كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

المجلد الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه القديم فلا أول لوجوده، الدائم الكريم فلا آخر لبقائه ولا نهاية لجوده، الملك حقاً فلا تدرك العقول حقيقة كنهه، القادر فكلّ ما في العالم من أثر قدرته، المقدّس فلا تقرب الحوادث حماه، المنزَّهِ عن التغيير فلا ينجو منه سواه، مصرّف الخلائق بين رفع وخفض، وبسط وقبض، وإبرام ونقض، وإماتة وإحياء، وإيجاد وإفناء، وإسعاد وإضلال، وإعزاز وإذلال، يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذلّ من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، مبيد القرون السالفة، والأمم الخالفة، لم يمنعهم منه ما تخذوه معقلاً وحرزاً ف (هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً) مريم 19 : 98، بتقديره النفع والضرّ، (له الخلق والأمر، تبارك الله رب العالمين) الأعراف 7 : 54.
أحمده علي ما أولى من نعمه، وأجذل للناس من قسمه، وأصلي على رسوله محمد سيد العرب والعجم، المبعوث الى جميع الأمم، وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى ومصابيح الظّلم، صلى الله عليه وسلم.
أمّا بعد، فإني لم أزل محبّاً لمطالعة كتب التواريخ ومعرفة ما فيها، مؤثراً للاطلاع على الجليّ من حوادثها وخافيها، مائلاً إلى المعارف والآداب والتجارب المودعة في مطاويها، فلمّا تأمّلتها رأيتها متباينةً في تحصيل الغرض، يكاد جوهر المعرفة بها يستحيل إلى العرض، فمن بين مطوّل قد استقصى الطرق والروايات، ومختصر قد أخلّ بكثير ممّا هو آت، ومع ذلك فقد ترك كلّهم العظيم من الحادثات، والمشهور من الكائنات، وسوّد كثيرٌ منهم الأوراق بصغائر الأمور التي الإعراض عنها أولى، وترك تسطيرها أحى، كقولهم خلع فلان الذميّ صاحب العيار، وزاد رطلاً في الأسعار، وأكرم فلان، وأهين فلان، وقد أرّخ كلّ منهم إلى زمانه وجاء بعده من ذيل عليه، وأضاف المتجددات بعد تاريخه إليه، والشرقيّ منهم قد أخلّ بذكر أخبار الغرب، والغربيّ قد أهمل أحوال الشرق؛ فكان الطالب إذا أراد أن يطالع تاريخاً متصلاً إلى وقته يحتاج إلى مجلدات كثيرة وكتب متعددّة مع ما فيها من الإخلال والإملال.
فلمّا رأيتُ الأمر كذلك شرعتُ في تأليف تاريخ جامع لأخبار ملوك الشرق والغرب وما بينهما، ليكون تذكرةً لي أراجعه خوف النسيان، وآتي فيه بالحوادث والكائنات من أوّل الزمان، متتابعةً يتلو بعضها بعضاً إلى وقتنا هذا.
ولا أقولُ إني أتيتُ على جميع الحوادث المتعلّقة بالتاريخ، فإنّ من هو بالموصل لا بدّ أن يشذّ عنه ما هو بأقصي الشرق والغرب، ولكن أقول إنني قد جمعت في كتابي هذا ما لم يجتمع في كتاب واحد، ومن تأمّله علم صحّة ذلك.
فابتدأت بالتاريخ الكبير الذي صنّفه الإمام أبو جعفر الطبريّ إذ هو الكتاب المعوّل عند الكافة عليه، والمرجوعُ عند الاختلاف إليه، فأخذت ما فيه من جميع تراجمه، لم زخلّ بترجمة واحدة منها، وقد ذكر هو في أكثر الحوادث روايات ذوات عدد، كلّ رواية منها مثل التي قبلها أو أقل منها، وربّما زاد الشيء اليسير أو نقصه، فقصدتُ أتمّ الروايات فنقلتها وأضفت إليها من غيرها ما ليس فيها، وأودعت كل شيء مكانه، فجاء جميع ما في تلك الحادثة على اختلاف طرقها سياقاً واحداً على ما تراه.
فلمّا فرغتُ منه وأخذتُ غيره من التواريخ المشهورة فطالعتها وأضفت منها الى ما نقلته من تاريخ الطبري ما ليس فيه، ووضعتُ كلّ شيء منها موضعه، إلاّ ما يتعلّق بما جري بين أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإني لم أضف إلى ما نقله أبو جعفر شيئاً، إلاّ ما فيه زيادةُ بيان، أو اسم إنسان، أو ما لا يطعن على أحد منهم في نقله، وإنّما اعتمدت علهي من بين المؤرخين إذ هو الإمام المتقنُ حقّاً، الجامع علماً وصحّة اعتقاده وصدقاً.
على أني لم أنقل إلاّ من التواريخ المذكورة، والكتب المشهورة، ممّن يُعلم بصدقهم فيما نقلوه، وصحّة ما دوّنوه، ولم أكن كالخابط في ظلماء الليالي، ولا كمن يجمع الحصباءواللآلي.
ورأيتهم أيضاً يذكرون الحادثة الواحدة في سنين، ويذكرون منها في كلّ شهر أشياء، فتأتي الحادثةُ مقطّعة لا يحصل منها على غرض، ولا تُفهم إلاّ بعد إمعان النظر، فجمعت أنا الحادثة في موضع واحد وذكرت كلّ شيء منها في أيّ شهر أو سنة كانت، فأتت متناسقة متتابعة، قد أخذ بعضها برقاب بعض.

وذكرت في كلّ سنة لكلّ حادثة كبيرة مشهورة ترجمة تخصّها، فأمّا الحوادث الصغار التي لا يحتمل منها كلّ شيء ترجمة فإني أفردتُ لجميعها ترجمةً واحدةً في آخر كلّ سنة، فأقول: ذكر عدة حوادث، وإذا ذكرت بعض من نبغ وملك قطراً من البلاد ولم تطل أيّامه فإني أذكر جميع حاله من أوّله إلى آخره، عند ابتداء أمره، لأنّه إذا تفرق خبره لم يعرف للجهل به.
وذكرت في آخر كلّ سنة من توفّي فيها من مشهوري العلماء والأعيان والفضلاء، وضبطت الأسماء المشتبهة المؤتلفة في الخط المختلفة في اللّفظ الواردة فيه بالحروف ضبطاً يزيل الإشكال، ويُغني عن الأنقاط والأشكال.
فلما جمعتُ أكثره أعرضتُ عنه مدّةً طويلة لحوادث تجددت، وقواطع توالت وتعدّدت، ولأن معرفتي بهذا النوع كملت وتمت.
ثمّ إن نفراً من إخواني، وذوي المعارف والفضائل من خُلاّني، ممن أرى محادثتهم نهاية أوطاري، وأعدّهم من أماثل مُجالسيّ وسمّاري، رغبوا إليّ في أن يسمعوه مني، ليرووه عني؛ فاعتذرتُ بالأعراض عنه وعدم الفراغ منه، فإنني لم أعاود مطالعة مسوَّدته ولم أصلح ما أصلح فيها من غلط وسهو، ولا اسقطت منها ما يحتاج إلى إسقاط ومحو، وطالت المراجعة مدّةً وهم للطلب ملازمون، وعن الإعراض مُعرضون، وشرعوا في سماعه قبل إتمامه وإصلاحه، وإثبات ما تمسّ الحاجة إليه وحذف ما لا بدّ من اطراحه، والعزمُ على إتمامه فاتر، والعجز ظاهر، للاشتغال بما لا بدّ منه، لعدم المعين والمظاهر؛ ولهموم توالت، ونوائب تتابعت، فأنا ملازم الإهما والتواني، فلا أقول: إني لأسير إليه سير الشواني.
فبينما الأمر كذلك إذ برز أمرُ من طاعته فرض واجب، واتّباع أمره حكم لازب، من أعلاق الفضل بإقباله عليها نافقة، وأرواح الجهل بإعراضه عنها نافقة، من أحيا المكارم وكانت أمواتاً، وأعادها خلقاً جديداً بعد أن كانت رفاتاً؛ من عمّ رعيّته عدله ونواله، وشملهم إحسانه وإفضاله، مولانا مالك الملك الرحيم، العالم المؤيّد، المنصور، المظفر بدر الدين، ركن الإسلام والمسلمين، محي العدل في العالمين، خلَد الله دولته.
فحينئذ ألقيت عني جلباب المهل، وأبطلت رداء الكسل، وألقيت الدواة وأصلحت القلم، وقلت: هذا زوان الشدّ فاشتدي زيم، وجعلت الفراغ أهم مطلب، وإذا أراد اللّه أمراً هيّأ له السبب، وشرعت في إتمامه مسابقاً، ومن العجب أن السكّيت يروم أن يجيء سابقاً، ونصبت نفسي غرضاً للسهام، وجعلتها مظنّة لأقوال اللّوام، لأن المآخذ إذا كانت تتطرّق إلى التصنيف المهذّب، والاستدراكات تتعلّق بالمجموع المرتَّب، الذي تكرّرت مطالعته وتنقيحه، وأجيد تأليفه وتصحيحه، فهي بغيره أولى، وبه أحرى، على أنّي مقرّ بالتقصير، فلا أقول إن الغلط سهو جرى به القلم، بل أعترف بأن ما أجهل أكثر ممّا أعلم.
وقد سمّيته اسماً يناسب معناه، وهو: الكامل في التاريخ.
ولقد رأيت جماعة ممّن يدّعي المعرفة والدراية، ويظنّ بنفسه التبحّر في العلم والرواية، يحتقر التواريخ ويزدريها، ويعرض عنها ويلغيها، ظنّاً منه أن غاية فائدتها إنّما هو القصص والأخبار، ونهاية معرفتها الأحاديث والأسمار، وهذه حال من اقتصر على القشر دون اللبّ فنظره، وأصبح مخشلباً جوهره، ومن رزقه اللّه طبعاً سليماً، وهداه صراطاً مستقيماً، علم أنّ فوائدها كثيرة، ومنافعها الدنيويّة والأخرويّة جمّة غزيرة، وها نحن نذكر شيئاً ممّا ظهر لنا فيها، ونكل إلى قريحة الناظر فيه معرفة باقيها.
فزمّا فوائدها الدنيويّة فمنها: أنّ الإنسان لا يخفى أنّه يحبّ البقاء، ويؤثرُ أن يكون في زمرة الأحياء، فيا ليت شعري أيّ فرق بين ما رآه أمس أو سمعه، وبين ما قرأه في الكتب المتضمنة أخبار الماضين وحوادث المتقدمين؟ فإذا طالعها فكأنّه عاصرهم، وإذا علمها فكأنّه حاضرهم.

ومنها: أن الملوك ومن إليهم الأمر والنهي إذا وقفوا على ما فيها من سيرة أهل الجور والعدوان ورأها مدوّنةً في الكتب يتناقلها الناس، فيرويها خلف عن سلف، ونظروا الى ما أعقبت من سوء الذكر، وقبيح الأحدوثة، وخراب البلاد، وهلاك العباد، وذهاب الأموال، وفساد الأحوال، استقبحوها، وأعرضوا عنها واطَّرحوها، وإذا رأوا سيرة الولاة العادلين وحسنها، وما يتبعهم من الذكر الجميل بعد ذهابهم، وأنّ بلادهم وممالكهم عمرت، وأموالهم درّت، استحسنوا ذلك ورغبوا فيه، وثابروا عليه وتركوا ما يُنافيه، هذا سوى ما يحصل لهم من معرفة الآراء الصائبة التي دفعوا بها مضرات الأعداء، وخلصوا بها من المهالك، واستصانوا نفائس المدن وعظيم الممالك، ولو لم يكن فيها غير هذا لكفى به فخراً.
ومنها ما يحصل للإنسان من التجارب والمعرفة بالحوادث وما تصير إليه عواقبها، فإنّه لا يحدث أمر إلاّ قد تقدّم هو أو نظيره، فيزداد بذلك عقلاً، ويصبح لأن يقتدى به أهلاً، ولقد أحسن القائل حيث يقول شعراً:
رأيت العقل عقلين ... فمطبوعٌ ومسموع
فلا ينفع مسموع ... إذا لم يك مطبوع
كما لا تنفع الشمس ... وضوء العين ممنوع
يعني بالمطبوع العقل الغريزي الذي خلقه الله تعالى للإنسان، وبالمسموع ما يزداد به العقل الغريزي من التجربة، وجعله عقلاً ثانياً توسّعاً وتعظيماً له، وإلاّ فهو زيادة في عقله الأوّل.
ومنها ما يتجمّل به الإنسان في المجالس والمحافل من ذكر شيء من معارفها، ونقل طريفة من طرائفها، فترى الأسماع مصغيةً إليه، والوجوه مقبلةً عليه، والقلوب متأملةً ما يورده ويصدره، مستحسنةً ما يذكره.
وأمّا الفوائد الأخرويّة: فمنها أن العاقل اللبيب إذا تفكّر فيها، ورأى تقلّب الدنيا بأهلها، وتتابع نكباتها إلى أعيان قاطنيها، وأنّها سلبت نفوسهم وذخائرهم، وأعدمت أصاغرهم وأكابرهم، فلم تُبقِ على جليل ولا حقير، ولم يسلم من نكدها غنيّ ولا فقير، زهد فيها وأعرض عنها، وأقبل على التزوّد للآخرة منها، ورغب في دار تنزّهت عن هذه الخصائص، وسلم أهلها من هذه النقائص، ولعلّ قائلاً يقول: ما نرى ناظراً فيها زهد في الدنيا، وأقبل على الآخرة ورغب في درجاتها العليا، فيا ليت شعري كم رأى هذا القائل قارئاً، للقرآن العزيز، وهو سيّد المواعظ وأفصح الكلام، يطلب به اليسير من هذا الحطام؟ فإنّ القلوب مولعة بحبّ العاجل.
ومنها التخلّق بالصبر والتأسّي وهما من محاسن الأخلاق، فإن العاقل إذا رأى أن مصاب الدنيا لم يسلم منه نبي مكرَّم، ولا ملك معظّم، بل ولا أحد من البشر، علم أنه يصيبه ما أصابهم، وينوبه ما نابهم.
ولهذه الحكمة وردت القصص في القرآن المجيد (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) ق:50 : 37، فإن ظنّ هذا القائل أن الله سبحانه أراد بذكرها الحكايات والأسمار فقد تمسّك من أقوال الزيغ بمحكم سببها حيث قالوا: هذه أساطير الأوّلين اكتتبها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا قلباً عقولاً ولساناً وصادقاً، ويوفقنا للسداد في القول والعمل، هو حسبنا ونعم الوكيل.
ذكر الوقت الذي ابتدئ

فيه بعمل التاريخ في الإسلام
قيل: لما قدم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، المدينة أمر بعمل التاريخ، والصحيح المشهور أن عمر بن الخطاب أمر بوضع التاريخ.
وسبب ذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر: إنّه يزتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرّخْ لمبعث النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لمهاجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: بل نؤرخ لمهاجرة رسول الله، فإن مهاجرته فرق بين الحق والباطل؛ قاله الشعبيّ.
وقال ميمون بن مهران: رفع إلى عمر صكّ محلّه شعبان فقال: أيّ شعبان؟ أشعبان الذي هو آتٍ أم شعبان الذي نحن فيه؟ ثمّ قال لأصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ضعوا للناس شيئاً يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا علي تاريخ الروم فإنهم يؤرخون من عهد ذي القرنين، فقال: هذا يطول، فقال: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلّما قام ملك طرح تاريخ من كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله بالمدينة، فوجدوه عشر سنين، فكتبوا التاريخ من هجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وقال محمد بن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرّخوا، فقال عمر: ما أرّخوا؟ فقال: شيء تفعله الأعاجم في شهر كذا من سنة كذا، فقال عمر: حسن، فأرّخوا، فاتفقوا على الهجرة ثم قالوا: من أي الشهور؟ فقالوا: من رمضان، ثمّ قالوا: فالمحرم هو منصرف الناس من حجهم وهو شهر حرام، فأجمعوا عليه.
وقال سعيد بن المسيب: جمع عمر الناس فقال: من أيّ يوم نكتب التاريخ؟ فقال عليّ: من مهاجرة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفراقه أرض الشرك، ففعله عمر.
وقال عمرو بن دينار: أوّل من أرّخ يعلى بن أميّة وهو باليمن.
وأمّا قبل الإسلام فقد كان بنو ابراهيم يؤرخون من نار إبراهيم إلى بنيان البيت حين بناه ابراهيم واسماعيل، عليهما السلام، ثمّ أرّخ بنو اسماعيل من بنيان البيت حتى تفرقوا، فكان كلّما خرج قومٌ من تهامة أرخوا بمخرجهم، ومن بقي بتهامة من بني اسماعيل يؤرخون من خروج سعد ونهد وجهينة بني زيد من تهامة حتى مات كعب بن لؤي وأرّخوا من موته إلى الفيل، ثمّ كان التاريخ من الفيل حتى أرّخ عمر بن الخطاب من الهجرة، وذلك سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة.
وقد كان كلّ طائفة من العرب تؤرّخ بالحادثات المشهورة فيها، ولم يكن لهم تاريخ يجمعهم، فمن ذلك قول بعضهم:
ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي مولدي حجرا
وقال الجعديّ:
فمن يك سائلاً عني فإني ... من الشبّان أيّام الختان
وقال آخر:
وما هي إلاّ في إزار وعلقة ... بغار ابن همّام على حيّ خثعما
وكلّ واحد أرّخ بحادث مشهور عندهم، فلو كان لهم تاريخ يجمعهم لم يختلفوا في التاريخ، واللّه أعلم.
القول في الزمانالزمانُ عبارة عن ساعات الليل والنهار، وقد يقال ذلك للطويل والقصير منهما، والعرب تقول: أتيتك زمان الصّرام؛ وزمان الصّرام يعني به وقت الصّرام، وكذلك: أتيتك أزمان الحجّاج أمير، ويجمعون الزمان يريدون بذلك أنّ كلّ وقت من أوقات إمارته زمن من الأزمنة.
القول في جميع الزمان

من أوله إلى آخره
اختلف الناس في ذلك فقال ابن عبّاس من رواية سعيد بن جبير عنه: سبعة آلاف سنة.
وقال وهب بن منبّه: ستة آلاف سنة، قال أبو جعفر: والصحيح من ذلك ما دلّ على صحته الخبرُ الذي رواه ابن عمر عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (أجلكم في أجل من قبلكم، من صلاة العصر إلى مغرب الشمس).
وروى نحو هذا المعنى أنس وأبو سعيد إلاّ أنهما قالا إنه قال: إلى غروب الشمس، وبدل صلاة العصر: بعد العصر، وروى أبو هريرة عن البنيّ، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (بُعثت أنا والساعة كهاتين)، وأشار بالسبابة والوسطى.
وروى نحوه جابر بن سمرة، وأنس، وسهل بن سعد، وبريدة بن الحصيب، والمستورد بن شدّاد، وأشياخ من الأنصار كلهم عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
وهذه أخبار صحيحة.
قال: وقد زعم اليهود أن جميع ما ثبت عندهم على ما في التوراة من لدن خلق آدم إلى الهجرة أربعة آلاف سنة وست مئة واثنتان وأربعون سنة.
وقالت اليوناينة من النصارى: إن من خلق آدم إلى الهجرة خمسة آلاف سنة وتسع مئة واثنتين وتسعين سنة وشهراً.
وزعم قائل أن اليهود إنما نقصوا من السنين دفعاً منهم لنبوة عيسى، إذ كانت صفته ومبعثه في التوراة، وقالوا: لم يأت الوقت الذي في التوراة أن عيسى يكون فيه، فهم ينتظرون بزعمهم خروجه ووقته.
قال: وأحسب أن الذي ينتظرونه ويدّعون صفته في التوراة هو الدجال.
وقالت المجوس: إن قدر مدة الزمان من لدن ملك جيومرث إلى وقت الهجرة ثلاثة آلاف ومائة وتسع وثلاثون سنة، وهم لا يذكرون مع ذلك شيئاً يُعرف فوق جيومرث ويزعمون أنّه هو آدم.
وأهل الأخبار مختلفون فيه، فمن قائل مثل قول المجوس، ومن قائل: إنه يسمى بآدم بعد أن ملك الأقاليم السبعة وإنه حام بن يافث بن نوح، وكان بارّاً بنوح، فدعا له ولذريته بطول العمر، والتمكين في البلاد، واتصال الملك، فاستجيب له، فملك جيومرث وولده الفرس، ولم يزل الملك فيهم إلى أن دخل المسلمون المدائن وغلبوهم على ملكهم، ومن قائل غير ذلك؛ كذا قال أبو جعفر.

قلت: ثمّ ذكر أبو جعفر بعد هذا فصولاً تتضمّن الدلالة على حدوث الأزمان والأوقات، وهل خلق الله قبل خلق الزمان شيئاً أم لا؟ وعلى فناء العالم وأن لا يبقى إلاّ الله تعالى، وأنّه أحدث كلّ شيء، واستدلّ على ذلك بأشياء يطول ذكرها ولا يليق ذلك بالتواريخ لا سيما المختصرات منه، فإنه بعلم الأصول أولى، وقد فرغ المتكلّمون منه في كتبهم فرأينا تركه أولى.
بُرَيْدَة: بضم الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخرها هاء.
القول في ابتداء الخلق وما كان أولهصحّ في الخبر عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فيما رواه عنه عبادة بن الصامت أنّه سمعه يقول: (إنّ أول ما خلق الله تعالى القلم، وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن)، وروي نحو ذلك عن ابن عباس.
وقال محمد بن اسحاق: أول ما خلق الله النور والظلمة، فجعل الظلمة ليلاً أسود، وجعل النور نهاراً أبيض مضيئاً، والأول أصحّ للحديث، وابن اسحاق لم يسند قوله إلى أحد.
واعترض أبو جعفر علي نفسه بما روى سفيان عن أبي هاشم، عن مجاهد، عن ابن عبّاس أنّه قال: إن اللّه تعالى كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فكان أوّل ما خلق اللّه القلم، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة؛ وأجاب بأن هذا الحديث إن كان صحيحاً فقد رواه شعبة أيضاً عن أبي هاشم ولم يقل فيه: إن الله كان على عرشه، بل روى أنّه قال: أوّل ما خلق الله القلم.
القول فيما خُلِق بعد القلم
ثمّ إنّ الله خلق، بعد القلم وبعد أن أمره فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، سحاباً رقيقاً، وهو الغمام الذي قال فيه النبيّ، صلى الله عليه وسلم، وقد سأله أبو رزين العقيلي: أين كان ربنا قبل أن يخلق الخلق؟ فقال: في غمام ما تحته هواء وما فوقه هواء، ثمّ خلق عرشه على الماء، وهو الغمام الذي ذكره الله في قوله: (هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام) قلت: هذا فيه نظر، لأنه قد تقدم أن أوّل ما خلق الله تعالى القلم وقال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة، ثمّ ذكر ي أوّل هذا الفصل أن الله خلق بعد القلم وبعد أن جرى بما هو كائن سحاباً، ومن المعلوم أن الكتابة لا بدّ فيها من آلة يُكتبُ بها، وهو القلم، ومن شيء يكتب فيه، وهو الذي يعبّر عنه ههنا باللوح المحفوظ، وكان ينبغي زن يذكر اللوح المحفوظ ثانياً للقلم، والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ترك ذكره لزنه معلوم من مفهوم اللفظ بطريق الملازمة. ثمّ اختلف العلماء فيمن خلق الله بعد الغمام، فروى الضحاك بن مزاحم عن ابن عبّاس: أول ما خلق الله العرش، فاستوى عليه، وقال آخرون: خلق الله الماء قبل العرش، وخلق العرش فوضعه على الماء؛ وهو قول أبي صالح عن ابن عباس، وقول ابن مسعود، ووهب بن منبه.
وقد قيل: إن الذي خلق الله تعالى بعد القلم الكرسي، ثم العرش، ثم الهواء، ثم الظلمات، ثم الماء فوضع العرش عليه.
قال: وقول من قال: إن الماء خلق قبل العرش، أولي بالصواب لحديث أبي رزين عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إن الماء كان على متن الريح حين خلق العرش؛ قاله سعيد بن جبير عن ابن عبّاس، فإن كان كذلك فقد خلقا قبل العرش.
وقال غيره: إن الله خلق القلم قبل أن يخلق شيئاً بألف عام.
واختلفوا أيضاً في اليوم الذي ابتدأ الله تعالى فيه خلق السموات والأرض، فقال عبد الله بن سلام، وكعب، والضحاك، ومجاهد: ابتداء الخلق يوم الأحد.
وقال محمد بن اسحاق: ابتداء الخلق يوم السبت، وكذلك قال أبو هريرة.
واختلفوا أيضاً فيما خَلَقَ كلّ يوم، فقال عبد الله بن سلام: إن الله تعالى بدأ الخلق يوم الأحد، فخلق الأرضين يوم الأحد والاثنين، وخلق الأقوات والرواسي في الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات يوم الخميس والجمعة، ففرغ آخر ساعة من الجمعة فخلق فيها آدم، عليه السلام، فتلك الساعة التي تقوم فيها الساعة.
ومثله قال ابن مسعود وابن عبّاس من رواية أبي صالح عنه، إلاّ أنّهما لم يذكرا خلق آدم ولا الساعة.
وقال ابن عبّاس من رواية عليّ بن أبي طلحة عنه: إنّ الله تعالى خلق الأرض بأقواتها من غير أن يدحوها، ثمّ استوى إلى السماء فسوّاهنّ سبع سموات، ثمّ دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى (والأرض بعد ذلك دحاها) النازعات: 79 : 30 وهذا القول عندي هو الصواب.

وقال ابن عبّاس أيضاً من رواية عكرمة عنه: إنّ الله تعالى وضع البيت على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثمّ دُحيت الأرض من تحت البيت، ومثله قال ابن عمر.
وروى السّديّ عن أبي صالح، وعن أبي مالك عن ابن عبّاس، وعن مُرّة الهمداني وعن ابن مسعود في قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات) البقرة: 2 : 29، قال: إن الله عز وجل كان عرشه على الماء، ولم يخلق شيئاً مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخاناً، فارتفع فوق الماء، فسما عليه، فسمّاه سماءً، ثمّ أيبس الماء فجعله أرضاً واحدةً، ثمّ فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين: يوم الأحد ويوم الأثنين، فخلق الأرض على حوت، والحوت النون الذي ذكره الله تعالى في القرآن في قوله: (ن والقلم) القلم:68 : 1، والحوت في الماء على ظهر صفاة، والصفاة على ظهر ملك، والملك على صخرة، والصخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض، فتحرك الحوتُ، فاضطربت وتزلزلت الأرض، فأرسى عليها الجبال فقرّت، والجبال تفخر على الأرض، فذلك قوله تعالى: (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بكم)، قال ابن عباس والضحاك ومجاهد وكعب وغيرهم: كل يوم من هذه الأيام الستة التي خلق الله فيها السماء والأرض كألف سنة.
قلت: أما ما ورد في هذه الأخبار من أن الله تعالى خلق الأرض في يوم كذا والسماء في يوم كذا، فإنما هو مجاز، وإلا فلم يكن ذلك الوقت أيام وليال، لأن الأيام عبارة عما بين طلوع الشمس وغروبها، والليالي عبارة عما بين غروبها وطلوعها، ولم يكن ذلك الوقت سماء ولا شمس، وإنما المراد به أنه خلق كل شيء بمقدار يوم، كقوله تعالى: (ولهم رزقهم فيها بكرةً وعشيّاً) مريم: 19 : 62 وليس في الجنة بكرة وعشىً.
سلام: والدُ عبد الله، بتخفيف اللام.
القول في الليل والنهارأيّهما خلق قبل صاحبه
قد ذكرنا ما خلق الله تعالى من الأشياء قبل خلق الأوقات، وأن الأزمنة والأوقات إنما هي ساعات الليل والنهار، وأن ذلك إنما هو قطع الشمس والقمر درجات الفلك.
فلنذكر الآن بأيّ ذلك كان الابتداء، أبالليل أم بالنهار؟ فإن العلماء اختلفوا في ذلك، فإن بعضهم يقول: إنّ الليل خُلق قبل النهار؛ ويستدلّ على ذلك بأن النهار من نور الشمس فإذا غابت الشمس جاء الليل فبان بذلك أن النهار، وهو النور، وارد على الظلمة التي هي الليل، وإذا لم يرد نور الشمس كان الليل ثابتاً، فدّلّ ذلك على أنّ الليل هو الأوّل؛ وهذا قول ابن عباس.
وقال آخرون: كان النهار قبل الليل، واستدلّوا بأن الله تعالى كان ولا شيء معه، ولا ليل ولا نهار، وأن نوره كان يضيءُ به كل شيء خلقه حتى خلق الليل.
قال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليلٌ ولا نهار، نور السموات من نور وجهه.
قال أبو جعفر: والأوّل أولى بالصواب للعلة المذكورة أوّلاً، ولقوله تعالى: (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها، رفع سمكها فسواها، وأغطش ليلها وأخرج ضحاها) 79 : 27 - 29 فبدأ بالليل قبل النهار.
قال عبيد بن عمير الحارثي: كنت عند عليّ فسأله ابن الكوّاء عن السواد الذي في القمر فقال: ذلك آية محيت، وقال ابن عباس مثله، وكذلك قال مجاهد وقتادة وغيرهما، لذلك خلقهما الله تعالى الشمس أنور من القمر.
قلت: وروى أبو جعفر ههنا حديثاً طويلاً عدة أوراق عن ابن عبّاس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، في خلق الشمس والقمر وسيرهما، فإنهما على عجلتين، لكل عجلة ثلاث مئة وستون عروة، يجرها بعددها من الملائكة، وإنهما يسقطان عن العجلتين فيغوصان في بحر بين السماء والأرض، فذلك كسوفهما، ثم إن الملائكة يخرجونهما فذلك تجليتهما من الكسوف، وذكر الكواكب وسيرها، وطلوع الشمس من مغربها، ثم ذكر مدينة بالمغرب تسمى جابرس وأخرى بالمشرق تسمّى جابلق ولكلّ واحدة منهما، عشرة آلاف باب يحرس كلّ باب منها عشرة آلاف رجل، لا تعود الحراسة إليهم إلى يوم القيامة.
وذكر يأجوج ومأجوج ومنسك وثاريس، إلى أشياء أخرى لا حاجة إلى ذكرها، فأعرضت عنها لمنافاتها العقول، ولو صحّ إسنادها لذكرناها وقلنا به، ولكن الحديث غير صحيح، ومثل هذا الأمر العظيم لا يجوز أن يسطر في الكتب بمثل هذا الإسناد الضعيف.

وإذ كنّا قد بيّنا مقدار مدة ما بين أوّل ابتداء الله، عز وجل، في إنشاء ما أراد إنشاءه من خلقه إلى حين فراغه من إنشاء جميعه من سني الدنيا ومدة أزمانها، وكان الغرض في كتابنا هذا ذكر ما قد بينّا أنّا ذاكروه من تاريخ الملوك الجبابرة، والعاصية ربّها والمطيعة ربها، وأزمان الرسل والأنبياء، وكنّا قد أتينا على ذكر ما تصحّ به التأريخات وتُعرف به الأوقات وهو الشمس والقمر، فلنذكر الآن أوّل من أعطاه الله تعالى ملكاً وأنعم عليه فكفر نعمته، وجحد ربوبيّته واستكبر، فسلبه الله نعمته وأخزاه وأذله، ثمّ نتبعه ذكر من استن سنته واقتفى أثره وأحلّ الله به نقمته، ونذكر من كان بإزائه أو بعده من الملوك المطيعة ربها المحمودة آثارها ومن الرسل والأنبياء، إن شاء الله تعالى.
قصة إبليس لعنه الله وابتداء أمره

وإطغائه آدم عليه السلام
فأوّلهم وإمامهم ورئيسهم إبليس، وكان الله تعالى قد حسّن خلقه وشرّفه وملّكه على سماء الدنيا والأرض فيما ذكر، وجعله مع ذلك خازناً من خُزّان الجنّة، فاستكبر على ربّه، وادّعى الربوبية، ودعا من كان تحت يده إلى عبادته، فمسخه الله تعالى شيطاناً رجيماً، وشوّه خلقه، وسلبه ما كان خوله، ولعنه وطرده عن سمواته في العاجل، ثمّ جعل مسكنه ومسكن أتباعه في الآخرة نار جهنم، نعوذ بالله تعالى من نار جهنم ونعوذ بالله تعالى من غضبه ومن الحور بعد الكور.
ونبدأ بذكر الأخبار عن السلف بما كان الله أعطاه من الكرامة وبادعائه ما لم يكن له، ونتبع ذلك بذكر أحداث في سلطانه وملكه إلى حين زوال ذلك عنه والسبب الذي به زال عنه، إن شاء الله تعالى.
ذكر الأخبار بما كان لإبليس لعنه الله
من الملك وذكر الأحداث في ملكه
روي عن ابن عباس وابن مسعود أن إبليس كان له ملك سماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجنّ لأنهم خزان الجنة، وكان إبليس مع ملكه خازناً، قال ابن عبّاس: ثم إنه عصى الله تعالى فمسخه شيطاناً رجيماً.
وروي عن قتادة في قوله تعالى: (ومن يقل منهم إني إله من دونه) الأنبياء: 21 : 29 إنما كانت هذه الآية في إبليس خاصة لما قال ما قال لعنه الله تعالى وجعله شيطاناً رجيماً، وقال: (فذلك نجزيه جهنَّم، كذلك نجزي الظالمين) وروي عن ابن جريح مثله.
وأما الأحداث التي كانت في ملكه وسلطانه فمنها ما روي عن الضحّاك عن ان عبّاس قال: كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجن، خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان خازناً من خزّان الجنة، قال: وخُلقت الملائكة من نور، وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت، وخلق الإنسان من طين، فأوّل من سكن في الأرض الجن، فاقتتلوا فيها وسفكوا الدماء، وقتل بعضهم بعضاً، قال: فبعث الله تعالى إليهم إبليس في جند من الملائكة، وهم هذا الحيّ الذين يقال لهم الجن، فقاتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، فلمّا فعل ذلك اغترّ في نفسه وقال: قد صنعتُ ما لم يصنعه أحد، فاطّلع الله تعالى على ذلك من قلبه، ولم يطلع عليه أحد من الملائكة الذين معه.
وروي عن أنس نحوه.
وروى أبو صالح عن ابن عبّاس ومُرّة الهمداني عن ابن مسعود أنهما قالا: لما فرغ الله تعالى من خلق ما أحبّ استوى على العرش، فجعل إبليس على ملك سماء الدنيا، وكان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجن، وإنما سمّوا الجن لأنهم من خزنة الجنّة، وكان إبليس مع ملكه خازناً فوقع في نفسه كبر وقال: ما أعطاني الله تعالى هذا الأمر إلاّ لمزية لي على الملائكة، فاطلع الله على ذلك منه فقال: إني جاعل في الأرض خليفة، قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً وأكثرهم علماً، فدعاه ذلك إلى الكبر، وهذا قولٌ ثالث في سبب كبره.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن الله تعالى خلق خلقاً، فقال: اسجدوا لآدم، فقالوا: لا نفعل، فبعث عليهم ناراً فأحرقتهم؛ ثمّ خلق خلقاً آخر، فقال: إني خالق بشراً من طين، فاسجدوا لآدم، فأبوا، فبعث الله تعالى عليهم ناراً فأحرقتهم، ثمّ خلق هؤلاء الملائكة فقال: اسجدوا لآدم، قالوا: نعم، وكان إبليس من أولئك الذين لم يسجدوا.

وقال شهر بن حوشب: إن إبليس كان من الجن الذين سكنوا الأرض وطردهم الملائكة، وأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء، وروي عن سعيد بن مسعود نحو ذلك.
وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كما قال الله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف: 18 : 50 وجائز أن يكون فسوقه من إعجابه بنفسه لكثرة عبادته واجتهاده، وجائز أن يكون لكونه من الجن.
ومرّة الهمداني، بسكون الميم، والدال المهملة، نسبة إلى همدان: قبيلة كبيرة من اليمن.
ذكر خلق آدم عليه السلامومن الأحاديث في سلطانه خلق أبينا آدم عليه السلام، وذلك لما أراد الله تعالى أن يطلع ملائكته على ما علم من انطواء إبليس على الكبر ولم يعلمه الملائكة حتى دنا أمره من البوار وملكه من الزوال فقال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفةً، قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) البقرة: روي عن ابن عباس أن الملائكة قالت ذلك للذي كانوا عهدوا من أمره وأمر الجنّ الذين كانوا سُكان الأرض قبل ذلك فقالوا لربهم تعالى: أتجعل فيها من يكون مثل الجن الذين كانوا يسفكون الدماء فيها ويفسدون ويعصونك ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ فقال الله لهم: (إني أعلم ما لا تعلمون) يعني من انطواء إبليس على الكبر والعزم على خلاف أمري واغتراره، وأنا مبد ذلك لكم منه لتروه عياناً، فلما أراد الله أن يخلق آدم أمر جبرائيل أن يأتيه بطين من الأرض، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص مني وتشينني، فرجع ولم يأخذ منها شيئاً وقال: يا ربّ إنها عاذت بك فأعذتها، فبعث ميكائيل، فاستعاذت منه فأعاذها، فرجع وقال مثل جبرائيل، فبعث إليها ملك الموت فعاذت منه، فقال: أنا أعوذ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمر ربي، فأخذ من وجه الأرض فخلطه ولم يأخذ من مكان واحد وأخذ من تربة حمراء وبيضاء وسوداء وطيناً لازباً، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين.
وروى أبو موسى عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إن الله تعالى خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأسود والأبيض، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيّب)، ثم بلّت طينته حتى صارت طيناً لازباً ثم تركت حتى صارت حمأً مسنوناً ثم تركت حتى صارت صلصالاً، كما قال ربّنا، تبارك وتعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمأ مسنون)، الحجر:15 : 26 واللازب: الطين الملتزب بعضه ببعض، ثمّ تُرك حتى تغيّر وأنتن وصار حمأً مسنوناً، يعني منتناً، ثمّ صار صلصالاً، وهو الذي له صوت.
وإنما سمّي آدم لأنه خلق من أديم الأرض، قال ابن عباس: أمر الله بتربة آدم فرفعت، فخلق ادم من طين لازب من حمأ مسنون، وإنما كان حمأ مسنوناً بعد التزاب فخلق منه آدم بيده لئلا يتكبّر إبليس عن السجود له، قال: فمكث أربعين ليلة، وقيل: أربعين سنة، جسداً ملقىً، فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيصلصل، أي يصوِّت، قال: فهو قول الله تعالى: (من صلصال كالفخار) الرحمن: 55 : 14، يقول: منتن كالمنفوخ الذي ليس بمصمت، ثم يدخل من فيه فيخرج من دبره ويدخل من دبره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئاً، ولشيء ما خلقت، ولئن سلطت عليك لأهلكنك، ولئن سلطت عليّ لأعصينك، فكانت الملائكة تمرّ به فتخافه، وكان إبليس أشدّهم منه خوفاً.

فلما بلغ الحين الذي أراد الله أن ينفخ فيه الروح قال للملائكة: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) الحجر: 15 : 29؛ فلما نفخ الروح فيه دخلت من قبل رأسه، وكان لا يجري شيء من الروح في جسده إلا صار لحماً، فلما دخلت الروح رأسه عطس، فقالت له الملائكة: قل الحمد لله، وقيل: بل ألهمه الله التحميد فقال: الحمد لله رب العالمين، فقال الله له: رحمك ربك يا آدم، فلما دخلت الروح عينيه نظر إلى ثمار الجنة، فلما بلغت جفوه اشتهى الطعام فوثب قبل أن تبلغ الروح رجليه عجلان إلى ثمار الجنة، فلذلك يقول الله تعالى: (خلق الإنسان من عجل) الأنبياء: 21 : 37، فسجد له الملائكة كلهم إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين، فقال الله له: يا إبليس ما منعك أن تسجد إذ أمرتك؟ قال: أنا خير منه لم أكن لأسجد لبشر خلقته من طين، فلم يسجد كبراً وبغياً وحسداً، فقال الله له: (يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي)، إلى قوله: (لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين) ص: 38 : 75 - 58، فلما فرغ من إبليس ومعاتبته وأبى إلا المعصية أوقع عليه اللعنة وأيأسه من رحمته وجعله شيطاناً رجيماً وأخرجه من الجنة.
قال الشعبيّ: أُنزل إبليس مشتمل الصّمّاء عليه عمامة أعور في إحدى رجليه نعل.
وقال حميد بن هلال: نزل إبليس مختصراً فلذلك كره الاختصار في الصلاة، ولما أنزل قال: يا ربّ أخرجتني من الجنة من أجل آدم وإنني لا أقوى عليه إلا بسلطانك، قال: فأنت مسلّط، قال: زدني، قال: لا يولد له ولد إلا ولد لك مثله، قال: زدني، قال: صدورهم مساكن لك وتجري منهم مجرى الدم، قال: زدني، قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم.
قال آدم: يا ربّ قد أنظرته وسلّطته عليَّ وإنني لا أمتنع منه إلا بك، قال: لا يولد لك ولد إلا وكّلت به من يحفظه من قرناء السوء، قال: يا ربّ زدني، قال: الحسنة بعشر أمثالها وأزيدها، والسيئة بواحدة وأمحوها، قال: يا ربّ زدني، قال: (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً) الزمر: 39 : 53، قال: يا رب زدني، قال: التوبة لا أمنعها من ولدك ما كانت فيهم الروح، قال: يا ربّ زدني، قال: أغفر ولا أبالي، قال: حسبي، ثمّ قال الله لآدم: إيتِ أولئك النفر من الملائكة فقل السلام عليكم، فأتاهم فسلّم عليهم، فقالوا له: وعليك السلام ورحمة الله، ثمّ رجع إلى ربّه فقال: هذه تحيّتك وتحيّة ذريتك بينهم.
فلمّا امتنع إبليس من السجود وظهر للملائكة ما كان مستتراً عنهم علّم الله آدم الأسماء كلها.
واختلف العلماء في الأسماء فقال الضحّاك عن ابن عباس: علمه الأسماء كلها التي تتعارف بها الناس: إنسان ودابّة وأرض وسهل وجبل وفرس وحمار وأشباه ذلك، حتى الفُسْوة والفُسَية، وقال مجاهد وسعيد بن جُبير مثله.
وقال ابن زيد: عُلّم أسماء ذرّيته، وقال الربيع: علم أسماء الملائكة خاصة، فلما علمها عرض الله أهل الأسماء على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) البقرة: 2 : 31 إني إن جعلت الخليفة منكم أطعتموني وقدّستموني ولم تعصوني، وإن جعلته من غيركم أفسد فيها وسفك الدماء، فإنكم إن لم تعلموا أسماء هؤلاء وأنتم تشاهدونهم فبأن لا تعلموا ما يكون منكم ومن غيركم وهو مغيب عنكم أولى وأحرى، وهذا قول ابن مسعود ورواية أبي صالح عن ابن عباس.

