كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ذكر فتح تكريت والموصل
وفي هذه السنة فتحت تكريت في جمادى. وسبب ذلك أن الأنطاق سار من الموصل إلى تكريت وخندق عليه ليحمي أرضه ومعه الروم وإياد وتغلب والنمر والشهارجة، فبلغ ذلك سعداً فكتب إلى عمر، فكتب إليه عمر: أن سرح إليه عبد الله بن المعتم واستعمل على مقدمته ربغي بن الأفكل، وعلى ميمنته الحارث بن حسان الذهلي وعلى ميسرته فرات بن حيان العجلي وعلى ساقته هانىء بن قيس وعلى الخيل عرفجة بن هرثمة. فسار عبد الله إلى تكريت ونزل على الأنطاق فحصره ومن معه أربعين يوماً، فتزاحفوا أربعة وعشرين زحفاً، وكانوا أهون شوكة من أهل جلولاء، وأرسل عبد الله بن المعتم إلى العرب الذين مع الأنطاق يدعوهم إلى نصرته، وكانوا لا يخفون عليه شيئاً. ولما رأت الروم المسلمين ظاهرين عليهم تركوا أمراءهم ونقلوا متاعهم إلى السفن، فأرسلت تغلب وإياد والنمر إلى عبد الله بن المعتم بالخبر وسألوه الأمان وأعلموه أنهم معه، فأرسل إليهم: إن كنتم صادقين فأسلموا. فأجابوه وأسلموا. فأرسل إليهم عبد الله: إذا سمعتم تكبيرنا فاعلموا أنا أخذنا أبواب الخندق فخذوا الأبواب التي تلي دجلة وكبروا واقتلوا من قدرتم عليه.
ونهد عبد الله والمسلمون وكبروا وكبرت تغلب وإياد والنمر وأخذوا الأبواب، فظن الروم أن المسلمين قد أتوهم من خلفهم مما يلي دجلة، فقصدوا الأبواب التي عليها المسلمون، فأخذتهم سيوف المسلمين وسيوف الربعيين الذين أسلموا تلك الليلة، فلم يفلت من أهل الخندق إلا من أسلم من تغلب وإياد والنمر. وأرسل عبد الله بن المعتم ربعي بن الأفكل إلى الحصنين، وهما نينوى والموصل، تسمى نينوى الحصن الشرقي وتسمى الموصل الحصن الغربي، وقال: اسبق الخبر وسر ما دون القيل واحيي الليل، وسرح معه تغلب وإياد والنمر. فقدمهم ابن الأفكل إلى الحصنين، فسبقوا الخبر وأظهروا الظفر والغنيمة وبشروهم ووقفوا بالأبواب، وأقبل ابن الأفكل فاقتحم عليهم الحصنين وكلبوا أبوابهما، فنادوا بالإجابة إلى الصلح وصاروا ذمة. وقسموا الغنيمة فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف درهم، وسهم الراجل ألف درهم، وبعثوا بالأخماس مع فرات بن حيان وبالفتح مع الحارث بن حسان إلى عمر؛ وولى حرب الموصل ربعي ابن الأفكل، والخراج عرفجة بن هرثمة.
وقيل: إن عمر بن الخطاب استعمل عتبة بن فرقد على قصد الموصل، وفتحها سنة عشرين، فأتاها فقاتله أهل نينوى، فأخذ حصنها، وهو الشرقي، عنوةً، وعبر دجلة، فصالحه أهل الحصن الغربي، وهو الموصل، على الجزية، ثم فتح المرج وبانهذار وباعذرا وحبتون وداسن وجميع معاقل الأكراد وقردى وبازبدى وجميع أعمال الموصل فصارت للمسلمين.
وقيل: إن عياض بن غنم لما فتح بلداً، على ما نذكره، أتى الموصل ففتح أحد الحصنين وبعث عتبة بن فرقد إلى الحصن الآخر ففتحه على الجزية والخراج، والله أعلم.
المعتم بضم الميم، وسكون العين المهملة، وآخره ميم مشددة.
ذكر فتح ماسبذانولما رجع هاشم من جلولاء إلى المدائن بلغ سعداً أن آذين بن الهرمذان قد جمع جمعاً وخرج بهم إلى السهل، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب إليه عمر ابعث إليهم ضرار بن الخطاب في جند واجعل على مقدمته ابن الهذيل الأسدي وعلى مجنبتيه عبد الله بن وهب الراسي والمضارب بن فلان العجلي فأرسل إليهم ضرار بن الخطاب في جيش، فالتقوا بسهل ماسبذان فاقتتلوا، فأسرع المسلمون في المشركين، وأخذ ضرار آذين أسيراً فضرب رقبته. ثم خرج في الطلب حتى انتهى إلى السيروان، فأخذ ماسبذان عنوةً، فهرب أهلها في الجبال، فدعاهم فاستجابوا له، وأقام بها حتى تحول سعد إلى الكوفة، فأرسل إليه فنزل الكوفة واستخلف على ما سبذان ابن الهذيل الأسدي، فكانت أحد فروج الكوفة.
وقيل: إن فتحها كان بعد وقعة نهاوند.
ذكر فتح قرقيسيا

ولما رجع هاشم بن عتبة من جلولاء إلى المدائن وقد اجتمعت جموع أهل الجزيرة فأمدوا هرقل على أهل حمص وبعثوا جنداً إلى أهل هيت كتب بذلك سعد إلى عمر، فكتب إليه عمر أن ابعث إليهم عمر بن مالك في جند... وعلى جنبتيه ربعي بن عامر ومالك بن حبيب، أرسل سعد عمر ابن مالك بن عتبة بن نوفل بن عبد مناف في جند وجعل على مقدمته الحارث ابن يزيد العامري، فخرج عمر بن مالك في جنده نحو هيت فنازل من بها وقد خندقوا عليهم، فلما رأى عمر بن مالك اعتصامهم بخندقهم ترك الأخبية على حالها وخلف عليهم الحارث بن يزيد يحاصرهم وخرج في نصف الناس فجاء قرقيسيا على غرة فأخذها عنوةً، فأجابوا إلى الجزية، وكتب إلى الحارث ابن يزيد: إن هم استجابوا فخل عنهم فليخرجوا وإلا فخندق على خندقهم خندقاً بأبوابه مما يليك حتى أرى رأيي. فراسلهم الحارث، فأجابوا إلى العود إلى بلادهم، فتركهم وسار الحارث إلى عمر بن مالك.
وفيها غرب عمر بن الخطاب أبا محجن الثقفي إلى ناصع. وفيها تزوج ابن عمر صفية بنت أبي عبيد أخت المختار. وفيها حمى عمر الربذة لخيل المسلمين. وفيها ماتت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وصلى عليها عمر ودفنها بالبقيع في المحرم. وفيها كتب عمر التاريخ بمشورة علي بن أبي طالب.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب، واستخلف على المدينة زيد ابن ثابت. وكان عماله على البلاد الذين كانوا في السنة قبلها، وكان على حرب الموصل ربعي بن الأفكل، وعلى خراجها عرفجة بن هرثمة، وقيل: كان على الحرب والخراج بها عتبة بن فرقد، وقيل: كان ذلك كله إلى عبد الله بن المعتم. وعلى الجزيرة عياض بن غنم.
ثم دخلت سنة سبع عشرة

ذكر بناء الكوفة والبصرة
في هذه السنة اختطت الكوفة وتحول سعد إليها من المدائن.
وكان سبب ذلك أن سعداً ارسل وفداً إلى عمر بهذه الفتوح المذكورة، فلما رآهم عمر سألهم عن تغير ألوانهم وحالهم، فقالوا: وخومة البلاد غيرتنا. فأمرهم عمر أن يرتادوا منزلاً ينزله الناس، وكان قد حضر مع الوفد نفر من بني تغلب ليعاقدوا عمر على قومهم، فقال لهم عمر: أعاقدهم على أن من أسلم منكم كان له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن أبى فعليه الجزية. فقالوا: إذن يهربون ويصيرون عجماً، وبذلوا له الصدقة، فأبى، فجعلوا جزيتهم مثل صدقة المسلم، فأجابهم على أن لا ينصروا وليداً، فهاجر هؤلاء التغلبيون ومن أطاعهم من النمر وإياد إلى سعد بالمدائن ونزلوا بالمدائن ونزلوا معه بعد بالكوفة.
وقيل: بل كتب حذيفة إلى عمر: إن العرب قد رقت بطونها وجفت أعضادها وتغيرت ألوانها. وكان مع سعد فكتب عمر إلى سعد: أخبرني ما الذي غير ألوان العرب ولحومهم؟ فكتب إليه سعد: إن الذي غيرهم وخومة البلاد، وإن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان. فكتب إليه عمر: أن ابعث سلمان وحذيفة رائدين فليرتادا منزلاً برياً بحرياً ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر. فأرسلهما سعد، فخرج سلمان حتى يأتي الأنبار فسار في غربي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، وسار حذيفة في شرقي الفرات لا يرضى شيئاً حتى أتى الكوفة، وكل رمل وحصباء وخصاص خلال ذلك، فأعجبتهما البقعة فنزلا فصليا ودعوا الله تعالى أن يجعلها منزل الثبات. فلما رجعا إلى سعد بالخبر وقدم كتاب عمر إليه أيضاً كتب سعد إلى القعقاع بن عمرو وعبد الله بن المعتم أن يستخلفا على جندهما ويحضرا عنده، ففعلا. فارتحل سعد من المدائن حتى نزل الكوفة في المحرم سنة سبع عشرة؛ وكان بين نزول الكوفة ووقعة القادسية سنة وشهران، وكان فيما بين قيام عمر واختطاط الكوفة ثلاث سنين وثمانية أشهر؛ ولما نزلها سعد كتب إلى عمر: (إني نزلت بالكوفة منزلاً فيما بين الحيرة والفرات برياً وبحرياً ينبت الحلفاء والنصي، وخيرت المسلمين بينها وبين المدائن فمن أعجبه المقام بالمدائن تركته فيها كالمسلحة. ولما استقروا بها عرفوا أنفسهم ورجع إليهم ما كانوا فقدوا من قوتهم، واستأذن أهل الكوفة في بنيان القصب، واستأذن فيه أهل البصرة أيضاً، واستقر منزلهم فيها في الشهر الذي نزل أهل الكوفة بعد ثلاث نزلات قبلها.
فكتب إليهم: إن العسكر أشد لحربكم وأذكر لكم، وما أحب أن أخالفكم.

فابتنى أهل المصرين بالقصب، ثم إن الحريق وقع في الكوفة والبصرة، وكانت الكوفة أشد حريقاً في شوال، فبعث سعد نفراً منهم إلى عمر يستأذنونه في البنيان باللبن، فقدموا عليه بخبر الحريق واستئذانه أيضاً، فقال: افعلوا ولا يزيدن أحدكم على ثلاثة أبيات، ولا تطاولوا في البنيان، والزموا السنة تلزمكم الدولة. فرجع القوم إلى الكوفة بذلك، وكتب عمر إلى عتبة وأهل البصرة بمثل ذلك.
وكان على تنزيل أهل الكوفة أبو هياج بن مالك، وعلى تنزيل أهل البصرة عاصم ابن دلف أبو الجرباء، وقدر المناهج أربعين ذراعاً، وما بين ذلك عشرين ذراعاً، والأزقة سبع أذرع، والقطائع ستين ذراعاً إلى الذي لبني ضبة، وأول شيء خط فيهما وبني مسجداهما، وقام في وسطهما رجل شديد النزع، فرمى في كل جهة بسهم وأمر أن يبنى ما وراء ذلك، وبنى ظلة في مقدمة مسجد الكوفة على أساطين رخام من بناء الأكاسرة في الحيرة، وجعلوا على الصحن خندقاً لئلا يقتحمه أحد ببنيان، وبنوا لسعد داراً بحياله، وهي قصر الكوفة اليوم، بناه روزبه من آجر بنيان الأكاسرة بالحيرة، وجعل الأسواق على شبه المساجد من سبق إلى مقعدٍ فهو له حتى يقوم منه إلى بيته أو يفرغ من بيعه.
وبلغ عمر أن سعداً قال وقد سمع أصوات الناس من الأسواق: سكنوا عني الصويت؛ وأن الناس يسمونه قصر سعدٍ، فبعث محمد بن مسلمة إلى الكوفة وأمره أن يحرق باب القصر ثم يرجع، ففعل، فبلغ سعداً ذلك فقال: هذا رسول أرسل لهذا، فاستدعاه سعد، فأبى أن يدخل إليه، فخرج إليه سعد وعرض عليه نفقة، فلم يأخذ وأبلغه كتاب عمر إليه: (وبلغني أنك اتخذت قصراً جعلته حصناً، ويسمى قصر سعد، بينك وبين الناس باب، فليس بقصرك ولكنه قصر الخبال، انزل منه منزلاً مما يلي بيوت الأموال وأغلقه ولا نجعل على القصر باباً يمنع الناس من دخوله وتنفيهم به عن حقوقهم ليوافقوا مجلسك ومخرجك من دارك إذا خرجت. فحلف له سعد ما قال الذي قالوا، فرجع محمد فأبلغ عمر قول سعدٍ، فصدقه.
وكانت ثغور الكوفة أربعة: حلوان وعليها القعقاع، وماسبذان وعليها ضرار ابن الخطاب، وفرقيسيا وعليها عمر بن مالك، أو عمرو بن عتبة بن نوفل، والموصل وعليها عبد الله بن المعتم، وكان بخا خلفاؤهم إذا غابوا عنها؛ وولي سعد الكوفة بعد ما اختطت ثلاث سنين ونصفاً سوى ما كان بالمدائن قبلها.
ذكر خبر حمص حين قصد هرقل من بها من المسلمينوفي هذه السنة قصد الروم أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين بحمص، وكان المهيج للروم أهل الجزيرة، فإنهم أرسلوا إلى ملكهم وبعثوه على إرسال الجنود إلى الشام ووعدوا من أنفسهم المعاونة، ففعل ذلك. فلما سمع المسلمون باجتماعهم ضم أبو عبيدة إليه مسالحهم وعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين إليهم، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة أو التحصين إلى مجيء الغياث، فأشار خالد بالمناجزة، وأشار سائرهم بالتحصين ومكاتبة عمر، فأطاعهم وكتب إلى عمر بذلك، وكان عمر قد اتخذ في كل مصر خيولاً على قدره من فضول أموال المسلمين عدة لكون إن كان، فكان بالكوفة من ذلك أربعة آلاف فرس، وكان القيم عليها سلمان بن ربيعة الباهلي ونفر من أهل الكوفة، وفي كل مصر من الأمصار الثمانية على قدره، فإن تأتهم آتية ركبها الناس وساروا إلى أن يتجهز الناس.
فلما سمع عمر الخبر كتب إلى سعد: أن اندب الناس مع القعقاع بن عمرو وسرحهم من يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به. وكتب إليه أيضاً: سرح سهيل بن عدي إلى الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص، وأمره أن يسرح عبد الله بن عتبان إلى نصيبين، ثم ليقصد حران والرهاء، وأن يسرح الوليد بن عقبة على عزب الجزيرة من ربيعة وتنوخ، وأن يسرح عياض بن غنم، فإن كان قتال فأمرهم إلى عياض.
فمضى القعقاع في أربعة آلاف من يومهم إلى حمص، وخرج عياض ابن غنم وأمراء الجزيرة وأخذوا طريق الجزيرة، وتوجه كل أمير إلى الكورة التي أمر عليها، وخرج عمر من المدينة فأتى الجابية لأبي عبيدة مغيثاً يريد حمص.

ولما بلغ أهل الجزيرة الذين أعانوا الروم على أهل حمص، وهم معهم، خبر الجنود الإسلامية تفرقوا إلى بلادهم وفارقوا الروم، فلما فارقوهم استشار أبو عبيدة خالداً في الخروج إلى الروم، فأشار به، فخرج إليهم فقاتلهم، ففتح الله عليه، وقدم القعقاع بن عمرو بعد الوقعة بثلاثة أيام، فكتبوا إلى عمر بالفتح وبقدوم المدد عليهم والحكم في ذلك، فكتب إليهم: أن اشركوهم فإنهم نفروا إليكم وانفرق لهم عدوكم، وقال: جزى الله أهل الكوفة خيراً، يكفون حوزتهم ويمدون أهل الأمصار. فلما فرغوا رجعوا.
ذكر فتح الجزيرة وأرمينيةوفي هذه السنة فتحت الجزيرة.
قد ذكرنا إرسال سعد العساكر إلى الجزيرة، فخرج عياض بن غنم ومن معه فأرسل سهيل بن عدي إلى الرقة وقد ارفض أهل الجزيرة عن حمص إلى كورهم حين سمعوا بأهل الكوفة، فنزل عليهم فأقام يحاصرهم حتى صالحوه، فبعثوا في ذلك إلى عياض وهو في منزل وسط بين الجزيرة، فقبل منهم وصالحهم، وصاروا ذمةً، وخرج عبد الله بن عبد الله بن عتبان على الموصل إلى نصيبين، فلقوه بالصلح وصنعوا كصنع أهل الرقة، فكتبوا إلى عياض فقبل منهم وعقد لهم. وخرج الوليد بن عقبة فقدم على عرب الجزيرة، فنهض معه مسلمهم وكافرهم إلا إياد بن نزار فإنهم دخلوا أرض الروم، فكتب الوليد بذلك إلى عمر.
ولما أخذوا الرقة ونصيبين ضم عياض إليه سهيلاً وعبد الله وسار بالناس إلى حران، فلما وصل أجابه أهلها إلى الجزية فقبل منهم. ثم إن عياضاً سرح سهيلاً وعبد الله إلى الرهاء فأجابوهما إلى الجزية وأجروا كل ما أخذوه من الجزيرة عنوةً مجرى الذمة، فكانت الجزيرة أسهل البلدان فتحاً. ورجع سهيل وعبد الله إلى الكوفة. وكتب أبو عبيدة إلى عمر بعد انصرافه من الجابية يسأله أن يضم إليه عياض بن غنم إذا أخذ خالداً إلى المدينة، فصرفه إليه، فاستعمل حبيب بن مسلمة على عجم الجزيرة وحربها، والوليد بن عقبة على عربها.
فلما قدم كتاب الوليد على عمر بمن دخل الروم من العرب كتب عمر إلى ملك الروم: بلغني أن حياً من أحياء العرب ترك دارنا وأتى دارك، فوالله لتخرجنه إلينا أو لنخرجن النصارى إليك. فأخرجهم ملك الروم، فخرج منهم أربعة آلاف وتفرق بقيتهم في ما يلي الشام والجزيرة من بلاد الروم، فكل إيادي في أرض العرب من أولئك الأربعة آلاف. وأبى الوليد ابن عقبة أن يقبل من تغلب إلا الإسلام، فكتب فيهم إلى عمر، فكتب إليه عمر: إنما ذلك بجزيرة العرب لا يقبل منهم فيها إلا الإسلام، فدعهم على أن لا ينصروا وليداً ولا يمنعوا أحداً منهم من الإسلام. وكان في تغلب عز وامتناع، فهم بهم الوليد فخاف عمر أن يسطو عليهم فعزله وأمر عليهم فرات بن حيان وهند بن عمرو الجملي.
وقال ابن إسحاق: إن فتح الجزيرة كان سنة تسع عشرة، وقال: إن عمر كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إذا فتح الله على المسلمين الشام والعراق فابعث جنداً إلى الجزيرة وأمر عليه خالد بن عرفطة أو هاشم بن عتبة أو عياض بن غنم. قال سعد: ما أخر أمير المؤمنين عياضاً إلا لأن له فيه هوىً أن أوليه وأنا موليه؛ فبعثه وبعث معه جيشاً فيه أبو موسى الأشعري وابنه عمر بن سعد وهو غلام حدث السن ليس له من الأمر شيء، فسار عياض ونزل بجنده على الرهاء، فصالحه أهله مصالحة حران على الجزية، وبعث أبا موسى إلى نصيبين فافتتحها، وسار عياض بنفسه إلى دارا فافتتحها، ووجه عثمان بن أبي العاص إلى أرمينية الرابعة فقاتل أهلها، فاستشهد صفوان ابن المعطل، وصالح أهلها عثمان على الجزية. ثم كان فتح قيسارية من فلسطين وهرب هرقل.
فعلى هذا القول تكون الجزيرة من فتوح العراق، والأكثر على أنها من فتوح أهل الشام، فإن أبا عبيدة سير عياض بن غنم إلى الجزيرة.

وقيل: إن أبا عبيدة لما توفي استخلف عياضاً فورد عليه كتاب عمر بولايته حمص وقنسرين والجزيرة، فسار إلى الجزيرة سنة ثماني عشرة يوم الخميس للنصف من شعبان في خمسة آلاف وعلى ميمنته سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي، وعلى ميسرته صفوان بن المعطل، وعلى مقدمته هبيرة بن مسروق، فانتهت طليعة عياض إلى الرقة فأغاروا على الفلاحين وحصروا المدينة، وبث عياض السرايا فأتوه بالأسرى والأطعمة، وكان حصرها ستة أيام، فطلب أهلها الصلح، فصالحهم على أنفسهم وذراريهم وأموالهم ومدينتهم، وقال عياض: الأرض لنا قد وطئناها وملكناها، فأقرها في أيديهم على الخراج ووضع الجزية. ثم سار إلى حران فجعل عليها عسكراً يحصرها عليهم صفوان بن المعطل وحبيب بن مسلمة وسار هو إلى الرهاء، فقاتله أهلها ثم انهزموا وحصرهم المسلمون في مدينتهم، فطلب أهلها الصلح فصالحهم، وعاد إلى حران فوجد صفوان وحبيباً قد غلبا على حصون وقرى من أعمال حران فصالحه أهلها على مثل صلح الرهاء.
وكان عياض يغزو ويعود إلى الرهاء، وفتح سميساط وأتى سروج ورأس كيفاء والأرض البيضاء فصالحه أهلها على صلح الرهاء. ثم إن أهل سميساط غدروا، فرجع إليهم عياض فحاصرهم حتى فتحها، ثم أتى قريات على الفرات، وهي جسر منبج وما يليها، ففتحها وسار إلى رأس عين، وهي عين الوردة، فامتنعت عليه وتركها وسار إلى تل موزن، ففتحها على صلح الرهاء سنة تسع عشرة، وسار إلى آمد فحصرها، فقاتله أهلها ثم صالحوه على صلح الرهاء، وفتح ميافارقين على مثل ذلك، وحصن كفرتوثا، فسار إلى نصيبين فقاتله أهلها ثم صالحوه على مثل صلح الرهاء، وفتح طور عبدين وحصن ماردين، ودارا على مثل ذلك، وفتح قردى وبازبدى على مثل صلح نصيبين وقصد الموصل ففتح أحد الحصنين، وقيل: لم يصل إليها، وأتاه بطريق الزوزان فصالحه، ثم سار إلى أرزن ففتحها، ودخل الدرب فأجازه إلى بدليس وبلغ خلاط فصالحه بطريقهما، وانتهى إلى العين الحامضة من أرمينية، ثم عاد إلى الرقة ومضى إلى حمص وقد كان عمر ولاه إياها فمات سنة عشرين.
واستعمل عمر سعيد بن عامر بن حذيم، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مات، فاستعمل عمير بن سعد الأنصاري، ففتح رأس عين بعد قتال شديد.
وقيل: إن عياضاً أرسل عمير بن سعد إلى رأس عين ففتحها بعد أن اشتد قتاله عليها. وقيل: إن عمر أرسل أبا موسى الأشعري إلى رأس عين بعد وفاة عياض. وقيل: إن خالد بن الوليد حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل حماماً بآمد فاطلى بشيء فيه خمر فعزله عمر. وقيل: إن خالداً لم يسر تحت لواء أحد غير أبي عبيدة. والله أعلم.
ولما فتح عياض سميساط بعث حبيب بن مسلمة إلى ملطية ففتحها عنوةً، ثم نقض أهلها الصلح، فلما ولي معاوية الشام والجزيرة وجه إليها حبيب ابن مسلمة أيضاً ففتحها عنوةً ورتب فيها جنداً من المسلمين مع عاملها.
ذكر عزل خالد بن الوليدفي هذه السنة، وهي سنة سبع عشرة، عزل خالد بن الوليد عما كان عليه من التقدم على الجيوش والسرايا.
وسبب ذلك أنه كان أدرب هو وعياض بن غنم فأصابا أموالاً عظيمة، وكانا توجها من الجابية مرجع عمر إلى المدينة، وعلى حمص أبو عبيدة وخالد تحت يده على قنسرين، وعلى دمشق يزيد، وعلى الأردن معاوية، وعلى فلسطين علقمة بن مجزز، وعلى الساحل عبد الله بن قيس، فبلغ الناس ما أصاب خالد فانتجعه رجال، وكان منهم الأشعث بن قيس، فأجازه بعشرة آلاف.
ودخل خالد الحمام فتدلك بغسل فيه خمر، فكتب إليه عمر: بلغني أنك تدلكت بخمر، وإن الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه ومسه فلا تمسوها أجسادكم. فكتب إليه خالد: إنا قتلناها فعادت غسولاً غير خمر. فكتب إليه عمر: إن آل المغيرة ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه.

فلما فرق خالد في الذين انتجعوه الأموال سمع بذلك عمر بن الخطاب، وكان لا يخفى عليه شيء من عمله، فدعا عمر البريد فكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالداً ويعقله بعمامته وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث، أمن ماله أم من مال إصابة أصابها، فإن زعم أنه فرقه من إصابة أصابها فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنه من ماله فقد أسرف، واعزله على كل حال واضمم إليك عمله. فكتب أبو عبيدة إلى خالد، فقدم عليه، ثم جمع الناس وجلس لهم على المنبر، فقام البريد فسأل خالداً من أين أجاز الأشعث، فلم يجبه، وأبو عبيدة ساكت لا يقول شيئاً، فقام بلال فقال: إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا وكذا، ونزع عمامته، فلم يمنعه سمعاً وطاعة، ووضع قلنسوته، ثم أقامه فعقله بعمامته وقال: من أين أجزت الأشعث، من مالك أجزت أم من إصابة أصبتها؟ فقال: بل من مالي؛ فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده ثم قال: نسمع ونطيع لولاتنا ونفخم ونخدم موالينا.
قال: وأقام خالد متحيراً لا يدري أمعزول أم غير معزول، ولا يعلمه أبو عبيدة بذلك تكرمة وتفخمة. فلما تأخر قدومه على عمر ظن الذي كان، فكتب إلى خالد بالإقبال إليه، فرجع إلى قنسرين فخطب الناس وودعهم ورجع إلى حمص فخطبهم ثم سار إلى المدينة، فلما قدم على عمر شكاه وقال: قد شكوتك إلى المسلمين، فبالله إنك في أمري لغير مجملٍ. فقال له عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على ستين ألفاً فلك، فقوم عمر ماله فزاد عشرين ألفاً فجعلها في بيت المال ثم قال: يا خالد والله إنك علي لكريم وإنك إلي لحبيب ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء. وكتب إلى الأمصار: إني لم أعزل خالداً عن سخطة ولا خيانة ولكن الناس فخموه وفتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع وأن لا يكونوا بعرض فتنة. وعوضه عما أخذ منه.
ذكر بناء المسجد الحرام والتوسعة فيهوفيها، أعني سنة سبع عشرة، اعتمر عمر بن الخطاب وبنى المسجد الحرام ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وهدم على قوم أبوا أن يبيعوا، ووضع أثمان دورهم في بيت المال حتى أخذوها، وكانت عمرته في رجب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وأمر بتجديد أنصاب الحرم، فأمر بذلك مخرمة بن نوفل والأزهر بن عبد عوف وحويطب بن عبد العزى وسعيد ابن يربوع، واستأذنه أهل المياه في أن يبنوا منازل بين مكة والمدينة، فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
وفيها تزوج عمر أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وهي ابنة فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخل بها في ذي القعدة.
ذكر غزوة فارس من البحرينقيل: كان عمر يقول لما أخذت الأهواز وما يليها: وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار لا نصل إليهم منه ولا يصلون إلينا.
وقد كان العلاء بن الحضرمي على البحرين أيام أبي بكر فعزله عمر وجعل موضعه قدامة بن مظعون، ثم عزل قدامة وأعاد العلاء يناوىء سعد بن أبي وقاص، ففاز العلاء في قتال أهل الردة بالفضل، فلما ظفر سعد بأهل القادسية وأزاح الأكاسرة جاء بأعظم مما فعله العلاء، فأراد العلاء أن يصنع في الفرس شيئاً ولم ينظر في الطاعة والمعصية، وقد كان عمر نهاه عن الغزو في البحر ونهى غيره أيضاً اتباعاً لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وخوف الغرر. فندب العلاء الناس إلى فارس فأجابوه، وفرقهم، أجناداً، على أحدها الجارود بن المعلى، وعلى الآخر سوار بن همام، وعلى الآخر خليد بن المنذر بن ساوى، وخليد على جميع الناس، وحملهم في البحر إلى فارس بغير إذن، فعبرت الجنود من البحرين إلى فارس، فخرجوا إلى إصطخر وبإزائهم أهل فارس وعليهم الهربذ، فجالت الفرس بين المسلمين وبين سفنهم، فقام خليد في الناس فخطبهم ثم قال: (أما بعد فإن القوم لم يدعوكم إلى حربهم وإنما جئتم لمحاربتهم والسفن والأرض لمن غلب، ف (استعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرةً إلا على الخاشعين) البقرة:النبي، صلى الله عليه وسلمقال: (. فأجابوه إلى ذلك ثم صلوا الظهر ثم ناهدوهم فاقتتلوا قتالاً شديداً بمكان يدعى طاووس فقتل سوار والجارود.
وكان خليد قد أمر أصحابه أن يقاتلوا رجالةً ففعلوا من أهل فارس مقتلة عظيمة، ثم خرجوا يريدون البصرة ولم يجدوا في البحر سبيلاً، وأخذت الفرس منهم طرقهم فعسكروا وامتنعوا.

ولما بلغ عمر صنيع العلاء أرسل إلى عتبة بن غزوان يأمره بإنفاذ جند كثيف إلى المسلمين بفارس قبل أن يهلكوا، وقال: (فإني قد ألقي في روعي كذا وكذا) نحو الذي كان، وأمر العلاء بأثقل الأشياء عليه، تأمير سعد عليه.
فشخص العلاء إلى سعد بمن معه، وأرسل عتبة جيشاً كثيفاً في اثني عشر ألف مقاتل فيهم عاصم بن عمرو وعرفجة بن هرثمة والأحنف بن قيس وغيرهم، فخرجوا على البغال يجنبون الخيل وعليهم أبو سبرة بن أبي رهم أحد بني عامر بن لؤي، فسار بالناس وساحل بهم لا يعرض له أحد حتى التقى أبو سبرة وخليد بحيث أخذ عليهم الطريق عقيب وقعة طاووس، وإنما كان ولي قتالهم أهل إصطخر وحدهم ومن شذ من غيرهم، وكان أهل إصطخر حيث أخذوا الطريق على المسلمين، فجمعوا أهل فارس عليهم فجاؤوا من كل جهة فالتقوا هم وأبو سبرة بعد طاووس وقد توافت إلى المسلمين أمدادهم، وعلى المشركين شهرك، فاقتتلوا ففتح الله على المسلمين وقتل المشركين وأصاب المسلمون منهم ما شاؤوا، وهي الغزوة التي شرفت فيها نابتة البصرة، وكانوا أفضل نوابت الأمصار، ثم انكفأوا بما أصابوا، وكان عتبة كتب إليهم بالحث وقلة العرجة، فرجعوا إلى البصرة سالمين.
ولما أحرز عتبة الأهواز وأوطأ فارس استأذن عمر في الحج فأذن له، فلما قضى حجة استعفاه فأبى أن يعفيه وعزم عليه ليرجعن إلى عمله، فدعا الله ثم انصرف، فمات في بطن نخلة فدفن، وبلغ عمر موته فمر به زائراً لقبره وقال: أنا قتلتك لولا أنه أجل معلوم وكتاب مرقوم. وأثنى عليه خيراً ولم يختط فيمن اختط من المهاجرين، وإنما ورث ولده منزلهم من فاختة بنت غزوان، وكانت تحت عثمان بن عفان، وكان حباب مولاه قد لزم شيمته فلم يختط، ومات عتبة بن غزوان على رأس ثلاث سنين من مفارقة سعد بالمدائن، وذلك بعد أن استنفذ الجند الذين بفارس ونزولهم البصرة، واستخلف على الناس أبا سبرة ابن أبي رهم بالبصرة، فأقره عمر بقية السنة، ثم استعمل المغيرة بن شعبة عليها، فلم ينتقض عليه أحد ولم يحدث شيئاً إلا ما كان بينه وبين أبي بكر. ثم استعمل أبا موسى على البصرة، ثم صرف إلى الكوفة، ثم استعمل عمر ابن سراقة، ثم صرف ابن سراقة إلى الكوفة من البصرة، وصرف أبو موسى من الكوفة إلى البصرة، فعمل عليها ثانية. وقد تقدم ذكر ولاية عتبة بن غزوان البصرة والاختلاف فيها سنة أربع عشرة.
ذكر عزل المغيرة عن البصرة

وولاية أبي موسى
في هذه السنة عزل عمر المغيرة بن شعبة عن البصرة واستعمل عليها أبا موسى وأمره أن يشخص إليه المغيرة بن شعبة في ربيع الأول؛ قاله الواقدي.
وكان سبب عزله أنه كان بين أبي بكرة والمغيرة بن شعبة منافرة، وكانا متجاورين بينهما طريق، وكانا في مشربتين في كل واحدة منهما كوة مقابلة الأخرى، فاجتمع إلى أبي بكرة نفر يتحدثون في مشربته، فهبت الريح ففتحت باب الكوة، فقام أبو بكرة ليسده فبصر بالمغيرة وقد فتحت الريح باب كوة مشربته وهو بين رجلي امرأة، فقال للنفر: قوموا فانظروا. فقاموا فنظروا، وهم أبو بكرة ونافع بن كلدة وزياد بن أبيه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وشبل بن معبد البجلي، فقال لهم: اشهدوا، قالوا: ومن هذه؟ قال: أم جميل بن الأفقم، وكانت من بني عامر بن صعصعة، وكانت تغشي المغيرة والأمراء والأشراف، وكان بعض النساء يفعلن ذلك في زمانها، فلما قامت عرفوها. فلما خرج المغيرة إلى الصلاة منعه أبو بكرة وكتب إلى عمر بذلك، فبعث عمر أبا موسى أميراً على البصرة وأمره بلزوم السنة، فقال: أعني بعدة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فإنهم في هذه الأمة كالملح لا يصلح الطعام إلا به. قال له: خذ من أحببت. فأخذ معه تسعة وعشرين رجلاً، منهم: أنس بن مالك وعمران بن حصين وهشام بن عامر، وخرج معهم فقدم البصرة فدفع الكتاب بإمارته إلى المغيرة، وهو أوجز كتاب وأبلغه: (أما بعد فإنه بلغني نبأ عظيم فبعثت أبا موسى أميراً، فسلم إليه ما في يدك والعجل). فأهدى إليه المغيرة وليدة تسمى عقيلة.

ورحل المغيرة ومعه أبو بكرة والشهود، فقدموا على عمر، فقال له المغيرة: سل هؤلاء الأعبد كيف رأوني أمستقبلهم أم مستدبرهم، وكيف رأوا المرأة أو عرفوها، فإن كانوا مستقبلي فكيف لم أستتر، أو مستدبري فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي؟ والله أتيت إلا امرأتي! وكانت تشبهها. فشهد أبو بكرة أنه رآه على أم جميل يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة وأنه رآهما مستدبرين، وشهد شبل ونافع مثل ذلك. وأما زياد فإنه قال: رأيته جالساً بين رجلي امرأة فرأيت قدمين مخضوبتين تخفقان واستين مكشوفتين وسمعت حفزاً شديداً. قال: هل رأيت كالميل في المكحلة؟ قال: لا. قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا ولكن أشبهها. قال: فتنح. وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد. فقال المغيرة: اشفني من الأعبد. قال: اسكت أسكت الله نأمتك، أما والله لو تمت لرجمتك بأحجارك!
ذكر الخبر عن فتح الأهواز ومناذر ونهر تيرىوفي هذه السنة فتحت الأهواز ومناذر ونهر تيرى، وقيل: كانت سنة عشرين.
وكان السبب في هذا الفتح أنه لما انهزم الهرمان يوم القادسية، وهو أحد البيوتات السبعة في أهل فارس، وكانت أمته منهم مهرجانقذق وكور الأهواز، فلما انهزم قصد خوزستان فملكها وقاتل بها من أرادهم، فكان الهرمزان يغير على أهل ميسان ودستميسان من مناذر ونهر تيرى. فاستمد عتبة بن غزوان سعداً فأمده بنعيم بن مقرن ونعيم بن مسعود وأمرهما أن يأتيا أعلى ميسان ودستميسان حتى يكونا بينهم وبين نهر تيرى، ووجه عتبة ابن غزوان سلمى بن القين وحرملة بن مريطة، وكانا من المهاجرين مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهما من بني العدوية من بني حنظلة، فنزلا على حدود ميسان ودستميسان بينهم وبين مناذر، ودعوا بني العم، فخرج إليهم غالب الوائلي وكليب بن وائل الكليبي فتركا نعيماً ونعيماً وأتيا سلمى وحرملة وقالا: أنتما من العشيرة وليس لكما منزل، فإذا كان يوم كذا وكذا فانهدا للهرمزان، فإن أحدنا يثور بمناذر والآخر بنهر تيرى فنقتل المقاتلة ثم يكون وجهنا إليكم، فليس دون الهرمزان شيء إن شاء الله. ورجعا وقد استجابا واستجاب قومهما بنو العم بن مالك، وكانوا ينزلون خوزستان قبل الإسلام، فأهل البلاد يأمنونهم. فلما كان تلك الليلة ليلة الموعد بين سلمى وحرملة وغالب وكليب، وكان الهرمزان يومئذٍ بين نهر تيرى وبين دلث وخرج سلمى وحرملة صبيحتهما في تعبئة وأنهضا نعيماً ومن معه فالتقوا هم والهرمزان بين دلث ونهر تيرى، وسلمى بن القين على أهل البصرة، ونعيم بن مقرن على أهل الكوفة، فاقتتلوا.
فبينا هم على ذلك أقبل مدد من قبل غالب وكليب، وأتى الهرمزان الخبر بأن مناذر ونهر تيرى قد أخذا، فكسر ذلك قلب الهرمزان ومن معه وهزمه الله وإياهم، فقتل المسلمون منهم ما شاؤوا وأصابوا ما شاؤوا واتبعوهم حتى وقفوا على شاطىء دجيل وأخذوا ما دونه وعسكروا بحيال سوق الأهواز، وعبر الهرمزان جسر سوق الأهواز وأقام بها، وصار دجيل بين الهرمزان والمسلمين. فلما رأى الهرمزان ما لا طاقة له به طلب الصلح، فاستأمروا عتبة، فأجاب إلى ذلك على الأهواز كلها ومهرجانقذق ما خلا نهر ترى ومناذر وما غلبوا عليه من سوق الأهواز فإنه لا يرد عليهم، وجعل سلمى على مناذر مسلحةً وأمرها إلى غالب، وحرملة على نهر تيرى وأمرها إلى كليب، فكانا على مسالح البصرة. وهاجرت طوائف من بني العم فنزلوا البصرة.

