كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

وكنت إذا ما الخيل شمّصها القنا ... لبيقاً بتصريف القناة بنانيا
فيا عاص فكّ القيد عنّي فإنّني ... صبورٌ على مرّ الحوادث ناكيا
فإن تقتلوني تقتلوا بي سيّداً ... وإن تطلقوني تحربوني ماليا
أبو كرب بشر بن علقمة بن الحارث، والأيهمان الأسود بن علقمة بن الحارث، والعاقب وهو عبد المسيح بن الأبيض، وقيس بن معدي كرب، فزعموا أن قيساً قال: لو جعلني أول القوم لافتديته بكل ما أملك. ثم قتل ولم يقبل له فدية.
ربان بالراء والباء الموحدة.
؟

يوم ظهر الدهناء وهو يوم بين طيء وأسد بن خزيمة
وسبب ذلك أن أوس بن حارثة بن لأم الطائي كان سيداً مطاعاً في قومه وجواداً مقداماً، فوفد هو وحاتم الطائي على عمرو بن هند، فدعا عمرو أوساً فقال له: أنت أفضل أم حاتم ؟ فقال: أبيت اللعن ! إن حاتماً أوحدها وأنا أحدها، ولو ملكني حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة. ثم دعا عمرو حاتماً فقال له: أنت أفضل أم أوس ؟ فقال: أبيت اللعن ! إنما ذكرت أوساً ولأحد ولده أفضل مني. فاستحسن ذلك منهما وحباهما وأكرمهما.
ثم إن وفود العرب من كل حي اجتمعت عند النعمان بن المنذر وفيهم أوس، فدعا بحلة من حلل الملوك وقال للوفود: احضروا في غد فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم. فلما كان الغد حضر القوم جميعاً إلا أوساً، فقيل له: لم تتخلف ؟ فقال: إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء بي ألا أكون حاضراً، وإن كنت المراد فسأطلب. فلما جلس النعمان ولم ير أوساً قال: اذهبوا إلى أوس فقولوا له: احضر آمناً مما خفت. فحضر فألبس الحلة، فحسده قوم من أهله، فقالوا للحطيئة: اهجه ولك ثلاثمائة ناقة. فقال: كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا منه، ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفكّ صالحةٌ ... من أهل لأم بظهر الغيب تأتيني
فقال لهم بشر بن أبي خازم: أنا اهجوه لكم، فأعطوه النوق، وهجاه فأفحش في هجائه وذكر أمه سعدى. فلما عرف أوس ذلك أغار على النوق فاكتسحها، وطلبه فهرب منه والتجأ إلى بني أسد عشيرته، فمنعوه منه ورأوه تسليمه إليه عاراً. فجمع أوسجديلة طيء وسار بهم إلى أسد، فالتقوا بظهر الدهناء تلقاء تيماء فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو أسد وقتلوا قتلاً ذريعاً، وهرب بشر فجعل لا يأتي حياً يطلب جوارهم إلا امتنع من إجارته على أوس. ثم نزل على جندب بن حصن الكلابي بأعلى الصمان، فأرسل إليه أوس يطلب منه بشراً، فأرسله إليه. فلما قدم به على أوس أشار عليه قومه بقتله، فدخل على أمه سعدى فاستشارها، فأشارت أن يرد عليه ماله ويعفو عنه ويحبوه فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه. فقبل ما أشارت به وخرج إليه وقال: يا بشر ما ترى أني أصنع بك ؟ فقال:
إنّي لأرجو منك يا أوس نعمةً ... وإنّي لأخرى منك يا أوس راهب
وإنّي لأمحو بالذي أنا صادق ... به كلّ ما قد قلت إذ أنا كاذب
فهل ينفعنّي اليوم عندك أنّني ... سأشكر إن أنعمت والشكر واجب
فدىً لابن سعدى اليوم كلّ عشيرتي ... بني أسد أقصاهم والأقارب
تداركني أوس بن سعدى بنعمة ... وقد أمكنته من يديّ العواقب
فمن عليه أوس وحمله على فرس جواد ورد عليه ما كان أخذ منه وأعطاه من ماله مائةً من الإبل، فقال بشر: لا جرم لا مدحت أحداً، حتى أموت، غيرك، ومدحه بقصيدته المشهورة التي أولها:
أتعرف من هنيدة رسم دارٍ ... بحرجي ذروةٍ فإلى لواها
ومنها منزل ببراق خبتٍ ... عفت حقباً وغيّرها بلاها
وهي طويلة.
يوم الوقيط

وكان من حديثه أن اللهازم تجمعت، وهي قيس وتيم اللات ابنا ثعلبة ابن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومعها عجل بن لجيم وعنزة ابن أسد بن ربيعة بن نزار لتغير على بني تميم وهم غارون. فرأى ذلك الأعور وهو ناشب بن بشامة العنبري، وكان أسيراً في قيس بن ثعلبة، فقال لهم: أعطوني رجلاً أرسله إلى أهلي أوصيهم ببعض حاجتي. فقالوا له:ترسله ونحن حضور ؟ قال: نعم. فأتوه بغلام مولد، فقال: أتيتموني بأحمق ؟! فقال الغلام: والله ما أنا بأحمق ! فقال: إني أراك مجنوناً ! قال: والله ما بي جنون ! قال: أتعقل ؟ قال: نعم إني لعاقل. قال: فالنيران أكثر أم الكواكب ؟ قال: الكواكب، وكلٌّ كثيرة، فملأ كفه رملاً وقال: كم في كفي ؟ قال: لا أدري فإنه لكثير. فأومأ إلى الشمس بيده وقال: ما تلك ؟ قال: الشمس. قال: ما أراك إلا عاقلاً، اذهب إلى قومي فأبلغهم السلام وقل لهم ليحسنوا إلى أسيرهم فإني عند قوم يحسنون إلي ويكرموني، وقل لهم فليعروا جملي الأحمر ويركبوا ناقتي العيسار بآية ما أكلنا منهم حيساً وليرعوا حاجتي في بني مالك، وأخبرهم أن العوسج قد أورق، وأن النساء قد اشتكت، وليعصوا همام بن بشامة فإنه مشؤوم مجدودٌ، وليطيعوا هذيل بن الأخنس، فإنه حازم ميمون، واسألوا الحارث عن خبري.
وسار الرسول فأتى قومه فأبلغهم، فلم يدروا ما أراد، فأحضروا الحارث وقصوا عليه خبر الرسول. فقال للرسول. اقصص علي أول قصتك. فقص عليه أول ما كلمه حتى أتى على آخره. فقال: أبلغه التحية والسلام وأخبره أنا نستوصي به. فعاد الرسول؛ ثم قال لبني العنبر: إن صاحبكم قد بين لكم، أما الرمل الذي جعل في كفه فإنه يخبركم أنه قد أتاكم عددٌ لا يحصى، وأما الشمس التي أومأ إليها فإنه يقول ذلك أوضح من الشمس، وأما جمله الأحمر فالصمان فإنه يأمركم أن تعروه، يعني ترتحلوا عنه، وأما ناقته العيساء فإنه يأمركم أن تحترزوا في الدهناء، وأما بنو مالك فإنه يأمركم أن تنذروهم معكم، وأما إيراق العوسج فإن القوم قد لبسوا السلاح، وأما اشتكاء النساء فإنه يريد أن النساء قد خرزن الشكاء، وهي أسقية الماء للغزو.
فحذر بنو العنبر وركبوا الدهناء وأنذروا بني مالك، فلم يقبلوا منهم.
ثم إن اللهازم وعجلاً وعنزة أتوا بني حنظلة فوجدوا عمراً قد أجلت، فأوقعوا ببني دارم بالوقيط فاقتتلوا قتالاً شديداً وعظمت الحرب بينهم فأسرت ربيعة جماعةً من رؤساء بني تميم، منهم ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة فجزوا ناصيته وأطلقوه، وأسروا عثجل بن المأمون بن زرارة، وجويرة بن بدر بن عبد الله بن دارم، ولم يزل في الوثاق حتى رآهم يوماً يشربون، فأنشأ يتغنى يسمعهم ما يقول:
وقائلةٍ ما غاله أن يزورنا ... وقد كنت عن تلك الزيارة في شغل
وقد أدركتني والحوادث جمّةٌ ... مخالب قومٍ لا ضعافٍ ولا عزل
سراعٍ إلى الجّلى بطاءٍ عن الخنا ... رزانٍ لدى الباذين في غير ما جهل
لعلّهم أن يمطروني بنعمةٍ ... كما صاب ماء المزن في البلد المحل
فقد ينعش الله الفتى بعد ذلّةٍ ... وقد تبتني الحسنى سراة بني عجل
فلما سمعوا الأبيات أطلقوه. وأسر أيضاً نعيم وعوف ابنا القعقاع بن معبد بن زرارة وغيرهما من سادات بني تميم، وقتل حكيم بن جذيمة بن الأصيلع النهشلي، ولم يشهدها من نهشل غيره. وعادت بكر فمرت بطريقها بعد الوقعة بثلاثة نفر من بني العنبر لم يكونوا ارتحلوا مع قومهم، فلما رأوهم طردوا إبلهم فأحرزوها من بكر.
وأكثر الشعراء في هذا اليوم، فمن ذلك قول أبي مهوش الفقعسي يعير تميماً بيوم الوقيط:
فما قاتلت يوم الوقيطين نهشل ... ولا الأنكد الشؤمى فقيم بن دارم
ولا قضبت عوفٌ رجال مجاشعٍ ... ولا قشر الأستاه غير البراجم
وقال أبو الطفيل عمرو بن خالد بن محمود بن عمرو بن مرثد:
حكّت تميمٌ بركها لّما التقت ... راياتنا ككواسر العقبان
دهموا الوقيط بجحفلٍ جمّ الوغى ... ورماحها كنوازع الأشطان
يوم المروت

وهو يوم بين تميم وعامر بن صعصعة. وكان سببه أنه التقى قعنب بن عتاب الرياحي وبحير بن عبد الله بن سلمة العامري بعكاظ، فقال بحير لقعنب: ما فعلت فرسك البيضاء ؟ قال: هي عندي، وماسؤالك عنها ؟ قال: لأنها نجتك مني يوم كذا وكذا، فأنكر قعنب ذلك وتلاعنا وتداعيا أن يجعل الله ميتة الكاذب بيد الصادق، فمكثا ما شاء الله. وجمع بحير بني عامر وسار بهم فأغار على بني العنبر بن عمرو بن تميم بإرم الكلبة وهم خلوفٌ، فاستاق السبي والنعم ولم يلق قتالاً شديداً، وأتى الصريخ بني العنبر بن عمرو بن تميم وبني مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وبني يربوع بن حنظلة، فركبوا في الطلب، فتقدمت عمرو ابن تميم. فلما انتهى بحير إلى المروت قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً عارضةً رماحها على كواهل خيلها. قال: هذه عمرو بن تميم وليست بشيء، فلحق بهم بنو عمرو فقاتلوهم شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير، ثم قال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً ناصبةً رماحها. قال: هذه مالك بن حنظلة وليست بشيء، فلحقوا فقاتلوا شيئاً من قتال ثم صدروا عنهم، ومضى بحير وقال: يا بني عامر انظروا هل ترون شيئاً ؟ قالوا: نرى خيلاً ليست معها رماح وكأنما عليها الصبيان. قال: هذه يربوع رماحها بين آذان خيلها، إياكم والموت الزؤام، فاصبروا ولا أرى أن تنجوا.
فكان أول من لحق من بني يربوع الواقعة وهو نعيم بن عتاب، وكان يسمى الواقعة لبليته، فحمل على المثلم القشيري فأسره، وحملت قشير على دوكس بن واقد بن حوط فقتلوه، وأسر نعيم المصفى القشيري فقتله، وحمل كدام بن بجيلة المازني على بحير فعانقه، ولم يكن لقعنب همة إلا بحير، فنظر إليه وإلى كدام قد تانقا فأقبل نحوهما، فقال كدام: يا قعنب أسيري. فقال قعنب: ماز رأسك والسيف، يريد: يا مازني. فخلى عنه كدام وشد عليه قعنب فضربه فقتله، وحمل قعنب أيضاً على صهبان، وأم صهبان مازنية، فأسره، فقالت بنو مازن: يا قعنب قتلت أسيرنا فأعطنا ابن أخينا مكانه، فدفع إليهم صهبان في بحير، فرضوا بذلك، واستنقذت بنو يربوع أموال بني العنبر وسبيهم من بني عامر وعادوا.
بحير بفتح الباء الموحدة، وكسر الحاء المهملة.
يوم فيف الريحوهو بين عامر بن صعصعة والحارث بن كعب، وكان خبره أن بني عامر كانت تطلب بني الحارث بن كعب بأوتارٍ كثيرة، فجمع لهم الحصين ابن يزيد بن شداد بن قنان الحارثي، وهو ذو الغصة، واستعان بجعفي وزبيد وقبائل سعد العشيرة ومراد وصداء ونهد وخثعم وشهران وناهس وأكلب ثم أقبلوا يريدون بني عامر وهم منتجعون مكاناً يقال له فيف الريح، ومع مذحج النساء والذراري حتى لا يفروا. فاجتمعت بنو عامر، فقال لهم عامر بن الطفيل: أغيروا بنا على القوم فإني أرجو أن نأخذ غنائمهم ونسبي نساءهم ولا تدعوهم يدخلون عليكم. فأجابوه إلى ذلك وساروا إليهم. فلما دنوا من بني الحارث ومذحج ومن معهم أخبرتهم عيونهم وعادت إليهم مشايخهم، فحذروا فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً ثلاثة أيام يغادونهم القتال بفيف الريح، فالتقى الصميل بن الأعور الكلابي وعمرو بن صبيح النهدي، فطعنه عمرو، فاعتنق الصميل فرسه وعاد، فلقيه رجل من خثعم فقتله وأخذ درعه وفرسه.
وشهدت بنو نمير يومئذ مع عامر بن الطفيل فأبلوا بلاء حسناً وسموا ذلك اليوم حريجة الطعان لأنهم اجتمعوا برماحهم فصاروا بمنزلة الحرجة، وهي شجر مجتمع.

وسبب اجتماعهم أن بني عامر جالوا جولة إلى موضع يقال له العرقوب، والتفت عامر بن الطفيل فسأل عن بني نمير فوجدهم قد تخلفوا في المعركة، فرجع وهو يصيح: يا صباحاه ! يا نميراه ! ولا نمير لي بعد اليوم ! حتى اقتحم فرسه وسط القوم، فقويت نفوسهم، وعادت بنو عامر وقد طعن عامر بن الطفيل ما بين ثغرة نحره إلى سرته عشرين طعنةً. وكان عامر في ذلك اليوم يتعهد الناس فيقول: يا فلان ما رأيتك فعلت شيئاً، فمن أبلى فليرني سيفه أو رمحه، ومن لم يبل شيئاً تقدم فأبلى، فكان كل من أبلى بلاءي حسناً أتاه فأراه الدم على سنان رمحه أو سيفه، فأتاه رجل من الحارثيين اسمه مسهر. فقال له: يا أبا علي أنظر ما صنعت بالقوم ! انظر إلى رمحي ! فلما أقبل عليه عامر لينظر وجأه بالرمح في وجنته ففلقها وفقأ عينه وترك رمحه وعاد إلى قومه. وإنما دعاه إلى ذلك ما رآه يفعل بقومه، فقال: هذا والله مبير قومي ! فقال عامر بن الطفيل:
أتونا بشهران العريضة كلّها ... وأكلب طرّاً في جياد السّنّور
لعمري وما عمري عليّ بهينّ ... لقد شان حرّ الوجه طعنة مسهر
فبئس الفتى أن كنت أعور عاقراً ... جباناً وما أغنى لدى كل حضر
وأسرت بنو عامر يومئذ سيد مراد جريحاً، فلما برأ من جراحته أطلق.
وممن أبلى يومئذ أربد بن قيس بن حر بن خالد بن جعفر، وعبيد بن شريح بن الأحوص بن جعفر؛ وقال لبيد بن ربيعة، ويقال إنها لعامر ابن الطفيل:
أتونا بشهران العريضة كلّها ... وأكلبها في مثل بكر بن وائل
فبتنا ومن ينزل به مثل ضيفنا ... يبت عن قرى أضيافه غير غافل
أعاذل لو كان البداد لقوبلوا ... ولكن أتانا كلّ جنٍّ وخابل
وخثعم حيّ يعدلون بمذحج ... فهل نحن إلاّ مثل إحدى القبائل
وأسرع القتل في الفريقين جميعاً، ثم إنهم افترقوا ولم يشتغل بعضهم عن بعض بغنيمة، وكان الصبر فيها والشرف لبني عامر.
يوم اليحاميم ويعرف أيضاً بقارات حوق
وهو بين قبائل طيء بعضها في بعض. وكان سبب ذلك أن الحارث بن جبلة الغساني كان قد أصلح بين طيء. فلما هلك عادت إلى حربها، فالتقت جديلة والغوث بموضع يقال له غرثان، فقتل قائد بني جديلة وهو أسبع بن عمرو بن لأم عم أوس ابن خالد بن حارثة بن لأم، وأخذ رجل من سنبس يقال له مصعب أذنيه فخصف بهما نعليه، وفي ذلك يقول أبو سروة السنبسي:
نخصف بالآذان منكم نعالنا ... ونشرب كرهاً منكم في الجماجم
وتناقل الحيان في ذلك أشعاراً كثيرة، وعظم ما صمعت الغوث على أوس ابن خالد بن لأم، وعزم على لقاء الحرب بنفسه، وكان لم يشهد الحروب المتقدمة هو ولا أحد من رؤساء طيء كحاتم بن عبد الله وزيد الخيل وغيرهم من الرؤساء، فلما تجهز أوسى للحرب وأخذ في جمع جديلة ولفها قال أبو جابر:
أقيموا علينا القصد يا آل طيّء ... وإلاّ فإنّ العلم عند التحاسب
فمن مثلنا يوماً إذا الحرب شمّرت ... ومن مثلنا يوماً إذا لم نحاسب
فإن تقطعيني أو تريدي مساءتي ... فقد قطع الخوف المخوف ركائبي

وبلغ الغوث جمع أوس لها وأوقدت النار على مناع، وهي ذروة أجأ، وذلك أول يوم توقد عليه النار. فأقبلت قبائل الغوث، كل قبيلة وعليها رئيسها، منهم زيد الخيل وحاتم، وأقبلت جديلة مجتمعة على أوس بن حارثة بن لأم، وحلف أوس أن لا يرجع عن طيء حتى ينزل معها جبليها أجأ وسلمى وتجبي له أهلها، وتزاحفوا والتقوا بقارات حوق على راياتهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودارت الحرب على بني كباد بن جندب فأبيروا. قال عدي بن حاتم: إني لواقفٌ يوم اليحاميم والناس يقتتلون إذ نظرت إلى زيد الخيل قد حضر ابنيه مكنفاً وحريثاً في شعب لا منفذ له وهو يقول: أي ابني أبقيا على قومكما فإن اليوم يوم التفاني فإن يكن هؤلاء أعماماً فهؤلاء أخوال. فقلت: كأنك قد كرهت قتال أخوالك ! قال: فاحمرت عيناه غضباً وتطاول إلي حتى نظرت إلى ما تحته من سرجه فخفته، فضربت فرسي وتنحيت عنه. واشتغل بنظره إلي عن ابنيه، فخرجا كالصقرين، وحمل قيس بن عازب على بحير بن زيد الخيل بن حارثة بن لأم فضربه على رأسه ضربة عنق لها بحير فرسه وولى، فانهزمت جديلة عند ذلك وقتل فيها قتلٌ ذريعٌ، فقال زيد الخيل:
تجيء بني لأم جيادٌ كأنّها ... عصائب طير يوم طلٍّ وحاصب
فإن تنج منها لا يزل بك شامة ... أناء حياً بين الشّجا والترائب
وفرّ ابن لأم واتّقانا بظهره ... يردّعه بالرمح قيس بن عازب
وجاءت بنو معنٍ كأنّ سيوفهم ... مصابيح من سقف فليس بآيب
وما فرّ حتّى أسلم ابن حمارسٍ ... لوقعة مصقول من البيض قاضب
فلم تبق لجديلة بقية للحرب بعد يوم اليحاميم، فدخلوا بلاد كلب حالفوهم وأقاموا معهم.
يوم ذي طلوحوهو يوم الصمد، ويوم أودٍ أيضاً، وهو بين بكر وتميم، وكان من حديثه أن عميرة بن طارق بن أرثم اليربوعي التميمي تزوج مرية بنت جابر العجلي أخت أبجر وسار غل عجل ليبتني بأهله. وكان له في بني تميم امرأة أخرى تعرف بابنة النطف من بني تميم، فأتى أبجر أخته يزورها وزوجها عندها. فقال لها أبجر: إني لأرجو أن آتيك بابنة النطف امرأة عميرة. فقال له: ما أراك تبقي علي حتى تسلبني أهلي. فندم أبجر وقال له: ما كنت لأغزو قومك ولكنني مستأسر في هذا الحي من تميم، وجمع أبجر والحوفزان بن شريك الشيباني، الحوفزان على شيبان وأبجر على اللهازم، ووكلا بعميرة من يحرسه لئلا يأتي قومه فينذرهم. فسار الجيش، فاحتال عميرة على الموكل بحفظه وهرب منه وجد السير إلى أن وصل إلى بني يربوع فقال لهم: قد غزاكم الجيش من بكر بن وائل، فأعلموا بني ثعلبة بطناً منهم، فأرسلوا طليعة منهم فبقوا ثلاثة أيام، ووصلت بكر فركبت يربوع والتقوا بذي طلوح. فركب عميرة ولقي أبجر فعرفه نفسه، والتقى القوم واقتتلوا فكان الظفر ليربوع. وانهزمت بكر وأسر الحوفزان وابنه شريك وابن عنمة الشاعر، وكان مع بني شيبان فافتكه متمم بن نويرة، وأسر أكثر الجيش البكري؛ وقال ابن عنمة يشكر متمماً:
جزي الله ربّ الناس عنّي متممّاً ... بخير الجزاء ما أعفّ وأجودا
أجيرت به أبناؤنا ودماؤنا ... وشارك في إطلاقنا وتفرّدا
أبا نهشل إنّي غير كافرٍ ... ولا جاعلٍ من دونك المال سرمدا
يوم أقرنقال أبو عبيدة: غزا عمرو بن عمرو بن عدس التميمي بني عبس فأخذ إبلهم واستاق سبيهم وعاد حتى إذا كان أسفل ثنية أقرن نزل وابتنى بجارية من السبي، ولحقه الطلب فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل أنس الفوارس ابن زياد العبسي عمراً وابنه حنظلة واستردوا الغنيمة والسبي، فنعى جريرٌ على بني دارم ذلك فقال:
أتنسون عمراً يويم برقة أقرن ... وحنظلة المقتول إذ هو يافعا
وكان عمرو أسلع أبرص، وكان هو ومن معه قد أخطأوا ثنية الطريق في عودهم وسلكوا غير الطريق، فسقطوا من الجبل الذي سلكوه فلقوا شدة ففي ذلك يقول عنترة:
كأنّ السرايا يوم نيقٍ وصارةٍ ... عصائب طيرٍ ينتحين لمشرب
شفى النفس منّي أو دنا لشفائها ... تهوّرهم من حالقٍ متصوّب
وقد كنت أخشى أن أموت ولم تقم ... مراتب عمروٍ وسط نوحٍ مسلّب

وكانت أم سماعة بن عمرو بن عمرو من عبس، فزاره خاله فقتله بأبيه، فقال في ذلك مسكين الدارمي:
وقاتل خاله بأبيه منّا ... سماعة لم يبع نسباً بخال
يوم السلانقال أبو عبيدة: كان بنو عامر بن صعصعة حمساً، والحمس قريش ومن له فيهم ولادة، والحمس متشددون في دينهم، وكانت عامر أيضاً لقاحاً لا يدينون للملوك. فلما ملك النعمان بن المنذر ملكه كسرى أبرويز، وكان يجهز كل عام لطيمة، وهي التجارة، لتباع بعكاظ، فعرضت بنو عامر لبعض ما جهزه فأخذوه. فغضب لذلك النعمان وبعث إلى أخيه لأمه، وهو وبرة بن رومانس الكلبي، وبعث إلى صنائعه ووضائعه، والصنائع من كان يصطنعه من العرب ليغزيه، والوضائع هم الذين كانوا شبه المشايخ، وأرسل إلى بني ضبة بن أد وغيرهم من الرباب وتميم فجمعهم، فأجابوه، فأتاه ضرار بن عمرو الضبي في تسعة من بنيه كلهم فوارس ومعه حبيش ابن دلف، وكان فارساً شجاعاً، فاجتمعوا في جيش عظيم، فجهز النعمان معهم عيراً وأمرهم بتسييرها وقال لهم: إذا فرغتم من عكاظ وانسلخت الحرم ورجع كل قوم إلى بلادهم فاقصدوا بني عامر فإنهم قريب بنواحي السلان. فخرجوا وكتموا أمرهم وقالوا: خرجنا لئلا يعرض أحد للطيمة الملك.
فلما فرغ الناس من عكاظ علمت قريش بحالهم، فأرسل عبد الله بن جدعان قاصداً إلى بني عامر يعلمهم الخبر، فسار إليهم وأخبرهم خبرهم، فحذروا وتهيأوا للحرب وتحرزوا ووضعوا العيون، وعاد بنو عامر عليهم عامر ابن مالك ملاعب الأسنة، وأقبل الجيش فالتقوا بالسلان فاقتتلوا قتالاً شديداً. فبينا هم يقتتلون إذ نظر يزيد بن عمرو بن خويلد الصعق إلى وبرة بن رومانس أخي النعمان فأعجبه هيئته، فحمل عليه فأسره. فلما صار في أيديهم هم الجيش بالهزيمة، فنهاهم ضرار بن عمرو الضبي وقام بأمر الناس فأسره. فلما صار في أيديهم هم الجيش بالهزيمة، فنهاهم ضرار بن عمرو الضبي وقام بأمر الناس فقاتل هو وبنوه قتالاً شديداً. فلما رآه أبو براء عامر بن مالك وما يصنع ببني عامر هو وبنوه حمل عليه، وكان أبو براء رجلاً شديد الساعد. فلما حمل على ضرار اقتتلا، فسقط ضرار إلى الأرض وقاتل عليه بنوه حتى خلصوه وركب، وكان شيخاً، فلما ركب قال: من سره ساءته نفسه؛ فذهبت مثلاً. يعني من سره بنوه إذا صاروا رجالاً كبر وضعف فساءه ذلك.
وجعل أبو براء يلح على ضرار طمعاً في فدائه، وجعل بنوه يحمونه. فلما رأى ذلك أبو براء قال له: لتموتن أو لأموتن دونك فأحلني على رجل له فداء. فأومأ ضرار إلى حبيش بن دلف، وكان سيداً، فحمل عليه أبو براء فأسره، وكان حبيش أسود نحيفاً دميماً، فلما رآه كذلك ظنه عبداً وأن ضراراً خدعه، فقال: أنا لله، أعزز سائر القوم، ألا في الشؤم وقعت ! فلما سمعها حبيش منه خاف أن يقتله فقال: أيها الرجل إن كنت تريد اللبن، يعني الإبل، فقد أصبته. فافتدى نفسه بأربعمائة بعير وهزم جيش النعمان. فلما رجع الفل إليه أخبروه بأسر أخيه وبقيام ضرار ب أمر الناس وما جرى له مع أبي براء، واقتدى وبرة بن رومانس نفسه بألف بعير وفرس من يزيد بن الصعق، فاستغنى يزيد، وكان قبله خفيف الحال؛ وقال لبيد يذكر أيام قومه:
إنّي امرؤ منعت أرومة عامر ... ضيمي وقد حنقت عليّ خصوم
يقول فيها:
وغداة قاع القريتين أتاهم ... رهواً يلوح خلالها التسويم
بكتائبٍ رجحٍ تعوّد كبشها ... نطع الكباش كأنّهنّ نجوم
قوله: قاع القريتين، يعني يوم السلان.
حبيش بن دلف بضم الحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وبالياء المثناة من تحتها نقطتان، وآخره شين معجمة.
يوم ذي علق

وهو يوم التقى فيه بنو عامر بن صعصعة وبنو أسد بذي علق فاقتتلوا قتالاً عظيماً. قتل في المعركة ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب العمري أبو لبيد الشاعر وانهزمت عامر، فتبعهم خالد بن نضلة الأسدي وابنه حبيب والحارث ابن خالد بن المضلل وأمعنوا في الطلب، فلم يشعروا إلا وقد خرج عليهم أبو براء عامر بن مالك من وراء ظهورهم في نفر من أصحابه، فقال لخالد: يا أبا معقل إن شئت أجزتنا وأجزناك حتى نحمل جرحانا وندفن قتلانا. قال: قد فعلت. فتواقفوا. فقال له أبو براء: عل علمت ما فعل ربيعة ؟ قال: نعم، تركته قتيلاً. قال: ومن قتله ؟ قال: ضربته أنا وأجهز عليه صامت بن الأفقم. فلما سمع أبو براء بقتل ربيعة حمل على خالد هو ومن معه، فمانعهم خالد وصاحباه وأخذوا سلاح حبيب بن خالد، ولحقهم بنو أسد فمنعوا أصحابهم وحموهم، فقال الجميح:
سائل معدّاً عن الفوارس لا ... أوفوا بجيرانهم ولا سلموا
يسعى بهم قرزلٌ ويستمع ال ... ناس إليهم وتخفق اللّمم
ركضاً وقد غادروا ربيعة في ... الأثآر لّما تقارب النّسم
في صدره صعدةٌ ويخلجه ... بالرمح حرّان باسلاً أضم
قرزل فرس الطفيل والد عامر بن الطفيل. وقال لبيد من قصيدة يذكر أباه:
ولا من ربيع المقترين رزئته ... بذي علقٍ فاقني حياءك واصبري
يوم الرقمقال أبو عبيدة: غزت عامر بن صعصعة غطفان، ومع بني عامر يومئذ عامر بن الطفيل شاباً لم يرئس بعد، فبلغوا وادي الرقم، وبه بنو مرة بن عوف بن سعد ومعهم قوم من أشجع بن ذئب بن غطفان وناس من فزارة ابن ذبيان، فنذروا ببني عامر وهجمت عليهم بنو عامر بالرقم، وهو وادٍ بقرب تضرع، فالتقوا فاقتتلوا قتالاً شديداً، فأقبل عامر بن الطفيل فرأى امرأةً من فزارة فسألها. فقالت: أنا أسماء بنت نوفل الفزاري. وقيل: كانت أسماء بنت حصن بن حذيفة. فبينا عامر يسألها خرج عليه المنهزمون من قومه وبنو مرة في أعقابهم. فلما رأى ذلك عامر ألقى درعه إلى أسماء وولى منهزماً، فأدتها إليه بعد ذلك، وتبعتهم مرة وعليهم سنان بن حارثة بن أبي حارثة المري، وجعل الأشجعيون يذبحون كل من أسروه من بني عامر لوقعة كانت أوقعتها بهم بنو عامر، فذلك البطن من بني أشجع يسمون بني مذبح، فذبحوا سبعين رجلاً منهم، فقال عامر بن الطفيل يذكر غطفان ويعرض بأسماء:
قد ساءت أسماء وهي خفيّة ... لضحائها أطردت أم لم أطرد
فلأبغيّنكم القنا وعوارضاً ... ولأقبلنّ الخيل لابة ضرغد
ولأبرزنّ بمالك وبمالك ... وأخي المرورات الذي لم يسند
في أبيات عدة. فلما بلغ شعره غطفان هجاه منهم جماعة، وكان نابغة بني ذبيان حينئذ غائباً عند ملوك غسان قد هرب من النعمان. فلما آمنه النعمان وعاد سأل قومه عما هجوا به عامر بن الطفيل، فأنشدوه ما قالوا فيه وما قال فيهم، فقال: لقد أفحشتم وليس مثل عامر يهجى بمثل هذا، ثم قال يخطئ عامراً في ذكره امرأة من عقائلهم:
فإن يك عامرٌ قد قال جهلاً ... فإنّ مطيّة الجهل الشباب
فإنّك سوف تحلم أو تباهي ... إذا ما شبت أو شاب الغراب
فكن كأبيك أو كأبي براءٍ ... توافقك الحكومة والصواب
فلا تذهب بحلمك طامياتٌ ... من الخيلاء ليس لهنّ باب
إلى آخرها. فلما سمعها عامر قال: ما هجيت قبلها.
يوم ساحوققال أبو عبيدة: غزت بنو ذبيان بني عامر وهم بساحوق، وعلى ذبيان سنان بن أبي حارثة المري، وقد جهزهم وأعطاهم الخيل والإبل وزودهم، فأصابوا نعماً كثيرة وعادوا، فلحقتهم بنو عامر واقتتلوا قتالاً شديداً. ثم انهزمت بنو عامر وأصيب منهم رجالٌ وركبوا الفلاة، فهلك أكثرهم عطشاً، وكان الحر شديداً، وجعلت ذبيان تدرك الرجل منهم فيقولون له: قف ولك نفسك وضع سلاحك، فيفعل. وكان يوماً عظيماً على عامر، وانهزم عامر ابن الطفيل وأخوه الحكم، ثم إن الحكم ضعف وخاف أن يؤسر فجعل في عنقه حبلا وصعد إلى شجرة وشده ودلى نفسه فاختنق، وفعل مثله رجلٌ من بني غني، فلما ألقى نفسه ندم فاضطرب، فأدركوه وخلصوه وعيروه يجزعه؛ وقال عروة بن الورد العبسي في ذلك:

ونحن صبحنا عامراً في ديارها ... علالة أرماحٍ وضرباً مذكّرا
بكلّ رقاق الشفرتين مهنّدٍ ... ولدنٍ من الخطيّ قد طرّ أسمرا
عجبت لهم إذ يخنقون نفوسهم ... ومقتلهم تحت الوغى كان أجدرا
يوم أعيار ويوم النّقيعة
كان المثلم بن المشجر العائذي ثم الضبي مجاوراً لبني عبس؛ فتقامر هو وعمارة بن زياد، وهو أحد الكملة، فقمره عمارة حتى اجتمع عليه عشرة أبكر، فطلب منه المثلم أ، يخلي عنه حتى يأتي أهله فيرسل إليه بالذي له، فأبى ذلك، فرهنه ابنه شرحاف بن المثلم، وخرج المثلم فأتى قومه فأخذ البكارة فأتى بها عمارة وافتكّ ابنه.
فلما انطلق بابنه قال له في الطريق: يا أبتاه من معضالٌ ؟ قال: ذلك رجل من بني عمك ذهب فلم يوجد إلى الساعة. قال شرحاف: فإني قد عرفت قاتله. قال أبوه: ومن هو ؟ قال: عمارة بن زياد سمعته يقول للقوم يوماً وقد أخذ فيه الشراب إنه قتله ولم يلق له طالباً. ولبثوا بعد ذلك حيناً وشب شرحاف. ثم إن عمارة جمع جمعاً عظيماً من عبس فأغار بهم على بني ضبة فأخذوا إبلهم، وركبت بنو ضبة فأدركوهم في المرعى. فلما نظر شرحاف إلى عمارة قال: يا عمارة أتعرفني ؟ قال: من أنت ؟ قال: أنا شرحاف، أد إلي ابن عمي معضالاً، لا مثله يوم قتلته ! وحمل عليه فقتله، وقاتتلت ضبة وعبس قتالاً شديداً واستنقذت ضبة الإبل، وقال شرحاف:
ألا أبلغ سراة بني بغيض ... بما لاقت سراة بني زياد
وما لاقت جذيمة إذ تحامي ... وما لاقى الفوارس من بجاد
تركنا بالنقيعة آل عبسٍ ... شعاعاً يقتلون بكلّ واد
وما إن فاتنا إلاّ شريد ... يؤمّ القفر في تيه البلاد
فسل عنّا عمارة آل عبسٍ ... وسل ورداً وما كلٌّ بداد
تركتهم بوادي البطن رهناً ... لسيدان القرارة والجلاد
يوم النباةقال أبو عبيدة: خرجت بنو عامر تريد غطفان لتدرك بثأرها يوم الرق ويوم ساحوق، فصادفت بني عبس وليس معهم أحد من غطفان، وكانت عبس لم تشهد يوم الرقم ولا يوم ساحوق مع غطفان ولم يعينوهم على بني عامر، وقيل: بل شهدها أشجع وفزارة وغيرهما من بني غطفان، على ما نذكره. قال: وأغارت بنو عامر على نعم بني عبس وذبيان وأشجع فأخذوها وعادوا متوجهين إلى بلادهم فضلوا في الطريق فسلكوا وادي النباة فأمعنوا فيه ولا طريق لهم ولا مطلع حتى قاربوا آخره. وكان الجبلان يلتقيان إذا هم بامرأة من بني عبس تخبط الشجر لهم في قلة الجبل. فسألوها عن المطلع، فقالت لهم: الفوارس المطلع، وكانت قد رأت الخيل قد أقبلت وهي على الجبل، ولم يرها بنو عامر لأنهم في الوادي، فأرسلوا رجلاً إلى قلة الجبل ينظر، فقال لهم: أرى قوماً كأنهم الصبيان على متون الخيل، أسنة رماحهم عند آذان خيلهم. قالوا: تلك فزارة. قال: وأرى قوماً بيضاً جعاداً كأن عليهم ثياباً حمراً. قالوا: تلك أشجع. قال: وأرى قوماً نسوراً قد قلعوا خيولهم بسوادهم كأنما يحملونها حملاً بأفخاذهم آخذين بعوامل رماحهم يجرونها. قالوا: تلك عبس، أتاكم الموت الزؤام ! ولحقهم الطلب بالوادي، فكان عامر بن الطفيل أول من سبق على فرسه الورد ففات القوم، وأعيا فرسه الورد، وهو المربوق أيضاً، فعقره لئلا تفتحله فزارة، واقتتل الناس، ودام القتال بينهم، وانهزمت عامر فقتل منهم مقتلة كبيرة، قتل فيها من أشرافهم البراء بن عامر بن مالك، وبه يكنى أبوه، وقتل نهشل وأنس وهزان بنو مرة بن أنس بن خالد بن جعفر، وقتلوا عبد الله بن الطفيل أخا عامر، قتله الربيع بن زياد العبسي، وغيرهم كثير، وتمت الهزيمة على بني عامر.
يوم الفراتقال أبو عبيدة: أغار المثنى بن حارثة الشيباني، وهو ابن أخت عمران ابن مرة، على بني تغلب، وهم عند الفرات، وذلك قبيل الإسلام، فظفر بهم فقتل من أخذ من مقاتلتهم وغرق منهم ناسٌ كثير في الفرات وأخذ أموالهم وقسمها بين أصحابه، فقال شاعرهم في ذلك:
ومنّا الذي غشّى الدليكة سيفه ... على حين أن أعيا الفرات كتائبه
ومنّا الذي شدّ الرّكيّ ليستقي ... ويستقي محضاً غير ضافٍ جوانبه
ومنّا غريب الشام لم ير مثله ... أفكّ لعانٍ قد تناءى أقاربه

