كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

وبات عثمان ليلته كلها يحرض أصحابه، فلما أصبح يوم الأربعاء خرج بالناس كلهم، فاستقبلهم ريح شديدة وغبرة شديدة، فصاح الناس وقالوا له: ننشدك الله أن تخرج بنا والريح علينا. فأقام بهم ذلك اليوم، ثم خرج بهم يوم الخميس وقد عبأ الناس، فجعل في الميمنة خالد بن نهيك بن قيس، وعلى الميسرة عقيل بن شداد السلولي، ونزل هو في الرجالة، وعبر شبيب النهر إليهم، وهو يومئذٍ في مائة وأحد وثمانين رجلاً، فوقف هو في الميمنة وجعل أخاه مصاداً في القلب، وجعل سويد بن سليم في الميسرة، وزحف بعضهم إلى بعض.
وقال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم مما يلي النهر فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري.
وحمل على ميسرة عثمان فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد فقاتل حتى قتل، وقتل أيضاً مالك بن عبد الله الهمداني عم عياش بن عبد الله المنتوف، ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد على ميمنة عثمان فهزمها وعليها خالد بن نهيك، فقاتله قتالاً شديداً، وحمل شبيب من ورائه فقتله.
وتقدم عثمان بن قطن وقد نزل معه العرفاء وأشراف الناس والفرسان نحو القلب، وفيه مصاد أخو شبيب في نحو من ستين رجلاً، فلما دنا منهم عثمان شد عليهم فيمن معه فضاربوهم حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب بالخيل من ورائهم، فما شعر عثمان ومن معه إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضاً في خيله، ورجع مصاد وأصحابه فاضطربوا ساعةً، وقاتل عثمان بن قطن أحسن قتال، ثم إنهم أحاطوا به وضربه مصاد أخو شبيب ضربة بالسيف استدار لها وقال: " وكان أمر الله مفعولاً " الأحزاب:37، ثم إن الناس قتلوه ووقع عبد الرحمن، فاتاه ابن أبي سبرة الجعفي، وهو على بغله، فعرفه فأركبه معه ونادى في الناس: الحقوا بدير أبي مريم؛ ثم انطلقا ذاهبين.
ورأى واصل السكوني فرس عبد الرحمن التي أعطاه الجزل تجول في العسكر، فأخذها بعض أصحاب شبيب، فظن أنه قتل فطلبه في القتلى فلم يجده، فسأل عنه فأعطي خبره، فاتبعه واصل على برذونه ومعه غلامه على بغل، فلما دنا منهما نزل عبد الرحمن وابن أبي سبرة ليقاتلا، فلما رآهما واصل عرفهما وقال: إنكما تركتما النزول في موضعه فلا تنزلا الآن! وحسر عمامته عن وجهه فعرفاه، وقال لابن الأشعث: قد أتيتك بهذا البرذون لتركبه، فركبه وسار حتى نزل دير البقار.
وأمر شبيب أصحابه فرفعوا السيف عن الناس ودعاهم إلى البيعة فبايعوه وقتل من كندة يومئذٍ مائة وعشرون، وقتل معظم العرفاء.
وبات عبد الرحمن بدير البقار، فأتاه فارسان فصعدا إليه، فخلا أحدهما بعبد الرحمن طويلاً ثم نزل فتبين أن ذلك الرجل كان شبيباً، وقد كان بينه وبين عبد الرحمن مكاتبة، وسار عبد الرحمن حتى أتى دير أبي مريم، فاجتمع الناس إليه وقالوا له: إن سمع شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة. فخرج إلى الكوفة واختفى من الحجاج حتى أخذ له الأمان منه.
ذكر ضرب الدراهم والدنانير الإسلاميةوفي هذه السنة ضرب عبد الملك بن مروان الدنانير والدراهم، وهو أول من أحدث ضربها في الإسلام، فانتفع الناس بذلك.
وكان سبب ضربها أنه كتب في صدور الكتب إلى الروم: " قل هو الله أحد " الإخلاص: 1، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم ، مع التاريخ، فكتب إليه ملك الروم: إنكم قد أحدثتم كذا وكذا فاتركوه وإلا أتاكم في دنانيرنا من ذكرنا نبيكم ما تكرهون. فعظم ذلك عليه. فأحضر خالد بن يزيد بن معاوية فاستشاره فيه، فقال: حرم دنانيرهم واضرب للناس سكةً فيها ذكر الله تعالى. فضرب الدنانير والدراهم.
ثم إن الحجاج ضرب الدراهم ونقش فيها: " قل هو الله أحد " ، فكره الناس ذلك لمكان القرآن لأن الجنب والحائض يمسها، ونهى أن يضرب أحد غيره، فضرب سمير اليهودي، فأخذه ليقتله، فقال له: عيار درهمي أجود من دراهمك فلم تقتلني؟ فلم يتركه، فوضع للناس سنج الأوزان ليتركه فلم يفعل، وكان الناس لا يعرفون الوزن إنا يزنون بعضها ببعض، فلما وضع لهم سيمر السنج كف بعضهم عن غبن بعض.

وأول من شدد في أمر الوزن وخلس الفضة أبلغ من تخليص من قبله عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك، وجود الدراهم، وخلص العيار واشتد فيه. ثم كان خالد بن عبد الله القسري أيام هشام بن عبد الملك فاشتد أكثر من ابن هبيرة. ثم ولي يوسف بن عمر فأفرط في الشدة، فامتحن يوماً العيار فوجد درهماً ينقص حبة فضرب كل صانع ألف سوط. وكانوا مائة صانع، فضرب في حبة مائة ألف سوط. وكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية، ولم يكن المنصور يقبل في الخراج غيرها، فسميت الدراهم الأولى مكروهة.
وقيل: إن المكروهة الدراهم التي ضربها الحجاج ونقش عليها: " قل هو الله أحد " ، فكرهها العلماء لأجل مس الجنب والحائض.
وكانت دراهم الأعجام مختلفة كباراً وصارا، وكانوا يضربون مثقالاً، وهو وزن عشرين قيرطاً، ومنها وزن اثني عشر قيراطاً، ومنها وزن عشرة قراريط، وهي أصناف المثاقيل، فلما ضرب الدراهم في الإسلام أخذوا عشرين قيراطاً واثني عشر قيراطاً وعشرة قراريط فوجدوا ذلك اثنين وأربعين قيراطاً فضربوا على الثلث من ذلك، وهو أربعة عشر قيراطاً، فوزن الدرهم العربي أربعة عشر قيراطاً، فصار وزن كل عشرة دراهم سبعة مثاقيل.
وقيل: إن مصعب بن الزبير ضرب دراهم قليلة أيام أخيه عبد الله بن الزبير، ثم كسرت بعد ذلك أيام عبد الملك.
والأول أصح في أن عبد الملك أول من ضرب الدراهم والدنانير.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وفد يحيى بن الحكم على عبد الملك. وفيها ولى عبد الملك المدينة أبان بن عثمان. وفيها ولد مروان بن محمد بن مروان. وأقام الحج للناس هذه السنة أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة. وكان على العراق الحجاج، وعلى خراسان أمية بن عبد الله بن خالد، وعلى قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة زرارة بن أوفى. وفيها غزا محمد بن مروان الروم من ناحية ملطية. وفيها مات حبة بن جوين العرني صاحب علي.
حبة بالحاء المهملة، وبالباء الموحدة، وهو منسوب إلى عرنة، بالعين المهملة المضمومة، والراء المهملة، والنون.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين

ذكر محاربة شبيب عتاب بن ورقاء
وزهرة بن حوية وقتلهما
وفي هذه السنة قتل شبيب عتاب بن ورقاء الرياحي وزهرة بن حوية.
وسبب ذلك أن شبيباً لما هزم الجيش الذي كان وجهه الحجاج مع عبد الرحمن بن محم بن الأشعث، وقتل عثمان بن قطن، كان ذلك في حر شديد، وأتى شبيب ماه بهراذان فصيف بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس كثير ممن يطلب الدنيا وممن كان الحجاج يطلبهم بمال أو تبعات. فلما ذهب الحر خرج شبيب في نحو ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن، وعليها مطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة بن اليمان، فكتب عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج بذلك، فلما قرأ الكتاب قام في الناس فقال: أيها الناس لتقاتلن عن بلادكم وعن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأصبر على اللأواء والقيظ منكم فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم.
فقام إليه الناس من كل جانب ومكان فقالوا: نحن نقاتلهم ونعتب الأمير، فلتند بن الأمير إليهم. وقام إليه زهرة بن حوية، وهو شيخ كبير لا يستتم قائماً حتى يؤخذ بيده، فقال له: أصلح الله الأمير أنك إنما تبعث إليهم الناس منقطعين، فاستنفر الناس إليهم كافة وابعث إليهم رجلاً شجاعاً مجرباً ممن يرى الفرار هضماً وعاراً، والصبر مجداً وكرماً. فقال الحجاج: فأنت ذلك الرجل فاخرج. فقال زهرة: أصلح الله الأمير، إنما يصلح الرجل يحمل الدرع والرمح ويهز السيف ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق من هذا شيئاً، وقد ضعف بصري وضعفت، ولكن أخرجني مع الأمير في الناس فأكون معه وأشير عليه برأيي. فقال الحجاج: جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله في أول أمرك وآخره، فقد نصحت. ثم قال: أيها الناس سيروا بأجمعكم كافة.
فانصرف الناس يتجهزون ولا يدرون من أميرهم. وكتب الحجاج إلى عبد الملك يخبره أن شبيباً قد شارف المدائن وأنه يريد الكوفة وقد عجز أهل الكوفة عن قتاله في مواطن كثيرة، يقتل أمراءهم ويهزم جنودهم؛ ويطلب إليه أن يبعث إليه جنداً من الشام يقاتلون الخوارج ويأكلون البلاد.

فلما أتى الكتاب بعث إليه عبد الملك سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين. فبعث الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، وهو مع المهلب، يستدعيه، وكان عتاب قد كتب إلى الحجاج يشكو من المهلب ويسأله أن يضمه إليه لأن عتاباً طلب من المهلب أن يرزق أهل الكوفة الذين معه من مال فارس، فأبى عليه وجرت بينهما منافرة فكادت تؤدي إلى الحرب، فدخل المغيرة بن المهلب بينهما فأصلح الأمر وألزم أباه برزق أهل الكوفة، فأجابه إلى ذلك، وكتب يشكو منه.
فلما ورد كتابه سر الحجاج بذلك واستدعاه، ثم جمع الحجاج أهل الكوفة واستشارهم فيمن يوليه أمر الجيش، فقالوا: رأيك أفضل. فقال: قد بعثت إلى عتاب وهو قادم عليكم الليلة أو القابلة. فقال زهرة: أيها الأمير رميتهم بحجرهم، والله لا نرجع إليك حتى نظفر أو نقتل.
وقال له قبيصة بن والق: إن الناس قد تحدثوا أن جيشاً قد وصل إليك من الشام، وأن أهل الكوفة قد هزموا وهان عليهم الفرار، فقلوبهم كأنها ليست فيهم، فإن رأيت أن تبعث إلى أهل الشام ليأخذوا حذرهم ولا يبيتوا إلا وهم محتاطون فإنك تحارب حولاً قلباً ظعاناً رحالاً، وقد جهزت إليهم أهل الكوفة ولست واثقاً بهم كل الثقة، وإن شبيباً بينا هو في أرض إذا هو في أخرى، ولا آمن أن يأتي أهل الشام وهم آمنون، فإن يهلكوا نهلك ويهلك العراق.
قال له: لله أبوك ما أحسن ما أشرت به! وأرسل إلى أهل الشام يحذرهم ويأمرهم أن يأتوا على عين التمر، ففعلوا.
وقدم عتاب بن ورقاء تلك الليلة، فبعثه الحجاج على ذلك الجيش، فعسكر بحمام أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى إلى كلواذى فقطع فيها دجلة، ثم سار حتى نزل مدينة بهرسير الدنيا، فصار بينه وبين مطرف جسر دجلة وقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب أن ابعث إلي رجالاً من وجوه أصحابك أدراسهم القرآن وأنظر فيما يدعون إليه، فبعث إليه قعنب بن سويد والمحلل وغيرهما، وأخذ منه رهائن إلى أن يعودوا، فأقاموا عنده أربعة أيام ثم لم يتفقوا على شيء. فلما لم يتبعه مطرف تهيأ للمسير إلى عتاب وقال لأصحابه: إني كنت عازماً أن آتي أهل الشام جريدةً وألقاهم على غرة قبل أن يتصلوا بأمير مثل الحجاج ومصر مثل الكوفة، فثبطني عنهم مطرف، وقد جاءتني عيوني فأخبروني أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر فهم الآن قد شارفوا الكوفة، وقد أخبروني أن عتاباً ومن معه بالبصرة، فما أقرب ما بيننا وبينه، فتيسروا للمسير إلى عتاب.
وخاف مطرف بن المغيرة أن يبلغ خبره مع شبيب إلى الحجاج، فخرج نحو الجبال. فأرسل شبيب أخاه مصاداً إلى المدائن وعقد الجسر، وأقبل عتاب إليه حتى نزل بسوق حكمة، وقد خرج معه من المقاتلة أربعون ألفاً، ومن الشباب والأتباع عشرة آلاف، فكانوا خمسين ألفاً، وكان الحجاج قد قال لهم حين ساروا: إن للسائر المجتهد الكرامة والأثرة، وللهارب الهوان والجفوة، والذي لا إله غيره لئن فعلتم في هذه المواطن كفعلكم في المواطن الأخر لأولينكم كنفاً خشناً، ولأعركنكم بكلكل ثقيل.
فلما بلغ عتاب سوق حكمة أتاه شبيب، وكان أصحابه بالمدائن ألف رجل، فحثهم على القتال، وسار بهم، فتخلف عنه بعضهم، ثم صلى الظهر بساباط وصلى العصر وسار حتى أشرف على عتاب وعسكره، فلما رآهم نزل فصلى المغرب، وكان عتاب قد عبأ أصحابه، فجعل في الميمنة محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس، وقال: يا ابن أخي إنك شريف صابر. فقال: والله لأصبرن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق الثعلبي: اكفني الميسرة. فقال: أنا شيخ كبير لا أستطيع القيام إلا أن أقام؛ فجعل عليها نعيم بن عليم، وبعث حنظلة بن الحارث اليربوعي، وهو ابن همه وشيخ أهل بيته، على الرجالة، وصفهم ثلاثة صفوف: صف فيهم أصحاب السيوف، وصف فيهم أصحاب الرماح، وصف فيهم الرماة، ثم سار في الناس يحرضهم على القتال ويقص عليهم، ثم قال: أين القصاص؟ فلم يجبه أحد. ثم قال: أين من يروي شعر عنترة؟ فلم يجبه أحد. فقال: إنا لله، كأني بكم قد فررتم عن عتاب بن ورقاء وتركتموه تسفي في استه الريح!

ثم أقبل حتى جلس في القلب ومعه زهرة بن حوية جالس وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث وأبو بكر بن محمد بن أبي جهم العدوي. وأقبل شبيب وهو فس ستمائة وقد تخلف عنه من أصحابه أربعمائة، فقال: لقد تخلف عنا من لا أحب أن يرى فينا، فجعل سويد بن سليم في مائتين في الميسرة، وجعل المحلل بن وائل في مائتين في القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة بين المغرب والعشاء الآخرة حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ فقالوا: رايات لربيعة. قال: طالما نصرت الحق وطالما نصرت الباطل، والله لأجاهدنكم محتبساً، أنا شبيب، لا حكم إلا الله، للحكم، اثبتوا إن شئتم! ثم حمل عليهم ففضهم، فثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق وعبيد بن الحليس ونعيم بن عليم فقتلوا، وانهزمت الميسرة مكلها، ونادى الناس من بني ثعلبة: قتل قبيصة وقال شبيب: قتلتموه، ومثله كما قال الله تعالى: " واتل عليهم نبا الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها " الأعراف:175. ثم وقف عليه وقال: ويحك لو ثبت على إسلامك الأول سعدت! وقال لأصحابه: إن هذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، ثم جاء يقاتلكم مع الفسقة.
ثم إن شبيباً حمل من المسيرة على عتاب، وحمل سويد بن سليم على الميمنة، وعليهما محمد بن الرحمن، فقاتلهم في رجال من تميم وهمدان، فما زالوا كذلك حتى قيل لهم قتل عتاب، فانفضوا.
ولم يزل عتاب جالساً على طنفسة في القلب ومعه زهرة بن حوية إذ غشيهم شبيب، فقال عتاب: يا زهرة هذا يوم كثر فيه العدد وقل فيه الغناء، والهفي على خمسمائة فارس من تميم من جميع الناس، ألا صابر لعدوه؟ ألا مواس بنفسه؟ فانفضوا عنه وتركوه، فقال زهرة: أحسنت يا عتاب، فعلت فعلاً لا يفعله مثلك. أبشر، فإني أرجو أن يكون الله، جل ثناؤه، قد أهدى إلينا الشهادة عند فناء أعمارنا.
فلما دنا منه شبيب وثب في عصابة قليلة صبرت معه وقد ذهب الناس، فقيل له: إن عبد الرحمن بن الأشعث قد هرب وتبعه ناس كثير. فقال: ما رأيت ذلك الفتى يبالي ما صنع. ثم قاتلهم ساعة، فرآه رجل من أصحاب شبيب يقال له عامر بن عمر التغلبي فحمل عليه فطعنه، ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذب بسيفه لا يستطيع أن يقوم، فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله، فانتهى إليه شبيب فرآه صريعاً فعرفه فقال: هذا زهرة بن حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك! ولرب خيل للمشركين هزمتها وقرية من قراهم جم أهلها قد افتتحتها! ثم كان في علم الله أنك تقتل ناصراً للظالمين. وتوجع له. فقال له رجل من أصحابه: إنك لتتوجع لرجل كافر. فقال إنك لست أعرف بضلالتهم مني، ولكني أعرف من قديم أمرهم ما لا تعرف، ما لو ثبتوا عليه لكانوا إخواننا.
فاستمسك شبيب من أهل العسكر والناس، فقال: ارفعوا السيف، ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس وهربوا من تحت ليلتهم، وحوى ما في العسكر، وبعث إلى أخيه فأتاه من المدائن. وأقام شبيب بعد الوقعة ببيت قرة يومين، ثم سار نحو الكوفة فنزل بسورا وقتل عاملها.
وكان سفيان بن الأبرد وعسكر الشام قد دخلوا الكوفة فشدوا ظهر الحجاج واستغنى به وبعسكره عن أهل الكوفة، فقام عن المنبر فقال: يا أهل الكوفة لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد بكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، انزلوا بالحيرة مع اليهود والنصارى ولا يقاتل معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب.
ذكر قدوم شبيب الكوفة وانهزامه عنهاثم سار شبيب من سورا فنزل حمام أعين، فدعا الحجاج الحارث بن معاوية الثقفي فوجهه في ناس من الشرط لم يشهدوا يوم عتاب وغيرهم، فخرج في نحو ألف فنزل زرارة، فبلغ ذلك شبيباً فعجل إلى الحارث بن معاوية، فلما انتهى إليه حمل عليه فقتله وانهزم أصحابه، وجاء المنهزمون فدخلوا الكوفة، وجاء شبيب فعسكر بناحية الكوفة وأقام ثلاثاً، فلم يكن في اليوم الأول غير قتل الحارث.
فلما كان اليوم الثاني أخرج الحجاج مواليه فأخذوا بأفواه السكك، وجاء شبيب فنزل السبخة وابتنى بها مسجداً، فلنا كلن اليوم الثالث أخرج الحجاج أبا الورد مولاه عليه تجفاف ومعه غلمان له وقالوا: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.

ثم أخرج الحجاج غلامه طهمان في مثل تلك العدة والحالة، فقتله شبيب وقال: إن كان هذا الحجاج فقد أرحتكم منه.
ثم أن الحجاج خرج ارتفاع النهار من القصر فطلب بغلاً يركبه إلى السبخة فأتي ببغل، فركبه ومعه أهل الشام، فخرج، فلما رآى الحجاج شبيباً وأصحابه نزل، وكان شبيب في ستمائة فارس، فأقبل نحو الحجاج، وجعل الحجاج، وجعل الحجاج سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف على أفواه السكك في جماعة الناس، ودعا الحجاج بكرسي فقعد عليه ثم نادى: يا أهل الشام أنتم أهل السمع والطاعة والصبر واليقين فلا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الأبصار واجثوا على الركب واستقبلوهم بأطراف الأسنة. ففعلوا وأشرعوا الرماح، وكأنهم حرة سوداء، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس، كتيبة معه وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل، وقال لسويد: احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم، فثبتوا له ووثبوا في وجهه بأطراف الرماح فطعنوه حتى انصرف هو وأصحابه.
وصاح الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر كرسيه فقدم، وأمر شبيب المحلل فحمل عليهم ففعلوا به كذلك، فناداهم الحجاج: هكذا فافعلوا، وأمر بكرسيه فقدم.
ثم إن شبيباً حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له وصنعوا به كذلك، فقاتلهم طويلاً، ثم إن أهل الشام طاعنوه حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى صبرهم نادى: يا سويد احمل عليهم بأصحابك على أهل السكة لعلك تزيل أهلها وتأتي الحجاج من ورائه ونحمل نحن عليه من أمامه. فحمل سويد فرمي من فوق البيوت وأفواه السكك فرجع. وكان الحجاج قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة في ثلاثمائة رجل من أهل الشام ردءاً له لئلا يؤتوا من خلفهم، فجمع شبيب أصحابه ليحمل بهم، فقال الحجاج: اصبروا لهذه الشدة الواحدة ثم هو الفتح، فجثوا على الركب.
وحمل عليهم شبيب بجميع أصحابه، فوثبوا في وجهه، وما زالوا يطاعنونه ويضاربونه قدما ويدفعونه وأصحابه حتى أجازوهم مكانهم، وأمر شبيب أصحابه بالنزول، فنزل نصفهم، وجاء الحجاج حتى انتهى إلى مسجد شبيب ثم قال: يا أهل الشام هذا أول الفتح، وصعد المسجد ومعه جماعة معهم النبل ليرموهم إن دنوا منه، فاقتتلوا عامة النهار أشد قتال رآه الناس حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه.
ثم إن خالد بن عتاب قال للحجاج: ائذن لي في قتالهم فإني موتور، فأذن له، فخرج ومعه جماعة من أهل الكوفة وقصد عسكرهم من ورائهم فقتل مصاداً أخا شبيب وقتل إمرأته غزالة وحرق في عسكره. وأتى الخبر الحجاج وشبيباً، فكبر الحجاج وأصحابه، وأما شبيب فركب هو وأصحابه، وقال الحجاج لأهل الشام: احملوا عليهم فإنهم قد أتاهم ما أرعبهم. فشدوا عليهم فهزموهم، وتخلف شبيب في حامية الناس. فبعث الحجاج إلى خيله: أن دعوه، فتركوه ورجعوا، ودخل الحجاج إلى الكوفة فصعد المنبر ثم قال: والله ما قوتل شبيب قبلها، ولى والله هارباً وترك امرأته يكسر في استها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن الحكمي فبعثه في ثلاثة آلاف فارس من أهل الشام في أثر شبيب، وقال له: احذر بياته وحيث لقيته فانزل له، فإن الله تعالى قد فل حده وقصم نابه.
فخرج في أثره حتى نزل الأنبار، وكان الحجاج قد نادى عند انهزامهم: من جاءنا منكم فهو آمن. فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه. فلما نزل حبيب الأنبار أتاهم شبيب، فلما دنا منهم نزل فصلى المغرب، وكان حبيب قد جعل أصحابه أرباعاً، وقال لكل ربع منهم: ليمنع كل ربع منكم جانبه، فإن قاتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الآخر، فإن الخوارج قريب منكم، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون ومقاتلون.
فأتاهم شبيب وهم على تعبية، فحمل على ربع فقاتلهم طويلاً، فما زالت قدم إنسان عن موضعها، ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر فكانوا كذلك، ثم أتى ربعاً آخر فكانوا كذلك، ثم الربع الرابع فما برح يقاتلهم حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل، ثم نازلهم راجلا فسقطت منهم الأيدي وكثرت القتلى وفقئت الأعين وقتل من أصحاب شبيب نحو ثلاثين رجلاً، ومن أهل الشام نحو مائة، واستولى التعب والإعياء على الطائفتين حتى إن الرجل ليضرب بسيفه فلا يصنع شيئاً، وحتى إن الرجل ليقاتل جالساً فما يستطيع أن يقوم من التعب.
فلما يئس شبيب منهم تركهم وانصرف عنهم. ثم قطع دجلة وأخذ في أرض جوخى، ثم قطع دجلة مرة أخرى عند واسط ثم أخذ نحو الأهواز ثم إلى فارس ثم إلى كرمان ليستريح وهو ومن معه.

وقيل في هزيمته غير ذلك، وهو أن الحجاج كان قد بعث إلى شبيب أميراً فقتله، ثم أميراً فقتله، أحدهما أعين صاحب حمام أعين، ثم جاء شبيب حتى دخل الكوفة ومعه زوجته غزالة، وكانت نذرت أن تصلي في جامع الكوفة ركعتين تقرأ فيهما البقرة وآل عمران، واتخذ في عسكره اخصاصاً، فجمع الحجاج ليلاً بعد أن لقي من شبيب الناس ما لقوا فاستشارهم في أمر شبيب، فأطرقوا، وفصل قتيبة من الصف فقال: أتأذن لي في الكلام؟ قال: نعم. قال: لأنك تبعث الرجل الشريف وتبعث معه رعاعاً فينهزمون ويستحيي أن ينهزم فيقتل. فقال: فما الرأي؟ قال: الرأي أن تخرج إليه فتحاكمه. قال: فانظر لي معسكراً.
فخرج الناس يلعنون عنبسة بن سعيد لأنه هو الذي كلم الحجاج فيه حتى جعله من صحابته، وصلى الحجاج من الغد الصبح واجتمع الناس وأقبل قتيبة وقد رأى معسكراً حسناً، فدخل إلى الحجاج ثم خرج ومعه لواء منشور، وخرج الحجاج يتبعه حتى خرج إلى السبخة وبها شبيب، وذلك يوم الأربعاء، فتواقفوا، وقيل للحجاج: لا تعرفه مكانك، فأخفى مكانه، وشبه له أبا الورد مولاه، فنظر إليه شبيب فحمل عليه فضربه بعمود فقتله، وحمل شبيب على خالد بن عتاب ومن معه وهو على ميسرة الحجاج فبلغ بهم الرحبة، وحمل على مطر بن ناجية وهو على ميمنة الحجاج فكشفه، فنزل عند ذلك الحجاج ونزل أصحابه وجلس على عباءة ومعه عنبسة بن سعيد، فإنهم على ذلك إذ تناول مصقلة بن مهلهل الضبي لجام شبيب وقال: ما تقول في صالح. فقال له مصقلة: برئ الله منك، وفارقه إلا أربعين فارساً. فقال الحجاج: قد اختلفوا، وأرسل إلى خالد بن عتاب فأتى بهم في عسكرهم فقاتلهم فقتلت غزالة، ومر برأسها إلى الحجاج مع فارس، فعرفه شبيب فأمر رجلاً فحمل على الفارس فقتله وجاء بالرأس، فأمر به فغسل ثم دفنه.
ومضى القوم على حاميتهم ورجع خالد فأخبر الحجاج بانصرافهم، فأمره باتباعهم، فاتبعهم يحمل عليهم، فرجع إليه ثمانية نفر فقاتلوه حتى بلغوا به الرحبة، وأتي شبيب بخوط بن عمير السدوسي فقال: يا خوط لا حكم إلا الله. فقال: إن خوطاً من أصحابكم ولكنه كان يخاف، فأطلقه؛ وأتي بعمير بن القعقاع فقال: يا عمير لا حكم إلا الله. فقال: في سبيل الله شبابي، فردد عليه شبيب: لا حكم إلا الله، فلم يفقه ما يريد، فقتله.
وقتل مصاد أخو شبيب، وجعل شبيب ينتظر الثمانية الذين اتبعوا خالداً، فأبطأوا ولم يقدم أصحاب الحجاج على شبيب هيبةً له، وأتى إلى شبيب أصحابه الثمانية فساروا واتبعهم خالد وقد دخلوا إلى دير بناحية المدائن فحصرهم فيه، فخرجوا عليه فهزموه نحو فرسخين فألقوا أنفسهم في دجلة منهزمين وألقى خالد بن عتاب. فقال: معرق له في الشجاعة، ولو عرفته لأقحمت خلفه ولو دخل النار. ثم سار إلى كرمان، على ما تقدم ذكره، وكتب الحجاج إلى عبد الملحك يستمده ويعرفه عجز أهل الكوفة عن قتال شبيب، فسير سفيان بن الأبرد في جيش إليه.
ذكر مهلك شبيبوفي هذه السنة هلك شبيب.
وكان سبب ذلك أن الحجاج أنفق في أصحاب سفيان بن الأبرد مالاً عظيماً بعد أن عاد شبيب عن محاربتهم وقصد كرمان بشهرين، وأمر سفيان وأصحابه بقصد شبيب، فسار نحوه، وكتب الحجاج إلى الحكم بن أيوب زوج ابنته، وهو عامله على البصرة، يأمره أن يرسل أربعة آلاف فارس من أهل البصرة إلى سفيان، فسيرهم مع زياد بن عمرو العتكي، فلم يصل إلى سفيان حتى التقى سفيان مع شبيب، وكان شبيب قد أقام بكرمان، فاستراح هو وأصحابه ثم أقبل راجعاً فالتقى مع سفيان بجسر دجيل الأهواز، فعبر شبيب الجسر إلى سفيان، فوجد سفيان قد نزل في الرجال، وجعل مهاصر بن سيف على الخيل. واقبل شبيب في ثلاثة كراديس فاقتتلوا أشد قتال، ورجع شبيب إلى المكان الذي كان فيه، ثم حمل عليهم هو وأصحابه أكثر من ثلاثين حملة، ولا يزول أهل الشام، وقال لهم سفيان: لا تتفرقوا وليزحف إليهم الرجال زحفاً.
فما زالوا بضاربونهم ويطاعنونهم حنى اضطروهم إلى الجسر. فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه نحو مائة فقاتلوهم حتى المساء وأوقعوا بأهل الشام من الضرب والطعن ما لم يروا مثله.

فلما رأى سفيان عجزه عنهم وخاف أن ينصروا عليه أمر الرماة أن يرموهم، وذلك عند المساء، وكانوا ناحية، فتقدموا ورموا شبيباً ساعة، فحمل هو وأصحابه على الرماة فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلاً، ثم أعطف على سفيان ومن معه فقاتلهم حتى اختلط الظلام، ثم انصرف، فقال سفيان لأصحابه: لا تتبعوهم.
فلما انتهى شبيب إلى الجسر قال لأصحابه: اعبروا وإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله. فعبروا أمامه وتخلف في آخرهم، وجاء ليعبر وهو على حصان، وكانت بين يديه فرس أنثى، فنزا فرسه عليها وهو على الجسر فاضطربت الحجر تحته ونزل حافر فرس شبيب على حرف السفينة فسقط في الماء، فلما سقط قال: " ذاك تقدير العزيز العليم " الانعام:96،وغرق.
وقيل في قتله غير ذلك، وهو أنه كان مع جماعة من عشيرته ولم تكن لهم تلك البصيرة النافذة، وكان قد قتل من عشائرهم رجالاً، فكان قد أوجع قلوبهم، وكان منهم رجل اسمه مقاتل من بني تيم بن شيبان، فلما قتل شبيب من بني تيم أغار هو على بني مرة بن همام رهط شبيب فقتل منهم، فقال له شبيب: ما حملك على قتلهمبغير أميري؟ فال: له: قتلت كفار قومي فقتلت كفار قومك، ومن ديننا قتل من كان على غير رأينا، وما أصبت من رهطي أكثر مما أصبت من رهطك، وما يحل لك يا أمير المؤمنين أن تجد على قتل الكافرين. قال: لا أجد.
وكان معه أيضاً رجال كثير قد قتل من عشائرهم، فلما تخلف في آخر الناس قال بعضهم لبعض: هل لكم أن تقطع به الجسر فندرك ثأرنا؟ فقطعوا الجسر، فمالت به السفن، فنفر به الفرس فوقع في الماء فغرق. والأول أصح وأشهر.
وكان أهل الشام يريدون الانصراف، فاتاهم صاحب الجسر فقال لسفيان: إن رجلاً منهم وقع في الماء، فنادوا بينهم: غرق أمير المؤمنين! ثم إنهم انصرفوا راجعين وتركوا عسكرهم ليس فيه أحد، فكبر سفيان وكبر أصحابه، وأقبل حتى انتهى إلى الجسر، وبعث إلى العسكر وإذا ليس فيه أحد وإذا هو أكثر العساكر خيراً، ثم استخرجوا شبيباً فشقوا جوفه وأخرجوا قلبه، وكان صلباً كأنه صخرة، فكان يضرب به الصخرة فيشبب عنها قامة الإنسان.
قيل: وكان شبيب ينعى إلى أمه، فيقال: قتل، فلا تقبل ذلك، فلما قيل لها غرق صدقت ذلك وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج مني شهاب نار فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء. وكانت أمه جارية رومية قد استراها أبوه فأولدها شبيباً منه سنة خمس وعشرين يوم النحر، وقالت: إني رأيت فيما يرى النائم أنه خرج من قلبي شهاب نار فذهب ساطعاً في السماء وبلغ الآفاق كلها، فبينما هو كذلك إذ وقع في ماء كثير فخبا، وقد ولدته في يومكم هذا الذي تهريقون فيه الدماء، وقد أولت ذلك أن ولدي يكون صاحب دماء، وأن أمره سيعلو فيعظم سريعاً. وكان أبوه يختلف به إلى اللصف أرض قومه، وهو من بني شيبان.
ذكر خروج مطرف بن المغيرة بن شعبةقيل: إن بني المغيرة بن شعبة كانوا صلحاء أشرافاً بأنفسهم مع شرف أبيهم ومنزلتهم من قومهم، فلما قدم الحجاج ورآهم علم أنهم رجال قومهم، فاستعمل عروة على الكوفة، ومطرفاً على المدائن، وحمزة على همدان، وكانوا في أعمالهم أحسن الناس سيرةً، وأشدهم على المريب، وكان مطرف على المدائن عند خروج شبيب وقربه منها، كما سبق، فكتب إلى الحجاج يستمده، فأمده بسبرة بن عبد الرحمن بن مخنف وغيره، وأقبل شبيب حتى نزل بهرسير، وكان مطرف بالمدينة العتيقة، وهي التي فيها إيوان كسرى، فقطع مطرف الجسر وبعث إلى شبيب يطلبه إليه أن يرسل بعض أصحابه لينظر فيما يدعون، فبعث إليه عدةً منهم، فسألهم مطرف عما يدعون إليه، فقالوا: ندعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإن الذي نقمنا من قومنا الاستئثار بالفيء وتعطيل الحدود والتسلط بالجبرية.

فقال لهم مطرف: ما دعوتم إلا إلى حق، وما نقمتم إلا جوراً ظاهراً، أنا لكم متابع فبايعوني على ما أدعوكم إليه ليجتمع أمري وأمركم. فقالوا: اذكره فإن يكن حقاً نجبك إليه. قال: أدعوكم إلى أن نقاتل هؤلاء الظلمة على إحداثهم وندعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يؤمرون من يرتضون على مثل هذه الحال التي تركهم عليها عمر بن الخطاب، فإن العرب إذا علمت أن ما يراد بالشورى الرضى من قريش رضوا وكثر تبعكم وأعوانكم. فقالوا: هذا مالا نجيبك إليه، وقاموا من عنده وترددوا بينهم أربعة أيام، فلم تجتمع كلمتهم، فساروا من عنده. وأحضر مطرف نصحاءه وثقاته فذكر لهم ظلم الحجاج وعبد الملك وأنه ما زال يؤثر مخالفتهم ومناهضتهم وأنه يرى ذلك ديناً لو وجد عليه أعواناً، ذكر لهم ما جرى بينه وبين أصحاب شبيب وأنهم لو تابعوه على رأيه لخلع عبد الملك والحجاج، واستشارهم فيما يفعل.
فقالوا له: أخف هذا الكلام ولا تظهره لأحد. فقال له يزيد بن أبي زياد، مولى أبيه المغيرة بن شعبة: والله لا يخفى على الحجاج مما كان بينك وبينهم كلمة واحدة وليزادن على كل كلمة عشر أمثالها، ولو كنت في السحاب لالتمسك الحجاج حتى يهلكك، فالنجاء النجاء فوافقه أصحابه على ذلك، فسار عن المدائن نحو الجبال، فلقيه قبيصة بن عبد الرحمن الخثعمي بدير يزدجرد فأحسن إليه وأعطاه نفقةً وكسوةً، فصحبه ثم عاد عنه، ثم ذكر مطرف لأصحابه بالدسكرة ما عزم عليه ودعاهم إليه، وكان رأيه خلع عبد الملك والحجاج والدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين يرتضون لأنفسهم من أحبوه. فبايعه البعض على ذلك ورجع عنه البعض.
وكان ممن رجع عنه سبرة بن عبد الرحمن بن مخنف، فجاء إلى الحجاج وقاتل شبيباً مع أهل الشام.
وسار مطرف نحو حلوان، وكان بها سويد بن عبد الرحمن السعدي من قبل الحجاج، فأراد هو والأكراد منعه ليعذر عند الحجاج، فجازه مطرف بمواطأة منه وأوقع مطرف بالأكراد فقتل منهم وسار، فلما دنا من همذان وبها أخوه حمزة بن المغيرة تركها ذات اليسار وقصد ماه دينار وأرسل إلى أخيه حمزة يستمده بالمال والسلاح، فأرسل إليه سراً ما طلب . وسار مطرف حتى بلغ قم وقاشان وأصبهان وبعث عماله على تلك النواحي، وأتاه الناس، وكان ممن أتاه: سويد بن سرحان الثقفي، وبكير بن هارون النخعي، من الري في نحو مائة رجل.
وكتب البراء بن قبيصة، وهو عامل الحجاج على أصبهان، غليه يعرفه حال مطرف ويستمده، فأمدة بالرجال بعد الرجال على دواب البريد، وكتب الحجاج إلى عدي من الري فاجتمع هو والبراء بن قبيصة، وكان عدي هو المير، فاجتمعوا في نحو ستة آلاف مقاتل، وكان حمزة بت المغيرة قد أرسل إلى الحجاج يعتذر، فأظهر قبول عذره وأراد عزله وخاف أن يمتنع عليه، فكتب إلى قيس بن سعد العجلي، وهو على شرطة حمزة بهمذان، بعهده على همذان ويأمره أن يقبض على حمزة بن المغيرة.
وكان بهمذان من عجل وربيعة جمع كثير، فسار قيس بن سعد إلى حمزة في جماعة من عشيرته فأقراه العهد بولاية همذان وكتاب الحجاج بالقبض عليه، وقال: سمعاً وطاعة. فقبض قيس على حمزة وجعله في السجن، وتولى قيس همذان، وتفرغ قلب الحجاج من هذه الناحية لقتال مطرف، وكان يخاف مكان حمزة بهمذان لئلا يمد أخاه بالمال والسلاح ولعله ينجده بالرجال.
فلما قبض عليه سكن قلبه وتفرغ باله، ولما اجتمع عدي بن زياد الإيادي والبراء بن قبصة سارا نحو مطرف فخندقا عليه، فلما دنوا منه اصطفوا للحرب واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم أصحاب مطرف وقتل مطرف وجماعة كثيرة من أصحابه، قتله عمير بن هبيرة الفزاري، وحمل رأسه فتقدم بذلك عند بني أمية، وقاتل ابن هبيرة ذلك اليوم وأبلى بلاء حسناً وقتل يزيد بن أبي مولى المغيرة، وكان صاحب راية مطرف، وقتل من أصحابه عبد الرحمن بن عبد الله بن عفيف الأزدي، وكان ناسكاً صالحاً.
وبعث عدي بن زياد إلى الحجاج أهل البلاء، فأكرمهم وأحسن إليهم، وآمن عدي بكير بن هارون وسويد بن سرحان وغيرهما، وطلب منه الأمان للحجاج بن حارثة حتى عزل عدي، ثم ظهر في إمارة خالد بن عتاب بن ورقاء.

وكان الحجاج يقول: إن مطرفاً ليس بولد للمغيرة بن شعبة إنما هو ولد مصقلة بن سبرة الشيباني، وكان مصقلة والمغيرة يدعيانه، فألحق بالمغيرة وجلد مصقلة الحد، فلما أظهر رأي الخوارج قال الحجاج ذلك لأن كثيراً من ربيعة كانوا من خوارج ولم يكن منهم أحد من قيس عيلان
ذكر الإختلاف بين الأزارقةقد ذكرنا مسير المهلب إلى الأزارقة ومحاربتهم إلى أن فارقه عتاب بن ورقاء الرياحي ورجع إلى الحجاج، وأقام المهلب بعد مسير عاب عنه يقاتل الخوارج، فقاتلهم على سابور نحو سنة قتالاً شديداً. ثم إنه زاحفهم يوم البستان فقاتلهم أشد قتال، وكانت كرمان بيد الخوارج، وفارس بيد الهلب. فضاق على الخوارج مكانهم لا يأتيهم من فارس مادة، فخرجوا حتى أتوا كرمان، وتبعهم المهلب بالعساكر حتى نزل بجيرفت، وهي مدينة كرمان، فقاتلهم قتالاً شديداً. فلما صارت فارس كلها في يد المهلب أرسل الحجاج العمال عليها، فكتب إليه عبد الملك يأمره أن يترك بيد المهلب فسا ودار ابجرد وكورة إصطخر تكون له معونة على الحرب، فتركا له، وبعث الحجاج إلى المهلب البراء بن قبيصة ليحثه على قتال الجوارج ويأمره بالجد وأنه لا عذر له عنده فخرج المهلب بالعساكر فقاتل الخوارج من صلاة الغداة إلى الظهر، ثم انصرفوا والبراء على مكان عال يراهم، فجاء إلى المهلب فقال: ما رأيت كتيبة ولا فرساناً أصبر ولا أشد من الفرسان الذين يقاتلونك. ثم إن المهلب رجع العصر فقاتلهم كقتالهم أول مرة لا يصد كتيبة عن كتيبة، وخرجت كتيبة من كتائب الخوارج لكتيبة من أصحاب المهلب، فاشتد بينهم القتال إلى أن حجز بينهم الليل، فقالت إحداهما للأخرى: من أنتم؟ فقال هؤلاء: نحن من بتي تميم. وقال هؤلاء: نحن من بني تميم. وانصرفوا عند المساء. فقال المهلب للبراء بن قبيصة: كيف رأيت قوما ما يعينك عليهم إلا الله جل ثناؤه؟ فأحسن المهلب إلى البراء وأمر له بعشرة آلاف درهم. وانصرف البراء إلى الحجاج وعرفه عذر المهلب.
ثم إن المهلب قاتلهم ثمانية عشر شهراً لا يقدر منهم على شيء. ثم إن عاملا لقطري على ناحية كرمان يدعى المقعطر الضبي قتل رجلاً منهم، فوثبت الخوارج إلى قطري وطلبوا منه أن يقيدهم من المقعطر، فلم بفعل وقال: إنه تأول فأخطأ التأويل، ما رأى أن تقتلوه وهو من ذوي السابقة فيكم، فوقع بينهم الإختلاف.
وقيل: كان سبب اختلافهم أن رجلاً كان في عسكرهم يعمل النصول المسمومة فيرمي بها أصحاب المهلب، فشكا أصحابه منها، فقال: أكفيكموه، فوجه رجلاً من أصحابه ومعه كتاب وأمره أن يلقيه في عسكر قطري ولا يراه أحد، ففعل ذلك، ووقع الكتاب إلى قطري، فرأى فيه؛ أما بعد فإن نصالك قد وصلت وقد أنفذت إليك ألف درهم. فأحضر الصانع فسأله فجحد، فقتله قطري، فأنكر عليه عبد ربه الكبير قتله واختلفوا.
ثم وضع المهلب رجلاً نصرانياً وأمره أن يقصد قطرياً ويسجد له، ففعل ذلك، فقال له الخوارج: إن هذا قد اتخذك إلهاً. ووثب بعضهم إلى النصراني فقتله، فزاد اختلافهم وفارق بعضهم قطرياً، ثم ولوا عبد ربه الكبير وخلعوا قطرياً وبقي مع قطري منهم نحو من ربعهم أو خمسهم، واقتتلوا فيما بينهم نحوا من شهر.
وكتب المهلب إلى الحجاج بذلك. فكتب إليه الحجاج يأمره أن يقاتلهم على حال اختلافهم قبل أن يجتمعوا، فكتب إليه المهلب: إني لست أرى أن أقاتلهم ما دام يقتل بعضهم بعضاً، فإن تموا على ذلك فهو الذي نريد وفيه هلاكهم، وإن اجتمعوا لم يجتمعوا إلا وقد رقق بعضهم بعضاً فأناهضهم حينئذٍ وهم أهون ما كانوا وأضعفه شوكةً إن شاء الله تعالى، والسلام. فسكت عنه الحجاج، وتركهم المهلب يقتتلون شهراً لا يحركهم، ثم إن قطرياً خرج بمن اتبعه نحو طبرستان، وبايع الباقون عبد ربه الكبير.
ذكر مقتل عبد ربه الكبيرلما سار قطري إلى طبرستان وأقام عبد ربه الكبير بكرمان نهض إليهم المهلب فقاتلوه قتالاً شديداً وحصرهم بجيرفت وكرر قتالهم وهو لا ينال منهم حاجته. ثم إن الخوارج طال عليهم الحصار فخرجوا من جيرفت بأموالهم وحرمهم فقاتلهم المهلب قتالاً شديداً حتى عقرت الخيل وتكسر السلاح وقتل الفرسان فتركهم، فساروا، ودخل المهلب جيرفت، ثم سار يتبعهم إلى أن لحقهم على أربعة فراسخ من جيرفت فقاتلهم من بكرة إلى نصف النهار وكف عنهم، وأقام عليهم.