وروي عن الحسن وقتادة أنهما قالا: لما أعلم الله الملائكة بخلق آدم واستخلافه و(قالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء؟) البقرة: 1 : 30 و(قال: إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة: 2 : 30، قالوا فيما بينهم: ليخلق ربّنا ما يشاء فلن يخلق خلقاً إلا كنا أكرم على الله منه وأعلم منه، فلمّا خلقه وأمرهم بالسجود له علموا أنّه خير منهم وأكرم على الله منهم، فقالوا: إن يكُ خيراً منّا وأكرم على الله منا فنحن أعلم منه، فلمّا أعجبوا بعلمهم ابتلوا بأن علمه الأسماء كلها ثمّ عرضهم على الملائكة فقال: (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين)، البقرة:2 : 31 إني لا أخلق أكرم منكم ولا أعلم منكم، ففزعوا إلى التوبة، وإليها يفزع كل مؤمن، ف (قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم) البقرة: 2 : 32، قالا: وعلمه اسم كل شيء من هذه: الخيل والبغال والإبل والجن والوحش وكل شيء.
ذكر إسكان آدم الجنة وإخراجه منهافلما ظهر للملائكة من معصية إبليس وطغيانه ما كان مستتراً عنهم وعاتبه الله على معصيته بتركه السجود لآدم فأصرّ على معصيته وأقام على غيّه لعنه الله وأخرجه من الجنة وطرده منها وسلبه ما كان إليه من ملك سماء الدنيا والأرض وخزن الجنّة، فقال الله له: (اخرج منها - يعني من الجنة - فإنّك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين) ص: 38 : 77 - 78؛ وأسكن آدم الجنة.
قال ابن عباس وابن مسعود: فلما أسكن آدم الجنة كان يمشي فيها فرداً ليس له زوج يسكن إليها، فنام نومة واستيقظ فإذا عند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه، فسألها فقال: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: لتسكن إليّ، قالت له الملائكة لينظروا مبلغ علمه: ما اسمها؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حي، وقال الله له: (يا ادم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغداً حيث شئتما) البقرة: 2 : 35.
وقال ابن اسحاق فيما بلغه عن أهل الكتاب وغيرهم، منهم عبد الله بن عباس قال: ألقى الله تعالى على آدم النوم وأخذ ضلعاً من أضلاعه من شقّه الأيسر ولأم مكانه لحماً وخلق منه حواً، وآدم نائم، فلمّا استيقظ رآها إلى جنبه فقال: لحمي ودمي وروحي، فسكن إليها، فلما زوجه الله تعالى وجعل له سكناً من نفسه قال له: (يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة : ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) البقرة: 2 : 35.
وعن مجاهد وقتادة مثله: فلمّا أسكن الله آدم وزوجته الجنة أطلق لهما أن يأكلا كلّ ما أرادا من كل ثمارها غير ثمرة شجرة واحدة، ابتلاءً منه لهما وليمضي قضاؤه فيهما وفي ذريتهما، فوسوس لهما الشيطان، وكان سبب وصوله إليهما أنه أراد دخول الجنة فمنعته الخزنة، فأتى كلّ دابة من دواب الأرض وعرض نفسه عليها أنها تحمله حتى يدخل الجنة لكلّم آدم وزوجته، فكلّ الدواب أبى عليه حتى أتى الحية، وقال لها: أمنعك من ابن آدم فأنت في ذمتي إن أنت أدخلتني، فجعلته بين نابين من أنيابها ثم دخلت به، وكانت كاسية على أرع قوائم من أحسن دابّة خلقها الله كأنها بختيّة، فأعراها الله وجعلها تمشي على بطنها.
قال ابن عباس: اقتلوها حيث وجدتموها واخفروا ذمّة عدوّ الله فيها.

فلمّا دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فيها فناح عليهما نياحة أحزنتهما حين سمعاها، فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان فتفارقان ما أنتما فيه من النعمة والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما، ثم أتاهما فوسوس لهما وقال: (يا آدم هل أدلّك على شجرة الخلد وملك لا يبلى) طه:120 (وقال: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين) الأعراف: 7 : 20، أن تكونا ملكين، أو تخلدان إن لم تكونا ملكين في نعمة الجنة، يقول الله تعالى: (فدلاهما بغرور) الأعراف: 7 : 22، وكان انفعال حواء لوسوسته أعظم، فدعاها آدم لحاجته، فقالت: لا إلا أن تأتي ها هنا، فلما أتى قالت: لا إلا أن تأكل من هذه الشجرة، وهي الحنطة، قال: فأكلا منها، فبدت لهما سوءاتهما، وكان لباسهما الظفر، فطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، قيل: كان ورق التين، وكانت الشجرة من أكل منها أحدث، وذهب آدم هارباً في الجنة، فناداه ربّه: أن يا آدم مني تفرّ؟ قال: لا ياربّ ولكن حياء منك، فقال: يا آدم من أين أتين؟ قال: من قبل حواء يا رب، فقال الله: فإن لها عليّ أن أدميها في كل شهر وأن أجعلها سفيهة، وقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً وتشرف على الموت مراراً، قد كنت جعلتها تحمل يسراً وتضع يسراً، ولوا بليّتها لكان النساء لا يحضن، ولَكُنّ حليمات ولكن يحملن يسراً ويضعن يسراً، وقال الله تعالى له: لألعنن الأرض التي خلقت منها لعنة يتحول بها ثمارها شوكاً، ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة أفضل من الطلح والسدر.
وقال للحيّة: دخل الملعون في جوفك حتى غرّ عبدي، ملعونة أنتِ لعنةً يتحوّل بها قوائمك في بطنك ولا يكون لك رزق إلا التراب، أنت عدوّة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت واحداً منهم أخذت بعقبه وحيث لقيك شدخ رأسك، اهبطوا بعضكم لبعض عدوّ آدم وإبليس والحيّة، فأهبطهم إلى الأرض، وسلب الله آدم وحواء كلّ ما كانا فيه من النعمة والكرامة.
قيل: كان سعيد بن المسيّب يحلف بالله ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل ولكن سقته حوّاء الخمر حتى سكر فلمّا سكر قادته إليها فأكل.
قلت: والعجب من سعيد كيف يقول هذا والله يقول في صفة خمر الجنة (لا فيها غول) الصافات: 37 : 47.
ذكر اليوم الذي أسكن آدم فيه الجنة

واليوم الذي أخرج فيه منها واليوم الذي تاب فيه
روى أبو هريرة عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أسكن الجنة، وفيه أهبط منها، وفيه تاب الله عليه، وفيه تقوم الساعة، وفيه ساعة يقلّلها لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها خيراً إلا أعطاه إيّاه، قال عبد الله بن سلام: قد علمتُ أيّ ساعة هي، هي آخر ساعة من النهار.
وقال أبو العالية: أخرج آدم من الجنة للساعة التاسعة أو العاشرة منه، وأهبط إلى الأرض لتسع ساعات مضين من ذلك اليوم، وكان مكثه في الجنّة خمس ساعات منه، وقيل: كان مكثه ثلاث ساعات منه.
فإن كان قائل هذا القول أراد أنه سكن الفردوس لساعتين مضتا من يوم الجمعة من أيّام الدنيا التي هي على ما هي به اليوم، فلم يبعد قوله من الصواب لأن الأخبار كذا كانت واردة عن السلف من أهل العلم بأن آدم خُلق آخر ساعة من اليوم السادس التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا، فمعلوم أن الساعة الواحدة من ذلك اليوم ثلاثة وثمانون عاماً من أعوامنا، وقد ذكرنا أنّ آدم بعد أن خمّر ربنا طينته بقي قبل أن ينفخ فيه الروح أربعين عاماً، وذلك لا شكّ أنه عنى به أعوامنا، ثمّ بعد أن نفخ فيه الروح إلى أن تناهى أمره وأسكن الجنّة وأهبط إلى الأرض غير مستنكر أن يكون مقدار ذلك من سنينا قدر خمس وثلاثين سنة، وإن كان أراد أنّه سكن الجنّة لساعتين مضتا من نهار يوم الجمعة من الأيام التي مقدار اليوم منها ألف سنة من سنينا فقد قال غير الحقّ، لأنّ كل من له قول في ذلك من أهل العلم يقول إنّه نفخ فيه الروح آخر نهار يوم الجمعة قبل غروب الشمس.
وقد روى أبو صالح عن ابن عباس أنّ مكث آدم كان في الجنّة نصف يوم كان مقداره خمسمائة عام، وهذا أيضاً خلاف ما وردت به الأخبار عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن العلماء.
ذكر الموضع الذي أهبط فيه آدم
وحواء من الأرض

قيل: ثمّ إن الله تعالى أهبط آدم قبل غروب الشمس من اليوم الذي خلقه فيه، وهو يوم الجمعة، مع زوجته حوّاء من السماء، فقال عليّ وابن عباس وقتادة وأبو العالية: إنّه أهبط بالهند على جبل يقال له نود من أرض سرنديب، وحواء بجدّة، قال ابن عباس: فجاء في طلبها فكان كلّما وضع قدمه بموضع صار قرية، وما بين خطوتيه مفاوز، فسار حتى أتى جمعاً فازدلفت إليه حواء، فلذلك سميت المزدلفة، وتعارفا بعرفات فلذلك سميت عرفات، واجتمعا بجمع فلذلك سميت جمعاً، وأهبطت الحيّة بأصفهان، وإبليس بميسان، وقيل: أهبط آدم بالبرية، وإبليس بالأبلة.
قال أبو جعفر: وهذا ما لا يصول الى معرفة صحته إلا بخبر يجيء مجيء الحجة، ولا نعلم خبراً في ذلك غير ما ورد في هبوط آدم بالهند، فإنّ ذلك مما لا يدفع صحته علماء الإسلام.
قال ابن عباس: فلما أهبط آدم على جبل نود كانت رجلاه تمسان الأرض ورأسه بالسماء يسمع تسبيح الملائكة، فكانت تهابه، فسألت الله أن ينقص من طوله فنقص طوله الى ستين ذراعاً، فحزن آدم لما فاته من الأنس بأصوات الملائكة وتسبيحهم، فقال: يا ربّ كنت جارك في دارك ليس لي ربّ غيرك أدخلتني جنّتك آكل منها حيث شئت وأسكن حيث شئت فأهبطتني إلى الجبل المقدس فكنت أسمع أصوات الملائكة وأجد ريح الجنة فحططتني إلى ستين ذراعاً، فقد انقطع عني الصوت والنظر وذهبت عني ريح الجنّة فأجابه الله تعالى: بمعصيتك يا ادم فعلت بك ذلك.
فلما رأى الله تعالي عريّ آدم وحواء أمره أن يذبح كبشاً من الضأن من الثمانية الأزواج التي أنزل الله من الجنة، فأخذ كبشاً فذبحه وأخذ صوفه، فغزلته حواء ونسجه آدم فعمل لنفسه جبّة ولحواء درعاً وخماراً فلبسا ذلك.
وقيل: أرسل إليهما ملكاً يعلمهما ما يلبسانه من جلود الضأن والأنعام، وقيل: كان ذلك لباس أولاده، وأمّا هو وحوّاد فكان لباسهما ما كانا خصفا من ورق الجنّة، فأوحى الله إلى آدم: إن لي حرماً حيال عرشي فانطلق وابن لي بيتاً فيه ثم حفّ به كما رأيت ملائكتي يحفون بعرشي، فهنالك أتسجيب لك ولولدك من كان منهم في طاعتي، فقال آدم: يا ربّ وكيف لي بذلك لست أقوى عليه ولا أهتدي إليه، فقيّض الله ملكاً فانطلق به نحو مكّة، وكان آدم إذا مرّ بروضة قال للملك: انزل بنا ها هنا، فيقول الملك: مكانك، حتى قدم مكّة، فكان كلّ مكان نزله آدم عمراناً وما عداه مفاوز، فبنى البيت من خمسة أجبل: من طور سينا، وطور زيتون، ولبنان، والجودي، وبنى قواعده من حراء؛ فلما فرغ من بنائه خرج به الملك إلى عرفات فزراه المناسك التي يفعلها الناس اليوم، ثم قدم به مكّة فطاف بالبيت أسبوعاً، ثم رجع إلى الهند فمات على نود.
فعلى هذا القول أهبط حواء وآدم جميعاً، وإن آدم بنى البيت، وهذا خلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى منه: أنّ البيت أنزل من السماء.
وقيل: حج آدم من الهند أربعين حجّة ماشياً، ولما نزل إلى الهند كان على رأسه إكليل من شجر الجنة، فلما وصل الى الأرض يبس فتساقط ورقه فنبتت منهن أنواع الطيب بالهند، وقيل: بل الطيب من الورق الذي خصفه آدم وحواء عليهما.
وقيل: لما أمر بالخروج من الجنة جعل لا يمر بشجرة منها إلاّ أخذ منها غصناً فهبط وتلك الأغصان معه فكان أصل الطيب بالهند منها، وزوّده الله من ثمار الجنّة، فثمارنا هذه منها، غير أن هذه تتغيّر وتلك لا تتغيّر، وعلمه صنعة كلّ شيء، ونزل معه من طيب الجنة، والحجر الأسود، وكان أشدّ بياضاً من الثلج، وكان من ياقوت الجنة، ونزل معه عصا موسى، وهي من آس الجنّة ومن لبان، وأنز بعد ذلك العلاة والمطرقة والكلبتان.
وكان حسن الصورة لا يشبهه من ولده غير يوسف، وأنزل عليه جبرائيل بصرّة فيها حنطة، فقال آدم: ما هذا؟ قال: هذا الذي أخرجك من الجنة، فقال: ما أصنع به؟ فقال: انثره في الأرض، ففعل، فأنبته الله من ساعته، ثمّ حصده وجمعه وفركه وذرّاه وطحنه وعجنه وخبزه، كل ذلك بتعليم جبرائيل، وجمع له جبرائيل الحجر والحديد فقدحه فخرجت منه النار، وعلّمه جبرائيل صنعة الحديد والحراثة، وأنزل إليه ثوراً، فكان يحرث عليه، قيل هو الشقاء الذي ذكره الله تعالى بقوله: (فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى) طه: 20 : 117.

ثم إن الله أنزل آدم من الجبل وملّكه الأرض وجميع ما عليها من الجن والدوابّ والطير وغير ذلك، فشكا الى الله تعالى وقال: يا رب أما في هذه الأرض من يسبحك غيري؟ فقال الله تعالى: سأخرج من صلبك من يسبّحني ويحمدني، وسأجعل فيها بيوتاً ترفع لذكري، وأجعل فيها بيتاً أختصه بكرامتي وأسمّيه بيتي وأجعله حرماً آمناً، فمن حرّمه بحُرمتي، فقد استوجب كرامتي، ومن أخاف أهله فيه فقد خفر ذمّتي وأباح حرمتي، أوّل بيت وضع للناس فمن اعتمده لا يريد غيره فقد وفد إليّ وزارني وضافني، ويحقّ على الكريم أن يكرم وفده وأضيافه وأن يسعف كلاً بحاجته؛ تعمره أنت يا آدم ما كنت حيّاً، ثمّ تعمره الأمم والقرون والأنبياء من ولدك أمّة بعد أمّة، ثمّ أمر آدم أن يأتي البيت الحرام، وكان قد أهبط من الجنّة ياقوتة واحدة، وقيل: درّة واحدة، وبقي كذلك حتى أغرق الله قوم نوح، عليه السلام، فرفع وبقي أساسه، فبوّأ الله لإبراهيم، عليه السلام، فبناه على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وسار آدم إلى البيت ليحجّه ويتوب عنده، وكان قد بكى هو وحواء على خطيئتهما وما فاتهما من نعيم الجنة مائتي سنة ولم يأكلا ولم يشربا أربعين يوماً، ثم أكلا وشربا بعدها، ومكث آدم لم يقرب حوّاء مائة عام، فحج البيت وتلقّى آدم من ربّه كلمات فتاب عليه، وهو قوله تعالى: (ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) الأعراف: 7 : 23.
نود بضم النون، وسكون الواو، وآخره دال مهملة.
ذكر إخراج ذريّة آدم من ظهره
وأخذ الميثاقروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: أخذ الله الميثاق على ذرية آدم بنعمان من عرفة فأخرج من ظهره كل ذرية ذرأها إلى أن تقوم الساعة فنثرهم بين يديه كالذّرّ ثم كلمهم قبلاً وقال: (ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة) - إلى قوله - : (بما فعل المبطلون) الاعراف: 7 : 172 - 173.
نعمان بفتح النون الأولى.
وقيل عن ابن عباس أيضاً: إنه أخذ عليهم الميثاق بدحنا، موضع، وقال السدي: أخرج الله آدم من الجنة ولم يهبطه الى الأرض من السماء ثم مسح صفحة ظهره اليمنى فأخرج ذرية كهيئة الذّرّ بيضاء مثل اللؤلؤ، فقال لهم: ادخلوا الجنّة برحمتي، ومسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منها كهيئة الذرّ سوداء، فقال: ادخلوا النار ولا أبالي، فذلك حين يقول: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، ثم أخذ منهم الميثاق فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، فأعطوه الميثاق، طائفة طائعين وطائفة على وجه التقيّة؟
ذكر الأحداث التي كانت في عهد آدم

في الدنيا
وكان أول ذلك قتل قابيل بن آدم أخاه هابيل، وأهل العلم مختلفون في اسم قابيل، فبعضهم يقول: قين، وبعضهم يقول: قائين، وبعضهم يقول: قاين، وبعضهم يقول: قابيل.
واختلفوا أيضاً في سبب قتله، فقيل: كان سببه أن آدم كان يغشى حوّاء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت له فيها بقابيل بن آدم وتوأمته فلم تجد عليهما وحماً ولا وصباً ولم تجد عليهما طلقاً حين ولدتهما ولم تر معهما دماً لطهر الجنّة، فلما أكلا من الشجرة وهبطا إلى الأرض فاطمأنا بها تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته فودجت عليهما الوحم والوصب والطلق حين ولدتهما ورأت معهما الدم، وكانت حواء فيما يذكرون لا تحمل إلا توأماً ذكراً وأنثى، فولدت حواء لآدم أربعين ولداً لصلبه من ذكر وأنثى في عشرين بطناً، وكان الولد منهم أي أخواته شاء تزوج إلا توأمته التي تولد معه، فإنها لا تحل له، وذلك أنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم وأمهم حوّاء، فأمر آدم ابنه قابيل أن ينكح توأمة هابيل، وأمر هابيل أن ينكح توأمة أخيه قابيل.
وقيل: بل كان آدم غائباً وكان لما أراد السير قال للسماء: احفظي ولدي بالأمانة، فأبت، وقال للأرض فأبت، وللجبال فأبت، وقال لقابيل، فقال: نعم تذهب وترجع وستجد كما يسرك، فانطلق ادم فكان ما نذكره، وفيه قال الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) الأحزاب 33 : 73 فلما قال آدم لقابيل وهابيل في معنى نكاح أختيهما ما قال لهما سلم هابيل لذلك ورضي به، وأبى ذلك قابيل وكرهه تكرّهاً عن أخت هابيل ورغب بأخته عن هابيل وقال: نحن من ولادة الجنّة وهما من ولادة الأرض فأنا أحقّ بأختي.

وقال بعض أهل العلم: إن أخت قابيل كانت من أحسن الناس فضنّ بها على أخيه وأرادها لنفسه، وإنهما لم يكونا من ولادة الجنّة إنما كانا من ولادة الأرض، والله أعلم، فقال له أبوه آدم: يا بنيّ إنها لا تحلّ لك، فأبى أن يقبل ذلك من أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرّب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيّكما قبل الله قربانه فهو أحقّ بها، وكان قابيل على بذر الأرض وهابيل على رعاية الماشية، فقرّب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه، وقيل: قرب بقرةً، فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقبل القربان إذا قبله الله، فلمّا قبل الله قربان هابيل وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله الله، فلمّا قبل الله قربان هابيل، وكان في ذلك القضاء له بأخت قابيل، غضب قابيل وغلب عليه الكبر واستحوذ عليه الشيطان وقال: لأقتلنّك حتى لا تنكح أختي، قال هابيل: (إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسطٍ يدي إليك لأقتلك) إلى قوله: فطوعت له نفسه قتل أخيه) المائدة 5 : 27 - 31، فاتبعه وهو في ماشيته فقتله، فهما اللذان قص الله خبرهما في القرآن فقال: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحقّ إذ قرّبا قرباناً قتقبّل من أحدهما ولم يتقبّل من الآخر)، إلى آخر القصة.
قال: فلمّآ قتله سقط في يده ولم يدر كيف يواريه، وذلك أنّه كان فيما يزعمون أوّل قتيل من بني آدم، (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليُريه كيف يواري سوأة أخيه، قال: يا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي، فأصبح من النادمين) إلى قوله: (لمسرفون) المائدة: 5 : 32، فلمّا قتل أخاه قال الله تعالى: يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قال: لا أدري، ما كنت عليه رقيباً فقال الله تعالى: إن صوت دم أخيك يناديني من الأرض الآن، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك، فإذا أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض، فقال قابيل: عظمت خطيئتي إن لم تغفرها.
قيل: كان قتله عند عقبة حراء، ثم نزل من الجبل آخذاً بيد أخته فهرب بها إلى عدن من اليمن.
قال ابن عباس: لما قتل أخاه أخذ بيد أخته ثم هبط بها من جبل نود إلى الحضيض، فقال له آدم: اذهب فلا تزال مرعوباً لا تأمن من تراه، فكان لا يمرّ به أحد من ولده إلاّ رماه، فأقبل ابن لقابيل أعمى ومعه ابن له، فقال للأعمى ابنه: هذا أبوك قابيل فارمه، فرمى الأعمى أباه قابيل فقتله، فقال ابن الأعمى لأبيه: قتلت أباك فرفع الأعمى يده فلطم ابنه فمات، فقال: يا ويلتي قتلت أبي برميتي وابني بلطمتي.
ولما قتل هابيل كان عمره عشرين سنة، وكان لقابيل يوم قتله خمس وعشرون سنة.
وقال الحسن: كان الرجلان اللذان ذكرهما الله تعالى في القرآن بقوله: (واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق) من بني إسرائيل، ولم يكونا من بني آدم لصلبه، وكان آدم أوّل من مات.
وقال أبو جعفر: الصحيح عندنا أنهما ابنا آدم لصلبه للحديث الصحيح عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (ما من نفس تقتل ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ منها، وذلك لأنه أوّل من سنّ القتل) فبان بهذا أنهما لصلب آدم، فإن القتل مازال بين بني آدم قبل بني إسرائيل، وفي هذا الحديث أنه أول من سنّ القتل، ومن الدليل على أنه مات من ذريّة آدم قبله ما ورد في تفسير قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ) إلى قوله: (جعلا له شركاء فيما آتاهما) الأعراف: 7 : 189.
عن ابن عبّاس وابن جبير والسّدّيّ وغيرهم قالوا: كانت حواء تلد لآدم فتعبّدهم، أي تسميهم عبد الله وعبد الرحمن ونحو ذلك، فيصيبهم الموت، فأتاهما إبليس فقال: لو سميتما بغير هذه الأسماء لعاش ولدكما، فولدت ولداً فسمته عبد الحارث، وهو اسم إبليس، فنزلت: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة) الآيات، وقد روى هذا المعنى مرفوعاً.
قلت: إنما كان الله تعالى يميت أولادهم أولاً، وأحيا هذا المسمى بعبد الحارث امتحاناً واختباراً وإن كان الله تعالى يعلم الأشياء بغير امتحان ، لكن علماً لا يتعلّق به الثواب والعقاب.
ومن الدليل على أن القاتل والمقتول ابنا آدم لصلبه ما رواه العلماء عن علي بن أبي طالب أنّ آدم قال لما قتل هابيل.

تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح
تغيّر كلّ ذي طعم ولون ... وقلّ بشاشة الوجه المليح
في أبيات غيرها.
وقد زعم أكثر علماء الفرس أن جيومرث هو آدم، وزعم بعضهم أنه ابن آدم لصلبه من حواء، وقالوا فيه أقوالاً كثيرة يطول بذكرها الكتاب إذ كان قصدنا ذكر الملوك وأيامهم، ولم يكن ذكر الاختلاف في نسب ملك من جنس ما أنشأنا له الكتاب، فإن ذكرنا من ذلك شيئاً فلتعريف من ذكرنا ليعرفه من لم يكن عارفاً به، وقد خالف علماء الفرس فيما قالوا من ذلك آخرون من غيرهم ممن زعم أنّه آدم، ووافق علماء الفرس على اسمه، وخالفهم في عينه وصفته فزعم أن جيومرث الذي زعمت الفرس أنه آدم إنما هو حام بن يافث بن نوح، وأنه كان معمّراً سيّداً نزل جبل دنباوند من جبال طبرستان من أرض المشرق وتملك بها وبفارس وعظم أمره وأمر ولده حتى ملكوا بابل وملكوا في بعض الأوقات الأقاليم كلها، وابتنى جيومرث المدن والحصون وأعدّ السّلاح وأتخذ الخيل وتجبّر في آخر أمره وتسمى بآدم، وقال: من سمّاني بغيره قتلته، وتزوج ثلاثين امرأة، فكثر منهنّ نسله، وان ماري ابنه وماريانة أخته ممن كانا ولداً في آخر عمره، فأعجب بهما وقدّمهما، فصار الملوك من نسلهما.
قال أبو جعفر: وإنما ذكرت من أمر جيومرث في هذا الموضع ما ذكرتُ لأنّه لا تدافع بين علماء الأمم أنّه أبو الفرس من العجم، وإنما اختلفوا فيه هل هو آدم أبو البشر أم غيره على ما ذكرنا، ومع ذلك فلأنّ ملكه وملك أولاده لم يزل منتظماً على سياق متّصل بأرض المشرق وجبالها إلى أن قتل يزدجرد بن شهريار بمرور أيّام عثمان بن عفان، والتاريخ على أسماء ملوكهم أسهل بياناً وأقرب إلى التحقيق منه على أعمار ملوك غيرهم من الأمم، إذ لا يُعلم أمّة من الأمم الذين ينتسبون إلى آدم دامت لهم المملكة واتصل الملك لملوكهم يأخذه آخرهم عن أولهم وغابرهم عن سالفهم سواهم.
وأنا ذاكر ما انتهى إلينا من القول في عمر آدم وأعمار من بعده من ولده من الملوك والأنبياء وجيومرث أبي الفرس فأذكر ما اختلفوا فيه من أمرهم الى الحال التي اجتمعوا عليها واتفقوا على ملك منهم في زمان بعينه أنه هو امللك في ذلك الزمان إن شاء الله.
وكان آدم مع ما أعطاه الله تعالى من ملك الأرض نبيّاً رسولاً إلى ولده، وأنزل الله عليه إحدى وعشرين صحيفة كتبها آدم بيده علمّه إيّاها جبرائيل.
روى أبو ذرّ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً، قال: قلت: يا رسول الله كم الرسل من ذلك؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جمّاً غفيراً، يعني كثيراً، طيّباً، قال: قلت: من أولهم؟ قال: آدم، قال: قلت: يا رسول الله وهو نبي مرسل؟ قال: نعم، خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه ثم سواه قبلاً، وكان ممن انزل عليه تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير وحروف المعجم في إحدى وعشرين ورقة.
ذكر ولادة شيثومن الأحداث في أيامه ولادة شيث، وكانت ولادته بعد مضيّ مائة وعشرين سنة لآدم، وبعد قتل هابيل بخمس سنين، وقيل: ولد فرداً بغير توأم، وتفسير شيث هبة الله، ومعناه أنه خلف من هابيل، وهو وصيّ آدم، وقال ابن عباس: كان معه توأم، ولما حضرت آدم الوفاة عهد الى شيث وعلّمه ساعات الليل والنهار وعبادة الخلوة في كل ساعة منها وأعلمه بالطوفان، وصارت الرياسة بعد آدم إليه، وأنزل الله عليه خمسين صحيفة، وإليه أنساب بني آدم كلّهم اليوم. وأما الفرس الذين قالوا إن جيومرث هو آدم، فإنهم قالوا: ولد لجيومرث ابنته ميشان أخت ميشى، وتزوج ميشى أخته ميشان فولدت له سيامك وسيامي، وفولد لسيامك بن جيومرث افروال ودقس وبواسب واجرب واوراش، وأمهم جيمعاً سيامي ابنه ميشي، وهي أخت أبيهم؟، وذكروا أن الأرض كلها سبعة أقاليم، فأرض باب وما يوصل إليه مما يأتيه الناس براً وبحراً فهو من إقليم واحد وسكانُه ولد افروال بن سيامك وأعقابهم، فولد لافروال ابن سيامك من افرى ابنة سيامك أو شهنج بيشداد الملك، وهو الذي خلف جدّه جيومرث في الملك، وهو أول من جميع ملك الأقاليم السبعة، وسنذكر أخباره.

وكان بعضهم يزعم أن اوشهنج هذا هو ابن آدم لصلبه من حواء. وأما ابن الكلبي فإنه زعم أن أول من ملك الأرض أو شهنق بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قال: والفرس تزعم أنه كان بعد آدم بمائتي سنة، وإنما كان بعد نوح بمائتي سنة، ولم تعرف الفرس ما كان قبل نوح. والذي ذكره هشام بن الكلبيّ لا وجه له، لاأن أوشهنج مشهور عند الفرس، وكل قوم أعلم بأنسابهم وأيامهم من غيرهم، قال: وقد زعم بعض نسّابة الفرس أن أوشهنج هذا هو مهلائيل، وأنّ أباه أفروال هو قينان، وأنّ سيامك هو أنوش أبو قينان، وأن ميشي هو شيث أبو أنوش، وأنّ جيومرث هو آدم، فإن كان الأمر كما زعم فلا شكّ أن أوشهنج كان في زمن آدم رجلاً، وذلك لأنّ مهلائيل فيما ذكر في الكتب الأولى كانت ولادة أمّه دينة ابنة براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم وأتاه بعدما مضى من عمر آدم ثلاثمائة سنة وخمس وتسعون سنة، وقد كان له حين وفاة أبيه آدم ستمائة سنة وخمس وستون سنة على حساب أن عمر آدم كان ألف سنة، وقد زعمت الفرس أن ملك أوشهنج كان أربعين سنة، فإن كان الأمر على ما ذكره النسّابة الذي ذكرت عنه ما ذكرت فيما يبعد من قال: إن ملكه كان بعد وفاة آدم بمائتي سنة.
ذكر وفاة آدم عليه السلامذكر أن آدم مرض أحد عشر يوماً وأوصي إلى ابنه شيث وأمره أن يخفي علمه عن قابيل وولده لأنه قتل هابيل حسداً منه له حين خصّه آدم بالعلم، فأخفى شيث وولده ما عندهم من العلم، ولم يكن عند قابيل وولده علم ينتفعون به.
وقد روى أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: قال الله تعالى لآدم حين خلقه: إئتِ أولئك النفر من الملائكة قل السلام عليكم، فأتاهم فسلّم عليهم، وقالوا له: عليك السلام ورحمة الله، ثم رجع الى ربّه فقال له: هذه تحيّتك وتحية ذريتك بينهم، ثم قبض له يديه فقال له: خذ واختر، فقال: أحببت يمين ربي وكلتا يديه يمين، ففتحها له فإذا فيها صورة آدم وذريته كلهم، وإذا كل رجل منهم مكتوب عنده أجله، وإذا آدم قد كتب له عمر ألف سنة، وإذا كل رجل منهم مكتوب عنده أجله، وإذا آدم قد كتب له عمر ألف سنة، وإذا قوم عليهم النور، فقال: يا رب من هؤلاء الذين عليهم النور؟ فقال: هؤلاء الأنبياء والرسل الذين أرسلهم الى عبادي، وإذا فيهم رجل هو من أضوئهم نوراً ولم يكتب له من العمر إلا أربعون سنة، فقال آدم: يا ربّ هذا من أضوئهم نوراً ولم تكتب له إلا أربعين سنة، بعد أن أعلمه أنه داود، عليه السلام، فقال: ذلك ما كتبت له، فقال: يا ربّ انقص له من عمري ستين سنة، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما أهبط الى الأرض كان يعدّ أيّامه، فلما أتاه ملك الموت لقبضه قال له آدم: عجلت يا ملك الموت قد بقي من عمري ستون سنة، فقال له ملك الموت: ما بقي شيء، سألت ربّك أن يكتبه لابنك داود، فقال: ما فعلت فقال النبيّ، صلى الله عليه وسلم: فنسي آدم فنسيت ذرّيته وجحد فجحدت ذرّيّته فحينئذٍ وضع الله الكتاب وأمر بالشهود.
وروي عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنّ أول من جحد آدم ثلاث مرار، وإن الله لما خلقه مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذار إلى يوم القيامة فجعل يعرضهم على آدم فرأى منهم رجلاً يزهر، قال: أي ربّ أيّ بنيّ هذا؟ قال: ابنك داود، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: زده من العمر، قال الله تعالى: لا، إلا أن تزيده أنت، وكان عمر آدم ألف سنة، فوهب له أربعين سنة، فكتب عليه بذلك كتاباً وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم أتته الملائكة لتقبض روحه فقال: قد بقي من عمري أربعون سنة، قالوا: إنك قد وهبتها لابنك داود، قال: ما فعلتُ ولا وهبتُ له شيئاً، فأنزل الله عليه الكتاب وأقام الملائكة شهوداً، فأكمل لآدم ألف سنة وأكمل لداود مائة سنة.
وروي مثل هذا عن جماعة، منهم سعيد بن جبير، وقال ابن عباس: كان عمر آدم تسعمائة سنة وستّاً وثلاثين سنة، وأهل التوراة يزعمون أن عمر آدم تسعمائة سنة وثلاثون سنة، والأخبار عن رسول الله والعلماء ما ذكرنا، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، أعلم الخلق.
وعلى رواية أبي هريرة التي فيها أنّ آدم وهب داود من عمره ستين سنة لم يكن كثير اختلاف بين الحديثين وما في التوراة سوى ما وهبه لداود.

قال ابن إسحاق عن يحيى بن عباد عن أبيه قال: بلغني أن آدم حين مات بعث الله بكفنه وحنوطه من الجنّة ثمّ وليت الملائكة قبره ودفنه حتى غيّبوه.
وروى أبي بن كعب عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (أن آدم حين حضرته الوفاة بعث الله إليه بحنوطه وكفنه من الجنّة، فلما رأت حواء الملائكة ذهبت لتدخل دونهم، فقال: خلّي عني وعن رسل ربي، فما لقيت ما لقيت إلا منك، ولا أصابني ما أصابني إلا فيك، فلما قبض غسلوه بالسدر والماء وتراً وكفنوه في وتر من الثياب ثم لحدوا له ودفنوه، ثم قالوا: هذه سنّة ولد آدم من بعده).
قال ابن عباس: لما مات آدم قال شيث لجبرائيل: صلّ عليه، فقال: تقدّمْ أنت فصلّ على أبيك، فكبّر عليه ثلاثين تكبيرة، فأمّا خمس فهي الصلاة، وأما خمس وعشرون فتفضيلاً لآدم.
وقيل: دفن في غار في جبل أبي قبيس يقال له غار الكنز، وقال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة دفن آدم ببيت المقدس.
وكانت وفاته يوم الجمعة، كما تقدّم، وذكر أن حوّاء عشات بعده سنة ثمّ ماتت فدفنت مع زوجها في الغار الذي ذكرت إلى وقت الطوفان، واستخرجهما نوح وجعلهما في تابوت ثم حملهما معه في السفينة، فلما غاضت الأرض الماء ردّهما إلى مكانهما الذي انا فيه قبل الطوفان، قال: وكانت حواء فيما ذكر قد غزلت ونسجت وعجنت وخبزت وعملت أعمال النساء كلها.
وإذ قد فرغنا من ذكر آدم وعدوّه إبليس وذكر أخبارهما وما صنع الله بعدوّه إبليس حين تجبّر وتكبر من تعجيل العقوبة وطغى وبغى من الطرد والإبعاد والنظرة الى يوم الدين، وما صنع بآدمٍ إذ أخطأ ونسي من تعجيل العقوبة له ثم تغمّده إيّاه بالرحمة إذ تاب من زلّته، فأرجع إلى ذكر قابيل وشيث ابني آدم وأولادهما، إن شاء الله.
ذكر شيث بن آدم عليه السلامقد ذكرنا بعض أمره وأنه كان وصي آدم في مخلفيه بعد مضيّه لسبيله، وما أنزل الله عليه من الصحف، وقيل: إنه لم يزل مقيماً بمكّة يحج ويعتمر إلى أن مات، وإنه كان جمع ما أنزل عليه وعلى أبيه آدم من الصحف وعمل بما فيها؛ وإنه بنى الكعبة بالحجارة والطين.
وأما السلف من علمائنا فإنهم قالوا: لم تزل القبة التي جعل الله لآدم مكان البيت إلى أيام الطوفان فرفعها الله حين أرسل الطوفان، وقيل: إن شيثاً لما مرض أوصى إلى ابنه أنوش ومات فدفن مع أبويه بغار أي قبيس؛ وكانت وفاته وقد أتت عليه تسعمائة سنة واثنتا عشرة سنة، وقام أنوش بن شيث بعد موت أبيه بسياسة الملك وتدبير من تحت يديه من رعيّته مقام أبيه لا يوقف منه على تغيير ولا تبديل، فكان جميع عمر أنوش سبعمائة وخمس سنين، وكان مولده بعد أن مضى من عمر أبيه شيث ستمائة سنة وخمس سنين، وهذا قول أهل التوراة.
وقال ابن عباس: ولد لشيث أنوش وولد معه نفر كثير، وإليه أوصى شيث، ثم ولد لأنوش بن شيث ابنه قينان من أخته نعمة بنت شيث بعد مضيّ تسعين سنة من عمر أنوش وولد معه نفر كثير، وإليه الوصيّة، وولد قينان مهلائيل ونفراً كثيراً عنه، وإليه الوصيّة، وولد مهلائيل يرد، وهو اليارد، ونفراً معه، وإليه الوصيّة، فولد يرد حنوخ، وهو إدريس النبيّ، ونفراً معه، وإليه الوصية، وولد حنوخ متوشلخ ونفراً معه، وإليه الوصية.
وأما التوراة ففيها أن مهلائيل ولد بعد أن مضى من عمرآدم، عليه السلام، ثلاثمائة وخمس وتسعون سنة، ومن عمر قينان سبعون، وولد يرد لمهلائيل بعدما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة، فكان على منهاج أبيه، غير أن الأحداث بدأت في زمانه.
ذكر الأحداث التي كانت من لدن

ملك شيث إلى أن ملك يرد
ذكر أن قابيل لما قتل هابيل وهرب من أبيه آدم إلى اليمن أتاه إبليس فقال له: إنّ هابيل إنما قبل قربانه وأكلته النار لأنه كان يخدم النار ويعبدها، فانصب أنت أيضاً ناراً تكون لك ولعقبك، فبنى بيت نار، فهو أول من نصب النار وعبدها.

