المهدي: من أنت ؟ فقال: ابن عمك. فقال: أي بني عمي أنت ؟ فذكر نسبه، فقال المهدي: يا ابن سمية الزانية ! متى كنت ابن عمي ؟ وغضب وأمر به، فوجئ في عنقه وأخرج، وسأل عن استلحاق زياد، ثم كتب إلى العامل بالبصرة بإخراج آل زياد من ديوان قريش والعرب، وردهم إلى ثقيف، وكتب في ذلك كتاباً بالغاً، يذكر فيه استلحاق زياد، ومخالفة حكم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيه، فأسقطوا من ديوان قريش، ثم إنهم بعد ذلك رشوا العمال، حتى ردهم إلى ما كانوا عليه، فقال خالد النجار:
إنّ زياداً ونافعاً وأبا ... بكرة عندي من أعجب العجب
ذا قرشيٌّ كما يقول وذا ... مولىً وهذا بزعمه عربي
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة توفي عبد الله بن صفوان الجمحي، أمير المدينة، واستعمل عليها مكانه محمد بن عبد الله الكثيري، ثم عزل واستعمل مكانه زفر بن عاصم الهلالي، وجعل على القضاء عبد الله بن محمد بن عمران الطلحي.
وفيها خرج عبد السلام الخارجي بنواحي الموصل

وفيها عزل بسطام بن عمرو عن لسند، واستعمل عليها روح بن حاتم؛ وحج بالناس، هذه السنة، المهدي، واستخلف على بغداد ابنه موسى وخاله يزيد بن منصور، واستصحب معه جماعة من أهل بيته، وابنه هارون الرشيد، وكان معه يعقوب بن داود، فأتاه بمكة بالحسن بن إبراهيم بن عبد الله العلوي الذي كان استأمن له، فوصله المهدي وأقطعه.
وفيها نزع المهدي كسوة الكعبة وكساها كسوة جديدة، وكان سبب نزعها أن حجبة الكعبة ذكروا له أنهم يخافون على الكعبة أن تتهدم لكثرة ما عليها من الكسوة، فنزعها، وكانت كسوة هشام بن عبد الملك من الديباج الثخين، وما قبلها من عمل اليمن؛ وقسم مالاً عظيماً، وكان معه من العراق ثلاثون ألف ألف درهم، ووصل إليه من مصر ثلاثمائة ألف دينار، ومن اليمن مائتا ألف دينار، ففرق ذلك كله، وفرق مائة ألف ثوب وخمسين ألف ثوب، ووسع مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأخذ خمسمائة من الأنصار يكونون حرساً له بالعراق، وأقطعهم بالعراق، وأجرى عليهم الأرزاق.
وحمل إليه محمد بن سليمان الثلج إلى مكة، وكان أول خليفة حمل إليه الثلج إلى مكة، ورد المهدي على أهل بيته وغيرهم وظائفهم التي كانت مقبوضة عنهم.
وكان لي البصرة، وكور دجلة، والبحرين، وعمان، وكور الأهواز، وفارس، محمد بن سليمان، وعلى خراسان معاذ بن مسلم، وباقي الأمصار على ما تقدم ذكره.
وفيها أرسل عبد الرحمن الأموي بالأندلس أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، وتمام بن علقمة، إلى شقنا، فحاصراه شهوراً بحصن شبطران، وأعياهما أمره، فقفلا عنه، ثم إن شقنا، بعد عودهما عنه، خرج من شبطران إلى قرية من قرى شنت برية راكباً على بغلته التي تسمى الخلاصة، فاغتاله أبو معن وأبو خزيم، وهما من أصحابه، فقتلاه، ولحقا بعبد الرحمن، ومعهما رأسه، فاستراح الناس من شره.
وفيها مات داود بن نصير الطائي الزاهد، وكان من أصحاب أبي حنيفة؛ وعبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود المسعودي أيضاً، وشعبة بن الحجاج أبو بسطام، وكان عمره سبعاً وسبعين سنة؛ وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وقيل توفي سنة أربع وستين.