ثم إن عبد ربه جمع أصحابه وقال: يا معشر المهاجرين! إن قطرياً ومن معه هربوا طلب البقاء ولا سبيل إليه، فالقوا عدوكم وهبوا أنفسكم لله. ثم عاد للقتال، فاقتتلوا قتالاً شديداً أنساهم ما قبله، فبايع جماعة من أصحاب المهلب على الموت، ثم ترجلت الخوارج وعقروا دوابهم واشتد القتال وعظم الخطب حتى قال المهلب: ما مربي مثل هذا - ثم إن لله تعالى أنزل نصره على المهلب وأصحابه وهزم الخوارج وكثر القتلى فيهم، وكان فيمن قتل: عبد ربه الكبير، وكان عدد القتلى أربعة آلاف قتيل، ولم ينج منهم إلا قليل، وأخذ عسكرهم وما فيه وسبوا لأنهم كانوا يسبون نساء المسلمين. وقال الطفيل بن عامر بن واثلة يذكر قتل عبد ربه الكبير وأصحابه:
لقد مس منا عبد رب وجنده ... عقاب فأمسى سبيهم في المقاسم
سما لهم بالجيش حتى أزاحهم ... بكرمان عن مثوىً من الأرض ناعم
وما قطري الكفر إلا نعامة ... طريد يدوي ليله غير نائم
إذا فر منا هارباً كان وجهه ... طريقاً سوى قصد الهدى والمعالم
فليس بمنجيه الفرار وإن جرت ... به الفلك في لجٍ من البحر دائم
وهي أكثر من هذا تركناها لشهرتها.
وأحسن الحجاج إلى أهل البلاء وزادهم، وسير المهلب إلى الحجاج مبشراً، فلما دخل عليه أخبره عن الجيش وعن الخوارج وذكر حروبهم وأخبره عن بني المهلب فقال: المغيرة فارسهم وسيدهم، وكفى بيزيد فارساً شجاعاً، وجوادهم وسخيهم قبيصة، ولا يستحيي الشجاع أن يفر من مدركه، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالمفضل نجدة قال: فكيف خلفت الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: كيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرح نهاراً، فإن أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفها. فاستحسن قوله وكتب إلى المهلب يشكره ويأمره أن يولي كرمان من يثق به ويجعل فيها من يحميها ويقدم إليه. فاستعمل على كرمان يزيد ابنه، وسار إلى الحجاج، فلما قدم عليه أكرمه وأجلسه إلى جانبه وقال: يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب. ثم قال له: أنت كما قال لقيط بن يعمر الإيادي في صفة أمراء الجيوش:
وقلدوا أمركم لله دركم ... رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا
لا مترفاً إن رخاء العيش ساعده ... ولا إذا عض مكروه به خشعا
مسهد النوم تعنيه ثغوركم ... يروم منها إلى الأعداء مطلعا
ما انفك يحلب هذا الدهر أشطره ... يكون متبعاً طوراً ومتسعا
وليس يشغله مال يثمره ... عنكم ولا ولد يبغي له الرفعا
حتى استمرت على شزرٍ مريرته ... مستحكم السن لا قحماً ولا ضرعا
وهي قصيدة طويلة هذا هو الأجود منها.
ذكر قتل قطري بن الفجاءة

وعبيدة بن هلال
قيل: وفي هذه السنة كانت هلكة قطري وعبيدة بن هلال ومن معهما من الأزارقة. وكان السبب في ذلك أن أمرهم لما تشتت بالاختلاف الذي ذكرنا، وسار قطري نحو طبرستان، وبلغ خبره الحجاج، سير إليه سفيان بن الأبرد في جيش عظيم. وسار سفيان واجتمع معه إسحاق بن محمد بن الأشعث في جيش لأهل الكوفة بطبرستان، فأقبلوا في طلب قطري فلحقوه في شعب طبرستان فقاتلوه، فتفرق عنه أصحابه ووقع عن دابته فتدهدى إلى أسفل الشعب، وأتاه علج من أهل البلد، فقال له قطري: اسقني الماء. فقال العلج: أعطني شيئاً. فقال: ما معي إلا سلاحي وأنا أعطيكه إذا أتيتني بالماء. فانطلق العلج حتى أشرف على قطري، ثم حدر عليه حجراً من فوقه فأصاب وركه فأوهنه، فصاح بالناس، فاقبلوا نحوه، ولم يعرفه العلج، غير أنه يظن أنه من أشرافهم لكمال سلاحه وحسن هيئته، فجاء إليه نفر من أهل لكوفة فقتلوه، منهم: سورة بن الحر التميمي، وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف، والصباح بن محمد بن الأشعث، وباذان مولاهم، وعمر بن أبي الصلت، وكل هؤلاء ادعى قتله.

فجاء إليهم أبو الجهم بن كنانة فقال لهم: ادفعوا رأسه إلي حتى تصطلحوا، فدفعوه إليه، فأقبل به إلى إسحاق بن محمد وهو على الكوفة فأرسله معه إلى سفيان، فسير سفيان الرأس مع أبي الجهم إلى الحجاج، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، فجعل عطاءه في ألفين.
ثم إن سفيان سار إليهم فأحاط بهم، ثم أمر مناديه فنادى: من قتل صاحبه وجاء إلينا فهو آمن؛ فقال عبيدة بن هلال في ذلك:
لعمري لقد قام الأصم بخبةٍ ... لذي الشك منها في الصدور غليل
لعمري لئن أعطيت سفيان بيعتي ... وفارقت ديني أنني لجهول
إلى الله أشكو ما ترى بجيادنا ... تساوك هزلى مخهن قليل
تعاورها القذاف من كل جانبٍ ... بقومس حتى صعبهن ذلول
فإن يك أفناها الحصار فربما ... تشحط فيما بينهن قتيل
وقد كن مما إن يقدن على الوجى ... لهن بأبواب القباب صهيل
وحصرهم سفيان حتى أكلوا دوابهم، ثم خرجوا إليه فقاتلوه فقتلهم وبعث برؤوسهم إلى الحجاج. ثم دخل سفيان دنباوند وطبرستان فكان هناك حتى عزله الحجاج قبل الجماجم.
وقال بعض العملاء: وانقرضت الأزارقة بعد مقتل قطري وعبيدة، إنما كانوا دفعة متصلة أهل عسكر واحد، وأول رؤسائهم نافع بن الأزرق، وآخرهم قطري وعبيدة، واتصل أمرهم بضعاً وعشرين سنة، إلا أني أشك في صبيح المازني التميمي مولى سوار بن الأشعر الخارج أيام هشام، قيل: هو من الأزارقة أو الصفرية، إلا أنه لم تطل أيامه بل قتل عقيب خروجه.
ذكر قتل بكير بن وشاحفي هذه السنة قتل أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بكير بن وشاح.
وكان سبب ذلك أن أمية بن عبد الله، وهو عامل عبد الملك بن مروان على خراسان، أمر بكيراً بالتجهيز لغزو ما وراء النهر، وقد كان قبل ذلك ولاه طخارستان، فتجهز له، فوشى به بحير بن ورقاء إلى أمية، فمنعه عنها، فلما أمره بغزو ما وراء النهر تجهز وأنفق نفقةً كثيرة وادان فيها، فقال بحير لأمية: إن صار بينك وبينه النهر خلع الخليفة. فأرسل إليه أمية: أن أقم لعلي أغزو فتكون معي. فغضب بكير وقال: كأنه يضارني. وكان عقاب ذو القوة الغداني استدان ليخرج مع بكير، فأخذه غرماؤه فحبس حتى أدى عنه بكير.
ثم إن أمية تجهز للغزو إلى بخارى ثم يعود منها إلى موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ، وتجهيز الناس معه وفيهم بكير، وساروا، فلما بلغوا النهر وأرادوا قطعه قال أمية لبكير: إني قد استخلفت ابني على خراسان وأخاف أنه لا يضبطها لأنه غلام حدث، فارجع إلى مرو فاكفنيها فإني قد وليتكها، فقم بأمر ابني.
فانتخب بكير فرساناً كان عرفهم ووثق بهم ورجع، ومضى أمية إلى بخارى للغزاة. فقال عقاب ذو اللقوة لبكير: إنا طلبنا أميراً من قريش فجائنا أمير يلعب بنا ويحولنا من سجن إلى سجن، وإني أرى آت تحرق هذه السفن ونمضي إلى مرو ونخلع أمية ونقيم بمرو ونأكلها إلى يوم ما.
ووافقه الأحنف بن عبد الله العنبري على هذا. قال بكير: أخاف أن يهلك هؤلاء الفرسان الذين معي. قال: إن هلك هؤلاء فأنا آتيك من أهل مرو بما شئت. قال: يهلك المسلمون. قال: إنما يكفيك أن ينادي منادٍ: من أسلم رفعنا عنه الخراج، فيأتيك خمسون ألفاً أسمع من هؤلاء وأطوع. قال: فيهلك أمية ومن معه. قال: ولم يهلكون ولهم عدد وعدة ونجدة وسلاح ظاهر ليقاتلوا عن أنفسهم حتى يبلغوا الصين! فحرق بكير السفن ورجع إلى مرو، فأخذ ابن أمية فحبسه وخلع أمية.
وبلغ أمية الخبر فصالح أهل بخارى على فدية قليلة ورجع وأمر باتخاذ السفن وعبر وذكر للناس إحسانه إلى بكير مرة بعد أخرى وأنه كافأه بالعصيان، وسار إلى مرو، وأتاه موسى بن عبد الله بن خازم، وأرسل أمية شماس بن دثار في ثمانمائة، فسار إليه بكير وبيته فهزمه وأمر أصحابه أن لا يقتلوا منهم أحداً، فكانوا يأخذون سلاحهم ويطلقونهم، وقدم أمية فتلقاه شماس، فقدم أمية ثابت بن قطبة، فلقيه بكير فأسر ثابتاً وفرق جمعه ثم أطلقه ليدٍ كانت لثابت عنده.

وأقبل أمية وقاتله بكير فانكشف يوماً أصحابه، فحماهم بكير، ثم التقوا يوماً آخر فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم التقوا يوماً آخر فضرب بكير ثابت بن قطبة على رأسه، فحمل حريث بن قطبة أخو ثابت على بكير، فانحاز بكير وانكشف أصحابه، واتبع حريث بكيراً حتى بلغ القنطرة، وناداه: إلى أين يا بكير؟ فرجع، فضربه حريث على رأسه فقطع المغفر وعض السيف رأسه فصرع، واحتمله أصحابه فأدخلوه المدينة، وكانوا يقاتلونهم.
فكان أصحاب بكير يغدون في الثياب المصبغة من أحمر وأصفر فيجلسون يتحدثون وينادي مناديهم: من رمى بسهم رمينا إليه برأس رجل من ولده وأهله، فلا يرميهم أحد.
وخاف بكير إن طال الحصار أن يخذله الناس، فطلب الصلح وأحب ذلك أيضاً أصحاب أمية، فاصطلحوا على أن يقضي أمية عنه أربعمائة ألف ويصل أصحابه ويوليه أي كور خراسان شاء ولا يسمع قول بحير فيه وإن رابه ريب فهو آمن أربعين يوماً.
ودخل أمية مدينة مرو ووفى لبكير وعاد إلى ما كان من إكرامه وأعطى أمية عقاباً عشرين ألفاً.
وقد قيل: إن بكيراً لم يصحب أمية إلى النهر، كان أمية قد استخلفه على مرو، فلما سار أمية وعبر النهر خلعه، فجرى الأمر بينهما على ما ذكرناه.
وكان أمية سهلاً ليناً سخياً، وكان مع ذلك ثقيلاً على أهل خراسان، وكان فيه زهو شديد وكان يقول: ما تكفيني خراسان لمطبخي.
وعزل أمية بحيراً عن شرطته وولاها عطاء بن أبي السائب. وطالب أمية الناس بالخراج واشتد عليهم، وكان بكير يوماً في المسجد وعنده الناس فذكروا شدة أمية وذموه، وبحير وضرار بن حصين وعبد الله بن جارية بن قدامة في المسجد، فنقل بحير ذلك إلى أمية، فكذبه، فادعى شهادة هؤلاء، فشهد مزاحم بن أبي المجشر السلمي أنه كان يمزح فتركه أمية.
ثم إن بحيراً أتى أمية وقال له: والله إن بكيراً قد دعاني إلى خلعك وقال: لولا مكانك لقتلت هذا القرشي وأكلت خراسان، فلم يصدقه أمية، فاستشهد جماعةً ذكر بكير أنهم أعداؤه، فقبض أمية على بكير وعلى بدل وشمردل ابني أخيه، ثم أمر أمية بعض رؤساء من معه بقتل بكير فامتنعوا، فأمر بحيراً بقتله فقتله، وقتل أمية ابني أخي بكير.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عبر أمية نهر بلخ للغزو فحوصر حتى جهد هو وأصحابه، ثم نجوا بعدما أشرفوا على الهلاك ورجعوا إلى مرو.
وحج هذه السنة بالناس أبان بن عثمان، وهو أمير المدينة. وكان على الكوفة والبصرة الحجاج، وعلى خراسان أمية.
وغزا هذه السنة الصائفة الوليد بن عبد الملك.
وفيها مات جابر بن عبد الله بن عمرو الأنصاري.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين

ذكر عزل أمية بن عبد الله
وولاية المهلب خراسان
في هذه السنة عزل عبد الملك بن مروان أمية بن عبد الله بن خالد عن خراسان وسجستان وضمهما إلى أعمال الحجاج بن يوسف ففرق عماله فيهما، فبعث المهلب بن أبي صفرة على خراسان، وقد فرغ من الأزارقة، ثم قدم على الحجاج وهو بالبصرة فأجلسه معه على السرير ودعا أصحاب البلاء من أصحاب المهلب فأحسن إليهم وزادهم. وبعث عبيد الله بن أبي بكرة على سجستان، وكان الحجاج قد استخف على الكوفة عند مسيره إلى البصرة المغيرة بن عبد الله بن أبي عقيل، فلما استعمل المهلب على خراسان سير ابنه حبيباً إليها، فلما ودع الحجاج أعطاه بغلةً خضراء، فسار عليها وأصحابه على البريد، فسار عشرين يوماً حتى وصل خراسان، فلما دخل باب مرو لقيه حمل حطب فنفرت البلغة، فعجبوا من نفارها بعد ذلك التعب وشدة السير. فلما وصل خراسان لم يعرض لأمية ولا لعماله وأقام عشرة أشهر حتى قدم عليه المهلب سنة تسع وسبعين.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان، وكان أمير المدينة. وكان أمير الكوفة والبصرة وخراسان وسجستان وكرمان الحجاج بن يوسف، وكان نائبه بخراسان المهلب، وبسجستان عبيد الله بن أبي بكرة، وكان على قضاء الكوفة شريح، وعلى قضاء البصرة موسى بن أنس، فيما قيل.
في هذه السنة مات عبد الرحمن بن عبد الله القاري وله ثمان وسبعون سنة، ومسح النبي صلى الله عليه وسلم ، برأسه.
القاري بالياء المشددة.
وفيها مات زيد بن خالد الجهني، وقيل غير ذلك، وتوفي عبد الرحمن بن غنم الأشعري، أدرك الجاهلية، وليست له صحبة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين
ذكر غزو عبيد الله رتبيل

لما ولى الحجاج عبيد الله بن أبي بكرة سجستان، وذلك سنة ثمان وسبعين، مكث سنة لم يغز، وكان رتبيل مصالحاً، وكان يؤدي الخراج، وربما امتنع منه.
فبعث الحجاج إلى عبيد الله بن أبي بكرة يأمره بمناجزته وأن لا يرجع حتى يستبيح بلاده ويهدم قلاعه ويقيد رجاله.
فسار عبيد الله في أهل البصرة وأهل الكوفة، وكان على أهل الكوفة شريح بن هانئ، وكان من أصحاب علي، ومضى عبيد الله حتى دخل بلاد رتبيل فأصاب من الغنائم ما شاء، وهدم حصوناً، وغلب على أرض من أراضيهم، وأصحاب رتبيل من الترك يتركون لهم أرضاً بعد أرض حتى أمعنوا في بلادهم ودنوا من مدينتهم، وكانوا منها على ثمانية عشر فرسخاً، فأخذوا على المسلمين العقاب والشعاب، فسقط في أيدي المسلمين، فظنوا أن قد هلكوا، فصالحهم عبيد الله على سبعمائة ألف درهم يوصلها إلى رتبيل ليمكن المسلمين من الخروج من أرضه، فلقيه شريح فقال له: إنكم لا تصالحون على شيء إلا حسبه السلطان من أعطياتكم، وقد بلغت من العمر طويلاً وقد كنت أطلب الشهادة منذ زمان وإن فاتتني اليوم الشهادة ما أدركها حتى أموت. ثم قال شريح: يا أهل الإسلام تعاونوا على عدوكم. فقال له ابن أبي بكرة: إنك شيخ قد خرفت.
فقال له شريح: إنما حسبك أن يقال بستان عبيد الله وحمام عبيد الله. يا أهل الإسلام من أراد منكم الشهادة فإلي. فاتبعه ناس من المتطوعة غير كثير وفرسان الناس وأهل الحفاظ، فاتلوا حتى أصيبوا إلا قليلاً، وجعل شريح يرتجز ويقول:
أصبحت ذا بثٍ أقاسي الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمة أدركنا النبي المنذرا ... وبعده صديقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع في صفينهم والنهرا
وباجميراتٍ مع المشقرا ... هيهات ما أطول هذا عمرا
وقاتل حتى قتل في ناس من أصحابه ونجا منهم، فخرجوا من بلاد رتبيل، فاستقبلهم الناس بالأطعمة، فكان أحدهم إذا أكل وشبع مات، فحذر الناس وجعلوا يطعمونهم السمن قليلاً قليلاً حتى استمرؤوا، وبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى عبد الملك يعرفه ذلك ويخبره أنه قد جهز من أهل الكوفة وأهل البصرة جيشاً كثيفاً ويستأذنه في إرساله إلى بلاد رتبيل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أصاب أهل الشام طاعون شديد حتى كادوا يفنون، فلم يغز تلك السنة أحد فيما قيل. وفيها أصاب أهل الروم أهل أنطاكية وظفروا بهم. وفيها استعفى شريح بن الحارث عن القضاء فأعفاه الحجاج واستعمل على القضاء أبا بردة بن أبي موسى.
وحج بالناس في هذه السنة أبان بن عثمان، وكان على المدينة، وكان على العراق والشرق كله الحجاج بن يوسف. وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس.
وفيها مات محمود بن الربيع، وكنيته أبو إبراهيم، وولد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود.
ثم دخلت سنة ثمانينفي هذه السنة أتى سيل بمكة فذهب بالحجاج، وكان يحمل الإبل عليها الأحمال والرجال ما لأحد فيهم حيلة، وغرقت بيوت مكة، وبلغ السيل الركن فسمي ذلك العام الجحاف وفي هذه السنة وقع بالبصرة طاعون الجارف.
ذكر غزوة المهلب ما وراء النهرفي هذه السنة قطع المهلب نهر بلخ ونزل على كش، وكان على مقدمته أبو الأدهم زياد بن عمرو الزماني في ثلاثة آلاف وهو في خمسة آلاف، وكان أبو الأدهم يغني غناء ألفين في البأس والتدبير والنصيحة، فأتى المهلب وهو نازل على كش ابن عم ملك الختل فدعاه إلى غزو الختل، فوجه معه ابنه يزيد، وكان اسم ملك الختل الشبل، فنزل يزيد ونزل ابن عم الملك ناحية، فبيته الشبل وأخذه فقتله، وحصر يزيد قلعة الشبل فصالحوه على فدية حملت إليه، ورجع يزيد عنهم، ووجه المهلب ابنه حبيباً فوافى صاحب بخارى في أربعين ألفاً، فنزل جماعة من العدو قرية، فسار إليهم حبيب في أربعة آلاف فقتلهم وأحرق القرية، فسميت المحترقة، ورجع حبيب إلى أبيه.
وأقام المهلب بكش سنتين، فقيل له: لو تقدمت إلى ما وراء ذلك. فقال: ليت حظي من هذه الغزاة سلامة هذا الجند وعودهم سالمين.

ولما كان المهلب بكش أتاهم قوم من مضر فحبسهم بها، فلما رجع أطلقهم، فكتب إليه الحجاج: إن كنت أصبت بحبسهم فقد أخطأت بإطلاقهم، وإن كنت أصبت بإطلاقهم فقد ظلمتهم إذ حبستهم. فكتب المهلب: خفتهم وحبستهم، فلما أمنتهم خليتهم. وكان فيمن حبس عبد الملك بن أبي شيخ القشيري.
وصالح المهلب أهل كش على فديةٍ يأخذها منهم، وأتاه كتاب ابن الأشعث بخلع الحجاج ويدعوه إلى مساعدته، فبعث بكتابه إلى الحجاج وأقام بكش.
ذكر تسيير الجنود إلى رتبيل مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعثقد ذكرنا حال المسلمين حين دخل بهم ابن أبي بكرة بلاد رتبيل، واستأذن الحجاج عبد الملك في تسيير الجنود نحو رتبيل، فأذن له عبد الملك في ذلك، فأخذ الحجاج في تجهيز الجيش، فجعل على أهل الكوفة عشرين ألفاً، وعلى أهل البصرة عشرين ألفاً، وجد في ذلك وأعطى الناس أعطياتهم كملاً، وأنفق فيهم ألفي ألف سوى أعطياتهم، وانجدهم بالخيل الرائقة والسلاح الكامل، وأعطى كل رجل يوصف بشجاعة وغناء، منهم عبيد بن أبي محجن الثقفي وغيره.
فلما فرغ من أمر الجندين بعث عليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج ببغضه ويقول: ما رأيته قط إلا أردت قتله. وسمع الشعبي ذلك من الحجاج ذات يوم فأخبر عبد الرحمن به، فقال: والله لأحاولن أن أزيل الحجاج عن سلطانه. فلما أراد الحجاج أن يبعث عبد الرحمن على ذلك الجيش أتاه إسماعيل بن الأشعث فقال له: لا تبعثه فوالله ما جاز جسر الفرات فرأى الوالٍ عليه طاعة وإني أخاف خلافه. فقال الحجاج: هو أهيب لي من أن يخالف أمري. وسيره على ذلك الجيش، فسار بهم حتى قدم سجستان، فجمع أهلها فخطبهم ثم قال: إن الحجاج ولاني ثغركم وأمرني بجهاد عدوكم الذي استباح بلادكم، فإياكم أن يتخلف منكم أحد فتمسه العقوبة.
فعسكروا مع الناس وتجهزوا، وسار بأجمعهم، وبلغ الخبر رتبيل فأرسل يعتذر ويبذل الخراج، فلم يقبل منه، وسار إليه ودخل بلاده وترك له رتبيل أرضاً أرضاً ورستاقاً رستاقاً وحصناً حصناً، وعبد الرحمن يحوي ذلك، وكلما حوى بلداً بعث إليه عاملاً وجعل معه أعواناً، وجعل الأرصاد على العقاب والشعاب، ووضع المسالح بكل مكان مخوفٍ حتى إذا جاز من أرضه أرضاً عظيمة وملأ الناس أيديهم من الغنائم العظيمة منع الناس من الوغول في أرض رتبيل، وقال: نكتفي بما قد أصبناه العام من بلادهم حتى نجبيها ونعرفها ويجترئ المسلمون على طرقها، وفي العام المقبل نأخذ ما وراءها إن شاء الله تعالى، حتى نقاتلهم في آخر ذلك على كنوزهم وذراريهم وأقصى بلادهم حتى يهلكهم الله تعالى. ثم كتب إلى الحجاج بما فتح الله عليه وبما يريد أن يعمل.
وقد قيل في إرسال عبد الرحمن غير ما ذكرنا، وهو أن الحجاج كان قد ترك بكرمان هميان بن عدي السدوسي يكون بها مسلحة إن احتاج إليه عامل سجستان والسند، فعصى هميان، فبعث إليه الحجاج عبد الرحمن بن محمد، فحاربه فانهزم هميان وأقام عبد الرحمن بموضعه. ثم إن عبيد الله بن أبي بكرة مات وكان عاملاً على سجستان، فكتب الحجاج لعبد الرحمن عهده عليها وجهز إليه هذا الجيش، فكان يسمى جيش الطواويس لحسنه.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة أبان بن عثمان، وكان أمير المدينة. وكان على العراق والمشرق الحجاج، وكان على خراسان المهلب من قبل الحجاج، وكان على قضاء البصرة موسى بن أنس وعلى قضاء الكوفة أبو بردة.
وفي هذه السنة مات أسلم مولى عمر بن الخطاب. ووفيها توفي أبو إدريس الخولاني.
وفيها مات عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وقيل سنة أربع، وقيل سنة خمس، وقيل سنة ست وثمانين، وقيل سنة تسعين. وفيها قتل معبد بن عبد الله بن عليم الجهني الذي يروي حديث الدباغ، وهو أول من قال بالقدر في البصرة، قتله الحجاج، وقيل: قتله عبد الملك بن مروان بدمشق. وفيها توفي محمد بن علي بن أبي طالب، وهو ابن الحنفية. وفيها توفي جنادة بن أبي أمية، وله صحبة، وكان على غزو البحر أيام معاوية كلها. وفيها مات السائب بن يزيد ابن أخت النمر، وقيل: سنة ست وثمانين، ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم . وفيها توفي سويد بن غفلة، بفتح الغين المعجمة، والفاء.
وفيها توفي عبد الله بن أوفى، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. وجبير بن نفير بن مالك الحضرمي، أدرك الجاهلية، وليس له صحبة.

ثم دخلت سنة إحدى وثمانين
في هذه السنة سير عبد الملك بن مروان ابنه عبيد الله ففتح قاليقلا
ذكر مقتل بحير بن ورقاءوفي هذه السنة قتل بحير بن ورقاء الصريمي.
وكان سبب قتله أنه لما قتل بكير بن وشاح، وكلاهما تميميان، بأمر أمية بن عبد الله بن خالد إياه بذلك، كما تقدم ذكره، قال عثمان بن رجاء بن جابر أحد بني عوف بن سعد من الأنباء يحرض بعض آل بكير من الأنباء، والأنباء عدة بطون من تميم سموا بذلك:
لعمري لقد أغضبت عيناً على القذى ... وبت بطيناً من رحيقٍ مروق
وخليت ثأراً طل واخترت نومةً ... ومن يشرب الصهباء بالوتر يسبق
فلو كنت من عوف بن سعدٍ ذؤابةً ... تركت بحيراً في دمٍ مترقرق
فقل لبحير نم ولا تخشى ثائراً ... ببكر فعوف أهل شاءٍ حبلق
دع الضأن يوماً قد سبقتم بوتركم ... وصرتم حديثاً بين غربٍ ومشرق
وهبوا فلو أمسى بكير كعهده ... لغاداهم زحفاً بجأواء فيلق
وقال أيضاً:
فلو كان بكر بارزاً في أداته ... وذي العرش لم يقدم عليه بحير
ففي الدهر إن أبقاني الدهر مطلب ... وفي الله طلاب بذاك جدير
فبلغ بجحيراً أن رهط بكير من الأبناء يتوعدونه فقال:
توعدني الأبناء جهلاً كأنما ... يرون مقفراً من بني كعب
رفعت له كفي بعضبٍ مهندٍ ... حسام كلون الثلج ذي رونق عضب
فتعاقد سبعة عشر رجلاً من بني عوف الطلب بدم بكير، فخرج فتىً منهم يقال له شمردل من البادية حتى قدم خراسان فرأى بحيراً واقفاً فحمل عليه، فطعنه فصرعه وظن أنه قد قتله، فقال الناس: خارجي، وراكضهم، فعثر به فرسه فسقط عنه فقتل.
وخرج صعصعة بن حرب العوفي من البادية، وقد باع غنيمات له، ومضى إلى سجستان فجاور قرابة لبحير مدة وادعى إلى بني حنيفة من اليمامة وأطال مجالستهم حتى أنسوا به، ثم قال لهم: إن لي بخراسان ميراثاً فاكتبوا لي إلى بحير كتاباً ليعينني على حقي. فكتبوا له، وسار فقدم على بحير وهو مع المهلب في غزوته، فلقي قوماً من بني عوف، فأخبرهم أمره، ولقي بحيراً فأخبره أنه من بني حنيفة من أصحاب ابن أبي بكرة وأن له مالاً بسجستان وميراثاً بمرو، وقدم ليبيعه ويعود إلى اليمامة. فأنزله بحير وأمر له بنفقة ووعده، فقال صعصعة: أقيم عندك حتى يرجع الناس؛ فأقام شهراً يحضر معه باب المهلب، وكان بحير قد حذر، فلما أتاه صعصعة بكتاب أصحابه وذكر أنه من حنيفة آمنه.
فجاء يوماً صعصة وبحير عند المهلب عليه قميص ورداء، فقعد خلفه ودنا منه كأنه يكلمه فوجأه بخنجر معه في خاصرته فغيبه في جوفه، ونادى: يا لثارات بكير! فاخذ وأتي به المهلب، فقال له: بؤساً لك! ما أدركت بثأرك وقتلت نفسك، وما على بحير بأس. فقال: لقد طعنته طعنةً لو قسمت بين الناس لماتوا، ولقد وجدت ريح بطنه في يدي. فحبسه، فدخل عليه قوم من الأبناء فقبلوا رأسه. ومات بحير من الغد، فقال صعصعة لما مات بحير: اصنعوا الآن ما شئتم، أليس قد حلت نذور أبناء بني عوف وأدركت بثأري؟ والله لقد أمكنني منه خالياً غير مرة فكرهت أن أقتله سراً. فقال المهلب: ما رأيت رجلاً أسخى نفساً بالموت من هذا. وأمر بقتله فقتل.
وقيل: إن المهلب بعثه إلى بحير قبل أن يموت، فقتله، ومات بحير بعده.
وعظم موته على المهلب وغضبت عوف والأبناء وقالوا: علام قتل صاحبنا وإنما أخذ بثأره؟ فنازعهم مقاعس والبطون، وكلهم بطون من تميم، حتى خاف الناس أن يعظم الأمر، فقال أهل الحجى: احملوا دم صعصعة واجعلوا دم بحير ببكير، فودوا صعصعة؛ فقال رجل من الأبناء يمدح صعصعة:
لله در فتىً تجاوز همه ... دون العراق مفاوزاً وبحورا
ما زال يدئب نفسه وركابه ... حتى تناول في الحروب بحيرا
ذكر دخول الديلم قزوين وما كان منهم

كانت قزوين ثغر المسلمين من ناحية ديلم، فكانت العساكر لا تبرح مرابطة بها يتحارسون ليلاً ونهاراً، فلما كان هذه السنة كان في جماعة من رابط بها محمد بن أبي سبرة الجعفي، وكان فارساً شجاعاً عظيم الغناء في حروبه، فلما قدم قزوين رأى الناس يتحارسون فلا ينامون الليل، فقال لهم: أتخافون أن يدخل عليكم العدو مدينتكم؟ قالوا: نعم. قال: لقد أنصفوكم إن فعلوا، افتحوا الأبواب ولا بأس عليكم، ففتحوها.
وبلغ ذلك الديلم فساروا إليهم وبيتوهم وهجموا إلى البلد، وتصايح الناس، فقال ابن أبي سبرة: أغلقوا أبواب المدينة علينا وعليهم فقد أنصفونا وقاتلوهم. فاغلقوا الأبواب وقاتلوهم، وأبلى ابن أبي سبرة بلاءً عظيماً، وظفر بهم المسلمون، فلم يفلت من الديلم أحد، واشتهر اسمه بذلك، ولم يعد الديلم بعدها يقدمون على مفارقة أرضهم. فصار محمد فارس ذلك الثغر المشار إليه، وكان يدمن شرب الخمر، وبقي كذلك إلى أيام عمر بن عبد العزيز، فأمر بتسييره إلى زرارة، وهي دار الفساق بالكوفة، فسير إليها، فأغارت الديلم ونالت من المسلمين، وظهر الخلل بعده، فكتبوا إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن أمير الكوفة يسألونه أن يرد عليهم ابن أبي سبرة، فكتب بذلك إلى عمر، فأذن له في عوده إلى الثغر، فعاد إليه وحماه.
ولمحمد أخ يقال له خثيمة بن عبد الرحمن، وهو اسم أبي سبرة، وكان من الفقهاء.
ذكر خلاف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاجوفي هذه السنة خالف عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ومن معه من جند العراق على الحجاج وأقبلوا إليه لحربه، وقيل: كان ذلك سنة اثنتين وثمانين. وكان سبب ذلك أن الحجاج لما بعث عبد الرحمن بن محمد على الجيش إلى بلاد رتبيل فدخلها وأخذ منها الغنائم والحصون كتب إلى الحجاج يعرفه ذلك وأن رأيه أن يتركوا التوغل في بلاد رتبيل حتى يعرفوا طريقها ويجبوا خراجها على ما سبق ذكره.
فلما أتى كتابه إلى الحجاج كتب جوابه: إن كتابك كتاب امرئ يحب الهدنة ويستريح إلى الموادعة، قد صانع عدواً قليلاً ذليلاً، قد أصابوا من المسلمين جنداً كان بلاؤهم حسناً وغناؤهم عظيماً، وغنك حيث تكف عن ذلك العدو بجندي وحدي لسخي النفس بمن أطيب من المسلمين، فامض لما أمرتك به من الوغول في أرضهم والهدم لحصونهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريم، ثم أردفه كتاباً آخر بنحو ذلك، وفيه: أما بعد فمر من قبلك من المسلمين فليحرثوا وليقيموا بها فإنها دارهم حتى يفتحها الله عليهم. ثم كتب إليه ثالثاً بذلك، ويقول له: إن مضيت لما أمرتك وإلا فأخوك إسحاق بن محمد أمير الناس.
فدعا عبد الرحمن الناس وقال لهم: أيها الناس إني لكم ناصح، ولصلاحكم محب ولكم في كل ما يحيط بكم نفعكم ناظر، وقد كان رأيي فيما بيني وبين عدوي بما رضيه ذوو أحلامكم وأولو التجربة منكم، وكتبت بذلك إلى أميركم الحجاج فأتاني كتابه يعجزني ويضعفني ويأمرني بتعجل الوغول بكم في أرض العدو، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس، وإنما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم وآبى إذا أبيتم.
فثار إليه الناس وقالوا: بل نأبى على عدو الله ولا نسمع له ولا نطيع. فكان أول من تكلم أبو لطفيل عامر بن واثلة الكناني، وله صحبة، فقال بعد حمد الله: أما بعد فإن الحجاج يرى بكم ما رأى القائل الأول: احمل عبدك على الفرس فإن هلك هلك، وغن نجا فلك. إن الحجاج ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلايا كثيرة ويغشي اللهوب واللصوب، فإن ظفرتم وغنمتم أكل البلاد وحاز المال وكان ذلك زيادة في سلطانه، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم. اخلعوا عدو الله الحجاج وبايعوا الأمير عبد الرحمن، فإني أشهدكم أني أول خالع. فنادى الناس من كل جانب: فعلنا فعلنا، قد خلعنا عدو الله.
وقام عبد المؤمن بن شبث بن ربعي فقال: عباد الله! إنكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم ما بقيتم وجمركم تجمير فرعون الجنود، فإنه بلغني أنه أول من جمر البعوث، ولن تعاينوا الأحبة أو يموت أكثركم فيما أرى، فبايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم الحجاج فانفوه عن بلادكم. فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه على خلع الحجاج ونفيه من أرض العراق وعلى النصرة له، ولم يذكر عبد الملك.

وجعل عبد الرحمن على بست عياض بن هميان الشيباني، وعلى زرنج عبد الله بن عامر التميمي، وصالح رتبيل على أن ابن الأشعث إن ظهر فلا خراج عليه أبداً ما بقي، وإن هزم فأراد منعه. ثم رجع إلى العراق، فسار بين يديه أعشى همدان وهو يقول:
شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان
من عاشقٍ أمسى بزابلستان ... إن ثقيفاً منهم الكذابان
كذابها الماضي وكذاب ثان ... أمكن ربي من ثقيف همدان
يوماً إلى الليل يسلي ما كان ... إنا سمونا للكفور الفتان
حين طغى في الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عبد الرحمن
سار بجمع كالدبا من قحطان ... ومن معدٍ قد أتى من عدنان
بجحفلٍ جمٍ شديد الأركان ... فقل لحجاجٍ ولي الشيطان
يثبت بجمع مذحجٍ وهمدان ... فإنهم ساقوه كأس الذيفان
وملحقوه بقرى ابن مروان وجعل عبد الرحمن على مقدمته عطية بن عمرو العنبري، وجعل على كرمان حريثة بن عمرو التميمي، فلما بلغ فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا: إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك. فاجتمعوا إلى عبد الرحمن، فكان أول الناس خلع عبد الملك تيجان بن أبحر من تميم الله بن ثعلبة، قام فال: أيها الناس إني خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي. فخلعه الناس إلا قليلاً منهم، وبايعوا بعد الرحمن، وكانت بيعته: نبايع على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وعلى جهاد أهل الضلالة وخلعها وجهاد المحلين.
فلما بلغ الحجاج خلعه كتب إلى عبد الملك بخبر عبد الرحمن وسأله أن يعجل بعثة الجنود إليه. وسار الحجاج حتى نزل البصرة.
ولما بلغ المهلب خبر عبد الرحمن كتب إلى الحجاج من خراسان: أما بعد فإن أهل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل ليس يردهم شيء حتى ينتهي إلى قراره، وإن لأهل العراق شدة في أول مخرجهم وصبابة إلى أبنائهم ونسائهم، فاتركهم حتى يسقطوا إلى أهاليهم ويشموا أولادهم ثم واقعهم عندها، فإن الله ناصرك عليهم. فلما قرأ كتابه سبه وقال: ما إلي نظر وإنما النظر لابن عمه، يعني عبد الرحمن.
ولما وصل كتاب الحجاج إلى عبد الملك هاله ودعا خالد بن يزيد فأقرأه الكتاب، فقال: يا أمير المؤمنين إن كان الحدث من سجستان فلا تخفه، فإن كان من خراسان فإني أتخوفه. فجهز عبد الملك الجند إلى الحجاج، فكانوا يصلون إلى الحجاج على البريد من مائة ومن خمسين وأقل وأكثر، وكتب الحجاج تتصل بعبد الملك كل يوم بخبر عبد الرحمن. فسار الحجاج من البصرة ليلتقي عبد الرحمن، فنزل تستر وقدم بين يديه مقدمة إلى دجيل، فلقوا عنده خيلاً لعبد الرحمن، فانهزم أصحاب الحجاج بعد قتال شديد، وكان ذلك يوم الأضحى سنة إحدى وثمانين، وقتل منهم جمع كثير.
فلما أتى خبر الهزيمة إلى الحجاج رجع إلى البصرة وتبعه أصحاب عبد الرحمن فقتلوا منهم وأصابوا بعض أثقالهم، وأقبل الحجاج حتى نزل الزاوية وجمع عنده الطعام وترك البصرة لأهل العراق، ولما رجع نظر في كتاب المهلب فقال: لله دره أي صاحب حرب هو! وفرق في الناس مائة وخمسين ألف ألد فرهم.
فأقبل عبد الرحمن حتى دخل البصرة، فبايعه جميع أهلها قراؤها وكهولها مستبصرين في قتلا الحجاج ومن معه من أهل الشام. وكان السبب في سرعة إجابتهم إلى بيعته أن عمال الحجاج كتبوا إليه: إن الخراج قد أنكر، وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار. فكتب إلى البصرة وغيرها: إن من كان له أصل من قرية فليخرج إليها، فاخرج الناس لتؤخذ منهم الجزية، فجعلوا يبكون وينادون: يا محمداه ولا يدرون أين يذهبون، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون، فلما قدم ابن الأشعث عقيب ذلك بايعوه على حرب الحجاج وخلع عبد الملك.
وخندق الحجاج على نفسه وخندق عبد الرحمن على البصرة؛ وكان دخول عبد الرحمن البصرة في آخر ذي الحجة.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة سليمان بن عبد الملك، وكان ممن حج أم الدرداء الصغرى. وفيها ولد ابن أبي ذئب.

