كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

وأقام ابن راشد مدة يجمع ويحتشد، ثم سار ثانياً، وقاتله الديلم فأعانه أهل البلد لسوء سيرة الديلم فيهم، فانهزم الديلم، وملك ابن راشد البلد وقتل الخادم وكثيراً من الديلم، وقبض على الأمير أبي المظفر وسيره إلى جباله مستظهراً عليه، وسجن معه كل من خط بقلم من الديلم، وأصحاب الأعمال، وأخرب دار الإمارة، وقال: هذه أحق دار بالخراب! وأظهر العدل، وأسقط المكوس، واقتصر على رفع عشر ما يرد إليهم وخطب لنفسه، وتلقب بالراشد بالله، ولبس الصوف، وبنى موضعاً على شكل مسجد، وقد كان هذا الرجل تحرك أيضاً أيام أبي القاسم بن مكرم فسير إليه أبو القاسم من منعه وحصره وأزال طمعه.
ذكر دخول العرب إلى إفريقيةفي هذه السنة دخلت العرب إلى إفريقية.
وسبب ذلك أن المعز بن باديس كان خطب للقائم بأمر الله الخليفة العباسي وقطع خطبة المستنصر العلوي، صاحب مصر، سنة أربعين وأربعمائة، فلما فعل ذلك كتب إليه المستنصر العلوي يتهدده، فأغلظ المعز في الجواب.
ثم إن المستنصر استوزر الحسن بن علي اليازوري، ولم يكن من أهل الوزارة، إنما كان من أهل التبانة والفلاحة، فلم يخاطبه المعز كما كان يخاطب من قبله من الوزراء، كان يخاطبهم بعبده فخاطب اليازوري بصنيعته، فعظم ذلك عليه، فعاتبه فلم يرجع إلى ما يحب، فأكثر الوقيعة في المعز، وأغرى به المستنصر، وشرعوا في إرسال العرب إلى الغرب، فأصلحوا بني زغبة ورياح، وكان بينهم حروب وحقود، وأعطوهم مالاً، وأمروهم بقصد بلاد القيروان، وملكوهم كل ما يفتحونه، ووعدوهم بالمدد والعدد. فدخلت العرب إلى إفريقية، وكتب اليازوري إلى المعز: أما بعد، فقد أرسلنا إليكم خيولاً فحولاً. وحملنا عليها رجالاً كهولاً. ليقضي الله أمراً كان مفعولاً... فلما حلوا أرض برقة وما والاها وجدوا بلاداً كثيرة المرعى خالية من الأهل لأن زناتة كانوا أهلها، فأبادهم المعز، فأقامت العرب بها واستوطنتها، وعاثوا في أطراف البلاد.
وبلغ ذلك المعز فاحتقرهم، وكان المعز لما رأى تقاعد صنهاجة عن قتال زناتة اشترى العبيد، وأوسع لهم في العطاء، فاجتمع له ثلاثون ألف مملوك. وكانت عرب زغبة قد ملكت مدينة طرابلس سنة ست وأربعين، فتتابعت رياح والأثبج وبنو عدي إلى إفريقية، وقطعوا السبيل وعاثوا في الأرض، وأرادوا الوصول إلى القيروان، فقال مؤنس بن يحيى المرداسي: ليس المبادرة عندي برأي، فقالوا: كيف تحب أن تصنع؟ فأخذ بساطاً فبسطه، ثم قال لهم: من يدخل إلى وسط البساط من غير أن يمشي عليه؟ قالوا: لا نقدر على ذلك! قال: فهكذا القيروان، خذوا شيئاً فشيئاً حتى لا يبقى إلا القيروان فخذوها حينئذ. فقالوا: إنك لشيخ العرب وأميرها وأنت المقدم علينا، ولسنا نقطع أمراً دونك.
ثم قدم أمراء العرب إلى المعز، فأكرمهم وبذل لهم شيئاً كثيراً، فلما خرجوا من عنده لم يجاوزه بما فعل من الإحسان، بل شنوا الغارات، وقطعوا الطريق، وأفسدوا الزروع، وقطعوا الثمار، وحاصروا المدن، فضاق بالناس الأمر، وساءت أحوالهم، وانقطعت أسفارهم، ونزل بإفريقية بلاء لم ينزل بها مثله قط، فحينئذ احتفل المعز، وجمع عساكره، فكانوا ثلاثين ألف فارس، ومثلها رجالة، وسار حتى أتى جندران، وهو جبل بينه وبين القيروان ثلاثة أيام، وكانت عدة العرب ثلاثة آلاف فارس، فلما رأت العرب عساكر صنهاجة والعبيد مع المعز هالهم ذلك، وعظم عليهم، فقال لهم مؤنس بن يحيى: ما هذا يوم فرار، فقالوا: أين نطعن هؤلاء وقد لبسوا الكزاغندات والمغافر؟ قال: في أعينهم، فسمي ذلك اليوم يوم العين.
والتحم القتال، واشتدت الحرب، فاتفقت صنهاجة على الهزيمة، وترك المعز مع العبيد حتى يرى فعلهم، ويقتل أكثرهم، فعند ذلك يرجعون على العرب، فانهزمت صنهاجة، وثبت العبيد مع المعز، فكثر القتل فيهم، فقتل منهم خلق كثير، وأرادت صنهاجة الرجوع على العرب، فلم يمكنهم ذلك، واستمرت الهزيمة، وقتل من صنهاجة أمة عظيمة، ودخل المعز القيروان مهزوماً، على كثرة من معه، وأخذت العرب الخيل والخيام وما فيها من مال وغيره، وفيه يقول بعض الشعراء:
وإن ابن باديس لأفضل مالك، ... ولكن لعمري ما لديه رجال
ثلاثون ألفاً منهم غلبتهم ... ثلاثة ألف إن ذا لمحال

ولما كان يوم النحر من هذه السنة جمع المعز سبعة وعشرين ألف فارس وسار إلى العرب جريدة، وسبق خبره، وهجم عليهم وهم في صلاة العيد، فركبت العرب خيولهم وحملت، فانهزمت صنهاجة، فقتل منهم عالم كثير.
ثم جمع المعز وخرج بنفسه في صنهاجة وزناتة في جميع كثير، فلما أشرف على بيوت العرب، وهو قبلي جبل جندران، انتشب القتال، واشتعلت نيران الحرب، وكانت العرب سبعة آلاف فارس، فانهزمت صنهاجة وولى كل رجل منهم إلى منزله، وانهزمت زناتة، وثبت المعز فيمن معه من عبيده ثباتاً عظيماً لم يسمع بمثله، ثم انهزم وعاد إلى المنصورية، وأحصي من قتل من صنهاجة ذلك اليوم، فكانوا ثلاثة آلاف وثلاثمائة.
ثم أقبلت العرب حتى نزلت بمصلى القيروان، ووقعت الحرب، فقتل من المنصورية ورقادة خلق كثير، فلما رأى ذلك المعز أباحهم دخول القيروان لما يحتاجون إليه من بيع وشراء، فلما دخلوا استطالت عليهم العامة، ووقعت بينهم حرب كان سببها فتنة بين إنسان عربي وآخر عامي وكانت الغلبة للعرب.
وفي سنة أربع وأربعين بني سور زويلة والقيروان، وفي سنة ست وأربعين حاصرت العرب القيروان، وملك مؤنس بن يحيى مدينة باجة، وأشار المعز على الرعية بالانتقال إلى المهدية لعجزه عن حمايتهم من العرب.
وشرعت العرب في هدم الحصون والقصور، وقطعوا الثمار، وخربوا الأنهار، وأقام المعز والناس ينتقلون إلى المهدية إلى سنة تسع وأربعين، فعندها انتقل المعز إلى المهدية في شعبان، فتلقاه ابنه تميم، ومشى بين يديه، وكان أبوه قد ولاه المهدية سنة خمس وأربعين، فأقام بها إلى أن قدم أبوه الآن.
وفي رمضان من سنة تسع وأربعين نهبت العرب القيروان.
وفي سنة خمسين خرج بلكين ومعه العرب لحرب زناتة، فقاتلهم فانهزمت زناتة وقتل منها عدد كثير.
وفي سنة ثلاث وخمسين وقعت الحرب بين العرب وهوارة، فانهزمت هوارة وقتل منها الكثير.
وفي سنة ثلاث وخمسين قتل أهل تقيوس من العرب مائتين وخمسين رجلاً، وسبب ذلك أن العرب دخلت المدينة متسوقة، فقتل رجل من العرب رجلاً متقدماً من أهل البلد لأنه سمعه يثني على المعز ويدعو له، فلما قتل ثار أهل البلد بالعرب فقتلوه منهم العدد المذكور.
وكان ينبغي أن يأتي كل شيء من ذلك في السنة التي حدث فيها، وإنما أوردناه متتابعاً ليكون أحسن لسياقته، فإنه إذا انقطع وتخللته الحوادث في السنين لم يفهم.
ذكر عدة حوادثفيها سار المهلهل بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى السلطان طغرلبك، فأحسن إليه وأقره على إقطاعه، ومن جملته السيروان، ودقوقا، وشهرزور، والصامغان، وشفعه في أخيه سرخاب بن محمد بن عناز، وكان محبوساً عند طغرلبك، وسار سرخاب إلى قلعة الماهكي، وهي له، وأقطع سعدي بن أبي الشوك الواندين.
وفيها قبض المستنصر بمصر على أبي الربركات عم أبي القاسم الجرجرائي، واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري، ويازور من أعمال الرملة.
وفيها توفي محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله أبو الحسين، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
وفيها، في شعبان، توفي أبو الحسن علي بن عمر القزويني، الزاهد، وكان من الصالحين، روى الحديث، والحكايات، والأشعار، وروى عن ابن نباتة شيئاً من شعره، فمن ذلك قال ابن نباتة:
وإذا عجزت عن العدو فداره، ... وامزج له، إن المزاج وفاق
فالنار بالماء هو الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو القاسم عمر بن ثابت النحوي الضرير، المعروف بالثمانيني.
ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائةذكر نهب سرّق والحرب الكائنة عندها
وملك الرحيم رامهرمزوفيها، في المحرم، اجتمع جمع كثير من العرب والأكراد، وقصدوا سرق من خوزستان، ونهبوها، ونهبوا دورق، ومقدمهم مطارد بن منصور، ومذكور بن نزار، فأرسل إليهم الملك الرحيم جيشاً، ولقوهم بين سرق ودورق، فاقتتلوا، فقتل مطارد وأسر ولده، وكثر القتل فيهم، واستنقذوا ما نهبوه، ونجا الباقون على أقبح صورة من الجراح والنهب، فلما تم هذا الفتح للملك الرحيم انتقل من عسكر مكرم متقدماً إلى قنطرة أربق، ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما.

ثم إن الأمير أبا منصور، صاحب فارس، وهزارسب بن بنكير، ومنصور بن الحسين الأسدي، ومن معهما من الديلم والأتراك، ساروا من أرجان يطلبون تستر، فسابقهم الرحيم إليها، وحال بينهم وبينها، والتقت الطلائع، فكان الظفر لعسكر الرحيم.
ثم إن الإرجاف وقع في عسكر هزارسب بوفاة الأمير أبي منصور ابن الملك أبي كاليجار بمدينة شيراز، فسقط في أيديهم وعادوا، وقصد كثير منهم الملك الرحيم فصاروا معه، فسير قطعة من الجيش إلى رامهرمز، وبها أصحاب هزارسب، وقد أفسدوا في تلك الأعمال، فلما وصل إليها عسكر الرحيم خرج أولئك إلى قتالهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً أكثر فيه القتل والجراح، ثم انهزم أصحاب هزارسب فدخلوا البلد وحصروا فيه، ثم ملك البلد عنوة، ونهب وأسر جماعة من العساكر التي فيه، وهرب كثير منهم إلى هزارسب، وهو بإيذج، وملك الملك الرحيم البلد في ربيع الأول من هذه السنة.
ذكر ملك الملك الرحيم إصطخر وشيرازفي هذه السنة سير الملك الرحيم أخاه الأمير أبا سعد في جيش إلى بلاد فارس.
وكان سبب ذلك أن المقيم في قلعة إصطخر، وهو أبو نصر بن خسرو، وكان له أخوان قبض عليهما هزارسب بن بنكير بأمر الأمير أبي منصور، فكتب إلى الملك الرحيم يبذل له الطاعة والمساعدة، ويطلب أن يسير إليه أخاه ليملكه بلاد فارس، فسير إليه أخاه أبا سعد في جيش، فوصل إلى دولتاباذ، فأتاه كثير من عساكر فارس الديلم، والترك، والعرب، والأكراد، وسار منها إلى قلعة إصطخر، فنزل إليه صاحبها أبو نصر، فلقيه وأصعده إلى القلعة، وحمل له وللعساكر التي معه الإقامات والخلع وغيرها.
ثم ساروا منها إلى قلعة بهندر فحصروها، وأتاه كتب بعض مستحفظي البلاد الفارسية بالطاعة، منها مستحفظ درابجرد وغيرها، ثم سار إلى شيراز فملكها في رمضان، فلما سمع أخوه الأمير أبو منصور، وهزارسب، ومنصور بن الحسين الأسدي ذلك ساروا في عسكرهم إلى الملك الرحيم فهزموه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وفارق الأهواز إلى واسط، ثم عطفوا من الأهواز إلى شيراز لإجلاء الأمير أبي سعد عنها، فلما قاربوها لقيهم أبو سعد وقاتلهم فهزمهم، فالتجأوا إلى جبل قلعة بهندر، وتكررت الحروب بين الطائفتين إلى منتصف شوال، فتقدمت طائفة من عسكر أبي سعد فاقتتلوا عامة النهار ثم عادوا، فلما كان الغد التقى العسكران جميعاً واقتتلوا، فانهزم عسكر الأمير أبي منصور، وظفر أبو سعد، وقتل منهم خلقاً كثيراً، واستأمن إليه كثير منهم، وصعد أبو منصور إلى قلعة بهندر واحتمى بها، وأقام إلى أن عاد إلى ملكه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ولما فارق الأمير أبو منصور الأهواز أعيدت الخطبة للملك الرحيم، وأرسل من بها من الجند يستدعونه إليهم.
ذكر انهزام الملك الرحيم بالأهوازلما انصرف الأمير ابو منصور، وهزارسب، ومن معهما من منزلهم قريب تستر، على ما ذكرناه، مضوا إلى إيذج وأقاموا فيها، وخافوا الملك الرحيم واستضعفوا نفوسهم عن مقاومته، فاتفق رأيهم على أن راسلوا السلطان طغرلبك، وبذلوا له الطاعة، وطلبوا منه المساعدة، فأرسل إليهم عسكراً كثيراً، وكان قد ملك أصبهان، وفرغ باله منها.
وعرف الملك الرحيم ذلك، وقد فارقه كثير من عسكره، منهم: البساسيري ونور الدولة دبيس بن مزيد، والعرب، والأكراد، وبقي في الديلم الأهوازية وطائفة قليلة من الأتراك البغداديين كانوا وصلوا إليه أخيراً، فقرر رأيه على أن عاد من عسكر مكرم إلى الأهواز لأنها أحصن، وينتظر بالمقام فيها وصول العساكر، ورأى أن يرسل أخاه الأمير أبا سعد إلى فارس، حيث طلب إلى إصطخر، على ما ذكرناه، وسير معه جمعاً صالحاً من العساكر، ظناً منه أن أخاه إذا وصل إلى فارس وملكت قلعة إصطخر انزعج الأمير أبو منصور، وهزارسب، ومن معهما، واشتغلوا بتلك النواحي عنه، فازداد قلقاً وضعفاً، فلم يلتفت أولئك إلى الأمير أبي سعد بل ساروا مجدين إلى الأهواز، فوصلوها أواخر ربيع الآخر.
ووقعت الحرب بين الفريقين يومين متتابعين كثر فيهما القتال واشتد، فانهزم الملك الرحيم، وسار في نفر قليل إلى واسط، ولقي في طريقه مشقة، وسلم واستقر بواسط فيمن لحق به من المنهزمين، ونهبت الأهواز، وأحرق فيها عدة محال، وفقد في الوقعة الوزير كمال الملك أبو المعالي بن عبد الرحيم، وزير الملك الرحيم، فلم يعرف له خبر.

ذكر الفتنة بين العامة ببغداد
وإحراق المشهد على ساكنيه السلام
في هذه السنة، في صفر، تجددت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة، وعظمت أضعاف ما كانت قديماً، فكان الاتفاق الذي ذكرناه في السنة الماضية غير مأمون الانتقاض، لما في الصدور من الإحن.
وكان سبب هذه الفتنة أن أهل الكرخ شرعوا في عمل باب السماكين، وأهل القلائين في عمل ما بقي من باب مسعود، ففرغ أهل الكرخ، وعملوا أبراجاً كتبوا عليها بالذهب: محمد وعلي خير البشر، وأنكر السنة ذلك وادعوا أن المكتوب: محمد وعلي خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر، وأنكر أهل الكرخ الزيادة وقالوا: ما تجاوزنا ما جرت به عادتنا فيما نكتبه على مساجدنا. فأرسل الخليفة القائم بأمر الله أبا تمام، نقيب العباسيين ونقيب العلويين، وهو عدنان بن الرضي، لكشف الحال وإنهائه، فكتبا بتصديق قول الكرخيين، فأمر حينئذ الخليفة ونواب الرحيم بكف القتال، فلم يقبلوا، وانتدب ابن المذهب القاضي، والزهيري، وغيرهما من الحنابلة أصحاب عبد الصمد بحمل العامة على الإغراق في الفتنة، فأمسك نواب الملك الرحيم عن كفهم غيظاً من رئيس الرؤساء لميله إلى الحنابلة، ومنع هؤلاء السنة من حمل الماء من دجلة إلى الكرخ، وكان نهر عيسى قد انفتح بثقه، فعظم الأمر عليهم، وانتدب جماعة منهم وقصدوا دجلة وحملوا الماء وجعلوه في الظروف، وصبوا عليه ماء الورد، ونادوا: الماء للسبيل، فأغروا بهم السنة.
وتشدد رئيس الرؤساء على الشيعة، فمحوا خير البشر، وكتبوا: عليهما السلام، فقالت السنة: لا نرضى إلا أن يقلع الآجر الذي عليه محمد وعلي وأن لا يؤذن: حي على خير العمل، وامتنع الشيعة من ذلك، ودام القتال إلى ثالث ربيع الأول، وقتل فيه رجل هاشمي من السنة، فحمله أهله على نعش، وطافوا به في الحربية، وباب البصرة، وسائر محال السنة، واستنفروا الناس للأخذ بثأره، ثم دفنوه عند أحمد بن حنبل، وقد اجتمع معهم خلق كثير أضعاف ما تقدم. فلما رجعوا من دفنه قصدوا مشهد باب التبن فأغلق بابه، فنقبوا في سوره وتهددوا البواب، فخافهم وفتح الباب فدخلوا ونهبوا ما في المشهد من قناديل ومحاريب ذهب وفضة وستور وغير ذلك، ونهبوا ما في الترب والدور، وأدركهم الليل فعادوا.
فلما اكن الغد كثر الجمع، فقصدوا المشهد، وأحرقوا جميع الترب والآزاج، واحترق ضريح موسى، وضريح ابن ابنه محمد بن علي، والجوار، والقبتان الساج اللتان عليهما، واحترق ما يقابلهما ويجاورهما من قبور ملوك بني بويه، معز الدولة، وجلال الدولة، ومن قبور الوزراء والرؤساء، وقبر جعفر بن أبي جعفر المنصور، وقبر الأمير محمد بن الرشيد، وقبر أمه زبيده، وجرى من الأمر الفظيع ما لم يجر في الدنيا مثله.
فلما كان الغد خامس الشهر عادوا وحفروا قبر موسى بن جعفر ومحمد بن علي لينقلوهما إلى مقبرة أحمد بن حنبل، فحال الهدم بينهم وبين معرفة القبر، فجاء الحفر إلى جانبه.
وسمع أبو تمام نقيب العباسيين وغيره من الهاشميين السنة الخبر، فجاؤوا ومنعوا عن ذلك، وقصد أهل الكرخ إلى خان الفقهاء الحنفيين فنهبوه، وقتلوا مدرس الحنفية أبا سعد السرخسي، وأحرقوا الخان ودور الفقهاء وتعدت الفتنة إلى الجانب الشرقي، فاقتتل أهل باب الطاق وسوق بج، والأساكفة، وغيرهم.
ولما انتهى خبر إحراق المشهد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد عظم عليه واشتد وبلغ منه كل مبلغ لأنه وأهل بيته وسائر أعماله من النيل، وتلك الولاية كلهم شيعة، فقطعت في أعماله خطبة الإمام القائم بأمر الله، فروسل في ذلك وعوتب، فاعتذر بأن أهل ولايته شيعة، واتفقوا على ذلك، فلم يمكنه أن يشق عليهم كما أن الخليفة لم يمكنه كف السفهاء الذين فعلوا بالمشهد ما فعلوا، وأعاد الخطبة إلى حالها.
ذكر عصيان بني قرة على المستنصر بالله بمصرفي هذه السنة، في شعبان، عصى بنو قرة بمصر على المستنصر بالله الخليفة العلوي.

وكان سبب ذلك أنه أمر عليهم رجلاً منهم يقال له المقرب، وقدمه، فنفروا من ذلك وكرهوه واستعفوا منه، فلم يعزله عنهم، فكاشفوا بالخلاف والعصيان، وأقاموا بالجيزة مقابل مصر، وتظاهروا بالفساد، فعبر إليهم المستنصر بالله جيشاً يقاتلهم ويكفهم، فقاتلهم بنو قرة فانهزم الجيش، وكثر القتل فيهم، فانتقل بنو قرة إلى طرف البر، فعظم الأمر على المستنصر بالله، وجمع العرب من طيء، وكلب، وغيرهما من العساكر، وسيرهم في أثر بني قرة، فأدركوهم بالجيزة، فواقعوهم في ذي القعدة، واشتد القتال، وكثر القتل في بني قرة، وانهزموا وعاد العسكر إلى مصر، وتركوا في مقابل بني قرة طائفة منهم لترد بني قرة إن أرادوا التعرض إلى البلاد، وكفى الله شرهم.
ذكر وفاة زعيم الدولة

وإمارة قريش بن بدران
في هذه السنة، في شهر رمضان، توفي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلد بتكريت، وكان انحدر إليها في حلله قاصداً نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم، وينهب البلاد، فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل، فتوفي، ودفن بمشهد الخضر بتكريت.
واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلد، فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش، وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة، وقيامه بالإمارة، وأنه يتصرف على اختياره، ويقوم بالأمر نيابة عنه. فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش، وقوي ابن أخيه، ومالت العرب إليه واستقرت الإمارة له، وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل، والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة، ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل، فاعتقل بها.
ذكر عدة حوادثظهر ببغداد يوم الأربعاء، سابع صفر وقت العصر، كوكب غلب نوره على نور الشمس، له ذؤابة نحو ذراعين، وسار سيراً بطيئاً ثم انقض، والناس يشاهدونه.
وفيها، في رمضان، ورد رسل السلطان طغرلبك إلى الخليفة جواباً عن رسالة الخليفة إليه، وشكر لإنعام الخليفة عليه بالخلع والألقاب، وأرسل معه طغرلبك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار عيناً ، وأعلاقاً نفيسة من الجواهر، والثياب، والطيب، وغير ذلك، وأرسل خمسة آلاف دينار للحاشية، وألفي دينار لرئيس الرؤساء، وأنزل الخليفة الرسل بباب المراتب، وأمر بإكرامهم، ولما جاء العيد أظهر أجناد بغداد الزينة الرائقة، والخيول النفيسة، والتجافيف الحسنة، وأرادوا إظهار قوتهم عند الرسل.
وفيها عاد الغز أصحاب الملك داود أخي طغرلبك عن كرمان، وسبب ذلك عودهم أن عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، سار عنها إلى خراسان، فالتقى هو والملك داود، واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم داود، فاقتضى الحال عود أصحابه عن كرمان.
وفيها أيضاً عاد السلطان طغرلبك عن أصبهان إلى الري.
وفيها توفي أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة بن كاكويه بالأهواز، وكان قد استخلفه بها الأمير أبو منصور عند عوده عنها إلى شيراز، فلما توفي خطب للملك الرحيم بالأهواز.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن المرتضى الموسوي.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو الحسن محمد بن محمد البصروي الشاعر، وهو منسوب إلى قرية تسمى بصرى قريب عكبرا، وكان صاحب نادرة، قال له رجل: شربت البارحة ماء كثيراً، فاحتجت إلى القيام كل ساعة كأني جدي، فقال له: لم تصغر نفسك؟ ومن شعره:
ترى الدنيا، وزينتها، فتصبو، ... وما يخلو من الشهوات قلب
فضول العيش أكثرها هموم ... وأكثر ما يضرك ما تحب
فلا يغررك زخرف ما تراه، ... وعيش لين الأعطاف رطب
إذا ما بلغة جاءتك عفواً، ... فخذها، فالغنى مرعى وشرب
إذا اتفق القليل وفيه سليم، ... فلا ترد الكثير وفيه حرب
ثم دخلت سنة أربع وأربعين وأربعمائة
ذكر قتل عبد الرشيد صاحب غزنة
وملك فرخ زاد
في هذه السنة قتل عبد الرشيد بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة.

وكان سبب ذلك أن حاجباً لمودود ابن أخيه مسعود، اسمه طغرل، وكان مودود قد قدمه، ونوه باسمه، وزوجه أخته، فلما توفي مودود وملك عبد الرشيد أجرى طغرل على عادته في تقدمه، وجعله حاجب حجابه، فأشار عليه طغرل بقصد الغز وإجلائهم من خراسان، فتوقف استبعاداً لذلك، فألح عليه طغرل، فسيره في ألف فارس، فسار نحو سجستان، وبها أبو الفضل، نائباً عن بيغو، فأقام طغرل على حصار قلعة طاق، وأرسل إلى أبي الفضل يدعوه إلى طاعة عبد الرشيد، فقال له: إنني نائب عن بيغو، وليس من الدين والمروءة خيانته، فاقصده، فإذا فرغت منه سلمت إليك. فقام على حصار طاق أربعين يوماً، فلم يتهيأ له فتحها، وكتب أبو الفضل إلى بيغو يعرفه حال طغرل، فسار إلى سجستان ليمنع عنها طغرل.
ثم إن طغرل ضجر من مقامه على حصار طاق، فسار نحو مدينة سجستان، فلما كان على نحو فرسخ منها كمن بحيث لا يراه أحد لعلة يجدها، وفرصة ينتهزها، فسمع أصوات دبادب وبوقات، فخرج وسأل بعض من على الطريق، فأخبره أن بيغو قد وصل، فعاد إلى أصحابه وأخبرهم وقال لهم: ليس لنا إلا أن نلتقي القوم، ونموت تحت السيوف أعزة، فإنه لاسبيل لنا إلى الهرب لكثرتهم وقلتنا. فخرجوا من مكمنهم، فلما رآهم بيغو سأل أبا الفضل عنهم، فأخبره أنه طغرل، فاستقل من معه، وسير طائفة من أصحابه لقتالهم، فلما رآهم طغرل لم يعرج عليهم بل أقحم فرسه نهراً هناك فعبره، وقصد بيغو ومن معه، فقاتلهم، وهزمهم طغرل وغنم ما معهم، ثم عطف على الفريق الآخر، فصنع بهم مثل ذلك، وأم بيغو وأبو الفضل نحو هراة، وتبعهم طغرل نحو فرسخين، وعاد إلى المدينة فملكها، وكتب إلى عبد الرشيد بما كان منه، ويطلب الإمداد ليسير إلى خراسان، فأمده بعدة كثيرة من الفرسان، فوصلوا إليه، فاشتد بهم وأقام مديدة.
ثم حدث نفسه بالعود إلى غزنة والاستيلاء عليها، فأعلم أصحابه ذلك، وأحسن إليهم، واستوثق منهم، ورحل إلى غزنة طاوياً للمراحل كاتماً أمره، فلما صار على خمسة فراسخ من غزنة أرسل إلى عبد الرشيد مخادعاً له يعلمه أن العسكر خالفوا عليه وطلبوا الزيادة في العطاء، وأنهم عادوا بقلوب متغيرة مستوحشة. فلما وقف على ذلك جمع أصحابه وأهل ثقته وأعلمهم الخبر، فحذروه منه، وقالوا له: إن الأمر قد أعجل عن الاستعداد، وليس غير الصعود إلى القلعة والتحصن بها. فصعد إلى قلعة غزنة وامتنع بها.
ووافى طغرل من الغد إلى البلد، ونزل في دار الإمارة، وراسل المقيمين بالقلعة في تسليم عبد الرشيد، ووعدهم، ورغبهم إن فعلوا، وتهددهم إن امتنعوا. فسلموه إليه، فأخذه طغرل فقتله، واستولى على البلد وتزوج ابنة مسعود كرهاً.
وكان في الأعمال الهندية أمير يسمى خرخيز، ومعه عسكر كثير، فلما قتل طغرل عبد الرشيد واستولى على الأمر كتب إليه ودعاه إلى الموافقة والمساعدة على ارتجاع الأعمال من أيدي الغز، ووعده على ذلك، وبذل البذول الكثيرة، فلم يرض فعله، وأنكره وامتعض منه، وأغلظ له في الجواب، وكتب إلى ابنة مسعود بن محمود زوجة طغرل، ووجوه القواد ينكر ذلك عليهم، ويوبخهم على إغضائهم وصبرهم على ما فعله طغرل من قتل ملكهم وابن ملكهم ويحثهم على الأخذ بثأره. فلما وقفوا على كتبه عرفوا غلطتهم ودخل جماعة منهم على طغرل، ووقفوا بين يديه، فضربه أحدهم بسيفه وتبعه الباقون فقتله.
وورد خرخيز الحاجب بعد خمسة أيام، وأظهر الحزن على عبد الرشيد، وذم طغرل ومن تابعه على فعله، وجمع وجوه القواد وأعيان أهل البلد وقال لهم: قد عرفتم ما جرى مما خولفت به الديانة والأمانة، وأنا تابع، ولا بد للأمر من سائس، فاذكروا ما عندكم من ذلك! فأشاروا بولاية فرخ زاد بن مسعود بن محمود، وكان محبوساً في بعض القلاع، فأحضر وأجلس بدار الإمارة وأقام خرخيز بين يديه يدبر الأمور، وأخذ من أعان على قتل عبد الرشيد فقتله، فلما سمع داود أخو طغرلبك صاحب خراسان بقتل عبد الرشيد جمع عساكره وسار إلى غزنة، فخرج إليه خرخيز ومنعه وقاتله، فانهزم داود وغنم ما كان معه.

ولما استقر ملك فرخ زاد وثبت قدمه جهز جيشاً جراراً إلى خراسان فاستقبلهم الأمير كلسارغ، وهو من أعظم الأمراء، فقاتلهم، وصبر لهم، فظفروا به، وانهزم أصحابه عنه، وأخذ أسيراً، وأسر معه كثير من عسكر خراسان ووجوههم وأمرائهم. فجمع ألب أرسلان عسكراً كثيراً، وسير والده داود في ذلك العسكر إلى الجيش الذي أسر كلسارغ، فقاتلهم وهزمهم، وأسر جماعة من أعيان العسكر، فأطلق فرخ زاد الأسرى، وخلع على كلسارغ وأطلقه.
ذكر وصول الغز إلى فارس

وانهزامهم عنها
في هذه السنة وصل أصحاب السلطان طغرلبك إلى فارس، وبلغوا إلى شيراز، ونزلوا بالبيضاء، واجتمع معهم العادل أبو منصور الذي كان وزير الأمير أبي منصور الملك أبي كاليجار، ودبر أمرهم، فقبضوا عليه وأخذوا منه ثلاث قلاع، وهي: قلعة كبزة، وقلعة جويم، وقلعة بهندر، فأقاموا بها، وسار من الغز نحو مائتي رجل إلى الأمير أبي سعد، أخي الملك الرحيم، وصاروا معه، وراسل أبو سعد الذي بالقلاع المذكورة، فاستمالهم، فأطاعوه وسلموه القلاع إليه وصاروا في خدمته.
واجتمع العسكر الشيرازي، وعليهم الظهير أبو نصر، وأوقعوا بالغز بباب شيراز، فانهزم الغز، وأسر تاج الدين نصر بن هبة الله بن أحمد، وكان من المقدمين عند الغز، فلما انهزم الغز سار العسكر الشرازي إلى فسا، وكان قد تغلب عليها بعض السفل، وقوي أمره لاشتغال العساكر بالغز، فأزالوا المتغلب عليها واستعادوها.
ذكر الحرب بين قريش وأخيه المقلدفي هذه السنة جرى خلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلد، وكان قريش قد نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق، فجرى بينه وبين أخيه المقلد منازعة أدت إلى الاختلاف. فسار المقلد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد ملتجئاً إليه، فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد إلى الموصل، واختلت أحواله، واختلفت العرب إليه، وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عكبرا، والعلث، وغيرهما من قبض غلته، وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب.
ثم إن قريشاً استمال العرب وأصلحهم، فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش، فإنه توفي هذه الأيام، وانحدر إلى العراق ليستعيد ما أخذ منه، فوصل إلى الصالحية، وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها، فنهبوا ما هناك وعادوا، فلقوا كامل بن محمد بن المسيب، صاحب الحظيرة، فأوقع بهم وقاتلهم، فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال، فسر إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد! فانهزم كامل، وتبعه قريش فلم يلحقه، فقصد حلل بلال بن غريب، وهي خالية من الرجال، فنهبها، وقاتله بلال وأبلى بلاء حسناً فجرح ثم انهزم، وراسل قريش نواب الملك الرحيم يبذل الطاعة، ويطلب تقرير ما كان له عليه، فأجابوه إلى ذلك على كره لقوته وضعفهم، واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم، فاستقر أمره وقوي شأنه.
ذكر وفاة قرواشفي هذه السنة، مستهل رجب، توفي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش ابن المقلد العقيلي، الذي كان صاحب الموصل، محبوساً بقلعة الجراحية، من أعمال الموصل، على ما ذكرناه قبل، وحمل ميتاً إلى الموصل، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى، شرقي الموصل.
وكان من رجال العرب، وذوي العقل منهم، وله شعر حسن، فمن ذلك ما ذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في دمية القصر من شعره:
لله در النائبات، فإنها ... صدأ النفوس وصيقل الأحرار
ما كنت إلا زبرة، فطبعني ... سيفاً، وأطلق شفرتي وغراري
وذكر له أيضاً:
من كان يحمد، أو يذم مورثاً ... للمال من آبائه وجدوده
إني امرؤ الله شكر وحده ... شكراً كثيراً، جالباً لمزيده
لي أشقر سمح العنان مغاور، ... يعطيك ما يرضيك من مجهوده
ومهند عضب، إذا جردته ... خلت البروق تموج في تجريده
ومثقف لدن السنان كأنما ... أم المنايا ركبت في عوده
وبذا حويت المال، إلا أنني ... سلطت جود يدي على تبديده

قيل إنه جمع بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم هذا، فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة؟ وقال مرة: ما في رقبتي غير خمسة أو ستة من البادية قتلتهم، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.
ذكر استيلاء الملك الرحيم على البصرةفي هذه السنة، في شعبان، سير الملك الرحيم جيشاً مع الوزير والبساسيري إلى البصرة، وبها أخوه أبو علي بن أبي كاليجار، فحصروه بها، فأخرج عسكره في السفن لقتالهم، فاقتتلوا عدة أيام، ثم انهزم البصريون في الماء إلى البصرة، واستولى عسكر الرحيم على دجلة والأنهر جميعاً، وسارت العساكر على البر من المنزلة بمطارا إلى البصرة، فلما قاربوها لقيهم رسل مضر وربيعة يطلبون الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، وكذلك بذلوا الأمان لسائر أهلها، ودخلها الملك الرحيم، فسر به أهلها، وبذل لهم الإحسان.
فلما دخل البصرة وردت إليه رسل الديلم بخوزستان يبذلون الطاعة، ويذكرون أنهم ما زالوا عليها. فشكرهم على ذلك، وأقام بالبصرة ليصلح أمرها.
وأما أخوه أبو علي، صاحب البصرة، فإنه مضى إلى شط عثمان فتحصن به، وحفر الخندق، فمضى الملك الرحيم إليه وقاتلهم، فملك الموضع ومضى أبو علي ووالدته إلى عبادان، وركبوا البحر إلى مهروبان، وخرجوا من البحر واكتروا دواب وساروا إلى أرجان عازمين على قصد السلطان طغرلبك، وأخرج الملك الرحيم كل من بالبصرة من الديلم أجناد أخيه وأقام غيرهم.
ثم إن الأمير أبا علي وصل إلى السلطان طغرلبك، وهو بأصبهان، فأكرمه وأحسن إليه، وحمل إليه مالاً، وزوجه امرأة من أهله، وأقطعه إقطاعاً من أعمال جرباذقان، وسلم إليه قلعتين من تلك الأعمال أيضاً. وسلم الملك الرحيم البصرة إلى البساسيري ومضى إلى الأهواز، وترددت الرسل بينه وبين منصور بن الحسين وهزارسب، حتى اصطلحوا، وصارت أرجان وتستر للملك الرحيم.
ذكر ورود سعدي العراقوفيها، في ذي القعدة، ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، فنزل مايدشت، وسار منها جريدة فيمن معه من الغز إلى أبي دلف الجاواني، فنذر به أبو دلف، وانصرف من بين يديه، ولحقه سعدي فنهبه وأخذ ماله، وأفلت أبو دلف بحشاشة نفسه، ونهب أصحاب سعدي البلاد حتى بلغوا النعمانية، فأسرفوا في النهب والغارة، وفتكوا في البلاد، وافتضوا الأبكار، فأخذوا الأموال والأثاث فلم يتركوا شيئاً، وقصد البندنيجين.
وبلغ خبره إلى خاله خالد بن عمر، وهو نازل على الزرير ومطر ابني علي بن مقن العقيليين، فأرسل إليه ولده مع أولاد الزرير ومطر يشكون إليه ما عاملهم به عمه مهلهل، وقريش بن بدران، فلحقوه بحلوان وشكوا إليه حالهم، فوعدهم المسير إليهم، والأخذ لهم ممن قصدهم. فعادوا من عنده، فلقيهم نفر من أصحاب مهلهل فواقعوهم، فظفر بهم العقيليون وأسروهم.
وبلغ الخبر مهلهلاً، فسار إلى حلل الزرير ومطر في نحو خمسمائة فارس، فأوقع بهم على تل عكبرا ونهبهم، وانهزم الرجال، فلقي خالد ومطر والزرير سعدي بن أبي الشوك على تامرا، فأعلموا الحال وحملوه. على قتال عمه، فتقدم إلى طريقه، والتقى القوم، وكان سعدي في جمع كثير، فظفر بعمه وأسره، وانهزم أصحابه في كل جهة، وأسر أيضاً مالك ابن عمه مهلهل، وأعاد الغنائم التي كانت معهم على أصحابها وعاد إلى حلوان.
ووصل الخبر إلى بغداد، فارتج الناس بها وخافوا، وبرز عسكر الملك الرحيم ليقصدوا حلوان لمحاربة سعدي، ووصل إليهم أبو الأغر دبيس بن مزيد الأسدي ولم يصنعوا شيئاً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبض عيسى بن خميس بن مقن على أخيه أبي غشام، صاحب تكريت بها، وسجنه في سرداب بالقلعة، واستولى على تكريت.
وفيها زلزت خوزستان واجان وإيذج، وغيرها من البلاد، زلازل كثيرة، وكان معظمها بأرجان، فخرب كثير من بلادها وديارها، وانفرج جبل كبير قريب من أرجان وانصدع، فظهر في وسطه درجة مبنية بالآجر والجص قد خفيت في الجبل، فتعجب الناس من ذلك. وكان بخراسان أيضاً زلزلة عظيمة خربت كثيراً، وهلك بسببها كثير، وكان أشدها بمدينة بيهق فأتى الخراب عليها، وخرب سورها ومساجدها، ولم يزل سورها خراباً إلى سنة أربع وستين وأربعمائة، فأمر نظام الملك ببنائه، فبني، ثم خربه أرسلان أرغو، بعد موت السلطان ملكشاه، وقد ذكرناه، ثم عمره مجد الملك البلاساني.