وفيها توفي الربيع بن مالك بن أبي عامر، عم مالك بن أنس الفقيه، كنيته أبو مالك، وكانوا أربعة إخوة، أكبرهم أنس والد مالك، ثم أويس جد إسماعيل بن أويس، ثم نافع، ثم الربيع.
وفيها توفي خليفة بن خياط العصفري الليثي، وهو جد خليفة بن خياط.
خياط بالخاء المعجمة، وبالياء المثناة من تحت وفيها توفي الخليل بن أحمد البصري الفرهودي النحوي، الإمام المشهور في النحو، أستاذ سيبويه.
ثم دخلت سنة إحدى وستين ومائة

ذكر هلاك المقنع
في هذه السنة سار معاذ بن مسلم وجماعة من القواد والعساكر إلى المقنع، وعلى مقدمته سعيد الحرشي، وأتاه عقبة بن مسلم من زم، فاجتمع به بالطواويس، وأوقعوا بأصحاب المقنع، فهزموهم، فقصد المنهزمون إلى المقنع بسنام فعمل خندقها وحصنها، وأتاهم معاذ فحاربهم، فجرى بينه وبين الحرشي نفرةٌ، فكتب الحرشي إلى المهدي في معاذ، ويضمن له الكفاية إن أفرده بحرب المقنع، فأجابه المهدي إلى ذلك، فانفرد الحرشي بحربه، وأمده معاذ بابنه رجاء في جيش، وبكل ما التمسه منه، وطال الحصار على المقنع، فطلب أصحابه الأمان سراً منه، فأجابهم الحرشي إلى ذلك، فخرج نحو ثلاثين ألفاً، وبقي معه زهاء ألفين من أرباب البصائر. وتحول رجاء بن معاذ وغيره فنزلوا خندق المقنع في أصل القلعة، وضايقوه.
فلما أيقن بالهلاك جمع نساءه وأهله، وسقاهم السم، فأتى عليهم، وأمر أن يحرق هو بالنار لئلا يقدر على جثته؛ وقيل: بل أحرق كل ما في قلعته من دابة وثوب وغير ذلك، ثم قال: من أحب أن يرتفع معي إلى السماء فليلق نفسه معي في هذه النار ! وألقى بنفسه مع أهله، ونسائه، وخواصه، فاحترقوا، ودخل العسكر القلعة، فوجدوها خالية خاوية.
وكان ذلك مما زاد في افتتان من بقي من أصحابه، والذين يسمون المبيضة بما وراء النهر من أصحابه، إلا أنهم يسرون اعتقادهم؛ وقيل: بل شرب هو أيضاً من السم، فمات، فأنفذ الحرشي رأسه إلى المهدي، فوصل إليه وهو بحلب سنة ثلاث وستين ومائة، في غزواته.
؟
ذكر تغير حال أبي عبيد الله

في هذه السنة تغيرت حال أبي عبيد الله وزير المهدي، وقد ذكرنا فيما تقدم سبب اتصاله به أيام المنصور، ومسيره معه إلى خراسان؛ فحكى الفضل بن الربيع أن الموالي كانوا يقعون في أبي عبيد الله عند المهدي ويحرضونه عليه؛ وكانت كتب أبي عبيد الله ترد على المنصور بما يفعل، ويعرضها على الربيع، ويكتب الكتب إلى المهدي بالوصاة به، وترك القول فيه.
ثم إن الربيع حج مع المنصور حين مات، وفعل في بيعه المهدي ما ذكرناه، فلما قدم جاء إلى باب أبي عبيد الله، قبل المهدي، وقبل أن يأتي أهله، فقال له ابنه الفضل: تترك أمير المؤمنين ومنزلك وتأتيه ! قال: هو صاحب الرجل، وينبغي أن نعامله غير ما كنا نعامله به، ونترك ذكر نصرتنا له.