الدليكة: فرس المثنى بن حارثة، والذي شد الركي مرة بن همام، وغريب الشام ابن القلوص بن النعمان بن ثعلبة.
يوم بارققال المفضل الضبي: إن بني تغلب والنمر بن قاسط وناساً من تميم اقتتلوا حتى نزلوا ناحية بارق، وهي من أرض السواد، وأرسلوا وفداً منهم إلى بكر بن وائل يطلبون إليهم الصلح، فاجتمعت شيبان ومن معهم وأرادوا قصد تغلب ومن معهم، فقال زيد بن شريك الشيباني: إني قد أجرت أخوالي وهم النمر بن قاسط، فأمضوا جواره وساروا وأوقعوا ببني تغلب وتميم فقتلوا منهم مقتلة عظيمة لم تصب تغلب بمثلها واقتسموا الأسرى والأموال، وكان من أعظم الأيام عليهم، قتل الرجال ونهب الأموال وسبي الحريم، فقال أبو كلبة الشيباني:
وليلة بسعادى لم تدع سنداً ... لتغلبيٍّ ولا أنفاً ولا حسبا
والنمريّون لولا سرّ من ولدوا ... من آل مرّة شاع الحيّ منتهبا
يوم طخفةوهو لبني يربوع على عساكر النعمان بن المنذر. قال أبو عبيدة: وكان سبب هذه الحرب أن الرادفة، وهي بمنزلة الوزارة، وكان الرديف يجلس عن يمين الملك، كانت لبني يربوع من تميم يتوارثونها صغيراً عن كبير. فلما كان أيام النعمان، وقيل أيام ابنه المنذر، سألها حاجب ابن زرارة الدرامي التميمي النعمان أن يجعلها للحارث بن بيبة بن قرط ابن سفيان بن مجاشع الدارمي التميمي، فقال النعمان لبني يربوع في هذا وطلب منهم أن يجيبوا إلى ذلك، فامتنعوا، وكان منزلهم أسفل طخفة، فحيث امتنعوا من ذلك بعث إليهم النعمان قابوس ابنه وحساناً أخاه ابني المنذر، قابوس على الناس، وحسان على المقدمة، وضم إليهما جيشاً كثيفاً، منهم الصنائع والوضائع وناس من تميم وغيرهم، فساروا حتى أتوا طخفة فالتقوا هم ويربوع واقتتلوا، وصبرت يربوع وانهزم قابسو ومن معه، وضرب طارق أبو عميرة فرس قابوس فعقره وأسره، وأراد أن يجز ناضيته، فقال: إن الملوك لا تجز نواصيها، فأرسله. وأما حسان فأسره بشر بن عمرو بن جوين فمن عليه وأرسله. فعاد المنهزمون إلى النعمان، وكان شهاب بن قيس بن كياس اليربوعي عند الملك، فقال له: يا شهاب أدرك ابني وأخي، فإن أدركتهما حيين فلبني يربوع حكمهم وأرد عليهم ردافتهم وأترك لهم من قتلوا وما غنموا وأعطيهم ألفي بعير. فسار شهاب فوجدهما حيين فأطلقهما، ووفى الملك لبني يربوع بما قال ولم يعرض لهم في ردافتهم؛ وقال مالك ابن نويرة:
ونحن عقرنا مهر قابوس بعدما ... رأى القوم منه الموت والخيل تلحب
عليه دلاصٌ ذات نسجٍ وسيفه ... جرازٌ من الهنديّ أبيض مقضب
طلبنا بها، إنّا مداريك نيلها ... إذا طلب الشّأو البعيد المغرّب
يوم النباج وثيتلقال أبو عبيدة: غزا قيس بن عاصم المنقري ثم التميمي بمقاعس، وهم بطون من تميم، وهم صريم وربيع وعبيد بنو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد، وغزا معه سلامة بن ظرب الحماني في الأحارث، وهم بطون من تميم أيضاً، وهم حمان وريعة ومالك والأعرج بنو كعب بن سعد، فغزوا بكر بن وائل، فوجدوا اللهازم، وهم بنو قيس وتيم اللات ابناء ثعلبة بن عكاشة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، ومعهم بنو ذهل ابن ثعلبة وعجل بن لجيم وعنزة بن أسد بن ربيعة بالنباج وثيتل، وبينهما روحةٌ، فأغار قيس على النياح، ومضى سلامة إلى ثيتل ليغير على من بها. فلما بلغ قيس إلى النباج، ومضى سلامة إلى ثيتل ليغير على من بها. فلما بلغ قيس إلى النباح سقى خيله ثم أراق ما معهم من الماء وقال لمن معه: قاتلوا فالموت بين أيديكم والفلاة من ورائكم، فأغار على من به من بكر صبحاً فقاتلوهم قتالاً شديداً وانهزمت بكر وأصيب من غنائمهم ما لا يحد كثرة. فلما فرغ قيس من النهب عاد مسرعاً إلى سلامة ومن معه نحو ثيتل فأدركهم، ولم يغز سلامة على من به، فأغار عليهم قيس أيضاً، فقاتلوه وانهزموا، وأصاب من الغنائم نحو ما أصاب بالنباج، وجاء سلامة فقال: أغرتم على من كان لي، فتنازعوا حتى كاد الشر يقع بينهم، ثم اتفقوا على تسليم الغنائم إليه؛ ففي ذلك يقول ربيعة بن طريف:
فلا يبعدنك الله قيس بن عاصم ... فأنت لنا عزٌّ عزيزٌ ومعقل
وأنت الذي حرّبت بكر بن وائل ... وقد عضّلت منها النباج وثيتل
وقال قرة بن زيد بن عاصم:

أنا ابن الذي شقّ المرار وقد رأى ... بثيتل أحياء اللهازم حضّرا
فصبّحهم بالجيش قيس بن عاصم ... فلم يجدوا إلاّ الأسنّة مصدرا
سقاهم بها الذيفان قيس بن عاصم ... وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا
على الجرد يعلكن الشكيم عوابساً ... إذا الماء من أعطافهنّ تحدرّا
فلم يرها الراؤون إلاّ فجاءةً ... يثرن عجاجاً كالدواخن أكدرا
وحمران أدّته إلينا رماحنا ... فنازع غلاًّ في ذراعيه أسمرا
ثيتل بالثاء المثلثة المفتوحة، والياء المسكنة المثناة من تحتها، والتاء المثناة من فوقها.
يوم فلجقال أبو عبيدة: هذا يوم لبكر بن وائل على تميم. وسببه أن جمعاً من بكر ساروا إلى الصعاب فشتوا بها، فلما انقضى الربيع انصرفوا فمروا بالدو فلقوا ناساً من بني تميم من بني عمرو وحنظلة، فأغاروا على نعمٍ كثير لهم ومضوا، وأتى بني عمرو وحنظلة الصريخ فاستجاشوا لقومهم فأقبلوا في آثار بكر بن وائل فساروا يومين وليلتين حتى جهدهم السير وانحدروا في بطن فلج، وكانوا قد خلفوا رجلين على فرسين سابقين ربيئة ليخبراهم بخبرهم إن ساروا إليهم. فلما وصلت تميم إلى الرجلين أجريا فرسيهما وسارا مجدين فأنذرا قومهما، فأتاهم الصريخ بمسير تميم عند وصولهم إلى فلج، فضرب حنظلة بن يسار العجلي قبته ونزل فنزل الناس معه وتهيأوا للقتال معه، ولحقت بنو تميم فقاتلتهم بكر بن وائل قتالاً شديداً، وحمل عرفجة بن بحير العجلي على خالد بن مالك بن سلمة التميمي فطعنه وأخذه أسيراً. وقتل في المعركة ربعي بن مالك بن سلمة، فانهزمت تمي وبلغت بكر بن وائل منها ما أرادت، ثم إن عرفجة أطلق خالد بن مالك وجز ناصيته، فقال خالد:
وجدنا الرفد رفد بني لجيم ... إذا ما قلّت الأرفاد زادا
هم هم ضربوا القباب ببطن فلجٍ ... وذادوا عن محارمهم ذيادا
وهم وهم منّوا عليّ وأطلقوني ... وقد طاعوعت في الجنب القيادا
أليسوا خير من ركب المطايا ... وأعظمهم إذا اجتمعوا رمادا
أليس هم عماد الحيّ بكراً ... إذا نزلت مجلّلة شدادا
وقال قيس بن عاصم يعير خالداً:
لو كنت حرّاً يا ابن سلمى بن جندل ... نهضت ولم تقصد لسلمى ابن جندل
فما بال أصداء بفلجٍ غريبة ... تنادي مع الأطلال: يا لابن حنظل
صوادي لا مولّىً عزيزٌ يجيبها ... ولا أسرةٌ تسقي صداها بمنهل
وغادرت ربعيّا بفلجٍ ملحّباً ... وأقبلت في أولى الرعيل المعجّل
توائل من خوف الرّدى لاوقيته ... كما نالت الكدراء من حين أجدل
يعيره حيث لم يأخذ بثأر أخيه ربعي ومن قتل معه يوم فلج، ويقول: إن أصداءهم تنادي ولا يسقيها أحد، على مذهب الجاهلية، ولولا التطوير لشرحناه أبين من هذا.
يوم الشيطينقال أبو عبيدة: كان الشيطان لبكر بن وائل، فلما ظهر الإسلام في نجد سارت بكر قبل السواد، وبقي مقايس بن عمرو العائذي بن عائذة من قريش حليف بني شيبان بالشيطين. فلما أقامت بكر في السواد لحقهم الوباء والطاعون الذي كان أيا كسرى شيرويه فعادوا هاربين فنزلوا لعلع، وهي مجدبة، وقد أخصب الشيطان، فسارت تميم فنزلوا بها، وبلغت أخبار خصب الشيطين إلى بكر، فاجتمعوا وقالوا: نغير على تميم، فإن في دين ابن عبد المطلب، يعنون النبي، أن من قتل نفساً قتل بها، فنغير هذه الغارة ثم نسلم عليها، فارتحلوا من لعلع بالذراري والأموال ورئيسهم بشر بن مسعود ابن قيس بن خالد فأتوا الشيطين في أربع ليال، والذي بينهما مسيره ثماني ليالٍ، فسبقوا كل خبر حتى صبحوهم وهم لا يشعرون فقاتلوهم قتالاً شديداً وصبرت تميم ثم انهزمت، فقال رشيد بن رميض العنبري يفخر بذلك:
وما كان بين الشيّطين ولعلعٍ ... لنسوتنا إلاّ مناقل أربع
فجئنا بجمعٍ لم ير الناس مثله ... يكاد له ظهر الوديعة يطلع
بأرعن دهمٍ تنسل البلق وسطه ... له عارضٌ فيه المنيّة تلمع

صبحنا به سعداً وعمراً ومالكاً ... فظلّ لهم يومٌ من الشرّ أشنع
وذا حسبٍ من آل ضبّة غادروا ... بجريٍ كما يجري الفصيل المفزّع
تقصّع يربوعٌ بسرّة أرضنا ... وليس ليربوع بها متقصّع
ثم إن النبي، صلى الله عليه وسلم، وكتب إلى بكر بن وائل على ما بأيديهم.
الشيطان بالشين المعجمة، والياء المشددة المثناة من تحتها، وبالطاء المهملة، آخره نون.
أيام الأنصار وهم الأوس والخزرج التي جرت بينهمالأنصار لقب قبيلتي الأوس والخزرج ابني حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، لقبهم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما هاجر إليهم ومنعوه ونصروه، وأم الأوس والخزرج قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد، ولذلك يقال لهم أبناء قيلة. وإنما لقب ثعلبة العنقاء لطول عنقه، ولقب عمرو مزيقياء لأنه كان يمزق عنه كل يوم حله لئلا يلبسها أحد بعده، ولقب عامر ماء السماء لسماحته وبذلك كأنه ناب مناب المطر، وقيل لشرفه، ولقب امرؤ القيس البطريق لأنه أول من استعان به بنو إسرائيل من العرب بعد بلقيس، فبطرقه رحبعم ابن سليمان بن داود، عليه السلام، فقيل له البطريق، وكانت مساكن الأزد بمأرب من اليمن إلى أن أخبر الكهان عمرو بن عامر مزيقياء أن سيل العرم يخرب بلادهم ويغرق أكثر أهلها عقوبةً لهم بتكذيبهم رسل الله تعالى إليهم. فلما علم ذلك عمرو باع ما له من مال وعقار وسار عن مأرب هو ومن تبعه، ثم تفرقوا في البلاد فسكن كل بطن ناحية اختاروها، فسكنت خزاعة الحجاز، وسكنت غسان الشام.
ولما سار ثعلبة بن عمرو بن عامر فيمن معه اجتازوا بالمدينة، وكانت تسمى يثرب، فتخلف بها الأوس والخزرج ابنا حارثة فيمن معهما، وكان فيها قرىً وأسواق وبها قبائل من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، منهم قريظة والنضير وبنو قينقاع وبنو ماسلة وزعورا وغيرهم، وقد بنوا لهم حصوناً يجتمعون بها إذا خافوا. فنزل عليهم الأوس والخزرع فابتنوا المساكن والحصون، إلا أن الغلبة والحكم لليهود إلى أن كان من الفطيون ومالك ابن العجلان ما نذكره إن شاء الله تعالى، فعادت الغلبة للأوس والخزرج، ولم يزالوا على حال اتفاق واجتماع إلى أن حدث بينهم حرب سمير، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غلبة الأنصار على المدينة

وضعف أمر اليهود بها وقتل الفطيون
قد ذكرنا أن الإستيلاء كان لليهود على المدينة لما نزلها الأنصار، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن ملك عليهم الفطيون اليهودي، وهو من بني إسرائيل ثم من بني ثعلبة، وكان رجل سوء فاجراً، وكانت اليهود تدين له بأن لا تزوج امرأة منهم إلا دخلت عليه قبل زوجها، وقيل: إنه كان يفعل ذلك بالأوس والخزرج أيضاً. ثم إن أختا لمالك بن العجلان السالمي الخزرجي تزوجت، فلما كان زفافها خرجت عن مجلس قومها وفيه أخوها مالك وقد كشفت عن ساقيها. فقال لها مالك: لقد جئت بسوء. قالت: الذي يراد بي الليلة أشد من هذا، أدخل على غير زوجي ! ثم عادت فدخل عليها أخوها فقال لها: هل عندك من خبر ؟ قالت: نعم، فما عندك ؟ قال: أدخل مع النساء فإذا خرجن ودخل عليك قتلته. قالت: افعل. فلما ذهب بها النساء إلى الفطيون انطلق مالك معهن في زي امرأة ومعه سيفه، فلما خرج النساء من عندها ودخل عليها الفطيون قتله مالك وخرج هارباً؛ فقال بعضهم في ذلك من أبيات:
هل كان للفطيون عقر نسائكم ... حكم النصيب فبئس حكم الحاكم
حتّى حباه مالك بمرشّةٍ ... حمراء تضحك عن نجيعٍ قاتم
ثم خرج مالك بن العجلان هارباً حتى دخل الشام فدخل على ملك من ملوك غسان يقال له أبو جبيلة واسمه عبيد بن سالم بن مالك بن سالم، وهو أحد بني غضب بن جشم بن الخزرج، وكان قد ملكهم وشرف فيهم، وقيل: إنه لم يكن ملكاً وإنما كان عظيماً عند ملك غسان، وهو الصحيح، لأن ملوك غسان لم يعرف فيهم هذا، وهو أيضاً من الخزرج على ما ذكر.

فلما دخل عليه مالك شكا إليه ما كان من الفطيون وأخبره بقتله وأنه لا يقدر على الرجوع، فعاهد الله أبو جبيلة ألا يمس طيباً ولا يأتي النساء حتى يذل اليهود ويكون الأوس والخزرج أعز أهلها.
ثم سار من الشام في جمع كثير وأظهر أنه يريد اليمن حتى قدم المدينة فنزل بذي حرضٍ، وأعلم الأوس والخزرج ما عزم عليه، ثم أرسل إلى وجوه اليهود يستدعيهم إليه وأظهر لهم أنه يريد الإحسان إليهم، فأتاه أشرافهم في حشمهم وخاصتهم. فلما اجتمعوا ببابه أمر بهم فأدخلوا رجلاً رجلاً وقتلهم عن آخرهم. فلما فعل بهم ذلك صارت الأوس والخزرج أعز أهل المدينة، فشاركوا اليهود في النخل والدور؛ ومدح الرمق بن زيد الخزرجي أبا جبيلة بقصيدة، منها:
وأبو جبيلة خير من ... يمشي وأوفاهم يمينا
وأبرّهم برّاً وأع ... ملهم بهدي الصالحينا
أبقت لنا الأيّام وال ... حرب المهمّة تعترينا
كبشاً له قرنٌ يع ... ضّ حسامه الذكر السّنينا
فقال أبو جبيلة: عسل طيب في وعاء سوء، وكان الرمق رجلاً ضئيلاً؛ فقال الرمق: إنما المرء بأصغريه قلبه ولسانه. ورجع أبو جبيلة إلى الشام.
حرض بضم الحاء والراء المهملتين، وآخره ضاد معجمة.
حرب سميرولم يزل الأنصار على حال اتفاق واجتماع، كان أول اختلاف وقع بينهم وحرب كانت لهم حرب سمير.
وكان سببها أن رجلاً من بني ثعلبة من سعد بن ذبيان يقال له كعب بن العجلان نزل على مالك بن العجلان السالمي فحالفه وأقام معه. فخرج كعب يوماً إلى سوق بني قينقاع فرأى رجلاً من غطفان معه فرسه وهو يقول: ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب. فقال رجل: فلان. وقال رجل آخر: أحيحة بن الجلاح الأوسي. وقال غيرهما: فلان بن فلان اليهودي أفضل أهلها. فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان. فقال كعب: ألم أقل لكم إن حليفي مالكاً أفضلكم ؟ فغضب من ذلك رجل من الأوس من بني عمرو بن عوف يقال له سمير وشتمه وافترقا، وبقي كعب ما شاء الله.
ثم قصد سوقاً لهم قبا فقصده سمير ولازمه حتى خلا السوق فقتله. وأخبر مالك بن العجلان بقتله، فأرسل إلى بني عمرو بن عوف يطلب قاتله، فأرسلوا: إنا لا ندري من قتله. وترددت الرسل بينهم، وهو يطلب سميراً وهم ينكرون قتله، ثم عرضوا عليه الدية فقبلها. وكانت دية الحليف فيهم نصف دية النسيب منهم. فأبى مالك إلا أخذ دية كاملة، وامتنعوا من ذلك وقالوا: نعطي دية الحليف، وهي النصف. ولج الأمر بينهم حتى آل إلى المحاربة، فاجتمعوا والتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً وافترقوا. ودخل فيها سائر بطون الأنصار، ثم التقوا مرة أخرى واقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وكان الظفر يومئذ للأوس.
فلما افترقوا أسلت الأوس إلى مالك يدعونه إلى أن يحكم بينهم المنذر ابن حرام النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت بن المنذر. فأجابهم إلى ذلك، فأتوا المنذر، فحكم بينهم المنذر بأن يدوا كعباً حليف مالك دية الصريح ثم يعودوا إلى سنتهم القديمة، فرضوا بذلك وحملوا الدية وافترقوا، وقد شبت البغضاء في نفوسهم وتمكنت العداوة بينهم.
ذكر حرب كعب بن عمرو المازنيثم إن بني جحجبا من الأوس وبني مازن بن النجار من الخزرج وقع بينهم حرب كان سببها أن كعب بن عمرو المازني تزوج امرأةً من بني سالم فكان يختلف إليها. فأمر أحيحة بن الجلاح سيد بني جحجبا جماعةً فرصدوه حتى ظفروا به فقتلوه، فبلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو، فأمر قومه فاستعدوا للقتال، وأرسل إلى بني جحجبا يؤذنهم بالحرب. فالتقوا بالرحابة فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت بنو جحجبا ومن معهم وانهزم معهم أحيحة، فطلبه عاصم بن عمرو فأدركه وقد دخل حصنه، فرماه بسهم فوقع في باب الحصن، فقتل عاصم أخاً لأحيحة. فمكثوا بعد ذلك ليالي، فبلغ أحيحة أن عاصماً يتطلبه ليجد له غرة فيقتله، فقال أحيحة:
نبئت أنّك جئت تس ... ري بين داري والقبابة
فلقد وجدت بجانب ال ... ضّحيان شبّاناً مهابه
فتيان حربٍ في الحدي ... د وشامرين كأسد غابه
هم نكّبوك عن الطري ... ق فبتّ تركب كلّ لابه
أعصيم لا تجزع فإن ... نّ الحرب ليست بالدّعابه

فأنا الذي صبّحتكم ... بالقوم إذى دخلوا الرّحابه
وقتلت كعباً قبلها ... وغلوت بالسيف الذّؤابه
فأجابه عاصم:
أبلغ أحيحة إن عرض ... ت بداره عنّي جوابه
وأنا الذي أعجلته ... عن مقعدٍ ألهى كلابه
ورميته سهماً فأخ ... طأه وأغلق ثمّ بابه
في أبيات. ثم إن أحيحة أجمع أن يبيت بني النجار وعنده سلمى بنت عمرو بن زيد النجارية، وهي أم عبد المطلب جد النبي، صلى الله عليه وسلم فما رضيت، فلما جنها الليل وقد سهر معها أحيحة فنام، فلما نام سارت إلى بني النجار فاعلمتهم ثم رجعت، فحذروا، وغدا أحيحة بقومه مع الفجر، فلقيهم بنو النجار في السلاح، فكان بينهم شيء من قتال، وانحاز أحيحة، وبلغه أن سلمى أخبرتهم فضربها حتى كسر يدها وأطلقها وقال أبياتاً، منها:
لعمر أبيك ما يغني مكاني ... من الحلفاء آكلةٌ غفول
تؤوّم لا تقلّص مشمعلاًّ ... مع الفتيان مضجعه ثقيل
تنزّع للحليلة حيث كانت ... كما يعتاد لقحته الفصيل
وقد أعددت للحدثان حصناً ... لو أنّ المرء ينفعه العقول
جلاه القين ثمّت لم تخنه ... مضاربه ولاطته فلول
فهل من كاهن آوي إليه ... إذا ما حان من آلٍ نزول
يراهنني ويرهنني بنيه ... وأرهنه بنيّ بما أقول
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغنيّ متى يعيل
وما تدري وإن أجمعت أمراً ... بأيّ الأرض يدركك المقيل
وما تدري وإن أنتجت سقباً ... لغيرك أم يكون لك الفصيل
وما إن أخوةٌ كبروا وطابوا ... لباقية، وأمّهم هبول
ستشكل أو يفارقها بنوها ... بموتٍ أو يجيء لهم قتول
ذكر الحرب بين بني عمرو وبني الحارث

وهو يوم السرارة
ثم إن بني عمرو بن عوف من الأوس وبني الحارث من الخزرج كان بينهما حرب شديدة.
وكان سببها أن رجلاً من بني عمرو قتله رجل من بني الحارث، فعدا بنو عمرو على القاتل فقتلوه غيلةً، فاستكشف أهله فعلموا كيف قتل فتهيأوا للقتال وأرسلوا إلى بني عمرو بن عوف يؤذونهم بالحرب، فالتقوا بالسرارة، وعلى الأوس حضير بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج عبد الله بن سلول أبوى الحباب الذي كان رأس المنافقين. فاقتتلوا قتالاً شديداً. صبر بعضهم لبعض أربعة أيم، ثم انصرفت الأوس إلى دورها، ففخرت الخزرج بذلك؛ وقال حسان بن ثابت في ذلك:
فدىً لبني النجّار أمّي وخالتي ... غداة لقوهم بالمثقّفة السّمر
وصرمٍ من الأحياء عمرو بن مالك ... إذا ما دعوا كانت لهم دعوة النصر
فوا لا أنسى حياتي بلاءهم ... غداة رموا عمراً بقاصمة الظهر
وقال حسان أيضاً:
لعمر أبيك الخير بالحقّ ما نبا ... عليّ لساني في الخطوب ولا يدي
لساني وسيفي صارمان كلاهما ... ويبلغ ما لا يبلغ السيف مذودي
فلا الجهد ينسيني حياتي وحفظتي ... ولا وقعات الدهر يفللن مبردي
أكثّر أهلي من عيالٍ ساهم ... وأطوي على الماء القراح المبرّد
ومنها:
وإنّي لمنجاء المطيّ على الوجى ... وإنّي لنزّال لما لم أعوّد
وإنّي لقوّالٌ لذي اللّوث مرحباً ... وأهلا إذا ما ريع من كلّ مرصد
وإنّي ليدعوني الندى فأجيبه ... وأضرب بيض العارض المتوقّد
فلا تعجلن يا قيس واربع فإنّما ... قصاراك أن تلقى بكلّ مهنّد
حسام وأرماح بأيدي أعزّةٍ ... متى ترهم يا ابن الخطيم تلبّد
أسود لدى الأشبال يحمي عرينها ... مداعيس بالخّطّي في كلّ مشهد
وهي أبيات كثيرة. فأجابه قيس بن الخطيم:
تروح عن الحسناء أم أنت مغتدي ... وكيف انطلاق عاشقٍ لم يزوّد
تراءت لنا يوم الرحيل بمقلتي ... شريدٍ بملتفٍ من السّدر مفرد

وجيدٍ كجيد الرّيم حالٍ يزينه ... على النّحر ياقوتٌ وفصّ زبرجد
كأنّ الثريّا فوق ثغرة نحرها ... توقّد في الظّلماء أيّ توقّد
ألا إنّ بين الشّرعبيّ وراتج ... ضراباً كتجذيم السيّال المصعّد
لنا حائطان الموت أسفل منهما ... وجمع متى تصرخ بيثرب يصعد
ترى اللابة السوداء يحمرّ لونها ... ويسهل منها كلّ ربع وفدفد
فإنّي لأغنى الناس عن متكلّفٍ ... يرى الناس ضلالاً وليس بمهتد
لساء عمراً ثوراً شقيّاً موعّظاً ... ألدّ كأنّ رأسه رأس أصيد
كثير المنى بالزاد لا صبر عنده ... إذا جاع يوماً يشتكيه ضحى الغد
وذي شيمةٍ عسراء خالف شيمتي ... فقلت له دعني ونفسك أرشد
فما المال والأخلاق إلاّ معارة ... فما اسطعت من معروفها فتزوّد
متى ما تقد بالباطل الحقّ يأبه ... فإن قدت بالحقّ الرواسي تنقد
إذا ما أتيت الأمر من غير بابه ... ضللت وإن تدخل من الباب تهتد
وهي طويلة. وقال عبيد بن ناقد:
لمن الديار كأنّهنّ المذهب ... بليت وغيّرها الدهور تقلّب
يقول فيها في ذكر الوقعة:
لكن فرا أبي الحباب بنفسه ... يوم السّرارة سيئ منه الأقرب
ولّى وألقى يوم ذلك درعه ... إذ قيل جاء الموت خلفك يطلب
نجّاك منّا بعدما قد أشرعت ... فيك الرماح، هناك شدّ المذهب
هي طويلة أيضاً. وأبو الحباب هو عبد الله بن سلول.
حرب الحصين بن الأسلتثم كانت حرب بين بني وائل بن زيد الأوسيين وبين بني مازن بن النجار الخزرجيين.
وكان سببها أن الحصين بن الأسلت الأوسي الوائلي نازع رجلاً من بني مازن، فقتله الوائلي ثم انصرف إلى أهله، فتبعه نفر من بني مازن فقتلوه. فبلغ ذلك أخاه أبا قيس بن الأسلت فجمع قومه وأرسل إلى بني مازن يعلمهم أنه على حربهم. فتهيأوا للقتال، ولم يتخلف من الأوس والخزرج أحد، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعاً، وقتل أبو قيس بن الأسلت الذين قتلوا أخاه ثم انهزمت الأوس، فلام وحوح بن الأسلت أخاه أبا قيس وقال: لا يزال منهزمٌ من الخزرج، فقال أبو قيس لأخيه، ويكنى أبا حصين:
أبلغ أبا حصنٍ وبع ... ض القول عندي ذو كباره
أنّ ابن أمّ لي ... س من الحديد ولا الحجارة
ماذا عليكم أن يكو ... ن لكم بها رحلاً عماره
يحمي ذماركم وبع ... ض القوم لا يحمي ذماره
يبني لكم خيراً وبنيا ... ن الكريم له اثاره
في أبيات.
حرب ربيع الظفريثم كانت حرب بين بني ظفر من الأوس وبين بني مالك بن النيجار من الخزرج.
وكان سببها أن ربيعاً الظفري كان يمر في مال لرجلٍ من بني النجار إلى ملك له، فمنعه النجاري، فتنازعا، فقتله ربيع، فجمع قومهما فاقتتلوا قتالاً شديداً كان أشد قتال بينهم، فانهزمت بنو مالك بن النجار؛ فقال قيس بن الخطيم الأوسي في ذلك:
أجدّ بعمرة غنيانها ... فتهجر أم شأننا شأنها
فإن تمس شطّت بها دارها ... وباح لك اليوم هجرانها
فما روضةٌ من رياض القطا ... كأنّ المصابيح حوذانها
بأحسن منها ولا نزهة ... ولوج تكشّف أدجانها
وعمرة من سروات النسا ... ء ينفح بالمسك أردانها
منها:
ونحن الفوارس يومالربي ... ع قد علموا كيف أبدانها
جنونا لحربي وراء الصري ... خ حتّى تقصّد مرّانها
تراهنّ يخلجن خلج الدّلا ... يبادر بالنّزع أشطانها
هي طويلة. فأجابه حسان بن ثابت الخزرجي بقصيدة أولها:
لقد هاج نفسك أشجانها ... وغادرها اليوم أديانها
ومنها:
ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا التبس الحقّ ميزانها
ويثرب تعلم أنّا بها ... إذا أقحط القطر نوآنها
ويثرب تعلم إذ حاربت ... بأنّا لدى الحرب فرسانها

ويثرب تعلم أنّ النّبي ... ت عند الهزاهز ذلاّنها
ومنها:
متى ترنا الأوس في بيضنا ... نهزّ القنا تخب نيرانها
وتعط القياد على رغمها ... وتنزل ملهام عقبانها
فلا تفخرن التمس ملجأً ... فقد عاود الأوس أديانها
حرب فارع بسبب الغلامى القضاعيومن أيامهم يوم فارع. وسببه أن رجلاً من بني النجار أصاب غلاماً من قضاعة ثم من بلي، وكان عم الغلام جاراً لمعاذ بن النعمان بن امرئ القيس الأوسي والد سعد بن معاذ، فأتى الغلام عمه يزوره فقتله النجاري. فأرسل معاذ إلى بني النجار: أن أدفعوا إلي دية جاري أو ابعثوا إي بقاتله أرى فيه رأيي. فأبوا أن يفعلوا. فقال رجل من بني عبد الأشهل: والله إن لم تفعلوا لا نقتل به إلا عامر بن الإطنابة، وعامر من أشراف الخزرج؛ فبلغ ذلك عامراً فقال:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... وقد تهدى النصيحة للنصيح
فإنّكم وما ترجون شطري ... من القول امزجّى والصريح
سيندم بعضكم عجلاً عليه ... وما أثر اللسان إلى الجروح
أبت لي عزّتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلّما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحاتٍ ... وأحمي بعد عن عرضٍ صحيح
بذي شطبٍ كلون الملح صافٍ ... ونفسٍ لا تقرّ على القبيح
فقال الربيع بن أبي الحقيق اليهودي في عراض قول عامر بن الإطنابة:
ألا من مبلغ الأكفاء عنّي ... فلا ظلمٌ لديّ ولا افتراء
فلست بغائظ الأكفاء ظلماً ... وعندي للملامات اجتزاء
فلم أر مثل من يدنو لخسفٍ ... له في الأرض سير واستواء
وما بعض الإقامة في ديار ... يهان بها الفتى إلاّ عناء
وبعض القول ليس له عناجٌ ... كمحض الماء ليسى له إناء
وبعض خلائق الأقوام داءٌ ... كداء الشّحّ ليس له دواء
وبعض الداء ملتمسٌ شفاءً ... وداء النّوك ليس له شفاء
يحبّ المرء أن يلقى نعيماً ... ويأبى الله إلاّ ما يشاء
ومن يك عاقلاً لم يلق بؤساً ... ينخ يوماً بساحته القضاء
تعاوره بنات الدهر حتّى ... تثلّمه كما ثلم الإناء
وكلّ شدائدٍ نزلت بحيٍّ ... سيأتي بعد شدّتها رخاء
فقل للمتّقي عرض المنايا: ... توقّ فليس ينفعك اتّقاء
فما يعطى الحريص غنىً بحرصٍ ... وقد ينمي لدى الجود الثراء
وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ ... ولا مزرٍ بصاحبه الحباء
غنيّ النفس ما استغنى بشيء ... وفقر النفس ما عمرت شقاء
يودّ المرء ما تفد ... كأنّ فناءهنّ له فناء
فلما رأى معاذ بن النعمان امتناع بني النجار من الدية أو تسليم القاتل إليه تهيأ للحرب وتجهز هو وقومه واقتلوا عند فارغ، وهو أطم حسان بن ثابت، واشتد القتال بينهم ولم تزل الحرب بينهم حتى حمل ديته عامر بن الإطنابة. فلما فعل صلح الذي كان بينهم وعادوا إلى أحسن ما كانوا عليه، فقال عامر بن الإطنابة في ذلك.
صرمت ظليمة خلّتي ومراسلي ... وتباعدت ضنّاً بزاد الراحل
جهلاً وما تدري ظليمة أنّني ... قد أستقلّ بصرم غير الواصل
ذللٌ ركابي حيث شئت مشيّعي ... أنّي أروع قطا المكان الغافل
أظليم ما يدريك ربّة خلّةٍ ... حسنٌ ترغّمها كظبي الحائل
قد بتّ مالكها وشارب قهوةٍ ... درياقةٍ روّيت منها وآغلي
بيضاء صافية يرى من دونها ... قعر الإناء يضيء وجه الناهل
وسراب هاجرةٍ قطعت إذا جرى ... فوق الإكام بذات لونٍ باذل
أجدٌ مراحلها كأنّ عفاءها ... سقطان من كتفي ظليمٍ جافل

فلنأكلنّ بناجزٍ من مالنا ... ولنشربنّ بدين عامٍ قابل
إنّي من القوم الذين إذا انتدوا ... بدأوا ببرّ الله ثمّ النائل
المانعين من الخنا جيرانهم ... والحاشدين على طعام النازل
والخاطلين غنيّهم بفقيرهم ... والباذلين عطاءهم للسائل
والضاربين الكبش يبرق بيضة ... ضرب المهنّد عن حياض الناهل
والعاطفين على المصاف خيولهم ... والملحقين رماحهم بالقاتل
والمدركين عدوّهم بذحولهم ... والنازلين لضرب كلّ منازل
والقائلين معاً خذوا اقرانكم ... إنّ المنيّة من وراء الوائل
خزرٍ عيونهم إلى أعدائهم ... يمشون مشي الأسد تحت الوابل
ليسوا بأنكاسٍ ولا ميلٍ إذا ... ما الحرب شبّت أشعلوا بالشاعل
لا يطبعون وهم على أحسابهم ... يشفون بالأحلام داء الجاهل
والقائلين فلا يعاب خطيبهم ... يوم المقالة بالكلام الفاصل
وإنما أثبتنا هذه الأبيات وليس فيها ذكر الوقعة لجودتها وحسنها.
حرب حاطبثم كانت الوقعة المعروفة بحاطب. وهو حاطب بن قيس من بني أمية ابن زيد بن مالك بن عوف الأوسي، وبينها وبين حرب سمير نحو مائة سنة. وكان بينهما أيام ذكرنا المشهور منها وتركنا ما ليس بمشهور. وحرب حاطب آخر وقعة كانت بينهم إلا يوم بعاث حتى جاء الله بالإسلام.
وكان سبب هذه الحرب أن حاطباً كان رجلاً شريفاً سيداً، فأتاه رجل من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فنزل عليه، ثم إنه غدا يوماً إلى سوق بني قينقاع، فرآه يزيد بن الحارث المعروف بابن فسحم، وهي أمه. وهو من بني الحارث بن الخزرج. فقال يزيد لرجل يهودي: لك ردائي إن كسعت هذا الثعلبي. فأخذ رداءه وكسعه كسعةً سمعها من بالسوق. فنادى الثعلبي: يا آل حاطب كسع ضيفك وفضح ! وأخبر حاطب بذلك، فجاء إليه فسأله من كسعه، فأشار إلى اليهودي، فضربه حاطب بالسيف فلق هامته، فأخبر ابن فسحم الخبر، وقيل له: قتل اليهودي، قتله حاطب، فأسرع خلف حاطب فأدركه وقد دخل بيوت أهله، فلقي رجلاً من بني معاوية فقتله. فثارت الحرب بين الأوس والخزرج واحتشدوا واجتمعوا والتقوا على جسر ردم بني الحارث بن الخزرج. وكان على الخزرج يومئذ عمرو بن النعمان البياضي، وعلى الأوس حضير بن سماك الأشهلي. وقد كان ذهب ذكر ما وقع بينهم من الحروب فيمن حولهم من العرب، فسار إليهم عببنه بنى حصن ابن حذيفة بن بدر الفزاري وخيار بنى مالك بن حماد الفزاري فقدما المدينة وتحدثا مع الأوس والخزرج في الصلح وضمنا أن يتحملا كل ما يدعي بعضهم على بعض، فأبوا، ووقعت الحرب عند الجسر، وشهدها عيينة وخيار. فشاهدا من قتالهم وشدتها ما أيسا معه من الإصلاح بينهم، فكان الظفر يومئذ للخزرج. وهذا اليوم من أشهر أيامهم، وكان بعده عدة وقائع كلها من حرب حاطب، فمنها:
يوم الربيعثم التقت الأنصار بعد يوم الجسر بالربيع، وهو حائط في ناحية السفح، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد يفني بعضهم بعضاً، فانهزمت الأوس وتبعها الخزرج حتى بلغوا دورهم، وكانوا قبل ذلك إذا انهزمت إحدى الطائفتين فدخلت دورهم كفت الأخرى عن اتباعهم. فلما تبع الخزرج الأوس إلى دورهم طلبت الأوس الصلح، فامتنعت بنو التجار من الخزرج عن إجابتهم. فحصنت الأوس النساء والذراري في الآطام، وهي الحصون، ثم كفت عنهم الخزرج؛ فقال صخر بن سلمان البياضي:
ألا أبلغا عنّي سويد بن صامتٍ ... ورهط سويدٍ بلّغا وابن الاسلت
بأنّا قتلن بالربيع سراتكم ... وأفلت مجروحاً به كلّ مفلت
فلولا حقوق في العشيرة إنّها ... أدلّت بحقٍ واجب إن أدلّت
لنالهم منّا كما كان نالهم ... مقانب خيل أهلكت حين حلّت
فأجابه سويد بن الصامت:
ألا أبلغا عنّي صخيراً رسالةً ... فقد ذقت حرب الأوس فيها ابن الاسلت
قتلنا سراياكم بقتلى سراتنا ... وليس الذي ينجو إليكم بمفلت
ومنها:
يوم البقيع

