كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

لم نبكيك، لماذا؟ للطرب ... يا أبا موسى، وترويج العب
ولترك الخمس في أوقاتها ... حرصاً منك على ماء العنب
وشنيف أنا لا أبكي له ... وعلى كوثر لا أخشى العطب
لم تكن تعرف ما حد الرضى ... لا ولا تعرف ما حد الغضب
لم تكن تصلح للملك ولم ... تعطك الطاعة بالملك العرب
لم نبكيك؟ لما عرضتنا ... للمجانيق وطوراً للسلب
في عذاب وحصار مجهد ... سدد الطرق، فلا وجه الطلب
زعموا أنك حي حاشر ... كل من قد قال هذا فكذب
ليته قد قاله في وجدة ... من جميع ذاهب حيث ذهب
أوجب الله علينا قتله ... وإذا ما أوجب الأمر وجب
كان والله علينا فتنة ... غضب الله عليه وكتب
وقيل فيه غير ذلك تركنا ذكره خوف الإطالة.
ذكر بعض سيرة الأمينلما ملك الأمين وكاتبه المأمون، وأعطاه بيعته، طلب الخصيان وأباعهم وغالى فيهم، فصيرهم لخلوته ليله ونهاره،وقوام طعامه وشرابه، وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سماهم الجرادية، وفرضاً من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء الحرائر والإماء، حتى رمي بهن، وقيل فيه الأشعار، فمما قيل فيه:
ألا أيها المثوى بطوس ... عزيباً ما نفادي بالنفوس
لقد أبقيت للخصيان هقلاً تحمل منهم شوم البسوس
فأما نوفل فالشأن فيه ... وفي بدر، فيا لك من جليس
وما للمعصمي شيء لديه ... إذا ذكروا بذي سهم خسيس
وما حسن الصغير أخس حالاً ... لديه عند مخترق الكؤوس
لهم من عمره شطر وشطر ... يعاقر فيه شرب الخندريس
وما للغانيات لديه حظ ... سوى التقطيب بالوجه العبوس
إذا كان الرئيس كذا سقيماً ... فكيف صلاحنا بعد الرئيس
فلوعلم المقيم بدار طوس ... لغز على المقيم بدار طوس
ثم وجه إلأى جمع البلدان في طلب الملهين، وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، واحتجب عن أخويه وأهل بيته، واستخف بهم وبقواده، وقسم ما في بيوت الأموال، وما بحضرته من الجواهر في خصيانه، وجلسائه، ومدثيه، وأمر ببناء مجالس لمنزهاته، ومواضع خلواته ولهوه ولعبه، وعمل خمس حراقات في دجلة على صورة الأسد، والفيل، والعقاب، والحية، والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيمأن فقال أبونواس في ذلك:
سخر الله للأمين مطايا ... لم تسخر لصاحب المحراب
فإذا ما ركابه سرن براً ... سار في الماء راكباً ليث غاب
عجب الناس إذا رأوك على صو ... رة ليث تمر مر السحاب
سبحوا إذا رأوك سرت عليه ... كيف لوأبصروك فوق العقاب
ذات زور ومنسر وجناحي ... ن اشق العباب بعد العباب
تسبق الطير في السماء إذا ما ... استعجلوها بحية وذهاب
قال الكوثر: أمر الأمين أن يفرش له على دكان في الخلد يومأن ففرش عليها بساط زرعي، ومنارق، وفرش مثله، وهيئ من آنية الذهب والفضة والجواهر أمر عظيم، وأمر قيمة جواريه أن تهيئ له مائة جارية صانعة، فتصعد إليه عشراً عشراً بأيديهن العيدان، يغنين بصوت واحد، فأصعدت إليه عشراً فاندفعن يغنين بصوت واحد:
هم قتلوه كي يكونوا مكانة ... فكما غدرت يوماً بكسرى مرازبة
فسبهن وطردهن، ثم أمرها فأصعدت عشراً غيرهن فغنينه:
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
ففعل مثل ما فعله، وأطرق طويلأن ثم قال: أصعدي عشرأن فأصعدتهن فغنين:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ... وأيسر جرماً منك ضرج بالدم
فقام من مجلسه، وأمر بهدم الدكان، تطيراً مما كان.
قيل وذكر محمد الأمين عند الفضل بن سهل بخراسان، فقال: كيف لا يستحل قتل محمد وشاعره يقول في مجلسه:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سراً فقد أمكن الجهر

فبلغت القصة الأمين، فحبس أبا نواس؛ ولم نجد في سيرته ما يستحسن ذكره من حلم، أومعدله، أوتجربة، حتى نذكرهأن وهذا القدر كاف.
ذكر وثوب الجند بطاهروفي هذه السنة وثب الجند بطاهر بعد مقتل الأمين بخمسة أيام.
وكان سبب ذلك أنهم طلبوا منه مالأن فلم يكن معه شيء، فثاروا به، فضاق بهم الأمر، وظن أن ذلك من مواطأة من الجند وأهل الأرباض، وأنهم معهم عليه، ولم يكن تحرك من أهل الأرباض أحد، فخشي على نفسه، فهرب، ونهبوا بعض متاعه، ومضى إلى عقرقوف.
وكان لما قتل الأمين أمر بحفظ الأبواب، وحول زبيدة أم الأمين وولديه موسى وعبد الله معهأن وحملهم في حراقة إلى همينيا على الزاب الأعلى، ثم أمر بحمل موسى وعبد الله إلى عمهما المأمون بخراسان.
فلما ثار به الجند نادوا موسى يا منصور، وبقوا كذلك يومهم، ومن الغد، فصوب الناس إخراج طاهر ولدي الأمين؛ ولما هرب طاهر إلى عقرقوف خرج معه جماعة من القواد وتعبأ لقتال الجند، وأهل الأرباض ببغداد؛ فلما بلغ ذلك القواد المتخلفين عنه والأعيان من أهل المدينة خرجوا واعتذروأن وأحالوا على السفهاء والأحداث، وسألوه الصفح عنهم، وقبول عذرهم.
فقال طاهر: ما خرجت عنكم إلا لوضع السيف فيكم، وأقسم بالله العظيم، عز وجل، لئن عدتم لمثلها لأعودن إلى رأيي فيكم، ولأخرجن إلى مكروهكم! فكسرهم بذلك، وأمر لهم برزق أربعة أشهر.
وخرج إليه جماعة من مشيخة أهل بغداد، وعميرة أبوشيخ بن عميرة الأسدي، فحلفوا له أنه لم يتحرك من أهل بغداد ولا من الأبناء أحد، وضمنوا منه من وراءهم، فسكن غضبه، وعفا عنهم، ووضعت الحرب أوزارهأن واستوسق الناس في المشرق والمغرب على طاعة المأمون والانقياد لخلافته.
عميرة بفتح العين وكسر الميم.
ذكر خلاف نصر بن شبث العقيلي على المأمونفي هذه السنة أظهر نصر بن سيار بن شبث العقيلي الخلاف على المأمون؛ وكان نصر من بني عقثيل يسكن كيسوم، ناحية شمالي حلب، وكان في عنقه بيعة للأمين، وله فيه هوى؛ فلما قتل الأمين أظهر نصر الغضب لذلك، وتغلب على ما جاوره من البلاد، وملك سميساط، واجتمع عليه خلق كثير من الأعراب، وأهل الطمع، وقويت نفسه، وعبر الفرات إلى الجانب الشرقي، وحدثته نفسه بالتغلب عليه، فلما رأى الناس ذلك منه كثرت جموعه وزادت عما كانت، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
شبث بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة والثاء المثلثة.
ذكر ولاية الحسن بن سهل العراق وغيره من البلادوفي هذه السنة استعمل المأمون الحسن بن سهل، أخا الفضل، على كل ما كان افتتحه طاهر من كور الجبال، والعراق ، وفارس، والأهواز، والحجاز، واليمن، بعد أن قتل الأمين، وكتب إلى طاهر بتسليم ذلك إليه، فقدم الحسن بين يديه علي بن أبي طاهر سعيد، فدافعه طاهر بتسليم الخراج إليه، حتى وفى الجند أرزاقهم، وسلم إليه العمل.
وقدم الحسن سنة تسع وتسعين ومائة، وفرق العمال، وأمر طاهراً أن يسير إلى الرقة لمحاربة نصر بن شبث العقيلي، وولاه الموصل والجزيرة والشام والمغرب، فسار طاهر إلى قتال نصر بن شبث، وأرسل إليه يدعوه إلى الطاعة، وترك الخلاف، فلم يجبه إلى ذلك، فتقدم إليه طاهر، والتقوا بنواحي كيسوم، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى فيه نصر بلاءً عظيمأن وكان الظفر له، وعاد طاهر شبه المهزوم إلى الرقة.
وكان قصارى أمر طاهر حفظ تلك النواحي؛ وكتب المأمون إلى هرثمة يأمره بالمسير إلى خراسان، وحج بالناس العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد.
ذكر وقعة الربض بقرطبةفي هذه السنة كانت بقرطبة الوقعة المعروفة بالربض؛ وسببها أن الحكم ابن هشام الأموي، صاحبهأن كان كثير التشاغيل باللهو، والصيد، والشرب، وغير ذلك مما يجانسه؛ وكان قد قتل جماعة من أعيان قرطبة، فكرهه أهلهأن وصاروا يتعرضون لجنده بالأذى والسب، إلى أن بلغ الأمر بالغوغاء أنهم كانوا ينادون عند انقضاء الأذان: الصلاة يا مخمور، الصلاة؛ وشافهه بعضهم بالقول وصفقوا عليه بالأكف؛ فشرع في تحصين قرطبة وعمارة أسوارهأن وحفر خنادقهأن وارتبط الخيل على بابه، واستكثر المماليك، ورتب جمعاً لا يفارقون باب قصره بالسلاح، فزاد ذلك في حقد أهل قرطبة، وتيقنوا أنه يفعل ذلك للانتقام منهم.

ثم وضع عليهم عشر الأطعمة، كل سنة، من غير حرص، فكرهوا ذلك، ثم عمد إلى عشرة من رؤساء سفهائهم، فقتلهم، وصلبهم، فهاج لذلك أهل الربض، وانضاف إلى ذلك أن مملوكاً له سلم سيفاً إلى صقيل ليصقله، فمطله، فأخذ المملوك السيف، فلم يزل يضرب الصقيل به إلى أن قتله، وذلك في رمضان من هذه السنة.
فكان أول من شهر السلاح أهل الربض، واجتمع أهل الربض جميعهم بالسلاح، واجتمع الجند والأمويون والعبيد بالقصر، وفرق الحكم الخيل والأسلحة، وجعل أصحابه كتائب، ووقع القتال بين الطائفتين، فغلبهم أهل الربض، وأحاطوا بقصره، فنزل الحكم من أعلى القصر، ولبس سلاحه، وركب وحرض الناس، فقاتلوا بين يديه قتالاً شديداً.
ثم أمر ابن عمه عبيد الله، فثلم في السور ثلمة، وخرج منها ومعه قطعة من الجيش، وأتى أهل الربض من وراء ظهورهم، ولم يعلموا بهم، فأضرموا النار في الربض، وانهزم أهله، وقتلوا مقتلة عظيمة، وأخرجوا من وجدوا في المنازل والدور، فأسروهم، فانتقى من الأسرى ثلاثمائة من وجوههم، فقتلهم، وصلبهم منكسين، وأقام النهب والقتل والحريق والخراب في أرباض قرطبة ثلاثة أيام.
ثم استشار الحكم عبد الكريم بن عبد الواحد بن عبد المغيث، ولم يكن عنده من يوازيه في قربه، فأشار عليه بالصفح عنهم، والعفو، وأشار غيره بالقتل، فقبل قوله، وأمر فنودي بالأمان، على أنه من بقي من أهل الربض بعد ثلاثة أيام قتلناه وصلبناه؛ فخرج من بقي بعد ذلك منهم مستخفيأن وتحملوا على الصعب والذلول خارجين من حضرة قرطبة بنسائهم وأولادهم، وما خف من أموالهم، وقعد لهم الجند والفسقة بالمراصد ينهبون، ومن امتنع عليهم قتلوه.
فلما انقضت الأيام الثلاثة أمر الحكم بكف الأيدي عن حرم الناس، وجمعهن إلى مكان، وأمر بهدم الربض القبلي.
وكان بزيع مولى أمية ابن الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن شهام محبوساً في حبس الدم بقرطبة، في رجليه قيد ثقيل، فلما رأى أهل قرطبة قد غلبوا الجند سأل الحرس أن يفرجوا له، فأخذوا عليه العهود إن سلم أن يعود إليهم، وأطلقوه، فخرج فقاتل قتالاً شديداً لم يكن في الجيش مثله، فلما انهزم أهل الربض عاد إلى السجن، فانتهى خبره إلى الحكم، فأطلقه وأحسن إليه، وقد ذكر بعضهم هذه الوقعة سنة اثنتين ومائتين.
ذكر الوقعة بالموصل المعروفة بالميدانوفيها كانت الوقعة المعروفة بالميدان بالموصل بين اليمانية والنزارية وكان سببها أن عثمان بن نعيم البجمي صار إلى ديار مضر، فشكا الأزد واليمن، وقال: إنهم يتهضموننأن ويغلبوننا على حقوقنأن واستنصرهم، فسار معه إلى الموصل ما يقارب عشرين ألفأن فأرسل إليهم علي بن الحسن الهمداني، وهوحينئذ متغلب على الموصل، فسألهم على حالهم، فاخبروه، فأجابهم إلى ما يريدون، فلم يقبل عثمان ذلك، فخرج إليهم علي من البلد في نحوأربعة آلاف رجل، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديدأن عدة وقائع، فكانت الهزيمة على النزارية، وظفر بهم علي وقتل منهم خلقاً كثيراً وعاد إلى البلد.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة خرج الحسن الهرش في جماعة من سفلة الناس معه خلق كثير من الأعراب ودعا إلى الرضى من آل محمد، وأتى النيل، فجبى الأموال ونهب القرى.
وفيها مات سفيان بن عيينة الهلالي بمكة، وكان مولده سنة تسع ومائة.
وفيها توفي عبد الرحمن بن المهدي وعمره ثلاث وستون سنة؛ ويحيى بن سعيد القطان في صفر، ومولده سنة عشرين ومائة.
حوادث سنة تسع وتسعين ومائة

ذكر ظهور ابن طباطبا العلوي
وفيها ظهر أبوعبد الله محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، لعشر خلون من جمادى الآخرة، بالكوفة، يدعوإلى الرضى من آل محمد، صلى الله عليه وسلم، والعمل بالكتاب والسنة، وهوالذي يعرف بابن طباطبأن وكان القيم بأمره في الحرب أبوالسرايا السري بن منصور، وكان يذكر انه من ولد هانئ بن قبيصة بن هانئ بن مسعود الشيباني.

وكان سبب خروجه أن المأمون لما صرف طاهراً عما كان إليه من الأعمال التي افتتحهأن ووجه الحسن بن سهل إليهأن تحدث الناس بالعراق أن الفضل ابن سهل قد غلب على المأمون، وأنه أنزله قصراً حجبه فيه عن أهل بيته وقواده، وأنه يستبد بالأمر دونه، فغضب لذلك بنوهاشم ووجوه الناس، واجترأوا على الحسن بن سهل، وهاجت الفتن في الأمصار، فكان أول من ظهر ابن طباطبا بالكوفة.
وقيل كان سبب اجتماع ابن طباطبا بأبي السرايا أن أبا السرايا كان يكري الحمير، ثم قوي حاله، فجمع نفرأن فقتل رجلاً من بني تميم بالجزيرة، وأخذ ما معه، فطلب، فاختفى، وعبر الفرات إلى الجانب الشامي، فكان يقطع الطريق في تلك النواحي، ثم لحق بيزيد بن مزيد الشيباني بأرمينية، ومعه ثلاثون فارسأن فقوده، فجعل يقاتل معه الخرمية، وأثر فيهم، وفتك وأخذ منهم غلامه أبا الشوك.
فلما عزل أسد عن أرمينية صار أبوالسرايا إلى أحمد بن مزيد، فوجهه أحمد طليعةً إلى عسكر هرثمة في فتنة الأمين والمأمون، وكانت شجاعته قد اشتهرت، فراسله هرثمة يستميله، فمال إليه، فانتقل إلى عسكره، وقصده العرب من الجزيرة، واستخرج لهم الأرزاق من هرثمة فصار معه نحوألفي فارس وراجل، فصار يخاطب بالأمير.
فلما قتل الأمين نقصه هرثمة من أرزاقه وأرزاق أصحابه، فاستأذنه في الحج، فأذن له، وأعطاه عشرين ألف درهم، ففرقها في أصحابه ومضى، وقال لهم: اتبعوني متفرقين، ففعلوأن فاجتمع معه منهم نحومن مائتي فارس، فسار بهم إلى عين التمر، وحصر عاملهأن وأخذ ما معه من المال وفرقه في أصحابه.
وسار ، فلقي عاملاً آخر ومعه مال، على ثلاثة بغال، فأخذها وسار، فلحقه عسكر كان قد سيره هرثمة خلفه، فعاد إليهم، وقاتلهم، فهزمهم، ودخل البرية، وقسم المال بين أصحابه، وانتشر جنده، فحلق به من تخلف عنه من أصحابه وغيرهم، فكثر جمعه، فسار نحودقوقأن وعليها أبوضرغامة العجلي، في سبع مائة فارس، فخرج إليه، فلقيه، فاقتتلوأن فانهزم أبوضرغامة، ودخل قصر دقوقأن فحضره أبوالسرايأن وأخرجه من القصر بالأمان وأخذ ما عنده من الأموال.
وسار إلى الأنبار، وعليها إبراهيم الشروي، مولى المنصور، فقتله أبوالسرايأن وأخذ ما فيها وسار عنها؛ ثم عاد غليها بعد إدراك الغلال، فاحتوى عليهأن ثم ضجر من طول السرى في البلاد، فقصد الرقة، فمر بطوق بن مالك التغلبي وهويحارب القيسية، فأعانه عليهم، وأقام معه أربعة أشهر يقاتل على غير طمع إلا للعصبية للربعية على المضرية، فظفر طوق واقادت له قيس.
وسار عنه أبوالسرايا إلى الرقة، فلما وصلها لقيه محمد بن إبراهيم المعروف بابن طباطبأن فبايعه، وقال له: انحدر أنت في الماء، وأسير أنا على البر، حتى نوافي الكوفة؛ فدخلاهأن وابتدأ أبوالسرايا بقصر العباس ابن موسى بن عيسى فأخذ ما فيه من الأموال والجواهر، وكان عظيماً لا يحصى، وبايعهم أهل الكوفة.
وقيل كان سبب خروجه أن أبا السرايا كان من رجال هرثمة، فمطله بأرزاقه، فغضب، ومضى إلى الكوفة فبايع ابن طباطبأن وأخذ الكوفة، واستوسق له أهلهأن وأتاه الناس من نواحي الكوفة والأعراب، فبايعوه، وكان العامل عليها للحسن بن سهل سليمان بن المنصور، فلامه الحسن، ووجه زهير بن المسيب الضبي إلى الكوفة في عشرة آلاف فارس وراجل، فخرج إليه ابن طباطبا وأبوالسرايأن فواقعوه في قرية شاهي، فهزموه، واستباحوا عسكره، وكانت الوقعة سلخ جمادى الآخرة.
فلما كان الغد، مستهل رجب، مات محمد بن إبراهيم بن طباطبا فجأة، سمه أبوالسرايا؛ وكان سبب ذلك أنه لما غمن ما في عسكره زهير منع عنه أبا السرايأن وكان الناس له مطيعين، فعلم أبوالسرايا أنه لا حكم له معه، فسمه فمات، وأخذ مكانه غلاماً أمرد يقال له محمد بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فكان الحكم إلى أبي السرايا.
ورجع زهير إلى قصر ابن هبيرة، فأقام به، ووجه الحسن بن سهل عبدوس بن محمد بن أبي خالد المرورذي، في أربعة آلاف فارس، فخرج إليه أبوالسرايأن فلقيه بالجامع لثلاث عشرة ليلة بقيت من رجب، فقتل عبدوسأن ولم يفلت من أصحابه أحد، كانوا بين قتيل وأسير.

وانتشر الطالبيون في البلاد، وضرب أبوطالب الدراهم بالكوفة وسير جيوشه إلى البصرة، وواسط، ونواحيهمأن فولى البصرة العباس بن محمد بن عيسى بن محمد الجعفري؛ وولى مكة الحسين بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي الذي يقال له الأفطس، وجعل إليه الموسم؛ وولى اليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر؛ وولى فارس إسماعيل بن موسى بن جعفر؛ وولى الأهواز زيد بن موسى بن جعفر، فسار إلى البصرة، وغلب عليهأن وأخرج عنها العباس بن محمد الجعفري، ووليها مع الأهواز، ووجه أبوالسرايا محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن الحسن بن علي إلى المدائن، وأمره أن يأتي بغداد من الجانب الشرقي، فأتى المدائن، وأقام بها وسير عسكره إلى ديالى.
وكان بواسط عبد الله بن سعيد الحرشي والياً عليها من قبل الحسن بن سهل، فانهزم من أصحاب أبي السرايا إلى بغداد، فلما رأى الحسن أن أصحابه لا يلبثون لأصحاب أبي السرايأن أرسل إلى هرثمة يستدعيه لمحاربة أبي السرايأن وكان قد سار إلى خراسان مغاضباً للحسن، فحضر بعد امتناع، وسار إلى الكوفة في شعبان، وسير الحسن إلى المدائن وواسط علي بن سعيد، فبلغ الخبر أبا السرايا وهوبقصر ابن هبيرة، فوجه جيشاً إلى المدائن، فدخلها أصحابه في رمضان، وتقدم حتى نزل بنهر صرصر، وجاء هرثمة فعسكر بإزائه، بينهما النهر، وسار علي بن سعيد في شوال إلى المدائن، فقاتل بها أصحاب أبي السرايأن فهزمهم واستولى على المدائن.
وبلغ الخبر أبا السرايأن فرجع من نهر صرصر إلى قصر ابن هبيرة، فنزل به؛ وسار هرثمة في طلبه فوجد جماعة من أصحابه، فقتلهم، ووجه رؤوسهم إلى الحسن بن سهل، ونازل هرثمة أبا السرايأن فكانت بينهما وقعة قتل فيها جماعة من أصحاب أبي السرايأن فانحاز إلى الكوفة، ووثب ن معه من الطالبيين على دور بني العباس ومواليهم وأتباعهم، فهدموهأن وانتهبوهأن وخربوا ضياعهم، وأخرجوهم من الكوفة، وعملوا أعمالاً قبيحة، واستخرجوا الودائع التي كانت لهم عند الناس.
وكان هرثمة يخبر الناس أنه يريد الحج، وحبس من قدم للحج من خراسان وغيرها ليكون هوأمير الموسم، ووجه إلى مكة داود بن عيسى بن موسى بن عيسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، وكان الذي وججه أبوالسرايا إلى مكة حسين بن حسن الأفطس بن علي بن علي بن الحسين بن علي، ووجه أيضاً إلى المدينة محمد بن سليمان بن داود بن الحسن بن علي، فدخلهأن ولم يقاتله بها أحد.
ولما بلغ داود بن عيسى توجيه أبي السرايا حسين بن حسن إلى مكة لإقامة الموسم، جمع أصحاب بني العباس ومواليهم، وكان مسرور الكبير قد حج في مائتي فارس، فتعبأ للحرب، وقال لداود: أقم إلي شخصك، أوبعض ولدك، وأنا أكفيك، فقال: لا أستحل القتال في المحرم، والله لئن دخلوها في هذا الفج لأخرجن من غيره.
وانحاز داود إلى ناحية المشاش، وافترق الجمع الذي كان جمعهم، وخاف مسرور أن يقاتلهم، فخرج في أثر داود راجعاً إلى العراق، وبقي الناس بعرفة، فصلى بهم رجل من عرض الناس بغير خطبة، ودافعوا من عرفه بغير إمام.
وكان حسين بن حسن بشرف يخاف دخول مكة، حتى خرج إليه قوم أخبروه أن مكة قد خلت من بني العباس، فدخلها في عشرة أنفس، فطافوا بالبيت، وبين الصفا والمروة، ومضوا إلى عرفة، فوقفوا ليلاً ثم رجعوا إلى مزدلفة، فصلى بالناس الصبح، وأقام بمنى أيام الحج، وبقي بمكة إلى أن انقضت السنة، وكذلك أيضاً أقام محمد بن سليمان بالمدينة، حتى انقضت السنة.
وأما هرثمة فإنه نزل بقرية شاهي، ورد الحاج، واستدعى منصور بن المهدي إليه، وكاتب رؤساء أهل الكوفة.
وأما علي بن سعيد فإنه توجه من المدائن إلى واسط، فأخذهأن وتوجه إلى البصرة، فلم يقدر على أخذها هذه السنة.
ذكر قوة نصر بن شبث العقيليوفيها قوي أمر نصر بن شبث العقيلي، وكثر جمعه، وحصر حران، وأتاه نفر من شيعة الطالبيين، فقالوا له: قد وترت بني العباس، وقتلت رجالهم، وأعلقت عنهم العرب، فلوبايعت لخليفة كان أقوى لأمرك.

فقال: من أي الناس؟ فقالوا: نبايع لبعض آل علي بن أبي طالب؛ فقال: أبايع بعض أولاد السوداوات فيقول إنه لوخلقني ورزقني؟ قالوا: فنبايع لبعض بني أمية؛ فقال: أولئك قد أدبر أمرهم، والمدبر لا يقبل أبدأن ولوسلك علي رجل مدبر لأعداني إدباره، وإمنا هواي في بني العباس، وإمنا حاربتهم محاماة على العرب لأنهم يقدمون عليهم العجم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي الحسين بن مصعب بن زريق أبوطاهر بن الحسين بخراسان، وكان طاهر بالرقة، وحضر المأمون جنازته، ونزل الفضل بن سهل قبره، ووجه المأمون يعزيه بأبيه.
وفيها توفي أبوعون معاوية بن أحمد الصمادحي، مولى آل جعفر بن أبي طالب، الفقيه المغربي الزاهد.
وفيها توفي سهل بن شاذويه أبوهارون، وعبد الله بن منير الهمداني الكوفي، وكنيته أبوهاشم، وهووالد محمد بن عبد الله بن منير شيخ البخاري ومسلم.
حوادث سنة مائتين

ذكر هرب أبي السرايا
في هذه السنة هرب أبوالسرايا من الكوفة، وكان قد حصره فيها ومن معه هرثمة، وجعل يلازم قتالهم، حتى ضجروأن وتركوا القتال؛ فلما رأى ذلك أبوالسرايأن تهيأ للخروج من الكوفة، فخرج في ثمامنائة فارس، ومعه محمد بن محمد بن زيد، ودخلها هرثمة فأمن أهلهأن ولم يتعرض إليهم؛ وكان هربه سادس عشر المحرم، وأتى القادسية وسار منها إلى السوس بخوزستان فلقي مالاً قد حمل من الأهواز، فأخذه، وقسمه بين أصحابه.
وأتاه الحسن بن علي المأموني، فأمره بالخروج من عمله، فكره قتاله فأبى أبوالسرايا إلا قتاله، فقاتله، فهزمه المأموني وجرحه، وتفرق أصحابه، وسار هوومحمد بن محمد وأبوالشوك نحومنزل أبي السرايا برأس عين، فلما انتهوا إلى جلولاء ظفر بهم حماد الكندغوش، فأخذهم، وأتى بهم الحسن بن سهل، وهوبالنهروان، فقتل أبا السرايأن وبعث رأسه إلى المأمون، ونصبت جثته على جسر بغداد، وسير محمد بن محمد إلى المأمون.
وأما هرثمة فإنه أقام بالكوفة يوماً واحداً وعاد، واستخلف بها غسان بن أبي الفرج أبا إبراهيم بن غسان، صاحب حرس والي خراسان.
وسار علي بن سعيد إلى البصرة، فأخذها من العلويين. وكان بها زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي، عليه السلام، وهوالذيث يسمى زيد النار، وإمنا سمي بها لكثرة ما أحرق بالبصرة من دور العباسيين وأتباعهم، وكان إذا أتى رجل من المسودة أحرقه؛ وأخذ أموالاً كثيرة من أموال التجار سوى أموال بني العباس؛ فلما وصل علي إلى البصرة استأمنه زيد فأمنه، وأخذه، وبعث إلى مكة، والمدينة، واليمن جيشأن فأمرهم بمحاربة من بها من العلويين، وكان بين خروج أبي السرايا وقتله عشرة أشهر.
ذكر ظهور إبراهيم بن موسىفي هذه السنة ظهر إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد، وكان بمكة، فلما بلغه خبر أبي السرايا وما كان منه سار إلى اليمن، وبها إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أملاً للمأمون، فلما بلغه قرب إبراهيم من صنعاء، سار منها نحومكة فأتى المشاش، فعسكر بهأن واجتمع بها إليه جماعة من أهل مكة هربوا من العلويين، واستولى إبراهيم على اليمن، وكان يسمى الجزار لكثرة من قتل باليمن، وسبى، وأخذ الأموال.
ذكر ما فعله الحسين بن الحسن الأفطس بمكة والبيعة لمحمد بن جعفروفي هذه السنة، في المحرم، نزع الحسين كسوة الكعبة، وكساها كسوة أخرى، أنفذها السرايا من الكوفة، من القز، وتتبع ودائع بني العباس وأتباعهم، وأخذهأن وأخذ أموال الناس بحجة الودائع، فهرب الناس منه، وتطرق أصحابه إلى قلع شبابيك الحرم، وأخذ ما على الأساطين من الذهب، وهونزر حقير، وأخذ ما في خزانة الكعبة، فقسمه مع كسوتها على أصحابه.
فلما بلغه قتل أبي السرايأن ورأى تغير الناس لسوء سيرته وسيرة أصحابه، أتى هووأصحابه إلى محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، عليه السلام، وكان شيخاً محبباً للناس، مفارقاً لما عليه كثير من أهل بيته من قبح السيرة، وكان يروي العلم عن أبيه جعفر، رضي الله عنه، وكان الناس يكتبون عنه، وكان يظهر زهدأن فلما أتوه قالوا له: تعلم منزلتك من الناس، فهلم نبايع لك بالخلافة، فإن فعلت لم يختلف عليك رجلان.

فامتنع من ذلك، فلم يزل به ابنه علي والحسين بن الحسن الأفطس، حتى غلباه على رأيه، وأجابهم، وأقاموه في ربيع الأول، فبايعوه بالخلافة، وجمعوا له الناس، فبايعوه طوعاً وكرهأن وسموه أمير المؤمنين، فبقي شهوراً وليس له من الأمر شيء، وابنه علي والحسين بن الحسن وجماعتهم أسوأ ما كانوا سيرة وأقبح فعلاً؛ فوثب الحسين بن الحسن على امرأة من بني فهر كانت جميلة، وأرادها على نفسهأن فامتنعت منه، فأخاف زوجهأن وهومن بني مخزوم، حتى توارى عنه، ثم كسر باب دارهأن وأخذها إليه مدة ثم هربت منه.
ووثب علي بن محمد بن جعفر على غلام أمرد، وهوابن قاضي مكة، يقال له إسحاق بن محمد، وكان جميلأن فأخذه قهرأن فلما رأى ذلك من أهل مكة ومن بها من المجاورين اجتمعوا بالحرم، واجتمع معهم جمع كثير، فأتوا محمد بن جعفر، فقالوا له: لنخلعنك، أولنقتلنك، أولتردن غلينا هذا الغلام! فأغلق بابه وكلمهم من شباك، وطلب منهم الأمان ليركب إلى ابنه ويأخذ الغلام، وحلف لهم أنه لم يعلم بذلك، فأمنوه، فركب إلى ابنه وأخذ الغلام منه وسلمه إلى أهله.
ولم يلبثوا إلا يسيراً حتى قدم إسحاق بن موسى العباسي من اليمن فنزل المشاش واجتمع الطالبيون إلى محمد بن جعفر، وأعلموه، وحفروا خندقأن وجمعوا الناس من الأعراب وغيرهم، فقاتلهم إسحاق، ثم كره القتال، فسار نحوالعراق، فلقيه الجند الذين أنفذهم هرثمة، إلى مكة، ومعهم الجلودي ورجاء بن جميل، فقالوا لإسحاق: ارجع معنأن ونحن نكفيك القتال، فرجع معهم، فقاتلوا الطالبيين، فهزموهم، فأرسل محمد بن جعفر يطلب الأمان، فأمنوه، ودخل العباسيون مكة في جمادى الآخرة وتفرق الطالبيون من مكة.
وأما محمد بن جعفر فسار نحوالجحفة، فأدركه بعض موالي بني العباس، فأخذ جميع ما معه، وأعطاه دريهمات يتوصل بهأن فسار نحوبلاد جهينة، فجمع بهأن وقاتل هارون بن المسيب والي المدينة، عند الشجرة وغيرهأن عدة دفعات، فانهزم محمد، وفقئت عينه بنشابة، وقتل من أصحابه بشر كثير، ورجع إلى موضعه.
فلما انقضى الموسم طلب الأمان من الجلودي، ومن رجاء بن جميل وهوابن عمة الفضل بن سهل، فأمنه، وضمن له رجاء عن المأمون وعن الفضل الوفاء بالأمان، فقبل ذلك، فأتى مكة لعشر بقين من ذي الحجة، فخطب الناس، وقال: إنني بلغني أن المأمون مات، وكانت له في عنقي بيعة، وكانت فتنة عمت الأرض، فبايعني الناس، ثم إنه صح عندي أن المأمون حي صحيح، وأنا أستغفر الله من البيعة، وقد خلعت نفسي ن البيعة التي بايعتموني عليهأن كما خلعت خاتمي هذا من إصبعي، فلا بيعة لي في رقابكم.
ثم نزل وسار سنة إحدى ومائتين إلى العراق، فسيره الحسن بن سهل إلى المأمون بمرو، فلما سار المأمون إلى العراق صحبه، فمات بجرجان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ما فعله إبراهيم بن موسىوفي هذه السنة وجه إبراهيم بن موسى بن جعفر من اليمن رجلاً من ولد عقيل بن أبي طالب في جند ليحج بالناس، فسار العقيلي حتى أتى بستان ابن عامر، فبلغه أن أبا إسحاق المعتصم قد حج في جماعة من القواد، فيهم حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان، وقد استعمله الحسن بن سهل على اليمن، فعلم العقيلي أنه لا يقوى بهم، فأقام ببستان ابن عامر، فاجتاز قافلة من الحاج، ومعهم كسوة الكعبة وطيبهأن فأخذ أموال التجار، وكسوة الكعبة وطيبهأن وقدم الحجاج مكة عراة منهوبين.
فاستشار المعتصم أصحابه، فقال الجلودي: أنا أكفيك ذلك، فانتخب مائة رجل، وسار بهم إلى العقيلي، فصبحهم، فقاتلهم، فانهزموأن واسر أكثرهم، وأخذ كسوة الكعبة، وأموال التجار، إلا ما كان مع من هرب قبل ذلك، فرده وأخذ الأسرى، فضرب كل واحد منهم عشرة أسواط، وأطلقهم، فرجعوا إلى اليمن يستطعمون الناس، فهلك أكثرهم في الطريق.
ذكر مسير هرثمة إلى المأمون وقتلهلما فرغ هرثمة من أبي السرايا رجع فلم يأت الحسن بن سهل، وكان بالمدائن، بل سار على عقرقوف حتى أتى البردان، والنهروان، وأتى خراسان، فأتته كتب المأمون في غير موضع أن يأتي إلى الشام والحجاز، فأبى، وقال: لا أرجع حتى ألقى أمير المؤمنين، إدلالاً منه عليه، ولما يعرف من نصيحته له ولآبائه، وأراد أن يعرف المأمون ما يدبر عليه الفضل ابن سهل، وما يكتم عنه من الأخبار، وأنه لا يدعه حتى يرده إلى بغداد ليتوسط سلطانه.

فعلم الفضل بذلك، فقال للمأمون: إن هرثمة قد أثقل عليك البلاد والعباد، ودس أبا السرايأن وهومن جنده، ولوأراد لم يفعل ذلك، وقد كتب إليه أمير المؤمنين عدة كتب ليرجع إلى الشام والحجاز، فلم يفعل وقد جاء مشاقاً يظهر القول الشديد فإن أطلق هذا كان مفسدة لغيره.
فتغير قلب المأمون، وأبطأ هرثمة إلى ذي القعدة، فلما بلغ مروخشي أن يكتم قدومه عن المأمون، فأمر بالطبول فضربت لكي يسمعها المأمون، فسمعها فقال: ما هذا؟ قالوا: هرثمة قد أقبل يرعد ويبرق، فظن هرثمة أن قوله المقبول، فأمر المأمون بإدخاله، فلما دخل عليه قال له المأمون: مالأت أهل الكوفة العلويين، ووضعت أبا السرايأن ولوشئت أن تأخذهم جميعاً لفعلت.
فذهب هرثمة يتكلم ويعتذر، فلم يقبل منه، فأمر به فديس بطنه، وضرب أنفه، وسحب من بين يديه، وقد أمر الفضل الأعوان بالتشديد عليه، فحبس فمكث في الحبس أياماً ثم دس إليه من قتله، وقالوا مات.
ذكر وثوب الحربية ببغدادوفيها كان الشغب ببغداد بين الحربية والحسن بن سهل، وكان سبب ذلك أن الحسن بن سهل كان بالمدائن حين شخص هرثمة إلى المأمون، فلما اتصل ببغداد، وسمع ما صنعه المأمون بهرثمة، بعث الحسن بن سهل إلى علي بن هشام، وهووالي بغداد من قبله، أن ماطل الجند من الحربية أرزاقهم ولا تعطهم.
وكانت الحربية قبل ذلك حين خرج هرثمة إلى خراسان قد وثبوأن وقالوا: لا نرضى حتى نطرد الحسن وعماله عن بغداد، فطردوهم، وصيروا إسحاق بن موسى الهادي خليفة المأمون ببغداد، واجتمع أهل الجانبين على ذلك ورضوا به.
فدس الحسن إليهم، وكاتب قوادهم حتى يبعثوا من جانب عسكر المهدي، فحول الحربية إسحاق إليهم، وأنزلوه على دجيل، وجاء زهير بن المسيب، فنزل في عسكر المهدي، وبعث الحسن علي بن هشام في الجانب الآخر هوومحمد بن أبي خالد، ودخلوا بغداد ليلاً في شعبان، وقاتل الحربية ثلاثة أيام على قنطرة الصراة، ثم وعدهم رزق ستة اشهر، إذا أدركت الغلة، فسألوه تعجيل خمسين درهماً لكل رجل منهم ينفقونها في رمضان، فأجابهم إلى ذلك.
وجعل يعطيهم فلم يتم العطاء حتى أتاهم خبر زيد بن موسى من البصرة، المعروف بزيد النار، وكان هرب من الحبس، وكان عند علي بن سعيد، فخرج بناحية الأنبار هووأخوأبي السرايا في ذي القعدة سنة مائتين، فبعثوا إليه فأتي به إلى علي بن هشام، وهرب علي بن شهام بعد جمعة من الحربية، ونزل بصرصر لأنه لن يف لهم بإعطاء الخمسين إلى أن جاء الأضحى، وبلغهم خبر هرثمة وأخرجوه.
وكان القيم بأمر هرثمة محمد بن أبي خالد لأن علي بن هشام كان يستخف به، فغضب من ذلك، وتحول إلى الرحبية، فلم يقربهم علي، فهرب إلى صرصر، ثم هزموه من صرصر.
وقيل كان السبب في شغب الأبناء أن الحسن بن سهل جلد عبد الله بن علي بن ماهان الحد، فغضب الأبناء، وخرجوا.
ذكر الفتنة بالموصلوفيها وقعت الفتنة بالموصل بين بني سامة وبني ثعلبة، فاستجارت ثعلبة بمحمد بن الحسين الهمداني، وهوأخوعلي بن الحسين، أمير البلد، فأمرهم بالخروج إلى البرية، ففعلوأن فتبعهم بنوسامة في ألف رجل إلى العوجاء، وحصروهم فيهأن فبلغ الخبر علياً ومحمداً ابني الحسين، فأرسلا الرجال إليهم، واقتتلوا قتالاً شديدأن فقتل من بني سامة جماعة، وأسر جماعة منهم، ومن بني تغلب، وكانوا معهم فحبسوا في البلد.
ثم إن أحمد بن عمروبن الخطاب العدوي التغلبي أتى محمدأن وطلب إليه المسالمة، فأجابه إلى ذلك، وصلح الأمر، وسكنت الفتنة.
ذكر الغزاة إلى الفرنجوفي هذه السنة جهز الحكم أمير الأندلس جيشاً مع عبد الكريم بن مغيث إلى بلاد الفرنج بالأندلس، فسار بالعساكر حتى دخل بأرضهم، وتوسط بلادهم، فخربهأن ونهبها وهدم عدة من حصونهأن كلما أهلك موضعاً وصل إلى غيره، فاستنفد خزائن ملوكهم.
فلما رأى ملكهم فعل المسلمين ببلادهم كاتب ملوك جميع تلك النواحي مستنصراً بهم، فاجتمعت إليه النصرانية من كل أوب، فأقبل في جموع عظيمة بإزاء عسكر المسلمين، بينهم نهر، فاقتتلوا قتالاً شديداً عدة أيام، المسلمون يريدون يعبرون النهر، وهم يمنعون المسلمين من ذلك.