وكان العامل على المدينة أبان بن عثمان، وعلى العراق والمشرق كله الحجاج، وعلى خراسان المهلب، وعلى قضاء الكوفة أبو بردة، وعلى قضاء البصرة عبد الرحمن بن أذينة. وكانت سجستان وكرمان وفارس والبصرة بيد عبد الرحمن.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين

ذكر الحرب بين الحجاج وابن الأشعث
قيل: في المحرم من هذه السنة اقتتل عسكر الحجاج وعسكر عبد الرحمن بن الأشعث قتالاً شديداً، قتزاحفوا في المحرم عدة دفعات، فلما كان ذات يوم في آخر المحرم اشتد قتالهم فانهزم أصحاب الحجاج حتى انتهوا إليه وقاتلوا على خنادقهم، ثم إنهم تزاحفوا آخر يوم من المحرم، فجال أصحاب الحجاج وتقوض صفهم، فجثا الحجاج على ركبتيه وقال: لله در مصعب ما كان أكرمه حين نزل به ما نزل وعزم على أنه لا يفر.
فحمل سفيان بن الأبرد الكلبي على الميمنة التي لعبد الرحمن فهزمها وانهزم أهل العراق وأقبلوا نحو الكوفة مع عبد الرحمن وقتل منهم خلق كثير، منهم عقبة بن عبد الغافر الأزدي وجماعة من القراء قتلوا ربضة واحدة معه.
ولما بلغ عبد الرحمن الكوفة تبعه أهل القوة وأصحاب الخيل من أهل البصرة، واجتمع من بقي في البصرة مع عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب فبايعوه، فقاتل بهم الحجاج خمس ليالٍ أشد قتال رآه الناس، ثم انصرف فلحق بابن الأشعث وبعه طائفة من أهل البصرة، وقتل منهم طفيل بن عامر بن واثلة، فقال أبوه يرثيه، وهو من الصحابة:
خلى طفيل علي الهم فانشعبا ... وهد ذلك ركني هدةً عجبا
مهما نسيت فلا أنساه إذ حدقت ... به الأسنة مقتولاً ومنسلبا
وأخطأتني المنايا لا تكالعني ... حتى كبرت ولن يتركن لي نسبا
وكنت بعد طفيلٍ كالذي نضبت ... عنه السيول وغاض الماء فانقبضا
وهي أبيات عدة. وهذه الوقعة تسمى يوم الزاوية.
فأقام الحجاج أول صفر واستعمل على البصرة الحكم بن أيوب الثقفي. وسار عبد الرحمن إلى الكوفة، وقد كان الحجاج استعمل عليها عند مسيره إلى البصرة عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر الحضرمي حليف بني أمية، فقصده مطر بن ناجية اليربوعي، فتحصن من ابن الحضرمي في القصر، ووثب أهل الكوفة مع مطر، فاخرج ابن الحضرمي ومن معه من أهل الشام، وكانوا أربعة آلاف، واستولى مطر على القصر، واجتمع الناس وفرق فيهم مائتي درهم مائتي درهم.
فلما وصل ابن الأشعث إلى الكوفة كان مطر بالقصر، فخرج أهل الكوفة يستقبلونه، ودخل الكوفة وقد سبق إليه همدان، فكانوا حوله، فأتى القصر، فمنعه مطر بن ناجية ومعه جماعة من بني تميم، فاصعد عبد الرحمن الناس في السلاليم إلى القصر، فأخذوه، فأتي عبد الرحمن بمطر بن ناجية فحبسه ثم أطلقه وصار معه. فلما استقر عبد الرحمن بالكوفة اجتمع إليه الناس وقصده أهل البصرة، منهم عبد الرحمن بن لعباس بن ربيعة الهاشمي بعد قتاله الحجاج بالبصرة.
وقتل الحجاج يوم الزاوية بعد الهزيمة أحد عشر ألفاً خدعهم بالأمان وأمر منادياً فنادى: لا أمان لفلان بن فلان، فسمى رجالاً، فقال العامة: قد آمن الناس، فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا.
ذكر وقعة دير الجماجموكانت وقعة دير الجماجم في شعبان من هذه السنة، وقيل: كانت سنة ثلاث وثمانين.
وكان سببها أن الحجاج سار من البصرة إلى الكوفة لقتال عبد الرحمن بن محمد فنزل دير قوة، وخرج عبد الرحمن من الكوفة فنزل دير الجماجم. فقال الحجاج: إن عبد الرحمن نزل دير الجماجم ونزلت دير القرة، أما تزجر الطير؟ واجتمع إلى عبد الرحمن أهل الكوفة وأهل البصرة والقراء وأهل الثغور والمسالح بدير الجماجم فاجتمعوا على حرب الحجاج لبغضه، وكانوا مائة ألف ممن يأخذ العطاء ومعهم مثلهم، وجاءت الحجاج أيضاً أمداد من الشام قبل نزوله بدير قرة، وخندق كل منهما على نفسه، فكان الناس يقتلون كل يوم ولا يزال أحدهما يدني خندقه من الآخر.

ثم إن عبد الملك وأهل الشام قالوا: إن كان ير1ضى أهل العراق بنزع الحجاج عنهم نزعناه فإن عزله أيسر من حربهم ونحقن بذلك الدماء. فبعث عبد الملك ابنه عبد الله وأخاه محمد بن مروان، وكان محمد بأرض الموصل، إلى الحجاج في جند كثيف وأمرهما أن يعرضا على أهل العراق عزل الحجاج وأن يجريا عليهم أعطياتهم كما يجرى على أهل الشام، وأن ينزل عبد الرحمن بن محمد أي بلد شاء من بلد العراق، فإذا نزله كان والياً عليه ما دام حياً وعبد الملك خليفةً، فغن أجاب أهل العراق إلى ذلك عزلا الحجاج عنها وصار محمد بن مروان أمير العراق، وإن أبى أهل العراق قبول ذلك فالحجاج أمي الجماعة ووالي القتال ومحمد بن مروان وعبد الله بن عبد الملك في طاعته.
فلم يأت الحجاج أمر قط كان أشد عليه ولا أوجع لقلبه من ذلك، فخاف أن يقبل أهل العراق عزله فيعزل عنهم، فكتب إلى عبد الملك: والله لو أعطيت أهل العراق نزعي لم يلبثوا إلا قليلاً حتى يخالفوك ويسيروا إليك ولا يزيدهم ذلك إلا جرأة عليك، أم تر ويبلغك وثوب أهل العراق مع الأشتر على ابن عفان وسؤالهم نزع سعيد بن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حتى ساروا إلى عثمان فقتلوه، وإن الحديد بالحديد يفلح.
فأبى عبد الملك إلا عرض عزله على أهل العراق. فلما اجتمع عبد الله ومحمد مع الحجاج خرج عبد الله بن عبد الملك وقال: يا أهل العراق أنا ابن أمير المؤمنين، وهو يعطيكم كذا وكذا. وخرج محمد بن مروان وقال: أنا رسول أمير المؤمنين، وهو يعرض عليكم كذا وكذا، فذكر هذه الخصال. فقالوا: نرجع العشية، فرجعوا واجتمع أهل العراق عند ابن الأشعث، فقال لهم: قد أعطيتم أمراً، انتهازكم اليوم إياه فرصة، وإنكم اليوم على النصف، فإن كان اعتدوا عليكم بيوم الزاوية فأنتم تعتدون عليهم بيوم تستر، فاقبلوا ما عرضوا عليكم وأنتم أعزاء أقوياء لقوم هم لكم هائبون وأنتم منتقصون، فوالله لا زلتم عليهم جرآء وعندهم أعزاء أبداً ما بقيتم إن أنتم قبلتم.
فوثب الناس من كل جانب فقالوا: إن الله قد أهلكهم فأصبحوا في الضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوو العدد الكثير والسعر الرخيص والمادة القريبة، لا والله لا نقبل! وأعادوا خلعه ثانية.
وكان أول من قام بخلعه بدير الجماجمع عبد الله بن ذؤاب السلمي وعمير بن تيجان وكان اجتماعهم على خلعه بالجماجم أجمع من خلعهم إياه بفارس.
فقال عبد الله بن عبد الملك ومحمد بن مروان للحجاج: شأنك بعسكرك وجندك واعمل برأيك فإنا قد أمرنا أن نسمع لك ونطيع. فقال: قد قلت: إنه لا يراد بهذا الأمر غيركم، فكانا يسلمان عليه بالإمرة ويسلم عليهما بالإمرة. فلما اجتمع أهل العراق بالجماجم على خلع عبد الملك قال عبد الرحمن: ألا إن بني مروان يعيرون بالزرقاء، والله ما لهم نسب أصح منه إلا أن بني أبي العاص أعلاج من أهل صفورية، فإن يكن هذا الأمر من قريش فمني تقويت بيضة قريش، وإن يك في العرب فأنا ابن الأشعث، ومد بها صوته يسمع الناس وبرزوا للقتال.
فجعل الحجاج على ميمنته عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وعلى ميسرته عمارة بن تميم اللخمي، وعلى خيله سفيان بن الأبرد الملبي، وعلى رجاله عبد الله بن خبيب الحكمي؛ وجعل عبد الرحمن بن محمد على ميمنته الحجاج بن حارثة الخثعمي، وعلى ميسرته الأبرد بن قرة التميمي، وعلى خيله عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة الهاشمي، وعلى رجاله محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعلى مجنبته عبد الله بن رزام الحارثي، وجعل على القراء جبلة بن زحر بن قيس الجعفي، وفيهم سعيد بن جبير وعامر الشعبي وأبو البختري الطائي وعبد الرحمن بن أبي ليلى.

ثم أخذوا يتزاحفون كل يوم ويقتتلون وأهل العراق تأتيهم موادهم من الكوفة وسادها وهم في خصب، وأهل الشام في ضنك شديد قد غلت عليهم الأسعار وفقد عندهم اللحم كأنهم في حصار، وهم على ذلك يغادون القتال ويراوحون. فلما كان اليوم الذي قتل فيه جبلة بن زحر بن قيس، وكانت كتيبته تدعى القراء تحمل عليهم فلا يبرحون، وكانوا قد عرفوا بذلك، وكان فيهم كميل بن زياد، وكان رجلاً ركيناً. فخرجوا ذات يوم كما كانوا يخرجون، وعبأ الحجاج صفوفه وعبأ عبد الرحمن أصحابه، وعبأ الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب وبعث عليها الجراح بن عبد الله الحكمي، فأقبلوا نحوهم فحملوا على القراء ثلاث حملات كل كتيبة تحمل حملة فلم يبرحوا وصبروا.
ذكر وفاة المغيرة بن المهلبوفي هذه السنة مات المغيرة بن المهلب بخراسان، وكان قد استخلفه أبوه المهلب على عمله بخراسان، فمات في رجب سنة اثنتين وثمانين، فأتى الخبر يزيد بن المهلب وأهل العسكر فلم يخبروا المهلب، فأمر يزيد النساء فصرخن، فقال المهلب: ما هذا؟ فقيل: مات المغيرة.
فاسترجع وجزع حتى ظهر جزعه، فلامه بعض خاصته، ثم دعا يزيد ووجهه إلى مرو ووصاه بما يعمل وإن دموعه لتحدر على لحيته.
فكان المهلب مقيماً بكش بما وراء النهر يحارب أهلها، فسار يزيد في تين فارساً، ويقال سبعين، فلقيهم خمسمائة من الترك في مفازة بست، فقالوا: ما أنتم؟ قالوا: تجار قالوا: فأعطونا شيئاً. فأبى يزيد، فأعطاهم مجاعة بن عبد الرحمن العتكي ثوباً وكرابيس وقوساً، فانصرفوا ثم غدروا وعادوا إليهم فقاتلوهم فاشتد القتال بينهم، ومع يزيد رجل من الخوارج كان قد أخذه، فقال: استبقني، فاستبقاه. فحمل الخارجي عليهم حتى خالطهم وصار من ورائهم وقتل رجلاً ثم كر حتى خالطهم وقتل رجلاً ورجع إلى يزيد، وقتل يزيد عظيماً من عظمائهم، ورمي يزيد في ساقه، فاشتدت شوكتهم، وصبر يزيد حتى جاوزهم، فقالوا: قد غدرنا ولا ننصرف حتى نموت أو تموتوا أو تعطونا شيئاً، فلم يعطهم يزيد شيئاً. فقال مجاعة: أذكر الله، قد هلك المغيرة، فأنشدك الله أن تهلك فتجتمع على المهلب المصيبة. فقال: إن المغيرة لم يعد أجله ولست أعدو أجلي. فرمى إليهم مجاعة بعمامة صفراء فأخذوها وانصرفوا.
ذكر صلح المهلب أهل كشوفي هذه السنة صالح المهلب أهل كش.
وكان سبب ذلك أنه اتهم قوماً من مضر فحبسهم وصالح وقفل وخلف حريث بن قطبة مولى خزاعة وقال: إذا استوفيت الفدية فرد عليهم الرهن.
وسار المهلب فلما صار ببلخ كتب إلى حريث: إني لست آمن إن رددت عليهم الرهن أن يغيروا عليك، فإذا قبضت الفدية فلا تخل الرهن حتى تقدم أرض بلخ. فقال حريث لملك كش: إن المهلب كتب إلي كذا وكذا، فغن عجلت الفدية سلمت إليك الرهن وسرت وأخبرته أن كتابه ورد وقد استوفيتها منكم ورددت عليكم الرهن.
فعجل ملك كش الفدية وأخذ الرهن، ورجع حريث، فعرض لهم الترك فقالوا له: افد نفسك ومن معك، فقد لقينا يزيد بن المهلب ففدى نفسه. فقال حريث: ولدتني إذاً أم يزيد. وقاتلهم فقتلهم وأسر منهم، أسرى، ففدوهم فأطلقهم ورد عليهم الفداء.
وبلغ المهلب قوله فقال: يأنف العبد أن تلده أم يزيد، فغضب، فلما قدم عليه بلخ قال: أين الرهن؟ قال: خليتهم قبل وصول كتابك وقد كفيت ما خفت. قال: كذبت ولكنك تقربت إليهم. وأمر بتجريده، فجزع من ذلك حتى ظن المهلب أن به مرضاً، فجرده وضربه ثلاثين سوطاً. فقال حريث: وددت أنه ضربني ثلاثمائة ولم يجردني أنفة وحياء؛ وحلف ليقتلن المهلب.
فركب يوماً مع المهلب فأمر غلامين له أن يضربا المهلب، فلم يفعلا وقالا: نخاف عليك أن تقتل. وترك حريث إتيان المهلب، فأرسل إليه أخاه ثابت بن قطبة ليأتيه به وقال له: إنك كبعض ولدي أدبه كبعضهم، فأتى ثابت أخاه وسأله أن يركب إلى المهلب، فلم يفعل، وحلف ليقتله، فقال ثابت: إن كان هذا رأيك فاخرج بنا إلى موسى بن عبد الله بن خازم. وخاف ثابت أن يقتل حريث المهلب فيقتلون جميعاً، فخرجا في ثلاثة من أصحابهما المنقطعين إليهما.
ذكر وفاة المهلب بن أبي صفرة

وولاية ابنه يزيد خراسان

لما صالح المهلب أهل كش رجع يريد مرو، فلما كان بمرو الروذ أخذته الشوصة، وقيل الشوكة، فمات منها، وأوصى إلى ابنه حبيب فصلى عليه، وقال لهم: قد استخلف عليكم يزيد فلا تخالفوه. فقال له ابنه المفضل: لو لم تقدمه لقدمناه.
واحضر ولده فوصاهم، وأحضر سهاماً فحزمت، فقال: أتكسرونها مجتمعة؟ قالوا: لا قال: أفتكسرونها متفرقة؟ قالوا: نعم. قال: فهكذا الجماعة. ثم قال: أوصيكم بتقوى الله وصلة الرحم فإنها تنسئ في الأجل وتثري المال وتكثر العدد، وأنهاكم عن القطيعة فإنها تعقب النار والقلة والذلة، وعليكم بالطاعة والجماعة، وليكن فعالكم أفضل من مقالكم، واتقوا الجواب وزلة اللسان، فإن الرجل تزل قدمه فينتعش منها ويزل لسانه فيهلك، اعرفوا لمن يغشاكم حقه، فكفى بغدو الرجل ورواحه إليكم تذكرة له، وآثروا الجود على البخل، وأحيوا العرف، واصنعوا المعروف، فإن الرجل من العرب تعده العدة فيموت دونك فكيف بالصنيعة عنده عليكم في الحرب بالتؤدة والمكيدة، فإنها أنفع من الشجاعة، وإذا كان اللقاء نزل القضاء فإن أخذ الرجل بالحزم فظفر قيل أتى الأمر من وجهه فظفر فحمد، وإن لم يظفر قيل ما فرط ولا ضيع ولكن القضاء غالب، وعليكم بقراءة القرآن وتعليم السنن وأدب الصالحين، وإياكم وكثرة الكلام في مجالسكم. ثم مات، رحمه الله، فقال نهار بن توسعة التميمي يرثيه:
ألا ذهب المعروف والعز والغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقام بمرو الروذ رهن ضريحه ... وقد غاب عنه كل شرقٍ ومغرب
إذا قيل أي الناس أولى بنعمةٍ ... على الناس قلنا هو ولم نتهيب
فلما توفي كتب ابنه إلى الحجاج يعلمه بوفاته، فاقر يزيد على خراسان.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان عن المدينة في جمادى الآخرة واستعمل عليها هشام بن إسماعيل المخزومي، فعزل هشام نوفل بن مساحق عن قضاء المدينة، وولى على القضاء عمرو بن خالد الزرقي، وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فهزمهم، ثم سألوه الصلح فصالحهم وولى عليهم أبا شيخ بن عبد الله، فغدروا به فتقلوه، وقيل: بل قتلوه سنة ثلاث وثمانين.
وفيها قتل عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي بدجيل. وفيها مات أو الجوزار أوس بن عبد الله الربعي، وعطاء بن عبد الله السليمي العابد.
السليمي بفتح السين المهملة، وكسر اللام.
وفيها مات زاذان، وأبو وائل، وعمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعمره ستون سنة. وفيها مات أبو أمامة الباهلي، وقيل: سنة إحدى وتسعين.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين

ذكر بقية الوقعة بدير الجماجم
فلما حملت كتائب الحجاج الثلاث على القراء من أصحاب عبد الرحمن وعليهم جبلة بن زحر نادى جبلة: يا عبد الرحمن بن أبي ليلى! يا معشر القراء! إن الفرار ليس بأحد بأقبح منه منكم، غني سمعت علي بن أبي طالب، رفع الله درجته في الصالحين وآتاه ثواب الصاديقين والشهداء، يقول يوم لقينا أهل الشام: أيها المؤمنون إنه من رأى عدواناً يعمل به ومنكراً يدعة إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجسر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونور في قلبه باليقين، فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين الذين جهلوا الحق فلا يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري: أيها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم. فقال الشعبي: أيها الناس قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم، والله ما أعلم على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور في حكم منهم. وقال سعيد بن جبير نحو ذلك، وقال جبلة: احملوا عليهم حملةً صادقةً، ولا تردوا وجوهكم عنهم حتى توقعوا صفهم.
فحملوا عليهم حملةً صادقةً، فضربوا الكتائب حتى أزالوها وفرقوها، وتقدموا حتى واقعوا صفهم فأزالوه عن مكانه، ثم رجعوا فوجدوا جبلة بن زحر قتيلاً لا يدرون كيف قتل.

وكان سبب قتله أن أصحابه لما حملوا على أهل الشام ففرقوهم وقف لأصحابه ليرجعوا إليه فافترقت فرقة من أهل الشام فوقفت ناحية، فلما رأوا أصحاب جبلة قد تقدموا قال بعضهم لبعض: هذا جبلة، احملوا عليه ما دام أصحابه مشاغيل بالقتال. فحملوا عليه فلم يول لكنه حمل عليهم فقتلوه، وكان الذي قتله الوليد بن تحيت الكلبي، وجيء برأسه إلى الحجاج فبشر أصحابه بذلك. فلما رجع أصحاب جبلة ورأوه قتيلاً سقط في أيديهم وتنازعوه بينهم، فقال لهم أبو البختري: لا يظهرن عليكم قتل جلة إنما كان كرجل منكم أتته منيته فلم يكن ليتقدم ولا ليتأخر. وظهر الفشل في القراء، وناداهم أهل الشام: يا أعداء الله قد هلكتم وقد قتل طاغيتكم! وقدم عليهم بسطام من مصقلة بن هبيرة السيباني، ففرحوا به وقالوا: تقدم مقام جبلة. وكان قدومه من الري، فلما أتى عبد الرحمن جعله على ربيعة، وكان شجاعاً، فقاتل يوماً فدخل عسكر الحجاج فأخذ أصحابه ثلاثين امرأة فأطلقهن. فقال الحجاج: منعوا نساءهم، لو لم يردوهن لسبيت نساءهم إذا ظهرت عليهم.
وخرج عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد فدعا إلى المابرزة، فخرج إليه رجل من أهل الشام، فتضاربا، فقال كل واحد منهما: أنا الغلام الكلابي فقال كل واحد منهما لصاحبه: من أنت؟ وإذا هما ابنا عم، فتحاجزا. وخرج عبد الله بن رازم الحارثي فطلب المبارزة، فخرج إليه رجل من عسكر الحجاج فقتله، ثم فعل ذلك ثلاثة أيام.
فلما كان اليوم الرابع خرج، فقالوا: جاء لا جاء الله به! فطلب المبارزة، فقال الحجاج للجراح: أخرج إليه. فخرج إليه. فقال له عبد الله، وكان له صديقاً: ويحك يا جراح ما أخرجك؟ قال: ابتليت بك. قال: فهل لك في خير؟ قال الجراح: ما هو؟ قال عبد الله: أنهزم لك وترجع إلى الحجاج وقد أحسنت عنده وحمدك، وأما أنا فأحتمل مقالة الناس في انهزامي حباً لسلامتك فإني لا أحب قتل مثلك من قومي. قال: افعل. فحمل الجراح على عبد الله فاستطرد له عبد الله، وحمل عليه الجراح بجد يريد قتله، فصاح بعيد الله غلامه، وكان ناحية معه ماء ليشربه، وقال له: يا سيدي إن الرجل يريد قتلك! فعطف عبد الله على الجراح فضربه بعمود على رأسه فصرعه، وقال له: يا جراح بئس ما جزيتني! أردت بك العافية وأردت تقلي! انطلق فقد تركتك للقرابة والعشيرة. وكان سعيد بن جبير وأبو البختري الطائي يحملان على أهل الشام بعد قتل جبلة بن زحر حتى يخالطاهم، وكانت مدة الحرب مائة يوم وثلاثة أيام لأنه كان نزولهم بالجماجم لثلاث مضين من ربيع الأول، وكانت الهزيمة لأربع عشرة مضين من جمادى الآخرة.
فلما كان يوم الهزيمة اقتتلوا أشد قتال، واستظهر أصحاب عبد الرحمن على أصحاب الحجاج واستعلوا عليهم وهم آمنون أن يهزموا. فبينا هم كذلك إذ حمل سفيان بن الأبرد، وهو في ميمنة الحجاج، على الأبرد بن قرة التميمي، وهو على ميسرة عبد الرحمن، فانهزم الأبرد بن قرة من غي قتال يذكر، فظن الناس أنه قد كان صولح على أن ينهزم بالناس، فلما انهزم تقوضت الصفوف من نحوه وركب الناس بعضهم بعضاً، وصعد عبد الرحمن المنبر ينادي الناس: إلي عباد الله. فاجتمع إليه جماعة، فثبت حتى دنا منه أهل الشام فقاتل من معه ودخل أهل الشام العسكر، فأواه عبد الله بن يزيد بن المفضل الأزدي فقال له: انزل فإني أخاف عليك أن تؤسر ولعلك إن انصرفت أن تجمع لهم جمعاً يهلكهم الله به.
فنزل هو ومن معه لا يلوون على شيء، ثم رجع الحجاج إلى الكوفة، وعاد محمد بن مروان إلى الموصل، وعبد الله بن عبد الملك إلى الشام، وأخذ الحجاج يبايع الناس، وكان لا يبايع أحداً إلا قال له: اشهد أنك كفرت، فإن قال: نعم، بايعه، وإلا قتله، فأتاه رجل من خثعم كان معتزلاً للناس جميعاً فسأله عن حاله فأخبره باعتزاله، فقال له: أنت متربص، أتشهد أنك كافر؟ قال: بئس الرجل! أنا أعبد الله ثمانين سنة ثم أشهد على نفسي بالكفر! قال: إذاً أقتلك. قال: وإن قتلتني فوالله ما بقي من عمري إلا ظمء حمار. فقتله ولمي بق أحد من أهل الشام والعراق إلا رحمه.

ثم دعا بكميل بن زياد فقال له: أنت المقتص من أمير المؤمنين عثمان؟ قد كنت أحب من أن أجد عليك سبيلاً. قال: على أينا أنت أشد غضباً، عليه حين أقاد من نفسه أم علي حين عفوت عنه؟ قم قال: أيها الرجل من ثقيف لا تصرف علي أنيابك ولا تكشر على كالذئب، والله ما بقي من عمري إلا ظمء الحمار، اقض ما أنت قاضٍ فإن الموعد الله وبعد القتل الحساب.
قال الحجاج: فإن الحجة عليك. قال: ذلك إذا كان القضاء إليك. فأمر به فقتل، وكان خصيصاً بأمير المؤمنين. وأتي بآخر من بعده، فقال له الحجاج: أرى رجلاً ما أظنه يشهد على نفسه بالكفر. فقال له الرجال: أتخادعني عن نفسي؟ أنا أكفر أهل الأرض وأكفر من فرعون. فضحك منه وخلي سبيله.
وأقام بالكوفة شهراً، وأنزل أهل الشام بيوت أهل الكوفة، أنزلهم الحجاج فيها مع أهلها، وهو أول من انزل الجند في بيوت غيرهم، وهو إلى الآن لا سيما في بلاد العجم، ومن سن سنة سيئة كان عليها وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
ذكر الوقعة بمسكنولما انهزم عبد الرحمن أتى البصرة واجتمع إليه من المنهزمين جمع كثير، وكان فيهم عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس القرشي، وكان بالمدائن محمد بن سعد بن أبي وقاص، فسار إليه الحجاج، فلحق ابن سعد بعيد الرحمن، وسار عبد الرحمن نحو الحجاج ومعه جمع كثير فيهم بسطام بن مصقلة بن هبيرة الشيباني، وقد بايعه خلق كثير على الموت، فاجتمعوا بمسكن، وخندق عبد الرحمن على أصحابه وجعل القتال من وجه واحد.
وقدم عليه خالد بن جرير بن عبد الله من خراسان في ناس من بعث الكوفة، فاقتتلوا خمسة عشر يوماً من شعبان أشد قتال، فقتل زياد بن غيثم القيني، وكان على مسالح الحجاج، فهده ذلك وهد أصحابه. وبات الحجاج يحرض أصحابه، ولما أصبحوا باكروا القتال فاقتتلوا أشد قتال كان بينهم، فانكشفت خيل سفيان بن الأبرد، فأمر الحجاج عبد الملك بن المهلب فحمل على أصحاب عبد الرحمن، وحمل أصحاب الحجاج من كل جانب، فانهزم عبد الرحمن وأصحابه وقتل عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه وأبو البختري الطائي، ومشى بسطام بن مصقلة بن هبيرة في أربعة آلاف فارس من شجعان أهل الكوفة والبصرة فكسروا جفون سيوفهم وحث أصحابه على القتال، فحملوا على أهل الشام فكشفوهم مراراً، فدعا الحجاج الرماة فرموهم وأحاط بهم الناس فقتلوا إلا قليلاً، ومضى ابن الأشعث نحو سجستان.
وقد قيل في هزيمة عبد الرحمن بمسكن غير هذا، والذي قيل: إنه اجتمع هو والحجاج بمسكن، وكان عسكر ابن الأشعث والحجاج بين دجلة والسيب والكرخ، فاقتتلوا شهراً ودونه، فأتى شيخ فدل الحجاج على طريق من وراء الكرخ في أجمة وضحضاح من الماء، فأرسل معه أربعة آلاف وقال لقائدهم: إن صدق فأعطه ألف درهم، فإن كذب فاقتله. فسار بهم، ثم إن الحجاج قاتل أصحاب عبد الرحمن، فانهزم الحجاج فعبر السيب، ورجع ابن الأشعث إلى عسكره آمناً ونهب عسكر الحجاج فأمنوا وألقوا السلاح، فلم يشعروا نصف الليل إلا والسيف يأخذهم من تلك السرية، فغرق من أصحاب عبد الرحمن أكثر ممن قتل، ورجع الحجاج في عسكره على الصوت فقتلوا من وجدوا، فكان عدة من قتل أربعة آلاف، منهم: عبد الله بن شداد بن الهاد، وبسطام بن مصقلة، وعمرو بن ضبيعة الرقاشي، وبشر بن المنذر بن الجارود وغيرهم.
ذكر مسير عبد الرحمن إلى رتبيل

وما جرى له ولأصحابه
ولما انهزم عبد الرحمن من مسكين سار إلى سجستان فأتبعه الحجاج ابنه محمداً وعمارة بن تميم اللخمي وعمارة على الجيش، فأدركه عمارة بالسوس فقاتله ساعةً، فانهزم عبد الرحمن ومن معه وساروا حتى أتوا سابور، واجتمع إليه الأكراد، فقاتلهم عمارة قتالاً شديداً على العقبة، فجرح عمارة وكثير من أصحابه، وانهزم عمارة وترك لهم العقبة.
وسار عبد الرحمن حتى أتى كرمان وعمارة يتبع أثرهم، فدخل بعض أهل الشام قصراً في مفازة كرمان فإذا فيه كتاب قد كتبه بعض أهل الكوفة من شعر ابن حلزة اليشكري، وهي طويلة:
أيا لهفاً ويا حزناً جميعاً ... ويا حر الفؤاد لما لقينا
تركنا الدين والدنيا جميعاً ... وأسلمنا الحلائل والبنينا
فما كنا بناسٍ أهل دينٍ ... فنصبر في البلاء إذا ابتلينا

فما كنا بناسٍ أهل دنيا ... فمنمنعها ولو لم نرج دينا
نتركنا دورنا لطغام عكٍ ... وأنباط القرى والأشعرينا
فلما وصل عبد الرحمن إلى كرمان أتاه عامله، وقد هيأ له نزلاً فنزل، ثم رحل إلى سجستان فأتى رزنج وفيها عامله فأغلق بابها ومنع عبد الرحمن من دخولها، فأقام عليها أياماً ليفتحها فلم يصل إليها، فسار إلى بست، وكان قد استعمل عليها عياض بن هميان بن هشام الدوسي الشيباني، فاستقبله وأنزله، فلما غفل أصحابه قبض عليه عياض وأوثقه وأراد أن يأمن به عند الحجاج.
وقد كان رتبيل ملك الترك سمع بمقدم عبد الرحمن، فسار إليه ليستقبله، فلما قبضه عياض نزل رتبيل على بست وبعث إلى عياض يقول: والله لئن آذيته بما يقذي عينه أو ضررته ببعض الضرر أو أخذت منه ولو حبلاً من شعر لا أبرح حتى أستذلك وأقتلك وجميع من معك، وأسبي ذراريكم، وأغنم أموالكم. فاستأمنه عياض، فأطلق عبد الرحمن، فأراد قتل عياض فمنعه رتبيل.
ثم سار عبد الرحمن مع رتبيل إلى بلاده، فأنزله وأكرمه وعظمه. وكان ناس كثير من المنهزمين من أصحاب عبد الرحمن من الرؤوس والقادة الذين لم يقبلوا أمان الحجاج ونصبوا له العداوة في كل موطن قد تبعوا عبد الرحمن فبلغوا سجستان في نحو ستين ألفاً ونزلوا على زرنج يحاصرون من بها، وكتبوا إلى عبد الرحمن يستدعونه ويخبرونه أنهم على قصد خراسان ليقووا بمن بها من عشائرهم، فأتاهم، وكان يصلي بهم عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإلى أن قدم عبد الرحمن. فلما أتت كتبهم عبد الرحمن سار إليهم، ففتحوا زرنج، وسار نحوهم عمارة بن تميم في أهل الشام، فقال لعبد الرحمن أصحابه: اخرج بنا عن سجستان إلى خراسان. فقال: إن بها يويد بن المهلب وهو رجل شجاع ولا يترك لكم سلطانه ولو دخلناها لقاتلنا وتبعنا أهل الشام فيجتمع علينا أهل خراسان وأهل الشام. قالوا: لو دخلنا خراسان لكان من يتبعنا أكثر ممن يقاتلنا.
فشار معهم حتى بلغوا هراة، فهرب من أصحابه عبيد الله بن عبد الرحمن ابن سمرة القرشي في ألفين، فقال لهم عبد الرحمن: إني كنت في مأمن وملجإٍ فجاءتني كتبكم أن أقبل فإن أمرنا واحد فلعلنا نقاتل عدونا، فأتيتكم فرأيتم أن أمضي إلى خراسان وزعمتم إنكم تجتمعون إلي وأنكم لا تتفرقون، وهذا عبيد الله قد صنع ما رأيتم فاصنعوا ما بدا لكم، أما أنا فمنصرف إلى صاحبي الذي أتيت من عنده.
فتفرق منهم طائفة وبقي معه طائفة وبقي أعظم العسكر مع عبد الرحمن بن العباس فبايعوه، ومضى عبد الرحمن بن الأشعث إلى رتبيل، وسار عبد الرحمن بن العباس إلى هراة، فلقوا بها الرقاد الأزدي فقتلوه، فسار إليهم يزيد بن المهلب.
وقيل: إن عبد الرحمن بن الأشعث لما انهزم من مسكن أتى عبيد الله بن عبد الرحمن بن سمرة هراة، وأتى عبد الرحمن بن العابس سجستان، فاجتمع فل ابن الأشعث فسار إلى خراسان في عشرين أفاً فنزل هراة، ولقوا الرقاد فقتلوه، فأرسل إليه يزيد بن المهلب: قد كان لك في البلاد متسع ومن هو أهون مني شوكة، فارتحل إلى بلد ليس لي فيه سلطان فإني أكره قتالك، وأن أردت مالاً أرسلت إليك. فأعاد الجواب: إنا ما نزلنا لمحاربة ولا لمقام ولكنا أردنا أن نريح ثم نرحل عنك وليست بنا إلى المال حاجة.
وأقبل عبد الرحمن بن العباس على الجبابة، وبلغ ذلك يزيد فقال: من أراد أن يريح ثم يرتحل لم يجب الخراج. فسار يزيد نحوه وأعاد مراسلته: إنك قد أرحت وسمنت وجبيت الخراج فلك ما جبيت وزيادة فاخرج عني فإني أكره قتالك. فأبى إلا القتال، وكاتب جند يزيد يستميلهم ويدعوهم إلى نفسه، فعلم يزيد فقال: جل المر عن العتاب؛ ثم تقدم إليه فقاتله، فلم يكن بينهم كثير قتال حتى تفرق أصحاب عبد الرحمن عنه وصبر وصبرت معه طائفة ثم انهزموا، وأمر يزيد أصحابه بالكف عن أتباعهم، وأخذوا ما كان في عسكرهم وأسوا منهم أسرى، وكان منهم: محمد بن سعد بن أبي وقاص، وعمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر، وعباس بن الأسود بن عوف الزهري، والهلقام بن نعيم بن القعقاع بن معبد بن زرارة، وفيروز حصين، وأبو الفلج مولى عبيد الله بن معمر، وسوار بن مروان، وعبد الرحمن بن طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وعبد الله بن فضالة الزهراني الأزدي.

ولحق عبد الرحمن بن العباس بالسند، واتى ابن سمرة مرو، وانصرف يزيد إلى مرو وبعث الأسرى إلى الحجاج مع سبرة ونجدة، فلما أراد تسييرهم قال له أخوه حبيب: بأي وجه تنظر إلى اليمانية وقد بعثت عبد الرحمن بن طلحة؟ فال يزيد: غنه الحجاج ولا يتعرض له. قال: وطن نفسك على العزل ولا ترسل به فإن له عندنا يداً. قال: وما هي؟ قال: ألزم المهلب في مسجد الجماعة بمائة ألف فأداها طلحة عنه. فأطلقه يزيد، ولم يرسل يزيد أيضاً عبد الله بن فضالة لأنه من الأزد، وأرسل الباقين.
فلما قدموا على الحجاج قال لحاجبه: إذا دعوتك بسيدهم فأتني بفيروز، وكان بواسط القصب قبل أن تبنى مدينة واسط. فقال لحاجبه: ائتني بسيدهم. فقال لفيروز: قم. فقام، فأحضره عنده. فقال له الحجاج: أبا عثمان ما أخرجك مع هؤلاء؟ فوالله ما لحمك من لحومهم ولا دمك من دمائهم! قال: فتنة عمت الناس. قال: اكتب إلي أموالك. قال: اكتب يا غلام ألف ألف وألفي ألف، فذكر مالاً كثيراً. فقال الحجاج: أين هذه الأموال؟ قال: عندي.
قال: فأدها. قال: وأنا آمن على دمي؟ قال: والله لتؤدينها ثم لأقتلنك. قال: والله لا يجمع بين دمي ومالي. فأمر به فنحي.
ثم أحضر محمد بن سعد بن أبي وقاص فقال له: يا ظل الشيطان! أعظم الناس تيهاً وكبراً تأبى بيعة يزيد بن معاوية وتتشبه بالحسين وبابن عمر ثم ضربت مؤذناً؟ وجعل يضرب رأسه بعود في يده حتى أدماه، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بعمر بن موسى فقال: يا عبد المرأة! يقوم بالعمود على رأسك ابن الحائك، يعني ابن الأشعث، وتشرب معه في الحمام! فقال: أصلح الله الأمير، كانت فتنة شملت البر والفاجر فدخلنا فيها، فقد أمكنك الله منا فإن عفوت فبجمالك وبفضلك، وغن عاقبت ظلمت مذنبين. فقال الحجاج: أما أنها شملت البر فكذبت، ولكنها شملت الفاجر وعوفي منها الأبرار، وأما اعترافك فعسى أن ينفعك؛ ورجال له الناس السلامة، ثم أمر به فقتل. ثم دعا بالهلقام بن نعيم فقال: أحببت أن ابن الأشعث طلب ما طلب، ما الذي أملت أنت معه؟ قال: أملت أن يملك فيوليني العراق كما ولاك عبد الملك إياه. فأمر به فقتل. ثم دعا عبد الله بن عامر، فلما أتاه قال له الحجاج: لا رأت عينك الجنة إن أفلت! فقال: جزى الله ابن المهلب بما صنع. قال: وما صنع؟ قال:
لأنه كاس في إطلاق أسرته ... وقاد نحوك في أغلالها مضرا
وقى بقومك ورد الموت أسرته ... وكان قومك أدنى عنده خطرا
فأطرق الحجاج ووقرت في قله وقال: وما أنت وذاك؟ فأمر به فقتل. ولم تزل كلمته في نفس الحجاج حتى عزل يزيد عن خراسان وحبسه.
ثم أمر بفيروز فعذب، وكان يشد عليه القصب الفارسي المشقوق يجر عليه حتى يجرح به ثم ينضح عليه الخل، فلما أحس بالموت قال لصاحب العذاب: إن الناس لا يشكون أن قد قتلت ولي ودائع وأموال عند الناس لا تؤدي إليكم أبداً، فأظهرني للناس ليعلموا أني حي فيؤدوا المال.
فأعلم الحجاج، فقال: أظهره. فأخرج إلى باب المدينة، فصاح في الناس: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا فيروز حصين، إن لي عند أقوام مالاً فمن كان لي عنده شيء فهو له وهو منه في حل فلا يؤد أحد منهم درهماً، ليبلغ الشاهد الغائب. فأمر به الحجاج فقتل.
وأمر بقتل عمر بن أبي قرة الكندي، وكان شريفاً، وأمر بإحضار أعشى همدان، فقال: إيه عدو الله! أنشدني قولك بين الأشبح وبين قيس. قال: بل أنشدك ما قلت لك. قال: بل أنشدني هذه. فأنشده:
أبى الله إلا أن يتمم نوره ... ويطفئ نار الفاسقين فتخمدا
ويظهر أهل الحق في كل موطنٍ ... ويعدل وقع السيف من كان أصيدا
وينزل ذلاً بالعاق وأهله ... كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا
وما أحدثوا من بدعةٍ وعظيمةٍ ... من القول لم تصعد إلى الله مصعدا
وما نكثوا من بيعةٍ بعد بيعةٍ ... إذا ضمنوها اليوم خاسوا بها غدا
وجبناً حشاه ربهم في قلوبهم ... فما يقربون الناس إلا تهددا
فلا صدق في قولٍ ولا صبر عندهم ... ولكن فخراً فيهم وتزيدا
فكيف رأيت الله فرق جمعهم ... ومزقهم عرض البلاد وشردا

فقتلاهم قتلى ضلالٍ وفتنةٍ ... وجيشهم أمسى ذليلاً مطردا
ولما زحفنا لابن يوسف غدوةً ... وأبرق منه العارضان وأرعدا
قطعنا إليه الخندقين وإنما ... قطعنا وأفضينا إلى الموت مرصدا
فكافحنا الحجاج دون صفوفنا ... كفاحاً ولم يضرب لذلك موعدا
بصفٍ كأن الموت في حجزاتهم ... إذا ما تجلى بيضه وتوقدا
دلفنا إليه في صفوفٍ كأنها ... جبال شرورى أو نعافٍ فشهمدا
فما لبث الحجاج أن سل سيفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج أن سل سفه ... علينا فولى جمعنا وتبددا
وما زاحف الحجاج إلا رأيته ... معاناً ملقى للفتوح معودا
وإن ابن عباسٍ لفي مرجحنةٍ ... أشبهها قطعاً من الليل أسودا
فما شرعوا رمحاً ولا جردوا ظبىً ... ألا إنما لاقى الجبان مجردا
وكرت علينا خيل سفيان كرةً ... بفرسانها والشمري مقصدا
وسفيان يهديها كأن لواءها ... من الطعن سند بات بالصبغ مجسدا
كهول ومرد من قضاعة حوله ... مساعير أبطال إذا النكس عردا
إذا قال شدوا شدةً حملوا معاً ... فأنهل خرصان الرماح وأوردا
جنود أمير المؤمنين وخيله ... وسلطانه أمسى عزيزاً مؤيدا
ليهن أمير المؤمنين ظهوره ... على أمةٍ كانوا سعاه وحسدا
تروا يشتكون البغي من أمرئهم ... وكانوا هم أبغى البغاة وأعندا
وجدنا بني مروان خير أئمةٍ ... وأفضل هذا الناس حلماً وسوددا
وخير قريشٍ أرومةً ... وأكرمهم إلا النبي محمدا
إذا ما تدبرنا عواقب أمره ... وجدنا أمير المؤمنين مسددا
سيغلب قوماً حاربوا الله جهرةً ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا
كذاك يضل الله من كان قبله ... مريضاً ومن والى النفاق وحشدا
وقد تركوا الأهلين والمال خلفهم ... وبيضاً عليهن الجلابيب خردا
يناديهم مستعبراتٍ إليهم ... ويذرين دمعاً في الخدود وإثمدا
أنكثاً وعصياناً وغدراً وذلةً ... أهان الإله من أهان وأبعدا
لقد شأم المصرين فرخ محمدٍ ... بحقٍ وما لاقى من الطير أسعدا
كما شأم الله النجير وأهله ... بجدٍ له قد كان أشقى وأنكدا
فقال أهل الشام: أحسن، أصلح الله الأمير. فقال الحجاج: لا لم يحسن، إنكم لا تدرون ما أراد بها. ثم قال: يا عدو الله! والله لا نحمدك على هذا القول، إنما قلت: تأسف أن لا يكون ظهر وظفر، وتحريصاً لأصحابك علينا، وليس عن هذا سألناك، أنشدنا قولك بين الأشج وبين قيس باذخ، فأنشده، فلما قال: بخ بخ لوالده وللمولد قال الحجاج: والله لا تبخبخ بعدها أبداً! فضربت عنقه.
قوله في هذه الأبيات: ابن عباس، هو عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد تقدم ذكره. وقوله: سفيان، هو ابن الأبرد الكلبي من قواد العساكر الشامية.
وقوله: فرخ محمد، هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وقوله: الأشبح، هو محمد بن الأشعث. وقوله: بين قيس، هو معقل بن قيس الرياحي، وهو جد عبد الرحمن بن محمد لأمه.
وقوله: كما سأم الله النجير وأهله بجدٍ له، يعني لما ارتد الأشعث بن قيس جد عبد الرحمن بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، وتبعه كندة، فلما حاربهم المسلمون وحصروهم بالنجير أخذوهم وقتلوهم، وقد تقدم ذكر ذلك في قتال أهل الردة.