فوقف على بابه من المغرب إلى أن صليت العشاء الآخرة، ثم أذن له، فدخل فلم يقم له وكان متكئاً، فلم يجلس، ولا أقبل عليه، وأراد الربيع أن يذكر له ما كان منه في أمر البيعة، فقال: قد بلغنا أمركم؛ فأوغر صدر الربيع، فلما خرج من عنده قال له ابنه الفضل: لقد بلغ فعل هذا بك ما فعل، وكان الرأي أن لا تأتيه، وحيث أتيته وحجبك أن تعود، وحيث دخلت عليه فلم يقم لك أن تعود.
فقال لابنه: أنت أحمق حيث تقول: كان ينبغي أن لا تجيء، وحيث جئت وحجبت أن تعود، ولما دخلت فلم يقم لك كان ينبغي أن تعود؛ ولم يكن الصواب إلا ما عملته، ولكن والله، وأكد اليمين، لأخلعن جاهي، ولأنفقن مالي حتى أبلغ مكروهه.
وسعى في أمره، فلم يجد عليه طريقاً لاحتياطه في أمر دينه وأعماله، فأتاه من قبل ابنه محمد، فلم يزل يحتال ويدس إلى المهدي، ويتهمه ببعض حرمه، وبأنه زنديق، حتى استحكمت التهمة عند المهدي بابنه، فأمر به فأحضر، وأخرج أبوه، ثم قال له: يا محمد ! اقرأ، فلم يحسن يقرأ شيئاً، فقال لأبيه: ألم تعلمني أن ابنك يحفظ القرآن ؟ قال: بلى ولكنه فارقني منذ سنين، وقد نسي. قال: فقم فتقرب إلى الله بدمه، فقام ليقتل ولده، فعثر فوقع، فقال العباس بن محمد: إن رأيت أن يعفي الشيخ، فافعل. فأمر بابنه فضربت عنقه، وقال له الربيع: يا أمير المؤمنين ! تقتل ابنه وتثق إليه ! لا ينبغي ذلك. فاستوحش منه، وكان من أمره ما نذكره.
ذكر عبور الصقلبي إلى الأندلس وقتلهوفي هذه السنة، وقيل سنة ستين، عبر عبد الرحمن بن حبيب الفهري، المعروف بالصقلبي، وإنما سمي به لطوله وزرقته وشقرته، من إفريقية إلى الأندلس محارباً لهم، ليدخلوا في الطاعة للدولة العباسية، وكان عبوره في ساحل تدمير، وكاتب سليمان بن يقظان بالدخول في أمره، ومحاربة عبد الرحمن الأموي، والدعاء إلى طاعة المهدي.
وكان سليمان ببرشلونة، فلم يجبه، فاغتاظ عليه، وقصد بلده فيمن معه من البربر، فهزمه سليمان، فعاد الصقلبي إلى تدمير، وسار عبد الرحمن الأموي نحوه في العدد والعدة، وأحرق السفن تضييقاً على الصقلبي في الهرب، فقصد الصقلبي جبلاً منيعاً بناحية بلنسية، فبذل الأموي ألف دينار لمن أتاه برأسه، فاغتاله رجل من البربر، فقتله، وحمل رأسه إلى عبد الرحمن، فأعطاه ألف دينار، وكان قتله سنة اثنتين وستين ومائة.
ذكر عدة حوادثوفيها ظفر نصر بن محمد بن الأشعث بعبد الله بن مروان بالشام، فأخذه، وقدم به على المهدي، فحبسه في المطبق، وجاء عمرو بن سهلة الأشعري، فادعى أن عبد الله قتل أباه، وحاكمه عند عافية القاضي فتوجه الحكم على عبد الله فجاء عبد العزيز بن مسلم العقيلي إلى القاضي فقال: زعم عمرو بن سهلة أن عبد الله قتل أباه، وكذب، والله، ما قتل أباه غيري؛ أنا قتلته بأمر مروان، وعبد الله بريء من دمه؛ فترك عبد الله، ولم يعرض المهدي لعبد العزيز، لأنه قتله بأمر مروان.