فلما رأى المسلمون ذلك تأخروا عن النهر، فعبر المشركون إليهم، فاقتتلوا أعظم قتال، فانهزم المشركون إلى النهر، فأخذهم السيف والأسر، فمن عبر النهر سلم، وأسر جماعة من كنودهم وملوكهم وقماصتهم، وعاد الفرنج ولزموا جانب النهر، يمنعون المسلمين من جوازه، فبقوا كذلك ثلاثة عشر يومأن يقتتلون كل يوم، فجاءت الأمطار، وزاد النهر، وتعذر جوازه، فقفل عبد الكريم عنهم سابع ذي الحجة.
ذكر خروج البربر بناحية موروروفي هذه السنة خرج خارجي من البربر بناحية مورور، من الأندلس، ومعه جماعة، فوصل كتاب العامل إلى الحكم بخبره، فأخفى الحكم خبره، واستدعى من ساعته قائداً من قواده، فأخبره بذلك سرأن وقال له: سر من ساعتك إلى هذا الخارجي فأتني برأسه، وإلا فرأسك عوضه، وأنا قاعد مكاني هذا إلى أن تعود.
فسار القائد إلى الخارجي، فلما قاربه سأله عنه، فأخبر عنه باحتياط كثير، واحتراز شديد، ثم ذكر قول الحكم: إن قتلته، وإلا فرأسك عوضه، فحمل نفسه على سبيل المخاطرة فأعمل الحيلة، حتى دخل عليه، وقتله، وأحضر رأسه عند الحكم، فرآه بمكانه ذلك لم يتغير منه، وكانت غيبته أربعة أيام.
فلما رأى أحسن إلى ذلك القائد، ووصله وأعلى محله.
مورور بفتح الميم وسكون الواووضم الراء وسكون الواوالثانية وآخره راء ثانية.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وجه المأمون رجاء بن أبي الضحاك علي بن موسى بن جعفر بن محمد، وأحصي في هذه السنة ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكر وأنثى، وفي هذه السنة قتلت الروم ملكها أليون وكان ملكه سبع سنين وستة أشهر وملكوا عليهم ميخائيل بن جورجيش ثانية، وفيها خالف علي بن أبي سعيد على الحسن بن سهل فبعث المأمون إليه بسراج الخادم وقال له: إن وضع يده في يد الحسن بن سهل أوشخص إلي بمرووإلا فاضرب عنقه، فسار إليه سراج فأطاع وتوجه إلى المأمون بمرومع هرثمة، وفيها قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل لأنه قال له يا أمير الكافرين، وحج بالناس هذه السنة المعتصم، وفيها توفي القاضي أبوالبختري وهب بن وهب، ومعروف الكرخي الزاهد، وصفوان بن عيسى الفقيه، والمعافى بن داود الموصلي وكان فاضلاً عابداً.
حوادث سنة إحدى ومائتين

ذكر ولاية منصور بن المهدي ببغداد
وفي هذه السنة أراد أهل بغداد أن يبايعوا المنصور بن المهدي بالخلافة، فامتنع عن ذلك، فأرادوه على الإمرة عليهم، على أن يدعوللمأمون بالخلافة، فأجابهم إليه.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه قبل من إخراج أهل بغداد علي بن هشام من بغداد. فلما اتصل إخراجه من بغداد بالحسن بن سهل سار من المدائن إلى واسط تبعه محمد ابن أبي خالد بن الهندوان، مخالفاً له، وقد تولى القيام بأمر الناس، وولى سعيد بن الحسن بن قحطبة الجانب الغربي، ونصر بن حمزة بن مالك الجانب الشرقي.
وكان ببغداد منصور بن المهدي، والفضل بن الربيع، وخزيمة بن خازم؛ وقدم عيسى بن محمد بن أبي خالد من أرقة من عند طاهر، في هذه الأيام، فوافق أباه على قتال الحسن بن سهل، فمضيا ومن معهما إلى قرية أبي قريش قريب واسط، ولقيهما في طريقهما عساكر الحسن، في غير موضع، فهزماهم.
ولما انتهى محمد إلى دير العاقول أقام به ثلاثأن وزهير بن المسيب مقيم بإسكاف بني الجنيد، عاملاً للحسن على جوخي، وهويكاتب قواد بغداد، فركب إليه محمد، وأخذه أسيرأن وأخذ كل ماله، وسيره أسيراً إلى بغداد، وحبسه عند أبيه جعفر.
ثم تقدم محمد إلى واسط، ووجه محمد ابنه هارون من دير العاقول إلى النيل، وبها نائب للحسن، فهزمه هارون، وتبعه إلى الكوفة.
ثم سار المنهزمون من الكوفة إلى الحسن بواسط، ورجع هارون إلى أبيه وقد استولى على النيل، وسار محمد وهارون نحوواسط، فسار الحسن عنهأن ونزل خلفها.
وكان الفضل بن الربيع مختفياً كما تقدم إلى الآن، فلما رأى أن محمداً قد بلغ واسطاً طلب منه الأمان فأمنه، وظهر، وسار محمد إلى الحسن على تعبئة فوجه إليه الحسن قواده وجنده، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فانهزم أصحاب محمد بعد العصر، وثبت محمد حتى جرح جراحات شديدة، وانهزموا هزيمة قبيحة، وقتل منهم خلق كثير، وغمنوا مالهم، وذلك لسبع بقين من شهر ربيع الأول.

ونزل محمد بفم الصلح، وأتاهم الحسن، فاقتتلوأن فلما جنهم الليل رحل محمد وأصحابه، فنزلوا المنازل، فأتاهم الحسن، فاقتتلوأن فلما جنهم الليل ارتحلوأن حتى أتوا جبل، فأقاموا بهأن ووجه محمد ابنه عيسى إلى عرنايا، فأقام بهأن محمد بجرجرايأن فاشتدت جراحات محمد فحمله ابنه أبوزنبيل إلى بغداد، وخلف عسكره لست خون من ربيع الآخر، ومات محمد بن أبي خالد في داره سراً.
وأتى أبوزنبيل خزيمة بن خازم، فأعلمه حال أبيه، وأعلم خزيمة ذلك الناس، وقرأ عليهم كتاب عيسى بن محمد إليه، يبذل فيه القيام بأمر الحرب مقام أبيه، فرضوا به، وصار مكان أبيه؛ وقتل أبوزنبيل زهير بن المسيب من ليلته، ذبحه ذبحأن وعلق رأسه في عسكر أبيه.
وبلغ الحسن بن سهل موت محمد، فسار إلى المبارك، فأقام به، وبعث في جمادى الآخرة جيشاً له، فالتقوا بأبي زنبيل بفم الصراط، فهزموه، وانحاز إلى أخيه هارون بالنيل، فتقدم جيش الحسن إليهم، فلقوهم، فاقتتلوا ساعة، وانهزم هارون وأصحابه، فأتوا المدائن، ونهب أصحاب الحسن النيل، ثلاثة أيام، وما حولها من القرى.
وكان بنوهاشم والقواد، حين مات محمد بن أبي خالد، قالوا: نصير بعضنا خليفةً ونخلع المأمون؛ فأتاهم خبر هارون وهزيمته، فجدوا في ذلك، وأرادوا منصور بن المهدي على الخلافة فأبى، فجعلوه خليفة للمأمون ببغداد والعراق، وقالوا: لا نرضى بالمجوسي بن المجوسي الحسن بن سهل.
وقيل إن عيسى لما ساعده أهل بغداد على حرب السحن بن سهل علم الحسن أنه لا طاقة له به، فبهث إليه، وبذل المصاهرة ومائة ألف دينار، والأمان له ولأهل بيته، ولأهل بغداد، وولاية أي النواحي احب، فطلب كتاب المأمون بخطه، وكتب عيسى إلى أهل بغداد: إني مشغول بالحرب عن جباية الخراج، فولوا رجلاً من بني هاشم، فولوا منصور بن المهدي، وقال: أنا خليفة أمير المؤمنين المأمون حتى يقدم، أويولي من أحب، فرضي به الناس.
وعسكر منصور بكلواذي، بعث غسان بن عباد بن أبي الفرج إلى ناحية الكوفة، فنزل بقصر ابن هبيرة، فلم يشعر غسان إلا وقد أحاط به حميد الطوسي، فأخذه أسيرأن وقتل من أصحابه، وذلك لأربع خلون من رجب.
وسير منصور بن المهدي محمد بن يقطين في عسكر إلى حميد، فسار حتى أتى كوثى، فلم يشعر بشيء حتى هجم عليه حميد، وكان بالنيل، فقاتله قتالاً شديداً وانهزم ابن يقطين، وقتل من أصحابه، وأسر، وغرق بشر كثير، ونهب حميد ما حول كوثى من القرى، ورجع حميد إلى النيل، وابن يقطين أقام بنهر صرصر؛ وأحصى عيسى بن محمد بن أبي خالد من في عسكره، وكانوا مائة ألف وخمسة وعشرين ألفاً بين فارس وراجل، فأعطى الفارس أربعين درهماً والراجل عشرين درهماً.
ذكر أمر المتطوعة بالمعروفوفي هذه السنة تجردت المتطوعة للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
وكان سبب ذلك أن فساق بغداد والشطار آذوا الناس أذىً شديدأن وأظهروا الفسق، وقطعوا الطريق، وأخذوا النساء والصبيان علانيةً، وكانوا يأخذون ولد الرجل وأهله، فلا يقدر أن يمتنع منهم، وكانوا يطلبون من الرجل أن يقرضهم، أويصلهم، فلا يقدر على الامتناع، وكانوا ينهبون القرى لا سلطان يمنعهم، ولا يقدر عليهم، لأنه كان يغريهم، وهم بطانته، وكانوا يمسكون المجتازين في الطريق، ولا يعدي عليهم أحد، وكان الناس معهم في بلاء عظيم.
وآخر أمرهم أنهم خرجوا إلى قطربل، وانتهبوها علانية، وأخذوا العين والمتاع والدواب، فباعوها ببغداد ظاهرأن واستعدى أهلها السلطان، فلم يعدهم، وكان ذلك آخر شعبان.
فلما رأى الناس ذلك قام صلحاء كل ربض ودرب، ومسى بعضهم إلى بعض، وقالوا: إمنا في الدرب الفاسق والفاسقان إلى العشرة، وأنتم أكثر منهم، فلواجتمعتم لقمعتم هؤلاء الفساق، ولعجزوا عن الذي يفعلونه؛ فقام رجل يقال له خالد الدريوش، فدعا جيرانه وأهل محلته، على أن يعاونوه على الأمر المعروف والنهي عن المنكر، فأجابوه إلى ذلك، فشد على من يليه من الفساق والشطار، فمنعهم، وامتنعوا عليه، وأرادوا قتاله، فقاتلهم، فهزمهم وضرب من أخذه من الفساق، وحبسهم، ورفعهم إلى السلطان إلا أنه كان لا يرى أن يغير على السلطان شيئاً.

ثم قام بعده رجل من الحربية يقال له سهل بن سلامة الأنصاري من أهل خراسان، ويكنى أبا حاتم، فدعا الناس إلى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والعمل بالكتاب والسنة، وعلق مصحفاً في عنقه، وأمر أهل محلته ونهاهم، فقبلوا منه، ودعا الناس جميعاً الشريف والوضيع من بني هاشم وغيرهم، فأتاهم خلق عظيم فبايعوه على ذلك، وعلى القتال معه لمن خالفه، وطاف ببغداد وأسواقها؛ وكان قيام سهل لأربع خلون من رمضان وقيام الدريوش قبله بيومين أوثلاثة.
وبلغ خبر قيامهم إلى منصور بن المهي وعيسى بن محمد بن أبي خالد، فكسرهما ذلك، لأن أكثر أصحابهما كان الشطار ومن لا خير فيه؛ ودخل منصور بغداد، وكان عيسى يكاتب الحسن بن سهل في الأمان، فأجابه الحسن إلى الأمان ولأهل بغداد، وأن يعطي جنده وأهل بغداد رزق ستة أشهر إذا أدركت الغلة، ورحل عيسى، فدخل بغداد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال وتفرقت العساكر، فرضي أهل بغداد بما صالح عليه، وبقي سهل على ما كان عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ذكر البيعة لعلي بن موسى عليه السلام بولاية العهدفي هذه السنة جعل المأمون علي بن موسى الرضي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، ولي عهد المسلمين والخليفة من بعده، ولقبه الرضي من آل محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمر جنده بطرح السواد ولبس الثياب الخضر، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكتب الحسن بن سهل إلى عيسى بن محمد بن أبي خالد بعد عوده إلى بغداد يعلمه أن المأمون قد جعل علي بم مسوى ولي عهده من بعده.
وذلك أنه نظر في بني العباس وبني علي، فلم يجد أحداً أفضل ولا أروع ولا أعلم منه، وأنه سماه الرضي من آل محمد، صلى الله عليه وسلم، وأمره بطرح السواد ولبس الخضرة، وذلك لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وأمر عيسى بن محمداً أن يأمر من عنده من أصحابه، والجند، والقواد، وبني هاشم بالبيعة له، ولبس الخضرة، ويأخذ أهل بغداد جميعاً بذلك؛ الخلافة من ولد العباس، وإمنا هذا من الفضل بن سهل، فمكثوا كذلك أيامأن وتكلم بعضهم وقالوا: نولي بعضنأن ونخلع المأمون، فكان أشدهم فيه منصور وإبراهيم ابنا المهدي.
ذكر الباعث على البيعة لإبراهيم بن المهديوفي هذه السنة في ذي الحجة خاض الناس في البيعة لإبراهيم بن المهدي بالخلافة وخلع المأمون ببغداد.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من إنكار الناس لولاية الحسن بن سهل والبيعة لعلي بن موسى، فأظهر العباسيون ببغداد أنهم كانوا قد بايعوا لإبراهيم بن المهدي، لخمس بقين من ذي الحجة، ووضعوا يوم الجمعة رجلاً يقول: إنا نريد أن ندعوللمأمون، ومن بعده لإبراهيم، ووضعوا من يجيبه بأننا لا نرضى إلا أن تبايعوا لإبراهيم بن المهدي بالخلافة، ومن بعده لإسحاق بن موسى الهادي، وتخلعوا المأمون، ففعلوا ما أمروهم به، فلم يصل الناس جمعة، وتفرقوأن وكان ذلك لليلتين بقيتا من ذي الحجة من السنة.
ذكر فتح جبال طبرستان والديلمفي هذه السنة افتتح عبد الله بن خرداذبة والي طبرستان البلاذر، والشيزر، من بلاد الديلم، وافتتح جبال طبرستان، فأنزل شهريار بن شروين عنهأن وأشخص مازيار بن قارن إلى المأمون، واسر أبا ليلى ملك الديلم.
ذكر ابتداء بابك الخرميوفيها تحرك بابك الخرمي في الجاويدانية، أصحاب جاويدان بن سهل، صاحب البذ، وادعى أن روح جاويدان دخلت فيه، وأخذ في العيث والفساد، وتفسير جاويدان الدائم الباقي، ومعنى خرم فرج، وهي مقالات المجوس، والرجل منهم ينكح أمه، وأخته، وابنته، ولهذا يسمونه دين الفرج، ويعتقدون مذهب التناسخ، وأن الأرواح تنتقل من حيوان إلى غيره.
ذكر ولاية زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب إفريقيةوفي هذه السنة سادس في ذي الحجة توفي أبوالعباس عبد الله بن إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، وكانت إمارته خمس سنين ونحوشهرين.

وكان سبب موته أنه حدد على كل فدان في عمله ثمانية عشر ديناراً كل سنة، فضاق الناس لذلك وشكا بعضهم إلى بعض، فتقدم إليه رجل من الصالحين، اسمه حفص بن عمر الجزري، مع رجال من الصالحين، فنهوه عن ذلك، ووعظوه، وخوفوه العذاب في الآخرة، وسوء الذكر في الدنيأن وزوال النعمة، فإن الله تعالى اسمه وجل ثناؤه (لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد بقوم فلا مرد له، ومالهم من دونه من وال) الرعد: 11.
فلم يجبهم أبوالعباس عبد اله بن إبراهيم بن الأغلب أمير إفريقية المذكور إلى ما طلبوأن فخرجوا من عنده إلى القيروان، فقال لهم حفص: لوأننا نتوضأ للصلة ونصلي، ونسأل الله تعالى أن يخف عن الناس؟ ففعلوا ذلك، فما لبث إلا خمسة أيام حتى خرجت قرجة تحت أذنه، فلم ينشب أن مات منهأن وكان من أجمل زمانه، ولما مات ولي بعده أخوه زيادة الله بن إبراهيم، وبقي أميراً رخي البال وادعأن والدنيا عنده آمنة.
ثم جهز جيشاً في أسطول البحر، وكان مراكب كثيرة، إلى مدينة سردانية، وهي للروم، فعطب بعضهأن بعد أن غمنوا من الروم، وقتلوا كثيرأن فلما عاد من سلم منهم أحسن إليهم زيادة الله ووصلهم.
فلما كان سنة سبع ومائتين خرج عليه زياد بن سهل المعروف باب الصقلبية، وجمع جمعاً كثيرأن وحصر مدينة باجة، فسير إليه زياد الله العساكر، فأنالوه عنهأن وقتلوا من وافقه على المخالفة.
وفي سنة ثمان ومائتين نقل إلى زيادة الله أن منصور بن نصير الطنبذي يريد المخالفة عليه بتونس، وهويسعى في ذلك، ويكاتب الجند، فلما تحققه سير إليه قائداً اسمه محمد بن حمزة في ثلاث مائة فارس، وأمره أن يخفي خبره، ويجد السير إلى تونس، فلا يشعر به منصور حنى يأخذه فيحمله إليه.
فسار محمد ودخل تونس، فلم يجد منصوراً بهأن كان قد توجه إلى قصره بطنبذة، فأرسل إليه محمد قاضي تونس، ومعه أربعون شيخأن يقبحون له الخلاف، وينهونه عنه، ويأمرونه بالطاعة، فساروا إليه واجتمعوا به وذكروا له ذلك؛ فقال منصور: ما خالفت طاعة الأمير، وأنا سائر معكم إلى محمد، ومن معه إلى الأمير، ولكن أقيموا معي يومنا هذأن حتى نعمل له ولمن معه ضيافة.
فأقاموا عنده، وسير منصور لمحمد ولمن معه الإقامة الحسنة الكثيرة من الغمن والبقر وغير ذلك من أنواع ما يؤكل، فكتب إليه يقول: إنني صائر إليك مع القاضي والجماعة؛ فركن محمد إلى ذلك، وأمر بالغمن فذبحت، وأكل هوومن معه، وشربوا الخمر.
فلما أمسى منصور سجن القاضي ومن معه وسار مجداً فيمن عنده من أصحابه سراً إلى تونس فدخلوا دار الصناعة، وفيها محمداً وأصحابه، فأمر بالطبول فضربت، وكبر وهووأصحابه، فوثب محمد وأصحابه إلى سلاحهم، وقد عمل فيهم الشراب، وأحاط بهم منصور ومن معه، وأقبلت العامة من كل مكان، فرجوهم بالحجارة، واقتتلوا عامة الليل، فقتل من كان مع محمد، ولم يسلم منهم إلا من نجا إلى البحر فسبح حتى تخلص وذلك في صفر.
وأصبح منصور، فاجتمع عليه الجند وقالوا: نحن لا نثق بك، ولا نأمن أن يخليك زيادة الله، ويستميلك بدنياه، فتميل إليه، فإن أحببت أن نكون معك فاقتل أحداً من أهله ممن عندك، فأحضر إسماعيل بن سفيان بن سالم بن عقال، وهومن أهل زيادة الله، فكان هوالعامل على تونس، فلما حضر أمر بقتله.
فلما سمع زيادة الله الخبر سير جيشاً كثيفأن واستعمل عليهم غلبون، واسمه الأغلب بن عبد الله بن الأغلب، وهووزير زيادة الله، إلى منصور الطنبذي، فلما ودعهم زيادة الله تهددهم بالقتل إن انهزموا؛ فلما وصلوا إلى تونس خرج إليهم منصور، فقاتلهم، فانهزم جيش زيادة الله عاشر ربيع الأول، فقال القواد الذين فيه لغلبون: لا نأمن زيادة الله على أنفسنأن فإن أخذت لنا أماناً حضرنا عنده، وفارقوه واستولوا على عدة مدن، فأخذوهأن منها: باجة، والجزيرة، وصطفورة ومسر والأربس وغيرهأن فاضطربت إفريقية، واجتمع الجند كلهم إلى منصور؛ أطاعوه لسوء سيرة زيادة الله معهم.
فلما كثر جمع منصور سار إلى القيروان فحصرها في جمادى الأولى، وخندق على نفسه، وكان بينه وبين زيادة الله وقائع كثيرة؛ وعمر منصور سور القيروان فوالاه أهلهأن فبقي الحصار عليه أربعون يوماً.

ثم إن زيادة اله عبأ أصحابه، وجمعهم، وسار معهم الفارس والراجل، فكانوا خلقاً كثيرأن فلما رآهم منصور راعه ما رأى وهاله، ولم يكن يعرف ذلك من زيادة الله، لما كان فيه من الوهن، فزحف المنصور إليه بنفسه أيضأن فالتقوأن واقتلوا قتالاً شديدأن وانهزم منصور ومن معه، ومضوا هاربين، وقتل منهم خلق كثير، وذلك منتصف جمادى الآخرة، وأمر زيادة الله أن ينتقم من أهل القيروان بما جنوه من مساعدة منصور والقتال معه، بما تقدم أولاً من مساعدة عمران بن مجالد لما قاتل أباه إبراهيم بن الأغلب، فمنعه أهل العلم والدين، فكف عنهم، وخرب سور القيروان.
ولما نهزم منصور فارقه كثير من أصحابه الذين صاروا معه، منهم: عامر بن نافع، وعبد السلام بن المفرج، إلى البلاد التي تغلبوا عليها؛ ثم إن زيادة الله سير جيشأن سنة تسع ومائتين، وإلى مدينة سبيبة، واستعمل عليهم محمد بن عبد الله بن الأغلب، وكان بها جمع من الجند الذين صاروا مع منصور، عليهم عمر بن نافع، فالتقوا في العشرين من المحرم، واقتتلوأن فانهزم ابن الأغلب، وعاد هوومن معه إلى القيروان، فعظم الأمر على زيادة الله، وجمع الرجال، وبذل الأموال.
وكان عيال الجند الذين مع منصور بالقيروان، فلم يعرض لهم زيادة الله، فقال الجند لمنصور: الرأي أن تحتال في نقل العيال من القيروان لنأمن عليهم، فسار بهم منصور إلى القيروان، وحصر زيادة الله ستى عشر يومأن ولم يكن منهم قتال، وأخرج الجند نساءهم وأولادهم من القيروان، وانصرف منصور إلى تونس، ولم يبق بيد زيادة الله من إفريقية كلها إلا قابس، والساحل، ونفزاوة، وطرابلس، فإنهم تمسكوا بطاعته وأرسل الجند إلى زيادة الله: أن ارحل عنأن وخل إفريقية، ولك الأمان على نفسك، ومالك، ومن ضمه قصرك؛ فضاق به وغمه الأمر، فقال له سفيان بن سوادة: مكني من عسكرك لأختار منهم مائتي فارس وأسير بهم إلى نفزاوة، فقد بلغني أن عامر بن نافع يريد قصدهم، فإن ظفرت كان الذي تحب، وإن تكن الأخرى عملت برأيك، فأمره بذلك فأخذ مائتي فارس وسار إلى نفزاوة، فدعا برابرها إلى نصرته، فأجابوه، وسارعوا إليه، وأقبل عامر بن نافع في العسكر إليهم، فالتقوأن واقتتلوأن فانهزم عامر ومن معه، وكثر القتل فيهم، ورجع عامر إلى قسطيلية، فجبى أموالها ليلاً ونهاراً في ثلاثة أيام، وساروا عنهأن واستخلف عليها من يضبطهأن فهرب منها أيضاً خوفاً من أهلهأن فأرسل أهل قسطيلية إلى ابن سوادة، وسألوه أن يجيء إليهم، فسار إليهم، وملك قسطيلية وضبطها.
وقد قيل إن هذه الحوادث المذكورة سنة ثمان وتسع ومائتين إمنا كانت سنة تسع وعشر ومائتين.
طنبذة بضم الطاء المهملة وسكون النون وضم الباء الموحدة وبذال معجمة وآخره هاء وصطفورة بفتح الصاد وسكون الطاء وضم الفاء وسكون الواووآخره هاء، وسبيبة بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء تحتها نقطتان وفتح الباء الثانية الموحدة وآخره هاء، ونفزاوة بالنون والفاء الساكنة وفتح الزاي وبعد الألف واوثم هاء.
ذكر ما فتحه زيادة الله بن الأغلب من جزيرة صقلية وما كان فيها من الحروب إلى أن توفي
في سنة اثنتي عشرة ومائتين جهز زيادة الله جيشاً في البحر، وسيرهم إلى جزيرة صقلية، واستعمل عليهم أسد بن الفرات، قاضي القيروان، وهومن أصحاب مالك، وهومصنف الأسدية في الفقه على مذهب مالك؛ فلما وصلوا إليها ملكوا كثيراً منها.
وكان سبب إنفاذ الجيش أن ملك الروم بالقسطنطينية استعمل على جزيرة صقلية بطريقاً اسمه قسطنطين سنة إحدى عشرة ومائتين، فلما وصل إليها استعمل على جيش الأسطول إنساناً رومياً اسمه فيمي، كان حازمأن شجاعأن فغزا إفريقية، وأخذ من سواحلها تجارأن ونهب، وبقي هناك مديدة.

ثم إن ملك الروم كتب إلى قسطنطين يأمره بالقبض على فيمي، مقدم الأسطول، وتعذيبه، فبلغ الخبر إلى فيمي، فأعلم أصحابه، فغضبوا له، وأعانوه على المخالفة، فسار في مراكبه إلى صقلية، واستولى على مدينة سرقوسة، فسار إليه قسطنطين فالتقوأن واقتتلوأن فانهزم قسطنطين إلى مدينة قطانية، فسير إليه فيمي جيشأن فهرب منهم، فاخذ وقتل، وخوطب فيمي بالملك، واستعمل على ناحية من الجزيرة رجلاً اسمه بالطه، فخالف على فيمي، وعصى، واتفق هووابن عم له اسمه ميخائيل، وهووالي مدينة بلرم،وجمعا عسكراً كثيرأن فقاتلا فيمي، وانهزم، فاستولى بلاطه على مدينة سرقوسة.
وركب فيمي ومن معه في مراكبهم إلى إفريقية، وأرسل إلى الأمير زيادة الله يستنجده، ويعده بملك جزيرة صقلية، فسير معه جيشاً في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة ومائتين، فوصلوا إلى مدينة مارز من صقلية، فساروا إلى بلاطه الذي قاتل فيمي، فلقيهم جمع الروم، فانهزمت الروم، وغمن المسلمون أموالهم ودوابهم، وهرب بلاطه إلى قلورية، فقتل لها.
واستولى المسلمون على عدة حصون من الجزيرة ووصلوا إلى قلعة تعرف بقلعة الكراث وقد اجتمع إليها خلق كثير، فخدعوا القاضي أسد بن الفرات أمير المسلمين، وذلوا له، فلما رآهم فيمي مال إليهم، وراسلهم أن يثبتوأن ويحفظوا بلدهم، فبذلوا لأسد الجزية، وسألوه أن لا يقرب منهم، فأجابهم إلى ذلك، وتأخر عنهم أيامأن فاستعدوا للحصار، ودفعوا إليهم ما يحتاجون إليه، فامتنعوا عليه، وناصبهم الحرب، وبث السرايا في كل ناحية، فغمنوا شيئاً كثيرأن وافتتحوا عمراناً كثيراً حول سرقوسة، وحاصروا سرقوسة براً وبحرأن ولحقته الأمداد من إفريقية، فسار إليهم والي بلرم في عساكر كثيرة، فخندق المسلمون عليهم، وحفروا خارج الخندق حفراً كثيرة، فحمل الروم عليهم، فسقط في تلك الحفر كثير منهم، فقتلوا.
ز ضيق المسلمون على سرقوسة، فوصل أسطول من القسطنطينية فيه جمع كثير، وكان قد حل بالمسلمين وباء شديد سنة ثلاث عشرة ومائتين، هلك فيه كثير منهم، وهلك فيه أميرهم أسد بن الفرات، وولي الأمر على المسلمين بعده محمد بن أبي الجواري، فلما رأى المسلمون شدة الوباء ووصول الروم، تحملوا في مراكبهم ليسيروأن فوقف الروم في مراكبهم على باب المرسي، فمنعوا المسلمين من الخروج.
فلما رأى المسلمون ذلك أحرقوا مراكبهم، وعادوأن ورحلوا إلى مدينة ميناو، فحصروها ثلاثة أيام، وتسموا الحصن، فسار طائفة منهم إلى حصن جرجنت، فقاتلوا أهله، وملكوه، وسكنوا فيه، واشتدت نفوس المسلمين بهذا الفتح وفرحوا.
ثم ساروا إلى مدينة قصريانة ومعهم فيمي، فخرج أهلها إليه، فقبلوا الأرض بين يديه، وأجابوا إلى أن يملكوه عليهم، وخدعوه، ثم قتلوه.
ووصل جيش كثير من القسطنطينية مدداً لمن في الجزيرة، فتصافوا هم والمسلمون، فانهزم الروم، وقتل منهم خلق كثير، ودخل من سلم قصريانة، وتوفي محمد بن أبي الجواري أمير المسلمين، وولي بعده زهير ابن غوث.
ثن إن سرية المسلمين سارت للغنيمة، فخرج عليها طائفة من الروم، فاقتتلوأن وانهزم المسلمون، وعادوا من الغد، ومعهم جمع العسكر، فخرج إليهم الروم، وقد اجتمعوا وحشدوأن وتصافوا مرة ثاينة، فانهزم المسلمون أيضأن وقتل منهم نحوألف قتيل، وعادوا إلى معسكرهم، وخندقوا عليهم، فحصرهم الروم، ودام القتال بينهم، فضاقت الأقوات على المسلمين، فعزموا على بيات الروم، فعلموا بهم، ففارقوا الخيم، وكانوا بالقرب منهأن فلما خرج المسلمون لم يروا أحداً.
وأقبل عليهم الروم من كل ناحية، فأكثروا القتل فيهم، وانهزم الباقون، فدخلوا ميناو، ودام الحصار عليهم، حتى أكلوا الدواب والكلاب.
فلما سمع من مدينة جرجنت من المسلمين ما هم عليه هدموا المدينة، وساروا إلى مازر، ولم يقدروا على نصرة إخوانهم، ودام الحال كذلك إلى أن دخلت سنة أربع عشرة ومائتين، وقد اشرف المسلمون على الهلاك، وإذ قد أقبل أسطول كثير من الأندلس، خرجوا غزاة، ووصل في ذلك الوقت مراكب كثيرة من إفريقية مدداً للمسلمين، فبلغت عدة الجميع ثلاثمائة مركب، فنزلوا إلى الجزيرة، فانهزم الروم عن حصار المسلمين، وفرج الله عنهم، وسار المسلمون إلى مدينة بلرم، فحصروهأن وضيقوا على من بهأن فطلب صاحبها الأمان لنفسه ولأهله ولماله، فأجيب إلى ذلك، وسار في البحر إلى بلاد الروم.

ودخل المسلمون البلد في رجب سنة ست عشرة ومائتين، فلم يروا فيه إلا أقل من ثلاثة آلاف إنسان، وكان فيه، لما حصروه، سبعون ألفأن وماتوا كلهم؛ وجرى بين المسلمين: أهل إفريقية، وأهل الأندلس، خلف ونزاع، ثم اتفقوأن وبقي المسلمون إلى سنة تسع عشرة ومائتين، وسار المسلمون إلى مدينة قصريانة، فخرج من فيها من الروم، فاقتتلوا أشد قتال، ففتح اله على المسلمين وانهزم الروم إلى معسكرهم؛ ثم رجعوا في الربيع، فقاتلوهم، فنصر المسلمون أيضأن ثم ساروا سنة عشرين ومائتين وأميرهم محمد بن عبد الله إلى قصريانة، فقاتلهم الروم، فانهزموأن وأسرت امرأة لبطريقهم وابنه، وغمنوا ما كان في عسكرهم وعادوا إلى بلرم.
ثم سير محمد بن عبد الله عسكراً إلى ناحية طبرمين، عليهم محمد بن سالم، فغمن غنائم كثيرة، ثم عدا عليه بعض عسكره، فقتلوه، ولحقوا بالروم، فأرسل زيادة الله من إفريقية الفضل بن يعقوب عوضاً منه، فسار في سرية إلى ناحية سرقوسة، فأصابوا غنائم كثيرة وعادوا؛ ثم سارت سرية كبيرة، فغمنت وعادت، فعرض لهم البطريق ملك الروم بصقلية، وجمع كثير، فتحصنوا من الروم في أرض وعر، وشجر كثيف، فلم يتمكن من قتالهم، وواقفهم إلى العصر، فلما رأى أنهم لا يقاتلونهم عاد عنهم، فتفرق أصحابه وتركوا التعبئة.
فلما رأى المسلمون ذلك حملوا عليهم حملة صادقة، فانهزم الروم وطعن البطريق، وجرح عدة جراحات، وسقط عن فرسه، فأتاه حماة أصحابه، واستنقذوه جريحأن وحملوه، وغمن المسلمون ما معهم من سلاح ومتاع ودواب فكانت وقعة عظيمة.
وسير زيادة الله من إفريقية إلى صقلية أبا الأغلب إبراهيم بن عبد الله أميراً عليهأن فخرج إليهأن فوصل إليها منتصف رمضان، فبعث أسطولأن فلقوا جمعاً للروم في أسطول، فغمن المسلمون ما فيه، فضرب أبوالأغلب رقاب كل من فيه. وبعث أسطولاً آخر إلى قوصرة، فظفر بحراقة فيها رجال من الروم، ورجل متنصر من أهل إفريقية، فأتى بهم فضرب رقابهم. وسارت سرية أخرى إلى جيل النار والحصون التي في تلك الناحية، فأحرقوا الزرع وغمنوا وأكثروا القتل.
ثم سير أبوالأغلب سنة إحدى وعشرين ومائتين سرية إلى جبل النار أيضأن فغمنوا غنائم عظيمة، حتى بيع الرقيق بأبخس الأثمان، وعادوا سالمين، وفيها جهز أسطولأن فساروا نحوالجزائر، فغمنوا غنائم عظيمة، وفتحوا مدناً ومعاقل، وعادوا سالمين، وفيها سير أبوالأغلب أيضاً سرية إلى قسطلياسة فغمنوا وسبوأن ولقيهم العدو، فكانت بينهم حرب استظهر فيها الروم، وسير سرية إلى مدينة قصريانة، فخرج إليهم العدو، فاقتتلوأن فانهزم المسلمون، وأصيب منهم جماعة.
ثم كانت وقعة أخرى بين الروم والمسلمين، فانهزم الروم، وغمن المسلمون منهم تسعة مراكب كبار برجالها وشلندس، فلما جاء الشتاء وأظلم الليل رأى رجل من المسلمين غرة من أهل قصريانة، فقرب منه، ورأى طريقأن فدخل منه، ولم يعلم به أحد، ثم انصرف إلى العسكر، فأخبرهم فجاؤوا معه، فدخلوا من ذلك الموضع وكبروأن وملكوا ربضه، وتحصن المشركون منهم بحصنة، فطلبوا الأمان فأمنوهم، وغمن المسلمون غنائم كثيرة، وعادوا إلى بلرم.
وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين وصل كثير من الروم في البحر إلى صقلية، وكان المسلمون يحاصرون جفلوذى، وقد طال حصارهأن فلما وصل الروم رحل المسلمون عنهأن وجرى بينهم وبين الروم الواصلين حروب كثيرة، ثم وصل الخبر بوفاة زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، فوهن المسلمون ثم تشجعوات، وضبطوا أنفسهم.
سرقوسة بسين مفتوحة وقاف وواووسين ثانية، وبلرم بفتح الباء الموحدة واللام وتسكين الراء وبعدها ميم، وميناوبميم وياء تحتها نقطتان ونون وبعد الألف واو، وجرجنت بجيم وراء وجيم ثانية مفتوحة ونون وتاء فوقها نقطتان، وقصريانة بالقاف والصاد المهملة والراء والياء تحتها نقطتان وبعد الألف نون مشددة وهاء.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات محمد بن محمد صاحب أبي السرايا. وفيها أصاب أهل خراسان وأصبهان والري مجاعة شديدة، وكثر الموت فيهم؛ وحج بالناس هذه السنة إسحاق بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.
حوادث سنة اثنتين ومائتين

ذكر بيعة إبراهيم بن المهدي

في هذه السنة بايع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي بالخلافة، ولقبوه المبارك، وكانت بيعته أول يوم من المحرم، وقيل خامسه، وخلعوا المأمون، وبايعه سائر بني هاشم، فكان المتولي لأخذ البيعة المطلب بن عبد الله بن مالك، فكان الذي سعى في هذا الأمر السندي، وصالح صاحب المصلى، ونصير الوصيف، وغيرهم، غضباً على المأمون حين أراد إخراج الخلافة من ولد العباس، ولتركه لباس آبائه من السواد.
فلما فرغ من البيعة وعد الجند رزق ستة أشهر، ودافعهم بهأن فشغبوا عليه، فأعطاهم لكل رجل مائتي درهم، وكتب لبعضهم إلى السواد بقية مالهم حنطة وشعيرأن فخرجوا في قبضهأن فانتهبوا الجميع، وأخذوا نصيب السلطان وأهل السواد، واستولى إبراهيم على الكوفة والسواد جميعه، وعسكر بالمدائن، واستعمل على الجانب الغربي من بغداد العباس بن موسى الهادي وعلى الجانب الشرقي منها إسحاق بن موسى الهادي.
وخرج عليه مهي بن علوان الحروري، وغلب على طساسيج نهر بوق والراذانين، فوجه إليه إبراهيم أبا إسحاق بن الرشيد، وهوالمعتصم، في جماعة من القواد، فلقوه، فاقتتلوا، فطعن رجل من أصحابه ابن الرشيد، فحامى عنه غلام تركي يقال له: اشناس، وهزم مهدي إلى حولايا.
وقيل كان خروج مهدي سنة ثالث ومائتين.
ذكر استيلاء إبراهيم على قصر ابن هبيرةوكان بقصر ابن هبيرة حميد بن عبد الحميد عاملاً للحسن بن سهل، ومعه من القواد سعيد بن الساجور، وأبوالبط، وغسان بن أبي الفرج، ومحمد بن إبراهيم الإفريقي وغيرهم، فكاتبوا إبراهيم على أن يأخذوا له قصر ابن هبيرة، وكانوا قد تحرفوا عن حميد، وكتبوا إلى الحسن بن سهل يخبرونه أن حميداً يكاتب إبراهيم، وكان حميد يكتب فيهم بمثل ذلك، فكتب الحسن إلى حميد يستدعيه إليه، فلم يفعل، خاف أن يسير إليه، فيأخذ هؤلاء القواد ماله وعسكره، ويسلمونه إلى إبراهيم، فلما ألح الحسن عليه بالكتب سار إليه في ربيع الآخر، وكتب أولئك القواد إلى إبراهيم لينفذ إليهم عيسى بن محمد بن أبي خالد، فوجهه إليهم، فانهبوا ما في عسكر حميد فكان مما أخذوا له مائة بدرة، وأخذ ابن حميد جواري أبيه، وسار إليه وهوبعسكر الحسن، ودخل عيسى القصر، وتسلمه لعشر خلون من ربيع الآخر، فقال حميد للحسن: ألم أعلمك؟ لكنك خدعت.
وعاد إلى الكوفة،فاخذ أمواله، واستعمل عليها العباس بن مسوى بن جعفر العلوي، وأمره أن يدعولأخيه علي بن موسى بعد المأمون، وأعانه بمائة ألف درهم، وقال له: قاتل عن أخيك، فإن أهل الكوفة يجيبونك إلى ذلك وأنا معك.
فلما كان الليل خرج حميد إلى الحسن، وكان الحسن قد وجه حكيماً الحارثي إلى النيل، فسار إليه عيسى بن محمد، فاقتتلوأن فانهزم حكيم، فدخل عيسى النيل، ووجه إبراهيم إلى الكوفة سعيدأن وأبا البط، لقتال العباس بن موسى، وكان العباس قد دعا أهل الكوفة، فأجابه بعضهم.
وأما الغلاة من الشيعة فإنهم قالوا: إن كنت تدعونا لأخيك وحده، فنحن معك، وأما المأمون فلا حاجة لنا فيه؛ فقال: إمنا أدعوللمأمون، وبعده لأخي، فقعدوا عنه.
فلما أتاه سعيد وأبوالبط ونزلوا قرية شاهي بعث إليهم العباس ابن عمه علي بن محمد بن جعفر، وهوابن الذي بويع له بمكة، وبعث معهم جماعة منهم أخوأبي السرايأن فاقتتلوا ساعة، فانهزم علي بن محمد العلوي وأهل الكوفة، ونزل سعيد وأصحابه الحيرة، وكان ذلك ثاني جمادى الأولى؛ ثم تقدموأن فقاتلوا أهل الكوفة، وخرج إلى شيعة بني العباس ومواليهم، فاقتتلوا إلى الليل، وكان شعارهم: يا أبا إبراهيم، يا منصور، لا طاعة للمأمون، وعليهم السواد، وعلى أهل الكوفة الخضرة.
فلما كان الغد اقتتلوأن وكان كل فريق منهم إذا غلب على شيء أحرقه ونهبه؛ فلما رأى ذلك رؤساء أهل الكوفة خرجوا إلى سعيد فسألوه الأمان للعباس وأصحابه، فأمنهم على أ ن يخرجوا من الكوفة، فأجابوه إلى ذلك، ثم أتوا العباس فأعلموه ذلك، فقبل منهم، وتحول عن داره، فشغب أصحاب العباس بن موسى على من بقي من أصحاب سعيد، وقاتلوهم، فانهزم أصحاب سعيد إلى الخندق، ونهب أصحاب العباس دور عيسى بن موسى، وأحرقوأن وقتلوا من ظفروا به.

فأرسل العباسيون إلى سعيد، وهوبالحيرة، يخبرونه أن العباس بن موسى قد رجع عن الأمان، فركب سعيد وأصحابه، وأتوا الكوفة عتمة، فقتلوا من ظفروا به ممن انتهب، وأحرقوا ما معهم من النهب، فمكثوا عامة الليل، فخرج إليهم رؤساء الكوفة، فأعلموهم أن هذا فعل الغوغاء، وأن العباس لم يرجع عن الأمان، فانصرفوا عنهم.
فلما كان الغد دخلها سعيد وأبوالبط، ونادوا بالأمان، ولم يعرضوا إلى أحد، وولوا على الكوفة الفضل بن محمد بن الصباح الكندي، ثم عزلوه لميله إلى أهل بلده؛ واستعملوا مكانه غسان بن أبي الفرج، ثم عزلوه بعد ما قتل أبا عبد الله أخا أبي السرايأن واستعملوا الهول ابن أخي سعيد، فلم يول عليها حتى قدمها حميد بن عبد الحميد فهرب الهول.
وأمر إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد أن يسير إلى ناحية واسط على طريق النيل، وأمر ابن عائشة الهاشمي، ونعيم بن حازم أن يسرا جميعأن ولحق بهما سعيد، وأبوالبط، والإفريقي، وعسكروا جميعاً بالصيادة، قرب واسط، عليهم جميعاً عيسى بن محمد، فكانوا يركبون، ويأتون عسكر الحسن بواسط، فلا يخرج إليهم منهم أحد، وهم متحصنون بالمدينة.
ثم إن الحسن أمر أصحابه بالخروج إليهم، فخرجوا إليهم لأربع بقين من رجب، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى الظهر، وانهزم عيسى وأصحابه، حتى بلغوا طرنايا والنيل، وغمنوا عسكر عيسى وما فيه.
ذكر الظفر بسهل بن سلامةوفي هد السنة ظفر إبراهيم بن المهدي بسهل بن سلامة المطوع، فحبسه، وعاقبه.
وكان سبب ظفره به أن سهلاً كان مقيماً ببغداد يدعوإلى الأمر المعروف والنهي عن المنكر، فاجتمع إليه أهل بغداد، فلما انهزم عيسى أقبل هوومن معه نحوسهل بن سلامة، لأنه كان يذكرهم بأقبح أعمالهم، ويسميهم الفساق، فقاتلوه أيامأن حتى صاروا إلى الدروب، وأعطوا أصحابه الدراهم الكثيرة، حتى تنحوا عن الدروب، فأجابوا إلى ذلك.
فلما كان السبت لخمس بقين من شعبان، قصدوه من كل وجه، وخذله أهل الدروب لأجل الدراهم التي أخذوهأن حتى وصل عيسى وأصحابه إلى منزل سهل، فاختفى منه، واختلط بالنظارة، فلم يروه في منزله، فجعلوا عليه العيون، فلما كان الليل أخذوه، وأتوا به إسحاق بن الهادي، فكلمه، فقال: إمنا كانت دعوتي عباسية، وإمنا كنت أدعوإلى العمل بالكتاب والسنة، وأنا على ما كنت عليه أدعوكم إليه الساعة؛ فقالوا له: اخرج إلى الناس فقل لهم إن ما كنت أدعوكم إليه باطل، فخرج فقال: أيها الناس! قد علمتم ما كنت أدعوكم إليه من العمل بالكتاب والسنة، وأنا أدعوكم إليه الساعة: فضربوه، وقيدوه، وشتموه، وسيروه إلى إبراهيم بن المهدي بالمدائن، فلما دخل عليه كلمه به إسحاق بن الهادي، فضربه، وحبسه، وأظهر أنه قتل خوفاً من الناس، لئلا يعلموا مكانه فيخرجوه، وكان ما بين خروجه وقبضة اثنا عشر شهراً.
ذكر مسير المأمون إلى العراق

وقتل ذي الرياستين
وفي هذه السنة سار المأمون من مروإلى العراق، واستخلف على خراسان غسان بن عبادة.
وكان سبب مسيره أن علي بن موسى الرضي أخبر المأمون بما الناس فيه من الفتنة والقتال، مذ قتل الأمين، وبما كان الفضل بن سهل يستر عنه من أخبار، وأن أهل بيته والناس قد نقموا عليه أشياء وأنهم يقولون: مسحور، مجنون، وأنهم قد بايعوا إبراهيم بن المهدي بالخلافة.
فقال له المأمون: لم يبايعوه بالخلافة، وإمنا صيروه أميراً يقوم بأمرهم على ما أخبر به الفضل، فأعلمه أن الفضل قد كذبه، وأن الحرب قائمة بين الحسن بن سهل وإبراهيم، والناس ينقمون عليك مكانه، ومكان أخيه الفضل، ومكاني، ومكان بيعتك لي من بعدك.
فقال: ومن يعلم هذا؟ قال: يحيى بن معاذ، وعبد العزيز بن عمران وغيرهما من وجوه العسكر؛ فأمر بإدخالهم، فدخلوأن فسألهم عما اخبره به علي بن موسى، ولم يخبروه حتى يجعل لهم الأمان من الفضل أن لا يعرض إليهم.