وفيها عمل محضر ببغداد يتضمن القدح في نسب العلويين أصحاب مصر، وأنهم كاذبون في إدعائهم النسب إلى علي، عليه السلام، وعزوهم فيه إلى الديصانية من المجوس، والقداحية من اليهود، وكتب فيه العلويين، والعباسيون، والفقهاء، والقضاة، والشهود، وعمل به عدة نسخ، وسير في البلاد، وشيع بين الحاضر والبادي.
وفيها شهد الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بم عبد الواحد بن الصباغ، مصنف الشامل، عند قاضي القضاة أبي عبد الله الحسين علي بن ماكولا.
وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد، وامتنع الضبط، وانتشر العيارون وتسلطوا، وجبوا الأسواق، وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال، وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق، وأعاد الشيعة الأذان بحي على خير العمل، وكتبوا على مساجدهم: محمد وعلي خير البشر، وجرى القتال بينهم، وعظم الشر.
وفيها زوج نور الدولة دبيس بن مزيد ابنه بهاء الدولة منصوراً بابنة أبي البركات بن البساسيري.
وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو جعفر السمناني بالموصل، وكان إماماً في الفقه على مذهب أبي حنيفة، والأصول على مذهب الأشعري، وروى الحديث عن الدارقطني وغيره.
وفي هذا الشهر توفي أيضاً أبو علي الحسن بن علي بن المذهب، الواعظ، وهو راوي مسند أحمد بن حنبل.
ثم دخلت سنة خمس وأربعين وأربعمائة

ذكر الفتنة بين السنة والشيعة ببغداد
في هذه السنة، في المحرم، زادت الفتنة بين أهل الكرخ وغيرهم من السنة، وكان ابتداؤها أواخر سنة أربع وأربعين.
فلما كان الآن عظم الشر، واطرحت المراقبة للسلطان، واختلط بالفريقين طوائف من الأتراك، فلما اشتد الأمر اجتمع القواد واتفقوا على الركوب إلى المحال وإقامة السياسة بأهل الشر والفساد، وأخذوا من الكرخ إنساناً علوياً وقتلوه، فثار نساؤه، ونشرن شعورهن واستغثن، فتبعهن العامة من أهل الكرخ، وجرى بينهم وبين القواد ومن معهم من العامة، قتال شديد، وطرح الأتراك النار في أسواق الكرخ، فاحترق كثير منها، وألحقتها بالأرض، وانتقل كثير من الكرخ إلى غيرها من المحال.
وندم القواد على ما فعلوه، وأنكر الإمام القائم بأمر الله ذلك، وصلح الحال، وعاد الناس إلى الكرخ، بعد أن استقرت القاعدة بالديوان بكف الأتراك أيديهم عنهم.
ذكر استيلاء الملك الرحيم على أرجانفي هذه السنة، في جمادى الأولى، استولى الملك الرحيم على مدينة أرجان، وأطاعه من كان بها من الجند، وكان المقدم عليهم فولاذ بن خسرو الديلمي.
وكان قد تغلب على جاورها من البلاد إنسان متغلب يسمى خشنام، فأنفذ إليه فولاذ جيشاً فأوقعوا به وأجلوه عن تلك النواحي واستضافوا إلى طاعة الرحيم.
وخاف هزارسب بن بنكير من ذلك لأنه كان مبايناً للملك الرحيم على ما ذكرناه، فأرسل يتضرع ويتقرب، ويسأل التقدم إلى فولاذ بإحسان مجاورته، فأجيب إلى ذلك.
ذكر مرض السلطان طغرلبكفي هذه السنة وصل السلطان طغرلبك إلى أصبهان مريضاً، وقوي الإرجاف عليه بالموت، ثم عوفي، ووصل إليه الأمير أبو علي بن الملك أبي كاليجار الذي كان صاحب البصرة، ووصل إليه أيضاً هزارسب بن بنكير بن عياض، صاحب إيذج، فإنه كان قد خاف الملك الرحيم لما استولى على البصرة وأرجان. فأكرمهما طغرلبك، وأحسن ضيافتهما، ووعدهما النصرة والمعونة.
ذكر عود سعدي بن أبي الشوك إلى طاعة الرحيمقد ذكرنا سنة أربع وأربعين وصول سعدي إلى العراق، وأرسه عمه، فلما أسره سار ولده بدر بن المهلهل إلى السلطان طغرلبك، وتحدث معه في مراسلة سعدي ليطلق أباه، فسلم إليه طغرلبك ولداً كان لسعدي عنده رهينة، وأرسل معه رسولاً يقول فيه: إن أردت فدية عن أسرك فهذا ولدك قد رددته عليك، وإن أبيت إلا المخالفة ومفارقة الجماعة قابلناك على فعلك.
فلما وصل بدر والرسول إلى همذان تخلف بدر، وسار الرسول إليه، فامتعض من قوله، وخالف طغرلبك، وسار إلى حلوان، وأراد أخذها، فلم يمكنه، وتردد بين روشنقباذ والبردان، وكاتب الملك الرحيم، وصار في طاعته، فسار إليه إبراهيم بن إسحاق، وسخت كمان، وهما من أعيان عسكر طغرلبك، في عسكر مع بدر بن المهلهل فأوقعوا به فانهزم هو وأصحابه وعاد الغز عنهم إلى حلوان، وسار بدر إلى شهرزور في طائفة من الغز، ومضى سعدي إلى قلعة روشنقباذ.
ذكر عود الأمير أبو منصور إلى شيراز

في هذه السنة، في شوال، عاد الأمير أبو منصور فولاستون ابن الملك أبي كاليجار إلى شيراز مستولياً عليها، وفارقها أخوه الأمير أبو سعد.
وكان سبب ذلك أن الأمير أبا سعد كان قد تقدم معه في دولته إنسان يعرف بعميد الدين أبي نصر بن الظهير، فتحكم معه، واطرح الأجناد واستخف بهم، وأوحش أبا نصر بن خسرو، صاحب قلعة إصطخر، الذي كان قد استدعى الأمير أبا سعد وملكه.
فلما فعل ذلك اجتمعوا على مخالفته وتألبوا عليه، وأحضر أبو نصر بن خسرو الأمير أبا منصور بن أبي كاليجار إليه! وسعى في اجتماع الكلمة عليه، فأجابه كثير من الأجناد لكراهتهم لعميد الدين، فقبضوا عليه، ونادوا بشعار الأمير أبي منصور، وأظهروا طاعته، وأخرجوا الأمير أبا سعد عنهم فعاد إلى الأهواز في نفر يسير، ودخل الأمير أبو منصور إلى شيراز مالكاً لها، مستولياً عليها، وخطب فيها لطغرلبك، وللملك الرحيم، ولنفسه بعدهما.
ذكر إيقاع البساسيري بالأكراد والأعرابوفيها، في شوال، وصل الخبر إلى بغداد بأن جمعاً من الأكراد وجمعاً من الأعراب قد أفسدوا في البلاد، وقطعوا الطريق ونهبوا القرى، طمعاً في السلطنة بسبب الغز، فسار إليهم البساسيري جريدة، وتبعهم إلى البوازيج، فأوقع بطوائف كثيرة منهم، وقتل فيهم، وغنم أموالهم، وانهزم بعضهم فعبروا الزاب عند البوازيج فلم يدركهم، وأراد العبور إليهم، وهم بالجانب الآخر، وكان الماء زائداً، فلم يتمكن من عبوره، فنجوا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي الشريف أبو تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي، نقيب النقباء، وقام بعده في النقابة ابنه أبو علي.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن أحمد البرمكي، وكان مكثراً من الحديث، سمع ابن مالك القطيعي وغيره، وإنما قيل له البرمكي لأنه سكن محله ببغداد تعرف بالبرامكة، وقيل كان من قرية عند البصرة تعرف بالبرمكية.
ثم دخلت سنة ست وأربعين وأربعمائة

ذكر فتنة الأتراك ببغداد
في هذه السنة، في المحرم كانت فتنة الأتراك ببغداد.
وكان سببها أنهم تخلف لهم على الوزير الذي للملك الرحيم مبلغ كثير من رسومهم، فطالبوه، وألحوا عليه، فاختفى في دار الخلافة، فحضر الأتراك بالديوان وطالبوه، وشكوا ما يلقونه منه من المطال بمالهم، فلم يجابوا إلى إظهاره، فعدلوا عن الشكوى منه إلى الشكوى من الديوان، وقالوا: إن أرباب المعاملات قد سكنوا بالحريم، وأخذوا الأموال، وإذا طلبناهم بها يمتنعون بالمقام بالحريم، وانتصب الوزير والخليفة لمنعنا عنهم، وقد هلكنا.
فتردد الخطاب منهم، والجواب عنه، فقاموا نافرين، فلما كان الغد ظهر الخبر أنهم على عزم حصر دار الخلافة، فانزعج الناس لذلك، وأخفوا أموالهم، وحضر البساسيري دار الخلافة، وتوصل إلى معرفة خبر الوزير، فلم يظهر له على خبر، فطلب من داره ودور من يتهم به، وكبست الدور، فلم يظهروا له على خبر.
وركب جماعة من الأتراك إلى دار الروم فنهبوها، وأحرقوا البيع والقلايات، ونهبوا فيها دار أبي الحسن بن عبيد، وزير البساسيري.
وقام أهل نهر المعلى، وباب الأزج، وغيرهما من المحال، في منافذ الدروب لمنع الأتراك، وانخرق الأمر، ونهب الأتراك كل من ورد إلى بغداد، فغلت الأسعار، وعدمت الأقوات، وأرسل إليهم الخليفة ينهاهم، فلم ينتهوا، فأظهر أنه يريد الانتقال عن بغداد، فلم يزجروا.
هذا جميعه والبساسيري غير راض بفعلهم، وهو مقيم بدار الخليفة. وتردد الأمر إلى أن ظهر الوزير، وقام لهم الباقي من مالهم من ماله، وأثمان دوابه، وغيرها، ولم يزالوا في خبط وعسف، فعاد طمع الأكراد والأعراب أشد منه أولاً، وعاودوا الغارة والنهب والقتل، فخربت البلاد وتفرق أهلها.
وانحدر أصحاب قريش بن بدران من الموصل طامعين، فكبسوا حلل كامل ابن محمد بن المسيب، وهي بالبردان، فنهبوها، وبها دواب، وجمال بخاتي للبساسيري، فأخذوا الجميع ووصل الخبر إلى بغداد، فازداد خوف الناس من العامة والأتراك، وعظم انحلال أمر السلطنة بالكلية، وهذا من ضرر الخلاف.
ذكر استيلاء طغرلبك على أذربيجان
وغزو الروم

في هذه السنة سار طغرلبك إلى أذربيجان، فقصد تبريز، وصاحبها الأمير أبو منصور وهسوذان بن محمد الروادي، فأطاعه وخطب له وحمل إليه ما أرضاه به، وأعطاه ولده رهينة، فسار طغرلبك عنه إلى الأمير أبي الأسوار، صاحب جنزة، فأطاعه أيضاً وخطب له، وكذلك سائر تلك النواحي أرسلوا إليه يبذلون الطاعة والخطبة.
وانقادت العساكر إليه، فأبقى بلادهم عليهم، وأخذ رهائنهم وسار إلى أرمينية، وقصد ملازكرد، وهي للروم، فحصرها وضيق على أهلها، ونهب ما جاورها من البلاد وأخربها، وهي مدينة حصينة، فأرسل إليه نصر الدولة بن مراون، صاحب ديار بكر، الهدايا الكثيرة والعساكر، وقد كان خطب له قبل هذا الوقت وأطاعه، وأثر السلطان طغرلبك، في غزو الروم، آثاراً عظيمة، ونال منهم من النهب والقتل والأسر شيئاً كثيراً.
وبلغ في غزوته هذه إلى أرزن الروم، وعاد إلى أذربيجان، لما هجم الشتاء، من غير أن يملك ملازكرد، وأظهر أنه يقيم إلى أن ينقضي الشتاء، ويعود يتم غزاته، ثم توجه إلى الري فأقام بها إلى أن دخلت سنة سبع وأربعين وعاد نحو العراق، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر محاربة بني خفاجة وهزيمتهمفي هذه السنة، في رجب، قصد بنو خفاجة الجامعين، وأعمال نور الدولة دبيس، ونهبوا وفتكوا في أهل تلك الأعمال، وكان نور الدولة شرقي الفرات، وخفاجة غربيها، فأرسل نور الدولة إلى البساسيري يستنجده، فسار إليه، فلما وصل عبر الفرات من ساعته، وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين، فانهزموا منه ودخلوا البر، فلم يتبعهم، وعاد عنهم، فرجعوا إلى الفساد، فاستعد لسلوك البر خلفهم أين قصدوا، وعطف نحوهم قاصداً حربهم، فدخلوا البر أيضاً، فتبعهم فلحقهم بخفان، وهو حصن بالبر، فأوقع بهم، وقتل منهم، ونهب أموالهم وجمالهم وعبيدهم وإماءهم، وشردهم كل مشرد، وحصر خفان ففتحه وخربه، وأراد تخريب القائم به، وهو بناء من آجر وكلس، وصانع عنه صاحبه ربيعة بن مطاع بمال بذله، فتركه وعاد إلى البلاد.
وهذا القائم قيل إنه كان علماً يهتدي به السفن، لما كان البحر يجيء إلى النجف، ودخل بغداد ومعه خمسة وعشرون رجلاً من خفاجة، عليهم البرانس، وقد شدهم بالحبال إلى الجمال، وقتل منهم جماعة، وصلب جماعة، وتوجه إلى حربى فحصرها، وقرر، وقرر على أهلها تسعة آلاف دينار وأمنهم.
ذكر استيلاء قريش على الأنبار

والخطبة لطغرلبك بأعماله
في شعبان من هذه السنة حصر الأمير أبو المعالي قريش بن بدران، صاحب الموصل، مدينة الأنبار وفتحها، وخطب لطغرلبك فيها وفي سائر أعماله، ونهب ما كان فيها للبساسيري وغيره، ونهب حلل أصحابه بالخالص،وفتحوا بثوقه، وامتعض البساسيري من ذلك، وجمع جموعاً كثيرة، وقصد الأنبار وحربى فاستعادهما، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر وفاة القائد ابن حماد
وما كان من أهله بعده
في هذه السنة، في رجب، توفي القائد ابن حماد، وأوصى إلى ولده محسن، وأوصاه بالإحسان إلى عمومته، فلما مات خالف ما أمره به، وأراد عزل جميعهم، فلما سمع عمه يوسف بن حماد بما عزم عليه خالفه، وجمع عظيماً وبنى قلعة في جبل منيع وسماها الطيارة.
ثم محسناً قتل من عموممته أربعة، فازداد يوسف نفوراً، وكان ابن عمه بلكين بن محمد في بلده أفريون، فكتب إليه محسن يستدعيه، فسار إليه، فلما قرب منه أمر محسن رجالاً من العرب أن يقتلوه، فلما خرجوا قال لهم أميرهم خليفة بن مكن: إن بلكين لم يزل محسناً إلينا، فكيف نقتله؟ فأعلموه ما أمرهم به محسن، فخاف، فقال له خليفة: لا تخف، وإن كنت تريد قتل محسن فأنا أقتله لك. فاستعد بلكين لقتاله، وسار إليه، فلما علم محسن بذلك وكان قد فارق القلعة عاد هارباً إليها، فأدركه بلكين فقتله، وملك القلعة وولي الأمر، وكان ملكه القلعة سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
ذكر ابتداء الوحشة بين البساسيري والخليفةفي شهر رمضان من هذه السنة ابتدأت الوحشة بين الخليفة والبساسيري.

وسبب ذلك ذلك أن أبا الغنائم وأبا سعد ابني المحلبان، صاحبي قريش بن بدران، وصلا إلى بغداد سراً، فامتعض البساسيري من ذلك، وقال: هؤلاء وصاحبهم كبسوا حلل أصحابي، ونهبوا، وفتحوا البثوق، وأسرفوا في إهلاك الناس، وأراد أخذهم فلم يمكن منهم، فمضى إلى حربي، وعاد ولم يقصد دار الخلافة على عادته، فنسب ذلك إلى رئيس الرؤساء.
واجتازت به سفينة لبعض أقارب رئيس الرؤساء، فمنعها وطالب بالضريبة التي عليها، وأسقط مشاهرات الخليفة من دار الضرب، كذلك مشاهرات رئيس الرؤساء، وحواشي الدار، وأراد هدم دور بني المحلبان، فمنع منه، فقال: ما أشكو إلا من رئيس الرؤساء الذي قد خرب البلاد وأطمع الغز وكاتبهم.
ودام ذلك إلى ذي الحجة، فسار البساسيري إلى الأنبار، وأحرق ناحيتي دما، والفلوجة، وكان أبو الغنائم بن المحلبان بالأنبار قد أتاها من بغداد، وورد نور الدولة دبيس إلى البساسيري، معاوناً له على حصرها، ونصب البساسيري عليها المجانيق، فهدم برجاً، ورماهم بالنفط فأحرق أشياء كان قد أعدها أهل البلد لقتاله، ودخلها قهراً، فأسر مائة نفس من بني خفاجة، وأسر أبا الغنائم بن المحلبان، فأخذ وقد ألقى نفسه في الفرات، ونهب الأنبار وأسر من أهلها خمسمائة رجل، وعاد إلى بغداد وبين يديه أبو الغنائم على جمل، وعليه قميص أحمر، وعلى رأسه برنس، وفي رجليه قيد، وأراد صلبه وصلب من معه من الأسرى، فسأله نور الدولة أن يؤخر ذلك حتى يعود، وأتى البساسيري إلى مقابل التاج، فقبل الأرض، وعاد إلى منزله، وترك أبا الغنائم لم يصلبه، وصلب جماعة من الأسرى، فكان هذا أول الوحشة.
ذكر وصول الغز إلى الدسكرة وغيرهافي شوال من هذه السنة وصل إبراهيم بن إسحاق، وهو من الأمراء الغزية السلجوقية، إلى الدسكرة، وكان مقيماً بحلوان، فلما وصل إليها قاتله أهلها، ثم ضعفوا وعجزوا وهربوا متفرقين، ودخل الغز البلد فنهبوه أقبح نهب، وضربوا النساء وأولادهن، فاستخرجوا بذلك أموالاً كثيرة، وساروا إلى روشنقباذ لفتحها، وهي بيد سعدي، وأمواله فيها وفي قلعة البردان.
وكان سعدي قد فارق طاعة السلطان طغرلبك، على ما ذكرناه، فلم يفتحها وأجلى أهل تلك البلاد، وخربت القرى، ونهبت أموال أهلها.
وسار طائفة أخرى من الغز إلى نواحي الأهواز وأعمالها، فنهبوها واجتاحوا أهلها، وقوي طمع الغز في البلاد وانخذل الديلم ومن معهم من الأتراك، وضعفت نفوسهم.
ثم سير طغرلبك الأمير أبا علي ابن الملك أبي كاليجار، الذي كان صاحب البصرة، في جيش من الغز إلى خوزستان ليملكها، فوصل سابور خواست، وكاتب الديلم الذين بالأهواز يدعوهم إلى طاعته، ويعدهم الإحسان إن أجابوا، والعقوبة إن امتنعوا، فمنهم من أطاع، ومنهم من خالف، فسار إلى الأهواز فملكها واستولى عليها، ولم يعرض لأحد في مال ولا غيره، فلم يوافقه الغز على ذلك، ومدوا أيديهم إلى النهب والغارة والمصادرة، ولقي الناس منهم عنتاً وشدة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثرت الصراصر ببغداد، حتى كان يسمع لها بالليل دوي كدوي الجراد إذا طار.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو حسان المقلد بن بدران أخو قريش ابن بدران، صاحب الموصل.
وفيها، في شوال، توفي قسطنطين ملك الروم، زوج تذورة بنت قسطنطين، الموسومة بالملك، وإنما ملك قسطنطين هذا حيث تزوجها.
وفيها توفي عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبد الله الأصبهاني، المعروف بابن اللبان، الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي حامد الأسفراييني، وروى الحديث عن ابن المقري والمخلص وغيرهما.
وتوفي فيها أحمد بن عمر بن روح أبو الحسن النهرواني، وله شعر جيد، فمنه أنه سمع رجلاً يتغنى وهو يقول:
وما طلبوا سوى قتلي، ... فهان علي ما طلبوا
فاستوقفه وقال له: أضف إليه:
على قلبي الأحبة بال ... تمادي في الهوى غلبوا
وبالهجران من عيني ... طيب النوم قد سلبوا
وما طلبوا سوى قتلي، ... فهان علي ما طلبوا
ثم دخلت سنة سبع وأربعين وأربعمائة

ذكر استيلاء الملك الرحيم على شيراز
وقطع خطبة طغرلبك فيها

في هذه السنة، في المحرم، سار قائد كبير من الديلم، يسمى فولاذ، وهو صاحب قلعة إصطخر، إلى شيراز، فدخلها وأخرج عنها الأمير أبا منصور فولاستون، ابن الملك أبي كاليجار، فقصد فيروزاباذ وأقام بها.
وقطع فولاذ خطبة السلطان طغرلبك في شيراز، وخطب للملك الرحيم، ولأخيه أبي سعد، وكاتبهما يظهر لهما الطاعة، فعلما أنه يخدعهما بذلك، فسار إليه أبو سعد، وكان بأرجان، ومعه عساكر كثيرة، واجتمع هو وأخوه الأمير أبو منصور على قصد شيراز ومحاصرتها على قاعدة استقرت بينهما في طاعة أخيهما الملك الرحيم، فتوجها نحوها فيمن معهما من العساكر، وحصرا فولاذ فيها.
وطال الحصار إلى أن عدم القوت فيها، وبلغ السعر سبعة أرطال حنطة بدينار ومات أهلها جوعاً، وكان من بقي فيها نحو ألف إنسان، وتعذر المقام في البلد على فولاذ، فخرج هارباً مع من في صحبته من الديلم إلى نواحي البيضاء وقلعة إصطخر، ودخل الأمير أبو سعد، والأمير أبو منصور شيراز، وعساكرهما، وملكوها، وأقاموا بها.
ذكر قتل أبي حرب بن مروان صاحب الجزيرةفي هذه السنة قتل الأمير أبو حرب سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وكان والده قد سلم إليه الجزيرة وتلك النواحي ليقيم بها ويحفظها، وكان شجاعاً، مقداماً، فاستبد بالأمر، واستولى عليه، فجرى بينه وبين الأمير موسك ابن المجلى ابن زعيم الأكراد البختية، وله حصون منيعة شرقي الجزيرة، نفرة.
ثم راسله أبو حرب واستماله، وسعى أن يزوجه ابنه الأمير أبي طاهر البشنوي، صاحب قلعة فنك وغيرها من الحصون، وكان أبو طاهر هذا ابن أخت نصر الدولة بن مروان، فلم يخالف أبو طاهر، صاحب فنك، أبا حرب في الذي أشار به من تزويج الأمير موسك، فزوجه ابنته ونقلها إليه، فاطمأن حينئذ موسك، وسار إلى سليمان، فغدر به، وقبض عليه وحبسه.
ووصل السلطان طغرلبك إلى تلك الأعمال لما توجه إلى غزو الروم، على ما ذكرناه فأرسل إلى نصر الدولة يشفع في موسك، فأظهر أنه توفي، فشق ذلك علي حميه أبي طاهر البشنوي، وأرسل إلى نصر الدولة وابنه سليمان فقال لهما: حيث أردتما قتله، فلم جعلتما ابنتي طريقاً إلى ذلك، وقلدتموني العار؟ وتنكر لهما، وخافه أبو حرب، فوضع عليه من سقاه سماً فقتله.
وولي بعده ابنه عبيد الله، فأظهر له أبو حرب المودة استصلاحاً له، وتبرؤاً إليه من كل ما قيل عنه، واستقر الأمر بينهما على الاجتماع وتجديد الأيمان، فنزلوا من فنك، وخرج إليهم أبو حرب من الجزيرة في نفر قليل فقتلوه.
وعرف والده ذلك، فأقلقه وأزعجه، وأرسل ابنه نصراً إلى الجزيرة ليحفظ تلك النواحي، ويأخذ بثأر أخيه، وسير معه جيشاً كثيفاً.
وكان الأمير قريش بن بدران، صاحب الموصل، لما سمع قتل أبي حرب انتهز الفرصة وسار إلى الجزيرة ليملكها، وكاتب البختية والبشنوية، واستمالهم، فنزلوا إليه واجتمعوا معه على قتال نصر بن مروان، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً كثر فيه القتلى، وصبر الفريقان، فكانت الغلبة أخيراً لابن مروان، وجرح قريش جراحة قوية بزوبين رمي به، وعاد عنه، وثبت أمر ابن مروان بالجزيرة، وعاود مراسلة البشنوية والبختية، واستمالهم لعله يجد فيهم طمعاً، فلم يطيعوه.
ذكر وثوب الأتراك ببغداد بأهل البساسيري

والقبض عليه ونهب دوره وأملاكه وتأكد الوحشة بينه وبين رئيس الرؤساء
في هذه السنة ثارت فتنة ببغداد بالجانب الشرقي بين العامة، وثار جماعة من أهل السنة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحضروا الديوان، وطلبوا أن يؤذن لهم في ذلك، وأن يتقدم إلى أصحاب الديوان بمساعدتهم، فأجيبوا إلى ذلك، وحدث من ذلك شر كثير.
ثم إن أبا سعد النصراني، صاحب البساسيري، حمل في سفينة ستمائة جرة خمراً ليحدرها إلى البساسيري بواسط، في ربيع الآخر، فحضر ابن سكرة الهاشمي وغيره من الأعيان في هذا الباب، وتبعهم خلق كثير، وحاجب باب المراتب من قبل الديوان، وقصدوا السفينة، وكسروا جرار الخمر وأراقوها.

وبلغ ذلك البساسيري، فعظم عليه، ونسبه إلى رئيس الرؤساء، وتجددت الوحشة، فكتب فتاوى أخذ فيها خطوط الفقهاء الحنفية بأن الذي فعل من كسر الجرار وإراقة الخمر تعد غير واجب، وهي ملك رجل نصراني، لا يجوز، وتردد القول في هذا المعنى، فتأكدت الوحشة من الجانبين، ووضع رئيس الرؤساء الأتراك البغداديين على ثبل البساسيري والذم له، ونسب كل ما يجري عليهم من نقض إليه، فطمعوا فيه، وسلكوا في هذا المعنى زيادة على ما أراد رئيس الرؤساء، وتمادت الأيام إلى رمضان، فحضروا دار الخليفة، واستأذنوا في قصد دور البساسيري ونهبها، فأذن لهم في ذلك، فقصدوها ونهبوها وأحرقوها، ونكلوا بنسائه وأهله ونوابه، ونهبوا دوابه وجميع ما يملكه ببغداد.
وأطلق رئيس الرؤساء لسانه في البساسيري وذمه، ونسبه إلى مكاتبة المستنصر، صاحب مصر، وأفسد الحال مع الخليفة إلى حد لا يرجى صلاحه، وأرسل إلى الملك الرحيم يأمره بإبعاد البساسيري، فأبعده، وكانت هذه الحالة من أعظم الأسباب في ملك السلطان طغرلبك العراق، وقبض الملك الرحيم، وسيرد من ذلك ما تراه إن شاء الله تعالى.
ذكر وصول طغرلبك إلى بغداد

والخطبة له بها
قد ذكرنا قبل مسير طغرلبك إلى الري، بعد عوده من غزو الروم، للنظر في ذلك الطرف، فلما فرغ من الري عاد إلى همذان في المحرم من هذه السنة، وأظهر أنه يريد الحج، وإصلاح طريق مكة، والمسير إلى الشام ومصر، وإزالة المستنصر العلوي صاحبها.
وكاتب أصحابه بالدينور وقرميسين وحلوان وغيرها، فأمرهم بإعداد الأقوات والعلوفات. فعظم الإرجاف ببغداد، وفت في أعضاد الناس، وشغب الأتراك ببغداد، وقصدوا ديوان الخلافة.
ووصل السلطان طغرلبك إلى حلوان، وانتشر أصحابه في طريق خراسان، فأجفل الناس إلى غربي بغداد، وأخرج الأتراك خيامهم إلى ظاهر بغداد.
وسمع الملك الرحيم بقرب طغرلبك من بغداد، فأصعد من واسط إليها، وفارقه البساسيري في الطريق لمراسلة وردت من القائم في معناه إلى الملك الرحيم أن البساسيري خلع الطاعة، وكاتب الأعداء، يعني المصريين، وأن الخليفة له على الملك عهود، وله على الخليفة مثلها، فإن آثره فقد قطع ما بينهما، وإن أبعده وأصعد إلى بغداد تولى الديوان تدبير أمره، فقال الملك الرحيم ومن معه: نحن لأوامر الديوان متبعون، وعنه منفصلون.
وكان سبب ذلك ما ذكر. وسار البساسيري إلى بلد نور الدولة دبيس بن مزيد المصاهرة بينهما، وأصعد الملك الرحيم إلى بغداد. وأرسل طغرلبك رسولاً إلى الخليفة يبالغ في إظهار الطاعة والعبودية، وإلى الأتراك البغداديين يعدهم الجميل والإحسان. فأنكر الأتراك ذلك، وراسلوا الخليفة في المعنى، وقالوا: إننا فعلنا بالبساسيري ما فعلناه، وهو كبيرنا، ومقدمنا، بتقدم أمير المؤمنين، ووعدنا أمير المؤمنين بإبعاد هذا الخصم عنا، ونراه قد قرب منا، ولم يمنع من المجيء. وسألوا التقدم عليه في العود، فغولطوا في الجواب، وكان رئيس الرؤساء يؤثر مجيئه، ويختار انقراض الدولة الديلمية.
ثم إن الملك الرحيم وصل بغداد منتصف رمضان، وأرسل إلى الخليفة يظهر العبودية، وأنه قد سلم أمره إليه ليفعل ما تقتضيه العواطف معه في تقرير القواعد مع السلطان طغرلبك، وكذلك قال من مع الرحيم من الأمراء، فأجيبوا بأن المصلحة أن يدخل الأجناد خيامهم من ظاهر بغداد، وينصبوها بالحريم، ويرسلوا رسولاً إلى طغرلبك يبذلون له الطاعة والخطبة، فأجابوا إلى ذلك وفعلوه، وأرسلوا رسلاً إليه، فأجابهم إلى ما طلبوا، ووعدهم الإحسان إليهم.
وتقدم الخليفة إلى الخطباء بالخطبة لطغرلبك بجوامع بغداد، فخطب له يوم الجمعة لثمان بقين من رمضان من السنة، وأرسل طغرلبك يستأذن الخليفة في دخول بغداد، فأذن له، فوصل إلى النهروان، وخرج الوزير رئيس الرؤساء إلى لقائه في موكب عظيم من القضاة، والنقباء، والأشراف، والشهود، والخدم، وأعيان الدولة، وصحبه أعيان الأمراء من عسكر الرحيم. فلما علم طغرلبك بهم أرسل إلى طريقهم الأمراء، ووزيره أبا نصر الكندري، فلما وصل رئيس الرؤساء إلى السلطان أبلغه رسالة الخليفة، واستخلفه للخليفة، وللملك الرحيم، وأمراء الأجناد، وسار طغرلبك ودخل بغداد يوم الاثنين لخمس بقين من الشهر، ونزل بباب الشماسية، ووصل إليه قريش بن بدران، صاحب الموصل، وكان في طاعته قبل هذا الوقت على ما ذكرناه.

ذكر وثوب العامة ببغداد بعسكر طغرلبك
وقبض الملك الرحيم
لما وصل السلطان طغرلبك بغداد دخل عسكره البلد للامتيار، وشراء ما يريدونه من أهلها، وأحسنوا معاملتهم، فلما كان الغد، وهو يوم الثلاثاء، جاء بعض العسكر إلى باب الأزج، وأخذ واحداً من أهله ليطلب منه تبناً، وهو لا يفهم ما يريدون، فاستغاث عليهم، وصاح العامة بهم ورجموهم، وهاجموا عليهم.
وسمع الناس الصياح، فظنوا أن الملك الرحيم وعسكره قد عزموا على قتال طغرلبك، فارتج البلد من أقطاره، وأقبلوا من كل حدب ينسلون، يقتلون من الغز من وجد في محال بغداد، إلا أهل الكرخ فإنهم لم يتعرضوا إلى الغز، بل جمعوهم وحفظوهم.
وبلغ السلطان طغرلبك ما فعله أهل الكرخ من حماية أصحابه، فأمر بإحسان معاملتهم. فأرسل عميد الملك، الوزير، إلى عدنان بن الرضي، نقيب العلويين، يأمره بالحضور، فحضر، فشكره عن السلطان، وترك عنده خيلاً بأمر السلطان تحرسه وتحرس المحلة.
وأما عامة بغداد فلم يقنعوا بما عملوا، حتى خرجوا ومعهم جماعة من العسكر إلى ظاهر بغداد، يقصدون العسكر السلطاني، فلو تبعهم الملك الرحيم وعسكره لبلغوا ما أرادوا، لكن تخلفوا، ودخل أعيان أصحابه إلى دار الخلافة، وأقاموا بها نفياً للتهمة عن أنفسهم، ظناً منهم أن ذلك ينفعهم.
وأما عسكر طغرلبك فلما رأوا فعل العامة وظهورهم من البلد قاتلوهم فقتل بين الفريقين جمع كثير، وانهزمت العامة، وجرح فيهم وأسر كثير، ونهب الغز درب يحيى، ودرب سليم، وبه دور رئيس الرؤساء ودور أهله، فنهب الجميع، ونهب الرصافة، وترب الخلفاء، وأخذ منها من الأموال ما لا يحصى، لأن أهل تلك الأصقاع نقلوا إليها أموالهم اعتقاداً منهم أنها محترمة. ووصل النهب إلى أطراف نهر المعلى واشتد البلاء على الناس وعظم الخوف، ونقل الناس أموالهم إلى باب النوبي، وباب العامة، وجامع القصر، فتعطلت الجمعات لكثرة الزحمة.
وأرسل طغرلبك من الغد إلى الخليفة يعتب، وينسب ما جرى إلى الملك الرحيم وأجناده، ويقول: إن حضروا برئت ساحتهم، وإن تأخروا عن الحضور أيقنت أن ما جرى إنما كان بوضع منهم.
وأرسل للملك الرحيم وأعيان أصحابه أماناً لهم، فتقدم إليهم الخليفة بقصده، فركبوا إليه، وأرسل الخليفة معهم رسولاً يبرئهم مما خامر خاطر السلطان، فلما وصلوا إلى خيامه نهبهم الغز، ونهبوا رسل الخليفة معهم، وأخذوا دوابهم وثيابهم.
ولما دخل الملك الرحيم إلى خيمة السلطان أمر بالقبض عليه وعلى من معه، فقبضوا كلهم آخر شهر رمضان، وحبسوا، ثم حمل الرحيم إلى قلعو السيروان، وكانت ولاية الملك الرحيم على بغداد ست سنين وعشرة أيام، ونهب أيضاً قريش بن بدران، صاحب الموصل، ومن معه من العرب، ونجا مسلوباً، فاحتمى بخيمة بدر بن المهلهل، فألقوا عليه الزلالي حتى أخفوه بها عن الغز.
ثم علم السلطان ذلك، فأرسل إليه، وخلع عليه، وأمره بالعود إلى أصحابه وحلله تسكيناً له.
وأرسل الخليفة إلى السلطان ينكر ما جرى من قبض الرحيم وأصحابه، ونهب بغداد، ويقول: إنهم إنما خرجوا إليك بأمري وأماني، فإن أطلقتهم، وإلا فأنا أفارق بغداد، فإني إنما اخترتك واستدعيتك اعتقاداً مني أن تعظيم الأوامر الشريفة يزداد، وحرمه الحريم تعظم، وأرى الأمر بالضد. فأطلق بعضهم، وأخذ جميع إقطاعات عسكر الرحيم، وأمرهم بالسعي في أرزاق يحصلونها لأنفسهم. فتوجه كثير منهم إلى البساسيري ولزموه، فكثر جمعه ونفق سوقه.
وأمر طغرلبك بأخذ أموال الأتراك البغداديين، وأرسل إلى نور الدولة دبيس يأمره بإبعاد البساسيري عنه، ففعل، فسار إلى رحبة مالك الشام، على ما نذكره، وكاتب المستنصر، صاحب مصر، بالدخول في طاعته. وخطب نور الدولة طغرلبك في بلاده، وانتشر الغز السلجوقية في سواد بغداد، فنهبوا من الجانب الغربي من تكريت إلى النيل ومن الشرقي إلى النهروان وأسافل الأعمال، وأسرفوا في النهب، حتى بلغ ثمن الثور ببغداد خمسة قراريط إلى عشرة، والحمار بقيراطين إلى خمسة، وخرب السواد، وأجلى أهله عنه.

وضمن السلطان طغرلبك البصرة والأهواز من هزارسب بن بنكير بن عياض بثلاثمائة ألف وستين ألف دينار، وأقطعه أرجان، وأمره أن يخطب لنفسه بالأهواز، دون الأعمال التي ضمنها، وأقطع الأمير أبا علي بن أبي كاليجار الملك قرميسين وأعمالها، وأمر أهل الكرخ أن يؤذنوا في مساجدهم سحراً: الصلاة خير من النوم، وأمر بعمارة دار المملكة، فعمرت، وزيد فيها، وانتقل إليها في شوال.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، ومقدم الحنابلة أبو علي بن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، وأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ومنعوا من الترجيع في الأذان، والقنوت في الفجر، ووصلوا إلى ديوان الخليفة، ولم ينفصل حال، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفاً وقال: أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها.
وفيها كان بمكة غلاء شديد، وبلغ الخبز عشرة أرطال بدينار مغربي، ثم تعذر وجوده، فأشرف الناس والحجاج على الهلاك، فأرسل الله تعالى عليهم من الجراد ما ملأ الأرض فتعوض الناس به، ثم عاد الحاج فسهل الأمر على أهل مكة، وكان سبب هذا الغلاء عدم زيادة النيل بمصر عن العادة، فلم يحمل منها الطعام إلى مكة.
وفيها ظهر باليمن إنسان يعرف بأبي كامل علي بن محمد الصليحي، واستولى على اليمن، وكان معلماً، فجمع إلى نفسه جمعاً، وانتمى إلى صاحب مصر، وتظاهر بطاعته، فكثر جمعه وتبعه، واستولى على البلاد، وقوي على ابن سادل وابن الكريدي المقيمين بها على طاعة القائم بأمر الله، وكان يتظاهر بمذهب الباطنية.
وفيها خطب محمود الخفاجي للمستنصر العلوي، صاحب مصر، بشفاثا والعين، وصار في طاعته.
وفيها، في شوال، توفي قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن ماكولا، ومولده سنة ثمان وستين وثلاثمائة، وبقي في القضاء سبعاً وعشرين سنة، وكان شافعياً، ورعاً، نزهاً، أميناً، وولي بعده أبو عبد الله محمد بن علي بن الدامغاني الحنفي.
وفيها، في ذي القعدة، توفي ذخيرة الدين أبو العباس محمد ابن أمير المؤمنين، ومولده في جمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة.
وفيها قبض الملك الرحيم قبل وصول طغرلبك إلى بغداد على الوزير أبي عبد الله عبد الرحمن بن الحسين بن عبد الرحيم، وطرح في بئر في دار المملكة، وطم عليه، وكان وزيراً متحكماً في دولته.
وفيها، في المحرم، توفي القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي، ومولده بالبصرة سنة خمس وستين وثلاثمائة، وخلف ولداً صغيراً، وهو أبو الحسن محمد بن علي، ثم توفي في شوال سنة أربع وتسعين وأربعمائة، وانقرض بيته بموته، قال القاضي أبو عبد الله بن الدامغاني: دخلت على أبي القاسم قبل موته بقليل، فأخرج إلي ولده هذا من جاريته وبكى فقلت: تعيش إن شاء الله وتربيه، فقال: هيهات! والله ما يتربى إلا يتيماً، وأنشد:
أرى ولد الفنى كلاً عليه، ... لقد سعد الذي أمسى عقيما
فإما أن تربيه عدواً، ... وإما أن تخلفه يتيما
فتربى يتيماً كما قال.
وفي جمادى الأولى توفي أبو محمد الحسن بن رجاء الدهان اللغوي.
وفي جمادى الآخرة فيها توفي أبو القاسم منصور بن حمزة بن إبراهيم الكرخي من كرخ جدان، الفقيه الشافعي.
وفي رجب توفي أبو نصر أحمد بن محمد الثابتي، الفقيه الشافعي، وهما من شيوخ أصحاب أبي حامد الأسفراييني.
وفي شعبان توفي أبو البركات حسين بن علي بن عيسى الربعي النحوي، وكان ينوب عن الوزراء ببغداد.
ثم دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة

ذكر نكاح الخليفة ابنة داود أخي طغرلبك
في هذه السنة، في المحرم، جلس أمير المؤمنين القائم بأمر الله جلوساً عاماً، وحضر عميد الملك الكندري، وزير طغرلبك، وجماعة من الأمراء منهم: أبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وهزارسب بن بنكير بن عياض الكردي، وابن أبي الشوك، وغيرهم من الأمراء الأتراك من عسكر طغرلبك.

وقام عميد الملك، وزير طغرلبك، وبيده دبوس، ثم خطب رئيس الرؤساء وعقد العقد على أرسلان خاتون، واسمها خديجة ابنة داود أخي السلطان طغرلبك، وقبل الخليفة بنفسه النكاح، وحضر العقد نقيب النقباء أبو علي بن أبي تمام، وعدنان ابن الشريف الرضي، نقيب العلويين، وأقضى القضاة الماوردي، وغيرهم، وأهديت خاتون إلى الخليفة في هذه السنة أيضاً في شعبان، وكانت والدة الخليفة قد سارت ليلاً وتسلمتها وأحضرتها إلى الدار.
ذكر الحرب بين عبيد المعز بن باديس وعبيد ابنه تميمفي هذه السنة وقعت الحرب بين عبيد المعز، المقيمين بالمهدية، وعبيد ابنه تميم، بسبب منازعة أدت إلى المقاتلة، فقامت عامة زويلة وسائر من بها من رجال الأسطول مع عبيد تميم، فأخرجوا عبيد المعز، وقتل منهم كثير، ومضى الباقون منهم يريدون المسير إلى القيروان، فوضع عليهم تميم العرب، فقتلوا منهم جمعاً غفيراً، وهذه النوبة هي سبب قتل تميم من قتل من عبيد أبيه لما ملك.
ذكر ابتداء دولة الملثمينفي هذه السنة كان ابتداء أمر الملثمين، وهم عدة قبائل ينسبون إلى حمير، أشهرها: لمتونة، ومنها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين، وجدالة ولمطة.
وكان أول مسيرهم من اليمن، أيام أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فسيرهم إلى الشام وانتقلوا إلى مصر، ودخلوا المغرب مع موسى بن نصير، وتوجهوا مع طارق إلى طنجة، فأحبوا الانفراد، فدخلوا الصحراء واستوطنوها إلى هذه الغاية.
فلما كان هذه السنة توجه رجل منهم، اسمه الجوهر، من قبيلة جدالة إلى إفريقية، طالباً للحج، وكان محباً للدين وأهله، فمر بفقيه بالقيراون، وعنده جماعة يتفقهون، قيل: هو أبو عمران الفاسي في غالب الظن، فأصغى الجوهر إليه، وأعجبه حالهم.
فلما انصرف من الحج قال للفقيه: ما عندنا في الصحراء من هذا شيء غير الشهادتين، والصلاة في بعض الخاصة، فابعث معي من يعلمهم شرائع الإسلام! فأرسل معه رجلاً اسمه عبد الله بن ياسين الكزولي، وكان فقيهاً، صالحاً، شهماً، فسار معه حتى أتيا قبيلة لمتونة، فنزل الجوهر عن جمله، وأخذ بزمام جمل عبد الله بن ياسين، تعظيماً لشريعة الإسلام، فأقبلوا إلى الجوهر يهنئونه بالسلامة، وسألوه عن الفقيه فقال: هذا حامل سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد جاء يعلمكم ما يلزم في دين الإسلام. فرحبوا بهما، وأنزلوهما، وقالوا: تذكر لنا شريعة الإسلام، فعرفهم عقائد الإسلام وفرائضه، فقالوا: أما ما ذكرت من الصلاة، والزكاة، فهو قريب، وأما قولك من قتل يقتل، ومن سرق يقطع، ومن زنى يجلد، أو يرجم، فأمر لا نلتزمه، اذهب إلى غيرنا.
فرحلا عنهم، فنظر إليهما شيخ كبير فقال: لا بد وأن يكون لهذا الجمل في هذه الصحراء شأن يذكر في العالم. فانتهى الجوهر والفقيه إلى جدالة، قبيل الجوهر، فدعاهم عبد الله بن ياسين والقبائل الذين يجاورونهم إلى حكم الشريعة، فمنهم من أطاع، ومنهم من أعرض وعصى.
ثم إن المخالفين لهم تحيزوا، وتجمعوا، فقال ابن ياسين للذين أطاعوا: قد وجب عليكم أن تقاتلوا هؤلاء الذين خالفوا الحق، وأنكروا شرائع الإسلام، واستعدوا لقتالكم، فأقيموا لكم راية، وقدموا عليكم أميراً. فقال الجوهر: أنت الأمير! فقال: لا، إنما أنا حامل أمانة الشريعة، ولكن أنت الأمير. فقال الجوهر: لو فعلت هذا تسلط قبيلي على الناس، ويكون وزر ذلك علي. فقال له ابن ياسين: الرأي أن نولي ذلك أبا بكر بن عمر، رأس لمتونة وكبيرها، وهو رجل سيد، مكشور الطريقة، مطاع في قومه، فهو يستجيب لنا لحب الرئاسة، وتبعه قبيلته، فنتقوى بهم.
فأتيا أبا بكر بن عمر، وعرضا ذلك عليه، فأجاب، فعقدوا له البيعة، وسماه ابن ياسين أمير المسلمين، وعادوا إلى جدالة، وجمعوا إليهم من حسن إسلامه، وحرضهم عبد الله بن ياسين على الجهاد في سبيل الله، وسماهم مرابطين، وتجمع عليهم من خالفهم، فلم يقاتلهم المرابطون بل استعان ابن ياسين وأبو بكر بن عمر على أولئك الأشرار بالمصلحين من قبائلهم، فاستمالوهم وقربوهم حتى حصلوا منهم نحو ألفي رجل من أهل البغي والفساد، فتركوهم في مكان، وخندقوا عليهم، وحفظوهم، ثم أخرجوهم قوماً بعد قوم، فقتلوهم، فحينئذ دانت لهم أكثر قبائل الصحراء، وهابوهم، فقويت شوكة المرابطين.

