كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

فلما كان الأحد أنكر الأتراك مساواة الفراغنة لهم في الدار، ودخولهم معهم، ورفع أن الفراغنة إمنا تم لهم ما بعدم رؤساء الأتراك، فخرجوا من الدار بأجمعهم، وبقيت الدار على الفراغنة، والمغاربة، فأنكر الأتراك ذلك، وأضافوا إليه طلب بابكيال، فقال المهتدي للفراغنة والمغاربة ما جرى من الأتراك، وقال لهم: إن كنتم تظنون فيكم قوة فما أكره قربكم، وإلا أرضيناهم من قبل تفاقم الأمر! فذكروا أنهم يقومون به، فخرج بهم المهتدي وهم في ستة آلاف، منهم من الأتراك نحوألف وهم أصحاب صالح بن وصيف، وكان الأتراك في عشرة آلاف، فلما التقوا انهزم أصحاب صالح، وخرج عليهم كمين للأتراك، فانهزم أصحاب المهتدي؛ وذكر نحوما تقدم إلا أنه قال إنهم لما رأوا المهتدي بدار أحمد بن جميل قاتلهم، فأخرجوه، وكان به أثر طعنة، فلما رأى الجراح ألقى بيده إليهم، وأرادوه على الخلع، فأبى أن يجيبهم، فمات يوم الأربعاء وأظهروه لناس يوم الخميس، وصلى عليه جعفر بن عبد الواحد.
وكانوا قد خلعوا أصابع يديه ورجليه من كعبيه، وفعلوا به غير شيء حتى مات؛ وطلبوا محمد بن بغأن فوجدوه ميتأن فكسروا على قبره ألف سيف.
وكانت مدة خلافة المهتدي أحد عشر شهراً وخمس عشرة ليلة، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة، وكان واسع الجبهة، أسمر، رقيقأن أشهل، جهم الوجه، عريض البطن، عريض المنكبين، قصيرأن وطويل اللحية، ومولده بالقاطول.
ذكر بعض سيرة المهتديكان المهتدي بالله من احسن الخلفاء مذهبأن وأجملهم طريقة، وأظهرهم ورعأن وأكثرهم قال عبد اله بن إبراهيم الإسكافي: جلس المهتدي للمظالم، فاستعداه رجل على ابن له، فأمر بإحضاره، فأحضر وأقامه إلى جانب خصمه ليحكم بينهمأن فقال الرجل للمهتدي: والله يا أمير المؤمنين ما أنت إلا كما قيل:
حكمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبلا الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر
فقال المهتدي: أما أنت أيها الرجل فأحسن اله مقالتك، وأما أنا فما جلست حتى قرأت: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) الأنبياء: 47؛ الآية؛ قال: فما رأيت باكياً أكثر من ذلك اليوم.
قال أبوالعباس بن هاشم بن القاسم الهاشمي: كنت عند المهتدي بعض عشايا شهر رمضان، فقمت لأنصرف، فأمرني بالجلوس، فجلست حتى صلى المهتدي بنا المغرب، وأمر بالطعام فاحضر، واحضر طبق خلاف عليه رغيفان، وفي إناء ملح، وفي آخر زيت، وفي آخر خل، فدعاني إلى الأكل، وأكلت مقتصراً ظناً مني أنه يحضر طعاماً جيدأن فلما رأى أكلي كذلك قال: أما كنت صائماً؟ قلت: بلى. قال: أفلست تريد الصوم غداً؟ قلت: وكيف لا وهوشهر رمضان؟ فقال: كل واستوف عشاءك، فليس ها هنا غير ما ترى. فعجبت من قوله، وقلت: ولم يا أمير المؤمنين؟ قد أسبغ اله عليك النعمة ووسع رزقهّ فقال: إن الأمر على ما وصفت، والحمد لله، ولكني فكرت في انه من بني أمية عمر بن عبد العزيز، فعزت لبني هاشم أن لا يكون في خلفائهم مثله وأخذت نفسي بما رأيت.
قال إبراهيم بن مخلد بن محمد بن عرفة عن بعض الهاشميين: إن المهتدي وجدوا له سفطاً فيه جبة صوف، وكساء، وبرنس كان يلبسه بالليل ويصلي فيه، ويقول: أما يستحي بنوالعباس أن لا يكون فيهم مثل عمر بن عبد العزيز؟ وكان قد اطرح الملاهي، وحرم الغناء والشراب، ومنع أصحاب السلطان عن الظلم، رحمه الله تعالى ورضي عنه.