فضمن لهم ذلك، وكتب لهم خطه به، فأخبروه بالبيعة لإبراهيم بن المهدي، وأن أهل بغداد قد سموه الخليفة السني وأنهم يتهمون المأمون بالرفض لمكان علي بن موسى منه، وأعلموه بما فيه الناس، وبما موه عليه الفضل من أمر هرثمة، وأن هرثمة إمنا جاءه لينصحه، فقتله الفضل، وإن لم يتدارك أمره خرجت الخلافة من يده، وأن طاهر بن الحسين قد أبلى في طاعته ما يعلمه، فأخرج من الأمر كله، وجعل في زاوية من الأرض بالرقة لا يستعان به في شيء، حتى ضعف أمره، وشغب عليه جنده، وأنه لوكان ببغداد لضبط الملك، وأن الدنيا قد تفتقت من أقطارهأن وسألوا المأمون الخروج إلى بغداد، فإن أهلها لورأوك لأطاعوك.
فلما تحقق ذلك أمر بالرحيل، فعلم الفضل بالحال، فبغتهم، حتى ضرب بعضهم، وحبس بعضهم، ونتف لحى بعضهم، فقال علي بن موسى للمأمون في أمرهم، فقال: أنا أدراي، ثم ارتحل، فلما أتى سرخس وثب قوم بالفضل بن سهل، فقتلوه في الحمام، وكان قتله لليلتين خلتا من شعيان، وكان الذين قتلوه أربعة نفر أحدهم غالب المسعودي الأسود، وقسطنطين الرومي، وفرج الديلمي، وموفق الصقلبي، وكان عمره ستين سنة، وهربوا فجعل المأمون لمن جاء بهم عشرة آلاف دينار، فجاء بهم العباس بن الهيثم الدينوري، فقالوا للمأمون: أنت أمرتنا بقتله، فأمر بهم فضربت رقابهم.
وقيل إن المأمون لما سألهم، فمنهم من قال: إن علي بن أبي سعيد ابن أخت الفضل بن سهل وضعهم عليه؛ ومنهم من أنكر ذلك فقتلهم؛ ثم أحضر عبد العزيز ين عمران، وعلياً وموسى، وخلقأن فسألهم، فأنكروا أن يكونوا علموا بشيء من ذلك، فلم يقبل منهم، وقتلهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن ين سهل، وأعلمه ما دخل عليه من المصيبة بقتل الفضل، وأنه قد صيره مكانه، فوصله الخبر في رمضان.
ورحل المأمون إلى العراق، فكان إبراهيم بن المهدي وعيسى وغيرهما بالمدائن، وكان أبوالبط وسعيد بالنيل يراوحون القتال ويغادونه، وكان المطلب بن عبد اله بن مالك قد عاد من المدائن، فاعتل بأنه مريض، فأتى بغداد وجعل يدعوفي السر إلى المأمون، على أن منصور بن المهدي خليفة المأمون، ويخلعون إبراهيم، فأجابه منصور بن المهدي، وخزيمة بن خازم، وغيرهما من القواد، وكتب المطلب إلى علي بن هشام وحميد أن يتقدمأن فينزل حميد نهر صرصر، وينزل علي النهروان.
فلما علم إبراهيم بن المهدي بذلك عاد عن المدائن نحوبغداد، فنزل زندورد منتصف صفر وبعث إلى المطلب ومنصور وخزيمة يدعوهم، فاعتلوا عليه، فلما رأى ذلك بعث عيسى إليهم، فأما منصور وخزيمة فأعطوا بأيديهما؛ وأما المطلب فمنعه مواليه وأصحابه، فنادى منادي إبراهيم: من أراد النهب فليأت دار المطلب، فلما كان وقت الظهر وصلوا إلى داره فنهبوهأن ونهبوا دور أهله، ولم يظفروا به، وذلك لثلاث عشرة بقيت من صفر، فلما بلغ حميداً وعلي بن هشام الخبر أخذ حميد المدائن ونزلهأن وقطع الجسر، وأقاموا بهأن وندم إبراهيم حيث صنع بالمطلب ما صنع، ثم لم يظفر به.
ذكر قتل علي بن الحسن الهمدانيفي هذه السنة قتل علي بن الحسين الهمداني وأخوه أحمد وجماعة من أهل بيته، وكان متغلباً على الموصل.
وسبب قتله أنه خرج ومعه جماعة من قومه ومن الأزد، فلما نظر إلى رستاق نينوى والمرج قال: نعم البلاد لإنسان واحد! فقال بعض الأزد: فما نصنع نحن؟ قال: تلحقون بعمان؛ فانتشر الخبر.
ثم إن علياً اخذ رجلاً من الأزد يقال له عون بن جبلة، فبنى عليه حائطأن فمات فيه، وظهر خبره، فركبت الأزد، وعليهم السيد بن أنس، فاقتتلوأن واستنصر علي بن الحسين بخارجي يقال له مهدي بن علوان، فأتاه، فدخل البلد، وصلى بالناس، ودعا لنفسه، واشتدت الحرب، وكانت أخيراً على علي بن الحسين وأصحابه، فخرجوا عن البلد إلى الحديثة، فتبعهم الأزد إليهأن فقتلوا علياً وأخاه أحمد وجماعة من أهلهمأن وسار أخوهما محمد إلى بغداد، فنجا وعادت الأزد إلى الموصل، وغلب السيد عليها وخطب للمأمون وأطاعه.
الهمداني ها هنا نسبة إلى همدان بسكون الميم وبالدال المهملة، وهي قبيلة من اليمن.
ذكر عدة حوادثوفيها تزوج المأمون بوران بنت الحسن بن سهل.

وفيها أيضاً زوج المأمون ابنته أم حبيب من علي بن موسى الرضي، وزوج ابنته أم الفضل من محمد بن علي الرضي بن موسى؛ وحج بالناس هذه السنة إبراهيم بن موسى بن جعفر ودعا لأخيه، بعد المأمون، بولاية العهد، ومضى إلى اليمن، وكان حمدويه بن علي بن عيسى بن ماهان قد غلب على اليمن.
وفيها في ربيع الآخر ظهرت حمرة في السماء ليلة السبت رابع عشر ربيع الآخر، وبقيت إلى آخر الليل، وذهبت الحمرة، وبقي عمرودان أحمران إلى الصبح.
وفيها توفي أبومحمد يحيى بن المبارك بن المغيرة العدوي اليزيدي المقرئ صاحب أبي عمروبن العلاء، وإمنا قيل اليزيدي لأنه صحب يزيد بن منصور خال المهدي وكان يعلم ولده.
وفيها توفي سهل ذي الرياستين، بعد قتل ابنه بستة اشهر، وعاشت أمه حتى أدركت عرس بوران ابنة ابنها.
حوادث سنة ثلاث ومائتين

ذكر موت علي بن موسى الرضي
في هذه السنة مات علي بن موسى الرضي، عليه السلام؛ وكان سبب موته أنه أكل عنباً فأكثر منه، فمات فجأة، وذلك في آخر صفر، وكان موته بمدينة طوس، فصلى المأمون عليه، ودفنه عند قبر أبيه الرشيد.
وكان المأمون لما قدمها قد أقام عند قبر أبيه؛ وقيل إن المأمون سمه في عنب، وكان علي يحب العنب، وهذا عندي بعيد.
فلما توفي كتب المأمون إلى الحسن ين سهل يعلمه موت علي، وما دخل عليه من المصيبة بموته، وكتب إلى أهل بغداد، وبني العباس والموالي يعلمهم موته، وأنهم إمنا نقموا ببيعته، وقد مات، ويسألهم الدخول في طاعته، فكتبوا إليه أغلظ جواب.
وكان مولد علي بن موسى بالمدينة سنة ثمان وأربعين ومائة.
ذكر قبض إبراهيم بن المهدي على عيسى بن محمدوفي هذه السنة، في آخر شوال، حبس إبراهيم بن المهدي عيسى بن محمد بن أبي خالد.
وسبب ذلك أن عيسى كان يكاتب حميدأن والحسن بن سهل، وكان يظهر لإبراهيم الطاعة، وكان كلما قال له إبراهيم ليخرج إلى قتال أحمد يعتذر بأن الجند يريدون أرزاقهم، ومرة يقول: حتى تدرك الغلة، فلما توثق عيسى بما يريد، فارقهم على أن يدفع إليهم إبراهيم بن المهدي يوم الجمعة سلخ شوال.
وبلغ الخبر إبراهيم، أبلغه هارون بن محمد أخوعيسى، وجاء عيسى إلى باب الجسر، فقال للناس: إني قد سألت حميداً ألا يدخل عملي، ولا أدخل عمله، ثم أمر بحفر خندق بباب الجسر، وباب الشام.
وبلغ إبراهيم قوله وفعله، وكان عيسى قد سأله إبراهيم أن يصلي الجمعة بالمدينة، فأجابه إلى ذلك، فلما تكلم عيسى بما تكلم، حذر إبراهيم، وأرسل إلى عيسى يستدعيه، فاعتل عليه، فتابع الرسل بذلك، فحضر عنده بالرصافة، فلما دخل عليه عاتبه ساعة، وعيسى يعتذر إليه، وينكر بعضه، فأمر به إبراهيم فضرب، وحبس، وأخذ عدة من قواده وأهله، فحبسهم ونجا بعضهم، وفيمن نجا خليفته العباس.
ومشى بعض أهله إلى بعض، وحرضوا الناس على إبراهيم، وكان أشدهم العباس خليفة عيسى، وكان هورأسهم، فاجتمعوأن وطردوا عامل إبراهيم على الجسر، والكرخ وغيره، وظهر الفساق والشطار، وكتب العباس إلى حميد يسأله أن يقدم عليهم حتى يسلموا إليه بغداد.
ذكر خلع إبراهيم بن المهديوفي هذه السنة خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي، وكان سبب ذلك ما ذكرناه من قبضة على عيسى بن محمد، على ما تقدم، فلما كاتب أصحابه، ومنهم العباس، حميداً بالقدوم عليهم، سار حتى أتى نهر صرصر فنزل عنده.
وخرج إليه العباس وقواد أهل بغداد، فلقوه، وكانوا قد شرطوا عليه أن يعطي كل جندي خمسين درهمأن فأجابهم إلى ذلك، ووعدهم أن يصنع لهم العطاء يوم السبت في الياسرية على أن يدعوللمأمون بالخلافة يوم الجمعة، ويخلعوا إبراهيم، فأجابوه إلى ذلك.
ولما بلغ إبراهيم الخبر أخرج عيسى ومن معه من إخوته من الحبس، وسأله أن يرجع إلى منزله، ويكفيه أمر هذا الجانب، فأبى عليه.
فلما كان يوم الجمعة أحضر العباس بن محمد أبي رجاء الفقيه، فصلى بالناس الجمعة، ودعا للمأمون بالخلافة، وجاء حميد إلى الياسرية، فعرض جند بغداد، وأعطاهم الخمسين التي وعدهم فسألوه أن ينقصهم عشرة عشرة لما تشاءموا به من علي بن هشام حين أعطاهم الخمسين وقطع العطاء عنهم، فقال حميد: بل أزيدكم عشرة وأعطيكم ستين درهماً لكل رجل.

فلما بلغ ذلك إبراهيم دعا عيسى وسأله أن يقاتل حميدأن فأجابه إلى ذلك، فخلى سبيله، وأخذ منه كفلاء، وكلم عيسى الجند، ووعدهم أن يعطيهم مثل ما أعطاهم حميد، فأبوا ذلك، فعبر إليهم عيسى وقواد الجانب الشرقي، ووعد الجند أن يزيدهم على الستين، فشتموه وأصحابه، وقالوا: لا نريد إبراهيم، فقاتلهم ساعة، ثم ألقى نفسه في وسطهم، حتى أخذوه شبه الأسير، فأخذه بعض قواده، فأتى به منزله، ورجع الباقون إلى إبراهيم، فأخبروه الخبر، فاغتم لذلك.
وكان المطلب بن عبد الله بن مالك قد اختفى من إبراهيم، كما ذكرنأن فلما قدم حميد أراد العبور إليه، فعلموا به، فأخذوه، وأحضروه عند إبراهيم، فحبسه ثلاثة أيام، ثم خلى عنه لليلة خلت من ذي الحجة.
ذكر اختفاء إبراهيم بن المهديوفي هذه السنة اختفى إبراهيم بن المهدي؛ وكان سبب ذلك أن حميداً تحول فنزل عند أرحاء عبد اله بن مالك، فلما رأى أصحاب إبراهيم وقواده ذلك تسللوا إليه، فصار عامتهم عنده، وأخذوا له المدائن.
فلما رأى إبراهيم فعلهم أخرج جميع من بقي عنده حتى يقاتلوأن فالتقوا على جسر نهر ديالى، فاقتتلوأن فهزمهم حميد وتبعهم أصحابه، حتى دخلوا بغداد، وذلك سلخ ذي العقدة.
فلما كان الأضحى اختفى الفضل بن الربيع، ثم تحول إلى حميد، وجعل الهاشميون والقواد يأتون حميداً واحداً بعد واحد، فلما رأى ذلك إبراهيم سقط في يديه، وشق عليه؛ وكاتب المطلب حميداً ليسلم إليه ذلك الجانب، وكان سعيد بن الساجور، وأبوالبط وغيرهمأن يكاتبون علي بن هشام على أن يأخذوا له إبراهيم فلما علم إبراهيم بأمرهم، وما اجتمع عليه قوم من أصحابه جعل يداريهم، فلما جنه الليل اختفى ليلة الأربعاء لثلاث عشرة بقيت من ذي الحجة.
وبعث المطلب إلى حميد يعلمه أنه قد أحد بدار إبراهيم، وكتب ابن الساجور إلى علي بن هشام، فركب حميد من ساعته من أرحاء عبد الله، فأتى باب الجسر، وجاء علي بن هشام حتى نزل نهر بين، ثم تقدم إلى مسجد كوثر، وأقبل حميد إلى دار إبراهيم فطلبوه فلم يجدوه فيها؛ فلم يزل إبراهيم متوارياً حتى جاء المأمون، وبعد ما قدم، حتى كان من أمره ما كان.
وكانت أيام إبراهيم سنة وأحد عشر شهراً واثني عشر يومأن وكان بعده علي بن هشام على شرقي بغداد، وحميد على غربيهأن وكان إبراهيم قد أطلق سهل بن سلامة من الحبس، وكان الناس يظنونه قد قتل، فكان يدعوفي مسجد الرصافة إلى ما كان عليه، فإذا جاء الليل يرد إلى حبسه، ثم إنه أطلقه، وخلى سبيله لليلة خلت من ذي الحجة، فذهب، فاختفى، ثم ظهر بعد هرب إبراهيم، فقربه حميد، وأحسن إليه، ورده إلى أهله، فلما جاء المأمون أجازه ووصله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انكسفت الشمس لليلتين بقيتا من ذي الحجة، حتى ذهب ضوءهأن وغاب أكثر من ثلثيها. ووصل المأمون إلى همدان في آخر ذي الحجة؛ وحج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي؛ وكانت بخراسان زلازل عظيمة، ودامت مقدرا سبعين يومأن وكان معظمها ببلخ، والجوزجان، والفارياب، والطالقان، وما وراء النهر، فخربت البلاد، وتهدمت الدور، وهلك فيها خلق كثير.
وفيها غلبت السوداء على الحسن بن سهل فتغير عقله حتى شد في الحديد وحبس، وكتب القواد إلى المأمون بذلك فجعل على عسكره دينار بن عبد الله، وأرسل إليهم يعرفهم أنه واصل.
وفيها ظهر بالأندلس رجل يعرف بالولد، وخالف على صاحبهأن فسير إليه جيشاً فحصروه بمدينة باجة، وكان استولى عليهأن فضيقوا عليه، فملكوها وقيد.
وفيها ولي أسد بن الفرات الفقيه القضاء بالقيروان.
وفيها توفي محمد بن جعفر الصادق بجرجان، وصلى على المأمون، وهوالذي بايعه الناس بالخلافة بالحجاز.
وفيها توفي خزيمة بن خازم التميمي في شعبان، وهومن القواد المشهورين وقد تقدم من أخباره ما يعرف به محله؛ ويحيى بن آدم بن سليمان؛ وأبوأحمد الزبيري؛ ومحمد بن بشير العبدي الفقيه بالكوفة؛ والنضر بن شميل اللغوي المحدث وكان ثقة.
حوادث سنة أربع ومائتين

ذكر قدوم المأمون بغداد
في هذه السنة قدم المأمون بغداد، وانقطعت الفتن، وكان قد أقام بجرجان شهرأن وجعل يقيم بالمنزل اليوم واليومين والثلاثة؛ وأقام بالنهروان ثمانية أيام، فخرج إليه أهل بيته والقواد، ووجوه الناس، وسلموا عليه.

وكان قد كتب إلى طاهر، وهوبالرقة، ليوافيه بالنهروان، فأتاه بهأن ودخل بغداد منتصف صفر، ولباسه ولباس أصحابه الخضرة، فلما قدم بغداد نزل الرصافة، ثم تحول ونزل قصره على شاطئ دجلة، وأمر القواد أن يقيموا في معسكرهم.
وكان الناس يدخلون عليه في الثياب الخضر، وكانوا يخرقون كل ملبوس يرونه من السواد على إنسان، فمكثوا بذلك ثمانية أيام، فتكلم بنوالعباس وقواد أهل خراسان، وقيل إنه أمر طاهر بن الحسين أن يسأله حوائجه، فكان أول حاجة سأله أن يلبس السواد، فأجابه إلى ذلك، وجلس للناس، وأحضر سواداً فلبسه، ودعا بخلعة سوداء فألبسها طاهرأن وخلع على قواده السواد، فعاد الناس إليه، وذلك لسبع بقين من صفر.
ولما كن سائراً قال له أحمد بن أبي خالد الأحول: يا أمير المؤمنين، فكرت في هجومنا على أهل بغداد وليس معنا إلا خمسون ألف درهم مع فتنة غلبت قلوب الناس، فكيف يكون حالنا إذا هاج هائج، أوتحرك متحرك؟ فقال: يا أحمد صدقت، ولكن أخبرك أن الناس على طبقات ثلاث في هذه المدينة: ظالم، ومظلوم، ولا ظالم ولا مظلوم، فأما الظالم فلا يتوقع إلا عفونا؛ وأما المظلوم فلا يتوقع إلا أن ينتصف بنا؛ وأما الذي ليس بظالم ولا مظلوم فبيته يسعه؛ وكان الأمر على ما قال.
ذكر عدة حوادثوفيها أمر المأمون بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف، واتخذ القفير الملحم، وهوعشرة مكاكيك بالمكوك الهاروني، كيلاً مرسلاً.
وفيها واقع يحيى بن معاذ بابك، فلم يظفر واحد منهما بصاحبه؛ وولى المأمون أبا عيسى أخاه الكوفة، وصالحاً أخاه البصرة، واستعمل عبيد الله ابن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن أبي طالب على الحرمين؛ وحج بالناس عبيد الله بن الحسن.
وفيها انحدر السيد بن أنس الأزدي من الموصل إلى المأمون فتظلم منه محمد بن الحسن بن صالح الهمداني، وذكر أنه قتل إخوته وأهل بيته، فأحضره المأمون، فلما حضر قال: أنت السيد؟ قال: أنت السيد، يا أمير المؤمنين، وأنا ابن أنس، فاستحسن ذلك، فقال: أنت قتلت إخوة هذا؟ قال: نعم، ولوكان معهم لقتلته لأنهم أدخلوا الخارجي بلدك، وأعلوه على منبرك، وأبطلوا دعوتك، فعفا عنه، واستعمله على الموصل، وكان على القضاء بها الحسن بن موسى الأشيب.
وفي هذه السنة مات الإمام محمد بن إدريس الشافعي، رضي الله عنه، وكان مولده سنة خمسين ومائة؛ والحسن بن زياد اللؤلؤي الفقيه، أحد أصحاب أبي حنيفة، وأبوداود سليمان بن داود الطيالسي، صاحب المسند، ومولده سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وهشام بن محمد السائب الكلبي النسابة، وقيل مات سنة ست ومائتين.
وفيها توفي محمد بن عبيد أبي أمية، المعروف بالطنافسي، وقيل سنة خمس ومائتين.
حوادث سنة خمس ومائتين

ذكر ولاية طاهر خراسان
وفي هذه السنة استعمل المأمون طاهر بن الحسين على المشرق، من مدينة السلام إلى أقصى عمل المشرق، وكان قبل ذلك يتولى الشرط بجانبي بغداد ومعاون السواد.
وكان سبب ولايته خراسان أن طاهراً دخل على المأمون وهويشرب النبيذ، وحسين الخادم يسقيه، فلما دخل طاهر سقاه رطلين، وأمره بالجلوس، فقال: ليس لصاحب الشرطة أن يجلس عند سيده، فقال المأمون: ذلك في مجلس العامة، وأما في مجلس الخاصة فله ذلك؛ فبكى المأمون وتغرغرت عيناه بالدموع، فقال طاهر: يا أمير المؤمنين! لم تبكي، لا أبكى الله عينك؟ والله لقد دانت لكل البلاد، وأذعن لك العباد، وصرت إلى المحبة في كل أمرك! قال: أبكي لأمر ذكره ذل، وستره حزن، ولن يخلوأحد من شجن.
وانصرف طاهر، فدعا هارون بن جيعونة وقال له: إن أهل خراسان يتعصب بعضهم لبعض، فخذ معك ثلاثمائة ألف درهم، فأعط حسيناً الخادم مائتي ألف، وكاتبه محمد بن هارون مائة ألف، وسله أن يسأل المأمون لم بكى؟ ففعل ذلك، فلما تغدى المأمون قال: اسقني يا حسين، قال: لا والله، حتى تقول لي لم بكيت حين دخل عليك طاهر، قال: وكيف عنيت بهذا الأمر، حتى سألتني عنه؟ قال: لغمي لذلك. قال: هوأمر إن خرج من رأسك قتلتك، قال: يا سيدي ومتى أخرجت لك سراً؟ قال: إني ذكرت محمداً أخي، وما ناله من الذل، فخنقتني العبرة، فاسترحت إلى الإفاضة، ولن يفوت طاهراً مني ما يكره.

فأخبر حسين طاهراً بذلك، فركب طاهر إلى أحمد بن أبي خالد، فقال له: إن الثناء مني ليس برخيص، وإن المعروف عندي ليس بضائع، فغيبني عن عينه! فقال له: سأفعل ذلك. وركب أحمد إلى المأمون، فلما دخل عليه قال له: ما منت البارحة. قال: ولم؟ قال: لأنك وليت غسان خراسان، وهوومن معه أكلة رأس، وأخاف أن تخرج عليه خارجة من الترك فتهلكه؛ فقال: لقد فكرت فيما فكرت فيه، فمن ترى؟ قال: طاهر بن الحسين. قال: ويلك! هووالله خالع؛ قال: أنا الضامن له؛ قال: فوله، فدعا طاهراً من ساعته، فعقد له، فشخص في يومه، فنزل ظاهر البلد، فأقام شهرأن فحمل إليه عشرة آلاف ألف درهم التي تحمل لصاحب خراسان، وسار عن بغداد لليلة بقيت من ذي العقدة.
وقيل كان سبب ولايته أن عبد الرحمن المطوعي جمع جموعاً كثيرة بنيسابور ليقاتل بهم الحرورية بغير أمر والي خراسان، فتخوفوا أن يكون ذلك لأصل عمل عليه، وكان غسان بن عباد يتولى خراسان من قبل الحسن ين سهل، وسبب ذلك أن الحسن ندبه لمحاربة نصر بن شبث، قال: حاربت خليفة، وسقت الخلافة إلى خليفة، وأومر بمثل هذا؟ إمنا كان ينبغي أن يتوجه إليه قائد من قوادي، وصارمه.
ذكر عدة حوادثوفيها قدم عبد الله بن طاهر بن الحسين بغداد من الرقة، وكان أبوه استخلفه بهأن وأمره بقتال نصر بن شبث، فلما قدم إلى بغداد جعله المأمون على الشرطة بعد مسير أبيه، وولى المأمون يحيى بن معاذ الجزيرة، وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أرمينية وأذربيجان ومحاربة بابك.
وفيها مات السري بن الحكم بمصر، وكان واليها.
وفيها مات داود بن يزيد عامل السند، فولاها المأمون بشير بن داود على أن يحمل كل سنة ألف ألف درهم.
وفيها مات ولي المأمون عيسى بن يزيد الجلوذي محاربة الزط، وحج بالناس عبيد الله بن الحسن أمير مكة والمدينة.
وفيها زادت دجلة زيادة عظيمة، فتهدمت المنازل ببغداد، وكثر الخراب بها.
وفي هذه السنة توفي يزيد بن هارون الواسطي، ومولده سنة تسع عشرة ومائة؛ والحجاج بن محمد الأعور الفقيه؛ وشبابة بن سوار الفزاري الفقيه وعبد الله بن نافع الصائغ؛ ومحاضر بن الموزع؛ وأبويحيى إبراهيم بن موسى الزيات الموصلي، سمع هشام بن عروة وغيره.
حوادث سنة ست ومائتين

ذكر ولاية عبد الله بن طاهر الرقة
وفي هذه السنة ولى المأمون عبد الله بن طاهر من الرقة إلى مصر، وأمره بحرب نصر بن شبث.
وكان سبب ذلك أن يحيى بن معاذ الذي كان المأمون ولاة الجزيرة مات في هذه السنة، واستخلف ابنه أحمد، فاستعمل المأمون عبد الله مكانه، فلما أراد توليته أحضره وقال له: يا عبد الله أستخير الله، تعالى، منذ شهر وأكثر، وأرجوأن يكون قد خار لي، ورأيت الرجل يصف ابنه لرأيه فيه، ورأيتك فوق ما قال أبوك فيك، وقد مات يحيى، واستخلف ابنه، وليس بشيء، وقد رأيت توليتك مصر ومحاربة نصر بن شبث.
فقال: السمع والطاعة، وأرجوأن يجعل الله لأمير المؤمنين الخيرة وللمسلمين؛ فعقد له، وقيل كانت ولايته سنة خمس ومائتين، وقيل سبع ومائتين.
ولما سار استخلف على الشرطة إسحاق بن إبراهيم بن الحسين بن مصعب، وهوابن عمه، ولما استعمله المأمون كتب إليه أبوه طاهر كتاباً فيه كل ما يحتاج إليه الأمراء من الآداب والسياسة وغير ذلك، وقد اثبت منه أحسنه لما فيه من الآداب والحث على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، لأنه لا يستغني عنه أحد من ملك وسوقة، وهو: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له، وخشيته، ومراقبته، عز وجل، ومزايلة سخطه، وحفظ رعيتك في الليل والنهار، والزم ما ألبسك من العافية بالذكر لمعادك، وما أنت صائر إليه، وموقوف عليه، ومسؤول عنه، والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله، عز وجل، وينجيك يوم القيامة من عقابه، وأليم عذابه، فإن الله سبحانه وتعالى، قد أحسن إليك وأوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده، وألزمك العدل عليهم، والقيام بحقه وحدوده فيهم، والذب عنهم، والدفع عن حريمهم وبيضتهم، والحقن لدمائهم، والأمن لسبيلهم، وإدخال الراحة عليهم، ومؤاخذك بما فرض عليك، وموقفك عليه، ومسائلك عنه، ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت، ففرغ لذلك فهمك، وعقلك، ونظرك، ولا يشغلك عنه شاغل، وإنه رأس أمرك، وملاك شأنك، وأول ما يوفقك الله، عز وجل، به لرشدك.

وليكن أول ما تلزم نفسك، وتنسب إليه أفعالك، المواظبة على ما افترض الله، عز وجل، عليك من الصلوات الخمس، والجماعة عليها بالناس، فأت بها في مواقيتها على سننها وفي إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله، عز وجل، فيهأن وترتل في قراءتك، وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك، وليصدق فيه رأيك، ونيتك، واحضض عليها جماعة من معك، وتحت يد، وادأب عليها فإنهأن كما قال الله، عز وجل: (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) العنكبوت: 45 ثم أتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، والمثابرة على خلافته، واقتفاء آثار السلف الصالح من بعده، وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخاره الله، عز وجل، وتقواه، ولزوم ما أنزل الله، عز وجل، في كتابه من أمره ونهيه، وحلاله وحرامه، وإتمام ما جاءت به الآثار عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم قم فيه بما يحق الله، عز وجل، عليك، ولا تمل من العدل في ما أحببت أوكرهت لقريب من الناس، أوبعيد.
وآثر الفقه وأهله والدين وحملته، وكتاب الله، عز وجل، والعاملين به، فإن أفضل ما تزين به المرء الفقه في الدين، والطلب له، والحث عليه، والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل، فإنه الدليل على الخير كله، والقائد له، والآمر به، والناهي عن المعاصي والموبقات كلهأن ومع توفيق الله، عز وجل، يزداد العبد معرفة لله، عز وجل، وإجلالاً له، ذكراً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك، والهيبة لسلطانك، والأنسة بك، والثقة بعدلك.
وعليك بالاقتصاد في الأمور كلهأن فليس شيء أبين نفعأن ولا أخص أمنأن ولا أجمع فضلاً منه، والقصد داعية إلى الرشد، والرشد دليل على التوفيق، والتوفيق قائد إلى السعادة، وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد، وأثره في دنياك كلهأن ولا تقصر في طلب الآخرة، والأجر، والأعمال الصالحة، والسنن المعروفة، ومعالم الرشد، ولا غاية للاستكثار في البر والسعي له، إذا كان يطلب به وجه الله، تعالى، ومرضاته ومرافقة أوليائه في دار كرامته.
واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز، ويحصن من الذنوب، وأنه لن تحوط لنفسك ومن يليك، ولا تستصلح أمورك بأفضل منه، فأته واهتد به تتم أمورك، وتزد مقدرتك، وتصلح خاصتك وعامتك.
وأحسن الظن بالله، عز وجل، تستقم لك رعيتك، والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم النعمة عليك.
ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك، قبل أن تكشف أمره، فإن إيقاع التهم بالبداء، والظنون السيئة بهم مأثم، فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك، واطرد عنك سوء الظن بهم، وارفضه فيهم يغنك ذلك على اصطناعهم ورياضتهم، ولا يجدن عدوالله الشيطان في أمرك مغمزأن فإنه إمنا يكتفي بالقليل من وهنك، ويدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك.
واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة، وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك، وتدعوبه الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها لك، ولا يمنعنك حسن الظن بأصحابك، والرأفة برعيتك، أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك، ولتكن المباشرة لأمور الأولياء، والحياطة للرعية، والنظر فيما يقيمها ويصلحهأن والنظر في حوائجهم، وحمل مؤوناتهم آثر عندك مما سوى ذلك، فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة.
واخلص نيتك في جميع هذأن وتفرد بتقويم نفسك، تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع، ومجزي بما أحسن، ومأخوذ بما أساء، فإن الله، عز وجل، جعل الدين حرزاً وعزأن ورفع من اتبعه وعززه، فاسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين، وطريقة الهدى.
وأقم حدود الله، عز وجل، في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم، وما استحقوه، ولا تعطل ذلك، ولا تهاون به، ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة، فإن في تريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك، واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة، وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتقم لك مروءتك.
وإذا عاهدت عهداً فف به، وإذا وعدت خيراً فأنجزه، واقبل الحسنة، وادفع بهأن وأغمض عن عيب كل ذي عيب من رعيتك، واشدد لسانك عن قول الكذب والزور، وأبغض أهله، وأقص أهل المنيمة، فإن أول فساد أمورك، في عاجلها وآجلهأن تقريب الكذوب، والجرأة على الكذب، لأن الكذب رأس المآثم، والزور والمنيمة خاتمتهأن لأن المنيمة لا يسلم صاحبها وقائلهأن ولا يسلم له صاحب، ولا يستتم لمطيعها أمر.

وأحب أهل الصلاح والصدق، وأعن الإشراف بالحق، وآس الضعفاء، وصل الرحم، وابتغ بذلك وجه الله، تعالى، وإعزاز أمره، والتمس فيه ثوابه والدار الآخرة، واجتنب سوء الأهواء والجور، واصرف عنهما رأيك، وأظهر براءتك في ذلك رعيتك، وأنعم بالعدل سياستهم، وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى.
واملك نفسك عند الغضب، وآثر الوقار والحلم، وإياك والحدة، والطيرة، والغرور فيما أنت بسبيله، وإياك أن تقول: أنا مسلط أفعل ما أشاء، فإن ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي وقلة اليقين بالله، عز وجل.
وأخلص لله وحده، لا شريك له، النية فيه، واليقين به، واعلم أن الملك لله، سبحانه وتعالى، يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء، ولن تجد تغير النعمة، وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان، والمبسوط لهم في الدولة، إذا كفروا نعم الله، عز وجل، وإحسانه، واستطاعوا بما آتاهم الله، عز وجل، من فضله.
ودع عنك شره نفسك، ولتكن ذخائرك وكنوزك، التي تذخر وتكنز، البر، والتقوى، والمعدلة، واستصلاح الرعية، وعمارة بلدهم، والتفقد لأمورهم، والحفظ لدمائهم، والإغاثة لملهوفهم؛ واعلم أن الأموال إذا كنزت، وذخرت في الخزائن لا تمنو، وإذا كانت في صلاح الرعية، وإعطاء حقوقهم، وكف مؤونة عنهم، سمت، وزكت، ومنت، وصلحت به العامة، وتزينت به الولاية، وطاب به الزمان، واعتقد فيه العز والمنعة، فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله، ووفر منه على أولياء أمير المؤمنين، فتلك حقوقهم، وأوف رعيتك من ذلك حصصهم، وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم، فإنك إن فعلت ذلك قرت النعمة عليك، واستوبت المزيد من الله، عز وجل، وكنت بذلك على جباية خراجك وجمع أموال رعيتك، وعملك أقدر، وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك، وأطيب نفساً بكل ما أردت، واجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب، ولتعظم حسنتك فيه، وإمنا يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله، واعرف للشاكرين شكرهم، وأثبهم عليه.
وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة، فتهاون بما يحق عليك، فإن التهاون بورث التفريط، والتفريط يورث البوار، وليكن عملك له، عز وجل، وارج الثواب فيه، فإن الله، سبحانه، قد أسبغ عليك نعمته، وأسبغ لديك فضله؛ واعتصم بالشكر، وعليه فاعتمد، يزدك الله خيراً وإحسانأن فغن الله، عز وجل، يثيب بقدر شكر الشاكرين وسيرة المحسنين.
ولا تحقرن دينأن ولا تمالئن حاسدأن ولا ترحمن فاجرأن ولا تصلن كفورأن ولا تدهنن عدواً. ولا تصدقن منامأن ولا تأمنن غدارأن ولا توالين فاسقأن ولا تبتغين عادياً، ولا تحمدن مرائيأن ولا تحقرن إنسانأن ولا تردن سائلاً فقيرأن ولا تحبن باطلأن ولا تلاحظن مضحكأن ولا تخلفن وعدأن ولا ترهقن فاجراً فجر، ولا تركبن سفهأن ولاتظهرن غضبأن ولا تمشين مرحأن ولا تفرطن في طلب الآخرة، ولا تدفع الأيام عتاباً، ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه، أومحاباة، ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا.
وأكثر مشاورة الفقهاء، واستعمل نفسك بالحلم، وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل، والرأي، والحكمة، ولاتدخلن في مشورتك أهل الذمة والنحل، ولاتسمعن لهم قولأن فإن ضررهم أكثر من منفعتهم، وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح، واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ، قليل العطية، وإذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلا قليلأن فإن رعيتك إمنا تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم، وترك الجور عليهم، ويدوم صفاء أوليائك بالإفضال عليهم، وحسن العطية لهم، واجتنب الشح، والعم أنه أول ما عصى الإنسان به ربه، وأن العاصي بمنزلة خزي، وهوقول الله، عز وجل: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر: 9 واجعل للمسلمين كلهم من بينك حظاً ونصيبأن وأيقن أن الجود من أفضل أعمال العباد، فاعدده لنفسك خلقأن وسهل طريق الجود بالحق، وارض به عملاً ومذهبأن وتفقد أمور الجند في دواوينهم، ومكاتبهم، وأدرر عليهم أرزاقهم، ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله، عز وجل، بذلك فاقتهم، فيقوي لك أمرهم، وتزيد به قلوبهم في طاعتك في أمرك خلوصاً وانشراحاً.

وحسب ذي السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته رحمة في عدله، وحيطته، وإنصافه، وعنايته، وشفقته، وبره، وتوسيعه، فزايل مكروه إحدى البليتين باستشعار فضيلة الباب الآخر، ولزوم العمل به تلق، إن شاء الله تعالى، نجاحاً وفلاحاً.
واعلم أن القضاء بالعدل من الله تعالى بالمكان الذي ليس يعدل به شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي يعدل عليه أحوال الناس في الأرض، وبإقامة العدل في القضاء والعمل، تصلح أحوال الرعية، وتأمن السبل، وينتصف المظلوم، ويأخذ الناس حقوقهم، وتحسن المعيشة، ويؤدي حق الطاعة، ويرزق الله العافية والسلامة، ويقوم الدين، وتجري السنن والشرائع على مجاريها.
واشتد في أمر الله، عز وجل، وتورع عن النطف، وامض لإقامة الحدود، وأقلل العجلة، وابعد عن الضجر والقلق، واقنع بالقسم، وانتفع بتجربتك، وانتبه في صمتك، من رعيتك محاباة، ولا محاماة، ولا لوم لائم، وتثبت، وتأن، وراقب، وانظر الحق على نفسك، فتدبر، وتفكر، واعتبر، وتواضع لربك، وارؤف بجميع الرعية، وسلط الحق على نفسك.
ولا تسرعن إلى سفك دم، فإن الدماء من الله، عز وجل، بمكان عظيم، انتهاكاً لها بغير حقها؛ وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية، وجعله الله للإسلام عزاً ورفعةً، ولأهله توسعةً ومنعةً، ولعدوه وعدوهم كبتاً وغيظأن ولأهل الكفر من معانديهم ذلاً وصغارأن فوزعه بين أصحابك بالحق، والعدل، والتسوية، والعموم فيه، ولا ترفعن منه شيئاً عن شريف لشرفه، ولا عن غني لغناه، ولا عن كاتب، ولا عن أحد من خاصتك وحاشيتك، ولا تأخذن منه فوق الاحتمال له، ولا تكلف أمراً فيه شطط، واحمل الناس كلهم على مر الحق، فإن ذلك أجمع لألفتهم وألزم لرضاء العامة.
واعلم أنك جعلت، بولايتك، خازنأن وحافظأن وراعيأن وإمنا سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم، وقيمهم، تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ومقدرتهم وتنفذه في قوام أمرهم وصلاحهم، وتقويم أودهم، فاستعمل عليهم ذوي الرأي والتدبير، والتجربة والخبرة بالعمل، والعلم بالسياسة والعفاف، ووسع عليهم في الرزق، فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت، وأسند إليك، ولا يشغلك عنه شاغل، ولا يصرفك عنه صارف، فإنك متى آثرته، وقمت فيه بالواجب، استدعيت به زيادة النعمة من ربك، وحسن الأحدوثة في عملك، وأحرزت به المحبة من رعيتك، وأعنت على الصلاح، ودرت الخيرات في بلدك، وفشت العمارة بناحيتك، وظهر الخصب في كورك، وكثر خراجك، وتوفرت أموالك، وقويت بذلك على ارتباط جندك، وإرضاء العامة، بإفاضة العطاء فيهم من نفسك، وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك، وكنت في أمورك كلها ذا عدل، وآلة، وقوة، وعدة، فنافس في ذلك ولا تقدم عليه شيئاً تحمد مغبة أمرك، إن شاء الله تعالى.
واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك أخبار عمالك، ويكتب إليك بسيرتهم وأعمالهم، حتى كأنك مع كل عامل في عمله معاين لأموره كلهأن فإن أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك، فإن رأيت السلامة فيه، والعافية، ورجوت فيه حسن الدفاع والنصح، والصنع، فأمضه، وإلا فتوقف عنه، وراجع أهل البصر والعلم به، ثم خذ فيه عدته، فإنه ربما نظر الرجل في أمر من أموره قدره وأتاه على ما يهوى، فأغواه ذلك، وأعجبه، فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه، ونقض عليه أمره، فاستعمل الحزم في كل ما أردت، وباشره بعد عون الله، عز وجل، بالقوة، وأكثر استخارة ربك في جميع أمورك، وافرغ من عمل يومك، ولا تؤخره لغدك، واكثر مباشرته بنفسك، فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت.
واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه، وإذا أخرت عمله اجتمع عليك أمور يومين، فيشغلك ذلك، حتى تعرض عنه، وإذا أمضيت لكل يوم عمله، أرحت نفسك وبدنك، وأحكمت أمور سلطانك.
وانظر أحرار الناس وذوي السن منهم ممن تستيقن صفاء طويتهم، وشهدت مودتهم لك، ومظاهرتهم بالنصح والمخالصة على أمرك، فاستخلصهم وأحسن إليهم.

وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة، فاحتمل مؤونتهم، وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسأن وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين، ومن لا يقدر على رفع مظلمة إليك، والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه، فسل عنه أحفى مسألة، ووكل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك، ومرهم برفع حوائجهم وحالاتهم إليك لتنظر فيها بما يصلح الله به أمرهم.
وتعاهد ذوي البأساء وأيتامهم، وأراملهم، وأجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين، أعزه الله، في العطف عليهم، والصلة لهم، ليصلح الله بذلك عيشهم، ويرزقك به بركة وزيادة، وأجر للأضراب من بيت المال، وقدم حملة القرآن منهم، والحافظين لأكثره في الجرائد على غيرهم، وانصب لمرضى المسلمين دوراً تؤويهم، وقواماً يرفقن بهم، وأطباء يعالجون أسقامهم، وأسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال.
واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك، ولم تطل أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم، طمعاً في نيل الزيادة، وفضل الرفق منهم، وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه، ويشغل فكره وذهنه منها ما يناله به من مؤونة ومشقة، وليس من يرغب في العدل، ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الآجل كالذي يستثقل بما يقربه إلى اله تعالى ويلتمس رحمته.
وأكثر الإذن للناس عليك، وابرز لهم وجهك، وسكن لهم حواسك، واخفض لهم جناحك، وأظهر لهم بشرك، ولن لهم في المسألة والنطق، واعطف عليهم بجودك وفضلك.
وإذا أعطيت فأعط بسماحة، وطيب نفس، والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان، فإن العطية على ذلك تجارة مربحة، إن شاء الله تعالى. واعتبر بما ترى من أمور الدنيأن ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرئاسة في القرون الخالية، والأمم البائدة، ثم اعتصم في أحوالك كلها بأمر الله، والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسننه، وإقامة دينه، وكتابه، واجتنب ما فارق ذلك وخالف ما دعا إلى سخط الله، عز وجل.
واعرف ما يجمع عمالك من الأموال، وينفقون منهأن ولا تجمع حرامأن ولا تنفق إسرافاً.
وأكثر مجالسة العلماء، ومشاورتهم، ومخالطتهم، وليكن هواك أتباع السنن وإقامتهأن وإيثار مكارم الأمور، ومعاليهأن وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في سرك، وإعلامك ما فيه من النقص، فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك، وانظر عمالك الذين بحضرتك، وكتابك، فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه عليك بكتبه ومؤامرته، وما عنده من حوائج عمالك وأمور كورك ورعيتك، ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك، وبصرك، وفهمك، وعقلك، وكرر النظر فيه والتدبر له، فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه، واستخر الله، عز وجل، فيه، وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه والمسألة عنه.
ولا تمتن على رعيتك، ولا غيرهم، بمعروف تأتيه إليهم، ولا تقبل من أحد منهم إلا الوفاء والاستقامة، والعون في أمور أمير المؤمنين، ولا تضعن المعروف إلا على ذلك؛ وتفهم كتابي إليك، وأكثر النظر فيه والعمل به، واستعن بالله على جميع أمورك، وأسخره، فإن الله، عز وجل، مع الصلاح وأهله، وليكن أعظم سيرتك، وأفضل عيشك ما كان لله، عز وجل، رضىً، ولدينه نظامأن ولأهله عزاً وتمكينأن ولذمة وللملة عدلاً وصلاحاً؛ وأنا أسأل الله أن يحسن عونك، وتوفيقك، ورشدك، وكلاءتك، والسلام.
فلما رأى الناس هذا الكتاب تنازعوه، وكتبوه، وشاع أمره، وبلغ المأمون خبره فدعا به فقرئ عليه، فقال: ما بقى أبوالطيب يعني طاهراً شيئاً من أمر الدنيا والدين، والتدبير، والرأي، والسياسة، وإصلاح الملك والرعية، وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء، وتقويم الخلافة، إلا وقد أحكمه وأوصى به. وأمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي؛ فسار عبد الله إلى عمله، فاتبع ما أمر به، وعهد إليه، وسار بسيرته.
ذكر موت الحكم بن هشام

وفي هذه السنة مات الحكم بن هشام بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، لأربع بقين من ذي الحجة، وكانت بيعته في صفر سنة ثمانين ومائة، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة، وكنيته أبوالعاص، وهولأم ولد، وكان طويلاً أسمر، نحيفأن وكان له تسعة عشر ذكرأن وله شعر جيد، وهوأول من جند بالأندلس الأجناد المرتزقين، وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه، وشابه الجبابرة في أحواله، واتخذ المماليك، وجعلهم في المرتزقة، فبلغت عدتهم خمسة آلاف مملوك، وكانوا يسمون الخرس لعجمة ألسنتهم، وكانوا يوماً على باب قصره.
وكان يطلع على الأمور بنفسه، ما قرب منها وبعد، وكان له نفر من ثقات أصحابه بطالعونه بأحوال الناس، فيرد عنهم المظالم، وينصف المظلوم، وكان شجاعأن مقدامأن مهيباً وهوالذي وطأ لعقبه الملك بالأندلس، وكان يقرب الفقهاء وأهل العلم.
ذكر ولاية ابنه عبد الرحمنلما مات الحكم بن هشام قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن ويكنى أبا المطرف، واسم أمه حلاوة، وكان بكن والده، ولد بطليطلة، أيام كان أبوه الحكم يتولاها لأبيه هشام، ولد لسبعة أشهر وجد ذلك بخط أبيه.
وكان جسيمأن وسيمأن حسن الوجه، فلما ولي خرج عليه عم أبيه عبد الله البلنسي، وطمع بموت الحكم، وخرج من بلنسية يريد قرطبة، فتجهز له عبد الرحمن، فلما بلغ ذلك عبد الله خاف، وضعفت نفسه، فرجع إلى بلنسية، ثم مات في أثناء ذلك سريعاً ووقى الله ذلك الطرف شره.
فلما مات نقل عبد الرحمن أولاده وأهله إليه بقرطبة، وخلصت الإمارة بالأندلس لولد هشام بن عبد الرحمن.
ذكر عدة حوادثوفيها عزل الحسن بن موسى الأشيب عن قضاء الموصل، فانحدر إلى بغداد، وتولى القضاء بها علي بن أبي طالب الموصلي.
وفيها ولى المأمون داود بن ماسحور محاربة الزط، وأعمال البصرة، وكور دجلة، واليمامة، والبحرين.
وفيها كان المد عظيماً غرق فيه السواد، وكسكر، وقطيعة أم جعفر، وهلك فيه من الغلات كثير.
وفيها نكب بابك الخرمي عيسى بن محمد بن أبي خالد؛ وحج بالناس هذه السنة عبيد الله بن الحسن العلوي، وهوأمير الحرمين.
وفيها غزا المسلمون من إفريقية جزيرة سردانية، فغمنوأن وأصابوا من الكفار، وأصيب منهم، ثم عادوا.
وفيها توفي الهيثم بن عدي الطائي الإخباري، وكان عابدأن ضعيفاً في الحديث؛ وعبد الله بن عمروبن عثمان بن أمية الموصلي، وهومن أصحاب سفيان الثوري.
وفيها توفي محمد بن المستنير، والمعروف بقطرب، النحوي، أخذ النحومن سيبويه. وفيها توفي أبوعمروإسحاق بن مرار الشيباني اللغوي.
مرار بكسر الميم وبراءين مخففتين.
حوادث سنة سبع ومائتين

ذكر خروج عبد الرحمن بن أحمد باليمن
في هذه السنة خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، ببلاد عك، في اليمن، يدعوإلى الرضي من آل محمد، صلى الله عليه وسلم.
وكان سبب خروجه أن العمال باليمن أساؤوا السيرة فيهم، فبايعوا عبد الرحمن هذا؛ فلما بلغ المأمون ذلك وجه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيف، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار الموسم، وحج.
ثم سار إلى اليمن، فبعث إلى عبد الرحمن بأمانه، فقبله، ودخل في طاعة المأمون، ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمرهم بلبس السواد، وذلك لليلتين بقيتا من ذي العقدة.
ذكر وفاة طاهر بن الحسينوفي هذه السنة، في جمادى الأولى، مات طاهر بن الحسين من حمى أصابته، وإنه وجد في فراشه ميتاً.
وقال كلثوم بن ثابت بن أبي سعيد: كنت على بريد خراسان، فلما كان سنة سبع ومائتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، وقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفنا مؤونة من بغى علينأن وحشد فيهأن بلم الشعث، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين.

قال: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول لأني لا أكتم الخبر. قال: فانصرفت، فاغتسلت غسل الموتى، وتكفنت، وكتبت إلى المأمون، فلما كان العصر دعاني، وحدث به حادث في جفن عينه، وسقط ميتأن فخرج إلي ابنه طلحة، قال: هل كتبت بما كان؟ قلت: نعم! قال: فاكتب بوفاته! فكتبت بوفاته، وبقيام طلحة بأمر الجيش، فوردت الخريطة على المأمون بخلعه، فدعا احمد بن أبي خالد، فقال: سر فأت بطاهر كما زعمت وضمنت، فقال: أبيت الليلة؟ فقال: لأن فلم يزل حتى أذن له في المبيت.
ووافت الخريطة الأخرى ليلاً بموته، فدعاه، فقال: قد مات طاهر، فمن ترى؟ قال: ابنه طلحة؛ قال: اكتب بتوليته! فكتب بذلك، فأقام طلحة والياً على خراسان في أيام المأمون سبع سنين، ثم توفي، وولى عبد الله خراسان.
ولما ورد موت طاهر على المأمون قال: لليدين وللفم؛ الحمد لله الذي قدمه وأخرنا! وكان طاهر أعور وفيه يقول بعضهم:
يا ذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة
يعني أن لقبه كان ذا اليمينين، وكانت كنيته أبا الطيب، وقد قيل إن طاهراً لما مات انتهب الجند بعض خزائنه، فقام بأمرهم سلام الأبرش الخصي، وأعطاهم رزق ستة أشهر.
وقيل استعمل المأمون على عمله جميعه ابنه عبد اله بن طاهر، فسير إلى خراسان أخاه طلحة، وكان عبد الله بالرقة على حرب نصر بن شبث، فلما توجه طلحة إلى خراسان سير المأمون إليه أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره، فعبر أحمد إلى ما وراء النهر، وافتتح أشروسنة، واسر كاوس بن صارخره، وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون، وهب طلحة لأحمد ابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم، وعروضاً بألفي ألف درهم، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتب أحمد خمسمائة ألف درهم.
ذكر ما كان بالأندلس في هذه السنةوفي هذه السنة وقع عبد الرحمن بن الحكم، صاحب الأندلس، بجند البصراة وأهلهأن وهي الوقعة المعروفة بوقعة بالس.
وكان سببها أن الحكم كان قد بلغه عن عامل اسمه ربيع أنه ظلم الأبناء أهل الذمة، فقبض عليه، وصلبه قبل وفاته، فلما توفي وولي ابنه عبد الرحمن سمع الناس بصلب ربيع، فأقبلوا إلى قرطبة من النواحي يطلبون الأموال التي كان ظلمهم بهأن ظنا بهأن ظناً منهم أنها ترد إليهم، وكان أهل إلبيرة أكثرهم طلباً وإلحاحاً فيه، وتألبوأن فبعث إليهم عبد الرحمن من يفرقهم ويسكتهم، فلم يقبلوأن ودفعوا ن أتاهم، فخرج إليهم جمع من الجند، وأصحاب عبد الرحمن، فقاتلوهم، فانهزم جند إلبيرة ومن معهم، وقتلوا قتلاً ذريعأن ونجا الباقون منهزمين، ثم طلبوا بعد ذلك، فقتلوا كثيراً منهم.
وفيها ثارت بمدينة تدمير فتنة من المضرية واليمانية، فاقتتلوا بلورقة، وكان بينهم وقعة تعرف بيوم المضارة، قتل منهم ثلاثة آلاف رجل، ودامت الحرب بينهم سبع سنين، فوكل بكفهم، ومنعهم، يحيى بن عبد الله بن خالد، وسيره في جميع الجيش، فكانوا إذا أحسوا بقرب يحيى تفرقوا وتركوا القتال، وإذا عاد عنهم رجعوا إلى الفتنة والقتال حتى عيي أمرهم.
وفيها كان بالأندلس مجاعة شديدة ذهب فيها خلق كثير، وبلغ المد في بعض البلاد ثلاثين ديناراً.
تدمير بالتاء فوقها نقطتان والدال المهملة والياء تحتها نقطتان ثم راء.
ذكر عدة حوادثوفيها غلا السعر بالعراق، حتى بلغ القفيز من الحنطة بالهاروني أربعين درهماً إلى الخمسين.
وفيها ولي محمد بن حفص طبرستان، والرويان، ودنباوند؛ وحج بالناس أبوعيسى بن الرشيد.
وفيها أمر المأمون السيد بن أنس، والي الموصل، بقصد بني شيبان وغيرهم من العرب لإفسادهم في البلاد، فسار إليهم، وكبسهم بالدسكرة، فقتلهم ونهب أموالهم وعاد.
وفيها توفي وهب بن جرير الفقيه، وعمر بن حبيب العدوي القاضي، وعبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، وعبد العزيز بن أبان القرشي، قاضي واسط، وجعفر بن عون بن جعفر بن عمروبن حريث المخزومي الفقيه، وبشر بن عمر الزاهد الفقيه، وكثير بن هشام، وأزهر بن سعيد السمان، وأبوالنضر هشام بن القاسم الكناني.
وفيها توفي محمد بن عمر بن واقد الواقدي، وكان عمره ثمانياً وسبعين سنة، وكان عالماً بالمغازي واختلاف العلماء، وكان يضعف في الحديث.
وفيها توفي محمد بن أبي رجاء القاضي، وهومن أصحاب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة.

وفيها توفي محمد بن أبي عبد الله بن عبد الأعلى المعروف بابن كناسة، وهوابن أخت إبراهيم بن أدهم، وكان عالماً بالعربية والشعر وأيام الناس.
وفيها توفي يحيى بن زياد،أبوزكرياء الفراء النحوي الكوفي، وأبوغامن الموصلي، وزيد بن علي بن أبي خداش الموصلي، وهومن أصحاب المعافي، كثير الرواية عنه.
حوادث سنة ثمان ومائتينفي هذه السنة سار الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان، فعصى بهأن فسار إليه أحمد بن أبي خالد، فأخذه، وأتى به المأمون فعفا عنه.
وفيها استقضي إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، وفيها عزل محمد بن عبد الرحمن المخزومي عن قضاء عسكر المهدي، ووليه بشر بن الوليد الكندي، فقال بعضهم:
يا أيها الرجل الموحد ربه ... قاضيك بشر بن الوليد حمار
ينفي شهادة من يدين بما به ... نطق الكتاب وجاءت الآثار
ويعد عدلاً من يقول بأنه ... شيخ يحيط بجسمه الأقطار
وفيها مات موسى بن الأمين، والفضل بن الربيع في ذي العقدة، وحج بالناس صالح بن الرشيد.
وفيها هلك أليسع بن أبي القاسم، صاحب سجلماسة، فولى أهلها على أنفسهم أخاه المنتصر بن أبي القاسم واسول، المعروف بمدرار، وقد تقدم ذكرهم.
وفيها سير عبد الرحمن بن الحكم صاحب الأندلس جيشاً إلى بلاد المشركين، واستعمل عليه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، فساروا إلى ألبة والقلاع، فنهبوا بلاد ألبة وأحرقوهأن وحصروا عدة من الحصون، ففتحوا بعضهأن وصالحه بعضها على مال وإطلاق الأسرى من المسلمين، فغمن أموالاً جليلة القدر، واستنفذوا من أسارى المسلمين وسبيهم كثيرأن فكان ذلك في جمادى الآخرة، وعادوا سالمين.
وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الأموي المعروف بالبلنسي صاحب بلنسية من الأندلس، وقد تقدم من أخباره مع أخبار أبن أخيه الحكم ابن هشام كثير.
وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن حبيب السهمي الباهلي، ويونس ابن محمد المؤد، والقاسم ابن الرشيد، وسعيد بن تمام بالبصرة، وعبد الله بن جعفر بن سليمان بن علي، والحسن بن موسى الأشيب، وقد كان سار ليتولى قضاء طبرستان، فمات بالري.
وتوفي علي بن المبارك الأحمر النحوي، صاحب الكسائي، وقيل توفي في سنة ست وثمانين ومائة.
حوادث سنة تسع ومائتين

ذكر الصفر بنصر بن شبث
وفي هذه السنة حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بكيسوم، وضيق عليه، حتى طلب الأمان، فقال محمد بن جعفر العامري: قال المأمون لثمامة بن أشرس: ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان يؤدي عني ما أوجبه إلى نصر؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، محمد بن جعفر العامري؛ فأمر بإحضاري، فحضرت فكلمني بكلام أمرني أن أبلغه نصرأن وهوبكفر عزون، بسروج، فأبلغته نصرأن فأذعن، وشرط شروطاً منها أن لا يطأ بساطه، فلم يجبه المأمون إلى ذلك، وقال: ما باله ينفر مني؟ قلت: لجرمه، وما تقدم من ذنبه.
قال: أفتراه أعظم جرماً من الفضل بن الربيع، ومن عيسى بن محمد ابن أبي خالد؟ أما الفضل فأخذ قوادي، وأموالي، وسلاحي، وجميع ما أوصى به الرشيد لي، فذهب به إلى محمد أخي، وتركني بمروفريداً وحيدأن وسلمني، وأفسد عليّ أخي حتى كان من أمره ما كان، فكان أشد عليّ من كل شيء. وأما عيسى بن أبي خالد فإنه طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي، وذهب بخراجي وفيئي، وأخرب داري، وأقعد إبراهيم خليفة دوني.
قال قلت: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم. قال قلت: أما الفضل بن الربيع فإنه صنيعكم ومولاكم، وحال سلفه حالهم، فترجع إليه بضروب كلها تردك إليه.
وأما عيسى فرجل من دولتك وسابقته من مضى من سلفه معروفة يرجع عليه بذلك.
وأما نصر فرجل لم يكن له يد قط فيحتمل كهؤلاء لمن مضى من سلفه وإمنا كانوا من جند بني أمية.
قال: إنه كما تقول، ولست أقلع عنه حتى يطأ بساطي.

قال: فأبلغت نصراً ذلك، فصاح بالخيل، فجالت إليه، فقال: ويلي عليه، هولم يقوعلى أربعمائة ضفدع تحت جناحه، يعني الزط، يقوي علي بحلبة العرب؟ فجاده عبد الله بن طاهر القتال، وضيق عليه، فطلب الأمان، فأجابه إليه، وتحول من معسكره إلى الرقة وصار إلى عبد الله، وكانت مدة حصاره ومحاربته خمس سنين، فلما خرج إليه أخرب عبد الله حصن كيسوم، وسير نصراً إلى المأمون وفصل إليه في صفر سنة عشر ومائتين.
ذكر عدة حوادثوفيها ولى المأمون علي بن صدقة المعروف بزريق، على أرمينية، وأذربيجان، وأمره بمحاربة بابك، وأقام بأمره أحمد بن الجنيد الإسكافي، فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل أذربيجان.
وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها مات ميخائيل بن جورجيس ملك الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملك ابنه توفيل.
وفيها خرج منصور بن نصير بإفريقية عن طاعة الأمير زيادة الله. وكان منه ما ذكرناه سنة اثنتين ومائتين.
وفيها توفي أبوعبيدة معمر بن المثنى اللغوي، وقيل سنة عشر، وكان يميل إلى مقالة الخوارج، وكان عمره ثلاثاً وتسعين سنة، وقيل مات سنة ثلاث عشرة وعمره ثمان وتسعون سنة.
وفيها توفي يعلي بن عبيد الطيالسي أبويوسف، والفضل بن عبد الحميد الموصلي المحدث.
حوادث سنة عشر ومائتين

ذكر ظفر المأمون بابن عائشة
وفيها ظفر المأمون بإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم، الإمام المعروف بابن عائشة، ومحمد بن إبراهيم الإفريقي، ومالك بن شاهي ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة لإبراهيم بن المهدي.
وكان الذي أطلعه عليهم وعلى صنيعهم عمران القطربلي، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بن شبث فمن عليهم عمران، فاخذوا في صفر، ودخل نصر بن شبث بغداد ولم يلقه أحد من الجند، فأخذ ابن عائشة، فأقيم على باب المأمون ثلاثة أيام في الشمس، ثم ضربه بالسياط، وحبسه وضرب مالك بن شاهي وأصحابه، فكتبوا للمأمون بأسماء من دخل معهم في هذا الأمر من سائر الناس فلم يعرض لهم المأمون، وقال: لا آمن أن يكون هؤلاء قذفوا قوماً برآء.
ثم إنه قتل ابن عائشة وابن شاهي ورجلين من أصحابهما، وكان سبب قتلهم أن المأمون بلغن أنهم يريدون أن ينقبوا السجن، وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن، فلم يدعوا أحداً يدخل عليهم، فلما بلغ المأمون خبرهم ركب إليهم بنفسه، فأخذهم، فقتلهم صبرأن وصلب ابن عائشة، وهوأول عباسي صلب في الإسلام؛ ثم أنزل وكفن وصلى عليه ودفن في مقابر قريش.
ذكر الظفر بإبراهيم بن المهديوفي هذه السنة، في ربيع الأول، أخذ إبراهيم بن المهدي، وهومتنقب مع امرأتين، وهوفي زي امرأة، أخذه حارس أسود ليلأن فقال: من أين أنتن، وأين تردن هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان في يده له قدر عظيم ليخليهن، ولا يسألهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استرابهن، وقال: خاتم رجل له شأن، ورفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فامتنع إبراهيم، فجذبه، فبدت لحيته، فدفعه إلى صاحب الجسر، فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون وأعلمه به، فأمر بالاحتفاظ به إلى بكرة.
فلما كان الغد أقعد إبراهيم في دار المأمون والمقنعة التي تقنع بها في عنقه، والملحفة على صدره ليراه بنوهاشم والناس، ويعلموا كيف أخذ، ثم حوله إلى أحمد بن أبي خالد، فحبسه عنده؛ ثم أخرجه معه، لما سار إلى فم الصلح، إلى الحسن بن سهل، فشفع فيه الحسن، وقيل ابنته بوران.
وقيل إن إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار أبي إسحاق المعتصم، وكان المعتصم عند المأمون، فحمل رديفاً لفرح التركي، فلما دخل على المأمون قال: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين! ولي الثأر محكم في القصاص والعفوأقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء، أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك.
قال: بل أعفو، يا إبراهيم، فكبر وسجد؛ وقيل بل كتب إبراهيم هذا الكلام إلى المأمون وهومتخف، فوقع المأمون في رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفوالله، عز وجل، وهوأكبر ما يسأله، فقال إبراهيم يمدح المأمون:
يا خير من رقلت يمانية به ... بعد النبي آيس أوطامع

وأبر من عبد الإله على التقى ... غيباً وأقوله بحق صادع
عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ... فالصاب يمزج بالسمام الناقع
متيقظاً حذراً وما تخشى العدى ... نبهان من وسنان ليل الهاجع
ملئت قلوب الناس منك مخافة ... وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع
بأبي وأمي فدية وأبيهما ... من كل معضلة وذنب واقع
ما ألين الكنف الذي بواتني ... وطناً وأمرع ربعه للراتع
للصالحات أخاً جعلت وللتقي ... وأباً رؤوفاً للفقير القانع
نفسي فداؤك إذ تضل معاذري ... وألوذ منك بفضل حلم واسع
أملاً لفضلك، والفواضل شيمة ... رفعت بناءك للمحل اليافع
فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ... وسع النفوس من الفعال البارع
وعفوت عمن لم يكن عن مثله ... عفوولم يشفع إليك بشافع
إلا العلوعن العقوبة بعدما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
فرجمت أطفالاً كأفراخ القطا ... وعويل عانسة كقوس النازع
وعطفت آمرة علي كما وهى ... بعد انهياض الوثي عظم الظالع
الله يعلم ما أقول كأنها ... جهد الألية من حنيف راكع
ما إن عصيتك والغواة تقودني أسبابها إلا بنية طائع
حتى إذا علقت حبائل شقوتي ... بردى إلى حفر المهالك هائع
لم أدر أن المثل جرمي غافراً ... فوقفت أنظر أي حتف صارعي
رد الحياة علي بعد ذهابها ... ورع الإمام القادر المتواضع
أحياك من ولاك أفضل مدة ... ورمى عدوك في الوتين بقاطع
كم من يد لك لم تحدثني بها ... نفسي إذا آلت إلي مطامعي
أسديتها عفواً إلى هنيئة ... وشكرت مصطنعاً لأكرم صانع
إلا يسيراً عندما أوليتني ... وهوالكبير لدي غير الضائع
إن أنت جدت بها علي تكن لها ... أهلاً وإن تمنع فأكرم مانع
إن الذي قسم الخلافة حازها ... من صلب آدم للإمام السابع
جمع القلوب عليك جامع أمرها ... وحوى رداؤك كل خير جامع
فذكر أن المأمون قال، حين أنشده هذه القصيدة: أقول كما قال يوسف لإخوته: (لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهوأرحم الراحمين) يوسف: 92.
ذكر بناء المأمون ببورانوفي هذه السنة بنى المأمون ببوران ابنه الحسن بن سهل بن رمضان، وكان المأمون سار من بغداد إلى فم الصلح إلى معسكر الحسن بن سهل، فنزله، وزفت إليه بوران، فلما دخل إليه المأمون كان عندها حمدونة بنت الرشيد وأم جعفر زبيدة أم الأمين، وجدتها أم الفضل، والحسن بن سهل.
فلما دخل نثرت عليه جدتها ألف لؤلؤة من أنفس ما يكون، فأمر المأمون بجمعه، فجمع فأعطاه بوران وقال: سلي حوائجك، فأمسكت، فقالت جدتها: سلي سيدك، فقد أمرك، فسألته الرضى عن إبراهيم بن المهدي، فقال: قد فعلت؛ وسألته الإذن لأم جعفر في الحج، فأذن لهأن وألبستها أم جعفر البدلة اللؤلؤية الأموية، وابتنى بها في ليلته وأوقد في تلك الليلة شمعة عنبر فيها أربعون مناً.
وأقام المأمون عند الحسن سبعة عشر يوماً، يعد له كل يوم ولجميع من معه ما يحتاج إليه، وخلع الحسن على القواد على مراتبهم، وحملهم، ووصلهم، وكان مبلغ ما لزمه خمسين ألف ألف درهم، وكتب الحسن أسماء ضياعه في رقاع، ونثرها على القواد فمن وقعت بيده رقعة منها فيها اسم ضيعة بعث فتسلمها.
ذكر مسير عبد الله بن طاهر إلى مصرفي هذه السنة سار عبد الله بن طاهر إلى مصر، وافتتحهأن واستأمن إليه عبيد الله بن السري.

وكان سبب مسيره أن عبيد الله قد كان تغلب على مصر، وخلع الطاعة، وخرج من الأندلس، فتغلبوا على الاسكندرية، واشتغل عبد الله بن طاهر عنهم بمحاربة نصر بن شبث، فلما فرغ منه سار نحومصر، فلما قرب منها على مرحلة قدم قائداً من قواده إليها لينظر موضعاً يعسكر فيه، وكان ابن السري قد خندق على مصر خندقأن فاتصل الخبر به من وصول القائد إلى ما قرب منه، فخرج إليه في أصحابه، فالتقى هووالقائد، فاقتتلوا قتالاً شديدأن وكان القائد في قلة، فجال أصحابه، وسير بريداً إلى عبد الله بن طاهر بخبره، فحمل عبد الله الرجال على البغال، وجنبوا الخيل، وأسرعوا السير، فلحقوا بالقائد وهويقاتل ابن السري، فلما رأى ابن السري ذلك لم يصبر بين أيديهم، وانهزم عنهم، وتساقط أكثر أصحابه في الخندق، فمن هلك منهم بسقوط بعضهم على بعض كان أكثر من قتله الجند بالسيف.
ودخل ابن السري مصر، وأغلق الباب عليه وعلى أصحابه، وحاصره عبد الله، فلم يعد ابن الرسي يخرج غليه، وأنفذ إليه ألف وصيف ووصيفة مع كل واحد منهم ألف دينار، فسيرهم ليلأن فردهم ابن طاهر وكتب إليه: لوقبلت هديتك نهاراً لقبلتها ليلاً (بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون) النمل: 36 - 37. قال: فحينئذ طلب الأمان. وقيل: كان سنة إحدى عشرة.
وذكر أحمد بن حفص بن أبي الشماس قال: خرجنا مع عبد الله بن طاهر إلى مصر، حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق إذ نحن بأعرابي قد اعترض، فإذا شيخ على بعير له، فسلم علينأن فرددنا عليه السلام، قال: وكنت أنأن وإسحاق بن إبراهيم الرافقي، وإسحاق بن أبي ربعي، ونحن نساير الأمير، وكنا أفره منه دابة، وأجود كسوة، قال: فجعل الأعرابي ينظر إلى وجوهنأن قال فقلت: يا شيخ قد ألححت في النظر، أعرفت شيئاً أنكرته؟ قال: لا والله، ما عرفتكم قبل يومي هذأن ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، قال: فأشرت إلى إسحاق بن أبي ربعي، وقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:
أرى كاتباً داهي الكتابة بين ... عليه، وتأديب العراق منير
له حركات قد يشاهدن أنه ... عليم بتسيط الخراج بصير
ونظر إلى إسحاق بن إبراهيم الرافقي، فقال:
ومظهر نسك ما عليه ضميره ... يحب الهدايا بالرجال مكور
إخال به جبناً وبخلاً وشيمة ... تخبر عنه أنه لوزير
ثم نظر إلي وقال:
وهذا نديم للأمير ومؤنس ... يكون له بالقرب منه سرور
وأحسبه للشعر والعلم راوياً ... فبعض نديم مرة وسمير
ثم نظر إلى الأمير، وقال:
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ... فما إن له في العالمين نظير
عليه رداء من جمال وهيبة ... ووجه بإدراك النجاح بشير
لقد عظم الإسلام منه يدي يد ... فقد عاش معروف ومات نكير
إلا إمنا عبد الإله ابن طاهر ... لنا والد بر بنأن وأمير
قال: فوقع ذلك من عبد الله أحسن موقع، وأعجبه، وأمر الشيخ بخمسمائة دينار، وأمره أن يصحبه.
ذكر فتح عبد الله الإسكندريةوفي هذه السنة أخرج عبد الله من كان تغلب على الإسكندرية من أهل الأندلس بأمان، وكانوا قد أقلوا في مراكب من الأندلس في جمع، والناس في فتنة بن السري وغيره، فأرسلوا بالإسكندرية، ورئيسهم يدعى أبا حفص، فلم يوالوا بها حتى قدم ابن طاهر، فأرسل يؤذنهم بالحرب إن هم لم يدخلوا في الطاعة، فأجابوه، وسألوه الأمان على أن يرتحلوا عنها إلى بعض أطراف الروم التي ليست من بلاد الإسلام، فأعطاهم الأمان على ذلك، فرحلوأن ونزلوا بجزيرة إقريطش، واستوطنوهأن وأقاموا بهأن فأعقبوا وتناسلوا.
قال يونس بن عبد الأعلى: أقبل إلينا فتى حدث من المشرق، يعني ابن طاهر، والدنيا عندنا مفتونة قد غلب على كل ناحية من بلادنا غالب، والناس في بلاء، فأصلح الدنيأن وأمن البرئ، وأخاف السقيم، واستوسقت له الرعية بالطاعة.
ذكر خلع أهل قم

في هذه السنة خلع أهل قم المأمون، ومنعوا الخراج؛ فكان سببه أن المأمون لما سار من خراسان إلى العراق أقام بالري عدة أيام واسقط عنهم شيئاً من خارجهم، فطمع أهل قم أن يصنع بهم كذلك، فكتبوا إليه يسألونه الحطيطة، وكان خراجهم ألفي ألف درهم، فلم يبهم المأمون إلى ما سألوأن فامتنعوا من أدائه، فوجه المأمون إليهم علي بن هشام، وعجيف بن عنبسة، فحارباهم فظفرا بهم، وقتل يحيى بن عمران، وهدم سور المدينة، وجباها على سبعة آلاف ألف ردهم، وكانوا يتظلمون من ألفي ألف.
ذكر ما كان بالأندلس من الحوادثوفي هذه السنة سير عبد الرحمن بن الحكم سرية كبيرة إلى بلاد الفرنج واستعمل عليها عبيد اله المعروف بابن البلنسي، فسار ودخل بلاد العدو، وتردد فيها بالغارات، والسبي، والقتل، والأسر، ولقي الجيوش الأعداء في ربيع الأول، فاقتتلوأن فانهزم المشركون، وكثر القتل فيهم، وكان فتحاً عظيماً.
وفيها افتتح عسكر، سيره عبد الرحمن أيضأن حصن القلعة من أرض العدو، وتردد فيها بالغارات منتصف شهر رمضان.
وفيها أمر عبد الرحمن ببناء المسجد الجامع بجيان.
وفيها أخذ عبد الرحمن رهائن أبي الشماخ محمد بن إبراهيم مقدم اليمانية بتدمير، ليسكن الفتنة بين المضرية واليمانية، فلم ينزجروأن ودامت الفتنة، فلما رأى عبد الرحمن ذلك أمر العامل بتدمير أن ينقل منها ويجعل مرسية منزلاً ينزله العمال، ففعل ذلك، وصارت مرسية هي قاعدة تلك البلاد من ذلك الوقت؛ ودامت الفتنة بينهم إلى سنة ثلاث عشرة ومائتين، فسير عبد الرحمن إليهم جيشأن فأذعن أبوالشماخ، وأطاع عبد الرحمن، وسار إليه، وصار من جملة قواده وأصحابه، وانقطعت الفتنة من ناحية تدمير.
ذكر عدة حوادثمات في هذه السنة شهريار بن شروين صاحب جبال طبرستان، وصار في موضعه ابنه سابور. فقاتله مازيار بن قارن، فأسره وقتله، وصارت الجبال في يد مازيار.
وحج بالناس في هذه السنة صالح بن العباس بن محمد، وهووالي مكة.
وفيها توفيت علية بنت المهدي، مولدها سنة ستين ومائة، وكان زوجها موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، فولدت منه.
حوادث سنة إحدى عشرة ومائتينفي هذه السنة أدخل عبيد الله بن السري بغداد، وأنزل مدينة المنصور، وأقام ابن طاهر بمصر والياً عليها وعلى الشام والجزيرة، وقال للمأمون بعض إخوته إن عبد الله بن طاهر يميل إلى ولد علي بن أبي طالب، وكذا كان أبوه قبله، فأنكر المأمون ذلك، فعاوده أخوه، فوضع المأمون رجلاً قال له: امش في هيئة القراء والنساك إلى مصر، فادع جماعة من كبرائها إلى القاسم بن إبراهيم بن طباطبأن ثم صار إلى عبد الله بن طاهر غادعه إليه، واذكر له مناقبه، ورغبه فيه وابحث عن باطنه وأتني بما تسمع.
ففعل الرجل ذلك فاستجاب له جماعة من أعيانه، فقعد بباب عبد الله بن طاهر، فلما ركب قام إليه فأعطاه رقعة، فلما عاد إلى منزله أحضره، قال: قد فهمت ما في رقعتك فهات ما عندك! فقال: ولي أمانك؟ قال: نعم! فدعاه إلى القاسم، وذكر فضله وزهده وعلمه.
فقال عبد الله: أتنصفني؟ قال: نعم! قال: هل يجب شكر الله على العباد؟ قال: نعم! قال: فتجيء إلي وأنا في هذه الحال لي خاتم في المشرق جائز، وخاتم في المغرب جائز، وفيما بينهما أمري مطاع، ثم ما ألتفت عن يميني ولا شمالي، وورائي وأمامي إلا رأيت نعمة لرجل أنعمها علي، ومنة ختم بها رقبتي، ويداً لائحة بيضاء ابتدأني بها تفضلاً وكرمأن تدعوني إلى أن أكفر بهذه النعم، وهذا الإحسان، وتقول: اغدر بمن كان أولى لهذا وأحرى، واسع في إزالة خيط عنقه، وسفك دمه، تراك لودعوتني إلى الجنة عياناً أكان الله يحب أن أغدر به، وأكفر إحسانه، وأنكث بيعته؟ فسكت الرجل، فقال له عبد الله: ما أخاف عليك إلا نفسك، فارحل عن هذا البلد، فإن السلطان الأعظم إن بلغه ذلك كنت الجاني على نفسك ونفس غيرك.
فلما أيس منه جاء إلى المأمون فأخبره، فاستبشر، وقال: ذلك غرس يدي، وألف أدبي، وترب تلقيحي، ولم يظهر ذلك، ولا علمه ابن طاهر إلا بعد موت المأمون، وكان هذا القائل للمأمون المعتصم، فإنه كان منحرفاً عن عبد الله.
ذكر قتل السيد بن أنس

وفيها قتل السيد بن أنس الأزدي أمير الموصل، وسبب قتله أن زريق ابن علي بن صدقة الإزدي الموصلي كان قد تغلب على الجبال ما بين الموصل وأذربيجان، وجرى بينه وبين السيد حروب كثيرة، فلما كان هذه السنة جمع زريق جمعاً كثيرأن قيل: كانوا أربعين ألفأن وسيرهم إلى الموصل لحرب السيد، فخرج إليهم في أربعة آلاف، فالتقوا بسوق الأحد، فحين رآهم السيد حمل عليهم وحده، وهذه كانت عادته أن يحمل وحده بنفسه، وحمل عليه رجل من أصحاب زريق، فاقتتلأن فقتل كل واحد منهما صاحبه لم يقتل غيرهما.
وكان هذا الرجل قد حلف بالطلاق إن رأى السيد أن يحمل عليه فيقتله أويقتل دونه، لأنه كان له على زريق كل سنة مائة ألف درهم، فقيل له: بأي سبب تأخذ هذا المال؟ فقال: لأنني متى رأيت السيد قتلته، وحلف على ذلك فوفى به.
فلما بلغ المأمون قتله غضب لذلك، وولى محمد بن حميد الطوسي حرب زريق وبابك الخرمي، واستعمله على الموصل.
ذكر الفتنة بين عامر ومنصور

وقتل منصور بإفريقية
وفي هذه السنة وقع الاختلاف بين عامر بن نافع وبين منصور بن نصر بإفريقية، وسبب ذلك أن منصوراً كان كثير الحسد... وسار بهم من تونس إلى منصور وهوبقصره بطنبذ، فحصره، حتى فني ما كان عنده من الماء، فراسله منصور، وطلب منه الأمان على أن يركب سفينة ويتوجه إلى المشرق، فأجابه إلى ذلك، فخرج منصور أول الليل مختفياً يريد الأربس، فلما أصبح عامر ولم ير لمنصور أثراً طلبه حتى أدركه، فاقتتلوا وانهزم منصور، ودخل الأربس فتحصن بهأن وحصره عامر، ونصب عليه منجنيقاً.
فلما اشتد الحصار على أهل الأربس قالوا لمنصور: إما أن تخرج عنأن وإلا سلمناك إلى عامر، فقد أضر بنا الحصار؛ فاستمهلهم حتى يصلح أمره، فأمهلوه، وأرسل إلى عبد السلام بن المفرج، وهومن قواد الجيش، يسأله الاجتماع به، فأتاه، فكلمه منصور من فوق السور، واعتذر، وطلب منه أن يأخذ له أماناً من عامر حتى يسير إلى المشرق، فأجابه عبد السلام إلى ذلك، واستعطف له عامرأن فأمنه على أن يسير إلى تونس، ويأخذ أهله وحاشيته ويسير بهم إلى الشرق.
فخرج إليه، فسيره مع خيل إلى تونس، وأرم رسوله سراً أن يسير به إلى مدينة جربة، ويسجنه بهأن ففعل ذلك، وسجن معه أخاه حمدون.
فلما علم عبد السلام ذلك عظم عليه، وكتب عامر إلى أخيه، وهوعامله على جربة، يأمره بقتل منصور وأخيه حمدون، ولا يراجع فيهمأن فحضر عندهمأن وأقرأهما الكتاب، فطلب منصور منه دواتة وقرطاساً ليكتب وصيته، فأمر له بذلك، فلم يقدر أن يكتب، وقال: فاز المقتول بخير الدنيا والآخرة، ثم قتلهمأن وبعث برأسيهما إلى أخيه، واستقامت الأمور لعامر بن نافع، ورجع عبد السلام بن المفرج إلى مدينة باجه، وبقي عامر بن نافع بمدينة تونس وتوفي سلخ ربيع الآخر سنة أربع عشرة ومائتين؛ فلما وصل خبره إلى زيادة اله قال: الآن وضعت الحرب أوزارهأن وأرسل بنوه إلى زيادة الله يطلبون الأمان، فأمنهم، وأحسن إليهم.
ذكر عدة حوادثوفيها قدم عبد الله بن طاهر مدينة السلام، فتلقاه العباس بن المأمون، والمعتصم، وسائر الناس.
وفيها مات موسى بن حفص فولي ابنه طبرستان، وولي حاجب ن صالح السند، فهزمه بشر بن داود، فانحاز إلى كرمان.
وفيها أمر المأمون مناديأن فنادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بخير، أوفضله على أحد من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه ولم.
وفيها مات أبوالعتاهية الشاعر، وحج بالناس صالح بن العباس وهووالي مكة.
وفيها خرج بأعمال تاكرنا من الأندلس طوريل، فقصد جماعة من الجند قد نزلوا ببعض قرى تاكرنا ممتازين، فقتلهم، واخذ دوابهم وسلاحهم وما معهم، فسار إليه عاملهأن وفيها مات الأخفش النحوي البصري.
وفيها مات طلق بن غنام النخعي، وأحمد بن إسحاق الحضرمي، وعبد الرحيم بن عبد الرحمن بن محمد المحاربي.
وفيها توفي عبد الرزاق بن همام الصنعاني المحدث، وهومن مشايخ أحمد بن حنبل، وكان يتشيع.
وفيها توفي عبد الله بن داود الخربي البصري، وكان يسكن الخريبة بالبصرة، فنسب إليها.
حوادث سنة اثنتي عشرة ومائتين
ذكر استيلاء محمد بن حميد على الموصل

في هذه السنة وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي إلى بابك الخرمي لمحاربته، وأمره أن يجعل طريقه على الموصل ليصلح أمرهأن ويحارب زريق ابن علي، فسار محمد إلى الموصل، ومعه جيشه، وجمع ما فيها من الرجال من اليمن وربيعة، وسار لحرب زريق، ومعه محمد بن السيد بن أنس الأزدي، فبلغ الخبر إلى زريق، فسار نحوهم، فالتقوا في الزاب، فراسله محمد بن حميد يدعوه إلى الطاعة، فامتنع، فناجزه محمد، واقتتلوا واشتد قتال الأزدي مع محمد بن السيد طلباً بثأر السيد، فانهزم زريق وأصحابه، ثم أرسل يطلب الأمان، فأمنه محمد، فنزل إليه، فسيره إلى المأمون.
وكتب المأمون إلى محمد يأمره بأخذ جميع مال زريق من قرى ورستاق، ومال، وغيره، فأخذ ذلك لنفسه، فجمع محمد أولاد زريق وأخوته، وأخبرهم بما أمر به المأمون فأطاعوا لذلك فقال لهم: إن أمير المؤمنين قد أمرني به، وقد قبلت ما حباني منه، ورددته عليكم، فشكروه على ذلك.
ثم سار إلى أذربيجان، واستخلف على الموصل محمد بن السيد، وقصد المخالفين المتغلبين على أذربيجان فأخذهم، منهم يعلي بن مرة ونظراؤه، وسيرهم إلى المأمون وسار نحوبابك الخرمي لمحاربته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خلع أحمد بن محمد العمري، المعروف بالأحمر العين، المأمون باليمن، فاستعمل المأمون على اليمن محمد بن عبد الحميد المعروف بأبي الرازي وسيره إليها.
وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن، وتفضيل علي بن أبي طالب على جميع الصحابة، وقال هوأفضل الناس، بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وذلك في ربيع الأول.
وحج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
وفيها كانت باليمن زلزلة شديدة، فكان أشدها بعدن، فتهدمت المنازل، وخربت القرى، وهلك فيها خلق كثير.
وفيها سير عبد الرحمن صاحب الأندلس جيشاً إلى بلد المشركين، فوصلوا إلى برشلونة، ثم ساروا إلى جرندة، وقاتل أهلها في ربيع الأول، فأقام الجيش شهرين ينهبون ويخربون.
وفيها كانت سيول عظيمة، وأمطار متتابعة بالأندلس، فخربت أكثر الأسوار بمدائن ثغر الأندلس، وخربت قنطرة سرقسطة، ثم جددت عمارتها وأحكمت.
برشلونة بالباء الموحدة والراء والشين المعجمة واللام والواووالنون والهاء.
وفيها توفي محمد بن يوسف بن واقد بن عبد اله الضبي، المعروف بالفريابي، وهومن مشايخ البخاري.
حوادث سنة ثلاث عشرة ومائتينوفيها ولى المأمون ابنه العباس الجزيرة، والثغور والعواصم؛ وولى أخاه أبا إسحاق المعتصم الشام ومصر، وأمر لكل واحد منهما ولعبد الله بن طاهر بخمسمائة ألف درهم، فقيل: لم يفرق في يوم من المال مثل ذلك.
وفي هذه السنة خلع عبد السلام وابن جليس المأمون بمصر في القيسية واليمانية، وظهرا بها، ثم وثبا بعامل المعتصم، وهوابن عميرة بن الوليد الباذغيسي، فقتلاه في ربيع الأول سنة أربع عشرة ومائتين، فسار المعتصم إلى مصر،وقاتلهمأن فقتلهما وافتتح مصر، فاستقامت أمورهأن واستعمل عليها عماله.
وفيها مات طلحة بن طاهر بخراسان.
وفيها استعمل المأمون غسان بن عباد على السند، وسبب ذلك أن بشر بن داود خالف المأمون، وجبى الخراج فلم يحمل منه شيئاً، فعزم على تولية غسان، فقال لأصحابه: أخبروني عن غسان، فإني أريده لأمر عظيم، فأطنبوا في مدحه، فنظر المأمون إلى أحمد بن يوسف، وهوساكت، فقال: ما تقول يا أحمد؟ فقال: يا أمير المؤمنين! ذلك رجل محاسنه أكثر من مساوئه لا يصرف به إلى طبقة إلا انتصف منهم، فمهما تخوفت عليه فإنه لن يأتي أمراً يعتذر منه، فأطني فيه، فقال: لقد مدحته على سوء رأيك فيه؛ قال: لأني كما قال الشاعر:
كفى شكراً لما أسديت أني ... صدقتك في الصديق وفي عداتي
قال: فأعجب المأمون من كلامه وأدبه.
وحج بالناس هذه السنة عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها قتل أهل ماردة من الأندلس عاملهم، فثارت الفتنة عندهم، فسير إليهم عبد الرحمن جيشأن فحصرهم، وفسد زرعهم وأشجارهم، فعاودوا الطاعة، وأخذت رهائنهم، وعاد الجيش بعد أن خربوا سور المدينة.
ثم أرسل عبد الرحمن إليهم بنقل حجارة السور إلى النهر لئلا يطمع أهلها في عمارته، فلما رأوا ذلك عادوا إلى العصيان، وأسروا العامل عليهم، وجددوا بناء السور وأتقنوه.