ووفد عتبة وفداً إلى عمر، منهم: سلمى وجماعة من أهل البصرة، فأمرهم عمر أن يرفعوا حوائجهم، فكلمهم قال: أما العامة فأنت صاحبها، وطلبوا لأنفسهم، إلا ما كان من الأحنف بن قيس فإنه قال: يا أمير المؤمنين إنك كما ذكروا، ولقد يعزب عنك ما يحق علينا إنهاؤه إليك مما فيه صلاح العامة، وإنما ينظر الوالي فيما غاب عنه بأعين أهل الخبر ويسمع بآذانهم، فإن إخواننا من أهل الكوفة نزلوا في مثل حدقة البعير الغاسقة من العيون العذاب والجنان الخصاب فتأتيهم ثمارهم ولم يحصدوا، وإنا معشر أهل البصرة نزلنا سبخة هشاشة وعقة نشاشة، طرفٌ لها في الفلاة وطرف لها في البحر الأجاج، يجري إليها ما جرى في مثل مريء النعامة، دارنا فعمة، وطبقتنا مضيقة، وعددنا كثير، وأشرافنا قليل، وأهل البلاء فينا كثير، درهمنا كبير، وقفيزنا صغير، وقد وسع الله علينا وزادنا في أرضنا، فوسع علينا يا أمير المؤمنين وزدنا طبقة تطوف علينا ونعيش بها. فلما سمع عمر قوله أحسن إليهم وأقطعهم مما كان فيئاً لأهل كسرى وزادهم، ثم قال: هذا الفتى سيد أهل البصرة. وكتب إلى عتبة فيه بأن يسمع منه ويرجع إلى رأيه، وردهم إلى بلدهم.
وبينا الناس على ذلك من ذمتهم مع الهرمزان وقع بين الهرمزان وغالب وكليب في حدود الأرضين اختلاف، فحضر سلمى وحرملة لينظرا فيما بينهم فوجدا غالباً وكليباً محقين والهرمزان مبطلاً فحالا بينهما وبينه، فكفرا الهرمزان ومنع ما قبله واستعان بالأكراد وكف جنده، وكتب سلمى ومن معه إلى عتبة بذلك، فكتب عتبة إلى عمر، فكتب إليه عمر يأمره بقصده، وأمد المسلمين بحرقوص بن زهير السعدي، كانت له صحبة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأمره على القتال وعلى غلب عليه. وسار الهرمزان ومن معه وسار المسلمون إلى جسر سوق الأهواز وأرسلوا إليه: إما أن تعبر إلينا أو نعبر إليكم. فقال: اعبروا إلينا. فعبروا فوق الجسر فاقتتلوا مما يلي سوق الأهواز، فانهزم الهرمزان وسار إلى رامهرمز، وفتح حرقوص سوق الأهواز ونزل بها واتسعت له بلادها إلى تستر، ووضع الجزية، وكتب بالفتح إلى عمر وأرسل إليه الأخماس.
ذكر صلح الهرمزان

وأهل تستر مع المسلمين
وفي هذه السنة فتحت تستر، وقيل: سنة ست عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة.
قيل: ولما انهزم الهرمزان يوم سوق الأهواز وافتتحها المسلمون بعث حرقوص جزء بن معاوية في أثره بأمر عمر إلى سوق الأهواز، فما زال يقتلهم حتى انتهى إلى قرية الشعر وأعجزه الهرمزان، فمال جزء إلى دورق، وهي مدينة سرق، فأخذها صافيةً ودعا من هرب إلى الجزية، فأجابوه، وكتب إلى عمر وعتبة بذلك، فكتب عمر إلى حرقوص وإليه بالمقام فيما غلبا عليه حتى يأمرهما بأمره، فعمر جزء البلاد وشق الأنهار وأحيا الموات. وراسلهم الهرمزان يطلب الصلح، فأجاب عمر إلى ذلك وأن يكون ما أخذه المسلمون بأيديهم، ثم اصطلحوا على ذلك، وأقام الهرمزان والمسلمون يمنعونه إذا قصده الأكراد ويجيء إليهم. ونزل حرقوص جبل الأهواز، وكان يشق على الناس الاختلاف إليه، فبلغ ذلك عمر فكتب إليه يأمره بنزول السهل وأن لا يشق على مسلم ولا معاهد ولا تدركك فترة ولا عجلة فتكدر دنياك وتذهب آخرتك. وبقي حرقوص إلى يوم صفين، وصار حرورياً وشهد النهروان مع الخوارج.
ذكر فتح رامهرمز وتستر
وأسر الهرمزان
قيل: كان فتح رامهرمز وتستر والسوس في سنة سبع عشرة، وقيل: سنة تسع عشرة، وقيل: سنة عشرين.
وكان سبب فتحها أن يزدجرد لم يزل وهو بمرو يثير أهل فارس أسفاً على ما خرج من ملكهم، فتحركوا وتكاتبوا هم وأهل الأهواز وتعاقدوا على النصرة، فجاءت الأخبار حرقوص بن زهير وجزءاً وسلمى وحرملة، فكتبوا إلى عمر بالخبر، فكتب عمر إلى سعد وهو بالكوفة: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً مع النعمان بن مقرن وعجل فلينزلوا بإزاء الهرمزان ويتحققوا أمره. وكتب إلى أبي موسى: أن ابعث إلى الأهواز جنداً كثيفاً وأمر عليهم سهل ابن عدي أخا سهيل وابعث معه البراء بن مالك ومجزأة بن ثور وعرفجة بن هرثمة وغيرهم، وعلى أهل الكوفة والبصرة جميعاً أبو سبرة بن أبي رهم.

فخرج النعمان بن مقرن في أهل الكوفة فسار إلى الأهواز على البغال يجنبون الخيل، فخلف حرقوصاً وسلمى وحرملة وسار نحو الهرمزان وهو برامهرمز. فلما سمع الهرمزان بمسير النعمان إليه بادره الشدة ورجا أن يقتطعه ومعه أهل فارس، فالتقى النعمان والهرمزان بأربك فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الله، عز وجل، هزم الهرمزان فترك رامهرمز ولحق بتستر، وسار النعمان إلى رامهرمز ونزلها وصعد إلى إيذج، فصالحه تيرويه على إيذج ورجع إلى رامهرمز فأقام بها. ووصل أهل البصرة فنزلوا سوق الأهواز وهم يريدون رامهرمز، فأتاهم خبر الوقعة وهم بسوق الأهواز، وأتاهم الخبر أن الهرمزان قد لحق بتستر، فساروا نحوه وسار النعمان أيضاً وسار حرقوص وسلمى وحرملة وجزء فاجتمعوا على تستر وبها الهرمزان وجنوده من أهل فارس والجبال والأهواز في الخنادق، وأمدهم عمر بأبي موسى وجعله على أهل البصرة، وعلى الجميع أبو سبر، فحاصروهم أشهراً وأكثروا فيهم القتل، وقتل البراء بن مالك، وهو أخو أنس بن مالك، في ذلك الحصار إلى الفتح مائةً مبارزةً سوى من قتل في غير ذلك، وقتل مثله مجزأة بن ثور وكعب بن ثور وعدة من أهل البصرة وأهل الكوفة، وزاحفهم المشركون أيام تستر ثمانين زحفاً يكون لهم مرة ومرة عليهم. فلما كان في آخر زحفٍ منها واشتد القتال قال المسلمون: يا براء أقسم على ربك ليهزمنهم لنا. قال: اللهم اهزمهم لنا واستشهدنين وكان مجاب الدعوة، فهزموهم حتى أدخلوهم خنادقهم ثم اقتحموها عليهم ثم دخلوا مدينتهم وأحاط بها المسلمون.
فبينما هم على ذلك وقد ضاقت المدينة بهم وطالت حربهم خرج رجل إلى النعمان يستأمنه على أن يدله على مدخل يدخلون منه، ورمى في ناحية أبي موسى بسهم: إن آمنتموني دللتكم على مكان تأتون المدينة منه. فآمنوه في نشابة. فرمى إليهم بأخرى وقال: انهدوا من قبل مخرج الماء فإنكم تقتحمونها. فندب الناس إليه فانتدب له عامر بن عبد قيس وبشرٌ كثير ونهدوا لذلك المكان ليلاً، وقد ندب النعمان أصحابه ليسيروا مع الرجل الذي يدلهم على المدخل إلى المدينة، فانتدب له بشرٌ كثير، فالتقوا هم وأهل البصرة على ذلك المخرج، فدخلوا في السرب والناس من خارج. فلما دخلوا المدينة كبروا فيها وكبر المسلمون من خارج وفتحت الأبواب فاجتلدوا فيها فأناموا كل مقاتل، وقصد الهرمزان القلعة فتحصن وأطاف به الذين دخلوا، فنزل إليهم على حكم عمر، فأوثقوه واقتسموا ما أفاء الله عليهم، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف، وسهم الراجل ألفاً. وجاء صاحب الرمية والرجل الذي خرج بنفسه فآمنوهما ومن أغلق معهما.
وقتل من المسلمين تلك الليلة بشرٌ كثير، وممن قتل الهرمزان بنفسه مجزأة بن ثور والبراء بن مالك. وخرج أبو سبرة بنفسه في أثر المنهزمين إلى السوس ونزل عليها ومعه النعمان بن مقرن وأبو موسى، وكتبوا إلى عمر فكتب إلى أبي موسى بردة إلى البصرة، وهي المرة الثالثة، فانصرف إليها على السوس.
وسار زر بن عبد الله بن كليب الفقيمي إلى جند يسابور فنزل عليها، وهو من الصحابة، وأمر عمر على جند البصرة المقترب، وهو الأسود بن ربيعة أحد بني ربيعة بن مالك، وهو صحابي أيضاً، وكانا مهاجرين، وكان الأسود قد وفد على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقال: جئت لأقترب إلى الله بصحبتك، فسماه المقترب.
وأرسل أبو سبرة وفداً إلى عمر بن الخطاب فيهم أنس بن مالك والأحنف ابن قيس ومعهم الهرمزان، فقدموا به المدينة وألبسوه كسوته من الديباج الذي فيه الذهب وتاجه، وكان مكللاً بالياقوت، وحليته ليراه عمر والمسلمون، فطلبوا عمر فلم يجدوه، فسألوا عنه فقيل: جلس في المسجد لوفد من الكوفة، فوجدوه في المسجد متوسداً برنسه، وكان قد لبسه للوفد، فلما قاموا عنه توسده ونام، فجلسوا دونه وهو نائم والدرة في يده، فقال الهرمزان: أين عمر؟ قالوا: هو ذا. فقال: أين حرسه وحجابه؟ قالوا: ليس له حارس ولا حاجب ولا كاتب. قال: فينبغي أن يكون نبياً. قالوا: بل يعمل بعمل الأنبياء.

فاستيقظ عمر بجلبة الناس فاستوى جالساً ثم نظر إلى الهرمزان، فقال: الهرمزان؟ قالوا: نعم. فقال: الحمد لله الذي أذل بالإسلام هذا وغيره أشباهه! فأمر بنزع ما عليه، فنزعوه وألبسوه ثوباً صفيقاً، فقال له عمر: يا هرمزان، كيف رأيت عاقبة الغدر وعاقبة أمر الله؟ فقال: يا عمر، إنا وإياكم في الجاهلية كان الله قد خلى بيننا وبينكم فغلبناكم، فلما كان الآن معكم غلبتمونا فقال عمر: إنما غلبتمونا في الجاهلية باجتماعكم وتفرقنا. ثم قال له: ما حجتك وما عذرك في انتفاضك مرة بعد أخرى؟ فقال: أخاف أن تقتلني قبل أن أخبرك. قال: لا تخف ذلك، واستسقى ماء فأتي به في قدح غليظ، فقال: لو مت عطشاً لم أستطع أن أشرب في مثل هذا! فأتي به في إناء يرضاه، فقال: إني أخاف أن أقتل وأن أشرب. فقال عمر: لابأس عليك حتى تشربه، فأكفأه، فقال عمر: أعيدوا عليه ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش. فقال: لا حاجة لي في الماء، إنما أردت أن أستأمن به. فقال عمر له: إني قاتلك. فقال: قد آمنتني. فقال: كذبت. قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قد آمنته. قال عمر: يا أنس، أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتين بمخرج أو لأعاقبنك. قال: قلت له: لابأس عليك حتى تخبرني ولابأس عليك حتى تشربه. وقال له من حوله مثل ذلك. فأقبل على الهرمزان وقال: خدعتني، والله لا أنخدع إلا أن تسلم. فأسلم، ففرض له في ألفين وأنزله المدينة؛ وكان المترجم بينهما المغيرة بن شعبة، وكان يفقه شيئاً من الفارسية، إلى أن جاء المترجم.
وقال عمر للوفد: لعل المسلمين يؤذون أهل الذمة فلهذا ينتقضون بكم؟ قالوا: ما نعلم إلا وفاء. قال: فكيف هذا؟ فلم يشفه أحد منهم، إلا أن الأحنف قال له: يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد وإن ملك فارس بين أظهرهم ولا يزالون يقاتلوننا ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان متفقان حتى يخرج أحدهما صاحبه، وقد رأيت أنا لم نأخذ شيئاً بعد شيء إلا بانبعاثهم وغدرهم، وأن ملكهم هو الذي يبعثهم، ولا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا بالانسياح فنسيح في بلادهم ونزيل ملكهم، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس. فقال: صدقتني والله! ونظر في حوائجهم وسرحهم. وأتى عمر الكتاب باجتماع أهل نهاوند فأذن في الانسياح في بلاد الفرس.
وقتل محمد بن جعفر بن أبي طالب شهيداً على تستر في قول بعضهم.
أربك بفتح الهمزة، وسكون الراء، وضم الباء الموحدة، وفي آخره كاف: موضع عند الأهواز.
ذكر فتح السوسقيل: ولما نزل أبو سبر على السوس وبها شهريار أخو الهرمزان أحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرات، كل ذلك يصيب أهل السوس في المسلمين، فأشرف عليهم الرهبان والقسيسون فقالوا: يا معشر العرب إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم فيهم الدجال، فإن كان فيكم فستفتحونها.
وسار أبو موسى إلى البصرة من السوس وصار مكانه على أهل البصرة بالسوس المقترب بن ربيعة، واجتمع الأعاجم بنهاوند، والنعمان على أهل الكوفة محاصراً أهل السوس مع أبي سبرة، وزر محاصراً أهل جند يسابور. فجاء كتاب عمر بصرف النعمان إلى أهل نهاوند من وجهه ذلك، فناوشهم القتال قبل مسيره، فصاح أهلها بالمسلمين وناوشوهم وغاظوهم، وكان صافي بن صياد مع المسلمين في خيل النعمان، فأتى صافي باب السوس فدقه برجله فقال: انفتح بظار! وهو غضبان، فتقطعت السلاسل وتكسرت الأغلاق وتفتحت الأبواب ودخل المسلمون وألقى المشركون بأيديهم ونادوا: الصلح الصلح. فأجابهم إلى ذلك المسلمون بعدما دخلوها عنوةً، واقتسموا ما أصابوا.
ثم افترقوا فسار النعمان حتى أتى نهاوند، وسار المقترب حتى نزل على جنديسابور مع زر.
وقيل لأبي سبرة: هذا جسد دانيال في هذه المدينة. قال: وما علي بذلك! فأقره في أيديهم.

وكان دانيال قد لزم نواحي فارس بعد بخت نصر. فلما حضرته الوفاة ولم ير أحداً على الإسلام أكرم كتاب الله عمن لم يجبه فقال لابنه: أئت ساحل البحر فاقذف بهذا الكتاب فيه، فأخذه الغلام وغاب عنه وعاد وقال له: قد فعلت. قال: ما صنع البحر؟ قال: ما صنع شيئاً. فغضب وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به! فخرج من عنده وفعل فعلته الأولى. فقال: كيف رأيت البحر صنع؟ قال: ماج واصطفق. فغضب أشد من الأول وقال: والله ما فعلت الذي أمرتك به. فعاد إلى البحر وألقاه فيه، فانفلق البحر عن الأرض وانفجرت له الأرض عن مثل التنور، فهوى فيها ثم انطبقت عليه واختلط الماء، فلما رجع إليه وأخبره بما رأى: الآن صدقت. ومات دانيال بالسوس، وكان هناك يستسقى بجسده، فاستأذنوا عمر فيه فأمر بدفنه.
وقيل في أمر السوس: إن يزدجرد سار بعد وقعة جلولاء فنزل إصطخر ومعه سياه في سبعين من عظماء الفرس فوجهه إلى السوس والهرمزان إلى تستر، فنزل سياه الكلتانية، وبلغ أهل السوس أمر جلولاء ونزلو يزدجرد إصطخر، فسألوا أبا موسى الصلح، وكان محاصراً لهم، فصالحهم وسار إلى رامهرمز، ثم سار إلى تستر، ونزل سياه بين رامهرمز وتستر ودعا من معه من عظماء الفرس وقال لهم: قد علمتم أنا كنا نتحدث أن هؤلاء القوم أهل الشقاء والبؤس سيغلبون على هذه المملكة وتروث دوابهم في إيوانات إصطخر ويشدون خيولهم في شجرها، وقد غلبوا على ما رأيتم، فانظروا لأنفسكم. قالوا: رأينا رأيك. قال: أرى أن تدخلوا في دينهم. ووجهوا شيرويه في عشرة من الأساورة إلى أبي موسى، فشرط عليهم أن يقاتلوا معه العجم ولا يقاتلوا العرب، وإن قاتلهم أحد من العرب منعهم منهم، وينزلوا حيث شاؤوا، ويلحقوا بأشرف العطاء، ويعقد لهم ذلك عمر على أن يسلموا، فأعطاهم عمر ما سألوا، فأسلموا وشهدوا مع المسلمين حصار تستر. ومضى سياه إلى حصن قد حاصره المسلمون في زي العجم، فألقى نفسه إلى جانب الحصن ونضح ثيابه بالدم، فرآه أهل الحصن صريعاً فظنوه رجلاً منهم ففتحوا باب الحصن ليدخلوه إليهم، فوثب وقاتلهم حتى خلوا عن الحصن وهربوا، فملكه وحده. وقيل: إن هذا الفعل كان منه بتستر.
ذكر مصالحة جنديسابوروفي هذه السنة سار المسلمون عن السوس فنزلوا بجنديسابور، وزر بن عبد الله محاصرهم، فأقاموا عليها يقاتلونهم، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان، فلم يفجأ المسلمين إلا وقد فتحت أبوابها وأخرجوا أسواقهم وخرج أهلها، فسألهم المسلمون، فقالوا: رميتم بالأمان فقبلناه وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا. فقالوا: ما فعلنا فقالوا: ما كذبنا! وسأل المسلمون فإذا عبد يدعى مكثفاً كان أصله منها فعل هذا، فقالوا: هو عبد. فقال أهلها: لا نعرف العبد من الحر، وقد قبلنا الجزية وما بدلنا، فإن شئتم فاغدروا. فكتبوا إلى عمر فأجاز أمانهم، فآمنوهم وانصرفوا عنهم.
ذكر مسير المسلمين إلى كرمان وغيرهاقيل: في سنة سبع عشرة أذن عمر للمسلمين في الانسياح في بلاد فارس، وانتهى في ذلك إلى رأي الأحنف بن قيس وعرف فضله وصدقه، فأمر أبا موسى أن يسير من البصرة إلى منقطع ذمة البصرة فيكون هناك حتى يأتيه أمره، وبعث بألوية من ولى مع سهيل بن عدي، فدفع لواء خراسان إلى الأحنف بن قيس، ولواء أردشير خره وسابور إلى مجاشع بن مسعود السلمي، ولواء إصطخر إلى عثمان بن أبي العاص الثقفي، ولواء فساودارابجرد إلى سارية بن زنيم الكناني، ولواء كرمان إلى سهيل بن عدي، ولواء سبجستان إلى عاصم بن عمرو، وكان من الصحابة، ولواء مكران إلى الحكم بن عمير التغلبي، فخرجوا ولم يتهيأ مسيرهم إلى سنة ثماني عشرة، وأمدهم عمر بنفر من أهل الكوفة، فأمد سهيل بن عدي بعبد الله بن عتبان، وأمد الأحنف بعلقمة بن النضر وبعبد الله بن أبي عقيل وبربعي بن عامر وبابن أم غزال، وأمد عاصم بن عمرو بعبد الله بن عمير الأشجعي، وأمد الحكم بن عمير بشهاب بن المخارق في جموع.
وقيل: كان ذلك سنة إحدى وعشرين، وقيل: سنة اثنتين وعشرين، وسنذكر كيفية فتحها هناك وذكر أسبابها إن شاء الله تعالى.

وكان على مكة هذه السنة عتاب بن أسيد في قول، وعلى اليمن يعلى ابن منية، وعلى اليمامة والبحرين عثمان بن أبي العاص، وعلى عمان حذيفة ابن محصن، وعلى الشام من ذكر قبل، وعلى الكوفة وأرضها سعد بن أبي وقاص، وعلى قضائها أبو قرة، وعلى البصرة وأرضها أبو موسى، وعلى القضاء أبو مريم الحنفي، وقد ذكر من كان على الجزيرة والموصل قبل.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة

ذكر القحط وعام الرمادة
في سنة ثماني عشرة أصاب الناس مجاعة شديدة وجدب وقحط، وهو عام الرمادة، وكانت الريح تسفي تراباً كالرماد فسمي عام الرمادة، واشتد الجوع حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافيها من قيحها. وفيه أيضاً كان طاعون عمواس، وفيه ورد كتاب أبي عبيدة على عمر يذكر فيه أن نفراً من المسلمين أصابوا الشراب، منهم: ضرار وأبو جندل، فسألناهم فتابوا، وقال له: ادعهم على رؤوس الناس وسلهم أحلالٌ الخمر أم حرام، فإن قالوا: حرام، فاجلدهم ثمانين ثمانين، وإن قالوا: حلال، فاضرب أعناقهم. فسألهم فقالوا: بل حرامٌ، فجلدهم، وندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حدث، فحدث عام الرمادة وأقسم عمر أن لا يذوق سمناً ولا لبناً ولا لحماً حتى يحيا الناس. فقدمت السوق عكة سمن ووطب من لبن، فاشتراها غلام لعمر بأربعين درهماً ثم أتى عمر فقال: يا أمير المؤمنين قد أبر الله يمينك وعظم أجرك، قدم السوق وطب من لبن وعكة من سمن ابتعتهما بأربعين درهماً. فقال عمر: أغليت بهما فتصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافاً. وقال: كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم! وكتب عمر إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها ويستمدهم، فكان أول من قدم عليه أبو عبيدة بن الجراح بأربعة آلاف راحلة من طعام، فولاه قسمتها فيمن حول المدينة، فقسمها وانصرف إلى عمله، وتتابع الناس واستغنى أهل الحجاز، وأصلح عمرو بن العاص بحر القلزم وأرسل فيه الطعام إلى المدينة، فصار الطعام بالمدينة كسعر مصر، ولم ير أهل المدينة بعد الرمادة مثلها حتى حبس عنهم البحر مع مقتل عثمان، فذلوا وتقاصروا، وكان الناس بذلك وعمر كالمحصور عن أهل الأمصار.
فقال أهل بيت من مزينة لصاحبهم، وهو بلال بن الحارث: قد هلكنا فاذبح لنا شاة. قال: ليس فيهن شيء. فلم يزالوا به حتى ذبح فسلخ عن عظم أحمر، فنادى: يا محمداه! فأري في المنام أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أتاه فقال: (أبشر بالحياة، إيت عمر فأقرئه مني السلام وقل له إني عهدتك وأنت وفي العهد شديد العقد، فالكيس الكيس يا عمر)! فجاء حتى أتى باب عمر فقال لغلامه: استأذن لرسول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأتى عمر فأخبره، ففزع وقال: رأيت به مساً؟ قال: لا، فأدخله وأخبره الخبر، فخرج فنادى في الناس وصعد المنبر فقال: نشدتكم الله الذي هداكم هل رأيتم مني شيئاً تكرهون؟ قالوا: اللهم لا، ولم ذاك؟ فأخبرهم، ففطنوا ولم يفطن عمر، فقالوا: إنما استبطأك في الاستسقاء فاستسق بنا. فنادى في الناس، وخرج معه العباس ماشياً فخطب وأوجز وصلى ثم جثا لركبتيه وقال: (اللهم عجزت عنا أنصارنا وعجز عنا حولنا وقوتنا وعجزت عنا أنفسنا ولا حول ولا قوة إلا بك، اللهم فاسقنا وأحي العباد والبلاد! وأخذ بيد العباس بن عبد المطلب عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإن دموع العباس لتتحادر على لحيته فقال: (اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك، صلى الله عليه وسلم، وبقية آبائه وكبر رجاله فإنك تقول وقولك الحق: (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة) فحفظتهما بصلاح آبائهما، فاحفظ اللهم نبيك، صلى الله عليه وسلم، في عمه، فقد دلونا به إليك مستشفعين مستغفرين). ثم أقبل على الناس فقال: (استغفروا ربكم إنه كان غفاراً) نوح: !رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

وكان العباس قد طال عمره وعيناه تذرفان ولحيته تجول على صدره وهو يقول: (اللهم أنت الراعي فلا تهمل الضالة ولا تدع الكسير بدار مضيعةٍ، فقد صرخ الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى، وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغنهم بغناك قبل أن يقطنوا فيهلكوا فإنه لا ييأس إلا القوم الكافرون). فنشأت طريرة من سحاب، فقال الناس: ترون ترون! ثم التأمت ومشت فيها ريح ثم هدأت ودرت، فوالله ما تروحوا حتى اعتنقوا الجدار وقلصوا المآزر، فطفق الناس بالعباس يمسحون أركانه ويقولون: (هنيئاً لك ساقي الحرمين)! فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب:
بعمي سقى الله الحجاز وأهله ... عشية يستسقي بشيبته عمر
توجه بالعباس في الجدب راغباً ... إليه فما إن رام حتى أتى المطر
ومنا رسول الله فينا تراثه ... فهل فوق هذا للمفاخر مفتخر
ذكر طاعون عمواسفي هذه السنة كان طاعون عمواس بالشام، فمات فيه أبو عبيدة بن الجراح، وهو أمير الناس، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان، والحارث ابن هشام، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن سهيل، وعامر بن غيلان الثقفي، مات وأبوه حي، وتفانى الناس منه.
قال طارق بن شهاب: أتينا أبا موسى في داره بالكوفة نتحدث عنده فقال: لا عليكم أن تحفوا فقد أصيب في الدار إنسان بهذا السقم، ولا عليكم أن تنزهوا من هذه القرية فتخرجوا في فسح بلادكم ونزهها حتى يرفع هذا الوباء، وسأخبركم بما يكره ويتقى، من ذلك أن يظن من خرج أنه لو أقام مات، ويظن من أقام فأصابه لو خرج لم يصبه، فإذا لم يظن المسلم هذا فلا عليه أن يخرج؛ إني كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس، فلما اشتعل الوجع وبلغ ذلك عمر كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه: (أن سلام عيك، أما بعد فقد عرضت لي إليك حاجة أريد أن أشافهك فيها، فعزمت عليك إذا أنت نظرت في كتابي هذا ألا تضعه من يدك حتى تقبل إلي). فعرف أبو عبيدة ما أراد فكتب إليه: (يا أمير المؤمنين، قد عرفت حاجتك إلي وإني في جند من المسلمين لا أجد بنفسي رغبةً عنهم، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله في وفيهم أمره وقضاءه، فحللني من عزيمتك). فلما قرأ عمر الكتاب بكى، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، أمات أبو عبيدة؟ فقال: لا، وكأن قد.
وكتب إليه عمر ليرفعن بالمسلمين من تلك الأرض، فدعا أبا موسى فقال له: ارتد للمسلمين منزلاً. قال: فرجعت إلى منزلي لأرتحل فوجدت صاحبتي قد أصيبت. فرجعت إليه فقلت له: والله لقد كان في أهلي حدثٌ. فقال: لعل صاحبتك أصيبت؟ قلت: نعم. قال: فأمر ببعيره فرحل له. فلما وضع رجله في غرزه طعن، فقال: والله لقد أصبت! ثم سار بالناس حتى نزل الجابية، وكان أبو عبيدة قد قام في الناس خطيباً فقال: (يا أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة سأل الله أن يقسم له منه حظه) فطعن فمات. واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيباً بعده فقال: (أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم ودعوة نبيكم وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذاً يسأل الله أن يقسم لآل معاذ حظهم). فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا به لنفسه فطعن في راحته فلقد كان يقبلها ثم يقول: (ما أحب أن لي بما فيك شيئاً من الدنيا). فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فخرج بالناس إلى الجبال، ورفعه الله عنهم، فلم يكره عمر ذلك من عمرو.

وقد قيل: إن عمر بن الخطاب قدم الشام، فلما كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد فيهم أبو عبيدة ابن الجراح، فأخبروه بالوباء وشدته، وكان معه المهاجرون والأنصار، خرج غازياً، فجمع المهاجرين الأولين والأنصار فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فمنهم القائل: خرجت لوجه الله فلا يصدك عنه هذا، ومنهم القائل: إنه بلاء وفناء فلا نرى أن تقدم عليه. فقال لهم: قوموا، ثم أحضر مهاجرة الفتح من قريش فاستشارهم فلم يختلفوا عليه وأشاروا بالعود، فنادى عمر في الناس: (إني مصبح على ظهر). فقال أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله؟ فقال: (نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما مخصبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟) فسمع بهم عبد الرحمن بن عوف فقال: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا سمعتم بهذا الوباء ببلد فلا تقدموا عليه، وإذا وقع ببلد وأنتم به فلا تخرجوا فراراً منه). فانصرف عمر بالناس إلى المدينة.
وهذه الرواية أصح، فإن البخاري ومسلماً أخرجاها في صحيحيهما، ولأن أبا موسى كان هذه السنة بالبصرة ولم يكن بالشام، لكن هكذا ذكره وإنما أوردناه لننبه عليه.
عمواس بفتح العين المهملة والميم والواو، وبعد الألف سين مهملة. وسرع بفتح السين المهملة، وسكون الراء المهملة، وآخره غين معجمة.
ومعنى قوله: دعوة نبيكم، حين جاءه جبرائيل فقال: (فناء أمتك بالطعن أو الطاعون). فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (فبالطاعون).
ولما هلك يزيد بن أبي سفيان استعمل عمر أخاه معاوية بن أبي سفيان على دمشق وخراجها، واستعمل شرحبيل بن حسنة على جند الأردن وخراجها. وأصاب الناس من الموت ما لم يروا مثله قط، وطمع له العدو في المسلمين لطول مكثه، مكث شهوراً، وأصاب الناس بالبصرة مثله، وكان عدة من مات في طاعون عمواس خمسة وعشرين ألفاً.
ذكر قدوم عمر إلى الشام بعد الطاعونلما هلك الناس في الطاعون كتب أمراء الأجناد إلى عمر بما في أيديهم من المواريث، فجمع الناس واستشارهم وقال لهم: قد بدا لي أن أطوف على المسلمين في بلدانهم لأنظر في آثارهم، فأشيروا علي، وفي القوم كعب الأحبار، وفي تلك السنة أسلم، فقال كعب: يا أمير المؤمنين، بأيها تريد أن تبدأ؟ قال: بالعراق. قال: فلا تفعل فإن الشر عشرة أجزاء، تسعة منها بالمشرق وجزء بالمغرب، والخير عشرة أجزاء، تسعة بالمغرب وجزء بالمشرق، وبها قرن الشيطان وكل داء عضال. فقال علي: يا أمير المؤمنين، إن الكوفة للهجرة بعد الهجرة، وإنها لقبة الإسلام، ليأتينها يوم لا يبقى مسلم إلا وحن إليها لينتصرن بأهلها كما انتصر بالحجارة من قوم لوط. فقال عمر: (إن مواريث أهل عمواس قد ضاعت، أبدأ بالشام فأقسم المواريث وأقيم لهم ما في نفسي ثم أرجع فأتقلب في البلاد وأبدي إليهم أمري).
فسار عن المدينة واستخلف عليها علي بن أبي طالب واتخذ أيلة طريقاً، فلما دنا منها ركب بعيره وعلى رحله فرو مقلوب وأعطى غلامه مركبه، فلما تلقاه الناس قالوا: أين أمير المؤمنين؟ قال: أمامكم، يعني نفسه، فساروا أمامهم، وانتهى هو إلى أيلة فنزلها، وقيل للمتلقين: قد دخل أمير المؤمنين إليها ونزلها، فرجعوا إليه. وأعطى عمر الأسقف بها قميصه، وقد تخرق ظهره، ليغسله ويرقعه، ففعل، وأخذه ولبسه، وخاط له الأسقف قميصاً غيره فلم يأخذه. فلما قدم الشام قسم الأرزاق، وسمى الشواتي والصوائف، وسد فروج الشام ومسالحها، وأخذ يدورها، واستعمل عبد الله بن قيس على السواحل من كل كورة، واستعمل معاوية، وعزل شرحبيل بن حسنة وقام يعذره في الناس وقال: (إني لم أعزله عن سخطة ولكني أريد رجلاً أقوى من رجل). واستعمل عمرو بن عتبة على الأهراء. وقسم مواريث أهل عمواس، فورث بعض الورثة من بعض، وأخرجها إلى الأحياء من ورثة كل منهم. وخرج الحارث بن هشام في سبعين من أهل بيته فلم يرجع منهم إلا أربعة. ورجع عمر إلى المدينة في ذي القعدة.
ولما كان بالشام وحضرت الصلاة قال له الناس: لو أمرت بلالاً فأذن، فأمره فأذن، فما بقي أحد أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، وبلال يؤذن إلا وبكى حتى بل لحيته، وعمر أشدهم بكاء، وبكى من لم يدركه ببكائهم ولذكرهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

قال الواقدي: إن الرهاء وحران والرقة فتحت هذه السنة على يد عياض ابن غنم، وإن عين الوردة، وهي رأس عين، فتحت فيها على يد عمير ابن سعد، وقد تقدم شرح فتحها.
في هذه السنة في ذي الحجة حول عمر المقام إلى موضعه اليوم، وكأن ملصقاً بالبيت. وفيها استقضى عمر شريح بن الحارث الكندي على الكوفة، وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي. وكانت الولاة على الأمصار الولاة الذين كانوا عليها في السنة قبلها. وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب.
ثم دخلت سنة تسع عشرةقال بعضهم: إن فتح جلولاء والمدائن كان في هذه السنة على يد سعد، وكذلك فتح الجزيرة، وقد تقدم ذكر فتح الجميع والخلاف فيه. وقيل: فيها كان فتح قيسارية على يد معاوية، وقيل: سنة عشرين، وقد تقدم أيضاً ذكر ذلك سنة ست عشرة.
وفي هذه السنة سالت حرة ليلى، وهي قريب المدينة، ناراً، فأمر عمر بالصدقة، فتصدق الناس فانطفأت.
وحج بالناس هذه السنة عمر. وكان عماله فيها من تقدم ذكرهم. وفيها قتل صفوان بن المعطل السلمي، وقيل: بل مات سنة ستين آخر خلافة معاوية. وفيها مات أبي بن كعب، وقيل: بل مات سنة عشرين، وقيل: اثنتين وعشرين، وقيل: اثنتين وثلاثين، والله أعلم.
ثم دخلت سنة عشرين

ذكر فتح مصر
قيل: في هذه السنة فتحت مصر في قول بعضهم على يد عمرو بن العاص والإسكندرية أيضاً، وقيل: فتحت الإسكندرية سنة خمس وعشرين، وقيل: فتحت مصر سنة ست عشرة في ربيع الأول، وبالجملة فينبغي أن يكون فتحها قبل عام الرمادة لأن عمرو بن العاص حمل الطعام في بحر القلزم من مصر إلى المدينة، والله أعلم، وقيل غير ذلك.
وأما فتحها فإنه لما فتح عمر بيت المقدس وأقام به أياماً وأمضى عمرو ابن العاص إلى مصر وأتبعه الزبير بن العوام مدداً له فأخذ المسلمون باب اليون وساروا إلى مصر فلقيهم هناك أبو مريم، جاثليق مصر، ومعه الأسقف بعثه المقوقس لمنع بلادهم، فلما نزل بهم عمرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجلونا حتى نعذر إليكم وترون رأيكم بعد، وليبرز إلي أبو مريم وأبو مريام، فكفوا، وخرجا إليه، فدعاهما إلى الإسلام أو الجزية، وأخبرهما بوصية النبي، صلى الله عليه وسلم، بأهل مصر بسبب هاجر أم إسماعيل، عليه السلام، فقالوا: قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء، آمنا حتى نرجع إليك. فقال عمرو: مثلي لا يخدع ولكني أؤجلكما ثلاثاً لتنظرا. فقالا: زدنا، فزادهما يوماً، فرجعا إلى المقوقس فهم. فأبى أرطبون أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم، فقال لأهل مصر: أما نحن فسنجهد أن ندفع عنكم. فلم يفجأ عمراً إلا البيات وهو على عدة، فلقوه فقتل أرطبون وكثير ممن معه وانهزم الباقون، وسار عمرو والزبير إلى عين الشمس وبها جمعهم، وبعث إلى فرما أبرهة بن الصباح، وبعث عوف بن مالك إلى الإسكندرية، فنزل عليها. قيل: وكان الإسكندر وفرما أخوين، ونزل عمرو بعين الشمس، فقال أهل مصر لملكهم: ما تريد إلى قتال قوم هزموا كسرى وقيصر وغلبوهم على بلادهم! فلا تعرض لهم ولا تعرضنا لهم - وذلك في اليوم الرابع - فأبى وناهدوهم وقاتلوهم.
فلما التقى المسلمون والمقوقس بعين الشمس واقتتلوا جال المسلمون، فذمرهم عمرو، فقال له رجل من اليمن: إنا لم نخلق من حديد. فقال له عمرو: اسكت، إنما أنت كلب. قال: فأنت أمير الكلاب. فنادى عمرو بأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فأجابوه، فقال: تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين، فتقدموا وفيهم أبو بردة وأبو برزة وتبعهم الناس، وفتح الله على المسلمين وظفروا وهزموا المشركين، فارتقى الزبير بن العوام سورها، فلما أحسوا فتحوا الباب لعمرو وخرجوا إليه مصالحين، فقبل منهم، ونزل الزبير عليهم عنوةً حتى خرج على عمرو من الباب معهم، فاعتقدوا صلحاً بعد ما أشرفوا على الهلكة، فأجروا ما أخذوا عنوةً مجرى الصلح فصاروا ذمة، وأجروا من دخل في صلحهم من الروم والنوبة مجرى أهل مصر، ومن اختار الذهاب فهو آمنٌ حتى يبلغ مأمنه.

واجتمعت خيول المسلمين بمصر وبنوا الفسطاط ونزلوه، وجاء أبو مريم وأبو مريام إلى عمرو وطلبا منه السبايا التي أصيبت بعد المعركة، فطردهما، فقالا: كل شيء أصبتموه منذ فارقناكم إلى أن رجعنا إليكم ففي ذمة. فقال عمرو لهما: أتغيرون علينا وتكونون في ذمة؟ قالا: نعم. فقسم عمرو ابنالعاص السبي على الناس وتفرق في بلدان العرب. وبعث بالأخماس إلى عمر بن الخطاب ومعها وفد، فأخبروا عمر بن الخطاب بحالهم كله وبما قال أبو مريم، فرد عمر عليهم سبي من لم يقاتلهم في تلك الأيام الأربعة وترك سبي من قاتلهم فردوهم.
وحضرت القبط باب عمرو، وبلغ عمراً أنهم يقولون: ما أرث العرب وأهون عليهم أنفسهم! ما رأينا مثلنا دان لهم. فخاف أن يطمعهم ذلك فأمر بجزر فطبخت ودعا أمراء الأجناد فأعلموا أصحابهم فحضروا عنده وأكلوا أكلاً عربياً، انتشلوا وحسوا وهم في العباء بغير سلاح، فازداد طمعهم، وأمر المسلمين أن يحضروا الغد في ثياب أهل مصر وأحذيتهم، ففعلوا، وأذن لأهل مصر فرأوا شيئاً غير ما رأوا بالأمس، وقام عليهم القوام بألوان مصر فأكلوا أكل أهل مصر، فارتاب القبط، وبعث أيضاً إلى المسلمين: تسلحوا للعرض غداً، وغدا على العرض، وأذن لهم فعرضهم عليهم وقال لهم: علمت حالم حين رأيتم اقتصاد العرب فخشيت أن تهلكوا فأحببت أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم وذلك عيشهم وقد كلبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أن ما رأيتم في اليوم الثالث غير تارك عيش اليوم الثاني وراجعٌ إلى عيش اليوم الأول.
فتفرقوا وهم يقولون: لقد رمتكم العرب برجلهم. وبلغ عمر ذلك فقال: (والله إن حربه للينة ما لها سطوة ولا سورة كسورات الحروب من غيره).
ثم إن عمراً سار إلى الإسكندرية، وكان من بين الإسكندرية والفسطاط من الروم والقبط قد تجمعوا له وقالوا: نغزوه قبل أن يغزونا ويروم الإسكندرية. فالتقوا واقتتلوا، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار حتى بلغ الإسكندرية، فوجد أهلها معدين لقتاله. فأرسل المقوقس إلى عمرو يسأله الهدنة إلى مدة، فلم يجبه إلى ذلك وقال: لقد لقينا ملككم الأكبر هرقل فكان منه ما بلغكم. فقال المقوقس لأصحابه: صدق فنحن أولى بالإذعان. فأغلظوا له في القول وامتنعوا، فقاتلهم المسلمون وحصروهم ثلاثة أشهر، وفتحها عمرو عنوةً وغنم ما فيها وجعلهم ذمةً.
وقيل: إن المقوقس صالح عمراً على اثني عشر ألف دينار على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج ويقيم من أراد القيام وعلى أن يفرض على كل حالم من القبط دينارين، وجعل فيها عمرو جنداً.
ولما فتحت مصر غزوا النوبة فرجع المسلمون بالجراحات وذهاب الحدق لجودة رميهم، فسموهم رماة الحدق.
فلما ولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر أيام عثمان صالحهم على هدية عدة رؤوس في كل سنة يؤدونهم إلى المسلمين، ويهدي إليهم المسلمون كل سنة طعاماً مسمى وكسوة، وأمضى ذلك الصلح عثمان ومن بعده من ولاة الأمور.
وقيل: إن المسلمين لما انتهوا إلى بلهيب وقد بلغت سباياهم إلى اليمن أرسل صاحبهم إلى عمرو: إنني كنت أخرج الجزية إلى من هو أبغض إلي منكم: فارس والروم، فإن أحببت الجزية على أن ترد ما سبيتم من أرضي فعلت. فكتب عمرو إلى عمر يستأذنه في ذلك، ورفعوا الحرب إلى أن يرد كتاب عمر. فورد الجواب من عمر: لعمري جزية قائمة أحب إلينا من غنيمة تقسم ثم كأنها لم تكن، وأما السبي فإن أعطاك ملكهم الجزية على أن تخيروا من في أيديكم منهم بين الإسلام ودين قومه فمن اختار الإسلام فهو من المسلمين ومن اختار دين قومه فضع عليه الجزية، وأما من تفرق في البلدان فإنا لا نقدر على ردهم. فعرض عمرو ذلك على صاحب الإسكندرية، فأجاب إليه، فجموا السبي واجتمعت النصارى وخيروهم واحداً واحداً، فمن اختار المسلمين كبروا، ومن اختار النصارى نخروا وصار عليه جزية حتى فرغوا.
وكان من السبي أبو مريم عبد الله بن عبد الرحمن، فاختار الإسلام وصار عريف زبيد. وكان ملوك بني أمية يقولون: إن مصر دخلت عنوةً وأهلها عبيدنا نزيد عليهم كيف شئنا. ولم يكن كذلك.
ذكر عدة حوداث

وفي هذه السنة، أعني سنة عشرين، غزا أبو بحرية عبد الله بن قيس أرض الروم، وهو أول من دخلها فيما قيل، وقيل: أول من دخلها ميسرة بن مسروق العبسي فسبى وغنم. وقيل: فيها عزل عمر قدامة بن مظعون من البحرين وحده في شرب الخمر واستعمل أبا بكرة على البحرين واليمامة. وفيها تزوج عمر فاطمة بنت الوليد أم عبد الرحمن بن الحارث بن هشام. وفيها عزل عمر سعد بن أبي وقاص عن الكوفة لشكايتهم إياه وقالوا: لا يحسن يصلي. وفيها قسم عمر خيبر بين المسلمين وأجلى اليهود عنها وقسم وادي القرى. وفيها أجلى يهود نجران إلى الكوفة. وفيها بعث عمر علقمة بن مجزز المدلجي إلى الحبشة، وكانت تطرقت بلاد الإسلام فأصيب المسلمون، فجعل عمر على نفسه أن لا يحمل في البحر أحداً أبداً، يعني للغزو، وقيل سنة إحدى وثلاثين.
مجزز بجيم وزايين الأولى مكسورة مشددة.
وفيها مات أسيد بن حضير في شعبان؛ أسيد تصغير أسد. وحضير بالحاء المهملة المضمومة، والضاد المفتوحة، والراء. وفيها مات هرقل وملك قسطنطين. وفيها ماتت زينب بنت جحش ونزل في قبرها أسامة بن زيد وابن أخيها محمد بن عبد الله بن جحش.
وحج بالناس عمر. وكان عماله على الأمصار من كان قبل هذه السنة إلا من ذكرت أنه عزله. وكان قضاته فيها القضاة في السنة قبلها.
وفيها مات عياض بن غنم، وهو الذي فتح الجزيرة، وهو أول من أجاز الدرب إلى الروم. وفيها مات بلال بن رباح مؤذن النبي، صلى الله عليه وسلم، بدمشق، وقيل بحلب. وفيها مات أنيس بن مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وله ولأبيه ولجده صحبة، وقتل أبوه في غزوة الرجيع. وفيها مات سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي، شهد فتح خيبر، وكان فاضلاً، وكان على حمص حتى مات، وقيل: مات سنة تسع عشرة، وقيل: سنة إحدى وعشرين وعمره أربعون سنة. وفيها مات أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. وفيها ماتت صفية بنت عبد المطلب عمة النبي، صلى الله عليه وسلم. وفيها قتل المظهر بن رافع الأنصاري، قدم من الشام ومعه من علوج الشام، فلما كان بخيبر أمرهم قومٌ من اليهود فقتلوهم، فأجلاهم عمر.
المظهر بضم الميم، وفتح الظاء المعجمة، وتشديد الهاء، وآخره راء مهملة.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين

ذكر وقعة نهاوند
قيل: فيها كانت وقعة نهاوند، وقيل: كانت سنة ثماني عشرة، وقيل سنة تسع عشرة.
وكان الذي هيج أمر نهاوند أن المسلمين ما خلصوا جند العلاء من بلاد فارس وفتحوا الأهواز كاتبت الفرس ملكهم وهو بمرو فحركوه، وكاتب الملوك بين الباب والسند وخراسان وحلوان، فتحركوا وتكاتبوا واجتمعوا إلى نهاوند، ولما وصلها أوائلهم بلغ سعداً الخبر، فكت إلى عمر، وثار بسعدٍ قومٌ سعوا به وألبوا عليه، ولم يشغلهم ما نزل بالناس؛ وكان ممن تحرك في أمره الجراح بن سنان الأسدي في نفر. فقال لهم عمر إن الدليل على ما عندكم من الشر نهوضكم في هذا الأمر وقد استعد لكم من استعد: والله ما يمنعني ما نزل بكم من النظر فيما لديكم. فبعث عمر محمد بن مسلمة والناس في الاستعداد للفرس، وكان محمد صاحب العمال يقتص آثار من شكا زمان عمر، فطاف بسعدٍ على أهل الكوفة يسأل عنه، فما سأل عنه جماعةً إلا أثنوا عليه خيراً سوى من مالأ الجراح الأسدي، فإنهم سكتوا ولم يقولوا سوءاً ولا يسوغ لهم ويتعمدون ترك الثناء، حتى انتهى إلى بني عبس فسألهم، فقال أسامة بن قتادة: اللهم إنه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في القضية، ولا يغزو في السرية. فقال سعد: اللهم إن كان قالها رياءً وكذباً وسمعة فأعم بصره، وأكثر عياله، وعرضه لمضلات الفتن. فعمي، واجتمع عنده عشر بنات، وكان يسمع بالمرأة فيأتيها حتى يحبسها، فإذا عثر عليه قال: دعوة سعد الرجل المبارك. ثم دعا سعد على أولئك النفر فقال: اللهم إن كانوا خرجوا أشراً وبطراً ورياء فاجهد بلادهم. فجهدوا، وقطع الجراح بالسيوف يوم بادر الحسن بن علي، رضي الله عنه، ليغتاله بساباط، وشدخ قبيصة بالحجارة، وقتل أربد بالوجء ونعال السيوف.
وقال سعد: إني أول رجلٍ أهراق دماً من المشركين، ولقد جمع لي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبويه وما جمعهما لأحدٍ قبلي، ولقد رأيتني خمس الإسلام، وبنو أسد تزعم أني لا أحسن أصلي وأن الصيد يلهيني.