ذكر خلافة المعتمد على اللهلما أخذ المهتدي بالله وحبس أحضر أبوالعباس أحمد بن المتوكل، وهوالمعروف بابن قتيان، وكان محبوساً بالجوسق، فبايعه الناس، فبايعه الأتراك، وكتبوا بذلك إلى موسى بن بغا وهوبخانقين، فحضر إلى سامرا فبايعه، ولقب المعتمد على الله؛ ثم إن المهتدى مات ثاني يوم بيعة المعتمد، وسكن الناس، واستوزر عبيد الله بن يحيى بن خاقان.
ذكر أخبار صاحب الزنجفي هذه السنة سير جعلان لحرب صاحب الزنج بالبصرة، فلما وصل إلى البصرة نزل بمكان بينه وبين صاحب الزنج فرسخ، وخندق عليه وإلى أصحابه، وأقام ستة اشهر في خندقه، وجعل يوجه الزينبي وبني هاشم ومن خف لحربهم هذا اليوم الذي تواعدهم جعلان للقائه، فلم يكن بينهم إلا الرمي بالحجارة والنشاب، ولا يجد جعلان إلى لقائه سبيلأن لضيق المكان عن مجال الخيل، وكان أكثر أصحاب جعلان خيالة.

فلما طال مقامه في خندقه أرسل صاحب الزنج أصحابه إلى مسالك الخندق، فبيتوا جعلان، وقتلوا من أصحابه جماعة، وخاف الباقون خوفاً شديداً.
وكان الزينبي قد جمع البلالية والسعدية ووجه بهم من مكانين، وقاتلوا الخبيث، فظفر بهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، فترك جعلان خندقه وانصرف إلى البصرة، وظهر عجزه للسلطان، فصرفه عن حرب الزنج، وأمر سعيداً الحاجب بمحاربتهم.
وتحول صاحب الزنج، بعد ذلك، من السبخة التي كان فيهأن ونزل بنهر أبي الخصيب، وأخذ أربعة وعشرين مركباً من مراكب البرح، وأخذوا منها أموالاً كثيرة لا تحصى، وقتل من فيهأن ونهبها أصحابه ثلاثة أيام، وأخذه لنفسه بعد ذلك من النهب.
ذكر دخول الزنج الأبلةوفيها دخل الزنج الأبلة، فقتلوا فيها خلقاً كثيراً وأحرقوها.
وكان سبب ذلك أن جعلان لما تنحى عن خندقه إلى البصرة ألح شناً صاحب الزنج بالغارات على الأبلة، وجعلت سراياه تضرب إلى ناحية نهر معقل، ولم يزل يحارب إلى يوم الأربعاء لخمس بقين من رجب، فافتتحها وقتل أبوالأحوص وعبيد الله بن حميد بن الطوسي، وأضرمها نارأن وكانت مبنية بالساج، فأسرعت النار فيهأن وقتل من أهلها خلق كثير، وحووا الأموال العظيمة، وكان ما أحرقت النار أكثر من الذي نهب.
ذكر أخذ الزنج عبادانوفيها أرسل أهل عبادان إلى صاحب الزنج فسلموا إليه حصنهم.
وكان الذي حملهم على ذلك أنه لما فعل بأهل الأبلة ما فعل خاف أهل عبادان على أنفسهم، وأهليهم، وأموالهم، فكتبوا إليه يطلبون الأمان على أن يسلموا إليه البلد، فأمنهم وسلموه إليه، فأنفذ أصحابه إليهم، وأخذوا ما فيه من العبيد والسلاح، ففرقه في أصحابه.
ذكر أخذهم الأهوازولما فرغ العلوي البصري من الأبلة وعبادان طمع في الأهواز، فاستنهض أصحابه نحوجبى، فلم يلبث أهلها، وهربوا منهم، فدخلها الزنج، وقتلوا من رأوا بهأن وأحرقوا ونهبوأن وأخربوا ما وراءها إلى الأهواز، فلما بلغوا الأهواز هرب من فيها من الجند ومن أهلهأن ولم يبق إلا القليل، فدخلوها وأخربوها؛ وكان بها إبراهيم بن المدبر، متولي الخراج، فأخذوه أسيراً بعد أن جرح، ونهب جميع ماله، وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان، فلما فعل ذلك بالأهواز، وعبادان، والأبلة، خافه أهل البصرة، وانتقل كثير من أهلها في البلدان.