فلما دخلت سنة أربع عشرة سار عبد الرحمن، صاحب الأندلس، في جيوشه إلى ماردة، ومعه رهائن أهلهأن فلما بارزها راسله أهلهأن وافتكوا رهائنهم باعامل الذي أسروه وغيره، وحصرهم، وأفسد بلدهم ورحل عنهم.
ثم سير إليهم جيشاً سنة سبع عشرة ومائتين، فحصروهأن وضيقوا عليهأن ودام الحصار، ثم رحلوا عنهم.
فلما دخلت سنة ثماني عشرة سير إليها جيشأن ففتحهأن وفارقها أهل الشر والفساد، وكان من أهلها إنسان اسمه محمود بن عبد الجبار الماردي، فحصره عبد الرحمن بن الحكم في جمع كثير من الجند، وصدقوه القتال، فهزموه وقتلوا كثيراً من رجاله، وتبعتهم الخيل في الجبل، فأفنوهم قتلاً وأسراً وتشريداً.
ومضى محمود بن عبد الجبار الماردي فيمن سلم معه من أصحابه إلى منت سالوط، فسير إليه عبد الرحمن جيشاً سنة عشرين ومائتين، فمضوا هاربين عنه إلى حلقب في ربيع الآخر منهأن فأرسل سرية في طلبهم، فقاتلهم محمود، فهزمهم، وغمن ما معهم، ومضوا لوجهتهم، فلقيهم جمع من أصحاب عبد ارحمن مصادفة، فقاتلوهم ثم كف بعضهم عن بعض، وساروأن فلقيهم سرية أخرى، فقاتلوهم، فانهزمت السرية، وغمن محمود ما فيها.
وسار حتى أتى مدينة مينة، فهجم عليها وملكهأن وأخذ ما فيها من دواب، وطعام، وفارقوهأن فوصلوا إلى بلاد المشركين، فاستولوا على قلعة لهم، فأقاموا بها خمسة أعوام ثلاثة أشهر، فحصرهم أذفونس ملك الفرنج، فملك الحصن، وقتل محموداً ومن معه، وذلك سنة خمس وعشرين ومائتين في رجب، وانصرف من فيها.
وفيها توفي إبراهيم الموصلي المغني، وهوإبراهيم بن ماهان، والد إسحاق بن إبراهيم وكان كوفيأن وسار إلى الموصل، فلما عاد قيل له الموصلي، فلزمه؛ وعلي بن جبلة بن مسلم أبوالحسن الشاعر، وكان مولده سنة ستين ومائة، وكان قد أضر، ومحمد بن عرعرة بن البوند؛ وأبوعبد الرحمن المقرئ المحدث؛ وعبد الله بن موسى العبسي الفقيه، وكان شيعيأن وهومن مشايخ البخاري في صحيحه.
البوند بكسر الباء الموحدة والواووتسكين النون وآخره دال مهملة
حوادث سنة أربع عشرة ومائتين

ذكر قتل محمد الطوسي
فيها قتل محمد بن حميد الطوسي، قتله بابك الخرمي، وسبب ذلك أنه لما فرغ من أمر المتغلبين على طريقه إلى بابك سار نحوه وقد جمع العساكر، والآلات، والميرة، فاجتمع معه عالم كثير من المتطوعة من سائر الأمصار، فسلك المضايق إلى بابك، وكان كلما جاوز مضيقاً أوعقبة ترك عليه من يحفظه من أصحابه إلى أن نزل بهشتادسر، وحفر خندقأن وشاور في دخول بلد بابك، فأشاروا عليه بدخوله من وجه ذكروه له، فقبل رأيهم، وعبى أصحابه، وجعل على القلب محمد بن يوسف بن عبد الرحمن الطائي، المعروف بأبي سعيد، وعلى الميمنة السعدي بن أسرم وعلى الميسرة العباس بن عبد الجبار اليقطيني، ووقف محمد ن حميد خلفهم في جماعة ينظر إليهم، ويأمرهم بسد خل إن رآه، فكان بابك يشرف عليهم من الجبل، وقد كمن لهم الرجال تحت كل صخرة.
فلما تقدم أصحاب محمد، وصعدوا في الجبل مقدار ثلاثة فراسخ، خرج عليهم الكمناء وانحدر بابك إليهم فيمن معه، وانهزم الناس، فأمرهم أبوسعيد ومحمد بن حميد بالصبر، فلم يفعلوأن ومروا على وجوههم، والقتل يأخذهم، وصبر محمد بن حميد مكانه، وفر من كان معه غير رجل واحد، وسارا يطلبان الخلاص، فرأى جماعة وقتالأن فقصدهم، فرأى الخرمية يقاتلون طائفة من أصحابه، فحين رآه الخرمية قصدوه لما رأوا من حسن هيئته، فقاتلهم، وقاتلوه، وضربوا فرسه بزراق، فسقط إلى الأرض، وأكبوا على محمد بن حميد فقتلوه.
وكان محمد ممدحاً جوادأن فرثاه الشعراء وأكثروأن منهم الطائي، فلما وصل خبر قتله إلى المأمون عظم ذلك عنده، واستعمل عبد الله بن طاهر على قتال بابك فسار نحوه.
ذكر حال أبي دلف مع المأمونكان أبودلف من أصحاب محمد الأمين، وسار علي مع بن عيسى ابن ماهان إلى حرب طاهر بن الحسين، فلما قتل علي عاد أبودلف إلى همذان، فراسله طاهر بستميله، ويدعوه إلى بيعة المأمون، فلم يفعل، وقال: إن في عنقي بيعة لا أجد إلى فسخها سبيلأن ولكني سأقيم مكاني لا أكون مع أحد الفريقين إن كففت عني، فأجابه إلى ذلك، فأقام بكرج.

فلما خرج المأمون إلى الري راسل أبا دلف يدعوه إليه، فسار نحوه مجداً. وهوخائف، شديد الوجل، فقال له أهله وقومه وأصحابه: أنت سيد العرب، وكلها تطيعك، فإن كنت خائفاً فأقم، ونحن مننعك، فلم يفعل، وسار وهويقول:
أجود بنفسي دون قومي دافعاً ... لما نابهم قدماً وأغشى الدواهيا
وأقتحم الأمر المخوف اقتحامه ... لأدرك مجداً أوأعاود ثاويا
وهي أبيات حسنة؛ فلما وصل إلى المأمون أكرمه، وأحسن إليه وأمنه، وأعلى منزلته.
ذكر استعمال عبد الله بن طاهر على خراسانفي هذه السنة استعمل المأمون عبد الله بن طاهر على خراسان فسار إليها.
وكان سبب مسيره إليها أن أخاه طلحة لما مات ولي خراسان علي بن طاهر، خليفة لأخيه عبد الله، وكان عبد الله بالدينور يجهز العساكر إلى بابك، وأوقع الخوارج بخراسان بأهل قرية الحمراء من نيسابور، فأكثروا فيهم القتل، واتصل ذلك المأمون، فأمر عبد الله بن طاهر بالمسير إلى خراسان، فسار إليهأن فلما قدم نيسابور كان أهلها قد قحطوأن فمطروا قبل وصوله إليها بيوم واحد، فلما دخلها قام إليه رجل بزبز فقال:
قد قحط الناس في زمانهم ... حتى إذا جئت جئت بالدرر
غيثان في ساعة لنا قدما ... فمرحباً بالأمير والمطر
فأحضره عبد اله وقال له: أشاعر أنت؟ قال: لا! ولكني سمعتها بالرقة فحفظتهأن فأحسن إليه، وجعل إليه أن لا يشتري له شيء من الثياب إلا بأمره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج بلال الغساني الشاري، فوجه إليه المأمون ابنه العباس في جماعة من القواد، فقتل بلال.
وفيها قتل أبوالرازي باليمن.
وفيها تحرك جعفر بن داود القمي، فظفر به عزيز مولى عبد الله بن طاهر، وكان هرب من مصر فرد إليها.
وفيها ولى علي بن هشام الجبل، وقم، وأصبهان، وأذربيجان.
وفيها توفي إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب، عليه السلام، بالمغرب، وقام بعده ابنه محمد بأمر مدينة فاس، فولى أخاه القاسم البصرة وطنجة وما يليهما. واستعمل باقي إخوته على مدن البربرة.
وفيها سار عبد الرحمن الأموي صاحب الأندلس إلى مدينة باجة، وكانت عاصية عليه من حين فتنة منصور إلى الآن، فملكها عنوة.
وفيها خالف هاشم الضراب بمدينة طليطلة، من الأندلس، على صاحبها عبد الرحمن، وكان هاشم من خرج من طليطلة لما أوقع الحكم بأهلهأن فسار إلى قرطبة، فلما كان الآن سار إلى طليطلة، فاجتمع إليه أهل الشر وغيرهم فسار بهم إلى وادي نحوييه وأغار على البربر وغيرهم، فطار اسمه، واشتدت شوكته، واجتمع له جمع عظيم، وأوقع بأهل شنت برية.
وكان بينه وبين البربر وقعات كثيرة، فسير إليه عبد الرحمن هذه السنة جيشأن فقاتلوه، فلم تستظهر إحدى الطائفتين على الأخرى، وبقي هشام كذلك، وغلب على عدة مواضع، وجاوز بركة العجوز، وأخذت غارة خيله، فسير إليه عبد ارحمن جيشاً كثيفاً سنة ست عشرة ومائتين، فلقيهم هاشم بالقرب من حصن سمسطا بمجاورة رورية، فاشتدت الحرب بينهم، ودامت عدة أيام، ثم انهزم هاشم، وقتل هووكثير ممن معه من أهل الطمع والشر وطالبي الفتن، وكفى الله الناس شرهم.
وحج بالناس إسحاق بن العباس بن محمد.
وفيها توفي أبوهاشم النبيل واسمه الضحاك بن محمد الشيباني، وهوإمام في الحديث.
وفيها توفي أبوأحمد حسين بن محمد البغدادي.
حوادث سنة خمس عشرة ومائتين

ذكر غزوة المأمون إلى الروم
في هذه السنة سار المأمون إلى الوم في المحرم، فلما سار استخلف على بغداد إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وولاه مع ذلك السواد، وحلوان، وكور دجلة، فلما صار المأمون بتكريت قدم عليه محمد بن علي بن موسى ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، فلقيه بهأن فأجاره، وأمره بالدخول بابنته أم الفضل، وكان زوجها منه، فأدخلت عليه، فلما كان أيام الحج سار بأهله إلى المدينة فأقام بها.

وسار المأمون على طريق الموصل، حتى صار إلى منبج، ثم إلى دابق، ثم إلى أنطاكية، ثم إلى المصيصة وطرسوس، ودخل منها إلى بلاد الروم في جمادى الأولى، ودخل ابنه العباس من ملطية، فأقام المأمون على حصن قرة حتى افتتحه عنوة، وهدمه لأربع بقين من جمادى الأولى، وقيل إن أهله طلبوا الأمان فأمنهم المأمون، وفتح قبله حصن ماجدة بالأمان، ووجه أشناس إلى حصن سندس، فأتاه برئيسه، ووجه عجيفأن وجعفراً الخياط إلى صاحب حصن سناذ، فسمع وأطاع.
وفيها عاد المعتصم من مصر، فلقي المأمون قبل دخوله الموصل، ولقيه منويل، وعباس بن المأمون برأس عين.
وفيها توجه المأمون بعد خروجه من بلاد الروم إلى دمشق؛ وحج بالناس عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد.
وفيها توفي قبيصة بن عقبة السوائي، وأبويعقوب إسحاق بن الطباخ الفقيه، وعلي بن الحسن بن شقيق صاحب ابن المبارك، وثابت بن محمد الكندي العابد المحدث، وهوذة بن خليفة بن عبد اله بن عبيد الله بن أبي بكرة أبوالأشهب، وأبوجعفر محمد بن الحارث الموصلي، وأبوسليمان الداراني الزاهد توفي بداريأن ومكي بن إبراهيم التيمي البلخي ببلخ، وهومن مشايخ البخاري في صحيحه، وقد قارب مائة سنة، وأبوزيد سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري اللغوي النحوي، وكان عمره ثلاثاً وتسعين سنة.
وفيها توفي عبد الملك بن قريب بن عبد الملك أبوسعيد الأصمعي اللغوي البصري، وقيل سنة ست عشرة، ومحمد بن عبد اله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري قاضي البصرة
حوادث سنة ست عشرة ومائتين

ذكر فتح هرقلة
في هذه السنة عاد المأمون إلى بلاد الروم؛ وسبب ذلك أنه بلغه أن ملك الروم قتل ألفاً وستمائة من أهل طرسوس والمصيصة، فسار حتى دخل أرض الروم في جمادى الأولى، فأقام إلى منتصف شعبان.
وقيل كان سبب دخوله إليها أن ملك الروم كتب إليه وبدا بنفسه، فسار إليه، ولم يقرأ كتابه، فلما دخل أرض الروم أناخ على أنطيغوأن فخرجوا على صلح؛ ثم سار إلى هرقلة، فخرج أهلها على صلح، ووجه أخاه إبا إسحاق المعتصم، فافتتح ثلاثين حصنأن ومطمورة، ووجه يحيى بن أكثم من طوانة، فأغار، وقتل، وأحرق ، فأصاب سبيأن ورجع؛ ثم سار المأمون إلى كيسوم، فأقام بها يومين، ثم ارتحل إلى دمشق.
ذكر عدة حوادثوفيها ظهر عبدوس الفهري بمصر، فوثب على عمال المعتصم، فقتل بعضهم في شعبان، فسار المأمون من دمشق إلى مصر منتصف ذي الحجة.
وفيها قدم الأفشين من برقة، فأقام بمصر.
وفيها كتب المأمون إلى أسحاق بن إبراهيم يأمره بأخذ الجند بالتكبير إذا صلوأن فبدأ بذلك منتصف رمضان، فقاموا قيامأن وكبروا ثلاثأن ثم فعلوا ذلك في كل صلاة مكتوبة.
وفيها غضب المأمون على علي بن هاشم ووجه عجيفاً وأحمد بن هاشم، وأمر بقبض أمواله وسلاحه.
وفيها ماتت أم جعفر زبيدة أم الأمين ببغداد.
وفيها تقدم غسان بن عباد من السند، ومعه بشر بن داود، مستأمنأن وأصلح السند واستعمل عليها عمران بن موسى العتكي.
وفيها هرب جعفر بن داود القمي إلى قم وخلع الطاعة بهأن وحج بالناس، في قول بعضهم، سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي بن عبد الله ابن عباس؛ وقيل حج بهم عبد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، رضي الله عنهم، وكان المأمون ولاه اليمن، وجعل إليه ولاية كل بلد يدخله، فسار من دمشق، فقدم بغداد فصلى بالناس يوم الفطر، وسار عنهأن فحج بالناس.
وفيها توفي أبومسهر عبد الأعلى بن مسهر الغساني بغداد، ومحمد ابن عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب المهلبي، أمير البصرة هأن ويحيى ابن يعلي المحاربي، وإسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي.
حوادث سنة سبع عشرة ومائتينفي هذه السنة ظفر الأفشين بالفرما من أرض مصر، ونزل أهلها بأمان على حكم المأمون، ووصل المأمون إلى مصر في المحرم من هذه السنة، فأتي بعبدوس الفهري، فضرب عنقه، وعاد إلى الشام.

وفيها قتل المأمون علي بن هشام، وكان سبب ذلك أن المأمون كان استعمله على أذربيجان وغيرهأن كما تقدم ذكره، فبلغه ظلمه، وأخذه الأموال، وقتله الرجال، فوجه إليه عجيف بن عنبسة، فثار به علي بن هشام، وأراد قتله وإلحاق ببابك، وظفر به عجيف، وقدم به على المأمون، فقتله، وقتل أخاه حبيباً في جمادى الأولى، وطيف برأس علي في العراق، وخراسان، والشام، ومصر، ثم ألقي في البحر.
وفيها عاد المأمون إلى بلاد الروم، فأناخ على لؤلؤة مائة يوم، ثم رحل عنهأن وترك عليها عجيفأن فخدعه أهلهأن وأسروه، فبقي عندهم ثمانية أيام، وأخرجوه، وجاء توفيل ملك الروم فأحاط بعجيف فيه، فبعث إليه الجنود، فارتحل توفيل قبل موافاتهم، وخرج أهل لؤلؤة إلى عجيف بأمان، وأرسل ملك الروم يطلب المهادنة فلم يتم ذلك.
وفيها سار المأمون إلى سلغوس.
وفيها بعث علي بن عيسى القمي إلى جعفر بن داود القمي، فقتل، وحج بالناس سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي.
وفيها توفي الحجاج بن المنهال بالبصرة، وسريج بن النعمان. سريج بالسين المهملة والجيم. وسعدان بن بشر الموصلي يروي عن الثوري.
وفيها توفي الخليل بن أبي رافع الموصلي، وكان عالماً عابدأن وأبوه جعفر بن محمد بن أبي يزيد الموصلي، وكان فاضلاً.
حوادث سنة ثماني عشرة ومائتين

ذكر المحنة بالقرآن المجيد
وفي هذه السنة كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في امتحان القضاة والشهود والمحدثين بالقرآن، فمن أقر أنه مخلوق محدث خلي سبيله، ومن أبى أعلمه به ليأمره فيه برأيه؛ وطول كتابه بإقامة الدليل على خلق القرآن وترك الاستعانة بمن امتنع عن القول بذلك، وكان الكتاب في ربيع الأول، وأمره بإنفاذ سبعة نفر منهم: محمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبومسلم مستملي يزيد بن هارون، ويحيى بن معين، وأبوخيثمة زهير بن حرب، وإسماعيل بن داود، وإسماعيل بن أبي مسعود، وأحمد بن الدورقي، فأشخصوا إليه، فسألهم، وامتنحهم عن القرآن، فأجابوا جميعاً: إن القرآن مخلوق، فأعادهم إلى بغداد، فأحضرهم إسحاق بن إبراهيم داره، وشهر قولهم بحضرة المشايخ من أهل الحديث، فأقروا بذلك، فخلى سبيلهم.
وورد كتاب المأمون بعد ذلك إلى إسحاق بن إبراهيم بامتحان القضاة والفقهاء، فأحضر إسحاق بن إبراهيم أبا حسان الزيادي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن أبي مقاتل، والفضل بن غامن، والذيال بن الهيثم، وسجادة، والقواريري، وأحمد بن حنبل، وقتيبة، وسعدويه الواسطي، وعلي ابن جعد، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وابن الهرش، وابن علية الأكبر، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وشيخاً آخر من ولد عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة، وأبا نصر التمار، وأبا معمر القطيعي، وحمد بن حاتم ابن ميمون، ومحمد بن نوح المضروب، وابن الفرخان، وجماعة منهم: النضر بن شميل، وابن علي بن عاصم، وأبوالعوام البزار، وابن شجاع، وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا جميعاً على إسحاق، فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين، حتى فهموه، ثم قال لبشر بن الوليد: مات تقول في القرآن؟ فقال: قد عرفت مقاتلي أمير المؤمنين غير مرة، قال: فقد تجدد من كتاب المؤمنين ما ترى؛ فقال: أقول القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذأن أمخلوق هو؟ قال: الله خالق كل شيء، قال: فالقرآن شيء؟ قال: نعم؛ قال: فمخلوق هو؟ قال: ليس بخالق. قال: ليس أسألك عن هذأن أمخلوق هو؟ قال: ما أحسن غير ما قلت لك، وقد استعهدت أمير المؤمنين ألا أتكلم فيه، وليس عندي غير ما قلت لك.
فأخذ إسحاق رقعة، فقرأها عليه، ووقفه عليهأن فقال: أشهد أن لا إله إلا الله أحداً فرداً لم يكن قبله شيء ولا بعده شيء ولا يشهه شيء من خلقه في معنى من المعاني، ووجه من الوجوه. قال: نعم؛ وقال للكاتب: أكتب ما قال.
ثم قال لعلي بن أبي مقاتل: ما تقول؟ قال: سمعت كلامي لأمير المؤمنين في هذا غير مرة، وما عندي غيره، فامتحنه بالرقعة، فأقر بما فيهأن ثم قال له: القرآن مخلوق؟ قال: القرآن كلام الله. قال: لم أسألك عن هذا قال: القرآن كلام الله، فإن أمرنا أمير المؤمنين بشيء سمعنا وأطعنا. فقال للكاتب: أكتب مقالته.
ثم قال للديال نحواً من مقالته لعلي بن أبي مقاتل، فقال مثل ذلك.

ثم قال لأبي حسان الزيادي: ما عندك؟ قال: سل عما شئت؛ فقرأ عليه الرقعة، فأقر بما فيهأن ثم قال: ومن لم يقل هذا الول فهوكافر، فقال: القرآن مخلوق هو؟ قال: القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء، وأمير المؤمنين أمامنأن وبه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع، وعلم ما لم نعلم، وقد قلده الله أمرنأن فصار يقيم حجنأن وصلاتنأن ونؤدي إليه زكاة أموالنأن ونجاهد معه، ونرى إمامته فإن أمرنا ائتمرنا وإن نهانا انتهينا.
قال: فالقرآن مخلوق؟ فأعاد مقالته. قال إسحاق: فإن هذه مقالة أمير المؤمنين. قال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها للناس، وإن خبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلت ما أمرتني به. فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه. قال: ما أمرني أن أبلغك شيئاً. قال أبوحسان: وما عندي إلا السمع والطاعة، فامرني أأتمر، قال: ما أمرني أن آمركم وإمنا أمرني أن أمتحنكم.
ثم قال لأحمد بن حنبل: ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله. قال: أمخلوق هو؟ قال: كلام الله ما أزيد عليهأن فامتحنه بما في الرقعة، لما أتى إلى ليس كمثله شيء قرأ: (وهوالسميع البصير) الشورى: 11، وأمسك عن: ولا يشبهه شيء من خلقه في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه، فاعترض عليه ابن البكاء الأصغر فقال: أصلحك الله! إنه يقول: سميع من أذن وبصير من عين، فقال إسحاق لأحمد: ما معنى قولك: سميع بصير؟ قال: هوكما وصف نفسه. قال: فما معناه؟ قال: لا أدري أهوكما وصف نفسه.
ثم دعا بهم رجلاً رجلاً كلهم يقول القرآن كلام الله إلا قتيبة وعبيد الله بن محمد بن الحسن وابن علية الأكبر وابن البكاء وعبد المنعم بن إدريس ابن بنت، ووهب بن منبه، والمظفر بن مرجي، ورجلاً من ولد عمر بن الخطاب قاضي الرقة، وابن الأحمر، فأما ابن البكاء الأكبر فإنه قال: القرآن مجعول لقول الله، عز وجل: (إنا جعلناه قرآناً عربياً) الزخرف: 3 والقرآن محدث لقوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث) الأنبياء: 2.
قال إسحاق: فالمجعول مخلوق، قال: نعم. قال: والقرآن مخلوق؟ قال: لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول، فكتب مقالته، ومقالات القوم رجلاً رجلأن ووجهت إلى المأمون، فأجاب المأمون يذمهم، ويذكر كلاً منهم، ويعيبه ويقع فيه بشيء، وأمره أن يحضر بشر بن الوليد وإبراهيم بن المهدي ويمتحنهمأن فإن أجابأن وإلا فاضرب أعناقهمأن وأما من سواهمأن فإن أجاب إلى القول بخلق القرآن، وإلا حملهم موثقين بالحديد إلى عسكره مع نفر يحفظونهم.
فأحضرهم إسحاق، وأعلمهم بما أمر به المأمون، فأجاب القوم أجمعون إلا أربعة نفر، وهم أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريري، ومحمد ابن نوح المضروب، فأمر بهم إسحاق فشدوا في الحديد، فلما كان الغد دعاهم في الحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة والقواريري فأطلقهما وأصر أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح على قولهمأن فشدا في الحديد، ووجها إلى طرسوس، وكتب إلى المأمون بتأويل القوم فيما أجابوا إليه، فأجابه المأمون: إنني بلغني عن بشر بن الوليد بتأويل الآية التي أنزلها الله تعالى في عمار بن ياسر: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) النحل: 106، وقد أخطأ التأويل إنما عنى الله سبحانه وتعالى هذه الآية من كان معتقداً للإيمان، مطهراً للشرك، فأما من كان معتقداً للشرك، مظهراً للإيمان، فليس هذا له.
فأشخصهم جميعاً إلى طرسوس ليقيموا بها إلى أن يخرج أمير المؤمنين من بلاد الروم، فأحضرهم إسحاق، وسيرهم جميعاً إلى العسكر، وهم: أبوحسان الزيادي، وبشر بن الوليد، والفضل بن غامن، وعلي بن مقاتل، والذيال بن الهيثم، ويحيى بن عبد الرحمن العمري، وعلي بن الجعد، وأبوالعوام، وسجادة، والقواريري، وابن الحسن بن علي بن عاصم، وإسحاق بن أبي إسرائيل، والنصر بن شميل، وأبونصر التمار، وسعدويه الواسطي، ومحمد بن حاتم بن ميمون، وأبومعمر بن الهرش، وابن الفرخان، وأحمد بن شجاع، وأبوهارون بن البكاء، فلما صاروا إلى الرقة بلغهم موت المأمون فرجعوا إلى بغداد.
ذكر مرض المأمون ووصيتهوفي هذه السنة مرض المأمون مرضه الذي مات فيه لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة.

وكان سبب مرضه ا ذكره سعد بن العلاف القارئ قال: دعاني المأمون يومأن فوجدته جالساً على جانب البذندون، والمعتصم عن يمنينه، وهما قد دليا أرجلهما في الماء، فأمرني أن أضع رجلي في الماء، وقال: ذقه! فهل رأيت أعذب منه، أوأصفى صفاء، أوأشد برداً؟ ففعلت، وقلت: يا أمير المؤمنين! ما رأيت مثله قط، فقال: أي شيء يطيب أن يؤكل ويشرب عليه هذا الماء؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم؛ فقال: الرطب الأزاذ.
فبيمنا هويقول هذا إذ سمع وقع لجم البريد، فالتفت، فإذا بغال البريد عليها الحقائب فيها الألطاف، فقال لخادم له: انظر إن كان في هذه الألطاف رطب أزاذ فأت به! فمضى، ومعه سلتان فيهما آزاذ كأمنا جني تلك الساعة، فاظهر شكراً لله تعالى، وتعجبنا جميعأن وأكلنأن وشربنا من ذلك الماء، فما قام أحد منا إلا وهومحموم، وكانت منية المأمون من تلك العلة، ولم يزل المعتصم مريضاً حتى دخل العراق، وبقيت أنا مريضاً مدة.
فلما مرض المأمون أمر أن يكتب إلى البلاد الكتب من عبد الله المأمون أمير المؤمنين، وأخيه الخليفة من بعده أبي إسحاق بن هارون الرشيد؛ وأوصى إلى المعتصم بحضرة ابنه العباس، وبحضرة الفقهاء، والقضاة، والقواد، وكانت وصيته، بعد الشهادة، والإقرار بالوحدانية، والبعث، والجنة، والصلاة على النبي، صلى الله عليه وسلم، والأنبياء: إني مقر مذنب، أرجو، وأخاف إلا أني إذا ذكرت عفوالله رجوت، وإذا مت فوهوني، وغمضوني، وأسبغوا وضوئي وطهوري، وأجيدوا كفني، ثم أكثروا حمد الله على الإسلام، ومعرفة حقه عليكم في محمد، صلى الله عليه وسلم، إذ جعلنا من أمته المرحومة، ثم أضجعوني على سريري، ثم عجلوا بي، وليصل علي أقربكم نسباً وأكبركم سنأن وليكبر خمسأن ثم احملوني، وابلغوا بي حفرتي، ولينزل بي أقربكم قرابة، وأودكم محبة.
وأكثروا من حمد الله وذكره، ثم ضعوني على شقي الأيمن، واستقبلوا بي القبلة، ثم حلوا كفني عن رأسي ورجلي، ثم سدوا الحد باللبن، وأحثوا تراباً عليّ واخرجوا عني، وخلوني وعملي، وكلكم لا يغني عني شيئأن ولا يدفع عني مكروهأن ثم قفوا بأجمعكم، فقولوا خيراً إن علمتم، وأمسكوا عن ذكر شر إن كنتم عرفتم، فإني مأخوذ من بينكم بما تقولون، ولا تدعوا باكية عندي فإن المعول عليه يعذب، رحم الله عبداً اتعظ، وفكر فيما حتم الله على خلقه من الفناء، وقضى عليهم من الموت الذي لا بد منه، فالحمد لله الذي توحد بالبقاء، وقضى على جميع خلقه الفناء.
ثم لينظر فيه ما كنت من عز الخلافة، هل عني ذلك شيئاً إذ جاء أمر الله؟ لا والله، ولكن أضعف علي به الحساب، قيا ليت عبد الله بن هارون لم يكن بشرأن بل ليته لم يكن خلقاً.
يا أبا إسحاق ادن منين واتعظ بما ترى، وخذ بسيرة أخيك في القرآن والإسلام، واعمل في الخلافة، إذا طوقكها الله، عمل المريد لله الخائف من عقابه وعذابه، ولا تغتر بالله ومهلته وكأن قد نزل بك الموت، ولا تغفل أمر الرعية والعوام، فإن الملك بهم ويتعهدك لهم، الله الله فيهم، وفي غيرهم من المسلمين، ولا ينتهين إليك أمر فيه صلاح للمسلمين ومنفعة إلا قدمته، وآثرته على غيره من هواك.
وخذ من أقويائهم لضعفائهم، ولا تحمل عليهم في شيء، وأنصف بعضهم من بعض بالحق بينهم، وقربهم، وتأن بهم، وعجل الرحلة عني، والقدوم إلى دار ملكك بالعراق، وأنظر هؤلاء القوم الذين أنت بساحتهم، فلا تغفل عنهم في كل وقت، والخرمية فأغرهم ذا حزامة، وصرامة وجلد، وأمنه بالأموال والجنود، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجياً ثواب الله عليه.

ثم دعا المعتصم، بعد ساعة، حين اشتد الوجع، وأحس بمجيء أمر الله، فقال: يا أبا إسحاق! عليك عهد الله وميثاقه، وذمة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لتقومن بحق الله في عباده، ولتؤثرن طاعة الله على معصيته، إذ أنا نقلتها من غيرك إليك، قال: اللهم نعم! قال: هؤلاء بن عمك من ولد أمير المؤمنين علي، لوات الله عليه، فأحسن صحبتهم، وتجاوز عن مسيئهم، واقبل من محسبنهم، ولا تغفل صلاتهم في كل سنة عند محلهأن فغن حقوقهم تجب من وجوه شتى، اتقوا الله ربكم حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، اتقوا الله، واعملوا له، اتقوا الله في أموركم كلهأن أستودعكم الله ونفسي، وأستغفر الله ما سلف مني إنه كان غفاراً فإنه ليعلم كيف ندمي على ذنوبي، فعليه توكلت من عظيمهأن وإليه أنيب، ولا قوة إلا بالله، حسبي الله ونعم الوكيل. وصلى الله على محمد نبي الهدى والرحمة.
ذكر وفاة المأمون وعمره وصفتهوفي هذه السنة توفي المأمون لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب، فلما اشتد مرضه، وحضره الموت، كان عنده من يلقنه، فعرض عليه الشهادة، وعنده ابن ماسويه الطبيب، فقال لذلك الرجل: دعه، فإنه لا يفرق في هذه الحال بين ربه وماني؛ ففتح المأمون عينيه، وأراد أن يبطش به، فعجز عن ذلك، وأراد الكلام، فعجز عنه، ثم إنه تكلم فقال: يا من لا يموت ارحم من يموت، ثم توفي من ساعته.
ولما توفي حمله ابنه العباس، وأخوه المعتصم إلى طرسوس، فدفناه بدار خاقان خادم الرشيد، وصلى عليه المعتصم ووكلوا به حرساً من أبناء أهل طرسوس، وغيرهم، مائة رجل، وأجري على كل رجل منهم تسعون درهماً.
وكانت خلافته عشرين سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً ، سمى سنين كان دعي له فيها بمكة، وأخوه الأمين محصور ببغداد، وكان مولده للنصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة، وكانت كنيته أبا العباس، وكان ربعة، أبيض، جميلأن طويل اللحية رقيقهأن قد وخطها الشيب؛ وقيل كان أسمر تعلوه صفرة، أجنى، أعين، ضيق البلجة، بخده خال أسود.
ذكر بعض سيرته وأخبارهوقال محمد بن صالح السرخسي: تعرض رجل للمأمون، بالشام مرارأن وقال: يا أمير المؤمنين! انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم خراسان! فقال له: أكثرت عليّ؛ والله ما أنزلت قيساً من ظهور خيولها إلا وأنا أرى أنه لم يبق في بيت مالي درهم واحد، يعني فتنة ابن شبث العامري؛ وأما اليمن فوالله ما أحببتهأن ولا أحبتني قط؛ وأما قضاعة فساداتها تنتظر السفياني، حتى تكون من أشياعه، وأما ربيعة فساخطة على ربها مذ بعث الله نبيه من مضر، ولم يخرج اثنان إلا وخرج أحدهما شارياً، أعزب فعل الله بك.
وذكر سعيد بن زياد أنه لما دخل على المأمون بدمشق قال له: أرني الكتاب الذي كتبه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: فأريته، قال فقال: إني لأشتهي أن أدري ايش هذا الغشاء على هذا الخاتم؟ قال: فقال له المعتصم: حل العقد حتى تدري ما هو! وقال: ما أشك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، عقد هذا العقد، وما كنت لأحل عقدة عقدها رسول الله، صلى اله عليه وسلم، ثم قال للواثق: خذه وضعه على عينيك، لعل الله أن يشفيك! وجعل المأمون يضعه على عينيه ويبكي.
وقال العيشي صاحب إسحاق بن إبراهيم: كنت مع المأمون بدمشق، وكان قد قل المال عنده، حتى أضاق، وشكا ذلك إلى المعتصم، فقال له: يا أمير المؤمنين! كأنك بالمال وقد وافاك بعد جمعه، وكان قد حمل إليه ثلاثون ألف ألف درهم من خراج ما يتولاه له، فلما ورد عليه المال قال المأمون ليحيى بن أكثم: اخرج بنا ننظر هذا المال، فخرجا ينظرانه، وكان قد هيئ بأحسن هيئة، وحليت أباعره، فنظر المأمون إلى شيء حسن، واستكثر ذلك واستبشر به، والناس ينظرون ويعجبون، فقال المأمون: يا أبا محمد، ننصرف بالمال، وأصحابنا يرجعون خائبين، إن هذا للؤم! ثم دعا محمد بن يزداد، فقال له: وقع لآل فلان بألف ألف، ولآل فلان بمثلهأن ولآل فلان بمثلهأن فما زال كذلك حتى فرق أربعة وعشرين ألف ألف، ورجله في الركاب، ثم قال: ادفع الباقي إلى المعلي يعطيه جندنا.
قال العيشي: فقمت نصب عينيه أنظر إليهمأن فلما رآني كذلك قال: وقع لهذا بخمسين ألفاً ، فقبضتها.