وخرج محمد بسعد وبهم معه إلى المدينة فقدموا على عمر فأخبروه الخبر فقال: كيف تصلي يا سعد؟ قال: أطيل الأوليين وأحذف الأخريين. فقال: هكذا الظن بك يا أبا إسحاق ولولا الاحتياط لكان سبيلهم بيناً. وقال: من خليفتك يا سعد على الكوفة؟ فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان. فأقره. فكان سبب نهاوند وبعثها زمن سعد.
وأما الوقعة فهي زمن عبد الله، فنفرت الأعاجم بكتاب يزدجرد فاجتمعوا بنهاوند على الفيرزان في خمسين ألفاً ومائة ألف مقاتل، وكان سعد كتب إلى عمر بالخبر ثم شافهه به لما قدم عليه وقال له: إن أهل الكوفة يستأذنونك في الانسياح وأن يبدؤوهم بالشدة ليكون أهيب لهم على عدوهم.
فجمع عمر الناس واستشارهم، وقال لهم: هذا يوم له ما بعده، وقد هممت أن أسير فيمن قبلي ومن قدرت عليه فأنزل منزلاً وسطاً بين هذين المصرين ثم أستنفرهم وأكون لهم ردءاً حتى يفتح الله عليهم ويقضي ما أحب، فإن فتح الله عليهم صبيتهم في بلدانهم.
فقال طلحة بن عبيد الله: يا أمير المؤمنين قد أحكمتك الأمور، وعجمتك البلابل، واحتنكتك التجارب، وأنت وشأنك ورأيك، لا ننبو في يديك ولا نكل عليك، إليه هذا الأمر، فمرنا نطع وادعنا نجب واحملنا نركب وقدنا ننقد، فإنك ولي هذا الأمر، وقد بلوت وجربت واحتربت فلم ينكشف شيء من عواقب قضاء الله لك إلا عن خيارهم. ثم جلس.
فعاد عمر، فقام عثمان فقال: أرى يا أمير المؤمنين أن تكتب إلى أهل الشام فيسيروا من شامهم، وإلى أهل اليمن فيسيروا من يمنهم، ثم تسير أنت بأهل الحرمين إلى الكوفة والبصرة فتلقى جمع المشركين بجمع المسلمين، فإنك إذا سرت قل عندك ما قد تكاثر من عدد القوم وكنت أعز عزاً وأكثر. يا أمير المؤمنين، إنك لا تستبقي بعد نفسك من العرب باقية، ولا تمتع من الدنيا بعزيز، ولا تلوذ منها بحريز. إن هذا يوم له ما بعده من الأيام، فاشهده برأيك وأعوانك ولا تغب عنه. وجلس.
فعاد عمر فقام إليه علي بن أبي طالب فقال: أما بعد يا أمير المؤمنين فإنك إن أشخصت أهل الشام من شامهم سارت الروم إلى ذراريهم، وإن أشخصت أهل اليمن من يمنهم سارت الحبشة إلى ذراريهم، وإنك إن شخصت من هذه الأرض انتقضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها حتى يكون ما تدع وراءك أهم إليك مما بين يديك من العورات والغيالات، أقرر هؤلاء في أمصارهم واكتب إلى أهل البصرة فليتفرقوا ثلاث فرق: فرقة في حرمهم وذراريهم، وفرقة في أهل عهدهم حتى لا ينتقضوا، ولتسر فرقةٌ إلى إخوانهم بالكوفة مدداً لهم؛ إن الأعاجم إن ينظروا إليك غداً قالوا: هذا أمير المؤمنين أمير العرب وأصلها، فكان ذلك أشد لكلبهم عليك. وأما ما ذكرت من مسير القوم فإن الله هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكره، وأما عددهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة ولكن بالنصر.
فقال عمر: هذا هو الرأي، كنت أحب أن أتابع عليه، فأشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر.
وقيل: إن طلحة وعثمان وغيرهما اشاروا عليه بالمقام. والله أعلم.
فلما قال عمر: أشيروا علي برجل أوليه ذلك الثغر وليكن عراقياً، قالوا: أنت أعلم بجندك وقد وفدوا عليك ورأيتهم وكلمتهم. فقال: والله لأولين أمرهم رجلاً يكون أول الأسنة إذا لقيها غداً. فقيل: من هو؟ فقال: هو النعمان بن مقرن المزني. فقالوا: هو لها.
وكان النعمان يومئذ معه جمعٌ من أهل الكوفة قد اقتحموا جنديسابور والسوس. فكتب إليه عمر يأمره بالمسير إلى ماه لتجتمع الجيوش عليه، فإذا اجتمعوا إليه سار بهم إلى الفيرزان ومن معه. وقيل بل كان النعمان بكسكر. فكتب إلى عمر يسأله أن يعزله ويبعثه إلى جيش من المسلمين. فكتب إليه عمر يأمره بنهاوند، فسار.
فكتب عمر إلى عبد الله بن عبد الله بن عتبان ليستنفر الناس مع النعمان كذا وكاذ ويجتمعوا عليه بماه. فندب الناس، فكان أسرعهم إلى ذلك الروادف ليبلوا في الدين وليدركوا حظاً.

فخرج الناس منها وعليهم حذيفة بن اليمان ومعه نعيم بن مقرن حتى قدموا على النعمان، وتقدم عمر إلى الجند الذين كانوا بالأهواز ليشغلوا فارساً عن المسلمين وعليهم المقترب الأسود بن ربيعة وحرملة بن مريطة ووزر بن كليب، فأقاموا بتخوم أصبهان وفارس وقطعوا أمداد فارس عن أهل نهاوند، واجتمع الناس على النعمان وفيهم حذيفة بن اليمان وابن عمر وجرير بن عبد الله البجلي والمغيرة ابن شعبة وغيرهم، فأرسل النعمان طليحة بن خويلد وعمرو بن معد يكرب وعمرو ابن ثني، وهو ابن أبي سلمى، ليأتوه بخبرهم. وخرجوا وساروا يوماً إلى الليل، فرجع إليه عمرو بن ثني، فقالوا: ما رجعك؟ فقال: لم أكن في أرض العجم، وقتلت أرضٌ جاهلها وقتل أرضاً عالمها. ومضى طليحة وعمرو ابن معد يكرب. فلما كان آخر الليل رجع عمرو، فقالوا: ما رجعك؟ قال: سرنا يوماً وليلةً ولم نر شيئاً وخفت أن يؤخذ علينا الطريق فرجعت. ومضى طليحة ولم يحفل بهما حتى انتهى إلى نهاوند. وبين موضع المسلمين الذي هم به ونهاوند بضعة وعشرون فرسخاً. فقال الناس: ارتد طليحة الثانية. فعلم كلام القوم ورجع. فلما رأوه كبروا. فقال: ما شأنكم؟ فأعلموه بالذي خافوا عليه. فقال: والله لو لم يكن دين إلا العربي ما كنت لأجزر العجم الطماطم هذه العرب العاربة. فأعلم النعمان أنه ليس بينهم وبين نهاوند شيء يكرهه ولا أحد.
فرحل النعمان وعبى أصحابه، وهم ثلاثون ألفاً، فجعل على مقدمته نعيم ابن مقرن وعلى مجنبتيه حذيفة بن اليمان وسويد بن مقرن، وعلى المجردة القعقاع بن عمرو، وعلى الساقة مجاشع بن مسعود. وقد توافت إليه أمداد المدينة فيهم المغيرة بن شعبة، فانتهوا إلى إسبيذهان والفرس وقوف على تعبيتهم، وأميرهم الفيرزان وعلى مجنبتيه الزردق وبهمن جاذويه الذي جعل مكان ذي الحاجب. وقد توافى إليهم الأمداد بنهاوند كل من غاب عن القادسية ليسوا بدونهم، فلما رآهم النعمان كبر وكبر معه الناس فتزلزلت الأعاجم وحطت العرب الأثقال وضرب فسطاط النعمان، فابتدر أشراف الكوفة فضربوه، منهم: حذيفة بن اليمان، وعقبة بن عامر، والمغيرة بن شعبة، وبشير ابن الخصاصية، وحنظلة الكاتب، وجرير بن عبد الله البجلي، والأشعث ابن قيس، وسعيد بن قيس الهمداني، ووائل بن حجر وغيرهم. فلم ير بناء فسطاط بالعراق كهؤلاء.
وأنشب النعمان القتال بعد حط الأثقال، فاقتتلوا يوم الأربعاء ويوم الخميس والحرب بينهم سجالٌ وإنهم انجحروا في خنادقهم يوم الجمعة، وحصرهم المسلمون وأقاموا عليهم ما شاء الله، والفرس بالخيار لا يخرجون إلا إذا أرادوا الخروج، فخاف المسلمون أن يطول أمرهم، حتى إذا كان ذات يوم في جمعة من الجمع تجمع أهل الرأي من المسلمين وقالوا: نراهم علينا بالخيار. وأتوا النعمان في ذلك فوافوه وهو يروي في الذي رووا فيه فأخبروه، فبعث إلى من بقي من أهل النجدات والرأي فأحضرهم، فتكلم النعمان فقال: (قد ترون المشركين واعتصامهم بخنادقهم ومدنهم وأنهم لا يخرجون إلينا إلا إذا شاؤوا ولا يقدر المسلمون على إخراجهم، وقد ترون الذي فيه المسلمون من التضايق، فما الرأي الذي به نستخرجهم إلى المناجزة وترك التطويل؟).
فتكلم عمرو بن ثني، وكان أكبر الناس، وكانوا يتكلمون على الأسنان، فقال: التحصن عليهم أشد من المطاولة عليكم فدعهم وقاتل من أتاك منهم. فردوا عليه رأيه.
وتكلم عمرو بن معد يكرب فقال: ناهدهم وكابرهم ولا تخفهم، فردوا جميعاً عليه رأيه وقالوا: إنما يناطح بنا الجدران وهي أعوان علينا.
وقال طليحة: أرى أن نبعث خيلاً لينشبوا القتال فإذا اختلطوا بهم رجعوا إلينا استطراداً فإنا لم نستطرد لهم في طول ما قاتلناهم، فإذا رأوا ذلك طمعوا وخرجوا فقاتلناهم حتى يقضي الله فيهم وفينا ما أحب.

فأمر النعمان القعقاع بن عمرو، وكان على المجردة، فأنشب القتال، فأخرجهم من خنادقهم كأنهم جبال حديد قد تواثقوا أن لا يفروا، وقد قرن بعضهم بعضاً كل سبعة في قران وألقوا حسك الحديد خلفهم لئلا ينهزموا. فلما خرجوا نكص ثم نكص واغتنمها الأعاجم ففعلوا كما ظن طليحة وقالوا: هي هي، فلم يبق أحد إلا من يقوم على الأبواب وركبوهم. ولحق القعقاع بالناس، وانقطع الفرس عن حصنهم بعض الانقطاع والمسلمون على تعبية في يوم جمعة صدر النهار، وقد عهد النعمان إلى الناس عهده وأمرهم أن يلزموا الأرض ولا يقاتلوا حتى يأذن لهم، ففعلوا واستتروا بالحجف من الرمي، واقبل المشركون عليهم يرمونهم حتى أفشوا فيهم الجراح.
وشكا بعض الناس وقالوا للنعمان: ألا ترى ما نحن فيه فما تنتظر بهم؟ ائذن للناس في قتالهم. فقال: رويداً رويداً. وانتظر النعمان بالقتال أحب الساعات كانت إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يلقى العدو فيها وذلك عند الزوال، فلما كان قريباً من تلك الساعة ركب فرسه وسار في الناس ووقف على كل راية يذكرهم ويحرضهم ويمنيهم الظفر، وقال لم: إني مكبر ثلاثاً فإذا كبرت الثالثة فإني حامل فاحملوا، وإن قتلت فالأمير بعدي حذيفة، فإن قتل ففلان، حتى عد سبعة آخرهم المغيرة. ثم قال: اللهم أعزز دينك، وانصر عبادك، واجعل النعمان أول شهيد اليوم على إعزاز دينك ونصر عبادك.
وقيل: بل قال: اللهم إني أسألك أن تقر عيني اليوم بفتح يكون فيه عز الإسلام واقبضني شهيداً. فبكى الناس. ورجع إلى موقفه فكبر ثلاثاً والناس سامعون مطيعون مستعدون للقتال، وحمل النعمان والناس معه وانقضت رايته انقضاض العقاب والنعمان معلم ببياض القباء والقلنسوة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع السامعون بوقعة كانت أشد منها، وما كان يسمع إلا وقع الحديد، وصبر لهم المسلمون صبراً عظيماً، وانهزم الأعاجم وقتل منهم ما بين الزوال والإعتام ما طبق أرض المعركة دماً يزلق الناس والدواب.
فلما أقر الله عين النعمان بالفتح استجاب له فقتل شهيداً، زلق به فرسه فصرع. وقيل: بل رمي بسهم في خاصرته فقتله، فسجاه أخوه نعيم بثوب، وأخذ الراية قبل أن تقع وناولها حذيفة، فأخذها وتقدم إلى موضع النعمان وترك نعيماً مكانه. وقال لهم المغيرة: اكتموا مصاب أميركم حتى ننتظر ما يصنع الله فينا وفيهم لئلا يهن الناس. فاقتتلوا. فلما أظلم الليل عليهم انهزم المشركون وذهبوا ولزمهم المسلمون وعمي عليهم قصدهم فتركوه وأخذوا نحو اللهب الذي كانوا دونه بأسبيذهان فوقعوا فيه، فكان الواحد منهم يقع فيقع عليه ستة بعضهم على بعضهم في قياد واحد فيقتلون جميعاً، وجعل يعقرهم حسك الحديد، فمات منهم في اللهب مائة ألف أو يزيدون سوى من قتل في المعركة.
وقيل: قتل في اللهب ثمانون ألفاً وفي المعركة ثلاثون ألفاً سوى من قتل في الطلب، ولم يفلت إلا الشريد، ونجا الفيرزان من بين الصرعى فهرب نحو همذان، فاتبعه نعيم بن مقرن، وقدم القعقاع قدامه فأدركه بثنية همذان، وهي إذ ذاك مشحونة من بغال وحمير موقرة عسلاً، فحبسه الدواب على أجله. فلما لم يجد طريقاً نزل عن دابته وصعد في الجبل، فتبعه القعقاع راجلاً فأدركه فقتله المسلمون على الثنية وقالوا: إن لله جنوداً من عسل. واستاقوا العسل وما معه من الأحمال. وسميت الثنية ثنية العسل.
ودخل المشركون همذان والمسلمون في آثارهم فنزلوا عليها وأخذوا ما حولها. فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم، ولما تم الظفر للمسلمين جعلوا يسألون عن أميرهم النعمان بن مقرن، فقال لهم أخوه معقل: هذا أميركم قد أقر الله عينه بالفتح وختم له بالشهادة فاتبعوا حذيفة.

ودخل المسلمون نهاوند يوم الوقعة بعد الهزيمة واحتووا ما فيها من الأمتعة وغيرها وما حولها من الأسلاب والأثاث وجمعوا إلى صاحب الأقباض السائب ابن الأقرع. وانتظر من بنهاوند ما يأتيهم من إخوانهم الذين على همذان مع القعقاع ونعيم، فأتاهم الهربذ صاحب بيت النار على أمان، فأبلغ حذيفة، فقال: أتؤمنني ومن شئت على أن أخرج لك ذخيرةً لكسرى تركت عندي لنوائب الزمان؟ قال: نعم. فأحضر جوهراً نفيساً في سفطين، فأرسلهما مع الأخماس إلى عمر. وكان حذيفة قد نفل منها وأرسل الباقي مع السائب ابن الأقرع الثقفي، وكان كاتباً حاسباً، أرسله عمر إليهم وقال له: إن فتح الله عليكم فاقسم على المسلمين فيئهم وخذ الخمس، وإن هلك هذا الجيش فاذهب فبطن الأرض خيرٌ من ظهرها.
قال السائب: فلما فتح الله على المسلمين وأحضر الفارسي السفطين اللذين أودعهما عنده النخير جان فإذا فيهما اللؤلؤ والزبرجد والياقوت، فلما فرغت من القسمة احتملتهما معي وقدمت على عمر، وكان قد قدر الوقعة فبات يتململ ويخرج ويتوقع الأخبار، فبينما رجل من المسلمين قد خرج في بعض حوائجه فرجع إلى المدينة ليلاً، فمر به راكب فسأله: من أين أقبل؟ فقال: من نهاوند، وأخبره بالفتح وقتل النعمان، فلما أصبح الرجل تحدث بهذا بعد ثلاث من الوقعة، فبلغ الخبر عمر فسأله فأخبره، فقال ذلك بريد الجن.
ثم قدم البريد بعد ذلك فأخبره بما يسره ولم يخبره بقتل النعمان: قال السائب: فخرج عمر من الغد يتوقع الأخبار. قال: فأتيته فقال: ما وراءك؟ فقلت: خيراً يا أمير المؤمنين. فتح الله عليك وأعظم الفتح، واستشهد النعمان بن مقرن. فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم بكى فنشج حتى بانت فروع كتفيه فوق كتده. قال: فلما رأيت ذلك وما لقي قلت: يا أمير المؤمنين ما أصيب بعده رجل يعرف وجهه. فقال: أولئك المستضعفون من المسلمين ولكن الذي أكرمهم بالشهادة يعرف وجوههم وأنسابهم، وما يصنع أولئك بمعرفة عمر! ثم أخبرته بالسفطين فقال: أدخلهما بيت المال حتى ننظر في شأنهما والحق بجندك. قال: ففعلت وخرجت سريعاً إلى الكوفة.
وبات عمر، فلما أصبح بعث في أثري رسولاً فما أدركني حتى دخلت الكوفة فأنخت بعيري وأناخ بعيره على عرقوبي بعيري فقال: الحق بأمير المؤمنين، فقد بعثني في طلبك فلم أقدر عليك إلا الآن. قال: فركبت معه فقدمت على عمر، فلما رآني قال: إلي وما لي وللسائب! قلت: ولماذا؟ قال: ويحك والله ما هو إلا أن نمت الليلة التي خرجت فيها فباتت الملائكة تستحبني إلى ذينك السفطين يشتعلان ناراً فيقولون: لنكوينك بهما، فأقول: إني سأقسمهما بين المسلمين. فخذهما عني فبعهما في أعطية المسلمين وأرزاقهم. قال: فخرجت بهما فوضعتهما في مسجد الكوفة، فابتاعهما مني عمرو بن حريث المخزومي بألفي ألف درهم، ثم خرج بهما إلى أرض الأعاجم فباعهما بأربعة آلاف ألف، فما زال أكثر أهل الكوفة مالاً ثم قسم ثمنهما بين الغانمين فنال كل فارس أربعة آلاف درهم من ثمن السفطين. وكان سهم الفارس بنهاوند ستة آلاف وسهم الراجل ألفين. وقد نفل حذيفة من الأخماس من شاء من أهل البلاء يوم نهاوند وكان المسلمون ثلاثين ألفاً.
ولما قدم سبي نهاوند المدينة جعل أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة لا يلقى منهم صغيراً إلا مسح رأسه وبكى وقال له: أكل عمر كبدي! وكان من نهاوند فأسرته الروم وأسره المسلمون من الروم فنسب إلى حيث سبي.
وكان المسلمون يسمون فتح نهاوند فتح الفتوح لأنه لم يكن للفرس بعده اجتماع. وملك المسلمون بلادهم.
ذكر فتح الدينور والصميرة وغيرهمالما انصرف أبو موسى من نهاوند، وكان قد جاء مدداً على بعث أهل البصرة، فمر بالدينور فأقام عليها خمسة أيام وصالحه أهلها على الجزية ومضى فصالحه أهل سيروان على مثل صلحهم، وبعث السائب بن الأقرع الثقفي إلى الصميرة مدينة مهرجان قذق ففتحها صلحاً، وقيل: إنه وجه السائب من الأهواز ففتح ولاية مهرجان قذق.
ذكر فتح همذان والماهين وغيرهما

لما انهزم المشركون دخل من سلم منهم همذان وحاصرهم نعيم بن مقرن والقعقاع بن عمرو. فلما رأى ذلك خسروشنوم استأمنهم وقبل منهم الجزية على أن يضمن منهم همذان وسدستبى وألا يؤتى المسلمون منهم، فأجابوه إلى ذلك وآمنوه ومن معه من الفرس، وأقبل كل من كان هرب، وبلغ الخبر الماهين بفتح همذان وملكها ونزول نعيم والقعقاع بها، فاقتدوا بخسروشنوم فراسلوا حذيفة فأجابهم إلى ما طلبوا وأجمعوا على القبول وأجمعوا على إتيان حذيفة؛ فخدعهم دينار وهو أحد أولئك الملوك، وكان أشرفهم قارن، وقال: لا تقلوهم في جمالكم، ففعلوا، وخالفهم فأتاهم في الديباج والحلي فأعطاهم حاجتهم، واحتمل المسلمون ما أرادوا وعاقدوه عليهم، ولم يجد الآخرون بداً من متابعته والدخول في أمره، فقيل ماه دينار لذلك. وكان النعمان بن مقرن قد عاقد بهراذان على مثل ذلك فنسب إلى بهراذان، وكان قد وكل النسير بن ثور بقلعة قد لجأ إليها قوم فجاهدهم فافتتحها فنسبت إلى النسير وهو تصغير نسر.
قيل: دخل دينار الكوفة أيام معاوية فقال: يا أهل الكوفة إنكم أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس فبقيتم كذلك زمن عمر وعثمان، ثم تغيرتم وفشت فيكم خصالٌ أربع: بخل، وخب، وغدر، وضيق، ولم يكن فيكم واحدة منهن، وقد رمقتكم فرأيت ذلك في مولديكم فعلمت من أين أتيتم، فإذا الخب من قبل النبط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبل الأهواز.
ذكر دخول المسلمين بلاد الأعاجموفيها أمر عمر المسلمين بالانسياح في بلاد العجم وطلب الفرس أين كانوا، وقيل: كان ذلك سنة ثماني عشرة، وقد تقدم ذكره. وسبب ذلك ما كان من يزدجرد وبعثه الجنود مرة بعد أخرى، فوجه الأمراء من أهل البصرة وأهل الكوفة بعد فتح نهاوند، وكان بين عمل سعد وعمل عمار أميران، أحدهما عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وفي زمانه كانت وقعة نهاوند، والآخر زياد بن حنظلة حليف بني عبد بن قصي، وفي زمانه أمر بالانسياح وعزل عبد الله وبعث في وجه آخر، وولي زياد، وكان من المهاجرين، فعمل قليلاً وألح في الاستعفاء فأعفاه عمر وولى عمار بن ياسر وكتب معه إلى أهل الكوفة: إني بعثت عماراً أميراً وجعلت معه ابن مسعود معلماً. وكان ابن مسعود بحمص فسيره عمر إلى الكوفة، وأمد أهل البصرة بعبد الله بن عبد الله، وأمد أهل الكوفة بأبي موسى. وكان أهل همذان قد كفروا بعد الصلح، فبعث عمر لواءً إلى نعيم بن مقرن وأمره بقصد همذان، فإذا فتحها سار إلى ما وراء ذلك إلى خراسان، وبعث عتبة بن فرقد وبكير بن عبد الله إلى أذربيجان، يدخل أحدهما من حلوان والآخر من الموصل، وبعث عبد الله بن عبد الله إلى أصبهان، وأمر عمر سراقة على البصرة.
ذكر فتح أصبهانوفيها بعث عمر إليها عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وكان شجاعاً من أشراف الصحابة ومن وجوه الأنصار حليف لبني الحبلى، وأمده بأبي موسى، وجعل على مجنبتيه عبد الله بن ورقاء الرياحي وعصمة بن عبد الله، فساروا إلى نهاوند، ورجع حذيفة إلى عمله على ما سقت دجلة وما وراءها، وسار عبد الله فيمن كان معه ومن تبعه من جند النعمان بنهاوند، نحو أصبهان، وعلى جندها الاستندار، وعلى مقدمته شهربراز بن جاذويه، شيخ كبير، في جمع عظيم، فالتقى المسلمون ومقدمة المشركين برستاق لأصبهان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودعا الشيخ إلى البراز، فبرز له عبد الله بن ورقاء الرياحي فقتله، وانهزم أهل أصبهان. فسمي ذلك الرستاق رستاق الشيخ إلى اليوم، وصالحهم الاستندار على رستاق الشيخ، وهو أول رستاق أخذ من أصبهان.
ثم سار عبد الله إلى مدينة جي وهي مدينة أصبهان، فانتهى إليها والملك بأصبهان الفاذوسفان، فنزل بالناس على جي وحاصرها وقاتلها، ثم صالحه الفاذوسفان على أصبهان وأن على من أقام الجزية وأقام على ماله وأن يجزى من أخذت أرضه عنوة مجراهم ومن أبى وذهب كان لكم أرضه، وقدم أبو موسى على عبد الله من ناحية الأهواز وقد صالح، فخرج القوم من جي ودخلوا في الذمة إلا ثلاثين رجلاً من أهل أصبهان لحقوا بكرمان. ودخل عبد الله وأبو موسى جياً، وكتب بذلك إلى عمر. فقدم كتاب عمر إلى عبد الله: أن سر حتى تقدم على سهيل بن عدي فتكون معه على قتال من بكرمان، فسار واستخلف على أصبهان السائب بن الأقرع، ولحق بسهيل قبل أن يصل إلى كرمان.

قيل: وقد روي عن معقل بن يسار أن الأمير كان على الجند الذين فتحوا أصبهان النعمان بن مقرن، وأن عمر أرسله من المدينة إلى أصبهان وكتب إلى أهل الكوفة أن يمدوه، فسار إلى أصبهان وبها ملكها ذو الحاجبين، فأرسل إليه المغيرة بن شعبة وعاد من عنده فقاتلهم وقتل النعمان ووقع ذو الحاجبين عن دابته فانشقت بطنه وانهزم أصحابه. قال معقل: فأتيت النعمان وهو صريع فجعلت عليه علماً. فلما انهزم المشركون أتيته، ومعي إداوة فيها ماء، فغسلت عن وجهه التراب فقال: ما فعل الناس؟ فقلت: فتح الله عليهم. قال: الحمد لله! ومات.
هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن النعمان قتل بنهاوند وافتتح أبو موسى قم وقاشان.
ذكر ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفةوفيها ولى عمر عمار بن ياسر على الكوفة، وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن حنيف على مساحة الأرض. فشكا أهل الكوفة عماراً، فاستعفى عمار عمر بن الخطاب، فولى عمر جبير بن مطعم الكوفة، وقال له: لا تذكره لأحد. فسمع المغيرة بن شعبة أن عمر خلا بجبير، فأرسل امرأته إلى امرأة جبير بن مطعم لتعرض عليها طعام السفر، ففعلت، فقالت: نعم ما حييتني به. فلما علم المغيرة جاء إلى عمر فقال له: بارك الله لك فيمن وليت! وأخبره الخبر فعزله وولى المغيرة بن شعبة الكوفة، فلم يزل عليها حتى مات عمر. وقيل: إن عماراً عزل سنة اثنتين وعشرين وولي بعده أبو موسى. وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثقيل: وفيها بعث عمرو بن العاص عقبة بن نافع الفهري فافتتح زويلة صلحاً، وما بين برقة وزويلة سلم للمسلمين. وقيل: سنة عشرين.
كان الأمراء في هذه السنة: عمير بن سعد على دمشق وحوران وحمص وقنسرين والجزيرة؛ ومعاوية على البلقاء والأردن وفلسطين والسواحل وأنطاكية وقلقية ومعرة مصرين، وعند ذلك صالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة على قلقية وأنطاكية ومعرة مصرين.
وفيها ولد الحسن البصري وعامر الشعبي.
وحج بالناس عمر بن الخطاب، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت. وكان عامله على مكة والطائف واليمن واليمامة ومصر والبصرة من كان قبل ذلك، وكان على الكوفة عمار بن ياسر، وشريح على القضاء.
وفيها بعث عثمان بن أبي العاص بعثاً إلى ساحل فارس فحاربوهم ومعهم الجارود العبدي، فقتل الجارود بعقبة تعرف بعقبة الجارود، وقيل: بل قتل بنهاوند مع النعمان.
وفيها مات حممة، وهو من الصحابة، بأصبهان بعد فتحها، والعلاء بن الحضرمي وهو على البحرين، فاستعمل عمر مكانه أبا هريرة. وفيها مات خالد ابن الوليد بحمص وأوصى إلى عمر بن الخطاب، وقيل: مات سنة ثلاث وعشرين، وقيل: مات بالمدينة. والأول أصح.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرينفي هذه السنة افتتحت أذربيجان، وقيل: سنة ثماني عشرة بعد فتح همذان والري وجرجان، فنبدأ بذكر فتح هذه البلاد ثم نذكر أذربيجان بعدها.
ذكر فتح همذان ثانياً
قد تقدم مسير نعيم بن مقرن إلى همذان وفتحها على يده ويد القعقاع بن عمرو، فلما رجعا عنها كفر أهلها مع خسروشنوم، فلما قدم عهد نعيم من عند عمر ودع حذيفة وسار يريد همذان وعاد حذيفة إلى الكوفة، فخرج نعيم ابن مقرن على تعبية إلى همذان فاستولى على بلادها جميعاً وحاصرها، فلما رأى أهلها ذلك سألوا الصلح ففعل وقبل منهم الجزية. وقد قيل: إن فتحها كان سنة أربع وعشرين بعد مقتل عمر بستة أشهر. فبينما نعيم بهمذان في اثني عشر ألفاً من الجند كاتب الديلم وأهل الري وأذربيجان، إذ خرج موتاً في الديلم حتى نزل بواج روذ، وأقبل الزينبي أبو الفرخان في أهل الري، وأقبل أسفنديار أخو رستم في أهل أذربيجان، فاجتمعوا وتحصن منهم أمراء المسالح وبعثوا إلى نعيم بالخبر، فاستخلف يزيد بن قيس الهمذاني وخرج إليهم، فاقتتلوا بواج روذ قتالاً شديداً، وكانت وقعة عظيمة تعدل بنهاوند، فانهزم الفرس هزيمة قبيحة وقتل منهم مقتلة كبيرة لا يحصون، فأرسلوا إلى عمر مبشراً، فأمر عمر نعيماً بقصد الري وقتال من بها والمقام بها بعد فتحها.

وقيل: إن المغيرة بن شعبة، وهو عامل على الكوفة، أرسل جرير بن عبد الله إلى همذان، فقاتله أهلها وأصيبت عينه بسهم، فقال: احتسبها عند الله الذي زين بها وجهي ونور لي ما شاء ثم سلبنيها في سبيله. ثم فتحها على مثل صلح نهاوند وغلب على أرضها قسراً. وقيل: كان فتحها على يد المغيرة بنفسه، وكان جرير على مقدمته. وقيل: فتحها قرظة بن كعب الأنصاري.
ذكر فتح قزوين وزنجانلما سير المغيرة جريراً إلى همذان ففتحها سير البراء بن عازب في جيش إلى قزوين وأمره أن يسير إليها فإن فتحها الله على يده غزا الديلم منها، وإنما كان مغزاهم قبل من دستبى. فسار البراء حتى أتى أبهر، وهو حصن، فقاتلوه ثم طلبوا الأمان فآمنهم وصالحهم، ثم غزا قزوين، فلما بلغ أهلها الخبر أرسلوا إلى الديلم يطلبونن النصرة فوعدوهم، ووصل المسلمون إليهم فخرجوا لقتالهم والديلم وقوفٌ على الجبل لا يمدون يداً، فلما رأى أهل قزوين ذلك طلبوا الصلح على صلح أبهر؛ وقال بعض المسلمين:
قد علم الديلم إذ تحارب ... حين أتى في جيشه ابن عازب
بأن ظن المشركين كاذب ... فكم قطعنا في دجى الغياهب
من جبلٍ وعرٍ ومن سباسب
وغزا البراء الديلم حتى أدوا إليه الإتاوة، وغزا جيلان والببر والطيلسان، وفتح زنجان عنوةً. ولما ولي الوليد بن عقبة الكوفة غزا الديلم وأذربيجان وجيلان وموقان والببر والطيلسان ثم انصرف.
ذكر فتح الريثم انصرف نعيم من واج روذ حتى قدم الري وخرج الزينبي أبو الفرخان من الري فلقي نعيماً طالباً الصلح ومسالماً له ومخالفاً لملك الري، وهو سياوخش ابن مهران بن بهرام جوبين، فاستمد سياوخش أهل دنباوند وطبرستان وقومس وجرجان فأمدوه خوفاً من المسلمين، فالتقوا مع المسلمين في سفح جبل الري إلى جنب مدينتها، فاقتتلوا به، وكان الزينبي قال لنعيم: إن القوم كثير وأنت في قلة فباعث معي خيلاً أدخل بهم مدينتهم من مدخل لا يشعرون به، وناهدهم أنت فإنهم إذا خرجنا عليهم لم يثبتوا لك. فبعث معه نعيم خيلاً من الليل عليهم ابن أخيه المنذر بن عمرو، فأدخلهم الزينبي المدينة ولا يشعر القوم وبيتهم نعيم بياتاً فشغلهم عن مدينتهم، فاقتتلوا وصبروا له حتى سمعوا التكبير من ورائهم فانهزموا فقتلوا مقتلة عدوا بالقصب فيها، وأفاء الله على المسلمين بالري نحواً مما في المدائن وصالحه الزينبي على الري، ومرزبة عليهم نعيمٌ، فلم يزل شرف الري في أهل الزينبي، وأخرب نعيم مدينتهم، وهي التي يقال لها العتيقة، وأمر الزينبي فبنى مدينة الري الحدثي. وكتب نعيم إلى عمر بالفتح وأنفذ الأخماس، وكان البشير المضارب العجلي، وراسله المصمغان في الصلح على شيء يفتدي به منه على دنباوند، فأجابه إلى ذلك.
وقد قيل: إن فتح الري كان على يد قرظة بن كعب، وقيل: كان فتحها سنة إحدى وعشرين. وقيل غير ذلك. والله أعلم.
ذكر فتح قومس وجرجان وطبرستانلما أرسل نعيم إلى عمر بالبشارة وأخماس الري كتب إليه عمر يأمره بإرسال أخيه سويد بن مقرن ومعه هند بن عمرو الجملي وغيره إلى قومس، فسار سويد نحو قومس، فلم يقم له أحد، فأخذها سلماً وعسكر بها، وكاتبه الذين لجأوا إلى طبرستان منهم والذين أخذوا المفاوز، فأجابهم إلى الصلح والجزية وكتب لهم بذلك. ثم سار سويد إلى جرجان فعكسر بها ببسطام وكتب إلى ملك جرجان، وهو زرنان صول، وكاتبه زرنان صول وصالحه على جرجان على الجزية وكافية حرب جرجان وأن يعينه سويد إن غلب، فأجابه سويد إلى ذلك، وتلقاه زرنان صول قبل دخوله جرجان فدخل معه وعسكر بها حتى جبى الخراج وسمى فروجها فسدها بترك دهستان، ورفع الجزية عمن قام بمنعها وأخذها من الباقين.
وقيل: كان فتحها سنة ثماني عشرة. وقيل: سنة ثلاثين زمن عثمان.
قيل: وأرسل الأصبهبذ صاحب طبرستان سويداً في الصلح على أن يتوادعا ويجعل له شيئاً على غير نصر ولا معونة على أحد، فقبل ذلك منه وكتب له كتاباً.
ذكر فتح طرابلس الغرب وبرقة