ذكر عزل عيسى بن الشيخ عن الشام وولايته أرمينيةلما استولى ابن الشيخ على دمشق، وقطع الحمل عن بغداد، اتفق أن ابن المدبر حمل مالاً من مصر إلى بغداد، مقدار سبعمائة ألف دينار، فأخذها عيسى بن الشيخ.
فأرسل من بغداد إليه حسين الخادم يطالبه بالمال، فذكر أنه أخرجه على الجند، فأعطاه حسين عهده على أرمينية ليقيم الدعوة للمعتمد، وكان قد امتنع من ذلك، فأخذ العهد، وأقام الدعوة للمعتمد، ولبس السواد، ظناً منه أن الشام تكون بيده.
فأنفذ المعتمد أماجور، وقلده دمشق وأعمالهأن فسار إليها في ألف رجل، فلما قرب منها أنهض عيسى إليه ولده منصوراً في عشرين ألف مقاتل، فلما التقوا انهزم عسكر منصور وقتل منصور، فوهن عيسى، وسار إلى أرمينية على طريق الساحل وولي أماجور دمشق.
ذكر ابن الصوفي العلوي وخروجه بمصروفيها ظهر بصعيد مصر إنسان علوي، وذكر أنه إبراهيم بن محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن بن أبي طالب، عليه السلام، ويعرف بابن الصوفي، وملك مدينة أسنأن ونهبهأن وعم شره البلاد.
فسير إليه أحمد بن طولون جيشأن فهزمه العلوي، وأسر المقدم على الجيش، فقطع يديه ورجليه وصلبه؛ فسير إليه ابن طولون جيشاً آخر فالتقوا بنواحي إخميم، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فانهزم العلوي، وقتل كثير من رجاله، وسار هوحتى دخل الواحات، وسيرد ذكره سنة تسع وخمسين ومائتين، إن شاء الله تعالى.
ذكر ظهور علي بن زيد على الكوفة وخروجه عنهافي هذه السنة ظهر علي بن يزيد العلوي بالكوفة، واستولى عليها، وأزال عنها نائب الخليفة، واستقر بها.
فسير إليه الشاه بن ميكال في جيش كثيف، فالتقوا واقتتلوأن فانهزم الشاه، وقتل جماعة كثيرة من أصحابه، ونجا الشاه.

ثم وجه المعتمد إلى محاربته كيجور التركي، وأمره أن يدعوه إلى الطاعة، ويبذل له الأمان، فسار كيجور فنزل بشاهي، وأرسل إلى علي بن زيد يدعوه إلى الطاعة، وبذل له الأمان، فطلب علي أموراً لم يجبه إليها كيجور، فتنحى علي بن زيد عن الكوفة إلى القادسية، فعسكر بهأن ودخل كيجور إلى الكوفة ثالث شوال من السنة، ومضى علي بن زيد إلى خفان، ودخل بلاد بني أسد، وكان قد صاهرهم، وأقام هناك، ثم سار إلى حنبلاء.
وبلغ كيجور خبره، فأسرى إليه من الكوفة سلخ ذي الحجة من السنة، فواقعه، فانهزم علي بن زيد، وطلبه كيجور ففاته، وقتل نفراً من أصحابه، وأسر آخرين، وعاد كيجور إلى الكوفة؛ فلما استقامت أمورها عاد إلى سر من رأى أمر الخليفة، فوجه إليه الخليفة نفراً من القواد، فقتلوه بعكبرا في ربيع الأول سنة سبع وخمسين ومائتين.
ذكر عدة حوادثوفيها تقدم سعيد بن صالح الحاجب لحرب صاحب الزنج من قبل السلطان.
وفيها تحارب مساور الخارجي وأصحاب موسى بن بغا بناحية خانقين، وكان مساور في جمع كثير، وكان أصحاب موسى بن بغا نحومائتين، فالتقوا بمساور، وقتلوا من أصحابه جماعة كثيرة.
وفيها وثب محمد بن واصل بن إبراهيم التميمي، وهومن أهل فارس، ورجل من أكرادها يقال له أحمد بن الليث، بالحارث بن سيمأن عامل فارس، فحارباه وقتلاه، وغلب محمد بن واصل على فارس.
وفيها وجه مفلح لحرب مساور.
وفيها غلب الحسن بن زيد الطالبي على الري في رمضان، فسار موسى ابن بغا إلى الري في شوال وشيعه المعتمد.
وفيها توفي الإمام أبوعبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري الجعفي صاحب المسند الصحيح، وكان مولده سنة أربع وتسعين ومائة.