قيل: وأتي الحجاج بأسيرين فأمر بقتلهما، فقال أحدهما: إن لي عند يداً. قال: وما هي؟ قال: ذكر عبد الرحمن يوماً أمك بسوء فنهيته. قال: ومن يعلم ذلك؟ قال: هذا الأسير الآخر، فسأله الحجاج فصدقه، فقال له الحجاج: فلم لم تفعل كما فعل؟ قال: وينفعني الصدق عندك؟ قال: نعم. قال: منعني البغض لك ولقومك. قال: خلوا عن هذا لفعله وعن هذا لصدقه.
قيل: جاء رجل من الأنصار إلى عمر بن عبد العزيز فقال: أنا فلان بن فلان، قتل جدي يوم بدر وقتل جدي فلان يوم أحد، وجعل يذكر مناقب سلفه، فنظر عمر إلى عنبسة بن سعيد بن العاص فقال: هذه المناقب والله لا يوم مسكن ويم الجماجم ويم راهط! وأنشد:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ذكر ما جرى للشعبي مع الحجاجلما انهزم أصحاب عبد الرحمن بالجماجم نادى منادي الحجاج: من لحق بقتيبة بن مسلم فهو آمن، وكان قد ولاه الري وسار إليه؛ فلحق به ناس كثير، وكان منهم الشعبي، فذكره الحجاج يوماً فسأل عنه، فقال له يزيد بن أبي مسلم: إنه لحق بقتيبة بالري، فكتب الحجاج إلى قتيبة يأمره بإرسال الشعبي، فأرسله.
قال الشعبي: فلما قدمت على الحجاج لقيت ابن أبي مسلم، وكان صديقاً لي، فاستشرته فقال: اعتذر مهما استطعت، وأشار بمثل ذلك إخواني ونصائحي، فلما دخلت على الحجاج رأيت غير ما ذكروا لي، فسلمت عليه بالإمرة وقتل: أيها الأمير إن الناس قد أمروني أن أعتذر بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا لحق، قد والله مردنا عليك وحرضنا وجهدنا فما كنا بالأقوياء الفجرة ولا بالأنقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا وما جرت إليه أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا.
فقال الحجاج: أنت والله أحب إلي قولاً ممن يدخل علينا بقطر سيفه من دمائنا، قم يقول: ما فعلت ولا شهدت، وقد أمنت يا شعبي، كيف وجدت الناس بعدنا؟ فقلت: أصلح الله الأمير اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت الجناب، واستحلست الخوف، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفاً. قال: انصرف ياشعبي. فانصرفت.
ذكر خلع عمر بن أبي الصلت بالري وما كان منهلما ظفر الحجاج بابن الأشعث لحق خلق كثير من المنهزمين بعمر بن أبي الصلت، وكان قد غلب على الري في تلك الفتنة، فلما اجتمعوا بالري أرادوا أن يحظوا عند الحجاج بأمر يمحون عن أنفسهم عثرة الجماجم، فأشاروا على عمر بخلع الحجاج وقتيبة، فامتنع، فوضعوا عليه أباه أبا الصلت، وكان به باراً، فأشار عليه بذلك وألزمه به وقال له: يا بني إذا سار هؤلاء تحت لوائك لا أبابي أن تقتل غداً. ففعل.
فلما قارب قتيبة الري بلغه الخبر فاستعد لقتاله، فالتقوا واقتتلوا، فغدر أصحاب عمر به وأكثرهم من تميم، فانهزم ولحق بطبرستان، فآواه الأصبهبذ وأكرمه وأحسن إليه. فقال عمر لأبيه: إنك أمرتني بخلع الحجاج وقتيبة فأطعتك، وكان خلاف رأيي فلم أحمد رأيك، وقد نزلنا بهذا العلج الأصبهبذ فدعني حتى أثب عليه فأقتله وأجلس على مملكته، فقد علمت الأعاجم أني أشرف منه. فقال أبوه: ما كنت لأفعل هذا الرجل آوانا ونحن خائفون، وأكرمنا وأنزلنا. فقال عمر: أنت أعلم وسترى.
ودخل قتيبة الري وكتب إلى الحجاج بخبر عمر وانهزامه إلى طبرستان، فكتب الحجاج إلى الأصبهبذ: أن ابعث بهم أو برؤوسهم وإلا فقد برئت منك الذمة. فصنع لهم الأصبهبذ طعاماً وأحضرهما، فقتل عمر وبعث أباه أسيراً، وقيل: بل قتلهما وبعث برؤوسهما.
ذكر بناء مدينة واسطوفي هذه السنة بني الحجاج واسطاً.
وكان سبب ذلك أن الحجاج ضرب البعث على أهل الكوفة إلى خراسان وعسكر بحمام عمر، وكان فتى من أهل الكوفة حديث عهد بعرش، فانصرف من العسكر إلى ابنة عمه ليلاً، فطرق الباب طارق ودقة دقاً شديداً، فإذا سكران من أهل الشام، فقالت للرجل ابنة عمه: لقد لقينا من هذا الشامي شراً، يفعل بنا كل ليلة ما ترى، يريد المكروه، وقد شكوته إلى مشيخة أصحابه. فقال لها زوجها: ائذني له، فأذنت له، فقتله زوجها، فلما أذن الفجر خرج إلى العسكر وقال لابنة عمه: إذا صليت الفجر فابعثي إلى الشاميين ليأخذوا صاحبهم، فإذا أحضروك عند الحجاج فاصدقيه الخبر على وجهه.

ففعلت فأحضرت عند الحجاج فأخبرته، فقال: صدقتني. وقال للشاميين: خذوا صاحبكم لا قود له ولا عقل فإنه قتيل الله إلى النار. ثم نادى مناد: لا ينزلن أحد على أحد.
وكان الحجاج قد أنزل أهل الشام على اهل الكوفة، فخرج أهل الشام فعسكروا، وبعث رواداً يرتادون له منزلاً، وأقبل حتى نزل موضع واسط، فإذا راهب قد أقبل على حمار له، فلما كان بموضع واسط بال الحمار فنزل الراهب فاحتفر ذلك البول واحتمله ورماه في دجلة والحجاج يراه. فقال: علي به. فأتي به. فقال: ما حملك على ما صنعته؟ قال: نجد في الكتب أنه يبنى في هذا الموضع مسجد يعبد الله فيه ما دام في الأرض أحد يوحده. فاختط الحجاج مدينة واسط وبنى المسجد في ذلك الموضع.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل عبد الملك أبان بن عثمان من المدينة، في قول بعضهم، واستعمل عليها هشام بن إسماعيل. وكان العمال هذه السنة سوى المدينة الذين تقدم ذكرهم في السنة قبلها.
قيل: وكان الحجاج قد سير نساءه وأهله إلى الشام خوفاً من عبد الرحمن بن الأشعث وفيهن أخته زينب التي ذكرها النمير في شعره، فلما هزم ابن الشعث أرسل البشير إلى عبد الملك بذلك وكتب كتاباً إلى أخته زينب، فأخذت الكتاب وهر راكبة فنفرت البغلة من قعقعة الكتاب فسقطت زينب فماتت.
وفي هذه السنة توفي واثلة بن الأسقع، وهو ابن خمس ومائة سنة، وقيل: مات سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة. وفيها مات زربن جبيش وعمره مائة وانتان وعشرون سنة. وأبو وائل شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي، وكان مولده سنة إحدى من الهجرة.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين

ذكر قتل ابن القرية
وفيها قتل الحجاج أيوب بن القرية، وكان مع ابن الأشعث بدير الجماجم، فلما هزم ابن الأشعث التحق أيوب بحوشب بن يزيد عامل الحجاج على الكوفة، فاستحضره الحجاج، فقال له: أقلني عشرتي واسقني ريقي فإنه ليس جواد إلا له كبوة، ولا شجاع إلا له هبوة، ولا صارم إلا له نبوة، فقال الحجاج: كلا والله لأزيرنك جهنم. قال: فأرحني فإني أجد حرها! فأمر به فضربت عنقه. فلما رآه قتيلاً قال: لو تركناه حتى نسمع من كلامه.
ذكر فتح قلعة نيزك بباذغيسفي هذه السنة فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، وكان يزيد قد وضع على نيزك العيون، فلما بلغه خروج نيزك عنها سار إليها فحاصرها فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع زامنعها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيماً لها؛ وقال كعب بم معدان الأشقري يذكرها:
وباذغيس التي من حل ذروتها ... عز الملوك فإن شا جار أو ظلما
منيعة لم يكدها قبله ملك ... إلا إذا واجهت جيشاً له وجما
تخال نيرانها من بعد منظرها ... بعض النجوم إذا ما ليلها عتما
وهي أبيات عدة؛ وقال أيضاً يذكر يزيد وفتحها:
نفى نيزكاً عن باذغيس ونيزك ... بمنزلةٍ أعيا الملوك اغتصابها
محلقةٍ دون السماء كأنها ... غمامة صيفٍ زال عنها سحابها
ولا تبلغ الأروى شماريخها العلى ... ولا الطير إلا نسرها وعقابها
وما خوفت بالذئب ولدان أهلها ... ولا نبحت إلا النجوم كلابها
في أبيات غيرها.
فلما فتحها كتب إلى الحجاج بالفتح - وكان يكتب له يحيى بن يعمر العدواني حليف هذيل - إنا لحقنا العدو فمنحنا الله أكتافهم فقتلنا طائفةً وأسرنا طائفةً ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، فأهضام الغيطان وأثناء الأنهار. فقال الحجاج: من يكتب ليزيد؟ فقيل: يحيى بن يعمر، فكتب إليه بحمله على البريد. فقدم إليه أفصح الناس. فقال: أين ولدت؟ قال: بالأهواز. قال: فهذه الفصاحة من أين؟ قال: حفظت من كلام أبي، وكان فصيحاً. قال: أخبرني هل يلحن عنبسة بن سعيد؟ قال: نعم كثيراً. قال: ففلان؟ قال: نعم. قال: فأخبرني هل ألحن؟ قال: نعم تلحن لحناً خفياً، تزيد حرفاً وتنقص حرفاً وتجعل أن في موضع إن، وإن في موضع أن. قال: قد أجلتك ثلاثاً فإن وجدتك بأرض العراق قتلتك فرجع إلى خراسان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا عبد الله بن عبد الملك الروم ففتح المصيصة وبنى حصنها ووضع بها ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى مسجدها.

وحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل. وكان العمال من تقدم ذكرهم. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية.
وفيها مات عبد الله بن الحارث بن نوفل الملقب ببة بعمان، وكان يسكن البصرة، وكان مولده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثم دخلت سنة خمس وثمانين

ذكر هلاك عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
لما انصرف عبد الرحمن إلى رتبيل من هراة قال له علقمة بن عمرو الأودي: ما أريد أن أدخل معك لأني أتخوف عليك وعلى من معك، والله لكأني بالحجاج وقد كتب إلى رتبيل يرغبه ويرهبة، فإذا هو قد بعث بك سلماً أو قتلكم، ولكن معي خمسمائة قد تبايعنا على أن ندخل مدينة نتحصن بها حتى نعطى الأمان أو نموت كراماً، ولم يدخل إلى بلاد رتبيل معه، وخرج هؤلاء الخمسمائة وجعلوا عليهم مودودا البصري، وقدم عليهم عمارة بن تميم اللخمي فحاصرهم، فامتنعوا حتى آمنهم، فخرجوا إليه، فوفى لهم.
وتتابعت كتب الحجاج إلى رتبيل في عبد الرحمن: أن أبعث به إلي وإلا والذي لا إله غيره لأوطئن أرضك ألف ألف مقاتل.
وكان مع عبد الرحمن رجل من تميم يقال له عبيد بن سبيع التميمي، وكان رسوله إلى رتبيل، فخص برتبيل وخف عليه، فقال القاسم بن محمد بن الأشعث لأخيه عبد الرحمن: إني لا آمن غدر هذا التميمي فاقتله. فخافه عبيد ووشى به إلى رتبيل وخوفه الحجاج ودعاه إلى الغدر بابن الأشعث وقال له: أنا آخذ لك من الحجاج عهداً ليكفن عن أرضك سبع سنين على أن تدفع إليه عبد الرحمن. فأجابه إلى ذلك، فخرج عبيد إلى عمارة سراً فذكر له ما استقر مع رتبيل وما بذل له، وكتب عمارة إلى الحجاج بذلك، وأجابه إليه أيضاً، وبعث رتبيل برأس عبد الرحمن إلى الحجاج. وقيل: إن عبد الرحمن كان قد أصابه السل فمات فأرسل رتبيل إليه فقطع رأسه قبل أن يدفن وأرسله إلى الحجاج.
وقد قيل: إن رتبيل لما صالح عمارة بن تميم اللخمي على ابن الأشعث كتب عمارة إلى الحجاج بذلك فأطلق له خراج بلاده عشر سنين، فأرسل رتبيل إلى عبد الرحمن وثلاثين من أهل بيته فحضروا فيدهم وأرسلهم إلى عمارة، فألقى عبد الرحمن نفسه من سطح قصر، فمات فاحتز رأسه وسيره إلى الحجاج، فسيره الحجاج إلى عبد الملك، وسيره عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز؛ فقال بعض الشعراء:
هيهات موضع جثةٍ من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
وقيل: إن هلاك عبد الرحمن كان سنة أبع وثمانين.
ذكر عزل يزيد بن المهلب عن خراسان
وولاية أخيه المفضل
وفي هذه السنة عزل الحجاج يزيد بن المهلب عن خراسان.
وكان سبب عزله إياه أن الحجاج وفد إلى عبد الملك فمر في طريقه براهب فقيل له: إن عنده علماً، فدعا به وسأله ل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه ونحن؟ قال: نعم. قال: مسمى أم موصوف؟ فقال: كل ذلك نجده موصوفاً بغير اسم، ومسمى بغير صفة. قال: فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال: نجده في زماننا: ملك أفرع، من يقم لسبيله يصرع. قال: ثم من؟ قال: اسم رجل يقال له الوليد، ثم رجل اسمه اسم نبي يفتح به على الناس. قال: أفتعلم من يلي بعدي؟ قال: نعم، رجل يقال له يزيد. قال: أفتعرف صفته؟ قال: يغدر غدرة، لا أعرف غير هذا. فوقع في نفسه أنه يزيد بن المهلب، ثم سار وهو وجل من قول الراهب، ثم عاد وكتب إلى عبد الملك يذم يزيد وآل المهلب ويخبره أنهم زبيرية. فكتب إليه عبد الملك: إني لا أرى طاعتهم لآل الزبير نقصاً بآل المهلب، وفاؤهم لهم يدعوهم إلى الوفاء لي.
فكتب إليه الحجاج يخوفه غدره وبما قال الراهب. فكتب عبد الملك إليه: إنك قد أكثرت في يزيد وآل المهلب، فسم لي رجلاً يصلح لخراسان. فسمى قتيبة بن مسلم، فكتب إليه أن وله.
وبلغ يزيد أن الحجاج عزله، فقال لأهل بيته: من ترون الحجاج يولي خراسان؟ قالوا: رجلاً من ثقيف. قال: كلا ولكنه يكتب إلى رجل منكم بعهده، فإذا قدمت عليه عزله وولى رجلاً من قيس، وأخلق بقتيبة بن مسلم.
فلما أذن عبد الملك في عزل يزيد كره أن يكتب إليه بعزله، فكتب إليه يأمره أن يستخلف أخاه المفضل ويقبل إليه.

واستشار يزيد حضين بن المنذر الرقاشي، فقال له: أقم واعتل واكتب إلى أمير المؤمنين ليقرك فإنه حسن الحال والرأي فيك. قال يزيد: نحن أهل بيت قد بورك لنا في الطاعة، وأنا أكره الخلاف. فأخذ يتجهز، فأبطأ، فكتب الحجاج إلى المفضل: إني قد وليتك خراسان. فجعل المفضل يستحث يزيد، فقال له يزيد: عن الحجاج لا يقرك بعدي وإنما دعاه إلى ما صنع مخافة أن امتنع عليه، وستعلم.
وخرج يزيد في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين، وأقر الحجاج أخاه المفضل تسعة أشهر ثم عزله.
وقد قيل: إن سبب عزله أن الحجاج لما فرغ من عبد الرحمن بن الأشعث لم يكن له هم إلا يزيد بن المهلب وأهل بيته، وقد كان أذل أهل العراق كلهم إلا آل المهلب ومن معهم بخراسان، وتخوفه على العراق، وكان يبعث إليه ليأتيه فيعتل عليه بالعدو والحروب، فكتب الحجاج إلى عبد الملك يشير عليه بعزل يزيد ويخبره بطاعتهم لآل الزبير، فكتب إليه عبد الملك بنحو ما تقدم وساق باقي الخبر كما تقدم؛ وقال حضين ليزيد:
أمرتك أمر حازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
فما أنا بالباكي عليك صبابةً ... وما أنا بالداعي لترجع سالما
قال: فلما قدم قتيبة خراسان قال لحضين: ما قلت ليزيد؟ قال: قلت:
أمرتك أمراً حازماً فعصيتني ... فنفسك رد اللوم إن كنت لائما
فإن يبلغ الحجاج أن قد عصيته ... فإنكا تلقى أمره متفاقما
قال: فماذا أمرته به فعصاك؟ قال: أمرته أن لا يدع صفراء ولا بيضاء إلا حملها إلى الأمير. قال بعضهم: فوجده قتيبة قارحاً.
وقيل: كتب الحجاج إلى يزيد: اغز خوارزم، فكتب: إنها قليلة السلب شديدة الكلب.
فكتب إليه الحجاج: استخلف واقدم. فكتب: إني أريد أن أغزو خوارزم. فكتب الحجاج: لا تغزها فإنها كما ذكرت. فغزا ولم يطعه، فصالحه أهلها وأصاب سبياً، وقفل في الشتاء، وأصاب الناس برد، فأخذوا ثياب الأسرى، فمات ذلك السبي. فكتب إليه الحجاج أن اقدم. فسار إليه، فكان لا يمر ببلد إلا فرش أهله الرياحين.
حضين بن المنذر بالحاء المهملة المضمومة، والضاد المعجمة المفتوحة، وآخره نون
ذكر غزو المفضل باذغيس وآخرونلما ولي المفضل خراسان غزا باذغيس ففتحها وأصاب مغنماً فقسمه، فأصاب كل رجل ثماني مائة. ثم غزا آخرون وشومان فغنم وقسم ما أصاب، ولم يكن للمفضل بيت مال، كان يعطي الناس كلما جاء شيء، وغن غنم شيئاً قسمه بينهم.
ذكر مقتل موسى بن عبد الله بن خازمفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ.
وكان سبب مصيره إلى ترمذ أن أباه لما قتل من قتل من بني تميم، وقد تقدم ذكر ذلك، تفرق عنه أكثر من كان معه منهم، فخرج إلى نيسابور، وخاف بني تميم على ثقله بمرو، فقال لابنه موسى: خذ ثقلي واقطع نهر بلخ حتى تلتجئ إلى بعض الملوك أو إلى حصن تقيم فيه. فرحل موسى عن مرو في عشرين ومائتي فارس، واجتمع إليه تتمة أربعمائة، وانضم إليه قوم من بني سليم، فأتى زم، فقاتله أهلها، فظفر بهم فأصاب مالاً وقطع النهر وأتى بخارى فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى. فخافه وقال: رجل فاتك وأصحابه مثله فلا آمنه. ووصله وسار، فلم يأت ملكاً يلجأ إليه إلا كره مقامه عنده، فأتى سمر قند فأقام بها وأكرمه ملكها طرخون وأذن له في المقام وأقام ما شاء الله.
ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم وخل وخبز وإبريق شراب، وذلك كل عام يوماً، يجعلون ذلك لفارس الصغد فلا يقربه غيره، فإن أكل منه أحد بارزه فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له. فقال رجل من أصحاب موسى: ما هذه المائدة؟ فأخبر، فجلس فأكل ما عليها، وقيل لصاحب المائدة فجاء مغضباً وقال: يا عربي بارزني! فبارزه فقتله صاحب موسى، فقال ملك الصغد: أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارسي، لولا أني آمنتك وأصحابك لقتلتكم، اخرجوا عن بلدي فخرجوا.

فأتى كش فضعف صاحبها عنه فاستنصر طرخون فأتاه، فخرج موسى إليه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس، فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا وبأصحاب موسى جراح كثيرة، فقال لزرعة بن علقمة: احتل لنا على طرخون. فأتاه فقال: أيها الملك ما حاجتك إلى أن تقتل موسى وتقتل معه، فإنك لا تصل إليه حتى يقتلوا مثل عدتهم منكم، ولو قتلته وإياهم جميعاً ما نلت حظاً، لأن له قدراً في العرب، فلا يأتي أحد خراسان إلا طالبك بدمه. فقال: ليس لي إلى ترك كش في يده سبيل. قال: فكف عنه حتى يرتحل. فكف.
وسار موسى فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر، فنزل موسى خارج الحصن وسأل ترمذ شاه أن يدخله حصنه، فأبى، فأهدى له موسى ولا طفه حتى حصل بينهما مودة وخرج فتصيد معه. فصنع صاحب ترمذ طعاماً وأحضر موسى ليأكل معه، ولا يحضر إلا في مائة من أصحابه، فاختار موسى مائة من أصحابه، فدخلوا الحصن وأكلوا، فلما فرغوا قال له: اخرج، قال: لا أخرج حتى يكون الحصن بيتي أو قبري. وقاتلهم فقتل منهم عدةً وهرب الباقون، واستولى موسى عليها وأخرج ترمذ شاه منها ولم يعرض له ولا لأصحابه، فأتوا الترك يستنصرونهم على موسى فلم ينصروهم وقالوا: لا نقاتل هؤلاء. وأقام موسى بترمذ، فأتاه جمع من أحاب أبيه فقوزي بهم فكان يخرج فيغير على ما حوله.
ثم ولي بكير بن وساج خراسان فلم يعرض له، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريد مخالفة بكير فرجع، على ما تقدم ذكره. ثم إن أمية وجه إلى موسى بعد صلح بكير رجلاً من خزاعة في جمع كثير، وعاد أهل ترمذ إلى الترك فاستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه. فسارت الترك في جمع كثير إلى الخزاعي، فأطاف بموسى الترك والخزاعي، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار والترك آخر النهار، فقاتلهم شهرين أو ثلاثة. ثم إنه أراد أن يبت الخزاعي وعسكره، فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابي: ليكن البيات بالعجم، فإن العرب اشد حذراً وأجرأ على الليل، فإذا فرغنا من العجم تفرغنا للعرب.
فأقام حتى ذهب ثلث الليل وخرج موسى في أربعمائة وقال لعمرو بن خالد: اخرج بعدنا فكن أنت ومن معك قريباً، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا. ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ورجع إليهم وجعل أصحابه أرباعاً وأقبل إليهم، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا: من أنتم؟ قالوا: عابرو سبيل . فلما جاوزوا الرصد حملوا على الترك وكبروا، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف فيهم، فساروا يقتل بعضهم بعضاً وولوا، فأصيب من المسلمين ستة عشر رجلاً وحموا عسكرهم وأصابوا سلاحاً كثيراً ومالاً، وأصبح الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك، فخافوا مثلها، فقال عمرو بن خالد لموسى: إننا لا نظفر إلا بمكيدة ولهم أمداد وهم كثيرون فدعني آته لعلى أصيب فرصة فاضربني وخلاك ذم. فقال له موسى: تتعجل الضرب وتتعرض للقتل.
قال: أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد.
فضربه موسى خمسين سوطاً، فخرج من عسكر موسى وأتى عسكر الخزاعي مستأمناً وقال: أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه، وإنه اتهمني وقال: قد تعصبت لعدونا وأنت عين له، فضربني ولم آمن القتل فهربت منه. فأمنه الخزاعي وأقام معه، فدخل يوماً وهو خالٍ ولم ير عنده سلاحاً فقال كأنه ينصح له: أصلح الله الأمير، إن مثلك في مثل هذه الحال لا ينبغي أن يكون بغير سلاح. قال: إن معي سلاحاً. فرفع طرف فراشه فإذا سيف منتضى، فأخذه عمرو فضربه حتى قتله وخرج فركب فرسه وأتى موسى، وتفرق ذلك الجيش، وأتى بعضهم موسى مستأمناً فآمنه، ولم يوجه إليه أمية أحداً.
وعزل أمية وقدم المهلب أميراً، فلم يتعرض لموسى وقال لبنيه: إياكم وموسى، فأنكم لا تزالون ولاة خراسان ما دام هذا الثبط بمكانه فإن قتل فأول طالع عليكم أمير على خراسان من قيس. فلما مات المهلب وولي يزيد لم يتعرض أيضاً لموسى.

وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعي، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى، فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ. فخرج ثابت إلى طرخون فشكا إليه ما صنع به، وكان ثابت محبوباً إلى الترك بعيد الصوت فيهم، فغضب له طرخون وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغاينان فقدموا مع ثابت إلى موسى، وقد اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن العباس من هراة وفل ابن الأشعث من العراق ومن ناحية كابل، فاجتمع معه ثمانية آلاف، فقال له ثابت وحريث: سر حتى تقطع النهر وتخرج يزيد عن خراسان ونوليك. فهم أن يفعل، فقال له أصحابه: إن أخرجت يزيد قدم عامل لعبد الملك، ولكنا نخرج عمال يزيد عما وراء النهر ويكون لنا، فأخرجوا عمال يزيد عما وراء النهر وجبوا الأموال، فقوي أمرهم، وانصرف طرخون ومن معه، واستبد ثابت وحريث بتدبير الأمر، والأمير موسى ليس له غير الأسم.
فقيل لموسى: ليس لك من الأمور شيء والأمور إلى ثابت وحريث فاقتلهما وتول الأمر فأبى، فألحوا عليه حتى أفسدوا قلبه عليهما وهم بقتلهما.
فإنهم لفي ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبت والترك في سبعين ألفاً لا يعدون الحاسر ولا صاحب البيضة الجماء ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس. فخرج ابن خازم وقاتلهم فيمن معه، ووقف ملك الترك على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة والقتال أشد ما كان، فقال موسى: إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء. فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم وألح عليهم حتى أزالهم على التل، ورمي حريث بنشابة في جبهته فتحاجزوا، فبيتهم موسى، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى سمعة ملكهم، فوجأ رجلاً منهم بقبيعة سيفه فطعن فرسه، فاحتمله الفرس فألقاه في نهر بلخ، فغرق، وقتل من الترك خلق كثير، ونجا من نجا منهم بشر، ومات حريث بعد يومين.
ورجع موسى وحمل معه الرؤوس فبنى منها جوسقين. وقال أصحاب موسى: قد كفينا أمر حريث، فاكفنا أمر ثابت. فأبى، وبلغ ثابتاً بعض ما يخوضون فيه، فدس محمد بن عبد الله الخزاعي - عم نصر بن عبد الحميد، عامل أبي مسلم على الري - على موسى، وقال: إياك أن تتكلم بالعربية، وإن سألوك فقل أنا من سبي الباميان. ففعل ذلك واتصل بموسى، وكان يخدمه وينقل إلى ثابت خبرهم، فحذر ثابت، وألح القوم على موسى. فقال لهم ليلة: لقد أكثرتم علي وفيما تريدون هلاككم، فعلى أي وجه تقتلونه ولا أغدر به؟ قال له أخوه نوح: إذا أتاك غداً عدلنا به إلى بعض الدور فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك فقال: والله إنه هلاككم، وأنتم أعلم.
فخرج الغلام فأتى ثابتاً فأخبره، فخرج من ليلته في عشرين فارساً ومضى. وأصبحوا فلم يروه ولم يروا الغلام، فعلموا أنه كان عيناً له.
ونزل ثابت بحوشرا واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم، فأقبل موسى إليه وقاتله، وتحصن ثابت بالمدينة، وأتاه طرخون معيناً له، فرجع موسى إلى ترمذ، وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى ونسف وكش فاجتمعوا في ثمانين ألفاً فحصروا موسى حتى جهد هو وأصحابه، فلما اشتد عليهم قال يزيد بن هذيل: والله لأقتلن ثابتاً أو لأموتن. فخرج إلى ثابت فاستأمنه، فقال له ظهير: أنا أعرف بهذا منك، ما أتاك إلا بغدره فاحذره، فأخذ ابنيه قدامة والضحاك رهناً، فكانا في يد ظهير.
وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي، فخرج ثابت إليه ليعزيه وهو بغير سلاح وقد غابت الشمس، فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه فوصل إلى الدماغ وهر فسلم، وأخذ طرخون قدامة والضحاك ابني يزيد فقتلهما، وعاش ثابت سبعة أيام ومات، وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت، فقاما قياماً ضعيفاً، وانتشر أمرهم وأجمع موسى على بياتهم، فأخبر طرخون بذلك فضحك وقال: موسى يعجز أن يدخل متوضأه فكيف يبيتنا؟ لا يحرس الليلة أحد.
فخرج موسى في ثمانمائة وجعلها أرباعاً وبينهم، وكان لا يمر بشيء إلا ضربوه من رجل ودابة وغير ذلك، فليس نيزك سلاحه ووقف، وأرسل طرخون إلى موسى أن كف أصحابك فإنا نرحل إذا أصبحنا. فرجع موسى وارتحل طرخون والعجم جميعاً.

فكان أهل خراسان يقولون: ما رأينا مثل موسى ولا سمعنا به، قاتل مع أبيه سنتين ثم خرج يسير في بلاد خراسان فأتى ملكاً فغلب على مدينته وأخرجه منها، وسار الجنود من العرب والترك إليه، وكان يقاتل العرب أول النهار والترك آخر النهار.
وأقام موسى في الحصن خمس عشرة سنة وصار ما وراء النهر لموسى لا ينازعه فيه أحد.
فلما عزل يزيد بن المهلب وولي المفضل أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله، فسير عثمان بن مسعود إليه في جيش، وكتب إلى مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه، فعبر النهر في خمسة عشر ألفاً، فكتب إلى السبل وإلى طرخون فقدموا عليه، فحصروا موسى وضيقوا عليه وعلى أصحابه.
فمكث شهرين في ضيق، وقد خندق عثمان عليه وحذر البات، فقال موسى لأصحابه: اخرجوا بنا، حتى منى نصبر! فاجعلوا يومكم معهم إما ظفرتم وإما قتلتم واقصدوا الترك.
فخرجوا وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة، وقال له: إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان وادفعها إلى مدرك بن المهلب. وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان، وقال: لا تقاتلوه إلا أن يقاتلكم. وقصد لطرخون وأصحابه فصدقوهم لقتال، فانهزم طرخون وأخذوا عسكرهم، وزحفت الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن، فقاتلهم، فعقروا فرسه فسقط، فقال لمولى له: احملني فقال: الموت كريه ولكن ارتدف فإن نجونا نجونا جميعاً وإن هلكنا هلكنا جميعاً. قال: فارتدف، فلما نظر إليه عثمان حين وثب قال: وثبة موسى ورب الكعبة! وقصد إلى موسى، وعقرت دابة موسى فسقط هو ومولاه، فقتلوه، نادى منادي عثمان: من لقيتموه فخذوه أسيراً ولا تقتلوا أحداً.
فقتل ذلك اليوم من الأسرى خلقاً كثيراً من العرب خاصة، فكان يقتل العرب ويضرب المولى ويطلقه، وكان فظاً غليظاً.
وكان الذي أجهز على موسى واصل بن طيلسة العنبري.
وبقيت المدينة بيد النصر بن سليمان فلم يدفعها إلى عثمان، وسلمها إلى مدرك بن المهلب وآمنه، فسلمها مدرك إلى عثمان. وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى. فقال: العجب منه! أكتب إليه بقتل ابن سبرة فيكتب إلي أنه لمآبه ويكتب إلي أنه قد قتل موسى بن عبد الله بن خازم. ولم يسره قتل موسى لأنه من قيس.
وقتل موسى سنة خمس وثمانين، وضرب رجل من الجند ساق موسى، فلما ولي قتيبة قال: ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته؟ قال: كان قتل أخي. فأمر به فقتل.
ذكر موت عبد العزيز بن مروان

والبيعة للوليد بولاية العهد
كان عبد الملك بن مروان أراد أن يخلع أخاه عبد العزيز من ولاية العهد ويبايع لابنه الوليد بن عبد الملك، فنهاه عن ذلك قبيصة بن ذوئيب وقال: لا تفعل فإنك تبعث على نفسك صوت عار، ولعل الموت يأتيه فتستريح منه. فكف عنه ونفسه تنازعه إلى خلعه.
فدخل عليه روح بن زنباع، وكان أجل الناس عند عبد الملك، فقال: يا أمير المؤمنين لو خلعته ما انتطح فيه عنزان، وأنا أول من يجيبك إلى ذلك. قال: نصبح إن شاء الله. ونام روح عند عبد الملك، فدخل عليهما قبيصة بن ذؤيب وهما نائمان، وكان عبد الملك قد تقدم إلى حجابه أن لا يحجبوا قبيصة عنه، وكان إليه الخاتم والسكة تأتيه الأخبار قبل عبد الملك والكتب. فلما دخل سليم عليه، قال: آجرك الله ما كنا نريد، وكان ذلك مخالفاً لك يا قبيصة. فقال قبيصة: يا أمير المؤمنين إن الرأي كله في الأناة، فقال عبد الملك: وربما كان في العجلة خير كثير، رأيت أمر عمرو بن سعيد، ألم تكن العجلة فيه خيراً من الأناة؟ وكانت وفاة عبد العزيز في جمادى الأولى في مصر، فضم عبد الملك عمله إلى ابنه عبد الله بن عبد الملك وولاه مصر.

وقيل: إن الحجاج كتب إلى عبد الملك يزين له بيعة الوليد وأوفد في ذلك وفداً، فلما أراد عبد الملك خلع عبد العزيز والبيعة للوليد كتب إلى عبد العزيز: إن رأيت أن يصير هذا الأمر لابن أخيك. فأبى، فكتب إليه ليجعل الأمر له ويجعله له أيضاً من بعده. فكتب إليه عبد العزيز: إني أرى في ابني أبي بكر ما ترى في الوليد. فكتب إليه عبد الملك ليحمل خراج مصر، فأجابه عبد العزيز: إني وإياك يا أمير المؤمنين قد بلغنا سناً لم يبلغها أحد من أهل بيتك إلا كان بقاؤه قليلاً، وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أولاً، فإن رأيت أن لا تفسد علي بقية عمري فافعل. فرق له عبد الملك وتركه، وقال للوليد وسلميان: إن يرد الله أن يعطيكما الخلافة لا يقدر أحد من العباد على رد ذلك. فقال عبد الملك حيث رده عبد العزيز: اللهم إنه قطعني فاقطعه.
فلما مات عبد العزيز قال أهل الشام: رد على أمير المؤمنين أمره. فلما أتى خبر موته إلى عبد الملك أمر الناس بالبيعة لابنيه الوليد وسلميان، فبايعوا، وكتب بالبيعة لهما إلى البلدان. وكان على المدينة هشام بن إسماعي، فدعا الناس إلى البيعة فأجابوا، إلا سعيد بن المسيب فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبد الملك حي، فضربه هشام ضرباً مبرحاً وطاف به وهو في تبان شعر حتى بلغ رأس الثنية التي يقتلون ويصلبون عندها ثم ردوه وحبسوه. فقال سعيد: لو ظننت أنهم لا يصلبونني ما لبست ثياب مسوح ولكنني قلت يصلبونني فيسترني. فبلغ عبد الملك الخبر فقال: قبح الله هشاماً، إنما كان ينبغي أن يدعوه إلى البيعة، فإن أبى أن يبايع فيضرب عنقه أو يكف عنه. وكتب إليه يلومه ويقول له: إن سعيداً ليس عنده شقاق ولا خلاف.
وقد كان سعيد امتنع من بيعة ابن الزبير وقال: لا أبايع حتى يجتمع الناس. فضربه جابر بن الأسود عامل ابن الزبير ستين سوطاً، فبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى جابر يلومه وقال: ما لنا ولسعيد، دعه لا تعرض له.
وقيل: إن بيعة الوليد وسليمان كانت سنة أربع وثمانين، والأول أصح، قبل قدوم عبد العزيز على أخيه عبد الملك من مصر، فلما فارقه وصاه عبد الملك فقال: ابسط بشرك وألن كنفك وآثر الرفق في الأمور فهو أبلغ بك، وانظر حاجبك وليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يفن أحد ببابك إلا أعلمك مكانه لتعلم أنت الذي تأذن له أو ترده، فإذا خرجت إلى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك وتثبت في قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك مسكل فاستظهر عليه بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المهمة، واعلم أن لك نصف الرأي ولأخيك نصفه، ولن يهلك امرؤ عن مشورة، وإذا سخطت على أحد فأخر عقوبته فإنك على العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إمضائها. والسلام.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان العامل على العراق والمشرق الحجاج بن يوسف. وفيها غزا محمد بن مروان أرمينية فصاف فيها وشتى.
وفي هذه السنة مات عمرو بن حريث المخزومي. وفيها مات عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، وقيل سنة سبع، وقيل سنة ثمان وثمانين، وفيها مات عبد الله بن عامر بن ربيعة حليف بني عدي، وكان له لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم ، وأربع سنين.
ثم دخلت سنة ست وثمانين

ذكر وفاة عبد الملك
في هذه السنة توفي عبد الملك بن مروان منتصف شوال، وكان يقول: أخاف الموت في شهر رمضان، فيه ولدت وفيه فطمت وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس، فمات للنصف من شوال حين أمن الموت في نفسه. وكان عمره ستين سنة، وقيل ثلاثاً وستين سنة، وكانت خلافته من لدن قتل ابن الزبير ثلاث عشرة سنةً وأربعة أشهر إلا سبع ليالٍ، وقيل وثلاثة أشهر وخمسة عشر يوماً.
ولما اشتد مرضه قال بعض الأطباء: إن شرب الماء مات. فاشتد عطشه فقال: يا وليد اسقني ماء. قال: لا أعين عليك. فقال لابنته فاطمة: اسقيني ماء. فمنعها الوليد. فقال: لتدعنها أو لأخلعنك. فقال: لم يبق بعد هذا شيء؛ فسقته فمات. ودخل الوليد عليه وابنته فاطمة عند رأسه تبكي فقال: كيف أمير المؤمنين؟ قال: هو أصلح. فلما خرج قال عبد الملك:
ومستخبر عنا يريد لنا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم

وأوصى بنيه فقال: أوصيكم بتقوى الله فإنها أزين حلية وأحصن كهف، ليعطف الكبر منكم على الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عن رأيه فإنه نابكم الذي عنه تفترون، ومجنكم الذي عنه ترمون، فأكرموا الحجاج فإنه الذي وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد وأذل الأعداء، وكونوا بني أم بردة لا تدب بينكم العقارب، وكونوا في الحرب أمراراً فإن القتال لا يقرب ميتة، وكونوا للمعروف مناراً فإن المعروف يبقى أجره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب فإنهم أصون له وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتمغدوا ذنوب أهل الذنوب فإن استقالوا فأقيلوا وإن عادوا فانتقموا.
ولما توفي دفن خارج باب الجابية وصلى عليه الوليد، فتمثل هشام:
فما كان قيس هلكه هلك واحد ... ولكنه بنيان قومٍ تهدما
فقال الوليد: اسكت فإنك تتكلم بلسان شيطان، ألا قلت كما قال أوس بن حجر:
إذا مقرمٍ منا ذرا حد نابه ... تخمط منا ناب آخر مقرم
وقيل: إن سليمان تمثل بالبيت الأول، وهو الصحيح، لأن هشاماً كان صغيراً له أربع عشرة سنة. وقد رثى الشعراء عبد الملك، كثير عزة وغيره، فمما قيل فيه:
سقاك ابن مروانٍ من الغيث مسبل ... أجش شمالي يجود ويهطل
فما في حياةٍ بعد موتك رغبة ... لحرٍ وإن كنا الوليد نؤمل
ذكر نسبه وأولاده وأزواجهأما نسبه فهو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.
وأمه عائشة بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية.
وأما أولاده وأزواجه فمنهم: الوليد وسليمان ومروان الأكبر، درج، وعائشة؛ أمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن الحارث بن زهير بن خزيمة العبسية؛ ومنهم يزيد ومروان ومعاوية، درج، وأم كلثوم؛ وأمهم عاتكة ابنة يزيد بن معاوية بن معاوية بن أبي سفيان؛ ومنهم هشام، وأمه أم هشام بنت إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة المخزومية، واسمها عائشة؛ ومنهم أبو بكر، وهو بكار، أمه عائشة بنت موسى بن طلحة بن عبيد الله؛ ومنهم الحكم، درج، أمه أم أيوب بنت عمرو بن عثمان بن عفان؛ ومنهم فاطمة بنت عبد الملك، أمها أم المغيرة بنت المغيرة بن خالد بن العاص بن هشام بن المغيرة؛ ومنهم عبد الله ومسلمة والمنذر وعنبسة وحمد وسعيد الخير والحجاج لأمهات أولاد.
وكان له من النساء شقراء بنت مسلم بن حليس الطائي وأم أبيها ابنة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. وقيل: كان عنده ابنة لعلي بن أبي طالب، ولا يصح.
ذكر بعض أخبارهكان عبد الملك عاقلاً حازماً أديباً لبيباً عالماً.
قال أبو الزياد: كان فقهاء المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان. وقال الشعبي: ما ذاكرت أحداً إلا وجدت لي الفضل عليه إلا عبد الملك، فإني ما ذاكرته حديثاً إلا زادني فيه، ولا شعراً إلا زادني فيه وقال جعفر بن عقبة الخطائي: قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب. فقال: شيبني ارتقاء المنابر وخوف اللحن.
وقال عبد الملك: ما أعلم أحداً أقوى على هذا الأمر مني، إن ابن الزبير لطويل الصلاة، كثير الصيام، ولكن لبخله لا يصلح أن يكون سائساً.
قال أبو مسهر: قبل لعبد الملك في مرضه: كيف تجدك؟ قال: أجدني كما قال الله تعالى: " ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرةٍ وتركتم ما خولنا كم وراء ظهوركم " الأنعام:94 الآية، وقال المفضل بن فضالة عن أبيه: استأذن قوم على عبد الملك بن مروان وهو شديد المرض فدخلوا عليه وقد أسنده خصي إلى صدره، فقال لهم: إنكم دخلتم علي عند إقبال آخرتي وإدبار دنياي، وإني تذكرت أرجى عمل لي فوجدتها غزوة غزوتها في سبيل الله وأنا خلو من هذه الأشياء، فإياكم وإيا أبوابنا هذه الخبيثة أن تطيفوا بها. وقال سعيد بن عبد العزيز التنوخي: لما نزل بعبد الملك بن مروان الموت أمر بفتح باب قصره، فإذا قصار يقصر ثوباً فقال: يا ليتني كنت قصاراً! يا ليتني كنت قصاراً! مرتين. فقال سعيد بن عبد العزيز: الحمد الله الذي جعلهم يفزعون إلينا ولا نفزع إليهم.

