كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

فلما ظفر أرجوان أظهر الحاكم، وأجلسه، وجدد له البيعة، وكتب إلى وجوه القواد والناس بدمشق بالإيقاع بأبي تميم، فلم يشعر إلا وقد هجموا عليه ونهبوا خزائنه، فخرج هارباً، وقتلوا من كان عنده من كتامة، وعادت الفتنة بدمشق، واستولى الأحداث.
ثم إن أرجوان أذن للحسن بن عمار في الخروج من استتاره، وأجراه على إقطاعه، وأمره بإغلاق بابه.
وعصى أهل صور، وأمروا عليهم رجلاً ملاحاً يعرف بعلاقة، وعصى أيضاً المفرج بن دغفل بن الجراح، ونزل على الرملة وعاث في البلاد.
واتفق أن الدوقس، صاحب الروم، نزل على حصن أفامية، فأخرج أرجوان جيش بن الصمصامة في عسكر ضخم، فسار حتى نزل بالرملة، فأطاعه وإليها، وظفر فيها بأبي تميم فقبض عليه، وسير عسكراً إلى صور، وعليهم أبو عبدالله الحسين بن ناصر الدولة بن حمدان، فغزاها براً وبحراً. فأرسل علاقة إلى ملك الروم يستنجده، فسير إليه عدة مراكب مشحونة بالرجال، فالتقوا بمراكب المسلمين على صور، فاقتتلوا، وظفر المسلمون، وانهزم الروم، وقتل منهم جمع، فلما انهزموا انخذل أهل صور، وضعفت نفوسهم، فملك البلد أبو عبدالله بن حمدان، ونهبه، وأخذت الأموال، وقتل كثير من جنده، وكان أول فتح كان على يد أرجوان، وأخذ علاقة أسيراً فسيره إلى مصر، فسلخ وصلب بها؛ وأقام بصور، وسار جيش بن الصمصامة لقصد المفرج ابن دغفل، فهرب من بين يديه، وأرسل يطلب العفو فأمنه.
وسار جيش أيضاً إلى عسكر الروم، فلما وصل إلى دمشق تلقاه أهلها مذعنين، فأحسن إلى رؤساء الأحداث، وأطلق المؤن، وأباح دم كل مغربي يتعرض لأهلها، فاطمأنوا إليه.
وسار إلى أفامية، فصاف الروم عندها، فانهزم هو وأصحابه، ما عدا بشارة الإخشيدي، فإن ثبت في خمسمائة فارس. ونزل الروم إلى سواد المسلمين يغنمون ما فيه، والدوقس واقف على رايته، وبين يديه ولده وعدة غلمان، فقصده كردي يعرف بأحمد بن الضحاك، من أصحاب بشارة، ومعه خشت، فظنه الدوقس مستأمناً، فلم يحترز منه، فلما دنا منه حمل عليه وضربه بالخشت فقتله، فصاح المسلمون: قتل عدو الله ! وعادوا ونزل النصر عليهم، فانهزمت الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
وسار جيش إلى باب إنطاكية يغنم ويسبي ويحرق، وعاد إلى دمشق فنزل بظاهرها، وكان الزمان شتاء، فسأله أهل دمشق ليدخل البلد، فلم يفعل، ونزل ببيت لهيا، وأحسن السيرة في أهل دمشق، واستخص رؤساء الأحداث، واستحجب جماعة منهم، وجعل يبسط الطعام كل يوم لهم ولمن يجيء معهم من أصحابهم، فكان يحضر كل إنسان منهم في جمع من أصحابه وأشياعه، وأمرهم إذا فرغوا من الطعام أن يحضروا إلى حجرة له يغسلون أيديهم فيها، فعبر على ذلك برهة من الزمان، فأمر أصحابه أن رؤساء الأحداث، إذا دخلوا الحجرة لغسل أيديهم، أن يغلقوا باب الحجرة عليهم، ويضعوا السيف في أصحابهم، فلما كان الغد حضروا الطعام، وقام الرؤساء إلى الحجرة، فأغلقت الأبواب عليهم، وقتل من أصحابهم نحو ثلاثة آلاف رجل، ودخل دمشق فطافها، فاستغاث الناس وسألوه العفو، وعفا عنهم، وأحضر أشراف أهلها، وقتل رؤساء الأحداث بين أيديهم، وسير الأشراف إلى مصر، وأخذ أموالهم ونعمهم، ثم مرض بالبواسير وشدة الضربان فمات.
وولي بعده ابنه محمد، وكانت ولايته هذه تسعة أشهر، ثم إن أرجوان بعد هذه الحادثة راسل بسيل ملك الروم، وهادنه عشر سنين، واستقامت الأمور على يد أرجوان. وسير أيضاً جيشاً إلى برقة، وطرابلس الغرب، ففتحها، واستعمل عليها أنساً الصقلبي ونصح الحاكم، وبالغ في ذلك، ولازم خدمته، فثقل مكانه على الحاكم، فقتله سنة تسع وثمانين.

وكان خصياً أبيض، وكان لأرجوان وزير نصراني اسمه فهد بن إبراهيم، فاستوزره الحاكم، ثم إن الحاكم رتب الحسين بن جوهر موضع أرجوان، ولقبه قائد القواد ثم قتل الحسن بن عمار، المقدم ذكره، ثم قتل الحسين بن جوهر، ولم يزل يقيم الوزير بعد الوزير ويقتلهم. ثم جهز يارختكين للمسير إلى حلب، وحصرها، وسير معه العساكر الكثيرة، فسار عنها، فخافه حسان بن المفرج الطائي، فلما رحل من غزة إلى عسقلان كمن له حسان ووالده، وأوقعا به وبمن معه، وأسراه وقتلاه، وقتل من الفريقين قتلى كثيرة، وحصرا الرملة، ونهبا النواحي، وكثر جمعهما، وملكا الرملة وما والاها، فعظم ذلك على الحاكم، وأرسل يعاتبهما، وسبق السيف العذل، فأرسلا إلى الشريف أبي الفتوح الحسن بن جعفر العلوي الحسني، أمير مكة، وخاطباه بأمير المؤمنين، وطلباه إليهما ليبايعا له بالخلافة، فحضر، واستناب بمكة، وخوطب بالخلافة.
ثم إن الحاكم راسل حساناً وأباه، وضمن لهما الإقطاع الكثيرة والعطاء الجزير، واستمالهما، فعدلا عن أبي الفتوح، ورداه إلى مكة، وعادا إلى طاعة الحاكم.
ثم إن الحاكم جهز عسكراً إلى الشام، واستعمل عليهم علي بن جعفر بن فلاح، فلما وصل إلى الرملة أزاح حسان بن الفمرج وعشيرته عن تلك الأرض، وأخذ ما كان له من الحصون بجبل الشراة، واستولى على أمواله وذخائره، وسار إلى دمشق والياً عليها، فوصل إليها في شوال سنة تسعين وثلاثمائة.
وأما حسان فإنه بقي شريداً نحو سنتين، ثم أرسل والده إلى الحاكم فأمنه وأقطعه، فسار حسان إليه بمصر، فأكرمه وأحسن إليه؛ وكان المفرج والد حسان قد توفي مسموماً، وضع الحاكم عليه من سمه، فبموته ضعف أمر حسان على ما ذكرناه.
ذكر استيلاء عسكر صمصام الدولة على البصرةفي هذه السنة سار قائد كبير من قواد صمصام الدولة، اسمه لشكرستان، إلى البصرة، فأجلى عنها نواب بهاء الدولة.
وسبب ذلك أن الأتراك لما عادوا عن العلاء، كما ذكرناه، كان لشكرستان هذا مع العلاء، فأتاهم من الديلم الذين مع بهاء الدولة أربعمائة رجل مستأمنين، فأخذهم لشكرستان، وسار بهم وبمن معه إلى البصرة، فكثر جمعه، فنزلوا قرب البصرة بين البساتين يقاتلون أصحاب بهاء الدولة، ومال الأيهم بعض أهل البصرة، ومقدمهم أبو الحسن بن أبي جعفر العلوي، وكانوا يحملون إليهم الميرة.
وعلم بهاء الدولة بذلك، فأنفذ من يقبض عليهم، فهرب كثير منهم إلى لشكرستان، فقوي بهم، وجمعوا السفن وحملوه فيها، ونزلوا إلى البصرة، فقاتلوا أصحاب بهاء الدولة بها، وأخرجوهم عنها، وملك لشكرستان البصرة، وقتل من أهلها كثيراً، وهرب كثير منهم، وأخذ كثيراً من أموالهم.
فكتب بهاء الدولة إلى مهذب الدولة، صاحب البطيحة، يقول: أنت أحق بالبصرة. فسير إليها جيشاً مع عبدالله بن مرزوق، فأجلى لشكرستان عن البصرة، فقيل: إنه سار عن البصرة بغير حرب، ودخلها ابن مرزوق. وقيل: إنما فارقها بعد أن حارب فيها، وضعف عن المقام بين يديه. وصفت البصرة لمهذب الدولة.
ثم إن لشكرستان عمل على العود إلى البصرة، فهجم عليها في السفن، ونزل أصحابه بسوق الطعام، واقتتلوا، فاستظهر لشكرستان، وكاتب بهاء الدولة يطلب المصالحة، ويبذل الطاعة، ويخطب له بالبصرة، فأجابه مهذب الدولة إلى ذلك، وأخذ ابنه رهينة.
وكان لشكرستان يظهر طاعة صمصام الدولة وبهاء الدولة ومهذب الدولة، وعسف أهل البصرة مدة، فتفرقوا، ثم إنه أحسن إليهم وعدل فيهم، فعادوا.
ذكر ولاية المقلد الموصلفي هذه السنة ملك المقلد بن المسيب مدينة الموصل.
وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذواد توفي هذه السنة، فطمع المقلد في الإمارة، فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً لأنه أكبر منه، فأسرع المقلد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل، فمال إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة قد ولاه الموصل، وسأله مساعدته على أبي جعفر لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل فخرج إليهم كل من استماله المقلد من الديلم، وضعف الحجاج، وطلب منهم الأمان، فأمنوه، وواعدهم يوماً يخرج إليهم فيه.

ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه، فلم ينالوا منه شيئاً، ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة، ودخل المقلد البلد، واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما، ويقدم علي لكبره، ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية، وسار علي إلى البر، وأقام المقلد، وجرى الأمر على ذلك مديدةً، ثم تشاجروا واختصموا وكان ما نذكره إن شاء الله.
وكان المقلد يتولى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره، وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها، وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر، وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره.
وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عسكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد، وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلد، فبلغ الخبر إليه، فأنفذ أصحابه ليلاً، فاقتتلوا، وعادوا إلى المقلد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلد إلى بغداد، أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد، وأمره بمصالحة المقلد والقبض على أبي علي بن إسماعيل، فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجة، فلما وصل إليها راسله المقلد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل إلى بهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلد الخلع السلطانية، ويلقب بحسام الدولة، ويقطع الموصل، والكوفة، والقصر، والجامعين، واستقر الأمر على ذلك؛ وجلس القادر بالله له.
ولم يف المقلد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد، ومد يده في المال، وقصده المتصرفون والأماثل، وعظم قدره، وقبض أبو جعفر على أبي علي، ثم هرب أبو علي، نائب بهاء الدولة، واستتر وسار إلى البطيحة مستتراً، ملتجئاً إلى مهذب الدولة.
ذكر وفاة المنصور بن يوسف

وولاية ابنه باديس
في هذه السنة توفي المنصور بن يوسف بلكين أمير إفريقية، أوائل ربيع الأول، خارج صبرة، ودفن بقصره.
وكان ملكاً كريماً، شجاعاً، حازماً، ولم يزل مظفراً منصوراً، حسن السيرة، محباً للعدل والرعية، أوسعهم عدلاً، وأسقط البقايا عن أهل إفريقية، وكانت مالاً جليلاً.
ولما توفي ولي بعده ابنه باديس، ويكنى أبا مناد، فلما استقر في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية والتهنئة، وأراد بنو زيري أعمام أبيه أن يخالفوا عليه، فمنعهم أصحاب أبيه وأصحابه.
وكان مولد باديس سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وأتته الخلع والعهد بالولاية من الحاكم بأمر الله من مصر، فقرئ العهد، وبايع للحاكم هو وجماعة بني عمه والأعيان من القواد.
وفيها ثار على باديس رجل صنهاجيٌ اسمه خليفة بن مبارك، فأخذ وحمل إلى باديس، فأركب حماراً، وجعل خلفه رجل أسود يصفعه، وطيف به، ولم يقتل احتقاراً له وسجن.
وفيها استعمل باديس عمه حماد بن يوسف بلكين على أشير، وأقطعه إياه، وأعطاه من الخيل والسلاح والعدد شيئاً كثيراً، فخرج إليها، وحماد هذا هو جد بني حماد الذين كانوا ملوك إفريقية، والقلعة المنسوبة إليهم مشهورة بإفريقية، ومنهم أخذها عبد المؤمن بن علي.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض بهاء الدولة على الفاضل وزيره، وأخذ ماله، واستوزر بهاء الدولة سابور بن أردشير، فأقام نحو شهرين، وفرق الأموال، ووقع بها للقواد قصداً ليضعف بهاء الدولة، ثم هرب إلى البطيحة، وبقي منصب الوزارة فارغاً، واستوزر أبو العباس بن سرجس.
وفيها استكتب القادر بالله أبا الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان.
وفيها توفي أحمد بن إبراهيم بن محمد بن إسحاق أبو حامد بن أبي إسحاق المزكي، النيسابوري، في شعبان، وكان إماماً، ومولده سنة ثلاث وعشرين.
وفيها توفي علي بن عمر بن محمد بن الحسن أبو إسحاق الحميري، المعروف بالسكري، وبالحربي، وبالكيال، ومولده سنة ست وتسعين ومائتين.
وفيها توفي أبو الأغر دبيس بن عفيف الأسدي بخوزستان؛ وأبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي، صاحب قوت القلوب، روي أنه صنف قوت القلوب وكان قوته عروق البردي.

ثم دخلت سنة سبع وثمانين وثلاثمائة
ذكر موت الأمير نوح بن منصور
وولاية ابنه منصور
في هذه السنة توفي الأمير الرضي نوح بن منصور الساماني في رجب، واختل بموته ملك آل سامان، وضعف أمرهم ضعفاً ظاهراً، وطمع فيهم أصحاب الأطراف، فزال ملكهم بعد مدةٍ يسيرة.
ولما توفي قام بالملك بعده ابنه أبو الحرث منصور بن نوح، وبايعه الأمراء والقواد وسائر الناس، وفرق فيهم بقايا الأموال، فاتفقوا على طاعته. وقام بأمر دولته وتدبيرها بكتوزون. ولما بلغ خبر موته إلى ايلك خان سار إلى سمرقند، وانضم إليه فائق الخاصة، فسيره جريدة إلى بخارى، فلما سمع بمسيره الأمير منصور تحير في أمره، وأعجله عن التجهز، فسار عن بخارى، وقطع النهر، ودخل فائق بخارى، وأظهر أنه إنما قصد المقام بخدمة الأمير منصور، رعايةً لحق أسلافه عليه، إذ هو مولاهم، وأرسل إليه مشايخ بخارى ومقدمهم في العود إلى بلده وملكه، وأعطاه من نفسه ما يطمئن إليه من العهود والمواثيق، فعاد إليها ودخلها وولي فائق أمره وحكم في دولته، وولي بكتوزون إمرة الجيوش بخراسان.
وكان محمود بن سبكتكين حينئذ مشغولاً بمحاربة أخيه إسماعيل، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وسار بكوتوزن إلى خراسان فوليها، واستقرت القواعد بها.
ذكر موت سبكتكين وملك ولده إسماعيلوفي هذه السنة توفي ناصر الدولة سبكتكين في شعبان، وكان مقامه ببلخ، وقد ابتنى بها دوراً ومساكن، فمرض، وطال مرضه، وانزاح إلى هواء غزنة، فسار عن بلخ إليها، فمات في الطريق، فنقل ميتاً إلى غزنة ودفن فيها، وكانت مدة ملكه نحو عشرين سنة.
وكان عادلاً، خيراً، كثير الجهاد، حسن الاعتقاد، ذا مروة تامة، وحسن عهد ووفاء، لا جرم بارك الله في بيته، ودام ملكهم مدة طويلة جازت مدة ملك السامانية والسلجوقية وغيرهم.
وكان ابنه محمود أول من لقب بالسلطان، ولم يلقب به أحدٌ قبله.
ولما حضرته الوفاة عهد إلى ولده إسماعيل بالملك بعده، فلما مات بايع الجند لإسماعيل، وحلفوا له، وأطلق لهم الأموال، وكان أصغر من أخيه محمود، فاستضعفه الجند، فاشتطوا في الطلب حتى أفنى الخزائن التي خلفها أبوه.
ذكر استيلاء أخيه محمود بن سبكتكين على الملكلما توفي سبكتكين، وبلغ الخبر إلى ولده يمين الدولة محمود بنيسابور، جلس للعزاء، ثم أرسل إلى أخيه إسماعيل يعزيه بأبيه، ويعرفه أن أباه إنما عهد إليه لبعده عنه، ويذكره ما يتعين من تقديم الكبير، ويطلب منه الوفاق، وإنفاذ ما يخصه تركة أبيه. فلم يفعل، وترددت الرسل بينهما فلم تستقر القاعدة. فسار محمود عن نيسابور إلى هراة عازماً على قصد أخيه بغزنة، واجتمع بعمه بغراجق بهراة، فساعده على أخيه إسماعيل، وسار نحو بست، وبها أخوه نصر، فتبعه وأعانه وسار معه إلى غزنة.
وبلغ الخبر إلى إسماعيل، وهو ببلخ، فسار عنها مجداً، فسبق أخاه محموداً إليها؛ وكان الأمراء الذين مع إسماعيل كاتبوا أخاه محموداً يستدعونه، ووعدوه الميل إليه، فجد في المسير، والتقى هو وإسماعيل بظاهر غزنة، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسماعيل وصعد إلى قلعة غزنة فاعتصم بها، فحصره أخوه محمود واستنزله بأمان. فلما نزل إليه أكرمه، وأحسن إليه، وأعلى منزلته، وشركه في ملكه وعاد إلى بلخ واستقامت الممالك له.
وكانت مدة ملك إسماعيل سبعة أشهر، وهو فاضل، حسن المعرفة، له نظم ونثر، وخطب في بعض الجمعات، فكان يقول بعض الخطبة للخليفة: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ المُلْكِ وَعَلَّمْتَني مِنْ تَأوِيلِ الأحَادِيثِ، فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أنْتَ وَلِيِّي في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، تَوَفَّنيِ مُسْلِماً وَأَلْحِقْنيِ بِالصَّالحِيِنَ) يوسف: 101.
ذكر وفاة فخر الدولة بن بويه
وملك ابنه مجد الدولة
في هذه السنة توفي فخر الدولة أبو الحسن علي بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه بقلعة طبرق، في شعبان.
وكان سبب ذلك أنه أكل لحماً مشوياً، وأكل بعده عنباً، فأخذه المغص، ثم اشتد مرضه فمات منه. فلما مات كانت مفاتيح الخزائن بالري عند أم ولده مجد الدولة، فطلبوا له كفناً فلم يجدوه، وتعذر النزول إلى البلد لشدة شغب الديلم، فاشتروا له من قيم الجامع ثوباً كفنوه فيه، وزاد شغب الجند فلم يمكنهم دفنه فبقي حتى أنتن ثم دفنوه.

وحين توفي قام بملكه بعده ولده مجد الدولة أبو طالب رستم، وعمره أربع سنين، أجلسه الأمراء في الملك، وجعلوا أخاه شمس الدولة بهمذان وقرميسين إلى حدود العراق. وكان المرجع إلى والدة أبي طالب في تدبير الملك، وعن رأيها يصدرون، وبين يديها، في مباشرة الأعمال، أبو طاهر صاحب فخر الدولة، وأبو العباس الضبي الكافي.
ذكر وفاة مأمون بن محمد

وولاية ابنه علي
وفيها توفي مأمون بن محمد، صاحب خوارزم والجرجانية، فلما توفي اجتمع أصحابه على ولده علي وبايعوه، واستقر له ما كان لأبيه، وراسل يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وخطب إليه أخته، فزوجه، واتفقت كلمتهما وصارا يداً واحدةً إلى أن مات علي وقام بعده أخوه أبو العباس مأمون بن مأمون، واستقر في الملك، فأرسل إلى يمين الدولة يخطب أخته أيضاً، فأجابه إلى ذلك، وزوجه، فداما أيضاً على الاتفاق والاتحاد مدة.
وسيرد من أخباره معه سنة سبع وأربعمائة إن شاء الله تعالى ما تقف عليه.
ذكر وفاة العلاء بن الحسن
وما كان بعده
في هذه السنة توفي أبو القاسم العلاء بن الحسن نائب صمصام الدولة بخوزستان، وكان موته بعسكر مكرم، وكان شهماً، شجاعاً، حسن التدبير، فأنفذ صمصام الدولة أبا علي بن أستاذ هرمز، ومعه المال، ففرقه في الديلم، وسار إلى جنديسابور فدفع أصحاب بهاء الدولة عنها، وجرت له معهم وقائع كثيرة كان الظفر فيها له، وأزاح الأتراك عن خوزستان، وعادوا إلى واسط، وخلت لأبي علي البلاد، ورتب العمال، وجبى الأموال، وكاتب أتراك بهاء الدولة واستمالهم، فأتاه بعضهم فأحسن إليهم، واستمر حال أبي علي في أعمال خوزستان.
ثم إن أبا محمد بن مكرم والأتراك عادوا من واسط، واستعد أبو علي للحرب، وجرى بينهم وقائع. ولم يكن للأتراك قوة على الديلم، فعزموا على العود إلى واسط ثانياً، فاتفق مسير بهاء الدولة من البصرة إلى القنطرة البيضاء، وكان ما نذكره إن شاء الله.
ذكر القبض على علي بن المسيب
وما كان بعد ذلك
في هذه السنة قبض المقلد على أخيه علي.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من الاختلاف الواقع بين أصحابهما بالموصل، واشتغل المقلد بما ذكرناه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه، فأعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا، وحلفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل إليه وهو سكران، فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه، وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت، قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر، ففعلت ذلك، وخلصت، وكانت في الحلة التي له على أربعة فراسخ من تكريت.
وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلة ليقبض أولاد أخيه، فلم يجدهم؛ وأقام المقلد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، فاجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن في حلل أخيه، ومعه أولاد أخيه علي وحرمه، ويستنفرهم على المقلد، فاجتمع معهم نحو عشرة آلاف، وراسل المقلد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل، وبقي بينهم منزلٌ واحدٌ، ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب، واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب ومنهم رافع بن محمد بن مقن؛ ومنهم من أشار بالكف عن القتال، وصلة الرحم، ومنهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه.
فبينما هم في ذلك قيل لمقلد: إن أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك؛ فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً، ورد إليه ماله ومثله معه، وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا، وعاد علي إلى حلته.
وعاد المقلد إلى الموصل، وتجهز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي لأنه تعصب لأخيه علي، وقصد ولاية المقلد بالأذى فسار إليه.

ولما خرج عليٌ من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلد، فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلد، فامتنعوا عليه، فافتتحها، فسمع المقلد بذلك، فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه، ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي وقال له: إن الأعور، يعني المقلد، قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل؛ وأمره بإفساد عسكر المقلد، فكتب إليهم، فظفر المقلد بالكتب فأخذها وسار مجداً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه، ودخل الموصل وهما معه.
ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً، وتبعه الحسن، وترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك إلى سنة تسع وثمانين.
ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق، وتبعه المقلد فلم يدركه فعاد.
ولما استقر أمر المقلد، بعد أخيه علي، سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي فدخله ثانية، والتجأ ابن مزيد إلى مهذب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلد، وأصلح الأمر معه، وسار المقلد إلى دقوقا فملكها.
ذكر ملك جبرئيل دقوقافي هذه السنة ملك جبرئيل بن محمد دقوقا. وجبرئيل هذا كان من الرجالة الفرس ببغداد، وخد مهذب الدولة بالبطيحة، فهم بالغزو، وجمع جمعاً كثيراً، واشترى السلاح وسار فاجتاز في طريقه بدقوقا، فوجد المقلد بن المسيب يحاصرها، فاستغاث أهلها بجبريل فحماهم ومنع عنهم.
وكان بدقوقا رجلان نصرانيان قد تمكنا في البلد، وحكما فيه، واستعبدا أهله، فاجتمع جماعة من المسلمين إلى جبرئيل وقالوا له: إنك تريد الغزو، ولست تدري أتبلغ غرضاً أم لا، وعندنا من هذين النصرانيين من قد تعبدنا، وحكم علينا، فلو أقمت عندنا، وكفيتنا أمرهما، ساعدناك على ذلك. فأقام وقبض عليهما، وأخذ مالهما، وقوي أمره، فملك البلد في شهر ربيع الأول، وثبت قدمه، وأحسن معاملة أهل البلد، وعدل فيهم، وبقي مدة على اختلاف الأحوال.
ثم ملكها المقلد، وملكها بعده محمد بن عناز، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب، فعاد جبرئيل هذا حينئذ إلى دقوقا، واجتمع مع أمير من الأكراد يقال له موصك بن جكويه، ودفعا عمال فخر الدولة عنها وأخذاها، فقصدها بدران بن المقلد وغلبهما وأخذها منهما.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج أبو الحسن علي بن مزيد على طاعة بهاء الدولة، فسير إليه عسكراً، فهرب من بين أيديهم إلى مكان لا يقدرون على الوصول إليه فيه، ثم أرسل بهاء الدولة وأصلح حاله معه وعاد إلى طاعته.
وفيها توفي أبو الوفاء محمد بن المهندسي الحاسب.
وفيها، في المحرم، توفي عبيدالله بن محمد بن حمران أبو عبدالله العكبري المعروف بابن بطة الحنبلي، وكان مولده في شوال سنة أربع وثلاثمائة، وكان زاهداً، عابداً، عالماً، ضعيفاً في الرواية.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الحسين محمد بن أحمد بن إسماعيل المعروف بابن سمعون الواعظ، الزاهد، له كرامات، وكان مولده سنة ثلاثمائة.
وفيها، في تاسع ذي الحجة، توفي الحسن بن عبدالله بن سعيد أبو أحمد العسكري، الراوية، العلامة، صاحب التصانيف الكثيرة في الأدب، واللغة، والأمثال، وغيرها.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة

ذكر عود أبي القاسم السيمجوري إلى نيسابور
قد ذكرنا مسير أبي القاسم بن سيمجور أخي أبي علي إلى جرجان ومقامه بها. فلما مات فخر الدولة أقام عنده ولده مجد الدولة، واجتمع عنده جماعة كثيرة من أصحاب أخيه. وكان قد أرسل إلى شمس المعالي يستدعيه من نيسابور ليسلمها إليه، فسار إليه حتى وافى جرجان، فلما بلغها رأى أبا القاسم قد سار عنها، فعاد شمس المعالي إلى نيسابور.
فكتب فائق من بخارى إلى أبي القاسم يغريه ببكتوزون، ويأمره بقصد خراسان، وإخراج بكتوزون عنها لعدواة بينهما. فسار أبو القاسم عن جرجان نحو نيسابور، وسر سرية إلى أسفرايين، وبها عسكر لبكتوزون، فقاتلوهم وأجلوهم عن أسفرايين، واستولى أصحاب أي القاسم عليها، وسار أبو القاسم إلى نيسابور، فالتقى هو وبكتوزون بظاهرها في ربيع الأول، واقتتلوا واشتد القتال بينهم فانهزم أبو القاسم وقتل من أصحابه وأسر خلق كثير.

وسار أبو القاسم إلى قهستان وأقام بها حتى اجتمع إليه أصحابه، وسار إلى بوشنج واحتوى عليها، وتصرف فيها، فسار إليه بكتوزون، وترددت الرسل بينهما، حتى اصطلحا وتصاهرا، وعاد بكتوزون إلى نيسابور.
ذكر استيلاء محمود بن سبكتكين على نيسابور وعوده عنهالما فرغ محمود من أمر أخيه، وملك غزنة، وعاد إلى بلخ رأى بكتوزون قد ولي خراسان، على ما ذكرناه، فأرسل إلى الأمير منصور بن نوح يذكر طاعته والمحاماة عن دولته، ويطلب خراسان، فأعاد الجواب يعتذر عن خراسان ويأمره بأخذ ترمذ وبلخ وما وراءها من أعمال بست وهراة، فلم يقنع بذلك، وأعاد الطلب، فلم يجبه إلى ذلك، فلما تيقن المنع سار إلى نيسابور، وبها بكتوزون، فلما بلغه خبر مسيره نحوه رحل عنها، فدخلها محمود وملكها. فلما سمع الأمير منصور بن نوح سار عن بخارى نحو نيسابور، فلما علم محمود بذلك سار عن نيسابور إلى مرو الروذ، ونزل عند قنطرة راعول ينتظر ما يكون منهم.
ذكر عود قابوس إلى جرجانفي هذه السنة عاد شمس المعالي قابوس بن وشمكير إلى جرجان وملكها؛ ولما ملك فخر الدولة بن بويه جرجان والري أراد أن يسلم جرجان إلى قابوس، فرده عن ذلك الصاحب بن عباد، وعظمها في عينه، فأعرض عن الذي أراده، ونسي ما كان بينهما من الصحبة بخراسان، وأنه بسببه خرجت البلاد عن يد قابوس، والملك عقيم.
وقد ذكرنا كيف أخذت منه، ومقامه بخراسان، وإنفاذ ملوك السامانية الجيوش في نصرته مرة بعد أخرى، فلم يقدر الله تعالى عود ملك إليه.
ولما ولي سبكتكين خراسان اجتمع به ووعده أن يسير معه الجيوش ليرده إلى مملكته، فمضى إلى بلخ ومرض ومات.
فلما كان هذه السنة، بعد موت فخر الدولة، سير شمس المعالي قابوس الأصبهبذ شهريار بن شروين إلى جبل شهريار، وعليه رستم بن المرزبان، خال مجد الدولة بن فخر الدولة، فاقتتلا، فانهزم رستم، واستولى الأصبهبذ على الجبل، وخطب لشمس المعالي، وكان باتي بن سعيد بناحية الاستندارية، وله ميل إلى شمس المعالي، فسار إلى آمل، وبها عسكر لمجد الدولة، فطردهم عنها واستولى عليها، وخطب لقابوس، وكتب إليه بذلك.
ثم إن أهل جرجان كتبوا إلى قابوس يستدعونه، فسار إليهم من نيسابور، وسار الأصبهبذ وباتي بن سعيد إلى جرجان، وبها عسكر لمجد الدولة، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر مجد الدولة إلى جرجان، فلما بلغوها صادفوا مقدمة قابوس قد بلغتها، فأيقنوا بالهلاك، وانهزموا من أصحاب قابوس هزيمة ثانية، وكانت قرحاً على قرح، ودخل شمس المعالي جرجان في شعبان من هذه السنة.
وبلغ المنهزمون الري، فجهزت العساكر من الري نحو جرجان، فساروا وحصروها، فغلت الأسعار بالبلد، وضاقت الأمور بالعسكر أيضاً، وتوالت عليهم الأمطار والرياح، فاضطروا إلى الرحيل، فتبعهم شمس المعالي فلحقهم وواقعهم فاقتتلوا، وانهزم عسكر الري وأسر من أعيانهم جماعة كثيرة، وقتل أكثر منهم، فأطلق شمس المعالي الأسرى، واستولى على تلك الأعمال ما بين جرجان وأستراباذ.
ثم إن الأصبهبذ حدث نفسه بالاستقلال، والتفرد عن قابوس، واغتر بما اجتمع عنده من الأموال والذخائر، فسارت إليه العساكر من الري، وعليها المرزبان، خال مجد الدولة، فهزموا الأصبهبذ وأسروه، ونادوا بشعار شمس المعالي لوحشة كانت عند المرزبان من مجد الدولة، وكتب إلى شمس المعالي بذلك، وانضافت مملكة الجبل جميعها إلى ممالك جرجان وطبرستان، فولاها شمس المعالي ولده منوجهر، ففتح الرويان وسالوس، وراسل قابوس يمين الدولة محموداً، وهاداه، وصالحه، واتفقا على ذلك.
ذكر مسير بهاء الدولة إلى واسطفي هذه السنة عاد أبو علي بن إسماعيل إلى طاعة بهاء الدولة، وهو بواسط، فوزر له، ودبر أمره، وأشار عليه بالمسير إلى أبي محمد بن مكرم ومن معه من الجند ومساعدتهم، ففعل ذلك، وسار على كرهٍ وضيقٍ، فنزل بالقنطرة البيضاء، وثبت أبو علي بن أستاذ هرمز وعسكره، وجرى لهم معه وقائع كثيرة.

وضاق الأمر ببهاء الدولة، وتعذرت عليه الأقوات، فاستمد بدر بن حسنويه، فأنفذ إليه شيئاً قام ببعض ما يريده، وأشرف بهاء الدولة على الخطر، وسعى أعداء أبي علي بن إسماعيل به حتى كاد يبطش به، فتجدد من أمر ابني بختيار وقتل صمصام الدولة ما يأتي ذكره، وأتاه الفرج من حيث لم يحتسب، وصلح أمر أبي علي عنده، واجتمعت الكلمة عليه، وسيأتي شرح ذلك، إن شاء الله تعالى.
ذكر قتل صمصام الدولةفي هذه السنة، في ذي الحجة، قتل صمصام الدولة بن عضد الدولة.
وسبب ذلك أن جماعة كثيرة من الديلم استوحشوا من صمصام الدولة لأنه أمر بعرضهم، وإسقاط من ليس بصحيح النسب، فأسقط منهم مقدار ألف رجل، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون.
واتفق أن أبا القاسم وأبا نصر ابني عز الدولة بختيار كانا مقبوضين، فخدعا الموكلين بهما في القلعة، فأفرجوا عنهما، فجمعا لفيفاً من الأكراد، واتصل خبرهما بالذين أسقطوا من الديلم، فأتوهم، وقصدوا إلى أرجان، فاجتمعت عليها العساكر، وتحير صمصام الدولة، ولم يكن عنده من يدبره.
وكان أبو جعفر أستاذ هرمز مقيماً بفسا، فأشار عليه بعض من عنده بتفريق ما عنده من المال في الرجال، والمسير إلى صمصام الدولة، ، وأخذه إلى عسكره بالأهواز، وخوفه إن لم يفعل ذلك. فشح بالمال، فثار به الجند ونهبوا داره وهربوا، فاختفى، فأخذ وأتي به إلى ابني بختيار، فحبس، ثم احتال فنجا.
وأما صمصام الدولة فإنه أشار عليه أصحابه بالصعود إلى القلعة التي على باب شيراز والامتناع بها إلى أن يأتي عسكره ومن يمنعه، فأراد الصعود إليها، فلم يمكنه المستحفظ بها، وكان معه ثلاثمائة رجل، فقالوا له: الرأي أننا نأخذك ووالدتك، ونسير إلى أبي علي بن أستاذ هرمز؛ وأشار بعضهم بقصد الأكراد وأخذهم والتقوي بهم، ففعل ذلك، وخرج معهم بخزائنه وأمواله، فنهبوه، وأرادوا أخذه فهرب وسار إلى الدودمان، على مرحلتين من شيراز.
وعرف أبو نصر بن بختيار الخبر، فبادر إلى شيراز، ووثب رئيس الدودمان، واسمه طاهر، بصمصام الدولة فأخذه، وأتاه أبو نصر بن بختيار وأخذه منه فقتله في ذي الحجة، فلما حمل رأسه إليه قال: هذه سنة سنها أبوك، يعني ما كان من قتل عضد الدولة بختيار.
وكان عمر صمصام الدولة خمساً وثلاثين سنة وسبعة أشهر، ومدة إمارته بفارس تسع سنين وثمانية أيام، وكان كريماً حليماً. وأما والدته فسلمت إلى بعض قواد الديلم، فقتلها وبنى عليها دكة في داره، فلما ملك بهاء الدولة فارس أخرجها ودفنها في تربة بني بويه.
ذكر هرب ابن الوثابفي هذه السنة هرب أبو عبدالله بن جعفر المعروف بابن الوثاب من الاعتقال في دار الخلافة.
وكان هذا الرجل يقرب بالنسب من الطائع، فلما خلع الطائع هرب هذا وصار عند مهذب الدولة، فأرسل القادر بالله في أمره، فأخرجه، فسار إلى المدائن، وأتى خبره إلى القادر فأخذه وحبسه، فهرب هذه السنة، ومضى إلى كيلان، وادعى أنه هو الطائع لله، وذكر من أمور الخلافة ما كان يعرفه، وزوجه محمد بن العباس، مقدم كيلان، وشد منه، وأقام له الدعوة، وأطاعه أهل نواحٍ أخر، وأدوا إليه العشر على عادتهم.
وورد من هؤلاء القوم جماعة يحجون، فأحضرهم القادر وكشف لهم حاله، وكتب على أيديهم كتباً في المعنى، فلم يقدح ذلك فيه. وكان أهل كيلان يرجعون إلى القاضي أبي القاسم بن كج، فكوتب من بغداد في المعنى، فكشف لهم الأمر، فأخرجوا أبا عبدالله عنهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عظم أمر بدر بن حسنويه، وعلا شأنه، ولقب، من ديوان الخليفة، ناصر الدين والدولة، وكان كثير الصدقات بالحرمين، ويكثر الخرج على العرب بطريق مكة ليكفوا عن أذى الحجاج، ومنع أصحابه من الفساد وقطع الطريق، فعظم محله وسار ذكره.
وفيها نظر أبو علي بن أبي الريان في الوزارة بواسط.
وفيها مات أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الجكار.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وثلاثمائة

ذكر القبض على منصور بن نوح
وملك أخيه عبد الملك
في هذه السنة قبض على الأمير منصور بن نوح بن منصور الساماني، صاحب بخارى وما وراء النهر، وملك أخوه عبد الملك.

وسبب قبضه ما ذكرناه من قصد محمود بن سبكتكين بكتوزون بخراسان، وعوده عن نيسابور إلى مرو الروذ، فلما نزلها سار بكتوزون إلى الأمير منصور، وهو بسرخس، فاجتمع به فلم ير من إكرامه وبره ما كان يؤمله، فشكا ذلك إلى فائق، فقابله فائق بأضعاف شكواه، فاتفقا على خلعه من الملك، وإقامة أخيه مقامه، وأجابهما إلى ذلك جماعة من أعيان العسكر، فاستحضره بكتوزون بعلة الاجتماع لتدبير ما هم بصدده من أمر محمود، فلما اجتمعوا به قبضوا عليه، وأمر بكتوزون من سلمه فأعماه، ولم يراقب الله ولا إحسان مواليه، وأقاموا أخاه عبد الملك مقامه في الملك، وهو صبي صغير.
وكانت مدة ولاية منصور سنةً وسبعة أشهر. وماج الناس بعضهم في بعض، وأرسل محمود إلى فائق وبكتوزون يلومهما، ويقبح فعلهما، وقويت نفسه على لقائهما، وطمع في الاستقلال بالملك، فسار نحوهما عازماً على القتال.
ذكر استيلاء يمين الدولة محمود بن سبكتكين على خراسانلما قبض الأمير منصور سار محمود نحو فائق وبكتوزون، ومعهما عبد الملك ابن نوح، فلما سمعوا بمسيره ساروا إليه، فالتقوا بمرو آخر جمادى الأولى، واقتتلوا أشد قتالٍ رآه الناس إلى الليل، فانهزم بكتوزون وفائق ومن معهما.
فأما عبد الملك وفائق فإنهما لحقا ببخارى، وقصد بكتوزون نيسابور، وقصد أبو القاسم بن سيمجور قهستان، فرأى محمود أن يقصد بكتوزون وأبا القاسم، ويعجلهما عن الاجتماع والاحتشاد، فسار إلى طوس، فهرب منه بكتوزون إلى نواحي جرجان، فأرسل محمود خلفه أكبر قواده وأمرائه وهو أرسلان الجاذب في عسكر جرار، فاتبعه حتى ألحقه بجرجان، وعاد فاستخلفه محمود على طوس، وسار إلى هراة.
فلما علم بكتوزون بمسير محمود عن نيسابور عاد إليها فملكها، فقصده محمود، فأجفل من بين يديه إجفال الظليم، واجتاز بمرو فنهبها، وسار عنها إلى بخارى، واستقر ملك محمود بخراسان، فأزال عنها اسم السامانية، وخطب فيها للقادر بالله، وكان إلى هذا الوقت لا يخطب له فيها، إنما كان يخطب للطائع لله، واستقل بملكها منفرداً، وتلك سنة الله تعالى يؤتي الملك من يشاء، وينزعه ممن يشاء.
وولى محمود قيادة جيوش خراسان أخاه نصراً، وجعله بنيسابور على ما كان يليه آل سيمجور للسامانية، وسار هو إلى بلخ، مستقر والده، فاتخذها دار ملكٍ، واتفق أصحاب الأطراف بخراسان على طاعته كآل فريغون، أصحاب الجوزجان، ونحن نذكرهم إن شاء الله تعالى، وكالشار الشاه، صاحب غرشستان، ونحن نذكر ها هنا أخبار هذا الشار، فاعلم أن هذا اللقب، وهو الشار، لقب كل من يملك بلاد غرشستان، ككسرى للفرس، وقيصر للروم، والنجاشي للحبشة، وكان الشار أبو نصر قد اعتزل الملك وسلمه إلى ولده الشاه، وفيه لوثة وهوج، واشتغل والده أبو نصر بالعلوم ومجالسة العلماء.
ولما عصى أبو علي بن سيمجور على الأمير نوح أرسل إلى غرشستان من حصرها، وأجلى عنها الشاه الشار ووالده أبا نصر، فقصدا حصناً منيعاً في آخر ولايتهما، فتحصنا به إلى أن جاء سبكتكين إلى نصرة الأمير نوح، فنزلا إليه وأعاناه على أبي علي وعادا إلى ملكهما. فلما ملك الآن يمين الدولة محمود خراسان أطاعاه وخطبا له.
ثم إن يمين الدولة، بعد هذا، أراد الغزوة إلى الهند، فجمع لها وتجهز، وكتب إلى الشاه الشار يستدعيه ليشهد معه غزوته، فامتنع وعصى، فلما فرغ من غزوته سير إليه الجيوش ليملكوا بلاده، فلما دخلوا البلاد طلب والده أبو نصر الأمان، فأجيب إلى ذلك، وحمل إلى يمين الدولة فأكرمه، واعتذر أبو نصر بعقوق ولده، وخلافه عليه، فأمره بالمقام بهراة متوسعاً عليه إلى أن مات سنة اثنتين وأربعمائة.
وأما ولده الشاه فإنه قصد ذلك الحصن الذي احتمى به على أبي علي، فأقام به ومعه أمواله وأصحابه، فحصره عسكر يمين الدولة في حصنه، ونصبوا عليه المجانيق، وألحوا عليه بالقتال ليلاً ونهاراً، فانهدمت أسوار حصنه، وتسلق العسكر إليه، فلما أيقن بالعطب طلب الأمان، والعسكر يقاتله، فلم يزل كذلك حتى أخذ أسيراً، وحمل إلى يمين الدولة، فضرب تأديباً له، ثم أودع السجن إلى أن مات، وكان موته قبل موت والده.