وذكر عن محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان أنه كان بالبصرة رجل من بني تميم بن سعد، وكان شاعراً ظريفاً خبيثاً منكرأن وكنت آنس به، واستحليه، فقالت له: أنت شاعر وأنت ظريف، والمأمون أجود من السحاب الحافل، فما يمنعك منه؟ فقال: ما عندي ما يحملني. فقلت: أنا أعطيك راحلة ونفقة، فأعطيته راحلة نجيبة، وثلاثمائة درهم، فعمل أرجوزة ليست بالطويلة، ثم سار إلى المأمون.
قال: فجئت إليه وهوبسلغوس، قال: فلبست ثيابي، وأنا أروم بالعسكر، وإذا بكهل على بغل فاره، فتلقاني مواجهة، وأنا أردد نشيد أرجوزتي، فقال: السلام عليك. فقلت: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، قال: قف، إن شئت! فوقفت فتضوعت منه رائحة المسك والعنبر، فقال: ما أولك؟ قلت: رجل من مضر. قال: ونحن من مضر، ثم قال: ماذا؟ قلت: من بني تميم، قال: وما بعد تميم؟ قلت: من بني سعد، قال: وما أقدمك؟ قلت: قصدت هذا الملك الذي ما سمعت بمثله أندى رائحة، ولا أوسع راحة، قال: فما الذي قصدته به؟ قلت: شعر طيب يلذ على الأفواه ويحلوفي آذان السامعين، قال: فأنشدنيه! فغضبت: وقلت: يا ركيك، أخبرتك أني قصدت الخليفة بمديح تقول: أنشدنيه؟ فتغافل عنها وألغى عن جوابهأن فقال: فما الذي تأمل منه؟ قلت: إن كان على ما ذكر لي، فألف دينار، قال: أنا أعطيك ألف دينار، إن رأيت الشعر جيدأن والكلام عذبأن وأضع عنك العناء، وطول الترداد حتى تصل إلى الخليفة، وبينك عشرة آلاف رامح ونابل، قلت: فلي عليك الله أن تفعل! قال: نعم، لك الله علي أن أفعل، فأنشدته:
مأمون يا ذا المنزلة الشريفة ... وصاحب المرتبة المنيفة
وقائد الكتيبة الكثيفة ... هل لك في أرجوزة ظريفه
أظرف من فقه أبي حنيفة ... لا والذي أنت له خليفة
ما ظلمت في أرضنا ضعيفه ... أميرنا مؤنته خفيفه
وما اجتبى سوى الوظيفه ... فالذئب والنعجة في سقيفه
واللص والتاجر في قطيفه قال: فوالله ما عدا أن بلغت ها هنأن فإذا زهاء عشرة آلاف فارس، قد سدوا الأفق، يقولون: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال: فأخذتني رعدة، فنظر إلي بتلك الحال، فقال: لا بأس عليك أي أخي، قلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك، من جعل الكاف مكان القاف من العرب؟ قال: جمير؛ قلت: لعن الله حمير، ولعن من استعمل هذه اللغة بعد اليوم.
وضحك المأمون، وقال لخادم معه: أعطه ما معك، فأخرج كيساً فيه ثلاثة آلاف دينار، فأخذتها ومضيت.
ومعنى سؤاله عن وضع الكاف موضع القاف أنه أراد أن يقول يا رقيق، فقال: يا ركيك.
وقال عمارة بن عقيل: أنشدت المأمون قصيدة مائة بيت، فأبتدئ بصدر البيت، فيبادرني إلى قافيته كما قفيته، قلت: والله، يا أمير المؤمنين، ما سمعها مني أحد قط؛ فقال: هكذا ينبغي أن يكون، ثم قال لي: أما أبلغك أن عمر بن أبي ربيعة أنشد عبد الله بن عباس قصيدته التي يقول فيها: يشط عداذاً وجيراننا، فقال ابن عباس: وللدار بعد غد أبعد حتى انشده القصيدة يقفيها ابن عباس، ثم قال: أنا ابن ذاك. وذكر أن المأمون قال:
بعثتك مرتاداً ففزت بنظرة ... وأغفلتني حتى أسأت بك الظنا
فناجيت من أهوى وكنت مباعداً ... فيا ليت شعري عن دنوك ما أغنى
أرى أثراً منه بعينيك بيناً ... لقد أخذت عيناك من عينه حسنا
قيل: وإمنا أخذ المأمون هذا المعنى من العباس بن الأحنف، فإنه أخرج هذا المعنى، فقال:
إن تشق عيني بها فقد سعدت ... عين رسولي وفزت بالخبر
وكلما جاءني الرسول لها ... رددت عمداً في عينه نظري
خذ مقلتي يا رسول عارية ... فانظر بها واحتكم على بصري

قيل: وشكا اليزيدي يوماً إلى المأمون ديناً لحقه، فقال: ما عندي في هذه الأيام ما إن أعطيناك بلغت به ما تريد، فقال: يا أمير المؤمنين، إن غرمائي قد أرهقوني؛ قال: انظر لنفسك أمراً تنال به نفعأن قال: إن لك ندماء، فيهم من حركته نلت به نفعاً. قال: أفعل، قال: إذا حضروا عندك فمر فلاناً الخادم يوصل رقعتي إليك، فإذا قرأتها فأرسل إلي: دخولك في هذا الوقت متعذر، ولكن اختر لنفسك من أحببت؛ قال: أفعل، فلما علم اليزيدي جلوس المأمون مع ندمائه، وتيقن أنهم قد أخذ الشراب منهم، أتى الباب، فدخل، فدفع إلى الخادم رقعته، فإذا فيها:
يا خير إخواني وأصحابي! ... هذا الطفيلي على الباب
خبر أن القوم في لذة ... يصبوإليها كل أواب
فصيروني واحداً منكم ... أواخرجوا لي بعض أترابي
فقرأها المأمون عليهم، وقالوا: ما ينبغي أن يدخل علينا على مثل هذه الحال، فأرسل إليه المأمون: دخولك في هذا الوقت متعذر، فاختر لنفسك من أحببت! فقال: ما أريد إلا عبد الله بن طاهر، فقال له المأمون: قد اختارك فصر إليه! قال: يا أمير المؤمنين، وأكون شريك الطفيلي؟ فقال: ما يمكن رد أبي محمد عن أمرين، فإن أحببت أن تخرج إليه، وإلا فافتد نفسك منه! فقال: علي عشرة آلاف، قال: لا يقنعه، فما زال يزيد عشرة عشرة، والمأمون يقول لا يقنعه، حتى بلغ مائة ألف، فقال له المأمون: فعجله، فكتب بها إلى وكيله، ووجه معه رسولأن وأرسل إلي المأمون: قبض هذه الدراهم في هذه الساعة أصلح من منادمته، وأنفع لك.
وقال عمارة بن عقيل: قال لي عبد اله بن أبي السمط: أعلمت أن المأمون لا يبصر الشعر؟ قلت: ومن يكون أعلم منه؟ فوالله إنا لننشده أول البيت فيسبقنا إلى آخره. قال: إني أنشدته بيتاً أجدت فيه، فلم يتحرك له، قلت: وما هو؟ قال:
أضحى إمام الهدى المأمون مشتغلاً ... بالدين والناس بالدنيا مشاغيل
قال فقلت: والله ما صنعت شيئأن وهل زدت على أن جعلته عجوزاً في محرابهأن فمن الذي يقوم بأمر الدنيأن إذا تشاغل عنهأن وهوالمطوق بها؟ هلا قلت كما قال جدي جرير في عبد العزيز بن الوليد:
فلا هوفي الدنيا يضيع نصيبه ... ولا عرض الدنيا عن الدين شاغله
فقال: الآن علمت أني قد أخطأت. قال أبوالعباس أحمد بن عبد الله ابن عمار: كان المأمون شديد الميل إلى العلويين والإحسان إليهم، وخبره مشهور معهم، وكان يفعل ذلك طبعاً لا تكلفأن فمن ذلك أنه توفي في أيامه يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين العلوي، فحضر الصلاة عليه بنفسه، ورأى الناس عليه من الحزن والكآبة ما تعجبوا منه، ثم إن ولداً لزينب بنت سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وهي ابنة عم المنصور، توفي بعده، فأرسل له المأمون كفنأن وسيره صالحاً ليصلي عليه، ويعزي أمه، فإنها كانت عند العباسيين بمنزلة عظيمة، فأتاهأن وعزاها عنه، واعتذر عن تخلفه عن الصلاة عليه، فظهر غضبهأن وقالت لابن ابنها: تقدم فصل علي أبيك، وتمثلت:
سبكناه ونحسبه لجيناً ... فأبدى الكير عن خبث الحديد
ثم قالت لصالح: قل له، يابن مراجل: أما لوكان يحيى بن الحسين ابن زيد لوضعت ذيلك على فيك وعدوت خلف جنازته.
ذكر خلافة المعتصمهوأبوإسحاق محمد بن هارون الرشيد، بويع له بالخلافة بعد موت المأمون، ولما بويع له شغب الجند، ونادوا باسم العباس بن المأمون، فأرسل إليه المعتصم، فأحضره، فبايعه، ثم خرج إلى الجند، فقال: ما هذا الحب البارد؟ قد بايعت عمي، فسكتوأن وأمر المعتصم بخراب ما كان المأمون أمر ببنائه من طوانة مما نذكره في عدة حوادث، وحمل ما أطاق من السلاح والآلة التي بهأن وأحرق الباقي، وأعاد الناس الذين بها إلى البلاد التي لهم، وانصرف إلى بغداد، ومعه العباس بن المأمون، فقدمها مستهل شهر رمضان.
ذكر خلاف فضل على زيادة الله

وفي هذه السنة وجه زيادة الله بن الأغلب، صاحب إفريقية، جيشاً لمحاربة فضل بن أبي العنبر بالجزيرة، وكان مخالفاً لزيادة الله، فاستمد فضل بعد السلام بن المفرج الربعي، وكان أيضاً مخالفاً من عهد منصور، كما ذكرنأن فسار إليه، فالتقوا مع عسكر زيادة الله، وجرى بين الطائفتين قتال شديد عند مدينة اليهود بالجزيرة، فقتل عبد السلام، وحمل رأسه إلى زيادة الله.
وسار فضل بن أبي العنبر إلى مدينة تونس، فدخلهأن وامتنع بهأن فسير زيادة الله إليه جيشأن فحصروا فضلاً بهأن وضيقوا عليه حتى فتحوها منه، وقتل وقت دخول العسكر كثير من أهلهأن منهم: عباس بن الوليد، الفقيه، وكان دخل في بيته لم يقاتل، فدخل عليه بعض الجند، فأخذ سيفه وخرج وهويصيح: الجهاد، فقتل، وبقي ملقى في خربة سبعة أيام لم يقربه ذوناب ولا مخلب، وكان قد سمع الحديث من ابن عيينة وغيره، وكان من الصالحين، وهرب كثير من أهل تونس لما ملكت، ثم آمنهم زيادة الله، فعادوا إليها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عاد المأمون إلى سلغوس، ووجه ابنه العباس إلى طوانة، وأمره ببنائهأن وكان قد وجه الفعلة، فابتدأوا في بنائها ميلاً بعد ميل، وجعل سورها على ثلاثة فراسخ، وجعل لها أربعة أبواب، وجعل على كل باب حصنأن وكتب إلى البلدان ليفرضوا على كل بلد جماعة ينتقلون إلى طوانة، وأجرى لهم لكل فارس مائة درهم، ولكل راجل أربعين درهم.
وفيها توفي بشر بن غياث المريسي، وكان يقول بخلق القرآن والإرجاء وغيرهما من البدع.
وفيها دخل كثير من أهل الجبال، وهمذان، وأصبهان، وماسبذان، وغيرهأن في دين الخرمية، وتجمعوأن فعسكروا في عمل همذان، فوجه إليهم المعتصم العساكر، وكان فيهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، وعقد له على الجبال في شوال، فسار إليهم، فأوقع بهم في أعمال همذان، فقتل منهم ستين ألفأن وهرب الباقون إلى بلد الروم، وقرئ كتابه بالفتح يوم التروية، وحج بالناس هذه السنة صالح بن العباس بن محمد.
حوادث سنة تسع عشرة ومائتين

ذكر خلاف محمد بن القاسم العلوي
في هذه السنة ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، بالطالقان من خراسان، يدعوإلى الرضي من آل محمد، صلى الله عليه وسلم.
وكان ابتداء أمره أنه كان ملازماً مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، حسن السيرة، فأتاه إنسان من خراسان اسمه أبومحمد كان مجاورأن فلما رآه أعجبه طريقه، فقال له: أنت أحق بالإمامة من كل أحد، وحسن له ذلك، وبايعه، وصار الخراساني يأتيه بالنفر بعد النفر من حجاج خراسان يبايعونه، فعل ذلك مدة.
فلما رأى كثرة من بايعه من خراسان سارا جميعاً إلى الجوزجان، واختفى هناك، وجعل أبومحمد يدعوالناس إليه، فعظم أصحابه، وحمله أبومحمد على إظهار أمره، فأظهره بالطالقان، فاجتمع إليه بها ناس كثير، وكانت بينه وبين قواد عبد الله بن طاهر وقعات بناحية الطالقان وجبالهأن فانهزم هووأصحابه، وخرج هارباً يريد بعض كور خراسان، وكان أهلها كاتبوه.
فلما صار بنسأن وبها والد بعض من معه فلما بصر به سأله عن الخبر فأخبره، فمضى الأب إلى عامل نسأن فأخبره بأمر محمد بن القاسم، فأعطاه العامل عشرة آلاف درهم على دلالته، وجاء العامل إلى محمد، فأخذه واستوثق منه، وبعثه إلى عبد الله بن طاهر، فسيره إلى المعتصم، فورد إليه منتصف شهر ربيع الأول، فحبس عند مسرور الخادم الكبير، وأجرى عليه الطعام، ووكل به قوماً يحفظونه، فلما كان ليلة الفطر اشتغل الناس بالعيد، فهرب من الحبس، دلي إليه حبل من كوة كانت في أعلى البيت يدخل عليه منها الضوء، فلما أصبحوا أتوه بالطعام، فلم يروه، فجعلوا لمن دل عليه مائة ألف، فلم يعرف له خبر.
ذكر محاربة الزط

وفيها وجه المعتصم عجيف بن عنبسة في جمادى الآخرة لحرب الزط الذين كانوا غلبوا على طريق البصرة، وعاثوأن وأخذوا الغلات من البيادر بكسكر وما يليها من البصرة، وأخافوا السبيل، ورتب عجيف الخيل في كل سكة من سكك البريد، تركض بالأخبار، فكان يأتي بالأخبار من عجيف في يوم، فسار حتى نزل تحت واسط، وأقام على نهر يقال له بردودأن حتى سدة وأنهاراً أخر كانوا يخرجون منها ويدخلون، وأخذ عليهم الطرق، ثم حاربهم، فأسر منهم في معركة واحدة خمسمائة رجل، وقتل في المعركة ثلاثمائة رجل، فضرب أعناق الأسرى، وبعث الرؤوس إلى باب المعتصم.
ثم أقام عجيف بإزاء الزط خمسة عشر يومأن فظفر منهم فيها بخلق كثير، وكان رئيس الزط رجل يقال له محمد بن عثمان، وكان صاحب أمره إنسان يقال له سماق، ثم استوطن عجيف وأقام بإزائهم سبعة أشهر.
ذكر محاصرة طليطلةفي هذه السنة سير عبد الرحمن بن الحكم الأموي، صاحب الأندلس، جيشاً مع أمية بن الحكم إلى مدينة طليطلة، فحصرهأن وكانوا قد خالفوا الحكم، وخرجوا عن الطاعة، واشتد في حصرهم، وقطع أشجارهم، وأهلك زروعهم، فلم يذعنوا إلى الطاعة، فرحل عنهم، وأنزل بقلعة رباح جيشاً عليهم ميسرة، المعروف بفتى أبي أيوب، فلما أبعدوا منه خرج جمع كثير من أهل طليطلة، لعلهم يجدون فرصة وغفلة من ميسرة فينالوا منه ومن أصحابه غرضأن وكان ميسرة قد بلغه الخبر، فجعل الكمين في مواضع، فلما وصل أهل طليطلة إلى قلعة رباح، للغارة خرج الكمين عليهم من جوانبهم، ووضعوا السيف فيهم، وأكثروا القتل، وعاد من سلم منهم منهزماً إلى طليطلة، وجمعت رؤوس القتلى، وحملت إلى ميسرة، فلما رأى كثرتها عظمت عليه، وارتاع لذلك، ووجد في نفسه غماً شديدأن فمات بعد أيام يسيرة.
وفيها أيضاً كان بطليطلة فتنة كبيرة، تعرف بملحمة العراس، قتل من أهلها كثير.
ذكر عدة حوادثوفيها أحضر المعتصم أحمد بن حنبل، وامتحنه بالقرآن، فلم يجب إلى القول بخلقه، فأمر به، فجلد جلداً عظيماً حتى غاب عقله، وتقطع جلده، وحبس مقيداً.
وفيها قدم إسحاق بن إبراهيم إلى بغداد في جمادى الأولى، ومعه من أسرى الخرمية خلق كثير، وقيل إنه قتل منهم نحومائة ألف سوى النساء والصبيان.
وفيها توفي أبونعيم الفضل بن دكين الملائي، مولى طلحة، بن عبد الله التيمي، في شعبان، وهومن مشايخ البخاري ومسلم، كان مولده سنة ثلاثين ومائة، وكان شيعياً؛ وله طائفة تنسب إليه يقال لها الدكينية.
حوادث سنة عشرين ومائتين

ذكر ظفر عجيف بالزط
وفي هذه السنة دخل عجيف بالزط بغداد، بعد أن ضيق عليهم، وقاتلهم، وطلبوا منه الأمان، فأمنهم، فخرجوا إليه في ذي الحجة سنة تسع عشرة ومائتين، وكانت عدتهم مع النساء والصبيان سبعة وعشرين ألفأن والمقاتلة منهم اثنا عشر ألفأن فلما خرجوا إليه جعلهم في السفن، وعبأهم في سفنهم على هيئتهم في الحرب معهم البوقات، حتى دخل بهم بغداد يوم عاشوراء من هذه السنة.
وخرج المعتصم إلى الشماسية في سفينة يقال لها الزو، حتى يمر به الزط على تعبئتهم وهم ينفخون في البوقات، وأعطى عجيف أصحابه كل رجل دينارين دينارين، وأقام الزط في سفنهم ثلاثة أيام، ثم نقلوا إلى الجانب الشرقي، وسلموا إلى بشر بن السميدع، فذهب بهم إلى خانقين، ثم نقلوا إلى الثغر، إلى عبن زربة و، فأغارت الروم عليهم، فاجتاحوهم، فلم يفلت منهم أحد.
ذكر مسير الأفشين لحرب بابك الخرميوفي هذه السنة عقد المعتصم للأفشين حيدر بن كاوس على الجبال، ووجهه لحرب بابك فسار إلي.
وكان ابتداء خروج بابك سنة إحدى ومائتين، فكانت مدينته البذ، وهزم من جيوش السلطان عدة، وقتل من قواده جماعة، فلما أفضى الأمر إلى المعتصم، وجه أبا سعيد محمد بن يوسف إلى أردبيل، وأمره أن يبني الحصون التي أخربها بابك فيما بين زنجان وأردبيل، ويجعل فيها الرجال تحفظ الطرق لمن يجلب الميرة إلى أردبيل، فتوجه أبوسعيد لذلك، وبنى الحصون.
ووجه بابك سرية في بعض غزاته، فأغارت على بعض النواحي ورجعت منصرفة؛ وبلغ ذلك أبا سعيد، فجمع الناس، وخرج في طلب السرية، فاعترضها في بعض الطرق، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فقتل أبوسعيد من أصحاب بابك جماعة، وأسر جماعة، واستذ ما كانوا أخذوه، وسير الرؤوس والأسرى إلى المعتصم، فكانت هذه أول هزيمة على أصحاب بابك.

ثم كانت الأخرى لمحمد بن البعيث، وذلك أن محمداً كان في قلعة له حصينة تسمى الشاهي، كان ابن البعيث قد أخذها من ابن الرواد، وهي من كورة أذربيجان، وله حصن آخر من أذربيجان يسمى تبريز، وكان مصالحاً لبابك، تنزل سراياته عنده، فيضيفهم حتى أنسوا به؛ ثم إن بابك وجه قائداً اسمه عصمة من أصبهبذيته في سرية، فنزل بابن البعيث، فأنزل له الضيافة على عادتهأن واستدعاه له في خاصته ووجوه أصحابه، فصعد فغذاهم، وسقاهم الخمر حتى سكروأن ثم وثب على عصمة، فاستوثق منه، وقتل من كان معه من أصحابه، وأمره أن يسمي رجلاً رجلاً من أصحابه، فكان يدعوالرجل باسمه، فيصعد، فيضرب عنقه، حتى علموا بذلك بهربوأن وسير عصمة إلى المعتصم، فسأل المعتصم عصمة عن بلاد بابك، فأعلمه طرقه ووجوه القتال فيهأن ثم ترك عصمة محبوسأن فبقي إلى أيام الواثق.
ثم أن الأفشين سار إلى بلاد بابك، فنزل برزند، وعسكر بهأن وضبط الطرق والحصون فيما بينه وبين أردبيل، وأنزل محمد بن يوسف بموضع يقال له خش، فحفر خندقاً وأنزل الهيثم الغنوي برستاق أرشق، فأصلح حصنه، وحفر خندقه؛ وأنزل علويه الأعور، من قواد الأبناء، في حصن النهر مما يلي أردبيل، فكانت والقوافل تخرج من أردبيل ومعها من يحيمها، حتى تنزل بحصن النهر، ثم يسيرها صاحب حصن النهر إلى الهيثم الغنوي، فيلقاه الهيثم بمن جاء إليه من ناحية في موضع معروف لا يتعداه أحدهم إذا وصل إليه، فإذا لقيه أخذ ما معه، وسلم إليه ما معه، ثم يسير الهيثم بمن معه إلى أصحاب أبي سعيد، فيلقونه بمنتصف الطريق، ومعهم من خرج من العسكر، فيتسلمون ما مع الهيثم ويسلمون إليه ما معهم، وإذا سبق أحدهم إلى المنتصف لا يتعداه، ويسير أبوسعيد بمن معه إلى عسكر الأفشين فيلقاه صاحب سيارة الأفشين، فيتسلمهم منه، ويسلم إليه من صحبه من العسكر، فلم يزل الأمر على هذا.
وكانوا إذا ظفروا بأحد من الجواسيس حملوه إلى الأفشين، فكان يحسن إليهم، ويهب لهم، ويسألهم عن الذي يعطيهم بابك، فيضعفه لهم، ويقول لهم: كونوا جواسيس لنأن فكان ينتفع بهم.
ذكر وقعة الأفشين مع بابكوفيها كانت وقعة الأفشين مع بابك، قتل من أصحاب بابك خلق كثير.
وكان سببها أن المعتصم وجه بغا الكبير إلى الأفشين، ومعه مال للجند، والنفقات، فوصل أردبيل، فبلغ بابك الخبر، فتهيأ هووأصحابه ليقطعوا عليه قبل وصوله إلى الأفشين، فجاء جاسوس إلى الأفشين، فأخبره بذلك، فلما صح الخبر عند الأفشين كتب بغا أن يظهر أنه يريد الرحيل، ويحمل المال على الإبل، ويسير نحوه، حتى يبلغ حصن النهر، فيحبس الذي معه، حتى يجوز من صحبه من القافلة، فإذا جازوا رجع بالمال إلى أردبيل.
ففعل بغا ذلك، وسارت القافلة، وجاءت جواسيس بابك إليه، فأخبروه أن المال قد سار فبلغ النهر، وركب الأفشين في اليوم الذي واعد فيه بغأن عند العصر، من برزند، فوافى خش مع غروب الشمس، فنزل خارج خندق أبي سعيد، فلما أصبح ركب سرأن ولم يضرب طبلأن ولم ينشر غلمأن وأمر الناس بالسكوت وجد في السير، ورحلت القافلة التي كانت توجهت ذلك اليوم من النهر إلى ناحية الهيثم، وتعبى بابك في أصحابه، وسار على طريق النهر، وهويظن أن المال يصادفه، فخرجت خيل بابك على القافلة، ومعها صاحب النهر، فقاتلهم صاحب النهر، فقتلوه، وقتلوا من كان معه من الجند، وأخذوا جميع ما كان معهم، وعلموا أن المال قد فاتهم، وأخذوا علمه ولباس أصحابه، فلبسوها وتنكروا ليأخذوا الهيثم الغنوي ومن معه أيضأن ولا يعلمون بخروج الأفشين، وجاؤوا كأنهم أصحاب النهر، فلم يعرفوا الموضع الذي يقف فيه علم صاحب النهر، فلم يعرفوا الموضع الذي يقف فيه علم صاحب النهر، فوقفوا في غيره.

وجاء الهيثم فوقف في موضعه وأنكر ما رأى، فوجه ابن عم له، فقال له: اذهب إلى هذا البغيض فقل له لأي شيء وقوفك، فجاء إليهم فأنكرهم، فرجع إليه فأخبره، فأنفذ جماعة غيره، فأنكروهم أيضأن وأخبروه أن بابك قد قتل علويه، صاحب النهر، وأصحابه، وأخذ أعلامهم ولباسهم، فرحل الهيثم راجعأن ونجى القافلة التي كانت معه، وبقي هووأصحابه في أعقابهم حامية لهم حتى وصلت القافلة إلى الحصن، وهوأرشق، وسير رجلين من أصحابه إلى الأفشين وإلى أبي سعيد يعرفهما الخبر، فخرجا يركضان، ودخل الهيثم الحصن، ونزل بابك عليه، ووضع له كرسي بحيال الحصن، وأرسل إلى الهيثم أن خل الحصن وانصرف، فأبى الهيثم ذلك، فحاربه بابك وهويشرب الخمر على عادته والحرب مشتبكة.
وسار الفارسان، فلقيا الأفشين على أقل من فرسخ، فقال لصاحب مقدمته: أرى فارسين يركضان ركضاً شديدأن ثم قال: اضربوا الطبل، وانشروا الأعلام، واركضوا نحوهما وصيحوا لبيكما لبيكما! ففعلوا ذلك، وأجرى الناس خيلهم طلقاً واحدأن حتى لحقوا بابك وهوجالس، فلم يطق أن يركب، حتى وافته الخيل، فاشتبكت الحرب، فلم يفلت من رجاله بابك أحد، وأفلت هوفي نفر يسير من خيالته، ودخل موقان وقد تقطع عنه أصحابه، ورجع عنه الأفشين إلى برزند.
وأقام بابك بموقان، وأرسل إلى البذ، فجاءه عسكر، فرحل بهم من موقان، حتى دخل البذ، ولم يزل الأفشين معسكراً ببرزند، فلما كان في بعض الأيام مرت قافلة، فخرج عليها أصبهنذ بابك، فأخذها وقتل من فيهأن فقحط عسكر الأفشين لذلك، فكتب الأفشين إلى صاحب مراغة بحمل الميرة وتعجيلهأن فوجه إليه قافلة عظيمة، فيها قريب من ألف ثور، سوى غيرها من الدواب، تحمل الميرة، ومعها جند يسيرون بهأن فخرج عليهم سرية لبابك، فأخذوها عن آخرهأن وأصاب العسكر ضيق شديد، فكتب الأفشين إلى صاحب شيروان يأمره أن يحمل إليه طعامأن فحمل إليه طعاماً كثيرأن وأغاث الناس، وقدم بغا على الأفشين بما معه.
ذكر بناء سامراوفي هذه السنة خرج المعتصم إلى سامرا لبنائهأن وكان سبب ذلك أنه قال: إني أتخوف هؤلاء الحربية أن يصيحوا صيحة فيقتلوا غلماني، فأريد أن أكون فوقهم، فإن رابني منهم شيء أتيتهم في البر والماء، حتى آتي عليهم، فخرج إليهأن فأعجبه مكانها.
وقيل كان سبب ذلك أن المعتصم كان قد أكثر من الغلمان الأتراك، فكانوا لا يزالون يرون الواحد بعد الواحد قتيلأن وذلك أنهم كانوا جفاة، يركبون الدواب، فيركضونها إلى الشوارع، فيصدمون الرجل والمرأة والصبي، فيأخذهم الأبناء عن دوابهم، ويضربونهم، وربما هلك أحدهم فتأذى بهم الناس.
ثم إن المعتصم ركب يوم عيد، فقام إليه شيخ فقال له: يا أبا إسحاق! فأراد الجند ضربه، فمنعهم وقال: يا شيخ ما لك، ما لك؟ قال: لا جزاك الله عن الجوار خيرأن جاورتنا وجئت بهؤلاء العلوج من غلمانك الأتراك، فأسكنتهم بيننأن فأيتمت صبياننأن وأرملت بهم نسواننأن وقتلت رجالنا؛ والمعتصم يسمع ذلك، فدخل منزله، ولم ير راكباً إلى مثل ذلك اليوم، فخرج، فصلى بالناس العيد، ولم يدخل بغداد، بل سار إلى ناحية القاطول، ولم يرجع بغداد.
قال مسرور الكبير: سألني المعتصم أين كان الرشيد يتنزه إذا ضجر ببغداد، قلت: بالقاطول، وكان قد بنى هناك مدينة آثارها وسورها قائم، وكان قد خاف من الجند ما خاف المعتصم، فلما وثب أهل الشام بالشام وعصوا خرج إلى الرقة فأقام بهأن وبقيت مدينة القاطول لم تستتم.
ولما خرج المعتصم إلى القاطول استخلف ببغداد ابنه الواثق، وكان المعتصم قد اصطنع قوماً من أهل الحوف بمصر، واستخدمهم، وسماهم المغاربة، وجمع قوماً من أهل الخوف بمصر، واستخدمهم، وسماهم المغاربة، وجمع خلقاً من سمرقند، وأشروسنة، وفرغانة، وسماهم الفراغنة، فكانوا من أصحابه، وبقوا بعده. وكان ابتداء العمارة بسامرا سنة إحدى وعشرين ومائتين.
ذكر قبض الفضل بن مروانوكان الفضل بن مروان من البردان، وكان حسن الخط، فاتصل بيحيى الجرمقاني، كاتب المعتصم، قبل خلافته، فكان يكتب بين يديه، فلما هلك الجرمقاني، صار موضعه، وسار مع المعتصم إلى الشام، ومصر، فأخذ من الأموال الكثير، فلما صار المعتصم خليفة كان اسمها له، وكان معناها لفضل، واستولى على الدواوين كلهأن وكنز الأموال.

وكان المعتصم يأمره بإعطاء المغني والنديم، فلا ينفذ الفضل ذلك، فثقل على المعتصم، وكان له مضحك اسمه إبراهيم، يعرف بالهفتي، فأمر له المعتصم بمال، وتقدم إلى الفضل بإعطائه، فلم يعطه شيئأن فبينا الهفتي يوماً عند المعتصم، يمشي معه في بستان له، وكان الهفتي يصحبه قبل الخلافة، ويقول له فيما يداعيه: والله لا تفلح أبداً؛ وكان مربوعاً بدينأن وكان المعتصم خفيف اللحم، فكان يسبقه، ويلتفت إليه ويقول: ما لك لا تسرع المشي؟ فلما أكثر عليه من ذلك قال الهفتي مداعباً له: كنت أراني أماشي خليفة، واليوم أراني أماشي فيجاً، والله لا أفلحت أبداً! فضحك المعتصم وقل: وهل بقي من الفلاح شيء لم أدركه بعد الخلافة؟ فقال: أتظن أنك أفلحت؟ لا والله، ما لك من الخلافة إلا اسمهأن ما يتجاوز أمرك أذنيك، إمنا الخليفة الفضل؛ فقال: وأي أمر لي لم ينفذ؟ فقال الهفتي: أمرت لي بكذا وكذا منذ شهرين، فما أعطيت حبه، فحقدها على الفضل.
فقيل أول ما أحدثه في أمره زماماً في نفقات الخاصة، وفي الخراج، وجميع الأعمال، ثم نكبه وأهل بيته في صفر، وأمرهم بعمل حسابهم، وصير مكانه محمد بن عبد الملك الزيات، فنفى الفضل إلى قرية في طريق الموصل تعرف بالسن، وصار محمد وزيراً وكاتباً.
وكان الفضل شرس الأخلاق، ضيق العطن، كريه اللقاء، بخيلأن مستطيلاً، فلما نكب ثشمت به الناس، حتى قال بعضهم فيه:
لبيك على الفضل بن مروان نفسه ... فليس له باك من الناس يعرف
لقد صحب الدنيا منوعاً لخيرها ... وفارقها وهوالظلوم المعنف
إلى النار فليذهب، ومن كان مثله ... على أي شيء فاتنا منه نأسف؟
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير عبد الرحمن ملك الأندلس جيشاً إلى طليطلة، فقاتلوهأن فلم يظفروا بها. وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد.
وفيها توفي سليمان بن داود بن علي بن عبد الله بن عباس أبوأيوب الهاشمي، وعفان بن مسلم أبوعثمان الصفار البصري، وكان موته ببغداد وله خمس وثمانون سنة، وهومن مشايخ البخاري؛ وتوفي فتح الموصلي الزاهد، وكان من الأولياء والأجواد؛ ومحمد بن علي بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي، عليه السلام، توفي ببغداد، وكان قدمها ومعه امرأته أم الفضل ابنة المأمون، فدفن بها عند جده موسى بن جعفر، وهوأحد الأئمة عند الإمامية، وصلى على الواثق، وكان عمره خمساً وعشرين سنة، وكانت وفاته في ذي الحجة، وقيل في سبب موته غير ذلك.
حوادث سنة إحدى وعشرين ومائتين

ذكر محاربة بابك في هذه السنة
في هذه السنة واقه بابك بغا الكبير، فهزمه، وواقعه الافشين، فهزم بابك.
وكان سبب ذلك أن بغا الكبير كان قد قدم بالمال الذي كان معه إلى الأفشين، ففرقه في أصحابه، وتجهز بعد النيروز، ووجه إلى بغا في عسكر ليدور حول هشتادسر، وينزل في خندق محمد بن حميد، ويحفره، ويحكمه، فسار بغا إلى الخندق، ورحل الأفشين من برزند، ورحل أبوسعيد من خش يريدان بابك، فتوافوا بمكان يقال له: دروذ، فحفر الأفشين خندقأن وبنى عليه سورأن وكان بينه وبين البذ ستة أميال.
ثم أن بغا تجهز بغير أمر الأفشين، وجمل معه الزاد، ودار حول هشتادسر، حتى دخل قرية البذ، فنزلها فأقام بها؛ ثم وجه ألف رجل في علاقة له، فخرج عليهم بعض عساكر بابك، فأخذ العلافة، وقتل كل من كان قاتله، وأسر من قدر عليه وأخذ بعضهم، فأرسل منهم رجلين إلى الأفشين يعلمانه ما نزل بهم.
ورجع بغا إلى خندق محمد بن حميد تشبيهاً بالمنهزم، وكتب إلى الأفشين يعلمه ذلك، ويسأله المدد، فوجه إليه الأفشين أخاه الفضل، وأحمد بنالخليل بن هشام، وابن جوشن، وجناحاً الأعور، صاحب شرطة الحسن ابن سهل، وأحد الأخوين قرابة الفضل بن سهل، فأتوا بغأن وكتب الأفشين إلى بغا يعلمه أن يغزوبابك في يوم عينة له، ويأمره أن يغزوفي ذلك اليوم بعينه فيحاربه من الوجهين، فخرج الأفشين ذلك اليوم من دروذ يريد بابك، وخرج بغا من خندقه، فخرج إلى هشتادسر، فلم يكن للناس صبر لشدة البرد والريح، فانصرف إلى عسكره، فعسكر على دعوة، وهاجت ريح باردة ومطر شديد، فرجع بغا إلى عسكره، وواقعهم الافشين من الغد، بعد رجوع بغأن فهزم أصحاب بابك، وأخذ عسكره وخيمته وامرأة كانت معه، ونزل الأفشين في معسكر بابك.

ثم تجهز بغا من الغد، وصعد إلى هشتادسر، فأصاب العسكر الذي كان مقيماً بإزائه قد انصرف إلى بابك، فأصاب من أثاثهم ورحلهم شيئاً، وانحدر من هشتادسر يريد البذ، وعلى مقدمته داود سياه، فأرسل إليه بغا: إن المساء قد أدركنأن وقد تعب الرجالة، وتوسطنا المكان الذي قد نعرفه، فانظر جبلاً حصيناً حتى نعسكر فيه ليلتنا هذه؛ فصعد بهم إلى جبل أشرفوا منه على عسكر الأفشين، فقال: نبيت ها هنا إلى غدوة، وننحدر إلى الكافر إنه شاء الله تعالى.
فجاءهم تلك الليلة سحب وبرد، وثلج كثير، فأصبحوا ولا يقدر أحد منهم أن ينزل فيأخذ ماء، ولا يسقي دابته من شدة البرد، واشتد عليه الثلج والضباب، فلما كان اليوم الثالث قال الناس لبغا: قد فني ما معنا من الزاد، وقد أضر بنا البرد، فانزل على أي حالة إما راجعين وإما إلى الكافر.
وكان بابك في أيام الضباب والثلج قد بيت الأفشين وبعض عساكره، وانصرف الأفشين إلى عسكره، فضرب بغا الطبل، وانحدر يريد البذ، ولا يعلم بما تم على الأفشين بل يظنه في موضع عسكره، فلما نزل إلى بطن الوادي رأى السماء منجلية، والدنيا طيبة، غير رأس الجيل الذي كان عليه، فعبأ أصحابه، وتقدم إلى البذ، حتى صار بحيث يلزق جبل البذ، ولم يبق بينه وبين أن يشرف على أبيات البذ إلا صعود نصف ميل.
وكان على مقدمته جماعة فيهم غلام لابن البعيث، له قرابة بالبذ، فلقيهم طلائع بابك، فعرف بعضهم الغلام، فسأله عم له عمن معه من أهله، فأخبره، فقال له: ارجع وقل لمن تعنى به يتنح، فإنا قد هزمنا الأفشين، ومضى إلى خندقه، وتهيأنا لكم عسكرين، فعجل الانصراف لعلك تفلت.
فرجع الغلام فأخبر ابن البعيث، فأخبر بغا بذلك، فشاور أصحابه، فقال بعضهم: هذا باطل، هذه خدعة. وقال بعضهم: هذا رأس جبل ينظر إلى عسكر الأفشين، فصعد بغأن ومعه نفر، إلى راس الجبل، فلم يروا عسكر الأفشين، فتيقن أنه مضى، وتشاوروأن فرأوا أن ينصرف الناس قبل أن يجيئهم الليل، فانصرفوأن وجدوا في السير، ولم يقصد الطريق الذي دخل منه لكثرة مضايقه، بل أخذ طريقاً يدور حول هشتادسر ليس فيه غير مضيق واحد، فطرح الرجالة سلاحهم في الطريق، وخافوأن وصار بغا وجماعة القواد في الساقة، وطلائع بابك تتبعهم، وهم قدر عشرة فرسان، فشاور بغا أصحابه، وقال: لا آمن أن يكون هؤلاء مشغلة لنا عن المسير، وتقدم أصحابهم ليأخذوا المضيق علينأن فقال له الفضل: إن هؤلاء أصحاب الليل، فأسرع السير، ولا تنزل حتى تجاوز المضيق. وقال غيره: إن العسكر قد تقطع، وقد رموا سلاحهم، وقد بقي المال والسلاح على البغال ليس معه أحد، ولا نأمن أن يؤخذ، ويؤخذ الأسير الذي معهم.
وكان ابن جويدان معهم أسيراً يريدون أن يفادوا به، فعسكر على رأس جبل حصين، ونزل الناس وقد كلوا وتعبوأن وفنيت أزوادهم، فباتوا يتحارسون من ناحية المصعد، فأتاهم بابك من الناحية الأخرى، فكبسوا بغا والعسكر، وخرج بغا راجلأن فرأى دابة فركبهأن وجرح الفضل بن كاوس، وقتل جناح السكري وابن جوشن، واخذ الأخوين قرابة الفضل بن سهل ونجا بغا والناس ولم تتبعهم الخرمية، وأخذوا المال والسلاح والأسير، فوصل الناس معسكرهم منقطعين إلى خندقهم، فأقام بغا به خمسة عشر يومأن وكتب إليه الأفشين يأمره بالرجوع إلى مراغة، وأن يرسل إليه المدد، فمضى بغا إلى مراغة، وفرق الأفشين الناس في مشاتيهم تلك السنة، حتى جاء الربيع.
وفيها قتل طرخان، وهومن أكبر قواد بابك، وكان سبب قتله أنه طلب من بابك إذناً حتى يشتي في قريته، وهي بناحية مراغة، وكان الأفشين يرصده، فلما علم خبره أرسل إلى ترك مولى إسحاق بن إبراهيم، وهوبمراغة، يأمره أن يسري إليه في قريته حتى يقتله، أويأخذه أسيرأن ففعل ترك ذلك وأسرى إليه وقتله، وأخذ رأسه فبعثه إلى الأفشين.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة قدم صول أرتكين وأهل بلاده في القيود، فنزعت فسودهم، وحمل الدواب نحومائتين.
وفيها غضب الأفشين على رجاء الحضاري، وبعث به مقيدأن وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي ابن عبد الله، وهووالي مكة.
الحضاري بكسر الحاء المهملة وبالضاد المعجمة وبعد الألف راء وياء.
وفيها توفي القاضي أحمد بن محرز، قاضي القيروان، وكان من العلماء العاملين، الزاهدين في الدنيا.

وفيها توفي آدم بن أبي إلياس العسقلاني، وهومن مشايخ البخاري في صحيحه، وعيسى بن أبان بن صدقة أبوموسى، قاضي البصرة، وهومن أصحاب أبي الحسن الشيباني، صاحب أبي حنيفة، وعبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي صاحب مالك، وعبد الكبير بن المعافى بن عمران وكان فاضلأن والعباس بن سليم بن جميل الأزدي الموصلي.
حوادث سنة اثنتين وعشرين ومائتين

ذكر محاربة بابك أيضا
ً
في هذه السنة وجه المعتصم إلى الأفشين جعفراً الخياط مدداً له، ووجه إليه إيتاخ ومعه ثلاثون ألف ألف درهم للجند ولنفقات، فأوصل ذلك إلى الأفشين وعاد.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب الأفشين وقائد لبابك اسمه آذين، وكان سببها أن الشتاء لما انقضى سنة إحدى وعشرين ومائتين، وجاء الربيع، ودخلت سنة اثنتين وعشرين، رحل الأفشين عند إمكان الزمان، فصار إلى موضع يقال له كلان روذ وتفسيره نهر كبير فاحتفر عنده خندقأن وكتب إلى أبي سعيد ليرحل من برزند إلى طرف رستاق كلان روذ، وبينهما قدر ثلاثة أميال، فأقام الأفشين بكلان روذ خمسة أيام، فأتاه من أخبره أن قائداً لبابك اسمه آذين قد عسكر بإزائه، وأنه قد صير عياله في خيل، فقال له بابك: ليجعلهم في الحصن، فقال: لا أتحصن من اليهود، يعني المسلمين، والله لا أدخلتهم حصناً أبداً.
فوجه الأفشين ظفر بن العلاء السعدي في جماعة من الفرسان والرجالة، فساروا ليلتهم، فوصلوا إلى مضيق لا يسلكه إلا الواحد بعد الواحد، وأكثر الناس قادوا دوابهم، وتسلقوا في الحبل، وأخذوا عيال آذين وبعض ولده.
وبلغ الخبر آذين، وكان الأفشين قد خاف أن يؤخذ عليهم الطريق، فأمرهم أن يجعلوا على رأس كل جبل رجالاً معهم الأعلام السود، فإن رأوا شيئاً يخافونه حركوا الأعلام، ففعلوا ذلك، فلما أخذوا عيال آذين ورجعوا إلى بعض الطريق قبل المضيق، أتاهم آذين في أصحابه، فحاربوهم فقتل منهم قتلى، واستنقذوا بعض النساء، فنظر الرجال المرتبون برؤوس الجبال، فحركوا الأعلام، وكان آذين قد أنفذ من يمسك عليهم المضيق، فلما رأى الافشين تحريك العلم الذي بإزائه سير جماعة من الجند مع مظفر بن كيذر، فأسرع نحوهم، ووجه أبا سعيد بعدهم وبخارااخذاه، فلما نظر إليهم رجالة آذين الذين على المضيق تركوه، وقصدوا أصحابهم، فنجا ظفر ابن العلاء ومن معه، ومعهم بعض عيال آذين.
ذكر فتح البذ وأسر بابكوفي هذه السنة فتحت البذ، مدينة بابك، ودخلها المسلمون وخربوهأن واستباحوهأن وذلك لعشر بقين من شهر رمضان.
وكان سبب ذلك أن الأفشين لما عزم على الدنومن البذ، والرحيل من كلان روذ، جعل يتقدم قليلاً قليلاً خلاف ما تقدم، وكتب إليه المعتصم يأمره أن يجعل الناس نوائب، يقفون على ظهور الخيل نوباً في الليل، مخافة البيات، فضج الناس من التعب، وقالوا: بيننا وبين العدوأربعة فراسخ، ونحن نفعل أفعالاً كأن العدوبإزائنأن قد استحيينا من الناس، اقدم بنأن فإما لنا وإما علينا.
فقال: أعلم أن قولكم حق. ولكن أمير المؤمنين أمرني بهذا. فلم يلبث أن جاءه كتاب المعتصم يأمره أن يفعل كما كان يفعل، فلم يزل كذلك أيامأن ثم انحدر حتى نزل روذ الروذ، وتقدم حتى شارف الموضع الذي كانت به الوقعة في العام الماضي، فوجد عليه كردوساً من الخرمية، فلم يحاربهم، ولم يزل إلى الظهر، ثم رجع إلى معسكره فمكث يومين، ثم عاد في أكثر من الذين كانوا معهم، ولم يقاتلهم، وأقام الأفشين بروذ الروذ، وأمر الكوهبانية وهم أصحاب الأخبار أن ينظروا له في رؤوس الجبال مواضع يتحصن فيها الرجالة.
فاختاروا له ثلاثة أجبل كان عليها حصون فخربت، فاخذ معه الفعلة، وسار نحوهذه الجبال، وأخذ معه الكعك والسويق، وأمر الفعلة بنقل الحجارة، وسد الطريق إلى تلك الجبال، حتى صارت كالحصون، وأمر بحفر خندق على كل طريق وراء تلك الحجارة، ولم يترك مسلكاً إلى الجبال منها إلا مسلكاً واحدأن ففرغ من الذي أراد من حفر الخنادق في عشرة أيام، وهووالناس يحرسون الفعلة والرجالة ليلاً ونهاراً.
فلما فرغ منها ادخل الرجالة إليهأن وأنفذ إليه بابك رسولاً ومعه قثاء، وبطيخ، وخيار، ويعلمه أنه قد تعب وشقي من أكل الكعك، وأننا في عيش رغد. فقبل ذلك منه، وقال: قد عرفت ما أراد أخي، وأصعد الرسول، فأراه ما عمل، وأطاف به خنادقه كلهأن وقال اذهب فعرفه ما رأيت.