هذا وعبد الله مشتغل بالعلم، وقد صار عنده جماعة من يتفقهون، ولما استبد بالأمر هو وأبو بكر بن عمر عن الجوهر الجدالي وبقي لا حكم له تداخله الحسد، وشرع سراً في فساد الأمر، فعلم بذلك منه وعقد له مجلس، وثبت عليه ما نقل عنه، فحكم عليه بالقتل لأنه نكث البيعة، وشق العصا، وأارد محاربة أهل الحق، فقتل بعد أن صلى ركعتين، وأظهر السرور بالقتل طلباً للقاء الله تعالى. فاجتمعت القبائل على طاعتهم، ومن خالفهم قتلوه.
فلما كان سنة خمسين وأربعمائة قحطت بلادهم، فأمر ابن ياسين ضعفاءهم بالخروج إلى السوس وأخذ الزكاة، فخرج منهم نحو تسعمائة رجل، فقدموا سجلماسة، وطلبوا الزكاة، فجمعوا لهم شيئاً له قدر وعادوا.
ثم إن الصحراء ضاقت عليهم، وأرادوا إظهار كلمة الحق، والعبور إلى الأندلس ليجاهدوا الكفار، فخرجوا إلى السوس الأقصى، فجمع لهم أهل السوس وقاتلوهم، فانهزم المرابطون، وقتل عبد الله بن ياسين الفقيه، فعاد أبو بكر بن عمر فجمع جيشاً وخرج إلى السوس في ألفي راكب، فاجتمع من بلاد السوس وزناتة اثنا عشر ألف فارس فأرسل إليهم وقال: افتحوا لنا الطريق لنجوز إلى الأندلس ونجاهد أعداء الإسلام، فأبوا ذلك، فصلى أبو بكر، ودعا الله تعالى، وقال: اللهم إن كنا على الحق فانصرنا، وإلا فأرحنا من هذه الدنيا. ثم قاتلهم وصدق هو وأصحابه القتال، فنصرهم الله تعالى، وهزم أهل السوس ومن معهم وأكثر القتل فيهم، وغنم المرابطون أموالهم وأسلابهم، وقويت نفسه ونفوس أصحابه، وساروا إلى سجلماسة فنزلوا عليها، وطلبوا من أهلها الزكاة، فامتنعوا عليهم، وسار إليهم صاحب سجلماسة فقاتلهم فهزموه وقتلوه، ودخلوا سجلماسة واستولوا عليها، وكان ذلك سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
ذكر ولاية يوسف بن تاشفينلما ملك أبو بكر بن عمر سجلماسة استعمل عليها يوسف بن تاشفين اللمتموني، وهو من بني عمه الأقربين، ورجع إلى الصحراء، فأحسن يوسف السيرة في الرعية، ولم يأخذ منهم سوى الزكاة، فأقام بالصحراء مدة، ثم عاد أبو بكر بن عمر إلى سجلماسة، فأقام بها سنة، والخطبة والأمر والنهي له، واستخلف عليها ابن أخيه أبا بكر بن إبراهيم بن عمر، وجهز مع يوسف ابن تاشفين جيشاً من المرابطين إلى السوس ففتح على يديه.
وكان يوسف رجل ديناً، خيراً، حازماً، داهية، مجرباً، وبقوا كذلك إلى سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وتوفي أبو بكر بن عمر بالصحراء، فاجتمعت طوائف المرابطين على يوسف بن تاشفين، وملكوه عليهم، ولقبوه أمير المسلمين، وكانت الدولة في بلاد المغرب لزناتة الذين ثاروا في أيام الفتن، وهي دولة ردية، مذمومة، سيئة السيرة، لا سياسة ولاديانة، وكان أمير المسلمين وطائفته على نهج السنة، واتباع الشريعة، فاستغاث به أهل المغرب، فسار إليها وافتتحها حصناً حصناً، وبلداً بلداً بأيسر سعي، فأحبه الرعايا، وصلحت أحوالهم.
ثم إنه قصد موضع مدينة مراكش، وهو قاع صفصف، لا عمارة فيه، وهو موضع متوسط في بلاد المغرب كالقيراون في أفريقية، ومراكش تحت جبال المصامدة الذين هم أشد أهل المغرب قوة، وأمنعهم معقلاً، فاختط هناك مدينة مراكش ليقوى على قمع أهل تلك الجبال إن هموا بفتنة، واتخذها مقراً، فلم يتحرك أحد بفتنة، وملك البلاد المتصلة بالمجاز مثل سبتة، وطنجة، وسلا، وغيرها، وكثرت عساكره.
وخرجت جماعة قبيلة لمتونة وغيرهم، وضيقوا حينئذ لثامهم، وكانوا قبل أن يملكوا يتلثمون في الصحراء من الحر والبرد، كما يفعل العرب، والغالب على ألوانهم السمرة، فلما ملكوا البلاد ضيقوا اللثام.
وقيل كان سبب اللثام لهم أن طائفة من لمتونة خرجوا مغيرين على عدو لهم، فخالفهم العدو إلى بيوتهم، ولم يكن بها إلا المشايخ، والصبيان والنساء، فلما تحقق المشايخ أنه العدو أمروا النساء أن يلبسن ثياب الرجال، ويتلثمن، ويضيقنه، حتى لا يعرفن، ويلبسن السلاح. ففعلن ذلك، وتقدم المشايخ والصبيان أمامهن، واستدار النساء بالبيوت، فلما أشرف العدو رأى جمعاً عظيماً، فظنه رجالاً، فقال: هؤلاء عند حرمهم يقاتلون عنهن قتال الموت، والرأي أن نسوق النعم ونمضي، فإن اتبعونا قاتلناهم خارجاً عن حريمهم.

فبينما هم في جميع النعم من المراعي إذ قد أقبل رجال الحي، فبقي العدو بينهم وبين النساء، فقتلوا من العدو فأكثروا، وكان من قتل النساء أكثر، فمن ذلك الوقت جعلوا اللثام سنة يلازمونه، فلا يعرف الشيخ من الشاب، فلا يزيلونه ليلاً ولا نهاراً، ومما قي في اللثام:
قوم لهم درك العلى في حمير، ... وإن انتموا صنهاجةً بهم هم
لما حووا إحراز كل فضيلة، ... غلب الحياء عليهم فتلثموا
ذكر تبييض أبي الغنائم بن المحلبانفي هذه السنة بيض علاء الدين أبو الغنائم بن المحلبان بواسط، وخطب فيها للعلويين المصريين.
وكان سبب ذلك أن رئيس الرؤساء سعى له في النطر على واسط وأعمالها، فأجيب إلى ذلك، فانحدر إليها ، فصار عنده جماعة من أعيانها، وجند جماعة عظيمة، وتقوى بالبطائحيين، وحفر على الجانب الغربي من واسط خندقاً، وبنى عليه سوراً، وأخذ ضريبة من سفن أصعدت للخليفة، فسير لحربه عميد العراق أبو نصر، فاقتتلوا، فانهزم ابن المحلبان، وأسر من أصحابه عدد كثير، ووصل أبو نصر إلى السور، فقاتله العامة من على السور.
ثم تسلم البلد، وأمر أهله بطم الخندق، وتخريب السور، ثم أصعد إلى بغداد، فلما فارقها عاد إليها ابن فسانجس، ونهب قرية عبد الله، وقتل كل أعمى رآه بواسط، وأعاد خطبة المصريين، وأمر أهل كل محلة بعمارة ما يليهم من السور.
ومضى منصور بن الحسين إلى المدار، وأرسل إلى بغداد يطلب المدد، فكتب إليه عميد العراق ورئيس الرؤساء يأمرانه أن يقصد واسطاً هو وابن الهيثم، وأن يحاصرها، فأقبلا إليها فيمن معهما وحصروها في الماء والبر، وكان هذا الحصار سنة تسع وأربعين، فاشتد فيها الغلاء حتى بيع التمر، والخبز، وكروش البقر، كل خمسة أرطال بدينار، وإذا وجد الخبازى باعوه كل عشرين رطلاً بدينار.
ثم ضعفوا وضجروا من الحصار، فخرج ابن فسانجس ليقاتل، فلم يثبت، وقتل جماعة من أصحابه، وانهزموا إلى سور البلد، واستأمن جماعة من الواسطيين إلى منصور بن الحسين، وفارق ابن فسانجس واسطاً، ومضى إلى قصر ابن أخضر، وسار إليه طائفة من العسكر ليقاتلوه، فأدركوه بقرب النيل، فأسر هو وأهله، وحمل إلى بغداد، فدخلها في صفر سنة تسع وأربعين وشهر على جمل، وعليه قميص أحمر، وعلى رأسه طرطور بودع، وصلب.
ذكر الوقعة بين البساسيري وقريشفي هذه السنة، سلخ شوال، كانت وقعة بين البساسيري ومعه نور الدولة دبيس بن مزيد، وبين قريش بن بدران، صاحب الموصل، ومعه قتلمش، وهو ابن عم السلطان طغرلبك، وهو جد هؤلاء الملوك أولاد قلج أرسلان، ومعه أيضاً سهم الدولة أبو الفتح بن عمرو، وكانت الحرب عند سنجار، فاقتتلوا، فاشتد القتال بينهم، فانهزم قريش وقتلمش، وقتل من أصحابهما الكثير.
ولقي قتلمش من أهل سنجار العنت، وبالغوا في أذاه وأذى أصحابه، وجرح بن بدران، وأتى إلى نور الدولة جريحاً، فأعطاه خلعة كانت قد نقذت من مصر، فلبسها وصار في جملتهم، وساروا إلى الموصل، وخطبوا لخليفة مصر بها، وهو المستنصر بالله، وكانوا قد كانبوا الخليفة المصري بطاعتهم، فأرسل إليهم الخلع من مصر للبساسيري، ولنور الدولة دبيس بن مزيد، ولجابر بن ناشب، ولمقبل بن بدران أخي قريش، ولأبي الفتح بن ورام، ونصير بن عمر، وأبي الحسن بن عبد الرحيم، ومحمد بن حماد، وانضاف إليهم قريش بن بدران.
ذكر مسير السلطان طغرلبك إلى الموصللما طال مقام السلطان طغرلبك ببغداد، وعم الخلق ضرر عسكره، وضاقت عليهم مساكنهم، فإن العساكر نزلوا فيها، وغلبوهم على أقواتهم، وارتكبوا منهم كل محظور، أمر الخليفة القائم بأمر الله وزيره رئيس الرؤساء أن يكتب إلى عميد الملك الكندري، وزير السلطان طغرلبك، يستحضره، فإذا حضر قال له عن الخليفة ليعرف السلطان ما الناس فيه من الجور والظلم، ويعظه، ويذكره، فإن أزال ذلك، وفعل ما أمر الله به، وإلا فيساعد الخليفة الانتزاح عن بغداد ليبعد عن المنكرات.
فكتب رئيس الرؤساء إلى الكندري يستدعيه، فحضر، فأبلغه ما أمر به الخليفة، وخرج توقيع من الخليفة إلى السلطان فيه مواعظ، فمضى إلى السلطان وعرفه الحال، فاعتذر بكثرة العساكر، وعزه عن تهذيبهم وضبطهم، وأمر عميد الملك أن يبكر بالجواب إلى رئيس الرؤساء، ويعتذر بما ذكره.

فلما كان تلك الليلة رأى السلطان في منامه النبي، صلى الله عليه وسلم، عند الكعبة وكأنه يسلم على النبي وهو معرض عنه لم يلتفت إليه، وقال له: يحكمك الله في بلاده وعباده، فلا تراقبه ولا تستحي من جلاله، عز وجل، في سوء معاملتهم ، وتغير بإهماله عند الجوار عليهم! فاستيقظ فزعاً، وأحضر عميد الملك، وحدثه ما رأى، وأرسله إلى الخليفة يعرفه أنه يقابل ما رسم به بالسمع والطاعة، وأخرج الجند من دور العامة، وأمر أن يظهر من كان مختفياً، وأزال التوكيل عمن كان وكل به.
فبينما هو على ذلك، وقد عزم على الرحيل عن بغداد للتخفيف عن أهلها، وهو يتردد فيه، إذ أتاه الخبر بهذه الوقعة المتقدمة، فتجهز وسار عن بغداد عاشر ذي القعدة، ومعه خزائن السلاح، والمنجنيقات، وكان مقامه ببغداد ثلاثة عشر شهراً وأياماً لم يلق الخليفة فيها، فلما بلغوا أوانا نهبها العسكر، ونهبوا عكبرا وغيرهما.
ووصل إلى تكريت فحصرها، وبها صاحبها نصر بن علي بن خميس فنصب على القلعة علماً أسود، وبذل مالاً، فقبله السلطان، ورحل عنه إلى البوازيج ينتظر جمع العساكر ليسير إلى الموصل، فلما رحل عن تكريت توفي صاحبها، وكانت أمه أميرة بنت غريب بن مقن، فخافت أن يملك البلدة أخوه أبو الغشام، فقتلته وسارت إلى الموصل، فنزلت على دبيس بن مزيد، فتزوجها قريش بن بدران، ولما رحلت عن تكريت استخلفت بها أبا الغنائم ابن المحلبان، فراسل رئيس الرؤساء واستعطفه، فصلح ما بينهما، وسلم تكريت إلى السلطان ورحل إلى بغداد.
وأقام السلطان بالبوازيج إلى أن دخلت سنة تسع وأربعين فأتاه أخوه ياقوتي في العساكر، فسار بهم إلى الموصل، وأقطع مدينة بلد هزارسب بن بنكير، فأحفل أهل البلاد إلى بلد، فأراد العسكر نهبهم، فمنعهم السلطان وقال: لا يجوز أن تعرضوا إلى بلد هزارسب، فلجوا وقالوا: نريد الإقامة، فقال السلطان لهزارسب: إن هؤلاء قد احتجوا بالإقامة، فأخرج أهل البلد إلى معسكرك لتحفظ نفوسهم. ففعل ذلك، وأخرجهم إليه، فصار البلد بعد ساعة قفراً، وفرق فيهم هزارسب مالاً، وأركب من يعجز عن المشي، وسيرهم إلى الموصل ليأمنوا.
وتوجه السلطان إلى نصيبين، فقال له هزارسب: قد تمادت الأيام وأرى أن أختار من العسكر ألف فارس أسير بهم إلى البرية، فلعلي أنال من العرب غرضاً، فأذن له في ذلك، فسار إليهم، فلما قاربهم كمن لهم كمينين، وتقدم إلى الحلل، فلما رأوه قاتلوه، فصبر لهم ساعة، ثم انزاح بين أيديهم كالمنهزم، فتبعوه، فخرج عليهم الكمينان، فانهزمت العرب، وكثر فيهم القتل وحمل الأسرى إلى السلطان، فلما أحضروا بين يديه قال لهم: هل وطئت لكم أرضاً، وأخذت لكم بلداً؟ قالوا: لا! قال: فلم أتيتم بحربي؟ وأحضر الفيل فقتلهم، إلا صبياً أمرد، فلما امتنع الفيل من قتله عفا عنه السلطان.
ذكر عود نور الدولة دبيس بن مزيد وقريش ابن بدران إلى طاعة طغرلبكلما ظفر هزارسب بالعرب وعاد إلى السلطان طغرلبك، أرسل إليه نور الدولة وقريش يسألانه أن يتوسط حالهما عند السلطان، ويصلح أمرهما معه، فسعى في ذلك، واستعطف السلطان عليهما، فقال: أما هما فقد عفوت عنهما، وأما البساسيري فذنبه إلى الخليفة، ونحن متبعون أمر الخليفة فيه، فرحل البساسيري عند ذلك إلى الرحبة، وتبعه الأتراك البغداديون، ومقبل بن المقلد وجماعة من عقيل.
وطلب دبيس وقريش أن يرسل طغرلبك إليهما أبا الفتح بن ورام، فأرسله، فعاد من عندهما وأخبر بطاعتهما، وأنهما يطلبان أن يمضي هزارسب إليهما ليحلفهما، فأمره السلطان بالمضي إليهما، فسار واجتمع بهما، وأشار عليهما بالحضور عند السلطان، فخافا وامتنعا، فأنفذ قريش أبا السداد هبة الله بن جعفر، وأنفذ دبيس ابنه بهاء الدولة منصوراً، فأنزلهما السلطان وأكرمهما وكتب لهما بأعمالهما، وكان لقريش نهر الملك، وبادوريا، والأنبار، وهيت، ودجيل، ونهر بيطر، وعكبرا، وأوانا، وتكريت، والموصل، ونصيبين، وأعاد الرسل إلى أصحابهم.
ذكر قصد السلطان ديار بكر

وما فعله بسنجار

لما فرغ طغرلبك من العرب سار إلى ديار بكر التي هي لابن مروان، وكان ابن مروان يرسل إليه كل يوم الهدايا والثلج، فسار السلطان إلى جزيرة ابن عمر فحصرها، وهي لابن مروان، فأرسل إليه ابن مروان يبذل له مالاً يصلح حاله به، ويذكر له ما هو بصدده من حفظ ثغور المسلمين، وما يعانيه من جهاد الكفار، ولما كان السلطان يحاصر الجزيرة سار جماعة من الجيش إلى عمر أكمن، وفيه أربعمائة راهب، فذبحوا منهم مائة وعشرين راهباً، وافتدى الباقون أنفسهم بستة مكاكيك ذهباً وفضة.
ووصل إبراهيم ينال أخو السلطان إليه، فلقيه الأمراء والناس كلهم، وحملوا إليه الهدايا، وقال لعميد الملك الوزير: من هؤلاء العرب حتى تجعلهم نظراء السلطان، وتصلح بينهم؟ فقال: مع حضورك يكون ما تريد، فأنت نائب السلطان.
ولما وصل إبراهيم ينال أرسل هزارسب إلى نور الدولة بن مزيد وقريش يعرفهما وصوله، ويحذرهما منه، فسارا من جبل سنجار إلى الرحبة، فلم يلتفت البساسيري إليهما، فانحدر، نور الدولة إلى بلدة بالعراق، وأقام قريش عند البساسيري بالرحبة ومعه ابنه مسلم بن قريش.
وشكا قتلمش ابن عم السلطان إليه ما لقي من أهل سنجار في العام الماضي لما انهزم، وأنهم قتلوا رجالاً، فسير العساكر إليهم، فأحاطت بهم، وصعد أهلها على السور وسبوا، وأخرجوا جماجم من كانوا قتلوا، وقلانسهم، وتركوها على رؤوس القصب، ففتحها السلطان عنوة، وقتل أميرها مجلى بن مرجا وخلقاً كثيراً من رجالها، وسبى نساءهم، وخربت، وسأل إبراهيم ينال في الباقين فتركهم، فسلمها هي والموصل والبلاد إلى إبراهيم ينال، ونادى في عسكره: من تعرض لنهب صلبته، فكفوا عنهم.
وعاد السلطان إلى بغداد، على ما نذكره، كان ينبغي أن نذكر هذه الحادثة سنة تسع وأربعين وإنما ذكرناها هذه السنة لأن الابتداء بها كان فيها، فأتبعنا بعضها بعضاً، وذكرنا أنها كانت سنة تسع وأربعين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة انقطعت الطرق عن العراق لخوف النهب، فغلت الأسعار، وكثر الغلاء، وتعذرت الأقوات وغيرها من كل شيء، وأكل الناس الميتة، ولحقهم وباء عظيم، فكثر الموت حتى دفن الموتى بغير غسل ولا تكفين، فبيع رطل لحم بقيراط، وأربع دجاجات بدينار، ورطلا شراب بدينار، وسفرجلة بدينار، ورمانة بدينار، وكل شيء كذلك.
وكان بمصر أيضاً وباء شديد، فكان يموت في اليوم ألف نفس، ثم عم ذلك سائر البلاد من الشام، والجزيرة، والموصل، والحجاز، واليمن وغيرها.
وفيها، في جمادى الأولى، ولدت جارية ذخيرة الدين بن الخليفة، الذي ذكرنا وفاته قبل، ولداً ذكراً، ويسمى عبد الله، وكني أبا القاسم، وهو المقتدي.
وفيها، في العشر الثاني من جمادى الآخرة، ظهر وقت السحر في السماء ذؤابة بيضاء طولها نحو عشرة أذرع في رأي العين، وعرضها ذراع، وبقيت كذلك إلى نصف رجب واضمحلت.
وفيها أمر الخليفة بأن يؤذن بالكرخ والمشهد وغيرهما: الصلاة خير من النوم، وأن يتركوا: حي على خير العمل، ففعلوا ما أمرهم به خوف السلطنة وقوتها.
وفيها توفي علي بن أحمد بن علي أبو الحسن المؤدب المعروف بالفالي، من أهل مدينة فالة بالقرب من إيذج، روى الحديث والأدب، وله شعر حسن، فمنه قوله:
تصدر لتدريس كل مهوس ... بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت، حتى بدا من هزالها ... كلاها، وحتى سامها كل مفلس
وفي هذه السنة توفي محمد بن الحسين بن محمد بن سعدون أبو طاهر البزاز الموصلي، ولد بالموصل، ونشأ ببغداد، وروى عن ابن حبابة، والدارقطني، وابن بطة وغيرهم، وكان موته بمصر، وفيها توفي أميرك الكاتب البيهقي في شوال وكان من رجال الدنيا، ومحمد بن عبد الواحد بن عمر بن الميمون الدارمي الفقيه الشافعي.
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة

ذكر عود السلطان طغرلبك إلى بغداد

لما سلم السلطان طغرلبك الموصل وأعمالها إلى أخيه إبراهيم ينال عاد إلى بغداد، فلما وصل إلى القفص خرج رئيس الرؤساء إلى لقائه، فلما قارب القفص لقيه عميد الملك، وزير السلطان، في جماعة من الأمراء، وجاء رئيس الرؤساء إلى السلطان فأبلغه سلام الخليفة واستيحاشه، فقبل الأرض، وقدم رئيس الرؤساء جاماً من ذهب فيه جواهر وألبسة فرجية جاءت معه من عند الخليفة، ووضع العمامة على مخدته، فخدم السلطان، وقبل الأرض، ووصل إلى بغداد، ولم يمكن أحداً من النزول في دور الناس، وطلب السلطان الاجتماع بالخليفة، فأذن له في ذلك.
وجلس الخليفة يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة جلوساً عاماً، وحضر وجوه عسكر السلطان وأعيان بغداد، وحضر السلطان في الماء، وأصحابه حوله في السميريات، فلما خرج من السميرية ركب فرساً من مراكب الخليفة، فحضر عند الخليفة، والخليفة على سرير عال من الأرض نحو سبعة أذرع، وعليه بردة النبي، صلى الله عليه وسلم، وبيده القضيب الخيزران، فقبل السلطان الأرض، وقبل يده، وأجلس على كرسي، فقال الخليفة لرئيس الرؤساء: قل له إن أمير المؤمنين شاكر لسعيك، حامد لفعلك، مستأنس بقربك، وقد ولاك جميع ما ولاه الله من بلاده، ورد عليك مراعاة عباده، فاتق الله فيما ولاك، وأعرف نعمته عليك في ذلك، واجتهد في نشر العدل، وكف الظلم، وإصلاح الرعية.
فقبل الأرض، وأمر الخليفة بإفاضة الخلع عليه، فقام إلى موضع لبسها فيه وعاد وقبل يد الخليفة ووضعها على عينيه، وخاطبه الخليفة بملك المشرق والمغرب، وأعطي العهد، وخرج، وأرسل إلى الخليفة خدمة كثيرة منها خمسون ألف دينار، وخمسون مملوكاً أتراكاً من أجود ما يكون، ومعهم خيولهم وسلاحهم، إلى غير ذلك من الثياب وغيرها.
ذكر الحرب بين هزارسب وفولاذكان السلطان قد ضمن هزارسب بن بنكير بن عياض البصرة، وأرجان، وخوزستان، وشيراز، فتجرد رسولتكين ابن عم السلطان ومعه فولاذ لهزارسب، وقصدا أرجان ونهباها.
وكان هزارسب مع طغرلبك بالموصل والجزيرة، فلما فرغ السلطان من تلك الناحية رد هزارسب إلى بلاده، وأمره بقتال رسولتكين وفولاذ، فسار إلى البصرة وصادر بها تاج الدين بن سخطة العلوي وابن سمحا اليهودي بمائة ألف وعشرين ألف دينار، وسار منها إلى قتال فولاذ ورسولتكين فلقيهما، وقاتلهما قتالاً شديداً، فقتل فولاذ، وأسر رسولتكين ابن عم السلطان، فأبقى عليه هزارسب، فسأل رسولتكين هزارسب ليرسله إلى دار الخلافة ليشفع فيه الخليفة، ففعل ذلك.
ووصل بغداد مع أصحاب هزارسب، فاجتاز بدار رئيس الرؤساء، فهجم ودخلها، واستدعى طعاماً إيجازاً للحرمة، فأمر الخليفة بإحضار عميد الملك وإعلامه بحال رسولتكين ليخاطب السلطان في أمره، فلما حضر عميد الملك وقيل له ذلك قال: إن السلطان يقول إن هذا لا حرمة له يستحق بها المراعاة، وقد قابل إحساني بالعصيان، ويجب تسليمه ليتحقق الناس منزلتي، وتتضاعف هيبتي، فاستقر الأمر، بعد مراجعة، على أن يقيده، وخرج توقيع الخليفة: إن منزلة ركن الدين، يعني طغرلبك، عندنا اقتضت ما لم نفعله مع غيره لأنه لم تجر العادة بتقييد أحد في الدار العزيز، ولا بد أن يكون الرضا في جواب ما فعل، فراسله رئيس الرؤساء حتى رضي.
وقد كانت دار الخلافة أيام بني بويه ملجأ لكل خائف منهم، من وزير وعميد وغير ذلك، ففي الأيام السلجوقية سلك غير ذلك، وكان أول شيء فعلوه هذا.
ذكر القبض على الوزير اليازوري بمصرفي هذه السنة، في ذي الحجة، قبض بمصر على الوزير أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري، وقرر عليه أموال عظيمة منه ومن أصحابه، ووجد له مكاتبات إلى بغداد.
وكان في ابتداء أمره قد حج، فلما قضى حجه أتى المدينة، وزار مسجد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسقط على منكبيه قطعة من الخلوق الذي على حائط الحجرة، فقال له أحد القوام: أيها الشيخ! إني أبشرك، ولي الحباء والكرامة إذ بلغته، أنك تلي ولاية عظيمة، وهذا الخلوق دليل على ذلك..
فلم يحل عليه الحول حتى ولي الوزارة، وأحسن إلى ذلك الرجل وراعاه.
وكان يتفقه على مذهب أبي حنيفة، وكان قاضياً بالرملة، يكرم العلماء، ويحسن إليهم ويجالسهم، وكان ابتداء أمره كابتداء أمر رئيس الرؤساء: الشهادة، والقضاء، وكانت سعادتهما متفقة، ونهايتهما متقاربة.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة زاد الغلاء ببغداد والعراق حتى بيعت كارة الدقيق السميد بثلاثة عشر ديناراً، والكارة من الشعير والذرة بثمانية دنانير، وأكل الناس الميتة والكلاب وغيرها، وكثر الوباء حتى عجز الناس عن دفن الموتى، فكانوا يجعلون الجماعة في الحفيرة.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري، الأديب، وله نحو ست وثمانين سنة، وعلمه أشهر من أن يذكر، إلا أن أكثر الناس يرمونه بالزندقة، وفي شعره ما يدل على ذلك، حكي أنه قال يوماً لأبي يوسف القزويني: ما هجوت أحداً، فقال له القزويني: هجوت الأنبياء، فتغير وجهه وقال: ما أخاف أحداً سواك.
وحكى عنه القزويني أنه قال: ما رأيت شعراً في مرثية الحسين بن علي يساوي أن يحفظ، فقال القزويني: بلى، قد قال بعض أهل سوادانا:
رأس ابن بنت محمد ووصيه ... للمسلمين على قناة يرفع
والمسلمون بمنظر وبمسمع، ... لا جازع منهم، ولا متفجع
أيقظت أجفاناً وكنت لها كرى، ... وأنمت عيناً لم تكن بك تهجع
كحلت بمصرعك العيون عماية، ... وأصم نعيك كل أذن تسمع
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مضجع ولخط قبرك موضع
وفيها أصلح دبيس بن علي بن مزيد ومحمود بن الأخرم الخفاجي حالهما مع السلطان، فعاد دبيس إلى بلاده فوجدها خراباً لكثرة من مات بها من الوباء الجارف، ليس بها أحد.
وفيها كثر الوباء ببخارى حتى قيل إنه مات في يوم واحد ثمانية عشر ألف إنسان من أعمال بخارى، وهلك في هذه الولاية في مدة الوباء ألف ألف وستمائة ألف وخمسون ألفاً، وكان بسمرقند مثل ذلك، ووجد ميت، وقد دخل تركي يأخذ لحافاً عليه، فمات التركي وطرف اللحاف بيده، وبقيت أموال الناس سائبة.
وفيها نهبت دار أبي جعفر الطوسي بالكرخ، وهو فقيه الإمامية، وأخذ ما فيها، وكان قد فارقها إلى المشهد الغربي.
وفيها، في صفر، توفي أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني، مقدم أصحاب الحديث بخراسان، وكان فقيهاً، خطيباً، إماماً، في عدة علوم.
وفيها، في ربيع الأول، توفي اياز بن ايماق أبو النجم غلام محمود بن سبكتكين، وأخباره معه مشهورة.
وفيها مات أبو أحمد عدنان ابن الشريف الرضي نقيب العلويين.
وفيها توفي أبو الحسن عبد الوهاب بن أحمد بن هارون الغساني، المعروف بابن الجندي.
ثم دخلت سنة خمسين وأربعمائة

ذكر مفارقة إبراهيم ينال الموصل
واستيلاء البساسيري عليها وأخذها منه
في هذه السنة فارق إبراهيم ينال الموصل نحو بلاد الجبل، فنسب السلطان طغرلبك رحيله إلى العصيان، فأرسل إليه رسولاً يستدعيه، وصحبته الفرجية التي خلعها عليه الخليفة، وكتب الخليفة إليه أيضاً كتاباً في المعنى، فرجع إبراهيم إلى السلطان، وهو ببغداد، فخرج الوزير الكندري لاستقباله، وأرسل الخليفة إليه الخلع.
ولما فارق إبراهيم الموصل قصدها البساسيري، وقريش بن بدران، وحاصراها، فملكا البلد ليومه، وبقيت القلعة، وبها الخازن، وأردم، وجماعة من العسكر، فحاصراها أربعة أشهر حتى أكل من فيها دوابهم، فخاطب ابن موسك صاحب إربل قريشاً حتى أمنهم فخرجوا، فهدم البساسيري القلعة، وعفى أثرها.
وكان السلطان قد فرق عسكره في النوروز، وبقي جريدة في ألفي فارس حين بلغه الخبر، فسار إلى الموصل فلم يجد بها أحداً، وكان قريش والبساسيري قد فارقاها، فسار السلطان إلى نصيبين ليتتبع آثارهم ويخرجهم من البلاد، ففارقه أخوه إبراهيم ينال، وسار نحو همذان، فوصلها في السادس والعشرين من رمضان سنة خمسين، وكان قد قيل إن المصريين كاتبوه والبساسيري قد استماله وأطمعه في السلطنة والبلاد، فلما عاد إلى همذان سار السلطان في أثره.
ذكر الخطبة بالعراق للعلوي المصري
وما كان إلى قتل البساسيري
لما عاد إبراهيم ينال إلى همذان سار طغرلبك خلفه، ورد وزيره عميد الملك الكندري وزوجته إلى بغداد.

وكان مسيره من نصيبين في منتصف شهر رمضان، ووصل إلى همذان، وتحصن بالبلد، وقاتل أهلها بين يديه، وأرسل إلى الخاتون زوجته وعميد الملك الكندري يأمرهما باللحاق به، فمنعهما الخليفة من ذلك تمسكاً بهما، وفرق غلالاً كثيرة في الناس، وسار من كان ببغداد من الأتراك إلى السلطان بهمذان، وسار عميد الملك إلى دبيس بن مزيد فاحترمه وعظمه، ثم سار من عنده إلى هزارسب، وسارت خاتون إلى السلطان بهمذان، فأرسل الخليفة إلى نور الدولة دبيس بن مزيد يأمره بالوصول إلى بغداد، فورد إليها مائة فارس، ونزل في النجمي ثم عبر إلى الأتانين.
وقوي الإرجاف بوصول البساسيري، فلما تحقق الخليفة وصوله إلى هيت أمر الناس بالعبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فأرسل دبيس بن مزيد إلى الخليفة وإلى رئيس الرؤساء يقول: الرأي عندي خروجكما من البلد معي، فإنني أجتمع أنا وهزارسب فإنه بواسط على دفع عدوكما.
فأجيب ابن مزيد بأن يقيم حتى يقع الفكر في ذلك، فقال: العرب لا تطيعني على المقام، وأنا أتقدم إلى ديالى! فإذا انحدرتم سرت في خدمتكم. وسار وأقام بديالى ينتظرهما، فلم ير لذلك أثراً، فسار إلى بلاده.
ثم إن البساسيري وصل إلى بغداد يوم الأحد ثامن ذي القعدة، ومعه أربعمائة غلام على غاية الضر والفقر، وكان معه أبو الحسن بن عبد الرحيم الوزير، فنزل البساسيري بمشرعة الروايا، ونزل قريش بن بدران، وهو في مائتي فارس، عند مشرعة باب البصرة، وركب عميد العراق، ومعه العسكر والعوام، وأقاموا بإزاء عسكر البساسيري، وعادوا، وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، وأمر فأذن بحي على خير العمل، وعقد الجسر، وعبر عسكره إلى الزاهر وخيموا فيه، وخطب في الجمعة من وصوله بجامع الرصافة للمصري، وجرى بين الطائفتين حروب في أثناء الأسبوع.
وكان عميد العراق يشير على رئيس الرؤساء بالتوقف عن المناجزة، ويرى المحاجزة ومطاولة الأيام انتظاراً لما يكون من السلطان، ولما يراه من المصلحة بسبب ميل العامة إلى البساسيري، أما الشيعة فللمذهب، وأما السنة فلما فعل بهم الأتراك.
وكان رئيس الرؤساء لقلة معرفته بالحرب ولما عنده من البساسيري يرى المبادرة إلى الحرب، فاتفق أن في بعض الأيام حضر القاضي الهمذاني عند رئيس الرؤساء واستأذنه في الحرب، وضمن به قتل البساسيري، فأذن له من غير علم عميد العراق، فخرج ومعه الخدم، والهاشميون، والعجم، والعوام، إلى الحلبة وأبعدوا، البساسيري يستجرهم، فلما أبعدوا حمل عليهم فعادوا منهزمين، وقتل منهم جماعة، ومات في الزحمة جماعة من الأعيان، ونهب باب الأزج، وكان رئيس الرؤساء واقفاً دون الباب، فدخل الدار، وهرب كل من في الحريم.
ولما بلغ عميد العراق فعل رئيس الرؤساء لطم على وجهه كيف استبد برأيه ولا معرفة له بالحرب. ورجع البساسيري إلى معسكره، واستدعى الخليفة عميد العراق، وأمره بالقتال على سور الحريم، فلم يرعهم إلا الزعقات، وقد نهب الحريم، وقد دخلوا بباب النوبي، فركب الخليفة لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة، فرأى النهب قد وصل إلى باب الفردوس من داره، فرجع إلى ورائه، ومضى نحو عميد العراق، فوجده قد استأمن إلى قريش، فعاد وصعد المنظرة، صاح رئيس الرؤساء: يا علم الدين! يعني قريشاً، أمير المؤمنين يستدنيك، فدنا منه، فقال له رئيس الرؤساء: قد أنالك الله منزلة لم ينلها أمثالك، وأمير المؤمنين يستذم منك على نفسه، وأهله، وأصحابه بذمام الله، وذمام رسوله، صلى الله عليه وسلم، وذمام العربية.
فقال: قد أذم الله تعالى له، فقال: ولي؟ ولمن معه؟ قال: نعم، وخلع قلنسوته فأعطاها الخليفة، وأعطى مخصرته رئيس الرؤساء ذماماً، فنزل إليه الخليفة ورئيس الرؤساء من الباب المقابل لباب الحلبة، وصارا معه.

فأرسل إليه البساسيري: أتخالف ما استقر بيننا، وتنقض ما تعاهدنا عليه؟ فقال قريش: لا، وكانا قد تعاهدا على المشاركة في الذي يحصل لهما، وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر بشيء، فاتفقا على أن يسلم قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري لأنه عدوه، ويترك الخليفة عنده، فأرسل قريش رئيس الرؤساء إلى البساسيري، فلما رآه قال: مرحباً بمهلك الدول، ومخرب البلاد! فقال: العفو عند المقدرة. فقال البساسيري: فقد قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان، وركبت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي، فكيف أعفو أنا، وأنا صاحب سيف؟ وأما الخليفة فإنه حمله قريش راكباً إلى معسكره، وعليه السواد والبردة، وبيده السيف، وعلى رأسه اللواء، وأنزله في خيمة، وأخذ أرسلان خاتون زوجة الخليفة، وهي ابنة أخي السلطان طغرلبك، فسلمها إلى أبي عبد الله بن جردة ليقوم بخدمتها.
ونهبت دار الخلافة وحريمها أياماً، وسلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارش بن المجلي، وهو رجل فيه دين، وله مروءة، فحمله في هودج وسار به إلى حديثة عانة فتركه بها، وسار من كان مع الخليفة من خدمه وأصحابه إلى السلطان طغرلبك مستنفرين.
فلما وصل الخليفة إلى الأنبار شكا البرد، فأنفذ إلى مقدمها يطلب منه ما يلبسه، فأرسل له جبة فيها قطن ولحافاً.
وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر، وعبر إلى المصلى بالجانب الشرقي، وعلى رأسه الألوية المصرية، فأحسن إلى الناس، وأجرى الجرايات على المتفقهة، ولم يتعصب لمذهب، وأفرد لوالدة الخليفة القائم بأمر الله داراً، وكانت قد قاربت تسعين سنة، وأعطاها جاريتين من جواريها للخدمة، وأجرى لها الجراية، وأخرج محمود بن الأخرم إلى الكوفة وسقى الفرات أميراً.
وأما رئيس الرؤساء فأخرجه البساسيري، آخر ذي الحجة، من محبسه بالحريم الطاهري مقيداً، وعليه جبة صوف، وطرطور من لبد أحمر، وفي رقبته مخنقة جلود بعير، وهو يقرأ: " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء " .
وبصق أهل الكرخ في وجهه عند اجتيازه بهم، لأنه كان يتعصب عليهم، وشهر إلى حد النجمي، وأعيد إلى معسكر البساسيري، وقد نصبت له خشبة، وأنزل عن الجمل، وألبس جلد ثور وجعلت قرونه على رأسه، وجعل في فكيه كلابان من حديد، وصلب فبقي يضطرب إلى آخر النهار ومات.
وكان مولده في شعبان سنة سبعين وثلاثمائة، وكانت شهادته عند ابن ماكولا سنة أربع عشرة وأربعمائة، وكان حسن التلاوة للقرآن، جيد المعرفة بالنحو.
وأما عميد العراق فقتله البساسيري، وكان فيه شجاعة، وله فتوة، وهو الذي بنى رباط شيخ الشيوخ.
ولما خطب البساسيري للمستنصر العلوي بالعراق أرسل إليه بمصر يعرفه ما فعل، وكان الوزير هناك أبا الفرج ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب من البساسيري وفي نفسه ما فيها، فوقع فيه، وبرد فعله، وخوف عاقبته، فتركت أجوبته مدة، ثم عادت بغير الذي أمله ورجاه.
وسار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكهما، وأراد قصد الأهواز، فأنفذ صاحبها هزارسب بن بنكير إلى دبيس بن مزيد يطلب منه أن يصلح الأمر على مال يحمله إليه، فلم يجب إلى ذلك، وقال: لا بد من الخطبة للمستنصر، والسكة باسمه، فلم يفعل هزارسب ذلك ورأى البساسيري أن طغرلبك يمد هزارسب بالعساكر، فصالحه، وأصعد إلى واسط في مستهل شعبان من سنة إحدى وخمسين، وفارقه صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، ولحق بهزارسب، وكان قد ولي بعد أبيه على ما نذكره.