ورأيت عدة مجلدات من كتاب التهذيب للأزهري في اللغة بخطه، وعليه ما هذه نسخته: يقول محمد بن أحمد بن الأزهري قرأ علي الشار أبو نصر هذا الجزء من أوله إلى آخره، وكتبه بيده صح. فهذا يدل على اشتغاله وعلمه بالعربية، فإن من يصحب مثل الأزهري، ويقرأ كتابه التهذيب، يكون فاضلاً.
ذكر انقراض دولة السامانية

وملك الترك ما وراء النهر
في هذه السنة انقرضت دولة آل سامان على يد محمود بن سبكتكين، وايلك الخان التركي، واسمه أبو نصر أحمد بن علي، ولقبه شمس الدولة.
فأما محمود فإنه ملك خراسان، كما ذكرناه، وبقي بيد عبد الملك بن نوح ما وراء النهر، فلما انهزم من محمود قصد بخارى واجتمع بها هو وفائق وبكتوزون وغيرهما من الأمراء والأكابر، فقويت نفوسهم، وشرعوا في جمع العساكر، وعزموا على العود إلى خراسان، فاتفق أن مات فائق، وكان موته في شعبان من هذه السنة، فلما مات ضعفت نفوسهم، ووهنت قوتهم، فإنه كان هو المشار إليه من بينهم، وكان خصياً من موالي نوح بن نصر.
وبلغ خبرهم إلى ايلك الخان، فسار في جمع الأتراك إلى بخارى، وأظهر لعبد الملك المودة والموالاة، والحمية له، فظنوه صادقاً، ولم يحترسوا منه، وخرج إليه بكتوزون وغيره من الأمراء والقواد، فلما اجتمعوا قبض عليهم، وسار حتى دخل بخارى يوم الثلاثاء عاشر ذي القعدة من هذه السنة، فلم يدر عبد الملك ما يصنع لقلة عدده، فاختفى ونزل ايلك الخان دار الإمارة، وبث الطلب والعيون على عبد الملك، حتى ظفر به، فأودعه بافكند فمات بها، وكان آخر ملوك السامانية، وانقضت دولتهم على يده كأن لم تغن بالأمس، كدأب الدولة قبلها، إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار. وحبس معه أخوه أبو الحرث منصور بن نوح الذي كان في الملك قبله، وأخواه أبو إبراهيم، إسماعيل، وأبو يعقوب ابنا نوح، وعماه أبو زكرياء وأبو سليمان، وغيرهم من آل سامان، وأفرد كل واحد منهم في حجرة.
وكانت دولتهم قد انتشرت وطبقت كثيراً من الأرض من حدود حلوان إلى بلاد الترك، بما وراء النهر، وكانت من أحسن الدولة سيرةً وعدلاً، وعبد الملك هذا هو عبد الملك بن نوح بن منصور بن نوح بن نصر بن أحمد بن إسماعيل كلهم ملكوا، وكان منهم من ليس مذكورا في هذا النسب؛ وعبد الملك بن نوح بن نصر ملك قبل أخيه منصور بن نوح المذكور، وكان منهم أيضاً منصور بن نوح بن منصور أخو عبد الملك هذا الأخير زال الملك في ولايته ولي قبله.
ذكر ملك بهاء الدولة فارس وخوزستانفي هذه السنة دخل الديلم الذين مع أبي علي بن أستاذ هرمز بالأهواز في طاعة بهاء الدولة.
وكان سبب ذلك أن ابني بختيار لما قتلا صمصام الدولة، كما تقدم، وملكا بلاد فارس، كتاب إلى أبي علي بن أستاذ هرمز بالخبر، ويذكران تعويلهما عليه، واعتضادهما به، ويأمرانه بأخذ اليمين لهما على من معه من الديلم، والمقام بمكانه، والجد بمحاربة بهاء الدولة. فخافهما أبو علي لما كان أسلفه إليهما من قبل أخويهما وأسرهما، فجمع الديلم الذين معه وأخبرهم الحال، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بطاعة ابني بختيار ومقاتلة بهاء الدولة، فلم يوافقهم على ذلك، ورأى أن يراسل بهاء الدولة ويستميله ويحلفه لهم، فقالوا: إنا نخاف الأتراك، وقد عرفت ما بيننا وبينهم؛ فسكت عنهم وتفرقوا.
وراسله بهاء الدولة يستميله، ويبذل له وللديلم الأمان والإحسان، وترددت الرسل، وقال بهاء الدولة: إن ثأري وثأركم عند من قتل أخي، فلا عذر لكم في التخلف عن الأخذ بثأره؛ واستمال الديلم فأجابوه إلى الدخول في طاعته، وأنفذوا جماعة من أعيانهم إلى بهاء الدولة فحلفوه واستوثقوا منه، وكبتوا إلى أصحابهم المقيمين بالسوس بصورة الحال.
وركب بهاء الدولة من الغد إلى باب السوس، رجاء أن يخرج من فيه إلى طاعته، فخرجوا إليه في السلاح، وقاتلوه قتالاً شديداً لم يقاتلوا مثله، فضاق صدره، فقيل له إن هذه عادة الديلم أن يشتد قتالهم عند الصلح، لئلا يظن بهم، ثم كفوا عن القتال وأرسلوا من يحلفه لهم، ونزلوا إلى خدمته، واختلط العسكران، وساروا إلى الأهواز، فقرر أبو علي بن إسماعيل أمورها، وقسم الإقطاعات بين الأتراك والديلم، ثم ساروا إلى رامهرمز فاستولوا عليها وعلى أرجان وغيرها من بلاد خوزستان.

وسار أبو علي بن إسماعيل إلى شيراز، فنزل بظاهرها، فخرج إليه ابنا بختيار في أصحابهما، فحاربوه، فلما اشتدت الحرب مال بعض من معهما إليه، ودخل بعض أصحابه البلد، ونادوا بشعار بهاء الدولة، وكان النقيب أبو أحمد الموسوي بشيراز قد وردها رسولاً من بهاء الدولة إلى صمصام الدولة، فلما قتل صمصام الدولة كان بشيراز، فلما سمع النداء بشعار بهاء الدولة ظن أن الفتح قد تم، فقصد الجامع، وكان يوم الجمعة، وأقام الخطبة لبهاء الدولة.
ثم عاد ابنا بختيار، واجتمع إليهما أصحابهما، فخاف النقيب، فاختفى، وحمل في سلةٍ إلى أبي علي بن إسماعيل؛ ثم إن أصحاب ابني بختيار قصدوا أبا علي وأطاعوه، فاستولى على شيراز، وهرب ابنا بختيار، فأما أبو نصر فإنه لحق ببلاد الديلم، وأما الثاني، وهو أبو القاسم، فلحق ببدر بن حسنويه، ثم قصد البطيحة.
ولما ملك أبو علي شيراز كتب إلى بهاء الدولة بالفتح، فسار إليها ونزلها، فلما استقر بها أمر بنهب قرية الدودمان وإحراقها، وقتل كل من كان بها من أهلهم فاستأصلهم، وأخرج أخاه صمصام الدولة وجد أكفانه، وحمل إلى التربة بشيراز فدفن بها، وسير عسكراً مع أبي الفتح أستاذ هرمز إلى كرمان فملكها وأقام بها نائباً عن بهاء الدولة. إلى ها هنا آخر ما في ذيل الوزير أي شجاع، رحمه الله.
ذكر مسير باديس إلى زناتةفي هذه السنة، منتصف صفر، أمر باديس بن المنصور، صاحب إفريقية، نائبه محمد بن أبي العرب بالتجهز والاستكثار من العساكر والعدد، والمسير إلى زناتة.
وسبب ذلك أن عمه يطوفت كتب إليه يعلمه أن زيري بن عطية الملقب بالقرطاس، وقد تقدم ذكره، نزل عليه بتاهرت محارباً، فأمر محمداً بالتجهز إليه، فسار في عساكر كثيرة حتى وصل إلى أشير، وبها حماد بن يوسف عم باديس، وكان قد أقطعه إياها باديس، فرحل حماد معه، فوصل إلى تاهرت، واجتمعا بيطوفت، وبينهم وبين زيري بن عطية مرحلتان، فزحفوا إليه، فكانت بينهما حروب عظيمة.
وكان أكثر عسكر حماد يكرهونه لقلة عطائه، فلما اشتد القتال انهزموا، فتبعهم جميع العسكر، فأراد محمد بن أبي العرب أن يرد الناس، فلم يقدر على ذلك، وتمت الهزيمة، وملك زيري بن عطية مالهم وعددهم ورجعت العساكر إلى أشير.
وبلغ خبر الهزيمة إلى باديس، فرحل، فلما قارب طبنة بعث في طلب فلفل بن سعيد، فخاف، فأرسل يعتذر إليه، وطلب عهداً بإقطاع مدينة طبنة، فكتب له، وسار باديس، فلما أبعد قصد فلفل مدينة طبنة، وغلب على ما حولها، وقص باغاية فحصرها، وباديس سائر إلى أشير. فلما سمع زيري ابن عطية بأنه قد قرب منه رحل إلى تاهرت، فقصده باديس، فسار زيري إلى العرب. فلما سمع باديس برحيله استعمل عمه يطوفت على أشير، وأعطاه أموالاً وعدداً، وعاد إلى أشير، فبلغه ما فعل فلفل بن سعيد، فأرسل إليه العساكر، وبقي يطوفت ومعه أعمامه وأولاد أعمامه، فلما أبعد عنهم باديس عصوا، وخالفوا عليه، منهم ماكسن، وزاوي وغيرهما، وقبضوا على يطوفت، وأخذوا جميع ما معه من المال، فهرب من أيديهم وعاد إلى باديس.
وأما فلفل بن سعيد فإنه لما وصل إليه العسكر المسير إلى قتاله لقيهم وقاتلهم وهزمهم، وقتل فيهم، وسار يطلب القيروان. فسار عند ذلك باديس إلى باغاية، فلقيه أهلها، فعرفوه ما قاسوه من قتال فلفل، وأنه حصرهم خمسة وأربعين يوماً، فشكرهم، ووعدهم الإحسان، وسار يطلب فلفلاً، فوصل إلى مرمجنة، وسار فلفل إليه في جمع كثير من البربر وزناتة، ومعه كل من في نفسه حقد على باديس وأهل بيته، فالتقوا بوادي اغلان، وكان بينهم حرب عظيمة لم يسمع بمثلها، وطال القتال بينهم، وصبر الفريقان، ثم أنزل الله تعالى نصره على باديس وصنهاجة، وانهزم البربر وزناتة هزيمة قبيحة، وانهزم فلفل فأبعد في الهزيمة، وقتل من زويلة تسعة آلاف قتيل سوى من قتل من البربر، وعاد باديس إلى قصره، وفرح أهل القيروان لأنهم خافوا أن يأتيهم فلفل.
ثم إن عمومة باديس اتصلوا بفلفل، وصاروا معه على باديس، فلما سمع باديس بذلك سار إليهم، فلما وصل قصر الإفريقي وصله أن عمومته فارقوا فلفلاً، ولم يبق معه سوى ماكسن بن زيري، وذلك أول سنة تسعين وثلاثمائة.
ذكر ملك الحاكم طرابلس الغرب

وعودها إلى باديس

كان لباديس نائب بطرابلس الغرب، فكاتب الحاكم بأمر الله بمصر، وطلب أن يسلم إليه طرابلس ويلتحق به، فأرسل إليه الحاكم يأنس الصقلي، وكان خصيصاً بالحاكم، وهو المتولي لبلاد برقة، فوصل يأنس وتسلم طرابلس وأقام بها، وذلك سنة تسعين.
فأرسل باديس إلى يأنس يسأله عن سبب وصوله إلى طرابلس، وقال له: إن كان الحاكم استعملك عليها فأرسل العهد لأقف عليه. فقال يأنس: إنما أرسلني معيناً ونجدةً إن احتيج إي، ومثلي لا يطلب منه عهد بولايةً لمحلي من دولة الحاكم. فسير إليه جيشاً، فلقيهم يأنس خارج طرابلس، فقتل في المعركة، وانهزم أصحابه ودخلوا طرابلس فتحصنوا بها.
وكان قد قتل منهم في المعركة كثير، ونزل عيهم الجيش وحصرهم، وأرسلوا إلى الحاكم يستمدونه، فجهز جيشاً عليهم يحيى بن علي الأندلسي، وسيرهم إلى طرابلس، وأطلق لهم مالاً على برقة، فلم يجد يحيى فيها مالاً، فاختلت حاله، فسار إلى فلفل، وكان قد دخل إلى طرابلس واستولى عليها، فأقام معه فيها، واستوطنها من ذلك الوقت. وسنذكر باقي خبرهم سنة ثلاث وتسعين.
وفي سنة إحدى وتسعين سار ماكسن بن زيري، عم أبي باديس، إلى أشير، وبها ابن أخيه حماد بن يوسف بلكين، فكان بينهما حرب شديدة قتل فيها ماكسن وأولاده محسن، وباديس، وحباسة، وتوفي زيري بن عطية بعد قتل ماكسن بتسعة أيام.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، عاشر ربيع الأول، انقض كوكب عظيم ضحوة نهار.
وفيها عمل أهل باب البصرة يوم السادس والعشرين من ذي الحجة زينة عظيمة وفرحاً كثيراً، وكذلك عملوا ثامن عشر المحرم مثل ما يعمل الشيعة في عاشوراء، وسبب ذلك أن الشيعة بالكرخ كانوا ينصبون القباب، وتعلق الثياب للزينة، واليوم الثامن عشر من ذي الحجة، وهو يوم الغدير، وكانوا يعملون يوم عاشوراء في المأتم، والنوح، وإظهار الحزن ما هو مشهور، فعمل أهل باب البصرة في مقابل ذلك، بعد يوم الغدير بثمانية أيام، مثلهم وقالوا: هو يوم دخل النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، رضي الله عنه، والغار؛ وعملوا بعد عاشوراء بثمانية أيام مثل ما يعملون يوم عاشوراء، وقالوا: هو يوم قتل مصعب بن الزبير.
وتوفي هذه السنة أحمد بن محمد بن عيسى أبو محمد السرخسي المقريء الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي إسحاق المروزي، وله رواية للحديث أيضاً، وكان شيخ خراسان في زمانه، وقرأ القرآن على ابن مجاهد، والأدب على ابن الأنباري، ومات وله ست وتسعون سنة؛ وعبدالله بن محمد بن إسحاق ابن سليمان أبو القاسم البزاز، المعروف بابن حبابة، وكان شيخ الحنابلة في زمانه.
ثم دخلت سنة تسعين وثلاثمائة

ذكر خروج إسماعيل بن نوح
وما جرى له بخراسان
في هذه السنة خرج أبو إبراهيم إسماعيل بن نوح من محبسه، وكان قد حبسه ايلك الخان لما ملك بخارى مع جماعة من أهله.
وسبب خلاصه أنه كانت تأتيه جارية تخدمه، وتتعرف أحواله، فلبس ما ان عليها وخرج، فظنه الموكلون الجارية، فلما خرج استخفى عند عجوز من أهل بخارى، فلما سكن الطلب عنه سار من بخارى إلى خوارزم، وتلقب المنتصر، وجامع إليه بقايا القواد السامانية والأجناد، فكثف جمعه، وسير قائداً من أصحابه في عسكر إلى بخارى، فبيت من بها من أصحاب ايلك الخان، فهزمهم وقتل منهم، وكبس جماعة من أعيانهم، مثل جعفر تكين وغيره، وتبع المنهزمين نحو ايلك الخان إلى حدود سمرقند، فلقي هناك عسكراً جراراً جعلهم ايلك الخان يحفظون سمرقند، فانضاف إليهم المنهزمون، ولقوا عسكر المنتصر، فانهزم أيضاً عسكر ايلك الخان، وتبعهم عسكر المنتصر، فغنموا أثقالهم فصلحت أحوالهم بها، وعادوا إلى بخارى، فاستبشر أهلها بعود السامانية.
ثم إن ايلك جمع الترك وقصد بخارى، فانحاز من بها من السامانية وعبروا النهر إلى آمل الشط، فضاقت عليهم، فساروا هم والمنتصر نحو أبيورد فملكها، وجبوا أموالها،وساروا نحو نيسابور، وبها منصور بن سبكتكين، نائباً عن أخيه محمود، فالتقوا قرب نيسابور في ربيع الآخر، فاقتتلوا، فانهزم منصور وأصحابه، وقصدوا هراة، وملك المنتصر نيسابور، وكثر جمعه.

وبلغ يمين الدولة الخبر، فسار مجداً نحو نيسابور، فلما قاربها سار عنها المنتصر إلى أسفرايين، فلما أزعجه الطلب سار نحو شمس المعالي قابوس ابن وشمكير وملتجئاً إيه ومتكثراً به، فأكرمه مورده، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأشار على المنتصر بقصد الري إذ كانت ليس بها من يذب عنها، لاشتغال أصحابها باختلافهم، ووعده بأن ينجده بعسكر جرار مع أولاده، فقبل مشورته وسار نحو الري، فنازلها، فضعف من بها عن مقاومته، إلا أنهم حفظوا البلد منه، ودسوا إلى أعيان عسكره كأبي القاسم بن سيمجور وغيره، وبذلوا لهم الأموال ليردوه عنهم، ففعلوا ذلك، وصغروا أمر الري عنده وحسنوا له العود إلى خراسان. فسار نحو الدامغان، وعاد عنه عسكر قابوس.
ووصل المنتصر إلى نيسابور في آخر شوال سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، فجبى له الأموال بها، فأرسل إليه يمين الدولة جيشاً فلقوه، فانهزم المنتصر وسار نحو أبيورد، وقصد جرجان، فرده شمس المعالي عنها، فقصد سرخس وجبى أموالها وسكنها. فسار إليه منصور بن سبكتكين من نيسابور، فالتقوا بظاهر سرخس واقتتلوا، فانهزم المنتصر وأصحابه، وأسر أبو القاسم علي ابن محمد بن سيمجور وجماعة من أعيان عسكره، وحملوا إلى المنصور، فسيرهم إلى غزنة، وذلك في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين.
وسار المنتصر تائهاً حتى وافى الأتراك الغزية ولهم ميل إلى آل سامان، فحركتهم الحمية، واجتمعوا معه، وسار بهم نحو ايلك الخان، وكان ذلك في شوال سنة ثلاث وتسعين، فلقيهم ايلك بنواحي سمرقند، فهزموه واستولوا على أمواله وسواده، وأسروا جماعة من قواده وعادوا إلى أوطانهم، واجتمعوا على إطلاق الأسرى تقرباً إلى ايلك الخان بذلك. فعلم المنتصر، فاختار من أصحابه جماعة يثق بهم، وسار بهم، فعبر النهر، ونزل بآمل الشط، فلم يقبله مكان، وكلما قصد مكاناً رده أهله خوفاً من معرته، فعاد وعبر النهر إلى بخارى، وطلب واليها لايلك الخان، فلقيه واقتتلوا، فانهزم المنتصر إلى دبوسية وجمع بها، ثم عاودهم فهزمهم، وخرج إليه خلق كثير من فتيان سمرقند، وصاروا في جملته، وحمل له أهلها المال والآلات والثياب والدواب وغير ذلك.
فلما سمع ايلك الخان بحاله جمع الأتراك وسار إليه في قضه وقضيضه، والتقوا بنواحي سمرقند، واشتدت الحرب بينهم، فانهزم ايلك الخان، وكان ذلك في شعبان سنة أربع وتسعين، وغنموا أمواله ودوابه. وعاد ايلك الخان إلى بلاد الترك، فجمع وحشد وعاد إلى المنتصر، فوافق عوده تراجع الغزية الذين كانوا مع المنتصر إلى أوطانهم، وقد زحف جمعه، فاقتتلوا بنواحي أسروشنة، فانهزم المنتصر، وأكثر الترك في أصحابه القتل.
وسار المنتصر منهزماً، حتى عبر النهر، وسار إلى الجوزجان فنهب أموالها، وسار يطلب مرو، فسير يمين الدولة العساكر، ففارق مكانه وسار وهم في أثره، حتى أتى بسطام، فأرسل إليه قابوس عسكراً أزعجه عنها، فلما ضاقت عليه المذاهب عاد إلى ما وراء النهر، فعبر أصحابه وقد ضجروا وسئموا من السهر والتعب والخوف، ففارقه كثير منهم إلى بعض أصحاب ايلك الخان، فأعلموهم بمكانه، فلم يشعر المنتصر إلا وقد أحاطت به الخيل من كل جانب، فطاردهم ساعة ثم ولاهم الدبر وسار فنزل بحلة من العرب في طاعة يمين الدولة، وكان يمين الدولة قد أوصاهم بطلبه، فلما رأوه أمهلوه حتى أظلم الليل، ثم وثبوا عليه فأخذوه وقتلوه، وكان ذلك خاتمه أمره؛ وإنما أوردت الحادثة هذه السنة لترد متتابعة، فلو تفرقت في السنين لم تعلم على هذه الصورة لقلتها.
ذكر محاصرة يمين الدولة سجستانفي هذه السنة سار يمين الدولة إلى سجستان، وصاحبها خلف بن أحمد، فحصره بها.
وكان سبب ذلك أن يمين الدولة لما اشتغل بالحروب التي ذكرناها سير خلف بن أحمد ابنه طاهراً إلى قهسنان فملكها، ثم سار منها إلى بوشنج فملكها، وكانت هي وهراة لبغراجق، عم يمين الدولة، فلما فرغ يمين الدولة من تلك الحروب استأذنه عمه في إخراج طاهر بن خلف من ولايته، فأذن له في ذلك، فسار إليه، فلقيه طاهر بنواحي بوشنج، فاقتتلوا، فانهزم طاهر ولج بغراجق في طلبه، فعطف عليه طاهر فقتله ونزل إليه وأخذ رأسه.

فلما سمع يمين الدولة بقتل عمه عظم عليه، وكبر لديه، وجمع عساكره وسار نحو خلف بن أحمد، فتحصن منه خلف بحصن أصبهبذ، وهو حصن يناطح النجوم علواً وارتفاعاً، فحصره فيه وضيق عليه، فذل وخضع، وبذل أموالاً جليلة لينفس عن خناقه، فأجابه يمين الدولة إلى ذلك، وأخذ رهنه على المال.
ذكر قتل ابن بختيار بكرمان

واستيلاء بهاء الدولة عليها
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، قتل الأمير أبو نصر بن بختيار، الذي كان قد استولى على بلاد فارس.
وسبب قتله أنه لما انهزم من عسكر بهاء الدولة بشيراز سار إلى بلاد الديلم، وكاتب الديلم بفارس وكرمان من هناك يستميلهم، وكاتبوه واستدعوه، فسار إلى بلاد فارس، واجتمع عليه جمع كثير من الزط، والديلم، والأتراك، وتردد في تلك النواحي. .
ثم سار إلى كرمان، فلم يقبله الديلم الذين بها، وكان المقدم عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فجمع وقصد أبا جعفر، فالتقيا، فانهزم أبو جعفر إلى السيرجان، ومضى ابن بختيار إلى جيرفت فملكها، وملك أكثر كرمان، فعظم الأمر على بهاء الدولة، فسير إليه الموفق علي بن إسماعيل في جيش كثير، وسار مجداً حتى أطل على جيرفت، فاستأمن إليه من بها من أصحاب ابن بختيار ودخلها. فأنكر عليه من معه من القواد سرعة سيره، وخوفوه عاقبة ذلك، فلم يصغ إليهم، وسأل عن حال ابن بختيار، فأخبر أنه على ثمانية فراسخ من جيرفت، فاختار ثلاثمائة رجل من شجعان أصحابه وسار بهم، وترك الباقين مع السواد بجيرفت.
فلما بلغ ذلك المكان لم يجده ودل عليه فلم يزل يتبعه من منزل، حتى لحقه بدارزين، فسار ليلاً، وقدر وصوله إليه عند الصبح فأدركه. فركب ابن بختيار واقتتلوا قتالاً شديداً، وسار الموفق في نفر من غلمانه، فأتى ابن بختيار من ورائه، فانهزم ابن بختيار وأصحابه، ووضع فيهم السيف، فقتل منهم الخلق الكثير. فقدر بابن بختيار بعض أصحابه، وضربه بلت فألقاه وعاد إلى الموفق ليخبره بقتله، فأرسل معه من ينظر إليه، فرآه وقد قتله غيره، وحمل رأسه إلى الموفق.
وأكثر الموفق القتل في أصحاب ابن بختيار، واستولى على بلاد كرمان، واستعمل عليها أبا موسى سياهجيل، وعاد إلى بهاء الدولة، فخرج بنفسه ولقيه، وأكرمه وعظمه ثم قبض عليه بعد أيام.
ومن أعجب ما يذكر أن الموفق أخبره منجم أنه يقتل ابن بختيار يوم الاثنين، فلما كان قبل الاثنين بخمسة أيام قال للمنجم: قد بقي خمسة أيام وليس لنا علم به؛ فقال له المنجم: إن لم تقتله فاقتلني عوضه، وإلا فأحسن إلي. فلما كان يوم الاثنين أدركه وقتله، وأحسن إلى المنجم إحساناً كثيراً.
ذكر القبض على الموفق أبي علي بن إسماعيلقد ذكرنا مسيره إلى قتال ابن بختيار، وقتله ابن بختيار، فلما عاد أكرمه بهاء الدولة ولقيه بنفسه، فاستعفى الموفق من الخدمة، فلم يعفه بهاء الدولة، فألح كل واحد منهما، فأشار أبو محمد بن مكرم على الموفق بترك ذلك، فلم يقبل، فقبض عليه بهاء الدولة وأخذ أمواله، وكتب إلى وزيره سابور ببغداد بالقبض على أنساب الموفق، فعرفهم ذلك سراً، فاحتالوا لنفوسهم وهربوا، واستعمل بهاء الدولة أبا محمد بن مكرم على عمان، ثم إن بهاء الدولة قتل الموفق سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعمل بهاء الدولة أبا علي الحسن هرمز على خوزستان، وكانت قد فسدت أحوالها بولاية أبي جعفر الحجاج لها، ومصادرته لأهلها، فعمرها أبو علي، ولقبه بهاء الدولة عميد الجيوش، وحمل إلى بهاء الدولة منها أموالاً جليلة مع حسن سيرةٍ في أهلها وعدل.
وفيها ظهر في سجستان معدن الذهب، فكانوا يحفرون التراب ويخرجون منه الذهب الأحمر.
وفيها توفي الشريف أبو الحسن محمد بن عمر العلوي، ودفن بالكرخ، وعمره خمس وسبعون سنة، وهو مشهور بكثرة المال والعقار؛ والقاضي أبو الحسن ابن قاضي القضاة أبي محمد بن معروف؛ والقاضي أبو الفرج المعافى بن زكرياء المعروف بابن طرار الجريري، بفتح الجيم، منسوب إلى محمد بن جرير الطبري لأنه كان يتفقه على مذهبه، وكان عالماً بفنون العلوم، كثير الرواية والتصنيف فيها.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة
ذكر قتل المقلد وولاية ابنه قرواش
في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلد بن المسيب العقيلي غيلةً، قتله مماليك له ترك.

وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه، فتبعهم وظفر بهم، وقتل منهم وقطع، وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم، فاغتنم بعضهم غفلته وقتله بالأنبار، وكان قد عظم أمره، وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر.
ولما قتل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار، فخاف نائبه عبدالله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية، فاستدعاه إليه وقال له: أنا أجعل بينك وبين قرواش عهداًن وأزوجه ابنتك وأقاسمك على ما خلفه أبوه، ونساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد.
وأرسل عبدالله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال، وأقام قراد عنده.
ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل، وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفه منك حمله على ذلك؛ فبذل من نفسه الموافقة له، والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب، ويخرج هو واقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم عادوا جميعاً على قراد فأخذوه، فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله.
فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له، وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش، وهي بحالها، وسار قرواش إلى الكوفة، فأوقع بخفاجة عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج، على ما نذكره إن شاء الله.
ذكر البيعة لولي العهدفي هذه السنة، في ربيع الأول، أمر القادر بالله بالبيعة لولده أبي الفضل بولاية العهد، وأحضر حجاج خراسان وأعلمهم ذلك، ولقبه الغالب بالله.
وكان سبب البيعة له أن أبا عبدالله بن عثمان الواثقي، من ولد الواثق بالله أمير المؤمنين، كان من أهل نصيبين، فقصد بغداد، ثم سار عنها إلى خراسان، وعبر النهر إلى هارون بن ايلك بغرا خاقان، وصحبه الفقيه أبو الفضل التميمي، وأظهر أنه رسول من الخليفة إلى هارون يأمره بالبيعة لهذا الواثقي، فإنه ولي عهدٍ، فأجابه خاقان إلى ذلك، وبايع له وخطب له ببلاده وأنفق عليه. فبلغ ذلك القادر بالله، فعظم عليه، وراسل خاقان في معناه، فلم يصغ إلى رسالته.
فلما توفي هارون خاقان، وولي بعده أحمد قراخاقان، كاتبه الخليفة في معناه، فأمر بإبعاده، فحينئذ بايع الخليفة لولده بولاية العهد.
وأما الواثقي فإنه خرج من عنده أحمد قراخاقان وقصد بغداد فعرف بها وطلب، فهرب منها إلى البصرة، ثم إلى فارس وكرمان، ثم إلى بلاد الترك، فلم يتم له ما أراد، وراسل الخليفة الملوك يطلبه، فضاقت عليه الأرض، وسار إلى خوارزم وأقام بها، ثم فارقها، فأخذه يمين الدولة محمود بن سبكتكين فحبسه في قلعة إلى أن توفي بها.
ذكر استيلاء طاهر بن خلف على كرمان وعوده عنهافي هذه السنة سار طاهر بن خلف بن أحمد، صاحب سجستان، إلى كرمان طالباً ملكها.
وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد خرج عن طاعة أبيه، وجرى بينهما حروب كان الظفر فيها لأبيه، ففارق سجستان وسار إلى كرمان، وبها عسكر بهاء الدولة، وهي له على ما ذكرناه، فاجتمع من بها من العساكر إلى المقدم عليهم ومتولي أمر البلد، وهو أبو موسى سياهجيل، فقالوا له: إن هذا الرجل قد وصل، وهو ضعيف، والرأي أن تبادره قبل أن يقوى أمره ويكثر جمعه، فلم يفعل واستهان به، فكثر جمع طاهر، وصعد إلى الجبال، وبها قوم من العصاة على السلطان، فاحتمى بهم وقوي، فنزل إلى جيرفت فملكها وملك غيرها، وقوي طمعه في الباقي.
فقصده أبو موسى والديلم، فهزمهم، وأخذ بعض ما بقي بأيديهم، فكاتبوا بهاء الدولة، فسير إليهم جيشاً عليهم أبو جعفر بن أستاذ هرمز، فسار إلى كرمان، وقصد بم، وبها طاهر، فجرى بين طلائع العسكرين حرب، وعاد طاهر إلى سجستان، وفارق كرمان، فلما بلغ سجستان أطلق المأسورين، ودعاهم إلى قتال أبيه معه، وحلف لهم أنهم إذا نصروه وقاتلوا معه أطلقهم، ففعلوا ذلك، وقاتل أباه، فهزمه وملك طاهر البلاد، ودخل أبوه إلى حصن له منيع فاحتمى به.

وأحب الناس طاهراً لحسن سيرته، وسوء سيرة والده، وأطلق طاهر الديلم، ثم إن أباه راسل أصحابه ليفسدهم عليه، فلم يفعلوا، فعدل إلى مخادعته، وراسله يظهر له الندم على ما كان منه، ويستميله بأنه ليس له ولد غيره، وأنه يخاف أن يموت فيملك بلاده غير ولده. ثم استدعاه إليه جريدة ليجتمع به ويعرفه أحواله، فتواعدا تحت قلعة خلف، فأتاه ابنه جريدة، ونزل هو إليه كذلك، وكان قد كمن بالقرب منه كمينا، فلما لقيه اعتنقه، وبكى خلف، وصاح في بكائه، فخرج الكمين وأسروا طاهراً فقتله أبوه بيده، وغسله ودفنه، ولم يكن له ولد غيره.
فلما قتل طمع الناس في خلف، لأنهم كانوا يخافون ابنه لشهامته، وقصده حينئذ محمود بن سبكتكين، فملك بلاده على ما نذكره؛ وأما العتبي فذكر في سبب فتحها غير هذا، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ثار الأتراك ببغداد بنائب السلطان، وهو أبو نصر سابور، فهرب منهم، ووقعت الفتنة بين الأتراك والعامة من أهل الكرخ، وقتل بينهم قتلى كثيرة، ثم إن السنة من أهل بغداد ساعدوا الأتراك على أهل الكرخ، فضعفوا عن الجميع، فسعى الأشراف في إصلاح الحال فسكنت الفتنة.
وفيها ولد الأمير أبو جعفر عبدالله بن القادر، وهو القائم بأمر الله.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى، وكان فاضلاً عالماً بعلوم الإسلام وبالمنطق، وكان يجلس للتحديث، وروى الناس عنه.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن الجزري، وكان على مذهب داود الظاهري، وكان يصحب عضد الدولة قديماً.
وفيها توفي أبو عبدالله الحسين بن الحجاج الشاعر بطريق النيل، وحمل إلى بغداد، وديوانه مشهور.
وفيها توفي بكران بن أبي الفوارس خال الملك جلال الدولة بواسط.
وفيها توفي جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن الفرات المعروف بابن حنزابة، الوزير، ومولده سنة ثمان وثلاثمائة، وكان سار إلى مصر فولي وزارة كافور وروي حديثاً كثيراً.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة

ذكر وقعة ليمين الدولة بالهند
في هذه السنة أوقع يمين الدولة محمود بن سبكتكين بجيبال ملك الهند وقعة عظيمة.
وسبب ذلك أنه لما اشتغل بأمر خراسان وملكها، وفرغ منها ومن قتال خلف بن أحمد، وخلا وجهه من ذلك، أحب أن يغزو الهند غزوةً تكون كفارة لما كان منه من قتال المسلمين، فثنى عنانه نحو تلك البلاد، فنزل على مدينة برشور، فأتاه عدو الله جيبال ملك الهند في عساكر كثيرة، فاختار يمين الدولة من عساكره والمطوعة خمسة عشر ألفاً، وسار نحوه، فالتقوا في المحرم من هذه السنة، فاقتتلوا، وصبر الفريقان.
فلما انتصف النهار انهزم الهند، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، وأسر جيبال ومعه جماعة كثيرة من أهله وعشيرته، وغنم المسلمون منهم أموالاً جليلة، وجواهر نفيسة، وأخذ من عنق عدو الله جيبال قلادة من الجوهر العديم النظير قومت بمائتي ألف دينار، وأصيب أمثالها في أعناق مقدمي الأسرى، وغنموا خمس مائة ألف رأس من العبيد، وفتح من بلاد الهند بلاداً كثيرة، فلما فرغ من غزواته أحب أن يطلق جيبال ليراه الهنود في شعار الذل، فأطلقه بمالٍ قرره عليه، فأدى المال.
ومن عادة الهند أنهم من حصل منهم في أيدي المسلمين أسيراً لم ينعقد له بعدها رئاسة، فلما رأى جيبال حاله بعد خلاصه حلق رأسه، ثم ألقى نفسه في النار، فاحترق بنار الدنيا قبل نار الآخرة.
ذكر غزوة أخرى إلى الهند أيضاً
فلما فرغ يمين الدولة من أمر جيبال رأى أن يغزو غزوة أخرى، فسار نحو ويهند، فأقام عليها محاصراً لها، حتى فتحها قهراً، وبلغه أن جماعة من الهند قد اجتمعوا بشعاب تلك الجبال عازمين على الفساد والعناد، فسير إليهم طائفة من عسكره، فأوقعوا بهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج منهم إلا الشريد الفريد، وعاد إلى غزنة سالماً ظافراً.
ذكر الحرب بين قرواش وعسكر بهاء الدولةفي هذه السنة سير قرواش بن المقلد جمعاً من عقيل إلى المدائن فحصروها، فسير إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن ابن مزيد في بني أسد، وقويت شوكتهم فخرج الحجاج إليهم، واستنجد خفاجة، وأحضرهم من الشام، فاجتمعوا معه، واقتتلوا بنواحي باكرم في رمضان، فانهزمت الديلم والأتراك، وأسر منهم خلق كثير، واستبيح عسكرهم.

فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، فالتقوا بنواحي الكوفة، واشتد القتال بينهم، فانهزمت عقيل وابن مزيدن وقتل من أصحابهم خلق كثير، وأسر مثلهم، وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.
ولما سار أبو جعفر عن بغداد اختلت الأحوال بها، وعاد أمر العيارين فظهر، واشتد الفساد، وقتلت النفوس، ونهبت الأموال، وأحرقت المساكن، فبلغ ذلك بهاء الدولة، فسير إلى العراق لحفظه أبا علي بن أبي جعفر المعروف بأستاذ هرمز، ولقبه عميد الجيوش، وأرسل إلى أبي جعفر الحجاج، وطيب قلبه، ووصل أبو علي إلى بغداد، فأقام السياسة، ومنع المفسدين، فسكنت الفتنة وأمن الناس.
وفيها توفي محمد بن محمد بن جعفر أبو بكر الفقيه الشافعي المعروف بابن الدقاق، صاحب الأصول.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة

ذكر ملك يمين الدولة سجستان
في هذه السنة ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين سجستان، وانتزعها من يد خلف بن أحمد.
قال العتبي: وكان سبب أخذها أن يمين الدولة لما رحل عن خلف بعد أن صالحه، كما تقدم ذكره سنة تسعين، عهد خلف إلى ولده طاهر، وسلم إيه مملكته، وانعكف هو على العبادة والعلم، وكان عالماً، فاضلاً، محباً للعلماء، وكان قصده أن يوهم يمين الدولة أنه ترك الملك وأقبل على طلب الآخرة ليقطع طمعه عن بلاده.
فلما استقر طاهر في الملك عق أباه وأهمل أمره، فلاطفه أبوه ورفق به، ثم إنه تمارض في حصنه المذكور، واستدعى ولده ليوصي إليه، فحضر عنده غير محتاطٍ، ونسي إساءته، فلما صار عنده قبض عليه وسجنه، وبقي في السجن إلى أن مات فيه، وأظهر عنه أنه قتل نفسه.
ولما سمع عسكر خلف وصاحب جيشه بذلك تغيرت نياتهم في طاعته، وكرهوه، وامتنعوا عليه في مدينته، وأظهروا طاعة يمين الدولة، وخطبوا له، وأرسلوا إليه يطلبون من يتسلم المدينة، ففعل وملكها، واحتوى عليها في هذه السنة، وعزم على قصد خلف وأخذ ما بيده والاستراحة من مكره. فسار إليه، وهو في حصن الطاق، وله سبعة أسوار محكمة، يحيط بها خندق عميق، عريض، لا يخاض إلا من طريق على جسر يرفع عند الخوف، فنازله وضايقه فلم يصل إليه، فأمر بطم الخندق ليمكن العبور إليه، فقطعت الأخشاب وطم بها وبالتراب في يوم واحد مكاناً يعبرون فيه ويقاتلون منه.
وزحف الناس ومعهم الفيول، واشتدت الحرب، وعظم الأمر، وتقدم أعظم الفيول إلى باب السور فاقتلعه بنابيه وألقاه، وملكه أصحاب يمين الدولة، وتأخر أصحاب خلف إلى السور الثاني، فلم يزل أصحاب يمين الدولة يدفعونهم عن سور سور، فلما رأى خلف اشتداد الحرب، وأن أسواره تملك عليه، وأن أصحابه قد عجزوا، وأن الفيلة تحطم الناس طار قلبه خوفاً وفرقاً، فأرسل يطلب الأمان، فأجابه يمين الدولة إلى ما طلب وكف عنه، فلما حضره عنده أكرمه واحترمه، وأمر بالمقام في أي البلاد شاء، فاختار أرض الجوزجان، فسير إليها في هيئة حسنة، فأقام بها نحو أربع سنين.
ونقل إلى يمين الدولة عنه أنه يراسل ايلك الخان يغريه بقصد يمين الدولة، فنقله إلى جردين، واحتاط عليه هناك، إلى أن أدركه أجله في رجب سنة تسع وتسعين، فسلم يمين الدولة جميع ما خلفه إلى ولده أبي حفص. وكان خلف مشهوراً بطلب العلم وجمع العلماء، وله كتاب صنفه في تفسير القرآن من أكبر الكتب.
ذكر الحرب بين عميد الجيوش أبي علي وبين أبي جعفر الحجاجفي هذه السنة كانت الحرب بين أبي علي بن أبي جعفر أستاذ هرمز، وبين أبي جعفر الحجاج.
وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نائباً عن بهاء الدولة بالعراق، فجمع وغزا، واستناب بعده عميد الجيوش أبا علي، فأقام أبو جعفر بنواحي الكوفة، ولم يستقر بينه وبين أبي علي صلح.
وكان أبو جعفر قد جمع جمعاً من الديلم والأتراك وخفاجة فجمع أبو علي أيضاً جمعاً كثيراً وسار إليه، والتقوا بنواحي النعمانية، فاقتتلوا قتالاً عظيماً، وأرسل أبو علي بعض عسكره، فأتوا أبا جعفر من ورائه، فانهزم أبو جعفر ومضى منهزماً.