وكان جماعة من الخرمية يأتون إلى قرب خندق الأفشين فيصيحون، فلم يترك الأفشين أحداً يخرج إليهم، فعلوا ذلك ثلاثة أيام؛ ثم إن الأفشين كمن لهم كمينأن فلما جاؤوا ثاروا عليهم، فهربوا ولم يعودوا.
وعبأ الأفشين أصحابه، وأمر كلاً منهم بلزوم موضعه، وكان يركب، والناس في مواقفهم، فكان يصلي الصبح بغلس، ثم يضرب ويسير زحفأن وكانت علامته في المسير والوقوف ضرب الطبول لكثرة الناس، ومسيرهم في الجبال والأودية على مصافهم، فإذا سار ضربهأن وإذا وقف أمسك عن ضربهأن فيقف الناس جميعأن ويسيرون جميعاً.
وكان يسير قليلاً قليلاً كلما جاءه كوهباني بخبر سار، أووقف؛ وكان إذا أراد أن يتقدم إلى المكان الذي كانت به الوقعة عام أول، خلف بخارااخذاه على رأس العقبة في ألف فارس، وستمائة راجل، يحفظون الطريق لئلا يأخذه الخرمية عليهم.
وكان بابك إذا أحس بمجيئهم وجه جمعاً من أصحابه، فيكمنون في واد تحت تلك العقبة، تحت بخارااخذاه، واجتهد الأفشين أن يعرف مكان كمين بابك، فلم يعلم بهم، وكان يأمر أبا سعيد أن يعر الوادي في كردوس، ويأمر جعفراً الخياط أن يعبر في كردوس، ويأمر أحمد بن الخليل بن هشام أن يعبر في كردوس آخر، فيصير في ذلك الجانب ثلاثة كراديس في طرف أبياتهم؛ وكان بابك يخرج عسكره فيقف بإزاء هذه الكراديس، لئلا يتقدم منهم أحد إلى باب البذ. وكان يفرق عساكره كمينأن ولم يبق إلا في نفر يسير.
وكان الأفشين يجلس على تل مشرف ينظر إلى قصر بابك، والناس كراديس، فمن كان معه من هذا الجانب من الوادي نزل عن دابته، ومن كان من ذلك الجانب مع أبي سعيد وجعفر وأحمد بن الخليل لم ينزل القرية من العدو؛ وكان بابك وأصحابه يشربون الخمر، ويضربون بالسرنائي، فإذا صلى الأفشين الظهر رجع إلى خندقه بروذ الروذ، فكان يرجع أولاً أقربهم إلى العدو، ثم الذي يليه، ثم الذي يليه، فكان آخر من يرجع بخاراخذاه لأنه كان أبعدهم عن العدو، فإذا رجعوا صاح بهم الخرمية.
فلما كان في بعض الأيام الخرمية من المطاولة، وانصرف الأفشين كعادته، وعادت الكراديس التي بذلك الجانب من الوادي؛ ولم يبق إلا جعفر الخياط، ففتح الخرمية باب البذ، وخرج منهم جماعة على أصحاب جعفر، وارتفعت الصيحة فتقدم جعفر بنفسه، فرد أولئك الخرمية إلى باب البذ، ووقعت الصيحة في العسكر، فرجع الأفشين فرأى جعفراً وأصحابه يقاتلون، وخرج من الفريقين جماعة، وجلس الأفشين في مكانه، وهويتلظى على جعفر، ويقول: أفسد عليّ تعبيتي.
وارتفعت الصيحة، فكان مع أبي دلف قوم من المتطوعة، فعبروا إلى جعفر بغير أمر الأفشين، وتعلقوا بالبذ، وأثروا فيه أثرأن وكادوا يصعدونه فيدخلون البذ، ووجه جعفر إلى الأفشين أن أمدني بخمس مائة راجل من الناشبة، فإني أرجوأن أدخل البذ إن شاء الله تعالى؛ فبعث إليه الأفشين: إنك أفسدت عليّ أمري، فتخلص قليلاً قليلأن وخلص أصحابك وانصرف؛ وارتفعت الصيحة من المتطوعة، حتى تعلقوا بالبذ، وظن الكمناء الذين لبابك أن الحرب قد اشتبكت، فوثب بعضهم من تحت بخاراخذاه، ووثب بعضهم من ناحية أخرى، فتحركت الكمناء من الخرمية، والناس على رؤوسهم، فلم يزل منهم أحد، فقال الأفشين: الحمد لله الذي بين مواضع هؤلاء.
ورجع جعفر وأصحابه والمتطوعة، فجاء جعفر إلى الأفشين، فأنكر عليه حيث لم يمده، وجرى بينهما نفرة شديدة، وجاء رجل من المتطوعة، ومعه صخرة، فقال للأفشين: أتردنا وهذا الحجر أخذته من السور؟ فقال: إذا انصرفت عرفت من على طريقك، يعني الكمين الذي عند بخارااخذاه. وقال لجعفر: لوثار هذا الكمين الذي تحتك كيف كنت ترى هؤلاء المتطوعة؟

ثم رجع هووأصحابه على عادتهم، فلما رأى هؤلاء الكمين الذي عند بخاراخذاه علموا ما كان وراءهم، فإن بخاراخذاه لوتحرك نحوالقتال، لملكوا ذلك الموضع، وهلك المسلمون عن آخرهم؛ فأقام الأفشين بخندقه أيامأن فشكا المتطوعة إليه ضيق العلوفة، والزاد، والنفقة، فقال: من صبر فليصبر، ومن لا فالطريق واسع فلينصرف، وفي جند أمير المؤمنين كفاية. فانصرف المتطوعة يقولون: لوترك الأفشين جعفراً وتركنا لأخذنا البذ، لكنه يشتهي المطاولة، فبلغه ذلك وما تتناوله المتطوعة بألسنتهم حتى قال بعضهم: إني رأيت رسول الله في المنام قال لي: قل للإفشين إن أنت حاربت هذا وجددت في أمره وإلا أمرت الجبال أن ترجمك بالحجارة، فتحدث الناس بذلك فبلغ الأفشين، فأحضره وسأله عن المنام، فقصه عليه فقال: الله يعلم نيتي وما أريد بهذا الخلق، وإن الله لوأمر الجبال برجم أحد لرجم هذا الكافر فكفانا مؤونته. فقال رجل من المتطوعة: أيها الأمير لا تحرمنا شهادة إن كانت حضرت، وإمنا قصدنا ثواب الله ووجهه، فدعنا وحدنا حتى نتقدم بعد أن يكون بإذنك لعل اله أن يفتح علينا.
فقال الأفشين: إني أرى نياتكم حاضرة، وأحسب هذا الأمر يريده الله تعالى، وهوخير إن شاء الله، وقد نشطتم ونشط الناس، وكان هذا رأيي وقد حدث الساعة لما سمعت من كلامكم، اعزموا على بركة الله أي يوم أردتم حتى نناهضه، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فخرجوا مستبشرين فتأخر من أراد الانصراف ووعد الأفشين الناس ليوم ذكره لهم، وأمر الناس بالتجهز وحمل المال والزاد والماء، وجعل المحامل على البغال تحمل الجرحى، وزحف بالناس ذلك اليوم وجعل بخاراخذاه بمكانه على العقبة، وجلس الأفشين بالمكان الذي كان يجلس فيه، وقال لأبي دلف: قل للمتطوعة أي ناحية أسهل عليكم فاقتصروا عليها. فقال لجعفر: العسكر كله بين يديك والنشابة والنفاطون، فإن أردت فخذ منهم ما تريد واعزم على بركة الله، وتقدم من أي موضع تريد.
فسار إلى الموضع الذي كان به ذلك اليوم، وقال لأبي سعيد: قف عندي أنت وأصحابك، وقال لجعفر: قف أنت ها هنأن لمكان عينه له، فإن أراد جعفر رجالاً أوفرساناً أمددناه.
وتقدم جعفر والمتطوعة فقاتلوا وتعلقوا بسور البذ، وضرب جعفر باب البذ ووقف عنده يقاتل عليه، ووجه الأفشين غليه وإلى المتطوعة بالأموال لتفرق فيهم ويعطي من تقدم، وأمدهم بالفعلة معهم الفؤوس، وبعث إليهم بالمياه لئلا يعطشوا وبالكعك والسويق، فاشتبكت الحرب على الباب طويلاً ففتحت الخرمية الباب وخرجوا على أصحاب جعفر فنحوهم عن الباب وشدوا على المتطوعة من الناحية الأخرى، فطرحوهم عن السور، ورموهم بالصخر، وأثروا فيهم، وضعفوا عن الحرب، وأخذ جعفر من أصحابه نحومائة رجل، فوقفوا خلف تراسهم متحاجزين لا يقدم أحد على الآخر، فلم يزالوا كذلك حتى صليب الظهر فتحاجزوا.
وبعث الأفشين الرجالة الذين كانوا عنده نحوالمطوعة، وبعث إلى جعفر بعضهم، خوفاً أن يطمع العدو، فقال جعفر: لست أوتي من قلة ولكني لا أرى للحرب موضعاً يتقدمون فيه، فأمره بالانصراف فانصرف.
وحمل الأفشين الجرحى ومن به من الحجارة فحملوا في المحامل على البغال وانصرفوا عنهم، وأيس الناس من الفتح تلك السنة وانصرف أكثر المطوعة.
ثم إن الأفشين تجهز بعد جمعتين، فلما كان جوف الليل بعث الرجالة الناشبة، وهم ألف رجل، وأعطى كل واحد منهم شكوة وكعكأن وأعطاهم أعلاماً غير مركبة وبعث معهم أدلاء، فساروا في جبال منكرة صعبة في غير طريق، حتى صاروا خلف التل الذي يقف آذين عليه وهوجبل شاهق وأمرهم أن لا يعلم بهم أحد، حتى إذا رأوا أعلام الأفشين وصلوا الغداة ورأوا الوقعة ركبوا تلك الأعلام في الرماح وضربوا الطبول وانحدروا من فوق الجبل، ورموا بالنشاب والصخر على الخرمية، وإن هم لم يروا الأعلام لم يتحركوا حتى يأتيهم خبره. ففعلوا ذلك فوصلوا إلى رأس الجييل عند السحر، فلما كان في بعض الليل وجه الأفشين إلى الجند، وأمرهم بالتجهز للحرب.

فلما كان في بعض الليل وجه بشيراً التركي وقواداً من الفراعنه كانوا معه، فأمرهم أن يسيروا حتى يصيروا تحت التل الذي عليه آذين، وكان يعلم أن بابك يكمن تحت ذلك الجبل، فساروا ليلأن ولا يعلم بهم أكثر أهل العسكر، ثم ركب هووالعسكر مع السحر، فصلى الغداة، وضرب الطبل، وركب فأتى الموضع الذي كان يقف فيه، فقعد على عادته، وأمر بخاراخذاه أن يقف مع جعفر الخياط وأبي سعيد وأحمد بن الخليل بن هشام، ونزل الموضع الذي كان يقف فيه، فأنكر الناس ذلك، وأمرهم أن يقربوا من التل الذي عليه آذين فيحدقوا به، وكان قبل ينهاهم عنه.
ومضى الناس مع هؤلاء القواد الأربعة، فكان جعفر مما يلي الباب، وإلى جانبه أبوسعيد، وإلى جانب أبي سعيد بخاراخذاه وكان أحمد مما يلي بخاراخذاه، فصاروا جميعاً حول التل وارتفعت الضجة من أسفل الوادي، فوثب كمين بابك ببشير التركي والفراعنة، فحاربوهم، وسمع أهل العسكر صيحتهم، فأرادوا الحركة، فأمر الأفشين منادياً ينادي فيهم أن بشيراً قد أثار كمينأن فلا يتحركن أحد، فسكنوأن ولما سمع الرجال الذين كان سيرهم حتى صاروا في أعلى الجيل ضجة العسكر ركبوا الأعلام على الرماح، فنظر الناس إلى الأعلام تنحدر من الجبل على خيل آذين، فوجه آذين إليهم بعض أصحابه.
وحمل جعفر وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليه، فحملوا عليه حملة منكرة، فانحدر إلى الوادي، وحمل عليه جماعة من أصحاب أبي سعيد، فإذا تحت دوابهم آبار محفورة، فتساقطت الفرسان فيهأن فوجه الأفشين الفعلة يطمون تلك الآبار، ففعلوأن وحمل الناس عليهم حملة شديدة.
وكان آذين قد جعل فوق الجبل عجلاً عليها صخر، فلما حمل الناس عليه دفعتلك العجل عليهم، فأفرج الناس منها حتى تدحرجت، ثم حمل الناس من كل وجه، فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم خرج من طرف البذ، ممايلي الأفشين، فأقبل نحوه، فقيل للأفشين: إن هذا بابك يريدك، فتقدم إليه، حتى سمع كلامه، وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت هذا عليك، وهولك مبذول متى شئت، فقال: قد شئت الآن على أن تؤخرني حتى أحمل عيالي وأتجهز، فقال له الأفشين: أنا أنصحك، خروجك اليوم خير من غد، قال: قد قبلت هذا، قال الأفشين: فابعث بالرهائن! فقال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التل، فمر أصحابك بالتوقف.
فجاء رسول الأفشين ليرد الناس، فقيل له إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ، وصعدوا بها القصور، فركب وصاح بالناس، فدخل، ودخلوا وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك، وكان قد كمن في قصوره، وهي أربعة، ستمائة رجل، فخرجوا على الناس، فقاتلوهم، ومر بابك، حتى دخل الوادي الذي يلي هشتادسر، واشتغل الأفشين ومن معه بالحرب على أبواب القصور، فأحضر النفاطين فأحرقوهأن وهدم الناس القصور، فقتلوا الخرمية عن آخرهم، وأخذ الأفشين أولاد بابك وعيالاته، وبقي هناك حي أدركه المساء، فأمر الناس بالانصراف، فرجعوا إلى الخندق بروذ الروذ.
وأما بابك فإنه سار فيمن معه، وكانوا قد عادوا إلى البذ، بعد رجوع الأفشين، فأخذوا ما أمكنهم من الطعام والأموال، ولما كان الغد رجع الأفشين إلى البذ، وأمر بهدم القصور وإحراقهأن ففعلوأن فلم يدع منها بيتأن وكتب إلى ملوك أرمينية وبطارقتهم، يعلمهم ان بابك قد هرب وعدة معه، وهومار بكم، وأمرهم بحفظ نواحيهم، ولا يمر بهم أحد إلا أخذوه، حتى يعرفوه.
وجاءت جواسيس الأفشين إليه فأعلموه بموضع بابك، وكان في واد كثير الشجر والعشب، طرفه بأذربيجان، وطرفه الآخر بأرمينية، ولم يمكن الخيل نزوله، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه، ويسمى هذا الوادي عيضة؛ فوجه الأفشين إلى كل موضع فيه طريق إلى الوادي جماعة من أصحابه يحفظونه، وكانوا خمس عشرة جماعة.
وورد كتاب المعتصم فيه أمان بابك، فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحابه، فأعلمهم ذلك، وأمرهم بالمسير إليه بالكتاب، وفيهم ابنه، فلم يجسر أحد منهم خوفاً منه، فقال إنه يفرح بهذا الأمان، فقالوا: نحن أعرف به منك، فقام رجلان فقالا: اضمن لنا أنك تجري على عيالاتنأن فضمن لهمأن فسارا بالكتاب، فلما رأياه أعلماه ما قدما له، فقتل أحدهما وأمر الآخر أن يعود بالكتاب إلى الأفشين.

وكان ابنه قد كتب إليه معهما كتابأن فقال لذلك الرجل: قل لابن الفاعلة: لوكنت ابني للحقت بي ولكنك لست ابني ولأن تعيش يوماً واحداً وأنت رئيس خير من أن تعيش أربعين سنة عبداً ذليلاً! وقعد في موضعه فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زادهن وخرج من بعض تلك الطرق، وكان من عليه من الجند قد تنحوا قريباً منه، وتركوا عليه أربعة نفر يحرسونه.
فبيمنا هم ذات يوم، نصف النهار، إذ خرج بابك وأصحابه، فلم ير العسكر، ولا أولئك الذيم يحرسون المكان، فطن أن ليس هناك أحد، فخرج هووعبد الله أخوه، ومعاوية، وأمه، وامرأة أخرى، وساروا يريدون أرمينية، فرآهم الحراس، فأرسلوا إلى أصحابهم: إننا قد رأينا فرساناً لا ندري من هم، وكان أبوالساج هوالمقدم عليهم، فركب الناس وساروا نحوهم، فرأوا بابك وأصحابه قد نزلوا على ماء يتغذون، فلما رأى العساكر ركب هوومن معه، فنجا هو، وأخذ معاوية، وأم بابك والمرأة الأخرى، فأرسلهم أبوالساج إلى الأفشين.
وسار بابك في جبال أرمينية مستخفيأن فاحتاج إلى طعام، وكان بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم، وأوصوا أن لا يجتاز بهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه، وأصاب بابك الجوع، فرأى حراثاً في بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحراث، وخذ معك دنانير ودراهم، فغ، كان خبز فاشتر منه.
وكان للحراث شريك قد ذهب لحاجة، فنزل الغلام إلى الحراث ليأخذ منه الطعام، فرآه رفيق الحراث، فظن أنه يأخذ ما معه غصبأن فعدا إلى المسلحة، وأعلمهم أن رجلاً عليه سيف وسلاح قد أخذ خبز شريكه، فركب صاحب المسلحة، وكان في جبال ابن سنباط، فوجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب في جماعة فوافى الحراث والغلام عنده، فسأل عنه فأخبره الحراث خبره، فأخبره الغلام عن مولاه، ودله عليه، فلما رأى وجه بابك عرفه فترجل له، واخذ يده فقبلهأن وقال: أين تريد؟ قال: بلاد الروم، قال: لا تجد أحداً أعرف بحقك مني، وليس بيني وبين السلطان عمل، وكل من ها هنا من البطارقة إمنا هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد، وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعضهم من النساء امرأة جميلة طلبهأن فإن بعث بها إليه، وإلا أسرى إليه فأخذها ونهب ماله وعاد، فخدعه ابن سنباط، حتى صار إلى حصنه.
وأرسل بابك أخاه عبد الله إلى حصن اصطفانوس، فأرسل ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه بذلك، فكتب إليه الأفشين يعده ويمنيه، ووجه إليه أبا سعيد وبورماره، وأمرهما بطاعته، وأمرهما ابن سنباط بالمقام في مكان سماه، وقال: لا تبرحا حتى يأتيكما رسولي، فيكون العمل بما يقول لكما.
ثم إنه قال لبابك: قد ضجرت من هذا الحصن، فلونزلت إلى لاصيد، ففعل، فلما نزل من الحصن أرسل ابن سنباط إلى أبي سعيد وبورماره، فأمرهما أن يوافياه: أحدهما من جانب واد هناك، والثاني من الجانب الآخر، ففعلأن فلم يحب أن يدفعه إليهما.
فبيمنا بابك وابن سنباط يتصيدان إذ خرج عليهما أبوسعيد وبورماره في أصحابهمأن وعلى بابك دراعة بيضاء، فأخذوهمأن وأمروا بابك بالنزول، فقال: من أنتم؟ فقال: أنا أبوسعيد، وهذا فلان، فنزل ثم قال لابن سنباط القبيح، وشتمه، وقال: إمنا بعتني لليهود بشيء يسير، لوأردت المال لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء؛ فأركبه أبوسعيد، وساروا به إلى الأفشين، فلما قرب من العسكر صعد الأفشين وجلس ينظر إليه، وصف عسكره صفين، وأمر بإنزال بابك عن دابته، ومشى بين الصفين، وأدخله الأفشين بيتأن ووكل به من يحفظه، وسير معه سهل بن سنباط ابنه معاوية، فأمر له الأفشين بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم، ومنطقة مغرقة بالجواهر وتاج البطرقة.
وأرسل الأفشين إلى عيسى بن يونس بن اصطفانوس يطلب منه عبد الله أخا بابك، فأنفذه إليه، فحبسه مع أخيه، وكتب إلى المعتصم بذلك، فأمره بالقدوم بهما عليه.
وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال، وكان الافشين قد أخذ نساء كثيرة وصبياناً كثيراً ذكروا أن بابك أسرهم، وأنهم أحراراً من العرب والدهاقين، فأمر بهم فجعلوا في حظيرة كبيرة، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائكم، فكل من جاء يعرف امرأة، أوصبيأن أوجارية، وأقام شاهدين أخذه، فأخذ الناس منهم خلقاً كثيرأن وبقي كثير منهم.
ذكر استيلاء عبد الرحمن على طليطلة

قد ذكرنا عصيان أهل طليطلة على عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، وإنفاذ الجيوش إلى محاصرتها مرة بعد مرة، فلما كان سنة إحدى وعشرين وائتين خرج جماعة من أهلها إلى قلعة رباح، وبها عسكر لعبد الرحمن، فاجتمعوا كلهم على حصر كليكلة، وضيقوا عليهأن وعلى أهلهأن وقطعوا عنهم باقي مرافقهم واشتدوا في محاصرتهم، فبقوا كذلك إلى أن دخلت سنة اثنتين وعشرين.
فسير عبد الرحمن أخاه الوليد بن الحكم إليها أيضأن فرأى أهلها وقد بلغ بهم الجهد كل مبلغ، واشتد عليهم طول الحصار، وضعفوا عن القتال والدفع، فافتتحها قهراً وعنوةً يوم السبت لثمان خلون من رجب، وأمر بتجديد القصر على باب الحصن الذي كان هدم أيام الحكم، وأقام بها إلى آخر شعبان من سنة ثلاث وعشرين ومائتين، حتى استقرت قواعد أهلها وسكنوا.
ذكر عدة حوادثوحج بالناس هذه السنة محمد بن داود.
وفيها ظهر عن يسار القبلة كوكب، فبقي يرى نحواً من أربعين ليلة، وله شبه الذنب، وكان أول ما طلع نحوالمغرب، ثم رثي بعد ذلك نحوالمشرق، وكان طويلاً جدأن فهال الناس ذلك، وعظم عليهم. ذكره ابن أبي أسامة في تاريخه وهومن الثقات الأثبات.
وفيها توفي يحيى بن صالح أبوزكرياء الوحاظي، وهودمشقي، وقيل حمصي.
وفيها توفي أبوهشام محمد بن علي بن أبي خداش الموصلي؛ وكان كثير الرواية من المعافى بن عمران.
حوادث سنة ثلاث وعشرين ومائتين

ذكر قدوم الأفشين ببابك
في هذه السنة قدم الأفشين إلى سامرأن ومعه بابك الخرمي وأخوه عبد الله، في صفر سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وكان المعتصم يوجه إلى الأفشين في كل يوم، من حين سار من برزند إلى أن وافى سامرأن خلعةً وفرسأن فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون الواثق بن المعتصم، وأهل بيت المعتصم، وأنزل الأفشين بابك عنده في قصره بالمطيرة، فأتاه أحمد بن أبي دؤاد متنكرأن فنظر إلى بابك وكلمه، ورجع إلى المعتصم فوصفه له، فأتاه المعتصم أيضاً متنكراً فرآه.
فلما كان الغد قعد المعتصم واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، فشهره المعتصم، وأمر أن يركب على الفيل، فركب عليه، واستشرفه الناس إلى باب العامة، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشأن
ثم أدخل دار المعتصم، فأمر بإحضار سياف بابك، فحضر، فأمره المعتصم أن يقطع يديه ورجليه، فقطعهأن فسقط، فأمره بذبحه، ففعل، وشق بطنه، وأنفذ رأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرأن وأمر بحمل أخيه عبد الله إلى أسحاق بن إبراهيم ببغداد، وأمره أن يفعل به ما فعل بأخيه بابك، فعمل به ذلك، وضرب عنقه، وصلبه في الجانب الشرقي بين الجسرين.
قيل فكان الذي أخرج الأفشين من المال مدة مقامه بإزاء بابك، سوى الأرزاق والأنزال والمعارف، في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم، وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف، فكان جميع من قتل بابك في عشرين سنة مائتي ألف وخمسة وخمسين ألفاً وخمس مائة إنسان، وغلب من القواد يحيى بن معاذ، وعيسى بن محمد بن أبي خالد، وأحمد بن الجنيد فأسره، وزريق بن علي بن صدقة، ومحمد بن حميد الطوسي، وإبراهيم بن الليث.
وكان الذين أسروا مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسي، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهن سبعة آلاف وستمائة إنسان، وصار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلأن ومن البنات والنساء ثلاث وعشرون امرأة.
ولما وصل الأفشين توجه المعتصم وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم وعشرة آلاف ألف يفرقها في عسكره، وعقد له على السند، وأدخل عليه الشعراء يمدحونه.
ذكر خروج الروم إلى زبطرةوفي هذه السنة خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام، وأوقع بأهل زبطرة وغيرها.
وكان سبب ذلك أن بابك لما ضيق الأفشين عليه، وأشرف على الهلاك، كتب إلى ملك الروم توفيل يعلمه أن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتليه إليه، حتى وجه خياطه، يعني جعفر بن دينار الخياط، وطباخة، يعني إيتاخ، ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنعك.

وظن بابك أن ملك الروم إن تحرك يكشف عنه بعض ما هوفيه بإنفاذ العساكر إلى مقاتلة الروم، فخرج توفيل في مائة ألف، وقيل أكثر، منهم من الجند نيف وسبعون ألفأن وبقيتهم أتباع، ومعهم من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة، فبلغ زبطرة، فقتل من بها من الرجال، وسبى الذؤية والنساء، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين، وسبى المسلمات، ومثل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم، وقطع أنوفهم وآذانهم، فخرج إليهم أهل الثغور من الشام والجزيرة، إلا من لم يكن له دابة ولا سلاح.
ذكر فتح عموريةلما خرج ملك الروم، وفعل في بلاد الإسلام ما فعل، بلغ الخبر إلى المعتصم، فلما بلغه ذلك استعظمه، وكبر لديه، وبلغه أن امرأة هاشمية صاحت، وهي أسيرة في أيدي الروم: وامعتصماه! فأجابها وهوجالس على سريره: لبيك لبيك! ونهض من ساعته، وصاح في قصره: النفير النفير، ثم ركب دابته، وسمط خلفه شكالأن وسكة حديد، وحقيبة فيها زاده، فلم يمكنه المسير إلا بعد التعبئة، وجمع العساكر، فجلس في دار العامة، وأحضر قاضي بغداد وهوعبد الرحمن بن إسحاق، وشعبه بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلاً من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثاً لولده، وثلثاً لله تعالى، وثلثاً لمواليه.
ثم سار فعسكر بغربي دجلة لليلتين خلتا من جمادى الأولى، ووجه عجيف بن عنبسة، وعمر الفرغاني، ومحمد كوتاه، وجماعة من القواد إلى زبطرة معونة لأهلهأن فوجدوا ملك الروم قد انصرف عنها إلى بلاده، بعدما فعل ما ذكرناه، فوقفوا حتى تراجع الناس إلى قراهم واطمأنوا.
فلما ظفر المعتصم ببابك قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية لم يعرض لها أحد منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية، وهي أشرف عندهم من القسطنطينية. فسار المعتصم من سر من رأى، وقيل كان مسيره سنة اثنتين وعشرين، وقيل سنة أربع وعشرين، وتجهز جهازاً لم يتجهزه خليفة قبله قط من السلاح، والعدد، والآلة، وحياض الأدم، والروايأن والقرب، وغير ذلك، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد ابن إبراهيم بن مصعب، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار ابن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة، فلما دخل بلاد الروم نزل على نهر السن، وهوعلى سلوقية، قريباً من البحر، وبينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء.
وأمضى المعتصم الأفشين إلى سروج، وأمره بالدخول من درب الحدث، وسمى له يوماً يكون دخوله فيه، ويماً يكون اجتماعهم فيه، وسير أشناس من درب طرسوس، وأمره بانتظاره بالصفصاف، فكان مسير أشناس لثمان بقين من رجب، وقدم المعتصم وصيفاً في أثر أشناس ورحل المعتصم لست بقين من رجب.
فلما صار أشناس بمرج أسقف ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن ملك الروم بين يديه، وأنه يريد أن يكسبهم، ويأمر بالمقام إلى أن يصل إليه، فأقام ثلاثة أيام، فورد عليه كتاب المعتصم يأمره أن يوجه قائداً من قواده في سرية يلتمسون رجلاً من الروم يسألونه عن خبر الملك، فوجه أشناس عمر الفرغاني في مائتي فارس، فدخل حتى بلغ أنقرة، وفرق أصحابه في طلب رجل رومي، فأتوه بجماعة بعضهم من عسكر املك، وبعضهم من السواد، فأحضرهم عند أشناس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم أكثر من ثلاثين يوماً ينتظر مقدمة المعتصم ليواقعهم، فأتاه الخبر أن عسكراً عظيماً قد دخل بالدهم من ناحية الأرمنياق، يعني عسكر الأفشين؛ قالوا: فلما أخبر استخلف ابن خاله على عسكره، وسار يريد ناحية الأفشين، فوجه أشناس بهم إلى المعتصم، فأخبروه الخبر، فكتب المعتصم كتاباً إلى الأفشين يعلمه أن ملك الروم قد توجه إليه، ويأمره أن يقيم مكانه، خوفاً عليه من الروم، إلى أن يرد عليه كتابه، وضمن لمن يوصل كتابه إلى الأفشين عشرة آلاف درهم.
فسارت الرسل بالكتاب إلى الأفشين، فلم يروه لأنه أوغل في بلاد الروم، وكتب المعتصم إلى أشناس يأمره بالتقدم، فتقدم المعتصم من ورائه، فلما رحل أشناس نزل المعتصم مكانه، حتى صار بينه وبين أنقرة ثلاث مراحل، فضاق عسكر المعتصم ضيقاً شديداً من الماء والعلف.

وكان أشناس قد أسر في طريقه عدة أسرى، فضرب أعناقهم، حتى بقي منهم شيخ كبير، فقال له: ما تنتفع لقتلي، وأنت وعسكرك في ضيق، وها هنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفاً منكم، وهم بالقرب منأن معهم الطعام والشير وغيرهمأن فوجه معي قوماً لأسلمهم إليهم، وخل سبيلي! فسير معه خمسمائة فارس، ودفع الشيخ إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى أراك هذا الشيخ سبياً كثيرأن أوغنيمة كثيرة، فخل سبيله.
فسار بهم الشيخ فأوردهم على واد وحشيش، فأمرجوا دوابهم، وشربوأن وأكلوأن وساروا حتى خرجوا من الغيضة، وسار بهم الشيخ حتى أتى جبالً، فنزله ليلأن فلما أصبحوا قال الشيخ: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوق، فيأخذان من أدركا! فصعد أربعة، فاخذوا رجلاً وامرأة، فسألهما الشيخ عن أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة، فلما رأوا العسكر أدخلوا النساء والصبيان الملاحة، وقاتلوهم على طرفهأن وغمن المسلمون منهم وأخذوا من الروم عدة أسرى وفيهم من فيه جراحات عتق متقدمة، فسألوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، وذلك أن الملك لما كان معسكراً أتاه الخبر بوصول الأفشين في عسكر ضخم من ناحية الأرمنياق، واستخلف على عسكره بعض أقربائه، وسار إليهم، فواقعناهم صلاة الغداة، فهزمناهم وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم. فلما كان الظهر رجع فرسانهم فقالتونا قتالاً شديداً حتى فرقوا عسكرنا واختلطوا بنأن فلم ندر أين الملك، وانهزمنا منهم، ورجعنا إلى معسكر الملك الذي خلقه، فوجدنا العسكر قد انتقض، وأصروا عن قرابة الملك.
فلما كان الغد جاء الملك في جماعة يسيرة فرأى عسكره قد اختل، وأخذ الذي كان استخلفه عليهم، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون أن لا يأخذوا أحداً انصرف من العسكر إلا ضربوه بالسياط، وردوه إلى مكان سماه لهم الملك، ليجتمع إليه الناس، يلقى المسلمين، وإن الملك وجه خصياً له إلى أنقرة ليحفظ أهلهأن فرآهم قد أجلوا عنهأن فكتب إلى الملك بذلك، فأمره بالمسير إلى عمورية، فرجع مالك بن كيدر بما معهم من الغنيمة والأسرى إلى عسكر أشناس، وغمنوا في طريقهم بقرأن وغمناً كثيرأن وأطلق الشيخ، فلما بلغ مالك بن كيدر عسكر أشناس أخبره بما سمع، فأعلم المعتصم بذلك، فسر به.
فلما كان بعد ثلاثة أيام جاء البشير من ناحية الأفشين بخبر السلامة، وكانت الوقعة لخمس بقين من شعبان، فلما كان الغد قدم الأفشين على المعتصم وهوبأنقرة، فأقاموا ثلاثة أيام، ثم جعل المعتصم العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، وعسكر الأفشين في الميمنة، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر أن يكون له ميمنة وميسرة، وأمرهم أن يحرقوا القرى، ويخربوهأن ويأخذوا من لحقوا فيهأن ثم ترجع كل طائفة إلى صاحبهأن يفعلون ذلك في ما بين أنقرة وعمورية، وبينهما سبع مرحل، ففعلوا ذلك حتى وافوا عمورية.
وكان أول من وردها أشناس، ثم المعتصم، ثم الأفشين، فداروا حولهأن وقسمها بين القواد، وجعل لكل واحد منهم أبراجاً منها على قدر أصحابه، وكان رجل من المسلمين قد أسره الروم بعمورية فتنصر، فلما رأى المسلمين خرج عليهم، فأخبر المعتصم أن موضعاً من المدينة وقع سوره في سيل أتاه، فكتب الملك إلى عامل عمورية ليعمره، فتوانى، فلما خرج الملك من القسطنطينية خاف العامل أن يرى السور خرابأن فبنى وجهه حجراً حجرأن وعمل الشرف على جسر خشب، فرأى المعتصم ذلك المكان، فأمر بضرب خيمته هناك، ونصب المجانيق على ذلك الموضع، فانفرج السور من ذلك الموضع.

فلما رأى الروم ذلك جعلوا عليه خشباً كباراً كل عود يلزق الآخر، وكان المنجنيق يكسر الخشب، فجعلوا عليه براذع، فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع تصدع السور، وكتب الخصي، وبطريق عمورية، واسمه ناطس، كتاباً إلى ملك الروم يعلمه أمر السور، وسيره مع رجلين، فأخذهما المسلمون، وسألهما المعتصم، وفتشهمأن فرأى الكتاب وفيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة، وقد كان دخوله إليها خطأن وأن ناطس عازم على أن يركب في خاصته ليلأن ويحمل على العسكر كائناً ما كان، حتى يخلص ويسير إلى الملك؛ فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر لهما ببدرة، وهي عشرة آلاف درهم، وخلع، فأسلمأن فأمر بهمأن فطافا حول عمورية، وأن يقفا مقابل البرج الذي فيه ناطس، فوقفا وعليهما الخلع، والأموال بين أيديهمأن فعرفهما ناطس ومن معه من الروم، فشتموهما.
وأمر المعتصم بالاحتياط في الحراسة ليلاً ونهارأن فلم يزالوا كذلك حتى انهدم السور ما بين برجين من ذلك الموضع، وكان المعتصم أمر أن يطم خندق عمورية بجلود الغمن المملوءة تراباً فطموه، وعمل دبابات كباراً تسع كل دبابة عشرة رجال ليدحرجوها على الجلود إلى السور، فدحرجوا واحدة منهأن فلما صارت في نصف الخندق تعلقت بتلك الجلود، فما تخلص من فيها إلا بعد شدة وجهد، وعمل سلاليم ومنجنيقات.
فلما كان الغد من يوم انهدم السور قاتلهم على الثلمة، فكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقأن فلم يمكنهم الحرب فيه، فأمدهم المعتصم بالمنجنيقات التي حول السور، فجمع بعضها إلى بعض حول الثلمنة، وأمر أن يرمي ذلك الموضع.
وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، وأجادوا الحرب، وتقدموأن والمعتصم على دابته بإزاء الثلمة، وأشناس، والأفشين، وخواص القواد معه، فقال المعتصم: ما أحسن ما كان الحرب اليوم! وقال عمر الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، فأمسك أشناس.
فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم والناس، وقرب أشناس من مضربه، ترجل له القواد، كما مانوا يفعلون، وفيهم الفرغاني، وأحمد ابن الخليل بن هشام، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا! ايش تمشون بين يدي، كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقلون الحرب اليوم أجود منها أمس؛ كان يقاتل أمس غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم، فلما انصرف الفرغاني، وأحمد بن الخليل، قال أحدهما للأخر: إلا ترى إلى هذا العبد ابن الفاعلة، يعني أشناس، ما صنع اليوم؟ أليس الدخول إلى الروم أهون من هذا؟ فقال الفرغاني لأحمد، وكان عنده علم من العباس بن المأمون: سيكفيك الله أمره عن قريب، فألح أحمد عليه، فأخبره، فأشار عليه أن يأتي العباس فيكون في أصحابه، فقال أحمد: هذا أمر أظنه لا يتم، قال الفرغاني: قد تم، وأرشده إلى الحارث السمرقندي فأتاه، فرفع الحارث خبره إلى العباس، فكره العباس أن يعلم بشيء من أمره، فأمسكوه عنه.
فلما كان اليوم الثالث كان الحرب على أصحاب المعتصم، ومعهم المغاربة والأتراك، وكان القيم بذلك إيتاخ، فقاتلوأن وأحسنوأن واستع لهم هدم السور، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت الجراحات في الروم.
وكان بطارقة الروم قد اقتسموا أبراج السور، وكان البطريق الموكل بهذه الناحية وندوأن وتفسيره ثور، فقاتل ذلك اليوم قتالاً شديدأن وفي الأيام قبله، ولم يمده ناطس، ولا غيره بأحد، فلما كان الليل مشى وندوا إلى الروم فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلأن وإلا ذهبت المدينة؛ فلم يمدوه بأحد وقالوا: لا مندك ولا تمدنأن فعزم هووأصحابه على الخروج إلى المعتصم يسألونه الأمان على الذرية، ويسلمون إليه الحصن بما فيه.

فلما أصبح وكل أصحابه بجانبي الثلمة وأمرهم أن لا يحاربوأن وقال: أريد الخروج إلى المعتصم، فخرج إليه فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن القتال، حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون: لا تخشوأن وهم يتقدمون، ووندوا جالس عند المعتصم، فأركبه فرسأن وتقدم الناس حتى صاروا في الثلمة وعبد الوهاب بن علي بين يدي المعتصم يومئ إلى المسلمين بالدخول، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا وضرب بيده على لحيته، فقال له المعتصم: ما لك؟ قال: جئت أسمع كلامك، فغدرت بي، قال المعتصم: كل شيء تريده فهولك، ولست أخالفك؛ قال: ايش تخالفني، وقد دخل الناس المدينة.
وصار طائفة كبيرة ن الروم إلى كنيسة كبيرة لهم، فأحرقها المسلمون عليهم، فهلكوا كلهم؛ وكان ناطس فر برجه، حوله أصحابه، فركب المعتصم ووقف مقابل ناطس، فقيل له: يا ناطس! هذا أمير المؤمنين، وظهر من البرج وعليه سيف، فنحاه عنه، ونزل حتى وقف بين يديه، فضربه سوطأن وسار المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه! فمشى قليلأن فأمر المعتصم بحمله، وأخذ السيف الروم، وأقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه، فأمر المعتصم أن يعزل منهم أهل اشرف، ونقل من سواهم، وأمر ببيع المغامن في عدة مواضع، فبيع منها في أكثر من خمسة أيام، وأمر الباقي فأحرق.
وكان لا ينادي على شيء أكثر من ثلاثة أصوات ثم يوجب بيعه، طلباً للسرعة؛ وكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة وعشرة عشرة، طلباً للسرعة، ولما كان، في بعض الأيام، بيع المغامن، وهوالذي كان عجيف وعد الناس أن يثور فيه بالمعتصم على ما نذكره، وثب الناس على المغامن، فركب المعتصم، والسيف في يده، وسار ركضاً نحوهم، فتنحوا عنهأن وكفوا عن النهب، فرجع إلى مضربه، وأمر بعمورية فهدمت وأحرقت، وكان نزوله عليها لست خلون من شهر رمضان، وأقام عليها خمسة وخمسين يوماً، وفرق الأسرى على القواد، وسار نحوطرسوس.
ذكر حبس العباس بن المأمونفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون، وأمر بلعنه.
وكان سبب ذلك أن عجيف بن عنبسة لما وجهه المعتصم إلى بلاد الروم لما كان ملك الروم بزبطرة، مع عمر الفرغاني ومحمد كوتاه، لم يطلق يد عجيف في النفقات، كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، وظهر ذلك لعجيف. فوبخ العباس بن المأمون على ما تقدم من فعله عند وفاة المامون، حتى بايع المعتصم، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.
فقبل العباس قوله، ودس رجلاً يقال له الحراث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح، وكان العباس يأنس به، وكان الحارث أديباً له عقل ومداراة، فجعله العباس رسوله، وسفره إلى القواد، وكان يدور في العسكر، حتى استمال له جماعة من القواد، وبايعوه، وجماعة من خواص المعتصم، وقال لكل من بايعه: إذا أظهرنا أمرنا فليثب كل منكم بالقائد الذي هومعه، فوكل من بايعه من خواص المعتصم بقتله. ومن بايعه من خاصة الأفشين بقتله، ومن بايعه من خاصة أشناس بقتله، وكذلك غيرهم، فضمنوا له ذلك.
فلما دخل الردب، وهم يريدون أنقرة وعمورية، دخل الأفشين من ناحية ملطية، فأشار عجيف على العباس أن يثب بالمعتصم في الدرب، وهوفي قلة من الناس، فيقتله ويرجع إلى بغداد، فإن الناس يفرحون بانصرافهم إلى بغداد من الغزو، فأبى العباس ذلك، وقال: لا أفسد هذه الغزاة، حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم! قد فتحت عمورية، والرجل مكن، تضع قوماً ينهبون بعض الغنائم، فإذا بلغه ذلك ركب في سرعة، فتأمر بقتله هناك؛ فأبى عليه، وقال: انتظر حتى يصير إلى الدروب، ويخلوكما كان أول مرة، وهوأمر ممكن منه ها هنا.
وكان عجيف قد أمر من ينهب المتاع، ففعلوأن وركب المعتصم، وجاء ركضأن وسكن الناس، ولم يطلق العباس أحداً من أولئك الذين واعدهم، وكرهوا قتله بغير أمر العباس.
وكان الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، وله قرابة غلام أمرد من خاصة المعتصم، فجاء الغلام إلى ولد عمر الفرغاني، وشرب عندهم تلك الليلة، فأخبرهم خبر ركوب المعتصم، وأنه كان معه، وأمره أن يسل سيفه ويضرب كل من لقيه، فسمع عمر ذلك من الغلام، فأشفق عليه من أن يصاب، فقال: يا بني! أقلل من المقام عند أمير المؤمنين، والزم خيمتك، وإن سمعت صيحة وشغباً فلا تبرح فإنك غلام غر، ولا تعرف العساكر، فعرف مقالة عمر.