حوادث سنة سبع وخمسين ومائتين

ذكر عود أبي أحمد الموفق من مكة إلى سر من رأى
لما اشتد أمر الزنج، وعظم شرهم، وأفسدوا في البلاد، أرسل المعتمد على الله إلى أخيه أبي أحمد الموفق، فأحضره من مكة، فلما حضر عقد له على الكوفة، وطريق مكة، والحرمين، واليمن، ثم عقد له على بغداد، والسواد، وواسط، وكور دجلة، والبصرة، والأهواز، وفارس، وأمر أن يعقد لياركوج على البصرة، وكور دجلة، والبحرين، واليمامة، مكان سعيد ابن صالح، فاستعمل ياركوج منصور بن جعفر الخياط على البصرة، وكور دجلة إلى ما يلي الأهواز.
ذكر انهزام الزنج من سعيد الحاجبوفيها في رجب أوقع سعيد الحاجب بجماعة من الزنج، فهزمهم، واستنقذ ما معهم من النساء، والنهب، وجرح سعيد عدة جراحات.
وبلغه الخبر بمع آخر منهم، فسار إليهم، فلقيهم، فهزمهم أيضأن واستنقذ ما معهم، فكانت المرأة من تلك الناحية تأخذ الزنجي فتأتي به عسكر سعيد، فلا يمتنع عليها.
وعسكر سعيد بهطة، ثم عبر إلى غرب دجلة، فأوقع بصاحب الزنج عدة وقعات، ثم عاد إلى معسكره بهطة، فأقام إلى باقي رجب، وعامة شعيان.
ذكر خلاص ابن المدبر من الزنجوفيها تخلص إبراهيم بن محمد بن المدبر من حبس الزنج، وكان سبب خلاصه أنه كان محبوساً في بيت يحيى بن محمد البحراني، ووكل به رجلين، منزلهما ملاصق المنزل الذي فيه إبراهيم، فضمن لهما مالأن ورغبهمأن فعملا سرباً إلى البيت الذي فيه إبراهيم، فخرج هووابن أخ له يقال له أبوغالب ورجل هاشمي.
ذكر انهزام سعيد من الزنج
وولاية منصور بن جعفر البصرة
وفيها أوقع العلوي صاحب الزنج بسعيد، وكان سير إليه جيشأن فأوقعوا به ليلأن وأصابوا مقتلة من أصحاب سعيد، فقتلوا خلقاً كثيرأن وأحرقوا عسكره، فضعف هوومن معه، فأمر بالمسير إلى باب الخليفة.
ونزل بفراج بالبصرة، فسار سعيد عن البصرة، وأقام بها بفراج يحمي أهلهأن فرد السلطان أمرها إلى منصور بن جعفر الخياط، بعد سعيد الحاجب، وكان منصور يبذرق السفن، ويحميهأن وسيرها إلى البصرة، فضاقت الميرة على الزنج، فجمع منصور الذا فأكثر منهأن وسار نحوصاحب الزنج، فكمن له صاحب الزنج، فلما أقبل خرجوا عليه، فقتلوا في أصحابه مقتلة عظيمة، وغرق منهم خلق كثير، وحملوا من رؤوس أصحابه إلى البحراني ومن معه من الزنوج بنهر معقل.
ذكر انهزام جيش الزنج بالأهوازوفيها أرسل صاحب الزنج جيشاً مع علي بن أبان لقطع قنطرة أربك، فلقيهم إبراهيم بن سيما منصرفاً من فارس، فأوقع بجيش العلوي فهزمهم، وقتل منهم، وجرح علي بن أبان.

ثم إن إبراهيم سار قاصداً نهر جي، فأمر كاتبه شاهين بن بسطام بالمسير على طريق آخر ليوافيه بنهر جي، بعد الوقعة مع علي بن أبان، وكان علي بن أبان قد سار من الوقعة فنزل بالخيزرانية، فأتاه رجل فأخبره بإقبال شاهين إليه، فسار نحوه، فاتقيا وقت العصر بموضع بين جي ونهر موسى، واقتتلوا قتالاً شديدأن ثم صدمهم الزنج صدمة صادقة فهزموهم، وقتلوا شاهين وابن عم له، وقتل معه خلق كثير.
فلما فرغ الزنج منهم أتاهم الخبر بقرب إبراهيم بن سيما منهم، فسار علي نحوه، فوافاه وقت العشاء الآخرة، فأوقع بإبراهيم دفعة أخرى شديدة قتل فيها جمعاً كثيراً.