وقال ابن اسحاق: إن قيناً، وهو قابيل، نكح أخته أشوت بنت آدم فولدت له رجلاً وامرأة: خنوخ بن قين وعذب بنت قين، فنكح خوخ أخته عذب فولدت ثلاثة بنين وامرأة: غيرد ومحويل وزنوشيل وموليث ابنة خنوخ، فنكح أنوشيل بن خنوخ أخته موليث وولدت له رجلاً اسمه لامك، فنكح لامك امرأتين اسم إحداهما عدّى والأخرى صلّى، فولدت عدّى بولس بن لامك، فكان أول من سكن القباب واقتنى المال، وتوبلين فكان أول من ضرب بالونج والصنج، وولدت رجلاً اسمه توبلقين، وكان أول من عمل النحاس والحديد، وكان أولادهم فراعنة وجبابرة، وكانوا قد أعطوا بسطة في الخلق، قال: ثم انقرض ولد قين ولم يتركوا عقباً إلا قليلاً، وذرية آدم كلها جهلت أنسابهم وانقطع نسلهم إلا ما كان من شيث، فمنه كان النسل، وأنساب الناس اليوم كلهم إليه دون أبيه آدم، ولم يذكر ابن اسحاق من أمر قابيل وولده إلا ما حكيت.
وقال غيره من أهل التوراة: إن أول من اتخذ الملاهي من ولد قابيل رجل يقال له ثوبان بن قابيل، اتخذها في زمان مهلائيل بن قينان، اتخذ المزامير والطنابير والطبول والعيدان والمعازف، فانهمك ولد قابيل في اللهو، وتناهى خبرهم الى من بالجبل من ولد شيث، فهم منهم مائة رجل بالنزول إليهم وبمخالفة ما أوصاهم به آباؤهم، وبلغ ذلك يارد فوعظهم ونهاهم فلم يقبلوا، ونزلوا إلى ولد قابيل فأعجبوا بما رأوا منهم، فلمّا أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوة سبقت من آبائهم، فلمّا أرادوا الرجوع حيل بينهم وبين ذلك لدعوةٍ سبقت من آبائهم، فلما أبطأوا ظنّ من بالجبل ممن كان في نفسه زيغ أنهم أقاموا اغتباطاً، فتسلّلوا ينزلون من الجبل ورأوا اللهو فأعجبهم ووافقوا نساءً من ولد قابيل متشرّعات إليهم وصرن معهم وانهمكوا في الطغيان وفشت الفحشاء وشرب الخمر فيهم، وهذا القول غير بعيد من الحق، وذلك أنه قد روي عن جماعة من سلف علمائنا المسلمين نحو منه، وإن لم يكونوا بينوا زمان من حدث - ذلك في ملكه، إلا أنهم ذكروا أن ذلك كان فيما بين آدم ونوح؛ منهم ابن عباس أو مثله، ومثله روى الحكم بن عتيبة عن أبيه مع اختلاف قريب من القولين، والله أعلم.
وأما نسّابو الفرس فقد ذكرت ما قالوا في مهلائيل بن قينان وأنه هو أوشهنج الذي ملك الأقاليم السبعة، وبينت قول من خالفهم، وقال هشام بن الكلبيّ: إنه أول من بني البناء واستخرج المعادن وأمر أهل زمانه باتخاذ المساجد، وبني مدينتين كانتا أول ما بني على ظهر الأرض من المدائن، وهما مدينة بابل، وهي بالعراق، ومدينة السوس بخوزستان، وكان ملكه أربعين سنة. وقال غيره: هو أوّل من استنبط الحديد وعمل منه الأدوات للصناعات وقدّر المياه في مواضع المنافع وحضّ الناس على الزراعة واعتماد الأعمال، وأمر بقتل السباع الضارية واتخاذ الملابس من جلودها والمفارش، وبذبح البقر والغنم والوحش وأكل لحومها، وإنه بنى مدينة الريّ، قالوا: وهي أول مدينة بنيت بعد مدينة جيومرث التي كان يسكنها بدنباوند، وقالوا: إنه أول من وضع الأحكام والحدود، وكان ملقبّاً بذلك يدعى بيشداد، ومعناه بالفارسية أول من حكم بالعدل، وذلك أن بيش معناه أول، وداد معناه عدل وقضى، وهو أول من استخدم الجواري وأوّل من قطع الشجر وجعله في البناء، وذكروا أنه نذل الهند وتنقل في البلاد وعقد على رأسه تاجاً، وذكروا أنه قهر إبليس وجنوده ومنعهم الاختلاط بالناس وتوعدهم على ذلك وقتل مردتهم، فهربوا من خوفه الى المفاوز والجبال، فلما مات عادوا.
وقيل: إنه سمى شرار الناس شياطين واستخدمهم، وملك الأقاليم كلّها، وإنه كان بين مولد أوشهنج وموت جيومرث مائتا سنة وثلاث وعشرون سنة.
عتيبة بالعين، وبعدها تاء فوقها نقطتان، وياد تحتها نقطتان، وباء موحدة.
ذكر يرد

وقيل يارد بن مهلائيل أمّه خالته سمعن ابنة براكيل بن محويل بن حنوخ بن قين بن آدم، ولد بعدما مضى من عمر آدم أربعمائة سنة وستون سنة، وفي أيامه عملت الأصنام وعاد من عاد عن الاسلام، ثم نكح يرد، في قول ابن اسحاق، وهو ابن مائة واثنتين وستين سنة، بركتا ابنة الدرمسيل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، فولدت له خنوخ، وهو إدريس النبيّ، فكان أول بني آدم أعطي النبّوة وخط بالقلم، وأول من نظر في علوم النجوم والحساب، وحكماء اليونانيين يسمونه هرمس الحكيم، وهو عظيم عندهم، فعاش يرد بعد مولد إدريس ثمانمائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان عمره تسعمائة سنة واثنتين وستين سنة، وقيل: أنزل على إدريس ثلاثون صحيفة، وهو أول من جاهد في سبيل الله وقطع الثياب وخاطها، وأوّل من سبى من ولد قابيل بن آدم فاسترقَّ منهم، وكان وصيّ والده يرد فيما كان آباؤه وصّوا به إليه وفيما أوصى بعضهم بعضاً، وتوفي آدم بعد أن مضى من عمر إدريس ثلاثمائة وثماني سنين، ودعا إدريس قومه وعظهم وأمرهم بطاعة الله تعالى ومعصية الشيطان وأن لا يلابسوا ولد قابيل، فلم يقبلوا منه.
قال: وفي التوراة أن الله رفع إدريس بعد ثلاثمائة سنة وخمس وستين سنة من عمره، وبعد أن مضى من عمر أبيه خمسمائة سنة وسبع وعشرون سنة، فعاش أبوه بعد ارتفاعه أربعمائة وخمساً وثلاثين سنة تمام تسعمائة واثنتين وستين سنة.
قال النبي، صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذرّ من الرسل أربعة سريانيون: آدم وشيث ونوح وخنوخ، وهو أول من خط بالقلم، وأنزل الله عليه ثلاثين صحيفة، وقيل: إن الله أرسله إلى جميع أهل الأرض في زمانه، وجمع له علم الماضين وزاده ثلاثين صحيفة، وقال بعضهم: ملك بيوراسب في عهد إدريس، وكان قد وقع عليه من كلام آدم، فاتخذه سحراً، وكان بيوراسب يعمل به، يارد بياء معجمة باثنتين من تحتها، وراء مهملة، وذال معجمة، وحنوخ بحاء مهملة مفتوحة، ونون بعدها واو، وخاء معجمة، وقيل: بخائين معجمتين).
ذكر ملك طهمورثزعمت الفرس أنه ملك بعد موت أوشهنج طهمورث بن ويونجهان، يعني خير أهل الأرض، ابن حبايداد بن أوشهنج، وقيل في نسبه غير ذلك، وزعم الفرس أيضاً أنه ملك الأقاليم السبعة وعقد على رأسه تاجاً، وكان محموداً في ملكه مشفقاً على رعيّته، وأنه ابتنى سابور من فارس ونزلها وتنقل في البلدان، وأنه وثب بإبليس حتى ركبه فطاف عليه في أداني الأرض وأقاصيها، وأفزعه ومردته حتى تفرّقوا، وكان أوهل من اتخذ الصوف والشعر للّبس والفرش، وأول من اتخذ زينة الملوك من الخيل والبغال والحمير، وأمر باتخاذ الكلاب لحفظ المواشي وغيرها، وأخذ الجوارح للصيد، وكتب بالفارسية، وأنّ بيوراسب ظهر في أول سنة من ملكه ودعا إلى ملّة كذا قال أبو جعفر وغيره من العلماء: إنه ركب إبليس وطاف عليه، والعهدة عليهم، وإنما نحن نقلنا ما قالوه.
قال ابن الكلبي: أول ملوك الأرض من بابل طهمورث، وكان لله مطيعاً، وكان ملكه أربعين سنة، وهو أوّل من كتب بالفارسية، وفي أيامه عبدت الأصنام، وأول ما عرف الصوم في ملكه، وسببه أن قوماً فقراء تعذّر عليهم القوت فأمسكوا نهاراً وأكلوا ليلاً ما يمسك رمقهم، ثم اعتقدوه تقرُّباً الى الله وجاءت الشرائع به.
ذكر خنوخ وهو إدريس عليه السلامثم نكح خنوخ بن يرد هدانة، ويقال اذانة، ابنة باوبل بن محويل بن خنوخ بن قين بن آدم، وهو ابن خمس وستين سنة، فولدت له متوشلخ بن خنوخ، فعاش بعدما ولد متوشلخ ثلاثمائة سنة، ثمّ رفع واستخلفه خنوخ على أمر ولده وأمر الله وأوصاه وأهل بيته قبل أن يرفع وأعلمهم أن الله سوف يعذب ولد قابيل ومن خالطهم، ونهاهم عن مخالطتهم، وإنه كان أوّل من ركب الخيل لأنه سلك رسم أبيه خنوخ في الجهاد، ثم نكح متوشلخ عربا ابنة عزازيل بن أنوشيل بن خنوخ بن قين، وهو ابن مائة سنة وسبع وثلاثين سنة، فولدت له لمك بن متوشلخ، فعاش بعدما ولد له لمك سبع مائة سنة، وولد له بنون وبنات، فكان كلُّ ما عاش متوشلخ تسعمائة سنة وسبعاً وعشرين سنة ثم مات وأوصى الى ابنه لمك، فكان لمك يعظ قومه وينهاهم عن مخالطة ولد قابيل، فلم يقبلوا حتى نزل إليهم جميع من كان معهم في الجبل.
وقيل: كان لمتوشلخ ابن آخر غير لمك يقال له صابي، وبه سمي الصابئون.

قلت: محويل بحاء مهملة، وياء معجمة باثنتين من تحت، وقين بقاف، وياء معجمة باثنتين من تحت، ومتوشلخ بفتح الميم، وبالتاء المعجمة باثنتين من فوق، وبالشين المعجمة، وبحاء مهملة، وقيل خاء معجمة.
ونكح لمك بن متوشلخ قينوش ابنة براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين، وهو ابن مائة سنة وسبع وثمانين سنة، فولدت له نوح بن لمك، وهو النبيّ، فعاش لمك بعد مولد نوح خمسمائة سنة وخمساً وتسعين سنة وولد له بنون بونات ثمّ مات، ونكح نوح بن لمك عزرة بنت براكيل بن محويل بن خنوخ بن قين، وهو ابن خمسمائة سنة، فولدت له ولده ساماً وحاماً ويافث بني نوح، وكان مولد نوح بعد موت آدم بمائة سنة وستّ وعشرين سنة، ولما أدرك قال له أبوه لمك: قد علمت أنه لم يبق في هذا الجبل غيرنا فلا تستوحش ولا تتبع الأمّة الخاطئة، وكان نوح يدعو قومه ويعظهم فيستخفّون به.
وقيل: كان نوح في عهد بيوراسب وكانوا قومه فدعاهم الى الله تسعمائة وخمسين سنة كلّما مضى قرن اتبعهم قرن على ملّة واحدة من الكفر حتى أنزل الله عليهم العذاب.
وقال ابن عبّاس فيما رواه ابن الكلبيّ عن أبي صالح عنه: فولد لمك نوحاً، وكان له يوم ولد نوح اثنتان وثمانون سنة، ولم يكن في ذلك الزمان أحد ينهى عن منكر، فبعث الله إليهم نوحاً وهو ابن أربع مائة وثمانين سنة فدعاهم مائة وعشرين سنة ثمّ أمره الله بصنعة الفلك فصنعها وركبها وهو ابن ستمائة سنة وغرق من غرق ثمّ مكث من بعد السفينة ثلاثمائة سنة وخمسين سنة.
وروي عن جماعة من السلف أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على ملّة الحقّ، وأن الكفر بالله حدث في القرن الذي بعث فيه إليهم نوح، فأرسله الله، وهو أوّل نبيّ بعث بالإنذار والدّعاء إلى التوحيد؛ وهو قول ابن عبّاس وقتادة.
ذكر ملك جمشيدوأما علماء الفرس فإنهم قاولا: ملك بعد طهمورث جم شيد، والشيد عندهم الشعاع، وجم القمر، لقبوه بذلك لجماله، وهو جم بن ويونجهان، وهو أخو طهمورث، وقيل: إنه ملك الأقاليم السبعة وسخر له ما فيها من الجنّ والإنس، وعقد التاج على رأسه، وأمر لسنة مضت من ملكه إلى خمسين سنة بعمل السيوف والدروع وسائر الأسلحة والة الصنّاع من الحديد، ومن سنة خمسين من ملكه إلى سنة مائة بعمل الإبريسم وغزله والقطن والكتّان وكلّ ما يستطاع غزله وحياكة ذلك وصبغه ألواناً ولبسه، ومن سنة مائة الى سنة خمسين ومائة صنف الناس أربع طبقات: طبقة مقاتلة، وطبقة فقهاء، وطبقة كتّاب وصنّاع، وطبقة حرّاثين، واتخذ منهم خدماً، ووضع لكل أمر خاتماً مخصوصاً به، فكتب على خاتم الحرب: الرفق والمداراة، وعلى خاتم الخراج: العمارة والعدل، وعلى خاتم البريد والرسل: الصدق والأمانة، وعلى خاتم المظالم: السياسة والانتصاف، وبقيت رسوم تلك الخواتيم حتى محاها الإسلام.
ومن سنة مائة وخمسين الى سنة خمسين ومائتين حارب الشياطين وأذلهم وقهرهم وسخروا له، ومن سنة خمسين ومائتين الى سنة ست عشرة وثلاثمائة وكّل الشياطين بقطع الأحجار والصخور من الجبال وعمل الرخام والجصّ والكلس والبناء بذلك الحمّامات والنقل من البحار والجبال والمعادن والذهب والفضّة وسائر ما يذاب من الجواهر وأنواع الطيب والأدوية، فنفذوا في ذلك بأمره، ثم أمر فصنعت له عجلة من الزجاج، فأصفد فيها الشياطين وركبها وأقبل عليها في الهواء من دنباوند الى بابل في يوم واحد، وهو يوم هرمزروز وافروز دين ماه، فاتخذ الناس ذلك اليوم عيداً وخمسة أيام بعده، وكتب الى الناس في اليوم السادس يخبرهم أنه قد سار فيهم بسيرة ارتضاها الله، فكان من جزائه إياه عليها أنه قد جنبهم الحرّ والبرد والأسقام والهرم والحسد، فمكث الناس ثلاثمائة سنة بعد الثلاثمائة والستّ عشرة سنة لا يصيبهم شيء مما ذكر.

ثم بنى قنطرة على دجلة فبقيت دهراً طويلاً حتى خرّبها الاسكندر، وأراد الملوك عمل مثلها فعجزوا فعدلوا الى عمل الجسور من الخشب، ثم إن جمّاً بطر نعمة الله عليه وجمع الإنس والجن والشياطين وأخبرهم أنه وليّهم ومانعهم بقوته من الأسقام والهرم والموت، وتمادى في غيّه، فلم يحر أحد منهم جواباً، وفقد مكانه وبهاءه وعزّه وتخلّت عنه الملائكة الذين كان الله أمرهم بسياسة أمره، فأحسّ بذلك بيوراسب الذي تسمّى الضحّاك فابتدر الى جم لينتهسه، فهرب منه، ثمّ ظفر به بعد ذلك بيوراسب فاستطرد امعاءه وأشره بمئشار.
وقيل: إنه ادعى الربوبية فوثب عليه أخوه ليقتله واسمه استغتور فتوارى عنه مائة سنة، فخرج عليه في تواريه بيوراسب فغلبه على ملكه.
وقيل: كان ملكه سبعمائة سنة وستّ عشرة سنة وأربعة أشهر.
قلت: وهذا الفصل من حديث جم قد أتينا به تاماً بعد أن كنّا عازمين على تركه لما فيه من الأشياء التي تمجّها الأسماع وتأباها العقول والطباع، فإنها من خرافات الفرس مع أشياء أخرى قد تقدّمت قبلها، وإنما ذكرناها ليعلم جهل الفرس، فإنهم كثيراً ما يشنعون على العرب بجهلهم وما بلغوا هذا؛ ولأنّا لو كنّا تركنا هذا الفصل لخلا من شيد نذكره من أخبارهم.
ذكر الأحداث التي كانت في زمن نوح

عليه السلام
قد اختلف العلماء في ديانة القوم الذي أرسل إليهم نوح، فمنهم من قال: إنهم كانوا قد أجمعا على العمل بما يكرهه الله تعالى من ركوب الفواحش والكفر وشرب الخمور والاشتغال بالملاهي عن طاعة الله، ومنهم من قال: إنهم كانوا أهل طاعة، وبيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئين وتبعه على ذلك الذين أرسل إليهم نوح، وسنذكر أخبار بيوراسب فيما بعد.
وأما كتاب الله، قال: فينطق بأنهم أهل أوثان؛ قال تعالى: (وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً وقد أضلّوا كثيراً) نوح 71 : 23 - 24.
قلت: لا تناقض بين هذه الأقاويل الثلاثة، فإنّ القول الحقّ الذي لا يشكّ فيه هو أنهم كانوا أهل أوثان يعبدونها، كما نطق به القرآن، وهو مذهب طائفة من الصابئين، فإن أصل مذهب الصابئين عدابة الروحانيين، وهم الملائكة لتقربهم الى الله تعالى زلفى، فإنهم اعترفوا بصانع العالم وأنه حكيم قادر مقدّس، إلا أنهم قالوا الواجب علينا معرفة العجز عن الوصول الى معرفة جلاله وإنما نتقرب إليه بالوسائط المقرِّبة لديه؛ وهم الروحانيون، وحيث لم يعاينوا الروحانيين تقربوا إليهم بالهياكل، وهي الكواكب السبعة السيارة لأنها مدبرة لهذا العالم عندهم، ثم ذهبت طائفة منهم، وهم أصحاب الأشخاص، حيث رأوا أن الهياكل تطلع وتغرب وترى ليلاً ولا ترى نهاراً، إلى وضع الأصنام لتكون نصب أعينهم ليتوسّلوا بها الى الهياكل، والهياكل الى الروحانيين، والروحانيون الى صانع العالم؛ فهذا كان أصل وضع الأصنام أولاً، وقد كان أخيراً في العرب من هو على هذا الاعتقاد، وقال تعالى: (ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى) الزمر: 39 : 3، فقد حصل من عبادة الأصنام مذهب الصابئين والكفر والفواحش وغير ذلك من المعاصي.
فلما تمادى قوم نوح على كفرهم وعصيانهم بعث الله إليهم نوحاً يحذّرهم بأسه ونقمته ويدعوهم الى التوبة والرجوع إلى الحقّ والعمل بما زمر الله تعالى، وأرسل نوح، وهو ابن خمسين سنة، فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً.
وقال عون بن أبي شداد: إن الله تعالي أرسل نوحاً وهو ابن ثلاثمائة وخسمين سنة فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ثم عاش بعد ذلك ثلاثمائة وخسمين سنة، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم.

قال ابن إسحاق وغيره: إن قوم نوح كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللهم اغفر لي ولقومي فإنهم لا يعلمون حتى إذا تمادوا في معصيتهم وعظمت في الأرض منهم الخطيئة وتطاول عليه وعليهم الشأن اشتد عليه البلاء وانتظر النجل بعد النجل فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من الذي كان قبله حتى إن كان الآخر ليقول: قد كان هذا مع آبائنا وأجدادنا مجنوناً لا يقبلون منه شيئاً، وكان يضرب ويلفّ ويلقى في بيته، ويرون أنه قد مات، فإذا أفاق اغتسل وخرج إليهم يدعوهم الى الله، فلما طال ذلك عليه ورأى الأولاد شرّاً من الآباء قال: ربّ قد ترى ما يفعل بي عبادك، فإن تك لك فيهم حاجة فاهدهم، وإن يك غير ذلك فصيرني الى أن تحكم فيهم، فأوحى إليه: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) هود: 36، فلما يئس من إيمانهم دعا عليهم فقال: (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً) نوح 71 : 26، الى آخر القصة، فلما شكا الى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه أن: (اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) هود: 11 : 37، فأقبل نوح على عمل الفلك ولها عن دعاء قومه وجعل يهيء عتاد الفلك من الخشب والحديد والقار وغيرها مما لا يصلحه سواه، وجعل قومه يمرون به وهو في عمله فيسخرون منه، فيقول: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون، فسوف تعلمون) هود: 11 : 38 - 39، قال: ويقولون: يا نوح قد صرت نجّاراً بعد النبوّة وأعقم الله أرحام النساء فلا يولد لهم، وصنع الفلك من خشب الساج وأمره أن يجعل طوله ثمانين ذراعاً وعرضه خمسين ذراعاً وطوله في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، وعرضها خمسين ذراعاً، وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً، وقال الحسن: كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ستمائة ذراع، والله أعلم.
وأمر نوحاً أن يجعله ثلاث طبقات: سفلى ووسطى وعليا، ففعل نوح كما أمره الله تعالى، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) هود:11 : 40؛ وقد جعل التنور ايةً فيما بينه وبينه، فلمّا فار التنور، وكان فيما قيل من حجارة كان لحواء: وقال ابن عباس: كان ذلك تنوراً من أرض الهند، وقال مجاهد والشعبيّ: كان التنور بأرض الكوفة، وأخبرته زوجته بفوران الماء من التنور، وأمر الله جبرائيل فرفع الكعبة إلى السماء الرابعة، وكانت من ياقوت الجنة، كما ذكرناه، وخبز الحجر الأسود بجبل أبي قُبيس، فبقي فيه إلى أن بنى إبراهيم البيت فأخذه فجعله موضعه، ولما فار التنور حمل نوح من أمر الله بحمله، وكانوا أولاده الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم وستة أناسي، فكانوا مع نوح ثلاثة عشر.
وقال ابن عبّاس: كان في السفنية ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم، كلهم بنو شيث، وقال قتادة: كانوا ثمانية أنفس: نوح وامرأته وثلاثة بنوه ونساؤهم، وقال الأعمش: كانوا سبعة، ولم يذكر فيهم زوج نوح، وحمل معه جسد آدم ثمّ أدخل ما أمر الله به من الدواب، وتخلّف عنه ابنه يام، وكان كافراً، وكان آخر من دخل السفينة الحمار، فلما دخل صدره تعلّق إبليس بذنبه فلم ترتفع رجلاه، فجعل نوح يأمره بالدخول فلا يستطيع حتى قال: ادخل وإن كان الشيطان معك، فقال كلمة زلّت على لسانه، فلمّا قالها دخل الشيطان معه، فقال له نوح: ما أدخلك يا عدوّ الله؟ فقال: ألم تقل ادخل وإن كان الشيطان معك؟ فتركه، ولما أمر نوح بإدخال الحيوان السفينة قال: أي ربّ كيف أصنع بالأسد والبقرة؟ وكيف أصنع بالعناق والذئب والطير والهر؟ قال: الذي ألقى بينها العداوة هو يؤلف بينها، فألقى الحمى على الأسد وشغله بنفسه، ولذلك قيل:
وما الكلب محموماً وإن طال عمره ... ولكنما الحمى على الأسد الورد

وجعل نوح الطير في الطبق الأسفل من السفينة، وجعل الوحش في الطبق الأوسط، وركب هو ومن معه من بني آدم في الطبق الأعلى، فلما أطمأن نوح في الفلك وأدخل فيه كلّ من أمر به، وكان ذلك بعد ستمائة سنة من عمره في قول بعضهم، وفي قول بعضهم ما ذكرناه، وحمل معه من حمل، جاء الماء كما قال الله تعالى: (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيوناً فالتقي الماء على أمر قد قدر) القمر: 54 : 44 - 12، فكان بين أن أرسل الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوماً وأربعون ليلة، وكثر واشتدّ وارتفع وطمى، وغطى نوح وعلى من معه طبق السفينة، وجعلت الفلك تجري بهم في موج كالجبال، ونادي نوح ابنه الذي هلك، وكان في معزل: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) هود: 11 : 42، وكان كافراً؛ (قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، وكان عهد الجبال وهي حرز وملجأ، فقال نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلاّ من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) هو:11 : 43، وعلا الماء على رؤوس الجبال، فكان على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، فهلك ما على وجه الأرض من حيوان ونبات، فلم يبق إلا نوح ومن معه وإلا عوج بن عنق، فيما زعم أهل التوراة، وكان بين إرسال الماء وبين أن غاض ستّة أشهر وعشر ليال.
قال ابن عباس: أرسل الله المطر أربعين يوماً، فأقبلت الوحش حين أصابها المطر والطين إلى نوح وسخّرت له، فحمل منها كما أمره الله، فركبوا فيها لعشر ليال مضين من رجب، وكان ذلك لثلاث عشرة خلت من آب، وخرجوا منها يوم عاشوراء من المحرّم، فلذلك صام من صام يوم عاشوراء، وكان الماء نصفين: نصف من السماء ونصف من الأرض، وطافت السفينة بالأرض كلها لا تستقر حتى أتت الحرم فلم تدخله، ودارت بالحرم أسبوعاً ثم ذهبت في الأرض تسير بهم حتى انتهت الى الجودي، وهو جبل بقردى بأرض الموصل، فاستقرت عليه، فقيل عند ذلك: (بعداً للقوم الظالمين) هود: 11 : 44، ولما استقرت قيل: (يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي، وغيض الماء) هود: 11 : 44، نشفته الأرض، وأقام نوح في الفلك إلى أن غاض الماء، فلما خرج منها اتخذ بناحية من قردى من أرض الجزيرة موضعاً وابتنى قريةً سمّوها ثمانين، وهي الآن تسمى بسوق الثمانين لأن كلّ واحد ممن معه بنى لنفسه بيتاً وكانوا ثمانين رجلاً.
قال بعض أهل التوراة: لم يولد لنوح إلا بعد الطوفان، وقيل: إن ساماً ولد قبل الطوفان بثمان وتسعين سنة، وقيل: إنّ اسم ولده الذي أغرق كان كنعان وهو يام.
وأما المجوس فإنهم لا يعرفون الطوفان ويقولون لم يزل الملك فينا من عهد جيومرث، وهو آدم، قالوا: ولو كان كذلك لكان نسب القوم قد انقطع وملكهم قد اضمحلّ، وكان بعضهم يقرّ بالطوفان ويزعم أنه كان في إقليم بابل وما قرب منه، وأن مساكن ولد جيومرث كانت بالمشرق فلم يصل ذلك إليهم، وقول الله تعالى أصدق في أن ذرّية نوح هم الباقون فلم يعقب أحد ممن كان معه في السفينة غير ولده سام وحام ويافث.
ولما حضرت نوحاً الوفاة قيل له: كيف رأيت الدنيا؟ قال: كبيت له بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر، وأوصى إلى ابنه سام وكان أكبر ولده.
ذكر بيوراسب وهو الازدهاق الذي يسميه العرب الضحّاك
وأهل اليمن يدّعون أنّ الضحاك منهم، وأنه أول الفراعنة، وكان ملك مصر لما قدمها إبراهيم الخليل، والفرس تذكر أنه منهم وتنسبه إليهم وأنه بيوراسب بن أرونداسب بن رينكار بن وندريشتك بن يارين بن فروال بن سيامك بن ميشي بن جيومرث، ومنهم من ينسبه غير هذه النسبة، وزعم أهل الأخبار أنه ملك الأقاليم السبعة، وأنه كان ساحراً فاجراً.
قال هشام بن الكلبيّ: ملك الضحاك بعد جم فيما يزعمون، والله أعلم، ألف سنة، ونزل السواد في قرية يقال لها برس في ناحية طريق الكوفة، وملك الأرض كلها، وسار بالجور والعسف، وبسط يده في القتل، وكان أول من سن الصلب والقطع، وأول من وضع العشور وضرب الدراهم، وأول من تغنى وغني له، قال: وبلغنا أنّ الضحاك هو نمرود، وأن ابراهيم، عليه السلام، ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه، وتزعم الفرس أن الملك لم يكن إلا للبطن الذي منه أوشهنج وجم وطهمورث، وأن الضحّاك كان غاصباً، وأنه غصب أهل الأرض بسحره وخبثه وهوّل عليهم بالحيّتين اللّتين كانتا على منكبيه.

وقال كثير من أهل الكتب: إن الذي كان على منكبيه كان لحمتين طويلتين كلّ واحدة منهما كرأس الثعبان، وكان يسترهما بالثياب، ويذكر على طريق التهويل أنهما حيتان تقتضيانه الطعام، وكانتا تتحركان تحت ثوبه إذا جاعتا، ولقي الناس منه جهداً شديداً، وذبح الصبيان لأنّ اللحمتين اللتين كانتا على منكبيه كانتا تضطربان فإذا طلاهما بدماغ إنسان سكنتا، فكان يذبح كلّ يوم رجلين، فلم يزل الناس كذلك حتى إذا أراد الله هلاكه وثب رجل من العامة من أهل أصبهان يقال له كابي بسبب ابنين له أخذهما أصحاب بيوراسب بسبب اللحمتين اللتين على منكبيه، وأخذ كابي عصاً كانت بيده فعلّق بطرفها جراباً كان معه ثمّ نصب ذلك كالعلم ودعا الناس الى مجاهدة بيوراسب ومحاربته، فأسرع الى إجابته خلق كثير لما كانوا فيه من البلاء وفنون الجور، فلما غلب كابي تفاءل الناس بذلك العلم فعظّموه وزادوا فيه حتى صار عند ملوك العجم علمهم الأكبر الذي يتبركون به وسموه درفش كابيان، فكانوا لا يسيرونه إلا في الأمور الكبار العظام، ولا يرفع إلا لأولاد الملوك إذا وجهوا في الأمور الكبار.
وكان من خبر كابي أنه من أهل أصبهان، فثار بمن اتبعه، فالتفت الخلائق إليه، فلمّا أشرف على الضحّاك قذف في قلب الضحاك منه الرعب فهرب عن منازله وخلّى مكانه، فاجتمع الأعجام إلى كابي، فأعلمهم أنه لا يتعرض للملك لأنه ليس من أهله، وأمرهم أن يملكوا بعض ولد جم لأنه ابن الملك أوشهنق الأكبر بن فروال الذي رسم الملك وسبق في القيام به، وكان أفريدون بن أثغيان مستخفياً من الضحاك فوافى كابي ومن معه، فاستبشروا بموافاته فملّكوه، وصار كابي والوجوه لأفريدون أعواناً على أمره، فلمّا ملك وأحكم ما احتاج إليه من أمر الملك احتوى على منازل الضحاك وسار في أثره فأسره بدنباوند في جبالها.
وبعض المجوس تزعم أنه وكل به قوماً ن الجن، وبعضهم يقول: إنه لقي سليمان بن داود، وحبسه سليمان في جبل دنباوند، وكان ذلك الزمان بالشام، فما برح بيوراسب بحبسه يجرّه حتى حمله الى خراسان، فلمّا عرف سليمان ذلك أمر الجنّ فأوثقوه حتى لا يزول وعملوا عليه طلسماً كرجلين يدقّان باب الغار الذي حبس فيه أبداً لئلا يخرج، فإنه عندهم لا يموت.
وهذا أيضاً من أكاذيب الفرس الباردة، ولهم فيه أكاذيب أعجب من هذا تركنا ذكرها.
وبعض الفرس زعم أن أفريدون قتله يوم النّيروز، فقال العجم عند قتله: إمروز نوروز، أي استقبلنا الدهر بيوم جديد، فاتخذوه عيداً، وكان أسره يوم المهرجان، فقال العجم: آمد مهرجان لقتل من كان يذبح، وزعموا أنهم لم يسمعوا في أمور الضحاك بشيء يستحسن غير شيء واحد، وهو أن بليته لما اشتدت ودام جوره وتراسل الوجوه في أمره فأجمعوا على المصير الى بابه فوافاه الوجوه، فاتفقوا على أن يدخل عليه كابي الأصبهاني، فدخل عليه ولم يسلم، فقال: أيها الملك أي السلام أسلم عليك؟ سلام من يملك الأقاليم كلها أم سلام من يملك هذا الإقليم؟ فقال: بل سلام من يملك الأقاليم كلها لأني ملك الأرض، فقال كابي: إذ كنت تملك الأقاليم كلها فلم خصصتنا بأثقالك وأسبابك من بينهم ولم لا تقسم الأمور بيننا وبينهم؟ وعدّد عليه أشياء كثيرة، فصدّقه، فعمل كلامه في الضحّاك، فأقرّ بالإساءة وتألّف القوم ووعدهم بما يحبون وأمرهم بالانصراف ليعودوا ويقضي حوائجهم ثم ينصرفوا إلى بلادهم.
وكانت أمّه حاضرة تسمع معاتبتهم، وكانت شرّاً منه، فلمّا خرج القوم دخلت مغتاظة من احتماله وحلمه عنهم فوبخته وقالت له: ألا أهلكتهم وقطعت أيديهم؟ فلما أكثرت عليه قال لها: ياهذه لا تفكري في شيء إلا وقد سبقت إليه، إلا أن القوم بدهوني بالحقّ وقرعوني به، فكلما هممت بهم تخيل لي الحق بمنزلة الجبل بيني وبينهم فما أمكنني فيهم شيء، ثم جلس لأهل النواحي فوفى لهم بما وعدهم وقضى أكثر حوائجهم.
وقال بعضهم: كان ملكه ستمائة سنة، وكان عمره ألف سنة، وإنه كان في باقي عمره شبيهاً بالملك لقدرته ونفوذ أمره، وقيل: كان ملكه ألف سنة وكان عمره ألف سنة ومائة سنة.
وإنما ذكرنا خبر بيوراسب ها هنا لأن بعضهم يزعم أن نوحاً كان في زمانه، وإنما أرسل إليه والى أهل مملكته، وقيل: إنه هو الذي بنى مدينة بابل ومدينة صور ومدينة دمشق.
ذكر ذرية نوح عليه السلام

قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى: (وجعلنا ذريته هم الباقين) الصافات: 37 : 77؛ إنهم سام وحام ويافث، وقال وهب بن منبّه: إن سام بن نوح أبو العرب وفارس والروم، وإن حاماً أبو السودان، وإنّ يافث أبو الترك ويزجوج ومأجوج، وقيل: إنّ القبط من ولد قوط بن حام، وإنما كان السواد في نسل حام لأن نوحاً نام فانكشفت سوأته فرآها حام فلم يغطها ورآها سام ويافث فألقيا عليه ثوباً، فلما استيقظ علم ما صنع حام وإخوته فدعا عليهم.
قال ابن اسحاق: فكانت امرأة سام بن نوح صل ابنة بتأويل بن محويل بن خانوخ بن قين بن آدم فولدت له نقراً: أرفخشذ واشوذ ولاوذ وإرم، قال: ولا أدري أإرم لأمّ أرفخشذ وإخوته أم لا، فمن لود لاوذ بن سام فارس وجرجان وطسم وعميلق، وهو أبو العماليق، ومنهم كانت الجبابرة بالشام الذين يقال لهم الكنعانيون، والفراعنة بمصر، وكان أهل البحرين وعمان منهم ويسمون جاشم، وكان منهم بنو أميم بن لاوذ أهل وبار بأرض الرمل، وهي بين اليمامة والشحر، وكانوا قد كثروا فأصابتهم نقمة من الله من معصية أصابوها فهلكوا وبقيت منهم بقيّة، وهم الذين يقال لهم النسناس، وكان طسم ساكني اليمامة الى البحرين، فكانت طسم والعماليق وأميم وجاشم قوماً عرباً لسانهم عربيّ، ولحقت عبيل بيثرب قبل أن تبنى، ولحقت العماليق بصنعاء قبل أن تسمى صنعاء، وانحدر بعضهم الى يثرب فأخرجوا منها عبيلاً فنزلوا موضع الجحفة، فأقبل سيل فاجتحفهم، أي أهلكهم، فسميت الجحفة.
قال: وولد إرم بن سام عوضاً وغائراً وحويلاً، فولد عوض غاثراً وعاداً وعبيلاً، وولد غائر بن إم ثمود وجديساً، وكانوا عرباً يتكلّمون بهذا اللسان المصريّ، وكانت العرب تقول لهذه الأمم ولجرهم العرب العاربة، ويقولون لبني اسماعيل العرب المتعربة لأنهم إنما تكلموا بلسان هذه الأمم حين سكنوا بين أطهرهم، فكانت عاد بهذا الرمل الى حضرموت، وكانت ثمود بالحجر بين الحجاز والشام الى وادي القرى، ولحقت جديس بطسم وكانوا معهم باليمامة إلى البحرين، واسم اليمامة إذ ذاك جوّ، وسكنت جاشم عمام، والنبط من ولد نبيط بن ماش بن إرم بن سام، والفرس بنو فارس بن تيرش بن ماسور بن سام.
قال: وولد لأرفخشذ بن سام ابنه قينان، كان ساحراً، وولد لقينان شالخ بن أرفخشذ من غير ذكر قينان لما ذكر من سحره، وولد لشالخ غابر، ولغابر فالغ، ومعناه القاسم، لأن الأرض قسمت والألسن تبلبلت في أيامه، وقحطان بن غابر، فولد لقحطان يعرب ويقظان، فنزلا اليمن، وكان أول من سكن اليمن وأول من سلم عليه بأبيت اللعن، وولد لفالغ بن غابر أرغو، وولد لأرغو ساروغ، وولد لساروغ ناخور، وولد لناخور تارخ، واسمه بالعربية آزر، وولد لآزر إبراهيم، عليه السلام، وولد لأرفخشذ أيضاً نمرود، وقيل هو نمرود بن كوش بن حام بن نوح.
قال هشام بن الكلبي: السند والهند بنو توقير بن يقطن بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وجرهم من ولد يقطن بن غابر، وحضرموت ابن يقطن، ويقطن هو قحطان في قول من نسبه الى غير اسماعيل، والبربر من ولد ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لاود بن سام بن نوح ما خلا صنهاجة وكتامة، فإنهما بنو فريقش بن صيفي بن سبأ.
وأما يافث فمن ولده جامر وموعع ومورك وبوان وفوبا وماشج وتيرش، فمن ولد جامر ملوك فارس في قول، ومن ولد تيرش الترك والخزر، ومن ولد ماشج الأشبان كانوا في القديم بأرض الروم قبل أن يقع بها من وقع من ولد العيص بن إسحاق وغيرهم، وقصد كلّ فريق من هؤلاء الثلاثة سام وحام ويافث أرضاً فسكنوها ودفعوا غيرهم عنها، ومن ولد يافث الروم، وهم بنو لنطى بن يوان بن نافث بن نوح.
وأما حام فولد له كوش ومصرايم وقوط كنعان، فمن ولد كوش نمرود بن كوش، وقيل: هو من ولد سام، وصارت بقية ولد حام بالسواحل من النوبة والحبشة والزنج، ويقال: إن مصرايم ولد القبط والبربر.
وأما قوط فقيل إنه سار الى الهند والسند فنزلها وأهلها من ولده.
وأما الكنعانيون فلحق بعضهم بالشام ثم جاءت بنو إسرائيل فقتلوهم بها ونفوهم عنها وصار الشام لبني إسرائيل، ثمّ وثبت الروم على بني إسرائيل فأجلوهم عن الشام الى العراق إلا قليلاً منهم، ثم جاءت العرب فغلبوا على الشام، وكان يقال لعاد عاد إرم، فلمّا هلكوا قيل لثمود ثمود إرم، قال:

وزعم أهل التوراة أن أرفخشذ ولد لسام بعد أن مضى من عمر سام مائة سنة وسنتان، وكان جميع عمر سام ستمائة سنة.
ثم ولد لأرفخشذ قينان بعد أن مضى من عمر أرفخشذ خمس وثلاثون سنة، وكان عمره أربعمائة وثمانياً وثلاثين سنة، ثم ولد لقينان شالخ بعد أن مضي من عمره تسع وثلاثون سنة، ولم تذكر مدّة عمر قينان في الكتب لما ذكرنا من سحره، ثمّ ولد لشالخ غابر بعدما مضى من عمره ثلاثون سنة، وكان عمره كله أربعمائة وثلاثاً وثلاثين سنة، ثم ولد لغابر فالغ وأخوه قحطان، وكان مولد فالغ بعد الطوفان بمائة وأربعين سنة، وكان عمره أربعمائة وأربعاً وسبعين سنة، ثم ولد لفالغ أرغو بعد ثلاثين سنة من عمر فالغ، وكان عمره مائتين وتسعاً وثلاثين سنة، وولد لأرغو ساروغ بعدما مضى من عمره اثنتان وثلاثون سنة، وكان عمره مائتين وتسعاً وثلاثين سنة، وولد لساروغ ناخور بعد ثلاثين سنة من عمره، وكان عمره كلّه مائتين وثلاثين سنة، ثمّ ولد لناخور تارخ أبو إبراهيم بعدما مضى من عمره سبع وعشرون سنة، وكان عمره كله مائتين وثمانياً وأربعين سنة، وولد لتارخ، وهو آزر، ابراهيم، عليه السلام، وكان بين الطوفان ومولد ابراهيم ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة، وذلك بعد خلق آدم بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين سنة، وولد لقحطان بن غابر يعرب، فولد ليعرب يشجب، فولد يشجب سبأ، فولد سبأ حمير وكهلان وعمراً والأشعر وأنمار ومرّاً، فولد عمرو بن سبأ عديّاً، وولد عديّ لخماً وجذاماً.
ذكر ملك أفريدونوهو أفريدون بن اثغيان، وهو من ولد جم شيد، وقد زعم بعض نسّابة الفرس أن نوحاً هو أفريدون الذي قهر الضحّاك وسلبه ملكه، وزعم بعضهم أنّ أفريدون هو ذو القرنين صاحب إبراهيم الذي ذكره الله في كلامه العزيز، وإنما ذكرته في هذا الموضع لأن قصته في أولاده الثلاثة شبيهة بقصة نوح على ما سيأتي ولحسن سيرته وهلاك الضحّاك على يديه ولأنه قيل إنّ هلاك الضحّاك كان على يد نوح.
وأما باقي نسابة الفرس فإنهم ينسبون أفريدون إلى جم شيد الملك، وكان بينهما عشرة آباء كلهم يسمى اثغيان خوفاً من الضحّاك، وإنما كانوا يتميزون بألقاب لقبوها، فكان يقال لأحهم اثغيان صاحب البقر الحمر واثغيان صاحب البقر البلق وأشباه ذلك، وكان أفريدون أول من ذلّل الفيلة وامتطاها ونتج البغال واتخذ الإوز والحمام وعلم الترياق وردّ المظالم وأمر النّاس بعبادة الله والإنصاف والإحسان، وردّ على الناس ما كان الضحّاك غصبه من الأرض وغيرها إلاّ ما لم يجد له صاحباً فإنه وقفه على المساكين.
وقيل: إنه أول من سمّي الصوفي، وهو أوّل من نظر في علم الطبّ، وكان له ثلاثة بنين، اسم الأكبر شرم، والثاني طوج، والثالث إيرج، فخاف أن يختلفوا بعده فقسم ملكه بينهم أثلاثاً وجعل ذلك في سهام كتب أسماءهم عليها وأمر كلّ واحد منهم فأخذ سهماً، فصارت الروم وناحية العرب لشرم، وصارت الترك والصين لطوج، وصارت العراق والسند والهند والحجاز وغيرها لإيرج، وهو الثالث، وكان يحبّه، وأعطاه التاج والسرير، ومات أفريدون ونشبت العداوة بين أولاده وأولادهم من بعدهم، ولم يزل التحاسد ينمو بينهم إلى أن وثب طوج وشرم على أخيهما إيرج فقتلاه وقتلا ابنين كانا لإيرج وملكا الأرض بينهما ثلاثمائة سنة، ولم يزل أفريدون يتبع من بقي بالسواد من آل نمرود والنبط وغيرهم حتى أتى على وجوههم ومحا أعلامهم، وكان ملكه خمسمائة سنة.
ذكر الأحداث التي كانت بين نوح وإبراهيمقد ذكرنا ما كان من أمر نوح وأمر ولده واقتسامهم الأرض بعده ومساكن كلّ فريق منهم، فكان ممن طغى وبغى فأرسل الله إليهم رسولاً فكذبوه فأهلكهم الله، هذان الحيّان من ولد إرم بن سام بن نوح، أحدهما عاد والثاني ثمود.

فأمّا عاد: فهو عاد بن عوض بن إرم بن سام بن نوح، وهو عاد الأولى، وكانت مساكنهم ما بين الشحر وعمان وحضرموت بالأحقاف، فكانوا جبّارين طوال القامة لم يكن مثلهم، يقول الله تعالى: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوحٍ وزادكم في الخلق بسطة) الأعراف: 7 : 69؛ فأرسل الله إليهم هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض، ومن الناس من يزعم أنه هو دوهو غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وكانوا أهل أوثان ثلاثة يقال لأحدها ضراً وللآخر ضمور وللثالث الهبا، فدعاهم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة دون غيره وترك ظلم الناس، فكذّبوه وقالوا: من أشدُّ منا قوّةً ولم يؤمن بهود منهم إلاّ قليل، وكان من أمرهم ما ذكره ابن اسحاق قال: إن عاداً أصابهم قحط تتابع عليهم بتكذيبهم هوداً، فلمّا أصابهم قالوا: جهزوا منكم وفداً الى مكة يستسقون لكم، فبعثوا قيل بن عير ولقيم بن هزّال ومرثد بن سعد، وكان مسلماً يكتم إسلامه، وجلهمة بن الخيبري، خال معاوية بن بكر، ولقمان بن عاد بن فلان بن عاد الأكبر في سبعين رجلاً من قومهم، فلمّا قدموا مكّة نزلوا على معاوية بن بكر بظاهر مكّة خارجاً عن الحرم، فأكرمهم، وكانوا أخواله وصهره لأنّ لقيم بن هزال كان تزوّج هزيلة بنت بكر أخت معاوية فأولدها أولاداً كانوا عند خالهم معاوية بمكّة، وهم: عبيد وعمرو وعامر وعمير بنو لقيم، وهم عاد الآخرة التي بقيت بعد عاد الأولى، فلمّا نزلوا على معاوية أقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان، فينتان لمعاوية، فلما رأى معاوية طول مقامهم وتركهم ما أرسلوا له شقّ عليه ذلك وقال: هلك أخوالي، واستحيا أن يأمر الوفد بالخروج إلى ما بعثوا له، فذكر ذلك للجرادتين فقال: قل شعراً نغنّيهم به لا يدرون من قائله لعلّهم يتحركون؛ فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يصبحنا غماما
فيسقي أرض عاد إنّ عاداً ... قد أمسوا لا يُبينون الكلاما
في أبيات ذكرها، والهيمنة: الكلام الخفي، فلما غنتهم الجرادتان ذلك الشعر وسمعه القوم قال بعضهم لبعض: يا قوم بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم فأبطأتم عليها فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم، فقال مرثد بن سعد: إنهم والله لا يسقون بدعائكم ولكن أطيعوا نبيكم فأنتم تسقون، وأظهر إسلامه عند ذلك، فقال جلهمة بن الخيبري، خال معاوية، لمعاوية بن بكر: احبس عنّا مرثد بن سعد، وخرجوا الى مكة يستسقون بها لعاد، فدعوا الله تعالى لقومهم واستسقوا، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ونادى منادٍ منها: يا قيل اختر لنفسك وقومك، فقال: قد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماء فناداه مناد: اخترت رماداً رمددا، لا تبقي من عاد أحداً، لا ولداً تترك ولا والداً إلا جعلته همدا، إلا بني اللوذيّة المهدى، وبنو اللوذية: بنو لقيم بن هزّال، كاوا بمكة عندهم خالهم معاوية ابن بكر، وساق الله السحابة السوداء بما فيها من العذاب الى عاد، فخرجت عليهم من واد يقال له المغيث، فلمّا رأوها استبشروا بها وقالوا: (هذا عارض ممطرنا) يقول الله تعالى: (بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمّر كل شيءٍ بأمر ربها) الاحقاف: 46 : 24 - 25؛ أي كل شيء أمرت به، وكان أول من رأى ما فيها وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد يقال لها فهدد، فلمّا رأت ما فيها صاحت وصعقت، فلمّا خرجت الريح ن الوادي قال سبعة رهط منهم، أحدهم الخلجان: تعالوا حتى نقوم على شفير الوادي فنردّها، فجعلت الريح تدخل تحت الواحد منهم فتحمله ثم ترمي به فتدقّ عنقه، وبقي الخلجان فمال إلى الجبل وقال:
لم يق إلا الخلجان نفسه ... يالك من يوم دهاني أمسه
بثابت الوطء شديدٍ وطسه ... لو لم يجئني جئته أجسّه
فقال له هود: أسلم تسلم، فقال: ومالي؟ قال: الجنة، فقال: فما هؤلاء الذين في السحاب كأنهم البخت؟ قال: الملائكة، قال: أيعيذني ربك منهم إن أسلمت؟ قال: هل رأيت ملكاً يعيذ من جنده؟ قال: لو فعل ما رضيت.