وفيها غزا الصائفة ثمامة بن الوليد، فنزل بدابق، وجاشت الروم مع ميخائيل في ثمانين ألفاً، فأتى عمق مرعش، فقتل، وسبى، وغنم، وأتى مرعش فحاصرها، فقاتلهم، فقتل من المسلمين عدة كثيرة. وكان عيسى بن علي مرابطاً بحصن مرعش فانصرف الروم إلى جيحان، وبلغ الخبر المهدي، فعظم عليه، وتجهز لغزو الروم، على ما سنذكره سنة اثنتين وستين ومائة، فلم يكن للمسلمين صائفة من أجل ذلك.

وفيها أمر المهدي ببناء القصور بطريق مكة، أوسع من القصور التي بناها السفاح من القادسية إلى زبالة، وأمر باتخاذ المصانع في كل منهل منها، وبتجديد الأميال والبرك، وبحفر الركايا، وولي ذلك يقطين بن موسى، وأمر بالزيادة في مسجد البصرة، وتقصير المنابر في البلاد، وجعلها بمقدار منبر النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى اليوم.
وفيها أمر المهدي يعقوب بن داود بتوجيه الأمناء في جميع الآفاق، ففعل، فكان لا ينفذ المهدي كتاباً إلى عامل فيجوز حتى يكتب يعقوب إلى أمينه بإنفاذ ذلك.
وفيها غزا الغمر بن العباس في البحر.
وفيها ولي نصر بن محمد بن الأشعث السند مكان روح بن حاتم، ثم عزل بعبد الملك بن شهاب، فبقي عبد الملك ثمانية عشر يوماً ثم عزل وأعيد نصر من الطريق.
وفيها استقضى المهدي عافية القاضي مع ابن علاثة بالرصافة.
وفيها عزل الفضل بن صالح عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الصمد بن علي، واستعمل عيسى بن لقمان على مصر، ويزيد بن منصور على سواد الكوفة، وحسان الشروي على الموصل، وبسطام بن عمرو التغلبي على أذربيجان.
وفيها توفي نصر بن مالك من فالج أصابه، وولى المهدي بعده شرطته حمزة بن مالك، وصرف أبان بن صدقة عن هارون الرشيد، وجعل مع موسى الهادي، وجعل مع هارون يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل محمد بن سليمان أبو ضمرة عن مصر في ذي الحجة، ووليها سلمة بن رجاء؛ وحج بالناس موسى الهادي وهو ولي عهد؛ وكان عامل مكة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان؛ وعامل اليمن علي بن سليمان؛ وكان على سواد الكوفة يزيد بن منصور، وعلى أحداثها إسحاق بن منصور.
وفيها توفي سفيان الثوري، وكان مولده سنة سبع وتسعين؛ وزائدة بن قدامه أبو الصلت الثقفي الكوفي؛ وإبراهيم بن أدهم بن منصور أبو إسحاق الزاهد، وكان مولده ببلخ، وانتقل إلى الشام فأقام به مرابطاً، وهو من بكر بن وائل، ذكره أبو حاتم البستي.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائة

ذكر قتل عبد السلام الخارجي
وفي هذه السنة قتل عبد السلام بن هاشم اليشكري بقنسرين، وكان قد خرج بالجزيرة، فاشتدت شوكته، وكثر أتباعه، فلقيه عدة من قواد المهدي فيهم: عيسى بن موسى، القائد، فقتله في عدة ممن معه، وهزم جماعة من القواد فيهم شبيب بن واج المروروذي، فندب المهدي إلى شبيب ألف فارس، وأعطى كل رجل منهم ألف درهم معونة، فوافوا شبيباً فخرج بهم في طلب عبد السلام، فهرب منه، فأدركه بقنسرين، فقاتله، فقتله بها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وضع المهدي ديوان الأزمة، وولى عليها عمرو بن مربع مولاه، وأجرى المهدي على المجذمين وأهل السجون الأرزاق في جميع الآفاق.