قال علي بن أبان: وكان أصحابي قد تفرقوا بعد الوقعة مع شاهين، ولم يشهد معي حرب إبراهيم غير خمسين رجلأن وانصرف علي إلى جي.
ذكر أخذ الزنج البصرة وتخريبهالما سار سعيد عن البصرة ضم السلطان عمله إلى المنصور بن جعفر الخياط، وكان منه ما ذكرنأن ولم يعد منصور لقتاله، واقتصر على تخفير القيروانات والسفن، فامتنع أهل البصرة، فعظم ذلك على العلوي، فتقدم إلى علي بن أبان بالخيزرانية ليشغل منصوراً عن تسيير القيروانات، فكان بنواحي جي والخيزرانية، وشغل منصورأن فعاد أهل البصرة إلى الضيق، وألح أصحاب الخبيث عليهم بالحرب صباحاً ومساءً.
فلما كان في شوال أزمع لخبيث على جمع أصحابه لدخول البصرة، والجد في إخرابها لضعف أهلها وتفرقهم، وخراب ما حولهم من القرى، ثم أمر محمد ن يزيد الدارمي، وهوأحد من صحبه بالبحرين، أن يخرج إلى الأعراب ليجمعهم، فأتاه منهم خلق كثير، فأناخوا بالقندل، ووجه إليهم العلوي سليمان بن موسى الشعراني، وأمرهم بتطرق البصرة والإيقاع بها ليتمرن الأعراب على ذلك، ثم أنهض علي بن أبان، وضم إليه طائفة من الأعراب، وأمره بإتيان البصرة من ناحية بني سعيد، وأمر يحيى بن محمد البحراني بإتيانها مما يلي نهر عدي، وضم إليه سائر الأعراب.
فكان أول من واقع أهل البصرة علي بن أبان، وبفراج يومئذ بالبصرة، في جماعة من الجند، فأقام يقاتلهم يومين ومال الناس نحوه.
وأقبل يحيى بن محمد فيمن معه نحوالجسر، فدخل علي بن أبان وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت من شوال، فأقام يقتل ويحرق يوم الجمعة، وليلة السبت، ويوم السبت، وغادي يحيى البصرة يوم الأحد، فتلقاه بفراج وبرية في جمع فردوه، فرجع يومه ذلك.
ثم غاداهم اليوم الآخر، فدخل وقد تفرق الجند، وهرب برية، وانحاز بفراج ومن معه، ولقيه إبراهيم بن يحيى المهلبي، فاستأمنه لأهل البصرة، فأمنهم، فنادى منادي إبراهيم: من أراد الأمان فليحضر دار إبراهيم، فحضر أهل البصرة قاطبة، حتى ملأوا الرحاب، فلما رأى اجتماعهم انتهز الفرصة لئلا يتفرقوأن فغدر بهم، وأمر أصحابه بقتلهم، فكان السيف يعمل فيهم، وأصواتهم مرتفعة بالشهادة، فقتل ذلك الجمع كله، ولم يسلم إلا النادر منهم، ثم انصرف يومه ذلك إلى الحربية.
ودخل علي بن أبان الجامع فأحرقه، وأحرقت البصرة في عدة مواضع، منها المربد، وزهران، وغيرهمأن واتسع الحريق من الجبل إلى الجبل، وعظم الخطب، وعمها القتل والنهب والإحراق، وقتلوا كل من رأوا بهأن فمن كان من أهل اليسار أخذوا ماله وقتلوه، ومن كان فقيراً قتلوه لوقته، وبقوا كذلك عدة أيام.
ثم أمر يحيى أن ينادي بالأمان ليظهروأن فلم يظهر أحد؛ ثم انتهى الخبر إلى الخبيث، فصرف علي بن أبان عنهأن وأقر يحيى عليها لموافقته هواه في كثرة القتل، وصرف علياً لإبقائه على أهلهأن فهرب الناس على وجوههم وصرف الخبيث جيشه عن البصرة.
فلما أخبر البصرة إلى يحيى بن زيد، وذلك لمصير جماعة من العلويين إليه، وكان فيهم علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد وجماعة من نسائهم، فترك الانتساب إلى عيسى بن زيد وانتسب إلى يحيى بن زيد، قال القاسم بن الحسن النوفلي: كذب، إن يحيى لم يعقب غير بنت ماتت وهي ترضع.