ثم جاءت الريح وألحقته بأصحابه و(سخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً) الحاقة 69 : 7، كما قال تعالى، والحسوم: الدائمة، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك، واعتزل هود والمؤمنون في حظيرة لم يصبه ومن معه منها إلاّ تليين الجلود، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن ما بين السماء والأرض وتدمغهم بالحجارة، وعاد وفد عاد الى معاوية بن بكر فنزلوا عليه، فأتاهم رجل على ناقة فأخبرهم بمصاب عاد وسلامة هود.
قال: وكان قد قيل للقمان بن عاد: اختر لنفسك إلا أنه لا سبيل الى الخلود، فقال: يا ربّ أعطني عمراً، فقيل له: اختر، فاختار عمر سبعة أنسر، فعمّر فيما يزعمون عمر سبعة أنسر، فكان يأخذ الفرخ الذكر حين يخرج من بيضته حتى إذا مات أخذ غيره، وكان يعيش كل نسر ثمانين سنة، فلما مات السابع مات لقمان معه، وكان السابع يسمى لبداً، قال: وكان عمر هود مائة وخمسين سنة، وقبره بحضرموت، وقيل بالحجر من مكّة، فلمّا هلكوا أرسل الله طيراً سوداً فنقلتهم الى البحر، فذلك قوله تعالى: (فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) الاحقاف: 46 : 25، ولم تخرج ريح قطّ إلا بمكيال إلا يومئذٍ فإنها عتت على الخزنة، فذلك قوله: (أهلكوا بريح صرصر عاتية) الحاقة: 69 : 6، وكانت الريح تقلع الشجرة العظيمة بعروقها وتهدم البيت على من فيه.
وأما ثمود: فهم ولد ثمود بن جاثر بن إرم بن سام، وكانت مساكن ثمود بالحجر بين الحجاز والشام، وكانوا بعد عاد قد كثروا وكفروا وعتوا، فبعث الله إليهم صالح بن عبيد بن أسف بن ماشج بن عبيد بن جادر بن ثمود، وقيل أسف بن كماشج بن اروم بن ثمود يدعوهم إلى توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة (فقالوا: يا صلاح قد كنت فينا مرجوّاً قبل هذا) هود: 11 : 62 الآية؛ وكان الله قد أطال أعمارهم حتى إن كان أحدهم يبني البيت من المدر فينهدم وهو حيّ، فلمّا رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بويتاً فارهين فنحتوها، وكانوا في سعة من معايشهم، ولم يزل صالح يدعوهم فلم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون، فلما ألح عليهم بالدّعاء والتحذير والتخويف سألوه فقالوا: يا صالح اخرج معنا إلى عيدنا، وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم، فأرنا آية فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا، فقال: نعم، فخرجوا بأصنامهم وصالح معهم، فدعوا أصنامهم أن لا يستجاب لصالح ما يدعو به، وقال له سيّد قومه: يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة - لصخرة منفردة - ناقة جوفاء عشراء، فإن فعلت ذلك صدّقناك.
فأخذ عليهم المواثيق بذلك وأتى الصخرة وصلّى ودعا ربّه عز وجل فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ثم انفجرت وخرجت من وسطها الناقة كما طلبوا وهم ينظرون ثمّ نتجت سقباً مثلها في العظم، فآمن به سيد قومه، واسمه جندع بن عمرو، ورهط من قومه، فلما خرجت الناقة قال لهم صالح: (هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) الشعراء: 26 : 155، ومتى عقرتموها أهلككم الله، فكان شربها يوماً وشربهم يوماً معلوماً، فإذا كان يوم شربها خلّوا بينها وبين الماء وحلبوا لبنها وملأوا كلّ وعاء وإناء، وإذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء فلم تشرب منه شيئاً وتزوّدوا من الماء للغد.

فأوحى الله الى صالح أن قومك سيعقرون الناقة، فقال لهم ذلك، فقالوا: ما كنّا لنفعل، قال: إلاّ تعقروها أنتم يوشك أن يولد فيكم مولود يعقرها، قالوا: وما علامته؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه قال: فإنه غلام أشقر أزرق أصهب أحمر، قال: فكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان لأحدهما ابن رغب له عن المناكح وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤاً فزوّج أحدهما ابنه بابنة الآخر فولد بينهما المولود، فلمّا قال لهم صالح إنما يعقرها مولود فيكم اختاروا قوابل من القرية وجعلوا معهنّ شرطاً يطوفون في القرية فإذا وجدوا امرأة تلد نظروا ولدها ما هو، فلّما وجدوا ذلك المولد صرخ النسوة وقلن: هذا الذي يريد نبيّ الله صالح، فأراد الشرط أن يأخذوه فحال جدّاه بينهم وبينه وقالا: لو أراد صالح هذا لقتلناه، فكان شرّ مولود وكان يشبّ في اليوم شباب غيره في الجمعة، فاجتمع تسعة رهط منهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون، كانوا قتلوا أبناءهم حين ولدوا خوفاً أن يكون عاقر الناقة منهم، ثمّ ندموا فأقسموا ليقتلنَّ صالحاً وأهله وقالوا: نخرج فترى الناس أننا نريد السفر فنأتي الغار الذي على طريق صالح فنكون فيه، فإذا جاء الليل وخرج صالح الى مسجده قتلناه ثمّ رجعنا الى الغار ثم انصرفنا الى رحالنا وقلنا ما شهدنا قتله فيصدّقنا قومه، وكان صالح لا يبيت معهم، كان يخرج إلى مسجد له يعرف بمسجد صالح فيبيت فيه، فلمّا دخلوا الغار سقطت عليهم صخرة فقتلتهم، فانطلق رجال ممن عرف الحال إلى الغار فرأوهم هلكى، فعادوا يصيحون: إنّ صالحاً أمرهم بقتل أولادهم ثمّ قتلهم.
وقيل: إنما كان تقاسم التسعة على قتل صالح بعد عقر الناقة وإنذار صالح إيّاهم بالعذاب، وذلك أنّ التسعة الذين عقروا الناقة قالوا: تعالوا فلنقتل صالحاً فإن كان صادقاً عجّلنا قتله، وإن كان كاذباً ألحقناه بالناقة، فأتوه ليلاً في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة فهلكوا، فأتى أصحابهم فرأوهم هلكى فقالوا لصالح: أنت قتلتهم، وأرادوا قتله، فمنعهم عشيرته وقالوا: إنه قد أنذركم العذاب، فإن كان صادقاً فلا تزيدوا ربّكم غضباً وإن كان كاذباً فنحن نسلّمه إليكم، فعادوا عنه؛ فعلى القول الأوّل يكون التسعة الذين تقاسموا غير الذين عقروا الناقة، والثاني أصح، والله أعلم.

وأما سبب قتل الناقة فقيل: إن قدار بن سالف جلس مع نفر يشربون الخمر فلم يقدروا على ماء يمزجون به خمرهم لأنه كان يوم شرب الناقة، فحرّض بعضهم بعضاً على قتلها، وقيل: إنّ ثموداً كان فيهم امرأتان يقال لإحداهما قطام وللأخرى قبال، وكان قدار يهوى قطام ومصدع يهوى قبال ويجتمعان بهما، ففي بعض الليالي قالتا لقدار ومصدع: لا سبيل لكما إلينا حتى تقتلا الناقة، فقالا: نعم، وخرجا وجمعا أصحابهما وقصدا الناقة وهي على حوضها، فقال الشقيّ لأحدهم: اذهب فاعقرها، فأتاها، فتعاظمه ذلك، فأضرب عنه، وبعث آخر فأعظم ذلك وجعل لا يبعث أحداً إلاّ تعاظمه قتلها حتى مشى هو إليها فتطاول فضرب عرقوبها فوقعت تركض، وكان قتلها يوم الأربعاء، واسمه بلغتهم جبّار، وكان هلاكهم يوم الأحد، وهو عندهم أوّل، فلمّا قتلت أتى رجل منهم صالحاً فقال: أدرك الناقة فقد عقروها، فأقبل وخرجوا يتلقّونه يعتذرون إليه: يا نبيّ الله إنما عقرها فلان إنّه لا ذنب لنا قال: انظروا هل تدركون فصيلها؟ فإن أدركتموه فعسى الله أن يرفع عنكم العذاب، فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمّه تضطرب قصد جبلاً يقال له القارة قصيراً فصعده، وذهبوا يطلبونه، فأوحى الله الى الجبل فطال في السماء حتى ما يناله الطير، ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سالت دموعه ثمّ استقبل صالحاً فرغاً ثلاثاً، فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب) هود: 11 : 65، وآية العذاب أن وجوهكم تصبح في اليوم الأول مصفرة وتصبح في اليوم الثاني محمرّة وتصبح في اليوم الثالث مسودّة، فلما أصبحوا إذا وجوههم كأنما طليت بالخلوق صغيرهم وكبيرهم وأنثاهم، فلمّا أصبحوا في اليوم الثاني إذا وجوههم محمرّة، فلما أصبحوا في اليوم الثالث إذا وجوههم مسودّة كأنما طليت بالقار، فتكفّنوا وتحنّطوا، وكان حنوطهم الصبر والمر، وكانت أكفانهم الأنطاع، ثمّ ألقوا أنفسهم الى الأرض فجعلوا يقلبّون أبصارهم الى السماء والأرض لا يدرون من أين يأتيهم العذاب، فلمّا أصبحوا في اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كالصاعقة، فتقطّعت قلوبهم في صدورهم (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) هود: 11 : 67، وأهلك الله من كان بين المشارق والمغارب منهم إلا رجلاً كان في الحرم فمنعه الحرم، قيل: ومن هو؟ قيل: هو أبو رغال، وهو أبو ثقيف في قول.
ولا سار النبيّ، صلى الله عليه وسلم، إلى تبوك أتى على قرية ثمود فقال لأصحابه: لا يدخلنّ أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها، وأراهم مرتقى الفصيل في الجبل وأراهم الفجّ الذي كانت الناقة ترد منه الماء.
وأمّا صالح، عليه السلام، فإنّه سار الى الشام فنزل فلسطين ثمّ انتقل الى مكة فأقام بها يعبد الله حتى مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة، وكان قد أقام في قومه يدعوهم عشرين سنة.
وأما أهل التوراة فإنهم يزعمون أنه لا ذكر لعاد وهود وثمود وصالح في التوراة، قال: وأمرهم عند العرب في الجاهلية والإسلام كشهرة إبراهيم الخليل، عليه السلام.
قلت: وليس إنكارهم ذلك بأعجب من إنكارهم نبوّة إبراهيم الخليل ورسالته، وكذلك إنكارهم حال المسيح، عليه السلام.
ذكر إبراهيم الخليل عليه السلام

ومن كان في عصره من ملوك العجم
وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن غابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشذ بن سام بن نوح، عليه السلام، واختلف في الموضع الذي كان فيه والموضع الذي ولد فيه، فقيل: ولد بالسوس من أرض الأهواز، وقيل: ولد ببابل، وقيل: بكوثى، وقيل: بحرّان ولكن أباه نقله، قال عامة أهل العلم: كان مولده في عهد نمرود بن كوش، ويقول عامّة أهل الأخبار: إنّ نمرود كان عاملاً للازدهاق الذي زعم بعض من زعم أن نوحاً أرسل إليه، وأمّا جماعة من سلف من العلماء فإنهم يقولون: كان ملكاً برأسه.
قال ابن إسحاق: وكان ملكه قد أحاط بمشارق الأرض ومغاربها، وكان ببابل، قال: ويقال: لم يجتمع ملك الأرض إلا لثلاثة ملوك: نمرود وذي القرنين وسليمان بن داود، وأضاف غيره إليهم بخت نصرّ، وسنذكر بطلان هذا القول.

فلما أراد الله أن يبعث ابراهيم حجة على خلقه ورسولاً إلى عباده ولم يكن فيما بينه وبين نوح نبيّ إلا هود وصالح، فلمّا تقارب زمان إبراهيم أتى أصحابُ النجوم نمرود فقالوا له: إنها نجد غلاماً يولد في قريتك هذه يقال له ابراهيم يفارق دينكم ويكسّر أصنامكم في شهر كذا من سنة كذا، فلمّا دخلت السنة التي ذكروا حبس نمرود الحبالى عنده إلاّ أم ابراهيم فإنه لم يعلم بحبلها لأنه لم يظهر عليها أثره، فذبح كلّ غلام ولد في ذلك الوقت، فلمّا وجدت أم ابراهيم الطلق خرجت ليلاً الى مغارة وكانت قريبة منها فولدت ابراهيم وأصلحت من شأنه ما يصنع بالمولود ثم سدّت عليه المغارة ثم سعت الى بيتها راجعة، ثمّ كانت تطالعه لتنظر ما فعل، فكان يشبّ في اليوم ما يشبّ غيره في الشهر، وكانت تجده حيّاً يمصّ إبهامه جعل الله رزقه فيها.
وكان آزر قد سأل أمّ إبراهيم عن حملها فقالت: ولدتُ غلاماً فمات، فصدّقها، وقيل: بل علم آزر بولادة إبراهيم وكتمه حتى نسي الملك ذكر ذلك ، فقال آزر: إنّ لي ابناً قد خبأته أفتخافون عليه الملك إن أنا جئت به؟ فقالوا: لا، فانطلق فأخرجه من السرب، فلما نظر الى الدواب والى الخلق، ولم يكن رأى قبل ذلك غير أبيه وأمه، جعل يسأل أباه عما يراه، فيقول أبوه: هذا بعير أو بقرة أو غير ذلك، فقال: ما لهؤلاء الخلق بدّ من أن يكون لهم ربّ وكان خروجه بعد غروب الشمس، فرفع رأسه إلى السماء فإذا هو بالكوكب وهو المشتري، فقال: هذا ربي، فلم يلبث أن غاب فقال: لا أحب الآفلين، وكان خروجه في آخر الشهر فلهذا رأى الكوكب قبل القمر.
وقيل: كان تفكّر وعمره خمسة عشر شهراً، قال لأمّه وهو في المغارة: أخرجيني أنظر، فأخرجته عشاء فنظر فرأى الكوكب وتفكّر في خلق السموات والأرض وقال في الكوكب ما تقدّم، (فلما رأى القمر بازغاً قال: هذا ربي، فلما أفل قال: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين) الأنعام: 6 : 77، فلما جاء النهار وطلعت الشمس رأى نوراً أعظم من كلّ ما رأى فقال: (هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال: يا قوم إني بريء مما تشركون) الانعام: 6 : 78، ثم رجع ابراهيم الى أبيه وقد عرف ربه وبريء من دين قومه إلاّ أنه لم ينادهم بذلك، فأخبرته أمّه بما كانت صنعت من كتمان حاله، فسرّه ذلك.
وكان آزر يصنع الأصنام التي يعبدونها ويعطيها إبراهيم ليبيعها، فكان ابراهيم يقول: من يشري ما لا يضرّه ولا ينفعه؟ فلا يشتريها منه أحد، وكان يأخذها وينطلق بها الى نهر فيصوّب رؤوسها فيه ويقول: اشربي استهزاء بقومه، حتى فشا ذلك عنه في قومه، غير أنّه لم يبلغ خبره نمرود، فلمّا بدا لابراهيم أن يدعو قومه الى ترك ما هم عليه ويأمرهم بعبادة الله تعالى دعا أباه الى التوحيد فلم يجبه، ودعا قومه فقالوا: من تعبد أنت؟ قال: ربّ العالمين، قالوا: نمرود؟ قال: بل أعبد الذي خلقني، فظهر أمره، وبلغ نمرود أنّ إبراهيم أراد أن يري قومه ضعف الأصنام التي يعبدونها ليلزمهم الحجّة، فجعل يتوقّع فرصة ينتهي بها ليفعل بأصنامهم ذلك، فنظر نظرة في النجوم فقال: إنيّ سقيم، أي طعين، ليهربوا منه إذا سمعوا به، وإنما يريد إبراهيم ليخرجوا عنه ليبلغ من أصنامهم، وكان لهم عيد يخرجون إليه جميعهم، فلما خرجوا قال هذه المقالة فلم يخرج معهم الى العيد وخالف الى أصنامهم وهو يقول: (تالله لأكيدنّ أصنامكم) الأنبياء: 21 : 57 فسمعه ضعفي الناس ومن هو في آخرهم، ورجع الى الأصنام وهي في بهو عظيم بعضها الى جنب بعض كلّ صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو وإذا هم قد جعلوا طعاماً بين يدي آلهتهم وقالوا: نترك الآلهة إلى حين نرجع فتأكله، فلما نظر ابراهيم الى ما بين أيديهم من الطعام قال: (ألا تأكلون؟) فلما لم يجبه أحد قال: (مالكم لا تنطقون؟ فراغ عليهم ضرباً باليمين) الصافات: 37 : 91 - 93، فكسرها بفأس في يده حتى إذا بقي أعظم صنم منها ربط الفأس بيده ثمّ تركهنّ.

فلما رجع قومه ورأوا ما فعل بأصنامهم راعهم ذلك وأعظموه وقالوا: (من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين قالوا: سمعنا فتىً يذكرهم يقال له ابراهيم) الأنبياء: 21 : 59 - 60 يعنون يسبّها ويعيبها، ولم نسمع ذلك من غيره وهو الذي نظنّه صنع بها هذا، وبلغ ذلك نمرود وأشراف قومه، فقالوا: (فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون) الأنبياء: 21 : 61 ما نفعل به، وقيل: يشهدون عليه، كرهوا أن يأخذوه بغير بيّنة، فلما أُتي به واجتمع له قومه عند ملكهم نمرود وقالوا: (أأنت فعلت هذا بآلهتنها يا إبراهيم؟ قال: بل فعله كبيرهم هذا، فاسألوهم إن كانوا ينطقون) الأنبياء: 21 : 63، غضب من أن يعبدوا هذه الصغار وهو أكبر منها فكسرها، فارعووا ورجعوا عنه فيما ادّعوا عليه من كسرها إلى أنفسهم فيما بينهم فقالوا: لقد ظلمناه وما نراه إلاّ كما قال، ثم قالوا، وعرفوا أنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تبطش: (لقد علمت ما هؤلاء ينطقون) الأنبياء: 21 : 65، أي لا يتكلمون، فتخبرنا من صنع هذا بها وما تبطش بالأيدي فنصدّقك، يقول الله تعالى: (ثم نكسوا على رؤوسهم) في الحجة عليهم لإبراهيم، فقال لهم إبراهيم عند قولهم (ما هؤلاء ينطقون): (أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضركم أُفّ لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون) الأنبياء: 21 : 67.
ثم إنّ نمرود قال لإبراهيم: أرأيت إلهك الذي تعبد وتدعو الى عبادته ما هو؟ قال: (ربي الذي يحي ويميت) البقرة: 2 : 258، قال نمرود: أنا أحيي وأميت، قال إبراهيم: وكيف ذلك؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل فأقتل أحدهما فأكون قد أمته وأعفو عن الآخر فأكون قد أحييته، فقال ابراهيم: (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب، فبهت) البقرة: 2 : 258 عند ذلك نمرود ولم يرجع إليه شيئاً، ثمّ إنه وأصحابه أجمعوا على قتل ابراهيم فقالوا: (حرقوه وانصروا آلهتكم) الأنبياء: 68.
قال عبد الله بن عمر: أشار بتحريقه رجل من أعراب فارس، قيل له: وللفرس أعراب؟ قال: نعم، الأكراد هم أعرابهم، قيل: كان اسمه هيزن فخسف به فهو يتجلجل فيها الى يوم القيامة.
فأمر نمرود بجمع الحطب من أصناف الخشب حتيإن كانت المرأة لتنذر ب : إن بلغت ما تطلب أن تحتطب لنار إبراهيم، حتى إذا أرادوا أن يلقوه فيها قدّموه وأشعلوا النّار حتى إن كانت الطير لتمرّ بها فتحترق من شدّتها وحرّها، فلمّا أجمعوا لقذفه فيها صاحت السماء والأرض وما فيها من الخلق إلاّ الثقلين إلى الله صيحة واحدة: أي ربّنا إبراهيم ليس في أرضك من يعبدك غيره يحرق بالنار فيك فأذن لنا في نصره قال الله تعالى: إن استغاث بشيء منكم فلينصره وإنه لم يدعُ غيري فأنا له، فلما رفعوه على رأس البنيان رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهمّ أنت الواحد في المساء وأنت الواحد في الأرض، حسبي الله ونعم الوكيل، وعرض له جبرائيل وهو يوثق فقال: ألك حاجة يا إباهيم؟ قال: أما إليك فلا، فقذفوه في النّار فناداها فقال: (يا نار كوني برداً وسلاماً على ابراهيم) الأنبياء: 21 : 96، وقيل: ناداها جبرائيل، فلو لم يتبع بردها سلام لمات ابراهيم من شدة بردها، فلم يبق يومئذٍ نارٌ إلاّ طفئت ظنت أنها هي، وبعث الله ملك الظلّ في صورة إبراهيم فقعد فيها إلى جنبه يؤنسه.
فمكث نمرود أياماً لا يشكّ أن النار قد أكلت إبراهيم، فرأى كأنه نظر فيها وهي تحرق بعضها بعضاً وإبراهيم جالس إلى جنبه رجل مثله، فقال لقومه: لقد رأيتُ كأنّ إبراهيم حيّ ولقد شبّه عليّ، ابنوا لي صرحاً يشرف بي على النار، فبنوا له وأشرف منه فرأى إبراهيم جالساً وإلى جانبه رجل في صورته، فناداه نمرود: يا ابراهيم كبيرٌ إلهك الذي بلغت قدرته وعزّته أن حال بينك وبين ما أرى، هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم، قال: أتخشى إن أقمت فيها أن تضرك؟ قال: لا، فقام ابراهيم فخرج منها، فلما خرج قال له: يا ابراهيم من الرجل الذي رأيت معك مثل صورتك؟ قال: ذلك ملك الظل أرسله إليّ ربي ليؤنسني، قال نمرود: إني مقرّب إلى إلهك قرباناً لما رأيت من قدرته وعزّته وما صنع بك حين أبيت إلا عبادته.

فقال إبراهيم: إذاً لا يقبل الله منك ما كنت على شيء من دينك، فقال: يا ابراهيم لا استطيع ترك ملكي، وقرّب أربعة آلاف بقرة وكفّ عن إبراهيم ومنعه الله منه، وآمن مع ابراهيم رجال من قومه حين رأوا ما صنع الله به على خوف من نمرود وملإهم، وآمن له لوط بن هاران، وهو ابن أخي ابراهيم، وكان لهم أخ ثالث يقال له ناخور بن تارَخ، وهو أبو بتويل، وبتويل أبو لابان وأبو ربقا امرأة إسحاق بن إبراهيم أمّ يعقوب، ولابان أبو ليا وراحي زوجتي يعقوب، وآمنت به سارة، وهي ابنة عمّه، وهي سارة ابنة هاران الأكبر عمّ إبراهيم، وقيل: كانت ابنة ملك حرّان فآمنت بالله تعالى مع ابراهيم.
ذكر هجرة إبراهيم عليه السلام

ومن آمن معه
ثم إنّ ابراهيم والذين اتبعوا أمره أجمعوا على فراق قومهم، فخرج مهاجراً حتيقدم مصر وبها فرعون من الفراعنة الأولى كان اسمه سنان بن علوان بين عبيد بن عولج بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، وقيل: كان أخا الضحّاك استعمله على مصر، وكانت سارة من أحسن النساء وجهاً، وكانت لا تعصي ابراهيم شيئاً، فلما وصفت لفرعون أرسل الى ابراهيم فقال: من هذه التي معك؟ قال: أختي، يعني في الإسلام، وتخوّف إن قال هي امرأتي أن يقتله، فقال له: زيّنها وأرسلها إليّ، فأمر بذلك ابراهيم، فتزيّنت، وأرسلها إليه، فلمّا دخلت عليه أهوى بيده إليها، وكان ابراهيم حين أرسلها قام يصلّي، فلمّا أهوى إليها أخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرّك، فدعت له، فأرسل، فأهوى إليها، فأخذ أخذاً شديداً، فقال: ادعي الله ولا أضرك، فدعت له، فأرسل، ثمّ فعل ذلك الثالثة، فذكر مثل المرّتين، فدعا أدنى حجّابه فقال: إنك لم تأتني بإنسان وإنك أتيتني بشيطان أخرجها وأعطها هاجر، ففعل، فأقبلت بهاجر، فلما أحسّ ابراهيم بها انفتل من صلاته فقال: مهيم فقالت: كفى الله كيد الكافرين وأخدم هاجر.
وكان أبو هريرة يقول: تلك أمكم يا بني ماء السماء، وروى أبو هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث مرات، اثنتين في ذات الله، قوله: (إني سقيم) وقوله: (بل فعله كبيرهم هذا)، وقوله في سارة: هي أختي).
ذكر ولادة اسماعيل عليه السلام
وحمله الى مكة
قيل: كانت هاجر جارية ذات هيئة فوهبتها سارة لإبراهيم وقالت: خذها لعلّ الله يرزقك منها ولداً، وكانت سارة قد منعت الولد حتى أسنت، فوقع إبراهيم على هاجر فولدت إسماعيل، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم: إذا افتتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإنّ لهم ذمّة ورحماً)، يعني ولادة هاجر.
فكان إبراهيم قد خرج بها الى الشام من مصر خوفاً من فرعون، فنزل السبع من أرض فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع مسيرة يوم وليلة، فبعثه الله نبيّاً، وكان إبراهيم قد اتخذ بالسبع بئراً ومسجداً، وكان ماء البئر معيناً طاهراً، فآذاه أهل السبع فانتقل عنهم، فنضب الماء فاتبعوه يسألونه العود إليهم، فلم يفعل وأعطاهم سبعة أعنز وقال: إذا أوردتموها الماء ظهر حتى يكون معيناً طاهراً فاشربوا منه ولا تغترف منه امرأة حائض، فخرجوا بالأعنز، فلمّا وقفت على الماء ظهر إليها، وكانوا يشربون منه، إلى أن غرفت منه امرأة طامث فعاد الماء الى الذي هو عليه اليوم، وأقام إبراهيم بين الرملة وإيليا ببلد يقال له قطّ أوقطّ.

قال: فلما ولد اسماعيل حزنت سارة حزناً شديداً، فوهبها الله إسحاق وعمرها سبعون سنة، فعمر إبراهيم مائة وعشرون سنة، فلما كبر اسماعيل واسحاق اختصما، فغضبت سارة على هاجر فأخرجتها ثم أعادتها، فغارت منها فأخرجتها وحلفت لتقطعن منهابضعة فتركت أنفها وأذنها لئلا تشينها ثم خفضتها، فمن ثمّ خفض النساء، وقيل: كان إسماعيل صغيراً، وإنما أخرجتها سارة غيرةً منها، وهو الصحيح، وقالت سارة: لا تساكنني في بلد، فأوحى الله الى ابراهيم أن يأتي مكة وليس بها يومئذ نبت، فجاء ابراهيم باسماعيل وأمّه هاجر فوضعهما بمكة بموضع زمزم، فلما مضى نادته هاجر: يا ابراهيم من أمرك أن تتركنا بأرض ليس فيها زرع ولا ضرع ولا ماء ولا زاد ولا أنيس؟ قال: ربي أمرني، قالت: فإنّه لن يضيعنا، فلما ولّى قال: (ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن) ابراهيم: 14 : 38 يعني من الحزن، وقال: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم) الآية ابراهيم: 14 : 38.
فلمّا ظميء اسماعيل جعل يدحض الأرض برجله، فانطلقت هاجر حتى صعدت الصفا لتنظر هل ترى شيئاً، فلم تر شيئاً، فانحدرت الى الوادي فسعت حتى أتت المروة فاستشرفت هل ترى شيئاً فلم تر شيئاً، ففعلت ذلك سبع مرات، فذلك أصل السعي، ثمّ جاءت الى اسماعيل وهو يدحض الأرض بقدميه وقد نبعت العين، وهي زمزم، فجعلت تفحص الأرض بيدها عن الماء، وكلّما اجتمع أخذته وجعلته في سقائها، قال: فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،: (يرحمها الله لو تركتها لكانت عيناً سائحة).
وكانت جرهم بوادٍ قريب من مكّة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي، قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاؤوا الى هاجر فقالوا: لو شئت لكنّا معك فآنسناك والماء ماؤك، قالت: نعم، فكانوا معها حتى شبّ اسماعيل وماتت هاجر، فتزوج اسماعيل امرأة من جرهم فتعلم العربية منهم هو وأولاده، فهم العرب المتعرّبة.
واستأذن ابراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له وشرطت عليه ألا ينزل، فقدم وقد ماتت هاجر، فذهب الى بيت اسماعيل فقال لامرأته: أين صاحبك؟ قالت: ليس ههنا، ذهب يتصيّد، وكان اسماعيل بخرج من الحرم يتصيّد ثم يرجع، قال ابراهيم: هل عندك ضيافة؟ قالت: ليس عندي ضيافة وما عندي أحد، فقال ابراهيم: إذا جاء زوجك فأقرئيه السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه.
وعاد ابراهيم، وجاء اسماعيل فوجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل عندك أحد؟ قالت: جاءني شيخ كذا وكذا، كالمستخفّة بشأنه، قال: فما قال لك؟ قالت: قال: أقرئي زوجك السلام وقولي له فليغيّر عتبة بابه، فطلّقها وتزوج أخرى.
فلبث ابراهيم ما شاء الله أن يلبث ثم استأذن سارة أن يزور اسماعيل، فأذنت له وشرطت عليه أن لا ينزل، فجاء إبراهيم حتى انتهى الى باب اسماعيل فقال لأمرأته: أين صاحبك؟ قالت: ذهب ليتصيّد وهو يجيء الآن إن شاء الله تعالى، فانزل يرحمك الله، فقال لهاك فعندك ضيافة؟ قالت: نعم، قال: فهل عندك خبز أوبرٌّ أو شعير لكانت أكثر أرض الله من ذلك، فقالت: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بالمقام بالإناء فوضعته عند شقّه الأيمن، فوضع قدمه عليه فبقي أثر قدمه فيه، فغسلت شقّ رأسه الأيمن ثمّ حوّلت المقام الى شقه الأيسر ففعلت به كذلك، فقال لها: إذا جاء زوجك فأقرئيه عني السلام وقولي له: قد استقامت عتبة بابك - فلمّا جاء اسماعيل وجد ريح أبيه فقال لأمرأته: هل جاءكِ أحد؟ قالت: نعم، شيخ أحسن النّاس وجهاً وأطيبهم ريحاً فقال لي كذا وكذا، وقلتُ له كذا وكذا، وغسلت رأسه، وهذا موضع قدمه، وهو يُقرئك السلام ويقول: قد استقامت عتبة بابك، قال: ذلك إبراهيم.
وقيل: إنّ الذي أنبع الماء جبرائيل، فإنه نزل الى هاجر وهي تسعى في الوادي فسمعت حسّه فقالت: قد أسمعتني فأغثني فقد هلكتُ أنا ومن معي، فجاء بها الى موضع زمزم فضرب بقدمه ففارت عيناً، فتعجلت، فجعلت تفرغ في شنّها، فقال لها: لا تخافي الظمأ.
ذكر عمارة البيت الحرام بمكة

قيل: ثم أمر الله ابراهيم ببناء البيت الحرام، فضاق بذلك ذرعاً فأرسل الله السكينة، وهي ريح خجوج، وهي الليّنة الهبوب، لها رأسان، فسار معها إبراهيم حتى انتهت الى موضع البيت فتطوت عليه كتطوي الحجفة، فأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقرّ السكينة، فبنى إبراهيم.
وقيل: أرسل الله مثل الغمامة له رأس فكلّمه وقال: يا إبراهيم ابن على ظلّي أو على قدري لا تزدْ ولا تنقص، فبنى، وهذان القولان نُقِلا عن عليّ، وقال السّدّيّ: الذي دلّه على موضع البيت جبرائيل.
فسار إبراهيم الى مكّة، فلمّا وصلها وجد إسماعيل يصلح نبلاً له وراء زمزم، فقال له: يا اسماعيل إنّ الله قد أمرني أن أبني له بيتاً، قال اسماعيل: فأطع ربّك، فقال ابراهيم: قد أمرك أن تعينني على بنائه، قال: إذن أفعل، قال فقام معه فجعل إبراهيم يبنيه واسماعيل يناوله الحجارة، ثمّ قال ابراهيم لاسماعيل: إيتني بحجر حسن أضعه على الركن فيكون للناس علماً، فناداه أبو قبيس: إنّ لك عندي وديعة، وقيل: بل جبرائيل أخبره بالحجر الأسود، فأخذه ووضعه موضعه، وكانا كلّما بنيا دعوا الله: (ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم) البقرة: 2 : 127.
فلما ارتفع البنيان وضعف الشيخ عن رفع الحجارة قام على حجر، وهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله، فلمّا فرغ من بناء البيت أمره الله أن يؤذّن في الناس بالحج، فقال إبراهيم: يا ربّ وما يبلغ صوتي؟ قال: أذّنْ وعليّ البلاغ، فنادى: أيها الناس إنّ الله قد كتب عليكم الحجّ إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض وما في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فأجابه من آمن ممن سبق فيعلم الله أن يحج إلى يوم القيامة، فأجيب: لبيّك لبيك ثم خرج بإسماعيل معه الى التروية فنزل به منىً ومن معه من المسلمين فصلّى بهم الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات حتى أصبح فصلّى بهم الفجر، ثمّ سار الى عرفة فأقام بهم هناك حتى إذا مالت الشمس جمع بين الصلاتين الظهر والعصر ثمّ راح بهم الى الموقف من عرفة الذي يقف عليه الإمام، فوقف به على الأراك، فلما غربت الشمس دفع به ون معه حتى أتى المزدلفة فجمع بها الصلاتين المغرب والعشاء الآخرة، ثمّ بات بها ومن معه حتى إذا طلع الفجرُ صلّى الغداة ثمّ وقف على قزح حتى إذا أسفر دفع به وبمن معه يريه ويعلمه كيف يصنع حتى رمى الجمرة وأراه المنحر ثمّ نحر وحلق وأراه كيف يوطف ثمّ عاد به الى منىً ليريه كيف رميُ الجمار حتى فرغ من الحجّ.
وروي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أن جبرائيل هو الذي أرى إبراهيم كيف يحجّ، ورواه عنه ابن عمر، ولم يزل البيت على ماب ناه إبراهيم، عليه السلام، إلى أن هدمته قريش سنة خمس وثلاثين من مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر قصة الذبحواختلف السلف من المسلمين في الذّبيح، فقال بعضهم: هو اسماعيل، وقال بعضهم: هو إسحاق، وقد روي عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، كلا القولين، ولو كان فيهما صحيح لم نعدُه إلى غيره؛ فأمّا الحديث في أنّ الذبيح إسحاق فقد روى الأحنف عن العباس بن عبد المطلب عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حديث ذكر فيه: (وفديناه بذبحٍ عظيم) الصافات: 37 : 107 هو إسحاق، وقد روى هذا الحديث عن العبّاس من قوله لم يرفعه.
وأما الحديث الآخر في أن الذبيح اسماعيل فقد روى الصنابحي قال: كنّا عند معاوية بن أبي سفيان فذكروا الذبيح فقال: على الخبير سقطتم، كنا عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجاءه رجل فقال: يا رسول الله عُد عليَّ مما أفاء الله عليك يا ابن الذبيحين، فضحك، صلى الله عليه وسلم، فقيل لمعاوية: وا الذبيحان؟ فقال: إنّ عبد المطلب نذر إن سهّل الله حفر زمزم أن يذبح أحد أولاده، فخرج السهم على عبد الله أبي النبي، صلى الله عليه سلم، ففداه بمائة بعير، وسنذكره إن شاء الله، والذبيح الثاني إسماعيل.
ذكر من قال إنه إسحاق

ذهب عمربن الخطاب وعليّ والعبّاس بن عبد المطلب وابنه عبد الله، رضي الله عنهم، فيما رواه عنه عكرمة وعبد الله بن مسعود وكعب وابن سابط وابن أبي الهذيل ومسروق الى أنّ الذبيح إسحاق، عليه السلام.حدّث عمرو بن أبي سفيان بن أبي أسيد بن أبي جارية الثقفي أن كعباً قال لأبي هريرة: ألا أخبرك عن إسحاق بن ابراهيم؟ قال: بلى، قال كعب: لما رأى إبراهيم ذبح إسحاق قال الشيطان: والله لئن لم أفتتن عند هذا آل إبراهيم لم أفتتن أحداً منهم بعد ذلك أبداً، فتمثّل رجلاً يعرفونه فأقبل حتى إذا خرج ابراهيم بإسحاق ليذبحه دخل على سارة امرأة ابراهيم فقال لها: أين أصبح ابراهيم غادياً بإسحاق؟ قالت: لبعض حاجته، قال: لا والله إنما غدا به ليذبحه قالت سارة: لم يكن ليذبح ولده، قال الشيطان: بلى والله لأنّه زعم أنّ الله قد أمره بذلك، قالت سارة: فهذا أحسن أن يطيع ربّه، ثمّ خرج الشيطان فأدرك إسحاق وهو مع أبيه فقال له: إنّ ابراهيم يريد أن يذبحك قال إسحاق: ما كان ليفعل، قال: بلى والله إنه زعم أنّ ربّه أمره بذلك، قال اسحاق: فوالله لئن أمره ربّه بذلك ليطيعنّه فتركه ولحق ابراهيم فقال: أين أصبحت غادياً بابنك؟ قال: لبعض حاجتي، قال: لا والله إنما تريد ذبحه قال: ولِمَ؟ قال: لأنك زعمت أنّ الله أمرك بذلك، قال ابراهيم: فو الله إن كان الله أمرني بذلك لأفعلن. فلما أخذ ابراهيم اسحاق ليذبحه أعفاه الله من ذلك وفداه بذبح عظيم، وأوحى الله إلى إسحاق: إنّي معطيك دعوة أستجيب لك فيها، قال اسحاق: اللهم فأيّما عبد لقيك من الأولين والآخرين لا يشرك بك شيئاً فأدخله الجنّة. وقال عبيد بن عمير: قال موسى: يا ربّ يقولون يا إله ابراهيم واسحاق ويعقوب، فبم نالوا ذلك؟ قال: إن ابراهيم لم يعدل بي شيئاً قط إلا اختارني، وإن اسحاق جاد لي بالذبح وهو بغير ذلك أجود، وإنّ يعقوب كلما زدته بلاءً زادني حسن ظنّ بي.
أسيد بفتح الهمزة، وكسر السين، وجارية بالجيم.
ذكر من قال ان الذبيح إسماعيل

عليه السلام
روى سعيد بن جبير ويوسف بن مهران والشعبي ومجاهد وعطاء بن أبي رباح كلّهم عن أبن عبّاس أنّه قال: إنّ الذبيح اسماعيل، وقال: زعمت اليهود أنه اسحاق، وكذبت اليهود، وقال أبو الطفيل والشعبيّ: رأيت قرني الكبش في الكعبة. قال محمد بن كعب: إنّ الذي أمر الله إبراهيم بذبحه من ابنيه اسماعيل، وإنا لنجد ذلك في كتاب الله في قصة الخبر عن ابراهيم وما أمر به من ذبحه ابنه أنّه اسماعيل، وذلك أنّ الله تعالى حين فرغ من قصّة المذبوح من ابني ابراهيم قال: (وبشرناه بإسحق نبيّاً من الصالحين) الصافات: 37 : 100، ويقول: وبشرناه بإسحاق نبيّاً، ومن وراء إسحاق يعقوب بابن وابن ابن، فلم يكن يأمره بذبح اسحاق، وله فيه من الله عزّ وجلّ ما وعده، وما الذي أمر بذبحه إلاّ اسماعيل؛ فذكر ذلك محمد بن كعب لعمر بن عبد العزيز وهو خليفة، فقال: إنّ هذا الشيء ما كنتُ أنظر فيه وإنّي لأراه كما قلت.
ذكر السبب الذي من أجله أُمر إبراهيم بالذبح
وصفة الذبحقيل: أمر الله ابراهيم، عليه السلام، بذبح ابنه فيما ذكر أنّه دعا الله أن يهب له ولداً ذكراً صالحاً، فقال: (رب هب لي من الصالحين) الصافات: 37 : 112، فلما بشرته الملائكة بغلام حليم قال: إذن هو لله ذبيح، فلمّا ولد الغلامُ وبلغ معه السعي قيل له: أوفِ نذرك الذي نذرت، وهذا على قول من زعم أن الذبيح اسحاق، وقائل هذا يزعم أن ذلك كان بالشام على ميلين من إيليا، وأما من زعم أنه إسماعيل فيقول: إنّ ذلك كان بمكة.
قال محمّد بن اسحاق: إنّ ابراهيم قال لابنه حين أمر بذبحه: يا بني خذ الحبل والمدية ثم انطلق بنا الى هذا الشعب لنحتطب لأهلك، فلمّا توجه اعترضه إبليس ليصدّه عن ذلك، فقال: إليك عني يا عدوّ الله فو الله لأمضينّ لأمر الله فاعترض اسماعيل فأعلمه ما يريد ابراهيم يصنع به، فقال: سمعاً لأمر ربيّ وطاعة، فذهب الى هاجر فأعلمها، فقالت: إن كان ربّه أمره بذلك فتسليماً لأمر الله، فرجع بغيظه لم يصبْ منهم شيئاً.