فلما أمن أبو علي سار من العراق، بعد الهزيمة، إلى خوزستان، وبلغ السوس، وأتاه الخبر أن أبا جعفر قد عاد إلى الكوفة، فرجع إلى العراق، وجرى بينه وبين أبي جعفر منازعات ومراجعات إلى أن آل الأمر إلى الحرب فاستنجد كل واحدٍ منهم بني عقيل وبني خفاجة وبني أسد، فبينما هم كذلك أرسل بهاء الدولة إلى عميد الجيوش أبي علي يستدعيه، فسار إيه إلى خوزستان لأجل أبي العباس بن واصل، صاحب البطيحة.
ذكر عصيان سجستان وفتحها ثانيةلما ملك يمين الدولة سجستان عاد عنها واستخلف عليها أميراً كبيراً من أصحابه، يعرف بقنجى الحاجب، فأحسن السيرة في أهلها.
ثم إن طوائف من أهل العيث والفساد قدموا عليهم رجلاً يجمعهم، وخالفوا على السلطان، فسار إليهم يمين الدولة، وحصرهم في حصن أرك، ونشبت الحرب في ذي الحجة من هذه السنة، فظهر عليهم، وظفر بهم، وملك حصنهم، وأكثر القتل فيهم، وانهزم بعضهم فسير في آثارهم من يطلبهم، فأدركوهم، فأكثروا القتل فيهم حتى خلت سجستان منهم وصفت له واستقر ملكها عليه، فأقطعها أخاه نصراً مضافةً إلى نيسابور.
ذكر وفاة الطائع للهفي هذه السنة، في شوال منها، توفي الطائع لله المخلوع ابن المطيع لله، وحضر الأشراف والقضاة وغيرهم دار الخلافة للصلاة عليه والتعزية، وصلى عليه القادر بالله، وكبر عليه خمساً، وتكلمت العامة في ذلك فقيل: إن هذا مما يفعل بالخلفاء؛ وشيع جنازته ابن حاجب النعمان، ورثاه الشريف الرضي فقال:
ما بعد يومك ما يسلو به السالي، ... ومثل يومك لم يخطر على بالي
وهي طويلة.
ذكر وفاة المنصور بن أبي عامرفي هذه السنة توفي أبو عامر محمد بن أبي عامر المعافري، الملقب بالمنصور، أمير الأندلس مع المؤيد هشام بن الحاكم، وقد تقدم ذكره عند ذكر المؤيد، وكان أصله من الجزيرة الخضراء من بيت مشهور بها، وقدم قرطبة طالباً للعلم، وكانت له همة، فتعلق بوالدة المؤيد في حياة أبيه المستنصر.
فلما ولي هشام كان صغيراًن فتكفل المنصور لوالدته القيام بأمره، وإخماد الفتن الثائرة عليه، وإقرار الملك عليه، فولته أمره؛ وكان شهماً، شجاعاً، قوي النفس، حسن التدبير، فاستمال العساكر وأحسن إليهم، فقوي أمره، وتلقب بالمنصور، وتابع الغزوات إلى الفرنج وغيرهم، وسكنت البلاد معه، فلم يضطرب منها شيء.
وكان عالماً، محباً للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، ولما مرض كان متوجها إلى الغزو، فلم يرجع، ودخل بلاد العدو فنال منهم وعاد وهو مثقل، فتوفي بمدينة سالم، وكان قد جمع الغبار الذي وقع على درعه في غزواته شيئاً صالحاً، فأمر أن يجعل في كفنه تبركاً به.
وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلاً، وكانت أيام أعياداً لنضارتها، وأمن الناس فيها، رحمة الله. وله شعر جيد، وكانت أمه تميمية، ولما مات ولي بعده ابنه المظفر أبو مروان عبد الملك، فجرى مجرى أبيه.
ذكر محاصرة فلفل مدينة قابسفي هذه السنة سار يحيى بن علي الأندلسي وفلفل من طرابلس إلى مدينة قابس في عسكر كثير، فحصروها، ثم رجعوا إلى طرابلس. ولما رأى يحيى بن عي ما هو عيه من قلة المال، واختلال حاله وسوء مجاورة فلفل وأصحابه له، رجع إلى مصر إلى الحاكم، بعد أن أخذ فلفل وأصحابه خيولهم، وما اختاروه من عددهم بين الشراء والغصب، فأراد الحاكم قتله ثم عفا عنه.
وأقام فلفل بطرابلس إلى سنة أربعمائة، فمرض وتوفي، وولي أخوه ورو، فأطاعته زناتة، واستقام أمره، فرحل باديس إلى طرابلس إلى سنة أربعمائة، فمرض وتوفي، وولي أخوه ورو، فأطاعته زناتة، واستقام أمره، فرحل باديس إلى طرابلس لحرب زناتة، فلما بلغهم رحيله فارقوها وملكها باديس، ففر أهلها، وأرسل ورو أخو فلفل إلى باديس يطلب أن يكون هو ومن معه من زناتة في أمانه، ويدخلون في طاعته، ويجعلهم عمالاً كسائر عماله، فأمنهم وأحسن إليهم، وأعطاهم نفزاوة وقسطيلة على أن يرحلوا من أعمال طرابلس، ففعلوا ذلك.
ثم إن خزرون بن سعيد أخا ورو جاء إلى باديس، ودخل في طاعته، وفارق أخاه، فأكرمه باديس، وأحسن إليه؛ ثم إن أخاه خالف على باديس، وسار إلى طرابلس فحصرها، وسار إليه خزرون ليمنعه عن حصارها، وكان ذلك سنة ثلاث وأربعمائة.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة، في رمضان، طلع كوكب كبير له ذؤابة؛ وفي ذي القعدة انقض كوكب كبير أيضاً كضوء القمر عند تمامة، وانمحق نوره وبقي جرمه يتموج.
وفيها اشتدت الفتنة ببغداد، وانتشر العيارون والمفسدون، فبعث بهاء الدولة عميد الجيوش أبا علي بن أستاذ هرمز إلى العراق ليدبر أمره، فوصل إلى بغداد، فزينت له، وقمع المفسدين، ومنع السنة والشيعة من إظهار مذاهبهم، ونفى، بعد ذلك، ابن المعلم فقيه الإمامية، فاستقام البلد.
وفيها، في ذي الحجة، ولد الأمير أبو علي الحسن بن بهاء الدولة، وهو الذي ملك الأمر، وتلقب بمشرف الدولة.
وفيها هرب الوزير أبو العباس الضبي، وزير مجد الدولة بن فخر الدولة ابن بويه، من الري إلى بدر بن حسنويه، فأكرمه، وقام بالوزارة بعده الخطير أبو علي.
وفيها ولى الحاكم بأمر الله على دمشق، وقيادة العساكر الشامية، أبا محمد الأسود، واسمه تمضولت، فقدم إليها، ونزل في قصر الإمارة، فأقام والياً عليها سنةً وشهرين؛ ومن أعماله فيها أنه أطاف إنساناً مغربياً، وشهره، ونادى عليه: هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر ! ثم أخرجه عنها.
وفيا توفي عثمان بن جني النحوي، مصنف اللمع وغيرها، ببغداد، وله شعر بارز؛ والقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني بالري، وكان إماماً فاضلاً، ذا فنون كثيرة؛ والوليد بن بكر بن مخلد الأندلسي الفقيه المالكي، وهو محدث مشهور.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبدالله السلامي الشاعر البغدادي، ومن شعره يصف الدرع، وهي هذه الأبيات:
يا ربّ سابغةٍ حبتني نعمةً ... كأفاتها بالسّوء غير مفنّد
أضحت تصون عن المنايا مهجتي ... وظللت أبذلها لكلّ مهنّد
وله من أحسن المديح في عضد الدولة:
وليت، وعزمي والظلام وصارمي ... ثلاثة أشباحٍ كما اجتمع النّسر
وبشّرت آمالي بملكٍ هو الورى، ... ودارٍ هي الدنيا، ويومٍ هو الدهر
وقدم الموصل، فاجتمع بالخالديين من الشعراء منهم أبو الفرج الببغاء، وأبو الحسين التلعفري، فامتحنوه، وكان صبياً، فبرز عند الامتحان.
وفيها توفي محمد بن العباس الخوارزمي الأديب الشاعر، وكان فاضلاً، وتوفي بنيسابور.
وفيها توفي محمد بن عبد الرحمن بن زكرياء أبو طاهر المخلص المحدث المشهور، وأول سماعه سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة

ذكر استيلاء أبي العباس على البطيحة
في هذه السنة، في شعبان، غلب أبو العباس بن واصل على البطيحة، وأخرج منها مهذب الدولة.
وكان ابتداء حال أبي العباس أنه كان ينوب عن طاهر بن زيرك الحاجب في الجهبذة، وارتفع معه، ثم أشفق منه ففارقه وسار إلى شيراز، واتصل بخدمة فولاذ، وتقدم عنده، فلما قبض على فولاذ عاد أبو العباس إلى الأهواز بحال سيئة، فخدم فيها.
ثم أصعد إلى بغداد، فضاق الأمر عليه، فخرج منها، وخدم أبا محمد ابن مكرم، ثم انتقل إلى خدمة مهذب الدولة بالبطيحة، فجرد معه عسكراً، وسيره إلى حرب لشكرستان حين استولى على البصرة، ومضى إلى سيراف وأخذ ما بها لأبي محمد بن مكرم من سفن ومال، وأتى أسافل دجلة، فغلب عليها، وخلع طاعة مهذب الدولة.
فأرسل غليه مهذب الدولة مائة سميرية فيها مقاتلة، فغرق بعضها، وأخذ أبو العباس ما بقي منها، وعدل إلى الأبلة، فهزم أبا سعد بن ماكولا، وهو يصحب لشكرستان، فانهزم أيضاً لشكرستان من بين يديه، واستولى ابن واصل على البصرة، ونزل دار الإمارة، وأمن الديلم والأجناد.
وقصد لشكرستان مهذب الدولة، فأعاده إلى قتال أبي العباس في جيش، فلقيه أبو العباس وقاتله، فانهزم لشكرستان وقتل كثير من رجاله، واستولى أبو العباس على ثقله وأمواله، وأصعد إلى البطيحة، وأرسل إلى مهذب الدولة يقول له: قد هزمت جندك، ودخلت بلدك، فخذ لنفسك؛ فسار مهذب الدولة إلى بشامني، وصار عند أبي شجاع فارس بن مردان وابنه صدقة، فغدرا به وأخذا أمواله، فاضطرا إلى الهرب، وسار إلى واسط فوصلها على أقبح صورة، فخرج إليه أهلها فلقوه وأصعدت زوجته ابنة الملك بهاء الدولة إلى بغداد وأصعد مهذب الدولة إليها فلم يمكن من الوصول إليها.

وأما ابن واصل فإنه استولى على أموال مهذب الدولة وبلاده، وكانت عظيمة، ووكل بدار زوجته ابنة بهاء الدولة من يحرسها، ثم جمع كل ما فيها وأسله إلى أبيها، واضطرب عليه أهل البطائح واختلفوا، فسير سبع مائة فارس إلى الجازرة لإصلاحها، فقاتلهم أهلها، فظفروا بالعسكر، وقتلوا فيهم كثيراً.
وانتشر الأمر على أبي العباس بن واصل، فعاد إلى البصرة خوفاً أن ينتشر الأمر عليه بها، وترك البطائح شاغرة ليس فيها أحد يحفظها.
ولما سمع بهاء الدولة بحال أبي العباس وقوته خافه على البلاد، فسار من فارس إلى الأهواز لتلافي أمره، وأحضر عنده عميد الجيوش من بغداد، وجهز معه عسكراً كثيفاً وسيرهم إلى أبي العباس فأتى إلى واسط وعمل ما يحتاج إليه من سفن وغيرها، وسار إلى البطائح، وفرق جنده في البلاد لتقرير قواعدها.
وسمع أبو العباس بمسيره إليه، فأصعد إليه من البصرة، وأرسل يقول له: ما أحوجك تتكلف الانحدار، وقد أتيتك فخذ لنفسك.
ووصل إلى عميد الجيوش وهو على تلك الحال من تفرق العسكر عنه، فلقيه فيمن معه بالصليق، فانهزم عميد الجيوش، ووقع من معه بعضهم على بعضٍ، ولقي عميد الجيوش شدة إلى أن وصل إلى واسط، وذهب ثقله وخيامه وخزائنه، فأخبره خازنه أنه قد دفن في الخيمة ثلاثين ألف دينار وخمسين ألف درهم، فأنفذ من أحضرها، فقوي بها. ونذكر باقي خبر البطائح سنة خمس وتسعين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد بهاء الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي، والد الشريف الرضي، نقابة العلويين بالعراق، وقضاء القضاة، والحج، والمظالم، وكتب عهده بذلك، من شيراز، ولقب الطاهر ذا المناقب، فامتنع الخليفة من تقليده قضاء القضاة، وأمضى ما سواه.
وفيها خرج الأصيفر المنتفقي على الحاج، وحصرهم بالبطانية، وعزم على أخذهم، وكان فيهم أبو الحسن الرفاء، وأبو عبدالله الدجاجي، وكانا يقرآن القرآن بأصواتٍ لم يسمع مثلها، فحضرا عند الأصيفر وقرآ القرآن فترك الحجاج وعاد، وقال لهما: قد تركت لكما ألف ألف دينار.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وثلاثمائة

ذكر عود مهذب الدولة إلى البطيحة
قد ذكرنا انهزام عميد الجيوش من أبي العباس بن واصل، فلما انهزم أقام بواسط، وجمع العساكر عازماً على العود إلى البطائح، وكان أبو العباس قد ترك بها نائباً له، فلم يتمكن من المقام بها، ففارقها إلى صاحبه، فأرسل عميد الجيوش إليها نائباً من أهل البطائح، فعسف الناس، وأخذ الأموال، ولم يلتفت إلى عميد الجيوش، فأرسل إلى بغداد وأحضر مهذب الدولة، وسلموا إليه جميع الولايات، واستقر عليه بهاء الدولة كل سنة خمسين ألف دينار، ولم يعترض عليه ابن واصل، فاشتغل عنه بالتجهيز إلى خوزستان، وحفر نهراً إلى جانب النهر العضدي، بين البصرة والأهواز، وكثر ماؤه، وكان قد اجتمع عنده جمع كثير من الديلم وأنواع الأجناد.
ولما كثر ماله وذخائره، وما استولى عليه من البطيحة، قوي طمعه في الملك، وسار هو وعسكره إلى الأهواز في ذي القعدة، فجهز إليه بهاء الدولة جيشاً في الماء، فالتقوا بنهر السدرة، فاقتتلوا، وخاتلهم أبو العباس، وسار إلى الأهواز وتبعه من كان قد لقيه من العسكر، فالتقوا بظاهر الأهواز، وانضاف إلى عسكر بهاء الدولة العساكر التي بالأهواز، فاستظهر أبو العباس عليهم.
ورحل بهاء الدولة إلى قنطرة أربق، عازماً على المسير إلى فارس، ودخل أبو العباس إلى دار المملكة وأخذ ما فيها من الأمتعة والأثاث المتخلف عن بهاء الدولة، إلا أنه لم يمكنه المقام لأن بهاء الدولة كان قد جهز عسكراً ليسير في البحر إلى البصرة، فخاف أبو العباس من ذلك، وراسل بهاء الدولة، وصالحه، وزاد في إقطاعه، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وعاد إلى البصرة، وحمل معه كل ما أخذه من دار بهاء الدولة ودور الأكابر والقواد والتجار.
ذكر غزوة بهاطيةفي هذه السنة غزا يمين الدولة بهاطية من أعمال الهند، وهي وراء المولتان، ، وصاحبها يعرف ببحيرا، وهي مدينة حصينة، عالية السور، يحيط بها خندق عميق، فامتنع صاحبها بها، ثم إنه خرج إلى ظاهرها، فقاتل المسلمين ثلاثة أيام ثم انهزم في الرابع، وطلب المدينة ليدخلها، فسبقهم المسلمون إلى باب البلد فملكوه عليهم، وأخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم، فقتل المقاتلة وسبيت الذرية وأخذت الأموال.

وأما بحيرا فإنه لما عاين الهلاك أخذ جماعة من ثقاته وسار إلى رؤوس تلك الجبال، فسير إليه يمين الدولة سرية، فلم يشعر بهم بحيرا إلا وقد أحاطوا به، وحكموا السيوف في أصحابه، فلما أيقن بالعطب أخذ خنجراً معه فقتل به نفسه، وأقام يمين الدولة ببهاطية حتى أصلح أمرها، ورتب قواعدها، وعاد عنها إلى غزنة، واستخلف بها من يعلم من أسلم من أهلها ما يجب عليهم تعلمه، ولقي في عوده شدة شديدة من الأمطار وكثرتها، وزيادة الأنهار، فغرق منه ومن عسكره شيء عظيم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد بحيث تعطلت المخابز والحمامات، وهلك الناس، وذهبت الأموال من الأغنياء، وكثر الوباء، فكان يموت كل يوم ما بين خمسمائة إلى سبعمائة.
وفيها وصل قرواش وأبو جعفر الحجاج إلى الكوفة، فقبضا على أبي علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأخذ منه قرواش مائة ألف دينار، وحمله معه إلى الأنبار.
وفيها توفي إسحاق بن محمد بن حمدان بن محمد بن نوح أبو إبراهيم المهلبي.
وفيها توفي محمد بن علي بن الحسين بن الحسن بن أبي إسماعيل العلوي الهمذاني، الفقيه الشافعي، رحمه الله تعالى.
ثم دخلت سنة ست وتسعين وثلاثمائة

ذكر غزوة المولتان
في هذه السنة غزا السلطان يمين الدولة المولتان.
وكان سبب ذلك أن واليها أبا الفتوح نقل عنه خبث اعتقاده، ونسب إلى الإلحاد، وأنه قد دعا أهل ولايته إلى ما هو عليه، فأجابوه. فرأى يمين الدولة أن يجاهده ويستنزله عما هو عليه، فسار نحوه، فرأى الأنهار التي في طريقه كثيرة الزيادة، عظيمة المد، وخاصة سيحون، فإنه منع جانبه من العبور، فأرسل إلى أندبال يطلب إليه أن يأذن له في العبور، ببلاده إلى المولتان، فلم يجبه إلى ذلك، فابتدأ به قبل المولتان، وقال: نجمع بين غزوتين، لأنه لا غزو إلا التعقيب؛ فدخل بلاده، وجاسها، وأكثر القتل فيها، والنهب لأموال أهلها، والإحراق لأبنيتها، ففر أندبال من بين يديه وهو في أثره كالشهاب في أثر الشيطان، من مضيق إلى مضيق، إلى أن وصل إلى قشمير.
ولما سمع أبو الفتوح بخبر إقباله إليه علم عجزه عن الوقوف بين يديه والعصيان عليه، فنقل أمواله إلى سرنديب، وأخلى المولتان، فوصل يمين الدولة إليها ونازلها، فإذا أهلها في ضلالهم يعمهون، فحصرهم، وضيق عليهم، وتابع القتال حتى افتتحها عنوةً، وألزم أهلها عشرين ألف درهم عقوبةً لعصيانهم.
ذكر عزوة كواكيرثم سار عنها إلى قلعة كواكير، وكان صاحبها يعرف ببيدا، وكان بها ستمائة صنم، فافتتحها وأحرق الأصنام، فهرب صاحبها إلى قلعته المعروفة بكالنجار، فسار خلفه إليها، وهو حصن كبير يسع خمسمائة ألف إنسان، وفيه خمسمائة فيل، وعشرون ألف دابة، وفي الحصن ما يكفي الجميع مدة. فلما قاربها يمين الدولة وبقي بينهما سبعة فراسخ رأى من الغياض المانعة من سلوك الطريق ما لا حد عليه، فأمر بقطعها، ورأى في الطريق وادياً عظيم العمق، بعيد القعر، فأمر أن يطم منه مقدار ما يسع عشرين فارساً، فطموه بالجلود المملوءة تراباً، ووصل إلى القلعة فحصرها ثلاثة وأربعين يوماً، وراسله صاحبها في الصلح فلم يجبه.
ثم بلغه عن خراسان اختلاف بسبب قصد ايلك الخان لها، فصالح ملك الهند على خمسمائة فيل، وثلاثة آلاف من فضة، ولبس خلعه يمين الدولة بعد أن استعفى من شد المنطقة، فإنه اشتد عليه، فلم يجبه يمين الدولة إلى ذلك، فشد المنطقة، وقطع إصبعه الخنصر وأنفذها إلى يمين الدولة توثقةً فيما يعتقدونه، وعاد يمين الدولة إلى خراسان لإصلاح ما اختلف فيها، وكان عازماً على الوغول في بلاد الهند.
ذكر عبور عسكر ايلك الخان إلى خراسانكان يمين الدولة لما استقر له ملك خراسان، وملك ايلك الخان ما وراء النهر، قد راسله ووافقه وتزوج ابنته، وانعقدت بينهما مصاهرة ومصالحة، فلم تزل السعاة حتى أفسدوا ذات بينهما، وكتم ايلك الخان ما في نفسه، فلما سار يمين الدولة إلى المولتان اغتنم ايلك الخان خلو خراسان، فسير سباشي تكين، صاحب جيشه في هذه السنة، إلى خراسان في معظم جنده، وسير أخاه جعفر تكين إلى بلخ في عدة من الأمراء.

وكان يمين الدولة قد جعل بهراة أميراً من أكابر أمرائه يقال له: أرسلان الجاذب، فأمره إذا ظهر عليه مخالف أن ينحاز إلى غزنة. فلما عبر سباشي تكين إلى خراسان سار أرسلان إلى غزنة، وملك سباشي هراة وأقام بها، وأرسل إلى نيسابور من استولى عليها.
واتصلت الأخبار بيمين الدولة، وهو بالهند، فرجع إلى غزنة لا يلوي على دار، ولا يركن إلى قرار، فلما بلغها فرق في عساكره الأموال، وقواهم، وأصلح ما أراد إصلاحه، واستمد الأتراك الخلجية، فجاءه منه خلق كثير، وسار بهم نحو بلخ، وبها جعفر تكين أخو ايلك الخان، فعبر إلى ترمذ، ونزل يمين الدولة ببلخ، وسير العساكر إلى سباشي تكين بهراة، فلما قاربوه سار نحو مرو ليعبر النهر، فلقيه التركمان الغزية، فقاتلوه فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة.
ثم سار نحو أبيورد لتعذر العبور عليه، فتبعه عسكر يمين الدولة، كلما رحل نزلوا، حتى ساقه الخوف من الطلب إلى جرجان فأخرج عنها، ثم عاد إلى خراسان، فعارضه يمين الدولة، فمنعه عن مقصده، وأسر أخو سباشي تكين وجماعة من قواده، ونجا هو في خف من أصحابه، فعبر النهر.
وكان ايلك الخان قد عبر أخاه جعفر تكين إلى بلخ ليلفت يمين الدولة عن طلب سباشي، فلم يرجع، وجعل دأبه إخراج سباشي من خراسان، فلما أخرجه عنها عاد إلى بلخ، فانهزم من كان بها مع جعفر تكين، وسلمت خراسان ليمين الدولة.
ذكر الحرب بين عسكر بهاء الدولة والأكرادفي هذه السنة سير عميد الجيوش عسكراً إلى البندنيجين، وجعل المقدم عليهم قائداً كبيراً من الديلم، فلما وصلوا إليها سار إليهم جمع كثير من الأكراد، فاقتتلوا، فانهزم الديلم، وغنم الأكراد رحلهم ودوابهم، وجرد المقدم عليهم من ثيابه، فأخذ قميصاً من رجل سوادي، وعاد راجلاً حافياً، ولم يكن مقامهم غير أيام قليلة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قلد الشريف الرضي نقالة الطالبيين بالعراق، ولقب بالرضي ذي الحسبين، ولقب أخوه المرتضى ذا المجدين، فعل ذلك بهاء الدولة.
وفيها توفي أبو أحمد عبد الرحيم بن علي بن المرزبان الأصبهاني، قاضي خراسان، وكان إليه أمر البيمارستان ببغداد.
وفيها، مستهل شعبان، طلع كوكب كبير يشب الزهرة عن يسرة قبلة العراق، له شعاع على الأرض كشعاع القمر، وبقي إلى منتصف ذي القعدة وغاب.
وفيها توفي أبو سعد إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الإسماعيلي الإمام، الفقيه الشافعي، بجرجان في ربيع الآخر، ومحمد بن إسحاق بن محمد ابن يحيى بن مندة أبو عبدالله الحافظ الأصبهاني المشهور، له التصانيف المعروفة.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين وثلاثمائة

ذكر هزيمة ايلك الخان
لما أخرج يمين الدولة عساكر ايلك الخان من خراسان، راسل ايلك الخان قدر خان بن بغراخان ملك الختل لقرابة بينهما، وذكر له حاله، واستعان به، واستنصره، واستنفر الترك من أقاصي بلادها، وسار نحو خراسان، واجتمع هو وايلك الخان، فعبرا النهر.
وبلغ الخبر يمين الدولة، وهو بطخارستان، فسار وسبقهما إلى بلخ، واستعد للحرب، وجمع الترك الغزية، والخلج، والهند، والأفغانية، والغزنوية، وخرج عن بلخ، فعسكر على فرسخين بمكان فسيح يصلح للحرب، وتقدم ايلك الخان، وقدرخان في عساكرهما، فنزلوا بإزائه، واقتتلوا يومهم ذلك إلى الليل.
فلما كان الغد برز بعضهم إلى بعض واقتتلوا، واعتزل يمين الدولة إلى نشز مرتفع ينظر إلى الحرب، ونزل عن دابته وعفر وجهه على الصعيد تواضعاً لله تعالى، وسأله النصر والظفر، ثم نزل وحمل في فيلته على قلب ايلك الخان، فأزاله عن مكانه، ووقعت الهزيمة فيهم، وتبعهم أصحاب يمين الدولة يقتلون، ويأسرون، ويغنمون إلى أن عبروا بهم النهر، وأكثر الشعراء تهنئة يمين لدولة بهذا الفتح.
ذكر غزوه إلى الهندفلما فرغ يمين لدولة من الترك سار نحو الهند للغزاة.
وسبب ذلك أن بعض أولاد ملوك الهند، يعرف بنواسه شاه وكان قد أسلم على يده، واستخلفه على بعض ما افتتحه من بلادهم.
فلما كان الآن بلغه أنه ارتد عن الإسلام، ومالأ أهل الكفر والطغيان، فسار إليه مجداً، فحين قاربه فر الهندي من بين يديه، واستعاد يمين الدولة تلك الولاية، وأعادها إلى حكم الإسلام، واستخلف عليها بعض أصحابه، وعاد إلى غزنة.
ذكر حصر أبي جعفر الحجاج بغداد

في هذه السنة جمع أبو جعفر الحجاج جمعاً كثيراً، وأمده بدر بن حسنويه بجيش كثير، فسار بالجميع وحصر بغداد.
وسبب ذلك أن أبا جعفر كان نازلاً على قلج حامي طريق خراسان، وكان قلج مبايناً لعميد الجيوش، فاجتمعا لذلك. فتوفي قلج هذه السنة، فجعل عميد الجيوش على حماية الطريق أبا الفتح بن عناز، وكان عدواً لبدر بن حسنويه، فحقد ذلك بدر، فاستدعى أبا جعفر الحجاج، وجمع له جمعاً كثيراً، منهم الأمير هندي بن سعدي، وأبو عيسى شاذي بن محمد، وورام بن محمد، وغيرهم، وسيرهم إلى بغداد.
وكان الأمير أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي قد عاد من عند بهاء الدولة بخوزستان مغضباً، فاجتمع معهم، فزادت عدتهم على عشرة آلاف فارس.
وكان عميد الجيوش عند بهاء الدولة لقتال أبي العباس بن واصل، فسار أبو جعفر ومن اجتمع معه إلى بغداد، ونزلوا على فرسخ منها، وأقاموا شهراً، وببغداد جمعٌ من الأتراك، ومعهم أبو الفتح بن عناز، فحفظوا البلد، فبينما هم كذلك أتاهم خبر انهزام أبي العباس، وقوة بهاء الدولة، ففت ذلك في أعضاد أبي جعفر ومن معه، فتفرقوا، فعاد ابن مزيد إلى بلده، وسار أبو جعفر وأبو عيسى إلى حلوان، وراسل أبو جعفر في إصلاح حاله مع بهاء الدولة، فأجابه إلى ذلك، فحضر عنده بتستر، فلم يلتفت إليه لئلا يستوحش عميد الجيوش.
ذكر قصد بدر ولاية رافع بن مقنكان أبو الفتح بن عناز التجأ إلى رافع بن محمد بن مقن، ونزل عليه، حين أخذ بدر بن حسنويه منه حلوان وقرميسين، فأرسل بدر إلى رافع يذكر مودة أبيه، وحقوقه عليه، ويعتب عليه حيث آوى خصمه، ويطلب إليه أن يبعده ليدوم له على العهد والود القديم. فلم يفعل رافع ذلك، فأرسل بدر جيشاً إلى أعمال رافع بالجانب الشرقي من دجلة فنهبها، وقصدوا داره بالمطيرة فنهبوها، وأحرقوها، وساروا إلى قلعة البردان، وهي لرافع أيضاً، ففتحوها قهراً، وأحرقوا ما كان بها من الغلات، وطموا بئرها، فسار أبو الفتح إلى عميد الجيوش ببغداد، فخلع عليه وأكرمه ووعده نصره.
ذكر قتل أبي العباس بن واصلفي هذه السنة قتل أبو العباس بن واصل، صاحب البصرة، وقد تقدم ذكر ابتداء حاله، وارتفاعه، واستيلائه على البطيحة، وما أخذه من الأموال، وما هزم من جيوش السلطان، وغير ذلك مما هو مذكور في مواضعه.
فلما عظم أمره سار بهاء الدولة من فارس إلى الأهواز ليحفظ خوزستان منه، وكان في البطائح مقابل عميد الجيوش، فلما فرغ منه سار إلى الأهواز، وبها بهاء الدولة، فملكها على ما ذكرناه وعاد منها على صلح مع بهاء الدولة إلى البصرة، وقد ذكرناه أيضاً.
ثم تجدد ما أوجب عوده إلى الأهواز، فعاد إليها في جيشه، وبهاء الدولة مقيم بها، فلما قاربها رحل بهاء الدولة عنها لقلة عسكره، وتفرقهم: بعضهم بفارس، وبعضهم بالعراق، وقطع قنطرة أربق، وبقي النهر يحجز بين الفريقين، فاستولى أبو العباس على الأهواز، وأتاه مدد من بدر بن حسنويه ثلاثة آلاف فارس، فقوي بهم.
وعزم بهاء الدولة على العود إلى فارس، فمنعه أصحابه، فأصلح أبو العباس القنطرة، وجرى بين العسكرين قتال شديد دام إلى السحر، ثم عبر أبو العباس على القنطرة بعد أن أصلحها، والتقى العسكران واشتد القتال، فانهزم أبو العباس، وقتل من أصحابه كثير، وعاد إلى البصرة مهزوماً منتصف رمضان سنة ست وتسعين وثلاثمائة. فلما عاد منهزماً جهز بهاء الدولة إليه العساكر مع وزيره أبي غالب، فسار إليه، ونزل عليه محاصراً له، وجرى بين العسكرين القتال، وضاق الأمر على الوزير، وقل المال عنده، واستمد بهاء الدولة فلم يمده.
ثم إن أبا لعباس جمع سفنه وعساكره، وأصعد إلى عسكر الوزير، وهجم عليه، فانهزم الوزير، وكاد يتم على الهزيكة، فاستوقفه بعض الديلم وثبته، وحملوا على أبي العباس فانهزم هو وأصحابه، وأخذ الوزير سفنه، فاستأمن إليه كثير من أصحابه.
ومضى، أبو العباس منهزماً، وركب مع حسان بن ثمان الخفاجي هارباً إلى الكوفة، ودخل الوزير البصرة، وكتب إلى بهاء الدولة بالفتح.

ثم إن أبا العباس سار من الكوفة، وقطع دجلة، ومضى عازماً على اللحاق ببدر بن حسنويه، فبلغ خانقين، وبها جعفر بن العوام في طاعة بدر، فأنزله وأكرمه، وأشار عليه بالمسير في وقته، وحذره الطلب، فاعتل بالتعب، وطلب الاستراحة، ونام، وبلغ خبره إلى أبي الفتح بن عناز وهو في طاعا بهاء الدولة، وكان قريباً منهم، فسار إليهم بخانقين، وهو بها، فحصره وأخذه وسار به إلى بغداد، فسيره عميد الجيوش إلى بهاء الدولة، فلقيهم في الطريق قاصدٌ من بهاء الدولة يأمره بقتله، فقتل وحمل رأسه إلى بهاء الدولة، وطيف به بخوزستان وفارس، وكان بواسط عاشر صفر.
ذكر مسير عميد الجيوش إلى حرب بدر

وصلحه معه
كان في نفس بهاء الدولة على بدر بن حسنويه حقدٌ لما اعتمده في بلاده لاشتغاله عنه بأبي العباس بن واصل، فلما قتل أبو العباس أمر بهاء الدولة عميد الجيوش بالمسير إلى بلاده، وأعطاه مالاً أنفقه في الجند، فجمع عسكراً وسار يريد بلاده، فنزل جنديسابور. فأرسل إليه بدر: إنك لم تقدر على أن تأخذ ما تغلب عليه بنو عقيل من أعمالكم، وبينهم وبين بغداد فرسخ، حتى صالحتهم، فكيف تقدر على أخذ بلادي وحصوني مني، ومعي من الأموال ما ليس معك مثلها ؟ وأنا معك بين أمرين إن حاربتك، فالحرب سجال، ولا نعلم لمن العاقبة، فإن انهزمت أنا لم ينفعك ذلك لأنني أ؛تمي بقلاعي ومعاقلي، وأنفق أموالي، وإذا عجزت فأنا رجلٌ صحراوي، صاحب عمد، أبعد ثم أقرب، وإن انهزمت أنت لم تجتمع، وتلقى من صاحبك العتب؛ والرأي أن أحمل إليك مالاً ترضي به صاحبك، ونصطلح. فأجابه إلى ذلك، وصالحه، وأخذ منه ما كان أخرجه على تجهيز الجيش وعاد عنه.
ذكر الحرب بين قرواش وأبي علي بن ثمال الخفاجيفي المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلد العقيلي، وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي، وكان سببها أن قرواشاً جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة، وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها، وعرف أبو علي الخبر، فسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مفلولاً؛ وملك أبو علي الكوفة، وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.
ذكر خروج أبي ركوة على الحاكم بمصرفي هذه السنة ظفر الحاكم بأبي ركوة، ونحن نذكر ها هنا خبره أجمع.
كان أبو ركوة اسمه الوليد، وإنما كني أبا ركوة لركوةٍ كان يحملها في أسفاره، سنة الصوفية، وهو من ولد هشام بن عبد الملك بن مروان، ويقرب في النسب من المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد هشام بن الحاكم الأموي، صاحب الأندلس، وإن المنصور ابن أبي عامر لما استولى على المؤيد وأخفاه عن الناس، تتبع أهله ومن يصلح منهم للملك، فطلبه، فقتل البعض وهرب البعض.
وكان أبو ركوة ممن هرب، وعمره حينئذ قد زاد على العشرين سنة، وقصد مصر، وكتب الحديث، ثم سار إلى مكة واليمن، وعاد إلى مصر ودعا بها إلى القائم، فأجابه بنو قرة وغيرهم.
وسبب استجابتهم أن الحاكم بأمر الله كان قد أسرف في مصر في قتل القواد، وحبسهم، وأخذ أموالهم، وسائر القبائل معه في ضنكٍ وضيقٍ، ويودون خروج الملك عن يده؛ وكان الحاكم في الوقت الذي دعا أبو ركوة بني قرة قد آذاهم، وحبس منهم جماعة من أعيانهم، وقتل بعضهم، فلما دعاهم أبو ركوة انقادوا له.
وكان بين بني قرة وبين زناته حروب ودماء، فاتفقوا على الصلح، ومنع أنفسهم من الحاكم، فقصد بني قرة، وفتح يعلم الصبيان الخط، وتظاهر بالدين والنسك، وآمهم في صلواتهم، فشرع في دعوتهم إلى ما يريد، فأجابوه وبايعوه، واتفقوا عليه، وعرفهم حينئذ نفسه، وذكر لهم أن عندهم في الكتب أنه يملك مصر وغيرها، ووعدهم ومناهم، وما يعدهم الشيطان إلا غروراً. فاجتمعت بنو قرة وزناتة على بيعته، وخاطبوه بالإمامة، وكانوا بنواحي برقة. فلما سمع الوالي ببرقة خبره كتب إلى الحاكم ينهيه إليه، ويستأذنه في قصدهم وإصلاحهم، فأمره بالكف عنهم وأطراحهم.
ثم إن أبا ركوة جمعهم وسار إلى برقة، واستقر بينهم أن يكون الثلث من الغنائم له، والثلثان لبني قرة وزناتة، فلما قاربها خرج إليه واليها، فالتقوا، فانهزم عسكر الحاكم، وملك أبو ركوة برقة، وقوي هو ومن معه بما أخذوا من الأموال والسلاح وغيره، ونادى بالكف عن الرعية والنهب، وأظهر العدل وأمر بالمعروف.

فلما وصل المنهزمون إلى الحاكم عظم عليه الأمر، وأهمته نفسه وملكه، وعاود الإحسان إلى الناس، والكف عن أذاهم، وندب عسكراً نحو خمسة آلاف فارس وسيرهم، وقدم عليهم قائداً يعرف بينال الطويل، وسيره، فبلغ ذات الحمام، وبينها وبين برقة مفازة فيها منزلان، لا يلقى السالك الماء إلا في آبار عميقة بصعوبة وشدة. فسير أبو ركوة قائداً في ألف فارس، وأمرهم بالمسير إلى ينال ومن معه ومطاردتهم قبل الوصول إلى المنزلين المذكورين، وأمرهم، إذا عادوا، أن يغوروا الآبار، ففعلوا ذلك وعادوا، فحينئذ سار أبو ركوة في عساكره ولقيهم وقد خرجوا من المفازة على ضعفٍ وعطش، فقاتلهم، فاشتد القتال، فحمل ينال على عسكر أبي ركوة، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأبو ركوة واقف لم يحمل هو ولا عسكره، فاستأمن إليه جماعة كثيرة من كتامة لما نالهم من الأذى والقتل من الحاكم، وأخذوا الأمان لمن بقي من أصحابهم، ولحقهم الباقون، فحمل حينئذ بهم على عساكر الحاكم، فانهزمت وأسر ينال وقتل، وأسر أكثر عسكره، وقتل منهم خلق كثير، وعاد إلى برقة وقد امتلأت أيديهم من الغنائم.
وانتشر ذكره، وعظمت هيبته، وأقام ببرقة، وترددت سراياه إلى الصعيد وأرض مصر، وقام الحاكم من ذلك وقعد، وسقط في يده، وندم على ما فرط، وفرح جند مصر وأعيانها، وعلم الحاكم ذلك، فاشتد قلقه، وأظهر الاعتذار عن الذي فعله.
وكتب الناس إلى أبي ركوة يستدعونه، وممن كتب إليه الحسين بن جوهر المعروف بقائد القواد، فسار حينئذ عن برقة إلى الصعيد، وعلم الحاكم، فاشتد خوفه، وبلغ الأمر به كل مبلغ، وجمع عساكره واستشارهم، وكتب إلى الشام يستدعي العساكر، فجاءته، وفرق الأموال، والدواب، والسلاح، وسيرهم وهم اثنا عشر ألف رجل بين فارس وراجل، سوى العرب، واستعمل عليهم الفضل بن عبدالله. فلما قاربوا أبا ركوة لقيهم في عساكره، ورام مناجزة المصريين، والفضل يحاجزه، ويدافع، ويراسل أصحاب أبي ركوة يستميلهم ويبذل لهم الرغائب، فأجابه قائد كبير من بني قرة يعرف بالماضي، وكان يطالعه بأخبار القوم وما هم عازمون، فيدبر الفضل أمره على حسب ما يعلمه منه..
وضاقت الميرة على العساكر، فاضطر الفضل إلى اللقاء، فالتقوا واقتتلوا بكوم شريك، فقتل بين الفريقين قتلى كثيرة، ورأى الفضل من جمع أبي ركوة ما هاله، وخاف المناجزة فعاد إلى عسكره.
وراسل بنو قرة العرب الذين في عسكر الحاكم يستدعونهم إليهم ويذكرونهم أعمال الحاكم بهم، فأجابوهم، واستقر الأمر أن يكون الشام للعرب ويصير لأبي ركوة معه مصر، وتواعدوا ليلة يسير فيها أبو ركوة إلى الفضل، فإذا وصل إليه انهزمت العرب، ولا يبقى دون مصر مانع. فكتب الماضي إلى الفضل بذلك، فلما كان ليلة الميعاد جمع الفضل رؤساء العرب ليفطروا عنده، وأظهر أنه صائم، وطاولهم الحديث، وتركهم في خيمة واعتزلهم، ووصى أصحابه بالحذر، ورام العرب العود إلى خيامهم، فعللهم وطاولهم، ثم أحضر الطعام وأحضرهم، فأكلوا وتحدثوا.
وسير الفضل سرية إلى طريق أبي ركوة، فلقوا العسكر الوارد من عنده، فاقتتلوا، ووصل الخبر إلى العسكر وارتج، وأراد العرب الركوب، فمنعهم، وأرسل إلى أصحابهم من العرب فأمرهم بالركوب والقتال، ولم يكن عندهم علم بما فعل رؤساؤهم، فركبوا واشتد القتال، ورأى بنو قرة الأمر على خلاف ما قرروه.
ثم ركب الفضل ومعه رؤساء العرب، وقد فاتهم ما عزموا عليه، فباشروا الحرب وغاصوا فيها، وورد أبو ركوة مدداً لأصحابه، فلما رآه الفضل رد أصحابه وعاد إلى المدافعة.
وجهز الحاكم عسكراً آخر، أربعة آلاف فارس، وعبروا إلى الجيزة، فسمع أبو ركوة بهم، فسار مجداً في عسكره ليوافقهم عند مصر، وضبط الطرق لئلا يسمع الفضل، ولم يكن الماضي يكاتبه، فساروا، وأرسل إليه من الطريق يعرفه الخبر، وقطع أبو ركوة مسيره خمس ليالٍ في ليلتين، وكبسوا عسكر الحاكم بالجيزة، وقتلوا نحو ألف فارس، وخاف أهل مصر، ولم يبرز الحاكم من قصره، وأمر الحاكم من عنده من العساكر بالعبور إلى الجيزة، ورجع أبو ركوة فنزل عند الهرمين، ثم انصرف من يومه، وكتب الحاكم إلى الفضل كتاباً ظاهراً يقول فيه: إن أبا ركوة انهزم من عساكرنا، ليقرأه على القواد وكتب إليه سراً يعلمه الحال. فأظهر الفضل البشارة بانهزام أبي ركوة تسكيناً للناس.