وارتحل المعتصم إلى الثغور، ووجه الأفشين ابن الأقطع، وأمره أن يغير على بعض المواضع، ويوافيه في الطريق، فمضى وأغار، وعاد إلى العسكر في بعض المنازل ومعه الغنائم، فنزل بعسكر الأفشين، وكان كل عسكر على حدة، فتوجه عمر الفرغاني، وأحمد بن الخليل من عسكر أشناس إلى عسكر الأفشين ليشتريا من السبي شيئأن فلقيهما الأفشين فترجلأن وسلما عليه، وتوجها إلى الغنيمة، فرآهما صاحب أشناس، فأعلمه بهمأن فأرسل أشناس إليهما بعض أصحابه لينظر ما يصنعان، فجاء فرآهما وهما ينتظران بيع السبي، فرجع فأخبر أشناس الخبر، فقال أشناس لحاجبه: قل لهما يلزما العسكر، وهوخير لهمأن فاغتما لذلك، واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس، فأتياه وقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، فضمنا إلى من شاء، فإن هذا الرجل يستخف بنأن قد شتمنأن وتوعدنأن نحن نخاف أن يقدم علينا فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أراد.
فأنهى ذلك إلى المعتصم، واتفق الرحيل، وسار أشناس والأفشين مع المعتصم، فقال لأشناس: أحسن أدب عمر وأحمد، فإنهما قد حمقا أنفسهما! فجاء أشناس إلى عسكره، فأخذهمأن وحبسهمأن وحملهما على بغل، حتى صارا بالصفصاف، فجاء ذلك الغلام، وحكى للمعتصم ما سمع من عمر الفرغاني في تلك الليلة، فأنفذ المعتصم بغأن وأخذ عمر من عند أشناس، وسأله عن الذي قاله لغلام، فأنكر ذلك، وقال: إنه كان سكران، ولم يعلم ما قلت، فدفعه إلى إيتاخ؛ وسار المعتصم، فأنفذ أحمد بن الخليل إلى أشناس يقول له: إن عندي نصيحة لأمير المؤمنين، فبعث إليه يسأله عنهأن فقال: لا أخبر بها إلا أمير المؤمنين، فحلف أشناس: إن هولم يخبرني بهذه النصيحة لأضربنه بالسياط حتى يموت.
فلما سمع ذلك أحمد حضر عند أشناس، وأخبره خبر العباس بن المأمون، والقواد، والحارث السمرقندي، فأنفذ أشناس، وأخذ الحارث وقيده وسيره إلى المعتصم، وكان قد تقدم، فلما دخل على المعتصم أخبره بالحال جميعه، وبجميع من بايعهم من القواد وغيرهم، فأطلقه المعتصم، وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم.
وأحضر المعتصم العباس بن المأمون وسقاه حتى سكر، وحلفه أن لا يكتمه من أمره شيئأن فشرح له أمره كله مثل ما شرح الحارث، فأخذه وقيده وسلمه إلى الأفشين، فحبسه عنده.
وتتبع المعتصم أولئك القواد، وكانوا يحملون في الطريق على بغال بلا وطاء، وأخذ أيضاً الشاه بن سهل، وهومن أهل خراسان، فقال له المعتصم: يابن الزاني! أحسنت إليك فلم تشكر؛ فقال: ابن الزانية هذأن وأومأ إلى العباس، وكان حاضرأن لوتركني ما كنت الساعة تقدر أن تجلس هذا المجلس، وتقول هذا الكلام! فأمر به فضربت عنقه، وهوأول من قتل منهم، ودفع العباس إلى الأفشين.
فلما نزل منبج طلب العباس بن المأمون الطعام، فقدم إليه طعام كثير، فأكل ومنع الماء، وأدرج في مسح، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته.
وأما عمر الفرغاني فلما وصل المعتصم إلى نصيبين حفر له بئرأن وألقاه فيها وطمها عليه.
وأما عجيف فمات بباعيناثا من بلد الموصل، وقيل بل أطعم طعاماً كثيرأن ومنع الماء، حتى مات بباعيناثا.
وتتبع جميعهم، فلم يمض عليهم إلا أيام قلائل حتى ماتوا جميعاً، ووصل المعتصم إلى سامرا سالمأن فسمى العباس يومئذ اللعين، وأخذ أولاد المأمون من سندس، فحبسهم في داره حتى ماتوا بعد. ومن أحسن ما يذكر أن محمد بن علي الإسكافي كان يتولى إقطاع عجيف، فرفع أهله عليه إلى عجيف، فأخذه، وأراد قتله، فبال في ثيابه خوفاً من عجيف، ثم شفع فيه، فقيده وحبسه، ثم سار إلى الروم، وأخذه المعتصم، كما ذكرنأن وأطلق من كان في حبسه، وكانوا جماعة نهم الإسكافي، ثم استعلم على نواح بالجزيرة، ومن جملتها باعيناثا. قال: فخرجت يوماً إلى تل باعيناثأن فاحتجت إلى الوضوء، فجئت إلى تل فلبت عليه، ثم توضأت ونزلت، وشيخ باعيناثا ينتظرني، فقال لي: في هذا التل قبر عجيف، وأرانيه، فإذا أنا قد بلت عليه، وكان بين الأمرين سنة لا تزيد يوماً ولا تنقص يوماً.
ذكر وفاة زيادة الله بن الأغلب وابتداء ولاية أخيه الأغلب

في هذه السنة رابع عشر رجب توفي زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، وكان عمره إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر، وولي بعده أخوه أبوعفان الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب، فأحسن إلى الجند، وأزال مظالم كثيرة، وزاد العمال في أرزاقهم، وكف أيديهم عن الرعية، وقطع النبيذ والخمر عن القيروان، وسير سرية سنة أربع وعشرين ومائتين إلى صقلية فغمنت وسلمت.
وفي سنة خمس وعشرين ومائتين استأمن عدة حصون من جزيرة صقلية إلى المسلمين، منها: حصن البلوط، وابلاطنو، وقرلون، ومرو، وسار أسطول المسلمين إلى قلورية ففتحهأن ولقوا أسطول صاحب القسطنطيية، فهزموه بعد قتال، فعاد الأسطول إلى القسطنطينية مهزومأن فكان فتحاً عظيماً.
وفي سنة ست وعشرين ومائتين سارت سرية للمسلمين بصقلية إلى قصر يانة، فغمنت، وأحرقت وسبت، فلم يخرج إليها أحد، فسارت إلى حصن الغيران، وهوأربعون غارأن فغمنت جميعهأن وتوفي الأمير أبوعفان فيها على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثورح في هذه السنة، في شوال، إسحاق بن إبراهيم، جرحه خادم له، وحج بالناس هذه السنة محمد بن داود.
وفي هذه السنة سير عبد الرحمن بن الحكم صاحب الأندلس جيشاً إلى ألبة، والقلاع، فنزلوا حصن الغرات، وحصوره، وغمنوا ما فيه، وقتلوا أهله، وسبوا النساء والذؤية وعادوا.
حوادث سنة أربع وعشرين ومائتين

ذكر مخالفة مازيار بطبرستان
في هذه السنة أظهر مازيار بن قارن بن هرمز الخلاف على المعتصم بطبرستان، وعصى وقاتل عساكره.
وكان سببه أن مازيار كان منافراً عبد الله بن طاهر لا يحمل إليه خراجه، وكان المعتصم يأمره بحمله إلى عبد الله، فيقول: لا أحمله إلا إليك، وكان المعتصم ينفذ من يقبضه من أصحاب مازيار بهمذان، ويسلمه إلى وكيل عبد الله بن طاهر يرده إلى خراسان.
وعظم الشر بين مازيار وعبد الله، وكان عبد الله يكتب إلى المعتصم، حتى استوحش من مازيار، فلما ظفر الأفشين ببابك، وعظم محله عند المعتصم، طمع في ولاية خراسان، فكتب إلى مزيار يستميله، ويظهر له المودة، ويعلمه أن المعتصم قد وعده ولاية خراسان، ورجا أنه إذا خالف مازيار سيره المعتصم إلى حربه، وولاه خراسان، فحمل ذلك مازيار على الخلاف، وترك الطاعة، ومنع جبال طبرستان، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربته، وكتب الأفشين إلى مازيار يأمره بمحاربة عبد الله، وأعمله أنه يكون له عند المعتصم كما يجب، ولا يشك الأفشين أن مازيار يقوم في مقابلة ابن طاهر، وأن المعتصم يحتاج إلى إنفاذه وإنفاذ عساكر غيره.
فلما خالف دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرهأن واخذ الرهائن فحبسهم، وأمر أكرة الضياع بانتهاب أربابها.
وكان مازيار أيضاً يكاتب بابك، واهتم مازيار بجمع الأموال من تعجيل الخراج وغيره، وفجبى في شهرين ما كان يؤخذ في سنة، ثم أمر قائداً له يقال له سرخاستان، فأخذ أهل آمل، وأهل سارية جميعهم، فنقلهم إلى جبل على النصف ما بين سارية وآمل، يقال له هرمزاباذ، فحبسهم فيه، وكانت عدتهم عشرين ألفأن فلما فعل ذلك تمكن من أمره، وأمر بتخريب سور آمل، وسور سارية، وسور طميس، فخربت الأسوار.
وبني سرخاستان سوراً من طميس إلى البحر، مقدار ثلاثة أميال، كانت الأكاسرة بنته لتمنع الترك من الغارة على طبرستان، وجعل له خندقأن ففزع أهل جرجان، وخافوأن فهرب بعضهم إلى نيسابور، فأنفذ عبد الله ابن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف لحفظ جرجان، وأمره أن ينزل على الخندق الذي عمله سرخاستان، فسار حتى نزله، وصار بينه وبين سرخاستان صاحب الخندق، ووجه أيضاً ابن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس، فعسكر على حد جبال شروين، ووجه المعتصم من عنده محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم، ومعه الحسن ابن قارن الطبري، ومن كان عنده من الطبرية، ووجه المنصور بن الحسن صاحب دنباوند إلى الري ليدخل طبرستان من ناحية الري، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند.

فلما أحدقت الخيل بمازيار من كل جانب كان أصحاب سرخاستان يتحدثون مع أصحاب الحسن بن الحسين، حتى استأنس بعضهم ببعض، فتوامر بعض أصحاب الحسن في دخول السور، فدخلوه إلى أصحاب سرخاستان على غفلة من الحسن، ونظر الناس بعضهم إلى بعض، فثاروأن وبلغ الخبر إلى الحسن، فجعل يصيح بالقوم، ويمنعهم خوفاً عليهم، فلم يقفوأن ونصبوا علمه على معسكر سرخاستان؛ وانتهى الخبر إلى سرخاستان، وهوفي الحمام، فهرب في غلالة، وحيث رأى الحسن أن أصحابه قد دخلوا السور قال: اللهم إنهم عصوني وأطاعوك، فانصرهم.
وتبعهم أصحابه حتى دخلوا إلى الدرب من غير مانع، واستولوا على عسكر سرخاستان، وأسر أخوه شهريار، ورجع الناس عن الطلب لما أدركهم الليل، فقتل الحسن شهريار، وسار سرخاستان حافياً فجهده العطش، فنزل عن دابته، وشدهأن فبصر به رجل من أصحابه، وغلام اسمه جعفر، وقال سرخاستان: يا جعفر! تسقني ماء، فقد هلكت عطشاً؛ فقال: ليس عندي ما أسقيك فيه.
قال جعف: واجتمع إلي عدة من أصحابي، فقلت لهم: هذا الشيطان قد أهلكنأن فلم لا نتقرب إلى السلطان به، ونأخذ لأنفسنا الأمان؟ فثاورناه، وكتفناه، فقال لهم: خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني، فإن العرب لا تعطيكم شيئاً؛ فقالوا: أحضرها! فقال: سيروا معي إلى المنزل لتقبضوهأن وأعطيكم المواثيق على الوفاء، فلم يفعلوأن وساروا به نحوعسكر المعتصم، ولقيتهم خيل الحسن بن الحسين، فضربوهم، وأخذوه منهم، وأتوا به الحسن، فأمر به فقتل.
وكان عند سرخاستان رجل من أهل العراق يقال له أبوشاس يقول الشعر، وهوملازم له ليتعلم منه أخلاق العرب، فلما هجم عسكر العرب على سرخاستان انتهبوا جميع ما لأبي شاس، وخرج، واخذ جرة فيها ماء، واخذ قدحأن وصاح: الماء للسبيل، وهرب، فمر بمضرب كاتب الحسن، فعرفه أصحابه، فادخلوه إليه، فأكرمه وأحسن إليه، وقال له: قل شعراً تمدح به الأمير، فقال: والله ما بقي في صدري شيء من كتاب الله من الخوف، فكيف أحسن الشعر؟ ووجه الحسن برأس سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر؛ وكان حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر قد أقبل مع الحسن، كما ذكرنأن وهوبناحية طميس، وكاتب قارن بن شهريار، وهوابن أخي مازيار، ورغبه في المملكة، وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار، وقد أنفذه مازيار مع أخيه عبد الله بن قارن، ومعه عدة من قواده، فلما استماله حيان ضمن له قارن أن يسلم إليه الجبال ومدينة سارية إلى حدود جرجان، على هذا الشرط، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، فأجابه إلى كل ما سأل، وأمر حيان أن لا يوغل حتى يستدل على صدق قارن، وهوأخومازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه، فلما وضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح، وكتفهم ووجه بهم إلى حيان، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب في اصحبه حتى دخل جبال قارن.
وبلغ الخبر مازيار فاغتم لذلك، فقال له القوهيار: في حبسك عشرون ألفاً من بين حائك، وإسكاف، وحداد، وقد شغلت نفسك بهم، وإمنا أتيت من مأمنك وأهل بيتك، فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك؟ قال: فأطلق مازيار جميع من في حبسه، ودعا جماعة من أعيان أصحابه، وقال لهم: إن بيوتكم في السهل، وأخاف أن يؤخذ حرمكم وأموالكم، فانطلقوا وخذوا لأنفسكم أماناً ففعلوا ذلك.
ولما بلغ أهل سارية أخذ سرخاستان ودخول حيان جبل شروين وثبوا على عامل مازيار بسارية، فهرب منهمن وفتح الناس السجن، وأخرجوا من فيه؛ وأتى حيان إلى مدينة سارية، وبلغ قوهيار أخا مازيار الخبر، فأرسل إلى حيان مع محمد بن موسى بن حفص يطلب الأمان، وأن يملك على جبال أبيه وجده ليسلم إليه مازيار، فحضر عند حيان ومعه أحمد ابن الصقر، وأبلغاه الرسالة، فأجاب إلى ذلك.
فلما رجعا رأى حيان تحت أحمد فرساً حسنأن فأرسل إليه وأخذه منه، فغضب أحمد من ذلك وقال: هذا الحائك العبد يفعل بشيخ مثلي ما فعل! ثم كتب إلى قوهيار: ويحك! لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن ابن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر، وتدخل في أمان هذا العبد الحائك، وتدفع إليه أخاك، وتضع قدرك، وتحقد عليك الحسن بتركك إياه، وبميلك إلى عبد من عبيده؟

فكتب إليه قوهيار: أراني قد غلطت في أول الأمر، وعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد، ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويستبيح دمي ومنزلي وأموالي، وإن قاتلته، فقتلت من أصحابه، وجرت الدماء فسد كل ما عملناه، ووقعت الشحناء.
فكتب إليه أحمد: إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلاً من أهلك، وأكتب إليه أنه قد عرضت علة منعتني عن الحركة، وأنك تتعالج ثلاثة أيام، فإن عوفيت، وإلا سرت إليك في محمل، وسنحمله نحن على قبول ذلك، فأجابه إليه، وكتب أحمد بن الصقر، ومحمد بن موسى بن حفص إلى الحسن بن الحسين وهوبطميس: أن اقدم علينا لندفع إليك مازيار والخيل، وإلا فاتك؛ ووجها الكتاب إليه مع من يستحثه.
فلما وصل الكتاب ركب من ساعته، وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة، وانتهى إلى سارية، فلما أصبح تقدم إلى خرماباذ، وهوالموعد بين قوهيار وحيان، وسمع حيان وقع طبول الحسن، وفتلقاه على فرسخ، فقال له الحسن: ما تصنع ها هنا؟ ولم توجه إلى هذا الموضع؟ وقد فتحت جبال شروين وتركتهأن فما يؤمنك أن يغدر أهلهأن فينتقض جميع مات عملنا؟ ارجع إليهم حتى لا يمكنهم الغدر إن هموا به. فقال حيان: أريد أن أحمل أثقالي وآخذ أصحابي؛ فقال له الحسن: سر أنت، فأنا باعث بأثقالك وأصحابك.
فخرج حيان من فوره، كما أمره، وأتاه كتاب عبد الله بن طاهر أن يعسكر بكور، وهي من جبال وندادهرمز، وهي أحصنهأن وكانت أموال مازيار بهأن فأمر عبد الله أن لا يمنع قارن مما يريد من الأموال والجبال، فاحتمل قارن مما كان بها وبغيرها من أموال مازيار وسرخستان، وانتقض على حيان ما كان عمله بسبب شرهه إلى ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان، فوجه عبد الله مكانه عمه محمد بن الحسين ين مصعب، وسار الحسن بن الحسين إلى خرماباذ، فأتاه محمد بن موسى بن حفص، وأحمد بن الصقر، فشكرهما وكتب إلى قوهيار، فأتاه، فأحسن إليه الحسن، وأكرمه، وأجابه إلى جميع ما طلب إليه منه لنفسه وتواعدوا يوماً يحضر مازيار عنده.
ورجع قوهيار إلى مازيار، فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان، واستوثق له. وركب الحسن يوم الميعاد وقت الظهر، ومعه ثلاثة غلمان أتراك، وأخذ إبراهيم بن مهران يدله على الطريق إلى أرم، فلما قاربها خاف إبراهيم، وقال: هذا موضع لا يسلكه إلا ألف فارس، فصاح به: امض! قال: فمضيت وأنا طائش العقل، حتى وافينا ارم، فقال: أين طريق هرمزباذ قلت: على هذا الجيل في هذا الطريق، فقال: سر إليهاّ فقلت: الله الله في نفسك وفينأن وفي هذا الخلق الذين معك، فصاح: امض يا ابن اللخناء! فقلت: اضرب عنقي أحب إلي من أن يقبلني مازيار، ويلزمني الأمير عبد الله الذني. فانتهرني حتى ظننت أنه يبطش بي، فسرت وأنا خائف فأتينا هرمزباذ مع اصفرار الشمس، فنزل فجلس ونحن صيام.
وكانت الخيل قد تقطعت لأنه ركب بغير علم الناس، فعلموا بعد مسيره. قال: وصلينا المغرب، وأقبل الليل، وإذ بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلأن مقبلين من طريق لبورة، فقال الحسن: أين طريق لبورة؟ فقلت: أرى عليه فرساناً ونيرانأن وأنا داهش لا أقف على حقيقة الأمر، حتى قربت النيران، فنظرت، فإذا المازيار مع القوهيار، فنزلأن وتقدم مازيار فسلم على الحسن، فلم يرد عليه السلام، وقال لرجلين من أصحابه: خذاه إليكمأن فأخذاه، فلما كان السحر وجه السن مازيار معهما إلى سارية، وسار الحسن إلى هرمزاباذ، فأحرق قصر مازيار، وانهب ماله وسار إلى خرماباذ، وأخذ إخوة مازيار فحبسوا هنالك، ووكلوا بهم، وسار إلى مدينة سارية، فأقام بهأن وحبس ماززيا.
ووصل محمد بن إبراهيم بن مصعب إلى الحسن بن الحسين، فسار به ليناظره في معنى المال الذي لمازيار وأهله، فكتب إلى عبد الله بن طاهر، فأمر الحسن بتسليم مازيار وأهله إلى محمد بن إبراهيم ليسير بهم إلى المعتصم، وأمره أن يستقصي على أموالهم ويحرزهأن فاحضر مازيار وسأله عن أمواله، فذكر أنها عند خزانة، وضمن قوهيار ذلك، وأشهد على نفسه، وقال مازيار: اشهدوا علي أن جميع ما أخذت من أموالي ستة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت، وثمانية أحمال من ألوان الثياب، وتاج، وسيف مذهب مجوهر، وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرً، قيمته ثمانية عشر ألف ألف ردهم، وقد سلمت ذلك إلى خازن عبد الله بن طاهر، وصاحب خبره على العسكر.

وكان مازيار قد استخلف هذا ليوصله إلى الحسن بن الحسين ليظهر للناس والمعتصم أنه أمنه على نفسه، وماله، وولده، وأنه جعل له جبال أبيه، فامتنع الحسن من قبوله، وكان أعف الناس.
فلما كان الغد أنفذ الحسن مازيار إلى المعتصم مع يعقوب بن المنصور، ثم أمر الحسن قوهيار أن يأخذ بغاله ليحمل عليها مال مازيار، فأخذهأن وأراد الحسن أن ينفذ معه جيشأن فقال: لا حاجة لي بهم.
وسار هووغلمانه، فلما فتح الخزائن، وأخرج الأموال وعبأها ليحملهأن وثب عليها مماليك المرزبان، وكانوا ديالمة، وقالوا: غدرت بصاحبنأن وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله! وكانوا ألفاً ومائتين، فأخذوه، وقيدوه، فلما جنهم الليل قتلوه، وانتهبوا الأموال والبغال؛ فانتهى الخبر إلى الحسن ابن الحسين، فوجه جيشأن ووجه قارن جيشأن فأخذ أصحاب قارن منهم عدة منهم ابن عم مازيار يقال له: شهريار بن المصمغان، وكان هويحرضهم، فوجهه قارن إلى عبد الله بن طاهر فمات بقومس.
وعلم محمد بن إبراهيم خبرهم، فأرسل في أثرهم، فاخذوأن وبعث بهم إلى مدينة سارية.
وقيل: إن السبب في أخذ مازيار كان ابن عم له اسمه قوهيار كان له جبال طبرستان وكان لمازيار السهل؛ وجبال طبرستان ثلاثة أجبل: جبل وندادهرمز، وجبل أخيه ونداسنجان، والثالجبل شروين بن سرخاب، فقوي مازيار، وبعث إلى ابن عمه قوهيار، وقيل هوأخوه فألومه بابه، وإلى الجيل والياً من قبله له دري، فلما خالف مازيار واحتاج إلى الرجال دعا قوهيار، وقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين، ومكاتبته، وأمره بالعود إلى جبله، وحفظه، وأمر الدري بالمجيء إليه، فأتاه فضم إليه العساكر، ووجهه إلى محاربة الحسن بن الحسين، عم عبد الله بن طاهر.
وظن مازيار أنه قد استوثق من الجبل بقوهيار، وتوثق من المواضع المخوفة بدري وعساكره، واجتمعت العساكر عليه، كما تقدم ذكره، وقربت منه.
وكان مازيار، في مدينته، في نفر يسير، فدعا قوهيار الحقد الذي في قلبه على مازيار وما صنع به إلى أن كاتب الحسن بن الحسين، وأعلمه جميع ما في عسكره ومكاتبه الافشين، فأنفذ الحسن كتاب قوهيار إلى عبد الله بن طاهر، فأنفذه عبد الله إلى المعتصم، وكاتب عبد الله والحسن قوهيار، وضمنا له جميع ما يريد، وأن يعيد إليه جبله، وما كان بيده لا ينازعه فيه أحد، فرضي بذلك، وواعدهم يوماً يسلم فيه الجبل.
فلما جاء الميعاد تقدم الحسن فحارب دري، وأرسل عبد الله بن طاهر جيشاً كثيفأن فوافوا قوهيار، فسلم إليهم الجبل، فدخلوه، ودري يحارب الحسن ومازيار في قصره، فلم يشعر مازيار إلا والخيل على باب قصره، فأخذوه أسيراً.
وقيل إن مازيار كان يتصيد، فأخذوه وقصدوا به نحودري وهويقاتل، فلم يشعر هووأصحابه إلا وعسكر عبد الله من ورائهم، ومعهم مازيار، فاندفع دري وعسكره، واتبعوه، وقتلوه، وأخذوا رأسه وحملوه إلى عبد الله بن طاهر، وحملوا إليه مازيار، فوعده عبد الله بن طاهر إن هوأظهره على كتب الأفشين أن يسأل فيه المعتصم ليصفح عنه، فأقر مازيار بذلك، وأظهر الكتب عند عبد الله بن طاهر، فسيرها إلى إسحاق بن إبراهيم، وسير مازيار، وأمره أن لا يسلمها إلا من يده إلى يد المعتصم، ففعل إسحاق ذلك، فسأل المعتصم مازيار عن الكتب، فأنكرهأن فضربه حتى مات، وصلبه إلى جانب بابك.
وقيل إن مخالفة مازيار كانت سنة خمس وعشرين، والأول أصح، لأن قتله كان في سنة خمس وعشرين، وقيل إنه اعترف بالكتب على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عصيان منكجور قرابة الأفشينلما فرغ الأفشين من بابك وعاد إلى سامرأن استعمل على أذربيجان، وكان في عمله منكجور، وهومن أقاربه، فوجد في بعض قرى بابك مالاً عظيمأن ولم يعلم به المعتصم، ولا الأفشين، فكتب صاحب البريد إلى المعتصم، وكتب منكجور يكذبه، فتناظرأن فهم منكجور ليقتله، فمنعه أهل أردبيل، فقاتلهم منكجور.
وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين بعزل منكجور، فوجه قائداً في عسكر ضخم، فلما بلغ منكجور الخبر خلع الطاعة، وجمع الصعاليك، وخرج من أردبيل، فواقعه القائد، فهزمه، وسار إلى حصن من حصون أذربيجان التي كان بابك خربهأن فبناه، وأصلحه، وتحصن فيه، فبقي به شهراً.

ثم وثب به أصحابه، فأسلمه إلى ذلك القائد، فقدم به إلى سامرأن فحبسه المعتصم، واتهم الأفشين في أمره؛ وكان قدومه سنة خمس وعشرين ومائتين؛ وقيل إن ذلك القائد الذي أنفذ إلى منكجور كان بغا الكبير، وإن منكجور خرج إليه بأمان.
ذكر ولاية عبد الله الموصل وقتلهفي هذه السنة عصى بأعمال الموصل إنسان من مقدمي الأكراد اسمه جعفر ابن فهرجس، وتبعه خلق كثير من الأكراد وغيرهم ممن يريد الفساد، فاستعمل المعتصم عبد الله بن السيد بن أنس الأزدي على الموصل، وأمره بقتال جعفر، فسار عبد الله إلى الموصل، وكان جعفر بما نعيس قد استولى عليهأن فتوجه عبد الله إليه، وقاتله وأخرجه ما نعيس.
فقصد جبل داسن، وامتنع بموضع عال فيه لا يرام، والطريق إليه ضيق، فقصد عبد الله إلى هناك، وتوغل في تلك المضايق، حتى وصل إليه وقاتله، فاستظهر جعفر ومن معه من الأكراد على عبد الله لمعرفتهم بتلك المواضع وقوتهم على القتال بها رجالة، فانهزم عبد الله وقتل أكثر من معه.
وممن ظهر منهم إنسان اسمه رباح حمل على الأكراد، فخرق صفهم، وطعن فيهم، وقتل، وصار وراء ظهورهم، وشغلهم عن أصحابه، حتى نجا منهم من أمكنه النجاة، فتكاثر الأكراد عليه، ألقى نفسه من رأس الجبل على فرسه، وكان تحته نهر، فسقط الفرس في الماء وجاء رباح.
وكان فيمن أسره جعفر رجلان أحدهما اسمه إسماعيل والآخر إسحاق ابن أنس، وهم عم عبد الله بن السيد، وكان إسحاق صهر جعفر، فقدمهما جعفر إليه، فظن إسماعيل أنه يقتله، ولا يقتل إسحاق للصهر الذي بينهمأن فقال: يا إسحاق أوصيك بأولادي؛ فقال له إسحاق: أتظن أنك تقتل وأبقى بعدك؟ ثم التفت إلى جعفر فقال: أسألك أن تقتلني قبله لتطيب نفسه؛ فبدأ به فقتله، وقتل إسماعيل بعده.
فلما بلغ ذلك المعتصم أمر إيتاخ بالمسير إلى جعفر وقتاله، فتجهز، وسار إلى الموصل سنة خمس وعشرين، وقصد جبل داسن، وجعل طريقه على سوق الأحد، فالتقاه جعفر، فقاتله قتالاً شديدأن فقتل جعفر، وتفرق أصحابه، فانكشف شره وأذاه عن الناس.
وقيل إن جعفراً شرب سماً كان معه فمات، وأوقع إيتاخ بالأكراد، فأكثر القتل فيهم، واستباح أموالهم، وحشر الأسرى والنساء والأموال إلى تكريت.
وقيل: إن إيقاع إيتاخ بجعفر كان سنة ست وعشرين، والله أعلم.
ذكر غزاة المسلمين بالأندلسوفي هذه السنة سير عبد الرحمن عبد الله المعروف ابن البلنسي إلا بلاد العدو، فوصلوا إلى ألبة والقلاع، فخرج المشركون إليه في جمعهم، وكان بينهم حرب شديدة، وقتال عظيم، فانهزم المشركون وقتل منهم ما لا يحصى، وجمعت الرؤوس أكداسأن حتى كان الفارس لا يرى من يقابله.
وفيها خرج لذريق في عسكره، وأراد الغارة على مدينة سالم من الأندلس، فسار إليه فوتون بن موسى في عسكر رار، فلقيه وقاتله، فانهزم لذريق وكثر القتل في عسكره، وسار فرتون إلى الحصن الذي كان بناه أهل ألبة بإزاء ثغور المسلمين، فحصره، وافتتحه وهدمه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تولى جعفر بن دينار اليمن.
وفيها تزوج الحسين بن الأفشين أتراجة ابنة أشناس، ودخل بها في قصر المعتصم في جمادى الآخرة، وأحضر عرسها عامة أهل سامرأن وكانوا يغلفون العامة بالغالية، وهي في تيغار من فضة.
وفيها امتنع محمد بن عبد الله الورثاني بورثان، ثم عاود الطاعة، وقدم على المعتصم بأمان سنة خمس وعشرين ومائتين.
وفيها مات ناطس الرومي وصلب بسامرا.
وفيها مات إبراهيم بن المهدي في رمضان، وصلى عليه المعتصم؛ وحج بالناس محمد بن داود.
وفيها وقع بإفريقية فتنة كان فيها حرب بين عيسى بن ريعان الأزدي وبين لواتة وزواغة ومكناسة، فكانت الحرب بين قفصة وقسطيلية، فقتلهم عيسى عن آخرهم.
وفيها اجتمع أهل سجلماسة مع مدرار بن أليسع على تقديم ميمون بن مدرار في الإمارة على سجلماسة وإخراج أخيه المعروف بابن تقية، فلما استقر الأمر لميمون أخرج أباه وأمه إلى بعض قرى سجلماسة.
وفيها فتح نوح بن أسد كاسان وأورشت، بما وراء النهر، وكانتا قد نقضتا الصلح، وافتتح أيضاً اسبيجاب، وبنى حوله سوراً يحيط بكروم أهله ومزارعهم.
وفيها مات أبوعبيد القاسم بن سلام الإمام اللغوي، وكان عمره سبعاً وستين سنة كانت وفاته بمكة.
سلام بتشديد اللام.
حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين

ذكر وصول مازيار إلى سامرا

في هذه السنة كان وصول مازيار إلى سامرأن فخرج إسحاق بن إبراهيم فأخذه من الدسكرة، وأدخله سامرا على بغل بأكاف، لانه امتنع من ركوب الفيل، فأمر المعتصم أن يجمع بينه وبين الأفشين.
وكان الأفشين قد حبس قبل ذلك بيوم، فأقر مازيار أن الأفشين كان يكاتبه، ويحسن له الخلاف والمعصية، فأمر برد الأفشين إلى محبسه وضرب مازيار أربعمائة وخمسين سوطأن وطلب ماء للشرب، فسقي، فمات من ساعته.
وقيل ما تقدم ذكره، وقد تقدم من اعتراف مازيار بكتب الأفشين في غير موضع ما يخالف هذأن وسببه اختلاف الناقلين.
ذكر غضب المعتصم على الأفشين وحبسهوفي هذه السنة غضب المعتصم على الأفشين وحبسه.
وكان سبب ذلك أن الأفشين كان أيام محاربة بابك لا تأتيه هدية من أهل أرمينية وأذربيجان إلا وجه بها إلى اشروسنة، فيجتاز بذلك بعبد الله بن طاهر، فيكتب عبد الله إلى المعتصم يعرفه الخبر، فكتب إليه المعتصم يأمره بإعلامه بجميع ما يوجه به الأفشين، ففعل ذلك عبد الله ذلك، فكان الأفشين كلما اجتمع عنده مال يجعله على أوساط أصحابه في الهمايين ويسيره إلى أشروسنة.
فأنفذ مرة مالاً كثيرأن فبلغ أصحابه إلى نيسابور، فوجه عبد الله بن طاهر، ففتشهم، فوجد المال في أوساطهم، فقال: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: للأفشين؛ فقال: كذبتم، لوأراد أخي الأفشين أن يرسل مثل هذه الهدايا والأموال لكتب يعلمني ذلك الأمر بتسييره، وإمنا أنتم لصوص.
وأخذ عبد الله المال فأعطاه الجند، وكتب إلى الأفشين يذكره له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال ولم تعلمني، وقد أعطيته الجند عوض المال الذي يوجهه أمير المؤمنين، فغن كان المال لك كما زعموا فإذا جاء المال من عند أمير المؤمنين رددته عليك، وإن يكن غير هذأن فأمير المؤمنين أحق بهذا المال، وإمنا دفعته إلى الجند لأني أريد أن أوجههم إلى بلاد الترك.
فكتب إليه الأفشين: إن مالي ومال أمير المؤمنين واحد، وسأله إطلاق القوم، فأطلقهم، فكان ذلك سبب الوحشة بينهما.
وجعل عبد الله يتتبعه، وكان الأفشين يسمع من المعتصم ما يدل على أنه يريد عزل عبد الله عن خراسان، فطمع في ولايتهأن فكاتب مازيار يحسن له الخلاف ظناً منه أنه إذا خالف عزل المعتصم عبد الله عن خراسان واستعمله عليهأن وأمره بمحاربة مازيار، فكان من أمر مازيار ما تقدم؛ وكان من عصيان منكجور ما ذكرناه أيضأن فتحقق المعتصم أمر الأفشين، فتغير عليه.
وأحس الأفشين بذلك، فلم يدر ما يصنع، فعزم على أن يهيئ أطوافاً في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف، ويصير إلى أرمينية، وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم يصير إلى بلاد الخزر، ثم يدور في بلاد الترك، ويرجع إلى أشروسنة، أويستميل الخزر على المسلمين، فلم يمكنه ذلك، فعزم على أن يعمل طعاماً كثيرأن ويدعوالمعتصم والقواد، ويعمل فيه سمأن فإن لم يجيء المعتصم عمل ذلك بالقواد مثل أشناس وإيتاخ وغيرهمأن يوم تشاغل المعتصم، فإذا خرجوا من عنده سار في أول الليل، فكان في تهيئة ذلك.
فكان قواده ينوبون في دار المعتصم، كما يفعل القواد، فكان أواجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث، فقال أواجن: لا يتم هذا الأمر، فذهب ذلك الرجل إلى الأفشين فأعلمه، فتهدد أواجن، فسمعه بعض من يميل إلى أواجن من خدم الأفشين، فأتاه ذلك الخادم فأعلمه الحال بعد عوده من النوبة، فخاف على نفسه، فخرج إلى دار المعتصم، فقال لإيتاخ: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة؛ قال قد نام أمير المؤمنين، فقال أواجن: لا يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يخبر المعتصم بذلك، فقال المعتصم: قل له ينصرف الليلة إلى غد! فقال: إن انصرفت ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته عندك الليلة.

فبيته عنده، فلما أصبح الصباح بكر به على باب المعصم، فأخبره بجميع ما كان عنده، فأمر المعتصم بإحضار الأفشين، فجاء في سواده، فأمر بأخذ سواده وحبسه في الجوسق، وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال على الحسين بن الأفشين، وكان الحسين قد كثرت كتبه إلى عبد الله، فشكا من ونوح بن الأسد الأمير بما وراء النهر، وتحامله على ضياعه، وناحيته، فكتب عبد الله إلى نوح يعلمه ما كتب به المعتصم في أمر الحسين، ويأمره أن يجمع أصحابه ويتأهب، فإذا قدم عليه الحسين بكتاب ولايته فخذه، واستوثق منه، واحمله إليّ.
وكتب عبد الله إلى الحسين يعلمه أنه قد عزل نوحأن وأنه قد ولاه ناحيته، ووجه إليه بكتاب عزل نوح وولايته، فخرج ابن الأفشين في قله من أصحابه وسلاحه، حتى ورد على نوح، وهويظن أنه والي الناحية، فأخذ نوح وقيده، ووجهه إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم، فأمر المعتصم بإحضار الأفشين ليقابل على ما قيل عنه، فاحضر عند محمد بن عبد الملك الزيات، وزير المعتصم، وعنده ابن أبي دؤاد وإسحاق بن إبراهيم، وغيرهما من الأعيان، وكان المناظر له ابن الزيات، فأمر بإحضار مازيار، والموبذ، والمرزبان بن بركش، وهوأحد ملوك السغد، ورجلين من أهل السغد، فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة، فقال لهما: ما شأنكمأن فكشفا عن ظهورهمأن وهي عارية من اللحم، فقال للأفشين: أتعرف هؤلاء؟ قال: نعم، هذا مؤذن وهذا إمام بنيا مسجداً بأشروسنة، فضربت كل واحد منهما ألف سوط، وذلك أن بيني وبين ملك السغد عهداً وشرطاً أن أترك كل قوم على دينهم، فوثب هذان على بيت كان فيه أصنام أهل أشروسنة، فأخرجا الأصنام وجعلاه مسجدأن فضربتهما على هذا.
قال ابن الزيات: ما كتاب عندك قد حليته بالذهب والجوهر فيه الكفر بالله تعالى؟ قال: كتاب ورثته عن أبي فيه من آداب العجم وكفرهم فكنت آخذ الآداب وأترك الكفر، ووجدته محلى، فلم أحتج إلى أخذ الحلية منه، وما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
ثم تقدم الموبذ فقال: إن هذا يأكل لحم المخنوقة، ويحملني على أكلهأن ويزعم أنها رطب من المذبوحة. وقال لي يوماً: قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه، حتى أكلت الزيت، وركبت الجمل، والبغل، غير أني هذه الغاية لم تسقط عني شعرة، يعني أخذ شعر العانة، ولم أختتن.
فقال الأفشين: أخبروني عن هذه أثقة هوفي دينه؟ وكان مجوسيأن وإمنا أسلم أيام المتوكل، فقالوا: لا! فقال: فما معنى قبول شهادته؟ ثم قال لموبذ: أليس كنت أدخلك علي وأطلعك على سري؟ قال: بلى! قال: لست بالثقة في دينك، ولا بالكريم في عهدك، إذا أفشيت سراً أسررته إليك.
ثم تقدم المرزبان فقال: كيف يكتب إليك أهل بلدك؟ قال: لا أقول! قال: أليس يكتبون بكذا بالاشروسنية؟ قال: بلى! قال: أليس تفسيره بالعربية: إلى إله الآلهة من عبده فلان بن فلان؟ قال: بلى! قال: محمد بن عبد الملك الزيات: المسلمون لا يحتملون هذأن فما أبقيت لفرعون قال: هذه كانت عادتهم لأبي وجدي ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم.
ثم تقدم مازيار قالوا للأفشين: هل كاتبت هذا؟ قال: لا! قالوا لمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كتب أخوه إلى أخي قوهيار أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك، فأما بابك فإنه لمقته قتل نفسه، ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت، فأبى لحمقه إلا أن أوقعه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري، ومعي الفرسان، وأهل النجدة، فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة واضرب رأسه، والمغاربة أكلة راس، والأتراك، فإمنا هي ساعة حتى تنفد سهامهم، ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما يزل عليه أيام العجم.
فقال الأفشين: هذا يدعي أن أخي كتب إلى أخيه: لا يجب عليّ، ولوكتبت هذا الكتاب إليه لأستميله إليّ ويثق بي، ثم آخذه بقفاه، وأحظى به عند الخليفة، كما حظي عبد الله بن طاهر، فزجره ابن أبي دؤاد، فقال الأفشين: يا أبا عبد الله أنت ترفع طيلسانك فلا تضعه حتى يقاتل جماعة.

فقال له ابن أبي دؤاد: أمطهر أنت؟ قال: لا! قال: فما منعك من ذلك وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة؟ فقال: أوليس في الإسلام استعمال التقية؟ قال: بلى! قال: خفت أن أقطع ذلك العضومن جسدي فأموت؛ فقال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك أن يكون ذلك في الحرب، وتجزع من قطع قلفة؟ قال: تلك ضرورة تصيبني فأصبر عليهأن وهذا شيء استجلبه.
فقال ابن أبي دؤاد: قد بان لكم أمره، فقال لبغا الكبير: عليك به! فضرب بيده على منطقته، فجذبهأن واخذ بمجامع القباء عند عنقه، ورده إلى محبسه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غضب المعتصم على جعفر بن دينار لأجل وثوبه على من كان معه من الأصحاب، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يومأن ثم رضي عنه، وعزله عن اليمن، واستعمل عليها إيتاخ.
وفيها عزل الأفشين عن الحرس، وولاه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
وفيها سار عبد الرحمن صاحب الأندلس في جيش كثير إلى بلاد المشركين في شعبان، فدخل بلاد جليقية، فافتتح منها عدة حصون، وجال في أرضهم يخرب، ويغمن، ويقتل، ويسبي، وأطال المقام في هذه الغزاة، ثم عاد إلى قرطبة. وحج بالناس في هذه السنة محمد بن داود.
وفيها توفي أبودلف العجلي، واسمه القاسم بن عيسى، وأبوعمرو الجرمي النحوي، واسمه صالح بن إسحاق، وكان من الصالحين.
وفيها توفي أبوالحسن علي بن محمد بن عبد الله المدائني وله ثلاث وتسعون سنة، وله كتب في المغازي وأيام العرب، وكان بصريأن فأقام بالمدائن فنسب إليها.
حوادث سنة ست وعشرين ومائتينفيها وثب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين عليّ بن رجاء، وكان على الخراج، فقتله وأظهر الوسواس، ثم تكلم فيه أحمد بن أبي دؤاد، فأطلق من محبسه.
وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر فصلى عليه المعتصم.
ذكر موت الأفشينوفيها مات الأفشين، وكان قد أنفذ إلى المعتصم يطلب أن ينفذ إليه من يثق به، وأنفذ إليه حمدون بن إسماعيل، فأخذ يعتذر عما قيل فيه، وقال: قل لأمير المؤمنين إمنا مثلي ومثلك كرجل ربي عجلاً حتى أسمنه، وكبر، وكان له أصحاب يشتهون أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا بذبحه، فلم يجبهم، فاتفقوا جميعاً على أن قالوا: لم تربي هذا الأسد، فإنه إذا كبر رجع إلى جنسه! فقال لهم: إمنا هوعجل؛ فقالوا: هذا أسد، فسل من شئت. وتقدموا إلى جميع من يعرفونه، وقالوا لهم: إن سألكم عن العجل فقولوا له: إنه أسد، وكلما سأل إنساناً قال: هوسبع، فأمر بالعجل فذبح، ولكني أنا ذلك العجل كيف أقدر أن أكون أسداً؟ الله الله في أمري.
قال حمدون: فقمت عنه، وبين يديه طبق فيه فاكهة قد أرسله المعتصم مع ابنه الواثق، وهوعلى حاله، فلم ألبث إلا قليلاً حتى قيل إنه يموت، أوقد مات، فحمل إلى دار أيتاخ، فمات بها وأخرجوه، وصلبوه على باب العامة ليراه الناس، ثم ألقي وأحرق بالنار، وكان موته في شعبان.
قال حمدون: وسألته هل هومطهر أم لا؟ فقال: إلى مثل هذا الموضع إمنا قال لي هذأن والناس مجتمعون، ليفضحني إن قلت نعم، قال: تكشف؛ والموت كان احب إليّ من أن أتكشف بين يدي الناس، ولكن إن شئت أتكشف بين يديك حتى تراني؛ فقلت عنه، إلا القليل، حتى مات.
قال: ولما أخذ ماله رأى في داره بيت تمثال إنسان من خشب عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران مشتبكان، عليهما ذهب، فاخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين وظنه جوهرأن وكان ذلك ليلأن فلما أصبح نزع عنه الذهب، ووجده شيئاً شبيهاً بالصدف يسمى الحبرون، ووجدوا أصناماً وغير ذلك، والأطواف الخشب التي كان أعدهأن ووجدوا له كتاباً كتب المجوس، وكتباً غيره فيها ديانته.
ذكر وفاة الأغلب

وولاية أبي العباس محمد بن الأغلب إفريقية وما كان منه.
في هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي الأغلب بن إبراهيم يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، وكانت ولايته سنتين وسبعة أشهر وسبعة أيام.
ولما توفي ولي أبوالعباس محمد بن الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب بلاد إفريقية بعد وفاة والده، ودانت له إفريقية، وابتنى مدينة بقرب تاهرت سماها العباسية في سنة تسع وثلاثين ومائتين، فاحرقها أفلح بن عبد الوهاب الإباضي، وكتب إلى الأموي، صاحب الأندلس، يعلمه ذلك، فبعث إليه الأموي مائة ألف درهم جزاء له على فعله.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34