ذكر مسير المولد لحرب الزنج

وفيهأن في ذي القعدة، أمر المعتمد أحمد المولد بالمسير إلى البصرة لحرب الزنج، فسار فنزل الأبلة، وجاء برية فنزل البصرة، واجتمع إليه من أهلها خلق كثير، فسير العلوي إلى حرب المولد يحيى بن محمد، فسار غليه فقاتله عشرة أيام، ثم وطن المولد نفسه على المقام، فكتب العلوي إلى يحيى يأمره بتبييت المولد، ووجه إليه الشذا مع أبي الليث الأصفهاني، فبيته، ونهض المولد فقاتله تلك الليلة، ومن الغد إلى العصر، ثم انهزم عنه.
ودخل الزنج عسكره فغمنوا ما فيه، فاتبعه إلى الجامدة، فأوقع بأهلهأن ونهب تلك القرى جيمعهأن وسفك ما قدر عليه من الدماء، ثم رجع إلى نهر معقل.
ذكر قصد يعقوب فارس وملكه بلخ وغيرهاوفي هذه السنة سار يعقوب بن الليث إلى فارس، فأرسل إليه المعتمد ينكر ذلك عليه، فكتب إليه الموفق بولاية بخ، وطخارستان، وسجستان، والسند، فقبل ذلك وعاد، وسار إلى بلخ وطخارستان، فلما وصل إلى بلخ نزل بظاهرهأن وخرب نوشاد، وهي أبنية كان بناها داود بن العباس ابن ماجور خارج بلخ.
ثم سار يعقوب من بلخ إلى كابل، واستولى عليهأن وقبض على زنبيل، وأرسل رسولاً إلى الخليفة، ومعه هدية جليلة المقدار، وفيها أصنام أخذها من كابل وتلك البلاد، وسار إلى بست فأقام بها سنة.
وسبب إقامته أنه أراد الرحيل، فرأى بعض قواده قد حمل بعض أثقاله، فغضب وقال: أترحلون قبلي؟ وأقام سنة، ثم رجع إلى سجستان، ثم عاد إلى هراة، وحاصر مدينة كروخ حتى أخذهأن ثم سار إلى بوشنج، وقبض على الحسين بن طاهر بن الحسين الكبير، وأنفذ إليه محمد بن طاهر ابن عبد الله، فسأله إطلاقه وهم عم أبيه الحسين بن طاهر، فلم يفعل، وبقي في يده.
ذكر ملك الحسن بن زيد العلوي جرجانوفي هذه السنة قصد الحسن بن زيد العلوي صاحب طبرستان جرجان واستولى عليهأن وكان محمد بن طاهر، أمير خراسان، لما بلغه ذلك من عزم الحسن على قصد جرجان قد جهز العساكر فأنفق عليها أموالاً كثيرة، وسيرها إلى جرجان لحفظهأن فلما قصدها الحسن لم يقوموا له، وظفر بهم، وملك البلد، وقتل كثيراً من العساكر، وغمن هووأصحابه ما عندهم.
وضعف حينئذ محمد بن طاهر، وانتقض عليه كثير من الأعمال التي كان يجيء خراجها إليه، فلم يبق في يده إلا بعض خراسان، وأكثر ذلك مفتون بالمتغلبين في نواحيهأن والشراة الذين يعيثون في عمله، فلا يمكنه دفعهم، فكان ذلك سبب تغلب يعقوب الصفار على خراسان، كما نذكره سنة تسع وستين ومائتين، إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثوفيها أخذ أحمد المولد سعد بن أحمد بن سعد الباهلي، وكان قد تغلب على البطائح، وأفسد الطريق، وحمل إلى سامرأن فضرب سبع مائة سوط فمات، وصلب ميتاً.
وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها وثب بسيل المعروف بالصقلبي، وإمنا قيل له الصقلبي، وهومن بيت المملكة، لأن أمه صقلبية، على ميخائيل بن توفيل ملك الروم، فقتله؛ وكان ملك ميخائيل أربعاً وعشرين سنة، وملك بسيل الروم.
وفيها أقطع المعتمد مصر وأعمالها لياركوج التركي، فأقر عليها أحمد بن طولون.
وفيها فارق عبد العزيز بن أبي دلف الري من غير خوف، وأخلاهأن فأرسل إليها الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، القاسم بن علي بن القاسم بن علي العلوي، المعروف بدليس، فغلب عليهأن فأساء السية في أهلها جدأن وقلعوا أبواب المدينة، وكانت من حديد، وسيرها إلى الحسن بن زيد، وبقي كذلك نحوثلاث سنين.