ثم سار أبو ركوة إلى موضع يعرف بالسبخة، كثير الأشجار، وتبعه الفضل، وكمن أبو ركوة بين الأشجار، وطارد عسكر الفضل، ورجع عسكره القهقري ليستجروا عسكر الفضل ويخرج الكمين عليهم، فلما رأى الكمناء رجوع عسكر أبي ركوة ظنوها الهزيمة لا شك فيها، فولوا يتبعونهم، وركبهم أصحاب الفضل، وعلوهم بالسيوف فقتل منهم ألوف كثيرة، وانهزم أبو ركوة ومعه بنو قرة وساروا إلى حللهم، فلما بلغوها ثبطهم الماضي عنه، فقالوا له: قد قاتلنا معك، ولم يبق فينا قتال، فخذ لنفسك وانج؛ فسار إلى بلد النوبة، فلما بلغ إلى حصن يعرف بحصن الجبل للنوبة أظهر أنه رسول من الحاكم إلى ملكهم، فقال له صاحب الحصن: الملك عليل، ولا بد من استخراج أمره في مسيرك إليه.
وبلغ الفضل الخبر، فأرسل إلى صاحب القلعة بالخبر على حقيقته، فوكل به من يحفظه، وأرسل إلى الملك بالحال، وكان ملك النوبة قد توفي وملك ولده، فأمر بأن يسلم إلى نائب الحاكم، فتسلمه رسول الفضل وسار به، فلقيه الفضل وأكرمه وأنزله في مضاربه، وحمله إلى مصر فأشهر بها، وطيف به.
وكتب أبو ركوة إلى الحاكم رقعة يقول فيها: يا مولانا الذنوب عظيمة، وأعظم منها عفوك، والدماء حرام ما لم يحللها سخطك، وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي، وسوء عملي أوبقني، وأقول:
فررت فلم يغن الفرار، ومن يكن ... مع الله لم يعجزه في الأرض هارب
ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ، ... سوى فزع الموت الذي أنا شارب
وقد قادني جرمي إليك برمّتي، ... كما خرّ ميتٌ في رحا الموت سارب
وأجمع كلّ الناس أنّك قاتلي، ... فيما ربّ ظنّ ربّه فيك كاذب
وما هو إلاّ الانتقام، وينتهي، ... وأخذك منه واجباً لك واجب
ولما طيف به ألبس طرطوراً، وجعل خلفه قرد يصفعه، كان معلماً بذلك، ثم حمل إلى ظاهر القاهرة ليقتل ويصلب، فتوفي قبل وصوله، فقطع رأسه وصلب، وبالغ الحاكم في إكرام الفضل إلى حد أنه عاده في مرضةٍ مرضها دفعتين، فاستعظم الناس ذلك، ثم إنه عمل في قتل الفضل لما عوفي فقتله.
ذكر القبض على مجد الدولة وعوده إلى ملكهفي هذه السنة قبضت والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب الري وبلد الجبل، عليه.
وكان سبب ذلك أن الحكم كان إليها في جميع، أعمال ابنها، فلما وزر له الخطير أبو علي بن علي بن القاسم استمال الأمراء، ووضعهم عليها، والشكوى عليها، وخوف ابنها منها، فصار كالمحجور عليه. فخرجت من الري إلى القلعة فوضع عليها من يحفظها، فعملت الحيلة حتى هربت إلى بدر بن حسنويه، واستعانت به في ردها إلى الري.
وجاءها ولدها شمس الدولة، وعساكر همذان، وسار معها بدر إلى الري فحصروها، وجرى بين الفرقين قتال كثير مدةً، ثم استظهر بدر، ودخل البلد، وأسر مجد الدولة، فقيدته والدته وسجنته بالقلعة، وأجلست أخاه شمس الدولة في الملك وصار الأمر إليها.
وعاد بدر إلى بلده، وبقي شمس الدولة في الملك نحو سنة، فرأت والدته منه تنكراً وتغيراً، وأن أخاه مجد الدولة ألين عريكةً، وأسلم جانباً، فأعادته إلى الملك، وسار شمس الدولة إلى همذان، وكره بدر هذه الحالة إلا أنه اشتغل بولده هلال عن الحركة فيها، وصارت هي تدبر الأمر، وتسمع رسائل الملوك، وتعطي الأجوبة.
وأرسل شمس الدولة إلى بدر يستمده، فسير إليه جنداً، فأخذهم وسار بهم إلى قم، فحصروها، فمنعها أهلها. ثم إن العساكر دخلوا طرفاً منها واشتغلوا بالنهب، فأكب عليهم العامة وقتلوا منهم نحو سبعمائة رجل، وانهزم الباقون إلى معسكرهم، ثم قبض هلال بن بدر على أبيه، فتفرق ذلك الجمع كله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بالعراق، فضج العامة، وشغب الجند وكانت فتنة.
وفيها توفي عبد الصمد الزاهد، ودفن عند قبر أحمد، وكان غاية في الزهد والورع.
وفيها هب على الحجاج ريح سوداء بالثعلبية أظلمت لها الأرض، ولم ير الناس بعضهم بعضاً، وأصابهم عطش شديد، ومنعهم ابن الجراح الطائي من المسير ليأخذ منهم مالاً، فضاق الوقت عليهم، فعادوا ولم يحجوا.
وفيها مات علي بن أحمد أبو الحسن الفقيه المالكي، المعروف بابن القصار.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة

ذكر غزوة بهيم نفر

لما فرغ يمين الدولة من الغزوة المتقدمة وعاد إلى غزنة، واستراح هو وعسكره، استعد لغزوة أخرى، فسار في ربيع الآخر من هذه السنة، فانتهى إلى شاطئ نهر هندمند، فلاقاه هناك ابرهمن بال بن اندبال في جيوش الهند، فاقتتلوا ملياً، وكادت الهند تظفر بالمسلمين، ثم إن الله تعالى نصر عليهم، فظفر بهم المسلمون، فانهزموا على أعقابهم، وأخذهم المسلمون بالسيف.
وتبع يمين الدولة أثر ابرهمن بال، حتى بلغ قلعة بهيم نغر، وهي على جبل عالٍ كان الهند قد جعلوها خزانةً لصنمهم الأعظم، فينقلون إليهال أنواع الذخائر، قرناً بعد قرن، وأعلاق الجواهر، وهم يعتقدون ذلك ديناً وعبادة، فاجتمع فيها على طول الأزمان ما لم يسمع بمثله، فنازلهم يمين الدولة وحصرهم وقاتلهم.
فلما رأى الهنود كثرة جمعه، وحرصهم على القتال، وزحفهم إليهم مرة بعد أخرى، خافوا وجبنوا، وطلبوا الأمان، وفتحوا باب الحصن، وملك المسلمون القلعة، وصعد يمين الدولة إليها في خواص أصحابه وثقاته، فأخذ منها من الجواهر ما لا يحد، ومن الدراهم تسعين ألف ألف درهم شاهية، ومن الأواني الذهبيات والفضيات سبعمائة ألف وأربعمائة من، وكان فيها بيت مملوء من فضة طوله ثلاثون ذراعاً، وعرضه خمسة عشر ذراعاً، إلى غير ذلك من الأمتعة.
وعاد إلى غزنة بهذه الغنائم، ففرش تلك الجواهر في صحن داره، وكان قد اجتمع عنده رسل الملوك، فأدخلهم إليه، فرأوا ما لم يسمعوا بمثله.
ذكر حال أبي جعفر بن كاكويههو أبو جعفر بن دشمنزيار، وإنما قيل كاكويه لأنه كان ابن خال والدة مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وكاكويه هو الخال بالفارسية، وكانت والدة مجد الدولة قد استعملته على أصبهان، فلما فارقت ولدها فسد حاله، فقصد الملك بهاء الدولة وأقام عنده مدة، ثم عادت والدة مجد الدولة إلى ابنها بالري، فهرب أبو جعفر وسار إليها، فأعادته إلى أصبهان، واستقر فيها قدمه، وعظم شأنه، وسيأتي من أخباره ما يعلم به صحة ذلك، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، وقع ثلج كثير ببغداد وواسط والكوفة، والبطائح إلى عبادان، وكانت ببغداد نحو ذراع، وبقي في الطرق نحو عشرين يوماً.
وفيها وقعت الفتنة ببغداد في رجب، وكان أولها أن بعض الهاشميين من باب البصرة أتى ابن المعلم فقيه الشيعة في مسجده بالكرخ، فآذاه، ونال منه، فثار به أصحاب ابن المعلم، واستنفر بعضهم بعضاً، وقصدوا أبا حامد الأسفراييني وابن الأكفاني فسبوهما وطلبوا الفقهاء ليوقعوا بهم، فهربوا، وانتقل أبو حامد الأسفراييني إلى دار القطن، وعظمت الفتنة، ثم إن السلطان أخذ جماعةً وسجنهم، فسكنوا، وعاد أبو حامد إلى مسجده، وأخرج ابن المعلم من بغداد، فشفع فيه علي بن مزيد فأعيد.
وفيها وقع الغلاء بمصر واشتد، وعظم الأمر، وعدمت الأقوات، ثم تعقبه وباء كثير أفنى كثيراً من أهلها.
وفيها زلزلت الدينور زلزلةً شديدةً خربت المساكن، وهلك خلق كثير من أهلها؛ وكان الذين دفنوا ستة عشر ألفاً سوى من بقي تحت الهدم ولم يشاهد.
وفيها أمر الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، بهدم بيعة قمامة، وهي بالبيت المقدس، وتسميها العامة القيامة، وفيها الموضع الذي دفن فيه المسيح، عليه السلام، فيما يزعمه النصارى، وإليها يحجون من أقطار الأرض، وأمر بهدم البيع في جميع مملكته، فهدمت، وأمر اليهود والنصارى إما أن يسلموا؛ أو يسيروا إلى بلاد الروم ويلبسوا الغيار، فأسلم كثير منهم، ثم أمر بعمارة البيع، ومن اختار العود إلى دينه عاد، فارتد كثير من النصارى.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي، وزير مجد الدولة، ببروجرد، وكان سبب مجيئه إليها أن أم مجد الدولة بن بويه اتهمته أنه سم أخاه فمات، فلما توفي أخوه طلبت منه مائتي دينار لتنفقها في مأتمه، فلم يعطها، فأخرجته، فقصد بروجرد، وهي من أعمال بدر بن حسنويه، فبذل بعد ذلك مائتي ألف دينار ليعود إلى عمله، فلم يقبل منه، فأقام بها إلى أن توفي، وأوصى أن يدفن بمشهد الحسين، عليه السلام، فقيل للشريف أبي أحمد، والد الشريف الرضي، أن يبيعه بخمس مائة دينار موضع قبره، فقال: من يريد جوار جدي لا يباع؛ وأمر أن يعمل له قبر وسير معه من أصحابه خمسين رجلاً، فدفنه بالمشهد.

وتوفي بعده بيسير ابنه أبو القاسم سعد؛ وأبو عبدالله الجرجاني الحنفي بعد أن فلج؛ وأبو الفرج عبد الواحد بن نصر المعروف بالببغاء الشاعر، وديوانه مشهور؛ والقاضي أبو عبدالله الضبي بالبصرة؛ والبديع أبو الفضل أحمد ابن الحسين الهمذاني، صاحب المقامات المشهورة، وله شعر حسن، وقرأ الأدب على أبي الحسين بن فارس مصنف المجمل.
وتوفي أبو بكر أحمد بن علي بن لالٍ الفقيه الشافعي الهمذاني بنواحي عكا بالشام، كان انتقل إلى هناك.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين وثلاثمائة

ذكر ابتداء حال صالح بن مرداس
لما قتل عيسى بن خلاط أبا علي بن ثمال بالرحبة وملكها، أقام فيها مدةً، ثم قصده بدران بن المقلد العقيلي، فأخذ الرحبة منه وبقيت لبدران. فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها ثم عاد إلى دمشق.
وكان بالرحبة رجل من أهلها يعرف بابن محكان، فملك البلد، واحتاج إلى من يجعله ظهره، ويستعين به على من يطمع فيه، فكاتب صالح بن مرداس الكلابي، فقدم عليه وأقام عنده مدةً، ثم إن صالحاً تغير عن ذلك، فسار إلى ابن محكان وقاتله على البلد، وقطع الأشجار، ثم تصالحا، وتزوج ابنة ابن محكان، ودخل صالح البلد إلا أنه كان أكثر مقامه بالحلة.
ثم إن ابن محكان راسل أهل عانة فأطاعوه، ونقل أهله وماله إليهم، وأخذ رهائنهم، ثم خرجوا عن طاعته، وأخذوا ماله واستعادوا رهائنهم وردوا أولاده، فاجتمع ابن محكان وصالح على قصد عانة، فسارا إليها، فوضع صالح على ابن محكان من يقتله، فقتل غيلةً، وسار صالح إلى الرحبة فملكها، وأخذ أموال ابن محكان وأحسن إلى الرعية، واستمر على ذلك، إلا أن الدعوة للمصريين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل أبو علي بن ثمال الخفاجي، وكان الحاكم بأمر الله، صاحب مصر، قد ولاه الرحبة، فسار إليها، فخرج إليه عيسى بن خلاط العقيلي فقتله وملك الرحبة، ثم ملكها بعده غيره، فصار أمرها إلى صالح بن مرداس الكلابي صاحب حلب.
وفيها صرف أبو عمر بن عبد الواحد الهاشمي عن قضاء البصرة، وكان قد علا إسناده في رواية السنن لأبي داود السجستاني، ومن طريقه سمعناه، وولي القضاء بعده أبو الحسن بن أبي الشوارب، فقال العصفري الشاعر:
عندي حديثٌ طريفٌ ... بمثله يتغنّى
من فاضيين يعزّى ... هذا وهذا يهنّا
فذا يقول اكرهونا ... وذا يقول استرحنا
ويكذبان ونهذي ... فمن يصدّق منّا ؟
وفيها توفي أبو داود بن سيامرد بن باجعفر، ودفن عند قبر النذور بنهر المعلى، وقبته مشهورة؛ وأبو محمد النامي الفقيه الشافعي، وهو القائل:
يا ذا الذي قاسمني في البلى، ... فاختار أن يسكنه أوّلا
ما وطّنت نفسي، ولكنّها ... تسري إليكم منزلاً، منزلا
ثم دخلت سنة أربع مائة
ذكر وقعة نارين بالهند
في هذه السنة تجهز يمين الدولة إلى الهند عازماً على غزوها، فسار إليها واخترقها واستباحها ونكس أصنامها. فلما رأى ملك الهند أنه لا قوة له به راسله في الصلح والهدنة على مال يؤديه، وخمسين فيلاً، وأن يكون له في خدمته ألفا فارس لا يزالون. فقبض منه ما بذله وعاد عنه إلى عزنة.
ذكر الخلف بين بدر بن حسنويه وابنه هلالفي هذه السنة كانت حرب بين بدر بن حسنويه الكردي وبين ابنه هلال.
وكان سبب الوحشة بينهما أن أم هلال كانت من الشاذنجان، فاعتزلها أبوه عند ولاته، فنشأ هلال مبعداً منه لا يميل إليه،وكانت نعمة بدر لابنه الآخر أبي عيسى.

فلما كان في عض الأيام خرج هلال مع أبيه متصيداً، فرأيا سبعاً، وكان بدر إذا رأى سبعاً قتله بيده، فتقدم هلال إلى الأسد بغير إذن أبيه فقتله، فاغتاظ أبوه وقال: كأنك قد فتحت فتحاً، وأي فرقٍ بين السبع والكلب ؟ ورأى إبعاده عنه لشدته، فأقطعه الصامغان، وسهل ذلك على هلال لينفرد بنفسه عن أبيه، فأول ما فعله أنه أساء مجاورة ابن الماضي، صاحب شهرزور، وكان موافقا لأبيه بدر، فنهى بدر ابنه هلالاً عن معارضته، فلم يسمع قوله، وأرسل إلى ابن الماضي يتهدده، فأعاد بدر مراسلة ابنه في معناه، وتهدده إن تعرض بشي هو له، فكان جواب نهيه أنه جمع عسكره وحصر شهرزور ففتحها، وقتل ابن الماضي وأهله، وأخذ أموالهم. فورد على بدر من ذلك ما أزعجه وأقلقه، وأظهر السخط على هلال.
وشرع هلال يفسد جند أبيه ويستميلهم ويبذل لهم، فكثر أصحاب هلال لإحسانه إليهم وبذله المال لهم، وأعرض الناس عن بدر لإمساكه المال، فسار كل واحد منهما إلى صاحبه، فالتقيا على باب الدينور، فلما تراءى الجمعان انحازت الأكراد إلى هلال، فأخذ بدر أسيراً وحمل إلى ابنه، فأشير على هلال بقتله، وقالوا: لا يجوز أن تستبقيه بعدما أوحشته؛ فقال: ما بلغ من عقوقي له أن أقتله؛ وحضر عند أبيه وقال له: أنت الأمير، وأنا مدبر جيشك. فخادعه أبوه بأن قال له: لا يسمعن هذا منك أحدٌ فيكون هلاكنا جميعاً، وهذه القلعة لك، والعلامة في تسليمها كذا وكذا، واحفظ المال الذي بها، فإنك الأمير ما دام الناس يظنون بقاءه، وأريد أن تفرد لي قلعة أتفرغ فيها للعبادة. ففعل ذلك، وأعطاه جملة من المال.
فلما استقر بدر بالقلعة عمرها وحصنها، وراسل أبا الفتح بن عناز، وأبا عيسى شاذي بن محمد، وهو بأساداباذ، يقول لكل واحدٍ منهما ليقصد أعمال هلال ويشعثها. فسار أبو الفتح إلى قرميسين فملكها، وسار أبو عيسى إلى سابور خواست، فنهب حلل هلال، ومضى إلى نهاوند، وبها أبو بكر بن رافع، فاتبعه هلال إليها، ووضع السيف في الديلم فقتل منهم أربع مائة نفس، منهم تسعون أميراً، وأسلم ابن رافع أبا عيسى إلى هلال، فعفا عنه، ولم يؤاخذه على فعله، وأخذه معه.
وأرسل بدر إلى الملك بهاء الدولة يستنجده، فجهز فخر الملك أبا غالب في جيش وسيره إلى بدر، فسار حتى وصل إلى سابور خواست، فقال هلال لأبي عيسى شاذي: قد جاءت عساكر بهاء الدولة، فما الرأي ؟ قال: الرأي أن تتوقف عن لقائهم، وتبذل لبهاء الدولة الطاعة، وترضيه بالمال، فإن لم يجيبوك فضيق عليهم، وانصرف بين أيديهم، فإنهم لا يستطيعون المطاولة، ولا تظن هذا العسكر كمن لقيته بباب نهاوند، فإن أولئك ذللهم أبوك على ممر السنين.
فقال: غششتني ولم تنصحني، وأردت بالمطاولة أن يقوى أبي وأضعف أنا؛ وقتله، وسار ليكبس العسكر ليلاً. فلما وصل إليهم وقع الصوت، فركب فخر الملك في العساكر، وجعل عند أثقالهم من يحميها، وتقدم إلى قتال هلال، فلما رأى هلال صعوبة الأمر ندم، وعلم أن أبا عيسى بن شاذي نصحه، فندم على قتله، ثم أرسل إلى فخر الملك يقول له: إنني ما جئت لقتال وحرب، إنما جئت لأكون قريباً منك، وأنزل على حكمك، فترد العسكر عن الحرب، فإنني أدخل في الطاعة.
فمال فخر الملك إلى هذا القول، وأرسل الرسول إلى بدر ليخبره بما جاء به. فلما رأى بدر الرسول سبه وطرده، وأرسل إلى فخر الملك يقول له: إن هذا مكر من هلال، لما رأى ضعفه، والرأي أن لا تنفس خناقه. فلما سمع فخر الملك الجواب قويت نفسه، وكان يتهم بدراً بالميل إلى ابنه، وتقدم إلى الجيش بالحرب، فقاتلوا، فلم يكن بأسرع من أن أتي بهلال أسيراً، فقبل الأرض، وطلب أن لا يسلمه إلى أبيه، فأجابه إلى ذلك، وطلب علامته بتسليم القلعة، فأعطاهم العلامة، فامتنعت أمه ومن بالقلعة من التسليم، وطلبوا الأمان، فأمنهم فخر الملك، وصعد القلعة ومعه أصحابه، ثم نزل منها وسلمها إلى بدر، وأخذ ما فيها من الأموال وغيرها، وكانت عظيمة، قيل: كان بها أربعون ألف بدرة دراهم، وأربع مائة بدرة ذهباً، سوى الجواهر النفيسة، والثياب، والسلاح وغير ذلك. وأكثر الشعراء ذكر هذا، فممن قال مهيار:
فظنّوك تعبا بحمل العراق، ... كأن لم يروك حملت الجبالا
ولو لم تكن في العلوّ السماء ... لما كان غنمك منها هلالا

سريت إليه، فكنت السرار ... له، ولبدر أبيه كمالا
وهي كثيرة.
ذكر عود المؤيد إلى إمارة الأندلس

وما كان منه
قد ذكرنا سبب خلعه وحبسه، فلما كان هذه السنة أعيد إلى خلافته، واسمه هشام بن الحاكم بن عبد الرحمن الناصر، وكان عوده تاسع ذي الحجة، وكان الحكم في دولته هذه إلى واضح العامري، وأدخل أهل قرطبة إليه، فوعدهم ومناهم، وكتب إلى البربر الذين مع سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودعاهم إلى طاعته، والوفاء ببيعته، فلم يجيبوه إلى ذلك، فأمر أجناده وأهل قرطبة بالحذر والاحتياط، فأحبه الناس.
ثم نقل إليه أن نفراً من الأمويين بقرطبة قد كاتبوا سليمان، وواعدوه ليكون بقرطبة في السابع والعشرين من ذي الحجة ليسلموا إليه البلد، فأخذهم وحبسهم، فلما كان الميعاد قدم البربر إلى قرطبة، فركب الجند وأهل قرطبة وخرجوا إليهم مع المؤيد، فعاد البربر وتبعتهم عساكره، فلم يلحقوهم، وترددت الرسل بينهم فلم يتفقوا على شيء.
ثم إن سليمان والبربر راسلوا ملك الفرنج يستمدونه، وبذلوا له تسليم حصون كان المنصور بن أبي عامر قد فتحها منهم، فأرسل ملك الفرنج إلى المؤيد يعرفه الحال، ويطلب منه تسليم هذه الحصون لئلا يمد سليمان بالعساكر. فاستشار أهل قرطبة في ذلك، فأشاروا بتسليمها إليه خوفاً من أن ينجدوا سليمان، واستقر الصلح في المحرم سنة إحدى وأربعمائة. فلما أيس البربر من إنجاد الفرنج رحلوا، فنزلوا قريباً من قرطبة في صفر سنة إحدى وأربعمائة، وجعلت خيلهم تغير يميناً وشمالاً، وخربوا البلاد.
وعمل المؤيد وواضح العامري سوراً وخندقاً على قرطبة أمام السور الكبير، ثم نزل سليمان قرطبة خمسة وأربعين يوماً فلم يملكها، فانتقل إلى الزهراء وحصرها، وقاتل من بها ثلاثة أيام. ثم إن بعض الموكلين بحفظها سلم إليه الباب الذي هو موكل بحفظه، فصعد البربر السور وقاتلوا من عليه حتى أزالوهم، وملكوا البلد عنوةً، وقتل أكثر من به من الجند، وصعد أهله الجبل، واجتمع الناس بالجامع، فأخذهم البربر وذبحوهم، حتى النساء والصبيان، وألقوا النار في الجامع والقصر والديار، فاحترق أكثر ذلك ونهبت الأموال.
ثم إن واضحاً كاتب سليمان يعرفه أنه يريد الانتقال عن قرطبة سراً، ويشير عليه بمنازلتها بعد مسيره عنها، ونمى الخبر إلى المؤيد، فقبض عليه وقتله، واشتد الأمر بقرطبة، وعظم الخطب، وقلت الأقوات، وكثر الموت، وكانت الأقوات عند البربر أقل منها بالبلد، لأنهم كانوا قد خربوا البلاد، وجلا أهل قرطبة، وقتل المؤيد كل من مال إلى سليمان.
ثم إن البربر وسليمان لازموا الحصار والقتال لأهل قرطبة، وضيقوا عليهم، وفي مدة هذا الحصار ظهر بطليطلة عبيدالله بن محمد بن عبد الجبار، وبايعه أهلها، فسير إليهم المؤيد جيشاً، فحصروهم، فعادوا إلى الطاعة، وأخذ عبيدالله أسيراً، وقتل في شعبان سنة إحدى وأربعمائة.
ثم إن أهل قرطبة قاتلوا في بعض الأيام البربر فقتل منهم خلق كثير، وغرق في النهر مثلهم، فرحلوا عنها، وساروا إلى إشبيلية فحصروها، فأرسل المؤيد إليها جيشاً فحماها، ومنع البربر عنها، وراسل سليمان نائب المؤيد بسرقسطة وغيرها يدعوهم إليه، فأجابوه وأطاعوه، فسار البربر وسليمان عن إشبيلية إلى قلعة رباح، فملكوها، وغنموا ما فيها، واتخذوها داراً، ثم عادوا إلى قرطبة فحصروها، وقد خرج كثير من أهلها وعساكرها من الجوع والخوف، واشتد القتال عليها، وملكها سليمان عنوة وقهراً، وقتلوا من وجدوا في الطرق، ونهبوا البلد وأحرقوه، فلم تحص القتلى لكثرتهم.
ونزل البربر في الدور التي لم تحرق، فنال أهل قرطبة من ذلك ما لم يسمع بمثله، وأخرج المؤيد من القصر وحمل إلى سليمان، ودخل سليمان قرطبة منتصف شوال سنة ثلاث وأربعمائة وبويع له بها.
ثم إن المؤيد جرى له مع سليمان أقاصيص طويلة؛ ثم خرج إلى شرق الأندلس من عنده. وكان ممن قتل في هذا الحصر أبو الوليد بن الفرضي مظلوماً، رحمه الله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أرسل الحاكم بأمر الله من مصر إلى المدينة، ففتح بيت جعفر الصادق، وأخرج منه مصحف وسيف وكساء وقعب وسرير.
وفيها نقص الماء بدجلة حتى أصلحت ما بين أوانا وقريب بغداد، حتى جرت السفن فيها.

وفيها مرض أبو محمد بن سهلان، فاشتد مرضه، فنذر إن عوفي بنى سوراً على مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فعوفي، فأمر ببناء سور عليه، فبني في هذه السنة، تولي بناءه أبو إسحاق الأرجاني.
وفيها ولد عدنان ابن الشريف الرضي.
وفيها توفي النقيب أبو أحمد الموسوي، والد الرضي، بعد أن أضر ووقف بعض أملاكه على البر، وصلى عليه ابنه الأكبر المرتضى، ودفن بداره، ثم نقل إلى مشهد الحسين، عليه السلام، وكان مولده سنة أربع وثلاثمائة.
وفيها توفي أيضاً أبو جعفر الحجاج بن هرمز بالأهواز؛ وعمدة الدولة أبو إسحاق بن معز الدولة بن بويه بمصر.
وفيها مرض الخليفة القادر بالله، واشتد مرضه، فأرجف عليه، فجلس للناس وبيده القضيب، فدخل إليه أبو حامد الأسفراييني، فقال لابن حاجب النعمان: اسأل أمير المؤمنين أن يقرأ شيئاً من القرآن ليسمع الناس قراءته؛ فقرأ: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اْلمُنَافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ في المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّك بِهِمْ) الآيات الثلاث الأحزاب: 60.
وفيها توفي أبو العباس النامي الشاعر؛ وأبو الفتح علي بن محمد البستي الكاتب الشاعر، صاحب الطريقة المشهورة في التجنيس، فمن شعره:
يا أيّها السائل عن مذهبي ... ليقتدي فيه بمنهاجي
منهاجي العدل. وقمع الهوى، ... فهل لمنهاجي من هاجي
ثم دخلت سنة إحدى وأربعمائة

ذكر غزوة يمين الدولة بلاد الغور
بلاد الغور تجاور غزنة، وكان الغور يقطعون الطريق، ويخيفون السبيل، وبلادهم جبال وعرة، ومضايق غلقة، وكانوا يحتمون بها، ويعتصمون بصعوبة مسلكها، فلما كثر ذلك منهم أنف يمين الدولة محمود بن سبكتكين أن يكون مثل أولئك المفسدين جيرانه، وهم على هذه الحال من الفساد والكفر، فجمع العساكر وسار إليهم وعلى مقدمته التونتاش الحاجب، صاحب هراة، وأرسلان الجاذب صاحب طوس، وهما أكبر أمرائه، فسارا فيمن معهما حتى انتهوا إلى مضيق قد شحن بالمقاتلة، فتناوشوا الحرب، وصبر الفريقان.
فسمع يمين الدولة الحال، فجد في السير إليهم، وملك عليهم مسالكهم، فتفرقوا، وساروا إلى عظيم الغورية المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينته التي تدعى اهنكران، فبرز من المدينة في عشرة آلاف مقاتل، فقاتلهم المسلمون إلى أن انتصف النهار، فرأوا أشجع الناس وأقواهم على القتال، فأمر يمين الدولة أن يولوهم الأدبار على سبيل الاستدراج، ففعلوا. فلما رأى الغورية ذلك ظنوه هزيمة، فاتبعوهم حتى أبعدوا عن مدينتهم، فحينئذ عطف المسلمون عليهم ووضعوا السيوف فيهم فأبادوهم قتلاً وأسراً، وكان في الأسرى كبيرهم وزعيمهم ابن سوري، ودخل المسلمون المدينة وملكوها، وغنموا ما فيها، وفتحوا تلك القلاع والحصون التي لهم جميعها، فلما عاين ابن سوري ما فعل المسلمون بهم شرب سماً كان معه، فمات وخسر الدنيا والآخرة، (ذَلِكَ هُوَ الخُسْرانُ المُبِينُ).
وأظهر يمين الدولة في تلك الأعمال شعار الإسلام، وجعل عندهم من يعلمهم شرائعه وعاد؛ ثم سار إلى طائفة أخرى من الكفار، فقطع عليهم مفازة من رمل، ولحق عساكره عطش شديد وكادوا يهلكون، فلطف الله، سبحانه وتعالى، بهم وأرسل عليهم مطراً سقاهم، وسهل عليهم السير في الرمل، فوصل إلى الكفار، وهم جمع عظيم، ومعهم ستمائة فيل، فقاتلهم أشد قتال صبر فيه بعضهم لبعض، ثم إن الله نصر المسلمين، وهزم الكفار، وأخذ غنائمهم، وعاد سالماً مظفراً منصوراً.
ذكر الحرب بين ايلك الخان وبين أخيهوفي هذه السنة سار ايلك الخان في جيوش قاصداً قتال أخيه طغان خان، فلما بلغ يوزكند سقط من الثلج ما منعهم من سلوك الطرق، فعاد إلى سمرقند.
وكان سبب قصده أن أخاه أرسل إلى يمين الدولة يعتذر، ويتنصل من قصد أخيه ايلك الخان بلاد خراسان، ويقول: إنني ما رضيت ذلك منه؛ ويلزم أخاه وحده الذنب، وتبرأ هو منه، فلما علم أخوه ايلك الخان ذلك ساءه وحمله على قصده.
ذكر الخطبة للمصريين العلويين بالكوفة والموصل

في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي، صاحب مصر، بأعماله كلها، وهي: الموصل، والأنبار، والمدائن، والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات العصب. وانهدت بقدرته أركان النصب. وأطلع بنوره شمس الحق من العرب.
فأرسل القادر بالله، أمير المؤمنين، القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر، وولاه قضاء عمان والسواحل. وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.
ذكر الحرب بين بني مزيد وبني دبيسكان أبو الغنائم محمد بن مزيد مقيماً عند بني دبيس في جزيرتهم، بنواحي خوزستان، لمصاهرة بينهم، فقتل أبو الغنائم أحد وجوههم، ولحق بأخيه أبي الحسن علي بن مزيد، فتبعوه فلم يدركوه، وانحدر إليهم سند الدولة أبو الحسن بن مزيد في ألفي فارس، واستنجد عميد الجيوش، فانحدر إليه عجلاً في زبزبة في ثلاثين ديلمياً، وسار ابن مزيد إليهم فلقيهم، واقتتلوا فقتل أبو الغنائم، وانهزم أبو الحسن بن مزيد، فوصل الخبر بهزيمته إلى عميد الجيوش وهو منحدر فعاد.
ذكر وفاة عميد الجيوش

وولاية فخر الملك العراق
في هذه السنة توفي عميد الجيوش أبو علي بن أستاذ هرمز ببغداد، وكانت ولايته ثماني سنين وأربعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وكان عمره تسعاً وأربعين سنة، وتولى تجهيزه ودفنه الشريف الرضي، دفنه بمقابر قريش، ورثاه الرضي وغيره.
وكان أبوه، أبو جعفر استاذ هرمز، من حجاب عضد الدولة، وجعل عضد الدولة عميد الجيوش في خدمة ابنه صمصام الدولة، فلما قتل اتصل بخدمة بهاء الدولة. فلما استولى الخراب على بغداد، وظهر العيارون، وانحلت الأمور بها، أرسله إليها، فأصلح الأمور، وقمع المفسدين وقتلهم. فلما مات استعمل بهاء الدولة مكانه بالعراق فخر الملك أبا غالب، فأصعد إلى بغداد، فلقيه الكتاب والقواد وأعيان الناس، وزينوا له البلاد، ووصل بغداد في ذي الحجة، ومدحه مهيار وغيره من الشعراء.
ومن محاسن أعمال عميد الجيوش أنه حمل إليه مال كثير قد خلفه بعض التجار المصريين، وقيل له: ليس للميت وارث، فقال: لا يدخل خزانة السلطان ما ليس لها، يترك إلى أن يصح خبره. فلما كان بعد مدة جاء أخ للميت بكتاب من مصر بأنه مستحق للتركة، فقصد باب عميد الجيوش ليوصل الكتاب، فرآه يصلي على روشن داره فظنه بعض الحجاب، فأوصل الكتاب إليه فقضى حاجته، فلما علم التاجر أن الذي أخذ الكتاب كان عميد الجيوش عظم الأمر عنده، فأظهر ذلك، فاستحسنه الناس، ولما وصل التاجر إلى مصر أظهر الدعاء له، فضج الناس بالدعاء له والثناء عليه، فبلغه الخبر فسره ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشتد الغلاء بخراسان جميعها، وعدم القوت حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، فكان الإنسان يصيح: الخبز الخبز ! ويموت، ثم تبعه وباءٌ عظيم حتى عجز الناس عن دفن الموتى.
وفيها مات أبو الفتح محمد بن عناز بحلوان، وكانت إمارته عشرين سنة، وقام بعده ابنه أبو الشوك فسيرت إليه العساكر من بغداد لقتاله، ولقيهم أبو الشوك وقاتلهم قتالاً شديداً، وانهزم أبو الشوك إلى حلوان، وأقام بها إلى أن أصلح حاله مع الوزير أبي غالب لما قدم العراق.
وفيها توفي أبو عبدالله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمرة بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشر سنين، وكان بخيلاً شديد البخل، وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.
وفيها توفي الأمير أبو نصر أحمد بن أبي الحارث محمد بن فريغون، صاحب الجوزجان، وكان صهر يمين الدولة على أخته، وكان هو وأبوه قبله يحبان العلماء ويحسنان إليهم.
وفيها انقض كوكب كبير لم ير أكبر منه.
وفيها زادت دجلة إحدى وعشرين ذراعاً، وغرق كثير من بغداد والعراق، وتفجرت البثوق؛ ولم يحج هذه السنة من العراق أحدٌ.

وفيها توفي إبراهيم بن محمد بن عبيد أبو مسعود الدمشقي الحافظ، سافر الكثير في طلب الحديث، وله عناية بصحيحي البخاري ومسلم؛ وتوفي أيضاً خلف بن محمد بن علي بن حمدون أبو محمد الواسطي، كان فاضلاً، وله اطراف الصحيحين أيضاً.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعمائة

ذكر ملك يمين الدولة قصدار
في هذه السنة استولى يمين الدولة على قصدار، وملكها.
وسبب ذلك أن ملكها كان قد صالحه على قطيعة يؤديها إليه، ثم قطعها اغتراراً بحصانة بلده، وكثرة المضايق في الطريق، واحتمى بايلك الخان، وكان يمين الدولة يريد قصدها، فيتقي ناحية ايلك الخان. فلما فسد ذات بينهما صمم العزم وقصدها وتجهز، وأظهر أنه يريد هراة، فسار من غزنة في جمادى الأولى، فلما استقل على الطريق سار نحو قصدار، فسبق خبره، وقطع تلك المضايق والجبل، فلم يشعر صاحبها إلا وعسكر يمين الدولة قد أحاط به ليلاً، فطلب الأمان فأجابه وأخذ منه المال الذي كان قد اجتمع عنده، وأقره على ولايته وعاد.
ذكر أسر صالح بن مرداس
وملكه حلب وملك أولاده
في هذه السنة كانت وقعة بين أبي نصر بن لؤلؤ، صاحب حلب، وبين صالح بن مرداس، وكان ابن لؤلؤ من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان، فقوي على ولد سعد الدولة وأخذ البلد منه، وخطب للحاكم صاحب مصر، ولقبه الحاكم مرتضى الدولة.
ثم فسد ما بينه وبين الحاكم، فطمع فيه ابن مرداس، وبنو كلاب، وكانوا يطالبونه بالصلات والخلع. ثم إنهم اجتمعوا هذه السنة في خمسمائة فارس، ودخلوا مدينة حلب، فأمر ابن لؤلؤ بإغلاق الأبواب والقبض عليهم، فقبض على مائة وعشرين رجلاً، منهم صالح بن مرداس، وحبسهم، وقتل مائتين وأطلق من لم يفكر به.
وكان صالح قد تزوج بابنة عم له يسمى جابراً، وكانت جميلة، فوصفت لابن لؤلؤ، فخطبها إلى إخوتها، وكانوا في حبسه، فذكروا له أن صالحاً قد تزوجها، فلم يقبل منهم، وتزوجها، ثم أطلقهم، وبقي صالح بن مرداس في الحبس، فتوصل حتى صعد من السور وألقى نفسه من أعلى القلعة إلى تلها، واختفى في مسيل ماء.
ووقع الخبر بهربه، فأرسل ابن لؤلؤ الخيل في طلبه، فعادوا ولم يظفروا به. فلما سكن عنه الطلب سار بقيده ولبنة حديد في رجليه، حتى وصل قريبة تعرف بالياسرية، فرأى ناساً من العرب فعرفوه وحملوه إلى أهله بمرج دابق، فجمع ألفي فارس فقصد حلب وحاصرها اثنين وثلاثين يوماً، فخرج إليه ابن لؤلؤ فقاتله، فهزمهم صالح وأسر ابن لؤلؤ، وقيده بقيده الذي كان في رجله ولبنته. وكان لابن لؤلؤ أخٌ فنجا وحفظ مدينة حلب.
ثم إن ابن لؤلؤ بذل لابن مرداس مالاً على أن يطلقه، فلما استقر الحال بينهما أخذ رهائنه وأطلقه، فقالت أم صالح لابنها: قد أعطاك الله ما لا كنت تؤمله، فإن رأيت أن تتم صنيعك بإطلاق الرهائن فهو المصلحة، فإنه إن أراد الغدر بك لا يمنعه من عندك؛ فأطلقهم، فلما دخلوا البلد حمل ابن لؤلؤ إليه أكثر مما استقر، وكان قد تقرر عليه مائتا ألف دينار، ومائة ثوب، وإطلاق كل أسير عنده من بني كلاب. فلما انفصل الحال ورحل صالح أراد ابن لؤلؤ قبض غلامه فتح، وكان دزدار القلعة، لأنه اتهمه بالممالأة على الهزيمة، وكان خلاف ظنه، فأطلع على ذلك غلاماً له اسمه سرور، وأراد أن يجعله مكان فتح، فأعلم سرور بعض أصدقائه ويعرف بابن غانم.
وسبب إعلامه أنه حضر عنده، وكان يخاف ابن لؤلؤ لكثرة ماله، فشكا إلى سرور ذلك، فقال له: سيكون أمر تأمن معه؛ فسأله، فكتمه، فلم يزل يخدعه حتى أعلمه الخبر.

وكان بين ابن غانم وبين فتح مودة، فصعد إليه بالقلعة متنكراً، فأعلمه الخبر، وأشار عليه بمكاتبة الحاكم صاحب مصر، وأمر ابن لؤلؤ أخاه أبا الجيش بالصعود إلى القلعة بحجة افتقاد الخزائن، فإذا صار فيها قبض على فتح، وأرسل إلى فتح يعلمه أنه يريد افتقاد الخزائن، ويأمره بفتح الأبواب. فقال فتح: إنني قد شربت اليوم دواء، وأسأل تأخير الصعود في هذا اليوم، فإنني لا أثق في فتح الأبواب لغيري؛ وقال للرسول: إذا لقيته فاردده. فلما علم ابن لؤلؤ الحال أرسل والدته إلى فتح ليعلم سبب ذلك، فلما صعدت إليه أكرمها، وأظهر لها الطاعة، فعادت وأشارت على أبنها بترك محاقته ففعل، وأرسل إليه يطلب جوهراً كان له بالقلعة، فغالطه فتح ولم يرسله فسكت على مضض لعلمه أن المحاقة لا تفيد لحصانة القلعة، وأشارت والدة ابن لؤلؤ عليه بأن يتمارض، ويظهر شدة المرض، ويستدعي الفتح لينزل إليه ليجعله وصياً، فإذا حضر قبضه. ففعل ذلك، فلم ينزل الفتح، واعتذر، وكاتب الحاكم، وأظهر طاعته، وخطب له، وأظهر العصيان على أستاذه، وأخذ من الحاكم صيدا، وبيروت، وكل ما في حلب من الأموال. وخرج ابن لؤلؤ من حلب إلى إنطاكية، وبها الروم، فأقام عندهم.
وكان صالح بن مرداس قد مالأ الفتح على ذلك، فلما عاد عن حلب استصحب معه والدة ابن لؤلؤ ونساءه، وتركهن بمنبج، وتسلم حلب نواب الحاكم، وتنقلت بأيديهم حتى صارت بيد إنسان من الحمدانية يعرف بعزيز الملك، فقدمه الحاكم واصطنعه وولاه حلب، فلما قتل الحاكم وولي الظاهر عصى عليه، فوضعت ست الملك أخت الحاكم فراشاً على قتله فقتله.
وكان للمصريين بالشام نائب يعرف بأنوشتكين البربري، وبيده دمشق، والرملة، وعسقلان، وغيرها، فاجتمع حسان أمير بني طي، وصالح بن مرداس أمير بني كلاب، وسنان بن عليان، وتحالفوا، واتفقوا على أن يكون من حلب إلى عانة لصالح، ومن الرملة إلى مصر لحسان، ودمشق لسنان، فسار حسان إلى الرملة فحصرها، وبها أنوشتكين، فسار عنها إلى عسقلان، واستولى عليها حسان ونهبها وقتل أهلها، وذلك سنة أربع عشرة وأربعمائة، أيام الظاهر لإعزاز دين الله خليفة مصر.
وقصد صالح حلب، وبها إنسان يعرف بابن ثعبان يتولى أمرها للمصريين، وبالقلعة خادم يعرف بموصوف، فأما أهل البلد فسلموه إلى صالح لإحسانه إليهم، ولسوء سيرة المصريين معهم، وصعد ابن ثعبان إلى القلعة، فحصره صالح بالقلعة، فغار الماء الذي بها، فلم يبق لهم ما يشربون، فسلم الجند القلعة إليه، وذلك سنة أربع عشرة، وملك من بعلبك إلى عانة، وأقام بحلب ست سنين.
فلما كان سنة عشرين وأربعمائة جهز الظاهر صاحب مصر جيشاً، وسيرهم إلى الشام لقتال صالح وحسان، وكان مقدم العسكر أنوشتكين البربري، فاجتمع صالح وحسان على قتاله، فاقتتلوا بالأقحوانة على الأردن، عند طبرية، فقتل صالح وولده الأصغر، وأنفذ رأساهما إلى مصر، ونجا ولده أبو كامل نصر بن صالح، فجاء إلى حلب وملكها، وكان لقبه شبل الدولة.
فلما علمت الروم بإنطاكية الحال، تجهزوا إلى حلب في عالم كثير، فخرج أهلها فحاربوهم فهزموهم، ونهبوا أموالهم، وعادوا إلى إنطاكية، وبقي شبل الدولة مالكاً لحلب إلى سنة تسع وعشرين وأربعمائة، فأرسل إليه الدزبري العساكر المصرية، وصاحب مصر حينئذ المستنصر بالله، فلقيهم عند حماة، فقتل في شعبان وملك الدزبري حلب في رمضان سنة تسع وعشرين، وملك الشام جميعه، وعظم أمره، وكثر ماله، وأرسل يستدعي الجند الأتراك من البلاد، فبلغ المصريين عنه أنه عازم على العصيان، فتقدموا إلى أهل دمشق بالخروج عن طاعته، ففعلوا، فسار عنها نحو حلب في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وتوفي بعد ذلك بشهر واحد.

وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقب بمعز الدولة بالرحبة، فلما بلغه موت الدزبري جاء إلى حلب فملكها تسليماً من أهلها، وحاصر امرأة الدزبري وأصحابه بالقلعة أحد عشر شهراً، وملكها في صفر سنة أربع وثلاثين فبقي فيها إلى سنة أربعين. فأنفذ المصريون إلى محاربته أبا عبدالله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حلب إلى حربه، فهزمهم، واختنق منهم بالباب جماعة، ثم إنه رحل عن حلب وعاد إلى مصر، وأصابهم سيل ذهب بكثير من دوابهم وأثقالهم. فأنفذ المصريون إلى قتال معز الدولة خادماً يعرف برفق فخرج إليه في أهل حلب، فقاتلوه، فانهزم المصريون، وأسر رفق، ومات عندهم، وكان أسره سنة إحدى وأربعين في ربيع الأول.
ثم إن معز الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين، وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب فأنفذوا إليها أبا علي الحسن بن علي بن ملهم، ولقبوه مكين الدولة، فتسلمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين، وسار ثمال إلى مصر في ذي الحجة وسار أخوه أبو ذؤابة عطية بن صالح إلى الرحبة، وأقام ابن ملهم بحلب فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب.
وسمع ابن ملهم أن بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر ابن صالح يستدعونه ليسلموا البلد إليه، فقبض على جماعة منهم، وكان منهم رجل يعرف بكامل بن نباتة، فخاف، فجلس يبكي، وكان يقول لكل من سأله عن بكائه: إن أصحابنا الذين أخذوا قد قتلوا، وأخاف على الباقين. فاجتمع أهل البلد، واشتدوا، وراسلوا محموداً، وهو عنهم مسيرة يومٍ، يستدعونه، وحصروا ابن ملهم، وجاء محمود وحصره معهم في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين.
ووصلت الأخبار إلى مصر، فسيروا ناصر الدولة أبا علي بن ناصر الدولة ابن حمدان في عسكرٍ، بعد اثنين وثلاثين يوماً من دخول محمود حلب، فلما قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرية، واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلاً بقرب البلد، وقد كره فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مائة وخمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس.
وأما ناصر الدولة فلم يمكن أصحابه من دخول البلد ونهبه، وسار في طلب محمود، فالتقيا بالغنيدق في رجب، فانهزم أصحاب ابن حمدان، وثبت هو فجرح وحمل إلى محمود أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، وأطلق ابن حمدان، فسار هو وابن ملهم إلى مصر، فجهز المصريون معز الدولة ثمال بن صالح إلى ابن أخيه، فحصره في حلب في ذي الحجة من السنة، فاستنجد محمود خاله منيع بن شبيب بن وثاب النميري، صاحب حران، فجاء إليه، فلما بلغ ثمالاً مجيئه سار عن حلب إلى البرية في المحرم سنة ثلاث وخمسين، وعاد منيع إلى حران، فعاد ثمال إلى حلب، وخرج إليه محمود ابن أخيه، فاقتتلوا، وقاتل محمود قتالاً شديداً، ثم انهزم محمود فمضى إلى أخواله بني نمير بحران، وتسلم ثمال حلب في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين، وخرج إلى الروم، فغزاهم ثم توفي بحلب في ذي القعدة سنة أربع وخمسين، وكان كريماً، حليماً، وأوصى بحلب لأخيه عطية بن صالح فملكها.
ونزل به قوم من التركمان مع ابن خان التركماني، فقوي بهم، فأشار أصحابه بقتلهم، فأمر أهل البلد بذلك، فقتلوا منهم جماعة، ونجا الباقون، فقصدوا محموداً بحران، واجتمعوا معه على حصار حلب، فحصرها وملكها في رمضان سنة أربع وخمسين.
وقصد عمه عطية الرقة فملكها، ولم يزل بها حتى أخذها منه شرف الدولة مسلم بن قريش سنة ثلاث وستين، وسار عطية إلى بلد الروم، فمات بالقسطنطينية سنة خمس وستين.
وأرسل محمود التركمان مع أميرهم ابن خان إلى ارتاح، فحصرها وأخذها من الروم سنة ستين، وسار محمود إلى طرابلس، فحصرها، وأخذ من أهلها مالاً وعاد، وأرسله محمود في رسالة إلى السلطان ألب أرسلان، ومات محمود في حلب سنة ثمان وستين في ذي الحجة، ووصى بها بعده لابنه مشيب، فلم ينفذ أصحابه وصيته لصغره، وسلموا البلد إلى ولده الأكبر، واسمه نصر، وجده لأمه الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة ابن بويه وتزوجها عند دخولهم مصر لما ملك طغرلبك العراق.

وكان نصر يدمن شرب الخمر، فحمله السكر على أن خرج إلى التركمان الذين ملكوا أباه البلد، وهم بالحاضر، يوم الفطر، فلقوه، وقبلوا الأرض بين يديه، فسبهم وأراد قتلهم، فرماه أحدهم بنشابة فقتله، وملك أخوه سابق، وهو الذي كان أبوه أوصى له بحلب، فلما صعد القلعة استدعى أحمد شاه مقدم التركمان، وخلع عليه، وأحسن إليه، وبقي فيها إلى سنة اثنتين وسبعين، فقصده تتش بن ألب أرسلان، فحصره بحلب أربعة أشهر ونصفاً، ثم رحل عنه، ونازله شرف الدولة، فأخذ البلد منه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى؛ فهذه جميع أخبار بني مرداس أتيت بها متتابعة لئلا تجهل إذا تفرقت.
ذكر قتل جماعة من خفاجةلما فتح الملك فخر الدولة دير العاقول أتاه سلطان، وعلوان، ورجب، أولاد ثمال الخفاجي، ومعهم أعيان عشائرهم، وضمنوا حماية سقي الفرات، ودفع عقيل عنها، وساروا معه إلى بغداد، فأكرمهم وخلع عليهم، وأمرهم بالمسير مع ذي السعادتين الحسن بن منصور إلى الأنبار، فساروا، فلما صاروا بنواحي الأنبار أفسدوا وعاثوا، فقبض ذو السعادتين على نفر منهم، ثم أطلقهم واستحلفهم على الطاعة، والكف عن الأذى، فأشار كاتب نصرانيٌ من أهل دقوقا على سلطان بن ثمال بالقبض على ذي السعادتين، وأن يظهر أن عقيلاً قد أغاروا، فإذا خرج عسكر ذي السعادتين انفرد به فأخذه. فوصل إلى ذي السعادتين الخبر.
ثم إن سلطاناً أرسل إليه يقول له إن عقيلاً قد قاربوا الأنبار، ويطلب منه إنفاذ العسكر، فقال ذو السعادتين: أنا أركب وآخذ العساكر؛ ثم دافعه إلى أن فات وقت السير، فانتقض على سلطان ما دبره، فأرسل يقول: قد أخذت جماعة من عقيل؛ ثم إن ذا السعادتين صنع طعاماً كثيراً، وحضر عنده سلطان وكاتبه النصراني وجماعة من أعيان خفاجة، فأمر أصحابه بقتل كثير منهم، وقبض على سلطان وكاتبه وجماعته، ونهب بيوتهم وما فيها، وحبس سلطاناً ومن معه ببغداد، حتى شفع فيهم أبو الحسن بن مزيد، وبذل مالاً عنهم فأطلقوا. وذكر ابن نباتة وغيره هذه الحادثة.
ذكر القدح في نسب العلويين المصريينفي هذه السنة كتب ببغداد محضر يتضمن القدح في نسب العلويين خلفاء مصر، وكتب فيه المرتضى وأخوه الرضي وابن البطحاوي العلوي، وابن الأزرق الموسوي، والزكي أبو يعلى عمر بن محمد، ومن القضاة والعلماء ابن الأكفاني وابن الخرزي، وأبو العباس الأبيوردي، وأبو حامد الأسفراييني، والكشفلي، والقدوري، والصيمري، وأبو عبدالله بن البيضاوي، وأبو الفضل النسوي، وأبو عبدالله بن النعمان فقيه الشيعة، وغيرهم، وقد ذكرنا الاختلاف فيهم عند ابتداء دولتهم سنة ست وتسعين ومائتين.
ذكر أخذ بني خفاجة الحجاجفي هذه السنة سارت خفاجة إلى واقصة، ونزحوا ماء البرمكي والريان وألقوا فيهما الحنظل؛ ووصل الحجاج من مكة إلى العقبة، فلقيهم خفاجة ومنعوهم الماء، ثم قاتلوهم فلم يكن فيهم امتناع، فأكثروا القتل، وأخذوا الأموال، ولم يسلم من الحاج إلا اليسير، فبلغ الخبر فخر الملك الوزير ببغداد، فسير العساكر في أثرهم، وكتب إلى أبي الحسن علي بن مزيد يأمره بطلب العرب، والأخذ منهم بثأر الحاج، والانتقام، فسار خلفهم فلحقهم وقد قاربوا البصرة، فأوقعوا بهم، فقتل منهم وأسر جمعاً كثيراً، وأخذ من أموال الحاج ما رآه، وكان الباقي قد أخذه العرب وتفرقوا، وأرسل الأسرى وما استرده من أمتعة الحاج إلى الوزير، فحسن موقعه منه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو الحسن بن اللبان الفرضي في ربيع الأول؛ وتوفي في شهر رمضان عثمان بن عيسى أبو عمرو الباقلاني العابد، وكان مجاب الدعوة، رحمة الله عليه.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعمائة

ذكر قتل قابوس
في هذه السنة قتل شمس المعالي قابوس بن وشمكير.
وكان سبب قتله أنه كان مع كثرة فضائله ومناقبه، عظيم السياسة، شديد الأخذ، قليل العفو، يقتل على الذنب اليسير، فضجر أصحابه منه، واستطالوا أيامه، واتفقوا على خلعه والقبض عليه.

وكان حينئذ غائباً عن جرجان، فخفي عليه الأمر، فلم يشعر ذات ليلة إلا وقد أحاط العسكر بباب القلعة التي كان بها، وانتهبوا أمواله، ودوابه، وأرادوا استنزاله من الحصن، فقاتلهم هو ومن معه من خواصه وأصحابه، فعادوا ولم يظفروا به، ودخلوا جرجان واستولوا عليها، وعصوا عليه بها، وبعثوا إلى ابنه منوجهر، وهو بطبرستان، يعرفونه الحال، ويستدعونه ليولوه أمرهم، فأسرع السير نحوهم خوفاً من خروج الأمر عنه، فالتقوا، واتفقوا على طاعته إن هو خلع أباه، فأجابهم إلى ذلك على كرهٍ.
وكان أبوه شمس المعالي قد سار نحو بسطام عند حدوث هذه الفتنة لينظر فيما تسفر عنه، فأخذوا منوجهر معهم، عازمين على قصد والده وإزعاجه من مكانه، فسار معهم مضطراً، فلما وصل إلى أبيه أذن له وحده دون غيره، فدخل عليه وعنده جمع من أصحابه المحامين عنه، فلما دخل عليه تشاكيا ما هما فيه، وعرض عليه منوجهر أن يكون بين يديه في قتال أولئك القوم ودفعهم وإن ذهبت نفسه. فرأى شمس المعالي ضد ذلك، وسهل عليه حيث صار الملك إلى ولده، فسلم إليه خاتم الملك، ووصاه بما يفعله، واتفقا على أن ينتقل هو إلى قلعة جناشك يتفرغ للعبادة إلى أن يأتيه اليقين وينفرد منوجهر بتدبير الملك.
وسار إلى القلعة المذكورة مع من اختاره لخدمته، وسار منوجهر إلى جرجان، وتولى الملك وضبطه ودارى أولئك الأجناد، وهم نافرون، خائفون من شمس المعالي ما دام حياً، فما زالوا يحتالون ويجيلون الرأي حتى دخلوا إلى منوجهر وخوفوه من أبيه مثل ما جرى لهلال بن بدر مع أبيه، وقالوا له: مهما كان والدك في الحياة لا نأمن نحن ولا أنت؛ واستأذنوه في قتله، فلم يرد عليهم جواباً، فمضوا إليه إلى الدار التي هو فيها، وقد دخل إلى الطهارة متخففاً، فأخذوا ما عنده من كسوة، وكان الزمان شتاء، وكان يستغيث: أعطوني ولو جل دابة ! فلم يفعلوا فمات من شدة البرد؛ وجلس ولده للعزاء، ولقب القادر بالله منوجهر فلك المعالي.
ثم إن منوجهر راسل يمين الدولة، ودخل في طاعته، وخطب له على منابر بلاده، وخطب إليه أن يزوجه بعض بناته، ففعل، فقوي جنانه، وشرع في التدبير على أولئك الذين قتلوا أباه، فأبادهم بالقتل والتشريد.
وكان قابوس غزير الأدب، وافر العلم، له رسائل وشعر حسن، وكان عالماً بالنجوم وغيرها من العلوم، فمن شعره:
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر يطفو فوقه جيفٌ ... وتستقرّ بأقصى قعره الدّرر
فإن تكن نشبت أيدي الخطوب بنا ... ومسّنا من توالي صرفها ضرر
ففي السماء نجومٌ غير ذي عدد ... وليس يكسف إلاّ الشمس والقمر
ذكر موت ايلك الخان

وولاية أخيه طغان خان
في هذه السنة توفي ايلك الخان وهو يتجهز للعود إلى خراسان، ليأخذ بثأره من يمين الدولة، وكاتب قدرخان وطغان خان ليساعداه على ذلك.
فلما توفي ولي بعده أخوه طغان، فراسل يمين الدولة وصالحه، وقال له: المصلحة للإسلام والمسلمين أن تشتغل أنت بغزو الهند، وأشتغل أنا بغزو الترك، وأن يترك بعضنا بعضاً؛ فوافق ذلك هواه، فأجابه إليه، وزال الخلاف، واشتغلا بغزو الكفار.
وكان ايلك الخان خيراً، عادلاً، حسن السيرة، محباً للدين وأهله، معظماً للعلم وأهله، محسناً إليهم.
ذكر وفاة بهاء الدولة وملك سلطان الدولةفي هذه السنة، خامس جمادى الآخرة، توفي بهاء الدولة أبو نصر بن عضد الدولة بن بويه، وهو الملك حينئذ بالعراق، وكان مرضه تتابع الصرع مثل مرض أبيه، وكان موته بأرجان، وحمل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن عند أبيه عضد الدولة، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة وتسعة أشهر ونصفاً، وملكه أربعاً وعشرين سنة.
ولما توفي ولي الملك بعده ابنه سلطان الدولة أبو شجاع، وسار من أرجان إلى شيراز، وولى أخاه جلال الدولة أبا طاهر بن بهاء الدولة البصرة، وأخاه أبا الفوارس كرمان.
ذكر ولاية سليمان الأندلس الدولة الثانيةفي هذه السنة ملك سليمان بن الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر الأموي، ولقب المستعين، وهذه غير ولايته، منتصف شوال، على ما ذكرناه سنة أربعمائة، وبايعه الناس وخرج أهل قرطبة إليه يسلمون عليه، فأنشد متمثلاً:

إذا ما رأوني طالعاً من ثنيّةٍ ... يقولون من هذا، وقد عرفوني
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحباً ... ولو ظفروا بي ساعةً قتلوني
وكان سليمان أديباً شاعراً بليغاً، وأريق في أيامه دماء كثيرة لا تحد، وقد تقدم ذكر ذلك سنة أربعمائة، وكان البربر هم الحاكمين في دولته لا يقدر على خلافهم، لأنهم كانوا عامة جنده، وهم الذين قاموا معه حتى ملكوه، وقد تقدم ذكر ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خلع سلطان الدولة على أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي، وهو أول من تقدم من أهل بيته.
وفيها تقلد الرضي الموسوي، صاحب الديوان المشهور، نقابة العلويين ببغداد، وخلع عليه سواد، وهو أول طالبي خلع عليه السواد.
وفيها توفي أبو بكر الخوارزمي واسمه محمد بن موسى، الفقيه الحنفي؛ وأبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوي، نقيب الكوفة، وكان يسير الحاج عشر سنين؛ وأبو عبدالله الحسن بن حامد بن علي بن مروان، الفقيه الحنبلي، وله تصانيف في الفقه؛ والقاضي أبو بكر محمد بن الطيب المتكلم الأشعري:، وكان مالكي المذهب، رثاه بعضهم فقال:
انظر إلى جبلٍ تمشي الرجال به، ... وانظر إلى القبر ما يحوي من الصّلف
وانظر إلى صارم الإسلام منغمداً، ... وانظر إلى درّة الإسلام في الصّدف
وفيها قتل أبو الوليد عبدالله بن محمد، المعروف بابن الفرضي الأندلسي: بقرطبة، قتله البربر.
ثم دخلت سنة أربع وأربعمائة

ذكر فتح يمين الدولة ناردين
في هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند في جمع عظيم وحشد كثير، وقصد واسطة البلاد من الهند، فسار شهرين، حتى قارب مقصده، ورتب أصحابه وعساكره، فسمع عظيم الهند به، فجمع من عنده من قواده وأصحابه، وبرز إلى جبل هناك، صعب المرتقى، ضيق المسلك، فاحتمى به، وطاول المسلمين، وكتب إلى الهنود يستدعيهم من كل ناحية، فاجتمع عليه منهم كل من يحمل سلاحاً، فلما تكاملت عدته نزل من الجبل، وتصاف هو والمسلمون، واشتد القتال وعظم الأمر.
ثم إن الله تعالى منح المسلمين أكتافهم فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، وغنموا ما معهم من مالٍ، وفيل، وسلاح، وغير ذلك.
ووجد في بيت بد عظيم حجراً منقوراً دلت كتابته على أنه مبني منذ أربعين ألف سنة، فعجب الناس لقلة عقولهم.
فلما فرغ من غزوته عاد إلى غزنة، وأرسل إلى القادر بالله يطلب منه منشوراً، وعهداً بخراسان وما بيده من الممالك، فكتب له ذلك، ولقب نظام الدين.
ذكر ما فعله خفاجة دفعة أخرىفي هذه السنة جاء سلطان بن ثمال، واستشفع بأبي الحسن بن مزيد إلى فخر الملك ليرضى عنه، فأجابه إلى ذلك، فأخذ عليه العهود بلزوم ما يحمد أمره، فلما خرج وصلت الأخبار بأنهم نهبوا سواد الكوفة، وقتلوا طائفة من الجند، وأتى أهل الكوفة مستغيثين، فسير فخر الملك إليهم عسكراً، وكتب إلى ابن مزيد وغيره بمحاربتهم، فسار إليهم، وأوقع بهم بنهر الرمان، وأسر محمد بن ثمال وجماعة معه، ونجا سلطان وأدخل الأسرى إلى بغداد مشهرين وحبسوا.
وهب على المنهزمين من بنى خفاجة ريح شديدة حارة، فقتلت منهم نحو خمسمائة رجل، وأفلت منهم جماعة ممن كانوا أسروا من الحجاج، وكانوا يرعون إبلهم وغنمهم، فعادوا إلى بغداد، فوجد بعضهم نساءهم قد تزوجن وولدن، واقتسمت تركاتهم.
ذكر استيلاء طاهر بن هلال على شهرزورقد ذكرنا حال شهرزور، وأن بدر بن حسنويه سلمها إلى عميد الجيوش، فجعل فيها نوابه. فلما كان الآن سار طاهر بن هلال بن بدر إلى شهرزور، وقاتل من بها من عسكر فخر الملك، وأخذها منهم في رجب. فلما سمع الوزير الخبر أرسل إلى طاهر يعاتبه، ويأمره بإطلاق من أسر من أصحابه، ففعل، ولم تزل شهرزور بيد طاهر إلى أن قتله أبو الشوك، وأخذها منه، وجعلها لأخيه مهلهل.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي إلى أبي الشوك على عزم محاربته، فاصطلحا من غير حرب، وتزوج ابنه أبو الأغر دبيس بن علي بأخت أبي الشوك.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن علي بن سعيد الإصطخري، وهو شيخ من شيوخ المعتزلة ومشهوريهم، وكان عمره قد زاد على ثمانين سنة، وله تصانيف في الرد على الباطنية.
ثم دخلت سنة خمس وأربعمائة
ذكر غزوة تانيشر

قد ذكر ليمين الدولة أن بناحية تانيشر فيلة من جنس فيلة الصيلمان الموصوفة في الحرب، وأن صاحبها غالٍ في الكفر والطغيان، والعناد للمسلمين، فعزم على غزوه في عقر داره، وأن يذيقه شربة من كأس قتاله، فسار في الجنود والعساكر والمتطوعة، فلقي في طريقه أودية بعيدة القعر، وعرة المسالك، وقفاراً فسيحة الأقطار والأطراف، بعيدة الأكناف، والماء بها قليل، فلقوا شدة، وقاسوا مشقة إلى أن قطعوها.
فلما قاربوا مقصدهم لقوا نهراً شديد الجرية، صعب المخاضة، وقد وقف صاحب تلك البلاد على طرفه، يمنع من عبوره، ومعه عساكره، وفيلته التي كان يدل بها. فأمر يمين الدولة شجعان عسكره بعبور النهر، وإشغال الكافر بالقتال ليتمكن باقي العسكر من العبور، ففعلوا ذلك، وقاتلوا الهنود، وشغلوهم عن حفظ النهر، حتى عبر سائر العسكر في المخاضات، وقاتلوهم من جميع جهاتهم إلى آخر النهار، فانهزم الهند، وظفر المسلمون، وغنموا ما معهم من أموال وفيلة، وعادوا إلى غزنة موفرين ظافرين.
ذكر قتل بدر بن حسنويه وإطلاق ابنه هلال وقتلهفي هذه السنة قتل بدر بن حسنويه أمير الجبل.
وكان سبب قتله أنه سار إلى الحسين بن مسعود الكردي ليملك عليه بلاده، فحصره بحصن كوسحد، فضجر أصحاب بدر منه لهجوم الشتاء، فعزموا على قتله، فأتاه بعض خواصه وعرفه ذلك، فقال: فمن هم الكلاب حتى يفعلوا ذلك ! وأبعدهم، فعاد إليه، فلم يأذن له، فقال من وراء الخركاة: الذي أعلمتك قد قوي العزم عليه؛ فلم يلتفت إليه.
وخرج فجلس على تل، فثاروا به، فقتله طائفة منهم تسمى الجورقان، ونهبوا عسكره، وتركوه وساروا. فنزل الحسين بن مسعود، فرآه ملقىً على الأرض، فأمر بتجهيزه وحمله إلى مشهد علي، عليه السلام، ليدفن فيه، ففعل ذلك.
وكان عادلاً، كثير الصدقة والمعروف، كبير النفس، عظيم الهمة. ولما قتل هرب الجورقان إلى شمس الدولة أبي طاهر بن فخر الدولة بن بويه، فدخلوا في طاعته.
وكان طاهر بن هلال بن بدر هارباً من جده بنواحي شهرزور، فلما عرف بقتله بادر يطلب ملكه، فوقع بينه وبين شمس الدولة حرب، فأسر طاهر وحبس وأخذ ما كان قد جمعه بعد أن ملك نائباً من أبيه هلال، وكان عظيماً، وحمله إلى همذان، وسار اللرية والشاذنجان إلى أبي الشوك، فدخلوا في طاعته.
وحين قتل كان ابنه هلال محبوساً عند الملك سلطان الدولة، كما ذكرنا، فلما قتل بدر استولى شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه على بعض بلاده، فلما علم سلطان الدولة بذلك أطلق هلالاً وجهزه وسيره ومعه العساكر ليستعيد ما ملكه شمس الدولة من بلاده. فسار إلى شمس الدولة، فالتقيا في ذي القعدة، واقتتل العسكران، فانهزم أصحاب هلال، وأسر هو، فقتل أيضاً، وعادت العساكر التي كانت معه إلى بغداد على أسوإ حال.
وكان ممن أسر معه أبو المظفر أنوشتكين الأعرابي، وكان في مملكة بدر سابور خواست، والدينور، وبروجرد، ونهاوند، وأسداباذ، وقطعة من أعمال الأهواز، وما بين ذلك من القلاع والولايات.
ذكر الحرب بين علي بن مزيد وبين بني دبيسفي هذه السنة، في المحرم، كانت الحرب بين أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي وبين مضر، ونبهان، وحسان، وطراد بني دبيس.
وسببها أنهم كانوا قد قتلوا أبا الغنائم بن مزيد أخا أبي الحسن في حرب بينهم، وقد تقدم ذكرها، وحالت الأيام بينه وبين الأخذ بثأره، فلما كان الآن تجهز لقصدهم، وجمع العرب، والشاذنجان، والجوانية، وغيرهما من الأكراد وسار إليهم، فلما قرب منهم خرجت زوجته ابنة دبيس وقصدت أخاها مضر بن دبيس ليلاً، وقالت له: قد أتاكم ابن مزيد فيما لا قبل لكم به، وهو يقنع منكم بإبعاد نبهان قاتل أخيه، فأبعدوه، وقد تفرقت هذه العساكر. فأجابها أخوها مضر إلى ذلك، وامتنع أخوه حسان.
فلما سمع ابن مزيد بما فعلته زوجته أنكره، وأراد طلاقها، فقالت له: خفت أن أكون في هذه الحرب بين فقد أخٍ حميم، أو زوج كريم، ففعلت ما فعلت رجاء الصلاح؛ فزال ما عنده منها، وتقدم إليهم، وتقدموا إليه بالحلل والبيوت، فالتقوا واقتتلوا، واشتد القتال لما بين الفريقين من الدخول، فظفر ابن مزيد بهم، وهزمهم وقتل حسان ونبهان ابني دبيس، واستولى على البيوت والأموال، ولحق من سلم من الهزيمة بالحويزة.

ولما ظفر بهم رأى عندهم مكاتبات فخر الملك يأمرهم بالجد في أمره، ويعدهم النصرة، فعاتبه على ذلك، وحصل بينهما نفرة، ودعت فخر الملك الضرورة إلى تقليد ابن مزيد الجزيرة الدبيسية، واستثنى مواضع منها: الطيب وقرقوب وغيرهما، وبقي أبو الحسن هناك إلى جمادى الأولى.
ثم إن مضر بن دبيس جمع جمعاً، وكبس أبا الحسن ليلاً، فهرب في نفر يسير، واستولى مضر على حلله وأمواله، وكل ماله، ولحق أبو الحسن ببلد النيل منهزماً.
ذكر ملك شمس الدولة الري

وعوده عنها
لما ملك شمس الدولة بن فخر الدولة ولاية بدر بن حسنويه وأخذ ما في قلاعه من الأموال عظم شأنه، واتسع ملكه، فسار إلى الري، وبها أخوه مجد الدولة، فرحل عن الري ومعه والدته إلى دنباوند، وخرجت عساكر الري إلى شمس الدولة مذعنة بالطاعة، ودخل الري وملكها، وخرج منها يطلب أخاه ووالدته، فشغب الجند عليه، وزاد خطبهم، وطالبوه مطالبات اتسع الخرق بها، فعاد إلى همذان وأرسل إلى أخيه ووالدته يأمرهما بالعود إلى الري، فعادا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الحسن أحمد بن علي البتي، الكاتب الشاعر، ومن شعره في تكةً:
لم لا أتيه ومضجعي ... بين الرّوادف والخصور
وإذا نسجت، فإنّني ... بين الترائب والنّحور
ولقد نشأت صغيرةً ... فأكفّ ربّات الخدور
وله نوادر كثيرة منها أنه شرب قفاعاً في دار فخر الملك، فلم يستطبه، فجلس مفكراً، فقال له الفقاعي: في أي شيء تفكر ؟ فقال: في دقة صنعتك، كيف أمكنك الخراء في هذه الكيزان الضيقة كلها.
وفي رمضان منها قتل القاضي أبو القاسم يوسف بن أحمد بن كج الفقيه، وكان من أئمة أصحاب الشافعي، وكان قاضي الدينور، قتله طائفة من عامتها خوفاً منه . .
وتوفي أبو نصر عمر بن عبد العزيز بن نباتة السعدي الشاعر؛ والقاضي أبو محمد بن الأكفاني، قاضي بغداد، وولي بعده قضاء القضاة أبو الحسن بن أبي الشوارب البصري.
وتوفي أبو أحمد عبد السلام بن الحسن البصري الأديب؛ وأبو القاسم هبة الله بن عيسى، كاتب مهذب الدولة بالبطيحة، وهو من الكتاب المفلقين، ومكاتباته مشهورة؛ وكان ممدحاً، وممن مدحه ابن الحجاج.
وتوفي أيضاً عبدالله بن محمد بن محمد بن عبدالله بن إدريس أبو سعيد الإدريسي، الاستراباذي، الحافظ، نزيل سمرقند، وهو مصنف تاريخ سمرقند.
وتوفي أيضاً الحاكم أبو عبدالله محمد بن عبدالله النيسابوري، صاحب التصانيف الحسنة المشهورة؛ وأبو الحسن بن عياض، وكان يلقب الناصر، وكان يتولى الأهواز، وقام ولده بنكير مقامه؛ وأبو عي الحسين بن الحسين بن حمكان الهمذاني، الفقيه الشافعي، وكان إماماً عالماً.
ثم دخلت سنة ست وأربعمائة
ذكر الفتنة بين باديس وعمه حماد
في هذه السنة ظهر الاختلاف بين الأمير باديس، صاحب إفريقية، وعمه حماد، حتى آل الأمر بينهما إلى الحرب التي لا بقيا بعدها.
وسبب ذلك أن باديس أبلغ عن عمه حماد قوارص وأموراً أنكرها، فاغضى عليها، حتى كثر ذلك عليه، ! وكان لباديس ولد اسمه المنصور أراد أن يقدمه ويجعله ولي عهده، فأرسل إلى عمه حماد يقول له بأن يسلم بعض ما بيده من الأعمال التي أقطعه إلى نائب ابنه المنصور، وهي مدينة تيجس، وقصر الإفريقي وقسطنطينة، وسير إلى تسليم ذلك هاشم بن جعفر، وهو من كبار قوادهم، وسير معه عمه إبراهيم ليمنع أخاه حماداً من أمر إن أراده. فسار إلى أن قاربا حماداً، ففارق إبراهيم هاشماً، وتقدم إلى أخيه حماد، فلما وصل إليه حسن له الخلاف على باديس، ووافقه على ذلك، وخلعا الطاعة، وأظهرا العصيان، وجمعا الجموع الكثيرة، فكانوا ثلاثين ألف مقاتل.
فبلغ ذلك باديس، فجمع عساكره وسار إليهما، ورحل حماد وأخوه إبراهيم إلى هاشم بن جعفر والعسكر الذين معه، وهو بقلعة شقنبارية، فكان بينهم حرب انهزم فيها: ابن جعفر ولجأ إلى باجة، وغنم حماد ماله وعدده، فرحل باديس إلى مكان يسمى قبر الشهيد، فأتاه جمع كثير من عسكر عمه حماد، ووصلت كتب حماد وإبراهيم إلى باديس أنهما ما فارقا الجماعة، ولا خرجا عن الطاعة، فكذبهما ما ظهر من أفعالهما من سفك الدماء، وقتل الأطفال، وإحراق الزروع والمساكن، وسبي النساء.

ووصل حماد إلى باجة فطلب أهلها منه الأمان، فأمنهم، واطمأنوا إلى عهده، فدخلها يقتل وينهب ويحرق ويأخذ الأموال.
وتقدم باديس إليه بعساكره، فلما كان في صفر سنة ست وأربعمائة، وصل حماد إلى مدينة أشير، وهي له، وفيها نائبه، واسمه خلف الحميري، فمنعه خلف من دخولها، وصار في طاعة باديس، فسقط في يد حماد، فإنها هي كانت معولة لحصانتها وقوتها.
ووصل باديس إلى مدينة المسيلة، ولقيه أهلها، وفرحوا به، وسير جيشاً إلى المدينة التي أحدثها حماد، فخربوها إلا أنهم لم يأخذوا مال أحمد، وهرب إلى باديس جماعة كثيرة من جند القلعة التي له، وفيها أخوه إبراهيم، فأخذ إبراهيم أبناءهم، وذبحهم على صدور أمهاتهم، فقيل إنه ذبح بيده منهم ستين طفلاً، فلما فرغ من الأطفال قتل الأمهات.
وتقارب باديس وحماد، والتقوا مستهل جمادى الأولى، واقتتلوا أشد قتال وأعظمه، ووطن أصحاب باديس أنفسهم على الصبر أو الموت لما كان حماد يفعله لمن يظفر به، واختلط الناس بعضهم ببعض، وكثر القتل، ثم انهزم حماد وعسكره لا يلوي على شيء، وغنم عسكر باديس أثقاله وأمواله، وفي جملة ما غنم منه عشرة آلاف درقة مختارة لمط، ولولا اشتغال العسكر بالنهب لأخذ حماد أسيراً.
وسار حتى وصل إلى قلعته تاسع جمادى الأولى، وجاء إلى مدينة دكمة، فتجنى على أهلها، فوضع السيف فيهم، فقتل ثلاثمائة رجل. فخرج إليه فقيه منها وقال له: يا حماد إذا لقيت الجيوش انهزمت، وإذا قاومتك الجموع فررت، وإنما قدرتك وسلطانك على أسير لا قدرة له عليك؛ فقتله وحمل جميع ما في المدينة من طعام وملح وذخيرة إلى القلعة التي له.
وسار باديس خلفه، وعزم على المقام بناحيته، وأمر بالبناء، وبذل الأموال لرجاله، فاشتد ذلك على حماد، وأنكر رجاله، وضعفت نفسه، وتفرق عنه أصحابه.
ثم مات ورو بن سعيد الزناتي المتغلب على ناحية طرابلس، واختلفت كلمة زناتة، فمالت فرقة مع أخيه خزرون، وفرقة مع ابن ورو، فاشتد ذلك أيضاً على حماد، وكان يطمع أن زناتة تغلب على بعض البلاد، فيضطر باديس إلى الحركة إليهم.
ذكر وفاة باديس وولاية ابنه المعزلما كان يوم الثلاثاء، سلخ ذي القعدة سنة ست وأربعمائة، أمر باديس بعرض العساكر، فرأى ما سره، وركب آخر النهار، ونزل معه جماعة من أصحابه، ففارقوه إلى خيامهم، فلما كان نصف الليل توفي.
وخرج الخادم في الوقت إلى حبيب بن أبي سعيد، وباديس بن أبي حمامة، وأيوب بن يطوفت، وهم أكبر قواده، فأعلمهم بوفاته.
وكان بين حبيب وباديس بن حمادة عداوة، فخرج حبيب مسرعاً إلى باديس وخرج باديس إليه أيضاً، فالتقيا في الطريق، فقال كل واحد منهما لصاحبه: قد عرفت الذي بيننا، والأولى أن نتفق على إصلاح هذا الخلل، فإذا انقضى رجعنا إلى المنافسة. فاجتمعا مع أيوب وقالوا: إن العدو قريب منا، وصاحبنا بعيد عنا، ومتى لم نقدم رأساً نرجع إليه في أمورنا لم نأمن العدو، ونحن نعلم ميل صنهاجة إلى المعز، وغيرهم إلى كرامت بن المنصور أخي باديس، فاجتمعوا على تولية كرامت ظاهراً، فإذا وصلوا إلى موضع الأمن، ولوا المعز بن باديس، وينقطع الشر.
فأحضروا كرامت وبايعوه، وولوه في الحال، وأصبحوا وليس عند أحد من العسكر خبر من ذلك، وعزموا أن يقولوا للناس بكرة إن باديس قد شرب دواء، فلما أصبحوا أغلق أهل مدينة المحمدية. أبوابها، وكأنما نودي فيهم بموت باديس، فشاع الخبر، وخاف الناس خوفاً عظيماً، واضطربوا لموته، وأظهروا ولاية كرامت، فلما رأى ذلك عبيد باديس ومن معهم أنكروه، فخلا حبيب بأكابرهم، وعرفهم الحال فسكنوا.
ومضى كرامت إلى مدينة أشير ليجمع صنهاجة، وتلكاتة، وغيرهم وأعطوهم من الخزائن مائة ألف دينار.
وأما المعز فإنه كان عمره ثماني سنين وستة أشهر وأياماً تقريباً، لأن مولده كان في جمادى الأولى سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ولما وصل إليه الخبر بموت أبيه أجلسه من عنده للعزاء، ثم ركب في الموكب، وبايعه الناس، فكان يركب كل يوم، ويطعم الناس كل يوم بين يديه.

وأما العساكر فإنهم رحلوا من مدينة المحمدية إلى المعز، وجعلوا باديس في تابوت بين يدي العسكر، والطبول، والبنود على رأسه، والعساكر تتبعه ميمنة وميسرة، وكان وصولهم إلى المنصورية رابع المحرم سنة سبع وأربعمائة، ووصلوا إلى المهدية، والمعز بها، ثمان المحرم، فركب المعز، ووقف حبيب يعلمه بهم، ويذكر له أسماءهم، ويعرفه بقوادهم وأكابرهم، فرحل المعز من المهدية، فوصل إلى المنصورية منتصف المحرم.
وهذا المعز أول من حمل الناس بإفريقية على مذهب مالك، وكان الأغلب عليهم مذهب أبي حنيفة.
وأما كرامت فإنه لما وصل إلى مدينة أشير اجتمع عليه قبائل صنهاجة وغيرهم، فأتاه حماد في ألف وخمسمائة فارس، فتقدم إليه كرامت بسبعة آلاف مقاتل، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فرجع بعض أصحاب كرامت إلى بيت المال فانتهبوه وهربوا، فتمت الهزيمة عليه وعلى أصحابه، ووصل إلى مدينة أشير فأشار عليه قاضيها وأعيان أهلها بالمقام، ومنع حماد عنها، ففعل، ونازلهم حماد، وطلب كرامت ليجتمع به، فخرج إليه، فأعطاه مالاً، وأذن له في المسير إلى المعز، وقتل حماد من أهل أشير كثيراً حيث أشاروا على كرامت بحفظ البلد ومنع حماد منه؛ ووصل كرامت إلى المعز في المحرم هذه السنة، فأكرمه وأحسن إليه.
وفي آخر ذي الحجة سير الحاكم الخلع من مصر إلى المعز، ولقبه شرف الدولة، ولم يذكر ما كان منه إلى الشيعة من القتل والإحراق، وسار المعز إلى حماد لثمان بقين من صفر سنة ثمان وأربعمائة بالعساكر لمنعه عن البلاد، فإنه كان يحاصر باغاية وغيرها، فلما قاربه رحل عن باغاية، والتقوا آخر ربيع الأول، فاقتتلوا، فما كان إلا ساعة حتى انهزم حماد وأصحابه، ووضع أصحاب المعز فيهم السيف، وغنموا ما لهم من عدد ومال وغير ذلك، فنادى المعز: من أتى برأس فله أربعة دنانير؛ فأتي بشيء كثير، وأسر إبراهيم أخو حماد، ونجا حماد وقد أصابته جراحة، وتفرق عنه أصحابه، ورجع المعز، وورد رسول من حماد إليه يعتذر، ويقر بالخطأ ويسأل العفو، فأجابه المعز: إن كنت على ما قلته فأرسل ولدك القائد إلينا.
واستعمل المعز على جميع العرب المجاورة لإبراهيم عمه كرامت، فعاد جواب حماد أنه إذا وصله كتاب أخيه إبراهيم بالعلامات التي بينهم، أنه قد أخذ له عهد المعز، بعث ولده القائد، أو حضر هو بنفسه. فحضر إبراهيم وأخذ العهود على المعز وأرسل إليه يعرفه ذلك ويشكر المعز على إحسانه إليه، ووصل المعز إلى قصره آخر جمادى الأولى، ولما وصل أطلق عمه إبراهيم، وخلع عليه، وأعطاه الأموال والدواب وجميع ما يحتاج إليه، فلما سمع حماد ذلك أرسل ولده القائد إلى المعز، وكان وصوله للنصف من شعبان، فأكرمه وأعطاه شيئاً كثيراً، وأقطعه المسيلة وطبنة وغيرهما، وعاد إلى أبيه في شهر رمضان، ورضي الصلح، وحلف عليه، واستقرت الأمور بينهما، وتصاهرا، وزوج المعز أخته بعبدالله بن حماد، فازدادوا اتفاقاً وأمناً.
وكان بإفريقية والغرب غلاء بسبب الجراد، واختلاف الملوك، ولما استقر الصلح والاتفاق سير المعز الجيوش إلى القبائل من البربر وغيرهم، فإن الحروب بينهم كانت، بسبب الاختلاف، كثيرة، والدماء مسفوكة، فلما رأوا عساكر السلطان رجعوا إلى السكون وترك الحرب، ومن أبى قوتل، فقتل المفسدون، وأصلح ما بين القبائل.
ووصل من جزيرة الأندلس زاوي بن زيري بن مناد، عم أبي المعز، وأهله وولده وحشمه، وكان قد أقام بالأندلس مدة طويلة، وقد ذكرنا سبب دخوله الأندلس، وملك بالأندلس غرناطة وقاسى حروباً كثيرة، ووصل معه من الأموال والعدد والجواهر شيء كثير لا يحد، فأكرمهم المعز، وحمل لهم شيئاً عظيماً، وإقامات زائدة وأقاموا عنده.
كان ينبغي أن يكتب وفاة باديس وما بعده سنة سبع وأربعمائة، وإنما أتبعنا بعض أخبارهم بعضاً.
ذكر غزوة محمود إلى الهندفي هذه السنة غزا محمود بن سبكتكين الهند على عادته، فضل أدلاؤه الطريق، ووقع هو وعسكره في مياه فاضت من البحر، فغرق كثير ممن معه، وخاض الماء بنفسه أياماً حتى تخلص وعاد إلى خراسان.
ذكر قتل فخر الملك ووزارة ابن سهلان

وفيها قبض سلطان الدولة على نائبه بالعراق ووزيره فخر الملك أبي غالب، وقتل سلخ ربيع الأول، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة وأحد عشر شهراً، وكان نظره بالعراق خمس سنين وأربعة شهور واثني عشر يوماً، وكان كافياً، حسن الولاية والآثار، ووجد له ألف ألف دينار عيناً سوى ما نهب، وسوى الأعراض، وكان قبضه بالأهواز، ولما مات نقل إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، فدفن هناك.
قيل: كان ابن علمكار، وهو من كبار قوادهم، قد قتل إنساناً ببغداد، فكانت زوجته تكتب إلى فخر الملك أبي غالب تتظلم منه ولا يلتفت إليها، فلقيته يوماً وقالت له: تلك الرقاع التي كنت أكتبها إليك صرت أكتبها إلى الله تعالى. فلم يمض على ذلك غير قليل حتى قبض هو وابن علمكار، فقال له فخر الملك: قد برز جواب رقاع تلك المرأة. ولما قبض فخر الملك استوزر سلطان الدولة أبا محمد الحسن بن سهلان، فلقب عميد أصحابه الجيوش، وكان مولده برامهرمز في شعبان سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
ذكر قتل طاهر بن هلال بن بدرفي هذه السنة أطلق شمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه طاهر بن هلال بن بدر، واستحلفه على الطاعة له، واجتمع معه طوائف فقوي بهم، وحارب أبا الشوك فهزمه، وقتل سعدي أخو أبي الشوك، ثم انهزم أبو الشوك منه مرةً ثانيةً، ومضى منهزماً إلى حلوان، وبذل له أبو الحسن بن مزيد الأسدي المعاونة، فلم يكن فيه معاودة الحرب.
وأقام طاهر بالنهروان، وصالح أبا الشوك، وتزوج أخته، فلما أمنه طاهر وثب عليه أبو الشوك فقتله بثأر أخيه سعدي، وحمله أصحابه فدفنوه بمشهد باب التبن.
ذكر عدة حوادثفيها توفي الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر أبو الحسن، صاحب الديوان المشهور، وشهد جنازته الناس كافة، ولم يشهدها أخوه لأنه لم يستطع أن ينظر إلى جنازته، فأقام بالمشهد إلى أن أعاده الوزير فخر الملك إلى داره، ورثاه كثير من الشعراء منهم أخوه المرتضى، فقال:
يا للرجال لفجعةٍ جذمت يدي، ... ووددتها ذهبت لعيّ براسي
ما زلت آبى وردها، حتّى أتت، ... فحسوتها في بعض ما أنا حاسي
ومطلتها زمناً، فلمّا صمّمت ... لم يثنها مطلي، وطول مكاسي
لا تنكروا من فيض دمعي عبرةً، ... فالدمع خير مساعدٍ ومؤاس
واهاً لعمرك من قصيرٍ طاهرٍ، ... ولربّ عمرٍ طال بالأرجاس
وفيها توفي أبو طالب أحمد بن بكر العبدي النحوي، مصنف شرح الإيضاح؛ وأبو أحمد عبد السلام بن أبي مسلم الفرضي؛ والإمام أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الأسفراييني إمام أصحاب الشافعي، وكان يحضر دراسته أربعمائة متفقه، وكان يدرس بمسجد عبدالله بن المبارك بقطيعة الفقهاء، وكان عمره إحدى وستين سنة وأشهراً.
وفيها توفي أبو جعفر أستاذ هرمز بن الحسن، والد عميد الجيوش، بشيراز، وكان عمره مائة وخمس سنين؛ وفيها توفي شهاب الدولة أبو درع رافع ابن محمد بن مقرن، وله شعر حسن،
وما زلت أبكي في الديار تأسّفاً ... لبين خليلٍ، أو فراق حبيب
فلما عرفت الرّبع لا شكّ أنّه ... هو الرّبع فاضت مقلتي بغروب
وجرّبت دهري ناسياً، فوجدته ... أخا غيرٍ لا تنقضي وخطوب
وعاشرت أبناء الزمان، فلم أجد ... من الناس خداناً حافظاً لمغيب
ولم يبق منهم حافظٌ لذمامه، ... ولا ناصرٌ يرعى جوار قريب
وفيها توفي الشار أبو نصر، الذي كان صاحب غرشستان من خراسان، في قبض يمين الدولة، وقد ذكرنا سبب ذلك.
وفيها، في صفر، قلد الشريف المرتضى أبو القاسم أخو الرضي نقابة العلويين، والحج، والمظالم، بعد موت أخيه الرضي.
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين أهل الكرخ وبين أهل باب الشعير، ونهبوا القلائين، فأنكر فخر الملك على أهل الكرخ، ومنعوا من النوح يوم عاشوراء، ومن تعليق المسوح.
وفيها وقع بالبصرة وما جاورها وباء شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد.
وفيها، في حزيران، جاء مطر شديد في بلاد العراق وكثير من البلاد.
ثم دخلت سنة سبع وأربعمائة