وأما أحوال السلطان طغرلبك، وإبراهيم ينال، فإن السلطان كان في قلة من العسكر، كما ذكرناه، وكان إبراهيم قد اجتمع معه كثير من الأتراك، وحلف لهم أنه لا يصالح أخاه طغرلبك، ولا يكلفهم المسير إلى العراق، وكانوا يكرهونه لطول مقامهم وكثرة إخراجاتهم، فلم يقو به طغرلبك، وأتى إلى إبراهيم محمد وأحمد ابنا أخيه أرتاش في خلق كثير، فازداد بهم قوة، وازداد طغرلبك ضعفاً، فانزاح من بين يديه إلى الري، وكاتب ألب أرسلان، وياقوتي، وقاروت بك، أولاد أخيه داود، وكان داود قد مات، على ما نذكره سنة إحدة وخمسين إن شاء الله تعالى، وملك خراسان بعده ابنه ألب أرسلان إليهم طغرلبك يستدعيهم إليه، فجاؤوا بالعساكر الكثيرة، فلقي إبراهيم بالقرب من الري، فانهزم إبراهيم ومن معه وأخذ أسيراً هو ومحمد وأحمد ولدا أخيه، فأمر به فخنق بوتر قوسه تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين، وقتل ولدا أخيه معه.
وكان إبراهيم قد خرج على طغرلبك مراراً، فعفا عنه، وإنما قتله في هذه الدفعة لأنه علم أن جميع ما جرى على الخليفة كان بسببه، فلهذا لم يعف عنه، ولما قتل إبراهيم أرسل طغرلبك إلى هزارسب بالأهواز يعرفه ذلك، وعنده عميد الملك الكندري، فسار إلى السلطان، فجهزه هزارسب تجهيز مثله.
ذكر عود الخليفة إلى بغدادلما فرغ السلطان من أمر أخيه إبراهيم ينال عاد يطلب العراق، ليس له هم إلا إعادة القائم بأمر الله إلى داره، فأرسل إلى البساسيري وقريش في إعادة الخليفة إلى داره على أن لا يدخل طغرلبك العراق، ويقنع بالخطبة والسكة، فلم يجب البساسيري إلى ذلك، فرحل طغرلبك إلى العراق، فوصلت مقدمته إلى قصر شيرين، فوصل الخبر إلى بغداد، فانحدر حرم البساسيري وأولاده، ورحل أهل الكرخ بنسائهم وأولادهم في دجلة وعلى الظهر، ونهب بنو شيبان الناس، وقتلوا كثيراً منهم، وكان دخول البساسيري وأولاده بغداد سادس ذي القعدة سنة خمسين وخرجوا منها سادس ذي القعدة سنة إحدى وخمسين.
وثار أهل باب البصرة إلى الكرخ فنهبوه، وأحرقوا درب الزعفران، وهو من أحسن الدروب وأعمرها، ووصل طغرلبك إلى بغداد، وكان قد أرسل من الطريق الإمام أبا بكر أحمد بن محمد بن أيوب المعروف بابن فورك، إلى قريش بن بدران يشكره على فعله بالخليفة، وحفظه على صيانته ابنة أخيه امرأة الخليفة، ويعرفه أنه قد أرسل أبا بكر بن فورك للقيام بخدمة الخليفة، وإحضاره، وإحضار أرسلان خاتون ابنة أخيه امرأة الخليفة.
ولما سمع قريش بقصد طغرلبك العراق أرسل إلى مهارش يقول له: أودعنا الخليفة عندك ثقة بإمانتك، لينكف بلاء الغز عنا، والآن فقد عادوا، وهم عازمون على قصدك، فارحل أنت وأهلك إلى البرية، فإنهم إذا علموا أن الخليفة عندنا في البرية لم يقصدوا العراق، ونحكم عليهم بما نريد. فقال مهارش: كان بيني وبين البساسيري عهود ومواثيق نقضها، وإن الخليفة قد استخلفني بعهود ومواثيق لا مخلص منها.
وسار مهارش ومعه الخليفة حادي عشر ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وأربعمائة إلى العراق، وجعلا طريقهما على بلد بدر بن مهلهل ليأمنا من يقصدهما، ووصل ابن فورك إلى حلة بدر بن مهلهل، وطلب منه أن يوصله إلى مهارش، فجاء إنسان سوادي إلى بدر وأخبره أنه رأى الخليفة ومهارشاً بتل عكبرا، فسر بذلك بدر ورحل ومعه ابن فورك، وخدماه، وحمل له بدر شيئاً كثيراً، وأوصل إليه ابن فورك رسالة طغرلبك وهدايا كثيرة أرسلها معه.
ولما سمع طغرلبك بوصول الخليفة إلى بلد بدر أرسل وزيره الكندري، والأمراء، والحجاب، وأصحبهم الخيام العظيمة، والسرادقات، والتحف من الخيل بالمراكب الذهب وغير ذلك، فوصلوا إلى الخليفة وخدموه ورحلوا، ووصل الخليفة إلى النهروان في الرابع والعشرين من ذي القعدة، وخرج السلطان إلى خدمته، فاجتمع به، وقبل الأرض بين يديه، وهنأه بالسلامة، وأظهر الفرح بسلامته، واعتذر من تأخره بعصيان إبراهيم، وأنه قتله عقوبة لما جرى منه من الوهن على الدولة العباسية، وبوفاة أخيه داود بخراسان، وأنه اضطر إلى التريث حتى يرتب أولاده بعده في المملكة، وقال: أنا أمضي خلف هذا الكلب، يعني البساسيري، وأقصد الشام، وأفعل في حق صاحب مصر ما أجازي به فعله!

وقلده الخليفة بيده سيفاً، وقال: لم يبق مع أمير المؤمنين من داره سواه، وقد تبرك به أمير المؤمنين، فكشف غشاء الخركاة حتى رآه الأمراء، فخدموا وانصرفوا.
ولم يبق ببغداد من أعيانها من يستقبل الخليفة غير القاضي أبي عبد الله الدامغاني وثلاثة نفر من الشهود. وتقدم السلطان في المسير، فوصل إلى بغداد، وجلس في باب النوبي مكان الحاجب، ووصل الخليفة فقام طغرلبك وأخذ بلجام بغلته، حتى صار على باب حجرته، وكان وصوله يوم الاثنين لخمس بقين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وعبر السلطان إلى معسكره، وكانت السنة مجدبة، ولم ير الناس فيها مطراً، فجاء تلك الليلة وهنأ الشعراء الخليفة والسلطان بهذا الأمر، ودام البرد بعد قدوم الخليفة نيفاً وثلاثين يوماً، ومات بالجوع والعقوبة عدد لا يحصى، وكان أبو علي بن شبل ممن هرب من طائفة الغز، فوقع به غيرهم فأخذوا ماله، فقال:
خرجنا من قضاء الله خوفاً، ... فكان فرارنا منه إليه
وأشقى الناس ذو عزم توالت ... مصائبه عليه، من يديه
تضيق عليه طرق العذر منها ... ويقسو قلب راحمه عليه
ذكر قتل البساسيريأنفذ السلطان بعد استقرار الخليفة في داره جيشاً عليهم خمارتكين الطغراني في ألفي فارس نحو الكوفة، فأضاف إليهم سرايا بن منيع الخفاجي، وكان قد قال السلطان: أرسل معي هذه العدة حتى أمضي إلى الكوفة وأمنع البساسيري من الإصعاد إلى الشام.
وسار السلطان طغرلبك في أثرهم، فلم يشعر دبيس بن مزيد والبساسيري إلا والسرية قد وصلت إليهم ثامن ذي الحجة من طريق الكوفة، بعد أن نهبوها، وأخذ نور الدولة دبيس بن مزيد رحله جميعه وأحدره إلى البطيحة، وجعل أصحاب نور الدولة دبيس يرحلون بأهليهم، فيتبعهم الأتراك، فتقدم نور الدولة ليرد العرب إلى القتال، فلم يرجعوا، فمضى.
ووقف البساسيري في جماعته، وحمل عليه الجيش، فأسر من أصحابه أبو الفتح بن ورام، وأسر منصور وبدران وحماد، بنو نور الدولة دبيس، وضرب فرس البساسيري بنشابة، وأراد قطع تجفافه لتسهل عليه النجاة فلم ينقطع، وسقط عن الفرس، ووقع في وجهه ضربة، ودل عليه بعض الجرحى، فأخذه كمشتكين دواتي عميد الملك الكندري وقتله، وحمل رأسه إلى السلطان، ودخل الجند في الظعن، فساقوه جميعه، وأخذت أموال أهل بغداد وأموال البساسيري مع نسائه وأولاده، وهلك من الناس الخلق العظيم، وأمر السلطان بحمل رأس البساسيري إلى دار الخلافة، فحمل إليها، فوصل منتصف ذي الحجة سنة إحدى وخمسين، فنظف وغسل وجعل على قناة وطيف به، وصلب قبالة باب النوبي.
وكان في أسر البساسيري جماعة من النساء المتعلقات بدار الخلافة، فأخذن، وأكرمن، وحملن إلى بغداد.
ومضى نور الدولة دبيس إلى البطيحة، ومعه زعيم الملك أبو الحسن عبد الرحيم، وكان من حق هذه الحوادث المتأخرة أن تذكر سنة إحدى وخمسين، وإنما ذكرناها هاهنا لأنها كالحادثة الواحدة يتلو بعضها بعضاً.
وكان البساسيري مملوكاً تركياً من مماليك بهاء الدولة بن عضد الدولة، تقلبت به الأمور حتى بلغ هذا المقام المشهور، واسمه أرسلان، وكنيته أبو الحارث، وهو منسوب إلى بسا مدينة بفارس، والعرب تجعل عوض الباء فاء فتقول فسا، والنسبة فساوي، ومنها أبو علي الفارسي النحوي، وكان سيد هذا المملوك أولاً من بسا، فقيل به البساسيري لذلك، وجعل العرب الباء فاء فقيل فساسيري.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أقر السلطان طغرلبك مملان بن هسوذان بن مملان على ولاية أبيه بأذربيجان.
وفيها مات شهاب الدولة أبو الفوارس منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة، عند خوزستان، واجتمعت عشيرته على ولده صدقة.
وفيها توفي الملك الرحيم، آخر ملوك بني بويه، بقلعة الري، وكان طغرلبك سجنه أولاً بقلعة السيروان، ثم نقله إلى قلعة الري فتوفي بها.
وفيها عصى أبو علي بن أبي الجبر بالبطائح، وكان متقدم بعض نواحيها، فأرسل إليه طغرلبك جيشاً مع عميد العراق أبي نصر، فهزمهم أبو علي.
وفيها يوم النوروز أرسل السلطان مع وزيره عميد الملك إلى الخليفة عشرة آلاف دينار سوى ما أضيف إليها من الأعلاق النفيسة.
وفيها، في صفر، توفي أبو الفتح بن شيطا القاري، الشاهد، وكانت شهادته سنة خمس وأربعين وأربعمائة.

وفيها، في شهر ربيع الأول، توفي القاضي أبو الطيب الطبري، الفقيه الشافعي، وله مائة سنة وسنتان، وكان صحيح السمع والبصر، سليم الأعضاء، يناظر ويفتي ويستدرك على الفقهاء، وحضر عميد الملك جنازته، ودفن عند قبر أحمد، وله شعر حسن.
وفي سلخه توفي قاضي القضاة أبو الحسين علي بن محمد بن حبيب الماوردي، الفقيه الشافعي، وكان إماماً، وله تصانيف كثيرة منها: الحاوي وغيره في علوم كثيرة، وكان عمره ستاً وثمانين سنة.
وفي آخر هذه السنة توفي أبو عبد الله الحسين بن علي الرفا، الضرير الفرضي، وكان إماماً فيها على مذهب الشافعي.
وفيها، في شوال، كانت زلزلة عظيمة بالعراق، والموصل، ووصلت إلى همذان، ولبثت ساعة، فخربت كثيراً من الدور، وهلك فيها الجم الغفير.
وفيها توفي أبو محمد عبد الله بن علي بن عياض المعروف بابن أبي عقيل، وكان قد سمع الكثير من الحديث رواه.
وتوفي أيضاً القاضي أبو الحسن علي بن هندي قاضي حمص، وكان وافر العلم والأدب.
ثم دخلت سنة إحدى وخمسين وأربعمائة

ذكر وفاة فرخ زاد صاحب غزنة
وملك أخيه إبراهيم
في هذه السنة، في صفر، توفي الملك فرخ زاد بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان قد ثار به مماليكه سنة خمسين واتفقوا على قتله، فقصدوه وهو في الحمام، وكان معه سيف، فأخذه وقاتلهم، ومنعهم عن نفسه حتى أدركه أصحابه وخلصوه، وقتلوا أولئك الغلمان. وصار بعد أن نجا من هذه الحادثة يكثر ذكر الموت ويحتقر الدنيا ويزدريها، وبقي كذلك إلى هذه السنة، فأصابه قولنج فمات منه، وملك بعده أخوه إبراهيم بن مسعود بن محمود، فأحسن السيرة، فاستعد لجهاد الهند، ففتح حصوناً امتنعت على أبيه وجده، وكان يصوم رجباً وشعبان ورمضان.
ذكر الصلح بين الملك إبراهيم وجغري بك داودفي هذه السنة استقر الصلح بين الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين وبين داود بن ميكائيل بن سلجوق، صاحب خراسان، على أن يكون كل واحد منهما على ما بيده، ويترك منازعة الآخر في ملكه.
وكان سبب ذلك أن العقلاء من الجانبين نظروا فرأوا أن كل واحد من الملكين لا يقدر على أخذ ما بيد الآخر، وليس يحصل غير إنفاق الأموال، وإتعاب العساكر، ونهب البلاد، وقتل النفوس، فسعوا في الصلح، فوقع الاتفاق واليمين، وكتبت النسخ بذلك، فاستبشر الناس، وسرهم لما أشرفوا عليه من العافية.
ذكر وفاة داود وملك ابنه ألب أرسلانفي هذه السنة، في رجب، توفي جغري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق، أخو السلطان طغرلبك، وقيل كان موته في صفر سنة اثنتين وخمسين، وعمره نحو سبعين سنة، وكان صاحب خراسان، وهو مقابل آل سبكتكين ومقاتلهم، ومانعهم عن خراسان، فلما توفي ملك بعده خراسان ابنه السلطان ألب أرسلان، وخلف داود عدة أولاد ذكور منهم: السلطان ألب أرسلان، وياقوتي، وسليمان، وقاروت بك، فتزوج أم سليمان السلطان طغرلبك، بعد أخيه داود، ووصى به بالملك بعده، وكان من أمره ما نذكره.
وكان خيراً، عادلاً، حسن السيرة، معترفاً بنعمة الله تعالى عليه، شاكراً عليها، فمن ذلك أنه أرسل إلى أخيه طغرلبك مع عبد الصمد، قاضي سرخس، يقول له: بلغني إخرابك البلاد التي فتحتها وملكتها، وجلا أهلها عنها، وهذا ما لا خفاء به في مخالفة أمر الله تعالى في عباده وبلاده، وأنت تعلم ما فيه من سوء السمعة وإيحاش الرعية.
وقد علمت أننا لقينا أعداءنا ونحن ثلاثين رجلاً، وهم ثلاثمائة، فغلبناهم، وكنا في ثلاثمائة، وهم في ثلاثة آلاف، فغلبناهم، وكنا في ثلاثة آلاف، وهم في ثلاثين ألفاً، فدفعناهم، وقاتلنا بالأمس شاه ملك، وهو في أعداد كثيرة متوافرة، فقهرناه، وأخذنا مملكته بخوارزم، وهرب من بين أيدينا إلى خمسمائة فرسخ من موضعه، فظفرنا به وأسرناه وقتلناه، واستولينا على ممالك خراسان وطبرستان وسجستان، وصرنا ملوكاً متبوعين، بعد أن كنا أصاغر تابعين، وما تقتضي نعم الله علينا أن نقابلها هذه المقابلة.
فقال طغرلبك: قل له في الجواب: يا أخي أنت ملكت خراسان وهي بلاد عامرة، فخربتها، ووجب عليك مع استقرار قدمك عمارتها، وأنا وردت بلاداً خربها من تقدمني، واجتاحها من كان قبلي، فما أتمكن من عمارتها والأعداء محيطة بها، والضرورة تقود إلى طرقها بالعساكر، ولا يمكن دفع مضرتها عنها.

وله مناقب كثيرة تركناها خوف التطويل.
ذكر حريق بغدادفي هذه السنة احترقت بغداد: الكرخ وغيره، وبين السورين، واحترقت فيه خزانة الكتب التي وقفها أردشير الوزير، ونهبت بعض كتبها، وجاء عميد الملك الكندري، فاختار من الكتب خيرها، وكان بها عشرة آلاف مجلد وأربعمائة مجلد من أصناف العلوم منها: مائة مصحف بخطوط بني مقلة، وكان العامة قد نهبوا بعضها لما وقع الحريق، فأزالهم عميد الملك، وقعد يختارها، فنسب ذلك إلى سوء سيرته، وفساد اختياره، وشتان بين فعله وفعل نظام الملك الذي عمر المدارس، ودون العلم في بلاد الإسلام جميعها، ووقف الكتب وغيرها.
ذكر انحدار السلطان إلى واسط

وما فعل العسكر وإصلاح دبيس
في هذه السنة انحدر السلطان طغرلبك إلى واسط بعد فراغه من أمر بغداد، فرآها قد نهبت، وحضر عنده هزارسب بن بنكير، وأصلح معه حال دبيس بن مزيد، وأحضره معه إلى خدمة السلطان، وأصعد في صحبته إلى بغداد، وكذلك صدقة بن منصور بن الحسين، وضمن واسطاً أبو علي بن فضلان بمائتي ألف دينار، وضمن البصرة الأغر أبو سعد سابور بن المظفر، وعبر السلطان إلى الجانب الشرقي من دجلة، وسار إلى قرب البطائح، فنهب العسكر ما بين واسط والبصرة والأهواز.
وأصعد السلطان إلى بغداد في صفر سنة اثنتين وخمسين ومعه أبو الفتح بن ورام، وهزارسب بن بنكير بن عياض، ودبيس بن مزيد، وأبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وصدقة بن منصور بن الحسين وغيرهم، واجتمع السلطان بالخليفة، وأمر الخليفة بعمل طعام كثير حضره السلطان والأمراء وأصحابهم، وعمل السلطان أيضاً سماطاً أحضر فيه الجماعة، وخلع عليهم، وسار إلى بلاد الجبل في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين، وجعل ببغداد شحنة الأمير برسق، وضمنها أبو الفتح المظفر بن الحسين ثلاث سنين بأربع مائة ألف دينار.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عزل أبو الحسين بن المهتدي من الخطابة بجامع المنصور لأنه خطب للعلوي ببغداد في الفتنة، وأقيم مقامه بهاء الشرف أبو علي الحسن بن عبد الودود بن المهتدي بالله.
وفيها توفي علي بن محمود بن إبراهيم الزوزني أبو الحسن، صحب أبا الحسن الجصري، وروى عن أبي عبد الرحمن السلمي، وهو الذي نسب إليه رباط الزوزني المقابل لجامع المنصور.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي محمد بن علي بن الفتح بن محمد بن علي أبو طالب العشاري، ومولده في المحرم سنة ست وستين وثلاثمائة، وسمع الدارقطني وغيره.
ثم دخلت سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة
ذكر عود ولي العهد إلى بغداد
مع أبي الغنائم بن المحلبان
في جمادى الآخرة ورد عدة الدين أبو القاسم المقتدي بأمر الله، ولي العهد، ومعه جدته أم الخليفة، وخرج الناس لاستقباله، وجلس في الزبزب على رأسه أبو الغنائم بن المحلبان، وقدم له بباب الغربة فرس، فحمله ابن المحلبان على كتفه وأركبه وسلمه إلى مجلس الخليفة، فشكره، وخرج ابن المحلبان فركب في الزبزب، وانحدر إلى دار أفردت له بباب المراتب، ودخل إلى الخليفة واجتمع به.
وكان سبب مصير ولي العهد مع ابن المحلبان أنه دخل داره، فوجد زوجة رئيس الرؤساء وأولاده بها، وهم مطالبون من البساسيري، فعرفوه أن رئيس الرؤساء أمرهم بقصده، فأدخلهم إلى أهله، وأقام لهم من حملهم إلى ميافارقين، فساروا مع قرواش لما أصعد من بغداد، ولم يعلم بهم.
ثم لقيه أبو الفضل محمد بن عامر الوكيل، وعرفه ما عليه ولي العهد ومن معه من إيثار الخروج من بغداد، وما هم عليه من تناقض الحال، فبعث ابن المحلبان زوجته، فأتته بهم سراً، فتركهم عنده ثمانية أشهر، وكان يحضر ابن البساسيري وأصحابه، ويعمل لهم الدعوات، وولي العهد ومن معه مستترون عنده، يسمعون ما يقول أولئك فيهم.
ثم اكترى لهم، وسار هو في صحبتهم إلى قريب سنجار، ثم حملوا إلى حران، وسار مع صاحبها أبي الزمام منيع بن وثاب النميري، حين قصد الرحبة، وفتح قرقيسيا، وعقد لعدة الدين على بنت منيع، وانحدروا إلى بغداد.
ذكر ملك محمود بن شبل الدولة حلب

في هذه السنة، في جمادى الآخرة، حضر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابي مدينة حلب، وضيق عليها، واجتمع مع جمع كثير من العرب، فأقام عليها، فلم يتسهل له فتحها، فرحل عنها، ثم عاودها فحصرها، فملك المدينة عنوة في جمادى الآخرة، بعد أن حصرها، وامتنعت القلعة عليه.
وأرسل من بها إلى المستنصر بالله، صاحب مصر ودمشق، يستنجدونه، فأمر ناصر الدولة أبا محمد الحسين بن الحسن بن حمدان، الأمير بدمشق، أن يسير بمن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود، فسار إلى حلب، فلما سمع محمود بقربه منه خرج من حلب، ودخلها عسكر ناصر الدولة فنهبوها.
ثم إن الحرب وقعت بين محمود وناصر الدولة بظاهر حلب، واشتد القتال بينهم، فانهزم ناصر الدولة وعاد مقهوراً إلى مصر، وملك محمود حلب، وقتل عمه معز الدولة، واستقام أمره بها، وهذه الوقعة تعرف بوقعة الفنيدق، وهي مشهورة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خلع السلطان طغرلبك على محمود بن الأخرم الخفاجي، وردت إليه إمارة بني خفاجة، وولاية الكوفة، وسقي الفرات، وضمن خواص السلطان هناك بأربعة آلاف دينار كل سنة، وصرف عنها رجب بن منيع.
وفيها توفي أبو محمد النسوي، صاحب الشرطة ببغداد، وقد جاوز ثمانين سنة.
وفيها سد بنو ورام بثق النهروانات، وشرع العميد أبو الفتح في عمارة بثوق الكرخ.
وفيها، في ذي القعدة، توفيت خاتون زوجة السلطان طغرلبك بزنجان، فوجد عليها وجداً شديداً، وحمل تابوتها إلى الري فدفنت بها.
وفيها، ثالث جمادى الآخرة، انقض كوكب عظيم القدر عند طلوع الفجر من ناحية المغرب إلى ناحية المشرق، فطال لبثه.
وفيها، جمع عطية بن صالح بن مرداس جمعاً وحصر الرحبة، وضيق على أهلها، فملكها في صفر من هذه السنة.
وفيها توفيت والدة الخليفة القائم بأمر الله، واسمها قطر الندى، وقيل بدر الدجى، وقيل علم، وهي جارية أرمينية.
وفيها توفي محمد بن الحسين بن محمد بن الحسن أبو علي المعروف بالجازري النهرواني، وكان مكثراً من الرواية، الجازري بالجيم وبعد الألف زاي ثم راء.
وفيها توفي باي أبو منصور الفقيه الجيلي، بالباء الموحدة وبعد الألف ياء تحتها نقطتان، ومحمد بن عبيد بن أحمد بن محمد أبو عمرو بن أبي الفضل، الفقيه المالكي.
ثم دخلت سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة

ذكر وزارة ابن دارست للخليفة
لما عاد الخليفة إلى بغداد استخدم أبا تراب الأثيري في الإنهاء، وحضور المواكب، ولقبه حاجب الحجاب، وكان قد خدمه بالحديث، وقرب منه، فخاطب الشيخ أبو منصور بن يوسف في وزارة أبي الفتح منصور بن أحمد بن دارست، وقال إنه يخدم بغير إقطاع، ويحمل مالاً، فأجيب إلى ذلك، فأحضر من الأهواز إلى بغداد، وخلع عليه خلعة الوزارة منتصف ربيع الآخر، وجلس في منصبه، ومدح الشعراء، فممن مدحه وهنأه أبو الحسن الخباز بقصيدة منها:
أمن الملك بالأمين أبي الفت ... ح وصدت عن صفوة الأقذاء
دولة أصبحت، وأنت ولي ... الرأي فيها، لدولة غراء
وهي طويلة. وكان ابن دارست في أول أمره تاجراً للملك أبي كاليجار.
ذكر موت المعز بن باديس
وولاية ابنه تميم
في هذه السنة توفي المعز بن باديس، صاحب إفريقية، من مرض أصابه، وهو ضعف الكبد، وكانت مدة ملكه سبعاً وأربعين سنة، وكان عمره لما ملك إحدى عشرة سنة، وقيل ثماني سنين وستة أشهر.
وكان رقيق القلب، خاشعاً، متجنباً لسفك الدماء إلا في حد، حليماً، يتجاوز عن الذنوب العظام، حسن الصحبة مع عبيده وأصحابه، مكرماً لأهل العلم، كثير العطاء لهم، كريماً، وهب مرة ألف دينار للمستنصر الزناتي وكان عنده وقد جاء هذا المال، فاستكثره، فأمر به فأفرغ بين يديه، ثم وهبه له، فقيل له: لم أمرت بإخراجه من أوعيته؟ قال: لئلا يقال لو رآه ام سمحت نفسه به، وكان له شعر حسن.
ولما مات رثاه الشعراء، فمنهم أبو الحسن بن رشيق فقال:
لكل حي وإن طال المدى هلك ... لا عز مملكة يبقى، ولا ملك
ولى المعز على أعقابه فرمى، ... أو كاد ينهد من أركانه الفلك
مضى فقيداً، وأبقى في خزائنه ... هام الملوك، وما أدراك ما ملكوا

ما كان إلا حساماً سله قدر ... على الذين بغوا في الأرض وانهمكوا
كأنه لم يخض للموت بحر وغىً، ... خضر البحار، إذا قيست به، برك
ولم يجد بقناطير مقنطرة ... قد أرخت باسمه إبريزها السكك
روح المعز وروح الشمس قد قبضا، ... فانظر بأي ضياء يصعد الفلك
ولما توفي ملك بعده ابنه تميم، وكان مولد تميم بالمنصورية التي هي مقره، منتصف رجب سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وولاه المهدية في صفر سنة خمس وأربعين، وأقام بها إلى أن وافاه أبوه المعز، لما انتزح عن القيروان من العرب، وقام بخدمة أبيه، وأظهر من طاعته وبره ما بان به كذب ما كان ينسب إليه.
ولما استبد بالملك بعد أبيه سلك طريقه في حسن السيرة، ومحبة أهل العلم، إلا أنه كان أصحاب البلاد قد طمعوا بسبب العرب، وزالت الهيبة والطاعة عنهم في أيام المعز، فلما مات ازداد طمعهم، وأظهر كثير منهم الخلاف، فممن أظهر الخلاف القائد حمو بن مليك، صاحب سفاقس، واستعان بالعرب، وقصد المهدية ليحاصرها، فخرج إليه تميم وصافه، فاقتتلوا، فانهزم حموا وأصحابه، وكثر القتل فيهم، ومضى حمو ونجا بنفسه، وتفرقت خيله ورجاله، وكان ذلك سنة خمس وخمسين.
ذكر وفاة قريش صاحب الموصل

وإمارة ابنه شرفة الدولة
في هذه السنة توفي قريش بن بدران صاحب الموصل ونصيبين، أصابه خروج الدم من فيه وأنفه وعينيه وأذنيه، فحمله ابنه شرف الدولة إلى نصيبين، حتى حفظ خزانته بها، وتوفي هناك.
وسمع فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير حاله، فسارا من دارا إلى نصيبين، وجمع بني عقيل على أن يؤمروا ابنه أبا المكارم مسلم بن قريش عليهم، وكان القائم بأمره جابر بن ناشب، فزوجه فخر الدولة بأخت مسلم، وزوج مسلماً بابنة نصر بن منصور.
ذكر وفاة نصر الدولة بن مروانفي هذه السنة توفي نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي، صاحب ديار بكر، ولقبه القادر بالله نصر الدولة، وكان عمره نيفاً وثمانين سنة، وإمارته اثنتين وخمسين سنة، واستولى على الأمور ببلاده استيلاء تاماً، وعمر الثغور وضبطها، وتنعم تنعماً لم يسمع بمثله عن أحد من أهل زمانه.
وملك من الجواري المغنيات ما اشترى بعضهن بخمسة آلاف دينار، وأكثر من ذلك، وملك خمسمائة سرية سوى توابعهن، وخمسمائة خادم.
وكان في مجلسه من الآلات ما تزيد قيمته على مائتي ألف دينار، وتزوج من بنات الملوك جملة، وأرسل طباخين إلى الديار المصرية، وغرم على إرسالهم جملة وافرة حتى تعلموا الطبخ من هناك.
وأرسل إلى السلطان طغرلبك هدايا عظيمة، من جملتها الجبل الياقوت الذي كان لبني بويه، اشتراه من المكل العزيز أبي منصور بن جلال الدولة، وأرسل معه مائة ألف دينار سوى ذلك.
ووزر له أبو القاسم بن المغربي، وفخر الدولة بن جهير، ورخصت الأسعار في أيامه، وتظاهر الناس بالأموال، ووفد إليه الشعراء، وأقام عنده العلماء والزهاد.
وبلغه أن الطيور في الشتاء تخرج من الجبال إلى القرى فتصاد، فأمر أن يطرح لها الحب من الأهراء التي له، فكانت في ضيافته طول عمره.
ولما مات اتفق وزيره فخر الدولة بن جهير وابنه نصر، فرتب نصراً في الملك بعد أبيه، وجرى بينه وبين أخيه سعيد حروب شديدة كان الظفر في آخرها لنصر، فاستقر في الإمارة بميافارقين وغيرها، وملك أخوه سعيد آمد.
ذكر عدة حوادثفي رجب خلع على الكامل أبي الفوارس طراد بن محمد الزينبي، وقلد نقابة النقباء، ولقب الكامل ذا الشرفين.
وفيها تولي شمس الدين أسامة بن أبي عبد الله بن علي نقابة العلويين ببغداد، ولقب المرتضى.
وفيها، في جمادى الأولى، انكسفت الشمس جميعها، فظهرت الكواكب، وأظلمت الدنيا، وسقطت الطيور الطائرة.
وفيها، في شهر رمضان، توفي شكر العلوي الحسيني، أمير مكة، وله شعر حسن، فمنه:
قوض خيامك عن أرض تضام بها، ... وجانب الذل، إن الذل مجتنب
وارحل إذا كان في الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب
وفيها توفي أبو القاسم علي بن محمد بن يحيى الشمشاطي بدمشق، وكان عالماً بالهندسة والرياضيات من علوم الفلاسفة، وإليه ينسب الرباط الذي عند جامع دمشق.
ثم دخلت سنة أربع وخمسين وأربعمائة

ذكر نكاح السلطان طغرلبك ابنة الخليفة
في هذه السنة عقد للسلطان طغرلبك على ابنة الخليفة القائم بأمر الله، وكانت الخطبة تقدمت سنة ثلاث وخمسين مع أبي سعد قاضي الري، فانزعج الخليفة من ذلك، وأرسل في الجواب أبا محمد التميمي، وأمره أن يستعفي، فإن أعفي، وإلا تمم الأمر على أن يحمل السلطان ثلاثمائة ألف دينار، ويسلم واسطاً وأعمالها.
فلما وصل إلى السلطان ذكر لعميد الملك الوزير ما ورد فيه من الاستعفاء، فقال: لا يحسن أن يرد الس، وقد سأل وتضرع، ولا يجوز مقابلته أيضاً بطلب الأموال والبلاد، فهو يفعل أضعاف ما طلب منه.
فقاتل التميمي: الأمر لك، ومهما فعلته فهو الصواب، فبنى الوزير الأمر على الإجابة، وطالع به الس، فسر به، وجمع الناس وعرفهم أن همته سمت به إلى الاتصال بهذه الجهة النبوية، وبلغ من ذلك ما لم يبلغه سواه من الملوك. وتقدم إلى عميد الملك الوزير أن يسير ومعه أرسلان خاتون، زوجة الخليفة، وأن يصحبها مائة ألف دينار برسم الحمل، وما شاكلها من الجواهر وغيرها، ووجه معه فرامرز بن كاكويه، وغيره من وجوه الأمراء وأعيان الري.
فلما وصل إلى الإمام القائم بأمر الله، وأوصل خاتون زوجة الخليفة إلى دارها، وأنهى حضوره وحضور من معه، ذكر حال الوصلة، فامتنع الخليفة من الإجابة إليها وقال: إن أعفينا، وإلا خرجنا من بغداد.
فقال عميد الملك: كان الواجب الامتناع من غير اقتراح، وعند الإجابة إلى ما طلب، فالامتناع سعي على دمي، وأخرج خيامه إلى النهروان، فاستوقفه قاضي القضاة، والشيخ أبو منصور بن يوسف، وأنهيا إلى الخليفة عاقبة انصرافه على هذا الوجه، وصنع له ابن دارست وزير الخليفة دعوة، فحضر عنده، فرأى على مسجد مكتوباً: معاوية خال علي، فأمر بحكه.
وكتب من الديوان إلى خمارتكين الطغرائي كتاباً يتضمن الشكوى من عميد الملك، فورد الجواب عليه بالرفق، وكتب الخليفة إلى عميد الملك: نحن نرد الأمر إلى رأيك، ونعول على أمانتك ودينك.
فحضر يوماً عند الخليفة، ومعه جماعة من الأمراء، والحجاب، والقضاة والشهود، فأخذ المجلس لنفسه، ولم يتكلم سواه، وقال للخليفة: أسأل مولانا أمير المؤمنين التطول بذكر ما شرف به العبد المخلص شاهنشاه، ركن الدين، فيما رغب فيه ليعرفه الجماعة.
فغالطه، وقال: قد سطر في المعنى ما فيه كفاية. فانصرف عميد الملك مغظاً، ورحل في السادس والعشرين من جمادى الآخرة وأخذ المال معه إلى همذان، وعرف السلطان أن السبب في اتفاق الحال من خمارتكين الطغرائي. فتغير السلطان عليه، فهرب في ستة غلمان.
وكتب السلطان إلى قاضي القضاة والشيخ أبي منصور بن يوسف يعتب ويقول: هذا جزاء من الخليفة الذي قتلت أخي في خدمته، وأنفقت أموالي في نصرته، وأهلكت خواصي في محبته. وأطال العتاب، وعاد الجواب إليه بالاعتذار.
وأما الطغرائي فإنه أدرك ببروجرد فقال أولاد إبراهيم ينال للسلطان: إن هذا قتل أبانا، ونسأل أن نمكن من قتله، وأعانهم عميد الملك، فأذن لهم في قتله، فساروا إلى طريقه وقتلوه، وجعل مكانه ساوتكين، وبسط الكندري لسانه. وطلب طغرلبك ابنة أخيه، زوجة الخليفة، لتعاد إليه، وجرى ما كاد يفضي إلى الفساد الكلي.
فلما رأى الخليفة شده الأمر أذن في ذلك، وكتب الوكالة باسم عميد الملك، وسيرت الكتب مع أبي الغنائم بن المحلبان، وكان العقد في شعبان سنة أربع وخمسين بظاهر تبريز، وهذا ما لم يجر للخلفاء مثله، فإن بني بويه مع تحكمهم ومخالفتهم لعقائد الخلفاء لم يطمعوا في مثل هذا ولا ساموهم فعله.
وحمل السلطان أموالاً كثيرة، وجواهر نفيسة للخليفة، ولولي العهد، وولجهة المطلوبة، ولوالدتها، وغيرهم، وجعل بعقوبا وما كان بالعراق للخاتون زوجة السلطان التي توفيت للسيدة ابنة الخليفة.
ذكر عزل ابن دارست
ووزارة ابن جهير
في هذه السنة عزل أبو الفتح محمد بن منصور بن دارست من وزراة الخليفة.
وسببه أنه وصل معه إنسان يهودي يقال له ابن علان، فضمن أعمال الوكلاء التي لخاص الخليفة بستة آلاف كر غلة، ومائة ألف دينار، فصح منها ألفا كر، وثلاون ألف دينار، وانكسر الباقي، فظهر عجز ابن دارست ووهنه، فعزل، وعاد إلى الأهواز، فتوفي بها سنة سبع وستين.

وكان فخر الدولة أبو نصر بن جهير، وزير نصر الدولة بن مروان، قد أرسل يخطب الوزارة، وبذل فيها بذولاً كثيرة، فأجيب إليها، وأرسل كامل طراد الزينبي إلى ميافارقين كأنه رسول، فلما عاد سار معه ابن جهير كالمودع له، فتمم السير معه.
وخرج ابن مروان في أثره، فلم يدركه، فلما وصل إلى بغداد خرج الناس إلى استقباله، وخلع عليه خلع الوزارة يوم عرفة، ولقب فخر الدولة، واستقر في الوزارة، ومدحه وهنأه ابن الفضل وغيره من الشعراء.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عم الرخص جميع الأصقاع، فبيع بالبصرة ألف رطل من التمر بثمانية قراريط.
وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي بمصر.
وفيها سار السلطان طغرلبك إلى قلعة الطرم من بلاد الديلم، وقرر على مسافر ملكها مائة ألف دينار وألف ثوب.
وفيها مات أبو علوان ثمالل بن صالح بن مرداس الملقب معز الدولة بحلب، وقام أخوه عطية مقامه.
وتوفي الحسن بن علي بن محمد أبو محمد الجوهري، ومولده سنة ثلاث وستين وثلاثمائة، وكان من الأئمة المكثرين من سماع الحديث وروايته، وهو آخر من حدث عن أبي بكر القطيعي، والأبهري، وابن شاذان، وغيرهم.
ثم دخلت سنة خمس وخمسين وأربعمائة

ذكر ورود السلطان بغداد
ودخوله بابنة الخليفة
في هذه السنة، في المحرم، توجه السلطان طغرلبك من أرمينية إلى بغداد، وأراد الخليفة أن يستقبله، فاستعفاه من ذلك، وخرج الوزير ابن جهير فاستقبله.
وكان مع السلطان من الأمراء: أبو علي ابن الملك أبي كاليجار، وسرخاب بن بدر، وهزارسب، وأبو منصور فرامرز بن كاكويه، فنزل عسكره في الجانب الغربي، فزاد بهم أذى.
ووصل عميد الملك إلى الخليفة، وطالب بالجهة، وبات بالدار، فقيل له: خطك موجود بالشرط، وإن المقصود بهذه الوصلة الشرف لا الإجتماع، وإنه إن كانت مشاهدة فتكون في دار الخلافة، فقال السلطان: نفعل هذا، ولكن نفرد له من الدور والمساكن ما يكفيه، ومعه خواصه، وحجابه، ومماليكه، فإنه لا يمكنه مفارقتهم. فحينئذ نقلت إلى دار المملكة في منتصف صفر، فجلست على سرير ملبس بالذهب، ودخل السلطان إليها، وقبل الأرض وخدمها، ولم تكشف الخمار عن وجهها، ولا قامت هي له، وحمل لها شيئاً كثيراً من الجواهر وغيرها، وبقي كذلك يحضر كل يوم يخدم وينصرف.
وخلع على عميد الملك وعمل السماط عدة أيام، وخلع على جميع الأمراء، وظهر عليه سرور عظيم، وعقد ضمان بغداد على أبي سعيد القايني بمائة وخمسين ألف دينار، فأعاد ما كان أطلقه رئيس العراقين من المواريث والمكوس، وقبض على الأعرابي سعد، ضامن البصرة، وعقد ضمان واسط على أبي جعفر بن صقالب بمائتي ألف دينار.
ذكر وفاة السلطان طغرلبكفي هذه السنة سار السلطان من بغداد، في ربيع الأول، إلى بلد الجبل، فوصل إلى الري واستصحب معه أرسلان خاتون ابنة أخيه، زوجة الخليفة، لأنها شكت اطراح الخليفة لها، فأخذها معه، فمرض، وتوفي يوم الجمعة ثامن شهر رمضان، وكان عمره سبعين سنة تقريباً، وكان عقيماً لم يلد ولداً.
وكان وزيره الكندري على سبعين فرسخاً، فأتاه الخبر، فسار، ووصل إليه في يومين وهو بعد لم يدفن فدفنه. وجلس له الوزير فخر الدولة بن جهير ببغداد للعزاء.
حكى عنه الكندري أنه قال: رأيت، وأنا بخراسان، في المنام كأنني رفعت إلى السماء، وأنا في ضباب لا أبصر معه شيئاً، غير أني أشم رائحة طيبة، وأنني أنادى: إنك قريب من الباري، جلت قدرته، فاسأل حاجتك لتقضى، فقلت في نفسي: أسأل طول العمر، فقيل: لك سبعون سنة، فقلت: يا رب ما يكفيني، فقيل: لك سبعون سنة، فقلت: يا رب لا يكفيني، فقيل: لك سبعون سنة. فلما مات حسب عميد الملك عمره، على التقريب، فكان سبعين سنة. وكانت مملكته، بحضرة الخلافة، سبع سنين وأحد عشر شهراً واثني عشر يوماً.
وأما الأحوال بالعراق، بعد وفاته، فإنه كتب من ديوان الخلافة إلى شرف الدولة مسلم بن قريش، صاحب الموصل، وإلى نور الدولة دبيس بن مزيد، وإلى هزارسب، وإلى بني ورام، وإلى بدر بن المهلهل، بالاستدعاء إلى بغداد، وأرسل لشرف الدولة تشريف، وعمل أبو سعد القايني، ضامن بغداد، سوراً على قصر عيسى، وجمع الغلات. فانحدر إبراهيم بن شرف الدولة إلى أوانا، وتسلم أصحابه الأنبار، وانتشرت البادية في البلاد، وقطعوا الطرقات.

وقدم إلى بغداد دبيس بن مزيد، وخرج الوزير ابن جهير لاستقباله، وقدم أيضاً ورام، وتوفي ببغداد أبو الفتح بن ورام، مقدم الأكراد الجاوانية، فحمل إلى جرجرايا، وفارق شرف الدولة مسلم بغداد، ونهب النواحي، فسار نور الدولة، والأكراد، وبنو خفاجة إلى قتاله.
ثم أرسل إليه من ديوان الخلافة رسول معه خلعة له، وكوتب بالرضاء عنه، وانحدر إليه نور الدولة دبيس، فعمل له شرف الدولة سماطاً كثيراً، وكان في الجماعة الأشرف أبو الحسين بن فخر الملك أبي غالب بن خلف، كان قصد شرف الدولة مستجدياً، فمضغ لقمة، فمات من ساعته.
وحكى عنه بعض من صحبه أنه سمعه ذلك اليوم يقول: اللهم اقبضني، فقد ضجرت من الإضافة! فلما توفي ورفع من السماط خاف شرف الدولة أن يظن من حضر أنه تناول طعاماً مسموماً قصد به غيره، فقال: يا معشر العرب لا برح منكم أحد، ونهض وجلس مكان ابن فخر الملك المتوفي، وجعل يأكل من الطعام الذي بين يديه، فاستحسن الجماعة فعله، وعادوا عنه وخلع على دبيس وولده منصور وعاد إلى حلته.
ولما رأى الناس ببغداد انتشار الأعراب في البلاد ونهبها، حملوا السلاح لقتالهم، وكان ذلك سبباً لكثرة العيارين وانتشار المفسدين.
ذكر شيء من سيرتهكان عاقلاً حليماً من أشد الناس احتمالاً، وأكثرهم كتماناً لسره، ظفر بملطفات كتبها بعض خواصه إلى الملك أبي كاليجار، فلم يطلعه على ذلك، ولا تغير عليه، حتى أظهر بعد مدة طويلة لغيره.
وحكى عنه أقضى القضاة الماوردي قال: لما أرسلني القائم بأمر الله إليه سنة ثلاث وثلاثين كتبت كتاباً إلى بغداد أذكر فيها سيرته وخراب بلاده، وأطعن عليه بكل وجه، فوقع الكتاب من غلامي، فحمل إليه، فوقف عليه وكتمه، ولم يحدثني فيه بشيء، ولا تغير عما كان عليه من إكرامي.
وكان، رحمه الله، يحافظ على الصلوات، ويصوم الاثنين، والخميس، وكان لبسه الثياب البياض، وكان ظلوماً، غشوماً، قاسياً، وكان عسكره يغصبون الناس أموالهم، وأيديهم مطلقة في ذلك نهاراً وليلاً.
وكان كريماً، فمن كرمه أن أخاه إبراهيم ينال أسر من الروم، لما غزاهم، بعض ملوكهم فبذل في نفسه أربعمائة ألف دينار، فلم يقبل إبراهيم منه وحمله إلى طغرلبك، فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان حتى خاطب طغرلبك في فكاكه، فلما سمع طغرلبك رسالته أرسل الرومي إلى ابن مروان بغير فداء، وسير معه رجلاً علوياً، فأنفذ ملك الروم إلى طغرلبك ما لم يحمل في الزمان المتقدم، وهو ألف ثوب ديباج، وخمسمائة ثوب أصناف، وخمسمائة رأس من الكراع إلى غير ذلك، وأنفذ مائتي ألف دينار، ومائة لبنة فضة، وثلاثمائة شهري، وثلاثمائة حمار مصرية، وألف عنز بيض الشعور، سود العيون والقرون، وأنفذ إلى ابن مروان عشرة أمناء مسكاً، وعمر ملك الروم الجامع الذي بناه مسلمة بن عبد الملك بالقسطنطينية، وعمر منارته، وعلق فيه القناديل، وجعل في محرابه قوساً ونشابة، وأشاع المهادنة.
ذكر ملك السلطان ألب أرسلانلما مات السلطان طغرلبك أجلس عميد الملك الكندري في السلطنة سليمان بن داود جغري بك، أخي السلطان طغرلبك، وكان طغرلبك قد عهد إليه بالملك، وكانت والدة سليمان عند طغرلبك، فلما خطب له بالسلطنة اختلف الأمراء، فمضى باغي سيان وأردم إلى قزوين، وخطبا لعضد الدولة ألب أرسلان محمد بن داود جغري بك، وهو حينئذ صاحب خراسان، ومعه نظام الملك وزيره، والناس مائلون إليه.
فلما رأى عميد الملك الكندري انعكاس الحال عليه أمر بالخطبة بالري للسلطان ألب أرسلان، وبعده لأخيه سليمان.
ذكر خروج حمو عن طاعة تميم بن المعز بإفريقيةفي هذه السنة خالف حمو بن مليك، صاحب مدينة سفاقس بإفريقية، على الأمير تميم بن المعز بن باديس، فجمع أصحابه، واستعان بالعرب، وسار إلى المهدية، فسمع تميم الخبر، فسار إليه بعساكر ومعه أيضاً طائفة من العرب من زغبة، ورياح، ووصل حمو إلى سلقطة، والتقى الفريقان بها، وكانت بينهما حرب شديدة فانهزم حمو ومن معه، وأخذتهم السيوف، فقتل أكثر حماته وأصحابه، ونجا بنفسه، تفرقت رجاله، وعاد تميم مظفراً منصوراً.
ثم قصد، بعد هذه الحادثة، مدينة سوسة، وكان أهلها قد خالفوا عليه، فملكها، وعفا عنهم وحقن دماءهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، قبض بمصر على الوزير أبي الفرج بن المغربي.