وقال سعيد بن بشير: إن عبد الملك حين ثقل جعل يلوم نفسه ويضرب يده على رأسه وقال: وددت أني كنت أكتسب يوماً بيوم ما يقوتني وأشتغل بطاعة الله، فذكر ذلك لابن خازم، فقال: الحمد لله الذي جعلهم يتمنون عند الموت ما نحن فيه ولا نتمنى عند الموت ما هم فيه.
وقال مسعود بن خلف: قال عبد الملك بن مروان في مرضه: والله وددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنماً في جبالها وأني لم أك شيئاً.
وقال عمران بن موسى المؤدب: يروى أن عبد الملك بن مروان لما اشتد مرضه قال: ارفعوني على شرف. ففعل ذلك. فتنسم الروح ثم قال: يا دنيا ما أطيبك! إن طويلك لقصير، وإن كبيرك لحقير، وإن كنا منك لفي غرور! وتمثل بهذين البيتين:
إن تناقش يكن نقاشك يار ... ب عذاباً، لا طوق لي بالعذاب
أو تجعوز فأنت رب صفوح ... عن مسيء ذنوبه كالتراب
ويروى أن هذه الأبيات تمثل بها معاوية، ويحق لعبد الملك أن يحذر هذا الحذر ويخاف، فإن من يكن الحجاج بعض سيئاته يعلم على أي شيء يقدم عليه.
قال عبد الملك لسعيد بن المسيب: يا أبا محمد صرت أعمل الخير فلا أسر به، وأصنع الشر فلا أساء به. فقال: الآن تكامل فيك موت القلب.
وكان عبد الملك أول من غدر في الإسلام، وقد تقدم فعله بعمرو بن سعيد، وكان أول من نقل الديوان من الفارسية إلى العربية، وأول من نهى عن الكلام في حضرة الخلفاء، وكان الناس قبله يراجعونهم، وأول خليفة بخل، وكان يقال له رشح الحجارة لبخله، وأول من نهى عن المر بالمعروف، فإنه قال في خطبته بعد قتل ابن الزبير: ولا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه.
ذكر خلافة الوليد بن عبد الملكفلما دفن عبد الملك بن مروان انصرف الوليد عن قبره فدخل المسجد وصعد المنبر واجتمع إليه الناس فخطبهم وقال: إنا له وإنا إليه راجعون، والله المستعان على مصيبتنا لموت أمير المؤمنين، والحمد لله على ما أنعم علينا من الخلافة، قوموا فبايعوا.
وكان أول من عزى نفسه وهنأها؛ وكان أول من قام لبيعته عبد الله بن همام السولي وهو يقول:
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
فبايعه ثم قام الناس لبيعته.
وقد قيل: إن الوليد لما صعد المنبر حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس لا مقدم لما أخر الله، ولا مؤخر لما قدم، وهذا كان من قضاء الله وسابق علمه، وما كتب على أنبيائه وحملة عرشه الموت، وقد صار إلي منازل الأبرار ولي هذه الأمة بالذي يحق عليه لله في الشدة على المريب، واللين لأهل الحق والفضل، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام، وأعلامه، من حج البيت وغزو الثغور وشن الغارة على أعداء الله، فلم يكن عاجزاً ولا مفرطاً. أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإن الشيطان مع الفرد. أيها الناس من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه، ومن سكت مات بدائه. ثم نزل. وكان جباراً عنيداً.
ذكر ولاية قتيبة خراسان وما كان منه هذه السنةوفي هذه السنة قدم قتيبة خراسان أميراً عليها للحجاج، فقدمها والمفضل يعرض الجند للغزاة، فخطب قتيبة الناس وحثهم على الجهاد، ثم عرضهم وسار، وجعل بمرو على حربها إياس بن عبد الله بن عمرو، وعلى الخراج عثمان السعيدي.
فلما كان بالطالقان أتاه دهاقين بلخ وساروا معه، فقطع النهر، فتلقاه ملك الصغانيان بهدايا ومفاتيح من ذهب ودعاه إلى بلاده، فمضى معه، فسلمها إليه لأن ملك آخرون وسومان كان يسيء جواره.
ثم سار قتيبة منها إلى آخرون وسومان، وهما من طخارستان، فصالحه ملكهما على فدية أداها إليه فقلبها قتيبة قم انصرف إلى مرو واستخلف على الجند أخاه صالح بن مسلم، ففتح صالح بعد رجوع قتيبة كاشان وأورشت، وهي من فرغانة، وفتح أخشيكت، وهي مدينة فرغانة القديمة، وكان معه نصر بن سيار فأبلى يومئذٍ بلاءً حسناً.

وقيل: إن قيبة قدم خراسان سنة خمس وثمانين فعرض الجند فغزوا آخرون وشومان ثم رجع إلى مرو. وقيل: إنه أقام السنة ولم يقطع النهر لسبب بلخ فإن بعضها كان منتقصاً عليه فحاربهم؛ وكان ممن سبى امرأة برمك أبي خالد بن برمك لعبد الله: إني قد علقت منك، وحضرت عبد الله بن مسلم الوفاة فأوصى أن يلحق به ما في بطنها وردت إلى برمك. فذكر أن ولد عبد الله بن مسلم جاؤوا أيام المهدي حين قدم الري إلى خالد فادعوه. فقال لهم مسلم بن قتيبة: إنه لا بد لكم إن استلحقتموه ففعل من أن تزوجوه فتركوه. وكان برمك طبيباً.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم. وفيها حبس الحجاج يزيد بن المهلب وعزل حبيب بن المهلب عن كرمان وبعد الملك عن شرطته. وحج بالناس هشام بن إسماعيل المخزومي. وكان الأمير على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف.
وفي أيام عبد الملك مات أسيد بن ظهير الأنصاري.
أسيد بضم الهمزة. وظهير بضم الظاء المعجمة.
وفيها مات عمر بن أبي سلمة، وهو ابن أم سلمة. وفي أيامه مات علقمة بن وقاص الليثي، وله صحبة. وفي هذه السنة مات قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، وولد أول سنة من الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان على خاتم عبد الملك بن مروان، وكان فيهاً. وفي أيامه مات سعد بن زيد الأنصاري، وولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي أيامه مات سلمة ابن أبي أم سلمة ربيب النبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذه السنة مات عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي، وقيل سنة سبع وثمانين، شهد الحديبية وخيبر. وفي آخر أيامه مات الوليد بن عبادة بن الصامت الأنصاري، وولد في آخر زمن النبي.
وفي هذه السنة توفي لاحق بن حميد أبو مجلز السدوسي.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين

ذكر إمارة عمر بن عبد العزيز بالمدينة
وفي هذه السنة عزل الوليد هشام بن إسماعيل عن المدينة لسبع ليال خلون من ربيع الأول، وكانت إمارته عليها أربع سنين غير شهر أو نحوه، وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، فقدمها والياً في ربيع الأول، وثقله على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان، وجعل يدخل عليه الناس فيسلمون، فلما وصل الظهر دعا عشرةً من الفقهاء الذين في المدينة: عروة بن الزبير، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن زيد، فدخلوا عليه، فقال لهم: إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه وتكونون فيه أعواناً على الحق، ولا أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو بر أيمن حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلام فأحرج الله على من بلغه ذلك إلا بلغني. فخرجوا يجزونه خيراً وافترقوا.
وكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره أن يقف هشام بن إسماعيل للناس، وكان سيء الرأي فيه، وكان هشام بن إسماعيل يسيء جوار علي بن الحسين، فخافه هشام، فتقدم علي بن الحسين إلى خاصته ألا يعرض له أحد بكلمة، ومر به علي وقد وقف للناس ولم يعرض له، فناداه هشام: " الله أعلم حيث يجعل رسالته " الأنعام:124.
ذكر صلح قتيبة ونيزكولما صالح قتيبة ملك شومان كتب إلى نيزك طرخان صاحب باذغيس في إطلاق من عنده من أسراء المسلمين، وكتب إليه يتهدده، فخافه نيزك فأطلق الأسرى وبعث بهم إليه، وكتب إليه قتيبة مع سليم الناصح مولى عبيد الله بن أبي بكرة يدعوه إلى الصلح وإلى أن يؤمنه، وكتب إليه بحلف بالله لئن لم يقدم عليه ليغزونه ثم ليطلبنه حيث كان حتى يظفر به أو يموت دونه.
فقدم سليم بالكتاب، فقال له نيزك، وكان يستنصحه: يا سليم ما أظن عند صاحبك خيراً، كتب إلي كتاباً لا يكتب إلى مثلي. فقال له سليم: إنه رجل شديد في سلطانه، سهل إذا سوهل، صعب إذا عوسر، فلا يمنعك منه غلظة كتابه إليك، فأحسن حالك عنده. فقام نيزك مع سليم فصالحه أهل باذعيس على أن لا يدخلها قتيبة.
ذكر غزو الروم

قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم فقتل منهم عدداً كبيراً بسوسنة من ناحية المصيصة وفتح حصوناً. وقيل: إن الذي غزا في هذه السنة هشام بن عبد الملك ففتح حصن بولق وحصن الأخرم وحصن بولس وقمقم، وقتل من المتعربة نحواً من ألف مقاتل وسبى ذريتهم ونساءهم.
ذكر غزو قتيبة بيكندولما صالح قتيبة نيزك أقام إلى وقت الغزو فغزا بي كند سنة سبع وثمانين، وهي أدنى مدائن بخاري إلى النهر، فلما نزل بهم استنصروا السعد واستمدوا من حولهم، فأتوهم في جمع كثير وأخذوا الطرق على قتيبة، فلم ينفذ لقتيبة رسول ولم يصل إليه خبر شهرين، وأبطأ خبره على الحجاج فأشفق على الجند فأمر الناس بالدعاء لهم في المساجد وهم يقتلون كل يوم.
وكان لقتيبة عين من العجم يقال له تندر، فأعطاه أهل بخارى مالاً ليرد عنهم قتيبة، فأتاه فقال له سراً من الناس: إن الحجاج قد عزل وقد أتى عامل إلى خراسان فلو رجعت بالناس كان أصلح. فأمر به فقتل خوفاً من أن يظهر الخبر فيهلك الناس، ثم أمر أصحابه بالجد في القتال فقاتلهم قتالاً شديداً، فانهزم الكفار يريدون المدينة وتبعهم المسلمون قتلاً وأسراً كيف شاؤوا، وتحصن من دخل المدينة بها، فوضع قتيبة الفعلة ليهدم سورها، فسألوه الصلح وقتلوا العامل ومن معه، فرجع قتيبة فنقب سورهم فسقط، فسألوه الصلح فلم يقبل ودخلها عنوةً وقتل من كان بها من المقاتلة.
وكان فيمن أخذوا في المدينة رجل أعور هو الذي استجاش الترك على المسلمين، فقال لقتية: أنا أفدي نفسي بخمسة آلاف حريرة قيمتها ألف ألف. فاستشار قتيبة الناس فقالوا: هذه زيادة في الغنائم وما عسى أن يبلغ كيد هذا! قال: لا والله لا يروع بك مسلم أبداً! فأمر به فقتل.
وأصابوا فيها من الغنائم والسلاح وآنية الذهب والفضة ما لا يحصى، ولا أصابوا بخراسان مثله، فقوي المسلمون، وولي قسم الغنائم عبد الله بن وألان العدوي أحد بني نلكان، وكان قتيبة يسميه الأمين ابن الأمين، فإنه كان أميناً.
وكان من حديث أمانة أبيه أن مسلماً الباهلي أبا قتيبة قال لو ألان: إن عندي مالاً أحب أن أستودعكه ولا يعلم به أحد. قال وألان: ابعث به مع رجل تثق به إلى موضع كذا وكذا ومره إذا رأى في ذلك الموضع رجلاً أن يضع المال إلى موضع كذا وكذا فإذا رأيت رجلاً جالساً فخل البغل وانصرف. ففعل المولى ما أمره وأتى المكان، وكان وألان قد سبقه إليه وانتظر، وأبطأ عليه رسول مسلم فظن أنه قد بدا له البغل ورجع، فأخذ التغلبي البغل والمال ورجع إلى منزله، وظن مسلم أن المال قد أخذه وألان فلم يسأله حتى احتاج إليه، فلقيه فقال: مالي! فقال:ما قبضت شيئاً ولا لك عندي مال، فكان مسلم يشكوه إلى الناس، فشكاه يوماً والتغلبي جالس فخلا به التغلبي وسأله عن المال فأخبره، فانطلق به إلى منزله وسلم المال إليه وأخبره الخبر، فكان مسلم يأتي الناس والقبائل فيذكر لهم عذر وألان ويخبرهم الخبر.
قال: فلما فرغ قتيبة من فتح بيكند رجع إلى مرو.
ذكر عدة حوادثحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة. وكان على قضاء المدينة أبو بكر بن عمرو بن حزم. وكان على العراق وخراسان الحجاج، وكان خليفته على البصرة هذه السنة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الله بن أذينة، وكان على قضاء الكوفة أبو بكر بن موسى الأشعري.
وفيها مات عبيد الله بن عباس بالمدينة، وقيل باليمن، وكان أصغر من عبد الله بسنة وفيها مات مطرف بن عبد الله بن الشخير في طاعون الجارف بالبصرة. وفيها مات المقدام بن معدي كرب الكندي، له صحبة، وقيل مات سنة إحدى وتسعين. وفيها مات أمية بن عبد الله بن أسيد.
أيد بفتح لهمزة. الشخير بكسر الشين والخاء المعجمتين، وتشديد الخاء وبعدها ياء.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين

ذكر فتح طوانة من بلد الروم

في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك بلد الروم، وكان الوليد قد كتب إلى صاحب أرمينية يأمره أن يكتب إلى ملك الروم يعرفه أن الخزر وغيرهم من ملوك جبال أرمينية قد اجتمعوا على قصد بلاده، ففعل ذلك، وقطع الوليد البعث على أهل الشام إلى أرمينية وأكثر وأعظم جهازه، وساروا نحو الجزيرة قم عطفوا منها إلى بلد الروم فاقتتلوا هم والروم، فانهزم الروم ثم رجعوا فانهزم المسلمون، فبقي العباس في نفر منهم ابن محيريز الجمحي فقال العباس: أين أهل القرآن الذين يريدون الجنة؟ فقال ابن محيريز: نادهم يأتوك. فنادى العباس: يا أهل القرآن! فأقبلوا جميعاً، فهزم الله الروم حتى دخلوا طوانة، وحصرهم المسلمون وفتحوها في جمادى الأولى.
قيل: وفيها ولد الوليد بن يزيد بن عبد الملك.
ذكر عمارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلمقيل: وفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في ربيع الأول يأمره بإدخال حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يشتري ما في نواحيه حتى يكون مائتي ذراع في مائتي ذراع، ويقول له: قدم القبلة إن قدرت، وأنت تقدر لمكان أخوالك، وإنهم لا يخالفونك، فمن أبى منهم فقوموا ملكه قيمة عدل واهدم عليهم وادفع الأثمان إليهم، فإن لك في عمر وعثمان أسوة.
فأحضرهم عمر وأقرأهم الكتاب، فأجابوه إلى الثمن، فأعطاهم إياه، وأخذوا في هدم بيون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبنى المسجد، وقدم عليهم الفعلة من الشام، أرسلهم الوليد، وبعث الوليد إلى ملك الروم يعلمه أنه قد هدم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، ليعمره، فبعث إليه ملك الروم مائة ألف مثقال ذهب ومائة عامل وبعث إليه من الفسيفساء بأربعين جملاً، فبعث الوليد بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، وحضر عمر ومعه الناس فوضعوا أساسه وابتدأوا بعمارته.
قيل: وفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الروم أيضاً ففتح ثلاثة حصون: أحدها حصن قسطنطين وغزالة وحصن الأخرم، وقتل من المستعربة نحواً من ألف وأخذ الأموال.
ذكر غزو نومشكث ورامثنةقيل: وفي هذه السنة غزا قتيبة بن مسلم نومشكث واستخلف على مرو أخاه يسار بن مسلم، فتلقاه أهلها فصالحهم، ثم سار إلى رامثنة فصالحه أهلها وانصرف عنهم.
وزحف إليه الترك ومعهم الصغد وأهل فرغانة في مائتي ألف وملكهم كور نعابون ابن أخت ملك الصين، فاعترضوا المسلمين فلحقوا عبد الرحمن بن مسلم أخا قتيبة وهو على الساقة، وبينه وبين قتيبة وأوائل العسكر ميل، فلما قربوا منه أرسل إلى قتيبة بخيره، وأدركه الترك فقاتلوه، ورجع قتيبة فانتهى إلى عبد الرحمن وهو يقاتل الترك، وقد كاد الترك يظهرون، فلما رأى المسلمون قتيبة طابت نفوسهم وقاتلوا إلى الظهر، وأبلى يومئذٍ نيزك، وهو مع قتيبة، فانهزم الترك، ورجع قتيبة فقطع النهر عند ترمذ وأتى مرو.
ذكر ما عمل الوليد من المعروفوفي هذه السنة كتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز في تسهيل الثنايا وحفر الآبار وأمره أن يعمل الفوارة بالمدينة فعملها وأجرى ماءها، فلما حج الوليد ورآها أعجبته فأمر لها بقوام يقومون عليها، وأمر أهل المسجد أن يستقوا منها، وكتب إلى البلدان جميعها فإصلاح الطرق، وعمل الآبار، ومنع المجذمين من الخروج على الناس، وأجرى لهم الأرزاق.
ذكر عدة حوادثوحج الناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، ووثل جماعةً من قريش، وساق معه بدناً وأحرم من ذي الحيلفة، فلما كان بالتنعيم أخبر أن مكة قليلة الماء وأنهم يخافون على الحاج العطس، فقال عمر: تعالوا ندع الله تعالى، فدعا ودعا معه الناس، فما وصلوا البيت إلا مع المطر وسال الوادي، فخاف أهل مكة من شدته، ومطرت عرفة ومكة وكثر الخصب.
وقيل: إنما حج هذه السنة عمر بن الوليد بن عبد الملك.
وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفيها مات سهل بن سعد الساعدي، وقيل: بل سنة إحدى وتسعين، وله مائة سنة. وعبد الله بن بسر المازني من مازن بن منصور، وكان ممن صلى القبلتين، وهو آخر من مات بالشام من الصحابة.
بسر بضم الباء الموحدة، وبالسين المهملة.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين

ذكر غزو الروم

قيل: في هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك الروم فافتتح مسلمة حصن عمروية، وفتح العباس أذرولية، ولقي من الروم جمعاً فهزمهم.
وقيل: إن ملسمة قصد عمورية فلقي بها جمعاً من الروم كثيراً فهزمهم وافتتح هرقلة وقمونية، وغزظا العباس الصائفة من ناحية البذندون.
ذكر غزو قتيبة بخارىفي هذه السنة أتى قتيبة كتاب الحجاج يأمره بقصد وردان خذاه، فعبر النهر من زم، فلقي الصغد وأهل كش ونسف في طريق المفازة فقاتلوه، فظفر بهم ومضى إلى بخارى فنزل خرقانة السفلى عن يمين وردان، فلقوه في جمع كثير، فقاتلهم يومين وليلتين فظفر بهم، وغزا وردان خذاه ملك بخارى فلم يظفر بشيء، فرجع إلى مرو وكتب إلى الحجاج بخبره، فكتب إليه الحجاج أن صورها لي، فبعث إليه بصورتها، فكتب إليه الحجاج أن تب إلى الله، جل ثناؤه، مما كان منك وأتها من مكان كذا وكذا، وكتب إليه: أن كس بكش وانسف نسف ورد وردان، وإياك والتحويط، ودعنب من ثنيات الطريق.
وقيل: إنما كان فتح بخارى سنة تسعين، على ما نذكره.
ذكر ولاية خالد بن عبد الله القسري مكةقيل: وفي هذه السنة ولي خالد بن عبد الله القسري مكة، فخطب أهلها فقال: أيها الناس أيهما أعظم، خليفة الرجل على أهله أو رسوله إليهم؟ والله لو مل تعلموا فضل الخليفة إلا أن إبراهيم خليل الرحمن استسقاه فسقاه ملحاً أجاجاً واستسقاه الخليفة فسقاه عذباً فراتاً، يعني بالملح زمزم، وبالماء الفرات بئراً حفرها الوليد بثينة طوىً في ثنية الحجون وكان ماؤها عذباً وكان ينقل ماءها ويضعه في حوض إلى جنب زمزم ليعرف فضله على زمزم، فغارت البئر وذهب ماؤها فلا يدرى أين هو اليوم.
وقيل: وليها سنة إحدى وتسعين، وقيل: سنة أربع وتسعين، وقد ذكرناه هناك.
ذكر قتل ذاهر ملك السندفي هذه السنة قتل محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي، يجتمع هو والحجاج في الحكم، ذاهر بن صعصعة ملك السند وملك بلاده، وكان الحجاج بن يوسف استعمله على ذلك الثغر وسير معه ستة آلاف مقاتل وجهزه بكل ما يحتاج إليه حتى المسال والإبر والخيوط، فسار محمد إلى مكران فأقام بها أياماً ثم أتى قنزبور ففتحها، ثم سار إلى ارمائيل ففتحها، ثم سار إلى الديبل فقدمها يوم جمعة، ووافته سفن كان حمل فيها الرجال والسلاح والأداة فخندق حين نزل الديبل بد عظيم عليه دقل عظيم وعلى الدقل راية حمراء إذا هبت الريح أطافت بالمدينة، وكانت تدور، والبد صنم في بناء عظيم تحت منارة عظيمة مرتفعة، وفي رأس المنارة هذا الدقل، وكل ما يعبد فهو عندهم بد.
فحصرها وطال حصارها، فرمى الدقل بحجر العروس فكسره، فتطير الكفار بذلك، ثم إن محمد أتى وناهضهم وقد خرجوا إليه فهزمهم حتى ردهم إلى البلد وأمر بالسلاليم فنصبت وصعد عليها الرجال، وكان أولهم صعوداً رجل من مراد من أهل الكوفة، ففتحت عنوة وقتل فيها ثلاثة أيام وهرب عامل ذاهر عنها وأنزلها محمد أربعة آلاف من المسلمين وبنى جامعها وسار عنها إلى البيرون، وكان أهلها بعثوا إلى الحجاج فصالحوه، فلقوا محمداً بالميرة وأدخلوه مدينتهم، وسار عنها وجعل لا يمر بمدينة إلا فتحها حتى عبر نهراً دون مهران، فأتاه أهل سربيدس فصالحوه، ووظف عليهم الخراج وسار عنهم إلى سهبان ففتحها، ثم سار إلى نهر مهران فنزل في وسطه.
وبلغ خبره ذاهر فاستعد لمحاربته وبعث جيشاً إلى سدوستان، فطلب أهلها الأمان والصلح، فآمنهم ووظف عليهم الخراج، ثم عبر محمد مهران مما يلي بلاد راسل الملك على جسر عقده وذاهر مستخف به، فلقيه محمد والمسلمون وهو على فيل وحوله الفيلة، ومعه التكاكرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، وترجل ذاهر فقتل عند المساء ثم انهزم الكفار وقتلهم الملمون كيف شاؤوا، وقال قاتله:
الخيل تشهد يوم ذاهر والقنا ... ومحمد بن القاسم بن محمد
أني فرجت الجمع غير معردٍ ... حتى علوت عظيمهم بمهند
فتركته تحت العجاج مجندلاً ... متعفر الخدين غير موسد
فلما قتل ذاهر غلب محمد على بلاد السند وفتح مدينة راور عنوةً، وكان بها امرأة لذاهر فخافت أن تؤخذ فأحرقت نفسها وجواريها وجميع مالها.

ثم سار إلى برهمناباذ العتيقة، وهي على فرسخين من المنصورة، ولم تكن المنصورة يومئذٍ، كان موضعها غيضة، وكان المنهزمون من الكفار بها، فقاتلوه ففتحها محمد عنوةً وقتل بها بشراً كثيراً وخربت.
وسار يريد الرور وبغرور فلقيه أهل ساوندرى فطلبوا الأمان فأعطاهم إياه واشترط عليهم ضيافة المسلمين، ثم أسلم أهلها بعد ذلك. ثم تقدم إلى بسمد وصالح أهلها، ووصل إلى الرور، وهي من مدائن السند على جبل، فحصرهم شهوراً فصالحوه، وسار إلى السكة ففتحها، ثم قطع نهر بياس إلى الملتان فقاتله أهلها وانهزموا، فحصرهم محمد فجاءه إنسان ودله على قطع الماء الذي يدخل المدينة فقطعه، فعطشوا فألقوا بأيديهم ونزلوا على حكمه فقتل المقاتلة وسبى الذرية وسدنة البد، وهم ستة آلاف، وأصابوا ذهباً كثيراً، فجمع في بيت طوله عشرة أذرع وعرضه ثمانية أذرع يلقى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه من كوة في وسطه، فسميت الملتان فرج بيت الذهب، والفرج الثغر، وكان بد الملتان تهدى إليه الأموال ويحج من البلاد ويحلقون رؤوسهم ولحاهم عنده ويزعمون أن صنمه هو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم .
وعظمت فتوحه، ونظر الحجاج في النفقة على ذلك الثغر فكانت ستين ألف ألف درهم، ونظر في الذي حمل فكان مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، فقال: ربحنا ستين ألفاً وأدركنا ثأرنا ورأس ذاهر.
ثم مات الحجاج، ونذكر أمر محمد عند موت الحجاج إن شاء الله تعالى.
ذكر استعمال موسى بن نصير على إفريقيةفي هذه السنة استعمل الوليد بن عبد الملك موسى بن نصير على إفريقية، وكان نصير والده على حرس معاوية، فلما سار معاوية إلى صفين لم يسر معه، فقال له: ما يمنعك من المسير معي إلى قتل علي ويدي عنك معروفة؟ فقال: لا أشركك بكفر من هو أولى بالشكر منك، وهو الله، عز وجل . فسكت عنه معاوية.
فوصل موسى إلى إفريقية وبها صالح الذي استخلفه حسان على إفريقية، وكان البربر قد طمعوا في البلاد بعد مسير حسان، فلما وصل موسى عزل صالحاً وبلغه أن بأطراف البلاد قوماً خارجين عن الطاعة، فوجه إليه ابنه عبد الله فقاتلهم فظفر بهم، وسبى منهم ألف رأس وسيره في البحر إلى جزيرة ميورقة، فنهبها وغنم منها مالا يحصى وعاد سالماً، فوجه ابنه هارون إلى طائفة أخرى فظفر بهم وسبى منهم نحو ذلك وتوجه هو بنفسه إلى طائفة أخرى فغنم نحو ذلك، فبلغ الخمس ستين ألف رأس من السبي، ولم يذكر أحد أنه سمع بسبي أعظم من هذا.
ثم إن إفريقية قحطت واشتد بها الغلاء، فاستسقى بالناس وخطبهم ولم يذمر الوليد، وقيل له في ذلك، فقال: هذا مقام لا يدعى فيه لأحد ولا يذكر إلا الله، عز وجل، فسقى الناس ورخصت الأسعار، ثم خرج غازياً إلى طنجة يريد من بقي من البربر، وقد هربوا خوفاً منه، فتبعهم وقتلهم قتلاً ذريعاً حتى بلغ السوس الأدنى لا يدافعه أحد، فاستأمن البربر إليه وأطاعوه، واستعمل على طنجة مولاه طارق بن زياد، ويقال: إنه صدفي. وجعل معه جيشاً كثيفاً جلهم من البربر، وجعل معهم من يعلمهم القرآن والفرائض، وعاد إلى إفريقية. فمر بقلعة مجانة فتحصن أهلها منه وترك عليها من يحاصرها مع بشر بن فلان، ففتحها، فسميت قلعة بشر إلى الآن، وحينئذٍ لم يبق له في إفريقية من ينازعه.
وقيل: كانت ولاية موسى سنة ثمان وسبعين، استعمله عليها عبد العزيز بن مروان، وهو حينئذٍ على مصر لأخيه عبد الملك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك الترك من ناحية أذربيجان ففتح حصوناً ومدائن هناك. وحج بالناس عمر بن عبد العزيز، وكان العمال من تقدم ذكرهم.
وفي هذه السنة مات عبد الله بن ثعلبة بن صغير العذري حليف بني زهرة، وكان مولده قبل الهجرة بأربع سنين، وقيل: ولد سنة ست من الهجرة.
صعير بضم الصاد، وفتح العين المهملتين.
وفيها مات ظليم مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح بإفريقية.
ظليم بفتح الظاء المعجمة، وكسر اللام.
ثم دخلت سنة تسعين

ذكر فتح بخارى

قد ذكرنا ورود كتاب الحجاج إلى قتيبة بأمره بالتوبة عن انصرافه عن وردان خذاه ملك بخارى ويعرفه الموضع الذي يأتي بلده منه، فلما ورد الكتاب على قتيبة خرج غازياً إلى بخارى سنة تسعين، فاستجاش وردان خذاه بالصغد والترك من حوله فأتوه، وقد سبق إليها قتيبة فحصرها، فلما جاءتهم أمدادهم خرجوا إلى المسلمين يقاتلونهم، فقالت الأزد: اجعلونا ناحيةً وخلوا بيننا وبين قتلاهم. فقال قتيبة: تقدموا وقاتلوهم قتالاً شديداً، ثم إن الأزد انهزموا حتى دخلوا العسكر وركبهم المشركون فحطموهم حتى أدخلوهم عسكرهم وجازوه حتى ضرب النساء وجوه الخيل وبكين، فكروا راجعين، فانطوت مجنبتا المسلمين على الترك فقاتلوهم حتى ردوهم إلى مواقفهم، فوقف الترك على نشز، فقال قتيبة: من يزيلهم عن هذا الموضع؟ فلم يقدم عليهم أحد من العرب، فأتى بني تميم فقال لهم: يوم كأيامكم، فأخذ وكيع اللواء وقال: يا بني تميم أتسلمونني اليوم؟ قالوا: لا يا أبا مطرف.
وكان هريم بن أبي طحمة على خيل تميم، ووكيع رأسهم، فقال وكيع: يا هريم قدم خيلك. ودفع إليه الراية، فتقدم هريم وتقدم وكيع في الرجالة، فانتهى هريم إلى نهر بينهم وبين الترك، فوقف فقال وكيع: تقدم يا هريم، فنظر هريم نظر الجمل الهائج الصائل وقال: أأقحم الخيل هذا النهر؟ فإن انكشفت كان هلاكها يا أحمق. فقال وكيع: يا بن اللخناء ترد أمير! فحذفه بعمود كان معه، فعبر هريم في الخيل، وانتهى وكيع إلى النهر فعمل عليه جسراً من خشب وقال لأصحابه: من وطن نفسه على الموت فليعبر وإلا فليثبت مكانه. فما عبر معه إلا ثمانمائة رجل، فلما عبر بهم ودنا من العدو قال لهريم: غني مطاعنهم فاشغلهم عنا بالخيل، فحمل عليهم حتى خالطهم، وحمل هريم في الخيل فطاعنوهم، ولم يزالوا يقاتلونهم حتى حدروهم من التل، ونادى قتيبة: ما ترون العدو منهزمين؟ فلم يعبر أحد النهر حتى انهزموا، وعبر الناس، ونادى قتيبة: من أتى برأس فله مائة، فأتي برؤوس كثيرة، فجاء يومئذٍ أحد عشر رجلاً من بني قريع كل رجل برأس، فيال له: من أنت؟ فيقول: قريعي. فجاء رجل من الأزد برأس، فيل له: من أنت؟ فقال: قريعي، فعرفه جهم بن زحر، فقال: كذب، والله إنه أزدي. فقال له قتيبة: ما دعاك إلى هذا؟ فقال: رأيت كل من جاء يقول قريعي فظننت أنه ينبغي لكل من جاء برأس يقوله. فضحك قتيبة.
وجرح خاقان وابنه، وفتح الله عليهم، وكتب قتيبة بالفتح إلى الحجاج.
ذكر صلح قتيبة مع الصغدلما أوقع قتيبة بأهل بخارى هابه الصغد فرجع طرخون ملكهم ومعه فارسان، فدنا من عسكر قتيبة فطلب رجلاً يكلمه، فأرسل إليه قتيبة حيان النبطي، فطلب الصلح على فدية يؤديها إليهم، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وصالح، ورجع طرخون إلى بلاده ورجع قتيبة ومعه نيزك.
حيان بالحاء المهملة، والياء المشددة تحتها نقطتان، وآخره نون.
ذكر غدر نيزك وفتح الطالقانقيل: لما رجع قتيبة من بخارى ومعه نيزك وقد خاف لما يرى من الفتوح فقال لأصحابه: أنامع هذا ولست آمنه فلو استأذنته ورجعت كان الرأي. قالوا: افعل. فاستأذن قتيبة فأذن له وهو بآمل، فرجع يريد طخارستان وأسرع السير حتى أتى النوبهار فنزل يصلي فيه ويتبرك به، وقال لأصحابه: لا أشك أن قتيبة قد ندم على إذنه لي وسيبعث إلى المغيرة بن عبد الله يأمره بحبسي.
وندم قتيبة على إذنه له فأرسل إلى المغيرة يأمره بحبس نيزك، وسار نيزك وتبعه المغيرة فوجده قد دخل شعب خلم، فرجع المغيرة، وأظهر نيزك الخلع وكتب إلى أصبهبذ بلخ وإلى باذان ملك مرو الوذ وإلى ملك الكالقان وإلى ملك الفارياب وإلى ملك الجوزجان أن يدعوهم إلى خلع قتيبة، فأجابوه، فواعدهم الربيع أن يجتمعوا ويغزو قتيبة، وكتب إلى كابل شاه يستظهر به وبعث إليه بثقله وماله وسأله أن يأذن له إن اضطر إليه أن يأتيه، فأجابه إلى ذلك.
وكان جبغويه ملك طخارستان ضعيفاً، فأخذه نيزك فقيده بقيد من ذهب لئلا يخالف عليه، وكان جبغويه هو الملك، ونيزك عبده، فاستوثق منه وأخرج عامل قتيبة من بلاد جبغويه. وبلغ قتيبة خلعه قبل الشتاء وقد تفرق الجند، فبعث أخاه عبد الرحمن بن مسلم في اثني عشر ألفاً إلى البورقان، وقال: أقم بها ولا تحدث شيئاً، فإذا انقضى الشتاء سر نحو طخارستان، واعلم أني قريب منك.

فسار، فلما كان آخر الشتاء كتب قتيبة إلى نيسابور وغيرها من البلاد ليقدم عليه الجنود، فقدموا قبل أوانهم، فسار نحو الطالقان، وكان ملكها قد خلع وطابق نيزك على الخلع، فاتاه قتيبة فأوقع بأهل الطالقان فقتل من أهلها مقتلةً عظيمةً وصلب منهم سماطين أربعة فراسخ في نظام واحد، ثم انقضت السنة قبل محاربة نيزك، وسنذكر تمام خبره سنة إحدى وتسعين إن شاء الله.
ذكر هرب يزيد بن المهلب

وإخوته من سجن الحجاج
قيل: وفي هذه السنة هرب يزيد بن المهلب وإخوته الذين كانوا معه في سجن الحجاج، وكان الحجاج قد خرج إلى رستقاباذ للبعث لأن الأكراد كانوا قد غلبوا على فارس، وخرج معه يزيد بن المهلب وإخوته عبد الملك والمفضل في عسكره، وجعل عليهم كهيئة الخندق، وجعلهم في فسطاط قريب منه، وجعل عليهم الحرس من أهل الشام، وطلب منهم ستة آلاف ألف، وأخذ يعذبهم، فكان يزيد يصبر صبراً حسناً، وكان ذلك مما يغيظ الحجاج منه. فقيل للحجاج إنه رمي في ساقه بنشابة فثبت نصلها فيه فهو لا يمسها إلا صاح، فأمر أن يعذب في ساقه، فلما فعلوا به ذلك صاح، وأخته هند بنت المهلب عند الحجاج. فلما سمعت صوته صاحت وناحت، فطلقها الحجاج، ثم إنه كف عنهم وأقبل يستأديهم وهم يعملون في التخلص، فبعثوا إلى أخيهم مروان، وكان بالبصرة، أن يضمن لهم خيلاً ويري الناس أنه يريد بيعها لتكون عدة. ففعل ذلك، وكان أخوه حبيب يعذب بالبصرة أيضاً.
فصنع يزيد للحرس طعاماً كثيراً وأمر لهم بشراب، فسقوا واشتغلوا به، ولبس يزيد ثياب طباخه وخرج وقد جعل له لحيةً بيضاء، فرآه بعض الحرس فقال: كانت هذه مشية يزيد، فجاء إليه فرأى لحيته بيضاء في الليل، فتركه وعاد، فخرج المفضل ولم يفطن له، فجاؤوا إلى سفن معدة فركبوها، يزيد والمفضل وعبد الملك، وساروا ليلتهم حتى أصبحوا، فلما أصبحوا علم بهم الحرس فرفعوا خبرهم إلى الحجاج، ففزع وظن أنهم يفسدون خراسان لفتنوا بها، فبعث البريد إلى قتيبة بخبرهم ويأمره بالحذر.
ولما دنا يزيد من البطائح استقبلته الخيل فخرجوا عليها ومعهم دليل من كلب، فاخذوا طريق الشام على طريق السماوة، وأتى الحجاج بعد يومين فقيل له: إنهم أخذوا طريق الشام، فبعث إلى الوليد بن عبد الملك يعلمه.
ثم سار يزيد فقدم فلسطين فنزل على وهيب بن عبد الرحمن الأزدي، وكان كريماً على سليمان بن عبد الملك، فجاء وهيب إلى سليمان فأعلمه بحال يزيد وإخوته وأنهم قد استعاذوا به من الحجاج، قال: فأتني بهم فهم آمنون لا يوصل إليهم أبد وأنا حي. فجاء بهم إليه، وكانوا في مكان آمن.
وكتب الحجاج إلى الوليد: إن آل المهلب خانوا أمان الله وهربوا مني ولحقوا بسليمان. وكان الوليد قد حذرهم وظن أنهم يأتون خراسان للفتنة بها، فلما علم أنهم عند أخيه سليمان سكن بعض ما به وطار غضباً للمال الذي ذهب به، فكتب سليمان إلى الوليد: إن يزيد عندي وقد آمنته، وإنما عليه ثلاثة آلاف ألف لأن الحجاج أغرمه ستة آلاف ألف فأدى ثلاثة آلاف ألف، والذي بقي عليه أنا أؤديه. فكتب الوليد: والله لا أؤمنه حتى تبعث به إلي. فكتب : لئن أنا بعثت به إليك لاجئين معه. فكتب الوليد: والله لئن جئتني لا أؤمنه. فقال يزيد: أرسلني إليه فوالله ما أحب أن أوقع بينه وبينك عداوةً ولا أن يتشأم الناس بي لكما، واكتب معي بألطف ما قدرت عليه.
فأرسله وأرسل معه ابنه أيوب، وكان الوليد قد أمره أن يبعث به مقيداً. فقال سليمان لابنه: إذا دخلت على أمير المؤمنين فادخل أنت ويزيد في سلسلة. ففعل ذلك. فلما رأى الوليد ابن أخيه في سلسلة قال: لقد بلغنا من سليمان. ودفع أيوب كتاب أبيه إلى عمه وقال له: يا أمير المؤمنين نفسي فداؤك لا تخفر ذمة أبي وأنت أحق من منعها، ولا تقطع ما رجاء من رجا السلامة في جوارنا لمكاننا منك، ولا تذل من رجا العز في الانقطاع إلينا لعز بابك.
فقرأ الوليد كتاب سليمان فإذا هو يستعطفه ويشفع إليه ويضمن إيصال المال، فلما قرأ المتاب قال: لقد شققنا على سليمان. وتكلم يزيد واعتذر، فآمنه الوليد، فرجع إلى سليمان، وكتب الوليد إلى الحجاج: إني لم أصل إلى يزيد وأهله مع سليمان، فاكفف عنهم فكف عنهم.
وكان أبو عيينة بن المهلب عند الحجاج عليه ألف ألف فتركها وكف عن حبيب بن المهلب.

وأقام يزيد بن المهلب عند سليمان يهدي إليه الهدايا ويصنع له الأطعمة، وكان لا يأتي يزيد هيدة إلا بعث بها إلى سليمان، ولا يأتي سليمان هدية إلا بعث بنصفها إلى يزيد، وكان لا تعجبه جارية إلا بعث بها إلى يزيد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح الحصون الخمسة التي بسورية، وغزا عباس بن الوليد حتى بلغ أرزن وبلغ سورية. وفيها استعمل الوليد بن عبد الملك قرة بن شريك على مصر وعزل أخاه عبد الله بن عبد الملك. وفيها أسرت الروم خالد بن كيسان صاحب البحر، فأهداه ملكهم إلى الوليد.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز، وكان أميراً على مكة والمدينة والطائف. وكان على العراق والمشرق كله الحجاج بن يوسف، وعامله على البصرة الجراح بن عبد الله الحكمي، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة، وعلى خراسان قتيبة بن مسلم، وعلى مصر قرة بن شريك.
وفيها مات أنس بن مالك الأنصاري، وقيل: سنة اثنتين وتسعين، وقيل: ثلاث وتسعين، وكان عمره ستاً وتسعين سنة، وقيل: مائة وست سنين، وقيل: وسبع، وقيل وثلاث. وفيها مات أبو العالية الرياحي في شوال. وفيها توفي نصر بن عاصم الليثي النحوي، وأخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي، وقيل: مات سنة تسعين.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين

ذكر تتمة خبر قتيبة مع نيزك
قد ذكرنا مسير قتيبة إلى نيزك وما جرى له بالطالقان وقتل بها، فلما فتح الطالقان استعمل أخاه عمر بن مسلم، وقيل: إن ملكها لم يحارب قتيبة فكف عنه، وكان بها لصوص فتلهم قتيبة وصلبهم، ثم سار قتيبة إلى الفارياب فخرج إليه ملكها مقراً مذعناً، فقبل منه ولم يقتل بها أحداً واستعمل عليها رجلاً من أهله.
وبلغ ملك الجوزجان خبرهم فهرب إلى الجبال، وسار قتيبة إلى الجوزجان، فلقيه أهلها سامعين مطيعين، فقبل منهم ولم يقتل بها أحداً، واستعمل عليها عامر بن مالك الحماني.
ثم أتى بلخ فلقيه أهلها فلم يقم بها إلا يوماً واحداً وسار يتبع أخاه عبد الرحمن إلى شعب خلم ومضى نيزك إلى بغلان وخلف مقاتلة على فم الشعب ومضايقه ليمنعوه، ووضع مقاتلته في قلعة حصينة من وراء الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب. فأقام قتيبة أياماً يقاتلهم على مضيق الشعب لا يقدر على دخوله ولا يعرف طريقاً يسلكه إلى نيزك إلا الشعب أو مفازة لا تحتملها العساكر، فبقي متحيراً، فقدم إنسان فاستأمنه على أن يدله على مدخل القلعة التي من وراء الشعب، فآمنه قتيبة وبعث معه رجالاً فانتهى بهم إلى القلعة من وراء شعب خلم، فطرقوهم وهم آمنون فقتلوهم، وهرب من بقي منهم ومن كان في الشعب، فدخل قتيبة الشعب فأتى القلعة ومضى إلى سمنجان فأقام بها أياماً ثم سار إلى نيزك وقدم أخاه عبد الرحمن.
فارتحل نيزك من منزله فقطع وادي فرغانة ووجه ثقله وأمواله إلى كابل شاه ومضى حتى نزل الكرز وعبد الرحمن يتبعه، فنزل عبد الرحمن حذاء الكرز، ونزل قتيبة بمنزل بينه وبين عبد الرحمن فرسخان، فتحصن نيزك في الكرز وليس إليه مسلك إلا من وجه واحد وهو صعب لا تطيقه الدواب، فحصره قتيبة شهرين حتى قل ما في يد نيزك من الطعام وأصابهم الجدري وجدر جبغويه.
وخاف قتيبة الشتاء فدعا سليماً الناصح فقال: انطلق إلى نيزك واحتل لتأتيني به بغير أمان، فإن احتال وأبى فآمنه، واعلم أني إن عاينتك وليس هو معك صلبتك. قال: فاكتب إلى عبد الرحمن لا يخالفني، فكتب إليه، فقدم عليه، فقال له: ابعث رجالاً ليكونوا على فم الشعب، فإذا خرجت أنا ونيزك فليعطفوا من ورائنا فيحولوا بيننا وبين الشعب. فبعث عبد الرحمن خيلاً، فكانت هناك، وحمل سليم مع أطعمة وأخبصة أوقاراً وأتى نيزك فقال له: إنك أسأت إلى قتيبة وغردت. قال نيزك: فما الرأي؟ قال: أرى أن تأتيه فإنه ليس ببارح، وقد عزم على أن يشتو مكانه هلك أو سلم. قال نيزك: فكيف آتيه على غير أمان؟ قال: ما أظنه يؤمنك لما في نفسه عليك لأنك قد ملأته غيظاً، ولكني أرى أن لا يعلم بك حتى تضع يدك في يده، فإني أرجو أن يستحي ويعفو عنك، قال: إني أرى نفسي تأبى هذا وهو إن رآني قتلني. فقال سليم: ما أتيتك إلا لأشير عليك بهذا، ولو فعلت لرجوت أن تسلم وعود حالك عنده، فإذا أبيت فإني منصرف.