وفيها خرج علي بن مساور الخارجي، وخارجي آخر اسمه طوق من بني زهير، فاجتمع إليه أربعة آلاف، فسار إلى أذرمة، فحاربه أهلهأن فظفر بهم، فدخلها بالسيف، وأخذ جارية بكراً بجعلها فيئأن وافتضها في المسجد، فجمع عليه الحسن بن أيوب بن أحمد العلوي جمعاً كثيرأن فحاربه فقتله، وقطع رأسه وأنفذه إلى سامرا.
وفيها قتل محمد بن خفاجة، أمير صقلية، قتله خدمه نهارأن وكتموا قتله، فلم يعرف إلا من الغد، وكان الخدم الذين قتلوه قد هربوأن فطلبوا فأخذوأن وقتل بعضهم، ولما قتل استعمل محمد بن أحمد بن الأغلب على صقلية أحمد بن يعقوب بن المضاء بن سلمة فلم تطل أيامه، ومات سنة ثمان وخمسين ومائتين.
وفيها توفي الحسن بن عمر العبدي، وكان مولده سنة خمسين ومائة بسر من رأى.

وفيها توفي أبوالفضل العباس بن الفرج الرياشي اللغوي، من كبارهم، وروى عن الأصمعي وغيره.
وفيها توفي محمد بن الخطاب الموصلي، وكان من أهل العلم والزهد.
حوادث سنة ثمان وخمسين ومائتين

ذكر قتل منصور بن جعفر الخياط
في هذه السنة قتل منصور بن جعفر الخياط، وكان سبب قتله أن اللوي البصري لما فرغ من أمر البصرة أمر علي بن أبان بالمسير إلى جي لحرب منصور ابن جعفر، وهويلي يومئذ الأهواز، وأقام بإزائه شهرأن وكان منصور في قلة من الرجال، فأتى عسكر علي وهوبالخيزرانية.
ثم إن الخبيث، صاحب الزنج، وجه إلى علي باثنتي عشرة شذاة مشحونة بجلة أصحابه، وولى أمرهم أبا الليث الأصبهاني، وأمره بطاعة علي، فلما صار إلى خالفه، واستبد عليه، وجاء منصور كما كان يجيء للحرب، فتقدم إليه أبوالليث، عن غير إذن علي، فظفر به منصور وبالشذوات التي معه،، وقتل فيها من البيض والزنج خلقاً كثيرأن وأفلت أبوالليث، ورجع إلى الخبيث.
ثم إن علياً وجه طلائع يأتونه بخبر منصور، وأسرى إلى وال كان لمنصور كرنبأن فقتله وقتل أكثر أصحابه، وغمن ما كان معهم ورجع.
وبلغ الخبر منصورأن فأسرى إلى الخيزرانية، وخرج إليه علي، فتحاربوا إلى الظهر، ثم انهزم منصور، وتفرق عنه أصحابه، وانقطع عنهم، وأدركته طائفة من الزنج، فحمل عليهم، وقاتلهم حتى تكسر رمحه، وفني نشبه، ثم حمل حصانه ليعبر النهر، فوقع في النهر، ولم يعبره.
وكان سبب وقوعه أن بعض الزنج رآه حين أراد أن يعبر النهر، فألقى نفسه في النهر قبل منصور وتلقى الفرس حين وثبت فنكص، فلما سقط في النهر قتله الأسور، وأخذ سلبه، وقتل معه أخوه خلف بن جعفر وغيره، فولي ياركوج ما كان إلى منصور بن جعفر من العمل.
ذكر مسير أبي أحمد إلى الزنج وقتل مفلحوفيهأن في ربيع الأول، عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على ديار مصر، وقنسرين، والواصم، وخلع عليه وعلى مفلح في ربيع الآخر، وسيرهما إلى حرب الزنج بالبصرة، وركب المعتمد معه يشيعه، وسار نحوالبصرة، ونازل العلوي وقاتله.
وكان سبب تسييره ما فعله بالبصرة، واكبر الناس ذلك، وتجهزوا إليه وساروا في عدة حسنة كاملة، وصحبه من سوقة بغداد خلق كثير.
وكان علي بن أبان يجي، على ما ذكرنأن وسار يحيى بن محمد البحراني إلى نهر العباس، ومعه أكثر الزنوج، فبقي صاحبهم في قلة من الناس، وأصحابه يغادون البصرة ويراوحونها لنقل ما نالوه منها؛ فلما نزل عسكر أبي أحمد بنهر معقل، احتفل من فيه من الزنوج إلى صاحبهم مرعوبين، وأخبروه بعظم الجيش وأنهم لم يرد عليهم مثله، وأحضر رئيسين من أصحابه، فسألهما عن قائد الجيش فلم يعرفاه، فجزع، وارتاع.