وفيها دخل الصليحي، صاحب اليمن، إلى مكة مالكاً لها، فأحسن السيرة فيها، وجلب إليها الأقوات، ورفع جور من تقدم، وظهرت منه أفعال جميلة.
وفيها، في ربيع الآخر، انقض كوكب عظيم، له ضوء كثير.
وفيها، في شعبان، كان بالشام زلزلة عظيمة خرب منها كثير من البلاد، وانهدم سور طرابلس.
وفيها ملك أمير الجيوش بدر دمشق للمستنصر، صاحب مصر، فوصل إليها في الثالث والعشرين من ربيع الآخر، وأقام بها، واختلف هو والجند، فثاروا به، ووافقهم العامة، فضعف عنهم، ففارقها في رجب سنة ست وخمسين.
وفيها توفي سعيد بن نصر الدولة بن مروان، صاحب آمد، من ديار بكر، وزهير بن الحسين بن علي أبو نصر الجذامي، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي حامد الأسفراييني، وسمع الحديث الكثير ورواه، وكان موته بسرخس.
ثم دخلت سنة ست وخمسين وأربعمائة

ذكر القبض على عميد الملك وقتله
في هذه السنة قبض السلطان ألب أرسلان على الوزير عميد الملك أبي نصر منصور بن محمد الكندري وزير طغرلبك.
وسبب ذلك أن عميد الملك قصد خدمة نظام الملك، وزير ألب أرسلان، وقدم بين يديه خمسمائة دينار، واعتذر، وانصرف من عنده، فسار أكثر الناس معه، فخوف السلطان من غائلة ذلك، فقبض عليه وأنفذه إلى مرو الروذ، وأتت عليه سنة في الاعتقال، ثم نفذ إليه غلامين فدخلا عليه وهو محموم، فقالا له: تب مما أنت عليه، ففعل، ودخل فودع أهله، وخرج إلى مسجد هناك فصلى ركعتين، وأراد الغلامان خنقه، فقال: لست بلص! وخرق خرقة من طرف كمه وعصب عينيه، فضربوه بالسيف، وكان قتله في ذي الحجة، ولف في قميص دبيقي من ملابس الخليفة، وخرقة كانت البردة التي عند الخلفاء فيها، وحملت جثته إلى كندر، فدفن عند أبيه، وكان عمره يوم قتل نيفاً وأربعين سنة.
وكان سبب اتصاله بالسلطان طغرلبك أن السلطان لما ورد نيسابور طلب رجلاً يكتب له، ويكون فصيحاً بالعربية، فدل عليه الموفق، والد أبي سهل، وأعطته السعادة، وكان فصيحاً، فاضلاً، وانتشر من شعره ما قاله في غلام تركي صغير السن كان واقفاً على رأسه يقطع بالسكين قصبة، فقال عميد الملك فيه:
أنا مشغول بحبه، ... وهو مشغول بلعبه
لو أراد الله خيراً، ... وصلاحاً لمحبه
نقلت رقة خدي ... ه إلى قسوة قلبه
صانه الله فما أك ... ثر إعجابي بعجبه
ومن شعره:
إن كان بالناس ضيق عن مناقشتي، ... فالموت قد وسع الدنيا على الناس
مضيت، والشامت المغبون يتبعني، ... كل لكأس المنايا شارب حاسي
وقال أبو الحسن الباخرزي يخاطب ألب أرسلان عند قتل الكندري:
وعمك أدناه، وأعلى محله، ... وبوأه من ملكه كنفاً رحبا
قضى كل مولى منكما حق عبده ... فخوله الدنيا، وخولته العقبى
وكان عميد الملك خصياً، قد خصاه طغرلبك لأنه أرسله يخطب عليه امرأة ليتزوجها فتزوجها هو، وعصى عليه، فظفر به وخصاه، وأقره على خدمته.
وقيل بل أعداؤه أشاعوا عنه أنه تزوجها، فخصى نفسه ليخلص من سياسة السلطنة، فقال فيه علي بن الحسن الباخرزي:
قالوا: محا السلطان عنه بعزة ... سمة الفحول، وكان قرماً صائلا
قلت: اسكتوا، فالآن زاد فحولة ... لما اغتدى عن أنثييه عاطلا
فالفحل يأنف أن يسمى بعضه ... أنثى، لذلك جذه مستأصلا
يعني بالأنثى واحدة الأنثيين.
وكان شديد التعصب على الشافعية، كثير الوقعة في الشافعي، رضي الله عنه، بلغ تعصبه أنه خاطب السلطان في لعن الرافضة على منابر خراسان، فأذن في ذلك، فأمر بلعنهم، وأضاف إليهم الأشعرية، فأنف من ذلك أئمة خراسان، منهم: الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، وغيرهما، ففارقوا خراسان، وأقام إمام الحرمين بمكة أربع سنين إلى أن انقضت دولته، يدرس، ويفتي، فلهذا لقب إمام الحرمين، فلما جاءت الدولة النطامية أحضر من انتزح منهم وأكرمهم، وأحسن إليهم، وقيل إنه تاب من الوقيعة في الشافعي، فإن صح فقد أفلح، وإلا فعلى نفسها براقش تجني.

ومن العجب أن ذكره دفن بخوارزم لما خصي، ودمه مسفوح بمرو، وجسده مدفون بكندر، ورأسه ما عدا قحفه مدفون بنيسابور، ونقل قحفه إلى كرمان لأن نظام الملك كان هناك، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
ولما قرب للقتل قال للقاصد إليه: قل لنظام الملك: بئس ما عودت الأتراك قتل الوزراء، وأصحاب الديوان، ومن حفر قليباً وقع فيه. ولم يخلف عميد الملك غير بنت.
ذكر ملك ألب أرسلان ختلان وهراة وصغانيانلما توفي طغرلبك وملك ألب أرسلان عصى عليه أمير ختلان بقلعته، ومنع الخراج، فقصده السلطان، فرأى الحصن منيعاً على شاهق، فأقام عليه وقاتله، فلم يصل منه إلى مراده.
ففي بعض الأيام باشر ألب أرسلان القتال بنفسه، وترجل، وصعد في الجبل، فتبعه الخلق، وتقدموا عليه في الموقف، وألحوا في الزحف والقتال، وكان صاحب القلعة على شرفة من سورها يحرض الناس على القتال، فأتته نشابة من العسكر فقتلته، وتسلم ألب أرسلان القلعة وصارت في جملة ممالكه.
وكان عمه فخر الملك بيغو بن ميكائيل في هراة، فعصى أيضاً عليه، وطمع في الملك لنفسه، فسار إليه ألب أرسلان في العساكر العظيمة، فحصره وضيق عليه، وأدام القتال ليلاً ونهاراً، فتسلم المدينة، وخرج عمه إليه، فأبقى عليه وأكرمه وأحسن صحبته.
وسار من هناك إلى صغانيان، وأميرها اسمه موسى، وكان قد عصى عليه، فلما قاربه ألب أرسلان صعد موسى إلى قلعة على رأس جبل شاهق، ومعه من الرجال الكماة جماعة كثيرة، فوصل السلطان إليه، وباشر الحرب لوقته، فلم ينتصف النهار حتى صعد العسكر الجبل، وملكوا القلعة قهراً، وأخذ موسى أسيراً، فأمر بقتله، فبذل في نفسه أموالاً كثيرة، فقال السلطان: ليس هذا أوان تجارة، واستولى على تلك الولاية بأسرها، وعاد إلى مرو، ثم منها إلى نيسابور.
ذكر عود ابنة الخليفة إلى بغداد

والخطبة للسلطان ألب أرسلان ببغداد
في هذه السنة أمر السلطان ألب أرسلان السيدة ابنة الخليفة بالعود إلى بغداد، وأعلمها أنه لم يقبض على عميد الملك إلا لما اعتمده من نقلها من بغداد إلى الري بغير رضاء الخليفة، وأمر الأمير ايتكين السليماني بالمسير في خدمتها إلى بغداد، والمقام بها شحنة، وأنفذ أبا سهل محمد بن هبة الله، المعروف بابن الموفق، للمسير في الصحبة، وأمره بالمخاطبة في إقامة الخطبة له، فمات في الطريق مجدراً.
وهذا أبو سهل من رؤساء أصحاب الشافعي بنيسابور، وكان يحضر طعامه في رمضان، كل ليلة، أربع مائة متفقه، ويصلهم ليلة العيد بكسوة ودنانير تعمهم، فلما سمع بموته أرسل العميد أبا الفتح المظفر بن الحسين فمات أيضاً في الطريق، فألزم السلطان رئيس العراقين بالمسير، فوصلوا بغداد منتصف ربيع الآخر، وخرج عميد الدولة ابن الوزير فخر الدولة بن جهير لتلقيهم، واقترح السلطان أن يخاطب بالولد المؤيد، فأجيب إلى ذلك، ولقب ضياء الدين عضد الدولة.
وجلس الخليفة جلوساً عاماً سابع جمادى الأولى، وشافه الرسل بتقليد ألب أرسلان للسلطنة، وسلمت الخلع بمشهد من الخلق، وأرسل إليه من الديوان لأخذ البيعة النقيب طراداً الزينبي، فوصلوا إليه وهو بنقجوان من أذربيجان، فلبس الخلع، وبايع للخليفة.
ذكر الحرب بين ألب أرسلان وقتلمشسمع ألب أرسلان أن شهاب الدولة قتلمش، وهو من السلجوقية أيضاً، وهو جد الملوك أصحاب قونية، وقيصرية، وأقصرا، وملطية، يومنا هذا، قد عصى عليه، وجمع جموعاً كثيرة، وقصد الري ليستولي عليها، فجهز ألب أرسلان جيشاً عظيماً وسيرهم على المفازة إلى الري، فسبقوا قتلمش إليها.
وسار ألب أرسلان من نيسابور أول المحرم من هذه السنة، فلما وصل إلى دامغان أرسل إلى قتلمش ينكر عليه فعله، وينهاه عن ارتكاب هذا الحال، ويأمره بتركها، فإنه يرعى له القرابة والرحم، فأجاب قتلمش جواب مغتر بمن معه من الجموع، ونهب قرى الري، وأجرى الماء على وادي الملح، وهي سبخة، فتعذر سلوكها، فقال نظام الملك: قد جعلت لك من خراسان جنداً ينصرونك ولا يخذلونك، ويرمون دونك بسهام لاتخطيء، وهم العلماء والزهاد، فقد جعلتهم بالإحسان إليهم من أعظم أعوانك.
وقرب السلطان من قتلمش، فلبس الملك السلاح، وعبأ الكتائب، واصطف العسكران.

وكان قتلمش يعلم علم النجوم، فوقف ونظر، فرأى أن طالعه في ذلك اليوم قد قارنه نحوس لا يرى معها ظفراً، فقصد المحاجزة، وجعل السبخة بينه وبين ألب أرسلان ليمتنع من اللقاء. فسلك ألب أرسلان طريقاً في الماء، وخاض غمرته، وتبعه العسكر، فطلع منه سالماً هو وعسكره، فصاروا مع قتلمش واقتتلوا، فلم يثبت عسكر قتلمش لعسكر السلطان، وانهزموا لساعتهم، ومضى منهزماً إلى قلعة كردكوه، وهي من جملة حصونه ومعاقله، واستولى القتل والأسر على عسكره، فأراد السلطان قتل الأسرى، فشفع فيهم نظام الملك فعفا عنهم وأطلقهم.
ولما سكن الغبار، ونزل العسكر، وجد قتلمش ميتاً ملقى على الأرض لا يدري كيف كان موته، قيل: إنه مات من الخوف، والله أعلم، فبكى السلطان لموته، وقعد لعزائه، وعظم عليه فقده، فسلاه نظام الملك، ودخل ألب أرسلان إلى مدينة الري آخر المحرم من السنة.
ومن العجب أن قتلمش هذا كان يعلم علم النجوم، قد أتقنه، مع أنه تركي، ويعلم غيره من علوم القوم، ثم إن أولاده من بعده لم يزالوا يطلبون هذه العلوم الأولية، ويقربون أهلها، فنالهم بهذا غضاضة في دينهم، وسيرد من أخبارهم ما يعلم منه ذلك وغيره من أحوالهم.
ذكر فتح ألب أرسلان مدينة آني

وغيرها من بلاد النصرانية
ثم سار السلطان من الري أول ربيع الأول، وسار إلى أذربيجان، فوصل إلى مرند عازماً على قتال الروم وغزوهم، فلما كان بمرند أتاه أمير من أمراء التركمان، كان يكثر غزو الروم، اسمه طغدكين، ومعه من عشيرته خلق كثيرر، قد ألفوا الجهاد، وعرفوا تلك البلاد، وحثه على قصد بلادهم، وضمن له سلوك الطريق المستقيم إليها، فسار معه، فسلك بالعساكر في مضايق تلك الأرض ومخارمها، فوصل إلى نقجوان، فأمر بعمل السفن لعبور نهر أرس، فقيل له إن سكان خويّ، وسلماس، من أذربيجان، لم يقوموا بواجب الطاعة، وإنهم قد امتنعوا ببلادهم، فسير إليهم عميد خراسان، ودعاهم إلى الطاعة، وتهددهم إن امتنعوا، فأطاعوا، وصاروا من جملة حزبه وجنده، واجتمع عليه هناك من الملوك والعساكر ما لا يحصى.
فلما فرغ من جمع العساكر والسفن سار إلى بلاد الكرج، وجعل مكانه في عسكره ولده ملكشاه، ونظام الملك وزيره، فسار ملكشاه ونظام الملك إلى قلعة فيها جمع كثير من الروم، فنزل أهلها منها، وتخطفوا من العسكر، وقتلوا منهم فئة كثيرة، فنزل نظام الملك وملكشاه، وقاتلوا من بالقلعة، وزحفوا إليهم، فقتل أمير القلعة وملكها المسلمون، وساروا منها إلى قلعة سرماري، وهي قلعة فيها في المياه الجارية والبساتين، فقاتلوها وملكوها، وأنزلوا منها أهلها، وكان بالقرب منها قلعة أخرى، ففتحها ملكشاه، وأراد تخريبها، فنهاه نظام الملك عن ذلك، وقال: هي ثغر للمسلمين، وشحنها بالرجال والذخائر والأموال والسلاح، وسلم هذه القلاع إلى أمير نقجوان.
وسار ملكشاه ونظام الملك إلى مدينة مريم نشين، وفيها كثير من الرهبان والقسيسين وملوك النصارى وعامتهم يتقربون إلى أهل هذه البلدة، وهي مدينة حصينة، سورها من الأحجار الكبار الصلبة، المشدودة بالرصاص والحديد، وعندها نهر كبير، فأعد نظام الملك لقتالها ما يحتاج إليه من السفن وغيرها، وقاتلها، وواصل قتالها ليلاً ونهاراً، وجعل العساكر عليها يقاتلون بالنوبة، فضجر الكفار، وأخذهم الإعياء والكلال، فوصل المسلمون إلى سورها، ونصبوا عليه السلاليم، وصعد إلى أعلاه، لأن المعاول كلت عن نقبه لقوة حجره.
فلما رأى أهلها المسلمين على السور فت ذلك في أعضادهم، وسقط في أيديهم، ودخل ملكشاه البلد، ونظام الملك، وأحرقوا البيع، وخربوها، وقتلوا كثيراً من أهلها، وأسلم كثير فنجوا من القتل.
واستدعى ألب أرسلان إليه ابنه، ونظام الملك، وفرح بما يسره الله من الفتح على يد ولده، وفتح ملكشاه في طريقه عدة من القلاع والحصون، وأسر من النصارى ما لا يحصون كثرة. وساروا إلى سبيذ شهر، فجرى بين أهلها وبين المسلمين حروب شديدة استشهد فيها كثير من المسلمين، ثم إن الله تعالى يسر فتحها فملكها ألب أرسلان.

وسار منها إلى مدينة أعآل لآل، وهي حصينة، عالية الأسوار، شاهقة البنيان، وهي من جهة الشرق والغرب على جبل عال، وعلى الجبل عدة من الحصون، ومن الجانبين الآخرين نهر كبير لا يخاض، فلما رآها المسلمون علموا عجزهم عن فتحها والاستيلاء عليها، وكان ملكها من الكرج، وهكذا ما تقدم من البلاد التي ذكرنا فتحها، وعقد السلطان جسراً على النهر عريضاً، واشتد القتال، وعظم الخطب، فخرج من المدينة رجلان يستغيثان، ويطلبان الأمان، والتمسا من السلطان أن يرسل معهما طائفة من العسكر، فسير جمعاً صالحاً، فلما جاوزوا الفصيل أحاط بهم الكرج من أهل المدينة وقاتلوهم فأكثروا القتل فيهم، ولم يتمكن المسلمون من الهزيمة لضيق المسلك.
وخرج الكرج من البلد وقصدوا العسكر، واشتد القتال، وكان السلطان، ذلك الوقت، يصلي، فأتاه الصريخ، فلم يبرح حتى فرغ من صلاته، وركب، وتقدم إلى الكفار، فقاتلهم، وكبر المسلمون عليهم، فولوا منهزمين، فدخلوا البلد والمسلمون معهم، ودخلها السلطان وملكها، واعتصم جماعة من أهلها في برج من أبراج المدينة، فقاتلهم المسلمون، فأمر السلطان بإلقاء الحطب حول البرج وإحراقه، ففعل ذلك، وأحرق البرج ومن فيه، وعاد السلطان إلى خيامه، وغنم المسلمون من المدينة ما لايحد ولا يحصى.
ولما جن الليل عصفت ريح شديدة، وكان قد بقي من تلك النار التي أحرق بها البرج بقية كثيرة، فأطارتها الريح، فاحترقت المدينة بأسرها، وذلك في رجب سنة ست وخمسين، وملك السلطان قلعة حصينة كانت إلى جانب تلك المدينة، وأخذها، وسار منها إلى ناحية قرس، ومدينة آني وبالقرب منها ناحيتان يقال لهما سيل ورده، ونورة، فخرج أهلهما مذعنين بالإسلام، وخربوا البيع، وبنوا المساجد.
وسار منها إلى مدينة آني فوصل إليها فرآها مدينة حصينة، شديدة الامتناع، لا ترام، ثلاثة أرباعها على نهر أرس، والربع الآخر نهر عميق شديد الجرية، لو طرحت فيه الحجارة الكبار لدحاها وحملها، والطريق إليها على خندق عليه سور من الحجارة الصم، وهي بلدة كبيرة، عامرة، كثيرة الأهل، فيها ام يزيد على خمسمائة بيعة، فحصرها وضيق عليها، إلا أن المسلمين قد أيسوا من فتحها لما رأوا من حصانتها، فعمل السلطان برجاً من خشب، وشحنه بالمقاتلة، ونصب عليه المنجنيق، ورماه النشاب، فكشفوا الروم عن السور، وتقدم المسلمون إليه لينقبوه، فأتاهم من لطف الله ما لم يكن في حسابهم، فانهدم قطعة كبيرة من السور بغير سبب، فدخلوا المدينة وقتلوا من أهلها ما لا يحصى بحيث أن كثيراً من المسلمين عجزوا عن دخول البلد من كثرة القتلى، وأسروا نحواً مما قتلوا.
وسارت البشرى بهذه الفتوح في البلاد، فسر المسلمون، وقريء كتاب الفتح ببغداد في دار الخلافة، فبرز خط الخليفة بالثناء على ألب أرسلان والدعاء له.
ورتب فيها أميراً في عسكر جرار، وعاد عنها، وقد أرسله ملك الكرج في الهدنة، فصالحه على أداء الجزية كل سنة، فقبل ذلك.
ولما رحل السلطان عائداً قصد أصبهان، ثم سار منها إلى كرمان، فاستقبله أخوه قاروت بك بن جغري بك داود، ثم سار منها إلى مرو، فزوج ابنه ملكشاه بابنة خاقان، ملك ما وراء النهر، وزفت إليه في هذا الوقت، وزوج ابنه أرسلانشاه بابنة صاحب غزنة، واتحد البيتان: البيت السلجوقي، والبيت المحمودي، واتفقت الكلمة.
؟؟

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في ربيع الأول، ظهر بالعراق وخوزستان وكثير من البلاد جماعة من الأكراد، خرجوا يتصيدون، فرأوا في البرية خيماً سوداً، وسمعوا منها لطماً شديداً، وعويلاً كثيراً، وقائلاً يقول: قد مات سيدوك ملك الجن، وأي بلد لم يلطم أهله عليه ويعملوا له العزاء قلع أصله، وأهلك أهله، فخرج كثير من النساء في البلاد إلى المقابر يلطمن، وينحن، وينشرن شعورهن، وخرج رجال من سفلة الناس يفعلون ذلك، وكان ذلك ضحكة عظيمة.
ولقد جرى في أيامنا نحن في الموصل، وما والاها من البلاد إلى العراق، وغيرها، نحو هذا، وذلك أن الناس سنة ستمائة أصابهم وجع كثير في حلوقهم، ومات منه كثير من الناس، فظهر أن امرأة من الجن يقال لها أم عنقود، مات ابنها عنقود، وكل من لا يعمل له مأتماً أصابه هذا المرض، فكثر فعل ذلك، وكانوا يقولون: يا أم عنقود اعذرينا. قد مات عنقود ما درينا، وكان النساء يلطمن، وكذلك الأوباش.

وفيها ولي أبو الغنائم المعمر بن محمد بن عبيد الله العلوي نابة العلويين ببغداد، وإمارة الموسم، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وكان المرتضى أبو الفتح أسامة قد استعفى من النقابة، وصاهر بني خفاجة، وانتقل معهم إلى البرية، وتوفي أسامة بمشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، في رجب سنة اثنتين وسبعين.
وفيها في جمادى الآخرة توفي أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي النحوي المتكلم، وكان له اختيار في الفقه، وكان عالماً بالنسب، ويمشي في الأسواق مكشوف الرأس، ولم يقبل من أحد شيئاً، وكان موته في جمادى الآخرة، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان يميل إلى مذهب مرجئة المعتزلة، ويعتقد أن الكفار لا يخلدون في النار.
وفيها انقض كوكب عظيم، وكثر نوره فصار أكثر من نور القمر، وسمع له دوي عظيم، ثم غاب.
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وأربعمائة؟؟

ذكر الحرب بين بني حماد والعرب
في هذه السنة كانت حرب بين الناصر بن علناس بن حماد ومن معه من رجال المغاربة من صنهاجة ومن زناتة ومن العرب: عدي والأثبج، وبين رياح، وزغبة، وسليم، ومع هؤلاء المعز بن زيري الزناتي، على مدينة سبتة.
وكان سببها أن حماد بن بلكين جد الناصر كان بينه وبين باديس بن المنصور من الخلف، وموت باديس محاصراً قلعة حماد، ما هو مذكور، ولولا تلك القلعة لأخذ سريعاً، وإنما امتنع هو وأولاده بها بعده، وهي من أمنع الحصون، وكذلك ما استمر بين حماد والمعز بن باديس، ودخول حماد في طاعته ما تقدم ذكره، وكذلك أيضاً ما كان بين القائد بن حماد وبين المعز، وكان القائد يضمر الغدر وخلع طاعة المعز، والعجز يمنعه من ذلك، فلما رأى القائد قوة العرب، وما نال المعز منهم، خلع الطاعة، واستبد بالبلاد، وبعده ولده محسن، وبعده ابن عمه بلكين بن محمد بن حماد، وبعده ابن عمه الناصر بن علناس بن محمد بن حماد، وكل منهم متحصن بالقلعة، وقد جعلوها دار ملكهم.
فلما رحل المعز من القيروان وصبرة إلى المهدية تمكنت العرب، ونهبت الناس، وخربت البلاد، فانتقل كثير من أهلها إلى بلاد بني حماد لكونها جبالاً وعرة يمكن الامتناع بها من العرب، فعمرت بلادهم، وكثرت أموالهم، وفي نفوسهم الضغائن والحقود من باديس، ومن بعده من أولادهم، يرثه صغير عن كبير.
وولي تميم بن المعز بعد أبيه، فاستبد كل من هو ببلد وقلعة بمكانه وتميم صابر يداري ويتجلد.
واتصل بتميم أن الناصر بن علناس يقع فيه في مجلسه ويذمه، وأنه عزم على المسير إليه ليحاصره بالمهدية. وأنه قد حالف بعض صنهاجة، وزناتة، وبني هلال ليعينوه على حصار المهدية. فلما صح ذلك عند أرسل إلى أمراء بني رياح، فأحضرهم إليه وقال: أنتم تعلمون أن المهدية حصن منيع، أكثره في البحر، لا يقاتل منه في البر غير أربعة أبراج يحميها أربعون رجلاً، وإنما جمع الناصر هذه العساكر إليكم. فقالوا له: الذي تقول حق، ونحب منك المعونة، فأعطاهم المال، والسلاح من الرماح والسيوف والدروع والدرق، فجمعوا قومهم، وتحالفوا، واتفقوا على لقاء الناصر.
وأرسلوا إلى من مع الناصر من بني هلال يقبحون عندهم مساعدتهم للناصر ويخوفونهم منه إن قوي، وأنه يهلكهم بمن معه من زناتة وصنهاجة، وأنهم إنما يستمر لهم المقام، والاستيلاء على البلاد، إذا تم الخلف وضعف السلطان. فأجابهم بنو هلال إلى الموافقة، وقالوا: اجعلوا أول حملة تحملونها علينا، فنحن ننهزم بالناس، ونعود عليهم، ويكون لنا ثلث الغنيمة. فأجابوهم إلى ذلك، واستقر الأمر.

وأرسل المعز بن زيري الزناتي إلى من مع الناصر من زناتة بنحو ذلك، فوعدوه أيضاً أن ينهزموا، فحينئذ رحلت رياح وزناتة جميعها، وسار إليهم الناصر بصنهاجة، وزناتة، وبني هلال، فالتقت العساكر بمدينة سبتة، فحملت رياح على بني هلال، وحمل المعز على زناتة، فانهزمت الطائفتان، وتبعهم عساكر الناصر منهزمين، ووقع فيهم القتل، فقتل فيمن قتل القاسم بن علناس، أخو الناصر في نفر يسير، وغنمت العرب جميع ما كان في العسكر من مال وسلاح ودواب وغير ذلك، فاقتسموها على ما استقر بينهم، وبهذه الوقعة تم للعرب ملك البلاد، فإنهم قدموها في ضيق وفقر وقلة دواب فاستغنوا، وكثرت دوابهم وسلاحهم، وقل المحامي عن البلاد، وأرسلوا الألوية والطبول وخيم الناصر بدوابها إلى تميم، فردها وقال: يقبح بي أن آخذ سلب ابن عمي! فأرضى العرب بذلك.
ذكر بناء مدينة بجايةلما كانت هذه الوقعة بين بني حماد والعرب، وقويت العرب، اهتم تميم بن المعز لذلك، وأصابه حزن شديد، فبلغ ذلك الناصر، وكان له وزير اسمه أبو بكر بن أبي الفتوح، وكان رجلاً جيداً يحب الاتفاق بينهم، ويهوي دولة تميم، فقال للناصر: ألم أشر عليك أن لا تقصد ابن عمك، وأن تتفقا على العرب، فإنكما لو اتفقتما لأخرجتما العرب.
فقال الناصر: لقد صدقت، ولكن لا مرد لما قدر، فأصلح ذات بيننا. فأرسل الوزير رسولاً من عنده إلى تميم يعتذر، ويرغب في الإصلاح، فقبل تميم قوله، وأراد أن يرسل رسولاً إلى الناصر، فاستشار أصحابه، فاجتمع رأيهم على محمد بن البعبع، وقالوا له: هذا رجل غريب، وقد أحسنت إليه، وحصل له منك الأموال والأملاك. فأحضره، وأعطاه مالاً ودواب وعبيداً وأرسله، فسار مع الرسول حتى وصل إلى بجاية، وكانت حينئذ منزلاً فيه رعية من البربر، فنظر إليها محمد بن البعبع، وقال في نفسه: إن هذا المكان يصلح أن يكون به مرسى ومدينة، وسار حتى وصل إلى الناصر، فلما أوصل الكتاب وأدى الرسالة قال للناصر: معي وصية إليك، وأحب أن تخلي المجلس، فقال الناصر: أنا لا أخفي عن وزيري شيئاً. فقال: بهذا أمرني الأمير تميم، فقام الوزير أبو بكر وانصرف، فلما خرج قال الرسول: يا مولاي إن الوزير مخامر عليك، هواه مع الأمير تميم، لا يخفي عنه من أمورك شيئاً، وتميم مشغول مع عبيده قد استبد بهم، واطرح صنهاجة وغير هؤلاء، ولو وصلت بعسكرك ما بت إلا فيها لبغض الجند والرعية لتميم، وأنا أشير عليك بما تملك به المهدية وغيرها. وذكر له عمارة بجاية، وأشار عليه أن يتخذها دار ملك، ويقرب من بلاد إفريقية، وقال له: أنا أنتقل إليك بأهلي، وأدبر دولتك، فأجابه الناصر إلى ذلك، وارتاب بوزيره، وسار مع الرسول إلى بجاية، وترك الوزير بالقلعة.
فلما وصل الناصر والرسول إلى بجاية أراه موضع الميناء والبلد والدار السلطانية، وغير ذلك، فأمر الناصر من ساعته بالبناء والعمل، وسر بذلك، وشكره، وعاهده على وزارته إذا عاد إليه، ورجعا إلى القلعة، فقال الناصر لوزيره: إن هذا الرسول محب لنا، وقد أشار ببناء بجاية، ويريد الانتقال إلينا، فاكتب له جواب كتبه، ففعل.
وسار الرسول، وقد ارتاب به تميم، حيث تجدد بناء بجاية عقيب مسيره إليهم، وحضوره مع الناصر فيها، وكان الرسول قد طلب من الناصر أن يرسل معه بعض ثقاته ليشاهد الأخبار ويعود بها، فأرسل معه رسولاً يثق به، فكتب معه: إنني لما اجتمعت بتميم لم يسألني عن شيء قبل سؤاله عن بناء بجاية، وقد عظم أمرها عليه، واتهمني، فانظر إلى من تثق به من العرب ترسلهم إلى موضع كذا، فإني سائر إليهم مسرعاً، وقد أخذت عهود زويلة وغيرها على طاعتك. وسير الكتاب، فلما قرأه الناصر سلمه إلى الوزير، فاستحسن الوزير ذلك، وشكره وأثنى عليه، وقال: لقد نصح وبالغ في الخدمة، فلا تؤخر عنه إنفاذ العرب ليحضر معهم.

ومضى الوزير إلى داره، وكتب نسخة الكتاب، وأرسل الكتاب بخط الرسول إلى تميم، وكتاباً منه يذكر له الحال من أوله إلى آخره. فلما وقف تميم على الكتاب عجب من ذلك، وبقي يتوقع له سبباً يأخذه به، إلا أنه جعل عليه من يحرسه في الليل والنهار من حيث لا يشعر، فأتى بعض أولئك الحرس إلى تميم، وأخبره أن الرسول صنع طعاماً، وأحضر عنده الشريف الفهري، وكان هذا الشريف من رجال تميم وخواصه، فأحضره تميم، فقال: كنت واصلاً إليك، وحدثه أن ابن البعبع الرسول دعاني، فلما حضرت عنده قال: أنا في ذمامك، أحب أن تعرفني مع من أخرج من المهدية، فمنعته من ذلك وهو خائف، فأوقفه تميم على الكتاب الذي بخطه، وأمره بإحضاره، فأحضره الشريف.
فلما وصل إلى باب السلطان لقيه رجل بكتاب العرب الذين سيرهم الناصر، ومعهم كتاب الناصر إليه يأمره بالحضور عنده، فأخذ الكتاب وخرج الأمير تميم، فلما رآه ابن البعبع سقطت الكتب منه، فإذا عنوان أحدها: من الناصر بن علناس إلى فلان، فقال له تميم: من أين هذه الكتب؟ فسكت، فأخذها وقرأها، فقال الرسول ابن البعبع: العفو يا مولانا! فقال: لا عفا الله عنك! وأمر به فقتل وغرقت جثته.
ذكر ملك ألب أرسلان جند وصيرانفي هذه السنة عبر ألب أرسلان جيحون، وسار إلى جند وصيران، وهما عند بخارى، وقبر جده سلجوق بجند، فلما عبر النهر استقبله ملك جند وأطاعه، وأهدى له هدايا جليلة، فلم يغير ألب أرسلان عليه شيئاً، وأقره على ما بيده، وعاد عنه بعد أن أحسن إليه وأكرمه، ووصل إلى كركانج خوارزم، وسار منها إلى مرو.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ابتديء بعمارة المدرسة النظامية ببغداد.
وفيها انقض كوكب عظيم، وصار له شعاع كثير أكثر من شعاع القمر، وسمع له صوت مفزع.
وفيها توفي محمد بن أحمد أبو الحسين بن الآبنوسي، روى عن الدارقطني وغيره.
ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وأربعمائة

ذكر عهد ألب أرسلان بالسلطنة لابنه
في هذه السنة سار ألب أرسلان من مرو إلى رايكان، فنزل بظاهرها، ومعه جماعة أمراء دولته، فأخذ عليهم العهود والمواثيق لولده ملكشاه بأنه السلطان بعده، وأركبه، ومشى بين يديه يحمل الغاشية.
وخلع السلطان على جميع الأمراء، وأمرهم بالخطبة له في جميع البلاد التي يحكم عليها، ففعل ذلك، وأقطع البلاد، فأقطع مازندران للأمير إينانج بيغو، وبلخ لأخيه سليمان بن دواد جغري بك، وخوارزم لأخيه أرسلان أرغو، ومرو لابنه الآخر أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس، وولاية بغشور ونواحيها لمسعود بن أرتاش، وهو من أقارب السلطان، وولاية أسفرار لمودود بن أرتاش.
ذكر استيلاء تميم على مدينة تونسفي هذه السنة سير تميم، صاحب إفريقية، عسكراً كثيفاً إلى مدينة تونس، وبها أحمد بن خراسان قد أظهر عليه الخلاف.
وسبب ذلك أن المعز بن باديس، أبا تميم، لما فارق القيروان والمنصورية ورحل إلى المهدية، على ما ذكرناه، استخلف على القيروان وعلى قابس قائد بن ميمون الصنهاجي، وأقام بها ثلاث سنين، ثم غلبته هوارة عليها، فسلمها إليهم وخرج إلى المهدية، فلما ولي الملك تميم بن المعز بعد أبيه رده إليها، وأقام عليها إلى الآن، ثم أظهر الخلاف على تميم والتجأ إلى طاعة الناصر بن علناس بن حماد، فسير إليه تميم الآن عسكراً كثيراً، فلما سمع بهم قائد بن ميمون علم أنه لاطاقة له بهم، فترك القيروان وسار إلى الناصر، فدخل عسكر تميم القيروان، وخربوا دور القائد، وسار العسكر إلى قابس، وبها ابن خراسان، فحصروه بها سنة وشهرين، ثم أطاع ابن خراسان تميماً وصالحه.
وأما قائد فإنه أقام عند الناصر، ثم أرسل إلى أمراء العرب، فاشترى منهم إمارة القيراون، فأجابوه إلى ذلك، فعاد إليها فبنى سورها وحصنها.
ذكر ملك شرف الدولة الأنبار
وهيت وغيرهما
في هذه السنة سار شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران، صاحب الموصل، إلى السلطان ألب أرسلان، فأقطعه الأنبار، وهيت، وحربى، والسن، والبوازيج، ووصل إلى بغداد، فخرج الوزير فخر الدولة بن جهير في الموكب، فلقيه: ونزل شرف الدولة بالحريم الطاهري، وخلع عليه الخليفة.
ذكر عدة حوادث

في العشر الأول من جمادى الأولى ظهر كوكب كبير، له ذؤابة طويلة، بناحية المشرق، عرضها نحو ثلاث أذرع، وهي ممتدة إلى وسط السماء، وبقي إلى السابع والعشرين من الشهر وغاب، ثم ظهر أيضاً آخر الشهر المذكور، عند غروب الشمس، كوكب قد استدار نوره عليه كالقمر، فارتاع الناس وانزعجوا، ولما أظلم الليل صار له ذوائب نحو الجنوب، وبقي عشرة أيام ثم اضمحل.
وفيها، في جمادى الآخرة، كانت بخراسان والجبال زلزلة عظيمة، بقيت تتردد أياماً، تصدعت منها الجبال، وأهلكت خلقاً كثيراً، وانخسف منها عدة قرى، وخرج الناس إلى الصحراء فأقاموا هناك.
وفيها، في جمادى الأولى، وقع حريق بنهر معلى، فاحترق من باب الجريد إلى آخر السوق الجديد من الجانبين.
وفيها ولدت صبية بباب الأزج ولداً برأسين، ورقبتين، ووجهين، وأربع أيد، على بدن واحد.
وفي جمادى الآخرة توفي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، ومولده سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وكان إماماً في الحديث والفقه على مذهب الشافعي، وله فيه مصنفات أحدها السنن الكبير، وعشرة مجلدات، وغيره من التصانيف الحسنة، وكان عفيفاً، زاهداً، ومات بنيسابور.
وفي شهر رمضان منها توفي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفراء الحنبلي، ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة، وعنه انتشر مذهب أحمد، رضي الله عنه، وكان إليه قضاء الحريم ببغداد بدار الخلافة، وهو مصنف كتاب الصفات أتى فيه بكل عجيبة، وترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض، تعالى الله عن ذلك، وكان ابن تميمي الحنبلي يقول: لقد خريء أبو يعلى الفراء على الحنابلة خرية لا يغسلها الماء.
ثم دخلت سنة تسع وخمسين وأربعمائة

ذكر عصيان ملك كرمان على أرسلان
وعوده إلى طاعته
في هذه السنة عصى ملك كرمان، وهو قرا أرسلان، على السلطان ألب أرسلان.
وسبب ذلك أنه كان له وزير جاهل سولت له نفسه الاستبداد بالبلاد عن السلطان، وأن صاحبه، إذا عصى، احتاج إلى التمسك به، فحسن لصاحبه الخلاف على السلطان، فأجاب إلى ذلك، وخلع الطاعة، وقطع الخطبة.
فسمع ألب أرسلان، فسار إلى كرمان، فلما قاربها وقعت طليعته على طليعة قرا أرسلان، فانهزمت طليعة قرا أرسلان بعد قتال، فلما سمع قرا أرسلان وعسكره بانهزام طليعتهم، خافوا وتحيروا، فانهزموا لا يلوي أحد على آخر، فدخل قرا أرسلان إلى جيرفت وامتنع بها، وأرسل إلى السلطان ألب أرسلان يظهر الطاعة ويسأل العفو عن زلته، فعفا عنه، وحضر عند السلطان فأكرمه، وبكى وأبكى من عنده، فأعاده إلى مملكته، ولم يغير عليه شيئاً من حاله، فقال للسلطان: إن لي بنات تجهيزهن إليك، وأمورهن إليك، فأجابه إلى ذلك، وأعطى كل واحدة منهن مائة ألف دينار سوى الثياب والإقطاعات.
ثم سار منها إلى فارس فوصل إلى إصطخر، وفتح قلعتها، واستنزل واليها، فحمل إليه الوالي هدايا عظيمة جليلة المقدار، من جملتها قدح فيروزج، فيه منوان من المسك، مكتوب عليه اسم جمشيد الملك، وأطاعه جميع حصون فارس، وبقي قلعة يقال لها بهنزاد، فسار نظام الملك إليها، وحصرها تحت جبلها، وأعطى كل من رمى بسهم وأصاب قبضة من الدنانير، ومن رمى حجراً ثوباً نفيساً، ففتح القلعة في اليوم السادس عشر من نزوله، ووصل السلطان إليه بعد الفتح، فعظم محل نظام الملك عنده، فأعلى منزلته، وزاد في تحكيمه.
ذكر عدة حوادثفي المحرم منها توفي الأغر أبو سعد، ضامن البصرة، على باب السلطان بالري، وعقدت البصرة وواسط على هزراسب بثلاثمائة ألف دينار.
وفي صفر منها وصل إلى بغداد شرف الملك أبو سعد المستوفي، وبنى على مشهد أبي حنيفة، رضي الله عنه، مدرسة لأصحابه، وكتب الشريف أبو جعفر بن البياضي على القبة التي أحدثها:
ألم تر أن العلم كان مشتتاً، ... فجمعه هذا المغيب في اللحد
كذلك كانت هذه الأرض ميتةً، ... فأنشرها فضل العميد أبي سعد
وفيها، في جمادى الأولى، وصلت أرسلان خاتون، أخت السلطان ألب أرسلان، وهي زوجة الخليفة، إلى بغداد، واستقبلها فخر الدولة بن جهير الوزير على فراسخ.