ثم التقت الأوس والخزرج ببقيع الغرقد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكان الظفر يومئذ للأوس؛ فقال عبيد بن ناقد الأوسي:
لّما رأيت بني عوفٍ وجمعهم ... جاءوا وجمع بني النجّار قد حفلوا
دعوت قومي وسهّلت الطريق لهم ... إلى المكان الذي أصحابه حللوا
جادت بأنفسها من مالك عصبٌ ... يوم اللقاء فما خافوا ولا فشلوا
وعاوروكم كؤوس الموت إذ برزوا ... شطر النهار وحتّى أدبر الأصل
حتى استقاموا وقد طال المراس بهم ... فكلّهم من دماء القوم قد نهلوا
تكشّف البيض عن قتلى أولى رحمٍ ... لولا المسالم والأرحام ما نقولا
تقول كلّ فتاةٍ غاب قيّمها: ... أكلّ من خلفنا من قومنا قتلوا
لقد قتلتم كريماً ذا محافظة ... قد كان حالفه القينات والحلل
جزلٌ نوافله حلوٌ شمائله ... ريّان واغله تشقى به الإبل
الواغل: الذي يدخل على القوم وهم يشربون.
فأجابه عبد الله بن رواحة الحارثي الخزرجي:
لّما رأيت بني عوفٍ وإخوتهم ... كعباً وجمع بني النجّار قد حفلوا
قدماّ أباحوا حماكم بالسيوف ولم ... يفعل بكم أحدٌ مثل الذي فعلوا
وكان رئيس الأوس يومئذ في حرب حاطب أبو قيس بن الأسلت الوائلي، فقام في حربهم وهجر الراحة، فشحب وتغير. وجاء يوماً إلى امرأته فأنكرته حتى عرفته بكلامه، فقالت له: لقد أنكرتك حتى تكلمت ! فقال:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا: ... مهلاً فقد أبلغت أسماعي
واستنكرت لوناً له شاحباً ... والحرب غولٌ ذات أوجاع
من يذق الحرب يجد طعمها ... مرّاً وتتركه بجعجاع
قد حصّتّ البيضة رأسي فما ... أطعم نوماً غير نهجاع
أسعى على جلّ بني مالك ... كلّ امرئ في شأنه ساعي
أعددت للأعداء موضونةً ... فضفاضةً كالنّهي بالقاع
أحفزها عنّي بذي رونق ... مهنّدٍ كاللمع قطّاع
صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدّه ... ومنحنٍ أسمر قرّاع
وهي طويلة ثم إن أبا قيس بن الأسلت جمع الأوس وقال لهم: ما كنت رئيس قوم قط إلا هزموا، فرئسوا عليكم من أحببتم؛ فرأسوا عليهم حضير الكتائب بن السماك الأشهلي، وهو والد أسيد بن حضير لولده صحبةٌ، وهو بدريّ، فصار حضير يلي أمورهم في حروبهم. فالتقى الأوس والخزرج بمكان يقال له الغرس، فكان الظفر للأوس، ثم تراسلوا في الصلح فاصطلحوا على أن يحسبوا القتلى فمن كان عليه الفضل أعطى الدية، فأفضلت الأوس على الخزرج ثلاثة نفر، فدفعت الخزرج ثلاثة غلمة منهم رهناً بالديات، فغدرت الأوس فقتلت الغلمان.
يوم الفجار الأول للأنصاروليس بفجار كنانة وقيس. فلما قتلت الأوس الغلمان جمع الخزرج وحشدوا والتقوا بالحدائق؛ وعلى الخزرج عبد الله بن أبي بن سلول، وعلى الأوس أبو قيس بن الأسلت، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كاد بعضهم يفنى بعضاً. وسمى ذلك اليوم يوم الفجار لغدرهم بالغمان، وهو الفجار الأول، فكان قيس بن الخطيم في حائط له فانصرف فوافق قومه قد برزوا للقتال فعجز عن أخذ سلاحه إلا السيف ثم خرج معهم، فعظم مقامه يومئذ وأبلى بلاء حسناً وجرح جراحة شديدة، فمكث حيناً يتداوى منها، وأمر أن يحتمي عن الماء، فلذلك يقول عبد الله بن رواحة:
رميناك أيّام الفجار فلم تزل ... حميّاً فمن يشرب فلست بشارب
يوم معبس ومضرس

ثم التقوا عند معبس ومضرس، وهما جداران، فكانت الخزرج وراء مضرس، وكانت الأوس وراء معبس، فأقاموا أياماً يقتتلون قتالاً شديداً، ثم انهزمت الأوس حتى دخلت البيوت والآطام، وكانت هزيمة قبيحة لم ينهزموا مثلها. ثم إن بني عمرو بن عوف وبني أوس مناة من الأوس وادعوا الخزرج فامتنع من الموادعة بنو عبد الأشهل وبنو ظفر وغيرهم من الأوس وقالوا: لا نصالح حتى ندرك ثأرنا من الخزرج. فألحت الخزرج عليهم بالأذى والغارة حين وادعهم بنو عمرو بن عوف وأوس مناة، فعزمت الأوس إلا من ذكرنا على الانتقال من المدينة، فأغارت بنو سلمة على مال لبني عبد الأشهل يقال له الرعل، فقاتلوهم عليه، فجرح سعد بن معاذ الأشهلي جراحة شديدة، واحتمله بنو سلمة إلى عمرو بن الجموح الخزرجي، فأجاره وأجار الرعل من الحريق وقطع الأشجار، فلما كان يوم بعاث جازاه سعد على نذكره إن شاء الله.
ثم سارت الأوس إلى مكة لتحالف قريشاً على الخزرج وأظهروا أنهم يريدون العمرة. وكانت عادتهم أنه إذا أراد أحدهم العمرة أو الحج لم يعرض إليه خصمه ويعلق المعتمر على بيته كرانيف النخل. ففعلوا ذلك وساروا إلى مكة فقدموها وحالفوا قريشاً وأبو جهل غائبٌ. فلما قدم أنكر ذلك وقال لقريش: أما سمعتم قول الأول: ويل للأهل من النازل ! إنهم لأهل عدد وجلد ولقل ما نزل قوم على قوم إلا أخرجوهم من بلدهم وغلبوهم عليه. قالوا: فما المخرج من حلفهم ؟ قال: أنا أكفيكموهم، ثم خرج حتى جاء الأوس فقال: إنكم حالفتم قومي وأنا غائب فجئت لأحالفكم وأذكر لكم من أمرنا ما تكونون بعده علظ على رأس أمركم. إنا قوم تخرج إماؤنا إلى أسواقنا ولا يزال الرجل منا يدرك الأمة فيضرب عجيزتها، فإن طابت أنفسكم أن تفعل نساؤكم مثل ما تفعل نساؤنا خالفناكم، وإن كرهتم ذلك فردوا إلينا حلفنا. فقالوا: لا نقر بهذا. وكانت الأنصار بأسرها فيهم غيرة شديدة، فردوا إليهم حلفهم وساروا إلى بلادهم؛ فقال حسان بن ثابت يفتخر بما أصاب قومه من الأوس:
ألا أبلغ أبا قيس رسولا ... إذا ألقى لها سمعاً تبين
فلست لحاصنٍ إن لم تزركم ... خلال الدار مسبلةٌ طحون
يدين لها العزيز إذا رآها ... ويهرب من مخافتها القطين
تشيب الناهد العذراء منها ... ويسقط من مخافتها الجنين
يطوف بكم من النجّار أسدٌ ... كأسد الغيل مسكنها العرين
يظلّ الليث فيها مستكيناً ... تله في كلّ ملتفت أنين
كأنّ بهاءها للناظريها ... من الأثلات والبيض الفتين
كأنّهم من الماذي عليهم ... جمالٌ حين يجتلدون جون
فقد لاقاك قبل بعاث قتلٌ ... وبعد بعاث ذلٌّ مستكين
وهي طويلة أيضاً.
يوم الفجار الثاني للأنصاركانت الأوس قد طلبت من قريظة والنضير أن يحالفوهم على الخزرج، فبلغ ذلك الخزرج فأرسلوا إليهم يؤذنونهم بالحرب، فقالت اليهود: إنا لا نريد ذلك، فأخذت الخزرج رهنهم وعلى الوفاء، وهم أربعون غلاماً من فريظة والنضير، ثم إن يزيد بن فسحم شرب يوماً فسكر فتغنى بشعر يذكر فيه ذلك:
هلمّ إلى الأحلاف إذ رقّ عظمهم ... وإذ أصلحوا مالاً لجذمان ضائعا
إذا ما امرؤٌ منهم أساء عمارة ... بعثنا عليهم من بني العير جادعا
فأمّا الصريخ منهم فتحمّلوا ... وأمّا اليهود فاتخذنا بضائعا
أخذنا من الأولى اليهود عصابةً ... لغدرهم كانوا لدينا ودائعا
فذلّوا لرهنٍ عندنا في حبالنا ... مصانعة يخشون منّا القوارعا
وذاك بأنّا حين نلقى عدوّنا ... نصول بضربٍ يترك العز خاشعا
فبلغ قوله قريظة والنضير فغضبوا. وقال كعب بن أسد: نحن كما قال: إن لم نغر فخالف الأوس على الخزرج. فلما سمعت الخزرج بذلك قتلوا كل من عندهم من الرهن من أولاد قريظة والنضير، فأطلقوا نفراً، منهم: سليم ابن أسد القرظي جد محمد بن كعب بن سليم. واجتمعت الأوس وقريظة والنضير على حرب الخزرج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وسمي ذلك الفجار الثاني لقتل الغلمان من اليهود.

وقد قيل في قتل الغلمان غير هذا، وهو: إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي قال لقومه بني بياضة: إن أباكم أنزلكم منزلة سوء، والله لا يمس رأسي ماء حتى أنزلكم منازل قريظة والنضير أو أقتل رهنهم ! وكانت منازل قريظة والنضير خير البقاع، فأرسل إلى قريظة والنضير: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم، وإما أن نقتل الرهن. فهموا بأن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان، ما هي إلا ليلةٌ يصيب فيها أحدكم امرأة حتى يولد له مثل أحدهم. فأرسلوا إليهم، إنا لا ننتقل عن ديارنا فانظروا في رهننا فعوا لنا. فعدا عمرو ابن النعمان على رهنهم فقتلهم، وخالفه عبد الله بن أبي بن سلول فقال: هذا بغي وإثم، ونهاه عن قتلهم وقتال قومه من الأوس وقال له: كأني بك وقد حملت قتيلاً في عباءة يحملك أربعة رجال. فلم يقتل هو ومن أطاعه أحداً من الغلمان وأطلقوهم؛ ومنهم: سليم بن أسد جد محمد بن كعب. وحالفت حينئذ قريظة والنضير الأوس على الخزرج، وجرى بينهم قتال سمي ذلك اليوم يوم الفجار الثاني. وهذا القول أشبه بأن يسمى اليوم فجاراً، وأما على القول الأول فإنما قتلوا الرهن جزاء للغدر من اليهود فليس بفجار من الخزرج إلا أن يسمى فجاراً لغدر اليهود.
يوم بعاثثم إن قريظة والنضير جددوا العهود مع الأوس على الموازرة والتناصر، واستحكم أمرهم وجدوا في حربهم، ودخل معهم قبائل من اليهود غير من ذكرنا. فلما سمعت بذلك الخزرج جمعت وحشدت وراسلت حلفاءها من أشجع وجهينة، وراسلت الأوس حلفاءها من مزينة، ومكثوا أربعين يوماً يتجهزون للحرب، والتقوا ببعاث، وهي من أعمال قريظة، وعلى الأوس حضير الكتائب بن سماك والد أسيد بن حضير، وعلى الخزرج مرو بن النعمان البياضي، وتخلف عبد الله بن أبي بن سلول فيمن تبعه عن الخزرج، وتخلف بنو حارثة بن الحارث عن الأوس. فلما التقوا اقتتلوا قتالاً شديداً وصبروا جميعاً.
ثم إن الأوس وجدت مس السلاح فولوا منهزمين نحو العريض. فلما رأى حضير هزيمتهم برك وطعن قدمه بسنان رمحه وصاح: واعقراه كعقر الجمل ! والله لا أعود حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا. فعطفوا عليه وقاتل عنه غلامان منى بني عبد الأشهل يقال لهما محمود ويزيد ابنا خليفة حتى قتلا، وأقبل سهم لا يدرى من رمى به فأصاب عمرو بن النعمان البياضي رئيس الخزرج فقتله، فبينا عبد الله بن أبي ابن سلول يتردد راكباً قريباً من بعاث يتجسس الأخبار إذ طلع عليه بعمرو ابن النعمان قتيلاً في عباءة يحمله أربعة رجال، كما كان قال له. فلما رآه قال ذق وبال البغي ! وانهزمت الخزرج، ووضعت فيهم الأوس السلاح، فصاح صائحٌ: يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم فجوارهم خير من جوار الثعالب ! فانتهوا عنهم ولم يسلبوهم. وإنما سلبهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيراً مجروحاً فمات. وأحرقت الأوس دور الخزرج ونخيلهم، فأجار سعد بن معاذ الأشهلي أموال بني سلمة ونخيلهم ودورهم جزاء بما فعلوا له في الرعل، وقد تقدم ذكره، ونجى يومئذٍ الزبير بن إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أخذه فج وأطلقه، وهي اليد التي جازاه بها ثابت في الإسلام يوم بني القريظة، وسنذكره.
وكان يوم بعاث آخر الحروب المشهورة بين الأوس والخزرج ثم جاء بالإسلام واتفقت الكلمة واجتمعوا على نصر الإسلام وأهله وكفى الله المؤمنين القتال.
وأكثرت الأنصار الأشعار في يوم بعاث، فمن ذلك قول قيس بن الخطيم الظفري الأوسي:
أتعرف رسماً كالطّراز المذهب ... لعمرة ركباً غير موقف راكب
ديار التي كانت ونحن على منىً ... تحلّ بنا لولا رجاء الركائب
تبدّت لنا كالشمس تحت ... زبدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب
ومنها:
وكنت امرأً أبعث الحرب ظالماً ... فلمّا أبوا شعّلتها كلّ جانب
أذنت بدفع الحرب حتّى رأيتها ... عن الدفع لا تزداد غير تقارب
فلمّا رأيت الحرب حرباً تجرّدت ... لبست مع البردين ثوب المحارب
مضعّفة يغشى الأنامل ريعها ... كأنّ قتيريها عيون الجنادب
ترى قصد المرّان تلقى كأنّها ... تذرّع خرصان بأيدي الشواطب

وسامحني ملكاهنين ومالك ... وثعلبة الأخيار رهط القباقب
رجالٌ متى يدعوا إلى الحرب يسرعوا ... كمشي الجمال المشعلات المصاعب
إذا ما فررنا كان أسوأ فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ... ولا تبرح الأقدام عند التضارب
ظأرناكم بالبيض حتّى لأنتم ... أذلّ من السّقبان بين الحلائب
يجرّدن بيضاً كلّ يوم كريهةٍ ... ويرجعن حمراً جارحات المضارب
لقيتكم يوم الحدائق حاسراً ... كأنّ يدي بالسيف مخراق لاعب
ويوم بعاثٍ أسلمتنا سيوفنا ... إلى حسبٍ في جذم غسّان ثاقب
قتلناكم يوم الفجار وقبله ... ويوم بعاث كان يوم التغالب
أتت عصبٌ للأوس تخطر بالقنا ... كمشي الأسود في رشاش الأهاضب
فأجابه عبد الله بن رواحة:
أشاقتك ليلى في الخليط المجانب ... نعم، فرشاش الدمع في الصدر غالب
بكى إثر من شطّت نواه ولم يقم ... لحاجة محزونٍ شكا الحبّ ناصب
لدن غدوةً حتى إذا الشمس عارضت ... أراحت له من لبّه كلّ عازب
نحامي على أحسابنا بتلادنا ... لمفتقر أو سائل الحقّ واجب
وأعمى هدته للسبيل سيوفنا ... وخصمٍ أقمنا بعدما ثجّ ثاعب
ومعتركٍ ضنكٍ يرى الموت وسطه ... مشينا له مشي الجمال المصاعب
برجلٍ ترى الماذيّ فوق جلودهم ... وبيضاً نقيّاً مثل لون الكواكب
وهم حسّرٌ لا في الدروع تخالهم ... أسوداً متى تنشا الرماح تضارب
معاقلهم في كلّ يوم كريهةٍ ... مع الصدق منسوب السيوف القواضب
وهي طويلة.
وليلى التي شبب بها ابن رواحة هي أخت قيس بن الخطيم، وعمرة التي شبب بها ابن الخطيم هي أخت عبد الله بن رواحة، وهي أم النعمان بن بشير الأنصاري.
بعاث بضم الباء الموحدة، وبالعين المهملة، وقال صاحب كتاب العين وحده: وهو بالغين المعجمة.
ذكر غلبة ثقيف على الطائف

والحرب بين الأحلاف وبني مالك
كانت أرض الطائف قديماً لعدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. فلما كثر بنو عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور ابن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان غلبوهم على الطائف بعد قتال شديد. كان بنو عامر يصيفون بالطائف ويشتون بأرضهم من نجد، وكانت مساكن ثقيف حول الطائف، وقد اختلف الناس فيهم، فمنهم من جعلهم من إياد فقال ثقيف اسمه قسي بن نبت بن منبه بن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي ابن إياد من معد، ومنهم من جعلهم من هوازن فقال: هو قيس بن منبه ابن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان.
فرأت ثقيف البلاد فأعجبهم نباتها وطيب ثمرها فقالوا لبني عامر: إن هذه الأرض لا تصلح للزرع وإنما هي أرض ضرع ونراكم على أن آثرتم الماشية على الغراس، ونحن أناس ليست لنا مواشٍ فهل لكم أن تجمعوا الزرع والضرع بغير مؤونة ؟ تدفعون إلينا بلادكم هذه فنثيرها ونغرسها ونحفر فيها الأطواء ولا نكلفكم مؤونة. نحن نكفيكم المؤونة والعمل، فإذا كان وقت إدراك الثمر كان لكم النصف كاملاً ولنا النصف بما عملنا.
فرغب بنو عامر في ذلك وسلموا إليهم الأرض، فنزلت ثقيف الطائف واقتسموا البلاد وعملوا الأرض وزرعوها من الأعتاب والثمار ووفوا بما شرطوا لبني عامر حيناً من الدهر، وكان بنو عامر يمنعون ثقيفاً ممن أرادهم من العرب.
فلما كثرت ثقيف وشرفت حصنت بلادها وبنوا سور على الطائف وحصنوه ومنعوا عامراً مما كانوا يحملونه إليهم عن نصف الثمار. وأراد بنو عامر أخذه منهم فلم يقدروا عليه فقاتلوهم فلم يظفروا، وكانت ثقيف بطنين: الأحلاف وبني مالك، وكان للأحلاف في هذا أثر عظيم، ولم تزل تعتد بذلك على بني مالك فأقاموا كذلك.

ثم إن الأحلاف أثروا وكثرت خيلهم فحموا لها حمىً من أرض بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن يقال له جلذان، فغضب من ذلك بنو نصر وقاتلوهم عليه، ولجت الحرب بينهم. وكان رأس بني نصر عفيف بن عوف ابن عباد النصري ثم اليربوعي، ورأس الأحلاف مسعود بن عنب. فلما لجت الحرب بين بني نصر والأحلاف اغتنم ذلك بنو مالك ورئيسهم جندب ابن عوف بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم من ثقيف لضغائن كانت بينهم وبين الأحلاف، فحالفوا بني يربوع على الأحلاف.
فلما سمعت الأحلاف بذلك اجتمعوا. وكان أول قتال كان بين الأحلاف وبين بني مالك وحلفائهم من ني نصر يوم الطائف، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانتصر الأحلاف وأخرجوهم منه إلى وادٍ من وراء الطائف يقال له الحب، وقتل من بني مالك وبني يربوع مقتلة عظيمة في شعب من شعاب ذلك الجبل يقال له الأبان. ثم اقتتلوا بعد ذلك مسميات، منهن يوم غمر ذي كندة، من نحو نخلة، ومنهن يوم كرونا من نحو حلوان، وصاح عفيف ابن عوف اليربوعي في ذلك اليوم صيحة يزعمون أن سبعين حبلى منهم ألقت ما في بطنها، فاقتتلوا أشد قتال ثم افترقوا. فسارت بنو مالك تبتغي الحلف من دوس وخثعم وغيرهما على الأحلاف، وخرجت الأحلاف إلى المدينة تبتغي الحلف من الأنصار على بني مالك، فقدم مسعود بن معتب على أحيحة بن الجلاح أحد بني عمرو ابن عوف من الأوس، وكان أشرف الأنصار في زمانه، فطلب منه الحلف، فقال له أحيحة: والله ما خرج رجل من قومه إلى قوم قط بحلف أو غيره إلا أقر لأولئك القوم بشر مما أنف منه من قومه، فقال له مسعود: إني أخوك، وكان صديقاً له، فقال: أخوك الذي تركته وراءك فارجع إليه وصالحه ولو بجدع أنفك وأذنك فإن أحداً لن يبر لك في قومك إذ خالفته؛ فانصرف عنه وزوده بسلاح وزاد وأعطاه غلاماً كان يبني الآطام، يعني الحصون، بالمدينة، فبنى لمسعود بن معتب أطماً، فكان أول أطمٍ بني بالطائف، ثم بنيت الآطام بعده بالطائف. ولم يكن بعد ذلك بينهم حرب تذكر.
وقالوا في حربهم أشعاراً كثيرة، فمن ذلك قول محبر، وهو ربيعة بن سفيان أحد بني عوف بن عقدة من الأحلاف:
وما كنت ممّن أرّث الشّرّ بينهم ... ولكنّ مسعوداً جناها وجندبا
قريعي ثقي أنشبا الشرّ بينهم ... فلم يك عنها منزعٌ حين أنشبا
عناقاً ضروساً بين عوفٍ ومالكٍ ... شديداً لظاها تترك الطّفل أشيبا
مضرّمةً شبّاً أشبّا وقودها ... بأيديهما ما أورياها وأثقبا
أصابت براء من طوائف مالكٍ ... وعوفٍ بما جرّا عليها وأجلبا
كجمثورةٍ جاؤوا تخطّوا مآبنا ... إليهم وتدعو في اللقاء معتّبا
وتدعو بني عوف بن عقدة في الوغى ... وتدعو علاجاً والحليف المطيّبا
حبيباً وحيّاً من رباب كتائباً ... وسعداً إذا الداعي إلى الموت ثوّبا
وقوماً بمكروثاء شنّت معتّبٌ ... بغارتها فكان يوماً عصبصبا
فأسقط أحبال النساء بصوته ... عفيفٌ إذا نادى بنصرٍ فطرّبا
عفيف هذا بضم العين وفتح الفاء.
بسم الله الرحمن الرحيم

نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وذكر بعض أخبار آبائه وأجداده
واسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، محمد، وقد تقدم ذكر ولادته في ملك كرى أنوشروان، وهو محمد بن عبد الله، ويكنى عبد الله أبا قثم، وقيل: أبا محمد، وقيل: أبا أحمد بن عبد المطلب. وكان عبد الله أصغر ولد أبيه، فكان هو عبد الله وأبو طالب، واسمه عبد مناف، والزبير، وعبد الكعبة، عاتكة، وأميمة، وبرة ولد عبد المطلب، أمهم جميعهم فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة.
وكان عبد المطلب نذر حين لقي من قريش العنت في حفر زمزم، كما نذكره، لئن ولد له عشرة نفر وبلغوا معه حتى يمنعوه لينحرن أحدهم عند الكعبة لله تعالى. فلما بلغوا عشرة وعرف أنهم سيمنعونه أخبرهم بنذره فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع ؟ قال: يأخذ كل رجل منكم قدحاً ثم يكتب فيه اسمه. ففعلوا وأتوه بالقداح، فدخلوا على هبل في جوف الكعبة، وكان أعظم أصنامهم، وهو على بئر يجمع فيه ما يهدى إلى الكعبة.

وكان عند هبل سبعة أقداح، فيكل قدح كتاب، فقدح فيه العقل، إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة، وقدح فيه نعم للأمر إذا أرادوه يضرب به، فإن خرج نعم عملوا به، وقدح فيه لا، فإذا أرادوا أمراً ضربوا به، فإذا خرج لا لم يعملوا ذلك الأمر، وقدح فيه منكم، وقدح فيه ملصق، وقدح فيه من غيركم، وقدح فيه المياه. إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح فحيث ما خرج عملوه به؛ وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلاماً أ ينكحوا جاريةً أو يدفنوا ميتاً أو شكوا في نسب أحد منهم ذهبوا به إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوه صاحب القداح الذي يضربها ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ثم قالوا: يا إلهنا هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه. ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فيضرب، فإن خرج عليه منكم كان وسيطاً، وإن خرج عليه من غيركم كان حليفاً، وإن خرج عليه شيء سوى هذا مما يعملون به، فإن خرج نعم عملوا به، وإن خرج لا أخروه عامهم ذلك حتى يأتوه به مرة أخرى، ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح.
وقال عبد المطلب لصاحب القداح: اضر على بني هؤلاء بقداحهم هذه. وأخبره بنذره الذي نذر، وكان عبد الله أصغر بني أبيه وأحبهم إليه. فلما أخذ صاحب القداح يضرب قام عبد المطلب يدعو الله تعالى، ثم ضرب صاحب القداح، فخرج قدح عل عبد الله. فأخذ عبد المطلب بيده ثم أقبل إلى إساف ونائلة، وهما الصنمان اللذان ينحر الناس عندهما. فقامت قريش من أنديتها، فقالوا: ما تريد ؟ قال: أذبحه، فقالت قريش وبنوه: والله لا تذبحه أبداً حتى تعذر فيه، لئن فعلت هذا لا يزال الرجل منا يأتي بإبنه حتى يذبحه. فقال له المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم: والله لا تذبحه حتى تعذر فيه، فإن كان فداؤه بأموالنا فديناه. وقالت له قريش وبنوه: لا تفعل وانطلق إلى كاهنة بالحجر فسلها فإن أمرتك بذبحه ذبحته، فإن أمرتك بما لك وله فيه فرجٌ قبلته.
فانطلقوا إليها، وهي بخيبر، فقص عليها عبد المطلب خبره، فقالت لهم: ارجعوا اليوم حتى يأتيني تابعي فأسأله، فرجعوا عنها. ثم غدوا عليها فقالت لهم: نعم، قد جاءني الخبر، فكم الدية فيكم ؟ قالوا: عشر من الإبل، وكانت كذلك. قالت: ارجعوا إلى بلادكم وقربوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعليه بالقداح فإن خرج على صاحبكم فزيدوا عشراً حتى يرضى ربكم. وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربكم ونجا صاحبكم.
فخرجوا حتى أتوا مكة، فلما أجمعوا لذلك قام عبد المطلب يدعو الله ثم قربوا عبد الله وعشراً من الإبل، فخرجت القداح على عبد الله، فزادوا عشراً، فخرجت القداح على عبد الله. فما برحوا يزيدون عشراً وتخرج القداح على عبد الله حتى بلغت الإبل مائة، ثم ضربوا فخرجت القداح على الإبل. فقال من حضر: قد رضي ربك يا عبد المطلب. فقال عبد المطلب: لا والله حتى أضرب ثلاث مرات. فضربوا ثلاثاً، فخرجت القداح على الإبل، فنحرت ثم تركت لا يصد عنها إنسان ولا سبع.
وأما تزويج عبد الله بن عبد المطلب بآمنة ابنة وهب أم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لما فرغ عبد المطلب من الإبل انصرف بإبنه عبد الله وهو آخذ بيده فمر على أم قتال ابنة نوفل بن أسد أخت ورقة بن نوفل، وهي عند البيت، فقالت له حين نظرت إليه والى وجهه: أين تذهب يا عبد الله ؟ فقال: مع أبي. قالت: لك عندي مثل الذي نحر عنك أبوك من الإبل وقع علي الآن. قال: إن معي أبي لا أستطيع خلافه ولا فراقه.
فخرج به عبد المطلب حتى أتى به وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو سيد بني زهرة، فزوجه ابنته آمنة بنت وهب، وهي لبرة بنت عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار بن قصي، وبرة لأم حبيب بنت أسد بن عبد العزي بن قصي، وأم حبيب لبرة بنت عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب.
فدخل عبد الله عليها حين ملكها مكانها فوقع عليها فحملت بمحمد صلى الله عليه ولم، ثم خرج من عندها حتى أتى المرأة التي عرضت عليه نفسها بالأمس فقال لها: مالك لا تعرضين علي اليوم ما كنت عرضت بالأمس ؟ فقالت: فارقك النور الذي كان معك بالأمس فليس لي بك اليوم حاجة.
وقد كانت تسمع من أخيها ورقة بن نوفل أنه كائن لهذه الأمة نبي من بني إسماعيل.

وقيل: إن عبد المطلب خرج بإبنه عبد الله ليزوجه فمر به على كاهنة من خثعم يقال لها فاطمة بنت مر متهودة من أهل تبالة فرأت في وجهه نوراً وقالت له: يا فتى هل لك أن تقع علي الآن وأعطيك مائة من الإبل ؟ فقال لها:
أما الحرام فالممات دونه ... والحلّ لا حلّ فأستبينه
فكيف بالأمر الذي تبغينه
ثم قال لها: أنا مع أبي ولا أقدر أن أفارقه. فمضى فزوجه آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة. فأقام عندها ثلاثاً ثم انصرف، فمر بالخثعمية فدعته نفسهإلى ما دعته إليه، فقال لها: هل لك فيما كنت أردت ؟ فقالت ؟ يا فتى ما أنا بصاحبة ريبةٍ ولكني رأيت في وجهك نوراً فأردت أن يكون لي فأبى الله إلا أن يجعله حيث أراد، فما صنعت بعدي ؟ قال: زوجني أبي آمنة بنت وهب. قالت فاطمة بنت مر:
إنّي رأيت مخيلةً لمعت ... فتلألأت بحناتم القطر
فلمأتها نوراً يضيء له ... ما حوله كإضاءة البدر
فرجوته فخراً أبوء به ... ما كلّ قادح زنده يوري
لله ما زهريّة سلبت ... ثوبيك ما استلبت وما تدري
وقالت أيضاً في ذلك:
بني هاشمٍ قد غادرت من أخيكم ... أمينة إذ للباه تعتركان
كما غادر المصباح عند خموده ... فتائل قد بلّت له بدهان
فما كلّ ما يحوي الفتى من تلاده ... لعزمٍ ولا ما فاته لتوان
فأجمل إذا طالبت أمراً فإنّه ... سيكفيكه جدّان يعتلجان
سيكفيكه إمّا يدٌ مقفعلّةٌ ... وإمّا يدٌ مبسوطةٌ ببنان
ولّما حوت منه أمينة ما حوت ... حوت منه فخراً ما لذلك ثان
وقيل: إن الذي اجتاز بها غير هذا، والله أعلم.
قال الزهري: أرسل عبد المطلب ابنه عبد الله إلى المدينة يمتار لهم تمراً فمات بالمدينة. وقيل: بل كان في الشام فأقبل في عير قريش فنزل بالمدينة وهو مريض فتوفي بها ودفن في دار النابغة الجعدي وله خمس وعشرون سنة، وقيل: ثمان وعشرون سنة، وتوفي قبل أن يولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عايذ بن عمران بالذال المعجمة، والياء تحتها نقطتان، وعبيد بفتح العين، وكسر الباء الموحدة. وعويج بفتح العين، وكسر الواو، وآخره جيم.
ابن عبد المطلبواسمه شيبة، سمي بذلك لأنه كان في رأسه لما ولد شيبة، وأمه سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجية النجارية، ويكنى أبا الحارث، وإنما قيل له عبد المطلب لأن أباه هاشماً شخص في تجارة إلى الشام، فلما قدم المدينة نزل على عمرو بن لبيد الخزرجي من بني النجار، فرأى ابنته سلمى فأعجبته فتزوجها. وشرط أبوها أن لا تلد ولداً إلا في أهلها، ثم مضى هاشم لوجهه وعاد من الشام فبنى بها في أهلها ثم حملها إلى مكة فحملت. فلما أثقلت ردها إلى أهلها ومضى إلى الشام فمات بغزة.
فولدت له سلمى عبد المطلب، فمكث بالمدينة سبع سنين. ثم إن رجلاً من بني الحارث بن عبد مناف مر بالمدينة فإذا غلمان ينتضلون، فجعل شيبة إذا أصاب قال: أنا ابن هاشم، أنا ابن سيد البطحاء. فقال له الحارثي: من أنت ؟ قال: أنا ابن هاشم بن عبد مناف. فلما أتى الحارثي مكة قال للمطلب، وهو بالحجر: يا أبا الحارث تعلم أني وجدت غلماناً بيثرب وفيهم ابن أخيك ولا يحسن ترك مثله. فقال المطلب: لا أرجع إلى أهلي حتى آتي به. فأعطاه الحارثي ناقةً فركبها وقدم المدينة عشاء فرأى غلماناً يضربون كرة فعرف ابن أخيه فسأل عنه فأخبر به، فأخذه وأركبه على عجز الناقة. وقيل: بل أخذه بإذن أمه، وسار إلى مكة فقدمها ضحوة والناس في مجالسهم فجعلوا يقولون له: من هذا وراءك ؟ فيقول: هذا عبدي. حتى أدخله منزله على امرأته خديجة بنت سعيد بن سهم. فقالت: من هذا الذي معك ؟ قال: عبد لي. واشترى له حلةً فلبسها ثم خرج به العشي فجلس إلى مجلس بني عبد مناف فأعلمهم أنه ابن أخيه، فكان بعد ذلك يطوف بمكة فيقال: هذا عبد المطلب، لقوله هذا عبدي.

ثم أوقفه المطلب على ملك أبيه فسلمه إليه. فعرض له نوفل بن عبد مناف، وهو عمه الآخر، بعد موت المطلب، في ركح له، وهو الفناء، فأخذه، فمشى عبد المطلب إلى رجالات قريش وسألهم النصرة على عمه، فقالوا له: ما ندخل بينك وبين عمك. فكتب إلى أخواله من بني النجار يصف لهم حاله، فخرج أبو أسعد بن عدس النجاري في ثمانين راكباً حتى أتى الأبطح، فخرج عبد المطلب يتلقاه، فقال له: المنزل يا خال ! قال: حتى ألقى نوفلاً. وأقبل حتى وقف على رأسه في الحجر مع مشايخ قريش، فسل سيفه ثم قال: ورب هذه البنية لتردن على ابن أختنا ركحة أو لأملأن منك السيف ! قال: فإني ورب هذه البنية أرد عليه ركحه، فأشهد عليه من حضر ثم قال لعبد المطلب: المنزل يا ابن أختي. فأقام عنده ثلاثاً، فاعتمروا وانصرفوا.
فدعا ذلك عبد المطلب إلى الحلف، فدعا بشر بن عمرو وورقاء بن فلان ورجالاً من رجالات خزاعة فحالفهم في الكعبة وكتبوا كتاباً. وكان إلى عبد المطلب السقاية والرفادة، وشرف في قومه وعظم شأنه. ثم إنه حفر زمزم، وهي بئر إسماعيل بن إبراهيم عليه السلام، التي أسقاه الله تعالى منها، فدفنتها جرهم، وقد تقدم ذكر ذلك.
سبب حفر بئر زمزموكان سبب حفره إياها أنه قال: بينا أنا نائم بالحجر إذ أتاني آتٍ فقال: احفر طيبة. قال: قلت: وما طيبة ؟ قال: ثم ذهب، فرجعت الغد إلى مضجعي فنمت فيه، فجاءني فقال: احفر برة. قال: قلت: وما برة ؟ قال: ثم ذهب عني، قال: فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر المضنونة. قال: قلت: وما المضنونة ؟ قال: فذهب عني. فلما كان الغد رجعت إلى مضجعي فنمت فيه فجاءني فقال: احفر زمزم، إنك إن حفرتها لا تندم. فقلت: وما زمزم ؟ قال تراث من أبيك الأعظم، لا تنزف أبداً ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم، مثل نعام جافل لم يقسم، ينذر فيها ناذر لمنعم، يكون ميراثاً وعقداً محكم، ليس كبعض ما قد تعلم، وهي بين الفرث والدم، عند نقرة الغراب الأعصم، عند قرية النمل.
فلما بين له شأنها ودل على موضعها وعرف أنه قد صدق، غدا بمعوله ومعه ابنه الحارث ليس له ولد غيره، فحفر بين إساف ونائلة في الموضع الذي تنحر فيه قريش لأصنامها، وقد رأى الغراب ينقر هناك. فلما بدا له الطوي كبر، فعرفت قريش أنه قد أدرك حاجته، فقاموا إليه فقالوا: إنها بئر أبينا إسماعيل، وإن لنا فيها حقاً فأشركنا معك. قال: ما أنا بفاعل، هذا أمر خصصت به دونكم. قالوا: فإنا غير تاركيك حتى نخاصمك فيها. قال: فاجعلوا بيني وبينكم من شئتم. قالوا: كاهنة بني سعد بن هذيم؛ وكانت بمشارف الشام.
فركب عبد المطلب ومعه نفر من بني عبد مناف، وركب من كل قبيلة من قريش نفر، حتى إذا كانوا ببعض تلك المفاوز بين الحجاز والشام فني ماء عبد المطلب وأصحابه، فظمئوا حتى أيقنوا بالهلكة، فطلبوا الماء ممن معهم من قريش فلم يسقوهم. فقال لأصحابه: ماذا ترون ؟ فقالوا: رأينا تبعٌ لرأيك فمرنا بما شئت. قال: فإني أرى أن يحفر كل رجل منكم لنفسه حفرة، فكلما مات واحد واراه أصحابه حتى يكون آخركم موتاً قد وارى الجميع، فضيعة رجل واحد أيسر من ضيعة ركب. قالوا: نعم ما رأيت. ففعلوا ما أمرهم به.
ثم إن عبد المطلب قال لأصحابه: والله إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضرب في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ. فارتحلوا ومن معه من قبائل قريش ينظرون إليهم، ثم ركب عبد المطلب، فلما انبعثت به راحلته انفجرت من تحت خفها عينٌ عذبة من ماء، فكبر وكبر أصحابه وشربوا وملأوا أسقيتهم، ثم دعا القبائل من قريش فقال: هلموا إلى الماء فقد سقانا الله. فقال أصحابه: لا نسقيهم لأنهم لم يسقونا. فلم يسمع منهم وقال: فنحن إذاً مثلهم ! فجاء أولئك القرشيون فشربوا وملأوا أسقيتهم وقالوا: قد والله قضى الله لك علينا يا عبد المطلب، والله لا نخاصمك في زمزم أبداً، إن الذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الذي سقاك زمزم، فارجع إلى سقايتك راشداً.
فرجعوا إليه ولم يصلوا إلى الكاهنة وخلوا بينه وبينها.