وفيها خرجت الروم إلى الحدث، فهدموا سورها؛ وغزا الصائفة السحن بن قحطبة في ثمانين ألف مرتزق سوى المتطوعة، فبلغ حمة أذرولية، وأكثر التحريق والتخريب في بلاد الروم، ولم يفتح حصناً، ولا لقي جمعاً، وسمته الروم التنين، وقالوا: إنما أتى الحمة ليغتسل من مائها للوضوح الذي به، ورجع الناس سالمين: وفيها غزا يزيد بن أسيد السلمي من ناحية قاليقلا، فغنم، وافتتح ثلاثة حصون، وسبى.
وفيها عزل علي بن سليمان عن اليمن، واستعمل مكانه عبد الله بن سليمان، وعزل سلمة بن رجاء عن مصر، ووليها عيسى بن لقمان في المحرم، وعزل عنها في جمادي الآخرة، ووليها واضح مولى المهدي، ثم عزل في ذي القعدة، ووليها يحيى الحرشي.
وفيها خرجت المحمرة بجرجان، عليهم رجل اسمه عبد القهار، فغلب عليها، وقتل بشراً كثيراً، فغزاه عمر بن العلاء من طبرستان، فقتله عمر وأصحابه، وكان العمال من تقدم ذكرهم، فكانت لجزيرة مع عبد الصمد بن علي، وطبرستان والرويان مع سعيد بن دعلج، وجرجان مع مهلهل بن صفوان.
وفيها أرسل عبد الرحمن، صاحب الأندلس، شهيد بن عيسى إلى دحية الغساني، وكان عاصياً في بعض حصون إلبيرة، فقتله، وسير بدراً مولاه إلى إبراهيم بن شجرة البرلسي، وكان قد عصى، فقتله، وسير أيضاً ثمامة بن علقمة إلى العباس البربري، وهو في جمع من البربر، وقد أظهر العصيان، فقتله أيضاً وفرق جموعه.

وفيها سير جيشاً مع حبيب بن عبد الملك القرشي إلى القائد السلمي، وكان حسن المنزلة عند عبد الرحمن أمير الأندلس، فشرب ليلة، وقصد باب القنطرة ليفتحه على سكر منه، فمنعه الحرس، فعاد، فلما صحا خاف، فهرب إلى طليطلة، فاجتمع إليه كثير ممن يريد الخلاف والشر، فعاجله عبد الرحمن بإنفاذ الجيوش إليه، فنازله في موضع قد تحصن فيه، وحصره، ثم إن السلمي طلب البراز، فبرز إليه مملوك أسود، فاختلفا ضربتين فوقعا صريعين، ثم ماتا جميعاً.
وفيها توفي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، قاضي إفريقية، وقد جاوز تسعين سنة، وسبب موته أنه أكل عند يزيد بن حاتم سمكاً، ثم شرب لبناً، وكان يحيى بن ماسوية الطبيب حاضراً، فقال: إن كان الطب صحيحاً، مات الشيخ الليلة، فتوفي من ليلته تلك، والله أعلم.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائة

ذكر غزو الروم
في هذه السنة تجهز المهدي لغزو الروم، فخرج وعسكر بالبردان، وجمع الأجناد من خراسان وغيرها، وسار عنها، وكان قد توفي عيسى بن علي بن عبد الله بن عباس في جمادى الآخرة، وسار المهدي من الغد، واستخلف على بغداد ابنه موسى الهادي، واستصحب معه ابنه هارون الرشيد، وسار على الموصل والجزيرة، وعزل عنها عبد الصمد بن علي في مسيرة ذلك.