وفيها، في ذي القعدة، احترقت تربة معروف الكرخي، رحمة الله عليه، وسبب حريقها أن قيمها كان مريضاً، فطبخ لنفسه ماء الشعير، فاتصلت النار بخشب وبواري كانت هناك، فأحرقته واتصل الحريق، فأمر الخليفة أبا سعد الصوفي، شيخ الشيوخ، بعمارتها.
وفيها، في ذي القعدة، فرغت عمارة المدرسة النظامية، وتقرر التدريس بها للشيخ أبي إسحاق الشيرازي، فلما اجتمع الناس لحضور الدرس، وانتظروا مجيئه، تأخر، فطلب، فلم يوجد.
وكان سبب تأخره أنه لقيه صبي، فقال له: كيف تدرس في مكان مغصوب؟ فتغيرت نيته عن التدريس بها، فلما ارتفع النهار، وأيس الناس من حضوره، أشار الشيخ أبو منصور بن يوسف بأبي نصر بن الصباغ، صاحب كتاب الشامل، وقال: لا يجوز أن ينفصل هذا الجمع إلا عن مدرس، ولم يبق ببغداد من لم يحضر غير الوزير، فجلسس أبو نصر للدرس، وظهر الشيخ أبو إسحاق بعد ذلك، ولما بلغ نظام الملك الخبر أقام القيامة على العميد أبي سعد، ولم يزل يرفق بالشيخ أبي إسحاق حتى درس بالمدرسة، وكانت مدة تدريس ابن الصباغ عشرين يوماً.
وفيها، في ذي القعدة، قتل الصليحي، أمير اليمن، بمدينة المهجم، قتله أحد أمرائها وأقيمت الدعوة العباسية هناك، وكان قد ملك مكة، على ما ذكرناه سنة خمس وخمسين، وأمن الحجاج في أيامه، فأثنوا عليه خيراً، وكسا البيت بالحرير الأبيض الصيني، ورد حلى البيت إليه، وكان بنو حسن قد أخذوه وحملوه إلى اليمن، فابتاعه الصليحي منهم.
وفيها توفي عمر بن إسماعيل بن محمد أبو علي الطوسي، قاضيها، وكان يلقب العراقي لطول مقامه ببغداد، وتفقه على أبي طاهر الأسفراييني الشافعي، وأبي محمد الشاشي وغيرهما.
ثم دخلت سنة ستين وأربعمائة

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة كانت حرب بين شرف الدولة بن قريش وبين كلاب بالرحبة، وهم في طاعة العلوي المصري، فكسرهم شرف الدولة، وأخذ أسلابهم، وأرسل أعلاماً كانت معهم، عليها سمات المصري، إلى بغداد، وكسرت، وطيف بها في البلد، وأرسلت الخلع إلى شرف الدولة.
وفيها، في جمادى الأولى، كانت بفلسطين ومصر زلزلة شديدة خربت الرملة، وطلع الماء من رؤوس الآبار، وهلك من أهلها خمسة وعشرون ألف نسمة، وانشقت الصخرة بالبيت المقدس، وعادت بإذن الله تعالى، وعاد البحر من الساحل مسيرة يوم، فنزل الناس إلى أرضه يلتقطون منه، فرجع الماء عليهم فأهلك منهم خلقاً كثيراً.
وفيها، في رجب، ورد أبو العباس الخوافي بغداد عميداً من جهة السلطان.
وفيها عزل فخر الدولة بن جهير من وزارة الخليفة، فخرج من بغداد إلى نور الدولة دبيس بن مزيد بالفلوجة، وأرسل الخليفة إلى أبي يعلى والد الوزير أبي شجاع يستحضره ليوليه الوزارة، وكان يكتب لهزارسب بن بنكير، فسار، فأدركه أجله في الطريق فمات، ثم شفع نور الدولة في فخر الدولة بن جهير، فأعيد إلى الوزارة سنة إحدى وستين في صفر.
وفيها كان بمصر غلاء شديد، وانقضت سنة إحدى وستين وأربعمائة.
وفيها حاصر الناصر بن علناس مدينة الأربس بإفريقية ففتحها وأمن أهلها.
وفيها، في المحرم، توفي الشيخ أبو منصور بن عبد الملك بن يوسف، ورثاه ابن الفضل وغيره من الشعراء، وعم مصابه المسلمين، وكان من أعيان الزمان، فمن أفعاله أنه تسلم المارستان العضدي، وكان قد دثر واستولى عليه الخراب، فجد في عمارته، وجعل فيه ثمانية وعشرين طبيباً، وثلاثة من الخزان، إلى غير ذلك، واشترى له الأملاك النفيسة، بعد أن كان ليس به طبيب ولا دواء، وكان كثير المعروف والصلات والخير، ولم يكن يلقب في زمانه أحد بالشيخ الأجل سواه.
وفي المحرم أيضاً توفي أبو جعفر الطوسي، فقيه الإمامية، بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وأربعمائة
ذكر عدة حوادث
في هذه السنة، في صفر، أعيد فخر الدولة بن جهير إلى وزارة الخليفة، على ما ذكرناه، فلما عاد مدحه ابن الفضل فقال:
قد رجع الحق إلى نصابه، ... وأنت من كل الورى أولى به
ما كنت إلا السيف سلته يد، ... ثم أعادته إلى قرابه
وهي طويلة.

وفي شعبان احترق جامع دمشق. وكان سبب احتراقه أنه وقع بدمشق حرب بين المغاربة أصحاب المصريين والمشارقة، فضربوا داراً مجاورة للجامع بالنار، فاحترقت، واتصلت بالجامع، وكانت العامة تعين المغاربة، فتركوا القتال واشتغلوا بإطفاء النار من الجامع، فعظم الخطب واشتد الأمر، وأتى الحريق على الجامع، فدثرت محاسنه، وزال ما كان فيه من الأعمال النفيسة.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وأربعمائة

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة أقبل ملك الروم من القسطنطينية في عسكر كثيف إلى الشام، ونزل على مدينة منبج ونهبها وقتل أهلها، وهزم محمود بن صالح بن مرداس، وبني كلاب، وابن حسان الطائي، ومن معهما من جموع العرب، ثم إن ملك الروم ارتحل وعاد إلى بلاده، ولم يمكنه المقام لشدة الجوع.
وفيها سار أمير الجيوش بدر من مصر في عساكر كثيرة إلى مدينة صور وحصرها، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، فلما حصره أرسل القاضي إلى الأمير قرلوا، مقدم الأتراك المقيمين بالشام، يستنجده، فسار في اثني عشر ألف فارس، فحصر مدينة صيدا، وهي لأمير الجيوش بدر، فرحل حينئذ بدر، فعاد الأتراك، فعاود بدر حصر صور براً وبحراً سنة، وضيق على أهلها حتى أكلوا الخبز كل رطل بنصف دينار، ولم يبلغ غرضه فرحل عنها.
وفيها صارت دار ضرب الدنانير ببغداد في يد وكلاء الخليفة، وسبب ذلك أن البهرج كثر في أيدي الناس على السكك السلطانية، وضرب اسم ولي العهد على الدينار، وسمي الأميري، ومنع من التعامل بسواه.
وفيها ورد رسول صاحب مكة محمد بن أبي هاشم، ومعه ولده، إلى السلطان ألب أرسلان، يخبره بإقامة الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وللسلطان بمكة، وإسقاط خطبة العلوي، صاحب مصر، وترك الأذان بحي على خير العمل، فأعطاه السلطان ثلاثين ألف دينار، وخلعاً نفيسة، وأجرى له كل سنة عشرة آلاف دينار، وقال: إذا فعل أمير المدينة مهنأ كذلك، أعطيناه عشرين ألف دينار، وكل سنة خمسة آلاف دينار.
وفيها تزوج عميد الدولة بن جهير بابنة نظام الملك بالري وعاد إلى بغداد.
وفيها، في شهر رمضان، توفي تاج الملوك هزراسب بن بنكير بن عياض بأصبهان وهو عائد من عند السلطان إلى خوزستان، وكان قد علا أمره، وتزوج بأخت السلطان، وبغى على نور الدولة دبيس بن مزيد، وأغرى السلطان به ليأخذ بلاده، فلما مات سار دبيس إلى السلطان، ومعه شرف الدولة مسلم، صاحب الموصل، فخرج نظام الملك فلقيهما، وتزوج شرف الدولة بأخت السلطان التي كانت امرأة هزارسب، وعادا إلى بلادهما من همذان.
وفيها كان بمصر غلاء شديد، ومجاعة عظيمة، حتى أكل الناس بعضهم بعضاً، وفارقوا الديار المصرية، فورد بغداد منهم خلق كثير هرباً من الجوع، وورد التجار، ومعهم ثياب صاحب مصر وآلاته، نهبت من الجوع، وكان فيها أشياء كثيرة نهبت من دار الخلافة وقت القبض على الطائع لله سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، ومما نهب أيضاً في فتنة البساسيري وخرج من خزائنهم ثمانون ألف قطعة بلور كبار، وخمسة وسبعون ألف قطعة من الديباج القديم، وأحد عشر ألف كزاغند، وعشرون ألف سيف محلى، وقال ابن الفضل يمدح القائم بأمر الله، ويذكر الحال بقصيدة فيها:
قد علم المصري أن جنوده ... سنو يوسف منها، وطاعون عمواس
أقامت به حتى استراب بنفسه، ... وأوجس منه خيفة أي إيجاس
في أبيات.
وفيها توفي أبو الجوائز الحسن بن علي بن محمد الواسطي، كان أديباً، شاعراً، حسن القول، فمن قوله:
واحسرتي من قولها: ... خان عهودي ولها
وحق من صيرني ... وقفاً عليها ولها
ما خطرت بخاطري، ... إلا كستني ولها
وتوفي محمد بن أحمد أبو غالب بن بشران الواسطي الأديب، وانتهت الرحلة إليه في الأدب، وله شعر، فمنه في الزهد:
يا شائداً للقصور كهلاً ... أقصر، فقصر الفتى الممات
لم يجتمع شمل أهل قصر، ... إلا قصاراهم الشتات
وإنما العيش مثل ظل، ... منتقل ما له ثبات
وفيها توفي القاضي أبو الحسين محمد بن إبراهيم بن حزم، قاضي دمشق، وأبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي العجائز، الخطيب بدمشق.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وأربعمائة

ذكر الخطبة للقائم بأمر الله
والسلطان بحلب
في هذه السنة خطب محمود بن صالح بن مرداس بحلب لأمير المؤمنين القائم بأمر الله، وللسلطان ألب أرسلان.
وسبب ذلك أنه رأى إقبال دولة السلطان، وقوتها، وانتشار دعوتها، فجمع أهل حلب وقال: هذه دولة جديدة، ومملكة شديدة، ونحن تحت الخوف منهم، وهم يستحلون دماءكم لأجل مذاهبكم، والرأي أن نقيم الخطبة قبل أن يأتي وقت لا ينفعنا فيه قول ولا بذل فأجاب المشايخ ذلك، ولبس المؤذنون السواد، وخطبوا للقائم بأمر الله والسلطان، فأخت العامة حصر الجامع، وقالوا: هذه حصر علي بن أبي طالب، فليأت أبو بكر بحصر يصلي عليها الناس.
وأرسل الخليفة إلى محمود الخلع مع نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي، فلبسها، ومدحه ابن سنان الخفاجي، وأبو الفتيان بن حيوس، وقال أبو عبد الله بن عطية يمدح القائم بأمر الله، ويذكر الخطبة بحلب ومكة والمدينة:
كم طائع لك لم تجلب عليه، ولم ... تعرف لطاعته غير التقى سببا
هذا البشير بإذعان الحجاز، وذا ... داعي دمشق وذا المبعوث من حلبا
ذكر استيلاء السلطان أرسلان على حلبفي هذه السنة سار السلطان ألب أرسلان إلى حلب، وجعل طريقه على ديار بكر، فخرج إليه صاحبها، نصر بن مروان، وخدمه بمائة ألف، وحمل إليه إقامة عرف السلطان أنه قسطها على البلاد، فأمر بردها.
ووصل إلى آمد فرآها ثغراً منيعاً، فتبرك به، وجعل يمر يده على السور ويمسح بها صدره.
وسار إلى الرها فحصرها فلم يظفر منها بطائل، فسار إلى حلب وقد وصلها نقيب النقباء أبو الفوراس طراد بالرسالة القائمية، والخلع، فقال له محمود، صاحب حلب: أسألك الخروج إلى السلطان، والاستعفاء لي من الحضور عنده، فخرج نقيب النقباء، وأخبر السلطان بأنه قد لبس الخلع القائمية وخطب فقال: أي شيء تساوي خطبتهم وهم يؤذنون حي على خير العمل؟ ولا بد من الحضور، ودوس بساطي، فامتنع محمود من ذلك.
فاشتد الحصار على البلد، وغلت الأسعار، وعظم القتال، وزحف السلطان يوماً وقرب من البلد، فوقع حجر منجنيق في فرسه، فلما عظم الأمر على محمود خرج ليلاً، ومعه والدته منيعة بنت وثاب النميري، فدخلا على السلطان وقالت له: هذا ولدي، فافعل به ما تحب. فتلقاهما بالجميل، وخلع على محمود وأعاده إلى بلده، فأنفذ إلى السلطان مالاً جزيلاً.
ذكر خروج ملك الروم إلى خلاطفي هذه السنة خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف من الروم، والفرنج، والغرب، والروس، والبجناك، والكرج، وغيرهم، من طوائف تلك البلاد، فجاؤوا في تجمل كثير، وزي عظيم، وقصد بلاد الإسلام، فوصل إلى ملازكرد من أعمال خلاط. فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر، وهو بمدينة خوي من أذربيجان، قد عاد من حلب، وسمع ما هو ملك الروم فيه من كثرة الجموع، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو، فسير الأثقال مع زوجته ونظام الملك إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العساكر، وهم خمسة عشر ألف فارس. وجد في السير، وقال لهم: أنني أقاتل محتسباً صابراً، فإن سلمت فنعمة من الله تعالى، وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي، وساروا.
فلما قارب العدو جعل له مقدمة، فصادفت مقدمته، عند خلاط، مقدم الروسية في نحو عشرة آلاف من الروم، فاقتتلوا، فانهزمت الروسية، وأسر مقدمهم، وحمل إلى السلطان، فجدع أنفه، وأنفذ بالسلب إلى نظام الملك، وأمره أن يرسله إلى بغداد، فلما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فقال: لا هدنة إلا بالري، فانزعج السلطان لذلك، فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري، الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح، فالقهم يوم الجمعة، بعد الزوال، في الساعة التي تكون الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
فلما كانت تلك الساعة صلى بهم، وبكى السلطان، فبكى الناس لبكائه، ودعا ودعوا معه، وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف، فما هاهنا سلطان يأمر وينهى، وألقى القوس والنشاب، وأخذ السيف والدبوس، وعقد ذنب فرسه بيده، وفعل عسكره مثله، ولبس البياض، وتحنط، وقال: إن قتلت فهذا كفني.

وزحف إلى الروم، وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجل وعفر وجهه على التراب، وبكى، وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل وحملت العساكر معه، فحصل المسلمون في وسطهم وحجز الغبار بينهم، فقتل المسلمون فيهم كيف شاؤوا، وأنزل الله نصره عليهم، فانهزم الروم، وقتل منهم ما لا يحصى، حتى امتلأت الأرض بجثث القتلى، وأسر ملك الروم، أسره بعض غلمان كوهارائين، أراد قتله ولم يعرفه، فقال له خادم مع الملك: لاتقتله، فإنه الملك.
وكان هذا الغلام قد عرضه كوهرائين على نظام الملك، فرده استحقاراً له، فأثنى عليه كوهرائين، فقال نظام الملك: عسى أن يأتينا بملك الروم أسيراً، فكان كذلك.
فلما أسر الغلام الملك أحضره عند كوهرائين، فقصد السلطان وأخبره بأسر الملك، فأمر بإحضاره، فلما أحضر ضربه السلطان ألب أرسلان ثلاث مقارع بيده وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ، وافعل ما تريد! فقال الس: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ فقال: أفعل القبيح. قال له: فما تظن أنني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني، وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى بعيدة، وهي العفو، وقبول الأموال، واصطناعي نائباً عنك. قال: ما عزمت على غير هذا.
ففداه بألف ألف دينار وخمس مائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم أي وقت طلبها، وأن يطلق كل أسير في بلاد الروم، واستقر الأمر على ذلك، وأنزله في خيمة، وأرسل إليه عشرة آلاف دينار يتجهز بها، فأطلق له جماعة من البطارقة، وخلع عليه من الغد، فقال ملك الروم: أين جهة الخليفة؟ فدل عليها، فقام وكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة، وهادنه السلطان خمسين سنة، وسيره إلى بلاده، وسير معه عسكراً أوصلوه إلى مأمنه، وشيعه السلطان فرسخاً.
وأما الروم فلما بلغهم خبر الوقعة وثب ميخائيل على المملكة فملك البلاد، فلما وصل أرمانوس الملك إلى قلعة دوقية بلغه الخبر، فلبس الصوف وأظهر الزهد، وأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان، وقال: إن شئت أن تفعل ما استقر، وإن شئت أمسكت، فأجابه ميخائيل بإيثار ما استقر، وطلب وساطته، وسؤال السلطان في ذلك.
وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار، فأرسله إلى السلطان، وطبق ذهب عليه جواهر بتسعين ألف دينار، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك، ثم إن أرمانوس استولى على أعمال الأرمن وبلادهم. ومدح الشعراء السلطان، وذكروا هذا الفتح، فأكثروا.
ذكر ملك أتسز الرملة وبيت المقدسفي هذه السنة قصد أتسز بن أوق الخوارزمي، وهو من أمراء السلطان ملكشاه، بلد الشام، فجمع الأتراك وسار إلى فلسطين، ففتح مدينة الرملة، وسار منها إلى البيت المقدس وحصره، وفيه عساكر المصريين، ففتحه، وملك ما يجاورهما من البلاد، ما عدا عسقلان، وقصد دمشق فحصرها، وتابع النهب لأعمالها حتى خربها، وقطع الميرة عنها، فضاق الأمر بالناس، فصبروا، ولم يمكنوه من ملك البلد، فعاد عنه، وأدام قصد أعماله وتخريبها حتى قلت الأقوات عندهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي أبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني، الفقيه الشافعي، مصنف كتاب الإبانة وغيره.
وفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي الخطيب أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي، صاحب التاريخ والمصنفات الكثيرة ببغداد، وكان إمام الدنيا في زمانه، وممن حمل جنازته الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
وتوفي أيضاً فيها، في شهر رمضان، أبو يعلى محمد بن الحسين بن حمزة الجعفري، فقيه الإمامية، وحسان بن سعيد بن حسان بن محمد بن عبد الله المنيعي المخزومي من أهل مرو الروذ، كان كثير الصدقة والمعروف، والعبادة، والقنوع بالقليل من القوت، والإعراض عن زينة الدنيا وبهجتها، وكان السلاطين يزورونه ويتبركون به، وأكثر من بناء المساجد والخانقاهات والقناطر، وغير ذلك من مصالح المسلمين.
وتوفيت أيضاً كريمة بنت أحمد بن محمد المروزية، وهي التي تروي صحيح البخاري، توفيت بمكة، وإليها انتهى علو الإسناد للصحيح إلى أن جاء أبو الوقت.
ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة

ذكر ولاية سعد الدولة كوهرائين شحنكية بغداد
في ربيع الأول من هذه السنة ورد إيتكين السليماني شحنة بغداد من عند السلطان إلى بغداد، فقصد دار الخلافة، وسأل العفو عنه، وأقام أياماً، فلم يجب إلى ذلك.

وكان سبب غضب الخليفة عليه أنه كان قد استخلف ابنه عند مسيره إلى السلطان، وجعله شحنة ببغداد، فقتل أحد المماليك الدارية، فأنفذ قميصه من الديوان إلى السلطان، ووقع الخطاب في عزله.
وكان نظام الملك يعنى بالسليماني، فأضاف إلى إقطاعه تكريت، فكوتب واليها، من ديوان الخلافة، بالتوقف عن تسليمها. فلما رأى نظام الملك والسلطان إصرار الخليفة على الاستقالة من ولايته شحنكية بغداد، سير سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد شحنة، وعزل السليماني عنها، اتباعاً لما أمر به الخليفة القائم بأمر الله، ولما ورد سعد الدولة خرج الناس لتلقيه، وجلس له الخليفة.
ذكر تزويج ولي العهد بابنة السلطانفي هذه السنة أرسل الإمام القائم بأمر الله عميد الدولة بن جهير، ومعه الخلع للسلطان ولولده ملكشاه، وكان السلطان قد أرسل يطلب من الخليفة أن يأذن في أن يجعل ولده ملكشاه ولي عهده، فأذن، وسيرت له الخلع مع عميد الدولة، وأمر عميد الدولة أن يخطب ابنة السلطان ألب أرسلان من سفري خاتون لولي العهد المقتدي بأمر الله، فلما حضر عند السلطان خطب ابنته، فأجيب إلى ذلك.
وعقد النكاح بظاهر نيسابور، وكان عميد الدولة الوكيل في قبول النكاح، ونظام الملك الوكيل من جهة السلطان في العقد، وكان النثار جواهر، وعاد عميد الدولة من عند السلطان إلى ملكشاه، وكان ببلاد فارس، فلقيه بأصبهان، فأفاض عليه الخلع، فلبسها وسار إلى والده، وعاد عميد الدولة إلى بغداد، فدخلها في ذي الحجة.
ذكر ولاية أبي الحسن بن عمار طرابلسفي هذه السنة، في رجب، توفي القاضي أبو طالب بن عمار، قاضي طرابلس، وكان قد استولى عليها، واستبد بالأمر فيها، فلما توفي قام مكانه ابن أخيه جلال الملك أبو الحسن بن عمار، فضبط البلد أحسن ضبط، ولم يظهر لفقد عمه أثر لكفايته.
ذكر ملك السلطان ألب أرسلان قلعة فضلون بفارسفي هذه السنة سير السلطان ألب أرسلان وزيره نظام الملك في عسكر إلى بلاد فارس، وكان بها حصن من أمنع الحصون والمعاقل، وفيه صاحبه فضلون، وهو لا يعطي الطاعة، فنازله وحصره، ودعاه إلى طاعة السلطان فامتنع، فقاتله فلم يبلغ بقتاله غرضاً لعلو الحصن وارتفاعه، فلم يطل مقامهم عليه حتى نادى أهل القلعة بطلب الأمان ليسلموا الحصن إليه، فعجب الناس من ذلك.
وكان السبب فيه أن جميع الآبار التي بالقلعة غارت مياهها في ليلة واحدة فقادتهم ضرورة العطش إلى التسليم، فلما طلبوا الأمان أمنهم نظام الملك، وتسلم الحصن، والتجأ فضلون إلى قلة القلعة، وهي أعلى موضع فيها، وفيه بناء مرتفع، فاحتمى فيها، فسير نظام الملك طائفة من العسكر إلى الموضع الذي فيه أهل فضلون وأقاربه ليحملوهم إليه وينهبوا مالهم، فسمع فضلون الخبر، ففارق موضعه مستخفياً فيمن عنده من الجند، وسار ليمنع عن أهله، فاستقبلته طلائع نظام الملك، فخافهم فتفرق من معه، واختفى في نبات الأرض، فوقع فيه بعض العسكر، فأخذه أسيراً، وحمله إلى نظام الملك، فأخذه وسار به إلى السلطان فأمنه وأطلقه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي القاضي أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الصمد نب المهتدي بالله الخطيب بجامع المنصور، وكان قد أضر، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وكان إليه قضاء واسط، وخليفته عليها أبو محمد السمال.
ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة

ذكر قتل السلطان ألب أرسلان

في أول هذه السنة قصد السلطان ألب أرسلان، واسمه محمد، وإنما غلب عليه ألب أرسلان ما وراء النهر، وصاحبه شمس الملك تكين، فعقد على جيحون جسراً وعبر عليه في نيف وعشرين يوماً، وعسكره يزيد على مائتي ألف فارس، فأتاه أصحابه بمستحفظ قلعة يعرف بيوسف الخوارزمي، في سادس شهر ربيع الأول، وحمل إلى قرب سريره مع غلامين، فتقدم أن تضرب له أربعة أوتاد وتشد أطرافه إليها، فقال له يوسف: يا مخنث! مثلي يقتل هذه القتلة؟ فغضب السلطان ألب أرسلان، وأخذ القوس والنشاب، وقال للغلامين: خلياه! ورماه الس بسهم فأخطأه، ولم يكن يخطيء سهمه، فوثب يوسف يريده، والسلطان على سدة، فلما رأى يوسف يقصده قام عن السدة ونزل عنها، فعثر، فوقع على وجهه، فبرك عليه يوسف وضربه بسكين كانت معه في خاصرته، وكان سعد الدولة واقفاً، فجرحه يوسف أيضاً جراحات، ونهض الس فدخل إلى خيمة أخرى، وضرب بعض الفراشين يوسف بمرزبة على رأسه، فقتله وقطعه الأتراك.
وكان أهل سمرقند لما بلغهم عبور السلطان النهر، وما فعل عسكره بتلك البلاد لا سيما بخارى، اجتمعوا، وختموا ختمات، وسألوا الله أن يكفيهم أمره، فاستجاب لهم.
ولما جرح السلطان قال: ما من وجه قصدته، وعدو أردته، إلا استعنت بالله عليه، ولما كان أمس صعدت على تل، فارتجت الأرض تحتي من عظم الجيش وكثرة العسكر، فقلت في نفسي: أنا أملك الدنيا، وما يقدر أحد علي، فعجزني الله تعالى بأضعف خلقه، وأنا أستغفر الله تعالى، وأستقيله من ذلك الخاطر. فتوفي عاشر ربيع الأول من السنة، فحمل إلى مرو ودفن عند أبيه.
ومولده سنة أربع وعشرين وأربعمائة، وبلغ من العمر أربعين سنة وشهوراً، وقيل كان مولده سنة عشرين وأربعمائة، وكانت مدة ملكه منذ خطب له بالسلطنة إلى أن قتل تسع سنين وستة أشهر وأياماً، ولما وصل خبر موته إلى بغداد جلس الوزير فخر الدولة بن جهير للعزاء به في صحن السلام.
ذكر نسب ألب أرسلان

وبعض سيرته
هو ألب أرسلان محمد بن داود بن جغري بك من ميكائيل بن سلجوق، وكان كريماً، عادلاً، عاقلاً، لا يسمع السعايات، واتسع ملكه جداً، ودان له العالم، وبحق قيل له سلطان العالم.
وكان رحيم القلب رفيقاً بالفقراء، كثير الدعاء بدوام ما أنعم الله به عليه.
اجتاز يوماً بمرو على فقراء الخرائين، فبكى، وسأل الله تعالى أن يغنيه من فضله.
وكان يكثر الصدقة، فيتصدق في رمضان بخمسة عشر ألف دينار، وكان في ديوانه أسماء خلق كثير من الفقراء في جميع ممالكه، عليهم الإدرارات والصلات، ولم يكن في جميع بلاده جناية ولا مصادرة، قد قنع من الرعايا بالخراج الأصلي يؤخذ منهم كل سنة دفعتين رفقاً بهم.
وكتب إليه بعض السعاة سعاية في نظام الملك وزيره، وذكر ما له في ممالكه من الرسوم والأموال، وتركت على مصلاه، فأخذها فقرأها، ثم سلمها إلى نظام الملك وقال له: خذ هذا الكتاب، فإن صدقوا في الذي كتبوه فهذب أخلاقك، وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر لهم زلتهم واشغلهم بمهم يشتغلون به عن السعاية بالناس.
وهذه حالة لا يذكر عن أحد من الملوك أحسن منها.
وكان كثيراً ما يقرأ عليه تواريخ الملوك وآدابهم، وأحكام الشريعة، ولما اشتهر بين الملوك حسن سيرته، ومحافظته على عهوده، أذعنوا له بالطاعة والموافقة بعد الامتناع، وحضروا عنده من أقاصي ما وراء النهر إلى أقصى الشام.
وكان شديد العناية بكف الجند عن أموال الرعية، بلغه أن بعض خواص مماليكه سلب من بعض الرستاقية إزاراً، فأخذ المملوك وصلبه، فارتدع الناس عن التعرض إلى مال غيرهم.
ومناقبه كثيرة لا يليق بهذا الكتاب أكثر من هذا القدر منها. وخلف ألب أرسلان من الأولاد: ملكشاه، وهو صار السلطان بعده، وإياز، وتكش، وبوري برش، وتتش، وأرسلان أرغو، وسارة، وعائشة، وبنتاً أخرى.
ذكر ملك السلطان ملكشاه

لما جرح السلطان ألب أرسلان أوصى لابنه ملكشاه، وكان معه، وأمر أن يحلف له العسكر، فحلفوا جميعهم، وكان المتولي للأمر في ذلك نظام الملك، وأرسل ملكشاه إلى بغداد يطلب الخطبة له، فخطب له على منابرها، وأوصى ألب أرسلان ابنه ملكشاه أيضاً أن يعطي أخاه قاروت بك بن داود أعمال فارس وكرمان، وشيئاً عينه من المال، وأن يزوج بزوجته، وكان قاروت بك بكرمان، وأوصى أن يعطى ابنه إياز بن ألب أرسلان ما كان لأبيه داود، وهو خمسمائة ألف دينار، وقال: كل من لم يرض بما أوصيت له فقاتلوه، واستعينوا بما جعلته له على حربه.
وعاد ملكشاه من بلاد ما وراء النهر، فعبر العسكر الذي قطع النهر في نيف وعشرين يوماً في ثلاثة أيام، وقام بوزارة ملكشاه نظام الملك، وزاد الأجناد في معايشهم سبع مائة ألف دينار، وعادوا إلى خراسان، وقصدوا نيسابور، وراسل ملكشاه جماعة الملوك أصحاب الأطراف يدعوهم إلى الخطبة له والانقياد إليه، وأقام إياز أرسلان ببلخ وسار السلطان ملكشاه في عساكره من نيسابور إلى الري.
ذكر ملك صاحب سمرقند مدينة ترمذفي هذه السنة، في ربيع الآخر، ملك التكين صاحب سمرقند مدينة ترمذ.
وسبب ذلك أنه لما بلغه وفاة ألب أرسلان، وعود ابنه ملكشاه عن خراسان، طمع في البلاد المجاورة له، فقصد ترمذ أول ربيع الآخر، وفتحها، ونقل ما فيها من ذخائر وغيرها إلى سمرقند.
وكان إياز بن ألب أرسلان قد سار عن بلخ إلى الجوزجان، فخاف أهل بلخ، فأرسلوا إلى التكين يطلبون منه الأمان، فأمنهم، فخطبوا له فيها، وورد إليها، فنهب عسكره شيئاً من أموالل الناس، وعاد إلى ترمذ، فثار أوباش بلخ بجماعة من أصحابه فقتلوهم، فعاد إليهم وأمر بإحراق المدينة، فخرج إليه أعيان أهلها وسألوه الصفح، واعتذروا، فعفا عنهم، لكنه أخذ أموال التجار فغنم شيئاً عظيماً.
فلما وصل الخبر إلى إياز عاد من الجوزجان إلى بلخ، فوصل غرة جمادى الأولى، فأطاعه أهلها، وسار عنها إلى ترمذ في عشرة آلاف فارس في الثالث والعشرين من جمادى الآخرة، فلقيهم عسكر التكين، فانهزم إياز، فغرق من عسكره في جيحون أكثرهم، وقتل كثير منهم، ولم ينج إلا القليل.
ذكر قصد صاحب غزنة سكلكندوفي هذه السنة أيضاً، في جمادى الأولى، وردت طائفة كثيرة من عسكر غزنة إلى سكلكند، وبها عثمان عم السلطان ملكشاه، ويلقب بأمير الأمراء، فأخذوه أسيراً، وعادوا به إلى غزنة مع خزائنه وحشمه، فسمع الأمير كمشتين بلكابك، وهو من أكابر الأمراء، فتبع آثارهم، وكان معه أنوشتكين جد ملوك خوارزم في زماننا، فنهبوا مدينة سكلكند.
ذكر الحرب بين السلطان ملكشاه وعمه قاورت بكلما بلغ قاورت بك، وهو بكرمان، وفاة أخيه ألب أرسلان سار طالباً للري يريد الاستيلاء على الممالك، فسبقه إليها السلطان ملكشاه ونظام الملك، وسارا منها إليه، فالتقوا بالقرب من همذان في شعبان، وكان العسكر يميلون إلى قاورت بك، فحملت ميسرة قاورت على ميمنة ملكشاه، فهزموها، وحمل شرف الدولة مسلم بن قريش، وبهاء الدولة منصور بن دبيس بن مزيد، وهما مع ملكشاه، ومن معهما من العرب والأكراد، على ميمنة قاورت بك فهزموها، وتمت الهزيمة على أصحاب قاورت بك، ومضى المنهزمون من أصحاب السلطان ملكشاه إلى حلل شرف الدولة، وبهاء الدولة، فنهبوها غيظاً منهم، حيث هزموا عسكر قاورت بك، ونهبوا أيضاً ما كان لنقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي رسول الخليفة.
وجاء رجل سوادي إلى السلطان ملكشاه، فأخبره أن عمه قاورت بك في بعض القرى، فأرسل من أخذه وأحضره، فأمر سعد الدولة كوهرائين فخنقه، وأقرر كرمان بيد أولاده، وسير إليهم الخلع، وأقطع العرب والأكراد إقطاعات كثيرة لما فعلوه في الوقعة.
وكان السبب في حضور شرف الدولة، وبهاء الدولة، عند ملكشاه، أن السلطان ألب أرسلان كان ساخطاً على شرف الدولة، فأرسل الخليفة نقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي إلى شرف الدولة بالموصل، فأخذه وسار به إلى ألب أرسلان ليشفع فيه عند الخليفة، فلما بلغ الزاب وقف على ملطفات كتبها وزيره أبو جابر بن صقلاب، فأخذه شرف الدولة فغرقه، وسار مع طراد، فبلغهما الخبر بوفاة ألب أرسلان، ومسير ابنه ملكشاه، فتمما إليه.
وأما بهاء الدولة فإنه كان قد سار بمال أرسله به أبوه إلى السلطان، فحضر الحرب بهذا السبب.

ذكر تفويض الأمور إلى نظام الملك
ثم إن عسكر ملكشاه بسطوا ومدوا أيديهم في أموال الرعية، وقالوا: ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك، فنال الرعية أذى شديد، فذكر ذلك نظام الملك للسلطان، فبين له ما في هذا الفعل من الوهن، وخراب البلاد، وذهاب السياسة، فقال له: افعل في هذا ما تراه مصلحة! فقال له نظام الملك: ما يمكنني أن أفعل إلا بأمرك.
فقال السلطان: قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد، وحلف له وأقطعه إقطاعاً زائداً على ما كان، من جملته طوس مدينة نظام الملك، وخلع عليه، ولقبه ألقاباً من جملتها: أتابك، ومعناه الأمير الوالد، فظهر من كفايته، وشجاعته، وحسن سيرته ما هو مشهور، فمن ذلك أن امرأة ضعيفة استغاثت به، فوقف يكلمها وتكلمه، فدفعها بعض حجابه، فأنكر ذلك عليه وقال: إنما استخدمتك لأمثال هذه، فإن الأمراء والأعيان لا حاجة بهم إليك، ثم صرفه عن حجابته.
ذكر قتل ناصر الدولة بن حمدانفي هذه السنة قتل ناصر الدولة أبو علي الحسن بن حمدان، وهو من أولاد ناصر الدولة بن حمدان، بمصر، وكان قد تقدم فيها تقدماً عظيماً.
ونذكر هاهنا الأسباب الموجبة لقتله، فإنها تتبع بعضها بعضاً، وفي حروب وتجارب، وكان أول ذلك انحلال أمر الخلافة، وفساد أحوال المستنصر بالله العلوي، صاحبها، وسببه أن والدته كانت غالبة على أمره، وقد اصطنعت أبا سعيد إبراهيم التستري، اليهودي، وصار وزيراً لها، فأشار عليها بوزارة أبي نصر الفلاحي، فولته الوزارة، واتفقا مدة، ثم صار الفلاحي ينفرد بالتدبير، فوقع بينهما وحشة، فخافه الفلاحي أن يفسد أمره مع أم المستنصر، فاصطنع الغلمان الأتراك، واستمالهم، وزاد في أرزاقهم، فلما وثق بهم وضعهم على قتل اليهودي، فقتلوه، فعظم الأمر على أم المستنصر، وأغرت به ولدها، فقبض عليه، وأرسلت من قتله تلك الليلة، وكان بينهما في القتل تسعة أشهر.
ووزر بعده أبو البركات حسن بن محمد، فوضعه على الغلمان الأتراك فأفسد أحوالهم، وشرع يشتري العبيد للمستنصر، واستكثر منهم، فوضعته أم المستنصر ليغري العبيد المجردين بالأتراك، فخاف عاقبة ذلك، وعلم أنه يورث شراً وفساداً، فلم يفعل، فتنكرت له، وعزلته عن الوزارة.
وولي بعده الوزارة أبو محمد اليازوري من قرية من قرى الرملة اسمها يازور، فأمرته أيضاً بذلك، فلم يفعل، وأصلح الأمور إلى أن قتل.
ووزر بعده أبو عبد الله الحسين بن البابلي، فأمرته بما أمرت به غيره من الوزراء من إغراء العبيد بالأتراك، ففعل، فتغيرت نياتهم.
ثم إن المستنصر ركب ليشيع الحجاج، فأجرى بعض الأتراك فرسه، فوصل به إلى جماعة العبيد المحدثين، وكانوا يحيطون بالمستنصر، فضربه أحدهم فجرحه، فعظم ذلك على الأتراك ونشبت بينهم الحرب، ثم اصطلحوا على تسليم الجارح إليهم، واستحكمت العداوة، فقال الوزير للعبيد: خذوا حذركم، فاجتمعوا في محلتهم.
وعرف الأتراك ذلك، فاجتمعوا إلى مقدميهم، وقصدوا ناصر الدولة بن حمدان، وهو أكبر قائد بمصر، وشكوا إليه، واستمالوا المصامدة، وكتامة، وتعاهدوا، وتعاقدوا، فقوي الأتراك، وضعف العبيد المحدثون، فخرجوا من القاهرة إلى الصعيد ليجتمعوا هناك، فانضاف إليهم خلق كثير يزيدون على خمسين ألف فارس وراجل، فخاف الأتراك وشكوا إلى المستنصر، فأعاد الجواب أنه لا علم له بما فعل العبيد، وأنه لا حقيقة له، فظنوا قوله حيلة عليهم.
ثم قوي الخبر بقرب العبيد منهم بكثرتهم، فأجفل الأتراك، وكتامة، والمصامدة، وكانت عدتهم ستة آلاف، فالتقوا بموضع يعرف بكوم الريش، واقتتلوا، فانهزم الأتراك ومن معهم إلى القاهرة، وكان بعضهم قد كمن في خمسمائة فارس، فلما انهزم الأتراك خرج الكمين على ساقة العبيد ومن معهم، وحملوا عليهم حملة منكرة، وضربت البوقات، فارتاع العبيد، وظنوها مكيدة من المستنصر، وأنه ركب في باقي العسكر، فانهزموا، وعاد عليهم الأتراك وحكموا فيهم السيوف، فقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفاً وكان يوماً مشهوداً.

وقويت نفوس الأتراك، وعرفوا حسن رأي المستنصر فيهم، وتجمعوا، وحشدوا، فتضاعفت عدتهم، وزادت واجباتهم للإنفاق فيهم، فخلت الخزائن، واضطربت الأمور، وتجمع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، فاجتمعوا مع العبيد، فصاروا خمسة عشر ألف فارس وراجل، وساروا إلى الجيزة، فخرج عليهم الأتراك ومن معهم، واقتتلوا في الماء عدة أيام، ثم عبر الأتراك النيل إليهم مع ناصر الدولة بن حمدان، فاقتتلوا، فانهزم العبيد إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك منصورين.
ثم إن العبيد اجتمعوا بالصعيد في خمسة عشر ألف فارس وراجل، فقلق الأتراك لذلك، فحضر مقدموهم دار المستنصر لشكوى حالهم، فأمرت أم المستنصر من عندها من العبيد بالهجوم على المقدمين والفتك بهم، ففعلوا ذلك، وسمع ناصر الدولة الخبر، فهرب إلى ظاهر البلد، واجتمع الأتراك إليه، ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد، ومن تبعهم من مصر، والقاهرة، وحلف الأمير ناصر الدولة بن حمدان أنه لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعاماً، حتى ينفصل الحال بينهم، فبقيت الحرب ثلاثة أيام، ثم ظفر بهم ناصر الدولة، وأكثر القتل فيهم، ومن سلم هرب، وزالت دولتهم من القاهرة.
وكان بالإسكندرية جماعة كثيرة من العبيد، فلما كانت هذه الحادثة طلبوا الأمان، فأمنوا وأخذت منهم الإسكندرية، وبقي العبيد الذين بالصعيد.
فلما خلت الدولة من الأتراك طمعوا في المستنصر، وقل ناموسه عندهم، وطلبوا الأموال، فخلت الخزائن، فلم يبق فيها شيء البتة، واختل ارتفاع الأعمال، وهم يطالبون، واعتذر المستنصر بعدم الأموال عنده، فطلب ناصر الدولة العروض، فأخرجت إليهم، وقومت بالثمن البخس، وصرفت إلى الجند، قيل إن واجب الأتراك كان في الشهر عشرين ألف، فصار الآن في الشهر أربعمائة ألف دينار.
وأما العبيد فإنهم أفسدوا، وقطعوا الطريق، وأخافوا السبيل، فسار إليهم ناصر الدولة في عسكر كثير، فمضى العبيد من بين يديه إلى الصعيد الأعلى، فأدركهم، فقاتلهم، وقاتلوه، فانهزم ناصر الدولة منهم وعاد إلى الجيزة بمصر، واجتمع إليه من سلم من أصحابه، وشغبوا على المستنصر، واتهموه بتقوية العبيد والميل إليهم. ثم جهزوا جيشاً وسيروه إلى طائفة من العبيد بالصعيد، وقاتلوهم، فقتلت تلك الطائفة من العبيد، فوهن الباقون، وزالت دولتهم.
وعظم أمر ناصر الدولة، وقويت شوكته، وتفرد بالأمر دون الأتراك، فامتنعوا من ذلك، وعظم عليهم، وفسدت نياتهم له، فشكوا ذلك إلى الوزير، وقالوا: كلما خرج من الخليفة مال أخذ أكثره له ولحاشيته، ولا يصل إلينا منه إلا القليل. فقال الوزير: إنما وصل إلى هذا وغيره بكم، فلو فارقتموه لم يتم له أمر. فاتفق رأيهم على مفارقة ناصر الدولة، وإخراجه من مصر، فاجتمعوا، وشكوا إلى المستنصر، وسألوه أن يخرج عنهم ناصر الدولة، فأرسل إليه يأمره بالخروج، ويتهدده إن لم يفعل، فخرج من القاهرة إلى الجيزة، ونهبت داره ودور حواشيه وأصحابه.
فلما كان الليل دخل ناصر الدولة مستخفياً إلى القائد المعروف بتاج الملوك شاذي، فقبل رجله، وقال: اصطنعني! فقال: أفعل، فحالفه على قتل مقدم من الأتراك اسمه الدكز، والوزير الخطير، وال ناصر الدولة لشاذي: تركب في أصحابك، وتسير بين القصرين، فإذا أمكنتك الفرصة فيهما فاقتلهما.
وعاد ناصر الدولة إلى موضعه إلى الجيزة. وفعل شاذي ما أمره، فركب الدكز إلى القصر، فرأى شاذي في جمعه، فأنكره، وأسرع فدخل القصر، ففاته، ثم أقبل الوزير في موكبه، فقتله شاذي، وأرسل إلى ناصر الدولة يأمره بالركوب، فركب إلى باب القاهرة، فقال الدكز للمستنصر: إن لم تركب، وإلا هلكت أنت ونحن. فركب، ولبس سلاحه، وتبعه خلق عظيم من العامة والجند، واصطفوا للقتال، فحمل الأتراك على ناصر الدولة فانهزم، وقتل من أصحابه خلق كثير، ومضى منهزماً على وجهه لا يلوي على شيء، وتبعه فل أصحابه، فوصل إلى بني سنبس، فأقام عندهم وصاهرهم فقوي بهم.