ذكر قتل خوارزمشاه
وملك يمين الدولة خوارزم وتسليمها إلى التونتاش

في هذه السنة قتل خوارزمشاه أبو العباس مأمون بن مأمون وملك يمين الدولة خوارزم.
وسبب ذلك أن أبا العباس كان قد ملك خوارزم والجرجانية، كما ذكرناه، وخطب إلى يمين الدولة، فزوجه أخته. ثم إن يمين الدولة أرسل إليه يطلب أن يخطب له على منابر بلاده، فأجابه إلى ذلك، وأحضر أمراء دولته واستشارهم في ذلك، فأظهروا الامتناع، ونهوه عنه، وتهددوه بالقتل إن فعله فعاد الرسول وحكى ليمين الدولة ما شاهده.
ثم إن الأمراء خافوه حيث ردوا أمره، فقتلوه غيلة، ولم يعلم قاتله، وأجلسوا مكانه أحد أولاده، وعملوا أن يمين الدولة يسوءه ذلك، وربما طالبهم بثأره، فتعاهدوا على مقاتلته ومقارعته.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فجمع العساكر وسار نحوهم، فلما قاربهم جمعهم صاحب جيشهم، ويعرف بالبتكين البخاري وأمرهم بالخروج إلى لقاء مقدمة يمين الدولة والإيقاع بمن فيها من الأجناد، فساروا معه وقاتلوا مقدمة يمين الدولة، واشتد القتال بينهم.
واتصل الخبر بيمين الدولة، فتقدم نحوهم في سائر جيوشه. فلحقهم وهم في الحرب، فثبت الخوارزمية إلى أن انتصف النهار، وأحسنوا القتال، ثم إنهم انهزموا، وركبهم أصحاب يمين الدولة يقتلون ويأسرون، ولم يسلم إلا القليل.
ثم إن البتكين ركب سفينة لينجو فيها، فجرى بينه وبين من معه منافرة، فقاموا عليه وأوثقوه، وردوا السفينة إلى ناحية يمين الدولة، وسلموه إليه، فأخذه وسائر القواد المأسورين معه، وصلبهم عند قبر أبي العباس خوارزمشاه، وأخذ الباقين من الأسرى فسيرهم إلى غزنة فوجاً بعد فوج، فلما اجتمعوا بها أفرج عنهم، وأجرى لهم الأرزاق، وسيرهم إلى أطراف بلاده من أرض الهند يحمونها من الأعداء، ويحفظونها من أهل الفساد، وأخذ خوارزم واستناب بها حاجبه التونتاش.
ذكر غزوة قشمير وقنوج وغيرهمافي هذه السنة غزا يمين الدولة بلاد الهند، بعد فراغه من خوارزم، فسار منها إلى غزنة ومنها إلى الهند عازماً على غزو قشمير، إذ كان قد استولى على بلاد الهند ما بينه وبين قشمير؛ وأتاه من المتطوعة نحو عشرين ألف مقاتل من ما وراء النهر، وغيره من البلاد، وسار إليها من غزنة ثلاثة أشهر سيراً دائماً، وعبر نهر سيحون، وجيلوم، وهما نهران عميقان شديدا الجرية، فوطئ أرض الهند، وأتاه رسل ملوكها بالطاعة وبذل الإتاوة.
فلما بلغ درب قشمير أتاه صاحبها وأسلم على يده، وسار بين يديه إلى مقصده، فبلغ ماء جون في العشرين من رجب، وفتح ما حولها من الولايات الفسيحة والحصون المنيعة، حتى بلغ حصن هودت، وهو آخر ملوك الهند، فنظر هودب من أعلى حصنه، فرأى من العساكر ما هاله ورعبه، وعلم أنه لا ينجيه إلا الإسلام، فخرج في نحو عشرة آلاف ينادون بكلمة الإخلاص، طلباً للخلاص، فقبله يمين الدولة، وسار عنه إلى قلعة كلجند، وهو من أعيان الهند وشياطينهم، وكان على طريقه غياض ملتفة لا يقدر السالك على قطعها إلا بمشقة، فسير كلجند عساكره وفيوله إلى أطراف تلك الغياض يمنعون من سلوكها، فترك يمين الدولة عليهم من يقاتلهم، وسلك طريقاً مختصرةً إلى الحصن، فلم يشعروا به إلا وهو معهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، فلم يطيقوا الصبر على حد السيوف، فانهزموا، وأخذهم السيف من خلفهم، ولقوا نهراً عميقاً بين أيديهم، فاقتحموه، فغرق أكثرهم وكان القتلى والغرقى قريباً من خمسين ألفاً، وعمد كلجند إلى زوجته فقتلها ثم قتل نفسه بعدها، وغنم المسلمون أمواله وملكوا حصونه.
ثم سار نحو بيت متعبد لهم، وهو مهرة الهند، وهو من أحصن الأبنية على نهر، ولهم به من الأصنام كثير، منها خمسة أصنام من الذهب الأحمر المرصع بالجواهر، وكان فيها من الذهب ستمائة ألف وتسعون ألفاً وثلاثمائة مثقال، وكان بها من الأصنام المصوغة من النقرة نحو مائتي صنم، فأخذ يمين الدولة ذلك جميعه، وأحرق الباقي، وسار نحو قنوج، وصاحبها راجيال، فوصل إليها في شعبان، فرأى صاحبها قد فارقها، وعبر الماء المسمى كنك، وهو ماء شريف عندهم يرون أنه من الجنة، وأن من غرق نفسه فيه طهر من الآثام، فأخذها يمين الدولة، وأخذ قلاعها وأعمالها، وهي سبع على الماء المذكور، وفيها قريب من عشرة آلاف بيت صنم، يذكرون أنها عملت من مائتي ألف سنة إلى ثلاثمائة ألف كذباً منهم وزوراً، ولما فتحها أباحها عسكره.

ثم سار إلى قلعة البراهمة، فقاتلوه وثبتوا، فلما عضهم السلاح علموا أنهم لا طاقة لهم، فاستسلموا للسيف فقتلوا، ولم ينج منهم إلا الشريد.
ثم سار نحو قلعة آسي، وصاحبها جند بال، فلما قاربها هرب جند بال، وأخذ يمين الدولة حصنه وما فيه، ثم سار إلى قلعة شروة، وصاحبها جندرآي، فلما قاربه نقل ماله وفيوله نحو جبال هناك منيعة يحتمي بها، وعمي خبره فلم يدر أين هو، فنازل يمين الدولة حصنه فافتتحه وغنم ما فيه، وسار في طلب جندرآي جريدة، وقد بلغه خبره، فلحق به في آخر شعبان، فقاتله، فقتل أكثر جند جندرآي، وأسر كثيراً منهم، وغنم ما معه من مالٍ وفيل، وهرب جندرآي في نفر من أصحابه فنجا.
وكان السبي في هذه الغزوة كثيراً حتى إن أحدهم كان يباع بأقل من عشرة دراهم، ثم عاد إلى غزنة ظافراً؛ ولما عاد من هذه الغزوة أمر ببناء جامع غزنة، فبني بناء لم يسمع بمثله، ووسع فيه، وكان جامعها القديم صغيراً، وأنفق ما غنمه في هذه الغزاة في بنائه.
ذكر حال ابن فولاذفي هذه السنة عظمت شوكة ابن فولاذ وكبر شأنه.
وكان ابتداء أمره أنه كان وضيعاً، فنجم في دولة بني بويه، وعلا صيته، وارتفع قدره، واجتمع إليه الرجال، فلما كانالآن طلب من مجد الدولة ووالدته أن يقطعاه قزوين لتكون له ولمن معه من الرجال، فلم يفعلا، واعتذرا إليه، فقصد أطراف ولاية الري، وأظهر العصيان، وجعل يفسد ويغير، ويقطع السبيل، وملك ما يليه من القرى، فعجزا عنه، فاستعانا بأصبهبذ المقيم بفريم، فأتاهما في رجال الجيل، وجرى بينهم وبين ابن فولاذ عدة حروب، وجرح ابن فولاذ، وولى منهزماً حتى بلغ الدامغان، فأقام حتى عاد أصحابه إليه ورجع أصبهبذ إلى بلاده.
وكتب ابن فولاذ إلى منوجهر بن قابوس يطلب أن ينفذ له عسكراً ليملك البلاد، ويقيم له الخطبة فيها، ويحمل إليه المال، فأنفذ له ألفي رجل، فسار بهم حتى نزل بظاهر الري، وأعاد الإغارة، ومنع الميرة عنها، فضاقت الأقوات بها، فاضطر مجد الدولة ووالدته إلى مداراته، وإعطائه ما يلتمسه، فاستقر بينهم أن يسلما إليه مدينة أصبهان، فسار إليها وأعاد عسكر منوجهر إليه، وزال الفساد، وعاد إلى طاعة مجد الدولة.
ذكر ابتداء الدولة العلوية بالأندلس

وقتل سليمان
وفي هذه السنة ولي الأندلس علي بن حمود بن أبى العيش بن ميمون بن أحمد بن عي بن عبدالله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبدالله بن الحسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وقيل في نسبه غير ذلك مع اتفاق على صحة نسبه إلى أمير المؤمنين علي، عيه السلام.
وكان سبب ذلك أن الفتى خيران العامري لم يكن راضياً بولاية سليمان بن الحاكم الأموي لأنه كان من أصحاب المؤيد على ما ذكرناه قبل، فلما ملك سليمان قرطبة انهزم خيران في جماعة كثيرة من الفتيان العامريين، فتبعهم البربر وواقعهم، فاشتد القتال بينهم، وجرح خيران عدة جراحات، وترك على أنه ميت، فلما فارقوه قام يمشي، فأخذه رجل من البربر إلى داره بقرطبة وعالجه فبرأ، وأعطاه مالاً، وخرج منها سراً إلى شرق الأندلس، فكثر جمعه، وقويت نفسه، وقاتل من هناك من البربر، وملك المرية، واجتمع إليه الأجناد، وأزال البربر عن البلاد المجاورة له، فغلظ أمره وعظم شأنه.
وكان علي بن حمود بمدينة سبتة، بينه وبين الأندلس عدوة المجاز مالكاً لها، وكان أخوه القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء مستولياً عليها، وبينهما المجاز، وسبب ملكهما أنهما كانا من جملة أصحاب سليمان بن الحاكم، فقودهما على المغاربة، ثم ولاهما هذه البلاد، وكان خيران يميل إلى دولة المؤيد، ويرغب فيها، ويخطب له على منابر بلاده التي استولى عليها لأنه كان يظن حياته حيث فقد من القصر، فحدث لعلي بن حمود طمع في ملك الأندلس لما رأى من الاختلاف، فكتب إلى خيران يذكر له أن المؤيد كان كتب له بولاية العهد والأخذ بثأره إن هو قتل، فدعا لعلي بن حمود بولاية العهد.

وكان خيران يكاتب الناس، ويأمرهم بالخروج على سليمان. فوافقه جماعة منهم عامر بن فتوح وزير المؤيد، وهو بمالقة، وكاتبوا علي بن حمود، وهو بسبتة، ليعبر إليهم ليقوموا معه ويسيروا إلى قرطبة، فعبر إلى مالقة في سنة خمس وأربعمائة، فخرج عنها عامر بن فتوح، وسلمها إليه، ودعا له بولاية العهد وسار خيران ومن أجابه إليه، فاجتمعوا بالمنكب، وهي ما بين المرية ومالقة، سنة ست وأربعمائة، وقرروا ما يفعلونه، وعادوا يتجهزون لقصد قرطبة، فتجهزوا وجمعوا من وافقهم، وساروا إلى قرطبة وبايعوا علياً على طاعة المؤيد الأموي.
فلما بلغوا غرناطة وافقهم أميرها، وسار معهم إلى قرطبة، فخرج سليمان والبربر إليهم، فالتقوا واقتتلوا على عشرة فراسخ من قرطبة، ونشب القتال بينهم، فانهزم سليمان والبربر، وقتل منهم خلق كثير، وأخذ سليمان أسيراً، فحمل إلى علي بن حمد ومعه أخوه وأبوه الحاكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ودخل علي بن حمود قرطبة في المحرم سنة سبع ودخل خيران وغيره إلى القصر طمعاً في أن يجدوا المؤيد حياً، فلم يجدوه، ورأوا شخصاً مدفوناً فنبشوه، وجمعوا له الناس، وأحضروا بعض فتيانه الذين رباهم وعرضوه عليه، ففتشه، وفتش أسنانه لأنه كان له سن سوداء كان يعرفها ذلك الفتى، فأجمع هو وغيره على أنه المؤيد خوفاً على أنفسهم من علي، فأخبروا خيران أنه المؤيد، وكان ذلك الفتى يعلم أن المؤيد حي، فأخذ علي بن حمود سليمان وقتله سابع المحرم سنة سبع، وقتل أباه وأخاه.
ولما حضر أبوه بين يدي علي بن حمود قال له: يا شيخ قتلتم المؤيد؛ فقال: والله ما قتلناه، وإنه لحي؛ فحينئذ أسرع في قتله، وكان شيخاً صالحاً منقبضاً لم يتدنس بشيء من أحوال ابنه. واستولى علي بن حمود على قرطبة، ودعا الناس إلى بيعته، فبويع، واجتمع له الملك، ولقب المتوكل على الله.
ثم إن خيران أظهر الخلاف عليه لأشياء منها أنه كان طامعاً أن يجد المؤيد فلم يجده، ومنها أنه نقل إليه أن علياً يريد قتله فخرج عن قرطبة وأظهر الخلاف عليه.
ذكر ظهور عبد الرحمن الأمويلما خالف خيران علياً أرسل يسأل عن بني أمية، فدل على عبد الرحمن ابن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان قد خرج من قرطبة مستخفياً، ونزل بجيان، وكان أصلح من بقي من بني أمية، فبايعه خيران وغيره، ولقبوه المرتضى، وراسل خيران منذر بن يحيى التجيبي أمير سرقسطة والثغر الأعلى، وراسل أهل شاطبة، وبلنسية، وطرطوشة، والبنت، فأجابوا كلهم إلى بيعته، والخلاف على علي بن حمود، فاتفق عليه أكثر الأندلس، واجتمعوا بموضع يعرف بالرياحين في الأضحى سنة ثمان وأربعمائة، ومعهم الفقهاء والشيوخ، وجعلوا الخلافة شورى، وأصفقوا على بيعته، وساروا معه إلى صنهاجة والنزول على غرناطة.
وأقبل المرتضى على أهل بلنسية، وشاطبة، وأظهر الجفاء لمنذر بن يحيى التجيبي، ولخيران، ولم يقبل عليهما، فندما على ما كان منهما، وسار حتى وصل إلى غرناطة، فوصل إليها، ونزل عليها، وقاتلوها أياماً قتالاً شديداً، فغلبهم أهل غرناطة، وأميرهم زاوي بن زيري الصنهاجي، وانهزم المرتضى وعسكره، واتبعتهم صنهاجة يقتلون ويأسرون، وقتل المرتضى في هذه الهزيمة وعمره أربعون سنة، وهو أصغر من أخيه هشام، وسار أخوه هشام إلى البنت، وأقام بها إلى أن خوطب بالخلافة، ولم يزل علي بن حمود بعد هذه الهزيمة يقصد بلاد خيران والعامريين مرة بعد أخرى.
ذكر قتل علي بن حمود العلويفلما كان في ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة تجهز علي بن حمود للمسير إلى جيان لقتال من بها من عسكر خيران، فلما كان الثامن والعشرون منه برزت العساكر إلى ظاهر قرطبة بالبنود والطبول ووقفوا ينتظرون خروجه، فدخل الحمام ومعه غلمانه، فقتلوه، فلما طال على الناس انتظاره بحثوا عن أمره، فدخلوا عليه، فرأوه مقتولاً، فعاد العسكر إلى البلد.
وكان لقبه المتوكل على الله، وقيل الناس لدين الله، وكان أسمر، أعين أكحل، خفيف الجسم، طويل القامة، حازماً، عازماً، عادلاً، حسن السيرة، وكان قد عزم على أن يعيد إلى أهل قرطبة أموالهم التي أخذها البربر، فلم تطل أيامه، وكان يحب المدح، ويجزر العطاء عليه.

ثم ولي بعده أخوه القاسم، وهو أكبر من علي بعدة أعوام، وكان عمر علي ثمانياً وأربعين سنة؛ بنوه يحيى، وإدريس، وأمه قرشية، وكنيته أبو الحسن، وكانت ولايته سنة وتسعة أشهر.
ذكر ولاية القاسم بن حمود العلوي بقرطبةقد ذكرنا قتل أخيه علي بن حمود سنة سبع وأربعمائة، فلما قتل بايع الناس أخاه القاسم، ولقب المأمون، فلما ولي، واستقر ملكه، كاتب العامريين واستمالهم، وأقطع زهيراً جيان، وقلعة رباح، وبياسة، وكاتب خيران واستعطفه، فلجأ إليه واجتمع به، ثم عاد عنه إلى المرية. وبقي القاسم مالكاً لقرطبة وغيرها إلى سنة اثنتي عشرة وأربعمائة.
وكان وادعاً، ليناً، يحب العافية، فأمن الناس معه، وكان يتشيع إلا أنه لم يظهر شيئاً من ذلك، فسار عن قرطبة إلى إشبيلية، فخالفه يحيى ابن أخيه فيها
ذكر دولة يحيى بن علي بن حمود

وما كان منه ومن عمه
لما سار القاسم بن حمود عن قرطبة إلى إشبيلية سار ابن أخيه يحيى بن علي من مالقة إلى قرطبة، فدخلها بغير مانع، فلما تكن بقرطبة دعا الناس إلى بيعته، فأجابوه، فكانت البيعة مستهل جمادى الأولى من سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، ولقب بالمعتلي، وبقي بقرطبة يدعى له بالخلافة، وعمه القاسم بإشبيلية يدعى له بالخلافة إلى ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وأربعمائة. فسار يحيى عن قرطبة إلى مالقة.
ووصل الخبر إلى عمه، فركب وجد في السير ليلاً ونهاراً إلى أن وصل إلى قرطبة فدخلها ثامن عشر ذي القعدة سنة ثلاثة عشرة، وكان، مدة مقامه بإشبيلية، قد استمال العساكر من البربر وقوي بهم، وبقي القاسم بقرطبة شهوراً، ثم اضطرب أمره بها، وسار ابن أخيه يحيى بن علي إلى الجزيرة الخضراء، وغلب عليها، وبها أهل عمه وماله، وغلب أخوه إدريس بن علي، صاحب سبتة، على طنجة، وهي كانت عدة القاسم التي يلجأ إليها إن رأى ما يخاف بالأندلس، فلما ملك ابنا أخيه بلاده طمع فيه الناس، وتسلط البربر على قرطبة فأخذوا أموالهم، فاجتمع أهلها وبرزوا إلى قتاله عاشر جمادى الأولى سنة أربع عشرة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ثم سكنت الحرب، وأمن بعضهم بعضاً إلى منتصف جمادى الأولى من السنة، والقاسم بالقصر يظهر التودد لأهل قرطبة، وأنه معهم، وباطنه مع البربر.
فلما كان يوم الجمعة منتصف جمادى الآخرة صلى الناس الجمعة، فلما فرغوا تنادوا: السلاح! السلاح! فاجتمعوا ولبسوا السلاح، وحفظوا البلدا ودخلوا قصر الإمارة، فخرج عنها القاسم، واجتمع معه البربر، وقاتلوا أهل البلد وضيقوا عليهم، وكانوا أكثر من أهله، فبقوا كذلك نيفاً وخمسين يوماً والقتال متصل، فخاف أهل قرطبة، وسألوا البربر في أن يفتحوا لهم الطريق ويؤمنوهم على أنفسهم وأهليهم، فأبوا إلا أن يقتلوهم، فصبروا حينئذ على القتال، وخرجوا من البلد ثاني عشر شعبان، وقاتلوهم قتال مستقتل، فنصرهم الله على البربر، (وَمَنْ بُغِيَ عَلَيْه لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ)، وانهزم البربر هزيمة عظيمة، ولحق كل طائفة منهم ببلد فاستولوا عليه.
وأما القاسم بن حمود فإنه سار إلى إشبيلية، وكتب إلى أهلها في إخلاء ألف دار ليسكنها البربر، فعظم ذلك عليهم، وكان بها ابنا محمد والحسن، فثار بهما أهلها، فأخرجوهما عنهم ومن معهما، وضبطوا البلد، وقدموا على أنفسهم ثلاثة من شيوخهم وكبرائهم وهم: القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل ابن عباد اللخمي، ومحمد بن يريم الالهاني، ومحمد بن محمد بن الحسن الزبيدي، وكانوا يدبرون أمر البلد والناس.
ثم اجتمع ابن يريم والزبيدي، وسألوا ابن عباد أن ينفرد بتدبير أمورهم، فامتنع وألحوا عليه، فلما خاف على البلد بامتناعه أجابهم إلى ذلك، وانفرد بالتدبير وحفظ البلد.
فلما رأى القاسم ذلك سار في تلك البلاد، ثم إنه نزل بشريش، فزحف إليه يحيى ابن أخيه علي، ومعه جمع من البربر، فحصروه ثم أخذوه أسيراً، فحبسه يحيى، فبقي في حبسه إلى أن توفي يحيى، وملك أخوه إدريس، فلما ملك قتله، وقيل: بل مات حتف أنفه، وحمل إلى ابنه محمد، وهو بالجزيرة الخضراء، فدفنه.

وكانت مدة ولاية القاسم بقرطبة مذ تسمى بالخلافة إلى أن أسره ابن أخيه، ستة أعوام، وبقي محبوساً ست عشرة سنة إلى أن قتل سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وكان له ثمانون سنة، وله من الولد محمد والحسن، أمهما أميرة بنت الحسن بن القاسم المعروف بقتون بن إبراهيم بن محمد بن القاسم بن إدريس ابن إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وكان أسمر، أعين، أكحل، مصفر اللون، طويلاً، خفيف العارضين.
ذكر عود بني أمية إلى قرطبة

وولاية المستظهر
لما انهزم البربر والقاسم بن علي من أهل قرطبة، على ما ذكرناه، اتفق رأي أهل قرطبة على رد بني أمية، فاختاروا عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر الأموي، فبايعوه بالخلافة ثالث عشر رمضان من سنة أربع عشرة وأربعمائة، وعمره حينئذ اثنتان وعشرون سنة، وتلقب بالمستظهر بالله، فكانت ولايته شهراً واحداً وسبعة عشر يوماً وقتل.
وكان سبب قتله أنه أخذ جماعة من أعيان قرطبة فسجنهم ليميلهم إلى سليمان بن المرتضى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، وأخذ أموالهم، فسعوا عليه من اسجن، وألبوا الناس، فأجابهم صاحب الشرطة وغيره، واجتمعوا وقصدوا السجن فأخرجوا من فيه.
وكان ممن وافقهم على ذلك أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الرحمن الأموي في جماعة كثيرة، فظفروا بالمستظهر، فقتلوه في ذي القعدة، ولم يعقب، وكنيته أبو المطرف، وأمه أم ولد، وكان أبيض أشقر، أعين، شئن الكفين، رحب الصدر، وكان أديباً، خطيباً، بليغاً، رقيق الطبع، له شعر جيد. وكان وزيره أبا محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، وكان سليمان ابن المرتضى قد مات قبل قتله بعشرة أيام.
ذكر ولاية محمد بن عبد الرحمنلما قتل المستظهر بايع الناس بقرطبة محمد بن عبد الرحمن بن عبيدالله ابن الناصر، وكنيته أبو عبد الرحمن الأموي، في ذي القعدة سنة أربع عشرة وأربعمائة، وخطبوا له بالخلافة، ولقبوه المستكفي بالله، وكان همه لا يعدو فرجه وبطنه، وليس له هم ولا فكر في سواهما، وبقي بها ستة عشر شهراً وأياماً، وثار عليه أهل قرطبة في ربيع الأول سنة ست عشرة وأربعمائة، فخلعوه وخرج عن قرطبة ومعه جماعة من أصحابه، حتى صار إلى أعمال مدينة سالم، فضجر منه بعض أصحابه، فشوى له دجاجة، وعمل فيها شيئاً من البيش، فأكلها فمات في ربيع الآخر من هذه السنة.
وكان في غاية التخلف، وله أخبار يقبح ذكرها، وكان ربعةً، أشقر، أزرق، مدور الوجه، ضخم الجسم، وكان عمره نحو خمسين سنة. ولما توفي أعاد أهل قرطبة دعوة المعتلي بالله يحيى بن علي بن حمود العلوي بها.
ذكر عود يحيى العلوي إلى قرطبة وقتلهلما مات أبو عبد الرحمن الأموي، وصح عند أهل قرطبة خبر موته، سعى معهم بعض أهلها ليحيى بن علي بن حمود العلوي ليعيدوه إلى الخلافة، وكان بمالقة يخطب لنفسه بالخلافة، فكتبوا إليه وخاطبوه بالخلافة، وخطبوا له في رمضان سنة ست عشرة وأربعمائة، فأجابهم إلى ذلك، وأرسل إليهم عبد الرحمن بن عطاف اليفرني والياً عليهم، ولم يحضر هو باختياره، فبقي عبد الرحمن فيها إلى محرم سنة سبع عشرة، فسار إليه مجاهد وخيران العامريان، في ربيع الأول منها، في جيش كثير، فلما قاربوا قرطبة ثار أهلها بعبد الرحمن فأخرجوه، وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة، ونجا الباقون.
وأقام خيران ومجاهد بها نحو شهر، ثم اختلفا، فخاف كل واحد منهما صاحبه، فعاد خيران عن قرطبة لسبع بقين من ربيع الآخر من السنة إلى المرية، وبقي بها إلى سنة ثماني عشرة وتوفي، وقيل سنة تسع عشرة، وصارت المرية بعده لصاحبه زهير العامري، فخالف حبوس بن ماكسن الصنهاجي البربري وأخوه على طاعة يحيى بن علي العلوي، وبقي مجاهد مدةً ثم سار إلى دانية، وقطعت خطبة يحيى منها، وأعيدت خطبة الأمويين، على ما نذكره فيما بعد إن شاء الله، وبقي يتردد عليها بالعساكر، واتفق البربر على طاعته، وسلموا إليه ما بأيديهم من الحصون والمدن، فقوي وعظم شأنه وبقي كذلك مدة.

ثم سار إلى قرمونة فأقام بها محاصراً لإشبيلية طامعاً في أخذها، فأتاه الخبر يوماً أن خيلاً لأهل إشبيلية قد أخرجها القاضي أبو القاسم بن عباد إلى نواحي قرمونة، فركب إليهم ولقيهم وقد كمنوا له، فلم يكن بأسرع من أن قتل، وذلك في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وخلف من الولد الحسن وإدريس لأمي ولد، وكان أسمر، أعين، أكحل، طويل الظهر، قصير الساقين، وقوراً، هيناً، ليناً، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وأمه بربرية.
ذكر اخبار أولاد يحيى وأولاد أخيه

وغيرهم وقتل ابن عمار
نذكر ها هنا ما كان من أخبار أولاده، وأولاد أخيه، وغيرهم من العلويين، متتابعاً، لئلا ينقطع الكلام، وليأخذ بعضه ببعض.
لما قتل يحيى بن علي رجع أبو جعفر أحمد بن أبي موسى المعروف بابن بقية، ونجا الخادم الصقلبي، وهما مدبرا دولة العلويين، فأتيا مالقة، وهي دار مملكتهم، فخاطبا أخاه إدريس بن علي، وكان له سبتة وطنجة، وطلباه فأتى إلى مالقة، وبايعاه بالخلافة على أن يجعل حسن بن يحيى المقتول مكانه بسبتة، فأجابهما إلى ذلك، فبايعاه، وسار حسن بن يحيى ونجا إلى سبتة وطنجة، وتلقب إدريس بالمتأيد بالله، فبقي كذلك إلى سنة ثلاثين، أو إحدى وثلاثين وأربعمائة.
فسير القاضي أبو القاسم بن عباد ولده إسماعيل في عسكر ليتغلب على تلك البلاد، فأخذ قرمونة، وأخذ أيضاً اشبونة، واستجة، فأرسل صاحبها إلى إدريس، وإلى باديس بن حبوس، صاحب صنهاجة، فأتاه صاحب صنهاجة بنفسه، وأمده إدريس بعسكر يقوده ابن بقية مدبر دولته، فلم يجسروا على إسماعيل بن عباد، فعادوا عنه، فسار إسماعيل مجداً ليأخذ على صنهاجة الطريق، فأدركهم وقد فارقهم عسكر إدريس قبل ذلك بساعة، فأرسلت صنهاجة من ردهم فعادوا، وقاتلوا إسماعيل بن عباد، فلم يلبث أصحابه أن انهزموا وأسلموه، فقتل وحمل رأسه إلى إدريس.
وكان إدريس قد أيقن بالهلاك، وانتقل عن مالقة إلى جبل يحتمي به وهو مريض، فلما أتاه الرأس عاش بعده يومين، ومات وترك من الولد يحيى، ومحمداً، وحسناً، وكان يحيى بن علي المقتول قد حبس ابني عمه محمداً والحسن ابني القاسم بن حمود بالجزيرة، فلما مات إدريس أخرجهما الموكل بهما، ودعا الناس إليهما، فبايعهما السودان خاصة قبل الناس لميل أبيهما إليهم، فملك محمد الجزيرة، ولم يتسم بالخلافة.
وأما الحسن بن القاسم فإنه تنسك وترك الدنيا وحج. وكان ابن بقية قد أقام يحيى بن إدريس بعد موت والده بمالقة، فسار إليها نجا الصقلبي من سبتة هو والحسن بن يحيى، فهرب ابن بقية، ودخلها الحسن ونجا، فاستمالا ابن بقية حتى حضر، فقتله الحسن، وقتل ابن عمه يحيى بن إدريس، وبايعه الناس بالخلافة، ولقب بالمستنصر بالله، ورجع نجا إلى سبتة، وترك مع الحسن المستنصر نائباً له يعرف بالشطيفي، فبقي حسن كذلك نحواً من سنتين، ثم مات سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، فقيل إن زوجته ابنة عمه إدريس سمته أسفاً على أخيها يحيى، فلما مات المستنصر اعتقل الشطيفي إدريس بن يحيى، وسار نجا من ستبة إلى مالقة، وعزم على محو أمر العلويين، وأن يضبط البلاد لنفسه، وأظهر البربر على ذلك، فعظم عندهم، فقتلوه، وقتلوا الشطيفي وأخرجوا إدريس بن يحيى، وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالعالي، وكان كثير الصدقة يتصدق كل جماعة بخمس مائة دينار، ورد كيل مطرود عن وطنه، وأعاد عليهم أملاكهم.
وكان متأدباً، حسن اللقاء، له شعر جيد إلا أنه كان يصحب الأموال، ولا يحجب نساءه عنهم، وكل من طلب منهم حصناً من بلاده أعطاه، فأخذ منه صنهاجة عدة حصون، وطلبوا وزيره ومدبر أمره صاحب أبيه موسى بن عفان ليقتلوه، فسلمه إليهم فقتلوه. وكان قد اعتقل ابني عمه محمداً والحسن ابني إدريس بن علي في حصن ايرش، فلما رأى ثقته بايرش اضطراب آرائه خالف عليه وبايع ابن عمه محمد بن إدريس بن علي، وثار بإدريس ابن يحيى من عنده من السودان، وطلبوا محمداً فجاء إليهم فسلم إليه إدريس الأمر، وبايع له سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فاعتقله محمد، وتلقب بالمهدي، وولى أخاه الحسن عهده، ولقبه السامي.
وظهرت من المهدي شجاعة وجرأة، فهابه البربر وخافوه، فراسلوا الموكل بإدريس بن يحيى، فأجابهم إلى إخراجه، وأخرجه وبايع له، وخطب له بسبتة وطنجة بالخلافة، وبقي إلى أن توفي سنة ست وأربعين.

ثم إن المهدي رأى من أخيه السامي ما أنكره، فنفاه عنه، فسار إلى العدوة إلى جبال غمارة، وأهلها ينقادون للعلويين ويعظمونهم، فبايعوه. ثم إن البربر خاطبوا محمد بن القاسم بالجزيرة، واجتمعوا إليه وبايعوه بالخلافة، وتسمى بالمهدي أيضاً، فصار الأمر في غاية الأخلوقة والفضيحة، أربعة كلهم يسمى أمير المؤمنين في رقعة من الأرض مقدارها ثلاثون فرسخاً، فرجعت البرابر عنه، وعاد إلى الجزيرة، فمات بعد أيام، فولي الجزيرة ابنه القاسم، ولم يتسم بالخلافة، وبقي محمد بن إدريس بمالقة إلى أن مات سنة خمس وأربعين، وكان إدريس بن يحيى المعروف بالعالي عند بني يفرن بتاكرنا، فلما توفي محمد بن إدريس بن علي قصد إدريس بن يحيى مالقة فملكها، ثم انتقلت إلى صنهاجة.
ذكر ولاية هشام الأموي قرطبةلما قطعت دعوة يحيى بن علي العلوي عن قرطبة سنة سبع عشرة وأربعمائة، على ما ذكرناه قبل، أجمع أهلها على خلع العلويين لميلهم إلى البربر، وإعادة الخلافة بالأندلس إلى بني أمية، وكان رأسهم في ذلك أبا الحزم جهور بن محمد ابن جهور، فراسلوا أهل الثغور والمتغلبين هناك في هذا، فاتفقوا معهم، فبايعوا أبا بكر هشام بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وكان مقيماً بالبنت مذ قتل أخوه المرتضى، فبايعوه في ربيع الأول سنة ثماني عشرة، وتلقب بالمعتدبالله، وكان أسن من المرتضى، ونهض إلى الثغور فتردد فيها، وجرى له هناك فتن واضطراب شديد من الرؤساء إلى أن اتفق أمرهم على أن يسير إلى قرطبة دار الملك فسار إليها ودخلها ثامن ذي الحجة سنة عشرين وبقي بها حتى خلع ثاني ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين.
وكان سبب خلعه أن وزيره أبا عاصم سعيداً القزاز لم يكن له قديم رئاسة، وكان يخالف الوزراء المتقدمين، ويتسبب إلى أخذ أموال التجار وغيرهم، وكان يصل البربر، ويحسن إليهم ويقربهم، فنفر عنه أهل قرطبة، فوضعوا عليه من قتله، فلما قتلوه استوحشوا من هشام فخلعوه بسببه. فلما خلع هشام قام أمية بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر، وتسور القصور مع جماعة من الأحداث، ودعا إلى نفسه، فبايعه من سواد الناس كثير، فقال له بعض أهل قرطبة: نخشى عليك أن تقتل في هذه الفتنة، فإن السعادة قد ولت عنكم؛ فقال: بايعوني اليوم واقتلوني غداً. فأنفذ أهل قرطبة وأعيانهم إليه وإلى المعتد بالله يأمرونهما بالخروج عن قرطبة، فودع المعتد أهله وخرج إلى حصن محمد بن الشور بجبل قرطبة، فبقي معه إلى أن غدر أهل الحصن بمحمد ابن الشور فقتلوه وأخرجوا المعتد إلى حصن آخر حبسوه فيه، فاحتال في الخروج منه ليلاً وسار إلى سليمان بن هود الجذامي، فأكرمه وبقي عنده إلى أن مات في صفر سنة ثمان وعشرين، ودفن بناحية لاردة، وهو آخر ملوك بني أمية بالأندلس.
وأما أمية فإنه اختفى بقرطبة، فنادى أهل قرطبة بالأسواق والأرباض أن لا يبقى أحد من بني أمية بها، ولا يتركهم عنده أحد، فخرج أمية فيمن خرج، وانقطع خبره مدةً، ثم أراد العود إليها، فعاد طمعاً في أن يسكنها، فأرسل إليه شيوخ قرطبة من منعه عنها، وقيل قتل وغيب، وذلك في جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين، ثم انحل عقد الجماعة وانتشر وافترقت البلاد، على ما نذكره.
ذكر تفرق ممالك الأندلسثم إن الأندلس اقتسمه أصحاب الأطراف والرؤساء، فتغلب كل إنسان على شيء منه، فصاروا مثل ملوك الطوائف، وكان ذلك أضر شيء على المسلمين فطمع بسببه العدو الكافر، خذله الله، فيهم، ولم يكن لهم اجتمع إلى أن ملكه أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، على ما نذكره إن شاء الله.

فأما قرطبة فاستولى عليها أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور، المقدم ذكره، وكان من وزراء الدولة العامرية، قديم الرئاسة، موصوفاً بالدهاء والعقل، ولم يدخل في شيء من الفتن قبل هذا بل كان يتصاون عنها. فلما خلا له الجو، وأمكنته الفرصة، وثب عليها فتولى أمرها وقام بحمايتها، ولم يتنقل إلى رتبة الإمارة ظاهراً، بل دبرها تدبيراً لم يسبق إليه، وأظهر أنه حامٍ للبلد إلى أن يجيء من يستحقه، ويتفق عليه الناس، فيسلمه إليه. ورتب البوابين والحشم على أبواب قصور الإمارة، ولم يتحول هو عن داره إليها، وجعل ما يرتفع من الأموال السلطانية بأيدي رجالٍ رتبهم لذلك، وهو المشرف عليهم، وصير أهل الأسواق جنداً، وجعل أرزاقهم ربح أموال تكون بأيديهم ديناً عليهم، فيكون الربح لهم، ورأس المال باقياً عليهم، وكان يتعهدهم في الأوقات المتفرقة لينظر كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، فكان أحدهم لا يفارقه سلاحه حتى يعجل حضوره إن احتاج إليه.
وكان جهور يشهد الجنائز، ويعود المرضى، ويحضر الأفراح على طريقة الصالحين، وهو مع ذلك يدبر الأمر تدبير الملوك، وكان مأمون الجانب، وأمن الناس في أيامه، وبقي كذلك إلى أن مات في صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وقام بأمرها بعده ابنه أبو الوليد محمد بن جهور على هذا التدبير إلى أن مات، فغلب عليها الأمير الملقب بالمأمون، صاحب طليطلة، فدبرها إلى أن مات بها.
وأما إشبيلية فاستولى عليها القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد اللخمي، وهو من ولد النعمان بن المنذر، وقد ذكرنا سبب ذلك في دولة يحيى بن علي بن حمود قبل هذا. وفي هذا الوقت ظهر أمر المؤيد هشام ابن الحاكم، وكان قد اختفى وانقطع خبره، وكان ظهوره بمالقة، ثم سار منها إلى المرية، فخافه صاحبها زهير العامري فأخرجه منها، فقصد قلعة رباح، فأطاعه أهلها، فسار إليهم صاحبه إسماعيل بن ذي النون وحاربهم، فضعفوا عن مقاومته، فأخرجوه، فاستدعاه القاضي أبو القاسم محمد بن إسماعيل بن عباد إليه بإشبيلية، وأذاع أمره، وقام بنصره، وكان رؤساء الأندلس في طاعته، فأجابه إلى ذلك صاحب بلنسية ونواحيها، وصاحب قرطبة، وصاحب دانية والجزائر، وصاحب طرطوشة، وأقروا بخلافته، وخطبوا له، وجددت بيعته بقرطبة في المحرم سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ثم إن ابن عباد سير جيشاً إلى زهير العامري لأنه لم يخطب للمؤيد، فاستنجد زهير حبوس بن ماكسن الصنهاجي صاحب غرناطة، فسار إليه بجيشه، فعادت عساكر ابن عباد، ولم يكن بين العسكرين قتال، وأقام زهير في بياسة، وعاد حبوس إلى مالقة، فمات في رمضان من هذه السنة، وولي بعده ابنه باديس، واجتمع هو وزهير ليتفقا كما كان زهير وحبوس، فلم تستقر بينهما قاعدة، واقتتلا، فقتل زهير وجمع كثير من أصحابه أواخر سنة تسع وعشرين.
ثم في سنة إحدى وثلاثين التقى عسكر ابن عباد وعليهم ابنه إسماعيل مع باديس بن حبوس، وعسكر إدريس العلوي، على ما ذكرناه عند أخبار العلويين فيما تقدم، إلا أنهم اقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل إسماعيل، ثم مات بعده أبوه القاضي أبو القاسم سنة ثلاث وثلاثين، وولي بعده ابنه أبو عمرو عباد بن محمد،ولقب بالمعتضد بالله، فضبط ما ولي، وأظهر موت المؤيد.
هذا قول ابن أبي الفياض في المؤيد، وقال غيره إن المؤيد لم يظهر خبره منذ عدو من قرطبة عند دخول علي بن حمود إليها، وقتله سليمان، وإنما كان هذا من تمويهات ابن عباد وحيله ومكره، وأعجب من اختفاء حال المؤيد، ثم تصديق الناس ابن عباد فيما أخبر به من حياته، أن إنساناً حضرياً ظهر بعد موت المؤيد بعشرين سنة وادعى أنه المؤيد، فبويع بالخلافة، وخطب له على منابر جميع بلاد الأندلس في أوقات متفرقة، وسفكت الدماء بسببه، واجتمعت العساكر في أمره.