فلمّا خلا ابراهيم بالشعب، وهو شعب ثبير، قال له: (يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، قال: يا أبت افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، الصافات: 37 : 102، ثم قال له: يا أبتِ إن أردت ذبحي فاشدد رباطي لا يصبك من دمي شيء فينتقص أجري، فإنّ الموت شديد، واشحذ شفرتك حتى تريحني، فإذا أضجعتني فكبّني على وجهي فإني أخشى إن نظرت في وجهي أنّك تدركك رحمةٌ فتحول بينك وبين أمر الله، وإن رأيت أن تردّ قميصي الى هاجر أمّي فعسى أن يكون أسلى لها عني، فافعل، فقال ابراهيم: نعم المعين أنت، أي بني، على أمر الله فربطه كما أمره ثم حدّ شفرته (وتلّه للجبين)، ثم ادخل الشفرة لخلقه، فقلبها الله لقفاها ثمّ اجتذبها إليه ليفرغ منه، فنودي: (أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا) الصافات: 37 : 104، هذه ذبيحتك فداء لابنك فاذبحها.
وقيل: جعل الله على خلقه صحيفة نحاس، قال ابن عباس: خرج عليه كبش من الجنة قد رعى فيها أربعين خريفاً، وقيل: هو الكبش الذي قرّبه هابيل، وقال عليّ، عليه السلام: كان كبشاً أقرن أعين أبيض، وقال الحسن: ما فُدي إسماعيل إلاّ بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير فذبحه، قيل: بالمقام، وقيل: بمنىً في المنحر.
ذكر ما امتحن الله به إبراهيم

عليه السلام
بعد ابتلاء الله تعالى ابراهيم بما كان من نمرود وذبح ولده بعد أن رجا نفعه ابتلاه الله بالكلمات التي أخبر أنّه ابتلاه بهنّ فقال تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن) البقرة: 2 : 124، واختلف السلف من العلماء الأئمة في هذه الكلمات، فقال ابن عباس من رواية عكرمة عنه في قوله تعالى: (وإذ ابتلى ابراهيم ربّه بكلمات فأتمهن): لم يبتل أحد بهذا الدين فأقامه إلا ابراهيم، وقال الله: (وإبراهيم الذي وفّى) النجم: 53 : 37، قال: والكلمات عشر في براءة، وهي: (العابدون الحامدون) الآية التوبة: 112، وعشر في الأحزاب، وهي: (إن المسلمين والمسلمات) الآية الاحزاب: 35، وعشر في المؤمنين من أولها الى قوله تعالى: (والذين هم على صلاتهم يحافظون) المعارج: 34، وقال آخرون: هي عشر خصال.
قال ابن عباس من رواية طاووس وغيره عنه: الكلمات عشر، وهي خمس في الرأس: قصّ الارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس، وخمس في الجسد، وهي: تقليم الأظفار وحلق العانة والحيتان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط ، وقال آخرون: هي مناسك الحج، وقوله تعالى: (إني جاعلك للناس إماماً) البقرة: 2 : 124 وهو قول أبي صالح ومجاهد، وقال آخرون: هي ستّ، وهي: الكواكب والقمر والشمس والنار والهجرة والختان.
وذبح ابنه، وهو قول الحسن، قال: ابتلاه بذلك فعرف أنّ ربّه دائم لا يزول فوجّه وجهه للذي فطر السموات والأرض وهاجر من وطنه وأراد ذبح ابنه وختن نفسه، وقيل غير ذلك ممّا لا حاجة إليه في التاريخ المختصر، وإنما ذكرنا هذا القدر لئلا يخلو من فصول الكتاب.
ذكر عدو الله نمرود وهلاكهونرجع الآن إلى خبر عدوّ الله نمرود وما آل إليه أمره في دنياه وتمرّده على الله تعالى وإملاء الله له، وكان أول جبّار في الأرض، وكان إحراقه ابراهيم ما قدّمنا ذكره، فأخرج إبراهيم، عليه السلام، من مدينته وحلف أنه يطلب إله ابراهيم، فأخذ أربعة أفرخ نسور فربّاهنّ باللّحم والخمر حتى كبرن وغلظن، فقرنّنّ بتابوت وقعد في ذلك التابوت فأخذ معه رجلاً ومع لحم لهنّ، فطرن به حتى إذا ذهبن أشرف ينظر الى الأرض فرأى الجبال تدبّ كالنّمل، ثم رفع لهنّ اللحم ونظر إلى الأرض فرآها يحيط بها بحر كأنّها فلك في ماء، ثمّ رفع طويلاً فوقع في ظلمة فلم ير ما فوقه وما تحته، ففزع وألقى اللحم، فاتّبعته النسور منقضّات، فلمّا نظرت الجبال إليهن وقد أقبلن منقضات وسمعن حفيفهنّ فزعت الجبال وكادت تزول ولم يفعلن، وذلك قول الله تعالى: (وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال) ابراهيم: 14 : 47، وكانت طيرورتهنّ من بيت المقدس، ووقوعهنّ في جبل الدخان.
فلمّا رأى أنه لايطيق شيئاً أخذ ف يبنيان الصرخ فبناه حتى علا وارتقى فوقه ينظر إلى إله ابراهيم بزعمه وأحدث، ولم يكن يحدث، وأخذ الله بنيانهم من القواعد من أساس الصرخ فسقط وتبلبلت الألسن يومئذ من الفزع، فتكلّموا بثلاثة وسبعين لساناً، وكان لسان الناس قبل ذلك سُريانياً.

هكذا روي أنه لم يحدث، وهذا ليس بشيء، فإن الطبع البشريّ لم يخل منه إنسان حتى الأنبياء، صلوات الله عليهم، وهم أكثر اتصالاً بالعالم العلويّ وأشرف أنفساً، ومع هذا فيأكلون ويشربون ويبولون ويتغوّطون، فلو نجا منه أحد لكان الأنبياء أولى لشرفهم وقربهم من الله تعالى، وإن كان لكثرة ملكه فالصحيح أنه لم يملك مستقلاً، ولو ملك مستقلاً لكان الإسكندر أكثر ملكاً منه ومع هذا فلم يقل فيه شيء من هذا.
قال زيد بن أسلم: إن الله تعالى بعث الى نمرود بعد ابراهيم ملكاً يعدوه الى الله أربع مرات فأبى وقال: أربّ غيري؟ فقال له الملك: اجمع جموعك الى ثلاثة أيام، فجمع جموعه، ففتح الله عليه باباً من البعوض، فطلعت الشمس فلم يروهامن كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلتهم ولم يبق منهم إلا العظام والملك كما هو لم يصبه شيء، فأرسل الله عليه بعوضةً فدخلت في منخره فمكث يضرب رأسه بالمطارق فأرحم الناس به من يمع يديه ويضرب بهما رأسه، وكان ملكه ذلك أربعمائة سنة، وأماته الله تعالى، وهو الذي بنى الصرح.
وقال جماعة: إن نمرود ن كنعان ملك مشرق الأرض ومغربها، وهذا قول يدفعه أهل العلم بالسير وأخبار الملوك، وذلك أنهم لا ينكرون ان مولد ابراهيم كان أيام الضحّاك الذي ذكرنا بعض أخباره فيما مضى، وأنه كان ملك شرق الأرض وغربها، وقول القائل إنّ الضحّاك الذي ملك الأرض هو نمرود ليس بصحيح، لأن أهل العلم المتقدّمين يذكرون أنّ نسب نمرود في النّبط معروف، ونسب الضحّاك في الفرس مشهور، وإنما الضحّاك استعمل نمرود على السواد وما اتصل به يمنة ويسرة وجعله وولده عمّالاً على ذلك، وكان هو ينتقل في البلاد، وكان وطنه ووطن أجداده دنباوند من جبال طبرستان، وهناك رمى به أفريدون حين ظفر به، وكذلك بخت نصّر.
ذكر بعضهم أنه ملك الأرض جميعها، وليس كذلك، وإنما كان اصبهبذ ما بين الأهواز الى أرض الروم من غربيّ دجلة من قبل لُهراسب، لأنّ لهراسب كان مشتغلاً بقتال الترك مقيماً بإزائهم ببلخ، وهو بناها لما تطاول مقامه هناك لحرب الترك، ولم يملك أحد من النبط شبراً من الأرض مستقلاً برأسه، فكيف الأرض جميعها وإنما تطاولت مدّة نمرود بالسواد أربعمائة سنة ثمّ دخل من نسله بعد هلاكه جيل يقال له نبط بن قعود ملك بعده مائة سنة، ثمّ كداوص بن نبط ثمانين سنة، ثم بالش بن كداوص مائة وعشرين سنة، ثمّ نمرود بن بالش سنة وشهراً، فذلك سبع مائة سنة وسنة، وشهد أيام الضحّاك، وظنّ الناس في نمرود ما ذكرناه، فلمّا ملك أفريدون وقهر لازدهاق قتل نمرود بن بالش وشرد النبط وقتل فيهم مقتلةً عظيمة.
ذكر قصة لوط وقومهقد ذكرنا مهاجر لوط مع ابراهيم، عليه السلام، الى مصر وعودهم الى الشام ومقام لوط بسدوم. فلمّا أقام بها أرسله الله إلى أهلها، وكانوا أه كفر بالله تعالى وركوب فاحشة، كما قال تعال: (إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين، أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر) فكان قطعهم السبيل أنهم كانوا يأخذون المسافر إذا مر بهم ويعلمون به ذلك العمل الخبيث، وهو اللّواطة، وأما إتيانهم المنكر في ناديهم فقيل كانوا يحذفون من مرّ بهم ويسخرون منهم، وقيل: كانوا يتضارطون في مجالسهم، وقيل: كان يأتي بعضهم بعضاً في مجالسهم. وكان لوط يدعوهم إلى عبادة الله وينهاهم عن الأمور التي يكرهها الله منهم من قطع السبيل وركوب الفواحش وإتيان الذكور في الأدبار ويتوعدهم على إصرارهم وترك التوبة بالعذاب الأليم، فلا يزجرهم ذلك ولا يزيدهم وعظه إلا تمادياً واستعجالاً لعقاب الله إنكاراً منهم لوعيده ويقولون له: ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، حتى سأل لوط ربّه النصرة عليهم لما تطاول عليه أمرهم وتماديهم في غيّهم. فبعث الله، لما أراد هلاكهم ونصر رسوله، جبرائيل وملكين آخرين معه أحدهما ميكائيل والآخر إسرافيل، فأقبلوا فيما ذكر مشاة في صورة رجال وأمرهم أن يبدأوا بإبراهيم وسارة ويبشّروه باسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب.

فلمّا نزلوا على إبراهيم، وكان الضيف قد أبطأ عنه خمسة عشر يوماً حتى شقّ ذلك عليه، وكان يضيف من نزل به، وقد وسّع الله عليه الرزق، فرح بهم ورأى ضيفاً لم ير مثلهم حسناً وجمالاً، فقال: لا يخدم هؤلاء القوم أحد إلاّ أنا بيدي، فخرج إلى أهله فجاء بعجل سمين قد حنّذه، أي أنضجه، فقرّبه إليهم، فأمسكوا أيديهم عنه، (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفةً، قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوطٍ، وامرأته - سارة - قائمة فضحكت - لما عرفت من أمر الله ولما تعلم من قوم لوط - فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) فقالت، وصكّت وجهها: (أألد وأنا عجوز)، إلى قوله: (حميد مجيد)، وكانت ابنة تسعين سنة وابراهيم ابن عشرين ومائة.
فلما ذهب عن ابراهيم الروع وجاءته البشرى ذهب يجادل جبرائيل في قوم لوط، فقال له: أرأيت إن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين؟ قالوا: وإن كان فيهم خمسون من المسلمين لم يعذّبهم؟ قال: وأربعون، قالوا: وأربعون؟ قال: وثلاثون، حتى بلغ عشرة، قالوا: وإن كان فيهم عشرة؟ قال: ما قم لا يكون فيهم عشرة فيهم خير ثم قال: (إنّ فيها لوطاً، قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينّه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين).
ثمّ مضت الملائكة نحو سدوم قرية لوط، فلمّا انتهوا إليها لقوا لوطاً في أرض له يعمل فيها، وقد قال الله تعالى لهم: لاتهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات، فأتوه فقالوا: إنّا متضيفوك اللّيلة، فانطلق بهم، فلّما مشى ساعة التفت إليهم فقال لهم: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض إنساناً أخبث منهم، حتى قال ذلك أربع مرّات.
وقيل: بل لقوا ابنته فقالوا: يا جارية هل من منزل؟ قالت: نعم، مكانكم لا تدخلوا حتى آتيكم، خافت عليهم من قومها، فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت أصبح وجوهاً منهم لئلا يأخذهم قومك فيفضحوهم، وكان قومه قد نهوه أن يضيف رجلاً، فجاء بهم فلم يعلم إلاّ أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها وقالت لهم: قد نزل بنا قوم ما رأيت أحسن وجوهاً منهم ولا أطيب رائحة، فجاءه قومه يهرعون إليه، فقال: يا قوم (اتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد)، فنهاهم ورغبّهم وقال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) مما تريدون، (قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد) هود: 11 : 79 (أولم ننهك عن العالمين) الحجر: 15 : 70، فلما لم يقبلوا منه (قال: لو أنّ لي بكم قوّة أو اوي الى ركن شديد) هود: 11 : 80 يعني لو أنّ لي أنصاراً أو عشيرة يمنعوني منكم، فلمّا قال ذلك وجد عليه الرسل فقالوا: إنّ ركنك لشديد ولم يبعث الله نبياً إلا في ثروة من قومه ومنعة من عشيرته، وأغلق لوط الباب، فعالجوه، وفتح لوط الباب، فدخلوا، واستأذن جبرائيل ربّه في عقوبتهم فأذن له فبسط جناحه ففقأ أعينهم وخرجوا يدوس بعضهم بعضاً عمياناً يقولون: النجاء النجاء فنّ في بيت لوط أسحر قوم في الأرض وقالوا للوط: (إنا رسل ربّك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) هود: 11 : 81 (واتبع أدبارهم : وامضوا حيث تؤمرون) الحجر: 15 : 65.
فأخرجهم الله الى الشام وقال لوط: أهلكوهم الساعة؛ فقالوا: لن نؤمر إلاّ بالصبح، (أليس الصبح بقريب) هود: 11 : 81، فملا كان الصبح أدخل جبرائيل، وقيل ميكائيل، جناحه في أرضهم وقراهم الخمس فرفعها حتى سمع أهل المساء صياح ديكتهم ونباح كلابهم، ثمّ قلبها فجعل عاليها سافلها وأمطر عليهم حجارة من سجيل فأهلكت من لم يكن بالقرى، وسمعت امرأة لوط الهدّة فقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها، ونجّى الله لوطاً وأهله إلاّ امرأته، وذكر أنه كان فيها أربعمائة ألف، وكان ابراهيم يتشرّف عليها ويقول: سدوم يوماً هالك، ومدائن قوم لوط خمس: سدوم وصبعة وعمرة ودوما وصعوة، وسدوم هي القرية العظمى.
قوله يهرعون إليه، هو مشيٌ بين الهرولة والجمز.
ذكر وفاة سارة زوج إبراهيم عليه السلام

وذكر أولاده وأزواجه

لا يدفع أحد من أهل العلم أن سارة توفيّت بالشام ولها مائة وسبع وعشرون سنة، وقيل: إنها كانت بقرية الجبابرة من أرض كنعان، وقيل: عاشت هاجر بعد سارة مدّة، والصحيح أن هاجر توفيّت قبل سارة، كما ذكرنا في مسير إبراهيم الى مكّة، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
فلمّا ماتت سارة تزوج بعدها قطوراً ابنة يقطن امرأة من الكنعانيين فولدت له ستّة نفر: نفشان ومران ومديان ومدن ونشق وسرح، وكان جميع أولاد ابراهيم مع اسماعيل واسحاق ثمانية نفر، وكان اسماعيل بكره؛ وقيل في عدد أولاده غير ذلك، فالبربر من ولد نفشان، وأهل مدين قوم شعيب من ولد مديان.
وقيل: تزوج بعد قطورا امرأة اخرى اسمها حجون ابنة اهير.
ذكر وفاة ابراهيم وعدد ما أنزل عليهقيل: لما أراد الله قبض روح ابراهيم أرسل اليه ملك الموت في صورة شيخ هرم، فرآه ابراهيم وهو يطعم الناس وهو شيخ كبير في الحرّ، فبعث إليه بحمار فركبه حتى أتاه، فجعل الشيخ يأخذ اللقمة يريد أن يدخلها فاه فيدخلها في عينه وأذنه ثمّ يدخلها فاه، فإذا دخلت جوفه خرجت من دبره، وكان ابراهيم سأل ربّه أن لا يقبض روحه حتى يكون هو الذي يسأله الموت، فقال: يا شيخ مالك تصنع هذا؟ قال: يا إبراهيم الكبر، قال: ابن كم أنت؟ فزاد على عمر ابراهيم سنتين، فقال ابراهيم: إنّما بيني وبين أن أصير هكذا سنتان، اللهم اقبضني إليك فقام الشيخ وقبض روحه ومات وهو ابن مائتي سنة.
وقيل مائة وخمس وسبعين سنة، وهذا عندي فيه نظر لأن ابراهيم لا يخلو أن يكون قد رأى من هو أكبر منه بسنتين أو أكثر من ذلك، فإنّ من عاش مائتي سنة كيف لا يرى من هو أكبر منه بهذا القدر القريب؟ ولكن هكذا روي، ثمّ إنه قد بلغه عمر نوح ولم يصبه شيء مما رأى بذلك الرجل.
وروى أبو ذرّ عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: وأنزل الله على ابراهيم عشر صحائف، قال: قلت: يا رسول الله فما كانت صحف ابراهيم؟ قال: كانت أمثالاً كلّها: أيها الملك المسلط المبتلى المغرور إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها الى بعض ولكن بعثتك لتردّ عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من كافر.
وكان فيها أمثال، منها: وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على عقله أن يكون له ساعات، ساعة يناجي فيها ربّه، وساعة يفكر فيها في صنع الله، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بحاجته من الحلال في المطعم والمشرب، وعلى العاقل أن لا يكون ظاعناً إلا في ثلاث: تزوده لمعاده ومرَّمة لمعاشه ولذّة ي غير محرّم، وعلى العاقل أن يكون بصيراً بأمانه، مقبلاً على شانه، حافظاً للسانه، ومن حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه.
وهو أوّل من اختتن، وأوّل من أضاف الضيف، وأوّل من اتخذ السراويل، إلى غير ذلك من الأقاويل.
ذكر خبر ولد اسماعيل بن إبراهيمقد ذكرنا فيما مضى سبب إسكان إسماعيل الحرم وتزوّجه امرأة من جرهم وفراقه إيّاها بأمر إبراهيم ثمّ تزوّج أخرى، وهي السيدة بنت مضاض الجرهمي، وهي التي قال لها: قولي لزوجك: قد رضيت لك عتبة بابك، فولدت لإسماعيل اثني عشر رجلاً: نابت وقيدار واذيل وميشا ومسمع ورما وماش وآذر وقطورا وقافس وطميا وقيدمان، وكان عمر إسماعيل فيما يزعمون سبعاً وثلاثين ومائة سنة، ومن نابت وقيدار ابني اسماعيل نشر الله العرب، وأرسله الله تعالى إلى العماليق وقبائل اليمن، وقد ينطق أولاد اسماعيل بغير الألفاظ التي ذكرت، ولما حضرت اسماعيل الوفاة أوصى إلى أخيه إسحاق، وزوج ابنته من العيص بن إسحاق، ودفن عند قبر أمّه هاجر بالحجر.
ذكر إسحاق بن إبراهيم وأولادهقيل: ونكح إسحاق رفقا بنت بتويل فولدت له عيصاً ويعقوب توأمين، وإن عيصاً كان أكبرهما، وكان عمر إسحاق لما ولد له ستين سنة، ثمّ نكح عيص بن إسحاق نسمة بنت عمه اسماعيل فولدت له الروم بن عيص، وكلّ بني الأصفر من ولد، وزعم بعض الناس أنّ اشبان من ولده.
ونكح يعقوب بن إسحاق - وهو اسرائيل - ابنة خاله ليا بنت لبان بن بتويل فولدت له روبيل، وكان أكبر ولده، وشمعون ولاوي ويهوذا وزبالون ولشحر، وقيل ويشحر، ثمّ توفّيت ليا فتزوج أختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين، وهو بالعربية شداد، وولد له من سرِّيتين أربعة نفر: دان ونفتالي وجاد واشر، وكان ليعقوب اثنا عشر رجلاً.

قال السّدّيّ: تزوّج إسحاق بجارية فحملت بغلامين، فلما أرادت أن تضع زراد يعقوب أن يخرج قبل عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص فقال عيص: والله لئن خرجت قبلي لاعترضنّ في بطن أمّي ولأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب بعقب عيص، فسمّي يعقوب وسمّي أخوه عيصاً لعصيانه، وكان عيص أحبّهما إلي أبيه ويعقوب أحبّهما الى أمه، وكان عيص صاحب صيد، فقال له اسحاق لما كبر وعمي: يا بنيّ أطعمني لحم صيد واقترب مني أدع لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلاً أشعر، وكان يعقوب أجرد، وسمعت أمهما ذلك وقالت ليعقوب: يا بنيّ أذبح شاة واشوها والبس جلدها وقرّبها الى أبيك وقل له: أنا ابنك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلما جاء قال: يا أبتاه كلْ، قال: من أنت؟ قال: أنا ابنك عيص، فمسحه اسحاق فقال: المسّ مسّ عيص والريح ريح يعقوب، فقالت أمّه: إنّه عيص فكلْ، فأكل ودعا له أن يجعل الله في ذرّيته الأنبياء والملوك.
وقام يعقوب وجاء عيص، وكان في الصيد، فقال لأبيه: قد جئتك بالصيد الذي طلبت، فقال: يا بنيّ قد سبقك أخوك، فحلف عيص ليقتلنّ يعقوب، فقال: يا بنيّ قد بقيت لك دعوة، فدعا له أن يكون ذرّيّتُه عدد التراب وأن لا يملكهم غيرهم.
وهرب يعقوب خوفاً من أخيه الى خاله، وكان يسري بالليل ويكمن بالنهار، فلذلك سمي إسرائيل، ثم إن يعقوب تزوج ابنتي خاله جمع بينهما، فلذلك قال الله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) النساء: 4 : 23، وولد له منهما، فماتت راحيل في نفاسها ببنيامين، وأراد يعقوب الرجوع الى بيت المقدس فأعطاه خاله قطيع غنم، فلمّا ارتحلوا لم يكن لهم نفقة، فقالت زوجة يعقوب ليوسف: اسرق صنماً من أصنام أبي نستنفق منه، فسرق صنماً من أصنام أبيها.
وأحبّ يعقوب يوسف وأخاه بنيامين حبّاً شديداً ليتمهما، وقال يعقوب لراع من الرّعاة: إذا أتاكم أحد يسألكم من أنتم فقولوا: نحن ليعقوب عبد عيص، فلقيهم عيص فسألهم فأجابه الراعي بذلك الجواب، فكفّ عيص عن يعقوب ونزل يعقوب الشام، ومات إسحاق بالشام وعمره مائة وستون سنة ودفن عند أبيه إبراهيم، عليه السلام.
قصّة أيوب عليه السلام
وهو رجل من الروم من ولد عيص، وهو أيّوب بن موص بن رازج بن عيص بن اسحاق بن ابراهيم، وقيل: موص بن روعيل بن عيص، وكانت زوجته التي أمر أن يضربها بالضغّث ليا ابنة يعقوب بن اسحاق، وقيل: هي رحمة ابنة ابراهيم بن يوسف، وكانت أمه من ولد لوط، وكان دينه التوحيد والإصلاح بين النّاس، وإذا أراد حاجة سجد ثمّ طلبها.
وكان من حديثه وسبب بلائه أنّ إبليس سمع تجاوب الملائكة بالصلاة على أيّوب حين ذكره الله فحسده وسأل الله أن يسلّطه عليه ليفتنه عن دينه، فسّلطه على ماله حسب، فجمع إبليس عظماء أصحابه من العفاريت، وكان لأيّوب البثنيّة جميعها من أعمال دمشق بما فيها، وكان له فيها ألف شاة برعاتها وخمسمائة فدّان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ومال ويحمل آلة الفدّان أتان وكلّ أتان ولد واثنان وما فوق ذلك، فلمّا جمعهم إبليس قال: ما عندكم من القوّة والمعرفة فإني قد تسلطت على مال أيوب، فقال كل منهم قولاً، فأرسلهم فأهلكوا ماله كله وأيوب يحمد الله ولا يرجع عن الجدّ في عبادته والشكر له على ما أعطاه والصرب على ما ابتلاه.
فلما رأى ذلك إبلس من أمره سأل الله أن يسلطه على ولده، فسلّطه عليهم ولم يجعل له سلطاناً على جسده ولا عقله وقلبه، فأهلك ولده كلهم، ثمّ جاء إليه متمثلاً بمعلمهم الذي كان يعلمهم الحكمة جريحاً مشدوخاً يرقّقه حتى رق أيوب فبكى وقبض قبضة من التراب فوضعها على رأسه، فسرّ بذلك إبليس.

ثمّ إنّ أيّوب ندم لذلك وجدّ واستغفر، فصعد حفظته من الملائكة بتوبته الى الله قبل إبليس، فلما لم يرجع أيوب عن عبادة ربّه والصبر على ما ابتلاه به سأل الله تعالى أن يسلّطه على جسده، فسّلطه عليه خلا لسانه وقلبه وعقله فإنه لم يجعل له على ذلك سلطاناً، فجاءه وهو ساجد فنفخ في منخره نفخة اشتعل منها جسده وصار أمره الى أن انتثر لحمه وامتلأ جسده دوداً، فإن كانت الدودة لتسقط من جسده فيردّها إليه ويقول: كُلي من رزق الله، وأصابه الجُذام، وكان أشدّ من ذلك عليه أنه كان يخرج في جسده مثل ثدي المرأة ثم يتفقّأ، وأنتن حتى لم يطق أحد يشمّ ريحه، فأخرجه أهل القرية منها الى الكُناسة خارج القرية لا يقربه أحد، إلا زوجته، وكانت تختلف إليه بما يصلحه، فبقي مطروحاً على الكناسة سبع سنين ما يسأل الله أن يكشف ما به، وما على وجه الأرض أكرم على الله منه.
وقيل: كان سبب بلائه أن أرض الشام أجدبت فأرسل فرعون إلى أيّوب أن هلمّ إلينا فإنّ لك عندنا سعة، فأقبل بأهله وخيله وماشيته، فأقطعهم فرعون القطائع، ثم إنّ شعيباً النبيّ دخل إلى فرعون فقال: يافرعون أما تخاف أن يغضب الله غضبة فيغضب لغضبه أهل السماء وأهل الأرض والبحار والجبال؟ وأيوب ساكت لا يتكلم، فلمّا خرجا أوحى الله الى أيوب: يا أيّوب سكتَّ عن فرعون لذهابك الى أرضه، استعد للبلاء، فقال أيوب: أما كنت أكفل اليتيم وآوي الغريب وأشبع الجائع وأكفت الأرملة؟ فمرّت سحابة يسمع فيها عشرة آلاف صوت من الصواعق يقولون: من فعل ذلك يا أيوب؟ فأخذ تراباً فوضعه على رأسه وقال: أنت ياربّ، فأوحى الله إليه: استعدّ للبلاء، قال: فديني؟ قال: أسلّمه لك، قال: فما أبالي.
وقيل: كان السبب غير ذلك، وهو نحو مما ذكرنا.
فلما ابتلاه الله واشتد عليه البلاء قالت له امرأته: إنك رجل مجاب الدعوة فادع الله أن يشفيك، فقال: كنّا في النعماء سبعين سنة فلنصبر في البلاء سبعين سنة، والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، وقيل: إنما أقسم ليجلدها لأن إبليس ظهر لها وقال: بم أصابكم ما أصابكم؟ قالت: بقدر الله، قال: وهذا أيضاً بقدر الله فاتبعيني، فاتبعته، فأراها جميع ما ذهب منهم في وادٍ وقال: اسجدي لي وأرده عليكم، فقالت: إنّ لي زوجاً أستأمره، فلم أخبرت أيوب قال: ألم تعلمي أن ذلك الشيطان؟ لئن شفيت لأجلدنك مائة جلدة، وأبعدها وقال لها: طعامك وشرابك علي حرام لا أذوق مما تأتيني به شيئاً فابعدي عني فلا أراك، فذهبت عنه، فلما رأى أيوب أن امرأته قد طردها وليس عنده طعام ولا شراب ولا صديق خرّ ساجداً وقال: ربّ (إني مسّني الضرّ وأنت أرحم الراحمين) الأنبياء: 21 : 83 كرّر ذلك، فقيل له: ارفع رأسك فقد استجيب لك، (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ص: 38 : 42، ورد الله إليه جسده وصورته.
وأما امرأته فقالت: كيف أتركه، وليس عنده أحد، يموت جوعاً وتأكله السبّاع؟ فرجعت إليه فرأت أيوب وقد عوفي، فلم تعرفه، فعجبت حيث لم تره على حاله، فقالت له: يا عبد الله هل رأيت ذلك ارجل المبتلى الذي كان ههنا؟ قال: وهل تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، قال: هو أنا، فعرفته.
وقيل: إنما قال: مسني الضرّ لما وصل الدود إلى لسانه وقلبه خاف أن يبطل عن ذكر الله تعالى والفكر، وردّ الله إليه أهله ومثلهم معهم، قيل هم بأعيانهم، وقيل: ردّ الله إليه امرأته وردّ إليها شبابها فولدت له ستّة وعشرين ذكراً، وأنزل الله إليه ملكاً فقال: يا أيّوب نّ الله يقرئك السلام لصبرك على البلاء، اخرج الى أندرك، فخرج إليه، فبعث الله سحابةً فألقت عليه جراداً من ذهب، وكانت الجرادة تذهب فيتبعها حتى يردّها في أندره، فقال الملك: أما تشبع من الداخل حتى تتّبع الخارج؟ فقال: إن هذه البركة من بركات ربّي لست أشبع منها.
وعاش أيوب بعد أن رفع عنه البلاد سبعين سنة، ولما عوفي أمره الله أن يأخذ عرجوناً من النخل فيه مائة شمراخ فيضرب به زوجته ليبرّ من يمينه، ففعل ذلك.
وقول أيّوب: ربّ إنّي مسّني الضرّ، دعاء ليس بشكوى، ودليله قوله تعالى: (فاستجبنا له) الأنبياء: 21 : 84.

وكان من دعاء أيّوب: أعوذ بالله من جارٍ عينه تراني إن رأى حسنة سترها وإن رأى سيئة ذكرها، وقيل: كان سبب دعائه أنّه كان قد اتبعه ثلاثة نفر على دينه اسم أحدهم يلدد والآخر اليفر والثالث صافر، فانطلقوا إليه وهو في البلاء فبكّتوه أشدّ تبكيت وقالوا له: لقد أذنبت ذنباً ما أذنبه أحد، فلهذا لم يكشف العذاب عنك، وطال الجدال بينهم وبينه، فقال فتى كان معهم لهم كلاماً يردّ عليهم، فقال: قد تركتم من القول أحسنه، ومن الرأي أصوبه، ومن الأمر أجمله، وقد كان لأيّوب عليكم من الحقّ والذمام أفضل من الذي وصفتم، فهل تدرون حقّ من انتقصتم وحرمة من انتهكتم ومن الرجل الذي عبتم؟ ألم تعلموا أن أيوب نبيّ الله وخيرته من خلقه يومكم هذا؟ ثمّ لم تعلموا ولم يعلمكم الله أنه سخط شيئاً من أمره ولا أنه نزع شيئاً من الكرامة التي كرم الله بها عباده ولا أن أيوب فعل غير الحقّ في طول ما صحبتموه، فإن كان البلاء هو الذي أزرى به عندكم ووضعه في نفوسكم، فقد علمتم أنّ الله يبتلي النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين وليس بلاوه لأولئك دليلاً على سخطه عليهم ولا على هوانهم عليه ولكنها كرامة وخيرة لهم، وأطال في هذا النحو من الكلام.
ثمّ قال لهم: وقد كان في عظمة الله وجلاله وذكر الموت ما يكلّ ألسنتكم ويكسر قلوبكم ويقطع حجتكم، ألم تعلموا أن لله عباداً أسكتتهم خشيته عن الكلام من غير عيّ ولا بكم؟ وإنهم لهم الفصحاء الألبّاء العلامون بالله وآياته ولكنّهم إذا ذكروا عظمة الله انكسرت قلوبهم وانقطعت ألسنتهم وطاشت أحلامهم وعقولهم فزعاً من الله وهيبة له، فإذا أفاقوا استبقوا إلى الله بالأعمال الزاكية يعدّون أنفسهم مع الظالمين وإنّهم لأبرار، ومع المقصرين وإنّهم لأكياس أتقياء، ولكنهم لا يستكثرون لله عزّ وجلّ الكثير ولا يرضون له القليل ولا يدلّون عليه بالأعمال فهم أينما لقيتهم خائفون مهيمون وجلون.
فلمّا سمع أيوب كلامه قال: إنّ الله يزرع الحكمة بالرحمة في قلب الصغير والكبير، فمتى كانت في القلب ظهرت على اللسان ولا تكون الحكمة من قبل السنّ والشيبة ولا طول التجربة، وإذا جعل اله تعالى عبداً حكيماً عند الصِّبا لم تسقط منزلته عند الحكّام، ثمّ أقبل على الثلاثة فقال: رهبتم قبل أن تسترهبوا، وبكيتم قبل أن تضربوا، كيف بكم لو قلت لكم تصدّقوا عني بأموالكم لعل الله أن يخلصني، أو قربوا قرباناً لعل الله أن يتقبّل ويرضى عني؟ وإنكم قد أعجبتكم أنفسكم فظننتم أنّكم عوفيتم بإحسانكم فبغيتم وتعزّزتم، لو صدّقتم ونظرتم بينكم وبين ربّكم لوجدتم لكم عيوباً سترها الله بالعافية، وقد كنت فيما خلا والرجال يوقّرونني وأنا مسموع كلامي، معروف من حقّي، مستنصف من خصمي، فأصبحت اليوم وليس لي رأي ولا كلام معكم، فأنتم أشدّ عليَّ من مصيبتي.
ثمّ أعرض عنهم وأقبل على ربّه مستغيثاً به متضرّعاً إليه فقال: ربّ لأيّ شيء خلقتني ليتني إن كرهتني لم تخلقني، يا ليتني كنت حيصةً ملقاةً، ويا ليتني عرفت الذنب الذي أذنبت فصرفت وجهك الكريم عني لو كنت أمتّني فالموت أجمل لي ألم أكن للغريب داراً وللمسكين قراراً ولليتيم وليّاً وللأرملة قيِّماً؟ إلهي أنا عبد ذليل إن أحسنت فالمنّ لك، وإن أسأت فبيدك عقوبتي جعلتني للبلاء عرضاً فقد وقع عليّ البلاء لو سلّطته على جبل لضعف عن حمله فكيف يحمله ضعفي ذهب المال فصرتُ أسأل بكفّي فيطعمني من كنتُ أعوله اللّقمة الواحدة فيمنّها عليّ ويعيِّرني هلك أولادي، ولو بقي أحدهم أعانني، قد ملّني أهلي وعقّني أرحامي فتنكّرت معارفي، ورغب عني صديقي، وجحدت حقوقي، ونسيت صنائعي، أصرخ فلا يصرخونني، وأعتذر فلا يعذرونني، دعوتُ غلامي فلم يجبني، وتضرّعت إلى أمتي فلم ترحمني، وإنّ قضاءك هو الذي آذاني وأقمأني، وإن سلطانك هو الذي أسقمني، فلو أنّ ربيّ نزع الهيبة التي في صدري وأطلق لساني حتى أتكلّم ملء فمي ثمّ كان ينبغي للعبد أن يحاجّ مولاه عن نفسه، لرجوتُ أن تعافيني عند ذلك، ولكنّه ألقاني وعلا عني فهو يراني ولا أراه، ويسمعني ولا أسمعه، لا نظر إليّ فرحمني، ولا دنا مني فأتكلّم ببراءتي وأخاصم عن نفسي.

فلمّا قال أيّوب ذلك أظلّتهم غمامة ونودي منها: يا أيوب إنّ الله يقول قد دنوت منك ولم أزل منك قريباً فقم فأدلِ بحجتك وتكلّم ببراءتك وقم مقام جبّار فإنه لا ينبغي أن يخاصمني إلا جبار.
تجعل الزيار في فم الأسد واللّجام في فم التنين وتكيل مكيالاً من التنور وتزن مثقالاً من الريح وتصرّ صرّة من الشمس وتردّ أمس، لقد منتك نفسك أمراً لا تبلغه بمثل قوّتك، أردت أن تكابرني بضعفك أم تخاصمني بعيّك أم تحاجّني بخطلك أين أنت مني يوم خلقت الأرض؟ هل علمت بأيّ مقدار قدرتها؟ أين كنت معي يوم رفعت السماء سقفاً في الهواء لا بعلائق ولا بدعائم تحملها؟ هل تبلغ حكمتك أن تجري نورها أو تسيّر نجومها أو يختلف بأمرك ليلها ونهارها؟ وذكر أشياء من مصنوعات الله.
فقال أيوب: قصرت عن هذا الأمر ليت الأرض انشقت لي فذهبت فيها ولم أتكلّم بشيء يسخطك إلهي اجتمع عليّ البلاء وأنا أعلم أنّ كلّ الذي ذكرت صنع يديك وتدبير حكمتك لا يعجزك شيء ولا تخفى عليك خافية، تعلم ما تخفي القلوب، وقد علمت في بلائي ما لم أكن أعلمه، كنت اسمع بسطوتك سمعاً فأمّا الآن فهو نظر العين، إنّما تكلّمت بما تكلّمت به لتعذرني، وسكتّ لترحمني، وقد وضعت يدي على فمي وعضضت على لساني وألصقت بالتراب خديّ فدسستُ فيه وجهي فلا أعود لشيء تكرهه، ودعا.
فقال الله: يا أيوب نفذ فيك حكمي وسبقت رحمتي غضبي، قد غفرت لك ورددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم لتكون لمن خلفك آية وعبرة لأهل البلاء وعزاءً للصابرين، ف (اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب) ص: 38 : 42 فيه شفاء، وقرّب عن اصحابك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك، فركض برجله فانفجرت له عين ماء فاغتسل فهيا، فرفع الله عنه البلاء، ثمّ خرج فجلس وأقبلت امرأته فسألته عنه فقال: هل تعرفينه؟ قالت: نعم، مالي لا أعرفه فتبسّم، فعرفته بضحكه، فاعتنقته فلم تفارقه من عناقه حتى مرّ بهما كلّ مال لهما وولد.
وإنما ذكرته قبل يوسف وقصّته لما ذكر بعضهم من أمره وأنه كان نبيّاً في عهد يعقوب.
وذكر أن عمر أيوب كان ثلاثاً وتسعين سنة، وأنه أوصى عند موته الى ابنه حومل، وأن الله بعد بعده ابنه بشر بن أيوب نبيّاً وسمّا ذا الكفل، وكان مقيماً بالشام حتى مات، وكان عمره خمساً وسبعين سنة، فأوصي إلى ابنه عيدان، وأنّ الله بعث بعده شعيب بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن إبراهيم، عليه السلام.
ذكر قصة يوسف عليه السلامذكروا أنّ اسحاق توفّي وعمره ستون ومائة سنة، وقبره عند أبيه ابراهيم، قبره ابناه يعقوب وعيص في مزرعة حبرون، وكان عمر يعقوب مائة وسبعاً وأربعين سنة، وكان ابنه يوسف قد قسم له ولأمّه شطر الحسن، وكان يعقوب قد دفعه إلى أخته ابنة اسحاق تحضنه، فأحبّته حبّاً شديداً وأحبّه يعقوب أيضاً حبّاً شديداً، فقال لأخته: يا أخيّه سلّمي إليّ يوسف فوالله ما أقدر أن يغيب عني ساعة، فقالت: والله ما أنا بتاركته ساعة، فأصرّ يعقوب على أخذه منها، فقالت: أتركه عندي أيّاماً لعلّ ذلك يسليني، ثمّ عمدت الى منطقة اسحاق، وكانت عندها، لأنها كانت أكبر ولده، فحزمتها على وسط يوسف ثمّ قالت: قد فقدت المنطقة فانظروا من أخذها، فالتمست، فقالت: اكشفوا أهل البيت، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف، وكان من مذهبهم أن صاحب السرقة يأخذ السارق له لا يعارضه فيه أحد، فأخذت يوسف فأمسكته عندها حتى ماتت وأخذه يعقوب بعد موتها، فهذا الذي تأوّل إخوة يوسف: (إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل) يوسف: 12 : 77، وقيل في سرقته غير هذا، وقد تقدّم.
فلمّا رأى إخوة يوسف محبّة أبيهم له وإقباله عليه حسدوه وعظم عندهم.
ثمّ إنّ يوسف رأى في منامه كأنّ أحد عشر كوكباً والشمس والقمر تسجد له، فقصها على أبيه، وكان عمره حينئذٍ اثنتي عشرة سنة، فقال له أبوه: (يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إنهَ الشيطان للإنسان عدوٌّ مبين) يوسف: 12 : 5، ثمّ عبّر له رؤياه، فقال: (وكذلك يجتبيك ربّك ويعلمك من تأويل الأحاديث).