وتجهزت العساكر إليه ليبعدوه، فساروا حتى قربوا منه، وكانوا ثلاث طوائف، فأراد أحد المقدمين أن يفوز بالظفر وحده دون أصحابه، فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة، وحمل عليه فقاتله، فظفر به ناصر الدولة، فأخذه أسيراً، وأكثر القتل في أصحابه، وعبر العسكر الثاني، ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم، فحمل ناصر الدولة عليهم، ورفع رؤوس القتلى على الرماح، فوقع الرعب في قلوبهم، فانهزموا وقتل أكثرهم، وقويت نفس ناصر الدولة.
وعبر العسكر الثالث، فهزمه وأكثر القتل فيهم، وأسر مقدمهم، وعظم أمره، ونهب الريف فأقطعه، وقطع الميرة عن مصر براً وبحراً، فغلت الأسعار بها، وكثر الموت بالجوع، وامتدت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل، وعظم الوباء حتى إن أهل البيت الواحد كانوا يموتون كلهم في ليلة واحدة.
واشتد الغلاء، حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفاً بألف دينار، فاستبعد ذلك، فقيل: إنها باعت عروضاً قيمتها ألف دينار بثلاثمائة دينار، واشترت بها حنطة، وحملها الحمال على ظهره، فنهبت الحنطة في الطريق، فنهبت هي مع الناس، فكان الذي حصل لها ما عملته رغيفاً واحداً.
وقطع ناصر الدولة الطريق براً وبحراً، فهلك العالم، ومات أكثر أصحاب المستنصر، وتفرق كثير منهم، فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصلح، فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شاذي نائباً عن ناصر الدولة بالقاهرة، يحمل المال إليه، ولا يبقى معه لأحد حكم.
فلما دخل تاج الملوك إلى القاهرة تغير عن القاعدة، واستبد بالأموال دون ناصر الدولة، ولم يرسل إليه منها شيئاً، فسار ناصر الدولة إلى الجيزة، واستدعى إليه شاذي وغيره من مقدمي الأتراك، فخرجوا إليه إلا أقلهم، فقبض عليهم كلهم، ونهب ناحيتي مصر، وأحرق كثيراً منهما، فسير إليه المستنصر عسكراً فكبسوه، فانهزم منهم ومضى هارباً، فجمع جمعاً، وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم، وقطع خطبة المستنصر بالإسكندرية ودمياط، وكانا معه، وكذلك جميع الريف، وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خلعاً ليخطب له بمصر.
واضمحل أمر المستنصر، وبطل ذكره، وتفرق الناس من القاهرة، وأرسل ناصر الدولة إليه أيضاً يطلب المال، فرآه الرسول جالساً على حصير، وليس حوله غير ثلاثة خدم، ولم ير الرسول شيئاً من آثار المملكة، فلما أدى الرسالة قال: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير؟ فبكى الرسول، وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر، فأجرى له كل يوم مائة دينار، وعاد إلى القاهرة، وحكم فيها، وأذل السلطان وأصحابه.
وكان الذي حمله على ذلك أنه كان يظهر التسنن من بين أهله، ويعيب المستنصر، وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد، وقبض على أم المستنصر، وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرق عن المستنصر أولاده وكثير من أهله إلى الغرب، وغيره من البلاد، فمات كثير منهم جوعاً.
وانقضت سنة أربع وستين وما قبلها بالفتن. وانحط السعر سنة خمس وستين، ورخصت الأسعار، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، وفرق عنه عامة أصحابه، وكان يقول لأحدهم: إنني أريد أن أوليك عمل كذا، فيسير إليه، فلا يمكنه من العمل ويمنعه من العود، وكان غرضه بذلك أن يخطب للخليفة القائم بأمر الله، ولا يمكنه مع وجودهم، ففطن لفعله قائد كبير من الأتراك اسمه الدكز، وعلم أنه متى ما تم ما أراد تمكن منه ومن أصحابه، فأطلع على ذلك غيره من قواد الأتراك، فاتفقوا على قتل ناصر الدولة، وكان قد أمن لقوته، وعدم عدوه، فتواعدوا ليلة على ذلك، فلما كان سحر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره، وهي التي تعرف بمنازل العز، وهي على النيل، فدخلوا، من غير استئذان، إلى صحن داره، فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء لأنه كان آمناً منهم، فلما دنا منهم ضربوه بالسيوف، فسبهم، وهرب منهم يريد الحرم، فلحقوه فضربوه حتى قتلوه، وأخذوا رأسه.

ومضى رجل منهم، يعرف بكوكب الدولة، إلى فخر العرب، أخي ناصر الدولة، وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه، فقال للحاجب: استأذن لي على فخر العرب، وقل صنيعتك فلان على الباب، فاستأذن له، فأذن له وقال: لعله قد دهمه أمر. فلما دخل عليه أسرع نحوه كأنه يريد السلام عليه، وضربه بالسيف على كتفه، فسقط على الأرض، فقطع رأسه، وأخذ سيفه، وكان ذا قيمة وافرة، وأخذ جارية له أردفها خلفه، وتوجه إلى القاهرة، وقتل أخوهما تاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانية بمصر بالكلية.
فلما كان سنة ست وستين وأربعمائة ولي بمصر بدر الجمالي، أمير الجيوش، وقتل الدكز والوزير ابن كدينة، وجماعة من المسلحية، وتمكن من الدولة إلى أن مات، وولي بعده ابنه الأفضل، وسيرد ذكرهم إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أقيمت الدعوة العباسية بالبيت المقدس.
وفيها توفي الأمير ليث بن منصور صدقة بن الحسين بالدامغان، والشريف أبو الغنائم عبد الصمد بن علي بن محمد بن المأمون ببغداد، وكان موته في شوال، ومولده سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وكان عالي الإسناد في الحديث.
وفيها، في ذي الحجة، توفي الشريف أبو الحسين محمد بن علي بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، المعروف بابن الغريق، وكان يسمى راهب بني العباس، وهو آخر من حدث عن الدارقطني وابن شاهين وغيرهما، وكان موته ببغداد.
وفيها قتل ناصر الدولة أبو علي الحسين بن حمدان بمصر، قتله الدكز التركي، وقد تقدم شرحه مستوفى.
وفيها توفي الإمام أبو القاسم عبد الكريم بن هوزان القشيري، النيسابوري، مصنف الرسالة وغيرها، وكان إماماً، فقيهاً، أصولياً، مفسراً، كاتباً، ذا فضائل جمة، وكان له فرس قد أهدي إليه، فركبه نحو عشرين سنة، فلما مات الشيخ لم يأكل الفرس شيئاً فعاش أسبوعاً ومات.
وفيها أيضاً توفي علي بن الحسن بن علي بن الفضل أبو منصور، الكاتب المعروف بابن صر بعر، وكان نظام الملك قال له أنت ابن صر در، لا صر بعر، فبقي ذلك عليه، وهو من الشعراء المجيدين، وهجاه ابن البياضي فقال:
لئن نبز الناس قدماً أباك، ... فسموه من شعره صر بعرا
فإنك تنظم ما صره ... عقوقاً له، وتسميه شعرا
وهذا ظلم من ابن البياضي، إنه كان شاعراً محسناً، ومن شعر ابن صر در قوله:
تزاورن عن أذرعات يمينا، ... نواشز ليس يطقن البرينا
كلفن بنجد، كأن الرياض ... أخذن لنجد عليها يمينا
وأقسمن يحملن إلا نحيلا ... إليه، ويبلغن إلا حزينا
فلما استمعن زفير المشوق، ... ونوح الحمام، تركن الحنينا
إذا جئتما بانة الواديين، ... فأرخو النسوع، وحلوا الوضينا
فثم علائق من أجلهن، ... ملاء الدجى والضحى قد طوينا
وقد أنبأتهم مياه الجفون ... بأن بقلبك داء دفينا
ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة

ذكر تقليد السلطان ملكشاه السلطنة
والخلع عليه
في هذه السنة، في صفر، ورد كوهرائين، إلى بغداد من عسكر السلطان، وجلس له الخليفة القائم بأمر الله، ووقف على رأسه ولي العهد المقتدي بأمر الله، وسلم الخليفة إلى كوهرائين عهد السلطان ملكشاه بالسلطنة، وقرأ الوزير أوله، وسلم إليه أيضاً لواء عقده الخليفة بيده، ولم يمنع يومئذ أحد من الدخول إلى دار الخلافة، فامتلأ صحن السلام بالعامة، حتى كان الإنسان تهمه نفسه ليتخلص، وهنأ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة.
ذكر غرق بغدادفي هذه السنة غرق الجانب الشرقي وبعض الغربي من بغداد.
وسببه أن دجلة زادت زيادة عظيمة، وانفتح القورج عند المسناة المعزية، وجاء في الليل سيل عظيم، وطفح الماء من البرية مع ريح شديدة، وجاء الماء إلى المنازل من فوق، ونبع من البلاليع والآبار بالجانب الشرقي، وهلك خلق كثير تحت الهدم، وشدت الزواريق تحت التاج خوف الغرق.
وقام الخليفة يتضرع ويصلي، وعليه البردة، وبيده القضيب، وأتى ايتكين السليماني من عكبرا، فقال للوزير: إن الملاحين يؤذون الناس في المعابر فأحضرهم، وتهددهم بالقتل، وأمر بأخذ ما جرت به العادة.

وجكع الناس، وأقيمت الخطبة للجمعة في الطيار مرتين، وغرق من الجانب الغربي مقبرة أحمد، ومشهد باب التبن، وتهدم سوره، فأطلق شرف الدولة ألف دينار تصرف في عمارته، ودخل الماء من شبابيك البيمارستان العضدي.
ومن عجيب ما يحكى في هذا الغرق أن الناس، في العام الماضي، كانوا قد أنكروا كثرة المغنيات والخمور، فقطع بعضهم أوتار عود مغنية كانت عند جندي، فثار به الجندي الذي كانت عنده، فضربه، فاجتمعت العامة ومعهم كثير من الأئمة منهم أبو إسحاق الشيرازي، واستغاثوا بالخليفة، وطلبوا هدم المواخير والحانات وتبطيلها، فوعدهم أن يكاتب السلطان في ذلك، فسكنوا وتفرقوا.
ولازم كثير من الصالحين الدعاء بكشفه، فاتفق أن غرقت بغداد، ونال الخليفة والجند من ذلك أمر عظيم، وعمت مصيبته الناس كافة، فرأى الشريف أبو جعفر بن أبي موسى بعض الحجاب الذين يقولون: نحن نكاتب السلطان، ونسعى في تفريق الناس، ويقول: اسكنوا إلى أن يرد الجواب. فقال له أبو جعفر: قد كتبنا، وكتبتم، فجاء جوابنا قبل جوابكم، يعني أنهم شكوا ما حل بهم إلى الله تعالى، وقد أجابهم بالغرق، قبل ورود جواب السلطان.
ذكر ملك السلطان ملكشاه ترمذ

والهدنة بينه وبين صاحب سمرقند
قد ذكرنا أن خاقان التكين صاحب سمرقند ملك ترمذ بعد قتل السلطان ألب أرسلان، فلما استقامت الأمور للسلطان ملكشاه سار إلى ترمذ وحصرها، وطم العسكر خندقها، ورماها بالمجانيق، فخاف من بها، فطلبوا الأمان فأمنهم، وخرجوا منها وسلموها.
وكان بها أخ لخاقان التكين، فأكرمه السلطان، وخلع عليه وأحسن إليه وأطلقه، وسلم قلعة ترمذ إلى الأمير ساوتكين، وأمره بعمارتها وتحصينها وعمارة سورها بالحجر المحكم، وحفر خندقها وتعميقه، ففعل ذلك.
وسار السلطان ملكشاه يريد سمرقند، ففارقها صاحبها، وأنفذ يطلب المصالحة، ويضرع إلى نظام الملك في إجابته إلى ذلك، ويعتذر من تعرضه إلى ترمذ، فأجيب إلى ذلك، واصطلحوا، وعاد ملكشاه عنه إلى خراسان، ثم منها إلى الري، وأقطع بلخ وطخارستان لأخيه شهاب الدين تكش.
ذكر عدة حوادثفيها توفي زعيم الدولة أبو الحسن بن عبد الرحيم بالنيل فجأة، وله سبعون سنة، وقد تقدم من أخباره ما فيه كفاية.
وفيها توفي إياز أخو السلطان ملكشاه، وكفي شره كما كفي شر عمه قاورت بك.
وفيها، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو الحسين بن أبي جعفر السمناني حمو قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني، وولي ابنه أبو الحسن ما كان إليه من القضاء بالعراق والموصل، وكان مولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة بسمنان، وكان هو وأبوه من المغالين في مذهب الأشعري، ولأبيه فيه تصانيف كثيرة، وهذا مما يستطرف أن يكون حنفي أشعرياً.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي عبد العزيز بن أحمد بن محمد بن علي أبو محمد الكتاني، الدمشقي، الحافظ، وكان مكثراً في الحديث، ثقة، وممن سمع منه الخطيب أبو بكر البغدادي.
ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة
ذكر وفاة القائم بأمر الله
وذكر بعض سيرته
في هذه السنة، ليلة الخميس ثالث شعبان، توفي القائم بأمر الله أمير المؤمنين، رضي الله عنه، واسمه عبد الله أبو جعفر بن القادر بالله أبي العباس أحمد ابن الأمير إسحاق بن المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبي العباس أحمد.
وكان سبب موته أنه كان قد أصابه شرى، فافتصد، ونام منفرداً، فانفجر فصاده، وخرج منه دم كثير ولم يشعر، فاستيقظ وقد ضعف وسقطت قوته، فأيقن بالموت، فأحضر ولي العهد، ووصاه بوصايا، وأحضر النقيبين وقاضي القضاة وغيرهم مع الوزير ان جهير، وأشهدهم على نفسه أنه جعل ابن ابنه أبا القاسم عبد الله بن محمد بن القائم بأمر الله ولي عهده.
ولما توفي غسله الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي، وصلى عليه المقتدي بأمر الله.
وكان عمره ستاً وسبعين سنة وثلاثة أشهر وخمسة أيام، وخلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وأياماً، وقيل كان مولده ثامن عشر ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، وعلى هذا يكون عمره ستاً وسبعين سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوماً.
وأمه أم ولد تسمى قطر الندى، أرمينية، وقيل رومية، أدركت خلافته، وقيل اسمها علم، وماتت في رجب سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.

وكان القائم جميلاً، مليح الوجه، أبيض، مشرباً حمرة، حسن الجسم، ورعاً، ديناً، زاهداً، عالماً، قوي اليقين بالله تعالى، كثير الصبر، وكان للقائم عناية بالأدب، ومعرفة حسنة بالكتابة، ولم يكن يرتضي أكثر ما يكتب من الديوان، فكان يصلح فيه أشياء، وكان مؤثراً للعدل والإنصاف يريد قضاء حوائج الناس، لا يرى المنع من شيء يطلب منه.
قال محمد بن علي بن عامر الوكيل: دخلت يوماً إلى المخزن، فلن يبق أحد إلا أعطاني قصة، فامتلأت أكمامي منها، فقلت في نفسي: لو كان الخليفة أخي لأعرض عن هذه كلها، فألقيتها في بركة، والقائم ينظر ولا أشعر، فلما دخلت إليه أمر الخدم بإخراج الرقاع من البركة، فأخرجت، ووقف عليها، ووقع فيها بأغراض أصحابها، ثم قال لي: يا عامي! ما حملك على هذا؟ فقلت: خوف الضجر منها، فقال: لا تعد إلى مثلها! فإنا ما أعطيناهم من أموالنا شيئاً، إنما نحن وكلاء.
ووزر للقائم أبو طالب محمد بن أيوب، وأبو الفتح بن دارست، ورئيس الرؤساء، وأبو نصر بن جهير، وكان قاضيه ابن ماكولا، وأبو عبد الله الدامغاني.
ذكر خلافة المقتدي بأمر اللهلما توفي القائم بأمر الله بويع المقتدي بأمر الله عبد الله بن محمد بن القائم بالخلافة، وحضر مؤيد الملك بن نظام الملك، والوزير فخر الدولة بن جهير وابنه عميد الدولة، والشيخ أبو إسحاق، وأبو نصر بن الصباغ، ونقيب النقباء طراد، والنقيب الطاهر المعمر بن محمد، وقاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني، وغيرهم من الأعيان والأماثل، فبايعوه.
وقيل: كان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي، فإنه لما فرغ من غسل القائم بايعه، وأنشده:
إذا سيد منا مضى قام سيد
ثم ارتج عليه، فقال المقتدي:
قؤول بما قال الكرام فعول
فلما فرغوا من البيعة صلى بهم العصر.
ولم يكن للقائم من أعقابه ذكر سواه، فإن الذخيرة أبا العباس محمد بن القائم توفي أيام أبيه، ولم يكن له غيره، فأيقن الناس بانقراض نسله، وانتقال الخلافة من البيت القادري إلى غيره، ولم يشكوا في اختلال الأحوال بعد القائم، لأن من عدا البيت القادري كانوا يخالطون العامة في البلد، ويجرون مجرى السوقة، فلو اضطر الناس إلى خلافة أحدهم لم يكن له ذلك القبول، ولا تلك الهيبة، فقدر الله تعالى أن الذخيرة أبا العباس كان له جارية اسمها أرجوان، وكان يلم بها، فلما توفي ورأت ما نال القائم من المصيبة واستعظمه من انقراض عقبه، ذكرت أنها حامل، فتعلقت النفوس بذلك، فولدت بعد موت سيدها بستة أشهر المقتدي، فاشتد فرح القائم، وعظم سروره، وبالغ في الإشفاق عليه والمحبة له.
فلما كانت حادثة البساسيري كان للمقتدي قريب أربع سنين، فأخفاه أهله، وحمله أبو الغنائم بن المحلبان إلى حران، كما ذكرنا، ولما عاد القائم إلى بغداد أعيد المقتدي إليه. فلما بلغ الحلم جعله ولي عهد، ولما ولي الخلافة أقر فخر الدولة بن جهير على وزارته بوصية من القائم بذلك، وسير عميد الدولة بن فخر الدولة بن جهير إلى السلطان ملكشاه لأخذ البيعة، وكان مسيره في شهر رمضان، وأرسل معه من أنواع الهدايا ما يجل عن الوصف.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شوال، وقعت نار ببغداد في دكان خباز بنهر المعلى، فاحترقت من السوق مائة وثمانون دكاناً سوى الدور، ثم وقعت نار في المأمونية، ثم في الظفرية، ثم في درب المطبخ، ثم في دار الخليفة، ثم في حمام السمرقندي، ثم في باب الأزج وذرب خراسان، ثم في الجانب الغربي في نهر طابق، ونهر القلائين، والقطيعة، وباب البصرة، واحتراق ما لا يحصى.
وفيها أرسل المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، إلى صاحب مكة ابن أبي هاشم رسالة وهدية جليلة، وطلب منه أن يعيد له الخطبة مكة، حرسها الله تعالى، وقال: إن أيمانك وعهودك كانت للقائم، وللسلطان ألب أرسلان، وقد ماتا، فخطب به بمكة وقطع خطبة المقتدي، وكانت مدة الخطبة العباسية بمكة أربع سنين وخمسة أشهر، ثم أعيدت في ذي الحجة سنة ثمان وستين.
وفيها كانت حرب شديدة بين بني رياح وزغبة ببلاد إفريقية، فقويت بنو رياح على زغبة فهزموهم وأخرجوهم عن البلاد.

وفيها جمع نظام الملك، والسلطان ملكشاه، جماعة من أعيان المنجمين، وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل، وكان النيروز قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت. وصار ما فعله السلطان مبدأ التقاويم.
وفيها أيضاً عمل الرصد للسلطان ملكشاه، واجتمع من أعيان المنجمين في عمله منهم: عمر بن إبراهيم الخيامي، وأبو المظفر الإسفزاري، وميمون ابن النجيب الواسطي، وغيرهم، وخرج عليه من الأموال شيء عظيم، وبقي الرصد دائراً إلى أن مات السلطان سنة خمس وثمانين وأربعمائة، فبطل بعد موته.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة

ذكر ملك أقسيس دمشق
قد ذكرنا سنة ثلاث وستين ملك أقسيس الرملة، والبيت المقدس، وحصره مدينة دمشق، فلما عاد عنها جعل يقصد أعمالها كل سنة عند إدراك الغلات فيأخذها، فيقوى هو وعسكره، ويضعف أهل دمشق وجندها، فلما كان رمضان سنة سبع وستين سار إلى دمشق فحصرها، وأميرها المعلى بن حيدرة من قبل الخليفة المستنصر، فلم يقدر عليها، فانصرف عنها في شوال، فهرب أميرها المعلى في ذي الحجة.
وكان سبب هربه أنه أساء السيرة مع الجند والرعية وظلمهم، فكثر الدعاء عليه، وثار به العسكر، وأعانهم العامة، فهرب منها إلى بانياس، ثم منها إلى صور، ثم أخذ إلى مصر فحبس بها، فمات محبوساً.
فلما هرب من دمشق اجتمعت المصادمة، وولوا عليهم انتصار بن يحيى المصمودي، المعروف برزين الدولة، وغلت الأسعار بها حتى أكل الناس بعضهم بعضاً.
ووقع الخلف بين المصامدة وأحداث البلد، وعرف أقسيس ذلك، فعاد إلى دمشق، فنزل عليها في شعبان من هذه السنة، فحصرها، فعدمت الأقوات، فبيعت الغرارة، إذا وجدت، بأكثر من عشرين ديناراً، فسلموها إليه بأمان، وعوض انتصار عنها بقلعة بانياس، ومدينة يافا من الساحل، ودخلها هو وعسكره في ذي القعدة، وخطب بها يوم الجمعة لخمس بقين من ذي القعدة، للمقتدي بأمر الله الخليفة العباسي، وكان آخر ما خطب فيها للعلويين المصريين، وتغلب على أكثر الشام، ومنع الأذان بحي على خير العمل، ففرح أهلها فرحاً عظيماً، وظلم أهلها، وأساء السيرة فيهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ملك نصر بن محمود بن مرداس مدينة منبج وأخذها من الروم.
وفيها قدم سعد الدولة كوهرائين شحنة إلى بغداد من عسكر السلطان، ومعه العميد أبو نصر ناظراً في أعمال بغداد.
وفيها وثب الجند بالبطيحة على أميرها أبي نصر بن الهيثم، وخالفوا عليه، فهرب منهم، وخرج من ملكه والذخائر والأموال التي جمعها في المدة الطويلة، ولم يصحبه من ذلك جميعه شيء، وصار نزيلاً على كوهرائين شحنة العراق.
وفيها انفجر البثوق بالفلوجة، وانقطع الماء من النيل وغيره من تلك الأعمال من بلاد دبيس بن مزيد، فجلا أهل البلاد، ووقع الوباء فيهم، ولم يزل كذلك إلى أن سده عميد الدولة بن جهير سنة اثنتين وسبعين.
وفي هذه السنة توفي أبو علي الحسن بن القاسم بن محمد المقري، المعروف بغلام الهراس الواسطي، بها، وكان محدثاً علامة في كثير من العلوم.
ويف شعبان توفي القاضي أبو الحسين محمد بن محمد البيضاوي الفقيه الشافعي، وكان يدرس الفقه بدرب السلولي بالكرخ، وهو زوج ابنة القاضي أبي الطيب الطبري، وعبد الرحمن بن محمد بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود أبو الحسن بن أبي طلحة الداودي، راوي صحيح البخاري، ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وسمع الحديث وتفقه للشافعي على أبي بكر القفال، وأبي حامد الأسفراييني، وصحب أبا علي الدقاق، وأبا عبد الرحمن السلمي، وكان عابداً خيراً، قصده نظام الملك، فجلس بين يديه، فوعظه، وكان في قوله: إن الله تعالى سلطك على عباده، فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم، فبكى، وكان موته ببوشنج.
وفيها توفي أبو الحسن علي بن أحمد بن محمد بن متويه الواحدي المفسر، مصنف الوسيط، والبسيط، والوجيز، في التفسير، وهو نيسابوري، إمام مشهور، وأبو الفتح منصور بن أحمد بن دارست، وزير القائم، توفي بالأهواز، ومحمد بن القاسم بن حبيب بن عبدوس أبو بكر الصفار النيسابوري، الفقيه الشافعي، تفقه على أبي محمد الجويني، وسمع من الحاكم أبي عبد الله وأبي عبد الرحمن السلمي وغيرهما.
وفيها توفي مسعود بن عبد العزيز بن المحسن بن الحسن بن عبد الرزاق أبو جعفر البياضي الشاعر، له شعر مطبوع، فمنه قوله:

يا من لبست لبعده ثوب الضنى، ... حتى خفيت به عن العواد
وأنست بالسهر الطويل، فأنسيت ... أجفان عيني كيف كان رقادي
إن كان يوسف بالجمال مقطع ال ... أيدي، فأنت مفتت الأكباد
ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة

ذكر حصر أقسيس مصر وعوده عنها
في هذه السنة سار أقسيس من دمشق إلى مصر، وحصرها، وضيق على أهلها، ولم يبق غير أن يملكها، فاجتمع أهلها مع ابن الجوهري الواعظ في الجامع، وبكوا وتضرعوا ودعوا، فقبل الله دعاءهم، فانهزم أقسيس من غير قتال، وعاد على أقبح صورة بغير سبب، فوصل إلى دمشق وقد تفرق أصحابه، فرأى أهلها قد صانوا مخلفيه وأمواله، فشكرهم، ورفع عنهم الخراج تلك السنة.
وأتى البيت المقدس، فرأى أهله قد قبحوا على أصحابه ومخلفيه، وحصروهم في محراب داود، عليه السلام، فلما قارب البلد تحصن أهله منه وسبوه، فقاتلهم، ففتح البلد عنوة ونهبه، وقتل من أهله فأكثر حتى قتل من التجأ إلى المسجد الأقصى، وكف عمن كان عند الصخرة وحدها. هكذا يذكر الشاميون هذا الاسم أقسيس، والصحيح أنه أتسز، وهو اسم تركي، وقد ذكر بعض مؤرخي الشام أن أتسز لما وصل إلى مصر جمع أمير الجيوش بدر العساكر، واستمد العرب وغيرهم من أهل البلاد، فاجتمع معه خلق كثير، واقتتلوا، فانهزم أتسز، وقتل أكثر أصحابه، وقتل أخ له، وقطعت يد أخ آخر، وعاد منهزماً إلى الشام في نفر قليل من عسكره، فوصل إلى الرملة، ثم سار منها إلى دمشق.
وحكى لي من أثق به جماعة من فضلاء مصر: أن أتسز لما وصل إلى مصر ونزل بظاهر القاهرة أساء أصحابه السيرة في الناس، وظلموهم، وأخذوا أموالهم، وفعلوا الأفاعيل القبيحة، فأرسل رؤساء القرى ومقدموها إلى الخليفة المستنصر بالله العلوي يشكون إليه ما نزل بهم، فأعاد الجواب بأنه عاجز عن دفع هذا العدو، فقالوا له: نحن نرسل إليك من عندنا من الرجال المقاتلة يكونون معك، ومن ليس له سلاح تعطيه من عندك سلاحاً، وعسكر هذا العدو قد أمنوا، وتفرقوا في البلاد، فنثور بهم في ليلة واحدة ونقتلهم، وتخرج أنت إليه فيمن اجتمع عندك من الرجال، فلا يكون له بك قوة. فأجابهم إلى ذلك.
وأرسلوا إليه الرجال، وثاروا كلهم في ليلة واحدة بمن عندهم، فأوقعوا بهم، وقتلوهم عن آخرهم، ولم يسلم منهم إلا من كان عنده في عسكره، وخرج إليه العسكر الذي عند المستنصر بالقاهرة، فلم يقدر على الثبات لهم، فولى منهزماً، وعاد إلى الشام، وكفي أهل مصر شره وظلمه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ورد بغداد أبو نصر ابن الأستاذ أبي القاسم القشيري حاجاً، وجلس في المدرسة النظامية يعظ الناس، وفي رباط شيخ الشيوخ، وجرى له مع الحنابلة فتن لأنه تكلم على مذهب الأشعري، ونصره، وكثر أتباعه والمتعصبون له، وقصد خصومه من الحنابلة، ومن تبعهم، سوق المدرسة النظامية وقتلوا جماعة.
وكان من المتعصبين للقشيري الشيخ أبو إسحاق، وشيخ الشيوخ، وغيرهما من الأعيان، وجرت بين الطائفتين أمور عظيمة.
وفيها تزوج الأمير علي بن أبي منصور بن فرامرز بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه أرسلان خاتون بنت داود عمة السلطان ملكشاه التي كانت زوجة القائم بأمر الله.
وفيها كان بالجزيرة، والعراق، والشام وباء عظيم، وموت كثير، حتى بقي كثير من الغلات ليس لها من يعملها لكثرة الموت في الناس.
وفيها مات محمود بن مرداس، صاحب حلب، وملك بعده ابنه نصر، فمدحه ابن حيوس بقصيدة يقول فيها:
ثمانية لم تفترق مذ جمعتها، ... فلا افترقت ما ذب عن ناظر شعر
ضميرك والتقوى وجودك والغنى ... ولفظك والمعنى وعزمك والنصر
وكان لمحمود بن نصر سجية ... وغالب ظني أن سيخلفها نصر
فقال: والله لو قال سيضعفها نصر لأضعفتها له. وأمر له بما كان يعطيه أبوه، وهو ألف دينار، في طبق فضة.
وكان على بابه جماعة من الشعراء، فقال بعضهم:
على بابك المعمور منا عصابة ... مفاليس فانظر في أمور المفاليس
وقد قنعت منك العصابة كلها ... بعشر الي أعطيته لابن حيوس
وما بيننا هذا التقارب كله، ... ولكن سعيد لا يقاس بمنحوس

فقال لو قال: بمثل الذي أعطيته، لأعطيتهم ذلك، وأمر لهم بمثل نصفه.
وفيها توفي اسبهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي الشاعر، وكان قد لقي ابن الحجاج، وابن نباتة، وغيرهما، وكان يتشيع، وتركه، وقال في ذلك:
وإذا سئلت عن اعتقادي قلت: ما ... كانت عليه مذاهب الأبرار
وأقول: خير الناس بعد محمد ... صديقه وأنيسه في الغار
وفيها توفي رئيس العراقين أبو أحمد النهاوندي الذي كان عميد بغداد، والشريف أبو جعفر بن أبي موسى الهاشمي الحنبلي، ورزق الله بن محمد بن أحمد بن علي أبو سعد الأنباري الخطيب، الفقيه، الحنفي، سمع الحديث الكثير، وكان ثقة حافظاً، وطاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي، المصري، توفي في رجب، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات لوقته، وعبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمر بن أحمد المعروف بابن هزارمرد، الصريفيني، راوية أحاديث علي بن الجعد، وهو آخر من رواها، وكان ثقة، صالحاً، ومن طريقه سمعناها.
ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة

ذكر عدة حوادث
في هذه السنة ورد مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من العسكر.
وفيها اصطلح تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، مع الناصر بن علناس، وهو من بني حماد، عم جده، وزوجه تميم ابنته بلارة، وسيرها إليه من المهدية في عسكر، وأصحبها من الحلي والجهاز ما لا يحد، وحمل الناصر ثلاثين ألف دينار، فأخذ منها تميم ديناراً واحداً ورد الباقي.
وفيها استعمل تميم ابنه مقلداً على مدينة طرابلس الغرب.
وكان ببغداد، في هذه السنة، فتنة بين أهل سوق المدرسة وسوق الثلاثاء بسبب الاعتقاد، فنهب بعضهم بعضاً، وكان مؤيد الملك بن نظام الملك ببغداد بالدار التي عند المدرسة، فأرسل إلى العميد والشحنة فحضرا ومعهما الجند، فضربوا الناس، فقتل بينهم جماعة وانفصلوا.
وفي هذه السنة، في ربيع الأول، توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد بن البيضاوي، الفقيه الشافعي، وكان القاضي أبو الطيب الطبري جده لأمه.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله بن النقور أبو الحسين البزاز في رجب، وكان مكثراً من الحديث، ثقة في الرواية، وأحمد بن عبد الملك بن علي أبو صالح المؤذن النيسابوري، كان يعظ ويؤذن، وكان كثير الرواية، حافظاً، ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وعبد الرحمن بن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة الأصبهاني أبو القاسم بن أبي عبد الله الحافظ، له تصانيف كثيرة، منها: تاريخ أصبهان، وله طائفة ينتمون إليه في الاعتقاد من أهل أصبهان، يقال لهم العبد رحمانية.
وفي شوال منها توفيت ابنة نظام الملك زوجة عميد الدولة بن جهير، نفساء بولد مات من يومه، ودفنا بدار الخلافة، ولم تجر بذلك عادة لأحد، فعل ذلك إكراماً لأبيها، وجلس الوزير فخر الدولة بن جهير، وابنه عميد الدولة زوجها، للعزاء في دار بباب العامة ثلاثة أيام.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة
ذكر عزل ابن جهير من وزارة الخليفة
في هذه السنة عزل فخر الدولة أبو نصر بن جهير من وزارة الخليفة المقتدي بأمر الله، ووزر بعده أبو شجاع محمد بن الحسين.
وكان السبب في ذلك أن أبا نصر بن القشيري ورد إلى بغداد، على ما تقدم ذكره، وجرى له الفتن مع الحنابلة، لما ذكر مذهب الأشعرية، ونصره، وعاب من سواهم، وفعلت الحنابلة ومن معهم ما ذكرناه، نسب أصحاب نظام الملك ما جرى إلى الوزير فخر الدولة، وإلى الخدم، وكتب أبو الحسن محمد بن علي بن أبي الصقر الواسطي الفقيه الشافعي إلى نظام الملك:
يا نظام الملك قد حل ... ببغداد النظام
وابنك القاطن فيها ... مستهان مستضام
وبها أودى له قت ... لى غلام، وغلام
والذي منهم تبقى ... سالماً فيه سهام
يا قوام الدين لم يب ... قرواش ببغداد مقام
عظم الخطب، وللحر ... ب اتصال، ودوام
فمتى لم تحسم الدا ... ء أياديك الحسام
ويكف القوم في بغ ... داد قتل، وانتقام
فعلى مدرسة في ... ها، ومن فيها السلام

واعتصام بحريم ... لك، من بعد، حرام
فلما سمع نظام الملك ما جرى من الفتن، وقصد مدرسته، والقتل بجوارها، مع أن ابنه مؤيد الملك فيها، عظم عليه، فأعاد كوهرائين إلى شحنكية العراق، وحمله رسالة إلى الخليفة المقتدي بأمر الله تتضمن الشكوى من بني جهير، وسأل عزل فخر الدولة من الوزارة، وأمر كوهرائين بأخذ أصحاب بني جهير، وإيصال بني جهير، وإيصال المكروه إليهم وإلى حواشيهم.
فسمع بنو جهير الخبر، فسار عميد الدولة إلى المعسكر يريد نظام الملك ليستعطفه، وتجنب الطريق، وسلك الجبال خوفاً أن يلقاه كوهرائين ويناله فيها أذى، فلما وصل كوهرائين إلى بغداد اجتمع بالخليفة وأبلغه رسالة نظام الملك، فأمر فخر الدولة بلزوم منزله.
ووصل عميد الدولة إلى المعسكر السلطاني، ولم يزل يستصلح نظام الملك حتى عاد إلى ما ألفه منه، وزوجه بابنة بنت له، وعاد إلى بغداد في العشرين من جمادى الأولى، فلم يرد الخليفة أباه إلى وزارته، وأمرهما بملازمة منازلهما، واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين.
ثم إن نظام الملك الملك راسل الخليفة في إعادة بني جهير إلى الوزارة، وشفع في ذلك، فأعيد عميد الدولة إلى الوزارة، وأذن لأبيه فخر الدولة في فتح بابه، وكان ذلك في صفر سنة اثنتين وسبعين.
ذكر استيلاء تتش على دمشقفي هذه السنة ملك تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان دمشق.
وسبب ذلك أن أخاه السلطان ملكشاه أقطعه الشام، وما يفتحه في تلك النواحي، سنة سبعين وأربعمائة، فأتى حلب وحصرها، ولحق أهلها مجاعة شديدة، وكان معه جمع كثير من التركمان، فأنفذ إليه أقسيس، صاحب دمشق، يستنجده، ويعرفه أن عساكر مصر قد حصرته بدمشق.
وكان أمير الجيوش بدر قد سير عسكراً من مصر، ومقدمهم قائد يعرف بنصر الدولة، فحصر دمشق، فأرسل أقسيس إلى تاج الدولة تتش يستنصره، فسار إلى نصرة أقسيس، فلما سمع المصريون بقربه أجفلوا من بين يديه شبه المنهزمين، وخرج أقسيس إليه يلتقيه عند سور البلد، فاغتاظ منه تتش حيث لم يبعد في تلقيه، وعاتبه على ذلك، فاعتذر بأمور لم يقبلها تتش، فقبض عليه في الحال، وقتله من ساعته، وملك البلد، وأحسن السيرة في أهله، وعدل فيهم.
قد ذكر ابن الهمذاني وغيره من العراقيين أن ملك تتش دمشق كان هذه السنة، وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي في كتاب تاريخ دمشق إياها كان سنة اثنتين وسبعين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولد الملك بركيارق ابن السلطان ملكشاه.
وفيها، في المحرم، وصل سعد الدولة كوهرائين إلى بغداد، وضرب الطبل على باب داره، أوقات الصلوات، وكان قد طلب ذلك من قبل، فلم يجب إليه لأنه لم تجر به عادة.
وفيها توفي سيف الدولة أبو النجم بدر بن ورام الكردي، الجاواني، في شهر ربيع الأول، ودفن بطسفونج.
وفي رجب توفي أبو علي بن البنا المقري الحنبلي، وله مصنفات كثيرة، وسليم الجوري بناحية جور من دجيل، وكان زاهداً، يعمل، ويأكل من كسبه، ولم يكلف أحداً حاجاً، وأقام بطنزة من ديار بكر، وهي كثيرة الفواكه، فلم يأكل بها فاكهة البتة.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة

ذكر فتوح إبراهيم صاحب غزنة
في بلاد الهند
في هذه السنة غزا الملك إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين بلاد الهند، فحصر قلعة أجود، وهي على مائة وعشرين فرسخاً من لهاوور، وهي قلعة حصينة، في غاية الحصانة، كبيرة، تحوي عشرة آلاف رجل من المقاتلة، فقاتلوه، وصبروا تحت الحصر، وزحف إليهم غير مرة، فرأوا من شدة حربه ما ملأ قلوبهم خوفاً ورعباً، فسلموا القلعة إليه في الحادي والعشرين من صفر هذه السنة.
وكان في نواحي الهند قلعة يقال لها قلعة روبال، على رأس جبل شاهق، وتحتها غياض أشبة، وخلفها البحر، وليس عليها قتال إلا من مكان ضيق، وهو مملوء بالفيلة المقاتلة، وبها من رجال الحرب ألوف كثيرة، فتابع عليهم الوقائع، وألح عليهم بالقتال بجميع أنواع الحرب، وملك القلعة، واستنزلهم منها.

وفي موضع يقال له دره نوره أقوام من أولاد الخراسانيين الذين جعل أجدادهم فيها أفراسياب التركي من قديم الزمان، ولم يتعرض إليهم أحد من الملوك، فسار إليهم إبراهيم، ودعاهم إلى الإسلام أولاً، فامتنعوا من إجابته، وقاتلوه، فظفر بهم، وأكثر القتل فيهم، وتفرق من سلم في البلاد، وسبى واسترق من النسوان والصبيان مائة ألف. وفي هذه القلعة حوض للماء يكون قطره نحو نصف فرسخ لا يدرك قعره، يشرب منه أهل القلعة ما عندهم من دابة، ولا يظهر فيه نقص.
وفي بلاد الهند موضع يقال له وره، وهو بر بين خليجين، فقصده الملك إبراهيم، فوصل إليه في جمادى الأولى، وفي طريقه عقبات كثيرة، وفيها أشجار ملتفة، فأقام هناك ثلاثة أشهر ولقي الناس من الشتاء شدة، ولم يفارق الغزوة حتى أنزل الله نصره على أوليائه، وذله على أعدائه، وعاد إلى غزنة سالماً مظفراً.
هذه الغزوات لم أعرف تاريخها، وأما الأولى فكانت هذه السنة، فلهذا أوردتها متتابعة في هذه السنة.
ذكر ملك شرف الدولة مسلم مدينة حلبفي هذه السنة ملك شرف الدولة مسلم بن قريش العقيلي، صاحب الموصل، مدينة حلب.
وسبب ذلك أن تاج الدولة تتش بن ألب أرسلان حصرها مرة بعد أخرى، فاشتد الحصار بأهلها، وكان شرف الدولة يواصلهم بالغلات وغيرها.
ثم إن تتش حصرها هذه السنة، وأقام عليها أياماً ورحل عنها وملك بزاعة والبيرة، وأحرق ربض عزاز، وعاد إلى دمشق.
فلما رحل عنها تاج الدولة استدعى أهلها شرف الدولة ليسلموها إليه، فلما قاربها امتنعوا من ذلك، وكان مقدمهم يعرف بابن الحتيتي العباسي، فاتفق أن ولده خرج يتصيد بضيعة له، فأسره أحد التركمان، وهو صاحب حصن بنواحي حلب، وأرسله إلى شرف الدولة، فقرر معه أن يسلم البلد إليه إذا أطلقه، فأجاب إلى ذلك، فأطلقه، فعاد إلى حلب، واجتمع بأبيه، وعرفه ما استقر، فأذعن إلى تسليم البلد، ونادى بشعار شرف الدولة، وسلم البلد إليه، فدخله سنة ثلاث وسبعين، وحصر القلعة، واستنزل منها سابقاً ووثاباً ابني محمود بن مرداس، فلما ملك البلد أرسل ولده، وهو ابن عمة السلطان، إلى السلطان يخبره بملك البلد، وأنفذ معه شهادة فيها خطوط المعدلين بحلب بضمانها، وسأل أن يقرر عليه الضمان، فأجابه السلطان إلى ما طلب، وأقطع ابن عمته مدينة بالس.
ذكر مسير ملكشاه إلى كرمانفي أول هذه السنة سار السلطان ملكشاه إلى بلاد كرمان، فلما سمع صاحبها سلطانشاه بن قاورت بك، وهو ابن عم السلطان، بوصوله إليه خرج إلى طريقه ولقيه وحمل له الهدايا الكثيرة، وخدمه، وبالغ في الخدمة، فأقره السلطان على البلاد، وأحسن إليه، وعاد عنه في المحرم سنة ثلاث وسبعين إلى أصبهان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولد للخليفة المقتدي بأمر الله أمير المؤمنين ولد سماه موسى، وكناه أبا جعفر، وزينت بغداد سبعة أيام.
وفيها وصل السلطان ملكشاه إلى خوزستان متصيداً، فوصل معه خمارتكين وكوهرائين وكانا يسعيان في قتل ابن علان اليهودي، ضامن البصرة، وكان ملتجئاً إلى نظام الملك، وكان بين نظام الملك وبين خمارتكين الشرابي وكوهرائين عداوة، فسعيا باليهودي لذلك، فأمر السلطان بتغريقه فغرق، وانقطع نظام الملك عن الركوب ثلاثة أيام، وأغلق بابه، ثم أشير عليه بالركوب فركب، وعمل للسلطان دعوة عظيمة قدم له فيها أشياء كثيرة، وعاتبه على فعله، فاعتذر إليه.
وكان أمر اليهودي قد عظم إلى حد أن زوجته توفيت، فمشى خلف جنازتها كل من في البصرة، إلا القاضي، وكان له نعمة عظيمة، وأموال كثيرة، فأخذ السلطان منه مائة ألف دينار، وضمن خمارتكين البصرة كل سنة بمائة ألف دينار ومائة فرس.
وفيها زادت الفرات تسع أذرع، فخربت بعض دواليب هيت، وخربت فوهة نهر عيسى، وزادت تامراً نيفاً وثلاثين ذراعاً، وعلا على قنطرتي طراستان وخانقين الكسرويتين فقطعهما.
وفيها، في ذي الحجة، توفي نصر بن مروان، صاحب ديار بكر، وملك بعده ابنه منصور ، ودبر دولته ابن الأنباري.
وفيها توفي أبو منصور محمد بن عبد العزيز العكبري، ومولده سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وهو من المحدثين المعروفين، وكان صدوقاً، ومحمد بن هبة الله بن الحسن بن منصور أبو بكر بن أبي القاسم الطبري اللالكائي وولد سنة تسع وأربعمائة، وحدث عن هلال الحفار وغيره، وتوفي في جمادى الأولى.