وقدم سليم الطعام الذي معه، ولا عهد لهم بمثله، فانتهبه أصحاب نيزك، فساءه ذلك، فقال له سليم: إني لك من الناصحين، أرى أصحابك قد جهدوا وإن طال بهم لحصار لم آمنهم أن يستأمنوا بك فأت قتيبة. فقال: لا آمنه على نفسي ولا آتيه إلا بأمان، وإن ظني أن يقتلني وإن آمنني، ولكن الأمان أعذر إلي. فقال سليم: قد آمنك، أفتتهمني؟ قال: لا. وقال له أصحابه: اقبل قول سليم فلا يقول إلا حقاً.
فخرج معه ومع جبغويه وصول طرخان، خليفة جبغويه، وحبس طرخان صاحب شرطته وشقران ابن أخي نيزك، فلما خرجوا من الشعب عطفت الخيل التي خلفها سليم فحالوا بين الأتراك أصحاب نيزك والخروج، فقال نيزك: هذا أول الغدر. قال سليم: تخلف هؤلاء عنك خير لك. وأقبل سليم ونيزك ومن معه حتى دخلوا إلى قتيبة فحبسهم وكتب إلى الحجاج يستأذنه في قتل نيزك. واستخرج قتيبة ما كان في الكرز من متناع ومن كان فيه، فقدم به على قتيبة. فانتظر بهم كتاب الحجاج، فاتاه كتاب الحجاج بعد أربعين يوماً يأمره بقتل نيزك، فدعا قتيبة الناس واستشارهم في قتله، واخلفوا، فقال ضرار بن حصين: إني سمعتك تقول: أعطيت الله عهداً إن أمكنك منه أن تقتله فإن لم تفعل فلا ينصرك الله عليه أبداً.
فدعا نيزك فضرب رقبته بيده وأمر بقتل صول وابن أخي نيزك، وقتل من أصحابه سبعمائة، وقيل: اثني عشر ألفاً، وصلب نيزك وابن أخيه، وبعث برأسه إلى الحجاج، وقال نهار بن توسعة في قتل نيزك:
لعمري نعمت غزوة الجند غزوةً ... قضت نحبها من نيزكٍ وتعلت
وأخذ الزنير مولى عباس الباهلي حقاً لنيزك فيه جوهر، وكان أكثر من في بلاده مالاً وعقاراً من ذلك الجوهر، وأطلق قتيبة جبغويه ومن عليه وبعث به إلى الوليد، فلم يزل بالشام حتى مات الوليد.
كان الناس يقولون: غدر قتيبة بنيزك، فقال بعضهم:
فلا تحسبن الغدر حرماً فربما ... ترقت بك الأقدام يوماً فزلت
فلما قتل قتيبة نيزك رجع إلى مرو، وأرسل ملك الجوزجان يطلب الأمان، فآمنه على أن يأتيه، فطلب رهناً ويعطي رهائن، فأعطاه قتيبة حبيب بن عبد الله بن حبيب الباهلي، وأعطى ملك الجوزجان رهائن من أهل بيته، وقدم على قتيبة فصالحه، ثم رجع فمات بالطالقان، فقال أهل الجوزجان: إنهم سموه، فقتلوا حبيباً، وقتل قتيبة الرهائن الذين كانوا عنده.
ذكر غزو شومان وكش ونسفوفي هذه السنة سار قتيبة إلى شومان فحصرها.
وكان سبب ذلك أن ملكها طرد عامل قتيبة من عنده فأرسل إليه قتيبة رسولين، أحدهما من العرب اسمه عياش، والآخر من أهل خراسان، يدعوان ملك شومان أن يؤدي ما كان صالح عليه. فقدما شومان، فخرج أهلها إليهما فرموهما، فانصرف الخراساني وقاتلهم عياش فقتلوه، ووجدوا به ستين جراحة.
وبلغ قتله قتيبة فسار إليهم بنفسه، فلما أتاها أرسل صالح بن مسلم أخو قتيبة إلى ملكها، وكان صديقاً له، يأمره بالطاعة ويضمن له رضا قتيبة إن رجع إلى الصلح. فأبى وقال لرسول صالح: أتخوفني من قتيبة وأنا أمنع الملوك حصناً؟ فأتاه قتيبة وقد تحصن ببلده فوضع عليه المجانيق، ورمى الحصن من مال وجوهر ورمى به في بئر بالقلعة لا يدرك قعرها ثم فتح القلعة وخرج إليهم فقاتلهم حتى قتل، وأخذ قتيبة القلعة عنوةً فقتل المقاتلة وسبى الذرية.
ثم سار إلى كش ونسف ففتحهما. وامتنعت عليه فارياب فأحرقها، فسميت المحترقة، وسير من كش ونسف أخاه عبد الرحمن إلى الصغد، وملكها طرخون، فقبض عبد الرحمن من طرخون ما كان صالحه عليه قتيبة ودفع إليه رهناً كانوا معه، ورجع إلى قتيبة ببخارى وكان قد سار إليها من كش ونسف، فرجعوا إلى مرو. ولما كان قتيبة ببخارى ملك بخاراخذاه، وكان غلاماً حدثاً، وقتل من يخاف أن يضاده.
وقيل: إن قتيبة سار بنفسه إلى الصغد، فلما رجع عنهم قالت الصغد لطرخون: إنك قد رضيت بالذل واستطبت الجزية وأنت شيخ كبير، فلا حاجة لنما فيك، فحبسوه وولوا غوزك، فقتل طرخون نفسه.
ذكر عدة حوادث

قيل: في هذه السنة استعمل الوليد خالد بن عبد الله القسري على مكة، فلم يزل والياً عليها حتى مات الوليد، وكان قد تقدم سنة تسع وثمانين ذكره أيضاً، فلما ولي مكة خطبهم وعظم أمر الخلافة وحثهم على الطاعة، فقال: لو أني أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها منه، فعليكم بالطاعة ولزوم الجماعة، فإني والله لا أوتى بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم، إني لا أرى فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاءه. واشتد عليهم.
وحج بالناس هذه السنة الوليد بن عبد الملك، فلما دخل المدينة غدا إلى المسجد ينظر إلى بنائه، وأخرج الناس منه ولم يبق غير سعيد بن المسيب لم يجرؤ أحد من الحرس أن يخرجه، فقيل له: لو قمت. قال: لا أقوم حتى يأتي الوقت الذي كنت أقوم فيه. فقيل: لو سلمت على أمير المؤمنين. قال: والله لا أقوم إليه. قال عمر بن عبد العزيز: فجعلت أعدل بالوليد في ناحية المسجد لئلا يراه، فالتفت الوليد إلى القبلة فقال: من ذلك الشيخ؟ أهو سعيد؟ قال عمر: نعم، ومن حاله كذا وكذا، فلو علم بمكانك لقام فسلم عليك، وهو ضعيف البصر. قال الوليد: قد علمت حاله ونحن نأتيه. فدار في المسجد حتى أتاه فقال: كيف أنت أيها الشيخ؟ فوالله ما تحرك سعيد بل قال: بخير والحمد الله، فكيف أمير المؤمنين وكف حاله؟ فانصرف وهو يقول لعمر: هذا بقية الناس! وقسم بالمدينة دقيقاً كثيراً وآنيةً من ذهب وفضة وأموالاً، وصلى بالمدينة الجمعة فخطب الخطبة الأولى جالساً ثم قام فخطب الخطبة الثانية قائماً. قال إسحاق بن يحيى: فقلت لرجاء بن حيوة وهو معه: أهكذا تصنعون؟ قال: نعم، مكرراً، وهكذا صنع معاوية وهلم جراً. قال فقلت له: هلا تكلمه؟ قال: أخبرني قبيصة بن ذؤيب أنه كلم عبد الملك ولم يترك القعود، وقال: هكذا خطب عثمان. قال فقلت: والله ما خطب إلا قائماً. قال رجاء: روي لهم شيء فاقتدوا به. قال إسحاق: ولم نر منهم أشد تجبراً منه.
وكان العمال على البلاد من تقدم ذكرهم غير مكة، فإن خالداً كان عاملها، وقيل: إن عاملها هذه السنة كان عمر بن عبد العزيز بن مروان. وفي هذه السنة غزا عبد العزيز بن الوليد الصائفة، وكان على ذلك الجيش مسلمة بن عبد الملك، وفيها عزل الوليد عمه محمد بن مروان عن الجزيرة وأرمينية واستعمل عليها أخاه مسلمة بن عبد الملك، فغزا مسلمة الترك من ناحية أذربيجان حتى بلغ البال، وفتح مدائن وحصوناً ونصب عليها المجانيق.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعينفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم.
ذكر فتح الأندلسوفيها غزا طارق بن زياد مولى موسى بن نصير الأندلس في اثني عشر ألفاً، فلقي ملك الأندلس، واسمه اذرينوق، وكان من أهل أصبهان، وهم ملوك عجم الأندلس، فزحف له طارق بجميع من معه، وزحف الأذرينوق وفتح الأندلس سنة اثنتين وتسعين.
هذا جميعه ذكره أبو جعفر في فتح الأندلس، وبمثل ذلك الإقليم العظيم والفتح المبين لا يقتصر فيه على هذا القدر، وأنا أذكر فتحها على وجه أتم من هذا إن شاء الله تعالى من تصانيف أهلها إذ هم أعلم ببلادهم.
قالوا: أول من سكنها قوم يعرفون بالأندلش، بشين معجمه، فسمي البلد بهم، ثم عرب بعد ذلك بسين مهملة، والنصارى يسمون الأندلس اشبانية باسم رجل صلب فيها يقال له اشبانس، وقيل: باسم ملك كان بها في الزمان الأول اسمه إشبان بن طيطس، وهذا هو اسمها عند بطلميوس. وقيل: سميت بأندلس بن يافث بن نوح وهو أول من عمرها، قيل: أول من سكن الأندلس بعد الطوفان قوم يعرفون بالأندلس فعمروها وتداولوا ملكها دهراً طويلاً وكانوا مجوساً، ثم حبس الله عنهم المطر وتوالى عليهم القحط فهلك أكثرهم وفر منها من أطاق الفرار، فخلت الأندلس مائة سنة ثم ابتعث الله لعمارتها الأفارقة، فدخل إليها قوم منهم أجلاهم ملك إفريقية تخففاً منهم لقحط توالى على بلاده حتى كاد يفنى أهلها، فحملها في السفن مع أمير من عنده فأرسوا بجزيرة قاس، ورأوا الأندلس قد أخصبت بلادها وجرت أنهارها فسكنوها وعمروها ونصبوا لهم ملوكاً يضبطون أمرهم، وهم على دين من قبلهم، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب من أرض إشبيلية بنوها وسكنوها وأقاموا مدة تزيد على مائة وخمسين سنة، ملك منهم فيها أحد عشر ملكاً.

ثم أرسل الله عليهم عجم رومة، وملكهم إشبان بن طيطس، فغزاهم ومزقهم وقتل فيهم وحاصرهم بطالقة وقد تحصنوا فيها فابتنى عليهم إشبانية، وهي إشبيلية، واتخذها درا مملكته، وكثرت جموعه وعتا وتجبر، وغزا بين المقدس فغنم ما فيه وقتل فيه مائة ألف، ونقل المرمر منه إلى إشبيلية وغيرها، وغنم أيضاً مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي التي غنمها طارق من طيطلة لما افتتحها، وغنم أيضاً قليلة الذهب والحجر الذي لقي بماردة.
وكان هذا إشبان قد وقف عليه الخضر وهو يحرث الأرض فقال له: يا إشبان سوف تحظى وتملك وتعلو، فإذا ملكت إيلياء فارفق بذرية الأنبياء. فقال: أتسخر مني؟ كيف ينال مثلي الملك؟ فقال: قد جعله فيك من جعل عصاك هذه كما ترى. فنظر إليه فإذا هي قد أورقت، فارتاع وذهب عنه الخضر، وقد وثق إشبان بقوله، فداخل الناس فارتقى حتى ملك ملكاً عظيماً، وكان ملكه عشرين سنة، ودام ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم خمسة وخمسون ملكاً.
ثم دخل عليهم من عجم رومة أمة يدعون البشنوليات، وملكهم طويش بن نيطة، وذلك حين بعث الله المسيح فغلبوا عليها واسترلوا على ملكها، وكانت مدينة ماردة دار مملكتهم، وملك منهم سبعة وعشرون ملكاً.
ثم دخلت عليهم أمة القوط مع ملك لهم فغلبوا على الأندلس فاقتطعوها من يومئذٍ عن صاحب رومة، وكان ابتداء ظهورهم من ناحية إيطالية شرق الأندلس، فأغارت على بلاد مدونية من تلك الناحية، وذلك في أيام قليوذيوس قيصر، ثالث القياصرة، فخرج إليهم وهزمهم وقتل فيهم ولم يظهروا بعدها إلى أيام قسطنطين الأكبر وأعادوا الغارة، فسير إليهم جيشاً فلم يثبتوا له وانقطع خبرهم إلى ثلث دولة قيصر، فإنهم قدموا على أنفسهم أمير اسمه لذريق، وكان يعبد الأوثان، فسار إلى رومة ليحمل النصارى على السجود لأوثانه، فظهر منه سوء سيرته، فتخاذل أصحابه عنه ومالوا إلى أخيه وحاربوه، فاستعان بصاحب رومة فبعث إليه جيشاً، فهزم أخاه، ودان بدين النصارى، وكانت ولايته ثلاث عشرة سنة، ثم ولي بعده اقريط، وبعده املريق، وبعده وغديش، وكانوا قد عادوا إلى عبادة الأوثان، فجمع من أصحابه مائة ألف وسار إلى رومة، فسير إليه ملك الروم جيشاً فهزموه وقتلوه.
ثم بعده اطلوف ست سنين وخرج عن بلد إيطالية وأقام ببلد غاليس مجاوراً أقصى الأندلس، ثم انتقل منها إلى برشلونة.
ثم بعده أخوه ثلاث سنين ثم بعده والياً، ثم بوردزاريش ثلاثاً وثلاثين سنة، ثم ابنه طرشمند، ثم بعده أخوه لذريق ثلاث عشرة سنة، ثم بعده أوريق سبع عشرة سنة، ثم بعده الريق بطلوشة ثلاثاً وعشرين سنة، ثم عشليق، ثم امليق سنتين، ثم توذيوش سبع عشرة سنة وخمسة أشهر، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده طودتقليس سنة وثلاث أشهر، ثم بعده اثله خمس سنين، ثم بعده اطلنجة خمس عشرة سنة، ثم بعده ليوبا ثلاث سنين، ثم بعده أخوه لويلد، وهو أولمن اتخذ طليطلة دار ملك ونزلها ليكون متوسطاً لملكه ليحارب من خرج عن طاعته عن قريب، فلم يزل يحارب من خرج عن طاعته حتى احتوى على جميع الأندلس وبنى مدينة رقوبل وأتقنها وأكثر بساتينها، وهو على القرب من طليطلة، وسماها باسم ولده، وغزا بلاد البشقنس حتى أذلهم، وخطب إلى ملك الفرنج ابنته لولده ارمنجلد فزوجه وأسكنه إشبيلية، فحسنت له عصيان والده، ففعل، فسار إليه أبوه وحصرهما وضيق عليه وطال مقامه إلى أن أخذه عنوة وسجنه إلى أن مات.
ثم ملك بعد لويلد ابنه ركرد، وكان حسن السيرة، فجمع الأساقفة وغير سيرة أبيه وسلم البلاد إليهم، وكانوا نحو ثمانين أسقفاً، وكان تقياً عفيفاً قد لبس ثياب الرهبان، وهو الذي بنى الكنيسة المعروفة بالوزقة بإزاء مدينة وادي آش. ثم بعده ابنه ليوبا فسار كسيرة أبيه، فاغتاله رجل من القوط يقال له بتريق فقتله، وملك بعده بتريق رضا أهل الأندلس، وكان مجرماً طاغياً فاسقاً، فثار عليه رجل من خاصته فقتله.

ثم ملك من بعده غندمار سنتين، ثم ملك بعده سيسيفوط، وكانت ولايته تسع سنين، وكان حسن السيرة، ثم بعده ابنه ركريد، وكان صغيراً عمره ثلاثة أشهر، ومات، ثم ملك شنتله، وكان ملكه عند البعث، وكان مشكوراً، ثم بعده سشنند خمس سنين، ثم بعده خنتلة ستة أعوام، ثم بعده خندس أربعة أعوام، ثم بعده بنبان ثمانية أعوام، ثم بعده أروى سبع سنين.
وكان في دولته قحط شديد حتى كادت بلاد الأندلس تخرب لشدة الجوع.
ثم بعده ابقه خمس عشرة سنة، وكان جائراً مذموماً، ثم ملك بعده ابنه غيطشه، وكانت ولايته سنة سبع وسبعين للهجرة، وكان حسن السيرة لين العريكة وأطلق كل محبوس كان في سجن أبيه وأدى الأموال إلى أربابها.
ثم توفي وخلف ولدين فلم يرض بهما أهل الأندلس وتراضوا برجل يقال له رذريق، وكان شجاعاً وليس من بيت الملك، وكانت عادة ملوك الأندلس إنهم يبعثون أولادهم الذكور والإناث إلى مدينة طليطلة يكونون في خدمة الملك لا يخدمه غيرهم يتأدبون بذلك، فإذا بلغوا الحلم أنكح بعضهم بعضاً وتولى تجهيزهم، فلما ولي رذريق أرسل إليه يوليان، وهو صاحب الجزيرة الخضراء وسبتة وغيرهما، ابنةً له، فاستحسنها رذريق وافتضها، فكتبت إلى أبيها، فأغضبه ذلك، فكتب إلى موسى بن نصير عامل الوليد بن عبد الملك على إفريقية بالطاعة واستدعاه إليه، فسار إليه، فأدخله يوليان مدائنه وأخذ عليه العهود له ولأصحابه بما يرض به، ثم وصف له الأندلس ودعاه إليها، وذلك آخر سنة تسعين.
فكتب موسى إلى الوليد بما فتح الله عليه وما دعاه إليه يوليان. فكتب إليه الوليد: خضها بالسرايا ولا تغرر بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. فكتب إليه موسى: إنه ليس ببحر متسع وإنما هو خليج يبين ما وراءه. فكتب إليه الوليد أن اختبرها بالسرايا وإن كان الأمر على ما حكيت.
فبعث رجلاً من مواليه يقال له طريف في أربعمائة رجل ومعهم مائة فرس، فسار في أربع سفائن فخرج في جزيرة بالأندلس فسميت جزيرة طريف لنزوله فيها، ثم أغار على الجزيرة الخضراء فأصاب غنيمةً كثيرة ورجع سالماً في رمضان سنة إحدى وتسعين. فلما رأى الناس ذلك تسرعوا إلى الغزو.
ثم إن موسى دعا مولى له كان على مقدمات جيوشه يقال له طارق بن زياد فبعثه في سبعة آلاف من المسلمين أكثرهم البربر والموالي وأقلهم العرب، فساروا في البحر، وقصد إلى جبل منيف وهو متصل بالبر فنزله، فسمي الجبل جبل طارق إلى اليوم، ولما ملك عبد المؤمن البلاد أمر ببناء مدينة على هذا الجبل وسماه جبل الفتح، فلم يثبت له هذا الاسم وجرت الألسنة على الأول.
وكان حلول طارق فيه في رجب سنة اثنتين وتسعين من الهجرة. ولما ركب طارق البحر غلبته عينه فرأى النبي ومعه المهاجرون والأنصار قد تقلدوا السيوف ونكبوا القسي، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا طارق تقدم لشأنك. وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد، فنظر طارق فرأى النبي صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه قد دخلوا الأنلدلس أمامه، فاستيقظ من نومه مستبشراً وبشر أصحابه وقويت نفسه ولم يشك في الظفر.
فلما تكامل أصحاب طارق بالجبل نزل إلى الصحراء وفتح الجزيرة الخضراء فأصاب بها عجوزاً، فقالت له: إني كان لي زوج وكان عالماً بالحوادث وكان يحدثهم عن أمير يدخل بلدهم فيغلب عليه، ووصف من نعته أنه ضخم الهامة، وان في كتفه اليسرى شامة عليها شعر؛ فكشف طارق ثوبه فإذا الشامة كما ذكرت، فاستبشر طارق أيضاً هو ومن معه. ونزل من الجبل إلى الصحراء وافتتح الجزيرة الخضراء وغيرها وفارق الحصن الذي في الجبل.

ولما بلغ ذريق غزو طارق بلاده عظم ذلك عليه، وكان غائباً في غزاته، فرجع منها طارق قد دخل بلاده فجمع له جمعاً يقال بلغ مائة ألف، فلما بلغ طارقاً الخبر كتب إلى موسى يستمده ويخبره بما فتح وأنه زحف إليه ملك الأندلس بما لا طاقة له به. فبعث إليه بخمسة آلاف، فتكامل المسلمون اثني عسر ألفاً ومعهم يوليان يدلهم على عورة البلاد ويتجسس لهم الأخبار. فأتاهم رذريق في جنده، فالتقوا على نهر لكة من أعمال شذونة لليلتين بقيتا من رمضان سنة اثنتين وتسعين، واتصلت الحرب ثمانية أيام، وكان على ميمنته وميسرته ولدا الملك الذي كان قبله وغيرهما من أبناء الملوك، وافتقوا على الهزيمة بغضاً لرذريق، وقالوا: إن المسلمين إذا امتلأت أيديهم من الغنيمة عادوا إلى بلادهم وبقي الملك لنا. فانهزموا وهزم الله رذريق ومن معه، وغرق رذريق في النهر، وسار طارق إلى مدينة إستجة متبعاً لهم، فلقيه أهلها ومعهم من المنهزمين خلق كثير، فقاتلوه قتالاً شديداً، ثم انهزم أهل الأندلس ولم يلق المسلمون بعدها حرباً مثلها. ونزل طارق على عين بينها وبين مدينة إسجة أربعة أميال فسميت عين طارق إلى الآن.
ولما سمعت القوط بهاتين الهزيمتين قذف الله في قلوبهم الرعب، وكانوا يظنون أنه يفعل فعل طريف، فهربوا إلى طليطلة، وكان طريف قد أوهمهم أنه يأكلهم هو ومن معه. فلما دخلوا لطيلطلة وأخلوا مدائن الأندلس قال له يوليان: قد فرغت من الأندلس ففرق جيوشك وسر أنت إلى طيطلة. ففرق جيوشه من مدينة إستجة وبعث جيشاً إلى قرطبة، وجيشاً إلى غرناطة، وجيشاً إلى مالقة، وجيشاً إلى تدمير، وسار إلى قرطبة فإنهم دلهم راعٍ على ثغرة في سورها فدخلوا منها البلد وملكوه.
وأما الذين قصدوا تدمير فلقيهم صاحبها، واسمه تدمير وبه سميت، وكان اسمها أرويولة، وكان معه جيش كثيف، فقاتلهم قتالاً شديداً ثم انهزم فقتل من أصحابه خلق كثير، فأمر تدمير النساء فلبسن السلاح ثم صالح المسلمين عليها وفتح سائر الجيوش ما قصدوا إليه من البلاد.
وأما طارق فلما رأى طليطلة فازغة ضم إليها اليهود وترك معهم رجالاً من أصحابه وسار هو إلى وادي الحجارة فقطع الجبل من فج فيه فسمي بفج طارق إلى اليوم. وانتهى إلى مدينة خلف الجبل تسمى مدينة المائدة، وفيها وجد مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وهي من زبرجد خضر حافاتها وأرجلها منها مكللة باللؤلؤ والمرجان والياقوت وغير ذلك، وكان لها ثلاثمائة وستون رجلاً. ثم مضى إلى مدينة ماية فغنم منها ورجع إلى طليطلة في سنة ثلاث وتسعين.
وقيل: اقتحم أرض جليقية فخرقها حتى انتهى إلى مدينة استرقة وانصرف إلى طليطلة ووافته جيوشه التي وجهها من إستجة بعد فراغهم من فتح تلك المدن التي سيرهم إليها.
ودخل موسى بن نصير الأندلس في رمضان سنة ثلاث وتسعين في جمع كثير، وكان قد بلغه ما صنعه طارق فحسده، فلما عبر إلى الأندلس ونزل الجزيرة الخضراء قيل له: تسلك طريق طارق، فأبى، فقال له الأدلاء: نحن ندلك على طريق اشرفن طريقه ومدائن لم تفتح بعد، ووعده يوليان بفتح عظيم، فسر بذلك، وكان قد غمه.
فساروا به إلى مدينة ابن السليم فافتتحها عنوة، ثم سار إلى مدينة قرمونة، وهي أحصن مدن الأندلس، فقدم إليها يوليان وخاصته، فأتوهم على الحال المنهزمين معهم السلاح فأدخلوهم مدينتهم، فأرسل موسى إليهم الخيل ففتحوها لهم ليلاً، فدخلها المسلمون وملكوها، ثم سار موسى إلى إشبيلية، وهي من أعظم مدائن الأندلس بنياناً وأعزها آثاراً، فحصرها أشهراً وفتحها وهرب من بها، فأنزلها موسى اليهود وسار إلى مدينة ماردة فحصرها، وقد كان أهلها خرجوا إليه فقاتلوه قتالاً شديداً، فكمن لهم موسى ليلاً في مقاطع الصخر، فلم يرهم الكفار، فلما أصبحوا زحف إليهم فخرجوا إلى المسلمين على عادتهم فخرجوا عليهم من الكمين وأحدقوا بهم وحالوا بينهم وبين البلد وقتلوهم قتلاً ذريعاً ونجا من نجا منهم، فدخل المدينة، وكانت حصينة، فحصرهم بها شهراً، وقاتلهم، وزحف إليهم بدبابة عملها ونقبوا سورها، فخرج أهلها على المسلمين، فقتلوهم عند البرج، فسمي برج الشهداء إلى اليوم، ثم افتتحها آخر رمضان سنة أربع وتسعين يوم الفطر صلحاً على جميع أموال القتلى يوم الكمين وأموال الهاربين إلى جليقية وأموال الكنائس وحيلها للمسلمين.

ثم إن أهل إشبيلية اجتمعوا وقصدوها فقتلوا من بها من المسلمين، فسير موسى إليها ابنه عبد العزيز بجيش فحصرها وملكها عنوةً وقتل من بها من أهلها وسار عنها إلى لبلة وباجة فملكها وعاد إلى إشبيلية.
وسار موسى من مدينة ماردة في شوان يريد طليطلة، فخرج إليه طارق فلقيه، فلما أبصره نزل إليه فضربه موسى بالسوط على رأسه ووبخه على ما كان من خلافه ثم سار به إلى مدينة طليطلة، فطلب منه ما غنم والمائدة أيضاً، فأتاه بها وقد انتزع رجلاً من أرجلها، فسأله عنها فقال: لا علم لي، كذلك وجدتها، فعمل عوضها من ذهب.
وسار موسى إلى سرقسطة ومدائنها فافتتحها وأوغل في بلاد الفرنج فانتهى إلى مفازة كبيرة وأرض سهلة ذات آثار، فأصاب فيها صنماً قائماً فيه مكتوب بالنقر: يا بني إسماعيل هاهنا منتهاكم فارجعوا، وإن سألتم إلى ماذا ترجعون أخبرتكم أنكم ترجعون إلى الإختلاف فيما بينكم حتى يضرب بعضكم أعناق بعض، وقد فعلتم.
فرجع ووافاه رسول الوليد في أثناء ذلك يأمره بالخروج عن الأندلس والقفول إليه، فساءه ذلك ومطل الرسول وهو يقصد بلاد العدو في غير ناحية الصنم يقتل ويسبي ويهدم الكنائس ويكسر النواقيس حتى بلغ صخرة بلاي على البحر الأخضر، وهو في قوة وظهور، فقدم عليه رسول آخر للوليد يستحثه وأجذ بعنان بغلته وأخرجه، وكان موافاة الرسول بمدينة لك بجليقية، وخرج على الفج المعروف بفج موسى، ووافاه طارق من الثغر الأعلى معه ومضيا جميعاً.
واستخلف موسى على الأندلس ابنه عبد العزيز بن موسى، فلما عبر البحر إلى سبتة استخلف عليها وعلى طنجة وما والاهما ابنه عبد الملك، واستخلف على إفريقية وأعمالها ابنه الكبير عبد الله، وسار إلى الشام وحمل الأموال التي غنمت من الأندلس والذخائر والمائدة ومعه ثلاثون ألف بكر من بنات ملوك القوط وأعيانهم ومن نفيس الجوهر والأمتعة ما لا يحصى، فورد الشام، وقد مات الوليد بن عبد الملك، واستخلف سليمان بن عبد الملك، وكان منحرفاً عن موسى بن نصير، فعزله عن جميع أعماله وأقصاه وحبسه وأغرمه حتى احتاج أن يسأل العرب في معونته.
وقيل: إنه قدم الشام والوليد حي، وكان قد كتب إليه وادعى أنه هو الذي فتح الأندلس وأخبره خبر المائدة، فلما حضر عنده عرض عليه ما معه وعرض المائدة، ومعه طارق، فقال طارق: أنا غنمتها. فكذبه موسى. فقال طارق للوليد: سله عن رجلها المعدومة. فسأله عنها فلم يكن عنده علم، فأظهرها طارق وذكر أنه أخفاها لهذا السبب. فعلم الوليد صدق طارق وإنما فعل هذا لأنه كان حبسه وضربه حتى أرسل الوليد فأخرجه، وقيل لم يحبسه.
قالوا: ولما دخلت الروم بلاد الأندلس كان في مملكتهم بيت إذا ولي ملك منهم أقفل عليه قفلاً، فلما ملكت القوط فعلوا كفعلهم، فلما ملك رذريق أراد فتح الأقفال فنهاه أكابر أهل البلاد عن ذلك فلم يقبل منهم وفتح الأقفال فرأى في البيت صور العرب وعليهم العمائم الحمر على خيول شهب، وفيه كتاب: إذا فتح هذا البيت دخل هؤلاء القوم هذا البلد. ففتحت الأندلس تلك السنة.
فهذا القدر كاف في فتح الأندلس، ونذكر باقي أخبار الأندلس عنه أوقات حدوثها على ما شرطنا إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوة جزيرة سردانيةهذه الجزيرة في بحر الروم، وهي من أكبر الجزائر ما عدا جزيرة صقلية وأقريطش، وهي كثيرة الفواكه، ولما فتح موسى بلاد الأندلس سير طائفة من عسكره في البحر إلى هذه الجزيرة سنة اثنتين وتسعين فدخلوها، وعمد النصارى إلى ما لهم من آنية ذهب وفضة فألقوا الجميع في الميناء الذي لهم وجعلوا أموالهم في سقف بنوه للبيعة العظمى التي لهم تحت السقف الأول، وغنم المسلمون فيها ما لا يحد ولا يوصف، وأكثروا الغلول. فاتفق أن رجلاً من المسلمين اغتسل في الميناء فعلقت رجله في شيء فأخرجه فإذا صفحة من فضة، وفإذا المسلمون جميع ما فيه، ثم دخل رجل من المسلمين إلى تلك الكنيسة فنظر إلى حمام فرماه بسهم فأخطأ ووقع في السقف وانكسر لوح فنزل منه شيء من الدنانير وأخذوا الجميع، وازداد المسلمون غلولاً، فكان بعضهم يذبح الهرة ويرمي ما في جوفها فيملأه دنانير ويخيط عليها ويلقيها في الطريق، فإذا خرج أخذها، وكان يضع قائم سيفه على الجفن ويملأه ذهباً.
فلما ركبوا في البحر سمعوا قائلاً يقول: اللهم غرقهم، فغرقوا عن آخرهم، فوجدوا أكثر الغرقى والدنانير على أوساطهم.

وفي سنة خمس وثلاثين ومائة غزاها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري فقتل من بها قتلاً ذريعاً ثم صالحوه على الجزية، فأخذت منهم وبقيت ولم يغزها بعده أحد، فعمرها الروم.
فلما كانت سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة أخرج إليها المنصور بن القائم العلوي، صاحب إفريقية، أسطولاً من المهدية فمروا بجنوة ففتحوا المدينة وأوقعوا بأهل سردانية وسبوا فيها وأحرقوا مراكب كثيرة وأخربوا جنوة وغنموا ما فيها.
وفي سنة ست وأربعمائة غزاها مجاهد العامري من دانية، وكان صاحبها في البحر في مائة وعشرين مركباً، ففتحها وقتل فأكثر وسبى النساء والذرية، فسمع بذلك ملوك الروم فجمعوا إليه وساروا إليه من البر الكبير في جمع عظيم فاقتتلوا، وانهزم المسلمون وأخرجوا من جزيرة سردانية، وأخذت بعض مراكبهم وأسر أخو مجاه وابنه علي بن مجاهد، ورجع بمن بقي إلى دانية ولم تغز بعد ذلك.
وإنما ذكرنا جميع أخبارها هاهنا لقتلتها، وإذا تفرقت لم تعرف كما يجب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا مسلمة بن عبد الملك أرض الروم ففتح حصوناً ثلاثة وجلا أهل سوسنة إلى بلاد الروم. وفي هذه السنة غزا قتيبة سجستان في قول بعضهم، وأراد قصد رتبيل الأعظم، فلما نزل قتيبة سجستان أرسل رتبيل إليه رسلاً بالصلح، فقبل ذلك وانصرف واستعمل عليهم عبد ربه بن عبد الله الليثي.
وحج بالناس هذه السنة عمر بن عبد العزيز وهو على المدينة؛ وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات مالك بن أوس بن الحدثان البصري، من ولد نصر بن معاوية، بالمدينة، وله أربع وتسعون سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين

ذكر صلح خوارز مشاه وفتح خام جرد
وفي هذه السنة صالح قتيبة خوارز مشاه.
وكان سبب ذلك أن ملك خوارزم كان ضعيفاً فغلبه أخوه خرزاد على أمره، وكان أصغر منه، وكان إذا بلغه أن عند أحد ممن هو منقطع إلى الملك جارية أو مالاً أو دابة أو بنتاً أو أختاً أو امرأة جميلة أرسل إليه وأخذه منه، وكان لا يمتنع عليه أحد ولا الملك، فإذا قيل للملك قال: لا أوى به وهو مغتاظ عليه.
فلما طال ذلك عليه كتب إلى قتيبة يدعوه إلى أرضه ليسلمها إليه، واشترط عليه أن يدفع إليه أخاه وكل من يضاده ليحكم فيهم بما يرى، ولم يطلع أحد من مرازبته على ذلك، فأجابه قتيبة إلى ما طلب وتجهز للغزو، وأظهر قتيبة أنه يريد الصغد، وسار من مرو، وجمع خوارز مشاه أجناده ودهاقنته، فقال: إن قتيبة يريد الصغد وليس يغازيكم، فهلموا نتنعم في ربيعنا هذا.
فأقبلوا على الشرب والتنعم، فلم يشعروا حتى نزل قتيبة في هزار سب، فقال خوارز مشاه لأصحابه: ما ترون؟ قالوا: نرى أن نقاتله. قال: لكني لا أرى ذلك لأنه قد عجز عنه من هو أقوى منا وأشد شوكة، ولكن أصرفه بشيء أؤديه إليه. فأجابوه إلى ذلك.
فسار خوارز مشاه فنزل بمدينة الفيل من وراء النهر، وهي أحصن بلاده، وقتيبة لم يعبر النهر، فأرسل إليه خوارز مشاه فصالحه على عشرة آلاف رأس وعين ومتاع وعلى أن يعينه على خام جرد، فقبل قتيبة ذلك.
وقيل: صالحه على مائة ألف رأس، ثم بعث قتيبة أخاه عبد الرحمن إلى خام جرد، وكان يغازي خوارز مشاه، فقاتله فقتله عبد الرحمن وغلب على أرضه، وقدم منهم بأربعة آلاف أسير، فقتلهم قتيبة، وسلم قتيبة إلى خوارز مشاه أخاه ومن كان يخالفه، فقتلهم ودفع أموالهم إلى قتيبة ودخل قتيبة إلى فيل، فقبل بن خوارزم شاه ما صالحه عليه ثم رجع إلى هزار سب.
ذكر فتح سمرقندفلما قبض قتيبة صلح خوارز مشاه قال إليه المجشر بن مزاحم السلمي. فقال له سراً: إن أردت الصغد يوماً من الدهر فالآن فإنهم آمنون من أن يأتيهم عامل هذا، وإنما بينك وبينهم عشرة أيام. قال: أشار عليك بهذا أحد؟ قال: لا. قال: فسمعه منك أحد؟ قال: لا. قال: والله لئن تكلم به أحد لأضربن عنقك.

فلما كان الغد أمر أخاه عبد الرحمن فسار في الفرسان والرماة وقدم الأثقال إلى مرو فسار يومه، فلما أمسى كتب إليه قتيبة: إذا أصبحت فوجه الأثقال إلى مرو وسر بالفرسان والرماة نحو الصغد واكتم الأخبار، فإني في الأثر. ففعل عبد الرحمن ما أمره، وخطب قتيبة الناس وقال لهم: إن الصغد شاغره برجلها، وقد نقضوا العهد الذي بيننا وصنعوا ما بلغكم، وإني أرجو أن يكون خوارزم والصغد كقريظة والنضير. ثم سار فأتى الصغد فبلغها بعد عبد الرحمن بثلاث أو أربع، وقدم معه أهل خوارزم وبخارى فقاتلوه شهراً من وجه واحد وهم محصورون.
وخاف أهل الصغد طوال الحصار فكتبوا إلى ملك الشاش وخاقان واخشاد فرغانة: إن العرب إن ظفروا بنا أتوكم بمثل ما أتونا به، فانظروا لأنفسكم ومعهما كان عندك من قوة فابذلوها. فنظروا وقالوا: إنما نؤتى من سفلتنا فإنهم لا يجدون كوجدنا. فانتخبوا من أولاد الملوك وأهل النجدة من أبناء المرازبة والأساورة والأبطال وأمروهم أن يأتوا عسكر قتيبة فيبيتوه فإنه مشغول عنه بحصار سمر قند، وولوا عليه ابناً لخاقان، فساروا.
وبلغ قتيبة الخبر فانتخب من عسكره أربعمائة، وقيل: ستمائة من أهل النجدة والشجاعة وأعلمهم الخبر وأمرهم بالمسير إلى عدوهم، فساروا وعليهم صالح بن مسلم، فنزلوا على فرسخين من العسكر على طريق القوم، فجعل صالح له كمينين، فلما مضى نصف الليل جاءهم عدوهم، فلما رأوا صالحاً حملوا عليه، فلما اقتتلوا شد الكمينان عن يمين وشمال فلم ير قوم كانوا أشد من أولئك. قال بعضهم: إنا لنقاتلهم إذ رأيت تحت الليل قتيبة وقد جاء سراً فضربت ضربةً أعجبتني. فقلت: كيف نرى بأمي وأبي؟ قال: اسكت فض الله فاك. قال: فقتلناهم فلم يفلت منهم إلا الشريد، وحوينا أسلابهم وسلاحهم فاحتززنا رؤوسهم وأسرنا منهم أسرى، فسألناهم عمن قتلنا فقالوا: ما قتلتم إلا ابن ملك أو عظيماً أو بطلاً، كان الرجل يعد بمائة رجل، وكتبنا أسماءهم على آذانهم ثم دخلنا العسكر حين أصبحنا، فلم يأت أحد بمثل ما جئنا به من القتلى والأسرى والخيل ومناطق الذهب والسلاح، قال: وأكرمني قتيبة وأكرم معي جماعة وظننت أنه رأى منهم مثل الذي رأى مني.
ولما رأى الصغد ذلك انكسروا، ونصب قتيبة عليهم المجانيق فرماهم وثلم ثلمةً، فقام عليها رجل شتم قتيبة، فرماه بعض الرماة فقتله، فأعطاه قتيبة عشرة آلاف. وسمع بعض المسلمين قتيبة وهو يقول كأنما يناجي نفسه: حتى متى يا سمرقند يعشش فيك الشيطان؟ أما والله لئن أصبحت لأحاولن من أهلك أقصى غاية. فانصرف ذلك الرجل فقال لأصحابه: كم من نفس تموت غداً! وأخبر الخبر. فلما أصبح قتيبة أمر الناس بالجد في القتال، فقاتلوهم واشتد القتال، وأمرهم قتيبة أن يبلغوا ثلمة المدينة، فجعلوا الترسة على وجوههم وحملوا فبلغوها ووقفوا عليها، ورماهم الصغد بالنشاب فلم يبرحوا. فأرسل الصغد إلى قتيبة فقالوا له: انصرف عنا اليوم حتى نصالحك غداً. فقال قتيبة: لا نصالحهم إلا ورجالنا على الثملة، وقيل: بل قال قتيبة: جزع العبيد، انصرفوا على ظفركم، فانصرفوا فصالحهم من الغد على ألفي ألف ومائتي ألف مثقال في كل عام، وأن يعطوه تلك السنة ثلاثين ألف فارس، وأن يخلوا المدينة لقتيبة فلا يكون لهم فيها مقاتل فيبني فيها مسجداً ويدخل ويصلي ويخطب ويتغدى ويخرج.
فلما تم الصلح وأخلوا المدينة وبنوا المجد دخلها قتيبة في أربعة آلاف انتخبهم، فدخل المسجد فصلى فيه وخطب وأكل طعاماً ثم أرسل إلى الصغد: من أراد منكم أن يأخذ متاعه فليأخذ فإني لست خارجاً منها ولست آخذ منكم إلا ما صالحتكم عليه، غير أن الجند يقيمون فها.
وقيل: إنه شرط عليهم في الصلح مائة ألف فارس وبيوت النيران وحلية الأصنام، فقبض ذلك، وأتي بالأصنام فكانت كالقصر العظيم وأخذ ما عليها وأمر بها فأحرقت. فجاءه غوزك فقال: إن شكرك علي واجب، لا تتعرض لهذه الأصنام فإن منها أصناماً من أحرقها هلك. فقال قتيبة: أنا أحرقها بيدي، فدعا بالنار فكبر ثم أشعلها فاحترقت، فوجدوا من بقايا مسامير الذهب خمسين ألف مثقال.
وأصاب بالصغد جارية من ولد يزدجرد، فأرسلها إلى الحجاج، فأرسلها الحجاج إلى الوليد، فولدت له يزيد بن الوليد.
وأمر غوزك بالانتقال عنها فانتقل.