في هذه السنة سار عمرو بن العاص من مصر إلى برقة فصالحه أهلها على الجزية وأن يبيعوا من أبنائهم من أرادوا بيعه. فلما فرغ من برقة سار إلى طرابلس الغرب فحاصرها شهراً فلم يظفر بها، وكان قد نزل شرقيها، فخرج رجل من بني مدلج يتصد في سبعة نفر وسلكوا غرب المدينة، فلما رجعوا اشتد عليهم الحر فأخذوا على جانب البحر، ولم يكن السور متصلاً بالبحر، وكانت سفن الروم في مرساها مقابل بيوتهم، فرأى المدلجي وأصحابه مسلكاً بين البحر والبلد فدخلوا منه وكبروا، فلم يكن للروم ملجأ إلا سفنهم لأنهم ظنوا أن المسلمين قد دخلوا البلد، ونظر عمرو ومن معه فرأى السيوف في المدينة وسمعوا الصياح، فأقبل بجيشه حتى دخل عليهم البلد، فلم يفلت الروم إلا بما خف معهم في مراكبهم.
وكان أهل حصن سبرة قد تحصنوا لما نزل عمرو على طرابلس، فلما امتنعوا عليه بطرابلس أمنوا واطمأنوا، فلما فتحت طرابلس جند عمرو عسكراً كثيفاً وسيره إلى سبرة، فصبحوها وقد فتح أهلها الباب وأخرجوا مواشيهم لتسرح لأنهم لم يكن بلغهم خبر طرابلس، فوقع المسلمون عليهم ودخلوا البلد مكابرةً وغنموا ما فيه وعادوا إلى عمرو. ثم سار عمرو بن العاص إلى برقة وبها لواتة، وهم من البربر.
وكان سبب مسير البربر إليها وإلى غيرها من الغرب أنهم كانوا بنواحي فلسطين من الشام وكان ملكهم جالوت، فلما قتل سارت البرابر وطلبوا الغرب حتى إذا انتهوا إلى لوبية ومراقية، وهما كورتان من كور مصر الغربية، تفرقوا فسارت زناتة ومغيلة، وهما قبيلتان من البربر، إلى الغرب فسكنوا الجبال، وسكنت لواتة أرض برقة، وتعرف قديماً بأنطابلس، وانتشروا فيها حتى بلغوا السوس، ونزلت هوارة مدينة لبدة، ونزلت نفوسة إلى مدينة سبرة وجلا من كان بها من الروم لذلك، وقام الأفارق، وهم خدم الروم، على صلح يؤدونه إلى من غلب على بلادهم. وسار عمرو بن العاص، كما ذكرنا، فصالحه أهلها على ثلاثة عشر ألف دينار يؤدونها جزيةً وشرطوا أن يبيعوا من أرادوا من أولادهم في جزيتهم.
ذكر فتح أذربيجانقال: فلما افتتح نعيم الري بعث سماك بن خرشة الأنصاري - وليس بأبي دجانة - ممداً لبكير بن عبد الله بأذربيجان، أمره عمر بذلك، فسار سماك نحو بكير، وكان بكير حيث بعث إليها سار حتى إذا طلع بجبال جرميذان طلع عليهم اسفنديار بن فرخزاذ مهزوماً من واجٍ روذ، فكان أول قتال لقيه بأذربيجان، فاقتتلوا، فهزم الفرس وأخذ بكير اسفنديار أسيراً. فقال له اسفنديار: الصلح أحب إليك أم الحرب؟ قال: بل الصلح. قال: أمسكني عندك فإن أهل أذربيجان إن لم أصالح عليهم أو أجىء إليهم لم يقوموا لك وجلوا إلى الجبال التي حولها، ومن كان على التحصن تحصن إلى يوم ما. فأمسكه عنده، وصارت البلاد إليه إلا ما كان من حصن. وقدم عليه سماك بن خرشة ممداً واسفنديار في إساره وقد افتتح ما يليه، وافتتح عتبة بن فرقد ما يليه.
وكتب بكير إلى عمر يستأذنه في التقدم، فأذن له أن يتقدم نحو الباب، وأن يستخلف على ما افتتحه، فاستخلف عليه عتبة بن فرقد، فأقر عتبة سماك بن خرشة على عمل بكير الذي كان افتتحه، وجمع عمر أذربيجان كلها لعتبة بن فرقد.
وكان بهرام بن فرخزاذ قصد طريق عتبة وأقام به في عسكره حتى قدم عليه عتبة، فاقتتلوا، فانهزم بهرام، فلما بلغ خبره اسفنديار وهو في الأسر عند بكير قال: الآن تم الصلح وطفئت الحرب. فصالحه وأجاب إلى ذلك أهل أذربيجان كلهم، وعادت أذربيجان سلماً. وكتب بذلك بكير وعتبة إلى عمر وبعثا بما خمسا. ولما جمع عمر لعتبة عمل بكير كتب لأهل أذربيجان كتاباً بالصلح.
وفيها قدم عتبة على عمر بالخبيص الذي كان أهدي له.
وكان عمر يأخذ عماله بموافاة الموسم كل سنة يمنعهم بذلك عن الظلم.
ذكر فتح الباب

في هذه السنة كان فتح الباب، وكان عمر رد أبا موسى إلى البصرة وبعث سراقة بن عمرو، وكان يدعى ذا النور، إلى الباب، وجعل على مقدمته عبد الرحمن بن ربيعة، وكان أيضاً يدعى ذا النور، وجعل على إحدى مجنبتيه حذيفة بن أسيد الغفاري، وعلى الأخرى بكير بن عبد الله الليثي، وكان بكير سبقه إلى الباب. وجعل على المقاسم سلمان بن ربيعة الباهلي. فسار سراقة، فلما خرج من أذربيجان قدم بكير إلى الباب، وكان عمر قد أمد سراقة بحبيب بن مسلمة من الجزيرة وجعل مكانه زياد بن حنظلة. ولما أطل عبد الرحمن بن ربيعة على الباب، والملك بها يومئذ شهريار، وهو من ولد شهريار الذي أفسد بني إسرائيل وأغزى الشام بهم، فكاتبه شهريار واستأمنه على أن يأتيه، ففعل، فأتاه فقال: إني بإزاء عدو كلب وأمم مختلفة ليست لهم أحساب ولا ينبغي لذي الحسب والعقل أن يعينهم على ذي الحسب ولست من البقبج ولا الأرمن في شيء، وإنكم قد غلبتم على بلادي وأمتي فأنا منكم ويدي مع أيديكم وجزيتي إليكم والنصر لكم والقيام بما تحبون فلا تسوموننا الجزية فتوهنونا بعدوكم.
قال: فسيره عبد الرحمن إلى سراقة، فلقيه بمثل ذلك، فقبل منه سراقة ذلك، وقال: لابد من الجزية ممن يقيم ولا يحارب العدو. فأجابه إلى ذلك. وكتب سراقة في ذلك إلى عمر فأجازه عمرو واستحسنه.
ذكر فتح موقانلما فرغ سراقة من الباب أرسل بكير بن عبد الله وحبيب بن مسلمة وحذيفة ابن أسيد وسلمان بن ربيعة إلى أهل تلك الجبال المحيطة بأرمينية، فوجه بكيراً إلى موقان، وحبيباً إلى تفليس، وحذيفة إلى جبال اللان، وسلمان إلى الوجه الآخر. وكتب سراقة بالفتح إلى عمر وبإرسال هؤلاء النفر إلى الجهات المذكورة، فأتى عمر أمرٌ لم يظن أن يستتم له بغير مؤونة لأنه فرج عظيم وجند عظيم، فلما استوسقوا واستحلوا الإسلام وعدله مات سراقة، واستخلف عبد الرحمن بن ربيعة. ولم يفتتح أحد من أولئك القواد إلا بكير فإنه فض أهل موقان ثم تراجعوا على الجزية عن كل حالم دينار.
وكان فتحها سنة إحدى وعشرين. ولما بلغ عمر موت سراقة واستخلافه عبد الرحمن بن ربيعة أقر عبد الرحمن على فرج الباب وأمره بغزو الترك.
أسيد في هذه التراجم بفتح الهمزة وكسر السين. والنور في الموضعين بالراء.
ذكر غزو التركلما أمر عمر عبد الرحمن بن ربيعة بغزو الترك خرج بالناس حتى قطع الباب. فقال له شهريار: ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد غزو بلنجر والترك. قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون الباب. قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى حتى نغزوهم في ديارهم، وبالله إن معنا أقواماً لو يأذن لهم أميرنا في الإمعان لبلغت بهم الروم. قال: وما هم؟ قال: اقوام صحبوا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ودخلوا في هذا الأمر بنية، ولا يزال هذا الأمر لهم دائماً ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم وحتى يلفتوا عن حالهم. فغزا بلنجر غزاة في زمن عمر فقالوا: ما اجترأ علينا إلا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهربوا منه وتحصنوا، فرجع بالغنيمة والظفر، وقد بلغت خيله البيضاء على رأس مائتي فرسخ من بلنجر، وعادوا ولم يقتل منهم أحد.
ثم غزاهم أيام عثمان بن عفان غزوات فظفر كما كان يظفر، حتى تبدل أهل الكوفة لاستعمال عثمان من كان ارتد استصلاحاً لهم فزادهم فساداً، فغزا عبد الرحمن بن ربيعة بعد ذلك فتذامرت الترك واجتمعوا في الغياض فرمى رجلٌ منهم رجلاً من المسلمين على غرة فقتله وهرب عنه أصحابه، فخرجوا عليه عند ذلك فاقتتلوا واشتد قتالهم ونادى منادٍ من الجو: صبراً عبد الرحمن وموعدكم الجنة! فقاتل عبد الرحمن حتى قتل وانكشف أصحابه وأخذ الراية سلمان بن ربيعة أخوه فقاتل بها، ونادى منادٍ من الجو: صبراً آل سلمان! فقال سلمان: أو ترى جزعاً؟ وخرج سلمان بالناس معه أبو هريرة الدوسي على جيلان فقطعوها إلى جرجان، ولم يمنعهم ذلك من إنجاء جسد عبد الرحمن، فهم يستسقون به إلى الآن.
ذكر تعديل الفتوح بين أهل الكوفة والبصرةفي هذه السنة عدل عمر فتوح أهل الكوفة والبصرة بينهم.

وسبب ذلك أن عمر بن سراقة كتب إلى عمر بن الخطاب يذكر له كرة أهل البصرة وعجز خراجهم عنهم، وسأله أن يزيدهم أحد الماهين أو ماسبذان، وبلغ أهل الكوفة ذلك وقالوا لعمار بن ياسر، وكان على الكوفة أميراً سنة وبعض أخرى: اكتب إلى عمر أن رامهرمز وإيذج لنا دونهم لم يعينونا عليهما ولم يلحقونا حتى افتتحناهما، فلم يفعل عمار، فقال له عطارد: أيها العبد الأجدع فعلام تدع فيئنا؟ فقال: لقد سببت أحب أذني إليذ فأبغضوه لذلك. واختصم أهل الكوفة وأهل البصرة، وادعى أهل البصرة قرى افتتحها أبو موسى دون أصبهان أيام أمد به عمر بن الخطاب أهل الكوفة. فقال لهم أهل الكوفة: أتيتمونا مدداً وقد افتتحنا البلاد فأنشبناكم في المغانم، والذمة ذمتنا والأرض أرضنا. فقال عمر: صدقوا. فقال أهل الأيام والقادسية ممن سكن البصرة: فلتعطونا نصيبنا مما نحن شركاؤهم فيه من سوادهم وحواشيهم. فأعطاهم عمر مائة دينار برضا أهل الكوفة أخذها من شهد الأيام والقادسية.
ولما ولي معاوية، وكان هو الذي جند قنسرين من أتاه من أهل العراقين أيام علي، وإنما كان قنسرين رستاقاً من رساتيق حمص، فأخذ لهم معاوية حين ولي بنصيبهم ومن فتوح العراق وأذربيجان والموصل والباب لأنه من فتوح أهل الكوفة. وكان أهل الجزيرة والموصل يومئذ ناقلة، انتقل إليها كل من نزل بهجرته من أهل البلدين أيام علي، فأعطاهم معاوية من ذلك نصيباً.
وكفر أهل أرمينية أيام معاوية، وقد أمر حبيب بن مسلمة على الباب، وحبيب يومئذ بجرزان، وكات أهل تفليس وتلك الجبال من جرزان فاستجابوا له.
ذكر عزل عمار بن ياسر عن الكوفة

وولاية أبي موسى والمغيرة بن شعبة
وفيها عمل عمر بن الخطاب عمار بن ياسر عن الكوفة واستعمل أبا موسى. وسبب ذلك أن أهل الكوفة شكوه وقالوا له: إنه لا يحتمل ما هو فيه وإنه ليس بأمين، ونزا به أهل الكوفة. فدعاه عمر، فخرج معه وفدٌ يريد أنهم معه، فكانوا أشد عليه ممن تخلف عنه، وقالوا: إنه غير كافٍ وعالم بالسياسة ولا يدري على ما استعملته. وكان منهم سعد بن مسعود الثقفي، عم المختار، وجرير بن عبد الله، فسعيا به، فعزله عمر. وقال عمر لعمار: أساءك العزل؟ قال: ما سرني حين استعملت ولقد ساءني حين عزلت. فقال له: قد علمت ما أنت بصاحب عمل ولكني تأولت: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمةً ونجعلهم الوارثين) القصص: 5.
ثم أقبل عمر على أهل الكوفة فقال: من تريدون؟ قالوا: أبا موسى. فأمره عليهم بعد عمار. فأقام عليهم سنة فباع غلامه العلف، فشكاه الوليد ابن عبد شمس وجماعة معه وقالوا: إن غلامه يتجر في جسرنا، فعزله عنهم وصرفه إلى البصرة. وصرف عمر ابن سراقة إلى الجزيرة.
وخلا عمر في ناحية المسجد فنام، فأتاه المغيرة بن شعبة فحرسه حتى استيقظ، فقال: ما فعلت هذا يا أمير المؤمنين إلا من عظيم. فقال: وأي شيء أعظم من مائة ألف لا يرضون عن أمير ولا يرضى عنهم أمير؟ وأحيطت الكوفة حين اختطت على مائة ألف مقاتل. وأتاه أصحابه فقالوا: ما شأنك؟ فقال: إن أهل الكوفة قد عضلوني. واستشارهم فيمن يوليه. وقال: ما تقولون في تولية رجل ضعيف مسلم أو رجل قوي مسدد؟ فقال المغيرة: أما الضعيف المسلم فإن إسلامه لنفسه وضعفه عليك، وأما القوي المسدد فإن سداده لنفسه وقوته للمسلمين. فولى المغيرة الكوفة، فبقي عليها حتى مات عمر، وذلك نحو سنتين وزيادة. وقال له حين بعثه: يا مغيرة ليأمنك الأبرار وليخفك الفجار. ثم أراد عمر أن يبعث سعداً على عمل المغيرة فقتل عمر قبل ذلك فأوصى به.
ذكر فتح خراسانوفي هذه السنة غزا الأحنف بن قيس خراسان، في قول بعضهم. وقيل: سنة ثماني عشرة.
وسبب ذلك أن يزدجرد لما سار إلى الري بعد هزيمة أهل جلولاء وانتهى إليها وعليها أبان جاذويه وثب عليه فأخذه. فقال يزدجرد: يا أبان تغدرني! قال: لا ولكن قد تركت ملكك فصار في يد غيرك فأحببت أن أكتتب على ما كان لي من شيء. وأخذ خاتم يزدجرد واكتتب الصكاك وسجل السلاجت بكل ما أعجبه ثم ختم عليها ورد الخاتم، ثم أتى بعد سعداً فرد عليه كل شيء في كتابه.

وسار يزدجرد من الري إلى أصبهان، ثم منها إلى كرمان والنار معه، ثم قصد خراسان فأتى مرو فنزلها وبنى للنار بيتاً واطمأن وأمن من أن يؤتى، ودان له من بقي من الأعاجم. وكاتب الهرمزان وأثار أهل فارس، فنكثوا، وأثار أهل الجبال والفيرزان، فنكثوا، فأذن عمر للمسلمين فدخلوا بلاد الفرس، فسار الأحنف إلى خراسان فدخلها من الطبسين فافتتح هراة عنوةً واستخلف عليها صحار بن فلان العبدي، ثم سار نحو مرو الشاهجان فأرسل إلى نيسابور مطرف ابن عبد الله بن الشخير وإلى سرخس الحرث بن حسان، فلما دنا الأحنف من مرو الشاهجان خرج منها يزدجرد إلى مرو الروذ حتى نزلها، ونزل الأحنف مرو الشاهجان، وكتب يزدجرد، وهو بمر الروذ، إلى خاقان وغلى ملك الصغد وإلى ملك الصين يستمدهم. وخرج الأحنف من مرو الشاهجان واستخلف عليها حارثة بن النعمان الباهلي بعد ما لحقت به أمداد أهل الكوفة، وسار نحو مرو الروذ.
فلما سمع يزدجرد سار عنها إلى بلخ ونزل الأحنف مرو الروذ. وقدم أهل الكوفة إلى يزدجرد واتبعهم الأحنف، فالتقى أهل الكوفة ويزدجرد ببلخ، فانهزم يزدجرد وعبر النهر ولحق الأحنف بأهل الكوفة، وقد فتح الله عليهم؛ فبلخ من فتوحهم.
وتتابع أهل خراسان من هرب وشذ على الصلح فيما بين نيسابور إلى طخارستان، وعاد الأحنف إلى مرو الروذ فنزلها، واستخلف على طخارستان ربعي بن عامر، وكتب الأحنف إلى عمر بالفتح فقال عمر: وددت أن بيننا وبينها بحراً من نار. فقال علي: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: لأن أهلها سينفضون منها ثلاث مرات فيجتاحون في الثالثة، فكان ذلك بأهلها أحب إلي من أن يكون بالمسلمين.
وكتب عمر إلى الأحنف أن يقتصر على ما دون النهر ولا يجوزه.
ولما عبر يزدجرد النهر مهزوماً أنجده خاقان في الترك وأهل فرغانة والصغد، فرجع يزدجرد وخاقان إلى خراسان فنزلا بلخ، ورجع أهل الكوفة إلى الأحنف بمرو الروذ، ونزل المشركون عليه بمرو أيضاً.
وكان الأحنف لما بلغه خبر عبور يزدجرد وخاقان النهر إليه خرج ليلاً يتسمع هل يسمع برأي ينتفع به، فمر برجلين ينقيان علفاً وأحدهما يقول لصاحبه: لو أسندنا الأمير إلى هذا الجبل فكان النهر بيننا وبين عدونا خندقاً وكان الجبل في ظهورنا فلا يأتونا من خلفنا وكان قتالنا من وجه واحد رجوت أن ينصرنا الله. فرجع، فلما أصبح جمع الناس ورحل بهم إلى سفح الجبل، وكان معه من أهل البصرة عشرة آلاف ومن أهل الكوفة نحو منهم، وأقبلت الترك ومن معها فنزلت وجعلوا يغادرونهم القتال ويراوحونهم وفي الليل يتنحون عنهم.
فخرج الأحنف ليلةً طليعةً لأصحابه حتى إذا كان قريباً من عسكر خاقان وقف، فلما كان وجه الصبح خرج فارس من الترك بطوقه فضرب بطبله ثم وقف من العسكر موقفاً يقفه مثله، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه الأحنف فقتله وأخذ طوق التركي ووقف، فخرج آخر من الترك ففعل فعل صاحبه، فحمل عليه الأحنف فتقاتلا فطعنه فقتله وأخذ طوقه ووقف، ثم خرج الثالث من الترك ففعل فعل الرجلين، فحمل عليه الأحنف فقتله، ثم انصرف الأحنف إلى عسكره.
وكانت عادة الترك أنهم لا يخرجون حتى يخرج ثلاثة من فرسانهم أكفاء كلهم يضرب بطبله ثم يخرجون بعد خروج الثالث. فلما خرجوا تلك الليلة بعد الثالث فأتوا على فرسانهم مقتلين تشاءم خاقان وتطير فقال: قد طال مقامنا وقد أصيب فرساننا، ما لنا في قتال هؤلاء القوم خير؛ فرجعوا. وارتفع النهار للمسلمين ولم يروا منهم أحداً، وأتاهم الخبر بانصراف خاقان والترك إلى بلخ، وقد كان يزدجرد ترك خاقان مقابل المسلمين بمرو الروذ وانصرف إلى مرو الشاهجان، فتحصن حارثة بن النعمان ومن معه، فحصرهم واستخرج خزائنه من موضعها وخاقان مقيم ببلخ. فقال المسلمون للأحنف: ما ترى في اتباعهم؟ فقال: أقيموا بمكانكم ودعوهم.

فلما جمع يزدجرد خزائنه، وكانت كبيرة عظيمة، وأراد أن يلحق بخاقان قال له أهل فارس: أي شيء تريد أن تصنع؟ قال: أريد اللحاق بخاقان فأكون معه أو بالصين. قالوا له: إن هذا رأي سوء، ارجعبنا إلى هؤلاء القوم فنصالحهم فإنهم أوفياء وهم أهل دين، وإن عدواً يلينا في بلادنا أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده ولا دين لهم ولا ندري ما وفاؤهم. فأبى عليهم. فقالوا: دع خزائننا نردها إلى بلادنا ومن يلينا لا تخرجها من بلادنا. فأبى، فاعتزلوه وقاتلوه فهزموه وأخذوا الخزائن واستولوا عليها وانهزم منهم ولحق بخاقان وعبر النهر من بلخ إلى فرغانة، وأقام يزدجرد ببلد الترك، فلم يزل مقيماً زمن عمر كله إلى أن كفر أهل خراسان زمن عثمان وكان يكاتبهم ويكاتبونه. وسيرد ذكر ذلك في موضعه.
ثم أقبل أهل فارس بعد رحيل يزدجرد على الأحنف فصالحوه ودفعوا إليه تلك الخزائن والأموال وتراجعوا إلى بلدانهم وأموالهم على أفضل ما كانوا عليه زمن الأكاسرة، واغتبطوا بملك المسلمين. وأصاب الفارس يوم يزدجرد كسهمه يوم القادسية. وسار الأحنف إلى بلخ فنزلها بعد عبور خاقان النهر منها ونزل أهل الكوفة في كورها الأربع. ثم رجع إلى مرو الروذ فنزلها وكتب بفتح خاقان ويزدجرد إلى عمر.
ولما عبر خاقان ويزدجرد النهر لقيا رسول يزدجرد الذي أرسله إلى ملك الصين فأخبرهما أن ملك الصين قال له: صف لي هؤلاء القوم الذين أخرجوكم من بلادكم فإني أراك تذكر قلةً منهم وكثرة منكم ولا يبلغ أمثال هؤلاء القليل منكم مع كثرتكم إلا بخير عندهم وشر فيكم. فقلت: سلني عما أحببت. فقال: أيوفون بالعهد؟ قلت: نعم. قال: وما يقولون لكم قبل القتال. قال قلت: يدعوننا إلى واحدة من ثلاث: إما دينهم، فإن أجبنا أجرونا مجراهم، أو الجزية والمنعة، أو المنابذة.؟ قال: فكيف طاعتهم أمراءهم؟ قلت: أطوع قوم وأرشدهم. قال: فما يحلون وما يحرمون؟ فأخبرته. قال: هل يحلون ما حرم عليهم أو يحرمون ما حلل لهم؟ قلت: لا. قال: فإن هؤلاء القوم لا يزالون على ظفر حتى يحلوا حرامهم أو يحرموا حلالهم. ثم قال: أخبرني عن لباسهم؟ فأخبرته، وعن مطاياهم؟ فقلت: الخيل العراب، ووصفتها له. فقال: نعمت الحصون! ووصفت له الإبل وبروكها وقيامها بحملها. فقال: هذه صفة دواب طوال الأعناق. وكتب معه إلى يزدجرد: إنه لم يمنعني أن أبعث إليك بجند أوله بمرو وآخره بالصين الجهالة بما يحق علي، ولكن هؤلاء القوم الذين وصف لي رسولك لو يحاولون الجبال لهدوها ولو خلا لهم سربهم أزالوني ما داموا على ما وصف، فسالمهم وارض منهم بالمساكنة ولا تهيجهم ما لم يهيجوك. فأقام يزدجرد بفرغانة ومعه آل كسرى بعهد من خاقان.
ولما وصل خبر الفتح إلى عمر بن الخطاب جمع الناس، وخطبهم وقرأ عليهم كتاب الفتح وحمد الله في خطبته على إنجاز وعده ثم قال: ألا وإن ملك المجوسية قد هلك فليسوا يملكون من بلادهم شبراً يضر بمسلم. ألا وإن الله قد أورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأبناءهم لينظر كيف تعملون، فلا تبدلوا فيستبدل الله بكم غيركم، فإني لا أخاف على هذه الأمة أن تؤتى إلا من قبلكم.
وقيل: إن فتح خراسان كان زمن عثمان، وسيرد هناك.
ذكر فتح شهرزور والصامغانلما استعمل عمر عزرة بن قيس على حلوان حاول فتح شهرزور، فلم يقدر عليها، فغزاها عتبة بن فرقد ففتحها بعد قتال على مثل صلح حلوان، فكانت العقارب تصيب الرجل من المسلمين فيموت. وصالح أهل الصامغان وداراباذ على الجزية والخراج على أن لا يقتلوا ولا يسبوا ولا يمنعوا طريقاً يسلكونه، وقتل خلقاً كثيراً من الأكراد. وكتب إلى عمر: إن فتحوحي قد بلغت أذربيجان. فولاه إياها وولى هرثمة بن عرفجة الموصل. ولم تزل شهرزور وأعمالها مضمومة إلى الموصل حتى أفردت عنها آخر خلافة الرشيد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا معاوية بلاد الروم ودخلها في عشرة آلاف فارس من المسلمين.
وفيها ولد يزيد بن معاوية وعبد الملك بن مروان.
وحج بالناس في هذه السنة عمر بن الخطاب؛ وكان عماله على الأمصار فيها عمالة في السنة قبلها إلا الكوفة، فإن عامله كان عليها المغيرة بن شعبة، وإلا البصرة فإن عامله عليها صار أبا موسى الأشعري.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرينقال بعضهم: كانفتح إصطخر سنة ثلاث وعشرين. وقيل: كان فتحها بعد توج الآخرة.

ذكر الخبر عن فتح توج
لما خرج أهل البصرة الذين توجهوا إلى فارس أمراء عليها وكان معهم سارية ابن زنيم الكناني فساروا وأهل فارس مجتمعن بتوج فلم يقصدهم المسلمون بل توجه كل أمير إلى الجهة التي أمر بها. وبلغ ذلك أهل فارس، فافترقوا إلى بلدانهم كما افترق المسلمون، فكانت تلك هزيمتهم وتشتت أمورهم. فقصد مجاشع بن مسعود لسابور وأردشير خرة، فالتقى هو والفرس بتوج فاقتتلوا ما شاء الله، ثم انهزم الفرس وقتلهم المسلمون كيف شاؤوا كل قتلة وغنموا ما في عسكرهم وحصروا توج فافتتحوها وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وغنموا ما فيها، وهذه توج الآخرة، والأولى هي التي استقدمتها جنود العلاء بن الحضرمي أيام طاووس. ثم دعوا إلى الجزية فرجعوا وأقروا بها. وأرسل مجاشع بن مسعود السلمي بالبشارة والأخماس إلى عمر بن الخطاب.
ذكر فتح إصطخر وجور وغيرهماوقصد عثمان بن أبي العاص الثقفي لإصطخر فالتقى هو وأهل إصطخر بجور فاقتتلوا وانهزم الفرس وفتح المسلمون جور ثم إصطخر وقتلوا ما شاء الله، ثم فر منهم من فر، فدعاهم عثمان إلى الجزية والذمة، فأجابه الهربذ إليها، فتراجعوا، وكان عثمان قد جمع الغنائم لما هزمهم فبعث بخمسها إلى عمر وقسم الباقي في الناس.
وفتح عثمان كازرون والنوبندجان وغلب على أرضها؛ وفتح هو وأبو موسى مدينة شيراز وأرجان، وفتحا سينيز على الجزية والخراج. وقصد عثمان أيضاً جنابا ففتحها، ولقيه جمع الفرس بناحية جهرم فهزمهم وفتحها.
ثم إن شهرك خلع في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان. فوجه إليه عثمان بن أبي العاص ثانيةً وأتته الأمداد من البصرة وأميرهم عبيد الله بن معمر وشبل بن معبد، فالتقوا بأرض فارس. فقال شهرك لابنه وهما في المعركة، وبينهما وبين قرية لهما تدعى ريشهر ثلاثة فراسخ: يا بني أين يكون غداؤنا ههنا أم بريشهر؟ قال له: يا أبه، إن تركونا فلا يكون غداؤنا ههنا ولا بريشهر ولا نكونن إلا في المنزل، ولكن والله ما أراهم يتركوننا. فلما فرغا من كلامهما حتى أنشب المسلمون الحرب فاقتتلوا قتالاً شديداً وقتل شهرك وابنه وخلق عظيم. والذي قتل شهرك الحكم بن أبي العاص أخو عثمان. وقيل: قتله سوار بن همام العبدي حمل عليه فطعنه فقتله. وحمل ابن شهرك على سوار فقتله.
وقيل: إن إصطخر كانت سنة ثمان وعشرين، وكانت فارس الآخرة سنة تسع وعشرين.
وقيل: إن عثمان بن أبي العاص أرسل أخاه الحكم من البحرين في ألفين إلى فارس ففتح جزيرة بركاوان في طريقه ثم سار إلى توج، وكان كسرى أرسل شهرك فالتقوا مع شهرك، وكان الجارود وأبو صفرة على مجنبتي المسلمين، وأبو صفرة هذا هو والد المهلب، فحمل الفرس على المسلمين فهزموهم. فقال الجارود: أيها الأمير ذهب الجند. فقال: سترى أمرك. قال: فما لبثوا حتى رجعت خيلٌ لهم ليس عليها فرسانها والمسلمون يتبعونهم يقتلونهم، فنثرت الرؤوس بين يدي ومعي بعض ملوكهم يقال المكعبر فارق كسرى ولحق بي فرأى المكعبر رأساً ضخماً فقال: أيها الأمير هذا رأس الازدهاق، يعني شهرك. وحوصر الفرس بمدينة سابور، فصالح عليها ملكها أرزنبان، فاستعان به الحكم على قتال أهل إصطخر. ومات عمر. وبعث عثمان بن عفان عبيد الله بن معمر مكانه، فبلغ عبيد الله أن أرزنبان يريد الغدر به، فقال له: أحب أن تتخذ لأصحابي طعاماً وتذبح لهم بقرة وتجعل عظامها في الجفنة التي تليني فإني أحب أن أتمشش العظام، ففعل وجعل يأخذ العظم الذي لا يكسر إلا بالفؤوس فيكسره بيده ويأخذ مخه، وكان من أشد الناس، فقام أرزنبان فأخذ برجله وقال: هذا مقام العائذ بك! فأعطاه عهداً. وأصاب عبيد الله منجنيق فأوصاهم وقال: إنكم ستفتحون هذه المدينة إن شاء الله فاقتلوهم بي ساعة فيها، ففعلوا، فقتلوا منهم بشراً كثيراً، ومات عبيد الله بن معمر. وقيل: إن قتله كان سنة تسع وعشرين.
ذكر فتح فسا ودارابجرد

وقصد سارية بن زنيم الدئلي فسا ودار ابجرد حتى انتهى إلى عسكرهم فنزل عليهم وحاصرهم ما شاء الله، ثم إنهم استمدوا وتجمعوا وتجمعت إليهم أكراد فارس، فدهم المسلمين أمر عظيم، وجمعٌ كثير، وأتاهم الفرس من كل جانب، فرأى عمر فيما يرى النائم تلك الليلة معركتهم وعددهم في ساعة من النهار، فنادى من الغد: الصلاة جامعة! حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان ابن زنيم والمسلمون بصحراء إن أقاموا فيها أحيط بهم، وإن استندوا إلى جبل من خلفهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد. فقام فقال: يا أيها الناس، إني رأيت هذين الجمعين، وأخبر بحالهما. وصاح عمر وهو يخطب: يا سارية بن زنيم، الجبل الجبل! ثم أقبل عليهم وقال: إن لله جنوداً، ولعل بعضها أن يبلغهم. فسمع سارية ومن معه الصوت فلجؤوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم، فهزمهم الله وأصاب المسلمون مغانمهم، وأصابوا في الغنائم سفطاً فيه جوهر، فاستوهبه منهم سارية وبعث به وبالفتح مع رجل إلى عمر. فقدم على عمر وهو يطعم الطعام، فأمره فجلس وأكل، فلما انصرف عمر اتبعه الرسول، فظن عمر أنه لم يشبع، فأمره فدخل بيته، فلما جلس أتي عمر بغدائه خبز وزيت وملح جريش فأكلا. فلما فرغا قال الرجل: أنا رسول سارية يا أمير المؤمنين. قال: مرحباً وأهلاً. ثم أدناه حتى مست ركبته ركبته، وسأله عن المسلمين، فأخبره بقصة الدرج، فنظر إليه وصاح به: لا ولا كرامة حتى يقدم على ذلك الجند فيقسمه بينهم. فطرده، فقال: يا أمير المؤمنين، إني قد أنضيت جملي واستقرضت في جائزتي فأعطني ما أتبلغ به. فما زال به حتى أبدله بعيراً من إبل الصدقة وجعل بعيره في إبل الصدقة ورجع الرسول مغضوباً عليه محروماً. وسأل أهل المدينة الرسول هل سمعوا شيئاً يوم الوقعة؟ قال: نعم سمعنا: يا سارية، الجبل الجبل، وقد كدنا نهلك فلجأنا إليه ففتح الله علينا.
ذكر فتح كرمانثم قصد سهيل بن عدي كرمان، ولحقه أيضاً عبد الله بن عبد الله بن عتبان، وعلى مقدمة سهيل بن عدي النسير بن عمرو العجلي وحشد لهم أهل كرمان واستعانوا عليهم بالقفص، فاقتتلوا في أداني أرضهم، ففض الله تعالى المشركين وأخذ المسلمون عليهم الطريق. وقتل النسير ابن عمرو العجلي مرزبانها، فدخل النسير من قبل طريق القرى اليوم إلى جيرفت، وعبد الله بن عبد الله من مفازة سير، فأصابوا ما أرادوا من بعير أو شاء، فقوموا الإبل والغنم فتحاصوها بالأثمان لعظم البخت على العراب، وكرهوا أن يزيدوا، وكتبوا إلى عمر بذلك، فأجابهم: إذا رأيتم أن في البخت فضلاً فزيدوا.
وقيل: إن الذي فتح كرمان عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي في خلافة عمر، ثم أتى الطبسين من كرمان، ثم قدم على عمر فقال: أقطعني الطبسين، فأراد أن يفعل، فقيل: إنهما رستاقان عظيمان، فامتنع عمر من ذلك.
ذكر فتح سجستانوقصد عاصم بن عمرو سجستان، ولحقه عبد الله بن عمير، فاستقبلهم أهلها، فالتقوا هم وأهل سجستان في أداني أرضهم، فهزمهم المسلمون، ثم اتبعوهم حتى حصروهم بزرنج ومخروا أرض سجستان ماه، ثم إنهم طلبوا الصلح على زرنج وما احتازوا من الأرضين فأعطوا، وكانوا قد اشترطوا في صلحهم أن فدافدها حمىً، فكان المسلمون يتجنبونها خشية أن يصيبوا منها شيئاً فيخفروا، وأقيم أهل سجستان على الخراج، وكانت سجستان أعظم من خراسان وأبعد فروجاً، يقاتلون القندهار والترك وأمماً كثيرة، فلم يزل كذلك حتى كان زمن معاوية، فهرب الشاه من أخيه رتبيل إلى بلد فيها يدعى آمل، ودان لسلم بن زياد، وهو يومئذ على سجستان، ففرح بذلك وعقد لهم وأنزلهم البلاد وكتب إلى معاوية بذلك يري أنه فتح عليه. فقال معاوية: إن ابن أخي ليفرح بأمرٍ إنه ليحزنني وينبغي له أن يحزنه. قال: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إن آمل بلدة بينها وبين زرنج صعوبة وتضايق، وهؤلاء قوم غدر، فإذا اضطرب الحبل غداً فأهون ما يجيء منهم أنهم يغلبون على بلاد آمل بأسرها. وأقرهم على عهد سلم بن زياد. فلما وقعت الفتنة بعد معاوية كفر الشاه وغلب على آمل واعتصم منه رتبيل بمكانه، ولم يرضه ذلك حين تشاغل عنه الناس حتى طمع في زرنج فغزاها وحصر من بها حتى أتتهم الأمداد من البصرة، وصار رتبيل والذين معه عصبة، وكانت تلك البلاد مذللة إلى أن مات معاوية.

وقيل في فتح سجستان غير هذا، وسيرد ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر فتح مكرانوقصد الحكم بن عمرو التغلبي مكران حتى انتهى إليها، ولحق به شهاب ابن المخارق وسهيل بن عدي وعبد الله بن عبد الله بن عتبان، فانتهوا إلى دوين النهر، وأهل مكران على شاطئه، فاستمد ملكهم ملك السند، فأمده بجيش كثيف، فالتقوا مع المسلمين فانهزموا وقتل منهم في المعركة مقتلة عظيمة واتبعهم المسلمون يقتلونهم أياماً حتى انتهوا إلى النهر، ورجع المسلمون إلى مكران فأقاموا بها. وكتب الحكم إلى عمر بالفتح وبعث إليه بالأخماس مع صحار العبدي. فلما قدم المدينة سأله عمر عن مكران، فقال: يا أمير المؤمنين، هي أرض سهلها جبل، وماؤها وشلٌ، وتمرها دقلٌ، وعدوها بطل؛ وخيرها قليلٌ، وشرها طويلٌ، والكثير فيها قليلٌ، والقليل فيها ضائع، وما وراءها شر منها، فقال: أسجاع أنت أم مخبر؟ لا والله لا يغزوها جيش لي أبداً. وكتب إلى سهيل والحكم بن عمرو: أن لا يجوزن مكران أحد من جنودكما. وأمرهما ببيع الفيلة التي غنمها المسلمون ببلاده الإسلام وقسم أثمانها على الغانمين، مكران بضم الميم وسكون الكاف.
ذكر خبر بيروذ من الأهوازولما فصلت الخيول إلى الكور، اجتمع ببيروذ جمعٌ عظيمٌ من الأكراد وغيرهم. وكان عمر قد عهد إلى أبي موسى أن يسير إلى أقصى ذمة البصرة حتى لا يؤتى المسلمون من خلفهم، وخشي أن يهلك بعض جنوده أو يخلفوا في أعقابهم، فاجتمع الأكراد ببروذ، وأبطأ أبو موسى حتى تجمعوا، ثم سار فنزل بهم ببيروذ، فالتقوا في رمضان بين نهر تيري ومناذر، فقام المهاجر بن زياد وقد تحنط واستقتل، وعزم أبو موسى على الناس فأفطروا، وتقدم المهاجر فقاتل قتالاً شديداً حتى قتل. ووهن الله المشركين حتى تحصنوا في قلة وذلة، واشتد جزع الربيع بن زياد على أخيه المهاجر وعظم عليه فقده، فرق له أبو موسى فاستخلفه عليهم في جند، وخرج أبو موسى حتى بلغ أصبهان واجتمع بها بالمسلمين الذين يحاصرون جياً، فلما فتحت رجع أبو موسى إلى البصرة، وفتح الربيع بن زياد الحارثي بيروذ من نهر تيري وغنم ما معهم.
ووفد أبو موسى وفداً معهم الأخماس، فطلب ضبة بن محصن العنزي أن يكون في الوفد فلم يجبه أبو موسى، وكان أبو موسى قد اختار من سبي بيروذ ستين غلاماً، فانطلق ضبة إلى عمر شاكياً، وكتب أبو موسى إلى عمر يخبره، فلما قدم ضبة على عمر سلم عليه. فقال: من أنت؟ فأخبره. فقال: لا مرحباً ولا أهلاً! فقال: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل. ثم سأله عمر عن حاله فقال: إن أبا موسى انتقى ستين غلاماً من أبناء الدهاقين لنفسه وله جارية تغدى جفنةً وتعشى جفنةً تدعى عقيلة، وله قفيزان وله خاتمان، وفوض إلى زياد بن أبي سفيان أمور البصرة، وأجاز الحطيئة بألف.
فاستدعى عمر أبا موسى. فلما قدم عليه حجبه أياماً ثم استدعاه فسأل عمر ضبة عما قال فقال: أخذ ستين غلاماً لنفسه. فقال أبو موسى: دللت عليهم وكان لهم فداء ففديتهم وقسمته بين المسلمين. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت. فقال: له قفيزان. فقال أبو موسى: قفيزٌ لأهلي أقوتهم به وقفيز للمسلمين في أيديهم يأخذون به أرزاقهم. فقال ضبة: ما كذب ولا كذبت. فلما ذكر عقيلة سكت أبو موسى ولم يعتذر. فعلم أن ضبة قد صدقه، قال: وولى زياداً. قال: رأيت له رأياً ونبلاً فأسندت إليه عملي. قال: وأجاز الحطيئة بالف. قال: سددت فمه بمالي أن يشتمني. فرده عمر وأمره أن يرسل إليه زياداً وعقيلة، ففعل. فلما قدم عليه زياد سأله عن حاله وعطائه والفرائض والسنن والقرآن، فرآه فقيهاً، فرده وأمر أمراء البصرة أن يسيروا برأيه، وحبس عقيلة بالمدينة.
وقال عمر: ألا إن ضبة غضب على أبي موسى وفارقه مراغماً أن فاته أمر من أمور الدنيا فصدق عليه وكذب، فأفسد كذبه صدقه، فإياكم والكذب فإنه يهدي إلى النار.
بيروذ: بفتح الباء الموحدة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وضم الراء، وسكون الواو، وآخره ذال معجمة.
ذكر خبر سلمة بن قيس الأشجعي والأكراد

كان عمر إذا اجتمع إليه جيش من المسلمين أمر عليهم أميراً من أهل العلم والفقه، فاجتمع إليه جيش من المسلمين، فبعث عليهم سلمة بن قيس الأشجعي. فقال: سر باسم الله، قاتل في سبيل الله من كفر بالله، فإذا لقيتم عدوكم فادعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوا وأقاموا بدارهم فعليهم الزكاة وليس لهم من الفيء نصيب، وإن ساروا معكم فلهم مثل الذي لكم وعليهم مثل الذي عليكم، وإن أبوا فادعوهم إلى الجزية، فإن أجابوا فاقبلوا منهم وإن أبوا فقاتلوهم، وإن تحصنوا منكم وسألوكم أن ينزلوا على حكم الله ورسوله أو ذمة الله ورسوله فلا تجيبوهم، فإنكم لا تدرون أتصيبون حكم الله ورسوله وذمتهما أم لا؛ ولا تغدروا، ولا تقتلوا وليداً، ولا تمثلوا.
قال: فساروا حتى لقوا عدواً من الأكراد المشركين فدعوهم إلى الإسلام أو الجزية، فلم يجيبوا، فقاتلوهم فهزموهم وقتلوا المقاتلة وسبوا الذرية فقسمه بينهم، ورأى سلمة جوهراً في سفط فاسترضى عنه المسلمين وبعث به إلى عمر. فقدم الرسول بالبشارة وبالسقط على عمر، فسأله عن أمور الناس وهو يخبره، حتى أخبره بالسفط، فغضب غضباً شديداً وأمر به فوجىء به في عنقه، ثم إنه قال: إن تفرق الناس قبل أن تقدم عليهم ويقسمه سلمة فيهم لأسوءنك. فسار حتى قدم على سلمة فباعه وقسمه في الناس. وكان الفص يباع بخمسة دراهم وقيمته عشرون ألفاً.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن الخطاب وحج معه أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وهي آخر حجة حجها، وفيها قتل عمر، رضي الله عنه.
ذكر الخبر عن مقتل عمر

رضي الله عنه
قال المسور بن مخرمة: خرج عمر بن الخطاب يطوف يوماً في السوق، فلقيه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة، وكان نصرانياً، فقال: يا أمير المؤمنين، أعدني على المغيرة بن شعبة فإن علي خراجاً كثيراً. قال: وكم خراجك؟ قال: درهمان كل يوم. قال: وأيشٍ صناعتك؟ قال: نجار، نقاش، حداد. قال: فما أرى خراجك كثيراً على ما تصنع من الأعمال، وقد بلغني أنك تقول: لو أردت أن أصنع رحى تطحن بالريح لفعلت! قال: نعم. قال: فاعمل لي رحى. قال: لئن سلمت لأعملن لك رحىً يتحدث بها من بالمشرق والمغرب! ثم انصرف عنه. فقال عمر: لقد أوعدني العبد الآن.
ثم انصرف عمر إلى منزله، فلما كان الغد جاءه كعب الأحبار فقال له: يا أمير المؤمنين، اعهد فإنك ميت في ثلاث ليال. قال: وما يدريك؟ قال: أجده في كتاب التوراة. قال عمر: الله! إنك لتجد عمر بن الخطاب في التوراة؟ قال: اللهم لا ولكني أجد حليتك وصفتك وأنك قد فني أجلك. قال: وعمر لا يحس وجعاً! فلما كان الغد جاءه كعب فقال: بقي يومان. فلما كان الغد جاءه كعبٌ فقال: مضى يومان وبقي يوم. فلما أصبح خرج عمر إلى الصلاة وكان يوكل بالصفوف رجالاً فإذا استوت كبر، ودخل أبو لؤلؤة في الناس وبيده خنجر له رأسان نصابه في وسطه، فضرب عمر ست ضربات إحداهن تحت سرته وهي التي قتلته، وقتل معه كليب بن أبي البكير الليثي وكان خلفه، وقتل جماعة غيره.
فلما وجد عمر حر السلاح سقط وأمر عبد الرحمن بن عوف فصلى بالناس، وعمر طريح، فاحتمل فأدخل بيته، ودعا عبد الرحمن فقال له: إني أريد أن أعهد إليك. قال: أتشير علي بذلك؟ قال: لا. قال: والله، لا أدخل فيه أبداً. قال: فهبني صمتاً حتى أعهد إلى النفر الذين توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنهم راضٍ. ثم دعا علياً وعثمان والزبير وسعداً فقال: انتظروا أخاكم طلحة ثلاثاً فإن جاء وإلا فاقضوا أمركم؛ أنشدك الله يا علي إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل بني هاشم على رقاب الناس، أنشدك الله يا عثمان إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، أنشدك الله يا سعد إن وليت من أمور الناس شيئاً ألا تحمل أقاربك على رقاب الناس، قوموا فتشاوروا ثم اقضوا أمركم وليصل بالناس صهيب..
ثم دعا أبا طلحة الأنصاري، فقال: قم على بابهم فلا تدع أحداً يدخل إليهم.