وفيها توفي أبو الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر المشهور، وحدث عن جده لأمه القاضي أبي نصر محمد بن هارون بن الجندي.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة

ذكر استيلاء تكش على بعض خراسان
وأخذها منه
في هذه السنة، في شعبان، سار السلطان ملكشاه إلى الري، وعرض العسكر، فأسقط منهم سبعة آلاف رجل لم يرض حالهم، فمضوا إلى أخيه تكش، وهو ببوشنج، فقوي بهم، وأظهر العصيان على أخيه ملكشاه، واستولى على مرو الروذ، ومرو الشاهجان، وترمذ، وغيرها، وسار إلى نيسابور طامعاً في ملك خراسان.
وقيل إن نظام الملك قال للسلطان لما أمر بإسقاطهم: إن هؤلاء ليس فيهم كاتب، ولا تاجر، ولا خياط، ولا من له صنعة غير الجندية، فإذا أسقطوا لا نأمن أن يقيموا منهم رجلاً ويقولوا هذا السلطان، فيكون لنا منهم شغل، ويخرج عن أيدينا أضعاف ما لهم من الجاري إلى أن نظفر بهم. فلم يقبل السلطان قوله، فلما مضوا إلى أخيه وأظهر العصيان ندم على مخالفة وزيره حيث لم ينفع الندم.
واتصل خبره بالسلطان ملكشاه، فسار مجداً إلى خراسان، فوصل إلى نيسابور قبل أن يستولي تكش عليها، فلما سمع تكش بقربه منها سار عنها، وتحصن بترمذ، وقصده السلطان، فحصره بها، وكان تكش قد أسر جماعة من أصحاب السلطان، فأطلقهم، واستقر الصلح بينهما، ونزل تكش إلى أخيه السلطان ملكشاه، ونزل عن ترمذ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تسلم مؤيد الملك بن نظام الملك تكريت من صاحبها المهرباط.
وفيها توفي أبو علي بن شبل الشاعر المشهور، ومن شعره في الزهد:
أهم بترك الذنب ثم يردني ... طموح شباب بالغرام موكل
فمن لي إذا أخرت ذا اليوم توبة ... بأن المنايا لي إلى الشيب تمهل
أأعجز ضعفاً عن أدا حق خالقي، ... وأحمل وزراً فوق ما يتحمل
وفيها أيضاً توفي العميد أبو منصور بالبصرة.
وفيها توفي عبد السلام بن أحمد بن محمد أبو الفتح الصوفي من أهل فارس، سافر الكثير، وسمع الحديث بالعراق، والشام، ومصر، وأصبهان وغيرها، وكانت وفاته بفارس، ويوسف بن الحسن بن محمد بن الحسن أبو الهيثم التفكري، الزنجاني، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وسمع من أبي نعيم الحافظ وغيره، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي وأدرك أبا الطيب الطبري، وكان من العلماء العاملين، المشتغلين بالعبادة.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة
ذكر خطبة الخليفة ابنة السلطان ملكشاه
في هذه السنة أرسل الخليفة الوزير فخر الدولة أبا نصر بن جهير إلى السلطان يخطب ابنته لنفسه، فسار فخر الدولة إلى أصبهان، إلى السلطان يخطب ابنته، فأمر نظام الملك أن يمضي معه إلى خاتون زوجة السلطان في المعنى، فمضيا إليها فخاطباها، فقالت إن ملك غزنة وملوك الخانية بما وراء النهر طلبوها، وخطبوها لأولادهم، وبذولوا أربع مائة دينار، فإن حمل الخليفة هذا المال فهو أحق منهم. فعرفتها أرسلان خاتون التي كانت زوجت القائم بأمر الله ما يحصل لها من الشرف والفخر بالاتصال بالخليفة، وأن هؤلاء كلهم عبيده وخدمه، ومثل الخليفة لا يطلب منه المال، فأجابت إلى ذلك، وشرطت أن يكون الحمل المعجل خمسين ألف دينار، وأنه لا يبقي له سرية ولا زوجة غيرها، فأجيبت إلى ذلك، فأعطى السلطان يده، وعاد فخر الدولة إلى بغداد.
ذكر وفاة نور الدولة بن مزيد وإمارة ولده منصورفي هذه السنة، في شوال، توفي نور الدولة أبو الأغر دبيس بن علي بن مزيد الأسدي بمطيراباذ، وكان عمره ثمانين سنة، وإمارته سبعاً وخمسين سنة، وما زال ممدحاً في كل زمان مذكوراً بالتفضل والإحسان، ورثاه الشعراء فأكثروا، وولي بعده ما كان إليه ابنه أبو كامل منصور، ولقبه بهاء الدولة، فأحسن السيرة، واعتمد الجميل، وسار إلى السلطان ملكشاه في ذي القعدة، واستقر له الأمر، وعاد في صفر سنة خمس وسبعين وخلع الخليفة أيضاً عليه.
ذكر محاصرة تميم بن المعز مدينة قابسفي هذه السنة حصر الأمير تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، مدينة قابس حصاراً شديداً، وضيق على أهلها، وعاث عساكره في بساتينها المعروفة بالغابة، فأفسدوها.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة سار تتش، بعد عود شرف الدولة عن دمشق، وقصد الساحل الشامي، فافتتح أنطرطوس، وبعضاً من الحصون، وعاد إلى دمشق.
وفيها ملك شرف الدولة، صاحب الموصل، مدينة حران، وأخذها من بني وثاب النميريين، وصالحه صاحب الرها، ونقش السكة باسمه.
وفيها سد ظفر القائمي بثق نهر عيسى، وكان خراباً منذ ثلاث وعشرين سنة، وسد مراراً، وتخرب إلى أن سده ظفر.
وفيها أرسل السلطان إلى بغداد ليخرج الوزير أبو شجاع الذي وزر للخليفة بعد بني جهير، فأرسله الخليفة إلى نظام الملك، وسير معه رسولاً، وكتب معه إلى نظام الملك كتاباً بخطه، يأمره بالرضا عن أبي شجاع، فرضي عنه وأعاده إلى بغداد.
وفيها مات ابن السلطان ملكشاه، واسمه داود، فجزع عليه جزعاً شديداً، وحزن حزناً عظيماً، ومنع من أخذه وغسله، حتى تغيرت رائحته، وأراد قتل نفسه مرات، فمنعه خواصه، ولما دفن لم يطق المقام، فخرج يتصيد، وأمر بالنياحة عليه في البلد، ففعل ذلك عدة أيام، وجلس له وزير الخليفة في العزاء ببغداد.
وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن رضوان أبو القاسم، وهو من أعيان أهل بغداد، وكان مرضه شقيقة، وبقي ثلاث سنين في بيت مظلم لا يقدر يسمع صوتاً ولا يبصر ضوءاً.
وفيها، في ذي الحجة، توفي أبو محمد بن أبي عثمان المحدث، وكان صالحاً، يقريء القرآن بمسجده بنهر القلائين.
وتوفي علي بن أحمد بن علي بو القاسم البسري البندار، ومولده سنة ست وثمانين وثلاثمائة، سمع المخلص وغيره، وكان ثقة صالحاً.
وفيها توفي أبو إسحاق إبراهيم بن عقيل بن حبش القرشي، النحوي.
؟

ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة
ذكر وفاة جمال الملك بن نظام الملك
في هذه السنة، في رجب، توفي جمال الملك منصور بن نظام الملك، وورد الخبر بوفاته إلى بغداد في شعبان، فجلس أخوه مؤيد الملك للعزاء، وحضر فخر الدولة بن جهير، وابنه عميد الملك، معزيين، وأرسل الخليفة إليه في اليوم الثالث فأقامه من العزاء.
وكان سبب موته أن مسخرة كان للسلطان ملكشاه يعرف بجعفرك يحاكي نظام الملك، ويذكره في خلواته مع السلطان، فبلغ ذلك جمال الملك، وكان يتولى مدينة بلخ وأعمالها، فسار من وقته يطوي المراحل إلى والده والسلطان، وهما بأصبهان، فاستقبله أخواه، فخر الملك ومؤيد الملك، فأغلظ لهما القول في إغضائهما على ما بلغه عن جعفرك، فلما وصل إلى حضرة السلطان في هذا الجمع! فلما خرج من عند السلطان أمر بالقبض على جعفرك، وأمر بإخراج لسانه من قفاه وقطعه فمات.
ثم سار مع السلطان وأبيه إلى خراسان، وأقاموا بنيسابور مدة، ثم أرادوا العود إلى أصبهان، وتقدمهم نظام الملك، فأحضر السلطان عميد خراسان، وقال له: أيما أحب لك رأسك أم رأس جمال الملك؟ فقال: بل رأسي. فقال: لئن لم تعمل في قتله لأقتلنك. فاجتمع بخادم يختص بخدمة جمال الملك، وقال له سراً: الأولى أن تحفظوا نعمتكم، ومناصبكم، وتدبر في قتل جمال الملك، فإن الس يريد أن يأخذه ويقتله، ولأن تقتلوه أنتم سراً أصلح لكم من أن يقتله الس ظاهراً. فظن الخادم أن ذلك صحيح، فجعل له سماً في كوز فقاع، فطلب جمال الملك فقاعاً، فأعطاه الخادم ذلك الكوز، فشربه فمات، فلما علم الس بموته سار مجداً، حتى لحق نظام الملك، فأعلمه بموت ابنه، وعزاه، وقال: أنا ابنك، وأنت أولى من صبر واحتسب.
ذكر الفتنة ببغداد بين الشافعية والحنابلةورد إلى بغداد، هذه السنة، الشريف أبو القاسم البكري، المغربي، الواعظ، وكان أشعري المذهب، وكان قد قصد نظام الملك، فأحبه ومال إليه، وسيره إلى بغداد، وأجرى عليه الجراية الوافرة، فوعظ بالمدرسة النظامية، وكان يذكر الحنابلة ويعيبهم، ويقول: " وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا " ، والله ما كفر أحمد ولكن أصحابه كفروا.
ثم إنه قصد يوماً دار قاضي القضاة أبي عبد الله الدامغاني بنهر القلائين، فجرى بين بعض أصحابه وبين قوم من الحنابلة مشاجرة أدت إلى الفتنة، وكثر جمعه، فكبس دور بني الفراء، وأخذ كتبهم، وأخذ منها كتاب الصفات لأبي يعلى، فكان يقرأ بين يديه وهو جالس على الكرسي للوعظ، فيشنع به عليهم، وجرى له معهم خصومات وفتن. ولقب البكري من الديوان بعلم السنة، ومات ببغداد، ودفن عند قبر أبي الحسن الأشعري.
ذكر مسير الشيخ أبي إسحاق إلى السلطان في رسالة

في هذه السنة، في ذي الحجة، أوصل الخليفة المقتدي بأمر الله الشيخ أبا إسحاق الشيرازي إلى حضرته، وحمله رسالة إلى الس ملكشاه، ونظام الملك، تتضمن الشكوى من العميد أبي الفتح بن أبي الليث، عميد العراق، وأمره أن ينهي ما يجري على البلاد من النظار. فسار فكان كلما وصل إلى مدينة من بلاد العجم يخرج أهلها إليه بنسائهم وأولادهم يتمسحون بركابه، ويأخذون تراب بغلته للبركة.
وكان في صحبته جماعة من أعيان بغداد منهم الإمام أبو بكر الشاشي وغيره.
ولما وصل إلى ساوة خرج جميع أهلها، وسأله فقهاؤها كل منهم أن يدخل بيته، فلم يفعل، ولقيه أصحاب الصناعات، ومعهم ما ينثرونه على محفته، فخرج الخبازون ينثرون الخبز، وهو ينهاهم، فلم ينتهوا، وكذلك أصحاب الفاكهة، والحلواء، وغيرهم، وخرج إليه الأساكفة، وقد عملوا مداسات لطافاً تصلح لأرجل الأطفال، ونثروها، فكانت تسقط على رؤوس الناس، فكان الشيخ يتعجب، ويذكر ذلك لأصحابه بعد رجوعه، ويقول: ما كان حظكم من ذلك النثار؟ فقال له بعضهم: ما كان حظ سيدنا منه. فقال: أما أنا فغطيت بالمحفة، وهو يضحك. فأكرمه الس ونظام الملك. وجرى بينه وبين إمام الحرمين أبي المعالي الجويني مناظرة بحضرة نظام الملك، وأجيب إلى جميع ما التمسه، ولما عاد أهين العميد، وكسر عما كان يعتمده، ورفعت يده عن جميع ما يتعلق بحواشي الخليفة.
ولما وصل الشيخ إلى بسطام خرج إليه السهلكي، شيخ الصوفية بها، وهو شيخ كبير، فلما سمع الشيخ أبو إسحاق بوصوله خرج إليه ماشياً، فلما رآه السهلكي ألقى نفسه من دابة كان عليها، وقبل يد الشيخ أبي إسحاق، فقبل أبو إسحاق رجله، وأقعده موضعه، وجلس أبو إسحاق بين يديه، وأظهر كل واحد منهما من تعظيم صاحبه كثيراً، وأعطاه شيئاً من حنطة ذكر أنها من عهد أبي يزيد البسطامي، ففرح بها ابو إسحاق.
ذكر حصر شرف الدولة دمشق

وعوده عنها
في هذه السنة جمع تاج الدولة تتش جمعاً كثيراً، وسار عن بغداد، وقصد بلاد الروم: أنطاكية وما جاورها، فسمع شرف الدولة، صاحب حلب، الخبر، فخافه، فجمع أيضاً العرب من عقيل، والأكراد، وغيرهم، فاجتمع معه جمع كثير، فراسل الخليفة بمصر يطلب منه إرسال نجدة إليه ليحصر دمشق، فوعده ذلك فسار إليها. فلما سمع تتش الخبر عاد إلى دمشق، فوصلها أول المحرم سنة ست وسبعين سنة، ووصل شرف الدولة أواخر المحرم، وحصر المدينة وقاتله أهلها.
وفي بعض الأيام خرج إليه عسكر دمشق وقاتلوه، وحمل على عسكره حملة صادقة، فانكشفوا وتضعضعوا، وانهزمت العرب، وثبت شرف الدولة، وأشرف على الأسر، وتراجع إليه أصحابه، فلما رأى شرف الدولة ذلك، ورأى أيضاً أن مصر لم يصل إليه منها عسكر، وأتاه عن بلاده الخبر أن أهل حران عصوا عليه رحل عن دمشق إلى بلاده، وأظهر أنه يريد البلاد بفلسطين، فرحل أولاً إلى مرج الصفر، فارتاع أهل دمشق وتتش واضطربوا، ثم إنه رحل من مرج الصفر مشرقاً في البرية وجد في مسيره، فهلك من المواشي الكثير مع عسكره، ومن الدواب شيء كثير، وانقطع خلق كثير.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قدم مؤيد الملك بن نظام الملك إلى بغداد من أصبهان، فخرج عميد الدولة بن جهير إلى لقائه، ونزل بالمدرسة النظامية، وضرب على بابه الطبول، أوقات الصلوات الثلاث، فأعطي مالاً جليلاً حتى قطعه، وأرسل الطبول إلى تكريت.
وفيها توفي أبو عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن مندة الأصبهاني، في جمادى الآخرة، بأصبهان، وكان حافظاً فاضلاً، والأمير أبو نصر علي بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، ومولده سنة عشرين وأربعمائة، وكان فاضلاً حافظاً، قتله مماليكه الأتراك بكرمان، وأخذوا ماله.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وأربعمائة
ذكر عزل ابن جهير عن وزارة الخليفة
ومسير والده فخر الدولة إلى ديار بكر

في هذه السنة، في صفر، عزل عميد الدولة بن جهير عن وزارة الخليفة، ووصل يوم عزل رسول من السلطان، ونظام الملك، إلى الخليفة يطلبان أن يرسل إليهما بنو جهير، فأذن لهما في ذلك، وساروا بجميع أهلهم ونسائهم إلى السلطان، فصادفوا منه، ومن نظام الملك، الإكرام والاحترام، وعقد السلطان على فخر الدولة بن جهير ديار بكر، وخلع عليه، وأعطاه الكوسات، وسير معه العساكر، وأمره أن يقصدها ويأخذها من بني مروان، وأن يخطب لنفسه، ويذكر اسمه على السكة، فسار إليها.
ولما فارق بنو جهير بغداد رتب في الديوان أبو الفتح المظفر ابن رئيس الرؤساء، وكان قبل ذلك على أبنية الدار وغيرها.
ذكر عصيان أهل حران على شرف الدولة وفتحهافي هذه السنة عصى أهل حران على شرف الدولة مسلم بن قريش، وأطاعوا قاضيهم ابن حلبة، وأرادوا هم وابن عطير النميري تسليم البلد إلى جبنق، أمير التركمان، وكان شرف الدولة على دمشق، يحاصر تاج الدولة تتش بها، فبلغه الخبر، فعاد إلى حران وصالح ابن ملاعب، صاحب حمص، وأعطاه سلمية ورفنية، وبادر بالمسير إلى حران، فحصرها، ورماها بالمنجنيق، فخرب من سورها بدنة، وفتح البلد في جمادى الأولى، وأخذ القاضي ومعه ابنان له، فصلبهم على السور.
ذكر وزارة أبي شجاع محمد بن الحسين للخليفةفي هذه السنة عزل الخليفة أبا الفتح ابن رئيس الرؤساء من النيابة في الديوان، واستوزر أبا شجاع محمد بن الحسين، وخلع عليه خلع الوزراة في شعبان، ولقيه ظهير الدين، ومدحه الشعراء فأكثروا، فحسن مدحه وهنأه أبو المظفر محمد بن العباس الآبيوردي بالقصيدة المشهورة التي أولها:
ها إنها مقل الظباء العين ... فتكت بسر فؤادي المكنون
ومنها:
فانهل أسراب الدموع كأنها ... منح يتابعها ظهير الدين
ذكر قتل أبي المحاسن بن أبي الرضافي هذه السنة، في شوال، قتل سيد الرؤساء أبو المحاسن بن كمال الملك أبي الرضا، وكان قد قرب من السلطان ملكشاه قرباً عظيماً، كوان أبوه يكتب الطغراء، فقال أبو المحاسن للسلطان: سلم إلي نظام الملك وأصحابه، وأنا أسلم إليك منهم ألف ألف دينار، فإنهم يأكلون الأموال، ويقتطعون الأعمال، وعظم عنده ذخائرهم.
فبلغ ذلك نظام الملك، فعمل سماطاً عظيماً، وأقام عليه مماليكه، وهم ألوف من الأتراك، وأقام خيلهم وسلاحهم على حيالهم، فلما حضر السلطان قال له: إنني قد خدمتك، وخدمت أباك وجدك، ولي حق خدمة، وقد بلغك أخذي لعشر أموالك، وصدق هذا، أنا آخذه وأصرفه إلى هؤلاء الغلمان الذين جمعتهم لك، وأصرفه أيضاً إلى الصدقات، والصلات، والوقوف التي أعظم ذكرها، وشكرها، وأجرها لك، وأموالي، وجميع ما أملكه بين يديك، وأنا أقنع بمرقعة وزاوية. فأمر السلطان بالقبض على أبي المحاسن وأن تسمل عيناه، وأنفذه إلى قلعة ساوة.
وسمع أبوه كمال الملك الخبر، فاستجار بدار نظام الملك، فسلم، وبذل مائتي ألف دينار، وعزل عن الطغراء، ورتب مكانه مؤيد الملك بن نظام الملك.
ذكر استيلاء مالك بن علوي على القيروان وأخذها منهفي هذه السنة جع مالك بن علوي الصخري العرب فأكثر، وسار إلى المهدية فحصرها، فقام الأمير تميم بن المعز قياماً تاماً، ورحله عنها، ولم يظفر منها بشيء، فسار مالك منها إلى القيروان فحصرها وملكها، فجرد إليه تميم العساكر العظيمة، فحصروه بها، فلما رأى مالك أنه لا طاقة له بتميم خرج عنها وتركها، فاستولى عليها عسكر تميم وعادت إلى ملكه كما كانت.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عم الرخص جميع البلاد، فبلغ كر الحنطة الجيدة ببغداد عشرة دنانير.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة، وأكثر الشعراء مراثيه، فمنهم أبو الحسن الخباز، والبندنيجي، وغيرهما، وكان، رحمة الله عليه، واحد عصره علماً وزهداً وعبادة وسخاء، وصلي عليه في جامع القصر، وجلس أصحابه للعزاء في المدرسة النظامية ثلاثة أيام، ولم يتخلف أحد عن العزاء.

وكان مؤيد الملك بن نظام الملك ببغداد، فرتب في التدريس أبا سعد عبد الرحمن بن المأمون المتولي، فلما بلغ ذلك نظام الملك أنكره، وقال: كان يجب أن تغلق المدرسة بعد الشيخ أبي إسحاق سنة، وصلي عليه بباب الفردوس، وهذا لم يفعل على غيره، وصلى عليه الخليفة المقتدي بأمر الله، وتقدم في الصلاة عليه أبو الفتح ابن رئيس الرؤساء، وهو ينوب في الوزارة، ثم صلي عليه بجامع القصر، ودفن بباب أبرز.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وأربعمائة

ذكر الحرب بين فخر الدولة بن جهير وابن مروان وشرف الدولة
قد تقدم ذكر مسير فخر الدولة بن جهير في العساكر السلطانية إلى ديار بكر، فلما كانت هذه السنة سير السلطان إليه أيضاً جيشاً فيهم الأمير أرتق ابن اكسب، وأمرهم بمساعدته.
وكان ابن مروان قد مضى إلى شرف الدولة وسأله نصرته على أن يسلم إليه آمد، وحلف كل واحد لصاحبه، وكل منهما يرى أن صاحبه كاذب لما كان بينهما من العداوة المستحكمة، واجتمعا على حرب فخر الدولة، وسارا إلى آمد، وقد نزل فخر الدولة بنواحيها، فلما رأى فخر الدولة اجتماعهما مال إلى الصلح، وقال: لا أوثر أن يحل بالعرب بلاء على يدي. فعرف التركمان ما عزم عليه، فركبوا ليلاً وأتوا إلى العرب وأحاطوا بهم في ربيع الأول، والتحم القتال واشتد، فانهزمت العرب، ولم يحضر هذه الوقعة الوزير فخر الدولة، ولا أرتق، وغنم التركمان حلل العرب ودوابهم، وانهزم شرف الدولة، وحمى نفسه حتى وصل إلى فصيل آمد، وحصره فخر الدولة ومن معه.
فلما رأى شرف الدولة أنه محصور خاف على نفسه، فراسل الأمير أرتق، وبذل له مالاً، وسأله أن يمن عليه بنفسه، ويمكنه من الخروج من آمد، وكان هو على حفظ الطرق والحصار. فلما سمع أرتق ما بذل له شرف الدولة أذن له في الخروج، فخرج منها في الحادي والعشرين من ربيع الأول، وقصد الرقة، وأرسل إلى أرتق بما كان وعده به، وسار ابن جهير إلى ميافارقين، ومعه من الأمراء الأمير بهاء الدولة منصور بن مزيد، وابنه سيف الدولة صدقة، ففارقوه، وعادوا إلى العراق، وسار فخر الدولة إلى خلاط.
ولما استولى العسكر السلطاني على حلل العرب، وغنموا أموالهم، وسبوا حريمهم، بذل سيف الدولة صدقة بن منصور بن مزيد الأموال، وافتك أسرى بني عقيل ونساءهم وأولادهم وجهزهم جميعهم وردهم إلى بلادهم، ففعل أمراً عظيماً، وأسدى مكرمة شريفة، ومدحه الشعراء في ذلك فأكثروا، فمنهم محمد بن خليفة السنبسي يذكر ذلك في قصيدة:
كما أحرزت شكر بني عقيل ... بآمد يوم كظهم الحذار
غداة رمتهم الأتراك طراً ... بشهب في حوافلها ازورار
فما جبنوا، ولكن فاض بحر ... عظيم لا تقاومه البحار
فحين تنازلوا تحت المنايا، ... وفيهن الرزية والدمار
مننت عليهم، وفككت عنهم، ... وفي أثناء حبلهم انتشار
ولولا أنت لم ينفك منهم ... أسير، حين أعلقه الإسار
في أبيات كثيرة، وذكرها أيضاً البندنيجي فأحسن، ولولا خوف التطويل لذكرت أبياته.
ذكر استيلاء عميد الدولة على الموصللما بلغ السلطان أن شرف الدولة انهزم وحصر بآمد لم يشك في أسره، فخلع على عميد الدولة بن جهير، وسيره في جيش كثيف إلى الموصل، وكاتب أمراء التركمان بطاعته، وسير معه من الأمراء آقسنقر، قسيم الدولة، جد ملوكنا أصحاب الموصل، وهو الذي أقطعه السلطان بعد ذلك حلب.
وكان الأمير أرتق قد قصد السلطان، فعاد صحبة عميد الدولة من الطريق. فسار عميد الدولة حتى وصل إلى الموصل، فأرسل إلى أهلها يشير عليهم بطاعة السلطان وترك عصيانه، ففتحوا له البلد وسلموه إليه، وسار السلطان بنفسه وعساكره إلى بلاد شرف الدولة ليملكها، فأتاه الخبر بخروج أخيه تكش بخراسان، على ما نذكره.

ورأى شرف الدولة قد خلص من الحصر، فأرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة، وهو مقابل الرحبة، فأعطاه العهود والمواثيق، وأحضره عند السلطان، وهو بالبوازيج، فخلع عليه آخر رجب، وكانت أمواله قد ذهبت، فاقترض ما خدم به، وحمل للسلطان خيلاً رائقة، من جملتها فرسه بشار، وهو فرسه المشهور الذي نجا عليه من المعركة، ومن آمد أيضاً، وكان سابقاً لا يجارى، فأمر السلطان بأن يسابق به الخيل، فجاء سابقاً، فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب.
وأرسل الخليفة النقيب طراداً الزينبي في لقاء شرف الدولة، فلقيه بالموصل، فزاد أمر شرف الدولة قوة، وصالحه السلطان، وأقره على بلاده، وعاد إلى خراسان لحرب أخيه.
ذكر عصيان تكش على السلطان ملكشاهقد تقدم ذكره، وذكر مصالحته للسلطان، فلما كان الآن، ورأى بعد السلطان عنه عاود العصيان، وكان أصحابه يؤثرون الاختلاط، فحسنوا له مفارقة طاعة أخيه، فأجابهم، وسار معهم، فملك مرو الروذ وغيرها إلى قلعة تقارب سرخس وهي لمسعود ابن الأمير ياخز، وقد حصنها جهده، فحصروه بها، ولم يبق غير أخذها منه.
فاتفق أبو الفتوح الطوسي، صاحب نظام الملك، وهو بنيسابور، وعميد خراسان، وهو أبو علي، على أن يكتب أبو الفتوح ملطفاً إلى مسعود بن ياخز، وكان خط أبي الفتوح أشبه شيء بخط نظام الملك، يقول فيه: كتبت هذه الرقعة من الري يوم كذا، ونحن سائرون من الغد نحوك، فاحفظ القلعة، ونحن نكبس العدو في ليلة كذا. واستدعيا فيجاً يثقون به، وأعطياه دنانير صالحة، وقالا: سر نحو مسعود، فإذا وصلت إلى المكان الفلاني فأقم به ونم وأخف هذا الملطف في بعض حيطانه، فستأخذك طلائع تكش، فلا تعترف لهم حتى يضربوك، فإذا فعلوا ذلك وبالغوا فأخرجه لهم وقل إنك فارقت السلطان بالري ولك منا الحباء والكرامة.
ففعل ذلك، وجرى الأمر على ما وصفا، وأحضر بين يدي تكش وضرب، وعرض على القتل، فأظهر الملطف وسلمه إليهم، وأخبرهم أنه فارق السلطان ونظام الملك بالري في العساكر، وهو سائر، فلما وقفوا على الملطف، وسمعوا كلام الرجل، وساروا من وقتهم، وتركوا خيامهم ودوابهم، والقدور على النار، فلم يصبروا على ما فيها، وعادوا إلى قلعة ونج. وكان هذا من الفرج العجيب. فنزل مسعود وأخذ ما في المعسكر، وورد السلطان إلى خراسان بعد ثلاثة أشهر، ولولا هذا الفعل لنهب تكش إلى باب الري.
ولما وصل السلطان قصد تكش وأخذه، وكان قد حلف له بالأيمان أنه لا يؤذيه، ولا يناله منه مكروه، فأفتاه بعض من حضر بأن يجعل الأمر إلى ولده أحمد، ففعل ذلك، فأمر أحمد بكحله، فكحل وسجن.
ذكر فتح سليمان بن قتلمش أنطاكيةفي هذه السنة سار سليمان بن قتلمش، صاحب قونية وأقصروا وأعمالها من بلاد الروم، إلى الشم، فملك مدينة أنطاكية من أرض الشام، وكانت بيد الروم من سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.
وسبب ملك سليمان المدينة أن صاحبها الفردوس الرومي كان قد سار عنها إلى بلاد الروم، ورتب بها شحنة، وكان الفردوس مسيئاً إلى أهلها، وإلى جنده أيضاً، حتى إنه حبس ابنه، فاتفق ابنة والشحنة على تسليم البلد إلى سليمان بن قتلمش، وكاتبوه يستدعونه، فركب البحر في ثلاثمائة فارس وكثير من الرجالة، وخرج منه، وسار في جبال وعرة، ومضايق شديدة، حتى وصل إليها للموعد، فنصب السلاليم، باتفاق من الشحنة ومن معه، وصعد السور، واجتمع بالشحنة وأخذ البلد في شعبان، فقاتله أهل البلد، فهزمهم مرة بعد أخرى، وقتل كثيراً من أهلها، ثم عفا عنهم، وتسلم القلعة المعروفة بالقسيان، وأخذ من الأموال ما يجاوز الإحصاء، وأحسن إلى الرعية، وعدل فيهم وأمرهم بعمارة ما خرب، ومنع أصحابه من النزول في دورهم ومخالطتهم.
ولما ملك سليمان أنطاكية أرسل إلى السلطان ملكشاه يبشره بذلك، وينسب هذا الفتح إليه لأنه من أهله، وممن يتولى طاعته، فأظهر ملكشاه البشارة به، وهنأه الناس، فممن قال فيه الآبيوردي من قصيدة مطلعها:
لمعت كناصية الحصان الأشقر ... نار بمعتلج الكثيب الأعفر
وفتحت أنطاكية الروم التي ... نشرت معاقلها على الإسكندر
وطئت مناكبها جيادك، فانثنت ... تلقي أجنتها بنات الأصفر
وهي طويلة.
ذكر قتل شرف الدولة

وملك أخيه إبراهيم

قد تقدم ذكر ملك سليمان بن قتلمش مدينة أنطاكية، فلما أرسل إليه شرف الدولة مسلم بن قريش يطلب منه ما كان يحمله إليه الفردوس من المال، ويخوفه معصية السلطان، فأجابه: أما طاعة السلطان، فهي شعاري، ودثاري، والخطبة له، والسكة في بلادي، وقد كاتبته بما فتح الله على يدي بسعادته من هذا البلد، وأعمال الكفار.
وأما المال الذي كان يحمله صاحب أنطاكية قبلي، فهو كان كافراً، وكان يحمل جزية رأسه وأصحابه، وأنا بحمد الله مؤمن، ولا أحمل شيئاً. فنهب شرف الدولة بلد أنطاكية، فنهب سليمان أيضاً بلد حلب، فلقيه أهل السواد يشكون إليه نهب عسكره، فقال: أنا كنت أشد كراهية لما يجري، ولكن صاحبكم أحوجني إلى ما فعلت، ولم تجر عادتي بنهب مال مسلم، ولا أخذ ما حرمته الشريعة. وأمر أصحابه بإعادة ما أخذوه منهم فأعاده.
ثم إن شرف الدولة جمع الجموع من العرب والتركمان، وكان ممن معه جبق أمير التركمان في أصحابه، وسار إلى أنطاكية ليحصرها. فلما سمع سليمان الخبر جمع عساكره وسار إليه، فالتقيا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف من أعمال أنطاكية، واقتتلوا، فمال تركمان جبق إلى سليمان، فانهزمت العرب، تبعهم شرف الدولة منهزماً، فقتل بعد أن صبر، وقتل بين يديه أربعمائة غلام من أحداث حلب، وكان قتله يوم الجمعة الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وذكرته هاهنا لتتبع الحادثة بعضها بعضاً.
وكان أحول، وكان قد ملك من السندية التي على نهر عيسى إلى منبج من الشام، وما والاها من البلاد، وكان في يده ديار ربيعة ومضر من أرض الجزيرة والموصل وحلب، وما كان لأبيه وعمه قرواش، وكان عادلاً حسن السيرة، والأمن في بلاده عام، والرخص شامل، وكان يسوس بلاده سياسة عظيمة بحيث يسير الراكب والراكبان فلا يخافان شيئاً. وكان له في كل بلد وقرية عامل، وقاض، وصاحب خبر، بحيث لا يتعدى أحد على أحد.
ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش، وهو محبوس، فأخرجوه وملكوه أمرهم، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث أنه لم يمكنه المشي والحركة لما أخرج، ولما قتل شرف الدولة سار سليمان بن قتلمش إلى حلب فحصرها مستهل ربيع الأول سنة ثمان وسبعين، فأقام عليها إلى خامس ربيع الآخر من السنة، فلم يبلغ منها غرضاً، فرحل عنها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، انقض كوكب من المشرق إلى المغرب، كان حجمه كالقمر وضوءه كضوئه، وسار مدى بعيداً على مهل وتؤدة، في نحو ساعة، ولم يكن له شبيه من الكواكب.
وفيها ولد السلطان سنجر بن ملكشاه في الخامس والعشرين من رجب، بمدينة سنجار من أرض الجزيرة مقارب الموصل بينهما يومان، عند نزول السلطان بها، وسماه أحمد، وإنما قيل له سنجر باسم المدينة التي ولد فيها، وأمه أم ولد.
وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي الشيخ أبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن الصباغ، الفقيه الشافعي، صاحب الشامل والكامل، وكفاية المسائل وغيرها من التصانيف، بعد أن أضر عدة سنين، وكان مولده سنة أربعمائة، والقاضي أبو عبد الله الحسين بن علي البغداذي المعروف بابن البقال، وهو من شيوخ أصحاب الشافعي، وكان إليه القضاء بباب الأزج، وحج لما انقطع الحج على سبيل التجريد، وإسماعيل بن مسعدة بن إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم أبو القاسم الإسماعيلي، الجرجاني، ومولده سنة أربع وأربعمائة، وكان إماماً فقيهاً شافعياً، محدثاً، أدبياً، وداره مجمع العلماء.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وأربعمائة

ذكر استيلاء الفرنج على مدينة طليطلة
في هذه السنة استولى الفرنج، لعنهم الله، على مدينة طليطلة من بلاد الأندلس، وأخذوها من المسلمين، وهي من أكبر البلاد وأحصنها.
وسبب ذلك أن الأذفونش، ملك الفرنج بالأندلس، كان قد قوي شأنه، وعظم ملكه، وكثرت عساكره، مذ تفرقت بلاد الأندلس، وصار كل بلد بيد ملك، فصاروا مثل ملوك الطوائف، فحينئذ طمع الفرنج فيهم، وأخذوا كثيراً من ثغورهم.
وكان قد خدم قبل ذلك صاحبها القادر بالله بن المأمون بن يحيى بن ذي النون، وعرف من أين يؤتى البلد، وكيف الطريق إلى ملكه. فلما كان الآن جمع الأذفونش عساكره وسار إلى مدينة طليطلة فحصرها سبع سنين، وأخذها من القادر، فازداد قوة إلى قوته.

وكان المعتمد على الله أبو عبد الله محمد بن عباد أعظم ملوك الأندلس من المسلمين، وكان يملك أكثر البلاد مثل: قرطبة وإشبيلية، وكان يؤدي إلى الأذفونش ضريبة كل سنة. فلما ملك الأذفونش طليطلة أرسل إليه المعتمد الضريبة على عادته، فردها عليه ولم يقبلها منه، فأرسل إليه يتهدده ويتوعده أنه يسير إلى مدينة قرطبة ويتملكها إلا أن يسلم إليه جميع الحصون التي في الجبل، ويبقي السهل للمسلمين، وكان الرسول في جمع كثير كانوا خمسمائة فارس، فأنزله محمد بن عباد، وفرق أصحابه على قواد عسكره، ثم أمر كل من عنده منهم رجل أن يقتله، وأحضر الرسول وصفعه حتى خرجت عيناه، وسلم من الجماعة ثلاثة نفر، فعادوا إلى الأذفونش فأخبروه الخبر، وكان متوجهاً إلى قرطبة ليحاصرها، فلما بلغه الخبر عاد إلى طليطلة ليجمع آلات الحصار، ورحل المعتمد إلى إشبيلية.
ذكر استيلاء ابن جهير على آمدفي المحرم من هذه السنة ملك ابن جهير مدينة آمد.
وسبب ذلك أن فخر الدولة بن جهير كان قد أنفذ إليها ولده زعيم الرؤساء أبا القاسم، ومعه جناح الدولة، المعروف بالمقدم السالار، وأرادوا قلع كرومها وبساتينها، ولم يطمع مع ذلك في فتحها لحصانتها، فعم أهلها الجوع، وتعذرت الأقوات، وكادوا يهلكون، وهم صابرون على الحصار، غير مكترثين له.
فاتفق أن بعض الجند نزل من السور لحاجة لهم، وتركوا أسلحتهم مكانها، فصعد إلى ذلك المكان عدد من العامة تقدمهم رجلمن السواد يعرف بأبي الحسن، فلبس السلاح، ووقف على ذلك المكان، ونادى بشعار السلطان، وفعل من معه كفعله، وطلبوا زعيم الرؤساء، فأتاهم، وملك البلد، واتفق أهل المدينة على نهب بيوت النصارى لما كانوا يلقون من نواب بني مروان من الجور والحكم، وكان أكثرهم نصارى، فانتقموا منهم.
ذكر ملكه أيضاً ميافارقين
وفي هذه السنة أيضاً، في سادس جمادى الآخرة، ملك فخر الدولة ميافارقين، وكان مقيماً على حصارها، فوصل إليه سعد الدولة كوهرائين في عسكره نجدة له، فجد في القتال فسقط من سورها قطعة، فلما رأى أهلها ذلك نادوا بشعار ملكشاه، وسلموا البلد إلى فخر الدولة وأخذ جميع ما استولى عليه من أموال بني مروان وأنفذه إلى السلطان مع ابنه زعيم الرؤساء، فانحدر هو وكوهرائين إلى بغداد، وسار زعيم الرؤساء منها إلى أصبهان، فوصلها في شوال، وأوصل ما معه إلى السلطان.
ذكر ملك جزيرة ابن عمرفي هذه السنة أرسل فخر الدولة جيشاً إلى جزيرة ابن عمر، وهي لبني مروان أيضاً، فحصروها، فثار أهل بيت من أهلها يقال لهم بنو وهبان، وهم من أعيان أهلها، وقصدوا باباً للبلد صغيراً يقال له باب البويبة لا يسلكه إلا الرجالة لأنه يصعد إليه من ظاهر البلد بدرج، فكسروه، وأدخلوا العسكر، فملكه، وانقرضت دولة بني مروان، فسبحان من لا يزول ملكه.
وهؤلاء بنو وهبان، إلى يومنا هذا، كلما جاء إلى الجزيرة من يحصرها يخرجون من البلد، ولم يبق منهم من له شوكة، ولا منزلة يفعل بها شيئاً، وإنما بتلك الحركة يؤخذون إلى الآن.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، صار أمير الجيوش في عساكر مصر إلى الشام، فحصر دمشق، وبها صاحبها تاج الدولة تتش، فضيق عليه، وقاتله، فلم يظفر منها بشيء، فرحل عنها عائداً إلى مصر.
وفيها كانت الفتنة بين أهل الكرخ وسائر المحال من بغداد، وأحرقوا من نهر الدجاج درب الآجر وما قاربه، وأرسل الوزير أبو شجاع جماعة من الجند، ونهاهم عن سفك الدماء تحرجاً من الإثم، فلم يمكنهم تلافي الخطب فعظم.
وفيها كانت زلزلة شديدة بخوزستان وفارس، وكان أشدها بأرجان، فسقطت الدور، وهلك تحتها خلق كثير.
وفيها، في ربيع الأول، هاجت ريح عظيمة سوداء بعد العشاء، وكثر الرعد والبرق، وسقط على الأرض رمل أحمر وتراب كثير، وكانت النيران تضطرم في أطراف السماء، وكان أكثرها بالعراق وبلاد الموصل، فألقت النخيل والأشجار وسقط معها صواعق في كثير من البلاد، حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت، ثم انجلى ذلك نصف الليل.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، ومولده سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهو الإمام المشهور في الفقه والأصولين وغيرهما من العلوم، وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري وغيره.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34