فلما فرغ من حفرها وجد الغزالين اللذين دفنتهما جرهم فيها، وهما من ذهب، ووجد فيها أسيافاً قلعية وأدراعاً. فقالت له قريش: يا عبد ! المطلب لنا معك في هذا شركٌ وحقّ. قال: لا ولكن هلم إلى أمر نصفٍ بيني وبينكم، نضرب عليها بالقداح. فقالوا: فكيف تصنع ؟ قال: أجعل للكعبة قدحين ولكم قدحين وله قدحين، فمن خرج قداحه على شيء أخذه، ومن تخلف قداحه فلا شيء له. قالوا: أنصفت. ففعلوا ذلك وضربت القداح عند هبل فخرج قدحا الكعبة على الغزالين، وخرج قدحا عبد المطلب على الأسياف والأدراع، ولم يخرج لقريش شيء من القداح. فضرب عبد المطلب الأسياف باباً للكعبة وجعل فيه الغزالين صفائح من ذهب، فكان أول ذهب حليت به الكعبة. وقيل: بل بقيا في الكعبة وسرقا، على ما نذكره.
وأقبل الناس والحجاج على بئر زمزم تبركاً بها ورغبة فيها، واعرضوا عما سواها من الأبيار. ولما رأى عبد المطلب تظاهر قريش عليه نذر الله تعالى: إن يرزقه عشرة من الولدان يبلغون أن يمنعوه ويذبوا عنه نحر أحدهم قرباناً لله تعالى.
وقد ذكر النذر في إسم عبد الله أبي النبي صلى الله عليه وسلم.
وعبد المطلب أول من خضب بالوسمة، وهو السواد، لأن الشيب أسرع إليه.
وكان لعبد المطلب جار يهودي يقال له أذينة يتجر وله مال كثير، فغاظ ذلك حر بن أمية، وكان نديم عبد المطلب، فأغرى به فتياناً من قريش ليقتلوه ويأخذوا ماله، فقتله عامر بن عبد مناف بن عبد الدار وصخر بن عمرو ابن كعب التيمي جد أبي بكر، رضي الله عنه، فلم يعرف عبد المطلب قاتليه، فلم يزل يبحث حتى عرفهما، وإذا هما قد استجارا بحرب بن أمية، فأتى حرباً ولامه وطلبهما منه. فأخفاهما، فتغالظا في القول حتى تنافرا إلى النجاشي ملك الحبشة، فلم يدخل بينهما، فجعلا بينهما نفيل بن عبد العزي العدوي جد عمر بن الخطاب. فقال لحرب: يا أبا عمرو أتنافر رجلاً هو أطول منك قامة، وأوسم وسامة، وأعظم منك هامة، وأقل منك ملامة؛ وأكثر منك ولداً، وأجزل منك صفداً، وأطول منك مدداً؛ وإني لأقول هذا وإنك لبعيد الغضب، رفيع الصوت في العرب؛ جلد المريرة، لحبل العشيرة، ولكنك نافرت منفراً؛ فغضب حرب وقال: من إنتكاس الزمان أن جعلت حكماً. فترك عبد المطلب منادمة حرب ونادم عبدالله بن جدعان التيمي، وأخذ من حرب مائة ناقة فدفعها إلى ابن عم اليهودي وارتجع ماله إلا شيئاً هلك فغرمه من ماله.
وهو أول من تحنث بحراء، فكان إذا دخل شهر رمضان صعد حراء وأطعم المساكين جميع الشهر.
وتوفي وله مائة وعشرون سنة، وكان قد عمي. وقبل غير ذلك.
؟؟

ابن هاشم
واسم هاشم عمرو، وكنيته أبو نضلة، وإنما قيل له هاشم لأنه أول من هشم الثريد لقومه بمكة وأطعمه. قال ابن الكلبي: كان هاشم أكبر ولد عبد مناف، والمطلب أصغرهم، أمه عاتكة بنت مرة السلمية، ونوفل، وأمه واقدة، وعبد شمس، فسادوا كلهم، وكان يقال لهم المجبرون. وهم أول من أخذ لقريش العصم، فانتشروا من الحرم؛ أخذ لهم هاشم خيلا من الروم وغسان بالشام، وأخذ لهم عبد شمس خيلاً من النجاشي بالحبشة، وأخذ لهم نوفل خيلاً من الأكاسرة بالعراق، وأخذ لهم المطلب خيلاً من حمير باليمن، فاختلفت قريش بهذا السبب إلى هذه النواحي، فجبر الله بهم قريشاً.
وقيل: إن عبد شمس وهاشماً تؤامان، وإن أحدهما ولد قبل الآخر وإصبع له ملتصقة بجبهة صاحبه فنحيت، فسال الدم، فقيل يكون بينهما دم. وولي هاشم بعد أبيه عبد مناف ما كان إليه من السقاية والرفادة، فحسده أمية بن عبد شمس على رياسته وإطعامه، فتكلف أن يصنع صنيع هاشم، فعجز عنه، فشمت به ناس من قريش، فغضب ونال من هاشم ودعاه إلى المنافرة، فكره هاشم ذلك لسنة وقدره، فلم تدعه قريش حتى نافره على خمسين ناقة والجلاء عن مكة عشر سنين، فرضي أمية وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي، وهو جد عمرو بن الحمق، ومنزله بعسفان، وكان مع أمية همهمة بن عبد العزى الفهري، وكانت ابنته عند أمية، فقال الكاهن: والقمر الباهر، والكوكب الزاهر، والغمام الماطر، وما بالجو من طائر، وما اهتدى بعلم مسافر، من منجد وغاثر، لقد سبق هاشم أمية إلى المآثر، أول منه وآخر، وأبو همهمة بذلك خابر. فقضى لهاشم بالغلبة، وأخذ هاشم الإبل فنحرها وأطعمها، وغاب أمية عن مكة بالشام عشر سنين. فكانت هذه أول عداوة وقعت بين هاشم وأمية.

وكان يقال لهاشم والمطلب البدران لجمالهما.
ومات هاشم بغزة وله عشرون سنة، وقيل: خمس وعشرون سنة، وهو أول من مات من بني عبد مناف ثم مات عبد شمس بمكة فقبر بأجياد. ثم مات نوفل بسلمان من طريق العراق.
ثم مات المطلب بردمان من أرض اليمن.
وكانت الرفادة والسقاية بعد هاشم إلى أخيه المطلب لصغر ابنه عبد المطلب بن هاشم.
؟؟
ابن عبد منافواسمه المغيرة، وكنيته أبو عبد شمس، وكان يقال له القمر لجماله، وكانت أمه حين ولدته دفعته إلى مناف، صنم بمكة، تديناً بذلك، فغلب عليه عبد مناف.
وكان عبد مناف وعبد العزي وعبد الدار بنو قصي إخوةً، أمهم حبى ابنة حليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن خزاعة، وهو الذي عقد الحلف بين قريش والأحابيش، والأحابيش بنو الحارث بن عبد مناف بن كنانة، وبنو المصطلق من خزاعة، وبنو الهون من خزيمة. وكان قصي يقول: ولد لي أربعة بنين فسميت ابنين بإلهي، وهما عبد مناف وعبد العزي، وواحداً بداري، وهو عبد الدار، وواحداً بي، وهو عبد قصي.
حليل بضم الحاء المهملة، وفتح اللام الأولى. وحبشية بضم الحاء.
؟؟

ابن قصي
واسمه زيد، وكنيته أبو المغيرة، وإنما قيل له قصي لأن ربيعة بن حرام ابن ضنة بن عبد بن كبير بن عذرة بن سعد بن زيد تزوج أمه فاطمة ابنة سعد ابن سيل، واسمه جبر بن جمالة بن عوف، وهي أيضاً أم أخيه زهرة، ونقلها إلى بلاد عذرة من مشارف الشام وحملت معها قصياً لصغره، وتخلف زهرة في قومه لكبره، فولدت أمه فاطمة لربيعة بن حرام رزاح بن ربيعة، فهو أخو قصي لأمه. وكان لربيعة ثلاثة نفر من امرأة أخرى، وهم حن بن ربيعة ومحمود وجلهمة، وقيل: إن حناً كان أخاً قصي لأمه. فشب زيد في حجر ربيعة فسمي قصياً لبعده عن دار قومه، وكان قصي ينتمي إلى ربيعة إلى أن كبر، وكان بينه وبين رجل من قضاعة شيء، فعيره القضاعي بالغربة، فرجع قصي إلى أمه وسألها عما قال، فقالت له: يا بني أنت أكرم منه نفساً وأباً، أنت ابن كلاب بن مرة وقوم بمكة عند البيت الحرام.
فصبر حتى دخل الشهر الحرام وخرج مع حاج قضاعة حتى قدم مكة وأقام مع أخيه زهرة، ثم خطب إلى حليل بن حبشية الخزاعي ابنته حبى، فزوجه، وحليل يومئذ يلي الكعبة. فولدت أولاده: عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العزي، وعبد قصي، وكثر ماله وعظم شرفه.
وهلك حليل وأوصى بولاية البيت لابنته حبى، فقالت: إني لا أقدر على فتح الباب وإغلاقه، فجعل فتح الباب وإغلاقه إلى ابنه المحترش، وهو أبو غبشان. فاشترى قصي منه ولاية البيت بزق خمر وبعود، فضربت به العرب المثل فقالت: أخسر صفقة من أبي غبشان.
فلما رأت ذلك خزاعة كثروا على قصي، فاستنصر أخاه رزاحاً، فحضر هو وإخوته الثلاثة فيمن تبعه من قضاعة إلى نصرته، ومع قصي قومه بنو النضر، وتهيأ لحرب خزاعة وبني بكر، وخرجت إليهم خزاعة فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكثرت القتلى في الفريقين والجراح، ثم تداعوا إلى الصلح على أن يحكموا بينهم عمرو بن عوف بن كعب بن ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة، فقضى بينهم بأن قصياً أولى بالبيت ومكة من خزاعة، وأن كل دم أصابه من خزاعة وبني بكر موضوع فيشدخه تحت قدميه، وأن كل دم أصابت خزاعة وبنو بكر من قريش وبني كنانة ففي ذلك الدية مؤداة، فسمي بعمرو الشداخ بما شدخ من الدماء وما وضع منها. فولي قصي البيت وأمر مكة.
وقيل: إن حليل بن حبشية أوصى قصياً بذلك وقال: أنت أحق بولاية البيت من خزاعة. فجمع قومه وأرسل إلى أخيه يستنصره، فحضر في قضاعة في الموسم وخرجوا إلى عرفات وفرغوا من الحج ونزلوا منىً وقصي مجمعٌ على حربهم، وإنما ينتظر فراغ الناس من حجهم.

فلما نزلوا منىً ولم يبق إلا الصدر، وكانت صوفة تدفع بالناس من عرفات وتجيزهم إذا تفرقوا من منىً، إذا كان يوم النفر أتوا لرمي الجمار، ورجل من صوفة يرمي للناس لا يرمون حتى يرمي، فإذا فرغوا من منىً أخذت صوفة بناحيتي العقبة وحبسوا الناس، فقالوا: أجيزي صوفة، فإذا نفرت صوفة ومضت خلي سبيل الناس فانطلقوا بعدهم. فلما كان ذلك العام فعلت صوفة كما كانت تفعل، قد عرفت لها العرب ذلك، فهو دين في أنفسهم، فأتاهم قصي ومن معه من قومه ومن قضاعة فمنعهم وقال: نحن أولى بهذا منكم. فقاتلوه وقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزمت صوفة وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم وأنحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة. فلما إنحازوا عنه بادأهم فقاتلهم، فكثر القتل في الفريقين وأجلى خزاعة عن البيت، وجمع قصيٌّ قومه إلى مكة من الشعاب والأودية والجبال، فسمي مجمعاً، ونزل بني بغيض بن عامر بن لؤي وبني تيم الأدرم بن غالب بن فهر وبني محارب بن فهر وبني الحارث بن فهر، إلا بني هلال بن أهيب رهط أبي عبيدة بن الجراح وإلا رهط عياض بن غنم، بظواهر مكة، فسموا قريش الظواهر، وتسمى سائر بطون قريشٍ قريش البطاح، وكانت قريش الظواهر تغير وتغزو، وتسمى قريش البطاح الضب للزومها الحرم.
فلما ترك قصي قريشاً بمكة وما حولها ملكوه عليهم. فكان أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكاً أطاعه به قومه، وكان إليه الحجابة والسقاية والرفادة والندوة واللواء، فحاز شرف قريش كله، وقسم مكة أرباعاً بين قومه، فبنوا المساكن واستأذنوه في قطع الشجر، فمنعهم، فبنوا والشجر في منازلهم، ثم إنهم قطعوه بعد موته.
وتيمنت قريش بأمره فما تنكح امرأة ولا رجل إلا في داره، ولا يتشاورون في أمر ينزل بهم إلا في داره، ولا يعقدون لواء للحرب إلا في داره، يعقده بعض ولده، وما تدرع جارية إذا بلغت أن تدرع إلا في داره، وكان أمره في قومه كالدين المتبع في حياته وبعد موته. فاتخذ دار الندوة وبابها في المسجد، وفيها كانت قريش تقضي أمورها.
فلما كبر قصي ورق، وكان ولده عبد الدار أكبر ولده، وكان ضعيفاً، وكان عبد مناف قد ساد في حياة أبيه وكذلك إخوته، قال قصي لعبد الدار: والله لألحقنك بهم ! فأعطاه دار الندوة والحجابة، وهي حجابة الكعبة، واللواء، وهو كان يعقد لقريش ألويتهم، والسقاية، كان يسقي الحاج، والرفادة، وهي خرج تخرجه قريش في كل موسم من أموالها إلى قصي بن كلاب فيصنع منه طعاماً للحاج يأكله الفقراء، وكان قصي قد قال لقومه: إنكم جيران الله وأهل بيته، وإن الحاج ضيف الله وزوار بيته، وهم أحق الضيف بالكرامة، فاجعلوا لهم طعاماً وشراباً أيام الحج. ففعلوا فكانوا يخرجون من أموالهم فيصنع به الطعام أيام منىً، فجرى الأمر على ذلك في الجاهلية والإسلام إلى الآن، فهو الطعام الذي يصنعه الخلفاء كل عام بمنىً.
فأما الحجابة فهي في ولده إلى الآن، وهم بنو شيبة بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار.
وأما اللواء فلم يزل في ولده إلى أن جاء الإسلام، فقال بنو عبد الدار: يا رسول الله اجعل اللواء فينا. فقال: الإسلام أوسع من ذلك. فبطل.
وأما الرفادة والسقاية فإن بني عبد مناف بن قصي: عبد شمس، وهاشم، والمطلب، ونوفل، أجمعوا أن يأخذوها من بني عبد الدار لشرفهم عليهم وفضلهم، فتفرقت عند ذلك قريش، فكانت طائفة مع بني عبد مناف، وطائفة مع بني عبد الدار لا يرون تغيير ما فعله قصي، وكان صاحب أمر بني عبد الدار عامر ابن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

فكان بنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وبنو تيم بن مرة وبنو الحارث بن فهر مع بني عبد مناف، وكان بنو مخزوم وبنو سهم وبنو جمح وبنو عدي مع بني عبد الدار، فتحالف كل قوم حلفاً مؤكداً، وأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيباً فوضعوها عند الكعبة وتحالفوا وجعلوا أيديهم في الطيب، فسموا المطيبين. وتعاقد بنو عبد الدار ومن معهم وتحالفوا فسموا الأحلاف، وتعبوا للقتال، ثم تداعوا إلى الصلح على أ، يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، فرضوا بذلك وتحاجز الناس عن الحر واقترعوا عليها، فصارت لهاشم بن عبد مناف، ثم بعده للمطلب بن عبد مناف، ثم لأبي طالب بن عبد المطلب، ولم يكن له مال فادان من أخيه العباس بن عبد المطلب بن عبد مناف مالاً فأنفقه، ثم عجز عن الأدلاء فأعطى العباس السقاية والرفادة عوضاً عن دينه، فوليها، ثم ابنه عبد الله، ثم علي بن عبد الله، ثم محمد بن علي، ثم داود بن علي بن سليمان بن علي، ثم وليها المنصور وصار يليها الخلفاء.
وأما دار الندوة فلم تزل لعبد الدار، ثم لولده حتى باعها عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار من معاوية فجعلها دار الإمارة بمكة، وهي الآن في الحرم معروفة مشهورة.
ثم هلك قصي فأقام أمره في قومه من بعده ولده، وكان قصي لا يخالف سيرته وأمره، ولما مات دفن بالحجون، فكانوا يزورون قبره ويعظمونه. وحفر بمكة بئراً سماها العجول، وهي أول بئر حفرتها قريش بمكة.
سيل بفتح السين المهمة، والياء المثناة التحتية. وحرام بفتح الحاء والراء المهملتين. ورزاح بكسر الراء، وفتح الزاي، وبعد الألف حاء مهملة. وحبى بضم الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة. وملكان بكسر الميم، وسكون اللام. وأما ملكان بن حزم بن ريان، وملكان بن عباد بن عياض، فهما بفتح الميم واللام.
؟؟

ابن كلاب
ويكنى أبا زهرة، وأم كلاب هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث
ابن فهر
بن مالك، وله أخوان لأبيه من غير أمه، وهما تيم ويقظة، أمهما أسماء بنت جارية البارقية، وقيل: يقظة لهند بنت سرير أم كلاب. يقظة بالياء تحتها نقطتان، وبفتح القاف والظاء المعجمة.
؟
ابن مرة
ويكنى أبا يقظة، وأم مرة محشية ابنة شيبان بن محارب بن فهر، وأخواه لأبيه وأمه هصيص وعدي، وقيل: أم عدي رقاش بنت ركبة بن نائلة بن كعب بن حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان. هصيص بضم الهاء، وفتح الصاد المهملة بعدها ياء تحتها نقطتان، وصاد ثانية.
؟؟
ابن كعب
ويكنى أبا هصيص، وأم كعب ماوية ابنة كعب بن القين بن جسر القضاعية، وله أخوان لأبيه وأمه، أحدهما عامر، والآخر سامة، ولهم من أبيه أخ كان يقال له عوف، أمه الباردة ابنة عوف بن غنم بن عبد الله بن غطفان، وانتمى ولده إلى غطفان، وكان خرج مع أمه الباردة إلى غطفان، فتزوجها سعد بن ذبيان، فتبناه سعد.
ولكعب أيضاً أخوان من غير أمه، أحدهما خزيمة، وهو عائذة قريش، وعائذة أمه، وهي ابنة الحمس بن قحافة من خثعم، والآخر سعد، ويقال له بنانة، وبنانة أمه، فأهل البادية منهم في بني سعد بن همام في بني شيبان ابن ثعلبة، والحاضرة ينتمون إلى قريش.
وكان كعب عظيم القدر عند العرب، فلهذا أرخوا لموته إلى عام الفيل، ثم أرخوا بالفيل، وكان يخطب الناس أيام الحج، وخطبته مشهورة يخبر فيها بالنبي صلى الله عليه وسلم.
جسر بفتح الجيم، وسكون السين المهملة، وآخره راء.
؟؟
ابن لؤي
ويكنى أبا كعب، وأم لؤي عاتكة ابنة يخلد بن النضر بن كنانة، وهي أولى العواتك اللواتي ولدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من قريش. وله أخوان، أحدهما تيم الأدرم، والدرم نقصان في الذقن، قيل: إنه كان ناقص اللحي؛ والآخر قيس، ولم يبق منهم أحد، وآخر من مات منهم في زمن خالد بن عبد الله القسري، فبقي ميراثه لا يدرى من يستحقه. وقيل: إن أمهم سلمى بنت عمرو بن ربيعة، وهو يحيى بن حارثة الخزاعي.
يخلد بفتح الياء تحتها نقطتان، وسكون الخاء المعجمة، وبعد اللام دال مهملة.
؟؟
ابن غالب
ويكنى أبا تيم، وأم غالب ليلى ابنة الحارث بن تيم بن سعد بن هذيل، وإخوته من أبيه وأمه: الحارث ومحارب وأسد وعوف وجون وذئب، وكانت محارب والحارث من قريش الظواهر، فدخلت الحارث الأبطح.
؟؟ابن فهر

ويكنى أبا غالب، وفهر هو جماع قريش، في قول هشام، وأمه جندلة بنت عامر بن الحارث بن مضاض الجرهمي، وقيل غير ذلك. وكان فهر رئيس الناس بمكة، وكان حسان فيما قيل أقبل من اليمن مع حمير وغيرهم يريد أن ينقل أحجار الكعبة إلى اليمن، فنزل بنخلة، فاجتمع قريش وكنانة وخزيمة وأسد وجذام وغيرهم، ورئيسهم فهر بن مالك، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وأسر حسان وانهزمت حمير وبقي حسان بمكة ثلاث سنين، وافتدى نفسه وخرج فمات بين مكة واليمن.
؟؟

ابن مالك
وكنيته أبو الحارث، وأمه عاتكة بنت عدوان، وهو الحارث بن قيس عيلان، ولقبها عكرشة، وقيل غير ذلك.
وقيل: إن النضر بن كنانة كان اسمه قريشاً. وقيل: لما جمعهم قصي قيل لهم قريش، والتقرش التجمع. وقيل: لما ملك قصي الحرم وفعل أفعالاً جميلة قيل له القرشي، وهو أول من سمي به، وهو من الإجتماع أيضاً، أي لإجتماع خصال الخير فيه، وقد قيل في تسمية قريش قريشاً أقوال كثيرة لا حاجة إلى ذكرها.
وقصي أول من أحدث وقود النار بالمزدلفة، وكانت توقد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده.
؟؟
ابن النضر
يكنى أبا يخلد، كني بإبنه يخلد، واسم النضر قيس، وإنما قيل له النضر لجماله، وأمه برة ابنة مر بن أد بن طابخة أخت تميم بن مر، وإخوته لأبيه وأمه نصير ومالك وملكان وعامر والحارث وعمرو وسعد وعوف وغنم ومخزمة وجرول وغزوان وجدال، وأخوهم لأبيهم عبد مناة، وأمه فكيهة، وهي الذفراء، ابنة هني بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، وأخو عبد مناة لأمه علي بن مسعود بن مازن الغساني، وكان قد حضن أولاد أخيه عبد مناة فنسبوا إليه، فقيل لبني عبد مناة بنو علي، وإياهم عنى الشاعر بقوله:
لله درّ بني عل ... يٍّ أيّمٍ منهم وناكح
وقيل: تزوج امرأة عبد مناة فولدت له وحضن بني عبد مناة فغلب على نسبهم، ثم وثب مالك بن كنانة على علي بن مسعود فقتله، فواراه أسد بن خزيمة.
؟؟
ابن كنانة
ويكنى أبا النضر، وأم كنانة عوانة بنت سعد بن قيس عيلان، وقيل: هند ابنة عمرو بن قيس. وإخوته لأبيه أسد وأسدة، ويقال: إنه أبو جذام والهون، وأمهم برة بنت مر، وهي أم النضر، خلف عليها بعد أبيه.
؟؟
ابن خزيمة
ويكنى أبا أسد، وأمه سلمى ابنة أسلم بن الحاف بن قضاعة، وأخوه لأمه تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف، وأخو خزيمة لأبيه وأمه هذيل، وقيل: أمهما سلمى بنت أسد بن ربيعة.
وخزيمة هو الذي نصب هبل على الكعبة، فكان يقال هبل خزيمة.
أسلم، بضم اللام.
؟؟
ابن مدركة
واسمه عمرو، ويكنى أبا هذيل، وقيل: أبا خزيمة، وأمه خندف، وهي ليلى ابنة حلوان بن عمران، وأمها ضرية ابنة ربيعة بن نزار، وبها سمي حمى ضرية.
وإخوة مدركة لأبيه وأمه: عامر، وهو طابخة، وعمير، وهو قمعة، يقال: إنه أبو خزاعة.
قال هشام: خرج إلياس في نجعة له فنفرت إبله من أرنب فخرج إليها عمرو فأدركها فسمي مدركة، وأخذها عامر فطبخها فسمي طابخة، وانقمع عمير في الخباء فسمي قمعة، وخرجت أمهم ليلى تمشي فقال لها إلياس: أين تخندفين ؟ فسميت خندف، والخندفة: ضرب من المشي.
؟؟
ابن إلياس
وكان يكنى أبا عمرو، وأمه الرباب ابنة جندة بن معد، وأخوه لأبيه وأمه الناس، بالنون، وهو عيلان، وسمي عيلان لفرس له كان يدعى عيلان، وقيل: لأنه ولد في أصل جبل يسمى عيلان، وقيل غير ذلك.
ولما توفي حزنت عليه خندف حزناً شديداً فلم تقم حيث مات ولم يظلها سقفٌ حتى هلكت، فضرب بها المثل. وتوفي يوم الخميس، فكانت تبكي كل خميس من غدوة إلى الليل.
؟؟
ابن مضر
وأمه سودة بنت عك، وأخوه لأبيه وأمه إياد، ولهما أخوان من أبيهما: ربيعة وأنمار، أمهما جدالة ابنة وعلان من جرهم.
وذكر أن نزار بن معد لما حضرته الوفاة أوصى بنيه وقسم ماله بينهم فقال: يا بني هذه القبة، وهي من أدم حمراء، وما أشبهها من مالي لمضر، فسمي مضر الحمراء، وهذا الخباء الأسود وما أشبه من مالي لربيعة، وهذه الخادم وما أشبهها من مالي لإياد، وكانت شمطاء، فأخذ البلق والنقد من غنمه، وهذه البدرة والمجلس لأنمار يجلس عليه، فأخذ أنمار ما أصابه، فإن أشكل في ذلك عليكم شيء واختلفتم في القسمة فعليكم بالأفعى الجرهمي.

فاختلفوا فتوجهوا إلى الأفعى الجرهمي، فبينما هم يسيرون في مسيرهم إذ رأى مضر كلأ قد رعي فقال: إن البعير الذي قد عى هذا الكلأ لأعور. وقال ربيعة: هو أزور. وقال إياد: هو أبتر. وقال أنمار: هو شرود. فلم يسيروا إلا قليلاً حتى لقيهم رجلٌ توضع به راحلته، فسألهم عن البعير، فقال مضر: هو أعور ؟ قال: نعم. قال ربيعة: هو أزور ؟ قال: نعم. وقال إياد: هو أبتر ؟ قال: نعم. وقال أنمار: هو شرود ؟ قال: نعم، هذه صفة بعيري، دلوني عليه، فحلفوا له ما رأوه، فلزمهم، وقال: كيف أصدقكم وهذه صفة بعيري !.
فساروا جميعاً حتى قدموا نجران فنزلوا على الأفعى الجرهمي، فقص عليه صاحب البعير حديثه، فقال لهم الجرهمي: كيف وصفتموه ولم تروه ؟ قال مضر: رأيته يرعى جانباً ويدع جانباً فعرفت أنه أعور. وقال ربيعة: رأيت إحدى يديه ثابتة والأخرى فاسدة الأثر فعرفت أنه أزور. وقال إياد: عرفت أنه أبتر باجتماع بعره ولو كان أذنب لمصع به. وقال أنمار: عرفت أنه شرود لأنه يرعى المكان الملتف نبته ثم يجوزه إلى مكان أرق منه نبتاً وأخبث. فقال الجرهمي: ليسوا بأصحاب بعيرك فاطلبه.
ثم سألهم من هم، فأخبروه، فرحب بهم وقال: أتحتاجون أنتم إلي وأنتم كما أرى ؟ ودعا لهم بطعام فأكلوا وشربوا، فقال مضر: لم أر كاليوم خمراً أجود لولا أنها نبت على قبر. وقال ربيعة: لم أر كاليوم لحماً أطيب لولا أنه وبي بلبن كلبة. وقال إياد: لم أر كاليوم رجلاً أسرى لولا أنه لغير أبيه الذي ينتمي إليه. وقال أنمار: لم أر كاليوم كلاماً أنفع لحاجتنا.
وسمع الجرهمي الكلام فعجب، فأتى أمه وسألها، فأخبرته أنها كانت تحت ملك لا يولد له، فكرهت أن يذهب الملك فأمكنت رجلاً من نفسها فحملت به، وسأل القهرمان عن الخمر، فقال: من حبلة غرستها على قبر أبيك، وسأل الراعي عن اللحم فقال: شاة أرضعتها لبن كلبة.
فقيل لمضر: من أين عرفت الخمر ؟ فقال: لأني أصابني عطش شديد. وقيل لربيعة فيما قال، فذكر كلاماً وأتاهم الجرهمي وقال: صفوا لي صفتكم، فقصوا عليه قصتهم، فقضى بالقبة الحمراء والدنانير والإبل، وهي حمر، لمضر، وقضى بالخباء الأسود والخيل الدهم لربيعة، وقضى بالخادم، وكانت شمطاء، والماشية البلق لإياد، وقضى بالأرض والدراهم لأنمار.
ومضر أول من حدا، وكان سبب ذلك أنه سقط من بعيره فانكسرت يده فجعل يقول: يا يداه يا يداه، فأتته الإبل من المرعى، فلما صلح وركب حداً، وكان من أحسن الناس صوتاً. وقيل: بل انكسرت يد مولى له فصاح، فاجتمعت الإبل، فوضع مضر الحداء وزاد الناس فيه.
وهو أول من قال حينئذ: بصبصن إذ حدين بالأذناب، فذهب مثلاً.
وروي أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (لا تسبّوا مضر وربيعة فإنّهما مسلمان).
؟؟

ابن نزار
وقيل كان يكنى أبا إياد، وقيل: أبا ربيعة، أمه معانة ابنة جوشم بن جلهمة بن عمرو بن جرهم، وإخوته لأبيه وأمه قنص وقناصة وسالم وجندة وجناد والقحم وعبيد الرباح والغرف والعوف وشك وضاعة، وبه كان يكنى معد، وعدة درجوا.
؟؟
ابن معد
وإمه مهدة ابنة اللهم، ويقال اللهم، ويقال اللهم بن جلحب بن جديس، وقيل بن طسم، وإخوته من أبيه الريث، وقيل: الريث هو عك، وقيل: عك بن الريث، وعدن بن عدنان، قيل: هو صاحب عدن وأبين وإليه تنسب أبين، ودرج نسله ونسل عدن، وأد وأبي بن عدنان، ودرج، والضحاك والغني.
فلحق ولد عدنان باليمن عند حرب بخت نصر، وحمل إرميا وبرخيا معداً إلى حران فأسكناه بها. فلما سكنت الحرب رداه إلى مكة فرأى إخوته قد لحقوا باليمن.
؟؟
ابن عدنان
ولعدنان أخوان يدعى أحدهما نبتاً والآخر عامراً، فنسب النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يختلف الناسبون فيه إلى معد بن عدنان، على ما ذكرت، يختلفون فيما بعد ذلك اختلافاً عظيماً لا يحصل منه على غرض، فتارة يجعل بعضهم بين عدنان وبين إسماعيل، عليه السلام، أربعة آباء، ويجعل آخر بينهما أربعين أباً، ويختلفون أيضاً في الأسماء أشد من اختلافهم في العدد، فحيث رأيت الأمر كذلك لم أعرج على ذكر شيء منه، ومنهم من يروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في نسبه حديثاً يصله بإسماعيل، ولا يصح في ذلك الحديث.
؟؟
ذكر الفواطم والعواتك

وإما الفواطم اللائي ولدن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فخمس: قرشية وقيسيتان ويمانيتان. أما القرشية فأم أبيه عبد الله بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عايذ بن عمران ابن مخزوم المخزومية.
وأما القيسيتان فأم عمرو بن عايذ بن فاطمة ابنة عبد الله بن رزاح بن ربيعة ابن جحوش بن معاوية بن بكر بن هوازن، وأمها فاطمة بنت الحارث بن بهثة بن ليم بن منصور.
وأما اليمانيتان فأم قصي بن كلاب فاطمة بنت سعد بن سيل بن أزد شنوءة وأم حبى بنت حليل بن حبشية بن كعب بن سلول، وهي أم قصي فاطمة بنت نصر بن عوف بن عمرو بن ربيعة بن حارثة الخزاعية.
وأما العواتك فاثنتا عشرة: اثنتان من قريش، وواحدة من بني يخلد ابن النضر، وثلاث من سليم، وعدويتان، وهذلية، وقضاعية، وأسدية.
فأما القرشيتان فأم أمه آمنة بنت وهب برة بنت عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار، وأم برة أم حبيب بنت أسد بن عبد العزى، وأم أسد ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم، وأمه أميمة بنت عامر الخزاعية، وأمها عاتكة بنت هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهم، وأم هلال هند بنت هلال ابن عامر بن صعصعة، وأم أهيب بن ضبة عاتكة بنت غالب بن فهر، وأمها عاتكة بنت يخلد بن النضر بن كنانة.
وأما السلميات فأم هاشم بن عبد مناف عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج ابن ذكوان بن بهثة بن سليم بن منصور، وأم عبد مناف عاتكة بنت هلال بن فالج، والثالثة أم جده لأمه وهب، وهي عاتكة بنت الأوقص بن مرة ابن هلال.
قلت: هكذا ذكر بعض العلماء عواتك سليم، وجعل أم عبد مناف عاتكة بنت مرة، وليس بشيء، فإن أم عبد مناف حبى بنت حليل الخزاعية، وقال غيره: أم هاشم عاتكة بنت مرة، وأم مرة بن هلال عاتكة بنت جابر ابن قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، وأم هلال بن فالج عاتكة بنت عصية بن خفاف بن امرئ القيس.
وأما العدويتان فمن جهة أبيه عبد الله، فإن أم عبد الله فاطمة بنت عمرو، وأم فاطمة تخمر بنت عبد قصي، وأمها هند بنت عبد الله بن الحارث بن وائلة بن الظرب، وأمها زينب بنت مالك بن ناصرة بن كعب الفهمية.
وأما عاتكة بنت عامر بن الظرب بن عمرو بن عباد بن بكر بن الحارث، وهو عدوان بن عمرو بن قيس عيلان، وأم مالك بن النضر عاتكة، فهي عكرشة، وهي الحصان بنت عدوان.
وأما الأزدية فأم النضر بن كنانة بنت مرة بن أد أخت تميم، وأمها ماوية من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وأمها عاتكة بنت الأزد بن الغوث، وقد ولدته هذه الأزدية مرة أخرى من قبل غالب بن فهر، فإن أم غالب ليلى بنت الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل، وأمها سلمى بنت طابخة بن إلياس ابن مضر، وأمها عاتكة بنت الأزد هذه.
وأما الهذلية فعاتكة بنت سعد بن سيل، هي أم عبد الله بن رزام جد عمرو بن عايذ بن عمران بن مخزوم لأمه، وعمر وجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبو أمه.
وأما القضاعية فأم كعب بن لؤي ماوية بنت القين بن جسر بن شيع الله بن أسد بن وبرة، وأمها وحشية بنت ربيعة بن حرام بن ضنة العذرية، وأمها عاتكة بنت رشدان بن قيس بن جهينة.
وأما الأسدية فأم كلاب بن مرة هند بنت سرير بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كلاب، وأمها عاتكة بنت دودان بن أسد بن خزيمة.
وعايذ بن عمران بالياء المثناة من تحتها، والذال المعجمة. وسعد بن سل بفتح السين المهملة، والياء المثناة من تحتها المفتحة. حيي بضم الحاء المهملة، وبالياء المثناة من تحتها، وتشديد الياء الممالة. وحليل بضم الحاء المهملة، وبالياء المثناة من تحتها. وجسر بفتح الجيم، وتسكين السين المهملة. حارثة بالحاء المهملة، والثاء المثلثة. ووائلة بن الظرب بالياء المثناة من تحتها. وضبة بن الحارث بالضاد المعجمة المفتوحة، والباء المشددة الموحدة. وشيع الله بالشين المعجمة المفتوحة، والياء المثناة من تحتها الساكنة. وحرام بفتح الحاء المهملة، والراء المهملة. وضنة العذري بكسر الضاد المعجمة، والنون المشددة. وعصية بالعين المهملة المضمومة، وفتح الصاد والياء المثناة من تحتها.
عدنا إلى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم

توفي عبد المطلب بعد الفيل بثماني سنين، وأوصى أبا طالب برسول الله، صلى الله عليه وسلم. فكان أبو طالب هو الذي قام بأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، بعد جده، ثم إن أبا طالب خرج إلى الشام، فلما أراد المسير لزمه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فرق له وأخذه معه، ولرسول الله، صلى الله عليه وسلم، تسع سنين. فلما نزل الركب بصرى من أرض الشام، وبها راهب يقال له بحيرا في صومعة له، وكان ذا علم في النصرانية، ولم يزل بتلك الصومعة راهب يصير إليه علمهم، وبها كتاب يتوارثونه. فلما رآهم بحيرا صنع لهم طعاماً كثيراً، وذلك لأنه رأى على رسول الله غمامةً تظلله من بين القوم، ثم أقبلوا حتى نزلوا في ظل شجرة قريباً منه، فنظر إلى الشجرة وقد هصرت أغصانها حتى استظل بها، فنزل إليهم من صومعته ودعاهم. فلما رأى بحيرا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جعل يلحظه لحظاً شديداً وينظر إلى أشياء من جسده كان يجدها من صفته.
فلما فرغ القوم من الطعام وتفرقوا، سأل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن أشياء من حاله في يقظته ونومه فوجدها بحيرا موافقة لما عنده من صفته، ثم نظر إلى خاتم النبوة بين كتفيه، ثم قال بحيرا لعمه أبي طالب: ما هذا الغلام منك ؟ قال: ابني. قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حياً. قال: فإنه ابن أخي مات أبوه وأمه حبلى به. قال: صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود، فوالله لئن رأوه وعرفوا منه ما عرفت ليبغنه شراً، فإنه كائن له شأن عظيم.
فخرج به عمه حتى أقدمه مكة.
وقيل: بينما هو يقول لعمه في إعادته إلى مكة وتخوفهم عليه من الروم إذ أقبل سبعة نفر من الروم، فقال لهم بحيرا: ما جاء بكم ؟ قالوا: جاءنا أن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس، وإنا بعثنا إلى طريقك. قال: أرأيتم أمراً أراده الله هل يستطيع أحد من الناس رده ؟ قالوا: لا. وتابعوا بحيرا وأقاموا عنده.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما هممت بشيء مما كان الجاهلية يعملونه غير مرتين، كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته؛ قلت ليلة لغلام يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب. فقال: أفعل. فخرجت حتى إذ كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً، فقلت: ما هذا ؟ فقالوا: عرس فلان بفلانة، فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا حر الشمس، فعدت إلى صاحبي فسألني فأخبرته. ثم قتل له ليلة أخرى مثل ذلك ودخلت مكة، فأصابني مثل أول ليلة، ثم ما هممت بعده بسوء.
ذكر نكاح النبي صلى الله عليه وسلم خديجةونكح رسول الله، صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد وهو ابن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ ابنة أربعين سنة. وسبب ذلك أن خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي كانت امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه، وكانت قريش تجاراً، فلما بلغها عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صدق الحديث وعظم الأمانة وكرم الأخلاق أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشام تاجراً وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة. فأجابها وخرج معه ميسرة حتى قدم الشام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة قريباً من صومعة راهب، فأطلع الراهب رأسه إلى ميسرة فقال: من هذا؟ قال ميسرة: هذا رجل من قريش. فقال الراهب: ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي.
ثم باع رسول الله صلى الله عليه وسلم، واشترى وعاد، فكان ميسرة إذا كانت الهاجرة يرى ملكين يظلانه من الشمس وهو على بعيره. فلما قدم مكة ربحت خديجة ربحاً كثيراً، وحدثها ميسرة عن قول الراهب وما رأى من إظلال الملكين إياه.