ولما حاذى قصر مسلمة بن عبد الملك قال العباس بن محمد بن علي للمهدي: إن لمسلمة في أعناقنا منة، كان محمد بن علي مر به، فأعطاه أربعة آلاف دينار، وقال له: إذا نفدت فلا تحتشمنا ! فأحضر المهدي ولد مسلمة ومواليه، وأمر لهم بعشرين ألف دينار، وأجرى عليهم الأرزاق، وعبر الفرات إلى حلب، وأرسل، وهو بحلب، فجمع من بتلك الناحية من الزنادقة، فجمعوا، فقتلهم، وقطع كتبهم بالسكاكين، وسار عنها مشيعاً لابنه هارون الرشيد، حتى جاز الدرب وبلغ جيحان، فسار هارون، ومعه عيسى بن موسى، وعبد الملك بن صالح، والربيع، والحسن بن قحطبة، والحسن وسليمان ابنا برمك، ويحيى بن خالد بن برمك، وكان إليه أمر العسكر، والنفقات، والكتابة وغير ذلك، فساروا فنزلوا على حصن سمالوا، فحصره هارون ثمانية وثلاثين يوماً ونصب عليه المجانيق، ففتحه الله عليهم بالأمان، ووفى لهم، وفتحوا فتوحاً كثيرة.
ولما عاد المهدي من الغزاة زار بيت المقدس، ومعه يزيد بن منصور والعباس بن محمد بن علي والفضل بن صالح بن علي وعلي بن سليمان بن علي، وقفل المسلمون سالمين، إلا من قتل منهم؛ وعزل المهدي إبراهيم بن صالح عن فلسطين، ثم رده.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة ولى المهدي ابنه هارون المغرب كله، وأذربيجان، وأرمينية، وجعل كاتبه على الخراج ثابت بن موسى، وعلى رسائله يحيى بن خالد بن برمك.
وفيها عزل زفر بن عاصم عن الجزيرة، واستعمل عليها عبد الله بن صالح.
وفيها عزل المهدي معاذ بن مسلم عن خراسان واستعمل عليها المسيب بن زهير الضبي، وعزل يحيى الحرشي عن أصبهن، وولى مكانه الحكم بن سعيد، وعزل سعيد بن دعلج عن طبرستان والرويان، وولاهما عمر بن العلاء، وعزل مهلهل بن صفوان عن جرجان، وولاها هشام بن سعيد.
وكان على مكة والمدينة والطائف واليمامة جعفر بن سليمان؛ وكان على الكوفة إسحاق بن الصباح؛ وعلى البصرة وفارس والبحرين والأهواز محمد بن سليمان؛ وعلى السند نصر بن محمد بن الأشعث؛ وعلى الموصل محمد بن الفضل.
وحج بالناس هذه السنة علي بن المهدي.
وفيها أظهر عبد الرحمن الأموي، صاحب الأندلس، التجهز للخروج إلى الشام بزعمه لمحو الدولة العباسية، وأخذ ثأره منهم، فعصى عليه سليمان بن يقظان، والحسين بن يحيى بن سعيد بن سعد بن عثمان الأنصاري بسرقسطة، واشتد أمرهما، فترك ما كان عزم عليه.
وفيها مات موسى بن علي بن رباح اللخمي بضم العين مصغراً ورباح بالباء الموحدة.
وفيها مات إبرهيم بن طهمان، وكان عالماً فاضلاً، وكان مرجئاً من أهل نيسابور، ومات بمكة.
وفيها توفي أبو الأشهب جعفر بن حيان بالبصرة.
وفيها توفي بكار بن شريح، قاضي الموصل بها، وكان فاضلاً، وولي القضاء بها أبو مكرز الفهري، واسمه يحيى بن عبد الله بن كرز.
ثم دخلت سنة أربع وستين ومائة

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34