وقيل: إن أهل سمرقند خرجوا على المسلمين وهم يقاتلونهم يوم فتحها، وقد أمر قتيبة يومئذٍ بسرير فأبرز وقعد عليه، فطاعنوهم حتى جازوا قتيبة وإنه لمحتبٍ بسيفه ما حل حبوته، وانطوت مجنبتا المسلمين على الذين هزموا القلب فهزموهم حتى ردوهم إلى عسكرهم، وقتل من المشركين عدد كثير، ودخلوا المدينة فصالهم، وصنع غوزك طعاماً ودعا قتيبة، فأتاه في عدة من أصحابه، فلما بعد استوهب منه سمرقند وقال للملك: انتقل عنها، فلم نجد بداً من طاعته، ولا قتيبة قوله تعالى: " وأنه أهلك عاداً الأولى وثمود فما أبقى " النجم:50 - 51.
وحكي عن الذي أرسله قتيبة إلى الحجاج بفتح سمرقند قال: فأرسلني الحجاج إلى الوليد، فقدمت دمشق قبل طلوع الفجر فدخلت المسجد فإذا إلى جنبي رجل ضرير، فسألني: من أين أنت؟ فقلت: من خراسان، وأخبرت خبر سمرقند. فقال: والذي بعث محمداً بالحق ما افتتحتموها إلا غدراً! وإنكم يا أهل خراسان الذين تسلبون بني أمية ملكهم ثم تنقضون دمشق حجراً حجراً. فلما فتح قتيبة سمرقند قيل: إن هذا لأعدى العيرين، لأنه فتح سمرقند وخوارزم في عام واحد، وذلك أن الفارس إذا صرع في طلق واحد عيرين قيل: عادى عيرين فلما فتحها قتيبة دعا نهار بن توسعة فقال: يا نهار أين قولك.
ألا ذهب الغزو المقرب للغنى ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أقاما بمرو الروذ رهن ضريحه ... وقد غيبا عن كل شرقٍ ومغرب
أفغزو هذا؟ قال: لا، هذا أحسن، وأنا الذي أقول:
وما كان مذ كنا ولا كان قبلنا ... ومات الندى والجود بعد المهلب
أعم لأهل الشرك قتلاً بسيفه ... وأكثر فينا مقسماً بعد مقسم
قال: وقال الشعراء في ذلك، فقال الكميت من قصيدة:
كانت سمرقند أحقاباً يمانيةً ... فاليوم تنسبها قيسيةً مضر
وقال كعب الأشقري، وقيل رجل من جعفى:
كل يوم يحوي قتيبة نهباً ... ويزيد الأموال مالاً جديدا
باهلي قد ألبس التاج حتى ... شاب منه مفارق كن سودا
دوخ الصغد بالكتائب حتى ... ترك الصغد بالعراء قعودا
فوليد يبكي لفقد أبيه ... وأب موجع يبكي الوليدا
ثم رجع قتيبة إلى مرو، وكان أهل خراسان يقولون: إن قتيبة غدر بأهل سمرقند فملكها غدراً.
وكان عمله على خوارزم إياس بن عبد الله على حربها، وكان ضعيفاً، وكان على خراجها عبيد الله بن أبي عبيد الله مولى مسلم.فاستضعف أهل خوارزم إياساً، فجمعوا له، فكتب عبيد الله إلى قتيبة، فبعث قتيبة أخاه عبد الله عاملاً وأمره أن يضرب إياساً وحيان النبطي مائةً مائةً ويحلقهما. فلما قرب عبد الله من خوارزم أرسل إلى إياس فأنذره، فتنحى، وقدم عبد الله وأخذ حيان فضربه وحلقه. ثم وجه قتيبة الجنود إلى خوارزم مع المغيرة بن عبد الله، فبلغها ذلك، فلما قدم المغيرة اعتزل أبناء الذين قتلهم خوارزمشاه وقالوا: لا نعينك، فهرب إلى بلاد الترك، وقدم المغيرة فقتل وسبى، فصالحه الباقون على الجزية، وقدم على قتيبة فاستعمله على نيسابور.
ذكر فتح طليطلة من الأندلسقال أبو جعفر: وفي هذه السنة غضب موسى بن نصير على مولاه طارق فسار إليه في رجب منها، واستخلف على إفريقية ابنه عبد الله بن موسى، وعبر موسى إلى طارق في عشرة آلاف، فتلقاه وترضاه، فرضي عنه وقبل عذره وسيره إلى طليطلة، وهي من عظام بلاد الأندلس، وهي من قرطبة على عشرين يوماً، ففتحها وأصاب فها مائدة سليمان بن داود، عليه السلام، وما فيها من الذهب والجوهر، والله أعلم به.
قلت: لم يزد على هذا، وقد ذكرت في سنة اثنتين وتسعين من فتح الأندلس ودخول موسى بن نصير إلى طارق ما فيه كفاية فلا حاجة إلى إعادته؛ إلا أن أبا جعفر قد ذكر أن موسى هو الذي سير طارقاً وهو بالأندلس ففتح مدينة طليطلة، والذي ذكره أهل الأندلس في تواريخهم ما تقدم ذكره.
ذكر عزل عمر بن عبد العزيز عن الحجازقيل: وفي هذه السنة عزل الوليد عمر بن عبد العزيز عن الحجاز والمدينة.

وكان سبب ذلك أن عمر كتب إلى الوليد يخبره بعسف الحجاج أهل العراق واعتدائه عليهم وظلمه لهم بغير حق، فبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى الوليد: إن من عندي من المراق وأهل الشقاق قد جلوا عن العراق ولحقوا بالمدينة ومكة، وإن ذلك وهن. فكتب إليه الوليد يستشيره فيمن يوليه المدينة ومكة، فأشار عليه بخالد بن بد الله وعثمان بن حيان، فولى خالداً مكة، وعثمان المدينة، وعزل عمر عنهما.
فلما خرج عمر من المدينة قال: إني أخاف أن أكون ممن نفته المدينة، يعني بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : تنفي خبثها.
وكان عزله في شعبان؛ ولما قدم خالد مكة أخرج من بها من أهل العراق كرهاً، وتهدد من أنزل عراقياً أو أجره داراً، واشتد على أهل المدينة وعسفهم وجار فيهم ومنعهم من إنزال عراقي، وكانوا أيام عمر بن عبد لعزيز كل من خاف الحجاج لجأ إلى مكة والمدينة.
وقيل: إنما استعمل على المدينة عثمان بن حيان، وقد تقدم سنة إحدى وتسعين ولاية خالد مكة في قول بعضهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح سبسطية والمرزبانين وطرسوس. وفيها غزا مروان بن الوليد فبلغ خنجرة. وفيها غزا مسلمة الروم أيضاً ففتح ماسيسة وحصن الحديد وغزالة من ناحية ملطية. وفيها أجدب أهل إفريقية فاستسقى موسى بن نصير فسقوا. وفيها كتب الوليد بن عبد الملك إلى عمر بن عبد العزيز قبل أن يعزله يأمره بضرب خبيب بن عبد الله بن الزبير ويصب على رأسه ماءً بارداً، فضربه خمسين سوطاً وصب عليه ماءً بارداً في يوم شاتٍ ووقفه على باب المسجد فمات من يومه.
خبيب بضم الخاء المعجمة، وبائين موحدتين بينهما ياء تحتها نقطتان.
وحج بالناس هذه السنة عبد العزيز بن الوليد. وكان على الأمصار من تقدم ذكرهم إلا المدينة فإن عاملها عثمان بن حيان قدمها في شوال لليلتين بقيتا منه، وقد تقدم ذكر ولاية خالد بن عبد الله مكة في سنة تسع وثمانين، وفي سنة إحدى وتسعين قد ذكرنا أنه وليها هذه السنة.
وفيها مات أبو الشعثاء جابر بن زبد. وألو العالية البراء، واسمه زيدا بن فيروز، وكان مولى لأعرابية من بني رياح، وليس بأبي العالية الرياحي، ذاك كان موته سنة تسعين. وفيها مات بلال بن أبي الدرداء الأنصاري قاضي دمشق.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين

ذكر قتل سعيد بن جبير
قيل: وفي هذه السنة قتل سعيد بن جبير.
وكان سبب قتله خروجه مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان الحجاج قد جعله على عطاء الجند حين وجه عبد الرحمن إلى رتبيل لقتاله، فلما خلع عبد الرحمن الحجاج كان سعيد فيمن خلع، فلما هزم عبد الرحمن ودخل بلاد رتبيل هرب سعيد إلى أصبهان، فكتب الحجاج إلى عامل بأخذ سع، فخرج العامل من ذلك. فأرسل إلى سعيد يعرفه ذلك ويأمره بمفارقته، فسار عنه فأتى أذربيجان فطال عليه القيام فاغتم بها، فخرج إلى مكة فكان بها هو وأناس أمثاله يستخفون فلا يخبرون أحداً أسماءهم.
فلما ولي خالد بن عبد الله مكة قيل لسعيد: إنه رجل سوء فلو سرت عن مكة. فقال والله لقد فررت حتى استحييت من الله وسيجيئني ما كتب الله لي. فلما قدم خالد مكة كتب إليه الوليد بحمل أهل العراق إلى الحجاج، فاخذ سعيد بن جبير ومجاهداً وطلق بن حبيب فأرسلهم إليه، فمات طلق بالطريق وحبس مجاهد حتى مات الحجاج.
وكان سيرهم مع حرسين، فانطلق أحدهما لحاجة وبقي الآخر، فقال لسعيد، وقد استيقظ من نومه ليلاً: يا سعيد إني أبرأ إلى الله من دمك، إني رأيت في منامي فقيل لي: ويلك! تبرأ من دم سعيد بن جبير! فاذهب حيث شئت فإني لا أطلبك. فأبى سعيد، فرأى ذلك الحرس مثل تلك الرؤيا ثلاثاً ويأذن لسعيد في الذهاب وهو لا يفعل.

فقدموا به الكوفة فانزل في داره، وأتاه قراء الكوفة، فجعل يحدثهم وهو يضحك وبنية له في حجره، فلما نظرت إلى القيد في رجله بكت، ثم أدخلوه على الحجاج، فلما أتي به قال: لعن الله ابن النصرانية! يعني خالداً، وكان هو أرسله، أما كنت أعرف مكانه؟ بلى والله والبيت الذي هو فيه بمكة. ثم أقبل عليه فقال: يا سعيد ألم أشركك في إمامتي؟ ألم أفعل؟ ألم أستعملك؟ قال: بلى. قال: فما أخرجك علي؟ قال: إنما أنا امرؤ من المسلمين يخطئ مرة ويصيب مرة. فطابت نفس الحجاج قم عاوده في شيء، فقال: إنما كانت بيعة في عنقي؛ فغضب الحجاج وانتفخ وقال: يا سعيد ألم أقدم مكة فقتلت ابن الزبير وأخذت بيعة أهلها وأخذت بيعتك لأمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: بلى. قال: فتنكث بيعتين لأمير المؤمنين وتوفي بواحدة للحائك ابن الحائك؛ والله لأقتلنك قال: إني إذاً لسعد كما سمتني أمي. فأمر به فضربت رقبته، فبدر رأسه عليه كمة بيضاء لاطية، فلما سقط رأسه هلل ثلاثاً، افصح بمرة ولم يفصح بمرتين.
فلما قتل التبس عقل الحجاج فجعل يقول: قيودنا قيودنا! فظنوا أنه يرد القيود، فقطعوا رجلي سعيد من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود، وكان الحجاج إذا نام يراه في منامه يأخذ بمجامع ثوبه، فيقول: يا عدو الله فيم قتلتني؟ فيقول: مالي ولسعيد بن جبير! مالي ولسعيد بن جبير!
ذكر غزوة الشاش وفرغانةفي هذه السنة قطع قتيبة النهر وفرض على أهل بخارى وكش ونسف وخوارزم عشرين ألف مقاتل فساروا معه، فوجههم إلى الشاش وتوجه هو إلى فرغانة فأتى خجندة، فجمع له أهلها فلقوه فاقتتلوا مراراً، كل ذلك يكون الظفر للمسلمين. ثم إن قتيبة أتى كاشان مدينة فرغانة وأتاه الجنود الذين وجههم إلى اشاش وقد فتحوها وأحرقوا أكثرها وانصرف إلى مرو؛ وقال سحبان يذكر قتالهم بخجندة فقال:
فسل الفوارس في خجن ... دة تحت مرهقة العوالي
هل كنت أجمعهم إذا ... هزموا وأقدم في القتال
أم كنت أضرب هامةال ... عافي وأصبر للعوالي
هذا وأنت قريع قي ... سٍ كلها ضخم النوال
وفضلت قيساً في الندى ... وأبوك في الحجج الخوالي
ولقد تبين عدل حك ... مك فيهم في كلأ حال
تمت مروءتكم ونا ... غى عزكم غلب الجبال
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد أرض الروم ففتح إنطاكية. وفيها غزا عبد العزيز بن الوليد فبلغ غزالة، وبلغ الوليد بن هشام المعيطي برج الحمام، ويزيد بن أبي كبشة أرض سورية. وفيها كانت الزلازل بالشام ودامت أربعين يوماً فخربت البلاد، وكان عظم ذلك في إنطاكية. وفيها افتتح القاسم بن محمد الثقفي أرض الهند.
وتوفي في هذه السنة علي بن الحسين في أولها. ثم عروة بن الزبير. ثم سعيد بن المسيب وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام.
واستقضى الوليد على الشام سليمان بن حبيب. وحج بالناس مسلمة بن عبد الملك، وقيل: عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، وكان العامل بمكة خالد بن عبد الله، وبالمدينة عثمان بن حيان، وبمصر قرة بن شريك، وبخراسان قتيبة من قبل الحجاج.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين

ذكر غزوة الشاش
قيل: وفي هذه السنة بعث الحجاج جيشاً من العراق إلى قتيبة فغزا بهم، فلما كان بالشاش أو بكشماهان أتاه موت الحجاج في شوال منها، فغمه ذلك وتمثل يقول:
لعمري لنعم المرء من آل جعفرٍ ... بحوران أمسى أعلقته الحبائل
فإن نحي لي أملك حياتي وإن تمت ... فما في حياةٍ بعد موتك طائل
ورجع إلى مرو وتفرق الناس، فأتاه كتاب الوليد: قد عرف أمير المؤمنين بلاءك وجدك واجتهادك في جهاد أعداء المسلمين، وأمير المؤمنين رافعك وصانع بك الذي يجب لك، فالمم مغازيك وانتظر ثواب ربك ولا تغب عن أمير المؤمنين كتبك حتى كأني أنظر إلى بلائك والثغر الذي أنت فيه.
ذكر وفاة الحجاج بن يوسف

قيل: إن عمر بن عبد العزيز ذكر عنده ظلم الحجاج وغيره من ولاة الأمصار أيام الوليد بن عبد الملك، فقال: الحجاج بالعراق، والوليد بالشام، وقرة بمصر، وعثمان بالمدينة، وخالد بمكة، اللهم قد امتلأت الدنيا ظلماً وجوراً فأرح الناس! فلم يمض غير قليل حتى توفي الحجاج وقرة بن شريك في شهر واحد، ثم تبعهما الوليد وعزل عثمان وخالد، واستجاب الله لعمر.
وما أشبه هذه القصة بقصة ابن عمر مع زياد بن أبيه حيث كتب ؟إلى معاوية يقول له: قد ضبطت العراق بشمالي ويميمني فارغة. يعرض بإمارة الحجاز. فقال ابن عمر لما بلغه ذلك: اللهم أرحنا من يمين زياد وأرح أهل العراق من شماله. فكان أول خبر جاءه موت زياد.
وكانت وفاة الحجاج في شوال سنة خمس وتسعين، وقيل: كانت وفاته لخمس بقين من شهر رمضان وله من العمر أربع وخمسون سنة، وقيل: ثلاث وخمسون سنة، وكانت ولايته العراق عشرين سنة، ولما حضرته الوفاة استخلف على الصلاة ابنه عبد الله بن الحجاج، واستخلف على حرب الكوفة والبصرة يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجهما يزيد بن أبي مسلم، فأقرهما الوليد بعد موته ولم يغير أحداً من عمال الحجاج.
ذكر نسبة وشيء من سيرتههو الحجاج ين يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف أبو محمد الثقفي.
قال قتيبة بن مسلم: خطبنا الحجاج فذكر القبر، فما زال يقول: إنه بيت الوحدة، إنه بيت الغربة، وبيت كذا وكذا حتى بكى وأبكى، ثم قال: سمعت أمرر المؤمنين عبد الملك يقول: سمعت مروان يقول في خطبته: خطبنا عثمان فقال في خطبته: ما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى قبر أو ذكره إلا بكى. وقد روي أحاديث غير هذا عن ابن عباس وأنس.
وقال ابن عوف: كنت إذا سمعت الحجاج يقرأ عرفت أنه طالما درس القرآن. وقال أبو عمرو بن العلاء: ما رأيت أفصح من الحجاج ومن الحسن، وكان الحسن أفصح. وقال عبد الملك بن عمير: قال الحجاج يوماً: من كان له بلاء فليقم فنعطيه على بلائه. فقام رجل فقال: أعطني على بلائي. قال: وما بلاؤك؟ قال: قتلت الحسن. قال: فكيف قتلته؟ قال: دسرته بالرمح درسراً، وهبرته بالسيف هبراً، وما أشركت معي في قتله أحداً. قال: فإنك لا تجتمع أنت وهو في مكان واحد. وقال: اخرج! ولم يعطه شيئاً.
قيل: كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بقتل أسلم بن عبد البكري بشيء بلغه عنه، فأحضره الحجاج وقال: أمير المؤمنين غائب وأنت حاضر، والله تعالى يقول: " يا أيها الذين آمنوا إن جاء كم فاسق بنبإ فتبينوا " الحجرات:6 الآية؛ والذي بلغه عني باطل، فاكتب إلى أمير المؤمنين أني أعول أربعاً وعشرين امرأة وهن بالباب، فاحضرهن، فهذه أمه، وهذه عمته وزوجته وابنته، وكان في آخر هن جارية قاربت عشر سنين. فقال لها: من أنت منه؟ قالت ابنته، أصلح الله الأمير! ثم أنشأت تقول:
أحجاج لم تشهد مقام بناته ... وعماته يندبنه الليل أجمعا
أحجاج لم تقبل به أن قتله ... ثماناً وعشراً واثنتين وأربعا
أحجاج من هذا يقوم مقامه ... علينا فمهلاً إن تزدنا تضعضعا
أحجاج إما أن تجود بنعمةٍ ... علينا وإما أن تقتلنا معا
فبكى الحجاج وقال: والله لا أعنت الدهر عليكن ولا زدتكن تضعضعاً وكتب إلى عبد الملك بخبر الرجل والجارية، فكتب إليه عبد الملك: إن كان الأمر كما ذكرت فأحسن صلته وتفقد الجارية. ففعل.
وقال عاصم بن بهدلة: سمعت الحجاج يقول: اتقوا الله ما استطعتم، هذا والله مثنوية، واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم ليس في مثنوية، والله لو أمرتكم أن تخرجوا من هذا الباب فخرجتم من هذا حلت لي دماؤكم؟، ولا أجد أحداً يقرأ علي قراءة ابن أم عبد، يعني ابن مسعود، إلا ضربت عنقه، ولأحكنها من المصحف ولو بضلع خنزير؛ قد ذكر ذلك عند الأعمش. فقال: وأنا سمعته يقول: فقلت في نفسي لأقرأنها على رغم أنفك.

قال الأوزاعي: قال عمر بن عبد العزيز: لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم. قال منصور: سألنا إبراهيم الشجاعي عن الحجاج فقال: ألم يقل الله " ألا لعنة الله على الظالمين " هو:18؟ قال الشافعي: بلغني أن عبد الملك بن مروان قال للحجاج: ما من أحد إلا وهو عارف بعيوب نفسه، فعب نفسك ولا تخبأ منها شيئاً. قال: يا أمير المؤمنين أنا لجوج حقود. فقال له عبد الملك: إذاً بينك وبين إبليس نسب. فقال: إن الشيطان إذا رآني سالمني.
قال الحسن: سمعت علياً على المنبر يقول: اللهم ائتمنتهم فخافوني، ونصحتهم فغشوني، اللهم فسلط عليهم غلام ثقيف يحكم في دمائهم وأموالهم بحكم الجاهلية! فوصفه وهو يقول: الزيال، مفجر الأنهار، يأكل خضرتها ويلبس فروتها. قال الحسن: هذه والله صفة الحجاج.
قال حبيب بن أبي ثابت: قال علي لرجل: لا تموت حتى تدرك فتى ثقيف. قيل له: يا أمير المؤمنين ما فتى ثقيف؟ قال: ليقالن له يوم القيامة اكفنا زاوية من زوايا جهنم، رجل يملك عشرين أو بضعاً وعشرين سنة لا يدع الله معصية إلا ارتكبها حتى لو لم تبق إلا معصية واحدة وبينه وبينها باب مغلق لكسره حتى يرتكبها، يقتل بمن أطاعه من عصاه.
وقيل: أحصي من قتله الحجاج صبراً فكانوا مائة ألف وعشرين ألفاً. وقيل: إن الحجاج مر بخالد بن يزيد بن معاوية وهو يخطر في مشيته، فقال رجل لخالد: من هذا؟ قال خالد: بخ بخ! هذا عمرو بن العاص. فسمعهما الحجاج فرجع وقال: والله ما يسرني أن العاص ولدني، ولكني ابن الأشياخ من ثقيف والعقائل من قريش، وأنا الذي ضربت بسيفي هذا مائة ألف، كلهم يشهد أن أباك كان يشرب الخمر ويضمر الكفر. ثم ولى وهو يقول: بخ بخ عمرو بن العاص! فهو قد اعترف في بعض أيامه بمائة ألف قتيل على ذنب واحد.
ذكر ما فعله محمد بن القاسم بعد موت الحجاج وقتلهلما مات الحجاج بن يوسف كان محمد بن القاسم بالملتان، فأتاه خبر وفاته، فرجع إلى الرور والبغرور،وكان قد فتحهما، فأعطى الناس، ووجه إلى البيلمان جيشاً فلم يقاتلوا وأعطوا الطاعة، وسأله أهل سرشت، وهي مغزى أهل البصرة، وأهلها يقطعون في البحر، ثم أتى محمد الكيرج فخرج إليه دوهر فقاتله فانهزم دوهر وهرب، وقيل: بل قتل، ونزل أهل المدينة على حكم محمد فقتل وسبى؛ قال الشاعر:
نحن قتلنا ذاهراً ودوهراً ... والخيل تردي منسراً فمنسرا
ومات الوليد بن عبد الملك وولي سليمان بن عبد الملك، فولى يويد بن أبي كبشة السكسكي السند، فأخذ محمداً وقيده وحمله إلى العراق، فقال محمد متمثلاً:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوخمٍ كريهةٍ وسداد ثغر
فبكى أهل السند على محمد، فلما وصل إلى العراق حبسه صالح بن عبد الرحمن بواسط، فقال:
فلئن ثويت باسطٍ وبأرضها ... رهن الحديد مكبلاً مغلولا
فلرب قينة فارسٍ قد رعتها ... ولرب قرنٍ قد تركت قتيلاً
وقال:
ولو كنت أجمعت الفرار لوطئت ... إناث أعدت للوغى وذكور
وما دخلت خيل السكاسك أرضنا ... ولا كان من عكٍ علي أمير
وما كنت للعبد المزوني تابعاً ... فيا لك دهر بالكرام عثور
فعذبه صالح في رجال من آل أبي عقيل حتى قتلهم، وكان الحجاج قتل آدم أخا صالح، وكان يرى رأي الخوارج، وقال حمزة بن بيض الحنفي يرثي محمداً:
إن المروءة والسماحة والندى ... لمحمد بن قاسم بن محمد
ساس الجيوش لسبع عشرة حجةً ... ياقرب ذلك سؤدداً من مولد
وقال آخر:
ساس الرجال لسبع عشرة حجةً ولداته إذ ذاك في أشغال
ومات يزيد بن أبي كبشة بعد قدومه أرض السند بثمانية عشر يوماً، واستعمل سليمان بن عبد الملك على السند حبيب بن المهلب، فقدمها وقد رجع ملوك السند إلى ممالكهم ورجع جيشبه بن ذاهر إلى برهمناباذ، فنزل حبيب على شاطئ مهران، فأعطاه أهل الور الطاعة، وحارب قوماً فظفر بهم.
ثم مات سليمان واستخلف عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام والطاعة على أن يملكهم ولهم ما للمسلمين وعليهم. فأسلم جيشبه والملوك وتسموا بأسماء العرب.

وكان عمرو بن مسلم الباهلي عامل على ذلك الثغر، فغزا بعض الهند فظفر. ثم إن الجنيد بن عبد الرحمن ولي السن أيام هشام بن عبد الملك، فأتى الجنيد شط مهران فمنعه جيشبه بن ذاهر العبور أرسل إليه: إني قد أسلمت وولاني الرجل الصالح بلادي ولست آمنك. فأعطاه رهناً وأخذ منه رهناً على خراج بلاده، ثم ترادا وكفر جيشبه وحارب، وقيل: إنه لم يحارب ولكن الجنيد تجنى عليه، فأتى الهند فجمع جموعاً وأعد السفن واستعد للحرب، فسار إليه الجنيد بالسفن، فالتقوا في بطيحة، فأخذ جيشبه أسيراً، وقد جنحت سفينته، فقتله الجنيد وهرب صصه بن ذاهر وهو يريد أن يمضي إلى العراق فيشكو غدر الجنيد، فلم يزل الجنيد يؤنسه حتى وضع يده في يده فقتله.
وغزا الجنيد الكيرج، وكانوا قد نقضوا، فاتخذوا كبشاً وصك بها سور المدينة فثلمه ودخلها فقتل وسبى ووجه العمال إلى المرمذ والمندل ودهنج وبرونج. وكان الجنيد يقول: القتل في الجزع أكبر منه في الصبر. ووجه جيشاً إلى أزين فأغاروا عليها وحرقوا ربضها وفتح البيلمان وحصل عنده سوى ما حمل أربعون ألف ألف وحمل مقلها، وولى الجنيد تميم بن زيد القيني فضعف ووهن ومات قريباً من الديبل.
وفي أيامه خرج المسلمون عن بلاد الهند ورفضوا مراكزهم، ثم ولي الحكم بن عوام الملبي وقد كفر أهل الهند إلا أهل قصة، فبنى مدينةً سماها المحفوظة وجعلها مأوى للمسلمين، وكان معه عمرو بن محمد بن القاسم، وكان يفوض إليه عظيم الأمور، فأغزاه من المحفوظة، فلما قدم عليه وقد ظفر أمره فبنى مدينة وسماها المنصورة، فهي التي نزلها الأمراء، واستخلص ما كان قد غلب عليه العدو، ورضي الناس بولايته، وكان خالد القسري يقول: واعجبا! وليت فتى العرب، يعني تميماً، فرفض وترك، ووليت أبخل العرب فرضي به. ثم قتل الحكم، وكان العمال يقتلون العدو فكانوا يفتتحون ناحيةً ويأخذون ما تيسر لهم لضعف الدولة الأموية بعد ذلك، إلى أن جاءت الدولة المباركة العباسية، ونحن نذكر إن ساء الله أيام المأمون بقية أخبار السند.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا العباس بن الوليد الروم ففتح هرقلة وغيرها. وفيها فتح آخر الهند إلا الكيرج والمندل. وفي هذه السنة افتتح العباس بن الوليد قنسرين. وفيها قتل الوضاحي بأرض الروم ونحو ألف رجل معه. وفيها ولد المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وحج بالناس هذه السنة بشير بن الوليد بن عبد الملك، وكان عمال المصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات أبو عثمان النهدي، اسمه عبد الرحمن بن مل، وكان عمره مائة وثلاثين سنة، وقيل في موته غير ذلك. وفيها مات سعد بن أياس أبو عمرو الشيباني، وله مائة وعشرون سنة. وفي إمارة الحجاج مات سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي هذه السنة مات سالم بن أبي الجعد. وفيها مات جعفر بن عمرو بن أمية الضمري، وهو أخو عبد الله بن مروان من الرضاعة. وفي إمارة الحجاج قتل أبو الأحوص عوف بن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي، قتله الخوارج.
ثم دخلت سنة ست وتسعين

ذكر فتح قتيبة مدينة كاشغر
وفي هذه السنة غزا قتيبة كاشغر، فسار وحمل مع الناس عيالاتهم ليضعهم بسمرقند، فلما عبر النهر استعمل رجلاً على معبر النهر ليمنع من يرجع إلا بجواز منه، ومضى إلى فرغانة وأرسل إلى شعب عصامٍ من يسهل الطريق إلى كاشغر وهي أدنى مدائن الصين وبعث جيشاً مع كبير بن فلان إلى كاشغر، فغنم وسبى سبياً، فختم أعناقهم وأوغل حتى بلغ قريب لصين.
فكتب إليه ملك الصين: أن أبعث إلي رجلاً شريفاً يخبرني عنكم وعن دينكم. فانتخب قتيبة عشرةً لهم جمال وألسن وبأس وعقل وصلاح، فأمر لهم بعدة حسنة ومتاع حسن من لخز والوشي وغير ذلك وخيول حسنة، وكان منهم هبيرة بن مشمرج الكلابي، فقال لهم: إذا دخلتم عليه فأعلموه أني قد حلفت أني لا أنصرف حتى أطأ بلادهم وأختم ملوكهم وأجب خراجهم.
فساروا وعليهم هبيرة، فلما قدموا عليهم دعاهم ملك الصين فلبسوا ثياباً ببياضاً تحتها الغلائل وتطيبوا ولبسوا النعال والأردية، ودخلوا عليه وعنده عظماء قومه فجلسوا، فلم يكلمهم الملك ولا أحد ممن عنده، فنهضوا. فقال الملك لمن حضره: كيف رأيتم هؤلاء؟ فقالوا: رأينا قوماً ما هم إلا نساء، ما بقي منا أحد إلا انتشر ما عنده.

فلما كان الغد دعاهم فلبسوا الوشي والعمائم الخز والمطارف وغدوا عليه، فلما دخلوا قيل لهم: ارجعوا، وقال لأصحابه: كيف رأيتم هذه الهيئة؟ قالوا: هذه أشبه بهيئة الرجال من تلك. فلما كان اليوم الثالث دعاهم، فشدوا سلاحهم ولبسوا البيض والمغافر وأخذوا السيوف والرماح والقسي وركبوا. فنظر إليهم ملك الصين فرأى مثل الجبل، فلما دنوا ركزوا رماحهم وأقبلوا مشمرين، فقيل لهم: ارجعوا: فركبوا خيولهم وأخذوا رماحهم ودفعوا خيلهم كأنهم يتطاردون. فقال الملك لأصحابه: كيف ترونهم؟ قالوا: ما رأينا مثل هؤلاء.
فلما أمس بعث إليهم: أن أبعثوا إلي زعيمكم. فبعثوا إليه هبيرة ابن مشمرج، فقال له: قد رأيتم عظيم ملكي وأنه ليس أحد منعكم مني، وأنتم في يدي بمنزلة البيضة في كفي، وإني سائلكم عن أمر فإن لم تصدقوني قتلتكم. قال: سل. قال: لم صنعتم بزيكم الأول اليوم الأول والثاني والثالث ما صنعتم؟ قال أما زينا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا، وأما اليوم الثاني والثالث ما صنعتم؟ قال أما زينا اليوم الأول فلباسنا في أهلنا، وأما اليوم الثاني فزينا إذا منا أمراءنا، وأما الثالث فزينا لعدونا. قال: ما أحسن مادبرتم دهركم، فقولوا لصاحبكم ينصرف، فإني قد عرفت قلة أصحابه وإلا بعثت إليكم من يهلككم. قال: كيف يكون قليل الأصحاب من أول خيله في بلادك وآخرها في منابت الزيتون؟ وأما تخويفك إيانا بالقتل فإن لنا آجالاً إذا حضرت فأكرمها القتل ولسنا نكرهه أو نخافه؛ وقد حلف أن لاينصرف حتى يطأ أرضكم ويختم ملوككم ويعطى الجزية.
فقال: فإنا نخرجه من يمينه ونبعث تراب أرضنا ونبعث إليه ببعض أبنائنا فيختمهم ونبعث إليه بجزية يرضاها. فبعث إليه بهدية وأربعة غلمان من أبناء ملوكهم، ثم أجازهم فأحسن، فقدموا على قتيبة، فقبل قتيبة الجزية وختم الغلمان وردهم ووطئ التراب. قال سوادة بن عبد الملك السولي:
لاعيب في الوفد الذين بعثتهم ... للصين إن سلكوا طريق المنهج
كسروا الجفون على الردى ... حاشا الكريم هبيرة بن مشمرج
أدى رسالتك التي استرعيته ... فأتاك من حنث اليمين بمخرج
فأوفد قتيبة هبيرة إلى الوليد، فمات بقرية من فارس، فرثاه سوادة فقال:
لله در هبيرة بن مسمرج ... ماذا تضمن من ندى وجمال
وبديهة تعنى بها أبناؤها ... عند احتفال مشاهد الأقوال
كان الربيع إذا السنون تتابعت ... والليث عند تكعكع الأبطال
فسقى بقرية حيث أمسى قبره ... غر يرحن بمسبلٍ هطال
لكت الجياد الصافنات لفقده ... وبكاه كل مثقفٍ عسال
وبكته شعث لم يجدن مواسياً ... في العام ذي السنوات والإمحال
ووصل الخبر إلى قتيبة في هذه الغزاة بموت الوليد.
وكان قتيبة إذا رجع من غزاته كل سنة اشترى اثني عشر فرساً واثني عسر هجيناً، فتحدر إلى وقت الغزو، فإذا تأهب للغزو ضمرها وحمل عليها الطلائع، وكان يجعل الطلائع فرسان الناس وأشرافهم ومعهم من العجم من يستصحه، وإذا بعث طليعة أمر بلوحٍ فنقش ثم شقه بنصفين وجعل شقةً عنده ويعطي نصفه الطليعة ويأمرهم أن يدفنوه في موضع يصفه لهم من شجرة أو مخاضة أو غيرهما، ثم يبعث بعد الطليعة من يستخرجه ليعلم أصدقت الطليعة أولا.
وفيها غزا بشر بن الوليد الشاتية ورجع وقد مات الوليد.
ذكر موت الوليد بن عبد الملكوفي النصف من جمادى الآخرة من هذه السنة مات الوليد بن عبد الملك في قول جميعهم، وكانت خلافته تسع سنين وسبعة أشهر، وقيل: تسع سنين وثمانية أشهر، وقيل: وأحد عشر شهراً، وكانت وفاته بدير مران، ودفن خارج الباب الصغير، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وستة أشهر، وقيل: كان عمره خمساً وأربعين سنة، وقيل: ستاً وأربعين سنة وأشهراً، وقيل: تسعاً وأربعين. وخلف تسعة عشر ابناً، وكان دميماً بتبختر في مشيته، وكان سائل الأنف جداً، فقيل فيه:
فقدت الوليد وأنفاً له ... كثل الفصيل بدا أن يبولا
ولما دلي في جنازته جمعت ركبتاه إلى عنقه، فقال ابنه: أعاش أبي؟ فقال له عمر بن عبد العزيز، وكان فيمن دفنه: عوجل والله أبوك! واتعظ به عمر.

ذكر بعض سيرة الوليد
وكان الوليد عند أهل الشام من افضل خلائفهم، بنى المساجد، مسجد دمشق ومسجد الميدينة، على ساكنها السلام، والمسجد الأقصى، ووضع المنائر، وأعطى المجذمين ومنعهم من سؤال الناس، وأعطى كل مقعد خادماً وكل ضرير قائداً، وفتح في ولايته فتوحاً عظاماً، منها: الأندلس وكاشغر والهند.
وكان يمر بالبقال فيقف عليه ويأخذ منه حزمة بقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلس. فيقول: زد فيها.
وكان صاحبن بنا واتخاذ المصانع والضياع، وكان الناس يلتقون في زمانه فيسأل بعضهم بعضاً عن البناء، وكان سليمان صاحب طعام ونكاح، فكان الناس يسأل بعضهم بعضاً عن النكاح والطعام، وكان عمر بن عبد العزيز صاحب عبادة، وكان الناس يسأل بعضاً عن الخير ما وردك الليلة وكم تحفظ من القرآن وكم تصوم من الشهر؟ ومرض الوليد مرضة قبل وفاته وأغمي عليه فبقي يومه ذلك كأنه ميت، فبكوا عليه وسارت البرد بموته، فاسترجع الحجاج وشد في يده حبلاً إلى أسطوانة وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له فقد طال ما سألتك أن تجعل منيتي قبله! فإنه كذلك يدعو إذ قدم عليه البريد بإفاقته. ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أشد سروراً بعافيتي من الحجاج؛ ثم لم يمت حتى قفل الحجاج عليه.
وكان الوليد أراد أن يخلع أخاه سليمان ويبايع لولده عبد العزيز، فأبى سليمان، فكتب إلى عماله ودعا الناس إلى ذلك، فلم يجبه إلا الحجاج وقتيبة وخواص من الناس، فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه، فأبطأ، فعزم الوليد على المسير إليه ليخلعه وأخرج خيتمة، فمات قبل أن يسير إليه.
ولما أراد أن يبني مسجد دمشق كان فيه كنيسة فهدمها وبناها مسجداً، فلما ولي عمر بن عبد العزيز شكوا إليه ذلك فقال لهم عمر: إن ما كان خارج المدينة فتح عنوةً ونحن نرد عليكم كنيستكم ونهدم كنيسة توما فإنها فتحت عنوةً ونبنيها مسجداً. فقالوا: بل ندع لكم هذا ودعوا كنيسة توما.
وكان الوليد لحاناً لا يحسن النحو، دخل عليه أعرابي فمت إليه بصهر بينه وبين قرابته، فقال له الوليد: من ختنك؟ بفتح النون، وظن الأعرابي أنه يريد الختان، فقال: بعض الأطباء. فقال له سليمان: إنما يريد أمير المؤمنين من ختنك؟ وضم النون. فقال الأعرابي: نعم فلان، وذكر ختنه. وعاتبه أبوه على ذلك وقال: إنه لا يلي العرب إلا من يحسن كلامهم. فجمع أهل النحو ودخل بيتاً فلم يخرج منه ستة أشهر ثم خرج وهو أجهل منه يوم دخل. فقال عبد الملك: قد أعذر. فقيل: إنه لما ولي الخلافة يختم القرآن في كل ثلاث، وكان يقرأ في رمضان كل يوم ختمة، وخطب يوماً فقال: يا ليتها كانت القاضية، وضم التاء، فقال عمر بن عبد العزيز: عليك وأراحتنا منك.
ذكر خلافة سليمان بن عبد الملك وبيعتهوفي هذه السنة بويع سليمان بن عبد الملك في اليوم الذي توفي فيه الوليد وهو بالرملة.
وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عثمان بن حيان عن المدينة لسبع بقين من رمضان واستعمل عليها أبا بكر بن محمد بن حزم، وكان عثمان قد عزم على أن يجلد أبا بكر ويحلق لحيته من الغد، فلما كان الليل جاء البريد إلى أبي بكر بتأميره وعزل عثمان وحده، وأن يقيده.
وفيها عزل سليمان يزيد بن أبي مسلم عن العراق واستعمل يزيد بن المهلب وجعل صالح بن عبد الرحمن على الخراج وأمره بقتل بني عقيل وبسط العذاب عليهم وهم أهل الحجاج، فكان يعذبهم ويلي عذابهم عبد الملك بن المهلب، وكان يزيد بن المهلب قد استعمل أخاه زياداً على حرب عثمان.
ذكر مقتل قتيبةقيل: وفي هذه السنة قتل قتيبة بن مسلم الباهلي بخراسان

وكان سبب قتله أن الوليد بن عبد الملك أراد أن ينزع أخاه سليمان من ولاية العهد ويجعل بدله ابنه عبد العزيز، فأجابه إلى ذلك الحجاج وقتيبة على ما تقدم. فلما مات الوليد وولي سليمان خافه قتيبة وخاف أن يولي سليمان يزيد ابن المهلب خراسان، فكتب قتيبة إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان، وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه فتوحه ونكاتيه، وعظم قدره عند ملوك العجم وهيبته في صدورهم، وعظم صولته فيهم، ويذم أهل المهلب ويحلف بالله لئن استعمل يويد على خراسان ليخلعنه. وكتب كتاباً ثالثاُ فيه خلعه، وبعث الكتب مع رجل من باهلة فقال له: ادفع الكتاب الأول إليه فإن كان يزيد حاضراً فقرأه ثم ألقاه إلى يزيد فادفع إليه هذا الثاني، فإن قرأه ودفع إلى يزيد فادفع إليه هذا التالي، فغن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس الكتابين الآخرين فقدم رسول قتيبة فدخل على سليمان وعنده يزيد بن المهلب فدفع إليه الكتاب، فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الكتاب الآخر فقرأه وألقاه إلى يزيد، فأعطاه الكتاب الثالث فقرأه فتغير لونه وختمه وأمسكه بيده.
وقيل: كان في الكتاب الثالث لئن لم تقرني على ما كنت عليه وتؤمنني لأخلعنك ولأملأنها عليك رجالاً وخيلاً.
ثم أمر سليمان برسول قتيبة فأنزل، فاحضره ليلاً فأعطاه دنانير جائزته وأعطاه عهد قتيبة على خراسان، وسير معه رسولاً بذلك، فلما كانا بحلوان بلغهما خلع قتيبة، فرجع رسول سليمان.
وكان قتيبة لما هم بخلع سليمان استشار إخوته، فقال له أخوه عبد الرحمن: اقطع بعثاً فوجه فيه كل من تخافه ووجه قوماً إلى مرو وسر حتى تنزل سمرقند، وقل لمن معك: من أحب المقام فله المراسلة، ومن أراد الانصراف فغير مستكره، فلا يقيم عندك إلا مناصح ولا يختلف عليك أحد.
وقال له أخوه عبد الله: اخلعه مكانك فلا يختلف عليك رجلان. فخلع سليمان مكانه ودعا الناس إلى خلعه وذكر أثره فيهم وسوء أثر من تقدمه، فلم يجبه أحد، فغضب وقال: لا أعز الله من نصرتم! ثم والله اجتمعتم على عنز ما كسرتم قرنها! يا أهل السافلة، ولا أقول يا أهل العالية، أوباش الصدقة جمعتكم كما تجمع إبل الصدقة من كل أوب! يا معشر بكر بن وائل! يا أهل النفخ والكذب والبخل! بأي يوميكم تفخرون؟ بيوم حربكم أو بيوم سلمكم! يا أصحاب مسيلمة! يا بني ذميم؛ ولا أقول تميم! يا أهل الجور والقصف كنتم تسمون الغدر في الجاهلية كيسان! يا أصحاب سجاح! يا معشر عبد القيس القساة تبدلتم بتأبير النخل أعنة الخيل! يا معشر الأزد تبدلتم بقلوس السفن أعنة الخيل! إن هذا بدعة في الإسلام، الأعراب وما الأعراب لعنة الله عليهم! يا كناسة المصرين جمعتكم من منابت الشيخ والقيصوم تركبون البقر والحمر، فلما جمعتكم قلتم كيت وكيت،! أما والله إني لابن أبيه وأخو أخيه! والله لأعصبنكم عصب السلمة! إن حول الصليان لزمزمة! يا أهل خراسان أتدرون من وليكم؟ يزيد ابن مروان. كأني بأمير جاءكم فغلبكم على فيئكم وظلاكم! ارموا غرضكم القصي! حتى متى يتبطح أهل الشام بأفنيتكم! يا أهل خراسان انسبوني تجدوني عراقي الأم والمولد والرأي والهوى والدين وقد أصبحتم فيما ترون من الأمن والعافية! قد فتح الله لكم البلاد وآمن سبلكم، فالظعينة تخرج من مرو إلى بلخ بغير جواز، فاحمدوا الله على العافية واسألوه الشكر والمزيد.