ولما أظهر ابن عباد موت هشام المؤيد، واستقل بأمر إشبيلية وما انضاف إليها، بقي كذلك إن أن مات من ذبحة لحقته لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة إحدى وستين وأربعمائة، وولي بعده ابنه أبو القاسم محمد بن عباد ابن القاضي أبي القاسم، ولقب بالمعتمد على الله، فاتسع ملكه، وشمخ سلطانه، وملك كثيراً من الأندلس، وملك قرطبة أيضاً، وولى عليها ابنه الظافر بالله، فبلغ خبر ملكه لها إلى يحيى بن ذي النون، صاحب طليطلة، فحسده عليها، فضمن له جرير بن عكاشة أن يجعل ملكها له، وسار إلى قرطبة وأقام بها يسعى في ذلك وهو ينتهز الفرصة.
فاتفق أن في بعض الليالي جاء مطر عظيم ومعه ريح شديدة ورعد وبرق، فثار جرير فيمن معه، ووصل إلى قصر الإمارة، فلم يجد من يمانعه، فدخل صاحب الباب إلى الظافر وأعلمه، فخرج بمن معه من العبيد والحرس، وكان صغير السن، وحمل عليهم، ودفعهم عن الباب، ثم إنه عثر في بعض كراته فسقط، فوثب بعض من يقاتله وقتله، ولم يبلغ الخبر إلى الأجناد وأهل البلد إلا والقصر قد ملك، وتلاحق بجرير أصحابه وأشياعه، وترك الظافر ملقىً على الأرض عرياناً، فمر عليه بعض أهل قرطبة، فأبصره على تلك الحال، فنزع رداءه وألقاه عليه، وكان أبوه إذا ذكره يتمثل:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... على أنّه قد سلّ عن ماجدٍ محض
ولم يزل المعتمد يسعى في أخذها، حتى عاد ملكها، وترك ولده المأمون فيها، فأقام بها حتى أخذها جيش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وقتل فيها بعد حروب كثيرة يأتي ذكرها إن شاء الله تعالى سنة أربع وثمانين. وأخذت إشبيلية من أبيه المعتمد في السنة المذكورة، وبقي محبوساً في اغمات إلى أن مات بها، رحمه الله، وكان هو وأولاده جميعهم الرشيد، والمأمون، والراضي، والمعتمد، وأبوه، وجده علماء فضلاء شعراء.
وأما بطليوس فقام بها سابور الفتى العامري، وتلقب بالمنصور، ثم انتقلت بعده إلى أبي بكر محمد بن عبدالله بن سلمة، المعروف بابن الأفطس، أصلحه من بربر مكناسة، لكنه ولد أبوه بالأندلس، ونشأوا بها، وتخلقوا تخلق أهلها، وانتسبوا إلى تجيب، وشاكلهم الملك، فلما توفي صارت بعده إلى ابنه أبي محمد عمر بن محمد واتسع ملكه إلى أقصى المغرب، وقتل صبراً مع ولدين له عند تغلب أمير المسلمين على الأندلس.
وأما طليطلة فقام بأمرها ابن يعيش، فلم تطل مدته، وصارت رئاسته إلى إسماعيل بن عبد الرحمن بن عامر بن مطرف بن ذي النون، ولقبه الظافر بحول الله، وأصله من البربر وولد بالأندلس، وتأدب بآداب أهلها، وكان مولد إسماعيل سنة تسعين وثلاثمائة، وتوفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عالماً بالأدب، وله شعر جيد، وصنف كتاباً في الآداب والأخبار.
وولي بعده ابنه يحيى فاشتغل بالخلاعة والمجون، وأكثر مهاداة الفرنج ومصانعتهم ليتلذذ باللعب، وامتدت يده إلى أموال الرعية، ولم تزل الفرنج تأخذ حصونه شيئاً بعد شيء، حتى أخذت طليطلة في سنة سبع وسبعين وأربعمائة، وصار هو ببلنسية، وأقام بها إلى أن قتله القاضي ابن جحاف الأحنف، وفيه يقول الرئيس أبو عبد الرحمن محمد بن طاهر:
أيّها الأحنف مهلاً ... فلقد جئت عويصا
إذ قتلت الملك يحيى، ... وتقمّصت القميصا
ربّ يومٍ فيه تجري ... إن تجد فيه محيصا
وأما سرقسطة والثغر الأعلى فكان بيد منذر بن يحيى التجيبي، ثم توفي وولي بعده ابنه يحيى، ثم صارت بعده لسليمان بن أحمد بن محمد بن هود الجذامي وكان يلقب بالمستعين بالله، وكان من قواد منذر على مدينة لاردة، وله وقعة مشهورة بالفرنج بطليطلة سنة أربع وثلاثين وأربعمائة.
ثم توفي وولي بعده ابنه المقتدر بالله، وولي بعده ابنه يوسف بن أحمد المؤتمن، ثم ولي بعده ابنه أحمد المستعين بالله على لقب جده، ثم ولي بعده ابنه عبد الملك عماد الدولة، ثم ولي بعده ابنه المستنصر بالله، وعليه انقرضت دولتهم على رأس الخمس مائة، فصارت بلادهم جميعاً لابن تاشفين.
ورأيت بعض أولادهم بدمشق سنة تسعين وخمسمائة، وهو فقير جداً، وهو قيم الربوة، فسبحان من لا يزول، ولا تغيره الدهور.
وأما طرطوشة فوليها لبيب الفتى العامري.

وأما بلنسية فكان بها المنصور أبو الحسن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن محمد بن المنصور بن أبي عامر المعافري. ثم انضاف إليه المرية وما كان إليها، وبعده ابنه محمد، ودام فيها إلى أن غدر به صهره المأمون بن إسماعيل بن ذي النون، وأخذ منه رئاسة بلنسية في ذي الحجة سنة سبع وخمسين وأربعمائة، فانتزح إلى المرية، وأقام بها إلى أن خلع، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأما السهلة فملكها عبود بن رزين، وأصله بربري، ومولده بالأندلس، فلما هلك ولي بعده ابنه عبد الملك، وكان أديباً شاعراً، ثم ولي بعده ابنه عز الدولة، ومنه ملكها الملثمون.
وأما دانية والجزائر فكانت بيد الموفق أبي الحسن مجاهد العامري؛ وسار إليه من قرطبة الفقيه أبو محمد عبدالله المعيطي ومعه خلق كثير، فأقامه مجاهد شبه خليفة يصدر عنه رأيه، وبايعه في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعمائة، فأقام المعيطي بدانية مع مجاهد ومن انضم إليه نحو خمسة أشهر، ثم سار هو ومجاهد في البحر إلى الجزائر التي في البحر، وهي ميورقة بالياء، ومنورقة بالنون، ويابسة.
ثم بعث المعيطي بعد ذلك مجاهداً إلى سردانية في مائة وعشرين مركباً بين كبير وصغير ومعه ألف فارس، ففتحها في ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة، وقتل بها خلقاً كثيراً من النصارى، وسبى مثلهم، فسار إليه الفرنج والروم من البر في آخر هذه السنة، فأخرجوه منها، ورجع إلى الأندلس والمعيطي قد توفي، فغاص مجاهد في تلك الفتن إلى أن توفي، وولي بعده ابنه علي بن مجاهد، وكانا جميعاً من أهل العلم والمحبة لأهله والإحسان إليهم، وجلباهم من أقاصي البلاد وأدانيها، ثم مات ابنه عليٌ فولي بعده ابنه أبو عامر، ولم يكن مثل أبيه وجده. ثم إن دانية وسائر بلاد بني مجاهد صارت إلى المقتدر بالله أحمد بن سليمان بن هود في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
وأما مرسية فوليها بنو طاهر، واستقامت رئاستها لأبي عبد الرحمن منهم، المدعو بالرئيس، ودامت رئاسته إلى أن أخذها منه المعتمد بن عباد على يد وزيره أبي بكر بن عمار المهري، فلما ملكها عصى على المعتمد فيها، فوجه إليه عسكراً مقدمهم أبو محمد عبد الرحمن بن رشيق القشيري، فحصروه وضيقوا عليه حتى هرب منها، فلما دخلها القشيري عصى فيها أيضاً على المعتمد، إلى أن دخل في طاعة الملثمين، وبقي أبو عبد الرحمن بن طاهر بمدينة بلنسية إلى أن مات بها سنة سبع وخمسمائة، ودفن بمرسية، وقد نيف على تسعين سنة.
وأما المرية فملكها خيران العامري، وتوفي كما ذكرنا، ووليها بعده زهير العامري، واتسع ملكه إلى شاطبة، إلى ما يجاور عمل طليطلة، ودام إلى أن قتل، كما تقدم، وصارت مملكته إلى المنصور أبي الحسن عبد العزيز ابن عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر، فولي بعده ابنه محمد، فلما توفي عبد العزيز ببلنسية أقام ابنه محمد بالمرية، وهو يدبر بلنسية، فانتهز الفرصة فيها المأمون يحيى بن ذي النون وأخذها منه، وبقي بالمرية إلى أن أخذها منه صهره ذو الوزارتين أبو الأحوص المعتصم معن بن صمادح التجيبي، ودانت له لورقة، وبياسة، وجيان، وغيرها إلى أن توفي سنة ثلاث وأربعين، وولي بعده ابنه أبو يحيى محمد بن معن وهو ابن أربع عشرة سنة، فكفله عوه أبو عتبة بن محمد إلى أن توفي سنة ست وأربعين، فبقي أبو يحيى مستضعفاً لصغره، وأخذت بلاده البعيدة عنه، ولم يبق له غير المرية وما يجاورها.
فلما كبر أخذ نفسه بالعلوم، ومكارم الأخلاق، فامتد صيته، واشتهر ذكره، وعظم سلطانه، والتحق بأكابر الملوك، ودام بها إلى أن نازله جيش الملثمين، فمرض في أثناء ذلك، وكان القتال تحت قصره، فسمع يوماً صياحاً وجلبة، فقال: نغص علينا كل شيء حتى الموت ! وتوفي في مرضه ذلك لثمان بقين من ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة، ودخل أولاده وأهله البحر في مركب إلى بجاية، قاعدة مملكة بني حماد من إفريقية، وملك الملثمون المرية وما معها.
وأما مالقة فملكها بنو علي بن حمود، فلم تزل في مملكة العلويين يخطب لهم فيها إلى أن أخذها منهم إدريس بن حبوس صاحب غرناطة سنة سبع وأربعين، وانقضى أمر العلويين بالأندلس.

وأما غرناطة فملكها حبوس بن ماكسن الصنهاجي، ثم مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وولي بعده ابنه باديس، فلما توفي ولي بعده ابن أخيه عبد الله بن بلكين، وبقي إلى أن ملكها منه الملثمون في رجب سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وانقرضت دول جميعهم، وصارت الأندلس جميعها للملثمين، وملكهم أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، واتصلت مملكته من المغرب الأقصى إلى آخر بلاد المسلمين بالأندلس؛ نعود إلى سنة سبع وأربعمائة.
ذكر الحرب بين سلطان الدولة وأخيه أبي الفوارسقد ذكرنا أن الملك سلطان الدولة لما ملك بعد أبيه بهاء الدولة ولى أخاه أبا الفوارس بن بهاء الدولة كرمان، فلما وليها اجتمع إليه الديلم، وحسنوا له محاربة أخيه وأخذ البلاد منه، فتجهز وتوجه إلى شيراز، فلم يشعر سلطان الدولة حتى دخل أبو الفوارس إلى شيراز، فجمع عساكره وسار إليه فحاربه، فانهزم أبو الفوارس، وعاد إلى كرمان، فتبعه إليها، فخرج منها هارباً إلى خراسان، وقصد يمين الدولة محمود بن سبكتكين، وهو ببست فأكرمه وعظمه، وحمل إليه شيئاً كثيراً، وأجلسه فوق دارا بن قابوس بن وشمكير، فقال دارا: نحن أعظم محلاً منهم لأن أباه وأعمامه خدموا آبائي؛ فقال محمود: لكنهم أخذوا الملك بالسيف؛ أراد بهذا نصرة نفسه حيث أخذ خراسان من السامانية، ووعد محمود أن ينصره.
ثم إن أبا الفوارس باع جوهرتين كانتا على جبهة فرسه بعشرة آلاف دينار، فاشتراهما محمود وحملهما إليه، فقال له: من غلطكم تتركون هذا على جبهة الفرس، وقيمتهما ستون ألف دينار. ثم إن محموداً سير جيشاً مع أبي الفوارس إلى كرمان، مقدمهم أبو سعد الطائي، وهو من أعين قواده، فسار إلى كرمان فملكها، وقصد بلاد فارس وقد فارقها سلطان الدولة إلى بغداد، فدخل شيراز.
فلما سمع سلطان الدولة عاد إلى فارس، فالتقوا هناك واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس، وقتل كثير من أصحابه، وعاد بأسوإ حالٍ، وملك سلطان الدولة بلاد فارس، وهرب أبو الفوارس سنة ثمان وأربعمائة إلى كرمان، فسير سلطان الدولة الجيوش في أثره، فأخذوا كرمان منه، فلحق بشمس الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب همذان، ولم يمكنه العود إلى يمين لدولة، لأنه أساء السيرة مع أبي سعد الطائي.
ثم فارق شمس الدولة، ولحق بمهذب الدولة، صاحب البطيحة، فأكرمه وأنزله داره، وأنفذ إليه أخوه جلال الدولة من البصرة مالاً وثياباً، وعرض عليه الانحدار إليه فلم يفعله، وترددت الرسل بينه وبين سلطان الدولة، فأعاد إليه كرمان، وسيرت إليه الخلع والتقليد بذلك، وحملت إليه الأموال، فعاد إليها.
ذكر قتل الشيعة بإفريقيةفي هذه السنة، في المحرم، قتلت الشيعة بجميع بلاد إفريقية.
وكان سبب ذلك أن المعز بن باديس ركب ومشى في القيروان والناس يسلمون عليه ويدعون له، فاجتاز بجماعة، فسأل عنهم، فقيل: هؤلاء رافضة يسبون أبا بكر وعمر؛ فقال: رضي الله عن أبي بكر وعمر ! فانصرفت العامة من فورها إلى درب المقلى من القيروان، وهو حومة تجتمع به الشيعة، فقتلوا منهم، وكان ذلك شهوة العسكر وأتباعهم، طمعاً في النهب، وانبسطت أيدي العامة في الشيعة، وأغراهم عامل القيروان وحرضهم.
وسبب ذلك أنه كان قد أصلح أمور البلد، فبلغه أن المعز بن باديس يريد عزله، فأراد فساده، فقتل من الشيعة خلق كثير، وأحرقوا بالنار، ونهبت ديارهم، وقتلوا في جميع إفريقية، واجتمع جماعة منهم إلى قصر المنصور قريب القيروان، فتحصنوا به، فحصرهم العامة وضيقوا عليهم، فاشتد عليهم الجوع، فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم، ولجأ من كان منهم بالمهدية إلى الجامع فقتلوا كلهم.
وكانت الشيعة تسمى بالمغرب المشارقة نسبة إلى أبي عبدالله الشيعي، وكان من المشرق، وأكثر الشعراء ذكر هذه الحادثة، فمن فرحٍ مسرورٍ ومن باكٍ حزينٍ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، احترقت قبة مشهد الحسين والأروقة، وكان سببه أنهم أشعلوا شمعتين كبيرتين، فسقطتا في الليل على التازير فاحترق وتعدت النار؛ وفيه أيضاً احترق نهر طابق، ودار القطن، وكثير من باب البصرة، واحترق جامع سر من رأى.
وفيها تشعث الركن اليماني من البيت الحرام، وسقط حائط بين يدي حجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، ووقعت القبة الكبيرة على الصخرة بالبيت المقدس.

وفيها كانت فتنة كبيرة بين السنة والشيعة بواسط، فانتصر السنة وهرب وجوه الشيعة والعلويين إلى علي بن مزيد فاستنصروه.
وفيها، في رجب، مات محمد بن أحمد بن القاسم بن إسماعيل أبو الحسين الضبي القاضي المعروف بابن المحاملي، وكان من أعيان الفقهاء الشافعية وكبار المحدثين؛ مولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة؛ ومحمد بن الحسين بن محمد ابن الهيثم أبو عمر البسطامي، الواعظ، الفقيه، الشافعي، ولي قضاء نيسابور.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعمائة

ذكر خروج الترك من الصين
وموت طغان خان
في هذه السنة خرج الترك من الصين في عدد كثير يزيدون على ثلاثمائة ألف خركاة من أجناس الترك، منهم الخطابية الذين ملكوا ما وراء النهر، وسيرد خبر ملكهم إن شاء الله تعالى.
وكان سبب خروجهم أن طغان خان لما ملك تركستان مرض مرضاً شديداً، وطال به المرض، فطمعوا في البلاد لذلك فساروا إليها وملكوا بعضها وغنموا وسبوا وبقي بينهم وبين بلاساغون ثمانية أيام، فلما بلغه الخبر كان بها مريضاً، فسأل الله تعالى أن يعافيه لينتقم من الكفرة، ويحمي البلاد منهم، ثم يفعل به بعد ذلك ما أراد، فاستجاب الله له وشفاه، فجمع العساكر، وكتب إلى سائر بلاد الإسلام يستنفر الناس، فاجتمع إليه من المتطوعة مائة ألف وعشرون ألفاً، فلما بلغ الترك خبر عافيته وجمعه العساكر وكثرة من معه عادوا إلى بلادهم، فسار خلفهم نحو ثلاثة أشهر حتى أدركهم وهم آمنون لبعد المسافة، فكبسهم وقتل منهم زيادة على مائتي ألف رجل، وأسر نحو مائة ألف، وغنم من الدواب والخركاهات وغير ذلك من الأواني الذهبية والفضية ومعمول الصين ما لا عهد لأحدٍ بمثله، وعاد إلى بلاساغون، فلما بلغها عاوده مرضه فمات منه.
وكان عادلاً، خيراً، ديناً، يحب العلم وأهله، ويميل إلى أهل الدين، ويصلهم ويقربهم، وما أشبه قصته بقصة سعد بن معاذ الأنصاري، وقد تقدمت في غزوة الخندق، وقيل: كانت هذه الحادثة مع أحمد بن علي قراخان، أخي طغان خان، وإنها كانت سنة ثلاث وأربعمائة.
ذكر ملك أخيه أرسلان خانلما مات طغان خان ملك بعده أخوه أبو المظفر أرسلان خان، ولقبه شرف الدولة، فخالف عليه قدر خان يوسف بن بغراخان هارون بن سليمان الذي ملك بخارى، وقد تقدم ذكره، وكان ينوب عن طغان خان بسمرقند، فكاتب يمين الدولة يستنجده على أرسلان خان، فعقد على جيحون جسراً من السفن، وضبطه بالسلاسل، فعبر عليه، ولم يكن يعرف هناك قبل هذا، وأعانه على أرسلان خان.
ثم إن يمين الدولة خافه، فعاد إلى بلاده، فاصطلح قدر خان وأرسلان خان على قصد بلاد يمني الدولة واقتسامها، وسار إلى بلخ.
وبلغ الخبر إلى يمين الدولة، فقصدهما، واقتتلوا، وصبر الفريقان، ثم انهزم الترك وعبروا جيحون، فكان من غرق منهم أكثر ممن نجا.
وورد رسول متولي خوارزم إلى يمين الدولة يهنئه بالفتح عقيب الوقعة، فقال له: من أين علمتم ؟ فقال: من كثرة القلانس التي جاءت على الماء؛ وعبر يمين الدولة، فشكا أهل تلك البلاد إلى قدر خان ما يلقون من عسكر يمين الدولة، فقال: قد قرب الأمر بيننا وبين عدونا، فإن ظفرنا منعنا عنكم، وإن ظفر عدونا فقد استرحتم منا. ثم اجتمع هو وقدر خان، وأكلا طعاماً. وكان قدر خان عادلاً حسن السيرة، كثير الجهاد، فمن فتوحه ختن، وهي بلاد بين الصين وتركستان وهي كثيرة العلماء والفضلاء، وبقي كذلك إلى سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فتوفي فيها، وكان يديم لصلاة في الجماعة.
ولما توفي خلف ثلاثة بنين منهم: أبو شجاع أرسلان خان، وكان له كاشغر، وختن، وبلاساغون، وخطب له على منابرها، وكان لقبه شرف الدولة، ولم يشرب الخمر قط، وكان ديناً، مكرماً للعلماء وأهل الدين، فقصدوه من كل ناحية، فوصلهم وأحسن إليهم، وخلف أيضاً بغراخان ابن قدر خان، وكان له طراز واسبيجاب فقدم أخوه أرسلان وأخذ مملكته، فتحاربا، فانهزم أرسلان خان وأخذ أسيراً، فأودعوه الحبس، وملك بلاده.

ثم إن بغراخان عهد بالملك لولده الأكبر، واسمه حسين جغري تكين، وجعله ولي عهده، وكان لبغراخان امرأة له منها ولد صغير، فغاظها ذلك، فعمدت إليه وسمته فمات هو وعدة من أهله، وخنقت أخاه أرسلان خان ابن قدر خان، وكان ذلك سنة تسع وثلاثين وأربعمائة، وقتلت وجوه أصحابه، وملكت ابنه، واسمه إبراهيم، وسيرته في جيش إلى مدينة تعرف ببرسخان، وصاحبها يعرف بينالتكين، فظفر به ينالتكين وقتله، وانهزم عسكره إلى أمه، واختلف أولاد بغراخان، فقصدهم طفغاج خان صاحب سمرقند.
ذكر ملك طفغاج خان وولدهوكان طفغاج خان أبو المظفر إبراهيم بن نصر ايلك يلقب عماد الدولة، وكان بيده سمرقند وفرغانة، وكان أبوه زاهداً متعبداً، وهو الذي ملك سمرقند، فلما مات ورثه ابنه طفغاج، وملك بعده، وكان طفغاج متديناً لا يأخذ مالاً حتى يستفتي الفقهاء، فورد عليه أبو شجاع العلوي الواعظ، وكان زاهداً، فوعظه وقال له: إنك لا تصلح للملك. فأغلق طفغاج بابه، وعزم على ترك الملك، فاجتمع عليه أهل البلد وقالوا: قد أخطأ هذا، والقيام بأمورنا متعين عليه. فعند ذلك فتح بابه، ومات سنة ستين وأربعمائة.
وكان السلطان ألب أرسلان قد قصد بلاده ونبها أيام عمه طغرلبك، فلم يقابل الشر بمثله، وأرسل رسولاً إلى القائم بأمر الله سنة ثلاث وخمسين يهنئه، بعوده إلى مستقره، ويسأل التقدم إلى ألب أرسلان بالكف عن بلاده، فأجيب إلى ذلك، وأرسل إليه الخلع والألقاب، ثم فلج سنة ستين.
وكان في حياته قد جعل الملك في ولده شمس الملك، فقصده أخوه طغان خان ابن طفغاج، وحصره بسمرقند، فاجتمع أهلها إلى شمس الملك، وقالوا له: قد خرب أخوك ضياعنا وأفسدها، ولو كان غيره لساعدناك، ولكنه أخوك فلا ندخل بينكما؛ فوعدهم المناجزة، وخرج من البلد نصف الليل في خمسمائة غلام معدين، وكبس أخاه، وهو غير محتاطٍ، فظفر به، فهزمه، وكان هذا وأبوهما حي.
ثم قصده هارون بغراخان بن يوسف قدر خان، وطغرل قراخان، وكان طفغاج قد استولى على ممالكهما، وقاربا سمرقند، فلم يظفرا بشمس الملك، فصالحاه وعادا فصارت الأعمال المتاخمة لجيحون لمشس الملك، وأعمال الخاهر في أيديهما، والحد بينهما خجندة.
وكان السلطان ألب أرسلان قد تزوج ابنة قدر خان، وكانت قبله عند مسعود ابن محمود بن سبكتكين، وتزوج شمس الملك ابنة ألب أرسلان، وزوج بنت عمه عيسى خان من السلطان ملكشاه، وهي خاتون الجلالية أم الملك محمود الذي ولي السلطنة بعد أبيه، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ثم اختلف ألب أرسلان وشمس الملك، وسنذكره سنة خمس وستين عند قتل ألب أرسلان؛ ثم مات شمس الملك، فولي بعده أخوه خضر خان، ثم مات، فولي ابنه أحمد خان، وهو الذي قبض عليه ملكشاه، ثم أطلقه وأعاده إلى ولايته سنة خمس وثمانين، وسنذكره هناك إن شاء الله تعالى.
ثم إن جنده ثاروا به فقتلوه وملك بعده محمود خان، وكان جده من ملوكهم، وكان أصم، فقصده طغان خان بن قراخان، صاحب طراز، فقتله واستولى على الملك، واستناب بسمرقند أبا المعالي محمد بن زيد العلوي البغدادي، فولي ثلاث سنين، ثم عصى عليه، فحاصره طغان خان، وأخذه وقتله، وقتل خلقاً كثيراً معه.
ثم خرج طغان خان إلى ترمذ يريد خراسان، فلقيه السلطان سنجر وطفر به وقتله وصارت أعمال ما وراء النهر له، فاستناب بها محمد خان بن كمشتكين ابن إبراهيم بن طفغاج خان، فأخذها منه عمر خان، وملك سمرقند، ثم هرب من جنده وقصد خوارزم فظفر به السلطان سنجر فقتله وولي سمرقند محمد خان وولي بخارى محمد تكين بن طغانتكين.
ذكر كاشغر وتركستانوأما كاشغر، وهي مدينة تركستان، فإنها كانت لأرسلان خان بن يوسف قدر خان، كما ذكرنا، ثم صارت بعد لمحمود بغراخان، صاحب طراز والشاش، خمسة عشر شهراً، ثم مات فولي بعده طغرل خان بن يوسف قدر خان، فاستولى على الملك، وملك بلاساغون، وكان ملكه ست عشرة سنة ثم توفي.

وملك ابنه طغرلتكين، وأقام شهرين، ثم أتهى هارون بغراخان أخو يوسف طغرلخان بن طفغاج بغراخان، وعبر كاشغر، وقبض على هارون، وأطاعه عسكره، وملك كاشغر، وختن، وما يتصل بهما إلى بلاساغون، وأقام مالكاً تسعاً وعشرين سنة، وتوفي سنة ست وتسعين وأربعمائة، فولي ابنه أحمد ابن أرسلان خان، وأرسل رسولاً إلى الخليفة المستظهر بالله يطلب منه الخلع والألقاب، فأرسل إليه ما طلب، ولقبه نور الدولة.
ذكر وفاة مهذب الدولة

وحال البطيحة بعده
في هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي مهذب الدولة أبو الحسن علي ابن نصر، ومولده سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، وهو الذي نزل عليه القادر بالله.
وكان سبب موته أنه افتصد، فانتفخ ساعده، ومرض منه، واشتد مرضه. فلما كان قبل وفاته بثلاثة أيام تحدث الجند بإقامة ولده أبي الحسين أحمد مقامه، فبلغ ابن أخت مهذب الدولة، وهو أبو محمد عبدالله بن يني، فاستدعى الديلم والأتراك، ورغبهم ووعدهم، واستحلفهم لنفسه، وقرر معهم القبض على أبي الحسين بن مهذب الدولة وتسليمه إليه، فمضوا إليه ليلاً وقالوا له: أنت ولد الأمير، ووارث الأمر من بعده، فلو قمت معنا إلى دار الإمارة ليظهر أمرك وتجتمع الكلمة عليك لكان حسناً.
فخرج من داره معهم، فلما فارقها قبضوا عيه وحملوه إلى أبي محمد، فسمعت والدته، فدخلت إلى مهذب الدولة قبل موته بيوم فأعلمته الخبر، فقال: أي شيء أقدر أعمل وأنا على هذه الحال ؟ وتوفي من الغد، وولي الأمر أبو محمد، وتسلم الأموال والبلد، وأمر بضرب أبي الحسين بن مهذب الدولة، فضرب ضرباً شديداً توفي منه بعد ثلاثة أيام من موت أبيه.
وبقي أبو محمد أميراً إلى منتصف شعبان، وتوفي بالذبحة، وكان قد قال قبل موته: رأيت مهذب الدولة في المنام وقد مسك حلقي ليخنقني، ويقول: قتلت ابني أحمد، وقابلت نعمتي عليك بذاك. فمات بعد أيام، فكان ملكه أقل من ثلاثة أشهر.
فلما توفي اتفق الجماعة على تأمير أبي عبدالله الحسين بن بكر الشرابي، وكان من خواص مهذب الدولة فصار أمير البطيحة، وبذل للملك سلطان الدولة بذولاً، فأقره عليها، وبقي إلى سنة عشر وأربعمائة، فسير إليه سلطان الدولة صدقة بن فارس المازياري، فملك البطيحة، وأسر أبا عبدالله الشرابي، فبقي عنده أسيراً إلى أن توفي صدقة وخلص، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة علي بن مزيد
وإمارة ابنه دبيس
في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أبو الحسن علي بن مزيد الأسدي، وقام بعده ابنه نور الدولة أبو الأغر دبيس، وكان أبوه قد جعله ولي عهده في حياته، وخلع عليه سلطان الدولة، وأذن في ولايته، فلما توفي والده اختلفت العشيرة على دبيس، فطلب أخوه المقلد بن أبي الحسن علي الإمارة، وسار إلى بغداد، وبذل للأتراك بذولاً كثيرة ليعاضدوه، فسار معه منهم جمع كثير، وكبسوا دبيساً بالنعمانية ونهبوا حلته، فانهزم إلى نواحي واسط، وعاد الأتراك إلى بغداد، وقام الأثير الخادم بأمر دبيس، حتى ثبت قدمه، ومضى المقلد أخوه إلى بني عقيل، ونذكر باقي أخباره موضعها إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ضعف أمر الديلم ببغداد، وطمع فيهم العامة، فانحدروا إلى واسط، فخرج إليهم عامتها وأتراكها، فقاتلوهم، فدفع الديلم عن أنفسهم، وقتلوا من أتراك واسط وعامتها خالقاً كثيرة، وعظم أمر العيارين ببغداد، فأفسدوا ونهبوا الأموال.
وفيها توفي الحاجب أبو طاهر سباشي المشطب وكان كثير المعروف؛ وأبو الحسن الهماني، وكان متولي البصرة وغيرها، وهو الذي مدحه مهيار بقوله:
أستنجدُ الصَّبْرَ فيكم، وهو مغلوب
وفيها قدم سلطان الدولة بغداد، وضرب الطبل في أوقات الصلوات الخمس، ولم تجربه عادة إنما كان عضد الدولة يفعل ذلك في أوقات ثلاث صلوات.
وفيها هرب ابن سهلان من سلطان الدولة إلى هيت وأقام عند قرواش، وولى سلطان الدولة موضعه أبا القاسم جعفر بن أبي الفرج بن فسانجس، ومولده ببغداد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ من الشيعة وبين غيرهم من السنة اشتدت.
وفيها استناب القادر بالله المعتزلة والشيعة وغيرهما من أرباب المقالات المخالفة لما يعتقده من مذاهبهم، ونهى من المناظرة في شيء منها، ومن فعل ذلك نكل به وعوقب.
ثم دخلت سنة تسع وأربعمائة

ذكر ولاية ابن سهلان العراق
في هذه السنة عرض سلطان الدولة على الرخجي ولاية العراق، فقال: ولاية العراق تحتاج إلى من فيه عسف وخرق، وليس غير ابن سهلان، وأنا أخلفه ها هنا. فولاه سلطان الدولة العراق في المحرم، فسار من عند سلطان الدولة، فلما كان ببعض الطريق ترك ثقله، والكتاب، وأصحابه، وسار جريدة في خمسمائة فارس مع طراد بن دبيس الأسدي، يطلب مهارش ومضراً ابني دبيس، وكان مضر قد قبض قديماً عليه بأمر فخر الملك، فكان يبغضه لذلك، وأراد أن يأخذ جزيرة بني أسد فيه ويسلمها إلى طراد.
فلما علم مضر ومهارش قصده لهما سارا عن المذار، فتبعهما، والحر شديد، فكاد يهلك هو ومن معه عطشاً، فكان من لطف الله به أن بني أسد اشتغلوا بجمع أموالهم وإبعادها، وبقي الحسن بن دبيس فقاتل قتالاً شديداً، وقتل جماعة من الديلم والأتراك، ثم انهزموا ونهب ابن سهلان أموالهم، وصان حرمهم ونساءهم، فلما نزل في خيمته قال: الآن ولدتني أمي؛ وبذل الأمان لمهارش ومضر وأهلهما، وأشرك بينهم وبين طراد في الجزيرة ورحل.
وأنكر على سلطان الدولة فعله ذلك، ووصل إلى واسط والفتن بها قائمة، فأصلحها، وقتل جماعة من أهلها.
وورد عليه الخبر باشتداد الفتن ببغداد، فسار إليها، فدخلها أواخر شهر ربيع الآخر، فهرب منه العيارون، ونفي جماعة من العباسيين وغيرهم، ونفي أبا عبدالله بن النعمان فقيه الشيعة، وأنزل الديلم أطراف الكرخ وباب البصرة، ولم يكن قبل ذلك، ففعلوا من الفساد ما لم يشاهد مثله.
فمن ذلك أن رجلاً من المستورين أغلق بابه عليه خوفاً منهم، فلما كان أول يوم من شهر رمضان خرج لحاجته، فرآهم على حال عظيم من شرب الخمر والفساد، فأراد الرجوع إلى بيته، فأكرهوه على الدخول معهم إلى دارٍ نزلوها، وألزموه بشرب الخمر فامتنع، فصبوها في فيه قهراً، وقالوا له: قم إلى هذه المرأة فافعل بها، فامتنع فألزموه، فدخل معها إلى بيت في الدار، وأعطاها دراهم، وقال: هذا أول يوم في رمضان، والمعصية فيه تتضاعف، وأحب أن تخبريهم أنني قد فعلت. فقالت: لا كرامة ولا عزازة، أنت تصون دينك عن الزناء وأنا أريد أن أصون أمانتي في هذا الشهر عن الكذب ! فصارت هذه الحكاية سائرة في بغداد.
ثم إن أبا محمد بن سهلان أفسد الأتراك والعامة، فانحدر الأتراك إلى واسط، فلقوا بها سلطان الدولة، فشكوا إليه، فسكنهم ووعدهم الإصعاد إلى بغداد وإصلاح الحال.
واستحضر سلطان الدولة ابن سهلان، فخافه ومضى إلى بني خفاجة، ثم أصعد إلى الموصل فأقام بها مدة، ثم انحدر إلى الأنبار ومنها إلى البطيحة. فأرسل سلطان الدولة إلى البطيحة رسولاً يطلبه من الشرابي، فلم يسلمه، فسير إليها عسكراً، فانهزم الشرابي، وانحدر ابن سهلان إلى البصرة، فاتصل بالملك جلال الدولة، وكان الرخجي قد خرج مع ابن سهلان إلى الموصل، ففارقه بها، وأصلح حاله مع سلطان الدولة وعاد إليه.
ذكر غزوة يمين الدولة إلى الهندفي هذه السنة سار يمين الدولة إلى الهند غازياً، واحتشد وجمع، واستعد وأعد أكثر مما تقدم.
وسبب هذا الاهتمام أنه لما فتح قنوج، وهرب صاحبها منه، ويلقب رآي قنوج، ومعنى رآي هو لقب الملك كقيصر وكسرى، فلما عاد إلى غزنة أرسل بيدا اللعين، وهو أعظم ملوك الهند مملكةً، وأكثرهم جيشاً، وتسمى مملكته كجوراهة، رسلاً إلى رآي قنوج، واسمه راجيال، يوبخه على انهزامه، وإسلام بلاده للمسلمين، وطال الكلام بينهما، وآل أمرهما إلى الاختلاف.
وتأهب كل واحد منهما لصاحبه، وسار إليه، فالتقوا واقتتلوا، فقتل راجيال، وأتى القتل على أكثر جنوده، فازداد بيدا بما اتفق له شراً وعتواً، وبعد صيتٍ في الهند، وعلواً، وقصده بعض ملوك الهند الذي ملك يمين الدولة بلاده، وهزمه وأبا أجناده، وصار في جملته وخدمه والتجأ إليه، فوعده بإعادة ملكه إليه، وحفظ ضالته عليه، واعتذر بهجوم الشتاء وتتابع الأنداء. فنمت هذه الأخبار إلى يمين الدولة فأزعجته، وتجهز للغزو، وقصد بيدا، وأخذ ملكه منه، وسار عن غزنة، وابتدأ في طريقه بالأفغانية، وهم كفار يسكنون الجبال، ويفسدون في الأرض، ويقطعون الطريق بين غزنة وبينه، فقصد بلادهم، وسلك مضايقها، وفتح مغالقها، وخرب عامرها، وغنم أموالهم، وأكثر القتل فيهم والأسر، وغنم المسلمون من أموالهم الكثير.

ثم استقل على المسير، وبلغ إلى مكان لم يبلغه فيما تقدم من غزواته، وعبر نهر كنك، ولم يعبره قبلها، فلما جازه رأى قفلاً قد بلغت عدة أحمالهم ألف عدد، فغنمها، وهي من العود، والأمتعة الفائقة، وجد به السير، فأتاه في الطريق خبر ملك من ملوك الهند يقال له تروجنبال قد سار من بين يديه ملتجئاً إلى بيدا ليحتمي به عليه، فطوى المراحل، فلحق تروجنبال ومن معه، رابع عشر شعبان، وبينه وبين الهنود نهر عميق، فعبر إليهم بعض أصحابه وشغلهم بالقتال، ثم عبر هو وباقي العسكر إليهم، فاقتتلوا عامة نهارهم وانهزم تروجنبال ومن معه، وكثر فيه القتل والأسر، وأسلموا أموالهم وأهليهم، فغنمها المسلمون، وأخذوا منهم الكثير من الجواهر وأخذ ما يزيد على مائتي فيل، وسار المسلمون يتصون آثارهم، وانهزم ملكهم جريحاً، وتحير في أمره، وأرسل إلى يمين الدولة يطلب الأمان فلم يؤمنه، ولم يقنع منه إلا الإسلام، وقتل من عساكره ما لا يحصى.
وسار تروجنبال ليلحق ببيدا، فانفرد به بعض الهنود فقتله. فلما رأى ملوك الهند ذلك تابعوا رسلهم إلى يمين الدولة يبذلون له الطاعة والإتاوة. وسار يمين الدولة بعد الوقعة إلى مدينة باري، وهي من أحصن القلاع والبلاد وأقوها، فرآها من سكانها خالية، وعلى عروشها خاوية، فأمر بهدمها وتخريبها وعشر قلاع معها متناهية الحصانة، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، وسار يطلب بيدا الملك، فلحقه وقد نزل إلى جانب نهر، وأجرى الماء من بين يديه فصار وحلاً، وترك عن يمينه وشماله طريقاً يبساً يقاتل منه إذا أراد القتال، وكان عدة من معه ستة وخمسين ألف فارس، ومائة ألف وأربعة وثمانين ألف راجل، وسبع مائة وستة وأربعين فيلاً، فأرسل يمين الدولة طائفة من عسكره للقتال، فأخرج إليهم بيدا مثلهم، ولم يزل كل عسكر يمد أصحابه، حتى كثر الجمعان، واشتد الضرب والطعان، فأدركهم الليل وحجز بينهم.
فلما كان الغد بكر يمين الدولة إليهم، فرأى الديار منهم بلاقع، وركب كل فرقة منهم طريقاً مخالفاً لطريق الأخرى. ووجد خزائن الأموال والسلاح بحالها، فغنموا الجميع، واقتفى آثار المنهزمين، فلحقوهم في الغياض والآجام، وأكثروا فيهم القتل والأسر، ونجا بيدا فريداً وحيداً، وعاد يمين الدولة إلى غزنة منصوراً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض سلطان الدولة على وزيره ابن فسانجس وإخوته، وولى وزارته ذا السعادتين أبا غالب الحسن بن منصور، ومولده بسيراف سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
وفيها توفي الغالب بالله ولي عهد أبيه القادر بالله في شهر رمضان؛ وتوفي أيضاً أبو أحمد عبدالله بن محمد بن أبي علان، قاضي الأهواز، ومولده سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وله تصانيف حسنة، وكان معتزلياً.
وفي هذه السنة مات عبد الغني بن سعيد بن بشر بن مروان الحافظ المصري، صاحب المؤتلف والمختلف، ومولده سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
وتوفي رجاء بن عيسى بن محمد أبو العباس الأنصناوي، وأنصنا من قرى مصر، وهو من الفقهاء المالكية وسمع الحديث الكثير.
ثم دخلت سنة عشر وأربعمائةفي هذه السنة قبض الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة على وزيره أبي سعد عبد الواحد بن علي بن ماكولا، وكان ابن عمه أبو جعفر محمد بن مسعود كاتباً فاضلاً، وكان يعرض الديلم لعضد الدولة، ولأبي سعد شعر منه:
وإن لقائي للشّجاع لهيّن، ... ولكنّ حمل الضّيم منه شديد
إذا كان قلب القرن ينبو عن الوغى ... فإنّ جناني جلمدٌ وحديد
وفيها توفي وثاب بن سابق النميري، صاحب حران؛ وأبو الحسن بن أسد الكاتب؛ وأبو بكر محمد بن عبد السلام الهاشمي القاضب بالبصرة؛ وأبو الفضل عبد الواحد بن عبد العزيز التميمي، الفقيه الحنبلي البغدادي، عم أبي محمد.