وكانت خديجة امرأة حازمة عاقلة شريفة مع ما أراده الله من كرامتها، فأرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرضت عليه نفسها، وكان أوسط نساء قريش نسباً وأكثرهن مالاً وشرفاً، وكل قومها كان حريصاً على ذلك منها لو يقدر عليه. فلما أرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأعمامه، وخرج ومعه حمزة بن عبد المطلب وأبو طالب وغيرهما من عمومته حتى دخل خويلد بن أسد فخطبها إليه، فتزوجها فولدت له أولاده كلهم، إلا إبراهيم: زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، والقاسم، وبه كان يكنى، وعبد الله، والطاهر، والطيب. وقيل: إن عبد الله ولد في الإسلام هو والطاهر والطيب، فأما القاسم والطاهر والطيب فهلكوا في الجاهلية، وأما بناته فكلهن أدركن الإسلام فأسلمن وهاجرن معه.
وقيل: إن الذي زوجها عمها عمرو بن أسد، وإن أباها مات قبل الفجار. قال الواقدي: وهو الصحيح، لأن أباها توفي قبل الفجار.
وكان منزل خديجة يومئذ المنزل الذي يعرف بها اليوم، فيقال: إن معاوية اشتراه وجعله مسجداً يصلى فيه.
وكان الرسول بين خديجة وبين النبي، صلى الله عليه وسلم نفيسة بنت منية أخت يعلى بن منية، وأسلمت يوم الفتح، فبرها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأكرمها.
منية بالنون الساكنة، والياء المثناة من تحتها.
ذكر حلف الفضولقال ابن إسحاق: وكان نفر من جرهم وقطوراء يقال لهم: الفضيل بن الحارث الجرهمي، والفضيل بن وداعة القطوري، والمفضل بن فضالة الجرهمي، اجتمعوا فتحالفوا أن لا يقروا ببطن مكة ظالماً، وقالوا: لا ينبغي إلا ذلك لما عظم الله من حقها، فقال عمرو بن عوف الجرهمي:
إنّ الفضول تحالفوا وتعاقدوا ... ألاّ يقرّ ببطن مكّة ظالم
أمرٌ عليه تعاهدوا وتواثقوا ... فالجار والمعتّر فيهم سالم
ثم درس ذلك فلم يبق إلا ذكره في قريش.
ثم إن قبائل من قريش تداعت إلى ذلك الحلف فتحالفوا في دار عبد الله بن جدعان لشرفه وسنه، وكانوا بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وزهرة بن كلاب وتيم من مرة، فتحالفوا وتعاقدوا أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وكانوا على ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف الفضول، وشهده رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال حين أرسله الله تعالى: لقد شهدت مع عمومتي حلفاً في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به في الإسلام لأجبت.
قال: وقال محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: كان بين الحسين بن علي بن أبي طالب وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان منازعة في مال كان بينهما، والوليد يومئذ أمير على المدينة لعمه معاوية، فتحامل الوليد لسلطانة. فقال له الحسين: أقسم بالله لتنصفني أو لآخذن سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول. فقال عبد الله بن الزبير، وكان حاضراً: وأنا أحلف بالله لو دعا به لأجبته حتى ينصف من حقه أو نموت. وبلغ المسور بن مخرمة الزهري فقال مثل ذلك، وبلغ عبد الرحمن بن عثمان بن عبد الله التيمي فقال مثل ذلك. فلما بلغ الوليد ذلك أنصف الحسين من نفسه حتى رضي.
ذكر هدم قريش الكعبة وبنائهاوفي سنة خمس وثلاثين من مولده صلى الله عليه وسلم، هدمت قريش الكعبة.
وكان سبب هدمهم إياها أنها كانت رضيمة فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها، وذلك أن نفراً من قريش وغيرهم سرقوا كنزها وفيه غزلان من ذهب، وكانا في بئر في جوف الكعبة.
وكان أمر غزالي الكعبة أن الله لما أمر إبراهيم وإسماعيل ببناء الكعبة ففعلا ذلك، وقد تقدم ذكره، وأقام إسماعيل بمكة وكان يلي البيت حياته، وبعده وليه ابنه نبت. فلما مات نبت ولم يكثر ولد إسماعيل غلبت جرهم على ولاية البيت، فكان أول من وليه منهم مضاض، ثم ولده من بعده حتى بغت جرهم واستحلوا حرمة البيت فظلموا من دخل مكة حتى قيل: ان إسافاً ونائلة زنيا في البيت فمسخا حجرين.

وكانت خزاعة قد أقامت بتهامة بعد تفرق أولاد عمرو بن عامر من اليمن، فأرسل الله على جرهم الرعاف أفناهم، فاجتمعت خزاعة على إجلاء من بقي منهم، ورئيس خزاعة عمرو بن ربيعة بن حارثة فاقتتلوا، فلما أحس عامر بن الحارث الجرهمي بالهزيمة خرج بغزالي الكعبة والحجر الأسود يلتمس التوبة وهو يقول:
؟لاهمّ إنّ جرهماً عبادك ... النّاس طرفٌ وهم تلادك
بهم قديماً عمرت بلادك
فلم تقبل توبته، فدفن غزالي الكعبة ببئر زمزم وطمها وخرج بمن بقي من جرهم إلى أرض جهينة، فجاءهم سيل فذهب بهم أجمعين، وقال عمرو بن الحارث:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا ... أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا ... صروف اللّيالي والجدود العواثر
وولي البيت بعد جرهم عمرو بن ربيعة، وقيل: وليه عمرو بن الحارث الغساني، ثم خزاعة بعده، غير أنه كان في قبائل مضر ثلاث خلال: الإجازة بالحج من عرفة، وكان ذلك إلى الغوث بن مر بن أد، وهو صوفة، والثانية الإضافة من جمع إلى منى، وكانت إلى بني زيد بن عدوان، وآخر من ولي ذلك منهم أبو سيارة عميلة بن الأعزل بن خالد، والثالثة النسيء للشهور الحرم، فكان ذلك إلى القلمس، وهو حذيفة بن فقيم بن كنانة، ثم إلى بنيه من بعده، ثم صار ذلك إلى أبي ثمامة، وهو جنادة بن عوف بن قلع بن حذيفة؛ وقام الإسلام وقد عادت الأشهر الحرم إلى أصلها فأبطل الله عز وجل النسيء.
ثم وليت البيت بعد خزاعة قريش، وقد ذكرنا ذلك عند ذكر قصي بن كلاب. ثم حفر عبد المطلب زمزم فأخرج الغزالين، كما تقدم.
وكان الذي وجد الغزالان عنده دويك، مولى لبني مليح بن خزاعة، فقطعت قريش يده، وكان فيمن اتهم في ذلك: عامر بن الحارث بن نوفل، وأبو هارب بن عزيز، وأبو لهب بن عبد المطلب.
وكان البحر قد ألقى سفينة إلى جدة لتاجر رومي فتحطمت، فأخذوا خشبها فأعدوا لسقفها، فتهيأ لهم بعض ما يصلحها. وكانت حية تخرج من بئر الكعبة التي يطرح فيها ما يهدى لها كل يوم فتشرف على جدار الكعبة، وكان لا يدنو منها أحد إلا كشت وفتحت فاها، فكانوا يهابونها، فبينما هي يوماً على جدار الكعبة اختطفها طائرٌ فذهب بها، فقالت قريش: إنا لنرجو أن يكون الله عز وجل قد رضي ما أردناه.
وكان ذلك ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، ابن خمس وثلاثين سنة، وبعد الفجار بخمس عشرة سنة.
فلما أرادوا هدمها قام أبو وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم فتناول حجراً من الكعبة فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه، فقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنائها إلا طيباً ولا تدخلوا فيه مهر بغيٍّ ولا بيع رباً ولا مظلمة أحد.
وقيل: إن الوليد بن المغيرة قال هذا.
ثم إن الناس هابوا هدمها فقال الوليد بن المغيرة: أنا أبدأكم به، فأخذ المعول فهدم، فتربص الناس به تلك الليلة وقالوا: ننظر فإن أصيب لم نهدم منها شيئاً، فأصبح الوليد سالماً وغدا إلى عمله فهدم والناس معه حتى انتهى الهدم إلى الأساس ثم أفضوا إلى حجارة خضر آخذ بعضها ببعض، فأدخل رجل من قريش عتلةً بين حجرين منها ليقلع به أحدهما. فلما تحرك الحجر انتقضت مكة بأسرها، ثم جمعوا الحجارة لبنائها ثم بنوا حتى بلغ البنيان موضع الركن، فأرادت كل قبيلة رفعه إلى موضعه حتى تحالفوا وتواعدوا للقتال، فقربت بنو عبد الدار جفنةً مملوءة دماً ثم تعاقدوا هم وبنو عدي على الموت وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم فسموا لعقة الدم بذلك، فمكثوا على ذلك أربع ليال ثم تشاوروا. فقال أبو أمية بن المغيرة، وكان أسن قريش: اجعلوا بينكم حكماً أول من يدخل من باب المسجد يقضي بينكم، فكان أول من دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا: هذا الأمين قد رضينا به، وأخبروه الخبر، فقال: هلموا إلي ثوباً، فأتي به، فأخذ الحجر الأسود فوضعه فيه ثم قال: لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً، ففعلوا. فلما بلغوا به موضعه وضعه بيده ثم بني عليه.
ذكر الوقت الذي أرسل فيه رسول الله

صلى الله عليه وسلم
بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم لعشرين سنة مضت من ملك كسرى أبرويز بن هرمز بن أنوشروان، وكان على الحيرة إياس بن قبيصة الطائي عاملاً للفرس على العرب.

قال ابن عباس من رواية حمزة وعكرمة عنه وأنس بن مالك وعروة ابن الزبير: إن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث وأنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة. وقال ابن عباس من رواية عكرمة أيضاً عنه وسعيد بن المسيب: إنه أنزل عليه، صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة، وكان نزول الوحي عليه يوم الاثنين بلا خلاف. واختلفوا في أي الأثانين كان ذلك، فقال أبو قلابة الجرمي: أنزل الفرقان على النبي، صلى الله عليه وسلم، لثماني عشرة ليلة خلت من رمضان، وقال آخرون: كان ذلك لتسع عشرة مضت من رمضان.
وكان، صلى الله عليه وسلم، قبل أن يظهر له جبرائيل يرى ويعاين آثاراً من آثار من يريد الله إكرامه بفضله، وكان من ذلك ما ذكرت من شق الملكين بطنه واستخراجهما ما في قلبه من الغل والدنس، ومن ذلك أنه كان لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه، فكان يلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى أحداً، وكانت الأمم تتحدث بمبعثه وتخبر علماء كل أمة قومها بذلك.
قال عامر بن ربيعة: سمعت زيد بن عمرو بن نفيل يقول: إنا لننتظر نبياً من ولد إسماعيل، ثم من بني عبد المطلب، ولا أراني أدركه، وأنا أؤمن به وأصدقه وأشهد أنه نبي، فإن طالت بك حياة ورأيته فأقرئه مني السلام، وسأخبرك ما نعته حتى لا يخفي عليك. قلت: هلم. قال: هو رجل ليس بالطويل ولا بالقصير، ولا بكثير الشعر ولا بقليلة، ولا تفارق عينيه حمرة، وخاتم النبوة بين كتفيه، واسمه أحمد، وهذا البلد مولده ومبعثه، ثم يخرجه قومه ويكرهون ما جاء به، ويهاجر إلى يثرب فيظهر بها أمره، فإياك أن تنخدع عنه، فإني طفت البلاد كلها أطلب دين إبراهيم فكل من أسأله من اليهود والنصارى والمجوس يقول: هذا الدين وراءك، وينعتونه مثل ما نعته لك، ويقولون لم يبق نبي غيره.
قال عامر: فلما أسلمت أخبرت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قول زيد وأقرأته السلام. فرد عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وترحم عليه وقال: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولاً.
وقال جبير بن مطعم: كنا جلوساً عند صنم سوانة قبل أن يبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم بشهر. نحرنا جزوراً، فإذا صائح يصيح من جوف الصنم: اسمعوا إلى العجب، ذهب استراق الوحي ونرمى بالشهب لنبي بمكة اسمه أحمد مهاجره إلى يثرب. قال: فأمسكنا وعجبنا، وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
والأخبار عن دلائل نبوته كثيرة، وقد صنف العلماء في ذلك كتباً كثيراً ذكروا فيها كل عجيبة، ليس هذا موضع ذكرها.
ذكر ابتداء الوحي إلى النبي

صلى الله عليه وسلم
قالت عائشة، رضي الله عنها: كان أول ما ابتدئ به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الوحي الرؤيا الصادقة، كانت تجيء مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق فأتاه جبرائيل فقال: يا محمد أنت رسول الله. قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فجثوت لركبتي ثم رجعت ترجف بوادري فدخلت على خديجة فقلت: زملوني زملوني ! ثم ذهب عني الروع، ثم أتاني فقال: يا محمد أنت رسول الله. قال: فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق، فتبدى لي حين هممت بذلك فقال: يا محمد أنا جبرائيل وأنت رسول الله، قال: اقرأ. قلت: وما أقرأ ؟ فأخذني فغتني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد ثم قال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) العلق: 1، فقرأت. فأتيت خديجة، فقلت: لقد أشفقت على نفسي، وأخبرتها خبري، فقالت: أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبداً، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل، وهو ابن عمها، وكان قد تنصر وقرأ الكتب وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فقالت: اسمع من ابن أخيك. فسألني فأخبرته خبري. فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران، ليتني كنت حياً حين يخرجك قومك. قلت: أمخرجي هم ؟ قال: نعم، إنه لم يجيء أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصراً مؤزراً.
ثم إن أول ما نزل عليه من القرآن بعد اقرأ: (ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) القلم: 1 و(يَا أيُّهَا المُدَّثِّرُ) المدثر: 1 وَالضُّحَى: 1.

وقالت خديجة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما تثبته فيما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال: نعم. فجاءه جبرائيل، فأعلمها. فقالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى، فقام، صلى الله عليه وسلم، فجلس عليها. فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم. قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى. فجلس عليها، فقالت: هل تراه ؟ قال: نعم. فتحسرت فألقت خمارها، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حجرها، ثم قالت: هل تراه ؟ قال: لا. قالت: يا ابن عم اثبت وأبشر، فوالله إنه ملكٌ، وما هو بشيطان ! وقال يحيى بن أبي كثير: سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن، قال: نزلت (يَا أيُّها المُدَّثِّرُ) أول. قال: قلت: إنهم يقولون (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ). قال: سألت جابر بن عبد الله قال: لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فسمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً ونظرت عن يساري فلم أر شيئاً ونظرت خلفي وأمامي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فإذا هو، يعني الملك، جالس على عرش بين السماء والأرض، فخشيت منه فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني، وصبوا علي ماء، ففعلوا، فنزلت: (يَا أيُّها المُدَّثَّرُ)، هذا حديث صحيح.
قال هشام بن الكلبي: أتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، أول ما أتاه ليلة السبت وليلة الأحد، ثم ظهر له برسالة الله يوم الاثنين فعلمه الوضوء والصلاة، وعلمه: (اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، وكان لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أربعون سنة.
قال الزهري: فتر الوحي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فترةً، فحزن حزناً شديداً وجعل يغدو إلى رؤوس الجبال ليتردى منها، فكلما رقي ذروة جبل تبدى له جبرائيل فيقول: إنك رسول الله حقاً. فيسكن لذلك جأشه وترجع نفسه. فلما أمر الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، أن ينذر قومه عذاب الله على ما هم عليه من عبادة الأصنام دون الله الذي خلقهم ورزقهم وأني حدث بنعمة ربه عليه، وهي النبوة في قول ابن إسحاق، فكان يذكر ذلك سراً لمن يطمئن إليه من أهله، فكان أول من آمن به وصدقه من خلق الله تعالى خديجة بنت خويلد زوجته.
قال الواقدي: أجمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، خديجة.
ثم كان أول شيء فرض الله من شرائع الإسلام عليه بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان الصلاة، وان الصلاة لما فرضت عليه، صلى الله عليه وسلم، أتاه جبرائيل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي، فانفجرت فيه عين، فتوضأ جبرائيل وهو ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة، ثم توضأ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مثله، ثم قام جبرائيل فصلى به وصلى النبي، صلى الله عليه وسلم، بصلاته، ثم انصرف. وجاء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى خديجة فعلمها الوضوء، ثم صلى بها فصلت بصلاته.
ذكر المعراج برسول الله

صلى الله عليه وسلم
اختلف الناس في وقت المعراج، فقيل: كان قبل الهجرة بثلاث سنين، وقيل: بسنة واحدة، واختلفوا في الموضع الذي أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم، منه، فقيل: كان نائما بالمسجد في الحجر فأسري به منه، وقيل: كان نائماً في بيت أم هانئ بنت أبي طالب، وقائل ها يقول: الحرم كله مسجد.
وقد روى حديث المعارج جماعة من الصحابة بأسانيد صحيحة.
قالوا: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أتاني جبرائيل وميكائيل فقالا: بأيهم أمرنا ؟ فقالا: أمرنا بسيدهم؛ ثم ذهبا ثم جاءا من القابلة وهم ثلاثة فألفوه وهو نائم فقلبوه لظهره وشقوا بطنه وجاؤوا بماء زمزم فغسلوا ما كان في بطنه من غل وغيره، وجاؤوا بطست مملوء إيماناً وحكمةً فمليء قلبه وبطنه إيماناً وحكمةً. قال: وأخرجني جبرائيل من المسجد وغذا أنا بدابة، وهي البراق، وهي فوق الحمار ودون البغل، يقوع خطوه عند منتهى طرفه، فقال: اركب، فلما وضعت يدي عليه تشامس واستصعب. فقال جبرائيل: يا براق ما ركبك نبي أكرم على الله من محمد، فانصب عرقاً وانخفض لي حتى ركبته، وسار بي جبرائيل نحو المسجد الأقصى، فأتيت بإنائين أحدهما لبن والآخر خمر، فقيل لي: اختر أحدهما، فأخذت اللبن فشربته، فقيل لي: أصبت الفطرة، أما إنك لو شربت الخمر لغوت أمتك بعدك.

ثم سرنا فقال لي: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذه طيبة وإليها المهاجر.
ثم سرنا فقال لي: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذا طور سيناء حيث كلم الله موسى.ثم سرنا فقال: انزل فصل، فنزلت فصليت، فقال: هذا بيت لحم حيث ولد عيسى. ثم سرنا حتى أتينا بين المقدس، فلما انتهينا إلى باب المسجد أنزلني جبرائيل وربط البراق بالحلقة التي كان يربط بها الأنبياء. فلما دخلت المسجد إذا أنا بالأنبياء حوالي، وقيل: بأرواح الأنبياء الذين بعثهم الله قبلي، فسلموا علي، فقلت: يا جبرائيل من هؤلاء ؟ قال: إخوانك من الأنبياء، زعمت قريشٌ أن الله شريكاً، وزعمت النصارى أن لله ولداً، سل هؤلاء النبيين هل كان لله، عز وجل، شريك أو ولد، فذلك قوله تعالى: (وَاسْألْ مَنْ أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ) الزخرف: 45؛ فأقروا بالوحدانية لله، عز وجل، ثم جمعهم جبرائيل وقدمني فصليت بهم ركعتين.
ثم انطلق بي جبرائيل إلى الصخرة فصعد بي عليها، فإذا معراج إلى السماء لا ينظر الناظرون إلى شيء أحسن منه ومنه تعرج الملائكة، أصله في صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء، فاحتملني جبرائيل ووضعني على جناحه وصعد بي إلى السماء الدنيا فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! ففتح، فدخلنا فإذا أنا برجل تام الخلقة عن يمينه باب يخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب يخرج منه ريح خبيثة، فإذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك، وإذا نظر إلى الباب الذي عن يساره بكى. فقلت: من هذا ؟ وما هذان البابان؟ فقال: هذا أبوك آدم، والباب الذي عن يمينه باب الجنة، فإذا نظر إلى من يدخلها من ذريته ضحك، والباب الذي عن يساره باب جهنم، إذا نظر إلى من يدخلها من ذريته بكى وحزن.
ثم صعد بي إلى السماء الثانية فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: حياه الله، مرحباً به ونعم المجيء جاء ! ففتح لنا. فدخلنا فإذا بشابين، فقلت: يا جبرائيل من هذان ؟ فقال: هذان عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا.
ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا أنا برجل قد فضل الناس بالحسن. قلت: من هذا يا جبرائيل ؟ قال: هذا أخوك يوسف. ثم صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا أنا برجل، فقلت: من هذا ؟ قال: إدريس رفعه الله مكاناً علياً.
ثم صعد بي إلى السماء الخامسة، فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا رجل جالس وحوله قوم يقص عليهم. قلت: من هذا ؟ قال: هذا هارون والذين حوله بنو إسرائيل.
ثم صعد بي إلى السماء السادسة فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك ؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا أنا برجل جالس فجاوزناه، فبكى الرجل، فقلت: يا جبرائيل من هذا ؟ قال: هذا موسى. قلت: فما باله يبكي ؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم على الله من آدم، وهذا الرجل من بني آدم قد خلفني وراءه.

قال: ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح، فقيل: من هذا ؟ قال: جبرائيل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه ؟ قال: نعم. قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء ! فدخلنا، فإذا رجل أشمط جالس على كرسي على باب الجنة وحوله قوم بيض الوجوه أمثال القراطيس وقوم في ألوانهم شيء، فقال الذين في ألوانهم شيء فاغتسلوا في نهر وخرجوا وقد صارت وجوههم مثل وجوه أصحابهم. فقلت: من هذا ؟ قال: أبوك إبراهيم، وهؤلاء البيض الوجوه قوم لم يلبسوا إيمانهم بظلم، وأما الذين في ألوانهم شيء فقوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً فتابوا فتاب الله عليهم، وإذا إبراهيم مستند إلى بيت، فقال: هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون إليه.
قال: وأخذني جبرائيل فانتهينا إلى سدرة المنتهى وإذا نبقها مثل قلال هجر يخرج من أصلها أربعة أنهار: نهران باطنان، ونهران ظاهران، فأما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، قال: وغشيها من نور الله ما غشيها، وغشيها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله، وتحولت حتى ما يستطيع أحد أن ينعتها، وقام جبرائيل في وسطها، فقال جبرائيل: تقدم يا محمد. فتقدمت وجبرائيل معي إلى حجاب، فأخذ بي ملكٌ وتخلف عني جبرائيل، فقلت: إلى أين ؟ فقال: (وَمَا مِنَّا إلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) الصافات: 164، وهذا منتهى الخلائق.
فلم أزل كذلك حتى وصلت إلى العرش فاتضع كل شيء عند العرش وكل لساني من هيبة الرحمن، ثم أنطق الله لساني فقلت: التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله، وفرض الله علي وعلى أمتي في كل يوم وليلة خمسين صلاة. ورجعت إلى جبرائيل فأخذ بيدي وأدخلني الجنة فرأيت القصور من الدر والياقوت والزبرجد، ورأيت نهراً يخرج من أصله ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل، يجري على رضراض من الدر والياقوت والمسك، فقال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، ثم عرض علي النار، فنظرت إلى أغلاها وسلاسلها وحياتها وعقاربها وما فيها من العذاب.
ثم أخرجني، فانحدرنا حتى أتينا موسى، فقال: ماذا فرض عليك وعلى أمتك ؟ قلت: خمسين صلاة. قال: فإني قد بلوت بني إسرائيل قبلك وعالجتهم أشد المعالجة على أقل من هذا فلم يفعلوا، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف. فرجعت إلى ربي وسألته، فخفف عني عشراً. فرجعت إلى موسى فأخبرته، فقال: ارجع واسأله التخفيف. فرجعت فخفف عني عشراً، فلم أزل بين ربي وموسى حتى جعلها خمساً، فقال: ارجع فاسأله التخفيف، فقلت: إني قد استحيت من ربي وما أنا براجع، فنوديت: إني قد فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة والخمس بخمسين، وقد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
ثم انحدرت أنا وجبرائيل إلى مضجعي، وكان كل ذلك في ليلة واحدة.
فلما رجع إلى مكة علم أن الناس لا يصدقونه، فقعد في المسجد مغموماً، فمر به أبو جهل، فقال له كالمستهزئ: هل استفدت الليلة شيئاً ؟ قال: نعم، أسري بي الليلة إلى بيت المقدس. قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ فقال: نعم. فخاف أن يخبر بذلك عنه فيجحده النبي، فقال: أتخبر قومك بذلك ؟ فقال: نعم. فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا فأقبلوا. فحدثهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فمن بين مصدق ومكذب ومصفق وواضع يده على رأسه. وارتد الناس ممن كان آمن به وصدقه.
وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر فقالوا: إن صاحبك يزعم كذا وكذا ؟! فقال: إن كان قال ذلك فقد صدق، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فسمي أبو بكر الصديق من يومئذ.
قالوا: فانعت لنا المسجد الأقصى. قال: فذهبت أنعت حتى التبس على، قال: فجيء بالمسجد، وإني أنظر إليه، فجعلت أنعته. قالوا: فأخبرنا عن عيرنا. قال: قد مررت على عير بني فلان بالروحاء وقد أضلوا بعيراً لهم وهم في طلبه، فأخذت قدحاً فيه ماء فشربته، فسلوهم عن ذلك، ومررت بعير بني فلان وفلان وفلان فرأيت راكباً وقعوداً بذي مر فنفر بكرهما مني فسقط فلان فانكسرت يده، فسلوهما. قال: ومررت بعيركم بالتنعيم يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم من طلوع الشمس.
فخرجوا إلى الثنية فجلسوا ينظرون طلوع الشمس ليكذبوه إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت. فقال آخر: والله هذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق كما قال. فلم يفلحوا وقالوا: إن هذا سحر مبين.

ذكر الاختلاف في أول من أسلم
اختلف العلماء في أول من أسلم مع الاتفاق على أن خديجة أول خلق الله إسلاماً، فقال قومٌ: أول ذكر آمن علي. روي عن علي عليه السلام، أنه قال: أنا عبد الله وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلا كاذبٌ مفترٍ، صليت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قبل الناس بسبع سنين.
وقال ابن عباس: أول من صلى علي. وقال جابر بن عبد الله: بعث النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين وصلى علي يوم الثلاثاء. وقال زيد بن أرقم: أول من أسلم مع النبي، صلى الله عليه وسلم، علي. وقال عفيف الكندي: كنت أمرأً تاجراً فقدمت مكة أيام الحد فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجلٌ فقال تجاه الكعبة يصلي، ثم خرجت امرأة تصلي معه، ثم خرج غلام فقال يصلي معه. فقلت: يا عباس ما هذا الدين ؟ فقال: هذا محمد بن عبد الله ابن أخي، زعم أن الله أرسله وأن كنوز كسرى وقيصر ستفتح عليه، وهذه امرأته خديجة آمنت به، وهذا الغلام علي بن أبي طالب آمن به، وايم الله ما أعلم على ظهر الأرض أحداً على هذا الدين إلا هؤلاء الثلاثة ! قال عفيف: ليتني كنت رابعاً.
وقال محمد بن المنذر وربيعة بن أبي عبد الرحمن وأبو حازم المدي والكلبي: أول من أسلم علي. قال الكلبي: كان عمره تسع سنين، وقيل: إحدى عشرة سنة.
وقال ابن إسحاق: أول من أسلم علي وعمره إحدى عشرة سنة.
وكان من نعمة الله عليه أن قريشاً أصابتهم أزمةٌ شديدة، وكان أبو طالب ذا عيال كثيرة، فقال يوماً رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمه العباس: يا عم إن أبا طالب كثير العيال فانطلق بنا نخفف عن عيال أبي طالب، فانطلقا إليه وأعلماه ما أرادا، فقال أبو طالب: اتركا لي عقيلاً واصنعا ما شئتما، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، علياً، وأخذ العباس جعفراً، فلم يزل علي عند النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى أرسله الله فاتبعه.
وكان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا أراد الصلاة انطلق هو وعلي إلى بعض الشعاب بمكة فيصليان ويعودان. فعثر عليهما أبو طالب فقال: يا ابن أخي ما هذا الدين ؟ قال: دين الله وملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم، بعثني الله تعالى به إلى العباد، وأنت أحق من دعوته إلى الهدى وأحق من أجابني. قال: لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي، ولكن والله لا تخلص قريش إليه بشيء تكرهه ما حييت.
فلم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه. قال: وقال أبو طالب لعلي: ما هذا الدين الذي أنت عليه ؟ قال: يا أبه ! آمنت بالله وبرسوله وصليت معه. فقال: أما إنه لا يدعونا إلا إلى الخير فالزمه.
وقيل: أول من أسلم أبو بكر، رضي الله عنه. قال الشعبي: سألت ابن عباس عن أول من اسلم، فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت:
إذا تذكّرت شجواً من أخي ثقةٍ ... فاذكر أخاك أبا بكرٍ بما فعلا
خير البريّة أتقاها وأعدلها ... بعد النّبيّ وأوفاها بما حملا
الثّاني التّالي المحمود مشهده ... وأوّل النّاس منهم صدّق الرّسلا
وقال عمرو بن عبسة: أتيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بعكاظ فقلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر ؟ قال: تبعني عليه حر وعبد، أبو بكر وبلال. فأسلمت عند ذلك، فلقد رأيتني ربع الإسلام.
وكان أبو ذر يقول: لقد رأيتني ربع الإسلام لم يسلم قبلي إلا النبي وأبو بكر وبلال. وقال إبراهيم النخعي: أبو بكر أول من أسلم.
وقيل: أول من أسلم زيد بن حارثة. قال الزهري وسليمان بن يسار وعمران بن أبي أنس وعروة بن الزبير: أول من أسلم زيد بن حارثة وكان هو وعلي يلزمان النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان، صلى الله عليه وسلم، يخرج إلى الكعبة أول النهار ويصلي صلاة الضحى، وكانت قريش لا تنكرها، وكان إذا صلى غيرها قعد علي وزيد بن حارثة يرصدانه.

وقال ابن إسحاق: أول ذكر أسلم بعد النبي علي وزيد بن حارثة، ثم أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه، وكان مانعاً لقومه محبباً فيهم، وكان أعلمهم بأنساب قريش وما كان فيها، وكان تاجراً يجتمع إليه قومه، فجعل يدعو من يثق به من قومه، فأسلم على يديه عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، حين استجابوا له فأسلموا وصلوا. وكان هؤلاء النفر هم الذين سبقوا إلى الإسلام، ثم تتابع الناس في الإسلام حتى فشا ذكر الإسلام بمكة وتحدث به الناس.
قال الواقدي: وأسلم أبو ذر، قالوا رابعاً أو خامساً، وأسلم عمرو بن عبسة السلمي رابعاً أو خامساً، وقيل: إن الزبير أسلم رابعاً أو خامساً، وأسلم خالد بن سعيد بن العاص خامساً. وقال ابن إسحاق: أسلم هو وزوجته همينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة من خزاعة بعد جماعة كثيرة.
؟

ذكر أمر الله تعالى نبيه
صلى الله عليه وسلم بإظهار دعوته
ثم إن الله تعالى أمر النبي، صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه بثلاث سنين أن يصدع بما يؤمر، وكان قبل ذلك في السنين الثلاث مستتراً بدعوته لا يظهرها إلا لمن يثق به، فكان أصحابه إذا أرادوا الصلاة ذهبوا إلى الشعاب فاستخفوا، فبينما سعد بن أبي وقاص وعمار وابن مسعود وخباب وسعيد بن زيد يصلون في شعب اطلع عليهم نفر من المشركين، منهم: أبو سفيان بن حرب، والأخنس بن شريق، وغيرهما، فسبوهم وعابوهم حتى قاتلوهم، فضرب سعد رجلاً من المشركين بلحي جمل فشجه، فكان أول دم أريق في الإسلام في قول.
قال ابن عباس: لما نزلت: (وَأنْذِرْ عَشِرَتَكَ الأقْرَبينَ) الشعراء: 214 خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فصعد على الصفا فهتف: يا صباحاه ! فاجتمعوا إليه، فقال: يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف ! فاجتمعوا إليه. فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تخرج بسفح الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك كذباً. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شدي. فقال أبو لهب: تباً لك ! أما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام، فنزلت: (تَبَّتْ يَدَا أبي لَهَبٍ) المسد: 1.
وقال جعفر بن عبد الله بن أبي الحكم: لما أنزل الله على رسوله: (وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ)، اشتد ذلك عليه وضاق به ذرعاً، فجلس في بيته كالمريض، فأتته عماته يعدنه، فقال: ما اشتكيت شيئاً ولكن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين. فقلن له: فادعهم ولا تدع أبا لهب فيهم فإنه غير مجيبك. فدعاهم، صلى الله عليه وسلم، فحضروا ومعهم نفر من بني المطلب بن عبد مناف، فكانوا خمسة وأربعين رجلاً، فبادره أبو لهب وقال: هؤلاء هم عمومتك وبنو عمك فتكلم ودع الصباة، واعلم أنه ليس لقومك في العرب قاطبةً طاقة، وأن أحق من أخذك فحبسك بنو أبيك؛ وإن أقمت على ما أنت عليه فهو أيسر عليهم من أن يثب بك بطون قريش وتمدهم العرب، فما رأيت أحداً جاء على بني أبيه بشر مما جئتهم به. فسكت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم في ذلك المجلس، ثم دعاهم ثانيةً وقال: الحمد لله، أحمده وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم قال: إن الرائد لا يكذب أهله، والله الذي لا إله إلا هو إني رسول الله إليكم خاصة وإلى الناس عامة، والله لتموتن كما تنامون، ولتبعثن كما تستيقظون، ولتحاسبن بما تعملون، وإنها الجنة أبداً والنار أبداً.
فقال أبو طالب: ما أحب إلينا معاونتك وأقبلنا لنصيحتك وأشد تصديقنا لحديثك، وهؤلاء بنو أبيك مجتمعون، وإنما أنا أحدهم، غير أني أسرعهم إلى ما تحب، فامض لما أمرت به فوالله لا أزال أحوطك وأمنعك، غير أن نفسي لا تطاوعني على فراق دين عبد المطلب.
فقال أبو لهب: هذه والله السوأة ! خذوا على يديه قبل أن يأخذ غيركم. فقال أبو طالب: والله لنمنعنه ما بقينا.

وقال علي بن أبي طالب: لما نزلت: (وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ) دعاني النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا علي إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين فضقت ذرعاً وعلمت أني متى أبادرهم بهذا الأمر أر منهم ما أكره، فصمت عليه حتى جاءني جبرائيل فقال: يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك. فاصنع لنا صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن واجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به. ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم، وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا فتنفها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصحفة، ثم قال: خذوا باسم الله، فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وما أرى إلا مواضع أيديهم، وايم الله الذي نفس علي بيده إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل ما قدمت لجميعهم ! ثم قال: اسق القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا منه حتى رووا جميعاً، وايم الله إن كان الرجل الواحد ليشرب مثله! فلما أراد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يكلمهم بدره أبو لهب إلى الكلام فقال: لهد ما سحركم به صاحبكم. فتفرق القوم ولم يكلمهم، صلى الله عليه وسلم، فقال: الغد يا علي؛ إن هذا الرجل سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرقوا قبل أن أكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إلي.
ففعل مثل ما فعل بالأمس، فأكلوا، وسقيتهم ذلك العس، فشربوا حتى رووا جميعاً وشبعوا، ثم تكلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم شاباً في العرب جاء قومه بأفضل مما قد جئتكم به، قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم ؟ فأحجم القوم عنها جميعاً، وقلت وإني لأحدثهم سناً وأرمصهم عيناً وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه. فأخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فقال القوم يضحكون فيقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يصدع بما جاءه من عند الله وأن يبادئ الناس بأمره ويدعوهم إلى الله، فكان يدعو في أول ما نزلت عليه النبوة ثلاث سنين مستخفياً إلى أن أمر بالظهور للدعاء، ثم صدع بأمر الله وبادأ قومه بالإسلام، فلم يبعدوا منه ولم يردوا عليه إلا بعض الرد، حتى ذكر آلهتهم وعابها. فلما فعل ذلك أجمعوا على خلافه إلا من عصمه الله منهم بالإسلام، وهم قليل مستخفون. وحدب عليه عمه أبو طالب ومنعه وقام دونه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أمر الله مظهراً لأمره لا يرده شيء.
فلما رأت قريش أنه، صلى الله عليه وسلم، لا يعتبهم من شيء يكرهونه، وأن أبا طالب قد قام دونه ولم يسلمه لهم، مشى رجالٌ من أشرافهم إلى أبي طالب: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري بن هشام، والأسود بن المطلب، والوليد بن المغيرة، وأبو جهل بن هشام، والعاص بن وائل، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، ومن مشى منهم، فقالوا: يا أبا طالب، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه، فقال لهم أبو طالب قولاً جميلاً وردهم رداً رفيقاً، فانصرفوا عنه، ومضى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لما هو عليه.
ثم شري الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال فتضاغنوا وأكثرت قريش ذكر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتذامروا فيه، فمشوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا: يا أبا طالب إن لك سناً وشرفاً، وإنا قد اشتهيناك أن تنهى ابن أخيك فلم تفعل، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين، أو كما قالوا، ثم انصرفوا عنه.

فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخذلاته، وبعث إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأعلمه ما قالت قريش وقال له: أبق على نفسك وعلي ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قد بدا لعمه بدوٌ وأنه خذله وقد ضعف عن نصرته، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: يا عماه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته. ثم بكى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقام. فلما ولى ناداه أبو طالب، فأقبل عليه وقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً.
فلما علمت قريش أن أبا طالب لا يخذل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأنه يجمع لعداوتهم مشوا بعمارة بن الوليد فقالوا: يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد فتى قريش وأشعرهم وأجملهم، فخذه فلك عقله ونصرته فاتخذه ولداً، وأسلم لنا ابن أخيك هذا الذي سفه أحلامنا وخالف دينك ودين آبائك وفرق جماعة قومك نقتله، فإنما رجل برجل. فقال: والله لبئس ما تسومونني، أتعطونني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن تقتلونه ؟ هذا والله لا يكون أبداً ! فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: والله لقد أنصفك قومك وما أراك تريد أن تقبل منهم ! فقال أبو طالب: والله ما أنصفوني ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظاهرة القوم علي فاصنع ما بدا لك.
اشتد الأمر عند ذلك وتنابذ القوم واشتدت قريشٌ على من في القبائل من الصحابة الذين أسلموا، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله بعمه أبي طالب، وقام أبو طالب في بني هاشم فدعاهم إلى منع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأجابوا إلى ذلك واجتمعوا إليه إلا ما كان من أبي لهب.
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره أقبل يمدحهم ويذكر فضل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيهم. وقد مشت قريش إلى أبي طالب عند موته وقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا فأنصفنا من ابن أخيك فمره فليكف عن شتم آلهتنا وندعه وإلهه. فبعث إليه أبو طالب، فلما دخل عليه قال له: هؤلاء سروات قومك يسألونك أن تكف عن شتم آلهتم ويدعوك وإلهك. قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أي عم ؟! أولا أدعوهم إلى ما خير لهم منها كلمة يقولونها تدين لهم بها العرب ويملكون رقاب العجم ؟ فقال أبو جهل: ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها ؟ قال: تقولون لا إله إلا الله، فنفروا وتفرقوا وقالوا: سل غيرها. فقال: لو جئتموني بالشمس حتى تضعوها في يدي ما سألتكم غيرها. قال: فغضبوا وقاموا من عنده غضابى وقالوا: والله لنشتمنك وإلهك الذي يأمرك بهذا ! (وَانْطَلَقَ المَلأُ مِنْهُمْ أنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ)، إلى قوله: (إلاّ اخْتِلاقٌ) ص 6؛ وأقبل على عمه فقال: قل كلمة أشهد لك بها يوم القيامة. قال: لولا أن تعيبكم بها العرب وتقول جزع من الموت لأعطيتكها، ولكن على ملة الأشياخ، فنزلت: (إنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أحْبَبْتَ) القصص: 56.
ذكر تعذيب المستضعفين من المسلمينوهم الذين سبقوا إلى الإسلام ولا عشائر لهم تمنعهم ولا قوة لهم يمنعون بها، فأما من كانت له عشيرة تمنعه فلم يصل الكفار إليه، فلما رأوا امتناع من له عشيرة وثبت كل قبيلة على من فيها من مستضعفي المسلمين فجعلوا يحبسونهم ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ورمضاء مكة والنار ليفتنوهم عن دينهم، فمنهم من يفتتن من شدة البلاء وقلبه مطمئن بالإيمان، ومنهم من يتصلب في دينه ويعصمه الله منهم.

فمنهم: بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر، وكان أبوه من سبي الحبشة، وأمه حمامة سبية أيضاً، وهو من مولدي السراة، وكنيته أبو عبد الله، فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره، ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب وهو يقول: أحد أحد. فيقول: أحد أحد والله يا بلال. ثم يقول لأمية: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً. فرآه أبو بكر يعذب فقال لأمية بن خلف الجمحي: ألا تتقي الله في هذا المسكين ؟ فقال: أنت أفسدته فأبعدته. فقال: عندي غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به. قال: قبلت. فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالاً فأعتقه، فهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ومنهم: عمار بن ياسر أبو اليقظان العنسي، وهو بطن من مراد - وعنس هذا بالنون - ، أسلم هو وأبوه وأمه وأسلم قديماً ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، في دار الأرقم بن أبي الأرقم بعد بضعة وثلاثين رجلاً، أسلم هو وصحيب في يوم واحد، وكان ياسر حليفاً لبني مخزوم، فكانوا يخرجون عماراً وأباه وأمه إلى الأبطح إذا حميت الرمضاء يعذبونهم بحر الرمضاء، فمر بهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة. فمات ياسر في العذاب وأغلظت امرأته سمية القول لأبي جهل، فطعنها في قلبها بحربة في يديه فماتت، وهي أول شهيد في الإسلام، وشددوا العذاب على عمار بالحر تارة وبوضع الصخر على صدره أخرى وبالتغريق أخرى، فقالوا: لا نتركك حتى تسب محمداً وتقول في اللات والعزى خيراً، ففعل، فتركوه، فأتى النبي، صلى الله عليه وسلم، يبكي. فقال: ما وراءك ؟ قال: شر يا رسول الله، كان الأمر كذا وكذا. قال: فكيف تجد قلبك ؟ قال: أجده مطمئناً بالإيمان. فقال: يا عمار إن عادوا فعد، فأنزل الله تعالى: (إلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ) النحل: 106؛ فشهد المشاهد كلها مع رسول الله وقتل بصفين مع علي وقد جاوز التسعين، قيل بثلاث، وقيل بأربع سنين.
ومنهم: خباب بن الأرث، كان أبوه سوادياً من كسكر، فسباه قوم من ربيعة وحملوه غل مكة فباعوه من سباع بن عبد العزى الخزاعي حليف بني زهرة، وسباع هو الذي بارزه حمزة يوم أحد، وخباب تميمي، وكان إسلامه قديماً، قيل سادس ستة قبل دخول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، فأخذه الكفار وعذبوه عذاباً شديداً، فكانوا يعرونه ويلصقون ظهره بالرمضاء ثم بالرضف، وهي الحجارة المحماة بالنار، ولووا رأسه، فلم يجبهم إلى شيء مما أرادوا منه، وهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ونزل الكوفة، ومات سنة ست وثلاثين.
ومنهم: صهيب بن سنان الرومي، ولم يكن رومياً، وإنما نسب إليهم لأنهم سبوه وباعوه، وقيل: لأنه كان أحمر اللون، وهو من النمر بن قاسط، كناه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبا يحيى قبل أن يولد له، وكان ممن يعذب في الله، فعذب عذاباً شديداً. ولما أراد الهجرة منعته قريش، فافتدى نفسه منهم بماله أجمع، وجعله عمر بن الخطاب عند موته يصلي بالناس إلى أن يستخلف بعض أهله الشورى، وتوفي بالمدينة في شوال من سنة ثمان وثلاثين وعمره سبعون سنة.
وأما عامر بن فهيرة فهو مولى الطفيل بن عبد الله الأزدي، وكان الطفيل أخا عائشة لأمها أم رومان، أسلم قديماً قبل دخول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وكان من المستضعفين يعذب في الله، فلم يرجع عن دينه، واشتراه أبو بكر وأعتقه، فكان يرعى غنماً له، وكان يروح بغنم أبي بكر إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وإلى أبي بكر لما كانا في الغار، وهاجر معهما إلى المدينة يخدمهما، وشهد بدراً وأحداً، واستشهد يوم بئر معونة وله أربعون سنة. ولما طعن قال: فزت ورب الكعبة ؟! ولم توجد جثته لتدفن مع القتلى، فقيل: إن الملائكة دفنته.

ومنهم: أبو فكيهة، واسمه أفلح، وقيل يسار، وكان عبداً لصفوان بن أمية بن خلف الجمحي، أسلم مع بلال، فأخذه أمية بن خلف وربط في رجله حبلاً وأمر به فجر ثم ألقاه في الرمضاء، ومر به جعل فقال له أمية: أليس هذا ربك ؟ فقال: الله ربي وربك ورب هذا، فخنقه خنقاً شديداً، ومعه أخوه أبي بن خلف يقول: زده عذاباً حتى يأتي محمد فيخلصه بسحره، ولم يزل على تلك الحال حتى ظنوا أنه قد مات، ثم أفاق، فمر به أبو بكر فاشتراه وأعتقه.
وقيل: إن بني عبد الدار كانوا يعذبونه، وإنما كان مولى لهم، وكانوا يضعون الصخرة على صدره حتى دلع لسانه فلم يرجع عن دينه، وهاجر ومات قبل بدر.
ومنهم: لبيبة جارية بني مؤمل بن حبيب بن عدي بن كعب، أسلمت قبل إسلام عمر بن الخطاب، وكان عمر يعذبها حتى تفتن ثم يدعها، ويقول: إني لم أدعك إلا سآمةً، فتقول: كذلك يفعل الله بك إن لم تسلم، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم: زنيرة، وكانت لبني عدي، وكان عمر يعذبها، وقيل: كانت لبني مخزوم، وكان أبو جهل يعذبها حتى عميت، فقال لها: إن اللات والعزى فعلا بك. فقالت: وما يدري اللات والعزى من يعبدهما ؟ ولكن هذا أمر من السماء وربي قادر على رد بصري، فأصبحت من الغد وقد رد الله بصرها، فقالت قريش: هذا من سحر محمد، فاشتراها أبو بكر فأعتقها.
زنيرة بكسر الزاي، وتشديد النون، وتسكين الياء المثناة من تحتها، وفتح الراء.
ومنهم: النهدية، مولاة لبني نهد، فصارت لامرأة من بني عبد الدار فأسلمت، وكانت تعذبها وتقول: والله لا أقلعت عنك أو يبتاعك بعض أصحاب محمد، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
ومنهم: أم عبيس، بالباء الموحدة، وقيل عنيس، بالنون، وهي أمة لبني زهرة، فكان الأسود بن عبد يغوث يعذبها، فابتاعها أبو بكر فأعتقها.
وكان أبو جهل يأتي الرجل الشرير ويقول له: أتترك دينك ودين أبيك وهو خير منك ! ويقبح رأيه وفعله ويسفه حلمه ويضع شرفه، وإن كان تاجراً يقول: ستكسد تجارتك ويهلك مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به حتى يعذب.
ذكر المستهزئين

ومن كان أشد الأذى للنبي صلى الله عليه وسلم
وهم جماعة من قريش فمنهم عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب، كان شديداً عليه وعلى المسلمين، عظيم التكذيب له، دائم الأذى، فكان يطرح العذرة والنتن على باب النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان جاره، فكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: أي جوارٍ هذا يا بني عبد المطلب ! فرآه يوماً حمزة فأخذ العذرة وطرحها على رأس أبي لهب، فجعل ينفضها عن رأسه ويقول: صاحبي أحمق ! وأقصر عما كان يفعله لكنه يضع من يفعل ذلك.
وما أبو لهب بمكة عند وصول الخبر بانهزام المشركين ببدر بمرض يعرف بالعدسة.
ومنهم: الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وهو ابن خال النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان من المستهزئين، وكان إذا رأى فقراء المسلمين قال لأصحابه: هؤلاء ملوك الأرض الذين يرثون ملك كسرى. وكان يقول للنبي، صلى الله عليه وسلم: أما كلمت اليوم من السماء يا محمد ! وما أشبه ذلك. فخرج من أهله فأصابه السموم فاسود وجهه، فلما عاد إليهم لم يعرفوه وأغلقوا الباب دونه، فرجع متحيراً حتى مات عطشاً. وقيل: إن جبرائيل أومأ إلى السماء فأصابته الأكلة فامتلأ قيحاً فمات.
ومنهم: الحارث بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم السهمي، كان أحد المستهزئين الذين يؤذون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو ابن الغيطلة، وهي أمه، وكان يأخذ حجراً يعبده، فإذا رأى أحسن منه ترك الأول وعبد الثاني. وكان يقول: قد غر محمد أصحابه ووعدهم أن يحيوا بعد الموت، والله ما يهلكنا إلا الدهر، وفيه نزلت: (أفَرَأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ)؛ وأكل حوتاً مملوحاً فلم يزل يشرب الماء حتى مات، وقيل: أخذته الذبحة، وقيل: امتلأ رأسه قيحاً فمات.

ومنهم: الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم، وكان الوليد يكنى أبا عبد شمس، وهو العدل، لأنه كان عدل قريش كلها، لأن قريشاً كانت تكسو البيت جميعها وكان الوليد يكسوه وحده، وهو الذي جمع قريشاً وقال: إن الناس يأتونكم أيام الحج فيسألونكم عن محمد فتختلف أقواكم فيه، فيقول هذا: ساحرٌ، ويقول هذا: كاهنٌ، ويقول هذا: شاعرٌ، ويقول هذا: مجنون، وليس يشبه واحداً مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه ساحر لأنه يفرق بين المرء وأخيه وزوجته. وقال أبو جهل: لئن سب محمدٌ آلهتنا سببنا إلهه، فأنزل الله تعالى: (وَلا تَسُبُّوا الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّوا اللّهَ عَدْواً بِغَيْر عِلْمٍ) الأنعام: 108. ومات بعد الهجرة بعد ثلاثة أشهر وهو ابن خمس وتسعين سنة، ودفن بالحجون، وكان مر برجل من خزاعة يريش نبلاً له فوطئ على سهم منها فخدشه، ثم أومأ جبرائيل إلى ذلك الخدش بيده فانتقض ومات منه، فأوصى إلى بنيه أن يأخذوا ديته من خزاعة، فأعطت خزاعة ديته.
ومنهم: أمية وأبي ابنا خلف، وكانا على شر ما عليه أحد من أذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتكذيبه، جاء أبي إليه، صلى الله عليه وسلم، بعظم فخذ ففته في يده وقال: زعمت أن ربك يحيي هذا العظم، فنزلت: (قَالَ مَنْ يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) يس: 78. وصنع عقبة بن أبي معيط طعاماً ودعا إليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أحضره حتى تشهد أن لا إله إلا الله، ففعل، فقام معه. فقال له أمية بن خلف: أقلت كذا وكذا ؟ فقال: إنما قلت ذلك لطعامنا، فنزلت: (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) الفرقان: 27. وقتل أمية يوم بدر كافراً، قتله خبيب وبلال، وقيل: قتله رفاعة بن رافع الأنصاري. وأما أخوه أبي فقتله رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم أحد، رماه بحربة فقتله.
ومنهم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، وكان ممن يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويعين أبا جهل على أذاه، قتله حمزة يوم بدر.
ومنهم: العاص بن وائل السهمي، والد عمرو بن العاص، وكان من المستهزئين، وهو القائل لما مات القاسم ابن النبي، صلى الله عليه وسلم: إن محمداً أبتر لا يعيش له ولد ذكر، فأنزل: (إنّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ) الكوثر: 3. فركب حماراً له فلما كان بشعبٍ من شعاب مكة ربض به حماره فلدغ في رجله فانتفخت حتى صارت كعنق البعير، فمات منها بعد هجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ثاني شهر دخل المدينة وهو ابن خمس وثمانين سنة.
ومنهم: النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار، يكنى أبا قائد، وكان أشد قريش في تكذيب النبي، صلى الله عليه وسلم، والأذى له ولأصحابه. وكان ينظر في كتب الفرس ويخالط اليهود والنصارى، وسمع بذكر النبي، صلى الله عليه وسلم، وقرب مبعثه، فقال: إن جاءنا نذير لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فنزلت: (وَأقْسَمُوا بِاللِه جَهْد أيَمانِهِمْ)؛ الآية. وكان يقول: إنما يأتيكم محمد بأساطير الأولين، فنزل فيه عدة آيات. أسره المقداد يوم بدر وأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بضرب عنقه، فقتله علي بن أبي طالب صبراً بالأثيل.
ومنهم: أبو جهل بن هشام المخزومي، كان أشد الناس عداوةً للنبي، صلى الله عليه وسلم، وأكثرهم أذىً له ولأصحابه، واسمه عمرو، وكنيته أبو الحكم، وأما أبو جهل فالمسلمون كنوه به، وهو الذي قتل سمية أم عمار بن ياسر، وأفعاله مشهورة، وقتل ببدر، قتله ابنا عفراء، وأجهز عليه عبد الله بن مسعود.
ومنهم: نبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان، وكانا على ما كان عليه أصحابهما من أذى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والطعن عليه، وكانا يلقيانه فيقولان له: أما وجد الله من يبعثه غيرك؟ إن ها هنا من هو أسن منك وأيسر. فقتل منبه، قتله علي بن أبي طالب ببدر، وقتل أيضاً العاص بن منبه بن الحجاج، قتله أيضاً علي ببدر، وهو صاحب ذي الفقار، وقيل منبه بن الحجاج صاحبه، وقيل نبيه. نبيه بضم النون، وفتح الباء الموحدة.

ومنهم: زهير بن أبي أمية أخو أم سلمة لأبيها، وأمه عاتكة بنت عبد المطلب، وكان ممن يظهر تكذيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويرد ما جاء به ويطعن عليه إلا أنه ممن أعان على نقض الصحيفة. واختلف في موته فقيل: سار إلى بدر فمرض فمات، وقيل: أسر ببدر فأطلقه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما عاد مات بمكة، وقيل: حضر وقعة أحد فأصابه سهم فمات منه، وقيل: سار إلى اليمن بعد الفتح فمات هناك كافراً.
ومنهم: عقبة بن أبي معيط، واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس، ويكنى أبا الوليد، وكان من أشد الناس أذىً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعداوة له وللمسلمين، عمد إلى مكتل فجعل فيه عذرة وجعله على باب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبصر به طليب بن عمير بن وهب بن عبد مناف بن قصي، وأمه أروى بنت عبد المطلب، فأخذ المكتل منه وضرب به رأسه وأخذ بأذنيه، فشكاه عقبة إلى أمه فقال: قد صار ابنك ينصر محمداً. فقالت: ومن أولى به منا ؟ أموالنا وأنفسنا دون محمد. وأسر عقبة ببدر فقتل صبراً، قتله عاصم بن ثابت الأنصاري، فلما أراد قتله قال: يا محمد من للصبية ؟ قال: النار. قتل بالصفراء، وقيل بعرق الظبية، وصلب، وهو أول مصلوب في الإسلام.
ومنهم: الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وكان من المستهزئين، ويكنى أبا زمعة، وكان أصحابه يتغامزون بالنبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه ويقولون: قد جاءكم ملوك الأرض ومن يغلب على كنوز كسرى وقيصر، ويصفرون به ويصفقون، فدعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعمى ويثكل ولده، فجلس في ظل شجرة فجعل جبرائيل يضرب وجهه وعينيه بورقة من ورقها وبشكوها حتى عمي، وقيل: أومأ إلى عينيه فعمي فشغله عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقتل ابنه معه ببدر كافراً، قتله أبو دجانة، وقتل ابن ابنه عتيب، قتله حمزة وعلي اشتركا في قتله، وقتل ابن ابنه الحارث بن زمعة بن الأسود، قتله علي، وقيل: هو الحارث بن الأسود، والأول أصح، وهو القائل:
أتبكي أن يضلّ لها بعيرٌ ... ويمنعها من النّوم السّهود
ومات والناس يتجهزون إلى أحد وهو يحرض الكفار وهو مريض.
ومنهم: طعيمة بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، يكنى أبا الريان، وكان ممن يؤذي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ويشتمه ويسمعه ويكذبه، وأسر ببدر، وقتل كافراً صبراً، قتله حمزة.
ومنهم: مالك بن الطلاطلة بن عمرو بن غبشان من المستهزئين، وكان سفيهاً، فدعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأشار جبرائيل إلى رأسه فامتلأ قيحاً فمات.
ومنهم: ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب، كان شديد العداوة، لقي النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن أخي بلغني عنك أمر ولست بكذاب، فإن صرعتني علمت أنك صادق، ولم يكن يصرعه أحد، فصرعه النبي، صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ودعاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الإسلام، فقال: لا أسلم حتى تدعو هذه الشجرة. فقال لها رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أقبلي، فأقبلت تخد الأرض. فقال ركانة، ما رأيت سحراً أعظم من هذا، مرها فلترجع، فأمرها فعادت. فقال: هذا سحر عظيم.
هؤلاء أشد عداوة لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن عداهم من رؤساء قريش كانوا أقل عداوة من هؤلاء، كعتبة وشيبة وغيرهما، وكان جماعة من قريش من أشد الناس عليه فأسلموا، تركنا ذكرهم لذلك. منهم: أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وعبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة لأبيها، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب عمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان بن حرب، والحكم بن العاص، والد مروان، وغيرهم، أسلموا يوم الفتح.
ذكر الهجرة إلى أرض الحبشةولما رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يصيب أصحابه من البلاء وما هو فيه من العافية بمكانة من الله، عز وجل، وعمه أبي طالب وأنه لا يقدر على أن يمنعهم قال: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكاً لا يظلم أحد عنده، حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه.

فخرج المسلمون إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام، فخرج عثمان بن عفان وزوجته رقية ابنة النبي، صلى الله عليه وسلم، معه، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، والزبير العوام، وغيرهم تمام عشرة رجال، وقيل: أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وكان مسيرهم في رجب سنة خمس من النبوة، وهي السنة الثانية من إظهار الدعوة، فأقاموا شعبان وشهر رمضان.
وقدموا في شوال سنة خمس من النبوة، وكان سبب قدومهم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه لما رأى مباعدة قومه له شق عليه وتمنى أن يأتيه الله بشيء يقاربهم به، وحدث نفسه بذلك، فأنزل الله: (وَالنَّجْمِ إذَا هَوَى) النجم: 20؛ فلما وصل إلى قوله: (أفَرَأيْتُمُ اللاّتَ والعُزّى وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الأخْرَى)؛ ألقى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به نفسه: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. فلما سمعت ذلك قريش سرهم والمسلمون مصدقون بذلك لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يتهمونه ولا يظنون به سهواً ولا خطأً. فلما انتهى إلى سجدة سجد معه المسلمون والمشركون إلا الوليد بن المغيرة، فإنه لم يطق السجود لكبره، فأخذ كفاً من البطحاء فسجد عليها. ثم تفرق الناس. وبلغ الخبر من بالحبشة من المسلمين أن قريشاً أسلمت، فعاد منهم قوم وتخلف قوم، وأتى جبرائيل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخبره بما قرأ، فحزن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخاف، فأنزل الله تعالى: (وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبيٍّ إلاّ إذَا تَمَنّى ألْقَى الشّيْطَانُ في أمْنّيِتِهِ) الحج: 52؛ فذهب عنه الحزن والخوف.
واشتدت قريش على المسلمين، فلما قرب المسلمون الذين كانوا بالحبشة من مكة بلغهم أن إسلام أهل مكة باطل، فلم يدخل أحد منهم إلا بجوار أو مستخفياً، فدخل عثمان في جوار أبي أحيحة سعيد بن العاص بن أمية، فأمن بذلك، ودخل أبو حذيفة بن عتبة بجوار أبيه، ودخل عثمان بن مظعون بجوار الوليد بن المغيرة، ثم قال: أكون في ذمة مشركٍ ! جوار الله أعز، فرد عليه جواره، وكان لبيد بن ربيعة ينشد قريشاً قوله:
ألاّ كل شيءٍ ما خلا الله باطل
فقال عثمان بن مظعون: صدقت، فلما قال:
وكلّ نعيمٍ لا محالة زائل
قال: كذبت ! نعيم الجنة لا يزول، فقال لبيد: يا معشر قريش ما كانت مجالسكم هكذا ولا كان السفه من شأنكم. فأخبروه خبره وخبر ذمته، فقام بعض بني المغيرة فلطم عين عثمان، فضحك الوليد شماتةً به حيث رد جواره، وقال لعثمان: ما كان عن هذا ! فقال: إن عيني الأخرى لمحتاجة إلى مثل ما نالت هذه. فقال له: هل لك أن تعود إلى جواري ؟ قال: لا أعود إلى جوار غير الله. فقام سعد بن أبي وقاص إلى الذي لطم عين عثمان فكسر أنفه، فكان أول دم أريق في الإسلام في قولٍ.

وأقام المسلمون بمكة يؤذون، فلما رأوا ذلك رجعوا مهاجرين إلى الحبشة ثانياً، فخرج جعفر بن أبي طالب وتتابع المسلمون إلى الحبشة، فكمل بها تمام اثنين وثمانين رجلاً، والنبي، صلى الله عليه وسلم، مقيمٌ بمكة يدعو إلى الله سراً وجهراً، فلما رأت قريشٌ أنه لا سبيل لها إليه رموه بالسحر والكهانة والجنون وأنه شاعر، وجعلوا يصدون عنه من خافوا أن يسمع قوله، وكان أشد ما بلغوا منه ما ذكره عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: حضرت قريشٌ يوماً بالحجر فذكروا النبي، صلى الله عليه وسلم، وما نال منهم وصبرهم عليه، فبينما كذلك إذ طلع النبي، صلى الله عليه وسلم، ومشى حتى استلزم الركن، ثم مر بهم طائفاً، فغمزوه ببعض القول، فعرفت ذلك في وجهه، ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه مثلها ثم الثالثة، فقال: أتسمعون يا معشر قريش ؟ والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بالذبح. قال: فكأنما على رؤوسهم الطير واقعٌ حتى إن أشدهم فيه ليرفؤه بأحسن ما يجد. وانصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر، فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم حتى إذا أتاكم بما تكرهون تركتموه؛ فبينما هم كذلك إذ طلع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد يقولون له: أنت الذي تقول كذا وكذا ؟ فيقول: أنا الذي أقول ذلك، فأخذ عقبة ابن أبي معيط بردائه، وقام أبو بكر الصديق دونه يقول وهو يبكي: ويلكم ! (أتَقْتُلُونَ رَجُلاً أنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ؟) غافر: 28 ثم انصرفوا عنه. هذا أشد ما بلغت عنه.
ذكر إرسال قريش إلى النجاشي

في طلب المهاجرين
لما رأت قريش أن المهاجرين قد اطمأنوا بالحبشة وأمنوا، وأن النجاشي قد أحسن صحبتهم، ائتمروا بينهم فبعثوا عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية ومعهما هدية إليه وإلى أعيان أصحابه، فسارا حتى وصلا الحبشة، فحملا إلى النجاشي هديته وإلى أصحابه هداياهم وقالا لهم: إن ناساً من سفهائنا فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دين الملك وجاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد أرسلنا أشراف قومهم إلى الملك ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فاشيروا عليه بأن يرسلهم معنا من غير أن يكلمهم، وخافا إن يسمع النجاشي كلام المسلمين أن لا يسلمهم. فوعدهما أصحاب النجاشي المساعدة على ما يريدان.
ثم إنهما حضرا عند النجاشي فأعلماه ما قد قالاه، فأشار أصحابه بتسليم المسلمين إليهما. فغضب من ذلك وقال: لا والله لا أسلم قوماً جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم وأسألهم عما يقول هذان، فإن كانا صادقين سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ما يذكر هذان منعتهم وأحسنت جوارهم.
ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فحضروا، وقد أجمعوا على صدقه فيما ساءه وسره وكان المتكلم عنهم جعفر بن أبي طالب. فقال لهم النجاشي: ما هذا الدين الذين فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا دين أحد من الملل ؟ فقال جعفر: أيها الملك كنا أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعاه لتوحيد الله وأن لا نشرك به شيئاً ونخلع ما كنا نعبد من الأصنام، وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور وأكل مال اليتيم، وأمرنا بالصلاة والصيام. وعدد عليه أمور الإسلام، قال: فآمنا به وصدقناه وحرمنا ما حرم علينا وحللنا ما أحل لنا، فتعدى علينا وقمنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
فقال النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء ؟ قال: نعم، فقرأ عليه سطراً من كهيعص، فبكى النجاشي وأساقفته، وقال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى يخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، والله لا أسلمهم إليكما أبداً ! فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص: والله لآتينه غداً يبيد خضراءهم. فقال له عبد الله بن أبي أمية، وكان أتقى الرجلين: لا تفعل فإن لهم أرحاماً.

فلما كان الغد قال للنجاشي: إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. فأرسل النجاشي فسألهم عن قولهم في المسيح. فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فأخذ النجاشي عوداً من الأرض وقال: ما عدا عيسى ما قلت هذا العود. فنخرت بطارقته، فقال: وإن نخرتم. وقال للمسلمين: اذهبوا فأنتم آمنون، ما أحب أن لي جبلاً من ذهب وأنني آذيت رجلاً منكم. ورد هدية قريش وقال: ما أخذ الله الرشوة مني حتى آخذها منكم، ولا أطاع الناس في حتى أطيعهم فيه. وأقام المسلمون بخير دار.
وظهر ملك من الحبشة فنازع النجاشي في ملكه، فعظم ذلك على المسلمين، وسار النجاشي إليه ليقاتله، وأرسل المسلمون الزبير بن العوام ليأتيهم بخبره، وهم يدعون له، فاقتتلوا، فظفر النجاشي، فما سر المسلمون بشيء سرورهم بظفره.
قيل: إن معنى قوله إن الله لم يأخذ الرشوة مني، أن أبا النجاشي لم يكن له ولد غيره، وكان له عم قد أولد اثني عشر ولداً، فقالت الحبشة: لو قتلنا أبا النجاشي وملكنا أخاه فإنه لا ولد له غير هذا الغلام، وكان أخوه وأولاده يتوارثون الملك دهراً. فقتلوا أباه وملكوا عمه ومكثوا على ذلك حيناً، وبقي النجاشي عند عمه، وكان عاقلاً، فغلب على أمر عمه، فخافت الحبشة أن يقتلهم جزاء لقتل أبيه، فقالوا لعمه: إما أن تقتل النجاشي وإما أن تخرجه من بين أظهرنا فقد خفناه. فأجابهم إلى إخراجه من بلادهم على كرهٍ منه، فخرجوا إلى السوق فباعواه من تاجر بستمائة درهم. فسار به التاجر في سفينته. فلما جاء العشاء هاجت سحابة فأصابت عمه بصاعقة، ففزعت الحبشة إلى أولاده، فإذا هم لا خير فيهم، فهرج على الحبشة أمرهم، فقال بعضهم: والله لا يقيم أمركم إلا النجاشي، فإن كان لكم بالحبشة رأي فأدركوه.
فخرجوا في طلبه حتى أدركوه وملكوه. وجاء التاجر وقال لهم: إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه. فقالوا: كلمه. فقال: أيها الملك، ابتعت غلاماً بستمائة درهم ثم أخذوا الغلام والمال. فقال النجاشي: إما أن تعطوه دراهمه وإما أن يضع الغلام يده في يده فليذهبن به حيث شاء. فأعطوه دراهمه؛ فهذا معنى قوله. فكان ذلك أول ما علم من عدله ودينه.
قال: ولما مات النجاشي كانوا لا يزالون يرون على قبره نوراً.
ذكر إسلام حمزة بن عبد المطلبثم إن أبا جهل مر برسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو جالس عند الصفا، فآذاه وشتمه ونال منه وعاب دينه، ومولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها تسمع ذلك، ثم انصرف عنه فجلس في نادي قريش عند الكعبة، فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب أن أقبل من قنصه متوشحاً قوسه، وكان إذا رجع لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان يقف على أندية قريش ويسلم عليهم ويتحدث معهم، وكان أعز قريش وأشدهم شكيمة. فلما مر بالمولاة، وقد قام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد من أبي الحكم بن هشام فإنه سبه وآذاه ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد. قال: فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به من كرامته، فخرج سريعاً لا يقف على أحد كما كان يصنع يريد الطواف بالكعبة معداً لأبي جهل إذا لقيه أن يقع به، حتى دخل المسجد، فرآه جالساً في القوم، فأقبل نحوه وضرب رأسه بالقوس فشجه شجة منكرة، وقال: أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ؟ فاردد علي إن استطعت.
وقامت رجال بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل، دعوا أبا عمارة فإني سببت ابن أخيه سباً قبيحاً. وتم حمزة على إسلامه.
فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عز، وأن حمزة سيمنعه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه.
واجتمع يوماً أصحابه فقالوا: ما سمعت قريش القرآن يجهر لها به، فمن رجل يسمعهموه ؟ فقال ابن مسعود: أنا. فقالوا: نخشى عليك إنما نريد من له عشيرة يمنعونه. قال: إن الله سيمنعني. فغدا عليهم في الضحى حتى أتى المقام وقريش في أنديتها ثم رفع صوته وقرأ سورة الرحمن، فلما علمت قريش أنه يقرأ القرآن قاموا إليه يضربونه وهو يقرأ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم اليوم، ولئن شئتم لأغادينهم. قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.

ذكر إسلام عمر بن الخطاب
ثم أسلم عمر بعد تسعة وثلاثين رجلاً وثلاث وعشرين امرأة، وقيل: أسلم بعد أربعين رجلاً وإحدى عشرة امرأة، وقيل: أسلم بعد خمسة وأربعين رجلاً وإحدى وعشرين امرأة، وكان رجلاً جلداً منيعاً، وأسلم بعد هجرة المسلمين إلى الحبشة. وكان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يقدرون يصلون عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عندها وصلى معه أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم.
وكان قد أسلم قبله حمزة بن عبد المطلب، فقوي المسلمون بهما، وعلموا أنهما سيمنعان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين.
قالت أم عبد الله بنت أبي حثمة، وكانت زوج عامر بن ربيعة، إنا لنرحل إلى أرض الحبشة، وقد ذهب عامر لبعض حاجته، إذ أقبل عمر وهو على شركه حتى وقف علي، وكنا نلقى منه البلاء أذىً وشدة، فقال: أتنطلقون يا أم عبد الله ؟ قالت: قلت: نعم والله لنخرجن في أرض الله، فقد آذيتمونا وقهرتمونا، حتى يجعل الله لنا فرجاً. قالت: فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة وحزناً. قالت: فلما عاد عامر أخبرته وقلت له: لو رأيت عمر ورقته وحزنه علينا ! قال: أطمعت في إسلامه ؟ قلت: نعم. قال: لا يسلم حتى يسلم حمار الخطاب، لما كان يرى من غلظته وشدته على المسلمين، فهداه الله تعالى فأسلم فصار على الكفار أشد منه على المسلمين.
وكان سبب إسلامه أن أخته فاطمة بنت الخطاب كانت تحت سعيد بن زيد بن عمرو العدوي، وكانا مسلمين يخفيان إسلامهما من عمر، وكان نعيم بن عبد الله النحام قد أسلم أيضاً وهو يخفي إسلامه فرقاً من قومه، وكان خباب بن الأرت يختلف إلى فاطمة يقرئها القرآن، فخرج عمر يوماً ومعه سيفه يريد النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، وهم مجتمعون في دار الأرقم عند الصفا، وعنده من لم يهاجر من المسلمين في نحو أربعين رجلاً، فلقيه نعيم بن عبد الله فقال: أين تريد يا عمر ؟ فقال: أريد محمداً الذي فرق أمر قريش وعاب دينها فأقتله. فقال نعيم: والله لقد غرتك نفسك، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟ أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم ؟ قال: وأي أهلي ؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد وأختك فاطمة، فقد والله أسلما.
فرجع عمر إليهما وعندهما خباب بن الأرت يقرئهما القرآن. فلما سمعوا حس عمر تغيب خباب وأخذت فاطمة الصحيفة فألقتها تحت فخذيها، وقد سمع عمر قراءة خباب. فلما دخل قال: ما هذه الهينمة ؟ قالا: ما سمعت شيئاً ؟ قال: بلى، قد أخبرت أنكما تابعتما محمداً، وبطش بختنه سعيد بن زيد، فقامت إليه أخته لتكفه، فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته: قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت.
ولما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم وقال لها: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأون فيها الآن حتى أنظر إلى ما جاء به محمد. قالت: إنا نخشاك عليها، فحلف أنه يعيدها. قالت له، وقد طمعت في إسلامه: إنك نجسٌ على شركك ولا يمسها إلا المطهرون، فقام فاغتسل. فأعطته الصحيفة وقرأها، وفيها: طه، وكان كاتباً، فلما قرأ بعضها قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه ؟! فلما سمع خباب خرج إليه وقال: يا عمر إني والله لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس وهو يقول: (اللهمّ أيّد الإسلام بعمر بن الخطاب أو بأبي الحكم بن هشام) الله يا عمر ! فقال عمر عند ذلك: فدلني يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم. فدله خباب، فأخذ سيفه وجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فضرب عليهم الباب، فقام رجل منهم فنظر من خلل الباب، فرآه متوشحاً سيفه، فأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك فقال حمزة: إئذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن أراد شراً قتلناه بسيفه.

فأذن له، فنهض إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، حتى لقيه فأخذ بمجامع ردائه ثم جذبه جذبة شديدة وقال: ما جاء بك ؟ ما أراك تنتهي حتى ينزل الله عليك قارعةً. فقال عمر: يا رسول الله جئت لأؤمن بالله وبرسوله، فكبر، صلى الله عليه وسلم، تكبيرة عرف من في البيت أن عمر أسلم. فلما أسلم قال: أي قريش أنقل للحديث ؟ قيل: جميل بن معمر الجمحي، فجاءه فأخبره بإسلامه، فمشى إلى المسجد وعمر وراءه وصرخ: يا معشر قريش ألا إن ابن الخطاب قد صبأ. فيقول عمر من خلفه: كذب ولكني أسلمت، فقاموا، فلم يزل يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس وأعيا، فقعد وهم على رأسه، فقال: افعلوا ما بدا لكم، فلو كنا ثلاثمائة نفر تركناها لكم أو تركتموها لنا، يعني مكة.
فبينما هم كذلك إذ أقبل شيخ عيه حلة فقال: ما شأنكم ؟ قالوا: صبأ عمر. قال: فمه، رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون ؟ أترون بني عدي يسلمون لكم صاحبهم هكذا ؟ خلوا عن الرجل. وكان الرجل العاص بن وائل السهمي.
قال عمر: لما أسلمت أتيت باب أبي جهل بن هشام فضربت عليه بابه، فخرج إلي وقال: مرحباً بابن أخي ! ما جاء بك ؟ قلت: جئت لخبرك أني قد أسلمت وآمنت بمحمد، صلى الله عليه وسلم، وصدقت ما جاء به. قال: فضرب الباب في وجهي وقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ! وقيل في إسلامه غير هذا.
ذكر أمر الصحيفةولما رأت قريش الإسلام يفشو ويزيد، وأن المسلمين قووا بإسلام حمزة وعمر، وعاد إليهم عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أمية من النجاشي بما يكرهون من منع المسلمين عنهم، وأمنهم عنده، ائتمروا في أن يكتبوا بينهم كتاباً يتعاقدون فيه على أن لا ينكحوا بني هاشم وبني المطلب ولا ينكحوا إليهم ولا يبيعوهم ولا يبتاعوا منهم شيئاً. فكتبوا بذلك صحيفةً وتعاهدوا على ذلك، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيداً لذلك الأمر على أنفسهم، فلما فعلت قريش ذلك انحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه واجتمعوا.
وخرج من بني هاشم أبو لهب بن عبد المطلب إلى قريش، فلقي هنداً بنت عتبة فقال: كيف رأيت نصري اللات والعزى ؟ قالت: لقد أحسنت. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً حتى جهدوا لا يصل إلى أحد منهم شيء إلا سراً.
وذكروا أن أبا جهل لقي حكيم بن حزام بن خويلد ومعه قمحٌ يريد به عمته خديجة، وهي عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الشعب، فتعلق به وقال: والله لا تبرح حتى أفضحك. فجاء أبو البختري بن هشام فقال: ما لك وله ؟ عنده طعام لعمته أفتمنعه أن يحمله إليها ؟ خل سبيله. فأبى أبو جهل، فنال منه. فضربه أبو البختري بلحى جملٍ فشجه ووطئه وطأً شديداً، وحمزة ينظر إليهم، وهم يكرهون أن يبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، ذلك فيشمت بهم هو والمسلمون. ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يدعو الناس سراً وجهراً، والوحي متتابع إليه، فبقوا كذلك ثلاث سنين.