وأوصي الخليفة من بعدي بالأنصار الذي تبوأوا الدار والإيمان أن يحسن إلى محسنهم ويعفو عن مسيئهم، وأوصي الخليفة بالعرب، فإنهم مادة الإسلام، أن يؤخذ من صدقاتهم حقها فتوضع في فقرائهم، وأوصي الخليفة بذمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يوفي لهم بعهدهم، اللهم هل بلغت؟ لقد تركت الخليفة من بعدي على أنقى من الراحة؛ يا عبد الله بن عمر، اخرج فانظر من قتلني.
قال: يا أمير المؤمنين، قتلك أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة. قال: الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل سجد لله سجدةً واحدةً! يا عبد الله بن عمر، اذهب إلى عائشة فسلها أن تأذن لي أن أدفن مع النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر. يا عبد الله، إن اختلف القوم فكن مع الأكثر، فإنن تشاوروا فكن مع الحزب الذي فيه عبد الرحمن بن عوف، يا عبد الله، ائذن للناس. فجعل يدخل عليه المهاجرون والأنصار فيسلمون عليه ويقول لهم: أهذا عن ملإٍ منكم؟ فيقولون: معاذ الله! قال: ودخل كعب الأحبار مع الناس فلما رآه عمر قال:
توعدني كعبٌ ثلاثاً أعدها ... ولا شك أن القول ما قال لي كعب
وما بي حذار الموت، إني لميتٌ ... ولكن حذار الذنب يتبعه الذنب
ودخل عليه علي يعوده فقعد عند رأسه، وجاء ابن عباس فأثنى عليه، فقال له عمر: أنت لي بهذا يا ابن عباس؟ فأومأ إليه علي أن قل نعم. فقال ابن عباس: نعم. فقال عمر: لا تغرني أنت وأصحابك. ثم قال: يا عبد الله، خذ رأسي عن الوسادة فضعه في التراب لعل الله، جل ذكره، ينظر إلي فيرحمني، والله لو أن لي ما طلعت عليه الشمس لافتديت به من هول المطلع.
ودعي له طبيب من بني الحرث بن كعب فسقاه نبيذاً فخرج غير متغير، فسقاه لبناً فخرج كذلك أيضاً، فقال له: اعهد يا أمير المؤمنين. قال: قد فرغت.
ولما احتضر ورأسه في حجر ولده عبد الله قال:
ظلومٌ لنفسي غير أني مسلمٌ ... أصلي الصلاة كلها وأصوم
ولم يذكر الله تعالى ويديم الشهادة إلى ان توفي ليلة الأربعاء لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين. وقيل: طعن يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجة ودفن يوم الأحد هلال محرم سنة أربع وعشرين.
وكانت ولايته عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، وبويع عثمان لثلاث مضين من المحرم. وقيل: كانت وفاته لأربع بقين من ذي الحجة وبويع عثمان لليلة بقيت من ذي الحجة استقبل بخلافته هلال محرم سنة أربع وعشرين. وكانت خلافة عمر على هذا القول عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام. وصلى عليه صهيب، وحمل إلى بيت عائشة، ودفن عند النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، ونزل في قبره عثمان وعلي والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وعبد الله بن عمر.
ذكر نسب عمر وصفته وعمرهفأما نسبه فهو عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي، وكنيته أبو حفص، وأمه حنتمة بنت هشام بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وهي ابنت عم أبي جهل، وقد زعم من لا معرفة له أنها أخت أبي جهل، وليس بشيء.
وسماه النبي، صلى الله عليه وسلم، الفاروق، وقيل: بل سماه أهل الكتاب.
وأما صفته فكان طويلاً آدم أصلع أعسر يسراً، يعني يعمل بيديه، وكان لطوله كأنه راكبٌ، وقيل: كان أبيض أبهق، يعني شديد البياض، تعلوه حمرة، طوالاً أصلع أشيب، وكان يصفر لحيته ويرجل رأسه بالحناء. وكان مولده قبل الفجار بأربع سنين، وكان عمره خمساً وخمسين سنة، وقيل: ابن ستين سنة، وقيل: ابن ثلاث وستين سنة وأشهر، وهو الصحيح، وقيل: ابن إحدى وستين سنة.
رياح بكسر الراء وبالياء تحتها نقطتان.
ذكر أسماء ولده ونسائه

تزوج عمر في الجاهلية زينب بنت مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح فولدت له عبد الله وعبد الرحمن الأكبر وحفصة. وتزوج مليكة بنت جرول الخزاعي في الجاهلية، فولدت له عبيد الله بن عمر، ففارقها في الهدنة، فخلف عليها أبو جهم بن حذيفة، وقتل عبيد الله بصفين مع معاوية، وقيل: كانت أمه أم زيد الأصغر أم كلثوم بنت جرول الخزاعي، وكان الإسلام فرق بينها وبين عمر. وتزوج قريبة بنت أبي أمية المخزومي في الجاهلية، ففارقها في الهدنة أيضاً، فتزوجها بعده عبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق، فكانا سلفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأن قريبة أخت أم سلمة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم. وتزوج أم حكيم بنت الحرث بن هشام المخزومي في الإسلام، فولدت له فاطمة فطلقها، وقيل لم يطلقها. وتزوج جميلة أخت عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأوسي الأنصاري في الإسلام، فولدت له عاصماً فطلقها، ثم تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، وأمها فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأصدقها أربعين ألفاً، فولدت له رقية وزيداً. وتزوج لهية امرأة من اليمن، فولدت له عبد الرحمن الأوسط، وقيل الأصغر، وقيل: كانت أم ولد، وكانت عنده فكيهة أم ولد فولدت له زينب، وهي أصغر ولد عمر. وتزوج عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، وكانت قبله عند عبد الله بن أبي بكر الصديق، فقتل عنها، فلما مات عمر تزوجها الزبير بن العوام، فقتل عنها أيضاً، فخطبها علي، فقالت: لا أفعل، إني أضن بك عن القتل فإنك بقية الناس. فتركها.
وخطب أم كثلوم ابنة أبي بكر الصديق إلى عائشة، فقالت أم كثلوم: لا حاجة لي فيه، إنه خشن العيش شديدٌ على النساء. فأرسلت عائشة إلى عمرو ابن العاص فقال: أنا أكفيك. فأتى عمر فقال: بلغني خبرٌ أعيذك بالله منه. قال: ما هو؟ قال: خطبت أم كلثوم بنت أبي بكر. قال: نعم، أفرغبت بي عنها أم رغبت بها عني؟ قال: ولا واحدة، ولكنها حدثةٌ نشأت تحت كنف أمير المؤمنين في لين ورفق، وفيك غلظة، ونحن نهابك وما نقدر أن نردك عن خلق من أخلاقك، فكيف بها إن خالفتك في شيء فسطوت بها كنت قد خلفت أبا بكر في ولده بغير ما يحق عليك. وقال: فكيف بعائشة وقد كلمتها؟ قال: أنا لك بها وأدلك على خير منها، أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب تعلق منها بسبب من رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
وخطب أم أبان بنت عتبة بن ربيعة فكرهته وقالت: يغلق بابه، ويمنع خيره، ويدخل عابساً ويخرج عابساً.
ذكر بعض سيرته رضي الله عنهقال عمر: إنما مثل العرب مثل جمل أنفٍ اتبع قائده فلينظر قائده حيث يقوده، فأما أنا فورب الكعبة لأحملنهم على الطريق! قال نافع العيشي: دخلت حير الصدقة مع عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب، قال: فجلس عثمان في الظل يكتب وقام علي على رأسه يملي عليه ما يقول عمر، وعمر قائم في الشمس في يوم شديد الحر عليه بردان أسودان اتزر بأحدهما ولف الآخر على رأسه يعد إبل الصدقة يكتب ألوانها وأسنانها. فقال علي لعثمان: في كتاب الله: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين) القصص: ثم أشار علي بيده إلى عمر وقال: هذا القوي الأمين.
وقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: رأيت عمر أخذ بتبنة من الأرض فقال: يا ليتني هذه التبنة، يا ليتني لم أك شيئاً، يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسياً منسياً. وقال الحسن: قال عمر: لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولاً فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، وأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم شهرين، وبالجزيرة شهرين، وبمصر شهرين، وبالبحرين شهرين، وبالكوفة شهرين، وبالبصرة شهرين، والله لنعم الحول هذا! وقيل لعمر: إن ههنا رجلاً من الأنبار له بصر بالديوان لو اتخذته كاتباً. فقال: لقد اتخذت إذن بطانةً من دون المؤمنين.
قيل: خطب عمر الناس فقال: والذي بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالحق لو أن جملاً هلك ضياعاً بشط الفرات لخشيت أن يسألني الله عنه.

وقال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيها الناس، إني والله ما أرسل إليكم عمالاً ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم وإنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسنتكم، فمن فعل به شيء سوى ذلك فليرفعه إلي، فوالذي نفس عمر بيده لأقصنه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين، أرأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعية فأدب بعض رعيته إن لتقصه منه؟ قال: إي والذي نفس عمر بيده إذن لأقصنه منه، وكيف لا أقصه منه وقد رأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، يقص من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحمدوهم فتفتنوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.
قال بكر بن عبد الله: جاء عمر بن الخطاب إلى باب عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي في بيته ليلاً، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة؟ قال: رفعةٌ نزلت في ناحية السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق فلنحرسهم. فأتيا السوق فقعدا على نشز من الأرض يتحدثان، فرفع لهما مصباحٌ فقال عمر: ألم أنه عن المصابيح بعد النوم؟ فانطلقا فإذا قوم على شراب لهم. قال: انطلق فقد عرفته. فلما أصبح أرسل إليه قال يا فلان كنت وأصحابك البارحة على شراب! قال: وما أعلمك يا أمير المؤمنين؟ قال: شيء شهدته. قال: أو لم ينهك الله عن التجسس؟ فتجاوز عنه.
وإنما نهى عمر عن المصابيح لأن الفأرة تأخذ الفتيلة فترمي بها في سقف البيت فتحرقه، وكانت السقوف من جريد، وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهى عن ذلك قبله.
وقال أسلم: وخرج عمر إلى حرة واقم وأنا معه، حتى إذا كنا بصرار إذا نار تسعر. فقال: انطلق بنا إليهم. فهرولنا حتى دنونا منهم فإذا بامرأة معها صبيان لها وقدر منصوبة على نار وصبيانها يتضاغون. فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء. وكره أن يقول: يا أصحاب النار. قالت: وعليك السلام. قال: أدنو؟ قالت: ادن بخير أو دع. فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد. قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: من الجوع. قال: وأي شيء في هذه القدر؟ قالت: ما لي ما أسكتهم حتى يناموا فأنا أعللهم وأوهمهم أني أصلح لهم شيئاً حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر! قال: أي رحمك الله، ما يدري بكم عمر؟ قالت: يتولى أمرنا ويغفل عنا. فأقبل علي وقال: انطلق بنا. فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق فأخرج عدلاً فيه كبة شحم فقال: احمله على ظهري. قال أسلم: فقلت: أنا أحمله عنك، مرتين أو ثلاث فقال آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة لا أم لك! فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه نهرول حتى انتهينا إليها، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر، وكان ذا لحية عظيمة، فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج ثم أنزل القدر، فأتته بصحفة فأفرغها فيها ثم قال: أطعميهم وأنا أسطح لك، فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلى عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً، أنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيراً فإنك إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك، إن شاء الله! ثم تنحى ناحيةً ثم استقبلا وربض لا يكلمني حتى رأى الصبية يضحكون ويصطرعون ثم ناموا وهدأوا، فقام وهو يحمد الله، فقال: يا أسلم، الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت أن لا أنصرف حتى أرى ما رأيت منهم.
صرار بكسر الصاد المهملة ورائين.
قال سالم بن عبد الله بن عمر: كان عمر إذا نهى الناس عن شيء جمع أهله فقال: إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، وأقسم بالله لا أجد أحداً منكم فعله إلا أضعفت عليه العقوبة. قال سلام بن مسكين: وكان عمر إذا احتاج أتى صاحب بيت المال فاستقرضه، فربما أعسر فيأتيه صاحب بيت المال يتقاضاه فيلزمه فيحتال له عمر، وربما خرج عطاؤه فقضاه.
قال: وهو أول من دعي بأمير المؤمنين وذلك أنه لما ولي قالوا له: يا خليفة خليفة رسول الله. فقال عمر: هذا أمر يطول، كلما جاء خليفة قالوا يا خليفة خليفة خليفة رسول الله، بل أنتم المؤمنون وأنا أميركم، فسمي أمير المؤمنين.
وهو أول من كتب التاريخ، وقد تقدم.

وهو أول من اتخذ بيت مال، وأول من عس الليل، وأول من عاقب على الهجاء، وأول من نهى عن بيع أمهات الأولاد، وأول من جمع الناس في صلاة الجنازة على أربع تكبيرات، وكانوا قبل ذلك يصلون أربعاً وخمساً وستاً. قال الواقدي: وهو أول من جمع الناس على إمام يصلي بهم التراويح في شهر رمضان وكتب به إلى البلدان وأمرهم به، وهو أول من حمل الدرة وضرب بها، وأول من دون في الإسلام الدواوين وكتب الناس على قبائلهم وفرض لهم العطاء.
قال زاذان: قال عمر لسلمان: أملك أنا أم خليفة؟ قال له سلمان: إن أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقه فأنت ملك غير خليفة. فبكى عمر.
وقال أبو هريرة: يرحم الله ابن حنتمة! لقد رأيته عام الرمادة وإنه ليحمل على ظهره جرابين وعكة زيت في يده وإنه ليتعقب هو وأسلم، فلما رآني قال: من أين يا أبا هريرة؟ قلت: قريباً، فأخذت أعقبه فحملناه حتى انتهينا إلى صرار فإذا نحو من عشرين بيتاً من محارب، فقال لهم: ما أقدمكم؟ قالوا: الجهد، وأخرجوا لنا جلد الميتة مشوياً كانوا يأكلونه ورمة العظام مسحوقة كانوا يستفونها، فرأيت عمر طرح رداءه ثم اتزر فما زال يطبخ حتى أشبعهم، ثم أرسل أسلم إلى المدينة فجاءنا بأبعرة فحملهم عليها حتى أنزلهم الجنانة ثم كساهم، وكان يختلف إليهم وإلى غيرهم حتى رفع الله ذلك.
قال أبو خيثمة: رأت الشفاء بنت عبد الله فتياناً يقصدون في المشي ويتكلمون رويداً، فقالت: ما هذا؟ قالوا: نساك، فقالت: كان والله عمر إذا تكلم أسمع، وإذا مشى أسرع، وإذا ضرب أوجع، وهو والله ناسك حقاً.
قال الحسن: خطب عمر الناس وعليه إزار فيه اثنتا عشرة رقعة منها أدم. قال أبو عثمان النهدي: رأيت عمر يرمي الجمرة وعليه إزار مرقع بقطعة جراب، وقال عليٌّ: رأيت عمر يطوف بالكعبة وعليه إزار فيه إحدى وعشرون رقعة فيها من أدم.
وقال الحسن: كان عمر يمر بالآية من ورده فيسقط حتى يعاد كما يعاد المريض، وقيل: إنه سمع قارئاً يقرأ والطور، فلما انتهى إلى قوله تعالى: (إن عذاب ربك لواقعٌ ما له من دافعٍ) الطور: 7، سقط ثم تحامل إلى منزله فمرض شهراً من ذلك. قال الشعبي: كان عمر يطوف في الأسواق ويقرأ القرآن ويقضي بين الناس حيث أدركه الخصوم.
قال موسى بن عقبة: أتى رهط إلى عمر فقالوا له: كثر العيال واشتدت المؤونة فزدنا في عطائنا. قال: فعلتموها، جمعتم بين الضرائر واتخذتم الخدم من مال الله، لوددت أني وإياكم في سفينة في لجة البحر تذهب بنا شرقاً وغرباً فلن يعجز الناس أن يولوا رجلاً منهم فإن استقام اتبعوه وإن جنف قتلوه. فقال طلحة: وما عليك لو قلت: وإن تعوج عزلوه؟ قال: لا، القتل أنكل لمن بعده، احذروا فتى ابن قريش وابن كريمها الذي لا ينام إلا على الرضا ويضحك عند الغضب وهو يتناول من فوقه ومن تحته.
قال مجالد: ذكر رجل عند عمر فقيل: يا أمير المؤمنين، فاضل لا يعرف من الشر شيئاً. قال: ذاك أوقع له فيه. قال صالح بن كيسان: قال المغيرة بن شعبة: لما دفن عمر أتيت علياً وأنا أحب أن أسمع منه في عمر شيئاً، فخرج ينفض رأسه ولحيته وقد اغتسل وهو ملتحف بثوب لا يشك أن الأمر يصير إليه، فقال: يرحم الله ابن الخطاب، لقد صدقت ابنة أبي حنتمة، ذهب بخيرها ونجا من شرها، أما والله ما قالت ولكن قولت. وقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو في عمر:
فجعني فيروز لا در دره ... بأبيض تالٍ للكتاب منيب
رؤوفٍ على الأدنى غليظٍ على العدا ... أخي ثقةٍ في النائبات نجيب
متى ما يقل لا يكذب القول فعله ... سريعٍ إلى الخيرات غير قطوب
وقالت أيضاً:
عين جودي بعبرةٍ ونحيب ... لا تملي على الإمام النجيب
فجعتني المنون بالفارس المع ... لم يوم الهياج والتلبيب
عصمة الناس والمعين على الده ... ر وغيثٍ المنتاب والمحروب
قل لأهل الثراء والبؤس موتوا ... قد سقته المنون كأس شعوب

قال ابن المسيب: وحج عمر فلما كان بضجنان قال: لا إله إلا الله العظيم العلي المعطي ما شاء من شاء، كنت أرعى إبل الخطاب في هذا الوادي في مدرعة صوفٍ، وكان فظاً يتعبني إذا عملت ويضربني إذا قصرت، وقد أمسيت وليس بيني وبين الله أحد، ثم تمثل:
لا شيء فيما ترى تبقى بشاشته ... يبقى الإله ويودي المال والولد
لم تغن عن هرمزٍ يوماً خزائنه ... والخلد قد حاولت عادٌ فما خلدوا
ولا سليمان إذ تجري الرياح به ... والإنس والجن فيما بينها يرد
أين الملوك التي كانت نوافلها ... من كل أوبٍ إليها راكبٌ يفد
حوضاً هنالك موروداً بلا كذبٍ ... لابد من ورده يوماً كما وردوا
قال أسلم: إن هند بنت عتبة استقرضت عمر من بيت المال أربعة آلاف تتجر فيها وتضمنها، فأقرضها، فخرجت فيها إلى بلاد كلب فاشترت وباعت، فبلغها أن أبا سفيان وابنه عمراً أتيا معاوية، فعدلت إليه، وكان أبو سفيان قد طلقها، فقال لها معاوية: ما أقدمك أي أمه؟ قالت: النظر إليك أي بني، إنه عمر، وإنما يعمل لله وقد أتاك أبوك فخشيت أن تخرج إليه من كل شيء وأهل ذلك هو ولا يعلم الناس من أين أعطيته فيؤنبوك ويؤنبك عمر فلا يستقيلها أبداً. فبعث إلى أبيه وإلى أخيه بمائة دينار وكساهما وحملهما، فتسخطها عمرو، فقال أبو سفيان: لا تسخطها فإن هذا عطاء لم تغب عنه هند؛ ورجعوا جميعاً، فقال أبو سفيان لهند: أربحت؟ قالت: الله أعلم. فلما أتت المدينة وباعت شكت الوضيعة، فقال لها عمر: لو كان مالي لتركته لك، ولكنه مال المسلمين. وقال لأبي سفيان: بكم أجازك معاوية؟ قال: بمائة دينار.
قال ابن عباس: بينما عمر بن الخطاب وأصحابه يتذاكرون الشعر فقال بعضهم: فلان أشعر، وقال بعضهم: بل فلان أشعر، قال: فأقبلت فقال عمر: قد جاءكم أعلم الناس بها، من أشعر الشعراء؟ قال: قلت: زهير بن أبي سلمى. فقال: هلم من شعره ما نستدل به على ما ذكرت. فقلت: امتدح قوماً من غطفان فقال:
لو كان يقعد فوق الشمس من كرمٍ ... قومٌ لأولهم يوماً إذا قعدوا
قومٌ أبوهم سنانٌ حين تنسبهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
جنٌّ إذا فزعوا إنسٌ إذا أمنوا ... ممردون بهاليلٌ إذا جهدوا
محسدون على ما كان من نعمٍ ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا

فقال عمر: أحسن والله وما أعلم أحداً أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقرابتهم منه. فقلت: وفقت يا أمير المؤمنين ولم تزل موفقاً! فقال: يا ابن عباس، أتدري ما منع قومكم منهم بعد محمد، صلى الله عليه وسلم؟ فكرهت أن أجيبه فقلت: إن لم أكن أدري فإن أمير المؤمنين يدريني! فقال عمر: كرهوا أن يجمعوا لكم النبوة والخلافة فتبجحوا على قومكم بجحاً بجحاً، فاختارت قريشٌ لأنفسها فأصابت ووفقت. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن تأذن لي في الكلام وتمط عني الغضب تكلمت. قال: تكلم. قلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: اختارت قريشٌ لأنفسها فأصابت ووفقت، فلو أن قريشاً اختارت لأنفسها حين اختار الله لها لكان الصواب بيدها غير مردود ولا محسود. وأما قولك: إنهم أبوا أن تكون لنا النبوة والخلافة، فإن الله، عز وجل، وصف قوماً بالكراهة فقال: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) محمد: (. فقال عمر: هيهات والله يا ابن عباس، قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن أقرك عليها فتزيل منزلتك مني. فقلت: ما هي يا أمير المؤمنين؟ فإن كانت حقاً فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك، وإن كنت باطلاً فمثلي أماط الباطل عن نفسه. فقال عمر: بلغني أنك تقول: إنما صرفوها عنك حسداً وبغياً وظلماً. فقلت: أما قولك يا أمير المؤمنين: ظلماً، فقد تبين للجاهل والحليم، وأما قولك: حسداً، فإن آدم حسد ونحن ولده المحسدون. فقال عمر: هيهات هيهات! أبت والله قلوبكم يا بني هاشم إلا حسداً لا يزول. فقلت: مهلاً يا أمير المؤمنين، لا تصف قلوب قوم أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً بالحسد والغش، فإن قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من قلوب بني هاشم. فقال عمر: إليك عني يا ابن عباس. فقلت: أفعل. فلما ذهبت لأقوم استحيا مني فقال: يا ابن عباس، مكانك! فوالله إني لراعٍ لحقك محب لما سرك. فقلت: يا أمير المؤمنين، إن لي عليك حقاً وعلى كل مسلم، فمن حفظه فحظه أصاب، ومن أضاعه فحظه أخطأ. ثم قام فمضى.
ذكر قصة الشورىقال عمر بن ميمون الأودي: إن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له: يا أمير المؤمنين لو استخلفت. فقال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: (إنه أمين هذه الأمة). ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لاستخلفته وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك يقول: (إن سالماً شديد الحب لله تعالى). فقال له رجل: أدلك على عبد الله بن عمر. فقال: قاتلك الله، والله ما أردت الله بهذا! ويحك! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته؟ لا أرب لنا في أموركم، فما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فقد صرف عنا، بحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد ويسأل عن أمر أمة محمد، أما لقد جهدت نفسي وحرمت أهلي، وإن نجوت كفافاً لا وزر ولا أجر إني لسعيد، وأنظر فإن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن أترك فقد ترك من هو خير مني، ولن يضيع الله دينه.
فخرجوا ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدت عهداً. فقال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأولي رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحق، وأشار إلى علي، فرهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنة فجعل يقطف كل غضة ويانعة فيضمه إليه ويصيره تحته، فعلمت أن الله غالبٌ على أمره، ومتوف عمر فما أردت أن أتحملها حياً وميتاً، عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: إنهم من أهل الجنة، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله، فليختاروا منهم رجلاً، فإذا ولوا والياً فأحسنوا موازرته وأعينوه.
فخرجوا فقال العباس لعلي: لا تدخل معهم. قال: إني أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره. فلما أصبح عمر دعا علياً وعثمان وسعداً وعبد الرحمن والزبير فقال لهم: إني نظرت فوجدتكم رؤساء الناس وقادتهم ولا يكون هذا الأمر إلا فيكم، وقد قبض رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهو عنكم راضٍ، وإني لا أخاف الناس عليكم إن استقمتم ولكني أخاف فيما بينكم فيختلف الناس، فانهضوا إلى حجرة عائشة بإذنا فتشاوروا فيها واختاروا رجلاً منكم. ووضع رأسه وقد نزفه الدم.

فدخلوا فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: سبحان الله! إن أمير المؤمنين لم يمت بعد. فسمعه عمر فانتبه وقال: ألا أعرضوا عن هذا فإذا مت فتشاوروا ثلاثة أيام وليصل بالناس صهيب ولا يأتين اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم، ويحضر عبد الله بن عمر مشيراً ولا شيء له من الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قدم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن مضت الأيام الثلاثة قبل قدومه فأمضوا أمركم، ومن ولي بطلحة؟ فقال سعد ابن أبي وقاص: أنا لك به ولا يخالف إن شاء الله تعالى. فقال عمر: أرجو أن لا يخالف إن شاء الله، وما أظن يلي إلا أحد هذين الرجلين: علي أو عثمان، فإن ولي عثمان فرجل فيه لين، وإن ولي علي ففيه دعابة، وأحرى به أن يحملهم على طريق الحق، وإن تولوا سعداً فأهله هو وإلا فليستعن به الوالي، فإني لم أعزله عن ضعف ولا خيانة، ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، فاسمعوا منه وأطيعوا.
وقال لأبي طلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إن الله طالما أعز بكم الإسلام فاختر خمسين رجلاً من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم.
وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلاً منهم.
وقال لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام وأدخل هؤلاء الرهط بيتاً وقم على رؤوسهم، فإن اجتمع خمسة وأبى واحدٌ فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعةٌ وأبى اثنان فاضرب رأسيهما، وإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً فحكموا عبد الله بن عمر، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله ابن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع فيه الناس.
فخرجوا فقال علي لقوم معه من بني هاشم: أن أطيع فيكم قومكم لم تؤمروا أبداً، وتلقاه عمه العباس فقال: عدلت عنا! فقال: وما علمك؟ قال: قرن بني عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني. فقال له العباس: لم أرفعك في شيء إلا رجعت إلي مستأخراً لما أكره، أشرت عليك عند وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن تسأله فيمن هذا الأمر فأبيت، فأشرت عليك بعد وفاته أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى أن لا تدخل معهم فأبيت، احفظ عني واحدة: كلما عرض عليك القوم فقل: لا، إلا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم به لنا غيرنا، وأيم الله لا يناله إلا بشر لا ينفع معه خير! فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا لتجدني حيث يكرهون، ثم تمثل:
حلفت برب الراقصات عشية ... غدون خفافاً فابتدرن المحصبا
ليختلين رهط ابن يعمر قارناً ... نجيعاً بنو الشداخ ورداً مصلبا
والتفت فرأى أبا طلحة فكره مكانه، فقال أبو طلحة: لن تراع أبا الحسن.

فلما مات عمر وأخرجت جنازته صلى عليه صهيب، فلما دفن عمر جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة، وقيل: في بيت المال وقيل: في حجرة عائشة بإذنها، وطلحة غائب، وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما وقال: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا في أهل الشورى! فتنافس القوم في الأمر وكثر فيهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها، والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون! فقال عبد الرحمن: أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها على أن يوليها أفضلكم؟ فلم يجبه أحدٌ. فقال: فأنا أنخلع منها. فقال عثمان: أنا أول من رضي. فقال القوم: قد رضينا. وعلي ساكت. فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة نصحاً. فقال: أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم، وعلي ميثاق الله أن لا أخص ذا رحم لرحمه ولا آلو المسلمين، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله، فقال لعي: تقول إني أحق من حضر بهذا الأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد، ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق به؟ قال: عثمان. وخلا بعثمان فقال: تقول شيخ من بني عبد مناف، وصهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وابن عمه، ولي سابقة وفضل، فأين يصرف هذا الأمر عني؟ ولكن لو لم تحضر أي هؤلاء الرهط تراه أحق به؟ قال: علي.
ولقي علي سعداً فقال له: (اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام) النساء: ، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيراً علي ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد وأشراف الناس يشاورهم، حتى إذا كان الليلة التي صبيحتها تستكمل الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة فأيقظه وقال له: لم أذق في هذه الليلة كبير غمض، انطلق فادع الزبير وسعداً. فدعاهما. فبدأ بالزبير فقال له: خل بني عبد مناف وهذا الأمر. قال: نصيبي لعلي. وقال لسعد: اجعل نصيبك لي. فقال: إن اخترت نفسك فنعم، وإن اخترت عثمان فعليٌّ أحب إلي؛ أيها الرجل بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا. فقال له: قد خلعت نفسي على أن أختار، ولو لم أفعل لم أردها. إني رأيت روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحلٌ ما رأيت أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شيء منها حتى قطعها لم يعرج، ودخل بعيرٌ يتلوه فاتبع أثره حتى خرج منها، ثم دخل فحلٌ عبقري يجر خطامه ومضى قصد الأولين، ثم دخل بعيرٌ رابع فرتع في الروضة، ولا والله لا أكون الرابع ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه.
قال: وأرسل المسور فاستدعى علياً فناجاه طويلاً وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض، ثم أرسل إلى عثمان فتناجيا حتى فرق بينهما الصبح.

قال عمرو بن ميمون: قال لي عبد الله بن عمر: من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبد الرحمن بن عوف علياً وعثمان فقد قال بغير علم فوقع قضاء ربك على عثمان. فلما صلوا الصبح جمع الرهط وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار وإلى أمراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إن الناس قد أجمعوا أن يرجع أهل الأمصار إلى أمصارهم، فأشيروا علي. فقال عمار: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع علياً. فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، إن بايعت علياً قلنا: سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: إن أردت أن لا تختلف قريشٌ فبايع عثمان. فقال عبد الله بن أبي ربيعة: صدقت إن بايعت عثمان قلنا: سمعنا وأطعنا. فتبسم عمارٌ ابن أبي سرح وقال: متى كنت تنصح المسلمين؟ فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار: أيها الناس، إن الله أكرمنا بنيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم؟ فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن، افرغ قبل أن يفتتن الناس. فقال عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً؛ ودعا علياً وقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعلمن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده. قال: أرجو أن أفعل فأعمل بمبلغ علمي وطاقتي؛ ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، فقال: نعم نعمل. فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان فقال: اللهم اسمع واشهد اللهم أني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، فبايعه.
فقال علي: ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا، (فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون) يوسف: ، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك، والله كل يوم في شأن! فقال عبد الرحمن: يا علي، لا تجعل على نفسك حجة وسبيلاً. فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
فقال المقداد: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون. فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدت للمسلمين. قال: إن كنت أردت الله فأثابك الله ثواب المحسنين. فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول ولا أعلم أن رجلاً أقضى بالعدل ولا أعلم منه، أما والله لو أجد أعواناً عليه! فقال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإني خائفٌ عليك الفتنة. فقال رجل للمقداد: رحمك الله، من أهل هذا البيت ومن هذا الرجل؟ قال: أهل البيت بنو عبد المطلب، والرجل علي بن أبي طالب. فقال علي: إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر بينها فتقول: إن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم تداولتموها بينكم.
وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فقيل له: بايعوا لعثمان. فقال: كل قريش راضٍ به؟ قالوا: نعم. فأتى عثمان، فقال له عثمان: أنت على رأس أمرك وإن أبيت رددتها. قال: أتردها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيت لا أرغب عما أجمعوا عليه. وبايعه.
وقال المغيرة بن شعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد قد أصبت أن بايعت عثمان. وقال لعثمان: ولو بايع عبد الرحمن غيرك ما رضينا. فقال عبد الرحمن: كذبت يا أعور، لو بايعت غيره لبايعته ولقلت هذه المقالة. قال: وكان المسور يقول: ما رأيت أحداً بذ قوماً فيما دخلوا فيه بمث ما بذهم عبد الرحمن.
قلت قوله: إن عبد الرحمن صهر عثمان، يعني أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، وهي أخت عثمان لأمه خلف عليها عقبة بعد عثمان.

وقد ذكر أبو جعفر رواية أخرى في الشورى عن المسور بن مخرمة وهي تمام حديث مقتل عمر، وقد تقدم، والذي ذكره ههنا قريب من الذي تقدم آنفاً، غير أنه قال: لما دفن عمر جمعهم عبد الرحمن وخطبهم وأمرهم بالاجتماع وترك التفرق، فتكلم عثمان فقال: الحمد لله الذي اتخذ محمداً نبياً وبعثه رسولاً وصدقه وعده ووهب له نصره على كل من بعد نسباً أو قرب رحماً، صلى الله عليه وسلم، جعلنا الله له تابعين، وبأمره مهتدين! فهو لنا نور ونحن بأمره نقوم عند تفرق الأهواء ومجادلة الأعداء، جعلنا الله بفضله أئمة، وبطاعته أمراء، لا يخرج أمرنا منا، ولا يدخل علينا غيرنا، إلا من سفه الحق ونكل عن القصد، وأحر بها يا ابن عوف أن تترك، وأجدر بها أن تكون إن خولف أمرك وترك دعاؤك، فأنا أول مجيب لك وداعٍ إليك وكفيل بما أقول زعيم؛ وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم الزبير بعده فقال: أما بعد فإن داعي الله لا يجهل، ومجيبه لا يخذل عند تفرق الأهواء ولي الأعناق، ولن يقصر عما قلت غلا غوى، ولن يترك ما دعوت إليه إلا شقي، ولولا حدود لله فرضت، وفرائض لله حدت، تراح على أهلها وتحيا ولا تموت، لكان الموت من الإمارة نجاة، والفرار من الولاية عصمة، ولكن لله علينا إجابة الدعوة وإظهار السنة لئلا نموت موتة عميةً، ولا نعمى عمى الجاهلية، فأنا مجيئك إلى ما دعوت، ومعينك على ما أمرت، ولا حولا ولا قوة إلا بالله، وأستغفر الله لي ولكم.
ثم تكلم سعدٌ فقال بعد حمد الله: وبمحمد، صلى الله عليه وسلم، أنارت الطرق واستقامت السبل وظهر كل حق ومات كل باطل، إياكم أيها النفر وقول الزور وأمنية أهل الغرور، وقد سلبت الأماني قوماً قبلكم ورثوا ما ورثتم ونالوا ما نلتم فاتخذهم الله عدواً ولعنهم لعناً كبيراً. قال الله تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) إلى قوله: (لبئس ما كانوا يفعلون) المائدة: ، إني نكبت قرني وأخذت سهمي الفالج وأخذت لطلحة بن عبيد الله ما ارتضيت لنفسي، فأنا به كفيل وبما أعطيت عنه زعيم والأمر إليك يا ابن عوف بجهد النفس وقصد النصح، وعلى الله قصد السبيل، وإليه الرجوع، وأستغفر الله لي ولكم، وأعوذ بالله من مخالفتكم.
ثم تكلم علي بن أبي طالب فقال: الحمد لله الذي بعث محمداً منا نبياً، وبعثه إلينا رسولاً، فنحن بيت النبوة، ومعدن الحكمة، وأمان أهل الأرض، ونجاة لمن طلب، لنا حق إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل ولو طال السرى، لو عهد إلينا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عهداً لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولاً لجادلنا عليه حتى نموت، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم، لا حول ولا قوة إلا بالله، اسمعوا كلامي وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا المجتمع تنتضى فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى تكونوا جماعة، ويكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة، ثم قال:
فإن تك جاسمٌ هلكت فإني ... بما فعلت بنو عبد بن ضخم
مطيعٌ في الهواجر كل غيٍّ ... بصيرٌ بالنوى من كل نجم
فقال عبد الرحمن: أيكم يطيب نفساً أن يخرج نفسه من هذا الأمر؟ وذكر قريباً مما تقدم.
ثم جلس عثمان في جانب المسجد بعد بيعته، ودعا عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وكان قتل قاتل أبيه أبا لؤلؤة، وقتل جفينة رجلاً نصرانياً من أهل الحيرة كان ظهيراً لسعد بن مالك، وقتل الهرمزان، فلما ضربه بالسيف قال: لا إله إلا الله! فلما قتل هؤلاء أخذه سعد بن أبي وقاص وحبسه في داره وأخذ سيفه وأحضره عند عثمان، وكان عبيد الله يقول: والله لأقتلن رجالاً ممن شرك في دم أبي، يعرض بالمهاجرين والأنصار، وإنما قتل هؤلاء النفر لأن عبد الرحمن بن أبي بكر قال غداة قتل عمر: رأيت عشية أمس الهرمزان وأبا لؤلؤة، وجفينة وهم يتناجون، فلما رأوني ثاروا وسقط منهم خنجر له رأسان نصابه في وسطه، وهو الخنجر الذي ضرب به عمر، فقتلهم عبيد الله. فلما أحضره عثمان قال؛ أشيروا علي في هذا الرجل الذي فتق في الإسلام ما فتق! فقال علي: أرى أن تقتله. فقال بعض المهاجرين: قتل عمر أمس ويقتل ابنه اليوم! فقال عمرو بن العاص: إن الله قد أعفاك أن يكون هذا الحدث ولك على المسلمين سلطان. فقال عثمان: أنا وليه وقد جعلتها دية وأحتملها في مالي. وكان زياد بن لبيد البياضي الأنصاري إذا رأى عبيد الله يقول:

ألا يا عبيد الله ما لك مهربٌ ... ولا ملجأٌ من إبن أروى ولا خفر
أصبت دماً والله في غير حله ... حراماً وقتل الهرمزان له خطر
على غير شيء غير أن قال قائلٌ ... أتتهمون الهرمزان على عمر
فقال سفيه، والحوادث جمةٌ ... نعم إتهمه قد أشار وقد أمر
وكان سلاح العبد في جوف بيته ... يقلبها والأمر بالأمر يعتبر
فشكا عبيد الله إلى عثمان زياد بن لبيد، فنهى عثمان زياداً، فقال في عثمان:
أبا عمرٍو عبيد الله رهنٌ ... فلا تشكك بقتل الهرمزان
فإنك إن عفوت الجرم عنه ... وأسباب الخطا فرسا رهان
أتعفو إذ عفوت بغير حقٍّ ... فما لك بالذي تحكي يدان
فدعا عثمان زياداً فنهاه وشذبه.
وقيل في فداء عبيد الله غير ذلك، قال الغماذيان بن الهرمزان: كانت العجم بالمدينة يستروح بعضها إلى بعض، فمن فيروز أبو لؤلؤة بالهرمزان ومعه خنجر له رأسان فتناوله منه وقال: ما تصنع به؟ قال: أسن به. فرآه رجل، فلما أصيب عمر قال: رأيت الهرمزان دفعه إلى فيروز، فأقبل عبيد الله فقتله، فلما ولي عثمان أمكنني منه فخرجت به وما في الأرض أحدٌ إلا معي إلا أنهم يطلبون إلي فيه، فقلت لهم: ألي قتله؟ قالوا: نعم، وسبوا عبيد الله، قلت لهم: أفلكم منعةٌ؟ قالوا: لا، وسبوه، فتركته لله ولهم، فحملوني، فوالله ما بلغت المنزل إلا على رؤوس الناس.
والأول أصح في إطلاق عبيد الله لأن علياً لما ولي الخلافة أراد قتله فهرب منه إلى معاوية بالشام، ولو كان إطلاقه بأمر ولي الدم لم يتعرض له علي.
ذكر عدة حوادثكان العمال فيها على مكة نافع بن عبد الحرث الخزاعي، وعلى الطائف سفيان بن عبد الله الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن أبي ربيعة، وعلى الكوفة المغيرة بن شعبة، وعلى البصرة أبو موسى الأشعري، وعلى مصر عمرو بن العاص، وعلى حمص عمير بن سعد، وعلى دمشق معاوية، وعلى البحرين وما والاها عثمان بن أبي العاص الثقفي.
وفيها غزا معاوية الصائفة حتى بلغ عمودية ومعه عبادة بن الصامت وأبو أيوب الأنصاري وأبو ذر وشداد بن أوس.
وفيها فتح معاوية عسقلان على صلح، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة كعب بن سور، وقيل: إن أبا بكر وعمر لم يكن لهما قاض.
وفي هذه السنة توفي قتادة بن النعمان الأنصاري، وهو الذي رد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عينه، وصلى عليه عمر بن الخطاب، وهو بدري، وقيل: توفي سنة أربع وعشرين. وفي خلافة عمر توفي الحباب بن المنذر بن الجموح الأنصاري، وهو بدري، وربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، وهو أسن من العباس، وعمير بن عوف مولى سهيل بن عمرو، وهو بدري، وعمير بن وهب بن خلف الجمحي، شهد أحداً، وعتبة بن معسود أخو عبد الله بن مسعود، وهو من مهاجرة الحبشة شهد أحداً، وعدي بن أبي الزغباء الجهني، وهو عين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم بدر وشهد غيرها أيضاً.
وفيها مات عويم بن ساعدة الأنصاري، وهو عقبيٌّ بدري، وقيل: إنه من بلي وله حلف في الأنصار. وفيها مات سهيل بن رافع الأنصاري، شهد بدراً، ومسعود بن أوس بن زيد الأنصاري، وقيل: بل عاش بعد ذلك وشهد صفين مع علي. وفيها توفي واقد بن عبد الله التميمي حليف الخطاب، وهو أول من قاتل في سبيل الله في الإسلام، وقتل عمرو بن الحضرمي، وكان إسلامه قبل دول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم. وفيها مات أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وأخوه عبد الله، وكان عبد الله بدرياً، ولم يشهدها أبو جندل لأن أباه سجنه بمكة ومنعه من الهجرة إلى يوم الحديبية، وقد تقدم كيف خلص. وفيها مات أبو خالد الحرث بن قيس بن خالد، وكان أصابه جرح باليمامة فاندمل ثم انتقض عليه فمات منه، وهو عقبي بدري. وفيها مات أبو خراش الهذلي الشاعر، وخبر موته مشهور. وفيها توفي غيلان ابن سلمة الثقفي، وهو الذي أسلم وتحته عشر نسوة. وفيها في آخرها مات الصعب بن جثامة بن قيس الليثي.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين

ذكر بيعة عثمان بن عفان بالخلافة

في المحرم منها لثلاث مضين منه بويع عثمان بن عفان، وقيل غير ذلك على ما تقدم، وكان هذا العام يسمى عام الرعاف لكثرته فيه بالناس. واجتمع أهل الشورى عليه، وقد دخل وقت العصر، فأذن مؤذن صهيب واجتمعوا بين الأذان والإقامة، فخرج فصلى بالناس وزادهم مائة مائة، ووفد أهل الأمصار، وهو أول من صنع ذلك، وقصد المنبر وهو أشدهم كآبة، فخطب الناس ووعظهم وأقبلوا يبايعونه.
ذكر عزل المغيرة عن الكوفة

وولاية سعد بن أبي وقاص
وفيها عزل عثمان المغيرة بن شعبة عن الكوفة واستعمل سعد بن أبي وقاص عليها بوصية عمر فإنه قال: أوصي الخليفة بعدي أن يستعمل سعداً فإني لم أعزله عن سوء ولا خيانة، فكان أول عامل بعثه عثمان، فعمل عليها سعدٌ سنة وبعض أرى، وقيل: بل أقر عثمان عمال عمر جميعهم سنة لأن عمر أوصى بذلك، ثم عزل المغيرة بعد سنة واستعمل سعداً؛ فعلى هذا القول تكون إمارة سعد سنة وخمس وعشرين.
وحج بالنس في هذه السنة عثمان، وقيل: عبد الرحمن بن عوف بأمر عثمان. وقد تقدم ذكر الفتوح التي ذكر بعض العلماء أنها كانت زمن عثمان وذكرت الخلاف هنالك. وفي هذه السنة مات عبد الرحمن بن كعب الأنصاري، وهو بدري، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك، وسراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وقيل: مات بعد ذلك، وهو الذي أدرك النبي، صلى الله عليه وسلم، في هجرته.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين
ذكر خلاف أهل الإسكندرية
في هذه السنة خالف أهل الإسكندرية ونقضوا صلحهم.
وكان سبب ذلك أن الروم عظم عليهم فتح المسلمين الإسكندرية وظنوا إنهم لا يمكنهم المقام ببلادهم بعد خروج الإسكندرية عن ملكهم، فكاتبوا من كان فيها من الروم ودعوهم إلى نقض الصلح، فأجابوهم إلى ذلك. فسار إليهم من القسطنطينية جيش كثير وعليهم منويل الخصي، فأرسوا بها، واتفق معهم من بها من الروم، ولم يوافقهم المقوقس بل ثبت على صلحه. فلما بلغ الخبر إلى عمرو بن العاص سارى إليهم وسار الروم إليه فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الروم وتبعهم المسلمون إلى أن أدخلوهم الإسكندرية وقتلوا منهم في البلد مقتلةً عظيمة، منهم منويل الخصي. وكان الروم لما خرجوا من الإسكندرية قد أخذوا أموال أهل تلك القرى من وافقهم ومن خالفهم. فلما ظفر بهم المسلمون جاء أهل القرى الذين خالفوهم فقالوا لعمرو بنالعاص: إن الروم أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة. فرد عليهم ما عرفوا من أموالهم بعد إقامة البينة. وهدم عمرو سور الإسكندرية وتركها بغير سور.
وفيها بلغ سعد بن أبي وقاص على أهل الري عزمٌ على نقض الهدنة والغدر، فأرسل إليهم وأصلحهم وغزا الديلم ثم انصرف.
ذكر عزل سعد عن الكوفة
وولاية الوليد بن عقبة
في هذه السنة عزل عثمان بن عفان سعد بن أبي وقاص عن الكوفة في قول بعضهم، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو، واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، أمهما أروى بنت كريز، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب.

وسبب ذلك أن سعداً اقترض من عبد الله بن مسعود من بيت المال قرضاً، فلما تقاضاه ابن مسعود لم يتيسر له قضاؤه فارتفع بينهما الكلام، فقال له سعد: ما أراك إلا ستلقى شراً، هل أنت إلا ابن مسعود عبدٌ من هذيل؟ فقال: أجل والله إني لابن مسعود وإنك لابن حمينة. وكان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص حاضراً فقال: إنكما لصاحبا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينظر إليكما. فرفع سعدٌ يده ليدعو على ابن مسعود، وكان فيه حدة، فقال: اللهم رب السموات والأرض. فقال ابن مسعود: ويلك قل خيراً ولا تلعن. فقال سعد عند ذلك: أما والله لولا اتقاء الله لدعوت عليك دعوة لا تخطئك. فولى عبد سريعاً حتى خرج، ثم استعان عبد الله بأناس على استخراج المال، واستعان سعد بأناس على إنظاره، فافترقوا وبعضهم يلوم بعضاً، يلوم هؤلاء سعداً وهؤلاء عبد الله، فكان أول ما نزغ به بين أهل الكوفة، وأول مصر نزغ الشيطان بين أهل الكوفة. وبلغ الخير عثمان فغضب عليهما فعزل سعد وأقر عبد الله، واستعمل الوليد بن عقبة بن أبي معيط مكان سعد، وكان على عرب الجزيرة عاملاً لعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان بعده، فقدم الكوفة والياً عليها، وأقام عليها خمس سنين، وهو من أحب الناس إلى أهلها. فلما قدم قال له سعد: أكست بعدنا أم حمقنا بعدك؟ فقال: لا تجزعن يا أبا إسحق، كل ذلك لم يكن وإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون. فقال سعد: أراكم جعلتموها ملكاً! وقال له ابن مسعود: ما أدري أصلحت بعدنا أم فسد الناس!
ذكر صلح أهل أرمينية وأذربيجانلما استعمل عثمان الوليد على الكوفة عزل عتبة بن فرقد على أذربيجان، فنقضوا، فغزاهم الوليد سنة خمس وعشرين، وعلى مقدمته عبد الله بن شبيل الأحمسي، فأغار على أهل موقان والببر والطيلسان ففتح وغنم وسبى، فطلب أهل كور أذربيجان الصلح، فصالحهم على صلح حذيفة، وهو ثمانمائة ألف درهم، وقبض المال. ثم بث سراياه، وبعث سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أهل أرمينية في اثني عشر ألفاً، فسار في أرمينية يقتل ويسبي ويغنم، ثم انصرف وقد ملأ يديه حتى أتى الوليد، فعاد الوليد وقد ظفر وغنم وجعل طريقه على الموصل، ثم أتى الحديثة فنزلها، فأتاه بها كتاب عثمان فيه أن معاوية بن أبي سفيان كتب إلي يخبرني أن الروم قد أجلبت على المسلمين في جموع كثيرة، وقد رأيت أن يمدهم إخوانهم من أهل الكوفة، فابعث إليهم رجلاً له نجدةٌ وبأس في ثمانية آلاف أو تسعة آلاف من المكان الذي يأتيك كتابي فيه والسلام.
فقام الوليد في الناس وأعلمهم الحال وندبهم مع سلمان بن ربيعة الباهلي، فانتدب معه ثمانةي آلاف، فمضوا حتى دخلوا مع أهل الشام إلى أرض الروم، فشنوا الغارات على أرض الروم فأصاب الناس ما شاؤوا وافتتحوا حصوناً كثيرة.
وقيل: إن الذي أمد حبيب بن مسلمة بسلمان بن ربيعة كان سعيد بن العاص، وكان سبب ذلك أن عثمان كتب إلى معاوية يأمره أن يغزي حبيب بن مسلمة في أهل الشام أرمينية، فوجهه إليها، فأتى قاليقلا فحصرها وضيق على من بها، فطلبوا الأمان على الجلاء أو الجزية، فجلا كثير منهم فلحقوا ببلاد الروم، وأقام حبيب بها فيمن معه أشهراً.
وإنما سميت قاليقلا لأن امرأة بطريق أرميناقس كان اسمها قالي بنت هذه المدينة فسمتها قالي قله، تعني إحسان قالي، فعربتها العرب فقالت: قاليقلا.
ثم بلغه أن بطريق أرميناقس، وهي البلاد التي هي الآن بيد أولاد السلطان قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس واقصرا وقونية وما والاها من البلاد وإلى خليج القسطنطينية، واسمه الموريان، قد توجه نحوه في ثمانين ألفاً من الروم. فكتب حبيب إلى معاوية يخبره، فكتب معاوية إلى عثمان، فأرسل عثمان إلى سعيد بن العاص يأمره بإمداد حبيب، فأمده بسلمان في ستة آلاف، وأجمع حبيب على تبييت الروم، فسمعته امرأته أم عبد الله بنت يزيد الكلبية فقالت: أين موعدك؟ فقال: سرادق الموريان. ثم بيتهم فقتل من وقف له، ثم أتى السرادق فوجد امرأته قد سبقته إليه، فكانت أول امرأة من العرب ضرب عليها حجاب سرادق. ومات عنها حبيب فخلف عليها الضحاك بن قيس، فهي أم ولده.

ولما انهزمت الروم عاد حبيب إلى قاليقلا، ثم سار منها فنزل مربالا، فأتاه بطريق خلاط بكتاب عياض بن غنم بأمانه، فأجراه عليه، وحمل إليه البطريق ما عليه من المال، ونزل حبيب خلاط، ثم سار منها فلقيه صاحب مكس بناحية من نواحي البسفرجان، فقاطعه على بلاده، ثم سار منها إلى أزدشاط، وهي القرية التي يكون بها القرمز الذي يصبغ به، فنزل على نهر دبيل وسرح الخيول إليها فحصرها، فتحصن أهلها، فنصب عليهم منجنيقاً، فطلبوا الأمان، فأجابهم إليه وبث السرايا، فبلغت خيله ذات اللجم؛ وإنما سميت ذات اللجم لأن المسلمين أخذوا لجم خيولهم فكبسهم الروم قبل أن يلجموها ثم ألجموها وقاتلوهم فظفروا بهم؛ ووجه سريةً إلى سراج طير وبغروند، فصالحه بطريقها على إتاوة. وقدم عليه بطريق البسفرجان فصالحه على جميع بلاده.
وأتى السيسجان فحاربه أهلها، فهزمهم وغلب على حصونهم وسار إلى جرزان، فأتاه رسول بطريقها يطلب الصلح فصالحه. وسار إلى تفليس فصالحه أهلها، وهي من جرزان، وفتح عدة حصون ومدن تجاورها صلحاً. وسارى سلمان بن ربيعة الباهلي إلى أران ففتح البيلقان صلحاً على أن آمنهم على دمائهم وأموالهم وحيطان مدينتهم، واشترط عليهم الجزية والخراج.
ثم أتى سلمان مدينة برذعة فعسكر على الثرثور، نهر بينه وبينها نحو فرسخ، فقاتله أهلها أياماً، وشن الغارات في قراها، فصالحوه على مثل صلح البيلقان ودخلها؛ ووجه خيله ففتحت رساتيق الولاية، ودعا أكراد البلاشجان إلى الإسلام فقاتلوه فظفر بهم فأقر بعضهم على الجزية وأدى بعضهم الصدقة، وهم قليل؛ ووجه سرية إلى شمكور ففتحوها، وهي مدينة قديمة، ولم تزل معمورة حتى أخربها السناوردية، وهم قوم تجمعوا لما انصرف يزيد بن أسيد عن أرمينية فعظم أمرهم، فعمرها بغا سنة أربعين ومائتين وسماها المتوكلية نسبة إلى المتوكل.
وسار سلمان إلى مجمع أرس والكر ففتح قبلة، وصالحه صاحب سكر وغيرها على الإتاوة، وصالحه ملك شروان وسائر ملوك الجبال وأهل مسقط والشابران ومدينة الباب ثم امتنعت بعده.
ذكر غزوة معاوية الروموفيها غزا معاوية الروم فبلغ عمورية فوجد الحصون التي بين أنطاكية وطرسوس خالية فجعل عندها جماعةً كثيرة من أهل الشام والجزيرة حتى انصرف من غزاته، ثم أغزى بعد ذلك يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره ففعل مثل ذلك، ولما خرج هدم الحصون إلى أنطاكية.
ذكر غزوة إفريقيةفي هذه السنة سير عمرو بن العاص عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى أطراف إفريقية غازياً بأمر عثمان، وكان عبد الله من جند مصر، فلما سار إليها أمده عمرو بالجنود فغنم هو وجنده، فلما عاد عبد الله إلى عثمان يستأذنه في غزو إفريقية، فأذن له في ذلك.
ذكر عدة حوادثوفيها أرسل عثمان عبد الله بن عامر إلى كابل، وهي عمالة سجستان، فبلغها في قولٍ، فكانت أعظم من خراسان، حتى مات معاوية وامتنع أهلها.
وفيها ولد يزيد بن معاوية. وفيها كانت غزوة سابور الأولى، وقيل: سنة ست وعشرين، وقد تقدم ذلك. وحج بالناس عثمان.
ثم دخلت سنة ست وعشرين

ذكر الزيادة في الحرم
في هذه السنة أمر عثمان بتجديد أنصاب الحرم. وفيها زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه وابتاع من قوم فأبى آخرون فهدم عليهم ووضع الأثمان في بيت المال. فصاحوا بعثمان، فأمر بهم فحبسوا، وقال لهم! قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به. فكلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فأطلقهم.
أسيد بفتح الهمزة وكسر السين.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين
ذكر ولاية عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر وفتح إفريقية
في هذه السنة عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر، واستعمل عليه عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان أخا عثمان من الرضاعة، فتباغيا، فكتب عبد الله إلى عثمان يقول: إن عمراً كسر على الخراج. وكتب عمرو يقول: إن عبد الله قد كسر على مكيدة الحرب. فعزل عثمان عمراً واستقدمه، واستعمل بدله عبد الله على حرب مصر وخراجها، فقدم عمرو مغضباً، فدخل على عثمان وعليه جبة محشوة قطناً. فقال له: ما حشو جبتك؟ قال مرو. قال: قد علمت أن حشوها عمرو ولم أرد هذا، إنما سألت أقطنٌ هو أم غيره؟.

وكان عبد الله من جند مصر، وكان قد أمره عثمان بغزو إفريقية سنة خمس وعشرين، وقال له عثمان: إن فتح الله عليك فلك من الفيء خمس الخمس نفلاً. وأمر عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله بن نافع بن الحرث على جند وسرحهما إلى الأندلس، وأمرهما بالاجتماع مع عبد الله بن سعد على صاحب إفريقية، ثم يقيم عبد الله في عمله ويسيران إلى عملهما. فخرجوا حتى قطعوا أرض مصر ووطئوا أرض إفريقية، وكانوا في جيش كثير عدتهم عشرة آلاف من شجعان المسلمين، فصالحهم أهلها على مال يؤدونه ولم يقدموا على دخول إفريقية والتوغل فيها لكثرة أهلها.
ثم إن عبد الله بن سعد لما ولي أرسل إلى عثمان في غزو إفريقية والاستكثار من الجموع عليها وفتحها، فاستشار عثمان من عنده من الصحابة، فأشار أكثرهم بذلك، فجهز إليه العساكر من المدينة وفيهم جماعة من أعيان الصحابة، منهم عبد الله بن عباس وغيره، فسار بهم عبد الله بن سعد إلى أفريقية. فلما وصلوا إلى برقة لقيهم عقبة بن نافع فيمن معه من المسلمين، وكانوا بها، وساروا إلى طرابلس الغرب فنهبوا من عندها من الروم. وسار نحو إفريقية وبث السرايا في كل ناحية، وكان ملكهم اسمه جرجير، وملكه من طرابلس إلى طنجة، وكان هرقل ملك الروم قد ولاه إفريقية فهو يحمل إليه الخراج كل سنة. فلما بلغه خبر المسلمين تجهز وجمع العساكر وأهل البلاد فبلغ عسكره مائة ألف وعشرين ألف فارس، والتقى هو والمسلمون بمكان بينه وبين مدينة سبيطلة يوم وليلة، وهذه المدينة كانت ذلك الوقت دار الملك، فأقاموا هناك يقتتلون كل يوم، وراسله عبد الله بن سعد يدعوه إلى الإسلام أو الجزية، فامتنع منهما وتكبر عن قبول أحدهما.
وانقطع خبر المسلمين عن عثمان، فسير عبد الله بن الزبير في جماعة إليهم ليأتيه بأخبارهم، فسار مجداً ووصل إليهم وأقام معهم، ولما وصل كثر الصياح والتكبير في المسلمين، فسأل جرجير عن الخبر فقيل قد أتاهم عسكر، ففت ذلك في عضده. ورأى عبد الله بن الزبير قتال المسلمين كل يوم من بكرة إلى الظهر فإذا أذن بالظهر عاد كل فريق إلى خيامه، وشهد القتال من الغد فلم ير ابن أبي سرح معهم، فسأل عنه، فقيل إنه سمع منادي جرجير يقول: من قتل عبد الله بن سعد فله مائة ألف دينار وأزوجه ابنتي، وهو يخاف، فحضر عنده وقال له: تأمر منادياً ينادي: من أتاني برأس جرجير نفلته مائة ألف وزوجته ابنته واستعملته على بلاده. ففعل ذلك، فصار جرجير يخاف أشد من عبد الله.
ثم إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غداً جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن الروم في باقي العسكر إلى أن يضجروا ويملوا، فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يهشدوا القتال وهم مستريحون، ونقصدهم على غرة فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك.
فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالاً شديداً. فلما أذن بالظهر هم الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم ثم عاد عنهم هو والمسلمون، فكل من الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعباً، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحاً من شجعان المسلمين وقصد الروم فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا حملة رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون وقتل جرجير، قتله ابن الزبير، وانهزم الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذت ابنة الملك جرجير سبية. ونازل عبد الله بن سعد المدينة، فحصرها حتى فتحها ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار.

ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة، فسبوا وغنموا، وسير عسكراً إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد، فحصره وفتحه بالأمان فصالحه أهل إفريقيى على ألفي ألف وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك وأرسله إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية؛ وقيل: إن إبنة الملك وقعت لرجل من الأنصار فأركبها بعيراً وارتجز بها يقول:
يا ابنة جرجيرٍ تمشي عقبتك ... إن عليك بالحجاز ربتك
لتحملن من قباء قربتك
ثم إن عبد الله بن سعد عاد من إفريقية إلى مصر، وان مقامه بإفريقية سنة وثلاثة أشهر، ولم يفقد من المسلمين إلا ثلاثة نفر، قتل منهم أبو ذؤيب الهذلي الشاعر فدفن هناك، وحمل خمس إفريقية إلى المدينة فاشتراه مروان بن الحكم بخمسمائة ألف دينار فوضعها عنه عثمان، وكان هذا مما أخذ عليه.
وهذا أحسن ما قيل في خمس إفريقية، فإن بعض الناس يقول: أعطى عثمان خمس أفريقية عبد الله بن سعد، وبعضهم يقول: أعطاه مروان بن الحكم. وظهر بهذا أنه أعطى عبد الله خمس الغزوة الأولى وأعطى مروان خمس الغزوة الثانية التي افتتحت فيها جميع إفريقية، والله أعلم.
ذكر انتقاض إفريقية وفتحها ثانيةكان هرقل ملك القسطنطينية يؤدي إليه كل ملك من ملوك النصارى الخراج، فهم من مصر وإفريقية والأندلس وغير ذلك، فلما صالح أهل إفريقية عبد الله بنى سعد أرسل هرقل إلى أهلها بطريقاً له وأمره أن يأخذ منهم مثل ما أخذ المسلمون، فنزل البطريق في قرطاجنة وجمع أهل إفريقية وأخبرهم بما أمره الملك، فأبوا عليه، وقالوا: نحن نؤدي ما كان يؤخذ منا، وقد كان ينبغي له أن يسامحنا لما ناله المسلمون منا. وكان قد قام بأمر إفريقية بعد قتل جرجير رجل رجل آخر من الروم، فطرده البطريق بعد فتن كثيرة، فسار إلى الشام وبه معاوية وقد استقر له الأمر بعد قتل علي، فوصف له إفريقية وطلب أن يرسل معه جيشاً، فسير معه معاوية بن أبي سفيان معاوية بن حديج السكوني. فلما وصلوا إلى الإسكندرية هلك الرومي ومضى ابن حديج فوصل إلى إفريقية وهي نار تضطرم وكان معه عسكر عظيم فنزل عند قمونية، وأرسل البطريق إليه ثلاثين ألف مقاتل. فلما سمع بهم معاوية سير إليهم وجيشاً من المسلمين، فقاتلوهم، فانهزمت الروم وحصر حصن جلولاء فلم يقدر عليه فانهدم سور الحصن فملكه المسلمون وغنموا ما فيه، وبث السرايا، فسكن الناس وأطاعوا، وعاد إلى مصر.
حديج بضم الحاء وفتح الدال المهملتين وآخره جيم.
ثم لم يزل أهل إفريقية من أطوع أهل البلدان وأسمعهم إلى زمان هشام بن عبد الملك حتى دب إليهم دعاة أهل العراق واستثاروهم فشقوا العصا، وفرقوا بينهم إلى اليوم، وكانوا يقولون: لا نخالف الأئمة بما تجني العمال. فقالوا لهم: إنما يعمل هؤلاء بأمر أولئك. فقالوا: حتى نخبرهم، فخرج ميسرة في بضعة وعشرين رجلاً فقدموا على هشام فلم يؤذن لهم، فدخلوا على الأبرش فقالوا: أبلغ أمير المؤمنين أن أميرنا يغزو بنا وبجنده فإذا غنمنا نفلهم، ويقول: هذا أخلص لجهادنا، وإذا حاصرنا مدينةً قدمنا وأخرهم، ويقول: هذا ازدياد في الأجر، ومثلنا كفى إخوانه؛ ثم إنهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرون بطونها عن سخالها يطلبون الفراء البيض لأمير المؤمنين فيقتلون ألف شاة في جلد، فاحتملنا ذلك، ثم إنهم سامونا أن يأخذونا كل جميلة من بناتنا، فقلنا: لم نجد هذا في كتاب ولا سنة ونحن مسلمون، فأحببنا أن نعلم أعن رأي أمير المؤمنين هذا أم لا؟ فطال عليهم المقام ونفدت نفقاتهم، فكتبوا أسماءهم ودفعوها إلى وزرائه وقالوا: إن سأل عنا أمير المؤمنين فأخبروه. ثم رجعوا إلى إفريقية فخرجوا على عامل هشام فقتلوه واستولوا على إفريقية، وبلغ الخبر هشاماً فسأل عن النفر فعرف أسماءهم فإذا هم الذين صنعوا ذلك.
ذكر غزوة الأندلسلما افتتحت إفريقية أمر عثمان عبد الله بن نافع بن الحصين وعبد الله بن نافع ابن عبد القيس أن يسيرا إلى الأندلس، فأتياها من قبل البحر، وكتب عثمان إلى من انتدب معهما: أما بعد فإن القسطنطينية إنما تفتح من قبل الأندلس.

فخرجوا ومعهم البربر، ففتح الله على المسلمين وزاد في سلطان المسلمين مثل إفريقية. ولما عزل عثمان عبد الله بن سعد عن إفريقية ترك في عمله عبد الله بن نافع بن عبد القيس فكان عليها، ورجع عبد الله إلى مصر، وبعث عبد الله إلى عثمان مالاً قد حشد فيه، فدخل عمرو على عثمان فقال له: يا عمرو هل تعلم أن تلك اللقاح درت بعدك؟ قال عمرو: إن فصالها قد هلكت.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها كان فتح إصطخر الثاني على يد عثمان ابن أبي العاص. وفيها غزا معاوية بن أبي سفيان قنسرين. وفيها مات أبو ذؤيب الهذلي الشاعر بمصر منصرفاً من إفريقية، وقيل: بل مات بطريق مكة في البادية، وقيل: مات ببلاد الروم، وكلهم قالوا: مات في خلافة عثمان. وفيها مات أبو رمثة البلوي بإفريقية، له صحبة. وفيها ماتت حفصة بنت عمر ابن الخطاب زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، وقيل: ماتت سنة إحدى وأربعين، وقيل: سنة خمس وأربعين.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين

ذكر فتح قبرس
قيل: في سنة ثمان وعشرين كان فتح قبرس على يد معاوية، وقيل: سنة تسع وعشرين، وقيل: سنة ثلاث وثلاثين، وقيل: إنما غزاها معاوية هذه السنة غزا معه جماعة من الصحابة فيهم أبو ذر وعبادة بن الصامت ومعه زوجته أم حرام، وأبو الدرداء وشداد بن أوس، وكان معاوية قد لج على عمر في غزو البحر وقرب الروم من حمص، وقال: إن قرية من قرى حمص ليسمع أهلها نباح كلابهم وصياح دجاجهم. فكتب عمر إلى عمرو بن العاص: صف لي البحر وراكبه. فكتب إليه عمرو بن العاص: إني رأيت خلقاً كبيراً يركبه خلقٌ صغير، ليس إلا السماء والماء، إن ركد خرق القلوب، وإن تحرك أزاغ العقول، يزداد فيه اليقين قلة، والشك كثرة، هم فيه كدود على عود، إن مال غرق، وإن نجا برق. فلما قرأه كتب إلى معاوية: والذي بعث محمداًن صلى الله عليه وسلم، بالحق لا أحمل فيه مسلماً أبداً، وقد بلغني أن بحر الشام يشرف على أطول شيء من الأرض فيستأذن الله في كل يوم وليلة في أني يغرق الأرض، فكيف أحمل الجنود على هذا الكافر! وبالله لمسلم أحب إلي مما حوت الروم. وإياك أن تعرض إلي، فقد علمت ما لقي العلاء مني.
قال: وترك ملك الروم الغزو وكاتب عمر وقاربه. وبعثت أم كلثوم، بنت علي بن أبي طالب، زوج عمر بن الخطاب، إلى امرأة ملك الروم بطيب وشيء يصلح للنساء مع البريد، فأبلغه إليها، فأهدت امرأة الملك إليها هدية، منها عقد فاخر. فلما رجع البريد أخذ عمر ما معه ونادى: الصلاة جامعة، فاجتمعوا، وأعلمهم الخبر، فقال القائلون: هو لها بالذي كان لها، وليست امرأة الملك بذمة فتصانعك. وقال آخرون: قد كنا نهدى لنستثيب. فقال عمر: لكن الرسول رسول المسلمين والبريد بريدهم، والمسلمون عظموها في صدرها فأمر بردها إلى بيت المال وأعطاها بقدر نفقتها.
فلما كان زمن عثمان كتب إليه معاوية يستأذنه في غزو البحر مراراً، فأجابه عثمان بأخرة إلى ذلك وقال له: لا تنتخب الناس ولا تقرع بينهم، خيرهم فمن اختار الغزو طائعاً فاحمله وأعنه. ففعل، واستعمل عبد الله بن قيس الجاسي حليف بني فزارة، وسار المسلمون من الشام إلى قبرس، وسار إليها عبد الله بن سعد من مصر فاجتمعوا عليها، فصالحهم أهلها على جزية سبعة آلاف دينار كل سنة يؤدونها إلى الروم مثلها، لا يمنعهم المسلمون عن ذلك وليس على المسلمين منعهم ممن أرادهم ممن وراءهم، وعليهم أن يؤذنوا المسلمين بمسير عدوهم من الروم إليهم ويكون طريق المسلمين إلى العدو عليهم.
قال جبير بن نفير: ولما فتحت قبرس ونهب منها السبي نظرت إلى أبي الدرداء يبكي فقلت: ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله وأذل فيه الكفر وأهله؟ قال: فضرب منكبي بيده وقال: ثكلتك أمك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا تركوا أمره بينما هي أمة ظاهرة قاهرة للناس لهم الملك إذا تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى فسلط عليهم السباء، وإذا سلط السباء على قوم فليس له فيهم حاجة.

وفي هذه الغزاة ماتت أم حرام بنت ملحان الأنصارية، ألقتها بغلتها بجزية قبرس فاندقت عنقها فماتت، تصديقاً للنبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أخبرها أنها في أول من يغزو في البحر، وبقي عبد الله بن قيس الجاسي على البحر فغزا على خمسين غزاة من بين شاتية وصائفة في البر والبحر، لم يغرق أحد ولم ينكب، فكان يدعو الله أن يعافيه في جنده، فأجابه، فلما أراد الله أن يصيبه في جسده خرج في قارب طليعةً، فانتهى إلى المرفإ من أرض الروم وعليه مساكن يسألون، فتصدق عليهم، فرجعت امرأةٌ منهم إلى قريتها فقالت للرجال: هذا عبد الله بن قيس في المرفإ؛ فثاروا إليه فهجموا عليه فقتلوه بعد أن قاتلهم فأصيب وحده ونجا الملاح حتى أتى أصحابه فأعلمهم فجاؤوا حتى أرسوا بالمرفإ، والخليفة عليهم سفيان بن عوف الأزدي، فخرج إليهم فقاتلهم فضجر فجعل يشتم أصحابه. فقالت جارية عبد الله: ما هكذا كان يقول حين يقاتل! فقال سفيان: فكيف كان يقول؟ قالت: (الغمرات ثم ينجلينا). فلزمها بقولها، وأصيب في المسلمين يومئذ. وقيل لتلك المرأة بعد: بأي شيء عرفته؟ قالت: كان كالتاجر فلما سألته أعطاني كالملك فعرفته بهذا.
وفي هذه السنة غزا حبيب بن مسلمة سورية من أرض الروم.
وفيها تزوج عثمان نائلة بنت الفرافصة، وكانت نصرانيةً فأسلمت قبل أن يدخل بها. وفيها بنى عثمان ازوراء، وحج بالناس عثمان هذه السنة.
حرام بالحاء المهملة والراء. والجاسي بالجيم والسين المهملة. والفرافصة بفتح الفاء إلا الفرافصة بن الأحوص الكلبي الذي من ولده نائلة زوج عثمان.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين

ذكر عزل أبي موسى عن البصرة
واستعمال ابن عامر عليها
قيل: في هذه السنة عزل عثمان أبا موسى الأشعري عن البصرة، واستعمل عبد الله بن عامر بن كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس، وهو ابن خال عثمان، وقيل: كان ذلك لثلاث سنين مضت من خلافة عثمان.
وكان سبب عزله أن أهل إيذج والأكراد كفروا في السنة الثالثة من خلافة عثمان، فنادى أبو موسى في الناس وحضهم على الجهاد، وذكر من فضل الجهاد ماشياً، فحمل نفر على دوابهم وأجمعوا على أن يخرجوا رجالة. وقال آخرون: لا نعجل بشيء حتى ننظر ما يصنع، فإن أشبه قوله فعله فعلنا كما يفعل.
فلما خرج أخرج ثقله من قصره على أربعين بغلاً، فتعلقوا بعنانة وقالوا: احملنا على بعض هذه الفضول وارغب في المشي كما رغبتنا. فضرب القوم بسوطه، فتركوا دابته، فمضى. وأتوا عثمان فاستعفوه منه وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن تسألنا عنه، فأبدلنا به. فقال: من تحبون؟ فقال غيلان ابن خرشة: في كل أحد عوض من هذا العبد الذي قد أكل أرضنا! أما منكم خسيس فترفعوه؟ أما منكم فقير فتجبروه؟ يا معشر قريش، حتى متى يأكل هذا الشيخ الأشعري هذه البلاد؟ فانتبه لها عثمان فعزل أبا موسى وولى عبد الله ابن عامر بن كريز. فلما سمع أبو موسى قال: يأتيكم غلام خراج ولاج، كريم الجدات والخالات والعمات، يجمع له الجندان. وكان عمر ابن عامر خمساً وعشرين سنة، وجمع له جند أبي موسى وجند عثمان بن أبي العاص الثقفي من عمان والبحرين، واستعمل على خراسان عمير بن عثمان بن سعد؛ وعلى سجستان عبد الله بن عمير الليثي، وهو من ثعلبة، فأثخن فيها إلى كابل، وأثخن عمير في خراسان حتى بلغ فرغانة لم يدع دونها كورة إلا أصلحها؛ وبعث إلى مكران عبيد الله بن معمر فأثخن فيها حتى بلغ النهار؛ وبعث على كرمان عبد الرحمن بن عبيس؛ وبعث إلى الأهواز وفارس نفراً وضم سواد البصرة إلى الحصين بن أبي الحرثم ثم عزل عبد الله بن عمير واستعمل عبد الله بن عامر فأقره عليها سنة ثم عزله؛ واستعمل عاصم بن عمرو وعزل عبد الرحمن بن عبيس؛ وأعاد عدي بن سهيل بن عدي وصرف عبيد الله بن معمر إلى فارس واستعمل مكانه عمير بن عثمان؛ واستعمل على خراسان أمير بن أحمر اليشكري؛ واستعمل على سجستان سنة أربع عمران بن الفضيل البرجمي. ومات عاصم بن عمرو بكرمان.
عبيس بضم العين المهملة وفتح الباء الموحدة ثم الياء المثناة من تحتها وآخره سين مهملة. وأمير بضم الهمزة وفتح الميم وآخره راء. وكريز بن ربيعة بضم الكاف وفتح الراء.
ذكر انتقاض أهل فارس

ثم إن أهل فارس انتفضوا ونكثوا بعبيد الله بن معمر، فسار إليهم، فالتقوا على باب إصطخر، فقتل عبيد الله وانهز المسلمون، وبلغ الخبر عبد الله بن عامر، فاستنفر أهل البصرة وسار بالناس إلى فارس وعلى مقدمته عثمان بن أبي العاص فالتقوا بإصطخر، وكان على ميمنته أبو برزة نضلة بن عبد الله الأسلمي، وعلى ميسرته معقل بن يسار، وعلى الخيل عمران ابن الحصين، ولكلهم صحبة، واشتد القتال، فانهزم الفرس وقتل منهم مقتلة عظيمة وفتحت إصطخر عنوة، وأتى دارابجرد وقد غدر أهلها ففتحها، وسار إلى مدينة جور، وهي أردشير خرة، فانتقضت إصطخر فلم يرجع وتمم السير إلى جور وحاصرها، وكان هرم بن حيان محاصراً لها، وكان المسلمون يحاصرونها وينصرفون عنها فيأتون إصطخر ويغزون نواحي كانت تنتقض عليهم، فلما نزل ابن عامر عليها فتحها.
وكان سبب فتحها أن بعض المسلمين قام يصلي ذات ليلة وإلى جانبه جراب له فيه خبز ولحم، فجاء كلب فجره وعدا به حتى دخل المدينة من مدخل لها خفي، فلزم المسلمون ذلك المدخل حتى دخلوها منه وفتحوها عنوة.
فلما فرغ منها ابن عامر عاد إلى إصطخر ففتحها عنوة بعد أن حاصرها واشتد القتال عليها، ورميت بالمجانيق، وقتل بها خلقاً كثيراً من الأعاجم وأفنى أكثر أهل البيوتات ووجوه الأساورة، وكانوا قد لجأوا إليها. وقيل: إن أهل إصطخر لما نكثوا عاد إليها ابن عامر قبل وصوله إلى جور فملكها عنوةً وعاد إلى جور فأتى دارابجرد فملكها، وكانت منقضة أيضاً، ووطىء أهل فارس وطأة لم يزالوا منها في ذل، وكتب إلى عثمان بالخبر، فكتب إليه أن يستعمل على بلاد فارس هرم بن حيان اليشكري وهرم بن حيان العبدي والخريت بن راشد والمنجاب بن راشد والترجمان الهجيمي، وأمره أن يفرق كور خراسان على جماعة فيجعل الأحنف على المروين، وحبيب بن قرة اليربوعي على بلخ، وخالد بن عبد الله بن زهير على هراة، وأمير بن أحمر على طوس، وقيس بن هبيرة السلمي على نيسابور، وبه تخرج عبد الله بن خازم، وهو ابن عمه، ثم جمعها عثمان قبل موته لقيس، واستعمل أمير بن أحمر على سجستان، ثم جعل عليها عبد الرحمن بن سمرة، وهو من آل حبيب بن عبد شمس، فمات عثمان وهو عليها، ومات وعمران على مكران، وعمير بن عثمان بن سعد على فارس، وابن كندير القشيري على كرمان.
ثم وفد قيس بن هبيرة عبد الله بن خازم إلى ابن عامر في زمن عثمان، وكان ابن عامر يكرمه، فقال لابن عامر: اكتب لي على خراسان عهداً إن خرج عنها قيس. ففعل، فرجع إلى خراسان، فلما قتل عثمان وجاش العدو قال ابن خازم لقيس: الرأي أن تخلفني وتمضي حتى تنظر فيما ينظرون فيه، ففعل، فأخرج ابن خازم بعده عهداً بخلافته وثبت على خراسان إلى أن قام علي بن أبي طالب وغضب قيس من صنيع ابن خازم.
الخريت بكسر الخاء المعجمة والراء المشددة وسكون الياء تحتها نقطتان وآخره تاء فوقها نقطتان.
ذكر الزيادة في مسجد النبي

صلى الله عليه وسلم
في هذه السنة زاد عثمان في مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، في ربيع الأول، وكان ينقل الجص من بطن نخل، وبناه بالحجارة المنقوشة، وجعل عمده من حجارة فيها رصاص وسقفه ساجاً، وجعل طوله ستين ومائة ذراع، وعرضه خمسين ومائة ذراع، وجعل أبوابه على ما كانت أيام عمر ستة أبواب.
ذكر إتمام عثمان الصلاة بجمعٍ
وأول ما تكلم الناس فيه

حج بالناس هذه السنة عثمان، وضرب فسطاطه بمنىً، وكان أول فسطاط ضربه عثمان بمنىً، وأتم الصلاة بها وبعرفة، فكان أول ما تكلم به الناس في عثمان ظاهراً حين أتم الصلاة بمنى، فعاب ذلك غير واحد من الصحابة، وقال له علي: ما حدث أمر ولا قدم عهد، ولقد عهدت النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر يصلون ركعتين وأنت صدراً من خلافتك، فما أدري ما ترجع إليه. فقال: رأي رأيته. وبلغ الخبر عبد الرحمن بن عوف وكان معه، فجاءه وقال له: ألم تصل في هذا المكان مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر ركعتين وصليتها أنت ركعتين؟ قال: بلى ولكني أخبرت أن بعض من حج من اليمن وجفاة الناس قالوا: إن الصلاة للمقيم ركعتان، واحتجوا بصلاتي، وقد اتخذت بمكة أهلاً ولي بالطائف مال. فقال عبد الرحمن: في هذا عذر، أما قولك: اتخذت بها أهلاً، فإن زوجك بالمدينة تخرج بها إذا شئت وإنما تسكن بسكناك، وأما مالك بالطائف فبينك وبينه مسيرة ثلاث ليال، وأما قولك عن حاج اليمن وغيرهم، فقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينزل عليه الوحي والإسلام قليل، ثم أبو بكر وعمر، فصلوا ركعتين وقد ضرب الإسلام بجرانه. فقال عثمان: هذا رأي رأيته.
فخرج عبد الرحمن فلقي ابن مسعود فقال: أبا محمد، غير ما تعلم. قال: فما أصنع؟ قال: اعمل بما ترى وتعلم. فقال ابن مسعود: الخلاف شر وقد صليت بأصحابي أربعاً. فقال عبد الرحمن: قد صليت بأصحابي ركعتين وأما الآن فسوف أصلي أربعاً.
وقيل: كمان ذلك سنة ثلاثين.
ثم دخلت سنة ثلاثين

ذكر عزل الوليد عن الكوفة وولاية سعيد
في هذه السنة عزل عثمان الوليد بن عقبة عن الكوفة وولاها سعيد بن العاص، وقد تقدم سبب ولاية الوليد على الكوفة في السنة الثانية من خلافة عثمان وأنه كان محبوباً إلى الناس، فبقي كذلك خمس سنين وليس لداره باب، ثم إن شباباً من أهل الكوفة نقبوا على ابن الحيسمان الخزاعي وكاثروه، فنذر بهم وخرج عليهم بالسيف وصرخ، فأشرف عليهم أبو شريح الخزاعي، وكان قد انتقل من المدينة إلى الكوفة للقرب من الجهاد، فصاح بهم أبو شريح فلم يلتفتوا وقتلوا ابن الحيسمان، وأخذهم الناس وفيهم زهير بن جندب الأزدي ومورع بن أبي مورع الأسدي، وشبيل بن أبي الأزدي وغيرهم، فشهد عليهم أبو شريح وابنه، فكتب فيهم الوليد إلى عثمان، فكتب عثمان بقتلهم، فقتلهم على باب القصر، ولهذا السبب أخذ في القسامة بقول ولي المقتول عن ملإٍ من الناس ليفطم الناس عن القتل وكان أبو زبيد الشاعر في الجاهلية والإسلام في بني تغلب، وكانوا أخواله، فظلموه ديناً له، فاخذ له الوليد حقه إذ كان عاملاً عليهم، فشكر أبو زبيد ذلك له وانقطع إليه وغشيه بالمدينة والكوفة، وكان نصرانياً، فأسلم عند الوليد وحسن إسلامه، فبينما هو عنده أتى آتٍ أبا زينب وأبا مورع وجندباً، وكانوا يحفرون للوليد منذ قتل أبناءهم ويضعون له العيون، فقال لهم: إن الوليد وأبا زبيد يشربان الخمر، فثاروا وأخذوا معهم نفراً من أهل الكوفة فاقتحموا عليه فلم يروا، فأقبلوا يتلاومون وسبهم الناس، وكتم الوليد ذلك عن عثمان.
وجاء جندبٌ ورهط معه إلى ابن مسعود فقالوا له: إن الوليد يعتكف على الخمر، وأذاعوا ذلك. فقال ابن مسعود: من استتر عنا لم نتبع عورته. فعاتبه الوليد على قوله حتى تغاضبا. ثم أتي الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، واعترف الساحر عند ابن مسعود، وكان يخيل إلى الناس أنه يدخل في دبر الحمار ويخرج من فيه، فأمره ابن مسعود بقتله. فلما أراد الوليد قتله أقبل الناس ومعهم جندبٌ فضرب الساحر فقتله، فحبسه الوليد وكتب إلى عثمان فيه، وأمره بإطلاقه وتأديبه، فغضب لجندب أصحابه وخرجوا إلى عثمان يستعفون من الوليد، فردهم خائبين. فلما رجعوا أتاهم كل موتور فاجتمعوا معهم على رأيهم، ودخل أبو زينب وأبو مورع وغيرهما على الوليد فتحدثوا عنده، فنام فأخذا خاتمه وسارا إلى المدينة، واستيقظ الوليد فلم ير خاتمه، فسأل نساءه عن ذلك، فأخبرنه أن آخر من بقي عنده رجلان صفتهما كذا وكذا. فاتهمهما وقال: هما أبو زينب وأبو مورع، وأرسل يطلبهما، فلم يوجدا.