ثم نزل فدخل بيته، فاتاه أهله وقالوا: ما رأيناك كاليوم قط؛ ولاموه . فقال: لما تكلمت فلم يجبني أحد غضبت فلم أدر ما قلت. وغضبت الناس وكرهوا خلع سليمان فأجمعوا على خلع قتيبة وخلافه، وكان أول من تكلم الأزد، فاتوا حضين بن المنذر بضاض معجمة، فقالوا: إن هذا قد دعا إلى خلع الخليفة وفيه فساد الدين والدنيا وقد شتمنا فما ترى؟ فقال: إن مضر بخراسان كثيرة وتميم أكثرها وهم فرسان خراسان ولا يرضون يصير الأمر في غير مضر، فإن أخرجتموهم منه أعانوا قتيبة. فأجابوه إلى ذلك وقالوا: من ترى من تميم؟ قال: لا أرى غير وكيع. فقال حيان النبطي مولى بني شيبان: إن أحداً لا يتولى هذا غير وكيع فيصلى بحره ويبذل دمه ويتعرض للقتل، فإن قدم أمير أخذه بما جنى، فإنه لا ينظر في عاقبة وله عشيرة تطيعه وهو موتور يطلب قتيبة برياسته التي صرفها عنه وصيرها لضرار ابن حصين الضبي.
فمشى الناس بعضهم إلى بعض سراً، وقيل لقتيبة: ليس يفسد أمر الناس إلا حيان، فأراد أن يغتاله، وكان حيان يلاطف خدم الولاة، فدعا قتيبة رجلاً فأمره بقتل حيان، وسمع بعض الخدم فأتى حيان فأخبره، فلما جاء رسوله يدعوه تمارض. وأتى الناس وكيعاً وسألوه أن يلي أمرهم ففعل.
وبخراسان يومئذ من أهل البصرة والعالية من المقاتلة تسعة آلاف، ومن بكر سبعة آلاف، ورئيسهم حضين بن المنذر، ومن تميم عشرة آلاف، وعليهم ضرار بن حصين، وعبد القيس أربعة آلاف، وعليهم عبد الله بن علوان، والأزد عشرة آلاف، وعليهم عبد الله بن حوذان، ومن أهل الكوفة سبعة آلاف، وعليهم جهم بن زحر، والموالي سبعة آلاف، عليهم حيان، وهو من الديلم، وقيل من خراسان، وإنما قيل له نبطي للكنته.
فأرسل حيان إلى وكيع: إن أنا كففت عنك وأعنتك أتجعل لي الجانب الشرقي من نهر بلخ خراجه ما دمت حياً وما دمت أميراً؟ قال: نعم. فقال حيان للعجم: هؤلاء يقاتلون على غير دين فدعوهم يقتل بعضهم بعضاً. ففعلوا فبايعوا وكيعاً سراً.
وقيل لقتيبة: إن الناس يبايعون ويكيعاً. فدس ضرار بن الضبي إلى وكيع فبايعه سراً، فظهر لقتيبة أمره فأرسل يدعوه، فوجده قد طلى رجليه بمغرة وعلق على رأسه حرزاً وعنده رجلان يرقيان رجله، فقال للرسول: قد ترى ما برجلي. فرجع فأخبر قتيبة، فأعاده إليه يقول له: لتأتيني محمولاً. قال: لا أستطيع. فقال قتيبة لصاحب شرطته: انطلق إلى وكيع فأتني به فإن أبى فاضرب عنقه، ووجه معه خيلاً، وقيل: أرسل إليه شعبة بن ظهير التميمي، فقال له وكيع: يا ابن ظهير: البث قليلاً تلحق الكتائب. وليس سلاحه ونادى في الناس، فأتوه، وركب فرسه وخرج، فتلقاه رجل، فقال: ممن أنت؟ قال: من بني أسد. قال: ما أسمك؟ قال: ضرغامة. قال: ابن من؟ قال: ابن ليث، فأعطاه رايته، وقيل كانت مع عقبة بن شهاب المازني. وأتاه الناس أرسالاً من كل وجه، فتقدم بهم وهو يقول:
قرم إذا حمل مكروهةً ... شد الشراسيف لها والحزيم
واجتمع إلى قتيبة أهل بيته وخواص أصحابه وثقاته، منهم إياس بن بيهس بن عمرو، وهو ابن عم قتيبة، فأمر قتيبة رجلاً فنادى: أين بنو عامر؟ فقال له محقر بن جزء العلائي، وهو قيسي أيضاً، وكان قتيبة قد جفاهم: نادهم حيث وضعتهم. قال قتيبة: ناد: أذكركم الله والرحم. قال محقر: أنت قطعتها. قال: ناد العتبى. قال محقر: لا أقالنا الله إذن؛ فقال قتيبة عند ذلك:
يا نفس صبراً على ما كان من ألمٍ ... إذ لم أجد لفضول العيش أقرانا
ودعا ببرذون له مدرب ليركبه، فجعل يمنعه حتى أعيا. فلما رأى ذلك عاد إلى سريره فجلس عليه وقال: دعوه، إن هذا أمر يراد. وجاء حيان النبطي في العجم وقتيبة واجد عليه، فقال عبد الله أخو قتيبة لحيان: احمل عليهم. فقال حيان: لم يأن بعد. فقال عبد الله: ناولني قوسي. فقال حيان: ليس هذا بيوم قوس. وقال حيان لابنه: إذا رأيتني قد حولت قلنسوتي ومضيت نحو عسكر وكيع فمل بمن معك من العجم إلي.
فلما حول حيان قلنسوته مالت الأعاجم إلى عسكر وكيع وكبروا. فبعث قتيبة أخاه صالحاً إلى الناس. فرماه رجل من بني ضبة، وقيل من بلعم، فأصاب رأسه، فحمل إلى قتيبة ورأسه مائل فوضع في مصلاة، وجلس قتيبة عنده ساعة.

وتهايج الناس وأقبل عبد الرحمن أخو قتيبة نحوهم، فرماه أهل السوق والغوغاء فقتلوه، وأحرق الناس موضعاً كانت فيه إبل لقتيبة ودوابه ودنوا منه. فقاتل عنه رجل من باهلة، فقال له قتيبة: انج بنفسك. فقال: بئس ما جزيتك إذاً وقد أطعمتني الجردق وألبستني النرمق.
وجاء الناس حتى بلغوا فسطاطه فقطعوا أطنابه، وجرح قتيبة جراحات كثيرة، فقال جهم ابن زحر بن قيس لسعد: انزل فخذ رأسه، فنزل سعد فشق الفسطاط أهز رأسه وقتل معه من أهل إخوته عبد الرحمن وعبد الله وصالح وحصين وعبد الكريم بنو مسلم، وقتل كثير ابنه، وقيل قتل عبد الكريم فقزوين.
وكان عدة من قتل مع قتيبة من أهل بيته أحد عشر رجلاً، ونجا عمر ابن مسلم أخو قتيبة، نجاة أخواله. وكانت أمه الغبراء بنت ضرار بن القعقاع ابن معبد بن زرارة القيسية.
فلما قتل قتيبه صعد وكيع المنبر فقال: مثلي ومثل قتيبة كما قال الأول: من ينك العير ينك نياكا أراد قتيبة قتلي وأنا قتال
قد جربوني ثم جربوني ... من غلوتين ومن المئتين
حتى إذا شبت وشيبوني ... خلوا عناني وتنكبوني
أنا أبو مطرف! ثم قال:
أنا ابن خندق تنميني قبائلها ... بالصالحات وعمي قيس عيلانا
ثم أخذ بلحيته فقال:
شيخ إذا حمل مكروهةً ... شد الشراسيف لها والحزيم
والله لأقتلن ثم لأقتلن! ولأصلبن ثم لأصلبن!إن مرزبانكم هذا ابن الزانية قد أغلى أسعاركم! والله ليصيرن القفيز بأربعة دراهم أو لأصلبنه! صلوا على نبيكم. ثم نزل، وطلب وكيع رأس قتيبة وخاتمه، فقيل له: إن الأزد أخذته. فخرج وكيع مشهراً وقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أبرح حتى أوتى بالرأس أو يذهب رأسي معه. فقال له حضين: اسكن يا أبا مطرف فإنك توتى به. وذهب حضين إلى الأزد، وهو سيدهم، فأمرهم بتسليم ارأس إلى وكيع، فسلموه إليه، فسيره إلى سليمان مع نفر ليس فيهم تميمي، ووفى وكيع لحيان النبطي بما كان ضمن له.
فلما أتي سليمان برأس قتيبة ورؤوس أهله كان عنده الهذيل بن زفر ابن الحارث، فقال له: هل ساءك هذا يا هذيل؟ فقال: لو ساءني لساء قوماً كثيراً. فقال سليمان: ما أردت هذا كله. وإنما قال سليمان هذا للهذيل لأنه هو وقتيبة من قيس عيلان؛ ثم أمر بالرؤوس فدفنت، ولما قتل قتيبة قال رجل من أهل خراسان: يا معشر العرب قتلتم قتيبة، والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستقي به وسنتفتح به إذا غزونا، وما صنع أحد بخراسان قط ما صنع قتيبة إلا أنه غدر، وذلك أن الحجاج كتب إليه: أن اختلهم واقتلهم لله.
وقال الأصبهبذ: قتلتم قتيبة ويزيد بن المهلب وهما سيدا العرب. قيل له: أيهما كان أعظم عندكم وأهيب؟ قال: لو كان قتيبة بأقصى جحر في الغرب مكبلاً ويزيد معنا في بلادنا والٍ علينا لكان قتيبة أهيب في صدورنا وأعظم من يزيد. وقال الفرزدق في ذلك:
أتاني ورحلي في المدينة وقعة ... لآل تميم أقعدت كل قائم
وقال عبد الرحمن بن جمانة الباهلي يرثي قتيبة:
كأن أبا حفصٍ قتيبة لم يسر ... بجيشٍ إلى جيش ولم يعل منبرا
ولم تخفق الرايات والجيش حوله ... وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا
دعته المنايا فاستجاب لربه ... وراح إلى الجنات عفاً مطهرا
فما رزئ الإسلام بعد محمد ... بمثل أبي حفصٍ فبكيه عبهرا
وعبهر أم ولد له. قيل : وقال شيوخ من غسان: كنا بثنية العقاب إذا نحن برجل معه عصاً وجراب، قلنا: من أين أقبلت؟ قال: من خراسان. قلنا: هل كان بها من خبر؟ قال: نعم، قتل بها قتيبة بن مسلم أمس. فعجبنا لقوله، فلما رأى إنكارنا قال: أين يروني الليلة من إفريقية؟ وتركنا ومضى، فاتبعناه على خيولنا فإذا هو يسبق الطرف.
ذكر عدة حوادثقيل: وفي هذه السنة مات قرة بن شريك العبسي أمير مصر في صفر، وقيل: مات سنة خمس وتسعين في الشهر الذي مات فيه الحجاج.

وحج بالناس هذه السنة أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، وهو أمير المدينة، وكان على مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد بفتح الهمزة وكسر السين. وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب. وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن. وعلى البصرة سفيان بن عبد الله الكندي من قبل يزيد ابن المهلب. وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة. وعلى قضاء الكوفة أبو بكر أبن أبي موسى. وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود.
وفيها مات شريح القاضي، وقيل سنة سبع وتسعين، وله مائة وعشرون سنة. وفيها مات بعد الرحمن بن أبي بكرة. وحمود بن لبيد الأنصاري، وله صحبة. وفي ولاية الوليد مات عبد الله بن حيريز، قيل له صحبة. وأبو سعيد المقبري، كان يسكن المقابر فنسب إلها.
وفيها توفي إبراهيم بن يزيد النخعي الفقيه. وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف وله خمس وسبعون سنة. وفيها توفي عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان في أيام الوليد بن عبد المكل. وفيها توفي محمد بن أسامة بن زيد بن حارثة، وعباس بن سهل بن سعد الساعدي.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين

ذكر مقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير
وكان سبب قتله أن أباه استعمله على الأندلس، كما ذكرنا، عند عوده إلى الشام، فضبطها وسدد أمورها وحمى ثغورها، وافتتح في إمارته مدائن بقت بعد أبيه، وكان خيراً فاضلاً، وتزوج امرأة رذريق، فحظيت عنده وغلبت عليه فحملته على أن يأخذ أصحابه ورعيته بالسجود له إذا دخلوا عليه كما كان يفعل لزوجها رذريق. فقال لها: إن ذلك ليس في ديننا. فلم تزل به حتى أمر ففتح باب قصير لمجلسه الذي كان يجلس فيه، فكان أحدهم إذا دخل منه طأطأ رأسه فيصبر كالراكع، فرضيت به، فصار كالسجود عندها، فقالت له: الآن لحقت بالملوك وبقي أن أعمل لك تاجاً مما عندي من الذهب واللؤلؤ، فأبى، فلم تزل به حتى فعل. فانكسف ذلك للمسلمين فقيل تنصر، وفطنوا للباب فثاروا عليه فتقلوه في آخر سنة سبع وتسعين. وقيل: إن سليمان ابن عبد الملك بعث إلى الجند في قتله عند سخطه على والده موسى بن نصير، فدخلوا عليه وهو في المحراب فصلى الصبح وقد قرأ الفاتحة وسورة الواقعة فضربوه بالسيوف ضربة واحدة وأخذوا رأسه فسيروه إلى سليمان، فعرضه سليمان على أبيه، فتجلد للمصيبة وقال: هنيئاً له بالشهادة فقد قتلتموه والله صواماً قواماً. وكانوا يعدونها من زلات سليمان. وكان قتله على هذه الرواية سنة ثمان وتسعين في آخرها.
ثم إن سليمان ولى الأندلس الحر بن عبد الرحمن الثقفي، فأقام والياً عليها إلى أن استخلف عمر بن عبد العزيز فعزله، هذا آخر ما أردنا ذكره من قتل عبد العزيز على سبيل الأختصار.
وفيها عزل سليمان بن عبد الملك عبد الله بن موسى بن نصير عن إفريقية واستعمل عليها محمد بن يزيد القرشي، فلم يزل عليها حتى مات سليمان فعزل، فاستعمل عمر بن عبد العزيز مكانه إسماعيل بن عبد الله سنة مائة، وكان حسن السيرة، فاسلم البربر في أيامه جميعهم.
ذكر ولاية يزيد بن الملهلب خراسانوكان السبب في ذلك أن سليمان بن عبد الملك لما ولى يزيد العراق فوض إليه حربها والصلاة بها وخراجها، فنظر يزيد لنفسه وقال: إن العراق قد أخرجها الحجاج وأنا اليوم رجل أهل العراق ومتى قدمتها وأخذت الناس بالخراج وعذبتهم على ذلك صرت مثل الحجاج وأعدت عليهم السجون وما عافاهم الله منه، ومتى لم آت سليمان بمثل ما كان الحجاج أتى به لم يقبل مني. فأتى يزيد سليمان وقال: أدلك على رجل بصير بالخراج توليه إياه؟ قال: نعم. قال: صالح بن عبد الرحمن مولى بني تميم، فولاه الخراج وسيره قبل يزيد، فنزل واسطاً، وأقبل يزيد، فخرج الناس يتلقونه، ولم يخرج صالح حتى قرب يزيد، فخرج صالح في الدراعة بين يديه أربعمائة من أهل الشام فلقي يزيد وسايره، فنزل يزيد، وضيق عليه صالح فلم يمكنه من شيء، واتخذ يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال يزيد: اكتب ثمنها علي. واشترى يزيد ألف خوان يطعم الناس عليها، فأخذها صالح، فقال يزيد: اكتب ثمنها علي. واشترى يزيد متاعاً وكتب صكاً بثمنه إلى صالح، فلم يقبله وقال ليزيد: إن الخراج لا يقوم بما تريد ولا يرضى بهذا أمير المؤمنين وتؤخذ به. فضاحكه يزيد وقال: أجر هذا المال هذه المرة ولا أعود. ففعل صالح.

وكان سليمان لم يجعل خراسان إلى يريد، فضجر يزيد من العراق لتضيق صالح عليه، فدعا عبد الله بن الأهتم فقال له: إني أريدك لأمرٍ قد أهمني فأحب أن تكفينه. قال: أعل. قال: أنا فيما ترى من الضيق وقد ضجرت منه وخراسان شاغرة برجلها فهل من حيلة؟ قال: نعم، سرحني إلى أمير المؤمنين. قال: فاكتم ما أخبرتك. وكتب إلى سليمان يخبره بحال العراق وأثنى على ابن الأهتم وذكر علمه بها، وسير ابن الأهتم على البريد.
فأتى سليمان واجتمع به، فقال له سليمان: إن يزيد كتب إلي يذكر علمك بالعراق وخراسان، فكيف علمك بها؟ قال: أنا أعلم الناس بها، بها ولدت وبها نشأت ولي بها وبأهلها خبر وعلم. قال: فأشير علي برجل أوليه خراسان. قال: أمير المؤمنين أعلم بمن يريد، فإن ذكر منهم أحداً أخبرته برأيي فيه. فسمى رجلاً من قريش، فقال: ليس من رجال خراسان. قال: فعبد الملك بن المهلب. قال: لا يصلح فإنه يصبو عن هذا فليس له مكر أبيه ولا شجاعة أخيه.
حتى عدد رجالاً، وكان آخر من ذكر وكيع بن أبي سود، فقال: يا أمير المؤمنين وكيع، لقد أدرك بثأري وشفاني من عدوي، ولكن أمير المؤمنين أعظم حقاً والنصيحة له تلزمني، إن وكيعاً لم تجتمع له مائة عنان قط إلا حدث نفسه بغدرة، خامل في الجماعة ثابت في الفتنة، قال: ما هو ممن تستعين به، فمن لها ويحك؟ قال: رجل أعلمه لم يسمه أمير المؤمنين. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لي أمير المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم. قال: فمن هو؟ قال: لا أذكره حتى يضمن لي أمي المؤمنين ستر ذلك وأن يجيرني منه إن علم. قال: نعم. قال: يزيد بن المهلب.
قال: العراق أحب إليه من خراسان. قال ابن الأهتم: قد علمت ولكن تكرهه فيستخلف على العراق ويسير. قال: أصبت. فكتب عهد يزيد على خراسان وسيره مع ابن الأهتم، فأتى يزيد به فأمره بالجهاز للمسير ساعته، وقدم ابنه مخلداً إلى خراسان من يومه، ثم سار يزيد بعده واستخلف على واسط الجراح بن عبد الله الحكمي، واستعمل على بالبصرة، وكان أوثق إخوته عنده، واستخلف بالكوفة حرملة بن عيمر اللخمي أشهراً ثم عزله، وولى بشير بن حيان النهدي. وكانت فيس تزعم أن قتيبة لم يخلع، فلما سار يزيد إلى خراسان أمره سليمان أن يسأل عن قتيبة فإن أقامت قيس البينة أن قتيبة لم يخلع أن يقيد وكيعاً به، ولما وصل مخلد بن يزيد مرو أخذه فحبسه وعذبه وأخذ أصحابه وعذبهم قبل قدوم أبيه، وكانت ولاية وكيع خراسان تسعة أشهر أو عشرة أشهر.
ثم قدم يزيد في هذه السنة خراسان فأدنى أهل الشام وقوماً من أهل خراسان، فقال نهار بن توسعة في ذلك:
وما كنا نؤمل من أميرٍ ... كما كنا نؤمل من يزيد
فأخطأ ظننا فيه وقدماً ... زهدنا في معاشرة الزهيد
إذا لم يعطنا نصفاً أمير ... مشينا نحوه مشي الأسود
فمهلاً يا يزيد أنب إلينا ... ودعنا من معاشرة العبيد
نجيب ولا ترى إلا صدوداً ... على أنا نسلم من بعيد
ونرجع خائبي بلا نوالٍ ... فما بال التجهم والصدود
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جهز سليمان بن عبد الملك الجيوش إلى القسطنطينية واستعمل ابنه داود على الصائفة فافتتح حصن المرأة. وفيها غزا مسلمة أرض الوضاحية ففتح الحصن الذي فتحه الوضاح صاحب الوضاحية. وفيها غزا عمر بن هبيرة أرض الروم في البحر فشتى فيها. وفيها حج سليمان بن عبد الملك بالناس وفيها عزل دواد بن طلحة الحضرمي عن مكة، وكان عمله عليها ستة أشهر، وولي عبد العزيز بن عبد الله بن خالد. وكان عمال الأمصار من تقدم ذكرهم.
وفيها مات عطاء بن يسار، وقيل سنة ثلاث ومائة. وفيها مات موسى ابن نصير الذي فتح الأندلس، وكان موته بطريق مكة مع سليمان بن عبد الملك. وفيها توفي قيس بن أبي حازم البجلي وقد جاوز مائة سنة، وجاء إلى النبي، صلى الله عليه وسلم ، ليسلم، فرآه قد توفي، وروى عن العشرة، وقيل: لم يرو عن عبد الرحمن بن عوف، وذهب عقله في آخر عمره.
حازم بالحاء المهملة والزاي المعجمة.
وفيها توفي سالم بن أبي الجعد مولى أشجع، واسم أبي الجعد رافع.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين

ذكر محاصرة القسطنطينية

في هذه السنة سار سيمان بن عبد الملك إلى دابق وجهز جيشاً مع أخيه مسلمة بن عبد الملك ليسير إلى القسطنطينية، ومات ملك الروم، فأتاه أليون من أذربيجان فأخبره، فضمن له فتح الروم، فوجه مسلمة معه، فسارا إلى القسطنطينية، فلما دنا منها أمر كل فارس أن يحمل معه مدين من طعام على عجز فرسه إلى القسطنطينية، ففعلوا، فلما أتاها أمر بالطعام فألقي أمثال الجبال، وقال للمسلمين: لا تأكلوا منه شيئاً وأغيروا في أرضهم وازرعوا. وعمل بيوتاً من خشب، فشتى فيها وصاف، وزرع الناس، وبقي الطعام في الصحراء والناس يأكلون ما أصابوا من الغارات ومن الزرع، وأقام مسلمة قاهراً للروم معه أعيان الناس خالد بن معدان ومجاهد بن جبر وعبد الله بن أبي زكرياء الخزاعي وغيرهم.
فأرسل الروم إلى مسلمة يعطونه عن كل رأس ديناراً، فلم يقبل. فقالت الروم لأليون: إن صرفت عنا المسلمين ملكناك. فاستوثق منهم، فأتى مسلمة فقال له: إن الروم قد علموا أنك لا تصدقهم القتال وأنك تطاولهم ما دام الطعام عندك، فلو أحرقته أعطوا الطاعة بأيديهم. فأمر به فأحرق، فقوي الروم وضاق المسلمون حتى كادوا يهلكون، وبقوا على ذلك حتى مات سليمان. وقيل: إنما خدع أليون مسلمة بأن يسأله أن يدخل الطعام إلى الروم بمقدار ما يعيشون به ليلة واحدة ليصدقوه أن أمره وأمر مسلمة واحد وأنهم في أمان من السبي والخروج من بلادهم، فأذن له، وكان أليون قد أعد السفن والرجال، فنقلوا تلك اليلة الطعام، فلم يتركوا في تلك الحظائر إلا ما لا يذكر، وأصبح أليون محرباً، وقد خدع خديعة لو كانت إمرأة لعيبت بها، ولقي الجند ما لم يلقه جيش آخر، حتى إن كان الرجل ليخاف أن يخرج من العسكر وحده، وأكلوا الدواب والجلود وأصول الشجر والورق وكل شيء غير التراب، وسليمان مقيم بدابق، وتولى الشتاء فلم يقدر أن يمدهم حتى مات.
وفي هذه السنة بايع سليمان لإبنه أيوب بولاية العهد، فمات أيوب قبل أبيه. وفي هذه السنة فتحت مدينة الصقالبة، وكانت برجان قد أغارت على مسلمة بن عبد الملك وهو في قلة، فكتب إلى سليمان يستمده، فأمده، فمكرت بهم الصقالبة ثم إنهزموا. وفيها غزا الوليد بن هشام وعمرو بن قيس، فأصيب ناس من أهل أنطاكية، وأصاب الوليد ناساً من ضواحي الروم وأسر منهم بشراً كثيراً.
ذكر فتح جرجان وطبرستانفي هذه السنة غزا يزيد بن المهلب جرجان وطبرستان لما قدم خراسان.
وسبب غزوهما واهتمامه بهما أنه لما كان عند سليمان بن عبد الملك بالشام كان سليمان كلما فتح قتيبة فتحاً يقول ليزيد: ألا ترى إلى ما يفتح الله على قتيبة؟ فيقول يزيد: ما فعلت جرجان التي قطعت الطريق وأفسدت قومس ونيسابور ويقول: هذه الفتوح ليست بشيء، الشان هي جرجان.
فلما ولاه سليمان خراسان لم يكن له همة غير جرجان، فسار إليها ف مائة ألف من أهل الشام والعراق وخراسان سوى الموالي والمتطوعة، ولم تكن جرجان يومئذ مدينة إنما هي جبال ومخازم وأبواب يقوم الرجل على باب منها فلا يقدم عليه أحد. فابتدأ بقهستان فحاصرها، وكان ذلك، فإذا هزموا دخلوا الحصن. فخرجوا ذات يوم وخرج إليهم الناس فاقتتلوا قتالاً شديداً، فحمل محمد بن سبرة على تركي قد صد الناس عنه فاختلفا ضربتين، فثبت سف التركي في بيضة ابن أبي سبرة، وضربه ابن أبي سبرة فقتله ورجع وسفه يقطر دماً وسف التركي في بيضته، فنظر الناس إلى أحسن منظر رأوه.
وخرج يزيد بعد ذلك يوماً ينظر مكاناً يدخل مه عليهم، وكان في أربعمائة من وجوه الناس وفرسانهم، فلم يشعروا حتى هجم عليهم الترك في نحو أربعة آلاف فقاتلوهم ساعة، وقاتل يزيد قتالاً شديداً، فسلموا وانصرفوا، وكانوا قد عطشوا، فانتهوا إلى الماء فشربوا، ورجع عنهم العدو.
ثم إن يزيد ألح عليهم في القتال وقطع عنهم المواد حتى ضعفوا وعجزوا. فأرسل صول، دهقان قهستان، وإلى يزيد يطلب منه أن يصالحه ويؤمنه على نفسه وأهله وماله ليدفع إليه المدينة بما فيها، فصالحه ووفى له ودخل المينة فأخذ ما كان فيها من الأموال والكنوز والسبي ما لايحصى، وقتل أربعة عشر ألف تركي صبراً، وكتب إلى سليمان بن عبد الملك بذلك.

ثم خرج حتى أتى جرجان، وكان أهل جرجان قد صالحهم سعيد بن العاص، وكانوا يجبون أحياناً مائة ألف وأحياناً مائتي ألف وأحياناً ثلاثمائة ألف، وربما أعطوا ذلك وربما منعوه، ثم امتنعوا وكفروا فلم يعطوا خراجاً، ولم يأت جرجان بعد سعيد أحد ومنعوا ذلك الطريق، فلم يكن يسلك طريق خراسان أحد إلا على فارس وكرمان. وأول من صير الطريق من قومس قتيبة بن مسلم حين ولي خراسان. وبقي أمر جرجان كذلك حتى ولي يزيد وأتاهم فاستقبلوه بالصلح وزادوه وهابوه، فأجابهم إلى ذلك وصالحهم.
فلما فتح قهستان وجرجبان طمع في طبرستان أن يفتحها فعزم على أن يسير إليها، فاستعمل عبد الله بن المعمر اليشكري على الساسان وقهستان وخلف معه أربعة آلاف، ثم أقبل إلى أداني جرجان مما يلي طبرستان فاستعمل على ايذوسا راشد بن عمرو وجعله في أربعة آلاف ودخل بلاد طبرستان، فأرسل إليه لأصبهبذ صاحبها يسأله الصلح وأن يخرج من طبرستان، فأبى يزيد ورجا أن يفتحها ووجه أخاه أبا عيينة من وجه وابنه خالد بن يزيد من وجه وأبا الجهم الكلبي من وجه، وقال: إذا اجتمعتم فأبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة على الناس. فسار أبو عيينة وأقام يزيد معسكراً.
واستجاش الأصبهبذ أهل جيلان والديلم فأتوه فالتقوا في سفح جبل، فانهزم المشركون في الجبل، فاتبعهم المسلمون حتى انتهوا إلى فم الشعب، فدخله المسلمون وصعد المشركون في الجبل واتبعهم المسلمون يرومون الصعود، فرماهم العدو بالنشاب والحجارة، فانهزم أبو عيينة والمسلمون يركب بعضهم بعضاً يتساقطون في الجبل حتى انتهوا إلى عسكر يزيد، وكف عدوهم من المسلمين وأن يقطعوا عن يزيد المادة والطريق فيما بينه وبين بلاد الإسلام ويعدهم أن يكافئهم على ذلك، فثاروا بالمسلمين فقتلوهم أجمعين وهم غارون في ليلة، وقتل عبد الله بن المعمر وجميع من معه فلم ينج منهم أحد، وكتبوا إلى الأصبهبذ بأخذ المضايق والطرق.
وبلغ ذلك يزيد وأصحابه فعظم عليهم وهالهم، وفزع يزيد إلى حيان النبطي وقال له: لا يمنعك ما كان مني إليك من نصيحة المسلمين وقد جاءنا عن جرجان ما جاءنا فاعمل في الصلح. فقال: نعم. فأتى حيان الأصبهبذ فقال: أنا رجل منكم وإن كان الدين فرق بين وبينكم، فأنا لكم ناصح، فأنت أحب إلي من يزيد وقد بعث يستمد وأمداده منه قريبة، وإنما أصابوا منه طرفاً ولست آمن أن يأتيك من لا تقوم له، فأرح نفسك وصالحه، فإن صالحته صير حده. على أهل جرجان بغدرهم وقتلهم أصحابه. فصالحه على سبعمائة ألف، وقيل خمسمائة ألف وأربعمائة وقر زعفران أو قيمته من العين، وأربعمائة رجل، على كل رجل منهم ترس وطيلسان، ومع كل رجل جام من فضة وخرقة حرير وكسوة. ثم رجع حيان إلى يزيد فقال: ابعث من يحمل صلحهم، فقال: من عندهم أو من عندنا؟ قال: من عندهم، وكان يزيد قد طابت نفسه أن يعطيهم ما سألوا ويرجع إلى جرجان، فأرسل يزيد من يقبض ما صالحهم عليه حيان، فانصرف إلى جرجان. وكان يزيد قد أغرم حيان مائتي ألف درهم، وسبب ذلك أن حيان كتب إلى مخلد ابن يزيد، فبدأ بنفسه، فقال له ابنه مقاتل بن حيان: تكتب إلى مخلد وتبدأ بنفسك. قال: نعم، وإن لم يرضى لقي ما لقي قتيبة. فلبعث مخلد الكتاب إلى أبيه يزيد، فأغرمه مائتي أف درهم.
وقيل: إن سبب مسير يزيد إلى جرجان أن صولاً التركي كان ينزل قهستان والبحيرة، وهي جزيرة في البحر بينها وبين قهستان خمسة فراسخ، وهما من جرجان مما يلي خوارزم، وكان يغير على فيروز بن قول مرزبان جرجان فيصيب من بلاده. فخافه فيروز فسار إلى يزيد بخراسان وقدم عليه، فسأله عن سبب قدومه، فقال: خفت صولاً فهربت منه، وأخذ صول جرجان. فقال يزيد لفيروز: هل من حيلة لقتاله؟ قال: نعم، شيء واحد إن ظفرت به قتلته وأعطى بيده. قال: ما هو؟ قال: تكتب إلى الأصبهبذ كتاباً تسأله فيه أن يحتال لصول حتى يقيم بجرجبان واجعل له على ذلك جعلاً، فإنه يبعث بكتابك إلى صول يتقرب به إليه فيتحول عن جرجان فينزل البحيرة، وإن تحول عن جرجان وحاصرته ظفرت به.

ففعل يزيد ذلك وضمن للأصبهبذ خمسين ألف دينار إن هو حبس صولاً عن البحيرة ليحاصره بجرجان، فأرسل الأصبهبذ الكتاب إلى صول، فلما أتاه الكتاب رحل إلى البحيرة ليتحصن بها، وبلغ يزيد مسيره فخرج إلى جرجان ومعه فيروز، واستعمل على خراسان ابنه مخلداً، وعلى سمرقند وكش ونسف وبخارى ابنه معاوية، وعلى طخارستان حاتم بن قبيصة بن المهلب، وأقبل حتى أتى جرجان فدخلها ولم يمنعه منها أحد، وسار منها إلى البحيرة فحصر صولاً بها، فكان يخرج إليه صول فيقاتله ثم يرجع، فمكثوا بذلك ستة أشهر، فأصابهم مرض وموت، فأرسل صول يطلب الصلح على نفسه وماله وثلاثمائة من أهله وخاصته وسلم إليه البحيرة، فأجابه يزيد، فخرج بماله وثلاثمائة ممن أحب.
وقتل يزيد من الأتراك أربعة عشر ألفاً صبراً وأطلق الباقين. وطلب الجند أرزاقهم فقال لإدريس بن حنظلة العمي: أحصى لنا ما في البحيرة حتى نعطي الجند. فدخلها إدريس فلم يقدر على إحصاء ما فيها، فقال ليزيد: لا أستطيع ذلك وهو في ظروف، فتحصى الجواليق ويعلم ما فيها ويعطى الجند فمن أخذ شيئاً عرفنا ما أخذ من الحنطة والشعير والأرز والسمسم والعسل، ففعلوا ذلك وأخذوا شيئاً كثيراً، وكان شهر بن حوشب على خزائن يزيد بن المهلب، فرفعوا عليه أنه أخذ خريطة، فسأله يزيد عنها، فأتاه بها فأعطاها شهراً؛ فقال بعضهم:
لقد باع شهر دينه بخريطة ... فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
وقال مرة الحنفي:
يا ابن المهلب ما أردت إلى امرئ ... لولاك كان كصالح القراء
وأصاب يزيد بجرجان تاجاً فيه جوهر فقال: أترون أحداً يزهد في هذا؟ قالوا: لا. فدعا محمد بن واسع الأزدي فقال: خذ هذا التاج. قال: لا حاجة لي فيه. قال: عزمت عليك.
فأخذه، فأمر يزيد رجلاً ينظر ما يصنع به، فلقي سائلاً فدفعه إليه، فأخذ الرجل السائل وأتى به يزيد وأخبره، فأخذ يزيد التاج وعوض السائل مالاً كثيراً.
ذكر فتح جرجان الفتح الثانيقد ذكرنا فتح جرجان وقهستان وغدر أهل جرجان، فلما صالح يزيد أصبهبذ طبرستان سار إلى جرجان وعاهد الله تعالى لئن ظفر بهم لا يرفع السيف حتى يطحن بدمائهم ويأكل من ذلك الطحين. فأتاها وحصر أهلها بحصن فجاه ومن يكون بها لا يحتاج إلى عدة من طعام وشراب، فحصرهم يزيد فيها سبعة أشهر وهم يخرجون إليه في الأيام فيقاتلونه ويرجعون.
فبينا هم على ذلك إذ خرج رجل من عجم خراسان يتصيد، وقيل: رجل من طيء، فأبصر وعلاً في الجبل ولم يشعر حتى هجم على عسكرهم فرجع كأنه يريد أصحابه وجعل يخرق قباءه ويعقد على الشجر علامات، فأتى يزيد فأخبره، فضمن له يزيد دية إن دلهم على الحصن، فانتخب معه ثلاثمائة رجل واستعمل عليهم ابنه خالد بن يزيد وقال له: إن غلبت على الحياة فلا تغلبن على الموت، وإياك أن أراك عندي مهزوماً. وضم إليه جهم بن زحر، وقال للرجل: متى تصلون؟ قال: غداً العصر. قال يزيد سأجهد على مناهضتهم عند الظهر.
فساروا فلما كان الغد وقت الظهر أحرق يزيد كل حطب كان عندهم، فصار مثل الجبال من النيران، فنظر العدو إلى النيران فهالهم ذلك فخرجوا إليهم، وتقدم يزيد إليهم فاقتتلوا، وهجم أصحاب يزيد الذين ساروا على عسكر الترك قبل العصر وهم آمنون من ذلك الوجه، ويزيد يقاتلهم من هذا الوجه، فما شعروا إلا بالتكبير من ورائهم، فانقطعوا جميعاً إلى حصنهم، وركبهم المسلمون فأعطوا بأيديهم ونزلوا على حكم يزيد، فسبى ذراريهم وقتل مقاتلهم وصلبهم فرسخين إلى يمين الطريق ويساره وقاد منهم اثني عشر ألفاً إلى وادي جرجان وقال: من طلبهم بثأر فليقتل. فكان الرجل من المسلمين يقتل الأربعة والخمسة، وأجرى الماء على الدم وعليه أرحاء ليطحن بدمائهم ليبر يمينه، فطحن وخبز وأكل، وقيل: قتل منهم أربعين ألفاً.

وبنى مدينة جرجان، ولم تكن بنيت قبل ذلك مدينة، ورجع إلى خراسان واستعمل على جرجان جهم بن زحر الجعفي، وقيل: بل قال يزيد لأصحابه لما ساروا: إذا وصلتم إلى المدينة انتظروا فإذا كان السحر كبروا واقصدوا الباب فستجدونني قد نهضت بالناس إليه. فلما دخل ابن زحر المدينة أمهل حتى كانت الساعة التي أمره يزيد أن ينهض فيها فكبر، ففزع أهل الحصن، وكان أصحاب يزيد لا يلقون أحداً إلا قتلوه، ودهش الترك فبقوا لا يدرون أين يتوجهون، وسمع يزيد التكبير فسار في الناس إلى الباب فلم يجد عنده أحدأ يمنعه وهم مشغولون بالمسلمين، فدخل الحصن من ساعته وأخرج من فيه وصلبهم فرسخين من يميمن الطريق ويساره، فصلبهم أربعة فراسخ، وسبى أهلها وغنم ما فيها، وكتب إلى سليمان بالفتح يعظمه ويخبره أنه قد حصل عنده الخمس ستمائة ألف ألف، فقال له كاتبه المغيرة بن أبي قرة مولى بني سدوس: لا تكتب تسمية المال فإنك من ذلك بين أمرين، إما استكثره فأمرك بحمله وإما سمحت نفسه لك به فأعطاكه، فتكلف الهدية، فلا يأتيه من قبلك شيء إلا استقله، فكأني بك قد استغرقت ما سميت ولم يقع منه موقعاً ويبق المال الذي سميت مخلداً في دواوينهم، فإن ولي والٍ بعده أخذك به، وإن ولي من يتحامل عليك لم يرض بأضعافه، ولكت اكتب فسله القدوم وشافهه بما أحببت فهو أسلم. فلم يقبل منه وأمضى الكتاب، وقيل: كان المبلغ أربعة آلاف ألف.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أيوب بن سليمان بن عبد الملك وهو ولي عهد. وفيها فتحت مدينة الصقالبة، وقيل غير ذلك، وقد تقدم. وفيها غزا دواد بن سليمان أرض الروم ففتح حصن المرأة مما يلي ملطكية. وفيها كانت الزلازل في الدنيا كثيرة ودامت ستة أشهر. وفيها مات عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ابن مسعود وأبو عبيد مولى عبد الرحمن بن عوف، ويعرف بمولى ابن أزهر. وعبد الرحمن بن زيد بن حارثة الأنصاري. وسعيد بن مرجانة مولى قريش، وهي أمه، واسم أبيه عبد الله.
وحج بالناس عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد، وهو أمير على مكة، وكان العمال من تقدم ذكرهم إلا البصرة، فإن يزيد استعمل عليها سفيان بن عبد الله الكندي.
ثم دخلت سنة تسع وستعين

ذكر موت سليمان بن عبد الملك
في هذه السنة توفي سليمان بن عبد الملك بن مروان لعشر بقين من صفر، فكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وخمسة أيام، وقيل توفي لعشر مضين من صفر، فتكون ولايته سنتين وثمانية أشهر إلا خمسة أيام، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز. وكان الناس يقولون: سليمان مفتاح الخبر، ذهب عنهم الحجاج وولي سليمان فأطلق الأسرى وأخلى السجون وأحسن إلى الناس واستخلف عمر بن عبد العزيز. وكان موته بدابق من أرض قنسرين، لبس يوماً حلةً خضراء وعمامة خضراء ونظر في المرآة فقال: أنا الملك الفتى، فما عاش جمعة، ونظرت إليه جارية فقال: ما تنظرين؟ فقالت:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى ... غير أن لا بقاء للإنسان
ليس فيما علمته فيك عيب ... كان في الناس غير أنك فان
قيل: وشهد سليمان جنازة بدابق فدفنت في حقل فجعل سليمان يأخذ من تلك التربة ويقول: ما أحسن هذه التربة وأطيبها! فما أتى عليه جمعة حتى دفن إلى جانب ذلك القبر.
قيل: حج سليمان وحج الشعراء، فلما كان بالمدينة قافلاً تلقوه بنحو أربعمائة أسير من الروم، فقعد سليمان وأقربهم منه مجلساً عبد الله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، فقدم بطريقهم، فقال: يا عبد الله اضرب عنقه! فأخذ سيفاً من حرسي فضربه فأبان الرأس وأطن الساعد وبعض الغل ودفع البقية إلى الوجوه يقتلونهم، ودفع إلى جرير رجلاً منهم، فأعطاه بنو عبس سيفاً جيداً، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسيراً، فأعطوه سيفاً ردياً لا يقطع، فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئاً، فضحك سليمان والقوم وشمت به بنو عبس أخوال سليمان، وألقى السيف وأنشأ يقول:
وإن يك سيف خان أو قدر أتى ... بتأخي نفسٍ حتفها غير شاهد
فسيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد
كذاك سوف الهند تنبو ظباتها ... وتقطع أحياناً مناط القلائد

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34