وسمعت امرأة يعقوب ما قال يوسف لأبيه فقال لها يعقوب: اكتمي ما قال يوسف ولا تخبرين أولادك، قالت: نعم، فلمّا أقبل أولاد يعقوب من الرعي أخبرتهم بالرّؤيا، فازدادوا حسداً وكراهةً له وقالوا: ما عني بالشمس غير أبينا، ولا بالقمر غيرك، ولا بالكواكب غيرنا، إنّ ابن راحيل يريد أن يتملك علينا ويقول أنا سيدّكم، وتآمروا بينهم أن يفرّقوا بينه وبني أبيه وقالوا: (ليوسف وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا ونحن عصبة، إن أبانا لفي ضلال مبين) يوسف: 12 : 8 - في خطأ بين في إيثارهما علينا - (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوماً صالحين) يوسف: 12 : 9 أي تائبين.
فقال قائل منهم، وهو يهودا، وكان أفضلهم وأعقلهم: لا تقتلوا يوسف فإنّ القتل عظيم، وألقوه في غيابة الجبّ يلتقطه بعض السيارة، وأخذ عليهم العهود أنّه لا يقتلونه، فأجمعوا عند ذلك أن يدخلوا على يعقوب ويكلّموه في إرسال يوسف معهم الى البريّة، وأقبلوا إليه ووقفوا بين يديه، وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا منه حاجة، فلمّا رآهم قال: ما حاجتكم؟ قالوا: يا أبانا ما لك لا تأمنّا على يوسف وإنّا له لناصحون) يوسف: 12 : 11 نحفظه حتى نرده أرسله معنا الى الصحراء (غداً يرتع ويلعب وإنّا له لحافظون)، فقال لهم يعقوب: (إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون) يوسف: 12 : 13 لا تشعرون، وإنما قال لهم ذلك لأنه كان رأى في منامه كأنّ يوسف على رأس جبل وكأنّ عشرة من الذئاب قد شدّوا عليه ليقتلوه، وإذا ذئب منها يحمي عنه، وكأنّ الأرض انشقّت فذهب فيها فلم يخرج منها إلا بعد ثلاثة أيّام، فلذلك خاف عليه الذئب.
فقال له بنوه: (لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذاً لخاسرون) يوسف: 12 : 14، فاطمأنّ إليهم، فقال يوسف: يا أبتِ أرسلني معهم، قال: أوتحبّ ذلك؟ قال: نعم، فأذن له، فلبس ثيابه وخرج معهم وهم يكرمونه، فلمّا برزوا الى البريّة أظهروا له العداوة وجعله بعض إخوته يصربه فيستغيث بالآخر فيضربه، فجعل لا يرى منهم رحيماً، فضربوه حتى كادوا يقتلونه، وجعل يصيح: يا أبتاه يا يعقوب لو تعلم ما يصنع بابنك بنو الإماء.
فلمّا كادوا يقتلونه قال لهم يهوذا: أليس قد أعطيتموني موثقاً ألا تقتلوه؟ فانطلقوا به الى الجبّ فأوثقوه كتافاً ونزعوا قميصه وألقوه فيه، فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به في الجبّ فقالوا: ادعُ الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً تؤنسك، قال: إنّي لم أرَ شيئاً، فدّلوه في الجبّ، فلما بلغ نصفه ألقوه وأرادوا أن يموت، وكان في البئر ماء، فسقط فيه ثمّ زوى إلى صخرة فأقام عليها، ثمّ نادوه فظنّ أنهم قد رحموه فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه بالحجارة فمنعهم يهوذا،ثم أوحى الله إليه: (لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لا يشعرون) يوسف: 12 : 15 بالوحي، وقيل لا يشعرون أنه يوسف.
والجبّ بأرض بيت المقد س معروف.
ثم عادوا إلى أبيهم عشاءً يبكون فقالوا: (يا أانا إنا ذهنبا نستبق وتركنا يوسف عدن متاعنا فأكله الذئب) يوسف: 12 : 17، فقال لهم أبوهم: (بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبر جميل) يوسف: 12 : 18، ثم قال لهم: أروني قميصه، فزروه، فقال: تالله ما رأيتُ ذئباً أحلم من هذا أكل ابني ولم يشقّ قميصه ثم صاح وخرّ مغشيّاً عليه ساعة، فلمّا أفاق بكى بكاء طويلاً فأخذ القميص يقبّله ويشمّه.
وأقام يوسف في الجب ثلاثة أيام، وأرسل الله ملكاً فحلّ كتافه، ثمّ (جاءت سيارةٌ فأرسلوا واردهم)، وهم الذي يتقدّم إلى الماء، (فأدلى دلوه) إلى البئر، فتعلّق به يوسف فأخرجه من الجبّ، و(قال: يا بشرى هذا غلام)، تباشروا وقيل يا بشر اسم غلام (وأسروه بضاعةً) يعني الوارد وأصحابه فخافوا أن يقولوا اشتريناه فيقول الرفقة اشركونا فيه فقالوا: إنّ أهل الماء استبضعونا هذا الغلام.

وجاء يهوذا بطعام ليوسف فلم يره في الجبّ فنظر فرآه عند مالك في المنزل فأخبر إخوته بذلك، فأتوا مالكاً وقالوا: هذا عبد ابق منّا، وخافهم يوسف فلم يذكر حاله واشتروه من إخوته بثمن بخس؛ قيل عشرون درهماً، وقي لأربعون درهماً، وذهبوا به الى مصر، فكساه مالك وعرضه للبيع، فاشتراه قطفير، وقيل اطفير، وهو العزيز، وكان على خزائن مصر، والملك يومئذٍ الريّان بن الوليد رجل من العمالقة، قيل: إنّ هذا الملك لم يمت حتى آمن بيوسف ومات ويوسف حيّ، وملك بعده قابوس بن مصعب، فدعاه يوسف فلم يؤمن.
فلمّا اشترى يوسف وأتى به إلى منزله قال لامرأته، واسمها راعيل: (أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا) فيكفينا إذا هو بلغ و فهم الأمور بعض ما نحن بسبيله من أمورنا (أو نتخذه ولداً يوسف: 12 : 21، وكان لايأتي النساء، وكانت امرأته حسناء ناعمة في ملك ودنيا.
فلما خلا من عمر يوسف ثلاث وثلاثون سنة آتاه الله العلم والحكمة قبل النبوّة، وراودته راعيل عن نفسه وأغلقت الأبواب عليه وعليها ودعته إلى نفسها، فقال: (معاذ الله إنه ربي - يعني أن زوجك سيدي - أحسن مثواي، إنه لا يفلح الظالمون) يوسف: 12 : 23، يعني أنّ خيانته ظلم، وجعلت تذكر محاسنه وتشوّقه إلى نفسها، فقالت له: يا يوسف ما أحسن شعرك قال: هو أوّل ما ينتثر من جسدي، قالت: يا يوسف ما أحسن عينيك قال: هما أول ما يسيل من جسدي، قالت: ما أحسن وجهك قال: هو للتراب، فلم تزل به حتى همّت وهمّ بها وذهب ليحلّ سراويله، فإذا هو بصورة يعقوب قد عضّ على إصبعه يقول: يا يوسف لا تواقعها إنّما مثلك ما لم تواقعها مثل الطير في جوّ السماء لا يطاق، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات وسقط الى الأرض.
وقيل: جلس بين رجليها فرأى في الحائط: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً) الاسراء: 17 : 32، فقام حين رأى برهان ربّه هارباً يريد الباب، فأدركته قبل خروجه من الباب فجذبت قميصه من قبل ظهره فقدّته، (وألفيا سيدها لدى الباب) - وابن عمها معه، فقالت له - : (ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً إلا أن يسجن) يوسف: 12 : 26، قال يوسف: بل (هي راودتني عن نفسي) فهربت منها فأدركتني فقدّت قميصي، قال لها ابن عمّها: تبيان هذا في القميص فإن كان قُدّ من قُبُلٍ فصدقتِ، وإن كان قُدّ من دُبُرٍ فكذبت، فأُتي بالقميص فوجده قُدّ من دبر فقال: (إنه من كيدكنّ إنّ كيدكنّ عظيم) يوسف: 12 : 28.
وقيل: كان الشاهد صبيّاً في المهد، قال ابن عباس: تكلّم أربعة في المهد وهم صغار، ابن ماشطة امرأة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريح، وعيسى بن مريم.
وقال زوجها ليوسف: (أعرض عن هذا) أي ذكر ما كان منها فلا نذكره لأحد، ثم قال لزوجته، (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) يوسف: 12 : 29.
وتحدّث النساء بأمر يوسف وامرأة العزيز، وبلغ ذلك امرأة العزيز، فأرسلت إليهنّ وأعتدت لهن متّكأً يتّكئن عليه من وسائد، وحضرن، وقدّمت لهنّ أترنجاً وأعطت كلّ واحدة منهنّ سكّيناً لقطع الأترنج، وقد أجلست يوسف في غير المجلس الذي هنّ فيه وقالت له: (اخرج عليهن - فخرج - فلما رأينه أكبرنه - وأعظمنه - وقطّعن أيديهن) بالسكاكين ولا يشعرن، وقلن: معاذ الله (ما هذا بشراً، إن هذا إلا ملك كريم) يوسف: 12 : 31.
فلمّا حلّ بهنّ ما حلّ من قطعهنّ أيديهن وذهاب عقولهن وعرفن خطأهنّ فيما قلن أقرّت على نفسها وقالت: (فذلكن الذي لمتنّني فيه، ولقد راودته عن نفسه فاستعصم، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين) يوسف 12 : 32، فاختار يوسف السجن على معصية الله، فقال: (رب السجن أحبّ إليّ مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن) يوسف: 12 : 33، (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن) يوسف: 12 : 34، ثمّ بدا للعزيز من بعد ما رأي الآيات من القميص وخمش الوجه وشهادة الطفل وتقطيع النسوة أيديهنّ في ترك يوسف مطلقاً.

وقيل: إنها شكت إلى زوجها وقالت: إنّ هذا العبد قد فضحني في الناس يخبرهم أنني راودته عن نفسه، فسجنه سبع سنين، فلما حُبس يوسف أُدخل معه السجن فتيان من أصحاب فرعون مصر، أحدهما صاحب طعامه، والآخر صاحب شرابه، لأنهما نقل عنهما أنهما يريدان أن يسمّا الملك، فلمّا دخل يوسف السجن قال: إني أعبِّر الأحلام، فقال أحد الفتيين للآخر: هلمّ فلنجرّبه، فقال الخباز: (إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً تأكل الطير منه) وقال الآخر: (إني أراني أعصر خمراً) يوسف: 12 : 3، كره أن يعبر لهما ما سألاه عنه، وأخذ في غير ذلك وقال: (يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار؟) يوسف: 12 : 39 وكان اسم الخبّاز مخلت، واسم الآخر نبو، فلم يدعاه حتى أخبرهما بتأويل ما سألاه عنه، فقال: (أما أحدكما)، وهو الذي رأى أنه يعصر الخمر، (فيسقي ربّه خمراً)، يعنى سيده الملك (وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه)، يوسف 12 : 41، فلما عبّر لهما قالا: ما رأينا شيئاً قال: (قضي الأمر الذي فيه تستفتيان)، ثم قال لنبو، وهو الذي ظنّ أنه ناج منهما: (اذكرني عند ربك) يوسف: 12 : 42 الملك وأخبره أني محبوس ظلماً، (فأنساه الشيطان ذكر ربه)، غفلة عرضت ليوسف من قبل الشيطان، فأوحى الله إليه: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً لأطيلنّ حبسك، فلبث في السجن سبع سنين.
ثم إنّ الملك، وهو الريّان بن الوليد بن الهروان بن اراشة بن فاران بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن سام بن نوح، رأى رؤيا هائلة، رأي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، ورأي سبع سنبلات خضر وأخر يابسات، فجمع السحرة والكهنة والحازة والعافة فقصّها عليهم، فقالوا: (أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، وقال الذي نجا منهما وادكر بعد أمة - أي حين - أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون) يوسف: 12 : 44 - 45، فأرسلوه الى يوسف، فقصّ عليه الرّؤيا، فقال: (تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون، ثم يأتي من بعد ذلك سبعٌ شداد يأكلن ما قدمتم لهنّ إلاّ قليلاً مما تحصنون، ثم يأتي من بعد ذلك عامٌ فيه يغاث الناس وفيه يعصرون) يوسف: 12 : 47 - 49، فإن البقرة السّمان السنون المخاصيب، والبقرات العجاف السنون المحول، وكذلك السنبلات الخضر واليابسات، فعاد نبو إلى الملك فأخبره، فعلم أنّ قول يوسف حقّ، فقال: (ائتوني به)، فلما أتاه الرسول ودعاه إلى الملك لم يخرج معه وقال: (ارجع الى ربك فأسأله ما بال النسوة اللاّتي قطعن أيديهن؟) يوسف:12 : 50 فلما رجع الرسول من عند يوسف سأل الملك أولئك النسوة فقلن: (حاش لله ما علمنا عليه من سوء) ولكنّ امرأة العزيز خبّرتنا أنها راودته عن نفسه، فقالت امرأة العزيز: (أنا راودته عن نفسه) يوسف: 12 : 51، فقال يوسف: إنّما رددت الرسل ليعلم سيدي (أني لم أخنه بالغيب) يوسف: 52 في زوجته، فلما قال ذلك، قال له جبرائيل: ولا حين هممت بها؟ فقال يوسف: (وما أبرئ نفسي، إنّ النفس لأمارة بالسوء) يوسف: 12 : 53.
فلما ظهر للملك براءة يوسف وأمانته قال: (ائتوني به أستخلصه لنفسي) يوسف: 12 : 54، فلمّا جاءه الرسول خرج معه ودعا لأهل السّجن وكتب على بابه: هذا قبر الأحياء وبيت الأحزان وتجربة الأصدقاء وشماتة الأعداء، ثمّ اغتسل ولبس ثيابه وقصد الملك، فلما وصل إليه و(كلمه قال: إنّك اليوم لدينا مكينٌ أمين) يوسف: 12 : 54، فقال يوسف: (اجعلني على خزائن الأرض) يوسف:12 : 55، فاستعمله بعد سنة ولو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته، فسلّم خزائنه كلّها إليه بعد سنة وجعل القضاء إليه وحكمه نافذاً، وردّ إليه عمل قُطفير سيّده بعد أن هلك، وكان هلاكه في تلك الليالي، وقيل: بل عزله فرعون وولّى يوسف عمله، والأوّل أصحّ لأنّ يوسف تزوّج امرأته، على ما نذكره.
ولما ولي يوسف عمل مصر دعا الملك الريّان إلى الإيمان، فآمن، ثمّ توفي، ثم ملك بعده مصر قابوس بن مصعب بن معاوية بن نمير بن السلواس بن فاران بن عمرو بن عملاق، فدعاه يوسف الى الإيمان، فلم يؤمن، وتوفي يوسف في ملكه.

ثم إنّ الملك الريّان زوّج يوسف راعيل امرأة سيّده، فلمّا دخل بها قال: أليس هذا خيراً مما كنت تريدين؟ فقالت: أيها الصدّيق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء جميلة في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء، وكنت كما جعلك الله في حسنك فغلبتني نفسي، ووجدها بكراً، فولدت له ولدين افرائيم ومنشا.
فلمّا ولي يوسف خزائن أرضه ومضت السنون السبع المخصبات وجمع فيها الطعام في سنبله ودخلت السّنون المجدبة وقحط النّاس وأصابهم الجوع وأصاب بلاد يعقوب التي هو بها بعث بنيه إلى مصر وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمّه، فلمّا دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون، وإنّما أنكروه لعبد عهدهم منه ولتغير لبسته، فإنّه لبس ثياب الملوك، فلما نظر إليهم قال: أخبروني ما شأنكم، قالوا: نحن من الشام جئنا نمتار الطعام، قال: كذبتم، أنتم عيون، فأخبروني خبركم، قالوا: نحن عشرة أولاد رجل واحد صدّيق، كنّا اثني عشر، وإنّه كان لنا أخ فخرج معنا إلى البرية فهلك، وكان أحبّنا الى أبينا، قال: فإلى من سكن أبوكم بعده؟ قالوا: إلى أخ لنا أصغر منه، قال: فأتوني به أنظر إليه (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون، قالوا: سنراود عنه أباه) يوسف: 12 : 60 - 61، قال: فاجعلوا بعضكم عندي رهينة حتى ترجعوا، فوضعوا شمعون، أصابته القرعة، وجهّزهم يوسف بجهازهم وقال لفتيانه: اجعلوا بضاعتهم، يعني ثمن الطعام، في رحالهم لعلّهم يرجعون، لما علم أنّ أمانتهم وديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة فيرجعون إليه لأجلها.
وقيل: ردّ مالهم لأنّه خشي أن لا يكون عند أبيه ما يرجعون به مرّةً أخرى، فإذا رأوا معهم بضاعة عادوا، وكان يوسف حين رأى ما بالنّاس من الجهد قد أسّى بينهم، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيراً.
فلما رجعوا الى أبيهم بأحمالهم قالوا: يا أبانا إنّ عزيز مصر قد أكرمنا كرامة لو أنه بعض أولاد يعقوب مازاد على كرامته، وإنه ارتهن شمعون وقال: ائتوني بأخيكم الذي عطف عليه أبوكم بعد أخيكم، (فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون)، قال: (هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل ولما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم، قالوا: يا أبانا ما نبغي، هذه بضاعتنا ردت إلينا ونمير أهلنا ونحفظ أخانا ونزداد كيل بعير) يوسف: 12 : 63 - 65، قال يعقوب: (ذلك كيلٌ يسير)، فقال يعقوب: (لن أرسله معكم حتى تؤتوني موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم، فلمّا آتوه موثقهم قال: الله على ما نقول وكيل) يوسف: 12 : 66، ثم أوصاهم أبوهم بعد أن أذن لأخيهم في الرحيل معهم (وقال: يا بنيّ لاتدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة) يوسف: 12 : 67، خاف عليهم العين، وكانوا ذوي صورة حسنة، ففعلوا كما أمرهم أبوهم، (ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه) يوسف: 12 : 69 وعرفه وأنزلهم منزلاً وأجرى عليهم الوظائف وقدّم لهم الطعام وأجلس كلّ اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيّاً لأجلسني معه فقال يوسف: لقد بقي أخوكم هذا وحيداً، فأجلسه معه وقعد يؤاكله، فلما كان الليل جاءهم بالفرش وقال: لينم كلّ أخوين منكم على فراش، وبقي بنيامين وحده، فقال: هذا ينام معي، فبات معه على فراشه، فبقي يشمّه ويضمّه إليه حتى أصبح، وذكر له بنيامين حزنه على يوسف، فقال له: أتحبّ أن أكون أخاك عوض أخيك الذاهب؟ فقال بنيامين: ومن يجد أخاً مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل، فبكى يوسف وقام إليه فعانقه وقال له: إنّي أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما فعلوه بنا فيما مضى، فإنّ الله قد أحسن إلينا، ولا تعلمهم بما علّمتك.
وقيل: لما دخلوا على يوسف نقر الصّواع وقال: إنه يخبرني أنكم كنتم اثني عشر رجلاً وأنكم بعتم أخاكم، فلمّا سمعه بنيامين سجد له وقال: سل صواعك هذا عن أخي أحيّ هو؟ فنقره ثم قال: هو حيّ وستراه، قال: فاصنع بي ما شئت فإنّه إن علم بي فسوف يستنقذني؛ قال: فدخل يوسف فبكى ثمّ توضّأ وخرج إليهم، قال: فلمّا حمّل يوسف إبل إخوته من الميرة جعل الإناء الذي يكيل به الطعام، وهوالصواع، وكان من فضّة، في رحل أخيه، وقيل: كان إناء يشرب فيه، ولم يشعر أخوه بذلك.

وقيل: إنّ بنيامين لما علم أنّ يوسف أخوه قال: لا أفارقك، قال يوسف: أخاف غمّ أبوينا ولا يمكنني حبسك إلاّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، قال: افعل، قال: فإني أجعل الصواع في رحلك ثمّ أنادي عليك بالسرقة لآخذك منهم، قال: افعل، فلمّا ارتحلوا (أذّن مؤذّن: أيتها العير إنكم لسارقون) يوسف: 12 : 70، (قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض وما كنا سارقين) يوسف: 12 : 73 لأننا رددنا ثمن الطعام الى يوسف، فلما قالوا ذلك (قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه) يوسف: 12 : 74 - 75 تأخذونه لكم، فبدأ بأوعيتهم ففتشها قبل وعاء أخيه ثمّ استخرجها من وعاد أخيه، فقالوا: (إن يسرق فقد سرق أخٌ له من قبل) يوسف: 12 : 75، يعنون يوسف، وكانت سرقته حين سرق صنماً لجدّه أبي أمّه فكسره فعيروه بذلك، وقيل ما تقدّم ذكره من المنطقة.
فلما استخرجت السرقة من رحل الغلام قال إخوته: يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاء فقال بنيامين: بل بنو راحيل ما يزال لهم منكم بلاء وضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم.
فأخذ يوسف أخاه بحكم إخوته، فلمّا رأوا أنهم لا سبيل لهم عليه سألوه أن يتركه لهم و(قالوا: يا أيها العزيز إنّ له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه) يوسف: 12 : 78، فقال: (معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده) يوسف: 12 : 79، فلما يأسوا من خلاصه خلصوا نجيّاً لا يختلط بهم غيرهم، فقال كبيرهم، وهو شمعون: (ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله) يوسف: 12 : 80 أن نأتيه بأخينا إلاّ أن يحاط بنا، ومن قبل هذه المرّة (ما فرطتم في يوسف، فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي) يوسف: 80 بالخروج، وقيل: بالحرب، فارجعوا الى أبيكم فقصّوا عليه خبركم.
فلما رجعوا إلى أبيهم فأخبروه بخبر بنيامين وتخلف شمعون (قال: بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً، فصبر جميلٌ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً) يوسف: 12 : 83، بيوسف وأخيه وشمعون، ثم أعرض عنهم وقال: واحزناه على يوسف (وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم) يوسف: 12 : 84 مملوء من الحزن والغيظ، فقال له بنوه: (تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون حرضاً - أي دنفاً - أو تكون من الهالكين)، يوسف: 12 : 85، فأجابهم يعقوب فقال: (إنما أشكو بثي وحزني الى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون) من صدق رؤيا يوسف.
وقيل: بلغ من وجد يعقوب وجد سبعين مبتلىً، وأعطي على ذلك أجر مائة شهيد.
قيل: دخل على يعقوب جارٌ له فقال: يا يعقوب قد انهشمت وفنيت ولم تبلغ من السنّ ما بلغ أبوك فقال: هشمني وأفناني ما ابتلاني الله به من همّ يوسف، فأوحى الله إليه: أتشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة فاغفرها، قال: قد غفرتها لك، فكان يعقوب إذا سئل بعد ذلك قال: (إنما أشكو بثي وحزني الى الله)، فأوحى الله إليه: لو كانا ميتين لأحييتهما لك، إنّما ابتليتك لأنك قد شويت وقترت على جارك ولم تطعمه.
وقيل: كان سبب ابتلائه أنه كان له بقرة لها عجول فذبح عجولها بين يديها وهي تخور فلم يرحمها يعقوب، فابتلي بفقد أعزّ ولده عنده؛ وقيل: ذبح شاة، فقام ببابه مسكين فلم يطعمه منها، فأوحى الله إليه في ذلك وأعلمه أنه سبب ابتلائه، فصنع طعاماً ونادى: من كان صائماً فليفطر عند يعقوب.
ثمّ إن يعقوب أمر بنيه الذين قدموا عليه من مصر بالرجوع اليها وتجسّس الأخبار عن يوسف وأخيه، فرجعوا الى مصر فدخلوا على يوسف وقالوا: (يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضرّ وجئنا ببضاعة مزجاة - يعني قليلة - فأوف لنا الكيل) يوسف: 12 : 88 قيل: كانت بضاعتهم دراهم زيوفاً، وقيل: كانت سمناً وصوفاً، وقيل غير ذلك، (وتصدق علينا) بفضل ما بين الجيّد والرّديء، وقيل: بردّ أخينا علينا، فلما سمع كلامهم غلبته نفسه فارفضّ دمعه باكياً ثمّ باح لهم بالذي كان يكتم، وقيل: إنما أظهر لهم ذلك لأن أباه كتب إليه، حين قيل له إنّه أخذ ابنه لأنه سرق، كتاباً:

من يعقوب اسرائيل الله ابن اسحاق ذبيح الله ابن ابراهيم خليل الله الى عزيز مصر المظهر العدل، (أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدّي فشدّت يداه ورجلاه وألقي في النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأما أبي فشدّت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحبّ أولادي إليّ فذهب به إخوته الى البرية فعادوا ومعهم قميصه ملطخاً بدم وقالوا: أكله الذئب، وكان لي ابن آخر أخوه لأمّه فكنتُ أتسلّى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته، وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته عليّ ورلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك).
فلمّا قرأ الكتاب لم يتمالك أن بكى وأظهر لهم فقال: (هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: أإنك لأنت يوسف قال: أنا يوسف وهذا أخي، قد منّ الله علينا) يوسف: 12 : 89 - 90 بأن جمع بيننا، فاعتذروا و(قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين)، قال: (لا تثريب عليكم الوم) يوسف: 91 : 92، أي لا أذكر لكم ذنبكم، (يغفر الله لكم)، ثم سألهم عن أبيه، فقالوا: لما فاته بنيامين عمي من الحزن، فقال: اذهبوا بقميصي هذا فألقوه عليوجه أبي يأت بصيراً وأتوني بأهلكم أجمعين) يوسف: 12 : 93، فقال يهودا: أنا أذهب به لأنّيذهبت إليه بالقميص ملطّخاً بالدم وزخبرته أن يوسف أكله الذئب، فأنا أخبره أنه حيّ فأفرحه كما أحزنته، وكان هو البشير، (ولما فصلت) العير عن مصر حملت الريح الى يعقوب ريح يوسف، وبينهما ثمانون فرسخاً، يوسف بمصر ويعقوب بأرض كنعان، فقال يعقوب: (إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون) يوسف: 12 : 94؟ فقال له من حضره من أولاده: (تالله إنك) من ذكر يوسف (لفي ضلالك القديم، فلمّا أن جاء البشير) بقميص يوسف (ألقاه) على وجه يعقوب فعاد بصيراً و(قال: ألم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون)، يعني تصديق الله تأويل رؤيا يوسف؛ و(لما أن جاء البشير) يوسف: 12 : 95 - 96 قال له يعقوب: كيف تركت يوسف؟ قال: إنه ملك مصر، قال: ما أصنع بالمللك علي أيّ دين تركته؟ قال: على الإسلام، قال: الآن تمّت النعمة، فلما رأى من عنده من أولاده قميص يوسف وخبره قالوا له: (يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا، قال: سوف أستغفر لكم) يوسف: 12 : 96 - 97 آخر الدّعاء الى السّحر من ليلة الجمعة.
ثم ارتحل يعقوب وولده، فلمّا دنا من مصر خرج يوسف يتلقّاه ومعه أهل مصر، وكانوا يعظمونه، فلما دنا أحدهما من صاحبه نظر يعقوب الى الناس والخيل، وكان يعقوب يمشي ويتوكّأ على ابنه يهودا، فقال له: يا بنيّ هذا فرعون مصر، قال: لا، هذا ابنك يوسف، فلما قرب منه أراد يوسف أن يبدأه بالسلام، فمنع من ذلك، فقال يعقوب: السلام عليك يا مُذهب الأحزان، لأنّه لم يفارقه الحزن والبكاء مدّة غيبة يوسف عنه.
قال: فلما دخلوا مصر رفع أبويه، يعني أمّه وأباه، وقيل: كانت خالته، وكانت أمه قد ماتت، وخّر له يعقوب وأمّه وإخوته سجداً، وكان السجود تحيّة الناس للملوك، ولم يرد بالسجود وضع الجبهة على الأرض، فإنّ ذلك لا يجوز إلا لله تعالى ، وإنما أراد الخضوع والتواضع والانحناء عند السلام، كما يفعل الآن بالملوك، والعرش: السرير، وقال: (يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً) يوسف: 12 : 100.
وكان بين رؤيا يوسف ومجيء يعقوب أربعون سنة، وقيل: ثمانون سنة، فإنه ألقي في الجبّ وهو ابن سبع عشرة سنة، ولقيه وهو ابن سبع وتسعين سنة، وعاش بعد جمع شمله ثلاثاً وعشرين سنة، وتوفي وله مائة وعشرون سنة، وأوصى إلي أخيه يهودا، وقيل: كانت غيبة يوسف عن يعقوب ثماني عشرة سنة، وقيل: إنّ يوسف دخل مصر وله سبع عشرة سنة، واستوزره فرعون بعد ثلاث عشرة سنة من قدومه إلى مصر، وكانت مدّة غيبته عن يعقوب اثنتين وعشرين سنة، وكان مُقام يعقوب بمصر وأهله معه سبع عشرة سنة، وقيل غير ذلك، والله أعلم.
ولما مات يعقوب أوصي الى يوسف أن يدفنه مع أبيه اسحاق، ففعل يوسف، فسار به الى الشام فدفنه عند أبيه، ثمّ عاد إلى مصر وأوصى يوسف أن يحمل من مصر ويدفن عند آبائه، فحمله موسى لما خرج ببني إسرائيل.

وولد يوسف افرائيم ومنشى، فولد لافراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، وولد لمنشى موسى، قيل موسى بن عمران، وزعم أهل التوراة أنه موسى الخضر، وولد له رحمة امرأة أيّوب في قولك.
قصة شعيب عليه السلامقيل: إن اسم شعيب يثرون بن ضيعون بن عنقا بن ثابت بن مدين بن ابراهيم، وقيل: هو شعيب بن ميكيل من ولد مدين، وقيل: لم يكن شعيب من ولد ابراهيم، وإنما هو من ولد بعض من آمن بإبراهيم وهاجر معه الى الشام، ولكنه ابن بنت لوط، فجدّة شعيب ابنة لوط، وكان ضرير البصر، وهو معنى قوله تعالى: (وإنا لنراك فينا ضعيفاً) هود: 11 : 91؛ أي ضرير البصر.
وكان النبيّ، صلى الله عليه وسلم، إذا ذكره قال: ذاك خطيب الأنبياء؛ بحسن مراجعته قومه؛ وإن الله أرسله الى أهل مدين وهم أصحاب الأيكة، والأيكة: شجر ملتفّ، وكانوا أهل كفر بالله، وبخس للناس في المكاييل والموازين وإفساد أموالهم، وكان الله وسع عليهم في الرزق وبسط لهم في العيش استدراجاً لهم منه مع كفرهم بالله، فقال لهم شعيب: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) هود:11 : 84.
فلما طال تماديهم في غيّهم وضلالهم ولم يزدهم تذكير شعب إيّاهم وتحذيره عذاب الله إياهم إلا تمادياً، ولما أراد إهلاكهم سلّط عليهم عذاب يوم الظّلّة، وهو ما ذكره ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (فأخذهم عذاب يوم الظلّة إنه كان عذاب يوم عظيم) الشعراء: 26 : 189، فقال: بعث الله عليهم وقدة وحرّاً شديداً فأخذ بأنفسهم، فخرجوا من البيوت هراباً إلى البرية، فبعث الله عليهم سحابة فأظلّتهم من الشمس، فوجدوا لها برداً ولذّة فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحتها، فأرسل الله عليهم ناراً، قال عبد الله بن عبّاس: فذلك عذاب يوم الظلّة.
وقال قتادة: بعث الله شعيباً الي أمّتين: الى قومه أهل مدين، والى أصحاب الأيكة، وكانت الأيكة من شجر ملتف، فلما أراد الله أن يعذبهم بعث عليهم حرّاً شديداً ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها، فلمّا كانوا تحتها أمطرت عليهم ناراً، قال: فذلك قوله: (فأخذهم عذاب يوم الظلّة).
وأما أهل مدين فمنهم من ولد مدين بن ابراهيم الخليل، فعذّبهم الله بالرجفة، وهي الزلزلة، فأهلكوا.
قال بعض العلماء: كان قوم شعيب عطلوا حدّاً، فوسع الله عليهم في الرزق، ثم عطلوا حدّاً فوسع الله عليهم في الرزق، فجعلوا كلّما عطلوا حدّاً وسع الله عليهم في الرزق، حتى إذا أراد هلاكهم سلّط عليهم حرّاً لا يستطيعون أن يتقارّوا ولا ينفعهم ظلّ ولا ماد حتي ذهب ذاهب منهم فاستظل تحت ظلّة فودج روحاً فنادى أصحابه: هلمّوا الى الروح، فذهبوا اليه سراعاً حتى اذا اجتمعوا إليها ألهبها الله عليهم ناراً، فذلك عذاب يوم الظلّة.
وقد روى عامر عن ابن عباس أنه قال له: من حدثك ما عذاب يوم الظلّة فكذّبه، وقال مجاهد: عذاب يوم الظلّة هو إظلال العذاب على قوم شعيب، وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى: (يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) هود: 11 : 87؛ قال: مما كان ينهاهم عنه قطع الدراهم.
قصة الخضر وخبره مع موسىقال أهل الكتاب: إن موسى صاحب الخضر هو موسى بن منشى بن يوسف بن يعقوب، والحديث الصحيح عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، أن موسى صاحب الخضر هو موسى بن عمران على ما نذكره، وكان الخضر ممّن كان في أيام أفريدون الملك ابن اثغيان في قول علماء أهل الكتاب الأول قبل موسى بن عمران، وقيل: إنه كان على مقدمة ذي القرنين الأكب الذي كان في أيام ابراهيم الخليل، وإنه بلغ مع ذي القرنين نهر الحياة فرشب من مائه ولا يعلم ذو القرنين ومن معه، فخلّد وهو حيّ عندهم الى الآن، وزعم بعضهم: أنّه كان من ولد من آمن مع ابراهيم وهاجر معه، واسمه يليا بن ملكان بن فالغ بن غابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكاً عظيماً، وقال آخرون: ذو القرنين الذي كان على عهد ابراهيم أفريدون بن اثغيان، وعلى مقدمته كان الخضر.

قال عبد الله بن شوذب: الخضر من ولد فارس، والياس من بني اسرائيل يلتقيان كلّ عام بالموسم، وقال ابن اسحاق: استخلف الله على بني اسرائيل رجلاً منهم يقال له ناشية بن أموص، فبعث الله لهم الخضر معه نبيّاً، قال: واسم الخضر فيما يقول بنو اسرائيل إرميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وبين هذا الملك وبين أفرويدون أكثر من ألف عام.
وقول من قال إن الخضر كان في أيّام أفريدون وذي القرنين الأكبر قبل موسى بن عمران أشبه للحديث الصحيح أنّ موسى بن عمران أمره الله بطلب الخضر، ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أعلم الخلق بالكائن من الأمور، فيحتمل أني كون الخضر على مقدمة ذي القرنين قبل موسى، وأنه شرب من ماء الحياة فطال عمره، ولم يرسل في أيّام ابراهيم، وبعث في أيام ناشية بن أموص، وكان ناشية هذا في أيّام بشتاسب بن لهراسب، والحديث ما رواه أبيّ بن كعب عن النبي، صلى الله عليه وسلم.
قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: إنّ نوفا يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران، قال : كذب عدوّ الله، حذّثني أبيّ بن كعب عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، قال: إن موسى قام في بني اسرائيل خطيباً فقيل له: أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب الله عليه حين لم يردّ العلم إليه، فقال: يا ربّ هل هناك أعلم مني؟ قال: بلى، عبد لي بمجمع البحرين، قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيث تفقده فهو هناك، فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثمّ قال لفتاه: إذا فقدت هذا الحوت فأخبرني، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر حتى أتيا الصخرة وذلك الماء، وهو ماء الحياة، فمن شرب منه خلد ولا يقاربه شيد ميت إلاّ حيي، فمسّ الحوت منه فحيي، وكان موسى راقداً، واضطرب الحوت في المكتل فخرج في البحر، فأمسك الله عنه جرية الماء فصار مثل الطاق، فصار للحوت سرباً، وكان لهما عجباً، ثم انطلقا، فلما كان حين الغداء قال موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، قال: ولم يجد موسى النصب حتى تجاوز حيث أمره الله، فقال: (أرأيت إذ أوينا الى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجباً؛ قال ذلك ما كنا نبغ، فارتدا على آثارهما قصصاً) الكهف: 18 : 63 - 46، قال: يقصّان آثارهما حتى أتيا الصخرة، فإذا رجل نائم مسجّى بثوبه، فسلّم موسى عليه، فقال: وأنَّى بأرضنا السلام قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال: يا موسى إني على علم من علم الله علّمنيه الله لا تعلمه، وأنت على علم من علم الله لا أعلمه، قال: فإني أتبعك علي أن تعلّمني مما علّمت رشداً، (قال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيءٍ حتى أحدث لك منه ذكراً) الكهف: 18 : 70، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ثمّ ركبا سفينة، فجاء عصفور فقعد علي حرف السفينة فنقر في الماء، فقال الخضر لموسى: ما ينقص علمي وعلمك من علم الله إلاّ مقدار ما نقر هذا العصفور من البحر.

قال: فبينا هم في السفينة لم يفجأ موسي إلا وهو يوتد وتداً أو ينزع تختاً منها، فقال له موسى: حملنا بغير نول فتخرقها (لتغرق أهلها، لقد جئت شيئاً إمراً؛ قال: ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت) الكهف: 18 : 71 - 73، قال: وكانت الأولي من موسى نسياناً، قال: فخرجا فانطلقا يمشيان فأبصرا غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ برأسه فقتله، فقال له موسى: (أقتلت نفساً زكيّةً بغير نفسٍ لقد جئت شيئاً نكراً؛ قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: إن سألتك عن شيءٍ بعدها فلا تصاحبني، قد بلغت من لدنّي عذراً، فانطلقا حتى رذا أتيا زهل قريةٍ استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما) الكهف: 18 : 74 - 77 فلم يجدا أحداً يطعمهما ولا يسقيهما، (فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)، فقال له موسى: لم يضيّفونا ولم ينزلونا، (لو شئت لاتّخذت عليه أجراً؛ قال: هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً؛ أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فزردت أن أعيبها، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) الكهف: 18 : 77 - 79 وفي قراءة أبيّ: سفينة صالحة - وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً؛ فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة وأقرب رحماً؛ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحته كنز لهما، وكان أوبهما صالحاً - إلى - ما لم تسطع عليه صبراً) الكهف: 18 : 79 - 82.
فكان ابن عبّاس يقول: ما كان الكنز إلا علماً، قيل لابن عبّاس: لم نسمع لفتى موسى بذكر؛ فقال: شرب الفتى من الماء فخلّد، فأخذه العالم فطابق به سفينته ثمّ أرسلها في البحر، فإنها لتموج به إلى يوم القيامة.
الحديث يدلّ على أن الخضر كان قبل موسى وفي أيّامه، ويدلّ على خطأ من قال إنه إرميا، لأنّ إرميا كان أيّام بخت نصّر، وبين أيام موسى وبخت نصّر من المدة ما لا يشكل على عالم بأيام الناس، فإن موسى إنما نُبّئ في أيام منوجهر، وكان ملكه بعد جدّه أفريدون.
ذكر الخبر عن منوجهر والحوادث في أيامهثمّ ملك بعد أفريدون بن اثغيان بن كاو منوجهر، وهو من ولد إيرج بن أفريدون، وكان مولده بدُنباوند، وقيل الريّ، فلما ولد منوجهر أخفى أمره خوفاً من طوج وسلم عليه، ولما كبر منوجهر سار الى جدّه أفريدون فتوسّم فيه الخير وجعل له ما كان جعله لجدّه إريج من المملكة وتوجه بتاجه. وقد زعم بعضهم أنّ منوجهر بن شجر بن افريقش بن اسحاق بن ابراهيم انتقل إليه الملك، واستشهد بقول جرير بن عطية:
وأبناء إسحاق الليوث إذا ارتدوا ... حمائل موتٍ لابسين السنورا
إذا انتسبوا عدّوا الصّبهبذ منهم ... وكسرى وعدّوا الهرمزان وقيصرا
وكان كتاب فيهم ونبوّة ... وكانوا باصطخر الملوك وتسترا
فيجمعنا والغرّ أبناء فارس ... أب لا نبالي بعده من تأخرا
أبونا خليل الله والله ربنا ... رضينا بما أعطى الإله وقدّرا
وأما الفرس فتنكر هذا النسب ولا تعرف لها ملكاً إلا في أولاد أفريدون ولا تقرّ بالملك لغيرهم.
قلت: والحقّ ما قاله الفرس، فإن أسماء ملوكهم قبل الإسكندر معروفة وبعد أيامه ملوك الطوائف، وإذا كان منوجهر أيّام موسى وكل ما بين موسى واسحاق خمسة آباء معروفون ولم يزالوا بمصر ففي أيّ زمان كثروا وانتشروا وملكوا بلاد الفرس؟ ومن أين لجرير هذا العلم حتى يكون قوله حجّة لا سيّما وقد جعل الجميع أبناء إسحاق قال هشام بن الكلبي: ملك طوج وسلم الأرض بعد أخيهما إيرج ثلاثمائة سنة، ثمّ ملك منوجهر مائة وعشرين سنة، ثمّ وثب به ابن لطوج التركيّ على رأس ثمانين سنة فنفاه عن بلاد العراق اثنتي عشرة سنة، ثمّ أديل منه منوجهر، فنفاه عن بلاده وعاد إلى ملكه، وملك بعد ذلك ثمانياً وعشرين سنة.
وكان منوجهر يوصف بالعدل والإحسان، وهو أول من خندق الخنادق وجمع آلة الحرب، وأول من وضع الدهقنة فجعل لكلّ قرية دهقاناً وأمر أهلها بطاعته، ويقال: إنّ موسى ظهر في سنة ستين من ملكه.

وقال غير هشام؛ إنه لما ملك سار نحو بلاد الترك طالباً بدم جدّه إيرج بن أفريدون، فقتل طوج بن أفريدون وأخاه سلماً، ثم إنّ افراسياب بن فشنج بن رستم بن ترك، الذي ينسب إليه الأتراك من ولد طوج بن أفريدون، حرب منوجهر بعد قتله طوج بستين سنة وحاصره بطبرستان، ثمّ اصطلحا أن يجعلا حدّ ما بين ملكيهما منتى رمية سهم رجل من أصحاب منوجهر اسمه إيرشى، وكان رايماً شديد النزع، فرمى سهماً من طبرستان فوقع بنهر بلخ، وصار النهر حدّ ما بين الترك ولد طوج وعمل منوجهر.
قلت: وهذا من أعجب ما يتداوله الفرس في أكاذيبهم، أن رمية سهم تبلغ هذا كله.
وقد ذكر أن منوجهر اشتق من الفرات ودجلة ونهر بلخ أنهاراً عظاماً وأمر بعمارة الأرض، وقيل: إن الترك تناولت من أطراف رعيته بعد خمس وثلاثين سنة من ملكه، فوبّخ قومه وقال لهم: أيها الناس إنكم لم تلدوا الناس كلهم وإنما الناس ناس ما عقلوا من أنفسهم ودفعوا العدوّ عنهم، وقد نالت الترك من أطرافكم وليس ذلك إلا بترككم جهاد عدوّكم ، وإن الله أعطانا هذا الملك ليبلونا أنشكر أم نكفر فيعاقبنا، فإذا كان غد فاحضروا.
فحضر الناس والأشراف، فقام على قدميه، فقام له الناس، فقال: اقعدوا، إنما قمت لأسمعكم، فجلسوا، فقال: أيها الناس إنما الخلق للخالق والشكر للمنعم والتسليم للقادر، ولا بدّ مما هو كائن، وإنه لا أضعف من مخلوق طالباً كان أو مطلوباً، ولا أقوى من خالق ولا أقدر ممن طلبته في يده ولا أعجز ممن هو في يد طالبه، وإن التفكّر نور والغفلة ظلمة، فالضلالة جهالة، وقد ورد الأوّل ولا بدّ للآخر من اللحاق بالزوّل، إن الله أعطانا هذا الملك فله الحمد ونسأله إلهام الرشد والصدق واليقين، وإنه لا بدّ أن يكون للملك على أهل مملكته حقّ ولأهل مملكته عليه حقّ، فحقّ الملك عليهم أن يطيعوه ويناصحوه ويقاتلوا عدوّه، وحقّهم على الملك أن يعطيهم أرزاقهم في زوقاتها إذ لا معوّل لهم إلا عليها، وإنه خازنهم، وحق الرعية علي الملك أن ينظر إليهم ويرفق بهم ولا يحملهم على ما لا يطيقون، وإن أصابتهم مصيبة تنقص من ثمارهم أن يسقط عنهم خراج ما نقص، وإن اجتاحتهم مصيبة أن يعوضهم ما يقوّيهم على عمارتهم، ثمّ يأخذ منهم بعد ذلك قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أن ذلك قدر ما لا يجحف بهم في سنة أو سنتين، ألا وإن الملك ينبغي أن يكون فيه ثلاث خصال: أن يكون صدوقاً لا يكذب، وأن يكون سخيّاً لا يبخل، وأن يملك نفسه عند الغضب فإنه مسلط ويده مبسوطة، والخراج يأتيه، فلا يستأثر عن جنده ورعيّته بما هم أهل له، وأن يكثر العفو فإنه لا ملك أقوى ولا أبقى من ملك فيه العفو، فإن الملك إن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.
ألا وإنّ الترك قد طمعت فيكم فاكفونا فإنّما تكفون أنفسكم، وقد أمرت لكم بالسلاح والعدّة وأنا شريككم في الرأي، وإنّما لي من هذا الملك اسمه مع الطاعة منكم، ألا وإنما الملك ملك إذا أطيع، فإن خولف فهو مملوك وليس بملك، ألا وإن أكمل الأداة عند المصيبات الزخذ بالصبر والراحة إلي اليقين، فمن قُتل في مجاهدة العدوّ ورجوت له بفوز رضوان الله، وإنما هذه الدنيا سفر لأهلها لا يحلّون عقد الرحال إلاّ في غيرها، وهي خطبة طويلة.
ثم أمر بالطعام فزكلوا وشربوا وخرجوا وهم له شاكرون مطيعون.
وكان ملكه مائة وعشرين سنة.
وزعم ابن الكلبيّ أنّ الرايش، واسمه الحرث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يعرب بن قحطان، وكان قد ملك اليمن بعد يعرب بن قحطان، كان ملكه باليمن أيّام ملك منوجهر، وإنما سمّي الرايش لغنيمة غنمها فأدخلها اليمن فسمّي الرايش، ثمّ غزا الهند فتل بها وأسر وغنم ورجع الى اليمن، ثمّ سار على جبلي طيّء، ثمّ على الأنبار، ثم على الموصل ووجه منها خيله وعليها رجل من أصحابه يقال له شمر بن العطّاف، فدخل على الترك بزرض أذربيجان فقتل المقاتلة وسبهى الذرّية وكتب ما كان من مسيره على حجرين، وهما معروفان بأذربيجان.