فقدما على عثمان ومعهما غيرهما وأخبراه أنه شرب الخمر، فأرسل إلى الوليد، فقدم المدينة، ودعا بهما عثمان فقال: أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب؟ فقالا: لا. قال: فكيف؟ قالا اعتصرناها من لحيته وهو يقيء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده، فأورث ذلك عداوة بين أهليهما، فكان على الوليد خميصة فأمر علي بن أبي طالب بنزعها لما جلد.
هكذا في هذه الرواية، والصحيح أن الذي جلده عبد الله بن جعفر بن أبي طالب لأن علياً أمر ابنه الحسن أن يجلده، فقال الحسن: ول حارها من تولى قارها! فأمر عبد الله بن جعفر فجلده أربعين. فقال علي: أمسك، جلد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر أربعين وجلد عثمان ثمانين وكلٌّ سنة وهذا أحب إلي.
وقيل: إن الوليد سكر وصلى الصبح بأهل الكوفة أربعاً ثم التفت إليهم وقال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود: ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم، وشهدوا عليه عند عثمان، فأمر علياً بجلده، فأمر علي عبد الله بن جعفر فجلده، وقال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
نادى وقد تمت صلاتهم: ... أأزيدكم سكراً وما يدري
فأبوا أبا وهب ولو أذنوا ... لقرنت بين الشفع والوتر
كفوا عنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك ولم تزل تجري
فلما علم عثمان من الوليد شرب الخمر عزله وولى سعيد بن العاص بن أمية، وكان سعيد قد ربي في حجر عمر فلما فتح الشام قدمه، فأقام مع معاوية، فذكر عمر يوماً قريشاً، فسأل عنه، فأخبر أنه بالشام، فاستقدمه، فقدم عليه، فقال له: قد بلغني عنك بلاء وصلاح فازدد يزدك الله خيراً. وقال له: هل لك من زوجة؟ قال: لا. وجاء عمر بنات سفيان بن عويف ومعهن أمهن، فقالت أمهن: هلك رجالنا وإذا هلك الرجال ضاع النساء، فضعهن في أكفائهن. فزوج سعيداً إحداهن، وزوج عبد الرحمن بن عوف أخرى والوليد بن عقبة الثالثة. وأتاه بنات مسعود بن نعيم النهشلي فقلن له: قد هلك رجالنا وبقي الصبيان، فضعنا في أكفائنا؛ فزوج سعيداً إحداهن، وجبير بن مطعم الأخرى. وكان عمومته ذوي بلاء في الإسلام وسابقة، فلم يمت عمر حتى كان سعيد من رجال قريش. فلما استعمله عثمان سار حتى أتى الكوفة أميراً ورجع معه الأشتر وأبو خشة الغفاري وجندب بن عبد الله وجثامة بن صعب بن جثامة، وكانوا ممن شخص مع الوليد يعينونه فصاروا عليه، فقال بعض شعراء الكوفة:
فررت من الوليد إلى سعيدٍ ... كأهل الحجر إذ جزعوا فباروا
يلينا من قريشٍ كل عامٍ ... أميرٌ محدثٌ أو مستشار
لنا نارٌ نخوفها فنخشى ... وليس لهم، فلا يخشون، نار
فلما وصل سعيدٌ الكوفة صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكارهٌ، ولكني لم أجد بداً إذا أمرت أن أتمر، ألا إن الفتنة قد أطلعت خطمها وعينيها، ووالله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تعييني، وإني لرائد نفسي اليوم.
ثم نزل وسأل عن أهل الكوفة فعرف حال أهلها، فكتب إلى عثمان أن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم وغلب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة، والغالب على تلك البلاد روادف قدمت، وأعرابٌ لحقت، حتى لا ينظر إلى ذي شرف وبلاء من نابتتها ولا نازلتها.
فكتب إليه عثمان: أما بعد ففضل أهل السابقة والقدمة ومن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها من غيرهم تبعاً لهم إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به وقام به هؤلاء، واحفظ لكلٍ منزلته، وأعطهم جميعاً بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.

فأرسل سعيد إلى أهل الأيام والقادسية فقال: أنتم وجوه الناس، والوجه ينبىء عن الجسد، فأبلغونا حاجة ذي الحاجة وخلة ذي الخلة. وأدخل معهم من يحتمل من اللواحق والروادف. وجعل القراء في سمره، فكأنما كانت الكومة يبساً شملته نار فانقطع إلى ذلك الضرب ضربهم ففشت القالة في أهل الكوفة، فكتب سعيد إلى عثمان بذلك، فجمع الناس وأخبرهم بما كتب إليه. فقالوا له: أصبت، لا تطمعهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا نهض في الأمور من ليس بأهل لها لم يحتملها وأفسدها. فقال عثمان: يا أهل المدينة استعدوا واستمسكوا فقد دبت إليكم الفتن، وإني والله لأتخلصن لكم الذي لكم حتى أنقله إليكم إن رأيتم حتى يأتي من شهد من أهل العراق الفتوح سهمه فيقيم معه في بلاده. فقالوا: كيف تنقل إلينا سهمنا من الأرضين؟ فقال: يبيعها من شاء بما كان له بالحجاز واليمن وغيرهما من البلاد. ففرحوا وفتح الله لهم أمراً لم يكن في حسابهم، وفعلوا ذلك واشتراه رجال من كل قبيلة وجاز لهم عن تراضٍ منهم ومن الناس وإقرار بالحقوق.
ذكر غزو سعيد بن العاص طبرستانفي هذه السنة غزا سعيد بن العاص طبرستان، فإنها لم يغزها أحد إلى هذه السنة. وقد تقدم في أيام عمر الخلاف في ذلك، وأن اصبهبذها صالح سويد ابن مقرن أيام عمر على مال بذله. وأما على هذا القول فإن سعيداً غزاها من الكوفة سنة ثلاثين ومعه الحسن والحسين وابن عباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وحذيفة بن اليمان وابن الزبير وناس من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وخرج ابن عامر من البصرة يريد خراسان فسبق سعيداً ونزل نيسابور، ونزل سعيد قومس، وهي صلح، صالحهم حذيفة بعد نهاوند فأتى جرجان فصالحوه على مائتي ألف، ثم أتى طميسة، وهي كلها من طبرستان متاخمة جرجان، على البحر، فقاتله أهلها، فصلى صلاة الخوف، أعلمه حذيفة كيفيتها، وهم يقتتلون. وضرب سعيد يومئذ رجلاً بالسيف على حبل عاتقه فخرج السيف من تحت مرفقه، وحاصرهم، فسألوا الأمان، فأعطاهم على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، ففتحوا الحصن فقتلوا جميعاً إلا رجلاً واحداً؛ وحوى ما في الحصن، فأصاب رجل من بني نهد سفطاً عليه قفل، فظن أن فيه جوهراً، وبلغ سعيداً فبعث إلى النهدي فأتاه بالسفط، فكسروا قفله فوجدوا فيه سفطاً، ففتحوه فوجدوا خرقة سوداء مدرجة فنشروها فوجدوا خرقة حمراء فنشروها، فإذا خرقة صفراء وفيها أيران كميت وورد. فقال شاعر يهجو بني نهد:
آب الكرام بالسبايا غنيمة ... وآب بنو نهدٍ بأيرين في سفط
كميتٍ ووردٍ وافرين كلاهما ... فظنوهما غنماً فناهيك من غلط
وفتح سيعدٌ نامية، وليست بمدينة، هي صحارى.
ومات مع سعيد محمد بن الحكم بن أبي عقيل جد يوسف بن عمر. ثم رجع سعيد، فمدحه كعب بن جعيل فقال:
فنعم الفتى إذ حال جيلان دونه ... وإذ هبطوا من دستبى ثم أبهرا
في أبيات. ولما صالح سعيد أهل جرجان كانوا يجبون أحياناً مائة ألف، وأحياناً مائتي ألف، وأحياناً ثلثمائة ألف، ويقولون: هذا صلح صلحنا، وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا، فانقطع طريق خراسان من ناحية قومس إلا على خوف شديد منهم. كان الطريق إلى خراسان من فارس إلى كرمان إلى خراسان، وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. وقدمها يزيد بن المهلب فصالح صولا، وفتح البحيرة ودهستان، وصالح أهل جرجان على صلح سعيد.
ذكر غزو حذيفة الباب وأمر المصاحف

وفيها صرف حذيفة عن غزو الري إلى غزو الباب مدداً لعبد الرحمن بن ربيعة، وخرج معه سعيد بن العاص، فبلغ معه أذربيجان، وكانوا يجعلون الناس ردءاً، فأقام حتى عاد حذيفة ثم رجعا. فلما عاد حذيفة قال لسعيد بن العاص: لقد رأيت في سفرتي هذه أمراً، لئن ترك الناس ليختلفن في القرآن ثم لا يقومون عليه أبداً. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت أناساً من أهل حمص يزعمون أن قراءتهم خير من قراءة غيرهم وأنهم أخذوا القرآن عن المقداد، ورأيت أهل دمشق يقولون: إن قراءتهم خير من قراءة غيرهم، ورأيت أهل الكوفة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على ابن مسعود، وأهل البصرة يقولون مثل ذلك وإنهم قرأوا على أبي موسى ويسمون مصحفه لباب القلوب. فلما وصلوا إلى الكوفة أخبر حذيفة الناس بذلك وحذرهم ما يخاف، فوافقه أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكثير من التابعين. وقال له أصحاب ابن مسعود: ما تنكر؟ ألسنا نقرأه على قراءة ابن مسعود؟ فغضب حذيفة ومن وافقه، وقالوا: إنما أنتم أعراب فاسكتوا فإنكم على خطإ. وقال حذيفة: والله لئن عشت لآتين أمير المؤمنين، ولأشيرن عليه أن يحول بين الناس وبين ذلك. فأغلظ له ابن مسعود، فغضب سعيد وقام وتفرق الناس، وغضب حذيفة وسار إلى عثمان فاخبره بالذي رأى، وقال: أنا النذير العريان فأدركوا الأمة. فجمع عثمان الصحابة وأخبرهم الخبر، فأعظموه ورأوا جميعاً ما رأى حذيفة.
فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر: أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها. وكانت هذه الصحف هي التي كتبت في أيام أبي بكر، فإن القتل لما كثر في الصحابة يوم اليمامة قال عمر لأبي بكر: إن القتل قد كثر واستحر بقراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء فيذهب من القرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فأمر أبو بكر زيد بن ثابت فجمعه من الرقاع والعسب وصدور الرجال، فكانت الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر، فلما توفي عمر أخذتها حفصة فكانت عندها.
فأرسل عثمان إليها أخذها منها وأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان: إذا اختلفتم فاكتبوها بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم؛ ففعلوا. فلما نسخوا الصحف ردها عثمان إلى حفصة وارسل إلى كل أفق بمصحف وحرق ما سوى ذلك وأمر أن يعتمدوا عليها ويدعوا ما سوى ذلك. فكل الناس عرف فضل هذا الفعل إلا ما كان من أهل الكوفة، فإن المصحف لما قدم عليهم فرح به أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، وإن أصحاب عبد الله ومن وافقهم امتنعوا من ذلك وعابوا الناس، فقام فيهم ابن مسعود وقال: ولا كل ذلك فإنكم والله قد سبقتم سبقاً بيناً فاربعوا على ظلعكم. ولما قدم عليٌّ الكوفة قام إليه رجل فعاب عثمان بجمع الناس على المصحف، فصاح به وقال: اسكت فعن ملإٍ منا فعل ذلك، فلو وليت منه ما ولي عثمان لسلكت سبيله.
ذكر سقوط خاتم النبي

صلى الله عليه وسلم في بئر أريس
وفيها وقع خاتم النبي، صلى الله عليه وسلم، من يد عثمان في بئر أريس، وهي على ميلين من المدينة، وكانت قليلة الماء، فما أدرك قعرها بعد.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اتخذه لما أراد أن يكاتب الأعاجم يدعوهم إلى الله تعالى، فقيل له: إنهم لا يقبلون كتاباً إلا مختوماً، فأمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن يعمل له خاتم من حديد، فلما عمل جعله في إصبعه، فأتاه جبرائيل فنهاه عنه، فنبذه، وأمر فعمل له خاتم من نحاس وجعله في إصبعه. فقال له جبرائيل، انبذه، فنبذه، وأمررسول الله، صلى الله عليه وسلم بخاتم من فضةٍ فصنع له فجعله في إصبعه، فأمره جبرائيل أن يقره، فأقره. وكان نقشه ثلاثة أسطر: (محمد) سطر، و (رسول) سطر، و (الله) سطر؛ فتختم به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، حتى توفي، ثم تختم به أبو بكر حتى توفي، ثم عمر حتى توفي، ثم تختم به عثمان ست سنين. فحفروا بئراً بالمدينة شرباً للمسلمين، فقعد على رأس البئر فجعل يعبث بالخاتم ويديره باصبعه فسقط من يده في البئر، فطلبوه فيها ونزحوا مافيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالاً عظيماً لمن جاء به، واغتم لذلك غماً شديداً. فلما يئس منه صنع خاتماً آخر على مثاله ونقشه فبقي في إصبعه حتى هلك، فلما قتل ذهب الخاتم فلم يدر من أخذه.
ذكر تسيير أبي ذر إلى الربذة

وفي هذه السنة كان ما ذكر في أمر أبي ذر وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة، وقد ذكر في سبب ذلك أمور كثيرة، من سب معاوية إياه وتهديده بالقتل وحمله إلى المدينة من الشام بغير واء ونفيه من المدينة على الوجه الشنيع، لا يصح النقل به، ولو صح لكان ينبغي أن يعتذر عن عثمان، فإن للإمام أن يؤدب رعيته، وغير ذلك من الأعذار، لا أن يجعل ذلك سبباً للطعن عليه، كرهت ذكرها.
وأما العاذرون فإنهم قالوا: لما ورد ابن السوداء إلى الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر ألا تعجب من معاوية يقول: المال مال الله! ألا إن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون الناس ويمحو اسم المسلمين. فأتاه أبو ذر فقال: ما يدعوك إلى أن تسمي مال المسلمين مال الله الساعة؟ قال: يرحمك الله يا أبا ذر! ألسنا عباد الله والمال ماله؟ قال: فلا تقله. قال: سأقول مال المسلمين. وأتى ابن السوداء أبا الدرداء فقال له مثل ذلك. فقال: أظنك والله يهودياً! فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به عبادة وأتى به معاوية فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر.
وكان أبو ذر يذهب إلى أن المسلم لا ينبغي له أن يكون في ملكه أكثر من قوت يومه وليلته أو شيء ينفقه في سبيل الله أو يعده لكريم، ويأخذ بظاهر القرآن: (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليم) التوبة: . فكان يقوم بالشام ويقول: يا معشر الأغنياء واسوا الفقراء، بشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك وأوجبوه على الأغنياء، وشكا الأغنياء ما يلقون منهم. فأرسل معاوية إليه بألف دينار في جنح الليل فأنفقها. فلما صلى معاوية الصبح دعا رسوله الذي أرسله إليه فقال: اذهب إلى أبي ذر فقل له: أنقذ جسدي من عذاب معاوية فإنه أرسلني إلى غيرك وإني أخطأت بك. ففعل ذلك. فقال له أبو ذر: يا بني قل له: والله ما أصبح عندنا من دنانيرك دينار ولكن أخرنا ثلاثة أيام حتى نجمعها. فلما رأى معاوية أن فعله يصدق قوله كتب إلى عثمان: إن أبا ذر قد ضيق علي، وقد كان كذا وكذا، للذي يقوله الفقراء. فكتب إليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينيها ولم يبق إلا أن تثب فلا تنكإ القرح وجهز أبا ذر إلي وابعث معه دليلاً وكفكف الناس ونفسك ما استطعت. وبعث إليه بأبي ذر.
فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل جبل سلع قال: بشر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار. ودخل على عثمان فقال له: ما لأهل الشام يشكون ذرب لسانك؟ فأخبره. فقال: يا أبا ذر علي أن أقضي ما علي وأن أدعو الرعية إلى الاجتهاد والاقتصاد وما علي أن أجبرهم على الزهد. فقال أبو ذر: لا ترضوا من الأغنياء حتى يبذلوا المعروف ويحسنوا إلى الجيران والإخوان ويصلوا القرابات. فقال كعب الأحبار، وكان حاضراً: من أدى الفريضة فقد قضى ما عليه. فضربه أبو ذر فشجه، وقال له: يا ابن اليهودية ما أنت وما ههنا؟ فاستوهب عثمان كعباً شجته، فوهبه. فقال أبو ذر لعثمان: تأذن لي في الخروج من المدينة؛ فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أمرني بالخروج منها إذا بلغ البناء سلعاً. فأذن له، فنزل الربذة وبنى بها مسجداً، وأقطعه عثمان صرمةً من الإبل وأعطاه مملوكين وأجرى عليه كل يوم عطاء، وكذلك على رافع بن خديج، وكان قد خرج أيضاً عن المدينة لشيء سمعه.
وكان أبو ذر يتعاهد المدينة مخافة أن يعود أعرابياً، وأخرج معاوية إليه أهله، فخرجوا ومعهم جراب مثقلٌ يد الرجل، فقال: انظروا إلى هذا الذي يزهد في الدنيا ما عنده؟ فقالت امرأته: والله ما هو دينار ولا درهم ولكنها فلوس كان إذا خرج عطاؤه ابتاع منه فلوساً لحوائجنا. ولما نزل الربذة أقيمت الصلاة وعليها رجل يلي الصدقة، فقال: تقدم يا أبا ذر. فقال: لا، تقدم أنت، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لي: اسمع وأطع وإن كان عليك عبد مجدع، فأنت عبد ولست بأجدع؛ وكان من رقيق الصدقة اسمه مجاشع.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زاد عثمان النادء الثالث يوم الجمعة على الزوراء. وفيها مات حاطب بن أبي بلتعة اللخمي وهو من أهل بدر.
حاطب بالحاء المهملة. وبلتعة بالباء الموحدة ثم التاء المثناة من فوق بوزن مقرعة.

وفيها مات عمرو بن أبي سرح الفهري وكان بدرياً. وفيها مات مسعود ابن الربيع، وقيل: ابن ربيعة بن عمرو القاري، من القارة، أسلم قبل دخول النبي، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وشهد بدراً، وكان عمره قد جاوز الستين. وفيها مات عبد الله بن كعب بن عمرو الأنصاري، شهد بدراً، وكان على غنائم النبي، صلى الله عليه وسلم، فيها وفي غيرها. وفيها مات عبد الله بن مظعون أخو عثمان وكان بدرياً؛ وجبار بن صخر، وهو بدري أيضاً.
جبار بالجيم وآخره راء.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين

ذكر غزوة الصواري
قيل: وفي هذه السنة كانت غزوة الصواري، وقيل: كانت سنة أربع وثلاثين، وقيل: في سنة إحدى وثلاثين كانت غزوة الأساورة، وقيل: كانتا معاً سنة إحدى وثلاثين، وكان على المسلمين معاوية، وكان قد جمع الشام له أيام عثمان.
وسبب جمعه له أن أبا عبيدة بن الجراح لما حضر استخلف على عمله عياض بن غنم، وكان خاله وابن عمه، وكان جواداً مشهوراً، وقيل: استخلف معاذ بن جبل، على ما تقدم، فمات عياض واستخلف عمر بعده سعيد بن حذيم الجمحي، ومات سعيد وأمر عمر مكانه عمير بن سعد الأنصاري، ومات عمر وعمير على حمص وقنسرين، ومات يزيد بن أبي سفيان فجعل عمر مكانه أخاه معاوية ونعاه لأبي سفيان فقال: من جعلت على عمله يا أمير المؤمنين؟ فقال: معاوية. فقال: وصلتك رحم، فاجتمعت لمعاوية الأردن ودمشق، ومرض عمير بن سعد فاستعفى عثمان واستأذنه في الرجوع إلى أهله، فأذن له، وضم عثمان حمص وقنسرين إلى معاوية، ومات عبد الرحمن بن علقمة، وكان على فلسطين، فضم عثمان عمله إلى معاوية فاجتمع الشام لمعاوية لسنتين من إمارة عثمان، فهذا كان سبب اجتماع الشام له.
وأما سبب هذه الغزوة فإن المسلمين لما أصابوا من أهل إفريقية وقتلوهم وسبوهم، خرج قسطنطين بن هرقل في جمع له لم تجمع الروم مثله مذ كان الإسلام، فخرجوا في خمسمائة مركب أو ستمائة، وخرج المسلمون وعلى أهل الشام معاوية بن أبي سفيان، وعلى البحر عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكانت الريح على المسلمين لما شاهدوا الروم، فأرسى المسلمون والروم وسكنت الريح، فقال المسلمون: الأمان بيننا وبينكم؛ فباتوا ليلتهم والمسلمون يقرأون القرآن ويصلون ويدعون، والرومى يضربون بالنواقيس، وقربوا من الغد سفنهم وقرب المسلمون سفنهم فربطوا بعضها مع بعض واقتتلوا بالسيوف والخناجر، وقتل من المسلمين بشرٌ كثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، وصبروا يومئذٍ صبراً لم يصبروا في موطن قط مثله، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم قسطنطين جريحاً ولم ينج من الروم إلا الشريد. وأقام عبد الله بن سعد بذات الصواري بعد الهزيمة أياماً ورجع. فكان أول ما تكلم به محمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أبي بكر في أمر عثمان في هذه الغزوة وأظهرا عيبه وما غير وما خالف به أبا بكر وعمر، ويقولان استعمل عبد الله بن سعد رجلاً كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد أباح دمه، ونزل القرآن بكفره، وأخرج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قوماً أدخلهم، ونزع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، واستعمل سعيد بن العاص وابن عامر. فبلغ ذلك عبد الله بن سعد فقال: لا تركبا معنا، فركبا في مركب ما معهما إلا القبط، فلقوا العدو، فكانا أقل المسلمين نكايةً وقتالاً، فقيل لهما في ذلك، فقالا: كيف نقاتل مع عبد الله ابن سعد؟ استعمله عثمان وعثمان فعل كذا وكذا. فأرسل إليهما عبد الله ينهاهما ويتهددهما، ففسد الناس بقولهما، وتكلموا ما لم يكونوا ينطقون به.
وأما قسطنطين فإنه سار في مركبه إلى صقلية، فسأله أهلها عن حاله، فأخبرهم. فقالوا: أهلكت النصرانية وأفنيت رجالها! لو أتانا العرب لم يكن عندنا من يمنعهم. ثم أدخلوه الحمام وقتلوه وتركوا من كان معه في المركب وأذنوا له في المسير إلى القسطنطينية.
وقيل: في هذه السنة فتحت أرمينية على يد حبيب بن مسلمة، وقد تقدم ذكر ذلك.
ذكر مقتل يزدجرد بن شهريار

في هذه السنة هرب يزدجرد من فارس إلى خراسان في قول بعضهم، وقد تقدم الخلاف فيه، وكان ابن عامر قد خرج من البصرة حين وليها إلى فارس فافتتحها، وهرب يزدجرد من جور، وهي أدرشير خره، في سنة ثلاثين، فوجه ابنن عامر في أثره مجاشع بن مسعود، وقيل: هرم بن حيان العبدي، وقيل: هرم بن حيان اليشكري، فاتبعه إلى كرمان، فهرب يزدجرد إلى خراسان. وأصاب مجاشع بن مسعود ومن معه الثلج والدمق واشتد البرد، وكان الثلج قيد رمح، فهلك الجند وسلم مجاشع ورجل معه جارية فشق بطن بعير فأدخلها فيه وهرب. فلما كان الغد جاء فوجدها حية فحملها. فسمي ذلك القصر قصر مجاشع لأن جيشه هلكوا فيه، وهو على خمسة فراسخ أو ستة من السرجان من أعمال كرمان.
هذا على قول من يقول: إن هرب يزدجرد من فارس كان هذه السنة.
وأما سبب قتله، على ما تقدم من ذكره من فتح فارس وخراسان، فقد اختلف الناس في سبب قتله، فقيل: إنه هرب من كرمان في جماعة إلى مرو ومعه خرزاد أخو رستم، فرجع عنه إلى العراق ووصى به ماهويه مرزبان مرو، فسأله يزدجرد مالاً فمنعه، فخافه أهل مرو على أنفسهم فأرسلوا إلى الترك يستنصرونهم عليه، فأتوه فبيتوه فقتلوا أصحابه، فهرب يزدجرد ماشياً إلى شط المرغاب فأوى إلى بيت رجل ينقر الأرحاء، فلما نام قتله، وقيل: بل بيته أهل مرو ولم يستنصروا بالترك فقتلوا أصحابه وهرب منهم فقتله النقار، وتبعوا أثره إلى بيت الذي ينقر الأرحاء فأخذوه وضربوه فأقر بقتله فقتلوه وأهله.
وكان يزدجرد قد وطىء امرأة بها فولدت له غلاماً ذاهب الشق، ولدته بعد قتله فسمي المخدج، فولد له أولاد بخراسان، فوجد قتيبة بن مسلم حين افتتح الصغد وغيرها جاريتين من ولد المخدج فبعث بهما أو بإحداهما إلى الحجاج، فبعث بها إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت للوليد يزيد بن الوليد الناقص. وأخرج يزدجرد من النهر وجعل في تابوت وحمل إلى إصطخر فوضع في ناووس هناك.
وقيل: إن يزدجرد هرب بعد وقعة نهاوند إلى أرض أصبهان وبها رجل يقال له مطيار كان قد أصاب من العرب شيئاً يسيراً فصار له بها محل كبير، فأى مطيار يزدجرد ذات يوم فحجبه بوابه ليستأذن له، فضربه وشجه، فدخل البواب على يزدجرد مدمى، فرحل عن أصبهان من ساعته فأتى الري، فخرج إليه صاحب طبرستان وعرض عليه بلاده وأخبره بحاصنتها، فلم يجبه.
وقيل: مضى من فوره ذلك إلى سجستان، ثم سار إلى مرو في ألف فارس، وقيل: بل قصد فارس فأقام بها أربع سنين، ثم أتى كرمان فأقام بها سنتين أو ثلاثاً فطلب إليه دهقانة شيئاً فلم يجبه فجره برجله وطرده عن بلاده، فسار إلى سجستان فأقام بها نحواً من خمس سنين، ثم عزم على قصد خراسان ليجمع الجموع ويسير بهم إلى العرب، فسار إلى مرو ومعه الرهن من أولاد الدهاقين ومعه فرخزاد. فلما قدم مرو كاتب ملوك الصين وملك فرغانة وملك كابل وملك الخزر يستمدهم، وكان الدهقان يومئذ بمروماهويه أبو براز، فوكل ماهويه بمرو ابنه براز ليحفظها ويمنع عنها يزدجرد خوفاً من مكره، فركب يزدجرد يوماً وطاف بالمدينة وأراد دخولها من بعض أبوابها، فمنعه براز، فصاح به أبوه ليفتح الباب فلم يفعل، وأومأ إليه أبوه أن لا يفعل، ففطن له رجل من أصحاب يزدجرد فأعلمه بذلك واستأذنه في قتله، فلم يأذن له.

وقيل: أراد يزدجرد صرف الدهقنة عن ماهويه إلى سنجان ابن أخيه، فبلغ ذلك ماهويه، فعمل في هلاك يزدجرد ؛ فكتب إلى نيزك طرخان يدعوه إلى القدوم عليه ليتفقا على قتله ومصالحة العرب عليه، وضمن له إن فعل أن يعطيه كل يوم ألف درهم. فكتب نيزك إلى يزدجرد يعده المساعدة على العرب وأنه يقدم عليه بنفسه إن أبعد عسكره وفرخزاد عنه. فاستشار يزدجرد أصحابه فقال له سنجان: لست أرى أن تبعد عنك أصحابك وفرخزاد. وقال أبو براز: أرى أن تتألف نيزك وتجيبه إلى ما سأل. فقبل رأيه وفرق عنه جنده، فصاح فرخزاد وشق جيبه وقال: أظنكم قاتلي هذا! ولم يبرح فرخزاد حتى كتب له يزدجرد بخط يده أنه آمن وأنه قد أسلم يزدجرد وأهله وما معه إلى ماهويه، وأشهد بذلك. وأقبل نيزك فلقيه يزدجرد بالمزامير والملاهي، أشار عليه بذلك أبو براز، فلما لقيه تأخر عنه أبو براز فاستقبله نيزك ماشياً، فأمر له يزدجرد بجنيبة من جنائبه، فركبها، فلما توسط عسكره تواقفا فقال له نيزك فيما يقول: زوجني إحدى بناتك حتى أناصحك في قتال عدوك. فسبه يزدجرد ، فضربه نيزك بمقرعته، وصاح يزدجرد ، وركض منهزماً. وقتل أصحاب نيزك أصحاب يزدجرد وانتهى يزدجرد إلى بيت طحان فمكث فيه ثلاثة أيام لم يأكل طعاماً. فقال له الطحان: اخرج أيها الشقي فكل طعاماً فقد جعت! فقال: لست أصل إلى ذلك إلا بزمزمة، وكان عند الطحان رجل يزمزم، فكلمه الطحان في ذلك ففعل وزمزم له فأكل. فلما رجع المزمزم سمع بذكر يزدجرد ، فسأل عن حليته فوصفوه له فأخبرهم به وبحليته فأرسل إليه أبو براز رجلاً من الأساورة وأمره بخنقه وإلقائه في النهر، وأتى الطحان فضربه ليدله عليه، فلم يفعل وجحده. فلما أراد الانصراف عنه قال له بعض أصحا به: إني لأجد ريح مسك؛ ونظر إلى طرف ثوبه من ديباج في الماء فجذبه فإذا هو يزدجرد ، فسأله أن لا يقتله ولا يدل عليه وجعل له خاتمه ومنطقته وسواره. فقال له: أعطني أربعة دراهم وأخلي عنك؛ فلم يكن معه وقال: إن خاتمي لا يحصى ثمنه فخذه، فأبى عليه، فقال له يزدجرد : قد كنت أخبر أني سأحتاج إلى أربعة دراهم فقد رأيت ذلك، ثم نزع أحد قرطيه فأعطاه الطحان ليستر عليه، وأرادوا قتله، فقال: ويحكم! إنا نجد في كتبنا أنه من قتل الملوك عاقبه الله بالحريق في الدنيا، فلا تقتلوني واحملوني إلى الدهقان أو إلى العرب فإنهم يستبقون مثلي! فأخذوا ما عليه وخنقوه بوتر القوس وألقوه في الماء، فأخذ أسقف مرو وجعله في تابوت ودفنه. وسأل أبو براز عن أحد القرطين وأخذ الذي دل عليه فضربه حتى أتى على نفسه.
وقيل: بل سار يزدجرد من كرمان قبل ورود العرب إليها نحو مرو على الطبسين وقوهستان في أربعة آلاف، فلما قارب مرو لقيه قائدان يقال لأحدهما بارز وللآخر سنجان وكانا متباغضين، فسعى براز بسنجان حتى هم يزدجرد بقتله، وأفشى ذلك إلى امرأة من نسائه، ففشا الحديث، فجمع سنجان أصحابه وقصد قصر يزدجرد ، فهرب براز وخاف يزدجرد فهرب أيضاً إلى رحى على فرسخين من مرو، فدخل بيت نقار الرحى، فأطعمه الطحان، فطلب منه شيئاً فأعطاه منطقته، فقال: إنما يكفيني أربعة دراهم، فلم يكن معه، ثم نام يزدجرد فقتله الطحان بفأس كانت معه وأخذ ما عليه وألقى جثته في الماء وشق بطنه وثقله.
وسمع بقتله مطران كان بمرو، فجمع النصارى وقال: قتل ابن شهريار، وإنما شهريار ابن شيرين المؤمنة التي قد عرفتم حقها وإحسانها إلى أهل ملتنا مع ما نال النصارى في ملك جده أنوشروان من الشرف، فينبغي أن نحزن لقتله ونبني له ناووساً، فأجابوه إلى ذلك وبنوا له ناووساً وأخرجوا جثته وكفنوها ودفنوها في الناووس.
وكان ملكه عشرين سنة، منها أربع سنين في دعة، وست عشرة سنة في تعب من محاربة العرب إياه وغلظتهم عليه، وكان آخر من ملك من آل أردشير ابن بابك وصفا الملك بعده للعرب.
ذكر مسير ابن عامر إلى خراسان وفتحها

لما قتل عمر بن الخطاب نقض أهل خراسان وغدروا. فلما افتتح ابن عامر فارس قام إليه حبيب بن أوس التميمي فقال له: أيها الأمير إن الأرض بين يديك ولم يفتح منها إلا القليل، فسر فإن الله ناصرك. قال: أو لم نؤمر بالمسير؟ وكره أن يظهر أنه قبل رأيه. وقيل: إن ابن عامر لما فتح فارس عاد إلى البصرة واستخلف على إصطخر شريك بن الأعورالحارثي، فبنى شريك مسجد إصطخر. فلما دخل البصرة أتاه الأحنف بن قيس، وقيل غيره، فقال له: إن عدوك منك هاربن ولك هائب، والبلاد واسعة، فسر فإن الله ناصرك ومعزٌّ دينه. فتجهز وسار واستخلف على البصرة زياداً، وسار إلى كرمان فاستعمل عليها مجاشع بن مسعود السلمي، وله صحبة، وأمره بمحاربة أهلها، وكانوا قد نكثوا أيضاً، واستعمل على سجستان الربيع بن زياد الحرثي، وكانوا أيضاً قد غدروا ونقضوا الصلح. وسار ابن عامر إلى نيسابور وجعل على مقدمته الأحنف بن قيس، فأتى الطبسين، وهما حصنان، وهما بابا خراسان، فصالحه أهلهما، وسار إلى وهستان فلقيه أهلها وقاتلهم حتى ألجأهم إلى حصنهم، وقدم عليها ابن عامرفصالحه أهلها على ستمائة ألف درهم. وقيل: كان المتوجه إلى قوهستان أمير بن أحمر اليشكري، وهي بلاد بكر بن وائل؛ وبعث ابن عامر سريةً إلى رستاق زام من أعمال نيسابور، ففتحه عنوةً، وفتح باخرز من أعمال نيسابور أيضاً، وفتح جوين من أعمال نيسابور أيضاً.
ووجه ابن عامر الأسود بن كلثوم العدوي من عدي الرباب، وكان ناسكاً، إلى بيهق، من أعمالها أيضاً، فقصد قصبته ودخل حيطان البلد من ثلمة كانت فيه ودخلت معه طائفة من المسلمين فأخذ العدو عليهم تلك الثلمة، فقاتل الأسود حتى قتل هو وطائفة ممن معه، وقام بأمر الناس بعده أخوه أدهم بن كلثوم، فظفر وفتح بيهق، وكان الأسود يدعو الله أن يحشره من بطون السباع والطير، فلم يواره أخوه، ودفن من استشهد من أصحابه. وفتح ابن عامر بشت من نيسابور.
وهذه بشت بالشين المعجمة، وليست ببست التي بالسين المهملة، تلك من بلاد الدوان وهذه من خراسان من نياسوبر.
وافتتح خواف وأسفرايين وأرغيان، ثم قصد نيسابور بعد ما استولى على أعمالها وافتتحها، فحصر أهلها أشهراً، وكان على كل ربع منها مرزبان للفرس يحفظه، فطلب صاحب ربع من تلك الرباع الأمان على أن يدخل المسلمين المدينة، فأجيب إلى ذلك، فأدخلهم ليلاً ففتحوا الباب وتحصن مرزبانها الأكبر في حصنها، ومعه جماعة، ومعه جماعة، وطلب الأمان والصلح على جميع نيسابور، فصالحه على ألف ألف درهم، وولى نيسابور قيس بن الهيثم السلمي، وسير جيشاً إلى نسا وأبيورد فافتتحوها صلحاً؛ وسير سريةً أخرى إلى سرخس مع عبد الله ابن خازم السلمي، فقاتلوا أهلها ثم طلبوا الأمان والصلح على أمان مائة رجل، فأجيبوا إلى ذلك، فصالحهم مرزبانها على ذلك وسمى مائة رجل ولم يذكر نفسه فقتله، ودخل سرخس عنوةً.