وقام في نقض الصحيفة نفر من قريش، وكان أحسنهم بلاء فيه هشام بن عمرو بن لحارث بن عمرو بن لؤي، وهو ابن أخي نضلة بن هشام بن عبد مناف لأمه، وكان يأتي بالبعير قد أوقره طعاماً ليلاً ويستقبل به الشعب ويخلع خطامه فيدخل الشعب. فلما رأى ما هم فيه وطول المدة عليهم مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، أخي أم سلمة، وكان شديد الغيرة على النبي، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين، وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا زهير أرضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث علمت ؟ أما إني أحلف بالله لو كانوا أخوال أبي الحكم، يعني أبا جهل، ثم دعوته إلى مثل ما دعاك إيه ما أجابك أبداً. فقال: فماذا أصنع ؟ وإنما أنا رجل واحد، والله لو كان معي رجل آخر لنقضتها. فقال: قد وجدت رجلاً. قال: ومن هو ؟ قال: أنا. قال زهير: ابغنا ثالثاً، فذهب إلى المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف فقال له: أرضيت أن يهلك بطنان من بني عدي ابن عبد مناف وأنت شاهد ذلك موافق فيه ؟ أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعاً. قال: ما أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد. قال: قد وجدت ثانياً. قال: من هو ؟ قال: أنا. قال: ابغنا ثالثاً. قال: قد فعلت. قال: من هو ؟ قال: زهير بن أبي أمية. قال: ابغنا رابعاً. فذهب إلى أبي البختري بن هشام وقال له نحواً مما قال للمطعم، قال: وهل من أحد يعين على هذا ؟ قال: نعم. قال: من هو ؟ قال: أنا وزهير والمطعم. قال: ابغنا خامساً. فذهب إلى زمعة بن الأسود المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم، قال: وهل على هذا الأمر معين ؟ قال: نعم، وسمى له القوم، فاتعدوا خطم الحجون الذي بأعلى مكة، فاجتمعوا هنالك وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة. فقال زهير: أنا أبدأكم.
فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير فطاف بالبيت ثم أقبل على الناس فقال: يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون ولا يبتاع منهم ؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة. قال أبو جهل: كذبت والله لا تشق. قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب، ما رضينا بها حين كتبت. قال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كتب فيها. قال المطعم بن عدي: صدقتما وكذب من قال غي ذلك. وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك. قال أبو جهل: هذا أمر قضي بليلٍ وأبو طالب في ناحية المسجد.
فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها فوجد الأرضة قد أكلتها إلا ما كان: باسمك اللهم، كانت تفتتح بها كتبها، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة، فشلت يده.
وقيل: كان سبب خروجهم من الشعب أن الصحيفة لما كتبت وعلقت بالكعبة اعتزل الناس بني هاشم وبني المطلب، وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب ومن معهما بالشعب ثلاث سنين، فأرسل الله الأرضة وأكلت ما فيها من ظلم وقطيعة رحم وتركت ما فيها من أسماء الله تعالى، فجاء جبرائيل إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فأعلمه بذلك، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لعمه أبي طالب، وكان أبو طالب لا يشك في قوله، فخرج من الشعب إلى الحرم، فاجتمع الملأ من قريش، وقال: إن ابن أخي أخبرني أن الله أرسل على صحيفتكم الأرضة فأكلت ما فيها من قطيعة رحمٍ وظلمٍ وتركت اسم الله تعالى، فأحضروها، فإن كان صادقاً علمتم أنكم ظالمون لنا قاطعون لأرحامنا، وإن كان كاذباً علمنا أنكم على حق وأنا على باطل.
فقاموا سراعاً وأحضروها، فوجدوا الأمر كما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقويت نفس أبي طالب واشتد صوته وقال: قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة. فنكسوا رؤوسهم ثم قالوا: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان، وقام أولئك النفر في نقضها كما ذكرنا؛ وقال أبو طالب في أمر الصحيفة وأكل الأرضة ما فيها من ظلم وقطيعة رحم أبياتاً منها:
وقد كان في أمر الصحيفة عبرةٌ ... متى ما يخبّر غائب القوم يعجب
محا الله منهم كفرهم وعقوقهم ... وما نقموا من ناطق الحقّ معرب
فأصبح ما قالوا من الأمر باطلاً ... ومن يختلق ما ليس بالحقّ يكذب
؟؟

ذكر وفاة أبي طالب وخديجة
وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على العرب

توفي أبو طالب وخديجة قبل الهجرة بثلاث سنين وبعد خروجهم من الشعب، فتوفي أبو طالب في شوال أو في ذي القعدة وعمره بضع وثمانون سنة، وكانت خديجة ماتت قبله بخمسة وثلاثين يوماً، وقيل: كان بينهما خمسة وخمسون يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، فعظمت المصيبة على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بهلاكهما، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ما نالت قريش مني شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب)، وذلك أن قريشاً وصلوا من أذاه بعد موت أبي طالب إلى ما لم يكونوا يصلون إليه في حياته حتى ينثر بعضهم التراب على رأسه، وحتى إن بعضهم يطرح عليه رحم الشاة وهو يصي، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخرج ذلك على العود ويقول: أي جوار هذا يا بني عبد مناف ! ثم يلقيه بالطريق.
فلما اشتد عليه الأمر بعد موت أبي طالب خرج ومعه زيد بن حارثة إلى ثقيف يلتمس منهم النصر. فلما انتهى إليهم عمد إلى ثلاثة نفر منهم، وهم يومئذٍ ساده ثقيف، وهم إخوةٌ ثلاثة: عبد ياليل ومسعود وحبيب بنو عمر وبن عمير، فدعاهم إلى الله وكلمهم في نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه، فقال أحدهم: ماردٌ يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك. وقال آخر: أما وجد الله من يرسله غيرك ! وقال ثالث: والله لا أكلمك كلمة أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك.
فقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم: إذا أبيتم فاكتموا علي ذلك، وكره أن يبلغ قومه، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم. فاجتمعوا إليه وألجؤوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهو البستان، وهما فيه، ورجع السفهاء عنه، وجلس إلى ظل حبلة وقال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، اللهم يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ! ولكن عافيتك هي أوسع، إني أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل بي سخطك.
فلما رأى ابنا ربيعة ما لحقه تحركت له رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً اسمه عداس فقالا له: خذ قطفاً من هذا العنب واذهب به إلى ذلك الرجل، ففعل. فلما وضعه بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وضع يده فيه وقال: بسم الله، ثم أكل، فقال عداس: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة. فقال له النبي، صلى الله عليه وسلم: من أي بلاد أ،ت وما دينك ؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له: وما يدريك ما يونس ؟ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ذلك أخي كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على يدي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورجليه يقبلها فعاد.
فيقول ابنا ربيعة أحدهما للآخر: أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاء عداس قالا له: ويحك ما لك تقبل يديه ورجليه ؟ قال: ما في الأرض خيرٌ من هذا الرجل. قالا: ويحك إن دينك خير من دينه ! ثم انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، راجعاً إلى مكة حتى إذا كان في جوف الليل قام قائماً يصلي، فمر به نفرٌ من الجن، وهم سبعة نفر من جن نصيبين، رائحين إلى اليمن فاستمعوا له، فلما فرغ من صلواته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا.

وذكر بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاد من ثقيف أرسل إلى المطعم بن عدي ليجيره حتى يبلغ رسالة ربه، فأجاره، وأصبح المطعم قد لبس سلاحه هو وبنوه وبنو أخيه فدخلوا المسجد، فقال له أبو جهل: أمجير أم متابع ؟ قال: بل مجير. قال: قد أجرنا من أجرت. فدخل النبي، صلى الله عليه وسلم، مكة وأقام بها فدخل يوماً المسجد الحرام والمشركون عند الكعبة. فلما رآه أبو جهل قال: هذا نبيكم يا بني عبد مناف. فقال عتبة بن ربيعة: وما ينكر أن يكون منا نبي وملك ؟ فأخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك، فأتاهم فقال: أما أنت يا عتبة فما حميت لله وإنما حميت لنفسك، وأما أنت يا أبا جهل فوالله لا يأتي عليك غير بعيد حتى تضحك قليلاً وتبكي كثيراً، وأما أنتم يا معشر قريش فوالله لا يأتي عليكم غير كثير حتى تدخلوا فيما تكرون وأنتم كارهون، فكان الأمر كذلك.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه في المواسم على قبائل العرب، فأتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح، فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم، فأبوا عليه. فأتى كلباً إلى بطن منهم يقال لهم: بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض نفسه عليهم، فلم يقبلوا ما عرض عليهم. ثم إنه أتى بني حنيفة وعرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: أرأيت إن نحن تابعناك فأظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء. قال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا ظهرت كان الأمر لغيرنا ؟ لا حاجة لنا بأمرك.
فلما رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم كبير فأخبروه خبر النبي، صلى الله عليه وسلم، ونسبه، وضع يده على رأسه ثم قال: يا بني عامر هل من تلاف ؟ والذي نفسي بيده ما تقولها إسماعيلي قط وإنها لحق، وأين كان رأيكم عنه ! ولم يزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه على كل قادم له اسم وشرف ويدعوه إلى الله. وكان كلما أتى قبيلة يدعوهم إلى الإسلام تبعه عمه أبو لهب، فإذا فرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من كلامه يقول لهم أبو لهب: يا بني فلان، إنما يدعوكم هذا إلى أن تستحلوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من الضلالة والبدعة فلا تطيعوه ولا تسمعوا له.
ذكر أول عرض رسول الله

صلى الله عليه وسلم نفسه على الأنصار وإسلامهم
فقدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بطن من الأوس مكة حاجاً ومعتمراً، وكان يسمى الكامل لجلده وشعره ونسبه، وهو القائل:
ألا ربّ من تدعو صديقاً ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالسحر إذ كان شاهداً ... وبالغيب مأثورٌ على ثغرة النّحر
يسرّك باديه وتحت أديمه ... نميمة غشّ تبتري عقب الطّهر
تبين لك العينان ما هو كاتمٌ ... وما جنّ بالبغضاء والنّظر الشّزر
فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني ... فخير الموالي من يريش ولا يبري
فتصدى له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فدعاه إلى الإسلام، وقرأ عليه القرآن، فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن، ثم انصرف وقدم المدينة، فلم يلبث أن قتله الخزرج، قتل يوم بعاث، فكان قومه يقولون: قتل وهو مسلم.
بعاث بالباء الموحدة المضمومة، والعين المهملة، وهو الصحيح.
وقدم أبو الحيسر أنس بن رافع مكة مع فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، فأتاهم النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال لهم: هل لكم فيما هو خير لكم مما جئتم له ؟ ودعاهم إلى الاسم، وقرأ عليهم القرآن، فقال إياس، وكان غلاماً حدثاً: هذا والله خير مما جئنا له. فضرب وجهه أبو الحيسر بحفنة من البطحاء وقال: دعنا منك فلقد جئنا لغير هذا. فسكت إياس، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يلبث إياس أن هلك، فسمعه قومه يهلل الله ويكبره حتى مات، فما يشكون أنه مات مسلماً.
ذكر بيعة العقبة الأولى
وإسلام سعد بن معاذ

فلما أراد الله إظهار دينه وإنجاز وعده خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على القبائل كما كان يفعله، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام، وقد كانت يهود معهم ببلادهم، وكان هؤلاء أهل أوثان، فكانوا إذا كان بينهم شر تقول اليهود: إن نبياً يبعث الآن نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وثمود. فقال أولئك النفر بعضهم لبعض: هذا والله النبي الذي توعدكم به اليهود، فأجابوه وصدقوه وقالوا له: إن بين قومنا شراً، وعسى الله أن يجمعهم بك، فإن اجتمعوا عليك فلا رجل أعز منك. ثم انصرفوا عنه، وكانوا سبعة نفر من الخزرج: أسعد بن زرارة بن عدس أبو أمامة، وعوف بن الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء، كلاهما من بني النجار، ورافع بن مالك بن عجلان، وعامر بن عبد حارثة بن ثعلبة بن غنم، كلاهما من بني زريق، وقطبة بن عامر بن حديدة بن سواد من بني سلمة - سلمة هذا بكسر اللام - ، وعقبة بن عامر بن نابئ من بني غنم، وجابر بن عبد الله بن رياب من بني عبيدة.
رياب بكسر الراء والياء المعجمة باثنتين من تحت وبالباء الموحدة.
فلما قدموا المدينة ذكروا لهم النبي، صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، حتى إذا كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوه بيعة النساء، وهم: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ ابنا الحارث، وهما ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن عجلان، وذكوان بن عبد قيس من بني زريق، وعبادة بن الصامت من بني عوف بن الخزرج، ويزيد بن ثعلبة بن خزمة أبو عبد الرحمن من بلي حليف لهم، وعباس بن نضلة من بني سالم، وعقبة بن عامر بن نابئ، وقطبة بن عامر بن حديدة، وهؤلاء من الخزرج، وشهدها من الأوس أبو الهيثم بن التيهان، حليف لبني عبد الأشهل، وعويم بن ساعدة حليف لهم.
فانصرفوا عنه، وبعث، صلى الله عليه وسلم، معهم مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، فنزل بالمدينة على أسعد بن زرارة، فخرج به أسعد بن زرارة فجلس في دار بني ظفر، واجتمع عليهما رجالٌ ممن أسلم. فسمع به سعد بن معاذ وأسيد بن حضير وهما سيدا بني عبد الأشهل، وكلاهما مشرك، فقال سعد لأسيد: انطلق إلى هذين اللذين أتيا دارنا فانههما، فإنه لولا أسعد بن زرارة، وهو ابن خالتي، كفيتك ذلك. فأخذ أسيد حربته ثم أقبل عليهما، فقال: ما جاء بكما تسفهان ضعفاءنا ؟ اعتزلا عنا. فقال مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته كف عنك ما تكره ! فقال: أنصفت ثم جلس إليهما، فكلمة مصعب بالإسلام، فقال: ما أحسن هذا وأجله ! كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ قالا: تغتسل وتطهر ثيابك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين، ففعل ذلك وأسلم. ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن تبعكما لم يتخلف عنكما أحد من قومه، وسأرسله إليكما، سعد بن معاذ.
ثم انصرف إلى سعد وقومه، فلما نظر إليه سعد قال: أحلف بالله لقد جاءكم بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم ! فقال له سعد: ما فعلت قال: كلمت الرجلين، والله ما رأيت بهما بأساً، وقد حدثت أن بني حارثة قد خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه. فقام سعد مغضباً مبادراً لخوفه مما ذكر له، ثم خرج إليهما، فلما رآهما مطمئنين عرف ما أرد أسيد، فوقف عليهما وقال لأسعد بن زرارة: لولا ما بيني وبينك من القرابة ما رمت هذا مني. فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره ! فجلس فعرض عليه مصعب الإسلام وقرأ عليه القرآن فقال لهما: كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الدين ؟ فقالا له ما قالا لأسيد، فأسلم وتطهر ثم عاد إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير، فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم ؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم علي حرامٌ حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فوالله ما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة.

ورجع مصعب إلى منزل أسعد ولم يزل يدعو إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من بني أمية ابن زيد ووائل وواقف، فإنهم أطاعوا أبا قيس بن الأسلت، فوقف بهم عن الإسلام حتى هاجر النبي، صلى الله عليه وسلم، ومضت بدر وأحد والخندق وعاد مصعب إلى مكة.
أسيد بضم الهمزة، وفتح السين. وحضير بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة،وتسكين الياء تحتها نقطتان، وفي آخره راء.
ذكر بيعة العقبة الثانيةلما فشا الإسلام في الأنصار اتفق جماعةٌ منهم على المسير إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، مستخفين لا يشعر بهم أحد، فساروا إلى مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريف بالعقبة.
فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه مستخفين يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة، وهم سبعون رجلاً، معهم امرأتان: نسيبة بنت كعب أم عمارة وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس ابن عبد المطلب، وهو كافر أحب أن يتوثق لابن أخيه، فكان العباس أول من تكلم فقال: يا معشر الخزرج، وكانت العرب تسمى الخزرج والأوس به، إن محمداً منا حيث قد علمتم في عز ومنعة، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة.
فقال الأنصار: قد سمعنا ما قلت، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت.
فتكلم وتلا القرآن ورغب في الإسلام ثم قال: تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
ثم أخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب.
فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً، وإنا قاطعوها، يعني اليهود، فهل عسيت إن أ؟هرك الله عز وجل أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنتم مني وأنا منكم، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم. وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أخرجوا إلى اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم، فأخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس.
وقال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري: يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبةً وأشرافكم قتلاً أسلمتموه، فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة.
قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله ؟ قال: الجنة. قالوا: ابسط يدك، فبايعوه.
وما قال العباس بن عبادة ذلك إلا ليشد العقد له عليهم. وقيل: بل قاله ليؤخر الأمر ليحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم.
فكان أول من بايعه أبو أمامة أسعد بن زرارة، وقيل: أبو الهيم بن التيهان، وقي: البراء بن معرور. ثم بايع القوم فبايعوا، فلما بايعوه صرخ الشيطان من رأس العقبة: يا أهل الجباجب، هل لكم في مذممٍ والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أما والله لأفرغن لك أي عدو الله ! ثم قال: ارفضوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة: والذي بعثك بالحق نبياً لئن شئت لنميلن غداً على أهل منىً بأسيافنا. فقال: لم نؤمر بذلك، فرجعوا.
فلما أصبحوا جاءهم جلة قريش فقالوا: قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا، وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم. فحلف من هناك من مشركي الأنصار ما كان من هذا شيء.

فلما سار الأنصار من مكة قال البراء بن معرور: يا معشر الخزرج ! قد رأيت أن لا أستدبر الكعبة في صلاتي. فقالوا له: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستقبل الشام، فنحن لا نخالفه، فكان يصلي إلى الكعبة، فلما قدم مكة سأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن ذلك فقال: لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها. فرجع إلى قبلة رسول الله. فلما بايعوه ورجعوا إلى المدينة، كان قدومهم في ذي الحجة، فأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر، وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول، وقدمها لاثنتي عشرة ليلة خلت منه.
وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار اشتدوا على من بمكة من المسلمين وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جهدٌ شديد، وهي الفتنة الآخرة؛ وأما الأولى فكانت قبل هجرة الحبشة.
وكانت البيعة في هذه العقبة على غير الشروط في العقبة الأولى، فإن الأولى كانت على بيعة النساء، وهذه البيعة كانت على حرب الأحمر والأسود.
ثم أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أصحابه بالهجرة إلى المدينة، فكان أول من قدمها أبو سلمة بن عبد الأسد، وكانت هجرته قبل البيعة بسنة، ثم هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي مع امرأته ليلى ابنة أبي حثمة، ثم عبد الله بن جحش ومعه أخوه أبو أحمد وجميع أهله، فأغلقت دارهم وتتابع الصحابة، ثم هاجر عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة فنزلا في بني عمرو بن عوف، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة بالمدينة، وكان أخاهما لأمهما، فقالا له: إن أمك قد نذرت أنها لا تستظل ولا تمتشط. فرق لها وعاد وتتابع الصحابة بالهجرة إلى أن هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلملما تتابع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالهجرة أقام هو بمكة ينتظر ما يؤمر به من ذلك، وتخلف معه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق. فلما رأت قريش ذلك حذروا خروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فاجتمعوا في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب، وتشاوروا فيها، فدخل معهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا من أهل نجد سمعت بخبركم فحضرت وعسى أن لا تعدموا مني رأياً.
وكانوا عتبة وشيبة وأبا سفيان وطعيمة بن عدي وحبيب بن مطعم والحارث بن عامر والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام وربيعة بن الأسود وحكيم بن حزام وأبا جهل ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج وأمية بن خلف وغيرهم.
فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما كان، وما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه، فأجمعوا فيه رأياً، فقال بعضهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب الشعراء قبله. فقال النجدي: ما هذا لكم برأي، لو حبستموه يخرج أمره من وراء الباب إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم. فقال آخر: نخرجه وننفيه من بلدنا ولا نبالي أين وقع إذا غاب عنا. فقال النجدي: ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه ؟ لو فعلتم ذلك لحل على حي من أحياء العرب فيغلب عليهم بحلاوة منطقه ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم ويأخذ أمركم من أيديكم. فقال أبو جهل: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً نسيباً ونعطي كل فتى منهم سيفاً ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه، فإذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل كلها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعاً ورضوا منا بالعقل. فقال النجدي: القول ما قال الرجل، هذا الرأي الذي لا رأي غيره؛ فتفرقوا على ذلك.

فأتى جبرائيل النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تبت الليلة على فراشك. فلما كان العتمة اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رآهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعلي بن أبي طالب: نم على فراشي واتشح ببردي الأخضرى، فنم فيه فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وأمره أن يؤدي ما عنده من وديعة وأمانة وغير ذلك. وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذ حفنةً من تراب فجعله على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من (يس وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ)، إلى قوله: (فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) يس: 1 - 9. ثم انصرف لم يروه، فأتاهم آتٍ فقال: ما تنتظرون ؟ قالوا: محمداً. قال: خيبكم الله، خرج عليكم ولم يترك أحداً منكم إلا جعل على رأسه التراب وانطلق لحاجته ! فوضعوا أيديهم على رؤوسهم فرأوا التراب وجعلوا ينظرون فيرون علياً نائماً وعليه برد النبي، صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إن محمداً لنائمٌ، فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا. فقام علي عن الفراش، فعرفوه، وأنزل الله في ذلك: (وَإذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ) الآية الأنفال: 30.
وسأل أولئك الرهط علياً عن النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أدرين أمرتموه بالخروج فخرج. فضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعةً ثم تركوه، ونجى الله رسوله من مكرهم وأمره بالهجرة، وقام علي يؤدي أمانة النبي، صلى الله عليه وسلم، ويفعل ما أمره.
وقالت عائشة: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لا يخطئه أحد طرفي النهار أن يأتي بيت أبي بكر إما بكرةً أو عشيةً، حتى كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله بالهجرة فأتانا بالهاجرة، فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل جلس على السرير وقال: أخرج من عندك. قال: يا رسول الله إنما هما ابنتاي، وما ذاك ؟ قال: إن الله قد أذن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله ! قال: الصحبة، فبكى أبو بكر من الفرح، فاستأجر عبد الله بن أرقد، من بني الديل بن بكر، وكان مشركاً، يدلهما على الطريق، ولم يعلم بخروج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غير أبي بكر وعلي وآل أبي بكر، فأما علي فأمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يتخلف عنه حتى يؤدي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الودائع التي كانت عنده ثم يلحقه.
وخرجا من خوخة في بيت أبي بكر في ظهر بيته، ثم عمدا إلى غار بثور فدخلاه، وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يستمع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلاً، وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يأتيهما بها ليلاً، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بطعامهما مساء، فأقاما في الغار ثلاثاً.
وجعلت قريش مائة ناقةٍ لمن رده عليهم.
وكان عبد الله بن أبي بكر إذا غدا من عندهما اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفي. فلما مضت الثلاث وسكن الناس أتاهما دليلهما ببعيريهما، فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحدهما بالثمن فركبه، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاماً فحلت نطاقها فجعلته عصاماً وعلقت السفرة به، وكان يقال لأسماء ذات النطاقين لذلك.
ثم ركبا وسارا، وأردف أبو بكر مولاه عامر بن فهيرة يخدمهما في الطريق، فساروا ليلتهم ومن الغد إلى الظهر، ورأوا صخرة طويلة، فسوا أبو بكر عندها مكاناً ليقيل فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وليستظل بظلها، فنام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحرسه أبو بكر حتى رحلوا بعدما زالت الشمس.

وكانت قريش قد جعلت لمن يأتي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، ديةً، فتبعهم سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي فلحقهم وهم في أرض صلبة، فقال أبو بكر: يا رسول الله أدركنا الطلب ! فقال: (ولاَ تَحْزَنْ إنَّ اللهَ مَعَنَا) التوبة: 40، ودعا عليه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فارتطمت فرسه إلى بطنها وثار من تحتها مثل الدخان. فقال: ادع لي يا محمد ليخلصني الله ولك علي أن أرد عنك الطلب، فدعا له فتخلص، فعادي تبعهم، فدعا عليه الثانية فساخت قوائم فرسه في الأرض أشد من الأولى، فقال: يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك علي، فادع لي ولك عهد الله أن أرد عنك الطلب. فدعا له فخلص وقرب من النبي، صلى الله عليه وسلم، وقال له: يا رسول الله خذ سهماً من كنانتي وإن إبلي بمكان كذا فخذ منها ما أحببت. فقال: لا حاجة لي في إبلك.
فلما أراد أن يعود عنه قال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كيف بك يا سراقة إذا سورت بسواري كسرى ؟ قال: كسرى بن هرمز ؟ قال: نعم. فعاد سراقة فكان لا يلقاه أحد يريد الطلب إلا قال: كفيتم ما ها هنا، ولا يلقى أحداً إلا رده.
قالت أسماء بنت أبي بكر: لما هاجر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتانا نفرٌ من قريش فيه أبو جهلٍ فوقفوا على باب أبي بكر فقالوا: أين أبوك ؟ قلت: لا أدري، فرفع أبو جهل يده فلطم خدي لطمةً طرح قرطي، وكان فاحشاً خبيثاً. ومكثنا ملياً لا ندري أين توجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى أتى رجل من الجن من أسفل مكة والناس يتبعونه يسمعون صوته ولا يرون شخصه وهو يقول:
جزى الله ربّ الناس خير جزائه ... رفيقين حلاّ خيمتي أمّ معبد
هما نزلا بالهدي واغتديا به ... فأفلح من أمسى رفيق محمّد
ليهنئ بني كعبٍ مكان فتاتهم ... ومقعدها للمؤمنين بمرصد
قالت: فلما سمعنا قوله عرفنا أن وجهه كان إلى المدينة.
وقدم بهما دليلهما قباء فنزل على بني عمرو بن عوف لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول يوم الاثنين حين كادت الشمس تعتدل، فنزل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على كلثوم بن الهدم، أخي بني عمرو بن عوف، وقيل: نزل على سعد بن خيثمة، وكان عزباً، وكان ينزل عنده العزاب من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان يقال لبيته بيت العزاب، والله أعلم.
ونزل أبو بكر على خبيب بن إساف بالسنح، وقيل: نزل على خارجة بن زيد أخي بني الحارث بن الخزرج.
وأما علي فإنه لما فرغ من الذي أمره به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، هاجر إلى المدينة، فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى قدم المدينة وقد تفطرت قدماه، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي علياً. قيل: لا يقدر أن يمشي. فأتاه النبي، صلى الله عليه وسلم، واعتنقه وبكى رحمةً لما بقدميه من الورم وتفل في يديه وأمرهما على قدميه، لم يشتكهما بعد حتى قتل. ونزل بالمدينة على امرأة لا زوج لها، فرأى إنساناً يأتيها كل ليلة ويعطيها شيئاً، فاستراب بها، فسألها عنه فقالت: هو سهل بن حنيف، قد علم أني امرأة لا زوج لي فهو يكسر أصنام قومه ويحملها إلي ويقول: احتطبي بهذه. فكان علي يذكر ذلك عن سهل بن حنيف بعد موته.
وأقام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة، وقيل: أقام عندهم أكثر من ذلك. والله أعلم. وأدركت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها في المسجد الذي ببطن الوادي، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة.
قال ابن عباس: ولد النبي، صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين، واستنبئ يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين، وهاجر يوم الاثنين، وقبض يوم الاثنين.
واختلف العلماء في مقامه بمكة بعد أن أوحي إليه، فقال أنس وابن عباس، رضي الله عنهما، من رواية أبي سلمة عنه وعائشة: إنه أقام بمكة عشر سنين، ومثلهم قال من التابعين ابن المسيب والحسن وعمرو بن دينار، وقيل: أقام ثلاث عشرة سنة؛ قاله ابن عباس من رواية أبي جمرة وعكرمة أيضاً عنه، ولعل الذي قال أقام عشر سنين أراد بعد إظهار الدعوة، فإنه بقي سنين يسيرة، ومما يقوي هذا القول قول صرمة بن أنس الأنصاري، شعر:
ثوى في قريشٍ بضع عشرة حجّةً ... يذكّر لو يلقى صديقاً مواتيا

فهذا يدل على مقامه ثلاث عشرة سنة لأنه قد زاد على عشر سنين، فلو كان خمس عشرة لصح الوزن، وكذلك ست عشرة وسبع عشرة، وحيث لم يستقم الوزن بأن يقول ثلاث عشرة قال بضع عشرة، ولم ينقل في مقام زيادة على عشر سنين إلا ثلاث عشرة وخمس عشرة.
وقد روي عن قتادة قول غريب جداً، وذلك أنه قال: نزل القرآن على النبي: صلى الله عليه وسلم، بمكة ثماني سنين، ولم يوافقه غيره.
ذكر ما كان من الأمور

أول سنة من الهجرة
فمن ذلك تجميعه صلى الله عليه وسلم، بأصحابه الجمعة في اليوم الذي نزل فيه من قباء في بني سالم في بطن وادٍ لهم، وهي أول جمعة جمعها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الإسلام وخطبهم، وهي أول خطبة.
وكان رحل من قباء يريد المدينة فركب ناقته وأرخى زمامها، فكان لا يمر بدار من دور الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله إلى العدد والعدة والمنعة. فيقول: خلوا سبيلها فإنها مأمورة، حتى انتهى إلى موضع مسجده اليوم، فبركت على باب مسجده، وهو يومئذ مربد لغلامين يتيمين في حجر معاذ بن عفراء، وهما سهل وسهل ابنا عمرو من بني النجار، فلما بركت لم ينزل عنها، ثم وثبت فسارت غير بعيد ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، واضع لها زمامها لا يثنيها به، فالتفتت خلفها ثم رجعت إلى مبركها أول مرة فبركت فيه ووضعت جرانها، فنزل عنها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واحتمل أبو أيوب الأنصار رحله، وسأل رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن المربد فقال معاذ بن عفراء: هو ليتيمين لي وسأرضيهما من ثمنه، فأمر به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يبنى مسجداً، وأقام عند أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه.
وقيل: إن موضع المسجد كان لبني النجار فيه نخل وحرث وقبور المشركين، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ثامنوني به. فقالوا: لا يبغى به إلا ما عند الله. فأمر به فبنى مسجده، وكان قبله يصلي حيث أدركته الصلاة، وبناه هو والمهاجرون والأنصار، وهو الصحيح.
وفيها بني مسجد قباء.
وفيها أيضاً توفى كلثوم بن الهدم. وتوفي بعده أسعد بن زرارة، وكان نقيب بني النجار، فاجتمع بنو النجار، وطلبوا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يقيم لهم نقيباً، فقال لهم: أنتم إخواني وأنا نقيبكم، فكان فضيلة لهم. وفيها مات أبو أحيحة بالطائف، والوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل السهمي بمكة مشركين.
وفيها بني النبي، صلى الله عليه وسلم، بعائشة بعد مقدمة المدينة بثمانية أشهر، وقيل بسبعة أشهر في ذي القعدة، وقيل في شوال، وكان تزوجها بمكة قبل الهجرة بثلاث سنين بعد وفاة خديجة وهي ابنة ست سنين، وقيل ابنة سبع سنين.
وفيها هاجرت سودة بنت زمعة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبناته ما عدا زينب، وهاجر أيضاً عيال أبي بكر ومعهم ابنه عبد الله وطلحة بن عبيد الله. وفيها زيد في صلاة العصر ركعتان بعد مقدمة المدينة بشهر. وفيها ولد عبد الله بن الزبير، وقيل في السنة الثانية في شوال، وكان أول مولود للمهاجرين بالمدينة، وكان النعمان بن بشير أول مولود للأنصار بعد الهجرة، وقيل: إن المختار بن أبي عبيد وزياد ابن أبيه ولدا فيها.
وفيها على رأس سبعة أشهر عقد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمه حمزة لواء أبيض في ثلاثين رجلاً من المهاجرين ليعرضوا عير قريش، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة رجل فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني، وكان يحمل اللواء أبو مرثد، وهو أول لواء عقده. وفيها أيضاً عقد لواء لعبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان أبيض يحمله مسطح بن أثاثة، فالتقى هو والمشركون، فكان بينهم الرمي دون المسايفة، وكان سعد بن أبي وقاص أول من رمى بسهم في سبيل الله، وكان المقداد بن عمرو وعتبة بن غزوان مسلمين وهما بمكة، فخرجا مع المشركين يتوصلان بذلك، فلما لقيهم المسلمون انحازا إليهم. وقال بعضهم: كان لواء أبي عبيدة أول لواء عقده، وإنما اشتبه ذلك لقرب بعضها ببعض، وكان على المشركين أبو سفيان بن حرب، وقيل مكرز بن حفص بن الأخيف، وقيل عكرمة بن أبي جهل.
والأخيف، بالخاء المعجمة والياء المثناة من تحتها.
وفيها عقد لواء لسعد بن أبي وقاص وسيره إلى الأبواء، وكان يحمل اللواء المقداد بن الأسود، وكان مسيره في ذي القعدة وجميع من معه من المهاجرين فلم يلق حرباً.

جعل الواقدي هذه السرايا جميعها في السنة الأولى من الهجرة، وجعلها ابن إسحاق في السنة الثانية، فقال: على رأس اثني عشر شهراً من مقدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة خرج غازياً واستخلف على المدينة سعد بن عبادة فبلغ ودان يريد قريشاً وبني ضمرة من كنانة، وهي غزاة الأبواء، بينهما ستة أميال، فوادعته فيها بنو ضمرة، ورئيسهم مخشي بن عمرو، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيداً، وذكر ابن إسحاق بعد هذه الغزوة غزوة عبيدة بن الحارث، ثم غزوة حمزة بن عبد المطلب.
وفيها كان غزاة بواط، خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم في مائتين من أصحابه في شهر ربيع الآخر، يعني سنة اثنتين، يريد قريشاً حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، وكان في عير قريش أمية بن خلف الجمحي في مائة رجل ومعهم ألفان وخمسمائة بعير، فرجع ولم يلق كيداً، وكان يحمل لواء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سعد بن أبي وقاص، واستخلف على المدينة سعد بن معاذ.
بواط بفتح الباء الموحدة وبالطاء المهملة.
وفيها غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غزوة العشيرة من ينبع في جمادي الأولى يريد قريشاً حين ساروا إلى الشام، فلما وصل العشيرة وادع بني مدلج وحلفاءهم من مضرة ورجع ولم يلق كيداً، واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد، وكان يحمل لواءه حمزة، وفي هذه الغزوة كنى النبي صلى الله عليه وسلم علياً أبا تراب في قول بعضهم. وفيها أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة، فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ وادياً يقال له سفوان من ناحية بدر، وفاته كرز، وكان لواؤه مع علي، واستخلف على المدينة زيد بن حارثة. وفيها بعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، سعد بن أبي وقاص في سرية ثمانية رهط فرجع ولم يلق كيداً. وفيها جاء أبو قيس بن الأسلت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فعرض عليه الإسلام، فقال: ما أحسن ما تدعو إليه ! سأنظر في أمري ثم أعود. فلقيه عبد الله بن أبي المنافق فقال: كرهت قتال الخزرج. فقال أبو قيس: لا أسلم إلى سنة، فمات في ذي القعدة. ثم دخلت السنة الثانية من الهجرة في هذه السنة غزا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قول بعض أهل السير، غزوة الأبواء، ويقال ودان، وبينهما ستة أميال، واستخلف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على المدينة سعد بن عبادة، وكان لواؤه أبيض مع حمزة بن عبد المطلب، وقد تقدم ذكرها.
وفيها زوج علي بن أبي طالب فاطمة في صفر.
ذكر سرية عبد الله بن جحشأمر رسول الله أبا عبيدة بن الجراح أن يتجهز للغزو، فتجهز، فلما أراد المسير بكى صبابة إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبعث مكانه عبد الله بن جحش في جمادى الآخرة معه ثمانية رهط من المهاجرين، وقيل اثنا عشر رجلاً وكتب له كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره به ولا يكره أحداً من أصحابه، ففعل ذلك، ثم قرأ الكتاب وفيه يأمره بنزول نخلة بين مكة والطائف فيرصد قريشاً ويعلم أخبارهم، فأعلم أصحابه، فساروا معه، وأضل سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيراً لهما يعتقبانه فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ونزل بنخلة، فمرت عير لقريش تحمل زبيباً وغيره فيها عمرو بن الحضرمي وعثمان بن عبد الله بن المغيرة وأخوه نوفل والحكم بن كيسان، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد حلق رأسه. فلما رأوه قالوا: عمارٌ لا بأس عليكم منهم، وذلك آخر يوم من رجب، فرمى واقد بن عبد الله التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسر عثمان والحكم، وهرب نوفل، وغنم المسلمون ما معهم، فقال عبد الله بن جحش: إن لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، خمس ما غنمتم، وذلك قبل أن يفرض الخمس، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون وأول خمس في الإسلام.

وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسرى إلى المدينة. فلما قدموا قال لهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فوقف العير والأسيرين، فسقط في أيديهم، وعنفهم المسلمون، وقال قريش: قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام. وقالت اليهود تفأأل بذلك على رسول الله، صلى الله عليه وسلم: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله: عمرو عمرت الحرب، والحضرمي حضرت الحرب، وواقد وقدت الحرب. فأنزل الله: (يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ) الآية البقرة: 217. فلما نزل القرآن وفرج الله عن المسلمين قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العير، وكانت أول غنيمة أصابوها، وفدى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأسيرين. فأما الحكم فأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلم وحسن اسلامه حتى قتل يوم بئر معونة.
وقيل: كان قتلهم عمرو بن الحضرمي وأخذ العير آخر يوم من جمادى وأول ليلة من رجب.
وفيها صرفت القبلة من الشام إلى الكعبة، وكان أول ما فرضت القبلة إلى بيت المقدس والنبي، صلى الله عليه وسلم، بمكة، وكان يحب استقبال الكعبة، وكان يصلي ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. فلما هاجر إلى المدينة لم يمكنه ذلك، وكان يؤثر أن يصرف إلى الكعبة، فأمره الله أن يستقبل الكعبة يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من قدومه المدينة، وقيل: على رأس ستة عشر شهراً في صلاة الظهر.
وفيها أيضاً في شعبان فرض صوم شهر رمضان، وكان لما قدم المدينة رأى اليهود تصوم عاشوراء فصامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان لم يأمرهم بصوم عاشوراء ولم ينههم.
وفيها أمر الناس بإخراج زكاة الفطر قبل الفطر بيوم أو يومين. وفيها خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى المصلى فصلى بهم صلاة العيد، وكان ذلك أول خرجة خرجها، وحملت بين يديه العنزة، وكانت للزبير وهبها له النجاشي، وهي اليوم للمؤذنين في المدينة.
ذكر غزوة بدر الكبرىوفي السنة الثانية كانت وقعة بدر الكبرى في شهر رمضان في السابع عشر، وقيل التاسع عشر، وكانت يوم الجمعة.
وكان سببها قتل عمرو بن الحضرمي وإقبال أبي سفيان بن حرب في عير لقريش عظيمة من الشام وفيها أموال كثيرة ومعها ثلاثون رجلاً أو أربعون، وقيل: قريباً من سبعين رجلاً من قريش، منهم: مخرمة بن نوفل الزهري، وعمرو بن العاص، فلما سمع بهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها. فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعضهم، وذلك لأنهم لم يظنوا أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يلقى حرباً.
وكان أبو سفيان قد سمع أن النبي، صلى الله عليه وسلم، يريده، فحذر واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة يستنفر قريشاً ويخبرهم الخبر، فخرج ضمضم إلى مكة.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليالٍ رؤيا أفزعتها فقصتها على أخيها العباس واستكتمته خبرها، قالت: رأيت راكباً على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ! قالت: فأرى الناس قد اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد، فمثل بعيره على الكعبة، ثم صرخ مثلها، ثم مثل بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها، ثم أخذ صخرة عظيمة وأرسلها، فلما كانت بأسفل الوادي ارفضت فما بقي بيت من مكة إلا دخله فلقة منها.
فخرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة، وكان صديقه، فذكرها له واستكتمه ذلك، فذكرها الوليد لأبيه عتبة، ففشا الخبر، فلقي أبو جهل العباس فقال له: يا أبا الفضل أقبل إلينا. قال: فلما فرغت من طوافي أقبلت إليه، فقال لي: متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ وذكر رؤيا عاتكة، ثم قال: ما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ! فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن حقاً وإلا كتبنا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب.

قال العباس: فما كان مني إليه إلا أني جحدت ذلك وأنكرته، فلما أمسيت أتاني نساء بني عبد المطلب وقلن لي: أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم وقد تناول نساءكم ولم تنكر عليه ذلك ! قال قلت: والله كان ذلك، ولأتعرضن له، فإن عاد كفيتكموه. قال: فغدوت اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا مغضب أحب أن أدركه فرأيته في المسجد فمشيت نحوه أتعرض له ليعود فأوقع به، فخرج نحو باب المسجد يشتد، قال قلت: ما باله قاتله الله ! أكل هذا فرقاً من أن أشاتمه ! وإذا هو قد سمع ما لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره قد جدعه وحول رحله وشق قميصه وهو يقول: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة ! أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض له محمد وأصحابه، لا أدري إن تدركوها، الغوث الغوث ! فشغلني عنه وشغله عني.
قال: فتجهز الناس سراعاً ولم يتخلف من أشرافهم أحدٌ إلا أبا لهب وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة، وعزم أمية بن خلف الجمحي على القعود، فإنه كان شيخاً ثقيلاً بطيئاً، فأتاه عقبة بن أبي معيط بمجمرة فيها نار وما يتبخر به وقال: يا أبا علي استجمر، فإنما أنت من النساء. فقال: قبحك الله وقبح ما جئت به ! وتجهز وخرج معهم. وعزم عتبة بن ربيعة أيضاً على القعود فقال له أخوه شيبة: إن فارقنا قومنا كان ذلك سبة علينا، فامض مع قومك، فمشى معهم.
فلما أجمعوا على المسير ذكروا ما بينهم وبين بكر بن عبد مناة بن كنانة ابن الحارث فخافوا أن يؤتوا من خلفهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف كنانة، وقال: أنا جار لكم فاخرجوا سراعاً. وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً، وقيل: كانوا ألف رجل، وكانت خيلهم مائة فرس، فنجا منها سبعون فرساً وغنم المسلمون ثلاثين فرساً، وكان مع المشركين سبعمائة بعير.
وكان مسير رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لثلاث ليال خلون من شهر رمضان في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، وقيل أربعة عشر، وقيل بضعة عشر رجلاً، وقيل ثمانية عشر، وقيل كانوا سبعة وسبعين من المهاجرين، وقيل ثلاثة وثمانون والباقون من الأنصار، فقيل: جميع من ضرب له رسول الله، صلى الله عليه وسلم بسهم من المهاجرين ثلاثة وثمانون رجلاً، ومن الأوس أحد وسبعون رجلاً، ومن الخزرج مائة وسبعون رجلاً، ولم يكن فيهم غير فارسين، أحدهما المقداد بن عمرو الكندي، ولا خلاف فيه، والثاني قيل كان الزبير بن العوام، وقيل كان مرثد بن أبي مرثد، وقيل المقداد وحده، وكانت الإبل سبعين بعيراً، فكانوا يتعاقبون عليها البعير بين الرجلين والثلاثة والأربعة، فكان بين النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلي وزيرد بن حارثة بعير، وبين أبي بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف بعير، وعلى مثل هذا. وكان فرس المقداد اسمه سبحة، وفرس الزبير اسمه السيل، وكان لواؤه مع مصعب بن عمير بن عبد الدار، ورأيته مع علي بن أبي طالب، وعلى الساقة قيس بن أبي صعصعة الأنصاري.
فلما كان قريباً من الصفراء بعث بسبس بن عمرو وعدي بن بي الزغباء الجهنيين يتجسسان الأخبار عن أبي سفيان، ثم ارتحل رسول الله، صلى الله عيه وسلم، وترك الصفراء يساراً، وعاد إليه بسبس بن عمرو ويخبره أن العير قد قاربت بدراً، ولم يكن عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمين علم بمسير قريش لمنع عيرهم، وكان قد بعث علياً والزبير وسعداً يلتمسون له الخبر ببدر، فأصابوا راوية لقريش فيهم أسلم غلام بني الجحجاح وأبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو قائم يصلي، فسألوهما، فقالا: نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم من الماء، فكره القوم خبرهما وضربوهما ليخبروهما عن أبي سفيان. فقالا: نحن لأبي سفيان، فتركوهما. وفرغ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الصلاة وقال: إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما، صدقا، إنهما لقريش، أخبراني أين قريش ؟ قالا: هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كم القوم ؟ قالا: كثير. قال: كم عدتهم ؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرفون ؟ قالا: يوماً تسعاً ويوماً عشراً. قال: القوم بين تسعمائة إلى الألف.

ثم قال لهما: فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا: عتبة وشيبة ابنا ربيعة، والوليد وأبو البختري بن هشام، وحكيم بن حزام، والحارث بن عامر، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود، وأبو جهل، وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود.
فأقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أصحابه وقال: هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها. ثم استشار أصحابه، فقال أبو بكر فأحسن، ثم قال عمر فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك، والله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنّا هَهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة: 24؛ ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد، يعني مدينة الحبشة، لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه.
فدعا لهم بخير ثم قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أشيروا علي أيها الناس؛ وإنما يريد الأنصار لأنهم كانوا عدد الناس، وخاف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة وليس عيهم أن يسير بهم. فقال له سعد بن معاذ: لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وأعطيناك عهودنا، فامض يا رسول الله لما أمرت، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لنخوضنه معك وما نكره أن تكون تلقى العدو بنا غداً، إنا لصبرٌ عند الحرب، صدقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله ! فسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقال: أبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. ثم انحط على بدر فنزل قريباً منها.
وكان أبو سفيان قد ساحل وترك بدراً يساراً ثم أسرع فنجا، فلما رأى أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش، وهم بالجحفة: إن الله قد نجى عيركم وأموالكم فارجعوا. فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدراً، وكان بدر موسماً من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيم بها ثلاثاً فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. فقال الأخنس بن شريق الثقفي، وكان حليفاً لبني زهرة وهم بالجحفة: يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم وصاحبكم فارجعوا. فرجعوا، فلم يشهدها زهري ولا عدوي، وشهدها سائر بطون قريش.
ولما كانت قريش بالجحفة رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال: إني رأيت فيما يرى النائم رجلاً أقبل على فرس ومعه بعير له فقال: قتل عتبة وشيبة وأبو جهل وغيرهم ممن قتل يومئذ، ورأيته ضرب لبة بعيرة ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء إلا أصابه من دمه. فقال أبو جهل: وهذا أيضاً نبي من بني المطلب، سيعلم غداً من المقتول. وكان بين طالب بن أبي طالب، وهو في القوم، وبين بعض قريش محاورةٌ، فقالوا: والله قد عرفنا أن هواكم مع محمد. فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع، وقيل: إنما كان خرج كرهاً، فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولا فيمن رجع إلى مكة، وهو الذي يقول:
يا ربّ إمّا يغزونّ طالب ... في مقنب من هذه المقانب
فيكن المسلوب غير السّالب ... وليكن المغلوب غير الغالب
ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي، وبعث الله السماء، وكان الوادي دهساً، فأصاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه منه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم المسير، وأصاب قريشاً منه ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه. فخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزله، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: يا رسول الله ؟! أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أو نتأخره ؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ قال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: يا رسول الله فإن هذا ليس لك بمنزل، انهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء سواه من القوم فننزله ثم نعور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضاً ونملأه ماء فنشرب ماء ولا يشربون ثم نقاتلهم. ففعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ذلك.

فلما نزل جاءه سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله نبني لك عريشاً من جريد فتكون فيه ونترك عندك ركائبك ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا الله عليهم كان ذلك مما أحببناه، وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بما وراءنا من قومنا، فقد تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو ظنوا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم، يناصحونك ويحاربون معك. فأثنى عليه خيراً، ثم بني لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، عريشٌ، وأقبلت قريش بخيلائها وفخرها، فلما رآها قال: اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ! اللهم فنصرك الذي وعدتني ! اللهم أحنهم الغداة. ورأى عتبة بن ربيعة على جمل أحمر فقال: إن يكن عند أحد من القوم خيرٌ فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا.
وكان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه إيماء بعث إلى قريش حين مروا به ابناً له بجزائر أهداها لهم وعرض عليهم المدد بالرجال والسلاح، فقالت قريش: إن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف، وإن كنا نقاتل الله كما زعم محمد فما لأحد بالله طاقة. فلما نزلت قريش أقبل جماعةٌ، منهم حكيم بن حزام، حتى وردوا حوض النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: اتركوهم، فما شرب منه رجل إلا قتل يومئذٍ إلا حكيم نجا على فرس له يقال له الوجيه وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه، وكان يقول إذا إجتهد في يمينه: لا والذي نجاني يوم بدر.
ولما اطمأنت قريش بعثوا عمرو بن وهب الجمحي ليحزر المسلمين، فجال بفرسه حولهم ثم عاد فقال: هم ثلاثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون، ولقد رأيت الولايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، ليس لهم منعة إلا سيوفهم، والله لا يقتل رجل منهم إلا يقتل رجلاً منكم، فإذا أصابوا أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم.
فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في القوم فأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، هل لك أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال: وما ذاك ؟ قال: ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي. قال: قد فعلت، علي دمه وما أصيب من ماله، فأت ابن الحنظلية، يعني أبا جهل، فلا أخشى أن يفسد أمر الناس غيره. فقام عتبة في الناس فقال: إنكم ما تصنون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً، والله لئن أصبتموهم لا يزال رجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلاً من عشيرته. قال حكيم بن حزام: فانطلقت إلى أبي جهل فوجدته قد نثل درعاً وهو يهيئها، فأعلمته ما قال عتبة، فقال: انتفخ والله سحره حين رأى محمداً وأصحابه، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال ولكن رأى ابنه أبا حذيفة فيهم وقد خافكم عليه.
ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له: هذا حليفك يريد أن يرجع إلى مكة بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك فانشد خفرتك ومقتل أخيك. فقام عامر وصرخ: واعمراه واعمراه ! فحميت الحرب واستوسق الناس على الشر.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل: انتفخ سحره، قال: سيعلم المصفر استه من انتفخ سحره أنا أم هو! ثم التمس بيضة يدخلها رأسه فما وجد من عظم هامته، فاعتجر ببرد له.
وخرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان سيئ الخلق، فقال: أعاهد الله لأشربن من حوضهم ولأهدمنه أو لأموتن دونه. فخرج إليه حمزة فضربه فأطن قدمه بنصف ساقه فوقع على الأرض، ثم حبا إلى الحوض فاقتحم فيه ليبر يمينه، وتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.

ثم خرج عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة ودعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم عوف ومعوذ ابنا عفراء وعبد الله بن رواحة كلهم من الأنصار فقالوا: من أنتم ؟ قالوا: من الأنصار. فقالوا: أكفاء كرام، وما لنا بكم من حاجة، ليخرج إلينا أكفاؤنا من قومنا. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: قم يا حمزة، قم يا عبيدة بن الحارث، قم يا علي، فقاموا ودنا بعضهم من بعض، فبارز عبيدة بن الحارث بن المطلب، وكان أمير القوم، عتبة، وبارز حمزة شيبة، وبارز علي الوليد، فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله، واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما قد أثبت صاحبه، وكر حمزة وعي على عتبة فقتلاه واحتملا عبيدة إلى أصحابه، وقد قطعت رجله، فلما أتوا به النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: ألست شهيداً يا رسول الله ؟ قال: بلى. قال: لو رآني أبو طالب لعلم أننا أحق منه بقوله:
ونسلمه حتى نصرّع حوله ... ونذهل عن أبنائنا والحلائل
ثم مات، وتزاحف القوم ودنا بعضهم من بعض، وأبو جهل يقول: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لم نعرف فأحنه الغداة، فكان هو المستفتح على نفسه.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أمر أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم، وقال: إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل. ونزل في الريش ومعه أبو بكر وهو يدعو ويقول: اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني. ولم يزل حتى سقط رداؤه، فوضعه عليه أبو بكر ثم قال له: كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. وأغفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في العريش إفاءة، وانتبه ثم قال: يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبرائيل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع، وأنزل الله: (إذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) الآية الأنفال: 9.
وخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: (سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) القمر: 45، وحرض المسلمين وقال: والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة. فقال عمير بن الحمام الأنصاري وبيده تمرات يأكلهن: بخ بخ ! ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ! ثم ألقى التمرات من يده وقاتل حتى قتل. ورمي مهجعٌ مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل، فكان أول قتيل. ثم رمي حارثة بن سراقة الأنصاري فقتل، وقاتل عوف بن عفراء حتى قتل، واقتتل الناس قتالاً شديداً. فأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حفنة من التراب ورمى بها قريشاً وقال: شاهت الوجوه. وقال لأصحابه: شدوا عليهم. فكانت الهزيمة، فقتل الله من قتل من المشركين وأسر من أسر منهم.
ولما كان رسول الله، صلى الله عيه وسلم، في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش متوشحاً بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخافون عليه كرة العدو، فرأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس من الأسر، فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لكأنك تكره ذلك يا سعد ؟ قال: أجل يا رسول الله، أول وقعة أوقعها الله بالمشركين كان الإثخان أحب إلي من استبقاء الرجال.
وكان أول من لقي أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح وقريش محيطة به يقولون لا يخلص إلى أبي الحكم، قال معاذ: فجعلته من شأني، فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه، وضربني ابنه عكرمة فطرح يدي من عاتقي، فتعلقت بجلدة من جثتي، فقاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني جعلت عليها رجلي ثم تمطيت حتى طرحتها.
وعاش معاذ إلى زمان عثمان، رضي الله عنه.

ثم مر بأبي جهل معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وتركه وبه رمق، ثم مر به ابن مسعود، وقد أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يلتمس في القتلى، فوجده بآخر رمق، قال: فوضعت رجلي على عنقه ثم قلت: هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال: وبماذا أخزاني ؟ أعمد من رجل قتلتموه، أخبرني لمن الدائرة ؟ قلت: لله ولرسوله. فقال له أبو جهل: لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقىً صعباً ! قال: فقلت: إني قاتلك. قال: ما أنت بأول عبد قتل سيده، أما إن أشد شيء لقيته اليوم قتلك إياي وإلا قتلني رجل من المطيبين الأحلاف. فضربه عبد الله فوقع رأسه بين رجليه، فحمله إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسجد شكراً لله.
وكان عبد الرحمن بن عوف قد غنم أدراعاً، فمر بأمية بن خلف وابنه علي، فقالا له: نحن خير لك من هذه الأدراع. فطرح الأدراع وأخذ بيده وبيد ابنه ومشى بهما، فقال له أمية: من الرجل المعلم بريشة نعامة في صدره ؟ قال: حمزة بن عبد المطلب. قال أمية: هو الذي فعل بنا الأفاعيل.
ورأى بلال أمية وكان يعذبه بمكة فيخرج به إلى رمضاء مكة فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ويقول: لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد، فلما رآه بلال قال: أمية ؟! رأس الكفر ! لا نجوت إن نجا ! ثم صرخ: يا أنصار الله رأس الكفر رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا ! فأحاط بهم المسلمون، وقتل أمية وابنه علي، وكان عبد الرحمن يقول: رحم الله بلالاً، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري. وقتل حنظلة بن أبي سفيان بن حرب، قتله علي بن أبي طالب.
ولما انهزم المشركون أمر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن لا يقتل أبو البختري بن هشام لأنه كان أكف القوم عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو بمكة، وكان ممن اهتم في نقض الصحيفة، فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار ومعه زميل له، فقال له: إن رسول الله قد نهى عن قتلك. فقال: وزميلي ؟ فقال المجذر: لا والله. قال: إذاً والله لأموتن أنا وهو لا تتحدث نساء قريش أني تركت زميلي حرصاً على الحياة. فقتله، ثم أخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخبره.
وجيء بالعباء، أسره أبو اليسر، وكان مجموعاً، وكان العباس جسيماً، فقيل لأبي اليسر: كيف أسرته ؟ قال: أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك، بهيئة كذا وكذا، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: لقد أعانك عليه ملكٌ كريم. ولما أمسى العباس مأسوراً بات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ساهراً أول ليله، فقال له أصحابه: يا رسول الله ما لك لا تنام ؟ فقال: سمعت تضور العباس في وثاقه فمنع مني النوم. فقاموا إليه فأطلقوه، فنام رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه يومئذ: قد عرفت رجالاً من بني هاشم وغيرهم أخرجوا كرهاً، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله فإنه أخرج كرهاً. فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة: أنقتل أبناءنا وآباءنا وإخواننا ونترك العباس ؟ والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال لعمر: يا أبا حفص أما تسمع قول أبي حذيفة ؟ أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف ؟ فقال أبو حذيفة: لا أزال خائفاً من تلك الكلمة ولا يكفرها عني إلا الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيداً. وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: قد رأيت جبرائيل وعلى ثناياه النقع.
فقال رجع من بني غفار: أقبلت أنا وابن عم لي فصعدنا جبلاً يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننظر لمن تكون الدائرة فننتهب، فدنت منا سحابةٌ فسمعت فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلاً يقول: أقدم حيزوم، قال: فأما ابن عمي فمات مكانه، وأما أنا فكدت أهلك فتماسكت.
وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه، فعرفت أنه قتله غيري. وقال سهل بن حنيف: كان أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف.

فلما هزم الله المشركين وقتل منهم من قتل وأسر من أسر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تطرح القتلى في القليب، فطرحوا فيه إلا أمية بن خلف فإنه انتفخ فيدرعه فملأها، فذهبوا به ليخرجوه فتقطع، وطرحوا عليه من التراب والحجارة ما غيبه، ولما ألقوا في القليب وقف عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا أهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ! كذبتموني وصدقني الناس ! ثم قال: يا عتبة، يا شيبة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، وعدد من كان في القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال له أصحابه: أتكلم قوماً موتى ؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني. ولما قال، صلى الله عليه وسلم، لأهل القليب ما قال رأى في وجه أبي حيفة بن عتبة الكراهية وقد تغير، فقال: لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء ؟ قال: لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي وفي مصرعه، ولكنه كان له عقل وحلم وفضل فكنت أرجو له الإسلام، فلما رأيت ما مات عليه من الكفر أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بخير.
ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمر فجمع ما في العسكر، فاختلف المسلمون، فقال من جمعه: هو لنا. وقال الذين كانوا يقاتلون العدو: والله لولا نحن ما أصبتموه، نحن شغلنا القوم عنكم حتى أصبتم ما أصبتم. وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو في العريش: والله ما أنتم بأحق به منا، لقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن له من يمنعه ولكن خفنا كرة العدو على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقمنا دونه. فنزع الله الأنفال من أيديهم وجعلها إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فبسمها بين المسلمين على سواء.
وبعث رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عبد الله بن رواحة بشيراً إلى أهل العالية، وزيد بن حارثة بشيراً إلى أهل السافلة من المدينة، فوصل زيد وقد سووا التراب على رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكانت زوجة عثمان بن عفان، خلفه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليها وقسم له.
فلما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لقيه الناس يهنئونه بما فتح الله عليه، فقال سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري: إن لقينا إلا عجائز صلعاً كالبدن المعقلة فنحرناها. فتبسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: يا بن أخي أولئك الملأ من قريش.
وكان في الأسرى النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، فأمر علي بن أبي طالب بقتل النضر فقتله بالصفراء، وأمر عاصم بن ثابت بقتل عقبة بن أبي معيط، فلما أرادوا قتله جزع من القتل وقال: ما لي أسوة بهؤلاء ؟ يعني الأسرى، ثم قال: يا محمد من للصبية ؟ قال: النار، فقتله بعرق الظبية صبراً.
وكان في الأسرى سهيل بن عمرو أسره مالك بن الدخشم الأنصاري، فلما أتي به النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عمر بن الخطاب: دعني أنزع ثنيتيه يا رسول الله فلا يقوم عليك خطيباً أبداً، وكان سهيل أعلم الشفة السفلى، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: دعه يا عمر فسيقوم مقاماً تحمده عليه، فكان مقامه ذلك عند موت النبي، صلى الله عليه وسلم، وسنذكره عند خبر الردة إن شاء الله. ولما قدم به المدينة قالت له سودة بنت زمعة، زوج النبي، صلى الله عليه وسلم: اعطيتم بأيديكم كما تفعل النساء، ألا متم كراماً ! فسمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قولها فقال لها: يا سودة أعلى الله وعلى رسوله ! فقال: يا رسول الله ما ملكت نفسي حين رأيته أن قلت ما قلت.
وقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالأسرى خيراً. وكان أحدهم يؤثر أسيره بطعامه.
فكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك ؟ قال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وعدد أشراف قريش. فقال صفوان بن أمية: والله إن يعقل فاسألوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان ؟ قال: هو ذاك جالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا.

ومات أبو لهب بمكة بعد وصول خبر مقتل قريش بتسعة أيام، وناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيشمت محمد وأصحابه، ولا تبعثوا في فداء أسراكم لا يشتط عليكم محمد. وكان الأسود بن عبد يغوث قد أصيب له ثلاثة من ولده: زمعة وعقيل والحارث، وكان يحب أن يبكي على بنيه، فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة فقال لغلامه، وقد ذهب بصره: انظر هل أحل البكاء لعلي أبكي على زمعة فإن جوفي قد احترق. فرجع إليه وقال له: إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته، فقال:
أتبكي أن يضلّ لها بعيرٌ ... ويمنعها من النّوم السّهود
ولا تبكي على بكرٍ ولكن ... على بدرٍ تقاصرت الجدود
على بدرٍ بني هصيصٍ ... ومخزومٍ ورهط أبي الوليد
وبكّي إن بكيت على عقيلٍ ... وبكّي حارثاً أسد الأسود
وبكّيهم ولا تسمي جميعاً ... فما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدههم أناسٌ ... ولولا يوم بدرٍ لم يسودوا
يعني أبا سفيان.
ثم إن قريشاً أرسلت في فداء الأسرى، فأول من فدي أبو وداعة السهمي، فداه ابنه المطلب، وفدى العباس نفسه وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وحليفه عتبة بن عمرو بن جحدم، أمره رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بذلك فقال: لا مال لي. فقال له رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أين المال الذي وضعته عند أم الفضل وقلت لها إن أصبت فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولعبيد الله كذا ؟ قال: والذي بعثك بالحق ما علم به أحد غيري وغيرها، وإني لأعلم أنك رسول الله ! وفدى نفسه وابني أخويه وحليفه، وكان قد أخذ مع العباس عشرون أوقية من ذهب، فقال: احسبها في فدائي. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا، ذاك شيء أعطاناه الله، عز وجل.
وكان في الأساري عمرو بن أبي سفيان، أسره علي، فقيل لأبيه: أفد عمراً. فقال: لا أجمع علي دمي ومالي، يقتل ابني حنظلة وأفدي عمراً ! فتركه ولم يفكه. ثم إن سعد بن النعمان الأنصاري خرج إلى مكة معتمراً، فأخذه أبو سفيان، وكانت قريش لا تعرض لحاج ولا معتمر. فحبسه أبو سفيان ليفدي به عمراً ابنه، وقال:
أرهط ابن أكّالٍ أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيّد الكهلا
فإنّ بني عمروٍ لئامٌ أذلّةٌ ... لئن لم يفكّوا عن أسيرهم الكبلا
فمشى بنو عمرو بن عوف إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه عمرو بن أبي سفيان ففادوا به سعداً.
وكان في الأساري أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس زوج زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان من أكثر رجال مكة مالاً وأمانة وتجارة، وكانت أمة هالة بنت خويلد أخت خديجة زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألته أن يزوجه زينب، ففعل قبل أن يوحى إليه، فلما أوحي إليه آمنت به زينب، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مغلوباً بمكة لم يقدر أن يفرق بينهما، فلما خرجت قريش إلى بدر خرج معهم فأسر، فلما بعثت قريش في فداء الأسارى بعثت زينب في فداء أبي العاص زوجها بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها معها، فلما رآها رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا. فأطلقوا لها أسيرها وردوا القلادة.
وأخذ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عليه أن يرسل زينب إليه بالمدينة، وسار إلى مكة، وأرسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، زيد بن حارثة مولاه ورجلاً من الأنصار ليصحبا زينب من مكة، فلما قدم أبو العاص أمرها باللحاق بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فتجهزت سراً، وأركبها كنانة بن الربيع، أخو أبي العاص، بعيراً وأخذ قوسه وخرج بها نهاراً. فسمعت بها قريش فخرجوا في طلبها فلحقوها بذي طوىً، وكانت حاملاً فطرحت حملها لما رجعت لخوفها، ونثر كنانة أسهمه ثم قال: والله لا يدنو مني أحد إلا وضعت فيه سهماً !؟ فأتاه أبو سفيان بن حرب وقال: خرجت بها علانيةً فيظن الناس أن ذلك عن ذل وضعف منا، ولعمر ما لنا في حبسها حاجة، فارجع بالمرأة ليتحدث الناس أنا رددناها. ثم أخرجها ليلاً وسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه، فقدما بها على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأقامت عنده.

فلما كان قبيل الفتح خرج أبو العاص تاجراً إلى الشام بأمواله وأموال رجال من قريش، فلما عاد لقيته سرية لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذوا ما معه وهرب منهم، فلما كان الليل أتى المدينة فدخل على زينب، فلما كان الصبح خرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الصلاة فكبر وكبر الناس، فنادت زينب من صفة النساء: أيها الناس إني قد أجرت أبا العاص. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما علمت بشيء من ذلك، وإنه ليجير على المسلمين ادناهم. وقال لزينب: لا يخلص اليك فلا يحل لك. وقال للسرية الذين اصابوه: إن رأيتم أن تردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك، وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاءه عليكم وأنتم أحق به. قالوا: يا رسول الله بل نرده عليه. فردوا عليه ماله كله حتى الشظاظ، ثم عاد إلى مكة فرد على الناس مالهم وقال لهم: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردت أكل أموالكم. ثم خرج فقدم على النبي، صلى الله عليه وسلم، فرد عليه أهله بالنكاح الأول، وقيل بنكاح جديد.
وجلس عمير بن وهب الجمحي مع صفوان بن أمية بعد بدر، وكان شيطاناً ممن كان يؤذي النبي وأصحابه،وكان ابن وهب في الأساري، فقال صفوان: لا خير في العيش بعد من أصيب ببدر. فقال عمير: صدقت ولولا دين علي وعيال أخشى ضيعتهم لركب إلى محمد حتى أقتله. فقال صفوان: دينك علي وعيالك مع عيالي أسوتهم. فسار إلى المدينة فقدمها، فأمر النبي، صلى الله عليه وسلم، عمر بن الخطاب بإدخاله عليه، فأخذ عمر بحمالة سيفة وقال لرجال معه من الأنصار: ادخلوا على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واحذروا هذا الخبيث. فلما رآه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعمر: اتركه، ثم قال: ادن يا عمير، ما جاء بك؟ قال: جئت لهذا الأسير. قال: اصدقني. قال: ما جئت إلا لذلك. قال: بل قعدت أنت وصفوان وجرى بينكما كذا وكذا. فقال عمير: أشهد أنك رسول الله، هذا الأمر لم يحضره إلا أنا وصفوان، فالحمد لله الذي هداني للإسلام. فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: فقهوا أخاكم في دينه وعلموه القرآن وأطلقوا له أسيره؛ ففعلوا. فقال: يا رسول الله كنت شديد الأذى للمسلمين فأحب أن تأذن لي فأقدم مكة فأدعو إلى الله وأوذي الكفار في دينهم كما كنت أوذي أصحابك. فأذن له، فكان صفوان يقول: أبشروا الآن بوقعة تأتيكم تنسيكم وقعة بدر.
فلما قدم عمير مكة أقام بها يدعو إلى الله، فأسلم معه ناس كثير، وكان يؤذي من خالفه.
وقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يشاور أبا بكر وعمر وعلياً في الأساري، فأشار أبو بكر بالفداء، وأشار عمر بالقتل، فمال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الفداء، فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لنَبِيٍ أنْ يَكُونَ لَهُ أسْرَى حَتّى يُثْخِنَ في الأرْضِ) إلى قوله: (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) الأنفال: 67 - 68؛ وكان الأسرى سبعين، فقتل من المسلمون عقوبة بالمفاداة يوم أحد سبعون، وكسرت رباعية رسول الله، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه وانهزم أصحابه، فأنزل الله تعالى: (أوَلَمَّا أصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا) آل عمران: 165.
وكان جميع من قتل من المسلمين ببدر أربعة عشر رجلاً، ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. ورد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جماعةً استصغرهم، منهم: عبد الله بن عمر، ورافع بن خديج، والبراء ابن عازب، وزيد بن ثابت، وأسيد بن حضير.

وضرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لثمانية نفر بسهم في الأنفال لم يحضروا الوقعة، منهم: عثمان بن عفان، كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، خلفه على زوجته رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لمرضها، وطلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، كان أرسلهما يتجسسان خبر العير، وأبو لبابة، خلفه على المدينة، وعاصم بن عدي، خلفه على العالية، والحارث بن حاطب، رده إلى بني عمرو بن عوف لشيء بلغه عنهم، والحارث بن الصمة، كسر بالروحاء، وخوات بن جبير، كسر في بدر أسفل سيفه ذي الفقار، وكان لمنبه بن الحجاج، وقيل كان للعاص ابن منبه، قتله علي صبراً وأخذ سيفه ذا الفقار، فكان للنبي، صلى الله عليه وسلم، فوهبه لعلي.
رحضة بفتح الراء المهملة، والحاء المهملة، والضاد المعجمة. والحبار بضم الحاء المهملة، والباء الموحدة، وأسيد بن حضير بضم الهمزة، والضاد المعجمة. وخديج بفتح الخاء المعجمة، وكسر الدار المهملة.
ذكر غزوة بني القينقاعلما عاد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من بدر أظهرت يهود له الحسد بما فتح الله عليه وبغوا ونقضوا العهد، وكان قد وادعهم حين قدم المدينة مهاجراً. فلما بلغه حسدهم جمعهم بسوق بني قينقاع فقال لهم: احذروا ما نزل بقريش وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل. فقالوا: يا محمد لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة.
فكانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبينه، فبينما هم على مجاهرتهم وكفرهم إذا جاءت امرأة مسلمة إلى سوق بني قينقاع فجلست عند صائغ لأجل حلي لها، فجاء رجل منهم فخل درعها إلى ظهرها، وهي لا تشعر، فلما قامت بدت عورتها، فضحكوا منها، فقام إليه رجل من المسلمين فقتله، ونبذوا العهد إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتحصنوا في حصونهم، فغزاهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحاصرهم خمس عشرة ليلة، فنزلوا على حكمه، فكتفوا، وهو يريد قتلهم، وكانوا حلفاء الخزرج، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول فكلمه فيهم، فلم يجبه، فأدخل يده في جيب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فغضب رسول الله، وقال: ويحك أرسلني. فقال: لا أرسلك حتى تحسن إلى موالي، أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع قد منعوني من الأحمر والأسود تحصدهم في غداة واحدة، وإني والله لأخشى الدوائر. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: هم لك، خلوهم لعنهم الله لعنة معهم.
وغنم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون ما كان لهم من مال، ولم يكن لهم أرضون إنما كانوا صاغةً، وكان الذي أخرجهم عبادة بن الصامت الأنصاري، فبلغ بهم ذباب، ثم ساروا إلى أذرعات من أرض الشام، فلم يلبثوا إلا قليلاً حتى هلكوا.
وكان قد استخلف على المدينة أبا لبابة، وكان لواء رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع حمزة، وقسم الغنيمة بين أصحابه وخمسها، وكان أول خمس أخذه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في قولٍ. ثم انصرف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحضر الأضحى وخرج إلى المصلى فصلى بالمسلمين، وهي أول صلاة عيد صلاها، وضحى فيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشاتين، وقيل بشاة، وكان أول أضحى رآه المسلمون، وضحى معه ذوو اليسار. وكانت الغزاة في شوال بعد بدر، وقيل: كانت في صفر سنة ثلاث، وجعلها بعضهم بعد غزوة الكدر.
ذباب بكسر الذال المعجمة، وبائين موحدتين.
ذكر غزوة الكدرقال ابن إسحاق: كانت في شوال سنة اثنتين، وقال الواقدي: كانت في المحرم سنة ثلاث، وكان قد بلغ النبي، صلى الله عليه وسلم، اجتماع بني سليم على ماء لهم يقال له الكدر، فسار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الكدر فلم يلق كيداً، وكان لواؤه مع علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وعاد ومعه النعم والرعاء، وكان قدومه، في قولٍ، لعشر ليالٍ مضين من شوال. وبعد قدومه أرسل غالب بن عبد الله الليثي في سرية إلى بني سليم وغطفان، فقتلوا فيهم وغنموا النعم، واستشهد من المسلمين ثلاثة نفر وعادوا منتصف شوال.
الكدر بضم الكاف، وسكون الدال المهملة.
ذكر غزوة السويق

كان أبو سفيان قد نذر بعد بدر أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمداً، فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه حتى جاء المدينة ليلاً واجتمع بسلام بن مشكم سيد النضير فعلم منه خبر الناس، ثم خرج في ليلته فبعث رجالاً من قريش إلى المدينة، فأتوا العريض فحرقوا في نخلها وقتلوا رجلاً من الأنصار وحليفاً له، واسم الأنصاري معبد بن عمرو وعادوا، ورأى أن قد بر في يمينه. وجاء الصريخ، فركب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصحابه فأعجزهم، وكان أبو سفيان وأصحابه يلقون جرب السويق يتخففون منها للنجاة، وكان ذلك عامة زادهم، فلذلك سميت غزوة السويق.
ولما رجع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمسلمون قالوا: يا رسول الله أتطمع أن تكون لنا غزوة ؟ قال: نعم. وقال أبو سفيان بمكة، وهو يتجهز:
كرّوا على يثربٍ وجمعهم ... فإنّ ما جمّعوا لكم نفل
إن يك يوم القليب كان لهم ... فإنّ ما بعده لكم دول
آليت لا أقرب النّساء ولا ... يمسّ رأسي وجلدي الغسل
حتى تبيروا قبائل الأوس وال ... خزرج، إنّ الفؤاد يشتعل
فأجابه كعب بن مالك بقوله:
يا لهف أمّ المسبّحين على ... جيش ابن حرب بالحرّة الفشل
إذ يطرحون الرّجال من سئم الطّي ... ر ترقّى لقّنّة الجبل
جاؤوا بجمعٍ لو قيس مبركه ... ما كان إلاّ كمفحص الدّئل
عارٍ من النّصر والثّراء ومن ... أبطال أهل البطحاء والأسل
وفي ذي الحجة منها مات عثمان بن مظعون فدفن بالبقيع وجعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على رأس القبر حجراً علامةً لقبره.
وقيل: إن الحسن بن علي ولد فيها. وقيل: إن علي بن أبي طالب بنى بفاطمة على رأس اثنين وعشرين شهراً، فإن كان هذا صحيحاً فالأول باطلٌ.
وفي هذه السنة كتب المعاقلة وقربه بسيفه.
سلام بتشديد اللام. ومشكم بكسر الميم، وسكون الشين المعجمة، وفتح الكاف. والعريض بضم العين المهملة، وفتح الراء، وآخره ضاد معجمة: وادٍ بالمدينة.
ودخلت السنة الثالثة من الهجرةفي المحترم سنة ثلاث سمع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن جمعاً من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان وبين محارب بن حفص تجمعوا ليصيبوا من المسلمين، فسار إليهم في أربعمائة وخمسين رجلاً، فلما صار بذي القصة لقي رجلاً من ثعلبة فدعاه إلى الإسلام، فأسلم وأخبره أن المشركين أتاهم خبره فهربوا إلى رؤوس الجبال، فعاد ولم يلق كيداً، وكان مقامه اثنتي عشرة ليلة. وفيها، في جمادى الأول غزا بني سليم ببحران، وسبب هذه الغزوة أن جمعاً من بني سليم تجمعوا ببحران من ناحية الفرع، فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فسار إليهم في ثلاثمائة، فلما بلغ بحران وجدهم قد تفرقوا فانصرف ولم يلق كيداً، وكانت غيبته عشر ليالٍ، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.
القصة فتح القاف، والصاد المهملة. وبحران بالباء الموحدة، والحاء المهملة الساكنة.
ذكر قتل كعب بن الأشرف اليهوديوفي هذه السنة قتل كعب بن الأشرف، وهو أحد بني نبهان من طيء، وكانت أمه من بني النضير، وكان قد كبر عليه قتل من قتل ببدر من قريش، فسار إلى مكة وحرض على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبكى أصحاب بدر، وكان يشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فلما عاد إلى المدينة قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من لي من ابن الأشرف ؟ فقال محمد بن مسلمة الأنصاري: أنا لك به، أنا أقتله. قال: فافعل إن قدرت على ذلك. قال: يا رسول الله لا بد لنا ما نقول. قال: قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34