ثمّ ملك بعده ابنه أبرهة، ولقبه ذو المنار، وإنما لقّب بذلك لأنه غزا بلاد المغرب وأوغل فيها برّاً وبحراً، وخاف على جيشه الضلال عند قفوله فبنى المنار ليهتدوا بها، وقد زعم أهل اليمن أنه وجه ابنه العبد بن أبرهة في غزواته الى ناحية من أقاصي المغرب فغنم وقدم بسبي له وحشة منكرة، فذعر الناس منهم، فسمّي ذو الأذعار؛ فأبرهة أحد ملوكهم الذين توغّلوا في البلاد.
وإنما ذكرت من ذكرت من ملوك اليمن ها هنا لقول من زعم أن الرايش كان أيام منوجهر وأن ملوك اليمن كانوا عمالاً لملوك فارس.
قصة موسى عليه السلام ونسبه

وما كان في أيامه من الأحداث
قيل: هو موسى بن عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم، وولد لاوي ليعقوب وهو ابن تسع وثمانين سنة، وولد قاهث للاوي وهو ابن ست وأربعين سنة، وولد لقاهث يصهر، وولد عمران ليصهر وله ستون سنة، وكان عمره جميعه مائة وسبعاً وأربعين سنة وولد موسى ولعمران سبعون سنة وكان عمر عمران جميعه مائة وسبعاً وثلاثين سنة، وأم موسى يوخابد، واسم امرأته صفوراً بنت شعيب النبيّ.
وكان فرعون مصر في أيامه قابوس بن مصعب بن معاوية صاحب يوسف الثاني، وكانت امرأته آسية بنت مزاحم بن عبيد بن الريّان بن الوليد فرعون يوسف الأول، وقيل: كانت من بني اسرائيل، فلمّا نودي موسى أعلم أنّ قابوس فرغون مصر مات وقام أخوه الوليد بن مصعب مكانه، وكان عمره طويلاً، وكان أعتى من قابوس وأفجر، وأمر بأن يأتيه هو وهارون بالرسالة، ويقال: إنّ الوليد تزوج آسية بعد أخيه، ثم سار موسى إلى فرعون رسولاً مع هارون، فكان من مولد موسى إلى أن أخرج بني إسرائيل من مصر ثمانون سنة، ثم سار الى التيه بعد أن مضى عبر البحر، وكان مقامهم هنالك إلى أن خرجوا مع يوشع بن نون أربعين سنة، فكان ما بين مولد موسى الى وفاته مائة وعشرين سنة.
قال ابن عبّاس وغيره، دخل حديث بعضهم في بعض: إنّ الله تعالى لما قبض يوسف وهلك الملك الذي كان معه وتوارثت الفراعنة ملك مصر ونشر الله بني اسرائيل لم يزل بنو اسرائيل تحت يد الفراعنة وهم على بقايا من دينهم مما كان يوسف ويعقوب واسحاق وابراهيم شرعوا فيهم من الاسلام حتى كان فرعون موسى، وكان زعتاهم علي الله وأعظمهم قولاً وأطولهم عمراً، واسمه فيما ذكر الويد بن مصعب، وكان سيء الملكة على بني اسرائيل يعذبهم ويجعلهم خولاً ويسومهم سوء العذاب.
فلما أراد الله أن يستنفذهم بلغ موسى الأشدّ وأعطي الرسالة، وكان شأن فرعون قبل ولادة موسى أنه رأى في منامه كأن ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت علي بيوت مصر فأحرقت القبط وتركت بني اسرائيل وأخربت بيوت مصر، فدعا السحرة والحزاة والكهنة فسألهم عن رؤياه، فقالوا: يخرج من هذا البلد، يعنون بيت المقدس، الذي جاء بنو اسرائيل منه، رجل يكون على وجهه هلاك مصر، فأمر أن لا يولد لبني اسرائيل مولود إلا ذبح ويترك الجواري.
وقيل: إنه لما تقارب زمان موسى أتى منجمو فرعون وحزاته إليه فقالوا: اعلم أنّا نجد في علمنا أن مولوداً من بني اسرائيل قد أظلّك زمانه الذي يولد فيه يسلبك ملكك ويغلبك على سلطانك ويبدل دينك، فأمر بقتل كلّ مولود يولد في بني اسرائيل.

وقيل: بل تذاكر فرعون وجلساؤه معاً ما وعد الله عزّ وجل إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فقال بعضهم: إ بني اسرائيل لينتظرون ذلك، وقد كانوا يظنونه يوسف بن يعقوب، فلما هلك قالوا: ليس هكذا وعد الله إبراهيم، فقال فرعون: كيف ترون؟ فأجمعوا على أن يبعث رجالاً يقتلون كل مولود في بني اسرائيل، وقال للقبط: انظروا مماليككم الذين يعملون خارجاً فأدخولهم واجعلوا بني اسرائيل يلون ذلك، فجعل بني اسرائيل في أعمال غلمانهم، فذلك حين يقول الله عز وجل: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم) القصص: 82 : 4؛ فجعل لا يولد لبني اسرائيل مولود إلا ذبح، وكان يأمر بتعذيب الحبالى حتى يضعن، فكان يشقق القصب ويوقف المرأة عليه فيقطع أقدامهن، وكانت المرأة تضع فتتقي بولدها القصب، وقذف الله الموت في مشيخة بني اسرائيل، وفدخل رؤوس القبط على فرعون وكلموه وقالوا: إنّ هؤلاء القوم قد وقع فيهم الموت فيوشك أن يقع العمل على غلماننا، تذبح الصغار وتفني الكبار، فلو أنك كتبت تبقي من أولادهم، فأمرهم أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة، فلما كان في تلك السنة التي تركوا فيها ولد هارون، وولد موسى في السنة التي يقتلون فيها، وهي السنة المقبلة، قلما أرادت أمه وضعه حزنت من شزنه ، فأوحى الله إليها، أي ألهمها: (أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم - وهو النيل - ولا تخافي ولا تحزني إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين) القصص: 28 : 7.
فلما وضعته أرضعته ثمّ دعت نجّاراً فجعل له تابوتاً وجعل مفتاح التابوت من داخل وجعلته فيه وألقته في اليم، فلما توارى عنها زتاها إبليس، فقالت في نفسها: ما الذي صنعت بنفسي لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحبّ إليّ من أن ألقيه بيدي إلى حيتان البحر ودوابه، فلمّا ألقته (قالت لأخته) - واسمها مريم (قصيه) يعني قصّي أثره (فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) القصص: 28 : 11 انها أخته، فأقبل الموج بالتابوت يرفعه مرة ويخفضه أخرى حتى ادخله بين أشجار عند دور فرعون، فخرج جواري آسية امرأة فرعون يغتسلن فوجدن التابوت فأدخلنه إلى آسية، وظنن أن فيه مالاً، فلما فتح ونظرت إليه آسية وقعت عليها رحمته وأحبته، فلما أخبرت به فرعون وأتته قالت: (قرّة عين لي ولك لا تقتلوه) القصص: 28 : 9، فقال فرعون: يكون لكِ، وأما أنا فلا حاجة لي فيه.
قال النبي، صلى الله عليه وسلم، والذي يحلف به لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت لهداه الله كما هداها.
وأراد أن يذبحه فلم تزل اسية تكلّمه حتى تركه لها وقال: إني أخاف أن يكون هذا من بني اسرائيل وأن يكون هذا الذي على يديه هلاكنا، فذلك قوله عز وجل: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً) القصص: 28 : 8، وأرادوا له المرضعات فلم يزخذ من أحد من النساد، فذلك قوله: (وحرمنا عليه المراضع من قبل فقالت - أخته مريم - هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون؟) القصص: 28 : 12، فزخذوها وقالوا: ما يدريك ما نصحهم له؟ هل يعرفونه؟ حتى شكوا في ذلك فقالت: نصحهم له شفقتهم عليه ورغبتهم في قضاء حاجة الملك ورجاء منفعته، فانطلقت إلى أمّه فأخبرتها الخبر، فجاءت أمه، فلما أعطته ثديها أخذه منها، فكادت تقول: هذا ابني، فعصمها الله.
وإنما سمي موسى لأنه وجد في ماء وشجر، والماء بالقبطيّة مو، والشجر سا، فذلك قوله تعالى: (فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن) القصص: 28 : 13.

وكان غيبته عنها ثلاثة أيام، وزخذته معها إلى بيتها، واتخذه فرعون ولداً فدعي ابن فرعون، فلما تحرك الغلام حملته أمه إلى آسية، فأخذته ترقصه وتلعب به وناولته فرعون، فلما أخذه إليه أخذ الغلام بلحيته فنتفها، قال فرعون: عليّ بالذبّاحين يذبحونه، هو هذا قالت آسية: (لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً) القصص: 28 : 9، إنما هو صبيّ لا يعقل وإنما فعل هذا من جهل، وقد علمت أنه ليس في مصر امرأة أكثر حليّاً مني، أنا أضع له حليّاً من ياقوت وجمراً فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه وإن أخذ الجمرة فإنما هو صبيّ، فأخرجت له ياقوتها ووضعت له طشتاً من جمر فجاء جبرائيل فوضع يده في جمرة فأخذها فطرحها موسى في فمه، فأحرقت لسانه، فهو الذي يقول الله تعالى: (واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي) طه: 27 : 28، فدرأت عن موسى بتلك القتل.
وكبر موسى ، وكان يركب مركب فرعون ويلبس ما يلبس، وإنما يدعى موسى بن فرعون، وامتنع به بنو اسرائيل ولم يبق قبطيّ يظلم اسرائيلياً خوفاً منه.
ثم إن فرعون ركب مركباً وليس عنده موسى، فلما جاء موسى قيل له: فرعون قد ركب، فركب موسى في أثره فأدركه المقيل بأرض يقال لها منف، وهذه منف (بفتح الميم وسكون النون) مصر القديمة التي هي مصر يوسف الصديق، وهي الآن قرية كبيرة، فدخل نصف النهار، وقد أغلقت أسواقها، (على حين غفلة من أهلها، فوجد فيها رجلين يقتتلان هذا من شيعته) القصص: 28 : 15 - 17 يقول هذا اسرائيلي قيل إنه السامريّ (وهذا من عدوّه)، فغضب موسى لأنه تناوله وهو يعلم منزلة موسى من بني اسرائيل وحفظه لهم، وكان قد حماهم من القبط، وكان الناس لايعلمون أنه منهم بل كانوا يظنون أن ذلك بسبب الرّضاع، فلما اشتدّ غضبه وكزه فقضى عليه، فقال: إن (هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين؛ قال ربّ إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له، إنه هو الغفور الرحيم) القصص: 28 : 16؛ فأوحى الله تعالى إلى موسى: وعزّتي لو أن النفس التي قتلت أقرّت لي ساعة واحدة أني خالق رازق لأذقتك العذاب، (قال: رب بما أنعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين) القصص: 28 : 17، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب أن يؤخذ، (فإذا الذي استنصره بالزمس يستصرخه - يقول يستعينه : قال له مسوى: إنك لغويّ مبين) القصص: 28 : 18، ثمّ أقبل لينصره، فلما نظر الي موسى وقد أقبل نحوه ليبطش بالرجل الذي يقاتل الاسرائيلي خاف أن يقتله من أجل أنه أغلظ له في الكلام قال: (أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين) القصص: 28 : 19، فترك القبطيّ، فذهب فأفشى عليه أنّ موسى هو الذي قتل الرجل، فطلبه فرعون وقال: خذوه فإنّه صاحبنا، فجاء رجل فأخبره وقال له: (إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج) القصص: 28 : 20.
قيل: كان خربيل مؤمن آل فرعون، كان على بقيّة من دين إبراهيم، عليه السلام، وكان أول من آمن بموسى، فلما أخبره خرج من بينهم (خائفاً يترقب، قال: رب نجني من القوم الظالمين) القصص: 28 : 21، وأخذ في ثنيات الطريق، فجاءه ملك علي فرس وفي يده عنزة، وهي الحربة الصغيرة، فلمّا رآه موسى سجد له من الفَرَق، فقال له: لا تسجد لي ولكن ابتعني؛ فهداه نحو مدين، وقال موسى وهو متوجه إليها: (عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) القصص: 28 : 22، فانطلق به الملك حتي انتهى به إلي مدين، فكان قد سار وليس معه طعام، وكان يزكل ورق الشجر، ولم يكن له قوة على الشمي، فما بلغ مدين حتى سقط خف قدمه، (ولما ورد ماء مدين - قصد الماء - وجد عليه أمّةً من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين تذودان) القصص: 28 : 23، أي تحبسان غنمهما، وهما ابنتا شعيب النبي، وقيل: ابنتا يثرون، وهو ابن أخي شعيب، فلما رآهما موسى سألهما: (ما خطبكما؟ قالتا: لا نسقي حتى يصدر الرعاء وأبونا شيخ كبير) القصص: 28 : 23، فرحمهما موسى فأتى البئر فاقتلع صخرة عليها كان النفر من أهل مدين يجتمعون عليها حتى يرفعوها فسقى لهما غنمهما، فرجعتا سريعاً، وكانتا إنما تسقيان من فضول الحياض، وقصد موسى شجرة هناك ليستظل بها فقال: (رب إني لما أنزلت إليه من خير فقير) القصص: 28 : 24.
قال ابن عباس: لقد قال موسى ذلك ولو شاء إنسان أن ينظر الى خضرة أمعائه من شدّة الجوع لفعل وما سأل إلا أكلة.

فلما رجعت الجاريتان إلى أبيهما سريعاً سألهما فأخبرتاه، فأعاد إحداهما الى موسى تستدعيه، فأتته وقالت له: (إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) القصص: 25، فقام معها، فمشت بين يديه، فضربت الريح ثوبها فحكى عجيزتها، فقال لها: امشي خلفي ودلّيني على الطريق فإنّا أهل بيت لا ننظر في أعقاب النساء.
فلما أتاه (وقص عليه القصص قال: لا تخف نجوت من القوم الظالمين)، قالت إحداهما، وهي التي أحضرته: (يا أبت استأجره، إن خير من استأجرت القوي الأمين) القصص: 26، قال لها أبوها: القوة قد رأيتها فما يدريك بأمانته؟ فذكرت له ما أمرها به من المشي خلفه، فقال له أبوها: (إني زريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني - نفسك - ثماني حجج، فإن أتممت عشراً فمن عندك) القصص: 27، فقال له موسى: (ذلك بيني وبينك أيما الزجلين قضيت فلا عدوان عليّ، والله على ما نقول وكيل) القصص: 28، فأقام عنده يومه، فلمّا أمسى أحضر شعيب العشاد، فامتنع موسى من الأكل، فقال: ولم ذلك؟ قال: إنها من أهل بيت لا نأخذ على اليسير من عمل الآخرة الدنيا بأسرها، فقال شعيب: ليس لذلك أطعمتك إنما هذه عادتي وعادة آبائي، فأكل، وازدادت رغبة شعيب في موسى فزوّجه ابنته التي أحضرته، واسمها صفورا، وأمرها أن تأتيه بعصاً، فأتته بعصاً، وكانت تلك العصا قد استودعها إيّاه ملك في صورة رجل، فدفعتها إليه، فلمّا رآها أبوها أمرها بردّها والإتيان بغيرها، فألقتها وأرادت أن تأخذ غيرها، فلم تقع بيدها سواها، وجعل يرددّها، وكل ذلك لا يخرج في يدها غيرها، فزخذها موسى ليرعى بها فندم أبوها حيث أخذها وخرج إليه ليأخذها منه حيث هي وديعة، فلمّا رآه مسوى يريد أخذها منه مانعه، فحكّما أوّل رجل يلقاهما، فزتاهما ملك في صورة آدميّ فقضى بينهما أن يضعها موسى في الأرض، فمن حملها فهي له، فألقاها موسى فلم يطق أبوها حملها وأخذها موسى بيده فتركها له، وكانت من عوسج لها شعبتان وفي رأسها محجن، وقيل: كانت من آس الجنة، حملها آدم معه، وقيل في أخذها غير ذلك.
وأقام موسى عند شعيب يرعى له غنمه عشر سنين، وسار بأهله في زمن شتاء وبرد، فلما كانت الليلة التي أراد الله عز وجل لموسى كرامته وابتداءه فيها بنبوّته وكلامه أخطأ فيها الطريق حتى لا يدري أين يتوجه، وكانت امرأته حاملاً، فأخذها الطلق في ليلة شاتية ذات مطر ورعد وبرق، فأخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليصطلوا ويبيتوا حتى يصبح ويعلم وجه طريقه، فأصلد زنده فقدح حتى أعيا، فرفعت له نار، فلمّا رآها ظنّ أنها نار، وكانت من نور الله، ف (قال لأهله: امكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بخبر) القصص: 29، فإن لم أجد خبراً (آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون) النمل: 7، فحين قصدها رآها نوراً ممتداً من السماء إلى شجرة عظيمة من العوسج، وقيل: من العناب، فتحيّر موسى وخاف حين رأى ناراً عظيمة بغير دخان، وهي تلتهب في شجرة خضراء لا تزداد النار إلا عظماً ولا تزداد الشجرة إلا خضرة، فلما دنا منها استأخرت عنه، ففزع ورجع، فنودي منها، فلما سمع الصوت استأنس فعاد، (فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة) القصص: 30: أن بورك من في النار ومن حولها يا موسى، (إن أنا الله ربّ العالمين)، فلمّا سمع النداء ورأى تلك الهيبة علم أنه ربّه تعالى، فخفق قلبه وكلّ لسانه وضعفت قوته وصار حيّاً كميت إلاّ أن الروح يتردد فيه، فأرسل الله إليه ملكاً يشدّ قلبه، فلمّا ثاب إليه عقله نودي: (اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوىً) طه: 12؛ وإنّما أمر بخلع نعله لأنهما كانتا من جلد حمار ميت، وقيل: لينال قدمه الأرض المباركة، ثمّ قال له تسكيناً لقلبه: (وما تلك بيمينك يا موسى؟ قال: هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي) طه: 17 : 18؛ يقول: أضرب الشجر فيسقط ورقة للغنم؛ (ولي فيها مآرب أخرى) أحمل عليها المزود والسّقاء.
وكانت تضيء لموسى في الليلة المظلمة، وكانت إذا أعوزه الماء أدلاها في البئر فينال الماء ويصير في رأسها شبه الدلو، وكان إذا اشتهى فاكهة غرسها في الأرض فنبتت لها أغصان تحمل الفاكهة لوقتها.

قال له: ألقها يا موسى، فألقاها موسى، فإذا هي حيّة تسعى عظيمة الجثة في خفّة حركة الجانّ، فلمّا رآها موسى (وولى مدبراً ولم يعقب)، فنودي: (يا موسى لا تخف إني لا يخافُ لديّ المرسلون) النمل: 10، أقبل ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولي عصاً؛ وإنما أمره الله بإلقاء العصا حتى إذا ألقاها عند فرعون لا يخاف منها، فلمّا أقبل قال: خذها ولا تخف وأدخل يدك في فيها، وكان على موسي جبّة صوف، فلّ يده بكمّه وهو لها هائب، فنودي: ألقِ كمّك عن يدك، فألقاه، وأدخل يده بين لحييها، فلمّا أدخل يده عادت عصاً كما كانت لا ينكر منها شيئاً.
ثمّ قال له: (أدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء) النمل: 12، يعني برصاً، فأدخلها وأخرجها بيضاء من غير سوء مثل الثلج لها نور، ثمّ ردّها فعادت كما كانت، فقيل له: (فذانك برهانان من ربك إلي فرعون وملإه إنهم كانوا قوماً فاسقين؛ قال: ربّ إني قتلت منهم نفساً فأخاف أن يتقلون؛ وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي ردءاً: يصدقني) القصص: 32 - 34، أي يبين لهم عني ما زكلّمهم به، فإنه يفهم عني ما لا يفهمون، (قال: سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطاناً فلا يصلون رليكما بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون) القصص: 35.
فأقبل موسى إلى أهله فسار بهم نحو مصر حتى أتاها ليلاً، فتضيّف على أمّه وهو لا يعرفهم ولا يعرفونه، فجاء هارون فسألها عنه، فأخبرته أنه ضيف، فدعاه فأكل معه، وسأله هارون: من أنت؟ قال: أنا موسى، فاعتنقا، وقيل: إنّ الله ترك موسى سبعة أيام ثم قال: أجب ربك فيما كلّمك، فقال: (رب اشرح لي صدري) طه: 25 الآيات، فزمره بالمسير الى فرعون، ولم يزل أهله مكانهم لا يدرون ما فعل حتى مرّ راعٍ من أهل مدين فعرفهم فاحتملهم إلى مدين، فكانوا عند شعيب حتى بلغهم خبر موسى بعدما فلق البحر، فساروا إليه.
وأمّا مسوى فإنه سار الى مصر، وأوحى اللّه إلى هارون يعلمه بقفول موسى ويأمره بتلقّيه، فخرج من مصر فالتقى به، قال موسى: يا هارون إنه الله تعالى قد أرسلنا إلى فرعون فانطلق معي إليه، قال: سمعاً وطاعة، فلمّا جاء إلى بيت هارون وزظهر أنهما ينطلقان الى فرعون سمعت ذلك ابنة هارون فصاحت أمهما فقالت: أنشدكما الله أن لا تذهبا الى فرعون فيقتلكما جميعاً فأبيا فانطلقا إليه ليلاً، فضربا بابه، فقال فرعون لبوّابهك من هذا الذي يضرب بابي هذه الساعة؟ فأشرف عليهما البّواب فكلّمهما، فقال له موسى: إنّا رسولا ربّ العالمين، فأخبر فرعون، فأدخلا إليه.
وقيل: إن موسى وهارون مكثا سنتين يغدوان الى باب فرعون ويروحان يلتمسان الدخول إليه فلم يجسر أحد يخبره بأمرهما، حتى أخبره مسخرة كان يضحكه بقوله، فأمر حينئذٍ فرعون بإدخالهما، فلمّا دخلا قال له موسى: إنّي رسول من ربّ العالمين، فعرفه فرعون فقال له: (ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين؛ وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين؟ قال: فعلتها إذاً وأنا من الضالين، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكماً، يعني نبوّة، وجعلني من المرسلين) الشعراء: 18 - 21، فقال له فرعون: (إن كنت جئت بايةٍ فأت بها إن كنت من الصادقين، فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين) الاعراف: 106 - 107 قد فتح فاه فوضع اللحي الأسفل في الأرض والأعلى على القصر وتوجّه نحو فرعون ليأخذه، فخافه فرعون ووثب فزعاً فزحدث في ثيابه، ثمّ بقي بضعة وعشرين يوماً يجيء بطنه حتى كاد يهلك، وناشده فرعون بربّه تعالي أن يردّ الثعبان، فزخذه موسى فعاد عصاً، ثمّ أدخل يده في جيبه وأخرجها بيضاء كالثلج لها نور يتلألأ ثمّ رّها فعادت إلى ما كانت عليه من لونها ثمّ زخرجها الثانية لها نور ساطع في السماء تكل منه الأبصار قد أضاءت ما حولها يدخل نورها البيوت ويرى من الكوى ومن وراءالحجب، فلم يستطع فرعون النظر إليها، ثم ردّها موسى في جيبه وأخرجها فإذا هي على لونها.

وأوحى الله تعالى إلي موسى وهارون أن (قولا له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى) طه: 44، فقال له موسى: هل لك في أن أعطيك شبابك فلا تهرم، وملكك فلا ينزع، وأردّ إليك لذّة المناكح والمشارب والركوب، فإذا مُتَّ دخلت الجنّة وتؤمن بي؟ فقال: لا حتى يأتي هامان، فلمّا حضر هامان عرض عليه قول موسى، فعجهزه وقال له: تصير تعبد بعد أن كنت تعبد ثم قال له: أنا أردّ عليك شبابك، فعمل له الوسمة فخصبه بها، فهو أول من خصب بالسواد، فلمّا رآه موسى هاله ذلك، فأوحى الله إليه: لا يهولنّك ما ترى فلن يلبث إلاّ قليلاً، فلمّا سمع فرعون ذلك خرج إلى قومه فقال: إن هذا لساحر عليم، وأراد قتله، فقال مؤمن آل فرعون، واسمه خربيل: (أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات؟) غافر: 28 وقال الملأ من قوم فرعون: (أرجه وزخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم) الشعراء: 36 - 37، ففعل وجمع السحرة، فكانوا سبعين ساحراً، وقيل: اثنين وسبعين، وقيل: خمسة عشر ألفاً، وقيل ثلاثين ألفاً، فوعدهم فرعون واتعدوا يوم عيد كان لفرعون، فصفّهم فرعون وجمع النّاس، وجاء موسى ومعه أخوه هارون وبيده عصاه حتى زتى الجمع وفرعون في مجلسه مع أشراف قومه، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب) طه: 61، فقال السحرة بعضهم لبعض: ما هذا بقول ساحر ثم قالوا: لنأتينك بسحر لم تر مثله (وقالوا: بعزّة فرعون إنّا لنحن الغالبون) الشعراء: 44، فقال له السحرة: يا (موسى إما أن تلقي وإما زن نكون نحن الملقين) الاعراف: 115، قال: بل ألقوا، (فألقوا حبالهم وعصيهم) فإذا هي في رأي العين حيّات أمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً، فأوجس موسى خوفاً، فأوحي الله إليه: أن (ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا) طه: 69، فألقى عصاه من يده فصارت ثعباناً عظيماً فاستعرضت ما زلقوا من حبالهم وعصيّهم، وهي كالحيّات في أعين الناس، فجعلت تلقفها وتلقفها وتبتلعها حتى لم تبق منها شيئاً، ثم أخذ موسى عصاه فإذا هي في يده كما كانت.
وكان رئيس السحرة أعمى، فقال له أصحابه: إن عصا موسى صارت ثعباناً عظيماً وتلقف حبالنا وعصيّنا، فقال لهم: ولم يبقَ لها أثر ولا عادت إلى حالها الأول؟ فقالوا: لا، فقال: هذا ليس بسحر، فخرّ ساجداً وتبعه السحرة أجمعون و(قالوا: آمنا بربّ العالمين ربّ موسى وهارون) الشعراء: 47 - 48، قال فرعون: (آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنّكم في جذوع النخل) طه: 71، فقطعهم وقتلهم وهم يقولون: (ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفّنا مسلمين) الأعراف: 126، فكانوا أول النهار كفّاراً وآخر النهار شهداء.
وكان خربيل مؤمن آل فرعون يكتم إيمانه، قيل: كان من بني إسرائيل، وقيل: كان من القبط، وقيل: هو النّجّار الذي صنع التابوت الذي جُعل فيه موسى وألقي في النيل، فلما رأى غلبة موسى السحرة أظهر إيمانه، وقيل: أظهر إيمانه قبل فقتل وصلب مع السحرة، وكان له امرأة مؤمنة تكتم إيمانها أيضاً، وكانت ماشطة ابنة فرعون، فبينما هي تمشطها إذ وقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله، فقالت ابنة فرعون: أبي؟ قالت: لا بل ربيّ وربّك وربّ أبيك، فأخبرت أباها بذلك، فدعا بها وبولدها وقال لها: من ربّك؟ قالت: ربي وربّك الله، فزمر بتنّور نحاس فأحمي ليعذّبها وأولادها، فقالت: لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنها، قال: ذلك لكِ، فأمر بأولادها فألقوا في التنور واحداً واحداً، وكان آخر أولادها صبياً صغيراً، فقال: اصبري يا أمّاه فإنّك على حق، فألقيت في التنور مع ولدها.
وكانت آسية امرأة فرعون من بني اسرائيل، وقيل: كانت من غيرهم، وكانت مؤمنة تكتم إيمانها، فلمّا قتلت الماشطة رأت آسية الملائكة تعرج بروحها، كشف الله عن بصيرتها، وكانت تنظر إليها وهي تعذب، فلمّا رأت الملائكة قوي إيمانها وازدادت يقيناً وتصديقاً لموسى، فبينما هي كذلك إذ دخل عليها فرعون فأخبرها خبر الماشطة، قالت له آسية: الويل لك ما أجرأك على الله فقال لها: لعلّك اعتراك الجنون الذي اعترى الماشطة؟ فقالت: ما بي جنون ولكنّي آمنت بالله تعالى ربي وربّك وربّ العالمين.

فدعا فرعون أمّها وقال لها: إنّ ابنتك قد أصابها ما أصاب الماشطة فأقسم لتذوقنّ الموت أو لتكفرنّ بإله موسى، فخت بها أمّها وأرادتها على موافقة فرعون، فأبت وقالت: أمّا أنزكفر بالله فلا والله فأمر فرعون حتى مدّت بين يديه أربعة أوتاد وعذّبت حتى ماتت، فلما عاينت الموت قالت: (ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين) التحريم: 11، فكشف الله عن بصيرتها فرأت الملائكة وما أعدّ لها من الكرامة، فضحكت، فقال فرعون: انظروا الى الجنون الذي بها تضحك وهي في العذاب ثم ماتت.
ولما رأى فرعون قومه قد دخلهم الرعب من موسى خاف أن يؤمنوا به ويتركوا عبادته فاحتال لنفسه وقال لوزيره: يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي (أطلع إلى إله موسى وإني لأظنّه كاذباً) غافر: 37، فأمر هامان بعمل الآجرّ، وهو أوّل من عمله، وجمع الصّناع وعمله في سبع سنين، وارتفع البنيان ارتفاعاً لم يبلغه بنيان آخر، فشقّ ذلك على موسى واستعظمه، فأوحى الله إليه: أن دعه وما يريد فإنّي مستدرجه ومبطل ما عمله في ساعة واحدة، فلما تمّ بناؤه أمر الله جبرائيل فخرّبه وأهلك كلّ من عمل فيه من صانع ومستعمل، فلمّا رأى فرعون ذلك من صنع الله أمر أصحابه بالشدّة على بني اسرائيل وعلى موسى، ففعلوا ذلك، وصاروا يكلّفون بني إسرائيل من العمل ما لا يطيقونه، وكان الرجال ولانساء في شدّة، وكانوا قبل ذلك يطعمون بني اسرائيل إذا استعملوهم، فصاروا لا يسعمونهم شيئاً، فيعودون بأسوأ حال يريدون يكسبون ما يقوتهم، فشكوا ذلك إلى موسى، فقال لهم: استعينوا بالله واصبروا، إن العاقبة للمتقين، (عسى ربّكم أن يهلك عدوّكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون) الأعراف: 129.
فلمّا أبى فرعون وقومه إلا الثبات على الكفر، تابع الله عليه الآيات، فأرسل عليهم الطوفان، وهو المطر المتتابع، فغرق كلّ شيء لهم، فقالوا: يا موسى ادعُ ربّك يكشف عنّا هذا ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل، فكشفه الله عنهم ونبتت زروعهم، فقالوا: ما يسرّنا أنّا لم نمطر، فبعث الله عليهم الجراد فأكل زروعهم، فسألوا موسى أن يكشف ما بهم ويؤمنوا به، فدعا الله فكشفه، فلم يؤمنوا وقالوا: قد بقي من زروعنا بقيّة، فأرسل الله عليهم الدبّا، وهو القمل، فأهلك الزروع والنبات أجمع، وكان يهلك أطعمتهم، ولم يقدروا أن يحترزوا منه، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم؛ ففعل، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الضفادع، وكانت تسقط في قدورهم وأطعمتهم وملأت البيوت عليهم، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا به، ففعل، فلم يؤمنوا، فأرسل الله عليهم الدّم، فصارت مياه الفرعونيين دماً، وكان الفرعونيّ والاسرائيلي يستقيان من ماء واحد، فيأخذ الاسرائيلي ماء ويأخذ الفرعوني دماً، وكان الاسرائيلي يأخذ الماء في فمه فيمجّه في فم الفرعوني فيصير دماً، فبقي ذلك سبعة أيام، فسألوا موسى أن يكشفه عنهم ليؤمنوا، ففعل، فلم يؤمنوا.
فلمّا يئس من إيمانهم ومن إيمان فرعون دعا موسى وأمّن هارون فقال: (ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا، ربّنا ليضلّوا عن سبيلك، ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) يونس: 88، فاستجاب الله لهما، فمسخ الله أموالهم، ما عدا خيلهم وجواهرهم وزينتهم، حجارةً، والنخل والأطعمة والدقيق وغير ذلك، فكانت إحدى الآيات التي جاء بها موسى.

فلما طال الأمر على موسى أوحى الله إليه يأمره بالمسير ببني اسرائيل وأن يحمل معه تابوت يوسف بن يعقوب ويدفنه بالأرض المقدّسة، فسأل موسى عنه فلم يعرفه إلا امرزة عجوز فأرته مكانه في النيل، فاستخرجه موسى، وهو في صندوق مرمر، فزخذه معه فسار، وأمر بني اسرائيل أن يستعيروا من حلي القبط ما أمكنهم، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئاً كثيراً، وخرج موسى ببني اسرائيل ليلاً والقبط لا يعلمون، وكان موسى على ساقة بني اسرائيل، وهارون على مقدّمتهم، وكان بنو اسرائيل لما ساروا من مصر ستمائة ألف وعشرين ألفاً وعشرين ألفاً، وتبعهم فرعون وعلى مقدمتهم هامان، (فلمّا تراءى الجمعان قال أصحاب موسى: إنا لمدركون) الشعراء: 61 يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا، أمّا الأول فكانوا يذبحون أبناءنا ويستحيون نساءنا، وأمّا الآن فيدركنا فرعون فيقتلنا، قال موسى: (كلا إنّ معي ربي سيهدين).
وبلغ بنو اسرائيل إلى البحر وبقي بين أيديهم وفرعون من ورائهم، فأيقنوا بالهلاك، فتقدّم موسى فضرب البحر بعصاه فانفلق، فكان كلّ فرق كالطود العظيم، وصار فيه اثنا عشر طريقاً لكلّ سبط طريق، فقال كل سبط: قد هلك أصحابنا، فأمر الله الماء فصار كالشباك، فكان كل سبط يرى من عن يمينه وعن شماله حتى خرجوا، ودنا فرعون وأصابه من البحر فرأى الماء علي هيئته والطرق فيه، فقال لأصحابه: ألا ترون البحر قد فرق مني وانفتح لي حتى أدرك أعدائي؟ فلمّا وقف فرعون على أفواه الطرق لم تقتحمه خيله، فنزل جبرائيل على فرس أنثى وديق، فشمّت الحصن ريحها فاقتحمت في أثرها حتى إذا همّ أولهم أن يخرج ودخل آخرهم أمر البحر أن يأخذهم فالتطم عليهم فأغرقهم، وبنو اسرائيل ينظرون إليهم، وانفرد جبرائيل بفرعون يأخذ من حمأة البحر فيجعلها في فيه، وقال حين أدركه الغرق: آمنت أنّه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل، وغرق، فبعث الله إليه ميكائيل يعيره، فقال له: (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) يونس: 91، وقال جبرائيل للنبي، صلى الله عليه وسلم: لو رزيتني وأنا أدسّ من حمأة البحر في فم فرعون مخافة أن يقول كلمة يرحمه الله بها).
فلما نجا بنو اسرائيل قالوا: إنّ فرعون لم يغرق، فدعا موسى فأخرج الله فرعون غريقاً، فأخذه بنو اسرائيل يتمثلون به، ثمّ ساروا فزتوا علي قوم يعبدون الأصنام فقالوا: (يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال: إنكم قوم تجهلون) الأعراف: 138، فتركوا ذلك، ثم بعث موسى جندين عظيمين كلّ جند اثنا عشر ألفاً إلى مدائن فرعون، وهي يومئذٍ خالية من زهلها قد زهلك الله عظماءهم ورؤساءهم ولم يبق غير النساء والصبيان والزمنى والمرضى والمشايخ والعاجزين، فدخلوا البلاد وغنموا الأموال وحملوا ما أطاقوا وباعوا ما عجزوا عن حمله من غيرهم، وكان على الجندين يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا.
وكان موسى قد وعده الله وهو بمصر أنّه إذا خرج مع بني اسرائيل منها وأهلك الله عدوّهم أن يأتيهم بكتاب فيه ما يأتون وما يذرون، فلمّا أهلك الله فرعون وأنجى بني إسرائيل قالوا: يا موسى ائتنا بالكتاب الذي وعدتنا، فسأل موسى ربّه ذلك، فأمره أن يصوم ثلاثين يوماً ويتطهّر ويطهّر ثيابه ويأتي إلى الجبل جبل طور سينا ليكلّمه ويعطيه الكتاب، فصام ثلاثين يوماً أوّلها أوّل ذي القعدة، وسار الى الجبل واستخلف أخاه هارون على بني اسرائيل، فلمّا قصد الجبل أنكر ريح فمه فتسوّك بعود خرنوب، وقيل: تسوّك بلحاء شجرة، فأوحى الله رليه: أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ وأمره أن يصوم عشرة أيام أخرى، فصامها، وهي عشر ذي الحجة، (فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة) الاعراف: 142.

ففي تلك الليالي العشر افتتن بنو إسرائيل لأنّ الثلاثين انقضت ولم يرجع إليهم موسى، وكان السامريّ من زهل باجرمى، وقيل: من بني اسرائيل، فقال هارون: يا بني اسرائيل إن الغنائم لا تحل لكم والحلي الذي استعمرتموه من القبط غنيمة فاحفروا حفيرة وألقوه فيها حتى يرجع موسى فيرى فيه رأيه، ففعلوا ذلك، وجاء السامري بقبضة من التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبرائيل فألقاه فيه، فصار الحلي عجلاً جسداً له خوار، وقيل: إنّ الحلي أُلقي في النار فذاب فألقي السامري ذلك التراب فصار الحلي عجلاً جسداً له خوار، وقيل: كان يخور ويمشي، وقيل: ما خار رلاّ مرة واحدة ولم يعد، وقيل: إنّ الاسمريّ صاغ العجل من ذلك الحلي في ثلاثة أيام ثم قذف فيه التراب فقام له خوار.
فلما رأوه قال لهم السامري: (هذا إلهكم وإله موسى، فنسي) طه: 88 موسى وتركه ههنا وذهب يطلبه، فعكفوا عليه يعبدونه فقال لهم هارون: (يا قوم إنما فتنتم به وإن ربّكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري) طه: 90، فأطاعه بعضهم وعصاه بعضهم، فأقام بمن معه ولم يقاتلهم، ولما ناجى الله تعالى موسى قال له: (وما أعجلك عن قومك يا موسى؟ قال: هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى، قال: فإنا قد فتنّا قومك من بعدك - يا موسى - وأضلهم السامري) طه: 83 - 85، فقال موسى: يا ربّي هذا السامريّ قد أمرهم، أن يتخذوا العجل، من نفخ فيه الروح؟ قال: أنا، قال: فأنت إذاً أضللتهم.
ثم إنّ موسي لما كلمه الله تعالي زحبّ أن ينظر إليه قال: (ربّ أرني أنظر إليك، قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني، فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّاً، وخرّ موسى صعقاً، فلمّا أفاق قال: سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين) الأعراف: 143، وأعطاه الألواح فيها الحلال والحرام والمواعظ، وعاد موسى ولا يقدر أحد أن ينظر إليه، وكان يجعل عليه حريرة نحو أربعين يوماً، ثمّ يكشفها لما تغشّاه من النور، فلمّا وصل إلى قومه ورأى عبادتهم العجل ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه ولحيته يجرّه إليه، (قال: يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قولي) طه: 94 - 97، فترك هارون وأقبل علي السامريّ وقال: (ما خطبك يا سامري؟ قال: بصرت بما لم يبصروا به، فقبضت قبضةً من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سوّلت لي نفسي، قال: فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مِسَاسَ)، ثم أخذ العجل وبرده بالمبارد وأحرقه وأمر السامريّ فبال عليه وذراه في البحر.
فلمّا ألقى موسي الألواح ذهب ستّة أسباعها وبقي سبع، وطلب بنو اسرائيل التوبة فأبى الله أن يقبل توبتهم وقال لهم موسى: (يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلي بارئكم فاقتلوا أنفسكم) البقرة: 54، فاقتتل الذين عبدوه والذين لم يعبدوه، فكان من قتل من الفريقين شهيداً، فقتل منهم سبعون ألفاً، وقام موسى وهارون يدعوان الله، فعفا عنهم وأمرهم بالكفّ عن القتال وتاب عليهم، وأراد موسى قتل السامري فأمره الله بتركه وقال: إنه سخيٌّ، فلعنه موسى.
ثمّ إنّ موسى اختار من قومه سبعين رجلاً من زخيارهم وقال لهم: انطلقوا معي إلى الله فتوبوا مما صنعتم وصوموا وتطهروا، وخرج بم الى طور سينا للميقات الذي وقّته الله له، فقالوا: اطلب أن نسمع كلام ربّنا، فقال: أفعل، فلمّا دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتي تغشَّى الجبل كلّه ودخل فيه موسى وقال للقوم: ادنوا، فدنوا حتى دخلوا في الغمام، فوقعوا سجوداً، فسمعوه وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه، فلمّا فرغ انكشف من موسى الغمام فأقبل إليهم، فقالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً) البقرة: 55 فأخذتهم الصّاعقة فماتوا جميعاً، فقام موسى يناشد الله تعالى ويدعوه ويقول: يا ربّ اخترت أخيار بني اسرائيل وأعود إليهم وليسوا معي فلا يصدّقونني، ولم يزل يتضرّع حتى ردّ الله إليهم أرواحهم فعاشوا رجلاً رجلاً ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: ياموسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئاً إلا أعطاكه، فادعه يجعلنا أنبياء، فدعا الله فجعلهم أنبياء.
وقيل: أمرُ السبعين كان قبل أن يتوب الله على بني اسرائيل، فلمّا مضوا للميقات واعتذروا قَبِل توبتهم وأمرهم أن يقتل بعضهم بعضاً، والله أعلم.