وأتى مرزبان طوس إلى ابن عامر فصالحه عن طوس على ستمائة ألف درهم؛ وسير جيشاً إلى هراة عليهم عبد الله بن خازم، وقيل غيره، فبلغ مرزبان هراة ذلك فسار إلى ابن عامر فصالحه عن هراة وباذغيس وبوشنج. وقيل: بل سار ابن عامر في الجيش إلى هراة فقاتله أهلها ثم صالحه مرزبانها على ألف ألف درهم، ولما غلب ابن عامر على هذه البلاد أرسل إليه مرزبان مرو فصالحه على ألفي ألف ومائتي ألف درهم، وقيل غير ذلك؛ وأرسل ابن عامر حاتم بن النعمان الباهلي إلى مرزبانها، وكانت مرو كلها صلحاً إلا قرية منها يقال لها سنج، فإنها أخذت عنوة وهي بكسر السين المهملة والنون الساكنة وآخرها جيم. ووجه ابن عامر الأحنف بن قيس إلى طخارستان، فمر برستاق يعرق برستاق الأحنف ويدعى سوانجرد، فحصر أهلها فصالحوه على ثلثمائة ألف درهم، فقال الأحنف: أصالحكم على أن يدخل رجل منا القصر فيؤذن فيه ويقيم فيكم حتى ينصرف. فرضوا بذلك، ومضى الأحنف إلى مرو الروذ فقاتله أهلها فقتلهم وهزمهم وحصرهم، وكان مرزبانها من أقارب باذان صاحب اليمن، فكتب إلى الأحنف: إنه دعاني إلى الصلح إسلام باذان، فصالحه على ستمائة ألف، وسير الأحنف سريةً فاستولت على رستاق بغ واستاقت منه مواشي، ثم صالحوا أهله. وجمع له أهل طخارستان، فاجتمع أهل الجوزجان، فوجه إليهم الأحنف الأقرع بن حابس التميمي في خيل وقال: يا بني تميم تحابوا وتباذلوا تعدل أموركم وابدأوا بجهاد بطونكم وفروجكم يصلح لكم دينكم، ولا تغلوا يسلم لكم جهادكم.
فسار الأقرع فلقي العدو بالجوزجان فكانت بالمسلمين جولة ثم عادوا فهزموا المشركين وفتحوا الجوزجان عنوة، فقال ابن الغريزة النهشلي:
سقى صوب السحاب إذا استهلت ... مصارع فتيةٍ بالجوزجان
إلى القصرين من رستاق خوتٍ ... أقادهم هناك الأقرعان
وفتح الأحنف الطالقان صلحاً وفتح الفارياب، وقيل: بل فتحها أمير بن أحمر. ثم سار الأحنف إلى بلخ، وهي مدينة طخارستان، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، وقيل: سبعمائة ألف؛ واستعمل على بلخ أسيد بن المتشمس، ثم سار إلى خوارزم، وهي على نهر جيحون، فلم يقدر عليها فاستشار أصحابه، فقال له حضنين بن المنذر: قال عمرو بن معد يكرب:
إذا لم تستطع أمراً فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع
فعاد إلى بلخ وقد قبض أسيد صلحها، وافق وهو يجيبهم المهرجان، فأهدوا له هدايا كثيرة من دارهم ودنانير ودواب وأوانٍ وثياب وغير ذلك، فقال لهم: ما صالحناه على هذا! فقالوا: لا، ولكن هذا شيء نفعله في هذا اليوم بأمرائنا. فقال: ما أدري ما هذا ولعله من حقي ولكن أقبضه حتى أنظر، فقبضه حتى قدم الأحنف فأخبره، فسألهم عنه، فقالوا ما قالوا لأسيد، فحمله إلى ابن عامر وأخبره عنه، فقال: خذه يا أبا بحر. قال: لا حاجة لي فيه. فأخذه ابن عامر. قال الحسن البصري: فضمه القرشي، وكان مضماً.
ولما تم لابن عامر هذا الفتح قال له الناس: ما فتح لأحد ما فتح عليك، فارس وكرمان وسجستان وخراسان. فقال: لا جرم لأجعلن شكري لله على ذلك أن أخرج محرماً من موقفي هذا. فأحرم بعمرة من نيسابور وقدم على عثمان واستخلف على خراسان قيس بن الهيثم، فسار قيسٌ بعدن شخوصه في أرض طخارستان فلم يأت بلداً منها إلا صالحه أهله وأذعنوا له، حتى أتى سمنجان فامتنعوا عليه، فحصرهم حتى فتحها عنوة.
أسيد بفتح الهمزة وكسر السين. وحضين بن المنذر بالضاد المعجمة.
ذكر فتح كرمانلما سار ابن عامر عن كرمان إلى خراسان واستعمل مجاشع بن مسعود السلمي على كرمان، على ما ذكرناه قبل، أمره أن يفتحها، وكان أهلها قد نكثوا وغدروا، ففتح هميد عنوةً واستبقى أهلها وأعطاهم أماناً وبنى بها قصراً يعرف بقصر مجاشع، وأتى السيرجان، وهي مدينة كرمان، فأقام عليها أياماً يسيرة وأهلها متحصنون، فقاتلهم وفتحها عنوةً، فجلا كثير من أهلها عنها، وفتح جيرفت عنوةً، وسار في كرمان فدوخ أهلها، وأتى القفص وقد تجمع له خلق كثير من الأعاجم الذين جلوا، فقاتلهم فظفر بهم وظهر عليهم، وهرب كثيرٌ من أهل كرمان فركبوا البحر ولحق بعضهم بمكران وبعضهم بسجستان، فأقطعت العرب منازلهم وأراضيهم فعمروها واحتفروا لها القني في مواضع منها وأدوا العشر منها.
ذكر فتح سجستان وكابل وغيرهما

قد تقدم ذكر فتح سجستان أيام عمر بن الخطاب، ثم إن أهلها نقضوا بعده. فلما توجه ابن عامر إلى خراسان سير إليها من كرمان الربيع بن زياد الحارثي، فقطع المفازة حتى أتى حصن زالق، فأغار على أهله يوم مهرجان وأخذ الدهقان، فافتدى نفسه بأن غرز عنزة وغمرها ذهباً وفضة وصالحه على صلح فارس. ثم أتى بلدة يقال لها كركويه، فصالحه أهلها ثم نزل رستاق هيسون، فصالحوه على غير قتال، وسار إلى زرنج فنزل على مدينة روشت بقرب زرنج، فقاتله أهلها وأصيب رجال من المسلمين، ثم انهزم المشركون وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأتى الربيع ناشروذ ففتحها، ثم أتى شرواذ فغلب عليها، وسار منها إلى زرنج فنازلها وقاتله أهلها فهزمهم وحصرهم، فأرسل إليه مرزبانها ليصالحه واستأمنه على نفسه ليحضر عنده فآمنه، وجلس له الربيع على جسد من أجساد القتلى واتكأ على آخر وأمر أصحابه ففعلوا مثله، فلما رآهم المرزبان هاله ذلك فصالحه على ألف وصيف مع كل وصيف جام من ذهب، ودخل المسلمون المدينة. ثم سار منها إلى سناروذ، وهي واد، فعبره وأتى القرية التي بها مربط فرس رستم الشديد، فقاتله أهلها، فظفر بهم ثم عاد إلى زرنج وأقام بها نحو سنة؛ وعاد إلى ابن عامر، واستخلف عليها عاملاً، فأخرج أهلها العامل وامتنعوا.
فكانت ولاية الربيع سنة ونصفاً. وسبى فيها أربعين ألف رأس. وكان كاتبه الحسن البصري. فاستعمل ابن عامر عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس على سجستان، فسار إليها فحصر زرنج، فصالحه مرزبانها على ألفي ألف درهم وألفي وصيف. وغلب عبد الرحمن على ما بين زرنج والكش من ناحية الهند، وغلب من ناحية الرخج على ما بينه وبين الدوان. فلما انتهى إلى بلد الدوان حصرهم في جبل الزوز ثم صالحهم ودخل على الزوز، وهو صنم من ذهب، عيناه ياقوتتان، فقطع يده وأخذ الياقوتتين، ثم قال للمرزبان: دونك الذهب والجوهر: وإنما أردت أن أعلمك أنه لا يضر ولا ينفع. وفتح كابل وزابلستان، وهي ولاية غزنة، ثم عاد إلى زرنج فأقام بها حتى اضطرب أمر عثمان، فاستخلف عليها أمير بن أحمر اليشكري وانصرف، فأخرج أهلها أمير بن أحمر وامتنعوا؛ ولأمير يقول زياد بن الأعجم:
لولا أميرٌ هلكت يشكرٌ ... ويشكرٌ هلكى على كل حال
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة عثمان. وفيها مات أبو الدرداء الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين. وفيها مات أبو طلحة الأنصاري، وهو بدري، وقيل: سنة اثنتين وثلاثين، وقيل: سنة إحدى وخمسين. وفيها مات أبو أسيد الساعدي، وقيل: مات سنة ستين، وهو على هذا القول آخر من مات من البدريين.
أسيد بضم الهمزة.
وفيها مات أبو سفيان ابن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، وأخوه الطفيل. وأبو سفيان بن حرب بن أمية، وهو ابن ثمان وثمانين سنة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثينقيل: في هذه السنة غزا معاوية بن أبي سفيان مضيق القسطنطينية ومعه زوجته عاتكة بنت قرظة، وقيل فاختة.
ذكر ظفر الترك

وقتل عبد الرحمن بن ربيعة
في هذه السنة انتصرت الخزر والترك على المسلمين.

وسببه أن الغزوات لما تتابعت عليهم تذامروا وقالوا: كنا أمة لا يقرن بنا أحد حتى جاءت هذه الأمة القليلة فصرنا لا نقوم لها. فقال بعضهم: إن هؤلاء لا يموتون وما أصيب منهم أحد في غزوهم. وقد كان المسلمون غزوهم قبل ذلك فلم يقتل منهم أحد، فلهذا ظنوا أنهم لا يموتون. فقال بعضهم: أفلا تجربون؟ فكمنوا لهم في الغياض، فمر بالكمين نفرٌ من الجند فرموهم منها فقتلوهم فتواعد رؤوسهم إلى حربهم ثم اتعدوا يوماً. وكان عثمان قد كتب إلى عبد الرحمن ابن ربيعة وهو على الباب: إن الرعية قد أبطرها البطنة فلا تقتحم بالمسلمين فإني أخشى أن يقتلوا. فلم يرجع عبد الرحمن عن مقصده، فغزا نحو بلنجر، وكان الترك قد اجتمعت مع الخزر فقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً وقتل عبد الرحمن، وكان يقال له ذو النور، وهو اسم سيفه، فأخذ أهل بلنجر جسده وجعلوه في تابوت فهم يستسقون به ويستنصرون به، فلما قتل انهزم الناس وافترقوا فرقتين: فرقة نحو الباب، فلقوا سلمان بن ربيعة أخا عبد الرحمن، كان قد سيره سعيد بن العاص مدداً للمسلمين بأمر عثمان، فلما لقوه نجوا معه، وفرقة نحو جيلان وجرجان، فيهم سلمان الفارسي وأبو هريرة، وكان في ذلك العسكر يزيد بن معاوية النخعي وعلقمة بن قيس ومعضد الشيباني وأبو مفرز التميمي في خباء واحد، وعمرو بن عتبة وخالد بن ربيعة والحلحال بن ذري والقرثع في خباء، فكانوا متجاورين في ذلك العسكر، وكان القرثع يقول: ما أحسن لمع الدماء على الثياب! وكان عمرو بن عتبة يقول لقباء عليه: ما أحسن حمرة الدماء على بياضك! ورأى يزيد بن معاوية أن غزالاً جيء به لم ير أحسن منه فلف في ملحفة ثم دفن في قبر لم ير أحسن منه عليه ثلاثة نفر قعود، فلما استيقظ واقتتل الناس رمي بحجر فهشم رأسه فمات، فكأنما زين ثوبه بالدماء وليس بتلطيخ، فدفن في قبر على الصورة التي رأى.
وقال معضد لعلقمة: أعرني بردك أعصب به رأسي، ففعل، فأتى برج بلنجر الذي أصيب فيه يزيد فرماهم فقتل منهم وأتاه حجر عرادة ففضخ هامته، فأخذه أصحابه فدفنوه إلى جنب يزيد، وأخذ علقمة البرد فكان يغسله فلا يخرج أثر الدم منه، وكان يشهد فيه الجمعة ويقول: يحملني على هذا أن دم معضد فيه. وأصاب عمرو بن عتبة جراحة فرأى قابءه كما اشتهى ثم قتل. وأما القرثع فإنه قاتل حتى خرق بالحراب، فبلغ الخبر بذلك عثمان فقال: إنا لله، انتكث أهل الكوفة، اللهم تب عليهم وأقبل بهم! وكان عثمان قد كتب إلى سعيد بن العاص أن ينفذ سلمان إلى الباب للغزو، فسيره فلقي المهزومين، على ما تقدم، فنجاهم الله به. فلما أصيب عبد الرحمن استعمل سعيدٌ سلمان بن ربيعة على الباب، واستعمل على الغزو بأهل الكوفة حذيفة بن اليمان، وأمدهم عثمان بأهل الشام عليهم حبيب بن مسلمة، فتأمر عليهم سلمان وأبى حبيب حتى قال أهل الشام: لقد هممنا بضرب سلمان. فقال الكوفيون: إذن والله نضرب حبيباً ونحبسه وإن أبيتم كثرت القتلى فينا وفيكم؛ وقال أوس بن مغراء في ذلك:
إن تضربوا سلمان نضرب حبيبكم ... وإن ترحلوا نحو ابن عفان نرحل
وإن تقسطوا فالثغر ثغر أميرنا ... وهذا أميرٌ في الكتائب مقبل
ونحن ولاة الأمر كنا حماته ... ليالي نرمي كل ثغر ونعكل
وأراد حبيب أن يتأمر على صاحب الباب كما يتأمر أمير الجيش إذا جاء من الكوفة، فكان ذلك أول اختلاف وقع بين أهل الكوفة والشام. وغزا حذيفة ثلاث غزوات، فقتل عثمان في الثالثة، ولقيهم مقتل عثمان فقال حذيفة بن اليمان: اللهم العن قتلته وشتامه! اللهم إنا كنا نعاتبه ويعاتبنا فاتخذوا ذلك سلماً إلى الفتنة! اللهم لا تمتهم إلا بالسيوف!
ذكر وفاة أبي ذر

وفيها مات أبو ذر، وكان قد قال لابنته: استشرفي يا بنية هل ترين أحداً؟ قالت: لا. قال: فما جاءت ساعتي بعد. ثم أمرها فذبحت شاةً ثم طبختها ثم قال: إذا جاءك الذين يدفنونني فإنه سيشهدني قوم صالحون فقولي لهم: يقسم عليكم أبو ذر أن لا تركبوا حتى تأكلوا. فلما نضجت قدرها قال لها: انظري هل ترين أحداً؟ قالت: نعم هؤلاء ركب. قال: استقبلي بي الكعبة، ففعلت. فقال: بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم مات، فخرجت ابنته فتلقتهم وقالت: رحمكم الله، اشهدوا أبا ذر. قالوا: وأين هو؟ فأشارت إليه، قالوا: نعم ونعمة عين! لقد أكرمنا الله بذلك. وكان فيهم ابن مسعود فبكى وقال: صدق رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (يموت وحده ويبعث وحده). فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه. وقالت لهم ابنته: إن أبا ذر يقرأ عليكم السلام، وأقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا؛ ففعلوا وحملوا أهله معهم حتى أقدموهم مكة ونعوه إلى عثمان، فضم ابنته إلى عياله وقال: يرحم الله أبا ذر ويغفر له نزوله الربذة.
ولما حضروا شموا من الخباء ريح مسك فسألوها عنه فقالت: إنه لما حضر قال: إن الميت يحضره شهود يجدون الريح لا يأكلون، فدوفي لهم مسكاً بماء ورشي به الخباء.
وكان النفر الذين شهدوه: ابن مسعود، وأبا مفرز، وبكر بن عبد الله التميميين، والأسود بن يزيد، وعلقمة بن قيس، ومالك الأشتر النخعيين، والحلحال الضبي، والحرث بن سويد التميمي، وعمرو بن عتبة السلمي، وابن ربيعة السلمي، وأبا رافع المزني، وسويد بن شعبة التميمي، وزياد بن معاوية النخعي، وأخا القرثع الضبي، وأخا معضد الشيباني. وقيل: كان موته سنة إحدى وثلاثين.
وقيل: إن ابن مسعود لم يحمل أهل أبي ذر معه إنما معه إنما تركهم حتى قدم على عثمان بمكة فأعلمه بموته، فجعل عثمان طريقه عليهم فحملهم معه.
ذكر خروج قارنثم جمع قارن جمعاً كثيراً من ناحية الطبسين وأهل باذغيس وهراة وقوهستان وأقبل في أربعين ألفاً، فقال قيس بن الهيثم لابن خازم: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها؛ وأخرج كتاباً كان قد افتعله عمداً، فكره قيس منازعته وخلاه والبلاد وأقبل إلى ابن عامر، فلامه ابن عامر وقال: قد تركت البلاد خراباً وأقبلت! قال: جاءني بعهد منك. قال: فسار ابن خازم إلى قارن في أربعة آلاف وأمرا لناس فحملوا الودك، فلما قرب من قارن أمر الناس أن يدرج كل رجل منهم على زج رمحه خرقةً أو قطناً ثم يكثروا دهنه، ثم سار حتى أمسى، فقد مقدمته ستمائة ثم اتبعهم وأمر الناس، فأشعلوا النيران في أطراف الرماح، فانتهت مقدمته إلى معسكر قارن نصف الليل فناوشوهم، وهاج الناس على دهش وكانوا آمنين من البيات، ودنا ابن خازم منهم فرأوا النيران يمنةً ويسرةً تتقدم وتتأخر وتنخفض وترتفع، فهالهم ذلك، ومقدمة ابن خازم يقاتلونهم، ثم غشيهم ابن خازم بالمسلمين فقتل قارن، فانهزم المشركون واتبعوهم يقتلوهم كيف شاؤوا، وأصابوا سبياً كثيراً. وكتب ابن خازم بالفتح إلى ابن عامر، فرضي وأقره على خراسان، فلبث عليها حتى انقضى أمر الجمل، وأقبل إلى البصرة فشهد وقعة ابن الحضرمي وكان معه في دار سنبيل.
وقيل: ما جمع قارن استشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم فيما يصنع، فقال: أرى أنك لا تطيق كثرة من قد أتانا، فاخرج بنفسك إلى ابن عامر فتخبره بكثرة العدو ونقيم نحن في الحصون ونطاولهم ويأتينا مددكم. فخرج قيس، فلما أمعن أظهر ابن خازم عهداً وقال: قد ولاني ابن عامر خراسان، وسار إلى قارن فظفر به وكتب بالفتح إلى ابن عامر فأقره على خراسان؛ ولم يزل أهل البصرة يغزون من لم يكن صالح من أهل خراسان، فإذا عادوا تركوا أربعة آلاف نجدة.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة مات العباس عم النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان عمره يوم مات ثمانياً وثمانين سنة، كان أسن من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بثلاث سنين. وفيها مات عبد الرحمن بن عوف وعمره خمس وسبعون سنة. وعبد الله بن مسعود وصلى عليه عمار بن ياسر، وقيل عثمان. وتوفي عبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي أري الأذان.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين

في هذه السنة كانت غزوة معاوية حصن المرأة من أرض الروم بناحية ملطية. وفيها كانت غزوة عبد الله بن سعد إفريقية الثانية حين نقض أهلها العهد؛ وفيها كان مسير الأحنف إلى خراسان وفتح المروين، ومسير ابن عامر إلى نيسابور وفتحها، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكر ذلك؛ وفيها كانت غزوة قبرس، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكرها مستوفى، وقيل إن فتحها كان سنة ثمان وعشرين، فلما كان سنة اثنتين وثلاثين أعان أهلها الروم على الغزاة في البحر بمراكب أعطوهم إياها، فغزاهم معاوية سنة ثلاث وثلاثين في خمس مئة مركب ففتحها عنوة فقتل وسبى ثم أقرهم على صلحهم وبعث إليهم اثني عشر ألفاً فبنوا المساجد وبنى مدينة. وقيل: كانت غزوته الثانية سنة خمس وثلاثين.
ذكر تسيير من سير من أهل الكوفة إلى الشاموفي هذه السنة سير عثمان نفراً من أهل الكوفة إلى الشام. وكان السبب في ذلك أن سعيد بن العاص لما ولاه عثمان الكوفة حين شهد على الوليد بشرب الخمر أمره أن يسير الوليد إليه، فقدم سعيد الكوفة وسير الوليد وغسل المنبر، فنهاه رجالٌ من بني أمية كانوا قد خرجوا معه عن ذلك، فلم يجبهم واختار سعيد وجوه الناس وأهل القادسية وقراء أهل الكوفة، فكان هؤلاء دخلته إذا خلا، وأما إذا خرج فكل الناس يدخل عليه، فدخلوا عليه يوماًن فبينا هم يتحدثون قال حبيش بن فلان الأسدي: ما أجود طلحة بن عبيد الله! فقال سعيد: إن من له مثل النشاستج لحقيق أن يكون جواداً، والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله به عيشاً رغداً. فقال عبد الرحمن بن حبيش، وهو حدث: والله لوددت أن هذا الملطاط لك، يعني لسعيد، وهو ما كان للأكاسرة على جانب الفرات الذي يلي الكوفة. قالوا: فض الله فاك! والله لقد هممنا بك! فقال أبوه: غلام فلا تجاوزه. فقالوا: يتمنى له سوادنا. قال: ويتمنى لكم أضعافه، فثار به الأشتر وجندب وابن ذي الحنكة وصعصعة وابن الكواء وكميل وعمير بن ضابىء فأخذوه، فثار أبوه ليمنع عنه، فضربوهما حتى غشي عليهما، وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتى قضوا منهما وطراً. فسمعت بذلك بنو أسد فجاؤوا وفيهم طليحة فأحاطوا بالقصر وركبت القبائل فعاذوا بسعيد، فخرج سعيد إلى الناس فقال: أيها الناس قوم تنازعوا وقد رزق الله العافية، فردهم فتراجعوا. وأفاق الرجلان فقالا: قاتلنا غاشيتك. فقال: لا يغشوني أبداً، فكفا ألسنتكما ولا تحزبا الناس. ففعلا، وقعد أولئك النفر في بيوتهم وأقبلوا يقعون في عثمان.
وقيل: بل كان السبب في ذلك أنه كان يسمر عند سعيد بن العاص وجوه أهل الكوفة، منهم: مالك بن كعب الأرحبي والأسود بن يزيد وعلقمة بن قيس النخعيان ومالك الأشتر وغيرهم، فقال سعيد: إنما هذا السواد بستان قريش. فقال الأشتر: أتزعم أن السواد الذي أفاءه الله علينا بأسيافنا بستان لك ولقومك؟ وتكلم القوم معه، فقال عبد الرحمن الأسدي، وكان على شرطة سعيد: أتردون على الأمير مقالته؟ وأغلظ لهم. فقال الأشتر: من ههنا لا يفوتنكم الرجل! فوثبوا عليه فوطئوه وطأً شديداً حتى غشي عليه، ثم جر برجله، فنضح بماء فأفاق فقال: قتلني من انتخبت. فقال: والله لا يسمر عندي أحد أبداً. فجعلوا يجلسون في مجالسهم يشتمون عثمان وسعيداً، واجتمع إليهم الناس حتى كثروا، فكتب سعيد وأشراف أهل الكوفة إلى عثمان في إخراجهم، فكتب إليهم أن يلحقوهم بمعاوية، وكتب إلى معاوية: إن نفراً قد خلقوا للفتنة فأقم عليهم وانههم، فإن آنست منهم رشداً فاقبل وإن أعيوك فارددهم علي.
فلما قدموا على معاوية أنزلهم كنيسة مريم وأجرى عليهم ما كان لهم بالعراق بأمر عثمان، وكان يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوماً: (إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة، وقد أدركتم بالإسلام شرفاً وغلبتم الأمم وحويتم مواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشاً، ولو لم تكن قريش كنتم أذلة، إن أئمتكم لكم جنة فلا تفترقوا عن جنتكم، وإن أئمتكم يصبرون لكم على الجور ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهن أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم السوء ولا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد وفاتكم).
فقال رجل منهم، وهو صعصعة: (أما ما ذكرت من قريشٍ فإنها لم تكن أكثر العرب ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا).

فقال معاوية: (عرفتكم الآن وعلمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيبهم ولا أرى لك عقلاً، أعظم عليك أمر الإسلام وأذكرك به وتذكرني بالجاهلية! أخزى الله قوماً عظموا أمركم! افقهوا عني، ولا أظنكم تفقهون، أن قريشاً لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله تعالى، لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحساباً، وأمحضهم أنساباً، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية، والناس يأكل بعضهم بعضاً، إلا بالله، فبوأهم حرماً آمناً يتخطف الناس من حولهم! هل تعرفون عربياً أو عجمياً أو أسود أو أحمر إلا وقد أصابه الدهر في بلده وحرمته إلا ما كان من قريش فإنهم لم يردهم أحدٌ من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن يستنقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة، فارتضى لذلك خير خلقه ثم ارتضى له أصحاباً فكان خيارهم قريشاً، ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه الخلافة فيهم فلا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم على كفرهم، أفتراه لا يحوطهم وهم على دينه؟ أف لك ولأصحابك! أما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر القرى! أنتنها بيتاً، وأعمقها وادياً، وأعرفها بالشر، وألأمها جيراناً! لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سب بها، ثم كانوا ألأم العرب ألقاباً وأصهاراً، نزاع الأمم، وأنتم جيران الخط، وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم، فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس أقبلت تبغي دين الله عوجاً، وتنزع إلى الذلة، ولا يضر ذلك قريشاً ولا يضعهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، ولا تدركون بالشر أمراً أبداً إلا فتح الله عليكم شراً منه وأخزى).
ثم قام وتركهم فتقاصرت إليهم أنفسهم، فلما كان بعد ذلك أتاهم فقال: (إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا ينفع الله بكم أحداً أبداً ولا يضره ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة، فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم ولا يبطرنكم الإنعام، فإن البطر لا يعتري الخيار، اذهبوا حيث شئتم فسأكتب إلى أمير المؤمنين فيكم).
فلما خرجوا دعاهم وقال لهم: (إني معيد عليكم أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان معصوماً فولاني وأدخلني في أمره، ثم استخلف أبو بكر فولاني، ثم استخلف عمر فولاني، ثم استخلف عثمان فولاني، ولم يولني أحدٌ إلا وهو عني راضٍ، وإنما طلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء، و وإن الله ذو سطوات ونقمات يمكر بمن مكر به، فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون، فإن الله غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم).
وكتب معاوية إلى عثمان: (إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان أثقلهم الإسلام و، أضجرهم العدل، لا يريدون الله بشيء، ولا يتكلمون بحجة، إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة، والله مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم، وليسوا بالذين ينكون أحداً إلا مع غيرهم، فانه سعيداً ومن عنده عنهم، فإنهم ليسوا لأكثر من شغب ونكير).
فخرجوا من دمشق فقالوا: لا ترجعوا بنا إلى الكوفة فإنهم يشمتون بنا، ولكن ميلوا إلى الجزيرة، فسمع بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان على حمص، فدعاهم فقال: (يا آلة الشيطان لا مرحباً بكم ولا أهلاً، قد رجع الشيطان محسوراً وأنتم بعد نشا، خسر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم، يا معشر من لا أدري أعرب هم أم عجم، لا تقولوا لي ما بلغني أنكم قلتم لمعاوية؛ أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقىء الردة! والله لئن بلغني يا صعصعة أن أحداً ممن معي دق أنفك ثم غمصك لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى)! فأقامهم شهراً كلما ركب أمشاهم، فإذا مر به صعصعة قال: يا ابن الحطيئة، أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر؟ ما لك لا تقول كما بلغني أنك قلت لسعيد ومعاوية؟ فيقولون: نتوب إلى الله، أقلنا أقالك الله. فما زالوا به حتى قال: تاب الله عليكم. وسرح الأشتر إلى عثمان، فقدم إليه ثانياً، فقال له عثمان: احلل حيث شئت. فقال: مع عبد الرحمن بن خالد. فقال: ذلك إليك، فرجع إليه.

قيل: وقد روي أيضاً نحو ما تقدم وزادوا فيه أن معاوية لما عاد غليهم من القابلة وذكرهم كان مما قال لهم: وإني والله لا آمركم بشيء إلا وقد بدأت فيه بنفسي وأهل بيتي، وقد عرفت قريش أن أبا سفيان كان أكرمها وابن أكرمها غلا ما جعل الله لنبيه، صلى الله عليه وسلم، فإنه انتخبه وأكرمه، وإني لأظن أن أبا سفيان لو ولد الناس لم يلد إلا حازماً. قال صعصعة: قد كذبت! قد ولدهم خير من أبي سفيان من خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة فسجدوا له، وكان فيهم البر والفاجر، والأحمق والكيس. فخرج تلك الليلة من عندهم ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلاً ثم قال: أيها القوم ردوا خيراً أو اسكتوا وتفكروا وانظروا فيما ينفعكم وينفع أهاليكم والمسلمين فاطلبوه. فقال صعصعة: لست بأهل ذلك ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. فقال: أليس أول من ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله وطاعة نبيه وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا؟ قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه، صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة وأن توقروا أئمتكم وتدلوهم على أحسن ما قدرتم عليه. فقال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك فإن في المسلمين من هو أحق به منك، من كان أبوه أحسن قدماً في الإسلام من أبيك وهو أحسن في الإسلام قدماً منك. فقال: والله إن لي في الإسلام قدماً ولغيري كان أحسن قدماً مني ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر بن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم تكن عند عمر هوادة لي ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين لكتب إلي فاعتزلت عمله، فمهلاً فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت لأهل الإسلام يوماً ولا ليلة، فعاودوا الخير وقولوه، وإن لله لسطوات، وإني لخائف عليكم أن تتايعوا في مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن فيحلكم ذلك دار الهوان في العاجل والآجل. فوثبوا عليه وأخذوا رأسه وليحته، فقال: مه إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضاً! ثم قام من عندهم وكتب إلى عثمان نحو الكتاب المتقدم، فكتب إليه عثمان يأمره أن يردهم إلى سعيد بن العاص بالكوفة، فردهم فأطلقوا ألسنتهم، فضج سعيد منهم إلى عثمان، فكتب إليه عثمان أن يسيرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بحمص، فسيرهم إليها، فأنزلهم عبد الرحمن وأجرى عليهم رزقاً، وكانوا: الأشتر وثابت بن قيس الهمداني وكميل بن زياد وزيد بن صوحان وأخاه صعصعة وجندب بن زهير الغامدي وجندب بن كعب الأزدي وعروة بن الجعد وعمرو ابن الحمق الخزاعي وابن الكواء.
قيل: سأل معاوية ابن الكواء عن نفسه قال: أنت بعيد الثرى كثير المرعى طيب البديهة بعيد الغور، الغالب عليك الحلم، ركن من أركان الإسلام، سدت بك فرجة مخوفة. قال: فأخبرني عن أهل الأحداث من الأمصار فإنك أعقل أصحابك. قال: أما أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزهم عنه، وأما أهل الكوفة فإنهم يردون جميعاً ويصدرون شتى، وأما أهل مصر فهم أولى الناس بشر وأسرعهم ندامة، وأما أهل الشام فهم أطوع الناس لمرشدهم وأعصاهم لمغويهم.
ذكر تسيير من سير من أهل البصرة إلى الشامولما مضت ثلا سنين من إمارة عبد الله بن عامر بلغه أن في عبد القيس رجلاً نازلاً على حكيم بن جبلة العبدي، وكان عبد الله بن سبأ، المعروف بابن السوداء، هو الرجل النازل عليه، واجتمع إليه نفر فطرح إليهم ابن السوداء ولم يصرح، فقبلوا منه. فأرسل إليهم ابن عامر فسأله: من أنت؟ فقال: رجل من أهل الكتاب رغبت في الإسلام وفي جوارك. فقال: ما يبلغني ذلك، اخرج عني. فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها، فقصد مصر فاستقر بها وجعل يكاتبهم ويكاتبونه وتختلف الرجال بينهم.

وكان حمران بن أبان قد تزوج امرأة في عدتها ففرق عثمان بينهما وضربه وسيره إلى البصرة، فلزم ابن عامر فتذاكروا يوماً المرور بعامر بن عبد القيس، فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره؟ فخرج فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف فقال: الأمير يريد المرور بك فأحببت أن أعلمك، فلم يقطع قراءته، فقام من عنده، فلما انتهى إلى الباب لقيه ابن عامر فقال: جئتك من عند امرىءٍ لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلاً؛ ودخل عليه ابن عامر فأطبق المصحف وحدثه، فقال له ابن عامر: ألا تغشانا؟ فقال: سعد بن أبي القرحاء يحب الشرف. فقال: ألا نستعملك؟ فقال: حصين بن الحر يحب العمل. فقال: ألا نزوجك؟ فقال: ربيعة بن عسل يعجبه النساء. فقال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم عليك فضلاً! فتصفح المصحف، فكان أول ما وقع عليه: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران: .
فسعى به حمران، وأقام حمران بالبصرة ما شاء الله، وأذن له عثمان فقدم المدينة ومعه قوم، فسعوا بعامر بن عبد القيس أنه لا يرى التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة، فألحقه بمعاوية، فلما قدم عليه رأى عنده ثريداً فأكل أكلاً عربياً، فعرف أن الرجل مكذوب عليه، فعرفه معاوية سبب إخراجه، فقال: أما الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المجلس ثم أرجع في أوائل الناس، وأما التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي، وأما اللحم فقد رأيت ولكني لا آكل ذبائح القصابين منذ رأيت قصاباً يجر شاة إلى مذبحها ثم وضع السكين على حلقها فما زال يقول: النفاق النفاق، حتى ذبحها. قال: فارجع. قال: لا أرجع إلى بلد استحل أهله مني ما استحلوا؛ فكان يكون في السواحل، فكان يلقى معاوية فيكثر معاوية أن يقول: ما حاجتك. فيقول: لا حاجة لي. فلما أكثر عليه قال: ترد علي من حر البصرة شيئاً لعل الصوم أن يشتد علي فإنه يخف علي في بلادكم.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس عثمان. وفيها مات المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الأسود صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأوصى أن يصلي عليه الزبير. وفيها توفي الطفيل والحصين بنا الحرث بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وشهدا بدراً وأحداً، وقيل: ماتا سنة إحدى وثلاثين، وقيل اثنتين وثلاثين.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثينقيل: فيها كانت غزوة الصواري، في قول بعضهم، وقد تقدم ذكرها.
وفيها تكاتب المنحرفون عن عثمان للاجتماع لمناظرته فيما كانوا يذكرون أنهم نقموا عليه.
ذكر الخبر عن ذلك وعن يوم الجرعةقد ذكرنا خبر المسيرين من الكوفة ومقامم عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان سنة إحدى عشرة من خلافة عثمان، وكان سعيد قد ولى قبل مخرجه إلى عثمان بسنة وبعض أخرى الأشعث بن قيس أذربيجان، وسعيد بن قيس الري، والنسير العجلي همذان، والسائب بن الأقرع أصبهان، ومالك بن حبيب ماه، وحكيم بن سلام الحزامي الموصل، وجرير ابن عبد الله قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة الباب، وجعل القعقاع بن عمرو على الحرب، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وخلت الكوفة من الرؤساء. فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان ومعه الذين كان ابن السوداء يكاتبهم، فأخذه القعقاع بن عمرو فقال: إنما نستعفي من سعيد. فقال: أما هذا فنعم، فتركه وكاتب يزيد المسيرين في القدوم عليه، فسار الأشتر والذين عند عبد الرحمن ابن خالد، فسبقهم الأشتر، فلم يفجإ الناس يوم الجمعة إلا والأشتر على باب المسجد يقول: جئتكم من عند أمير المؤمنين عثمان وتركت سعيداً يريده على نقصان نسائكم على مائة درهم، ورد أولي البلاء منكم إلى ألفين، ويزعم أن فيئكم بستان قريش. فاستخف الناس وجعل أهل الرأي ينهونهم فلا يسمع منهم.

فخرج يزيد وأمر منادياً ينادي: من شاء أن يلحق بيزيد لرد سعيد فليفعل، فبقي أشراف الناس وحلماؤهم في المسجد. وعمرو بن حريث يومئذ خليفة سعيد، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وأمرهم بالاجتماع والطاعة، فقال له القعقاع: أترد السيل عن أدراجه؟ هيهات لا والله لا يسكن الغوغاء إلا المشرفية ويوشك أن تنتضى ويعجون عجيج العتدان ويتمنون ما هم فيه اليوم فلا يرده الله عليهم أبداً، فاصبر. قال: أصبر. وتحول إلى منزلته، وخرج يزيد بن قيس فنزل الجرعة - وقي قريب من القادسية - ومعه الأشتر، فوصل إليهم سعيد ابن العاص، فقالوا: لا حاجة لنا بك. قال: إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى أمير المؤمنين رجلاً وإلي رجلاً، وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل واحد؟ ثم انصرف عنهم، وتحسوا بمولى له على بعير قد حسر فقال: والله ما كان ينبغي لسعيد أن يرجع. فقتله الأشتر. ومضى سعيد حتى قدم على عثمان فأخبره بما فعلوا وأنهم يريدون البذل وأنهم يختارون أبا موسى، فجعل أبا موسى الأشعري أميراً، وكتب إليهم: (أما بعد فقد أمرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من سعيد، ووالله لأقرضنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئاً أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئاً كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا ما استعفيتم منه، أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم على الله حجة، ولنصبرن كما أمرنا حتى تبلغوا ما تريدون). ورجع من الأمراء من قرب من الكوفة، فرجع جرير من قرقيسيا، وعتيبة بن النهاس من حلوان، وخطبهم أبو موسى وأمرهم بلزوم الجماعة وطاعة عثمان، فأجابوا إلى ذلك وقالوا: صل بنا. فقال: لا إلا على السمع والطاعة لعثمان. قالوا: نعم. فصلى بهم وأتاه ولاته فولاهم.
وقيل: سبب يوم الجرعة أنه كان قد اجتمع ناس من المسلمين فتذاكروا أعمال عثمان فأجمع رأيهم فأرسلوا إليه عامر بن عبد الله التميمي ثم العنبري. وهو الذي يدعى عامر بن عبد القيس، فأتاه فدخل عليه فقال له: إن ناساً من المسلمين اجتمعوا ونظروا في أعمالك فوجدوك قد ركبت أموراً عظاماً، فاتق الله وتب إليه. فقال عثمان: انظروا إلى هذا فإن الناس يزعمون أنه قارىء ثم يجيء يكلمني في المحقرات، ووالله ما يدري أين الله! فقال عامر: بلى والله إني لأدري أن الله لبالمرصاد! فأرسل عثمان إلى معاوية وعبد الله بن سعد وإلى سعيد بن العاص وعمرو بن العاص وعبد الله بن عامر فجمعهم فشاورهم وقال لهم: إن لكل امرىء وزراء ونصحاء وإنكم وزرائي ونصحائي وأهل ثقتي، وقد صنع الناس ما قد رأيتم وطلبوا إلي أن أعزل عمالي وأن أرجع عن جميع ما يكرهون إلى ما يحبون، فاجتهدوا رأيكم. فقال له ابن عامر: أرى لك يا أميرالمؤمنين أن تشغلهم بالجهاد عنك حتى يذلوا لك ولا يكون همة أحدهم إلا في نفسه وما هو فيه من دبر دابته وقمل فروته. وقال سعيد: احسم عنك الداء فاقطع عنك الذي تخاف، إن لكل قوم قادة متى تهلك يتفرقوا ولا يجتمع لهم أمر. فقال عثمان: إن هذا هو الراي لولا ما فيه. وقال معاوية: أشير عليك أن تأمر أمراء الأجناد فيكفيك كل رجل منهم ما قبله وأكفيك أنا أهل الشام. وقال عبد الله بن سعد: إن الناس أهل طمع فأعطهم من هذا المال تعطف عليك قلوبهم. ثم قام عمرو ابن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وأقدم قدماً. فقال له عثمان: ما لك قمل فروك؟ أهذا الجد منك؟ فسكت عمرو حتى تفرقوا فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أكرم علي من ذلك ولكني علمت أن بالباب من يبلغ الناس قول كل رجل منا فاردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي فأقود إليك خيراً وأدفع عنك شراً.

فرد عثمان عماله إلى أعمالهم وأمرهم بتجهيز الناس في البعوث وعزم على تحريم أعطياتهم ليطيعوه، ورد سعيداً إلى الكوفة، فلقيه الناس من الجرعة وردوه، كما سبق ذكره. قال أبو ثور الحداني: جلست إلى حذيفة وأبي مسعود الأنصاري بمسجد الكوفة يوم الجرعة، فقال أبو مسعود: ما أرى أن ترد على عقبيها حتى يكون فيها دماء. فقال حذيفة: والله لتردن على عقبيها ولا يكون فيها محجمة دم وما أرى اليوم شيئاً إلا وقد علمته والنبي، صلى الله عليه وسلم، حي. فرجع سعيد إلى عثمان ولم يسفك دم، وجاء أبو موسى أميراً، وأمر عثمان حذيفة بن اليمان أن يغزو الباب فسار نحوه.
ذكر ابتداء قتل عثمانفي هذه السنة تكاتب نفرٌ من اصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وغيرهم بعضهم إلى بعض: أن اقدموا فإن الجهاد عندنا، وعظم الناس على عثمان ونالوا منه أقبح ما نيل من أحد، وليس أحد من الصحابة ينهى ولا يذب إلا نفرٌ، منهم: زيد بن ثابت، وأبو أسيد الساعدي، وكعب بن مالك، وحسان بن ثابت، فاجتمع الناس فكلموا علي بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال له: الناس ورائي وقد كلموني فيك، والله ما أدري ما أقول لك ولا أعرف شيئاً تجهله ولا أدلك على أمر لا تعرفه، إنك لتعلم ما أعلم، ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه ولا خلونا بشيء فنبلغكه وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيت وصحبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمعت منه ونلت صهره، وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحق منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيءٍ من الخير منك، وأنت أقرب إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، رحماً، ولقد نلت من صهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما لم ينالاه، وما سبقاك إلى شيء، فالله الله في نفسك، فإنك والله ما تبصر من عمى ولا تعلم من جهالة، وإن الطريق لواضح بين، وإن أعلام الدين لقائمة. اعلم يا عثمان أن أفضل عباد الله إمامٌ عادل هدي وهدى فأقام سنة معلومةً وأمات بدعةً متروكة، فوالله إن كلاً لبين، وإن السنن لقائمة لها أعلام، وإن البدع لقائمة لها أعلام، وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضل وأضل فأمات سنةً معلومة وأحيا بدعة متروكةً، وإني أحذرك الله وسطواته ونقماته، فإن عذابه شديد أليم، وأحذرك أن تكون إمام هذه الأمة الذي يقتل فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، ويلبس أمورها عليها ويتركها شيعاً لا يبصرون الحق لعلو الباطل، يموجون فيها موجاًن ويمرجون فيها مرجاً.
فقال عثمان: قد علمت والله ليقولن الذي قلت، أما والله لو كنت مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك ولا عبت عليك ولا جئت منكر أن وصلت رحماً وسددت خلةً وآويت ضائعاً ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولي. أنشدك الله يا علي هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم. قال: فتعلم أن عمر ولاه؟ قال: نعم. قال: فلم تلومني أن وليت ابن عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي: إن عمر كان يطأ على صماخ من ولى إن بلغه عنه حرف جلبه ثم بلغ به أقصى العقوبة وأنت لا تفعل، ضعفت ورققت على أقربائك. قال عثمان: وهم أقرباؤك أيضاً! قال: أجل، إن رحمهم مني لقريبة ولكن الفضل في غيرهم. قال عثمان: هل تعلم أن عمر ولى معاوية؟ فقد وليته. فقال علي: أنشدك الله، هل تعلم أن معاوية كان أخوف لعمر من يرفأ، غلام عمر، له؟ قال: نعم. قال علي: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك ويقول للناس هذا أمر عثمان، وأنت تعلم ذلك فلا تغير عليه.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34