قال أبو الفضل: سمعت أبا الحسن بن القصاب الصوفي قال: دخلت أنا وجماعة إلى البيمارستان ببغداد، فرأينا شاباً مجنوناً شديد الهوس، فولعنا به، فرد بفصاحةٍ، وقال: انظروا إلى شعور مطررة. وأجساد معطرة. . . وقد جعلوا اللهو صناعة. واللعب بضاعة. وجانبوا العلم رأساً. فقتل: أتعرف شيئاً من العلم فنسألك ؟ قال: نعم إن عندي علماً جماً، فاسألوني. فقال بعضنا: من الكريم في الحقيقة ؟ قال: من رزق أمثالكم، وأنتم لا تساوون ثومة. فأضحكنا. فقال آخر: من أقل الناس شكراً ؟ فقال: من عوفي من بلية ثم رآها في غيره فترك الاعتبار، فإن الشكر عليها واجب. فأبكانا بعد أن أضحكنا. فقلنا: ما الظرف ؟ قال: خلاف ما أنتم عليه. ثم قال: اللهم إن لم ترد عقلي، فرد يدي لأصفع كل واحد منهم صفعة ! فتركناه وانصرفنا.
وفيها مات الأصيفر المنتفقي الذي كان يؤذي الحاج في طريقهم؛ وأبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ الأصبهاني؛ وعبد الصمد بن بابك أبو القاسم الشاعر، قدم على الصاحب بن عباد فقال: أنت ابن بابك ؟ فقال: أنا ابن باك؛ فاستحسن قوله.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وأربعمائة

ذكر قتل الحاكم وولاية ابنه الظاهر
في هذه السنة، ليلة الاثنين لثلاث بقين من شوال، فقد الحاكم بأمر الله أبو علي المنصور بن العزيز بالله نزار بن المعز العلوي، صاحب مصر بها، ولم يعرف له خبر.
وكان سبب فقده أنه خرج يطوف ليلة على رسمه، وأصبح عند قبر الفقاعي، وتوجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب إلى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابي الآخر، وذكر أنه خلفه عند العين والمقصبة.
وبقي الناس على رسمهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه إلى سلخ شوال، فلما كان ثالث ذي القعدة خرج مظفر الصقلبي، صاحب المظلة، وغيره من خواص الحاكم، ومعهم القاضي، فبلغوا عسفان، ودخلوا في الجبل، فبصروا بالحمار الذي كان عليه راكباً، وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فاتبعوا الأثر، فانتهوا به إلى البركة التي شرقي حلوان، فرأوا ثيابه، وهي سبع قطع صوف، وهي مزررة بحالها لم تحل، وفيها أثر السكاكين، فعادوا ولم يشكوا في قتله.
وقيل: كان سبب قتله أن أهل مصر كانوا يكرهونه لما يظهر منه من سوء أفعاله، فكانوا يكتبون إليه الرقاع فيها سبة، وسب أسلافه، والدعاء عليه، حتى إنهم عملوا من قراطيس صورة امرأة وبيدها رقعة، فلما رآها ظن أنها امرأة تشتكي، فأمر بأخذ الرقعة منها، فقرأها، وفيها كل لعن وشتيمة قبيحة، وذكر حرمه بما يكره، فأمر بطلب المرأة، فقيل إنها من قراطيس، فأمر بإحراق مصر ونهبها، ففعلوا ذلكم، وقاتل أهلها أشد قتال، وانضاف إليهم في اليوم الثالث الأتراك والمشارقة، فقويت شوكتهم وأرسلوا إلى الحاكم يسألونه الصفح ويعتذرون، فلم يقبل، فصاروا إلى التهديد، فلما رأى قوتهم أمر بالكف عنهم، وقد أحرق بعض مصر ونهب بعضها، وتتبع المصريون من أخذ نساءهم وأبناءهم، فابتاعوا ذلك بعد أن فضحوهن فازداد غيظهم منه وحنقهم عليه.
ثم إنه أوحش أخته، وأرسل إليها مراسلات قبيحة يقول فيها: بلغني أن الرجال يدخلون إليك؛ وتهددها بالقتل، فأرسلت إلى قائد كبير من قواد الحاكم يقال له ابن دواس، وكان أيضاً يخاف الحاكم، تقول له: إنني أريد أن ألقاك؛ فحضرت عنده وقالت له: قد جئت إليك في أمر تحفظ فيه نفسك ونفسي، وأنت تعلم ما يعتقده أخي فيك، وأنه متى تمكن منك لا يبقي عليك، وأنا كذلك، وقد انضاف إلى هذا ما تظاهر به مما يكرهه المسلمون، ولا يصبرون عليه، وأخاف أن يثوروا به فيهلك هو ونحن معه، وتنقلع هذه، الدولة. فأجابها إلى ما تريد، فقالت: إنه يصعد إلى هذا الجبل غداً، وليس معه غلام إلا الركابي وصبي، وينفرد بنفسه، فتقيم رجلين تثق بهما يقتلانه، ويقتلان الصبي، وتقيم ولده بعده، وتكون أنت مدبر الدولة، وأزيد في إقطاعك مائة ألف دينار.
فأقام رجلين، وأعطتهما هي ألف دينار، ومضيا إلى الجبل، وركب الحاكم على عادته، وسار منفرداً إليه، فقتلاه، وكان عمره ستاً وثلاثين سنة وتسعة أشهر، وولايته خمساً وعشرين سنة وعشرين يوماً، وكان جواداً بالمال، سفاكاً للدماء، قتل عدداً كثيراً من أماثل دولته وغيرهم، فكانت سيرته عجيبة.

منها: أنه أمر في صدر خلافته بسبب الصحابة، رضي الله عنهم، وأن تكتب على حيطان الجوامع والأسواق، وكتب إلى سائر عماله بذلك، وكان ذلك سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
ثم أمر بعد ذلك بمدة بالكف عن السب، وتأديب من يسبهم، أو يذكرهم بسوء، ثم أمر في سنة تسع وتسعين بترك صلاة التراويح، فاجتمع الناس بالجامع العتيق، وصلى بهم إمام جميع رمضان، فأخذه وقتله، ولم يصل أحد التراويح إلى سنة ثمان وأربعمائة، فرجع عن ذلك، وأمر بإقامتها على العادة.
وبنى الجامع براشدة، وأخرج إلى الجوامع والمساجد من الآلأت، والمصاحف، والستور، والحصر ما لم ير الناس مثله، وحل أهل الذمة على الإسلام، أو السمير إلى مأمنهم أو لبس الغيار، فأسلم كثير منهم، ثم كان الرجل منهم، بعد ذلك، يلقاه فيقول له: إنني أريد العود إلى ديني؛ فيأذن له.
ومنع النساء من الخروج من بيوتهن، وقتل من خرج منهن، فشكت إليه من لا قيم لها يقوم بأمرها، فأمر الناس أن يحملوا كل ما يباع في الأسواق إلى الدروب ويبيعوه على النساء، وأمر من يبيع أن يكون معه شبه المغرفة بساعد طويل يمده إلى المرأة، وهي من وراء الباب، وفيه ما تشتريه، فإذا رضيت وضعت الثمن في المغرفة وأخذت ما فيها لئلا يراها، فنال الناس من ذلك شدة عظيمة.
ولما فقد الحاكم ولي الأمر بعده ابنه أبو الحسن علي، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله، وأخذت له البيعة، ورد النظر في الأمور جميعها إلى الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي.
؟؟؟؟

ذكر ملك مشرف الدولة العراق
في هذه السنة، في ذي الحجة، عظم أمر أبي علي مشرف الدولة بن بهاء الدولة، وخوطب بأمير الأمراء، ثم ملك العراق، وأزال عنه أخاه سلطان الدولة.
وكان سببه أن الجند شغبوا على سلطان الدولة، ومنعوه من الحركة، وأراد ترتيب أخيه مشرف الدولة في الملك، فأشير على سلطان الدولة بالقبض عليه، فلم يمكنه ذلك، وأراد سلطان الدولة الانحدار إلى واسط، فقال الجند: إما أن تجعل عندنا ولدك أو أخاك مشرف الدولة. فراسل أخاه بذلك، فامتنع، ثم أجاب بعد معاودةٍ، ثم إنهما اتفقا، واجتمعا ببغداد، واستقر بينهما أنهما لا يستخدمان ابن سهلان، وفارق سلطان الدولة بغداد، وقصد الأهواز واستخلف أخاه مشرف الدولة على العراق.
فلما انحدر سلطان الدولة ووصل إلى تستر استوزر ابن سهلان، فاستوحش مشرف الدولة، فأنفذ سلطان الدولة وزيره ابن سهلان ليخرج أخاه مشرف الدولة من العراق، فجمع مشرف الدولة عسكراً كثيراً منهم أتراك واسط، وأبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد، ولقي ابن سهلان عند واسط، فانهزم ابن سهلان وتحصن بواسط، وحاصره مشرف الدولة وضيق عليه، فغلت الأسعار حتى بلغ الكر من الطعام ألف دينار قاسانية، وأكل الناس الدواب حتى الكلاب، فلما رأى ابن سهلان إدبار أموره سلم البلد، واستحلف مشرف الدولة وخرج إليه، وخوطب حينئذ مشرف الدولة بشاهنشاه، وكان ذلك في آخر ذي الحجة، ومضت الديلم الذين كانوا بواسط في خدمته، وساروا معه، فحلف لهم وأقطعهم، واتفق هو وأخوه جلال الدولة أبو طاهر. فلما سمع سلطان الدولة ذلك سار عن الأهواز إلى أرجان، وقطعت خطبته من العراق، وخطب لأخيه ببغداد آخر المحرم سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وقبض على ابن سهلان وكحل.
ولما سمع سلطان الدولة بذلك ضعفت نفسه، وسار إلى الأهواز في أربعمائة فارس، فقلت عليهم الميرة، فنهبوا السواد في طريقهم، فاجتمع الأتراك الذين بالأهواز، وقاتلوا أصحاب سلطان الدولة، ونادوا بشعار مشرف الدولة، وساروا منها، فقطعوا الطريق على قافلة وأخذوها وانصرفوا.
ذكر ولاية الظاهر لإعزاز دين الله

لما قتل الحاكم، على ما ذكرناه، بقي الجند خمسة أيام، ثم اجتمعوا إلى أخته، واسمها ست الملك، وقالوا: قد تأخر مولانا، ولم تجر عادته بذلك. فقالت: قد جاءتني رقعته بأنه يأتي بعد غدٍ. فتفرقوا، وبعثت بالأموال إلى القواد على يد ابن دواس، فلما كان اليوم السابع ألبست أبا الحسن علياً ابن أخيها الحاكم أفخر الملابس، وكان الجند قد حضروا للميعاد، فلم يرعهم إلا وقد أخرج أبو الحسن، وهو صبيٌ، والوزير بين يديه، فصاح: يا عبيد الدولة، مولاتنا تقول لكم: هذا مولاكم أمير المؤمنين فسلموا عليه ! فقبل ابن دواس الأرض، والقواد الذين أرسلت إليهم الأموال، ودعوا له، فتبعهم الباقون ومشوا معه، ولم يزل راكباً إلى الظهر، فنزل، ودعا الناس من الغد فبايعوا له، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله، وكتبت الكتب إلى البلاد بمصر والشام بأخذ البيعة له.
وجمعت أخت الحاكم الناس، ووعدتهم، وأحسنت إليهم، ورتبت الأمور ترتيباً حسناً، وجعلت الأمر بيد ابن دواس، وقالت له: إننا نريد أن نرد جميع أحوال المملكة إليك، ونزيد في إقطاعك، ونشرفك بالخلع، فاختر يوماً يكون ذلك. فقبل الأرض ودعا، وظهر الخبر به بين الناس، ثم أحضرته، وأحضرت القواد معه، وأغلقت أبواب القصر، وأرسلت إليه خادماً وقالت له: قل للقواد إن هذا قتل سيدكم، واضربه بالسف؛ ففعل ذلك وقتله، فلم يختلف رجلان، وباشرت الأمور بنفسها، وقامت هيبتها عند الناس، واستقامت الأمور، وعاشت بعد الحاكم أربع سنين وماتت.
ذكر الفتنة بين الأتراك والأكراد بهمذانفي هذه السنة زاد شغب الأتراك بهمذان على صاحبهم شمس الدولة بن فخر الدولة، وكان قد تقدم ذلك منهم غير مرة، وهو يحلم عنهم بل يعجز، فقوي طمعهم، فزادوا في التوثب والشغب، وأرادوا إخراج القواد القوهية من عنده، فلم يجبهم إلى ذلك، فعزموا على الإيقاع بهم بغير أمره، فاعتزل الأكراد مع وزيره تاج الملك أبي نصر بن بهرام إلى قلعة برجين، فسار الأتراك إليهم فحصروهم، ولم يلتفتوا إلى شمس الدولة، فكتب الوزير إلى أبي جعفر بن كاكويه، صاحب أصبهان، يستنجده، وعين له ليلة يكون قدوم العساكر إليه فيها بغتةً، ليخرج هو أيضاً تلك الليلة ليكبسوا الأتراك. ففعل أبو جعفر ذلك، وسير ألفي فارس، وضبطوا الطرق لئلا يسبقهم الخبر، وكبسوا الأتراك سحراً على غفلة، ونزل الوزير والقوهية من القلعة، فوضعوا فيهم السيف، فأكثروا القتل، وأخذوا المال، ومن سلم من الأتراك نجا فقيراً.
وفعل شمس الدولة بمن عنده في همذان كذلك، وأخرجهم، فمضى ثلاثمائة منهم إلى كرمان، وخدموا أبا الفوارس بن بهاء الدولة صاحبها.
ذكر القبض على أبي القاسم المغربي وابن فهدفي هذه السنة قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلد على وزيره أبي القاسم المغربي، وعلى أبي القاسم سليمان بن فهد بالموصل، وكان ابن فهد يكتب في حداثته بين يدي الصابي، وخدم المقلد بن المسيب، وأصعد إلى الموصل، واقتنى بها ضياعاً، ونظر فيها لقرواش، فظلم أهلها وصادرهم، ثم سخط قرواش عليهما فحبسهما، وطولب سليمان بالمال، فادعى الفقر فقتل.
وأما المغربي فإنه خدع قرواشاً، ووعده بمال له في الكوفة وبغداد، فأمر بحمله وترك. وفي قرواش وابن فهد يقول الشاعر، وهو ابن الزمكدم:
وليلٍ كوجه البرقعيديّ ظلمةً، ... وبرد أغانيه، وطول قرونه
سريت، ونومي فيه نومٌ مشرّدٌ، ... كعقل سليمان بن فهدٍ ودينه
على أولقٍ فيه التفاتٌ كأنّه ... أبو جابرٍ في خطبه وجنونه
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّه ... سنا وجه قرواشٍ وضوء جبينه
وهذه الأبيات قد أجمع أهل البيان على أنها غاية في الجودة لم يقل خير منها في معناها.
ذكر الحرب بين قرواش

وغريب بن مقن
في هذه السنة، في ربيع الأول اجتمع غريب بن مقن، ونور الدولة دبيس ابن علي بن مزيد الأسدي، وأتاهم عسكر من بغداد فقاتلوا قرواشاً، ومعه رافع بن الحسين، عند كرخ سر من رأى، فانهزم قرواش ومن معه، وأسر في المعركة، ونهبت خزائنه وأثقاله، واستجار رافع بغريب، وفتحوا تكريت عنوةً، وعاد عسكر بغداد إليها بعد عشرة أيام.

ثم إن قرواشاً خلص، وقصد سلطان بن الحسين بن ثمال، أمير خفاجة، فسار إليهم جماعة من الأتراك، فعاد قرواش وانهزم ثانياً هو وسلطان، وكانت الوقعة بينهم غربي الفرات. ولما انهزم قرواش مد نواب السلطان أيديهم إلى أعماله، فأرسل يسأل الصفح عنه، ويبذل الطاعة.
ذكر عدة حوادثفيها أغارت زناتة بإفريقية على دواب المعز بن باديس، صاحب البلاد، ليأخذوها، فخرج إليهم عامل مدينة قابس فقاتلهم فهزمهم.
وفيها، في ربيع الآخر، نشأت سحابة بإفريقية أيضاً شديدة البرق والرعد، فأمطرت حجارة كثيرة ما رأى الناس أكبر منها، فهلك كل من أصابه شيء منها.
وفيها توفي أبو بكر محمد بن عمر العنبري الشاعر، وديوانه مشهور، ومن قوله:
ذنبي إلى الدهر أني لم أمدّ يدي ... في الراغبين، ولم أطلب ولم أسل
وأنّني كلّما نابت نوائبه ... ألفيتني بالرّزايا غير محتفل
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة

ذكر الخطبة لمشرف الدولة ببغداد
وقتل وزيره أبي غالب
في هذه السنة، في المحرم قطعت خطبة سلطان الدولة من العراق، وخطب لمشرف الدولة، فطلب الديلم من مشرف الدولة أن ينحدروا إلى بيوتهم بخوزستان، فأذن لهم، وأمر وزيره أبا غالب بالانحدار معهم، فقال له: إني إن فعلت خاطرت بنفسي، ولكن أبذلها في خدمتك.
ثم انحدر في العساكر، فلما وصل إلى الأهواز نادى الديلم بشعار سلطان الدولة، وهجموا على أبي غالب فقتلوه، فسار الأتراك الذين كانوا معه إلى طراد ابن دبيس الأسدي بالجزيرة التي لنبي دبيس، ولم يقدروا أن يدفعوا عنه، فكانت وزارته ثمانية عشر شهراً وثلاثة أيام، وعمره ستين سنة وخمسة أشهر، فأخذ ولده أبو العباس، وصودر على ثلاثين ألف دينار. فلما بلغ سلطان الدولة قتله اطمأن، وقويت نفسه، وكان قد خافه، وأنفذ ابنه أبا كاليجار إلى الأهواز فملكها.
ذكر وفاة صدقة صاحب البطيحةفي هذه السنة مرض صدقة صاحب البطيحة، فقصدها أبو الهيجاء محمد بن عمران بن شاهين، في صفر، وكان أبو الهيجاء بعد موت أبيه قد تمزق في البلاد تارةً بمصر، وتارةً عند بدر بن حسنويه، وتارةً بينهما، فلما ولي الوزير أبو غالب أنفق عليه لأدب كان فيه، فكاتبه بعض أهل البطيحة ليسلموا إليه، فسار إليهم، فسمع به صدقة قبل موته بيومين، فسير إليه جيشاً، فقاتلوه، فانهزم أبو الهيجاء وأخذ أسيراً، فأراد استبقاءه فمنعه سابور ابن المرزبان بن مروان، وقتله بيده.
ثم توفي صدقة، بعد قتله، في صفر، فاجتمع أهل البطيحة على ولاية سابور بن المرزبان، فوليهم، وكتب إلى مشرف الدولة يطلب أن يقرر عليه ما كان على صدقة من الحلم، ويستعمل على البطيحة، فأجابه إلى ذلك، وزاد في القرار عليه، واستقر في الأمر.
ثم إن أبا نصر شيرزاد بن الحسن بن مروان زاد في المقاطعة، فلم يدخل سابور في الزيادة، فولي أبو نصر البطيحة، وسار إليها، وفارقها سابور إلى الجزيرة بني دبيس، واستقر أبو نصر في الولاية، وأمنت به الطرق.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي علي بن هلال المعروف بابن البواب، الكاتب المشهور، وإليه انتهى الخط، ودفن بجوار أحمد بن حنبل، وكان يقص بجامع بغداد، ورثاه المرتضى، وقيل كان موته سنة ثلاث عشرة وأربعمائة.
وفيها حج الناس من العراق، وكان قد انقطع سنة عشر وسنة إحدى عشرة، فلما كان هذه السنة قصد جماعة من أعيان خراسان السلطان محمود بن سبكتكين وقالوا له: أنت أعظم ملوك الإسلام، وأثرك في الجهاد مشهور، والحج قد انقطع كما ترى، والتشاغل به واجبٌ، وقد كان بدر بن حسنويه، وفي أصحابك كثير أعظم منه، يسير الحاج بتدبيره، وما له عشرون، فاجعل لهذا الأمر حظاً من اهتمامك.

فتقدم إلى أبي محمد الناصحي قاضي قضاة بلاده بأن يسير بالحاج، وأعطاه ثلاثين ألف دينار يعطيها للعرب سوى النفقة في الصدقات، ونادى في خراسان بالتأهب للحج، فاجتمع خلق عظيم، وساروا، وحج بهم أبو لحسن الأقساسي، فلما بلغوا فيد حصرهم العرب، فبذل لهم الناصحي خمسة آلاف دينار، فلم يقنعوا، وصمموا العزم على أخذ الحاج، وكان مقدمهم رجل يقال له حمار بن عدي، بضم العين، من بني نبهان، فركب فرسه، وعليه درعه وسلاحه، وجال جولة يرهب بها، وكان من سمرقند شاب يوصف بجودة الرمي، فرماه بسهم فقتله، وتفرق أصحابه، وسلم الحاج فحجوا، وعادوا سالمين.
وفيها قلد أبو جعفر السمناني الحسبة، والمواريث، ببغداد، والموتى.
وتوفي هذه السنة أبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن عبدالله الماليني الصوفي بمصر، في شوال، وهو من المكثرين في الحديث؛ ومحمد بن أحمد بن محمد بن رزق البزاز، المعروف بابن زرقويه، شيخ الخطيب أبي بكر، ومولده سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان فقيهاً شافعياً؛ وأبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي الصوفي، النيسابوري، صاحب طبقات الصوفية؛ وأبو علي الحسن بن علي الدقاق النيسابوري الصوفي، شيخ أبي القاسم القشيري؛ وأبو الفتح بن أبي الفوارس.
المجلد السادس

بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وأربعمائة
ذكر الصلح بين سلطان الدولة ومشرف الدولة
في هذه السنة اصطلح سلطان الدولة وأخوه مشرف الدولة وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وكان الصلح بسعي من أبي محمد بن مكرم، ومؤيد الملك الرخجي، وزير مشرف الدولة، على أن يكون العراق جميعه لمشرف الدولة، وفارس وكرمان لسلطان الدولة.
ذكر مقتل المعز وزيره وصاحب جيشهفي هذه السنة قتل المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وزيره وصاحب جيشه أبا عبد الله محمد بن الحسن.
وسبب ذلك أنه أقام سبع سنين لم يحمل إلى المعز من الأموال شيئاً بل يجبيها ويرفعها عنده، وطمع طمعاً عظيماً، لا يصبر على مثله، بكثرة أتباعه، ولأن أخاه عبد الله بطرابلس الغرب مجاور لزناتة، وهم أعداء دولته، فصار المعز لا يكاتب ملكاً، ولا يراسله، إلا ويكتب أبو عبد الله معه عن نفسه، فعظم ذلك على المعز وقتله.
يحكى عن أبي عبد الله أنه قال: سهرت ليلة أفكر في شيء أحدثه في الناس وأخرجه عليهم من الخدم التي التزمتها، فنمت فرأيت عبد الله بن محمد الكاتب، وكان وزيراً لباديس، والد هذا المعز، وكان عظيم القدر والمحل، وهو يقول لي: اتق الله، أبا عبد الله، في الناس كافة، وفي نفسك خاصة، فقد أسهرت عينيك، وأبرمت حافظيك، وقد بدا لي منك ما خفي عليك، وعن قليل ترد على ما وردنا، وتقدم على ما قدمنا. فاكتب عني ما أقول، فإنني لا أقول إلا حقاً. فأملى علي هذه الأبيات:
وليت، وقد رأيت مصير قوم ... هم كانوا السماء وكنت أرضا
سموا درج العلى حتى اطمأنوا ... وهد بهم، فعاد الرفع خفضا
وأعظم أسوة لك بي لأني ... ملكت ولم أعش طولاً وعرضا
فلا تغتر بالدنيا وأقصر ... فإن أوان أمرك قد تقضى
قال: فانتبهت مرعوباً، ورسخت الأبيات في حفظي، فلم يبق بعد هذا المنام غير شهرين حتى قتل.
ولما وصل خبر قتله إلى أخيه عبد الله بطرابلس بعث إلى زناتة فعاهدهم، وأدخلهم مدينة طرابلس، فقتلوا من كان فيها من صنهاجة وسائر الجيش، وأخذوا المدينة.
فلما سمع المعز ذلك أخذ أولاد عبد الله ونفراً من أهلهم فحبسهم، ثم قتلهم بعد أيام، لأن نساء المقتولين بطرابلس استغثن إلى المعز في قتلهم فقتلهم.
ذكر عدة حوادثوفيها كان بإفريقية غلاء شديد، ومجاعة عظيمة لم يكن مثلها في تعذر الأقوات، إلا أنه لم يمت فيها أحد بسبب الجوع، ولم يجد الناس كبير مشقة.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر مشرف الدولة أبا الحسين بن الحسن الرخجي، ولقب مؤيد الملك، وامتدحه مهيار وغيره من الشعراء وبني مارستانا بواسط، وأكثر فيه من الأدوية والأشربة، ورتب له الخزان والأطباء، ووقف عليه الوقوف الكثيرة، وكان يعرض عليه الوزارة فيأباها، فلما قتل أبو غالب ألزمه بها مشرف الدولة فلم يقدر على الامتناع.

وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى السكري شاعر السنة، ومولده ببغداد في صفر سنة سبع وخمسين وثلاثمائة. وكان قد قرأ الكلام على القاضي أبي بكر بن الباقلاني، وإنما سمي شاعر السنة لأنه أكثر مدح الصحابة، ومناقضات شعراء الشيعة.
وفيها توفي أبو علي عمر بن محمد بن عمر العلوي، وأخذ السلطان ماله جميعه.
وفيها توفي أبو عبد الله بن المعلم، فقيه الإمامية، ورثاه المرتضى.
ثم دخلت سنة أربع عشرة وأربعمائة

ذكر استيلاء علاء الدولة على همذان
في هذه السنة استولى أبو جعفر بن كاكويه على همذان وملكها وكذلك غيرها مما يقاربها.
وسبب ذلك أن فرهاذ بن مرداويج الديلمي، مقطع بروجرد، قصده سماء الدولة أبو الحسن بن شمس الدولة بن بويه، صاحب همذان، وحصره فالتجأ فرهاذ إلى علاء الدولة، فحماه ومنع عنه، وسارا جميعاً إلى همذان فحصراها وقطعا الميرة عنها، فخرج إليهما من بها من العسكر، فاقتتلوا فرحل علاء الدولة إلى جرباذقان، فهلك من عسكره ثلاثمائة رجل من شدة البرد.
فسار إليه تاج الملك القوهي، مقدم عسكر همذان، فحصره بها، فصانع علاء الدولة الأكراد الذين مع تاج الملك، فرحلوا عنه، فخلص من الحصار، وشرع بالتجهز ليعاود حصار همذان، فأكثر من الجموع، وسار إليها، فلقيه سماء الدولة في عساكره ومعه تاج الملك، فاقتتلوا، فانهزم عسكر همذان، ومضى تاج الملك إلى قلعة فاحتمى بها، وتقدم علاء الدولة إلى سماء الدولة، فترجل له وخدمه، وأخذه وأنزله في خيمته، وحمل إليه المال وما يحتاج إليه، وسار وهو معه إلى القلعة التي بها تاج الملك، فحصره وقطع الماء عن القلعة، فطلب تاج الملك الأمان فأمنه، فنزل إليه، ودخل معه همذان.
ولما ملك علاء الدولة همذان سار إلى الدينور فملكها، ثم إلى سابور خواست فملكها أيضاً، وجمع تلك الأعمال، وقبض على أمراء الديلم الذين بهمذان، وسجنهم بقلعة عند أصبهان، وأخذ أموالهم وأقطاعهم، وأبعد كل من فيه شر من الديلم، وترك عنده من يعلم أنه لا شر فيه، وأكثر القتل، فقامت هيبته، وخافه الناس، وضبط المملكة. وقصد حسام الدولة أبا الشوك، فأرسل إليه مشرف الدولة يشفع فيه، فعاد عنه.
ذكر وزارة أبي القاسم المغربي لمشرف الدولةفي هذه السنة قبض مشرف الدولة على وزيره مؤيد الملك الرخجي في شهر رمضان، وكانت وزارته سنتين وثلاثة أيام.
وكان سبب عزله أن الأثير الخادم تغير عليه لأنه صادر ابن شعيا اليهودي على مائة ألف دينار، وكان متعلقاً على الأثير، فسعى وعزله، واستوزر بعده أبا القاسم الحسين بن علي بن الحسين المغربي ومولده بمصر سنة سبعين وثلاثمائة، وكان أبوه من أصحاب سيف الدولة بن حمدان، فسار إلى مصر، فتولى بها، فقتله الحاكم، فهرب ولده أبو القاسم إلى الشام، وقصد حسان بن المفرج بن الجراح الطائي، وحمله على مخالفة الحاكم والخروج عن طاعته، ففعل ذلك، وحسن له أن يبايع أبا الفتوح الحسن بن جعفر العلوي، أمير مكة، فأجابه إليه، واستقدمه إلى الرملة، وخوطب بأمير المؤمنين.
فأنفذ الحاكم إلى حسان مالاً جليلاً، وأفسد معه حال أبي الفتوح، فأعاده حسان إلى وادي القرى، وسار أبو الفتوح منه إلى مكة. ثم قصد أبو القاسم العراق، واتصل بفخر الملك، فاتهمه القادر بالله لأنه من مصر، فأبعده فخر الملك، فقصد قرواشاً بالموصل، فكتب له، ثم عاد عنه، وتنقلت به الحال إلى أن وزر بعد مؤيد الملك الرخجي.
وكان خبيثاً، محتالاً، حسوداً، إذا دخل عليه ذو فضيلة سأله عن غيرها ليظهر للناس جهله.
وفيها، في المحرم، قدم مشرف الدولة إلى بغداد، ولقيه القادر بالله في الطيار، وعليه السواد، ولم يلق قبله أحداً من ملوك بني بويه.
وفيها قتل أبو محمد بن سهلان، قتله نبكير بن عياض عند إيذج.
ذكر الفتنة بمكة

في هذه السنة كان يوم النفر الأول يوم الجمعة، فقام رجل من مصر، بإحدى يديه سيف مسلول، وفي الأخرى دبوس، بعدما فرغ الإمام من الصلاة، فقصد ذلك الرجل الحجر الأسود كأنه يستلمه، فضرب الحجر ثلاث ضربات بالدبوس، وقال: إلى متى يعبد الحجر الأسود ومحمد وعلي؟ فليمنعني مانع من هذا، فإني أريد أن أهدم البيت. فخاف أكثر الحاضرين وتراجعوا عنه، وكاد يفلت، فثار به رجل فضربه بخنجر فقتله، وقطعه الناس وأحرقوه، وقتل ممن اتهم بمصاحبته جماعة وأحرقوا، وثارت الفتنة، وكان الظاهر من القتلى أكثر من عشرين رجلاً غير من اختفى منهم.
وألح الناس، ذلك اليوم، على المغاربة والمصريين بالنهب والسلب، وعلى غيرهم في طريق منى إلى البلد. فلما كان الغد ماج الناس واضطربوا، وأخذوا أربعة من أصحاب ذلك الرجل، فقالوا: نحن مائة رجل، فضربت أعناق هؤلاء الأربعة، وتقشر بعض وجه الحجر من الضربات، فأخذ ذلك الفتات وعجن بلك وأعيد إلى موضعه.
ذكر فتح قلعة من الهندفي هذه السنة أوغل يمين الدولة محمود بن سبكتكين في بلاد الهند، فغنم وقتل، حتى وصل إلى قلعة على رأس جبل منيع، ليس له مصعد إلا من موضع واحد، وهي كبيرة تسع خلقاً، وبها خمسمائة فيل، وفي رأس الجبل من الغلات، والمياه، وجميع ما يحتاج الناس إليه، فحصرهم يمين الدولة، وأدام الحصار، وضيق عليهم، واستمر القتال، فقتل منهم كثير.
فلما رأوا ما حل بهم أذعنوا له، وطلبوا الأمان، فأمنهم وأقر ملكهم فيها على خراج يأخذه منه، وأهدى له هدايا كثيرة، منها طائر على هيئة القمري من خاصيته إذا أحضر الطعام وفيه سم دمعت عينا هذا الطائر وجرى منهما ماء وتحجر، فإذا حك وجعل على الجراحات الواسعة ألحمها.
ذكر عدة حوادثفيها توفي القاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي الرازي، صاحب التصانيف المشهورة في الكلام وغيره، وكان موته بمدينة الري، وقد جاوز تسعين سنة، وأبو عبد الله الكشفلي، الفقيه الشافعي، وأبو جعفر محمد بن أحمد الفقيه الحنفي النسفي، وكان زاهداً مصنفاً، وهلال بن محمد بن جعفر أبو الفتح الحفار، ومولده سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان عالماً بالحديث، عالي الإسناد.
ثم دخلت سنة خمس عشرة وأربعمائة

ذكر الخلف بين مشرف الدولة والأتراك
وعزل الوزير المغربي
في هذه السنة تأكدت الوحشة بين الأثير عنبر الخادم، ومعه الوزير ابن المغربي، وبين الأتراك، فاستأذن الأثير والوزير ابن المغربي الملك مشرف الدولة في الانتزاح إلى بلد يأمنان فيه على أنفسهما، فقال: أنا أسير معكما. فساروا جميعاً ومعهم جماعة من مقدمي الديلم إلى السندية، وبها قرواش، فأنزلهم، ثم ساروا كلهم إلى أوانا.
فلما علم الأتراك ذلك عظم عليهم، وانزعجوا منه، وأرسلوا المرتضى وأبا الحسن الزينبي وجماعة من قواد الأتراك يعتذرون، ويقولون: نحن العبيد، فكتب إليهم أبو القاسم المغربي: إنني تأملت ما لكم من الجامكيات، فإذا هي ستمائة ألف دينار، وعملت دخل بغداد، فإذا هو أربعمائة ألف دينار، فإن أسقطتم مائة ألف دينار تحملت بالباقي، فقالوا: نحن نسقطها، فاستشعر منهم أبو القاسم المغربي، فهرب إلى قرواش، فكانت وزارته عشرة أشهر وخمسة أيام، فلما أبعد خرج الأتراك فسألوا الملك والأثير الانحدار معهم، فأجابهم إلى ذلك وانحدروا جميعهم.
ذكر الفتنة بالكوفة ووزارة أبي القاسم المغربي لابن مروانفي هذه السنة وقعت فتنة بالكوفة بين العلويين والعباسيين.
وسببها أن المختار أبا علي بن عبيد الله العلوي وقعت بينه وبين الزكي أبي علي النهرسابسي، وبين أبي الحسن علي بن أبي طالب بن عمر مباينة، فاعتضد المختار بالعباسيين، فساروا إلى بغداد، وشكوا ما يفعل بهم النهرسابسي، فتقدم الخليفة القادر بالله بالإصلاح بينهم مراعاة لأبي القاسم الوزير المغربي لأن النهرسابسي كان صديقه، وابن أبي طالب كان صهره، فعادوا، واستعان كل فريق بخفاجة، فأعان كل فريق من الكوفيين طائفة من خفاجة، فجرى بينهم قتال، فظهر العلويون، وقتل من العباسيين ستة نفر، وأحرقت دورهم ونهبت، فعادوا إلى بغداد، ومنعوا من الخطبة يوم الجمعة، وثاروا، وقتلوا ابن أبي العباس العلوي وقالوا: إن أخاه كان في جملة الفتكة بالكوفة.

فبرز أمر الخليفة إلى المرتضى يأمره بصرف ابن أبي طالب عن نقابة الكوفة، وردها إلى المختار، فأنكر الوزير المغربي ما يجري على صهره ابن أبي طالب من العزل، وكان عند قرواش بسر من رأى، فاعترض أرحاء كانت للخليفة بدرزيجان، فأرسل الخليفة القاضي أبا جعفر السمناني في رسالة إلى قرواش يأمره بإبعاد المغربي عنه، ففعل، فسار المغربي إلى ابن مروان بديار بكر، وغضب الخليفة على النهرسابسي، وبقي تحت السخط إلى سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فشفع فيه الأتراك وغيرهم، فرضي عنه، وحلفه على الطاعة، فحلف.
ذكر وفاة سلطان الدولة وملك ولده أبي كاليجار وقتل ابن مكرمفي هذه السنة، في شوال، توفي الملك سلطان الدولة أبو شجاع بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة بشيراز، وكان عمره اثنتين وعشرين سنة وخمسة أشهر. وكان ابنه أبو كاليجار بالأهواز، فطلبه الأوحد أبو محمد بن مكرم ليملك بعد أبيه، وكان هواه معه، وكان الأتراك يريدون عمه أبة الفوارس ابن بهاء الدولة، صاحب كرمان، فكاتبوه يطلبونه إليهم أيضاً، فتأخر أبو كاليجار عنها، فسبقه عمه أبو الفوارس إليها فملكها.
وكان أبو المكارم بن أبي محمد بن مكرم قد أشار على أبيه، لما رأى الاختلاف، أن يسير إلى مكان يأمن فيه على نفسه، فلم يقبل قوله، فسار وتركه وقصد البصرة، فندم أبوه حيث لم يكن معه، فقال له العادل أبو منصور ابن مافنة: المصلحة أن تقصد سيراف، وتكون مالك أمرك، وابنك أبو القاسم بعمان، فتحتاج الملوك إليك. فركب سفينة لمضي إليها، فأصابه برد، فبطل عن الحركة، وأرسل العادل بن مافنة إلى كرمان لإحضار أبي الفوارس، فسار إليه العادل وأبلغه رسالة ابن مكرم باستدعائه، فسار مجداً ومعه العادل، فوصلوا إلى فارس، وخرج ابن مكرم يلتقي أبا الفوارس ومعه الناس، فطالبه الأجناد بحق البيعة، فأحالهم على ابن مكرم، فتضجر ابن مكرم، فقال له العادل: الرأي أن تبذل مالك وأموالنا حتى تمشي الأمور، فانتهره فسكت، وتلوم ابن مكرم بإيصال المال إلى الأجناد، فشكوه إلى أبي الفوارس، فقبض عليه وعلى العادل بن مافنة، ثم قتل ابن مكرم واستبقى ابن مافنة.
فلما سمع ابنه أبو القاسم بقتله صار مع الملك أبي كاليجار وأطاعه، وتجهز أبو كاليجار، وأقام بأمره أبو مزاحم صندل الخادم، وكان مربيه، وساروا بالعساكر إلى فارس، فسير عمه أبو الفوارس عسكراً مع وزيره أبي منصور الحسن بن علي الفسوي لقتاله، فوصل أبو كاليجار والوزير متهاون به لكثرة عسكره، فأتوه وهو نائم، وقد تفرق عسكره في البلد يبتاعون ما يحتاجون إليه، وكان جاهلاً بالحرب، فلما شاهدوا أعلام أبي كاليجار شرع الوزير يرتب العسكر، وقد داخلهم الرعب، فحمل عليهم أبو كاليجار وهم على اضطراب، فانهزموا، وغنم أبو كاليجار وعسكره أموالهم، ودوابهم، وكل مالهم، فلما انتهى خبر الهزيمة إلى عمه أبي الفوارس سار إلى كرمان، وملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز.
ذكر عود أبي الفوارس إلى فارس

وإخراجه عنها
ولما ملك أبو كاليجار بلاد فارس ودخل شيراز جرى على الديلم الشيرازية من عسكره ما أخرجهم عن طاعته، وتمنوا معه أنهم كانوا قتلوا مع عمه.
وكان جماعة من الديلم بمدينة فسا في طاعة أبي الفوارس، وهم يريدون أن يصلحوا حالهم مع أبي كاليجار ويصيروا معه، فأرسل إليهم الديلم الذين بشيراز يعرفونهم ما يلقون من الأذى، ويأمرونهم بالتمسك بطاعة أبي الفوارس، ففعلوا ذلك.
ثم إن عسكر أبي كاليجار طالبوه بالمال، وشغبوا عليه، فأظهر الديلم الشيرازية ما في نفوسهم من الحقد، فعجز عن المقام معهم، فسار عن شيراز إلى النوبنذجان، ولقي شدة في طريقه، ثم انتقل عنها لشدة حرها، ووخامة هوائها، ومرض أصحابه، فأتى شعب بوان فأقام به.
فلما سار عن شيراز أرسل الديلم الشيرازية إلى عمه أبي الفوارس يحثونه على المجيء إليهم، ويعرفونه بعد أبي كاليجار عنه، فسار إليهم، فسلموا إليه شيراز، وقصد إلى أبي كاليجار بشعب بوان ليحاربه ويخرجه عن البلاد، فاختار العسكران الصلح، فسفروا فيه، فاستقر لأبي الفوارس كرمان وفارس، ولأبي كاليجار خوزستان، وعاد أبو الفوارس إلى شيراز، وسار أبو كاليجار إلى أرجان.

ثم إن وزير أبي الفوارس خبط الناس، وأفسد قلوبهم، وصادرهم، وجاز به، مال لأبي كاليجار، والديلم الذين معه، فأخذه، فحينئذ حث العادل ابن مافنة صندلاً الخادم على العود إلى شيراز، وكان قد فارق بها نعمة عظيمة، وصار مع أبي كاليجار، وكان الديلم يطيعونه، فعادت الحال إلى أشد مما كانت عليه، فسار كل واحد من أبي كاليجار وعمه أبي الفوارس إلى صاحبه، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم أبو الفوارس إلى داربجرد وملك أبو كاليجار فارس، وعاد أبو الفوارس فجمع الأكراد فأكثر، فاجتمع معه منهم عشرة آلاف مقاتل، فالتقوا بين البيضاء وإصطخر فاقتتلوا أشد من القتال الأول، فعاود أبو الفوارس الهزيمة، فسار إلى كرمان، واستقر ملك أبي كاليجار بفارس سنة سبع عشرة وأربعمائة، وكان أهل شيراز يكرهونه.
ذكر خروج زناتة والظفر بهمفي هذه السنة خرج بإفريقية جمع كثير من زناتة، فقطعوا الطريق، وأفسدوا بقسطيلية ونفزاوة، وأغاروا وغنموا، واشتدت شوكتهم، وكثر جمعهم. فسير إليهم المعز بن باديس جيشاً جريدة، وأمرهم أن يجدوا السير ويسبقوا أخبارهم، ففعلوا ذلك، وكتموا خبرهم، وطووا المراحل حتى أدركوهم وهم آمنون من الطلب، فوضعوا فيهم السيف، فقتل منهم خلق كثير، وعلق خمسمائة رأس في أعناق الخيول وسيرت إلى المعز، وكان يوم دخولها يوماً مشهوداً.
ذكر عودة الحاج على الشام وما كان من الظاهر إليهمفي هذه السنة عاد الحجاج من مكة إلى العراق على الشام لصعوبة الطريق المعتاد، فلما وصلوا إلى مكة بذل لهم الظاهر العلوي، صاحب مصر، أموالاً جليلة وخلعاً نفيسة، وتكلف شيئاً كثيراً، وأعطى لكل رجل في الصحبة جملة من المال ليظهر لأهل خراسان ذلك.
وكان على تسيير الحجاج الشريف أبو الحسن الأقساسي، وعلى حجاج خراسان حسنك نائب يمين الدولة بن سبكتبكين، فعظم ما جرى على الخليفة القادر بالله، وعبر حسنك دجلة عند أوانا، وسار إلى خراسان، وتهدد القادر بالله ابن الأقساسي، فمرض فمات، ورثاه المرتضي وغيره وأرسل إلى يمين الدولة في المعنى، فسير يمين الدولة الخلع التي خلعت على صاحبه حسنك إلى بغداد فأحرقت.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تزوج السلطان مشرف الدولة بابنة علاء الدولة بن كاكويه، وكان الصداق خمسين ألف دينار، وتولى العقد المرتضى.
وفيها قلد القاضي أبو جعفر السمناني قضاء الرصافة وباب الطاق.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن محمد السمسمي الأديب، وابن الدقاق النحوي، وأبو الحسين بن بشران المحدث، وعمره سبع وثمانون سنة، والقاضي أبو محمد بن أبي حامد المروروذي قاضي البصرة بها، وأبو الفرج أحمد بن عمر المعروف بابن المسلمة، الشاهد، وهو جد رئيس الرؤساء، وأحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم أبو الحسن المحاملي، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي حامد، وصنف المصنفات المشهورة، وعبيد الله بن عمر بن علي بن محمد بن الأشرس أبو القاسم المقريء، الفقيه الشافعي.
ثم دخلت سنة ست عشرة وأربعمائة

ذكر فتح سومنات
في هذه السنة فتح يمين الدولة في بلاد الهند عدة حصون ومدن، وأخذ الصنم المعروف بسومنات، وهذا الصنم كان أعظم أصنام الهند، وهم يحجون إليه كل ليلة خسوف، فيجتمع عنده ما ينيف على مائة ألف إنسان، وتزعم الهنود أن الأرواح إذا فارقت الأجساد اجتمعت إليه على مذهب التناسخ، فينشئها فيمن شاء، وأن المد والجزر الذي عنده إنما هو عبادة البحر على قدر استطاعته.
وكانوا يحملون إليه كل علق نفيس، ويعطون سدنته كل مال جزيل، وله من الموقوف ما يزيد على عشرة آلاف قرية، وقد اجتمع في البيت الذي هو فيه من نفيس الجوهر ما لا تحصى قيمته..
ولأهل الهند نهر كبير يسمى كنك يعظمونه غاية التعظيم، ويلقون فيه عظام من يموت من كبرائهم، ويعتقدون أنها تساق إلى جنة النعيم.
وبين هذا النهر وبين سومنات نحو مائتي فرسخ، وكان يحمل من مائة كل يوم إلى سومنات ما يغسل به، ويكون عنده من البرهميين كل يوم ألف رجل لعبادته وتقديم الوفود إليه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس زواره ولحاهم، وثلاثمائة رجل وخمسمائة أمة يغنون ويرقصون على باب الصنم، ولكل واحد من هؤلاء شيء معلوم كل يوم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34