ولما رجع موسى إلى بني اسرائيل ومعه التوراة أبوا أن يقبولها وبعملوا بما فيها للأثقال والشدّة التي جاء بها، وأمر الله جبرائيل فقلع جبلاً من فلسطين على قدر عسكرهم، وكان فرسخاً في فرسخ، ورفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة الرجل مثل الظّلّة وبعث ناراً من قبل وجوههم وأتاهم البحر من خلفهم، فقال لهم موسى: خذوا ما آتيناكم بقوّة واسمعوا فإن قبلتموه وفعلتم ما أمرتم به وإلا رضختم بهذا الجبل وغرقتم في هذا البحر وأحرقتكم بهذه النار، فلمّا رأوا أن لا مهرب لهم قبلوا ذلك وسجدوا على شقّ وجوههم وجعلوا يلاحظون الجبل وهم سجود، فصارت سنّة في اليهود يسجدون على جانب وجوههم وقالوا: سمعنا وأطعنا.
ولما رجع موسى من المناجاة بقي أربعين يوماً لا يراه أحد إلاّ مات، وقيل: ما رآه إلاّ عمي، فجعل على وجهه ورأسه برنساً لئلا يُرى وجهه.
ثم إنّ رجلاً من بني اسرائيل قتل ابن عمّ له ولم يكن له وارث غيره ليرث ماله وحمله وألقاه بموضع آخر، ثمّ أصبح يطلب دمه عند موسى من بعض بني اسرائيل، فجحدوا، فسأل موسى ربّه، فأمرهم أن يذبحوا بقرة، فقالوا: (أتتخذنا هزواً؟ قال: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) البقرة: 67 المستهزئين، فقالوا له: ما هي؟ ولو ذبحوا بقرة ما لأجزأت عنهم، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم، وإنما كان تشديدهم لأنّ رجلاً منهم كان براً بأمّه وكان له بقرة على النعت المذكور فنفعه برّه بأمّه، فلم يجدوا على الصفة المذكورة إلاّ بقرته، فباعها منهم بملء جلدها ذهباً، فلمّا سألوا موسى عنها قال: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) البقر: 68، يقول: لا كبيرة ولا صغيرة نصف بين السنين، (قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال: إنه يقول إنهابقرة صفراء فاقع لونها تسرّ الناظرين، قالوا: ادع لنا ربك يبين لناما هي، إن البقر تشابه علينا - قال: إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) يعني لا عيب فيها، وقيل لا بياض فيها - قالوا: الآن جئت بالحق) البقرة: 69 - 71، وطلبوها فلم يجدوا إلا بقرة ذلك الرجل البارّ بأمّه، فاشتروها، فغالى بها حتى أخذ ملء جلدها ذهباً، فذبحوها وضربوا القتيل بلسانها، وقيل: بغيره، فحيي وقام وقال: قتلني فلان، ثم مات.
ذكر أمر بني إسرائيل في التيه ووفاة هارون عليه السلامثم إنّ الله تعالى أمر موسى، عليه السلام، أن يسير ببني اسرائيل إلى أريحا بلد الجبّارين، وهي أرض بيت المقدس، فساروا حتى كانوا قريباً منهم، فبعث موسى اثني عشر نقيباً من سائر أسباط بني اسرائيل، فساروا ليأتوا بخبر الجبّارين، فلقيهم رجل من الجبّارين يقال له: (عوج بن عناق) فأخذ الاثني عشر فحملهم وانطلق بهم الى امرأته فقال: انظري الى هؤلاءالقوم الذين يزعمون أنّهم يريدون أن يقاتلونا، وأراد أن يطأهم برجله؛ فمنعته امرأته وقالت: أطلقهم ليرجعوا ويخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك، فلمّا خرجوا قال بعضهم لبعض: إنّكم إن أخبرتم بني اسرائيل بخبر هؤلاء لا يقدموا عليهم، فاكتموا الأمر عنهم؛ وتعاهدوا على ذلك ورجعوا، فنكث عشرة منهم العهد وأخبروا بما رأوا، وكتم رجلان منهم، وهما: يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا ختن موسى، ولم يخبروا إلاّ موسى وهارون، فلمّا سمع بنو اسرائيل الخبر عن الجبّارين امتنعوا عن المسير إليهم، فقال لهم موسى: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا: ياموسي إنّ فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون، قال رجلان) وهما يوشع وكالب (من الذين يخافون أنعم الله عليهما: ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون) المائدة: 21 - 23، (قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها، فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون) المائدة: 24.

فغضب موسي فدعا عليهم فقال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي، فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) المائدة: 25، وكانت علجة من موسى، فقال الله تعالى: (فإنها محرمة عليهم أربعين سنةً يتيهون في الأرض) المائدة: 26، فندم موسي حينئذ، فقالوا له: فكيف لنا بالطعام؟ فأنزل الله المنّ والسلوى، فزمّا المنّ فقيل هو كالصمغ وطعمه كلاشهد يقع على الأشجار، وقيل: هو الترنجبين، وقيل: هو الخبز الرقاق، وقيل: هو عسل كان ينزل لكل إنسان صاع، وأمّا السلوى فهو طاذر يشبه السّماني، فقالوا: أين الشراب؟ فزمر موسي فضرب بعصاه الحجر (فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً) البقرة: 60، لكلّ سبط عين، فقالوا: أين الظلّ؟ فظلّل عليهم الغمام، فقالوا: أين اللبّاس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم ولا يتمزّق لهم ثوب، ثمّ قالوا: (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربّك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وففومها وعدسها وبصلها، قال: أتستبدولن الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ اهبطوا مصراً فإن لكم ما سألتم) البقرة: 61، فلما خرجوا من التيه رفع عنهم المنّ والسلوى.
ثم إن موسي التقي هو وعوج بن عناق، فوثب موسي عشرة أذرع، وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع، فأصاب كعب عوج فقتله، وقيل: عاش عوج ثلاثة آلاف سنة.
ثمّ إنّ الله أوحى إلى موسى: إني متوفٍّ هارون فأت به جبل كذا وكذا، فانطلقا نحوه فإذا هم فيه بشجرة لم يروا مثلها وفيه بيت مبني وسرير عليه فرش وريح طيّبة، فلما رآه هارون أعجبه، قال: يا موسى إني أريد أن أنام على هذا السرير، فقال له موسى: نم، قال: إني أخاف ربّ هذا البيت أن يأتي فيغضب عليّ، قال موسى: لا تخف أنا أكفيك ، قال: فنم معي، فلمّا ناما أخذ هارون الموت، فلمّا وجد حسّه قال: يا موسى خدعتني فتوفّي ورفع على السرير إلى السماء، ورجع موسى إلى بني اسرائيل، فقال له بنو اسرائيل: إنك قتلت هارون لحبّنا إيّاه، فقال: ويحكم أفترون أني أقتل أخي فلمّا أكثروا عليه صلى ودعا الله، فنزل بالسرير حتى نظروا إليه ما بين السماء والأرض، فأخبرهم أنه مات وأن موسى لم يقتله، فصدّقوه، وكان موته في التيه.
ذكر وفاة موسى عليه السلامقيل: بينما موسى، عليه السلام، يمشي ومعه يوشع بن نون فتاه إذ أقبلت ريح سوداء، فلمّا نظر إليها يوشع ظنّ أنها الساعة، فالتزم موسى وقال: لاتقوم الساعة وأنا ملتزم نبيّ الله، فاستلّ موسي من تحت القميص وبقي القميص في يدي يوشع، فلمّا جاء يوشع بالقميص أخذه بنو اسرائيل وقالوا: قتلت نبيّ الله فقال: ما قتلته ولكنه استلّ مني، فلم يصدّقوه، قال: فإذا لم تصدّقوني فأخروني ثلاثة أيام، فوكّلوا به من يحفظه، فدعا الله، فأتي كلّ رجل كان يحرسه في المنام فأُخبر أنّ يوشع لم يقتل موسى، وأنّا قد رفعناه إلينا، فتركوه.
وقيل: إنّ موسى كره الموت فأراد الله أن يحبّب إليه الموت، فأوحى الله إلى يوشع بن نون، وكان يغدو عليه ويروح، ويقول له موسى: يا نبيّ الله ما أحدث الله إليك؟ فقال له يوشع بن نون: يا نبيّ الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة فهل كنت أسألك عن شيء مما أحدث الله لك؟ ولا يذكر له شيئاً، فلمّا رأى موسى ذلك كره الحياة وأحبّ الموت، وقيل: إنه مرّ منفرداً برهط من المالذكة يحفرون قبراً، فعرفهم فوقف عليهم، فلم يرَ أحسن منه ولم يَر مثل ما فيه من الخضرة والبهجة، فقال لهم: يا ملائكة الله لمن تحفرون هذا القبر؟ فقالوا: نحفره لعبد كريم على ربّه، فقال: إنّ هذا العبد له منزلٌ كريم ما رأيتُ مضجعاً ولا مدخلاً مثله، فقالوا: أتحبّ أن يكون لك؟ قال: وددت، قالوا: فانزل واضطجع فيه وتوجّه إلى ربك وتنفّس أسهل تنفس تتنفسّه، فنزل فيه وتوجّه إلى ربه ثم تنفس، فقبض الله روحه ثمّ سوت الملائكة عليه التراب.
وكان، صلى الله عليه وسلم، زاهداً في الدنيا راغباً فيما عند الله، إنما كان يستظل في عريش ويأكل ويشرب من نقير من حجر تواضعاً إلى الله تعالى.

وقال النبي، صلى الله عليه وسلم: إنّ الله أرسل ملك الموت ليقبض روحه فلطمه ففقأ عينه، فعاد وقال: يا ربّ أرسلتني إلى عبد لا يحبّ الموت، قال الله: رجع له وقل له يضع يده على ظهر ثور وله بكلّ شعرة تحت يده سنة، وخيّره بين ذلك وبين أن يموت الآن، فأتاه ملك الموت وخيّره، فقال له: فما بعد ذلك؟ قال: الموت، قال: فالآن إذن، فقبض روحه، وهذا القول صحيح قد صحّ النقل به عن النبيّ، صلى الله عليه وسلم، فكان موته في التيه أيضاً.
وقيل: بل هو الذي فتح مدينة الجبّارين على ما نذكره.
وكان جميع عمر موسى مائة وعشرين سنة، من ذلك في ملك أفريدون عشرون، وفي ملك منوجهر مائة سنة، وكان ابتداء أمره منذ بعثه الله إلي أن قبضه في ملك منوجهر.
ثمّ نبّئ بعده يوشع بن نون فكان في زمن منوجهر عشرين سنة، وفي زمن أفراسياب سبع سنين.
ذكر يوشع بن نون عليه السلام

وفتح مدينة الجبارين
لما توفي موسى بعث الله يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم الخليل، عليه السلام، نبيّاً الى بني اسرائيل وأمره بالمسير الى أريحا مدينة الجبّارين، واختلف العلماء في فتحها على يد من كان، فقال ابن عبّاس: إنّ موسي وهارون توفيّا في التيه وتوفّي فيه كل من دخله، وقد جاوز العشرين سنة، غير يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، فلما انقضى أربعون سنة أوحى الله الى يوشع بن نون فزمره بالمسير إليها وفتحها، ففتحها؛ ومثله قال قتادة والسّدّيّ وعكرمة.
وقال آخرون: إنّ موسى عاش حتى خرج من التيه وسار الى مدينة الجبّارين وعلى مقدمته يوشع بن نون ففتحها؛ وهو قول ابن اسحاق، قال ابن اسحاق: سار موسى بن عمران الى أرض كنعان لقتال الجبّارين، فقدّم يوشع بن نون وكالب بن يوفنّا، وهو صهره على أخته مريم بنت عمران، فلمّا بلغوها اجتمع الجبّارون الى بلعم بن باعور، وهو من ولد لوط، فقالوا له: رن موسي قد جاء ليقتلنا ويخرجنا من ديارنا فادع الله عليهم، وكان بعلم يعرف اسم الله الأعظم، فقال لهم: كيف أدعو على نبيّ الله والمؤمنين ومعهم الملائكة فراجعوه في ذلك وهو يمتنع عليهم، فأتوا امرأته وأهدوا لها هديّة، فقبلتها، وطلبوا إليها أن تحسّن لزوجها أن يدعو على بني اسرائيل، فقالت له في ذلك، فامتنع، فلم تزل به حتى قال: أستخير الله، فاستخار الله تعالى، فنهاه في المنام، فأخبرها بذلك، فقالت: راجع ربّك، فعاود الاستخارة فلم يرد إليه جواب، فقالت: لو أراد ربّك لنهاك، ولم تزل تخدعه حتى أجابهم، فركب حماراً له متوجّهاً إلى جبل مشرف على بني إسرائيل ليقف عليه ويدعو عليهم، فما سار عليه إلاّ قليلاً حتى ربض الحمار، فنزل عنه وضربه حتى قام فركبه فسار به قليلاً فبرك، فعل ذلك ثلاث مرّات، فلمّا اشتدّ ضربه في الثالثة أنطقه الله فقال له: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة ترى تردّني؟ فلم يرجع، فأطلق الله الحمار حينئذ، فسار عليه حتى أشرف على بني اسرائيل، فكان كلّما أراد أن يدعو عليهم ينصرف لسانه الى الدعاء لهم، وإذا أراد أن يدعو لقومه انقلب دعاؤه عليهم، فقالوا له في ذلك، فقال: هذا شيء غلبنا الله عليه، واندلع لسانه فوقع على صدره، فقال: الآن قد ذهبت مني الدنيا والآخرة ولم يبقَ غير المكر والحيلة، وأمرهم أن يزيّنوا نساءهم ويعطوهنّ السلع للبيع ويرسلوهنّ إلى العسكر ولا تمنع امرأة نفسها ممن يريدها، وقال: إن زنى منهم رجل واحد كفيتموهم، ففعلوا ذلك، ودخل النساء عسكر بني اسرائيل، فأخذ زمرى بن شلوم، وهو رأس سبط شمعون بن يعقوب، امرأة وأتى بها موسى فقال له: أظنك تقول هذا حرام فوالله لا نطيعك، ثمّ أدخلها خيمته فوقع عليها، فأنزل الله عليهم الطاعون، وكان فنحاص بن العزار بن هارون صاحب أمر عمّه موسى غائباً، فلما جاء رأى الطاعون قد استقر في بني اسرائيل، وأُخبر الخبر، وكان ذا قوّة وبطش، فقصد زمرى فرآه وهو مضاجع المرأة، فطعنهما بحربة في يده فانتظمهما، ورفع الطاعون، وقد هلك في تلك الساعة عشرون ألفاً، وقيل: سبعون ألفاً، فأنزل الله في بلعم: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين).

ثم إن موسى قدّم يوشع الي أريحا في بني اسرائيل فدخلها وقتل بها الجبارين، وبقيت منهم بقيّة، وقد قاربت الشمس الغروب، فخشي أن يدركهم الليل فيعجزوه، فدعا الله تعالى أن يحبس عليهم الشمس، ففعل وحبسها حتى استأصلهم، ودخلها موسى فأقام بها ما شاء الله أن يقيم، وقبضه الله إليه لا يعلم بقبره أحد من الخلق.
وأما من زعم أن موسى كان قد توفّي قبل ذلك فقال: إنّ الله أمر يوشع بالمسير الى مدينة الجبارين، فسار ببني اسرائيل، ففارقه رجل يقال له بلعم بن باعور، وكان يعرف الاسم الأعظم، وساق من حديثه نحو ما تقدّم، فلمّا ظفر يوشع بالجبارين أدركه المساء ليلة السبت فدعا الله فردّ الشمس عليه وزاد في النهار ساعة فهزم الجبارين ودخل مدينتهم وجمع غنائمهم ليأخذها القربان، فلم تأتِ النّار، فقال يوشع: فيكم غلول فبايعوني، فبايعوه، فلصقت يده في يد من غلّ، فزتاه برأس ثور من ذهب مكلّل بالياقوت فجعله في القربان وجعل الرجل معه، فجاءت النار فأكلتهما.
وقيل: بل حصرها ستّة أشهر، فلما كان السابع تقدّموا الى المدينة وصاحوا صيحة واحدة فسقط السور، فدخلوهاوهزموا الجبارين وقتلوا فيهم فأكثروا، ثمّ اجتمع جماعة من ملوك الشام وقصدوا يوشع فقاتلهم وهزمهم وهرب الملوك الى غار، فأمر بهم يوشع بن نون فقتلوا وصلبوا، ثمّ ملك الشام جميعه فصار لبني اسرائيل وفرّق عمّاله فيه، ثمّ توفّاه الله فاستخلف على بني اسرائيل كالب بن يوفنّا، وكان عمر يوشع مائة وستّاً وعشرين سنة، وكان قيامه بالأمر بعد موسى سبعاً وعشرين سنة.
وأما من بقي من الجبارين فإن إفريقش بن قيس بن صيفي بن سبأ بن كعب بن زيد بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان مإه بهم متوجهاً الى افريقية فاحتملهم من سواحل الشام فقدم بهم افريقية فافتتحها وقتل ملكها جرجير وأسكنهم إياها، فهم البرابرة، وأقام من حمير في البربر صنهاجة وكتامة، فهم فيهم إلى اليوم.
ذكر أمر قارونوكان قارون بن يصهر بن قاهث، وهو ابن عمّ موسى بن عمران بن قاهث، وقيل: كان عمّ موسى؛ والأوّل أصحّ، وكان عظيم المال كثير الكنوز، قيل: إن مفاتيح خزائنه كانت تحمل على أربعين بغلاً، فبغى على قومه بكثرة ماله، فوعظوه ونهوه وقالوا له ما قصّ الله تعالى في كتابه: (لا تفرح إن الله لايحبّ الفرحين، وابتغ فيما آتالك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين) القصص: 76 - 77؛ فأجابهم جواب مغترّ لحلم الله عنه فقال: إنما أوتيته، يعني المال والخزائن، على علم عندي، قيل على خبر ومعرفة مني، وقيل: لولا رضى الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا، فلم يرجع عن غيّه ولكنّه تمادى في طغيانه حتى (خرج على قومه في زينته) القصص: 79، وهي أنه ركب برذوناً أبيض بمراكب الأرجوان المذهبّة وعليه الثياب المعصفرة وقد حمل معه ثلاثمائة جارية على مثل برذونه وأربعة آلاف من أصحابه، وبنى داره وضرب عليها صفائح الذهب وعمل لهاباباً من ذهب، فتمنى أهل الغفلة والجهل مثل ماله، فنهاهم أهل العلم بالله.
وأمره الله تعالى بالزكاة، فجاء إي موسى من كلّ ألف دينار دينار، وعلى هذا من كلّ ألف شيء شيء، فلمّا عاد الى بيته وجده كثيراً، فجمع نفراً يثق بهم من بني اسرائيل فقال: إنّ موسى أمركم بكلّ شيء فأطعتموه، وهو الآن يريد أخذ أموالكم، فقالوا: أنت كبيرنا وسيّدنا فمرنا بما شئت، فقال: آمركم أن تحضروا فلانة البغيّ فتجعلوا لها جُعلاً فتقذفه بنفسها، ففعلوا ذلك، فأجابتهم إليه.
ثمّ أتى موسى فقال: إنّ قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم فقال: من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وليس له امرأة جلدناه مائة جلدة، وإن كان له امرأة رجمناه حتى يموت فقال له قارون: وإن كنت أنت؟ فقال: نعم، قال: فإنّ بني اسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال: ادعوها فإن قالت فهو كما قالت.
فلما جاءت قال لها موسى: أقسمت عليك بالذي أنزل التوراة إلا صدقت: أنا فعلتُ بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا، ولكن جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك، فسجد ودعا عليهم، فأوحى الله إليه: مُرِ الأرض بما شئت تطعك، فقال: يا أرض خديهم.

وقيل: إنّ هذا الأمر بلغ موسى، فدعا الله تعالى عليه، فأوحى الله إليه: مُر الأرض بما شئت تطعك، فجاء موسى الى قارون، فلما دخل عليه عرف الشر في وجهه فقال له: يا موسى ارحمني، فقال موسى: يا أرض خذيهم، فاضطربت داره وساخت بقارون وأصحابه إلى الكعبين، وجعل يقول: يا موسي ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم الى ركبهم، فلم يزل يستعطفه وهو يقول: يا أرض خذيهم، حتى خسف بهم، فأوحى الله إلى موسى: ما أفظّك أما وعزّتي لو إيّاي نادى لأجبته، ولا أعيد الأرض تُطيع أحداً أبداً بعدك، فهو يخسف به كلّ يوم، فلما أنزل الله نقمته حمد المؤمنون الله، وعرف الذين تمنّوا مكانه بالأمس خطأ أنفسهم واستغفروا وتابوا.
ذكر من ملك من الفرس بعد منوجهرلما هلك منوجهر ملك فارس سار أفراسياب بن فشنج بن رستم ملك الترك الى مملكة الفرس واستولى عليهم وسار الى أرض بابل وأكثر المقام بها وبمهرجا نقذق وأكثر الفساد في مملكة فارس، وعظم ظلمه، وأخرب ما كان عامراً، ودفن الأنهار والقنى، وقحط النّاس سنة خمس من ملكه، إلي زن خرج عن مملكة فارس، ولم يزل النّاس منه فيزعظم البليّة إلى أن ملك زوّ بن طهماسب، وكان منوجهر قد سخط على ولده طهماسب ونفاه عن بلاده، فأقام في بلاد الترك عن ملك لهم يقال له وامن وتزوّج ابنته، فولدت له زوّ بن طهماسب، وكان المنجّمون قد قالوا لأبيها: إن ابنته تلد ولداً يقتله، فسجنها، فلمّا تزوّجها طهماسب وولدت منه كتمت أمرها وولدها، ثمّ إنّ منوجهر رضي عن طهماسب وأحضره إليه، فاحتال في إخراج زوجته وابنه زوّ من محبسهما، فوصلت رليه، ثمّ إنّ زوّاً فيما ذكر قتل جدّه وأمّن في بعض الحروب الترك وطرد أفراسياب التركي عن مملكة فارس حتى ردّه الى الترك بعد حروب جرت بينهما، فكانت غلبة أفراسياب على أقاليم بابل ومملكة الفرس اثنتي عشرة سنة من لدن توفّي منوجهر الى أن أخرجه عنها زوّ، وكان إخراجه عنها في روزابن من شهر ابان ماه، فاتخذه لهم هذا اليوم عيداً وجعلوه الثالث لعيديهم النوروز والمهرجان.
وكان زوّ محموداً في ملكه محسناً الى رعيّته فأمر بإصلاح ما كان أفراسياب أفسده من مملكتهم، وبعمارة الحصون، وإخراج المياه اليت غوّر طرقها، حتى عادت البلادُ إلى أحسن ما كانت، ووضع عن الناس الخراج سبع سنين، فعمرت البلاد في ملكه وكثرت المعايش، واستخرج بالسواد نهراً وسمّاه الزاب، وبنى عليه مدينة، وهي التي تسمّى العتيقة، وجعل لها طسّوج الزاب الأعلي وسسّوج الزاب الأوسط وطسوج الزاب الأسفل، وكان أوهل من اتخذ ألوان الطبيخ أمر بها وبأصناف الزطعمة، وأعطى جنوده ما غنم من الترك وغيرهم.
وكان جميع ملكه إلى أن انقضت مدّته ثلاث سنين، وكان كرشاسب بن أنوط وزيره في ملكه ومعينه فيه، وقيل: كان شريكه في الملك؛ والزوّل أصحّ، وكان عظيم الشأن في فارس إلا أنّه لم يملك.
ذكر ملك كيقباذثمّ ملك بعد زوّ كيقباذ بن راع بن ميسرة بن نوذر بن منوجهر وقدّر مياه الأنهاروالعيون لشرب الأرض، وسمى البلاد بأسمائها وحدّها بحدودها، وكوّر الكور وبيّن حيّز كلّ كورة، وأخذ العشر من غلاّتها لأرزاق الجند، وكان - فيما ذكر كيقباذ حريصاً علي عمارة البلاد، ومنعها من العدوّ، كثير الكنوز؛ وقيل: إنّ الملوك الكيانيّة وأبناءهم من نسله، وجرت بينه وبين الترك حروب كثيرة، فكان مقيماً بالقرب من نهر بلخ، وهو جيحون، لمنع الترك من تطرّق شيء من بلاده، وكان ملكه مائة سنة.
ذكر الأحداث في بني إسرائيلفي عهد زوّ وكيقباذ ونبوة حزقيل
لما توفي يوشع بن نون قام بأمر بني اسرائيل بعده كالب بن يوفنّا، ثمّ حزقيل بن نورى، وهو الذي يقال له ابن العجوز، وإنما قيل له ذلك لأنّ أمّه سألت الله الولد وقد كبرت، فوهبه الله لها، وهو الذي دعا للقوم الموتى فأحياهم الله.

وكان سبب ذلك: أنّ قرية يقال لها راوردارة، وقع بها الطاعون، فهرب عامّة أهلها ونزلوا ناحية، فهلك أكثر من بقي بالقرية وسلم الآخرون، فلمّا ارتفع الطاعون رجعوا، فقال الذين بقوا: أصحابنا هولاء كانوا أحزم منّا ولو صنعنا كما صنعوا بقينا، فوقع الطاعون من قابل، فهرب عامّة أهلها، وهم بضعة وثلاثون ألفاً، وقيل: ثلاثة آلاف، وقيل: أربعة آلاف، وقيل غير ذلك، حتي نزلوا ذلك المكان، فصاح بهم ملك فماتوا ونخرت عظامهم، فمرّ بهم حزقيل فلمّا رآهم جعل يتفكر في بعثهم، فأوحى الله إليه: أتريد أن أريك كيف أحييهم؟ قال: نعم، فقيل: ناد، فنادى: يا أيتها العظام البالية إنّ الله يأمرك أن تجتمعي، فجعلت العظام تطير بعضها الى بعض حتى صارت أجساداً من عظام، ثم نادى: يا أيتها العظام إن الله أمرك أن تكتسي فألبست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها، ثم نادى: يا أيتها الأرواح! إن الله يأمرك أن تعودي إلى أجسادك فعادت،وقامت الأجساد أحياء؛ وقالوا: حين أحيوا سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت ، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون انهم كانوا موتى سحنة الموت على وجوههم لا يلبسون ثوبا الا عاد كفنا دسما ثم ماتوا ثم مات حزقيل ولم تذكر مدته في بني اسرائيل، وقيل: كانوا قوم حزقيل فلما أن ماتوا بكى حزقيل وقال يا رب كنت في قوم يعبدونك ويذكرونك فبقيت وحيدا فقال الله أتحب أن أحييهم؟ قال: نعم قال: فإني قد جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: أحيوا بإذن الله تعالى فعاشوا.
ذكر الياس عليه السلاملما توفي حزقيل كثرت الأحداث في بني إسرائيل، وتركوا عهد الله وعبدوا الأوثان فبعث اللهم اليهم الياس بن ياسين بن فنحاص بن العزار بن هرون بن عمران نبياً، وكان الأنبياء في بني إسرائيل بعر موسى بن عمران يبعثون بتجديد ما نسوا من التوراة، وكان الياس مع ملك من ملوكهم يقال له أخاب وكان يسمع منه ويصدقه وكان الياس يقيم له أمره، وكان بنو إسرائيل قد اتخذوا صنماً يعبدونه يقال له: بعل، فجعل الياس يدعوهم إلى الله وهم لا يسمعون إلا من ذلك الملك، وكان ملوك بني إسرائيل متفرقة كل ملك قد تغلب على ناحية يأكلها، فقال ذلك الملك الؤي كان الياس معه والله ما أرى الذي تدعو إليه إلا باطلاً لأني فلانا وفلانا يعد ملوك بني إسرائيل قد عبدوا الأوثان، فلم يضرهم ذلك شيئاً يأكلون ويشربون ويتمتعون ما ينقص ذلك من ديارهم وما نري لنا عليهم من فضل؟ ففارقه الياس وهو يسترجع، فعبد ذلك الملك الأوثان أيضاً.
وكان للملك جار صالح مؤمن يكتم إيمانه، وله بستان إلى جانب دار الملك، والملك يحسن جواره، وللمك زوجة عظيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها عئيمة الشر والكفر، فقالت له ليأخذ بستان الرجل فلم يفعل، فكانت تخلف زوجها إذا سار عن بلده وتظهر للناس، فغاب مرة فوضعت إمرأته على صاحب البستان من شهد عليه أنه سب الملك، فقتلته، وأخذت بستانه، فلما عاد الملك غضب من ذلك واستعظمه وأنكره، فقالت: فات أمره فأوحى الله إلى الياس يأمره أن يقول للملك وامرأته أن يرد البستان على ورثة صاحبه فإن لم يفعلا غضب عليهما وأهلكهما في البستان ولم يتمتعا به إلا قليلا، فأخبرهما الياس بذلك فلم يراجعا الحق.

فلما رأى الياس أن بني إسرائيل قد أبوا إلا الكفر والظلم دعا عليهم، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، فهلكت الماشية والطيور والهوامّ والشجر وجهد الناس جهداً شديداً واستخفى الياس خوفاً من بني إسرائيل، فكان يأتيه رزقه، ثم أنه أوى ليلة إلى أمرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له اليسع بن أخطوب - به ضر شديد فدعا له فعوفى من الضر الذي كان به واتبع الياس، وكان معه وصحبه وصدقه، وكان الياس قد كبر، فأوحى الله إليه إنك قد أهلكت كثيراً من الخلق من البهائم والدواب والطير وغيرها، ولم يعص سوى بني إسرائيل، فقال الياس: أي رب: دعني أكن أنا الذي أدعو لهم وأبتهج بالفرج لعلهم يرجعون، فجاء الياس إليهم، وقال لهم: انكم قد هلكتم وهلكت الدواب بخطاياكم، فإن أحببتم أن تعلموا أن الله ساخط عليكم بفعلكم، وأن الذي أدعوكم إليه هو الحق، فاخرجوا باصنامكم وادعوها، فان استجابت لكم فذلك الحق كما تقولون، وان هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوت الله ففرّج عنكم، قالوا أنصفت فخرجوا بأصنامهم فدعوها فلم يستجب لهم ولم يفرح عنهم، فقالوا: لالياس انا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم بالفرج وان يسقوا، فخرجت سحابة مثل الترس وعظمت وهم ينظرون، ثم أرسل الله منها المطر فحييت بلادهم، وفرج الله عنهم ما كانوا فيه من البلاء فلم ينزعوا ولم يراجعوا الحق، فلما رأى ذلك الياس سأل الله أن يقبضه فيريحه منهم، فكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المعطعم والمشرب، فصار ملكياً إنسياً سماوياً أرضياً، وسلط الله على الملك وقومه عدواً فظفر بهم وقتل الملك وزوجته بذلك البستان وألقاهما فيه حتى بليت لحومهما.
ذكر نبوّة اليسوع عليه السلام
وأخذ التابوت من بني إسرائيلفلمّا انقطع إلياس عن بني اسرائيل بعث الله أليسع، فكان فيهم ما شاء اللّه، ثمّ قبضه الله وعظمت فيهم الزحداث وعندهم التابوت يتوارثونه فيه السكينة وبقيّة ممّا ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فكانوا لا يلقاهم عدوّ فيقدّمون التابوت إلاّ هزم الله العدوّ، وكانت السكينة شبه رأس هر، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرّ أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح، ثمّ خلف فيها ملك يقال له إيلاف، وكان الله يمنعهم ويحميهم، فلمّا عظمت أحداثهم نزل بهم عدوّ فخرجوا إليه وأحرجوا التابوت، فاقتتلوا فغلبهم عدوّهم على التابوت وزخذه منهم وانهزموا، فلمّا علم ملكهم أن التابوت أخذ مات كَمَداً، ودخل العدوّ أرضهم ونهب وسبى وعاد، فمكثوا على اضطراب من أمرهم واختلاف، وكانوا يتمادون أحياناً في غيّهم فيسلّط الله عليهم من ينتقم منهم، فإذا راجعوا التوبة كفّ الله عنهم شرّ عدوهم، فكان هذا حالهم من لَدُن توفي يوشع بن نون إلى أن بعث الله اشمويل وملكهم طالوت وردّ عليهم التابوت.
وكانت مدّة ما بين وفاة يوشع، الذي كان يلي أمر بني إسرائيل بعضها القضاة وبعضها الملوك وبعضها المتغلّبون الى أن ثبت الملك فيهم ورجعت النبوّة إلى اشمويل، أربعمائة سنة وستّين سنة. فكان أوّل من سُلّط عليهم رجل من نسل لوط يقال له كوشان فقهرهم وأذلّهم ثماني سنين، ثمّ أنقذهم من يده أخ لكالب الأصغر يقال له عتنيل، فقال بأمرهم أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم ملك يقال له عجلون فملكهم ثماني عشرة سنة، ثم استنقذهم منه رجل من سبط بنيامين يقال له أهوذ، وقام بزمرهم ثمانين سنة. ثم سلط عليهم ملك من الكنعانيّين يقال له يابين، فملكهم عشرين سنة، واستنقذهم منه امرأة من بين أنبيائهم يقال لها دبورا، ودبّر الأمر رجل من قبلها يقال له باراق أربعين سنة. ثمّ سُلّط عليهم قوم من نسل لوط فملكوهم سبع سنين، واستنقذهم رجل يقال له جدعون إبن يواش من ولد نفتالي بن يعقوب، فدبّر أمرهم أربعين سنة وتوفيّ، ودبّر أمرهم بعده ابنه ابيمالخ ثلاث سنين، ثمّ دبّرهم بعده فولع بن فوّا ابن خال ابيمالخ، ويقال إنّه ابن عمّه، ثلاثاً وعشرين سنة، ثمّ دبّر أمرهم بعده رجل يقال له يائير اثنتين وعشرين سنة.

ثمّ ملكهم قوم من أهل فلسطين بني عمون ثماني عشرة سنة، ثمّ قام بأمرهم رجل منهم يقال له يفتح ست سنين، ثم دبّرهم بعده يبحسون سبع سنين، ثمّ بعده آلون عشر سنين، ثم بعده لترون، ويسميه بعضهم عكرون، ثماني سنين، ثم قهرهم أهل فلسطين وملكوهم أربعين سنة، ثمّ وليهم شمسون عشرين سنة، ثمّ بقوا بعده عشر سنين بغير مدبّر ولا رئيس، ثمّ قام بأمرهم بعد ذلك عالي الكاهن، وفي أيامه غلب أهل فلسطين على التابوت في قول، فلمّا مضى من وقت قيامه أربعون سنة بعث اشمويل نبياً فدبرهم عشر سنين، ثمّ سألوا اشمويل أن يبعث لهم ملكاً يقاتل بهم أعداءهم.
ذكر حال اشمويل وطالوتكان من خبر اشمويل بن بالي أن بني إسرائيل لما طال عليهم البلاء، وطمع فيهم الأعداء، وأخذ التابوت منهم، فصاروا بعده لا يلقون ملكاً إلا خائفين، فقصدهم جالوت ملك الكنعانيين، وكان ملكه ما بين مصر وفلسطين، فظفر بهم، فضرب عليهم الجزية، وأخذ منهم التوراة، فدعوا الله أن يبعث لهم نبياً يقاتلون معه، وكان سبط النبوّة هلكوا، فلم يبق منهم غير امرأة حبلى، فحبسوها في بيت خيفة أن تلد جارية فتبدّلها بغلام لما ترى من رغبة بني اسرائيل في ولدها، فولدت غلاماً سمّته اشمويل، ومعناه: سمع الله دعائي.
وسبب هذه التسمية أنها كانت عاقراً، وكان لزوجها امرأة أخرى قد ولدت له عشرة أولاد فبغت عليها بكثرة الزولاد، فانكسرت العجوز ودعت الله أن يرزقها ولداً، فرحم الله انكسارها وحاضت لوقتها وقرب منها زوجها، فحملت، فلما انقضت مدة الحمل ولدت غلاماً فسمّته اشمويل، فلما كبر أسلمته في بيت المقدس يتعلم التوراة، وكفله شيخ ن علمائهم وتبناه.
فلمّا بلغ أن يبعثه الله نبياً أتاه جبرائيل وهو يصلي فناداه بصوت يشبه صوت الشيخ، فجاء إليه، فقال: ما تريد؟ فكره أن يقول لم أدعك فيفزع، فقال: ارجع فنم، فرجع، فعاد جبرائيل لمثلها، فجاء إلى الشيخ، فقال له: يا بنيّ عُدْ فإذا دعوتك فلا تجبني، فلمّا كانت الثالثة ظهر له جبرائيل وأمره بإنذار قومه وأعلمه أن الله بعثه رسولاً، فدعاهم، فكذبوه، ثم أطاعوه، وأقام يدبّر زمرهم عشر سنين، وقيل: أربعين سنة.
وكان العمالقة مع ملكهم جالوت قد عظمت نكايتهم في بني اسرائيل حتى كادوا يُهلكونهم، فلما رأى بنو إسرائيل ذلك قالوا: (ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، قال: هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا) البقرة:246.
فدعا الله فأرسل إليه عصاً وقرناً فيه دهن، وقيل له: إنّ صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، وإذا دخل عليك رجل فنشّ الدّهن الذي في القرن فهو ملك بني إسرائيل فادهن رأسه به وملّكه عليهم، فقاسوا أنفسهم بالعصا فلم يكونوا مثلها، وكان طالوت دبّاغاً، وقيل: كان سقّاء يسقي الماء ويبيعه، فضلّ حماره فانطلق يطلبه، فلمّا اجتاز بالمكان الذي فيه اشمويل دخل يسأله أن يدعو له ليردّ الله حماره، فلما دخل نشّ الدهن، فقاسوه بالعصا فكان مثلها، ف (قال لهم نبيهم إن الله قد بعثه لكم طالوت ملكاً) البقرة:247، وهو بالسريانية شاول بن قيس بن أنمار بن ضرار بن يحرف ابن يفتح بن ايش بن بنيامين بن يعقوب بن اسحاق، فقالوا له: ما كنت قط أكذب منك الساعة ونحن من سبط المملكة ولم يؤت طالوت سعة من المال فنتبعه.

فقال اشمويل: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم) البقرة:247، فقالوا: إن كنت صادقاً فأتِ بآية، فقال: (إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة) البقرة:248، والسكينة رأس هرّ، وقيل طشت من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء، وقيل غير ذلك، وفيه الألواح وهي من درّ وياقوت وزبرجد، وأما البقية فهي عصا موسى ورضاضة الألواح، فحملته الملائكة وأتت به إلى طالوت نهاراً بين السماء والأرض والناس ينظرون، فزخرجه طالوت إليهم، فأقروا بملكه ساخطين وخرجوا معه كارهين، وهم ثمانون ألفاً، فلمّا خرجوا قال لهم طالوت: (إن الله مبتليكم بنهر، فمن شرب منه فليس مني، ومن لم يطعمه فإنه مني) البقرة:249، وهو نهر فلسطين، وقيل: الأردن، فشربوا منه إلا قليلاً، وهم أربعة آلاف، فمن شرب منه عطش ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي، (فلمّا جاوزه هو والذين آمنوا معه) لقيهم جالوت، وكان ذا بأس شديد، فلما رأوه رجع أكثرهم و(قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده)، ولم يبق معه غير ثلاثمائة وبضعة عشر عدد أهل بدر، فلمّا رجع من رجع قالوا: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين) البقرة:249.
وكان فيهم إيشى أبو داود ومعه من أولاده ثلاثة عشر ابناً، وكان داود أصغر بنيه، وقد خلفه يرعى لهم ويحمل لهم الطعام، وكان قد قال لأبيه ذات يوم: يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئاً إلاّ صرعته، ثم قال له: لقد دخلتُ بين الجبال فوجدت أسداً رابضاً فركبتُ عليه وأخذت بأذنيه فلم أخفه، ثمّ أتاه يوماً آخر فقال: إني لأمشي بين الجبال فأسبح فلا يبقى جبل إلا سبّح معي، قال له: أبشر فإنّ هذا خير أعطاكه الله.
فأرسل الله إلى النبيّ الذي مع طالوت قرناً فيه دهن وتنّور من حديد، فبعث به إلى طالوت وقال له: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا الذهن على رأسه فيغلي حتى يسيل من القرن، ولا يجاوز رأسه إلى وجهه ويبقي على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا التنّور فيملأه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم، فلم يوافقه منهم أحد، فأحضر داود من رعيه، فمرّ في طريقه بثلاثة أحجار، فكلّمته وقلن: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت، فأخذهن فجعلهنّ في مخلاته، وكان طالوت قد قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في مملكتي.
فلمّا جاء داود وضعوا القرن على رأسه، فغلى حتى ادّهن منه ولبس التنّور فملأه، وكان داود مسقاماً أزرق مصفاراً، فلمّا دخل في التنور تضايق عليه حتى ملأه، وفرح اشمويل وطالوت وبنو إسرائيل بذلك وتقدّموا إلى جالوت وتصافّوا للقتال، وخرج داود نحو جالوت وأخذ الأحجار ووضعها في قذافته ورمى بها جالوت، فوقع الحجر بين عينيه فنقب رأسه فقتله، ولم يزل الحجر يقتل كلّ من أصابه ينفذ منه إلى غيره، فانهزم عسكر جالوت بإذن الله ورجع طالوت فأنكح ابنته داود وأجرى خاتمه في ملكه، فمال النّاس إلى داود وأحبّوه.
فحسده طالوت وأراد قتله غِيلةً، فعلم ذلك داود ففارقه وجعل في مضجعه زقّ خمر وسجّاه، ودخل طالوت إلى منام داود، وقد هرب داود، فضرب الزقّ ضربة خرقه، فوقعت قطرة من الخمر في فيه، فقال: يرحم الله داود ما كان أكثر شربه الخمر فلما أصبح طالوت علم أنه لم يصنع شيئاً، فخاف داود أن يغتاله فشدّد حجابه وحرّاسه.
ثمّ إنّ داود أتاه من المقابلة في بيته وهو نائم فوضع سهمين عند رأسه وعند رجليه، فما استيقظ طالوت بصر بالسهام فقال: يرحم الله داود هو خير مني، ظفرتُ به وأردتُ قتله وظفر بي فكف عني، وأذكى عليه العيون فلم يظفروا به.
وركب طالوت يوماً فرأى داود فركض في أثره، فهرب داود منه واختفى في غار في الجبل، فعمّى الله أثره على طالوت، ثمّ إن طالوت قتل العلماء حتى لم يبق أحد إلا امرأة كانت تعرف اسم الله الأعظم فسلمها إلى رجل يقتلها، فرحمها وتركها وأخفى أمرها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34