ثم أرسل إلى علي بن أبان يأمره بالمسير إليه فيمن معه، فلما كان يوم الأربعاء لاثنتي عشرة بقيت من جمادى الأولى أباه بعض قواده، فأخبره بمجيء العسكر وتقدمهم، وأنهم ليس في وجوههم من يرده من الزنوج، وكذبه، وسبه، وأمر فنودي في الزنوج بالخروج إلى الحرب، فخرجوأن فرأوا مفلحاً قد أتاهم في عسكر لحربهم، فقاتلهم، فبيمنا مفلح يقاتلهم إذ أتاه سهم غرب لا يعرف من رمي به، فأصابه، فرجع وانهزم أصحابه، وقتلوا فيهم قتلاً ذريعأن وحملوا الرؤوس إلى العلوي، واقتسم الزنج لحوم القتلى.
فأتي بالأسرى، فسألهم عن قائد الجيش، فأخبروه أنه أبواحمد، ومات مفلح من ذلك السهم، فلم يلبث العلوي إلا يسيراً حتى وافاه علي بن أبان.
ثم إن أبا احمد رحل نحوالأبلة ليجمع ما فرقته الهزيمة، ثم سار إلى نهر أبي الأسد، ولما علم الخبيث كيف قتل مفلح، ولم ير أحداً يدعي قتله، زعم أنه هوالذي قتله، وكذب فإنه لم يحضره.
ذكر قتل يحيى بن محمد البحرانيوفيها اسر يحيى بن محمد البحراني قائد صاحب الزنج، وكان سبب ذلك أنه لما سار نحونهر العباس لقيه عسكر أصعجور، عامل الأهواز بعد منصور، وقاتلهم، وكان أكثر منهم عددأن فنال ذلك العسكر من الزنج بالنشاب، وجرحوهم، فعبر يحيى النهر إليهم، فانحازوا عنه، وغمن سفناً كانت مع العسكر، فيها الميرة، وساروا بها إلى عسكر صاحب الزنج على غير الوجه الذي فيه علي بن أبان، لتحاسد كان بينه وبين يحيى.

ووجه يحيى طلائعه إلى دجلة، فلقيهم جيش أبي أحمد الموفق سائرين إلى نهر أبي الأسد، فرجعوا إلى علي، فأخبروه لمجيء الجيش، فرجع من الطريق الذي سلكه، وسلك نهر العباس، وعلى فم النهر شذوات لحمية من عسكر الخليفة، فلما رآهم يحيى راعه ذلك، وخاف أصحابه فنزلوا السفن وعبروا النهر، ولقي يحيى ومن معه بضعة عشر رجلأن فقاتلهم هووذلك النفر اليسير، فرموهم بالسهام، فجرح ثلاث جراحات؛ فلما جرح تفرق أصحابه عنه، ولم يعرف حتى يؤخذ، فرجع حتى دخل بعض السفن وهومثخن بالجراح.
وأخذ أصحاب السلطان الغنائم، وأخذوا السفن، وعبروا إلى سفن كانت للزنج فأحرقوهأن ووتفرق لزنج عن يحيى بقية نهارهم، فلما رأى تفرقهم ركب سميرية، واخذ معه طبيباً لأجل الجراح، وسار فيهأن فرأى الملاحون سميريات السلطان، فخافوأن فألقوا يحيى ومن معه على الأرض، فمشى وهومثقل، وقام الطبيب الذي معه فأتى أصحاب السلطان فأخبرهم خبره، فأخذوه وحملوه إلى أبي أحمد، فحمله أبوأحمد إلى سامرأن فقطعت يداه ورجلاه ثم قتل، فجزع الخبيث والزنوج عليه جزعاً كبيرأن وقال لهم: لما قتل يحيى اشتد جزعي عليه، فخوطبت أن قتله كان خيراً لك، إنه كان شرهاً.
ذكر عود أبي أحمد إلى واسطوفيها انحاز أبوأحمد من موضعه إلى واسط؛ وكان سبب ذلك أنه لما سار إلى نهر أبي الأسد كثرت الأمراض في أصحابه، وكثر فيهم الموت، فرجع إلى باذاورد فأقام به، وأمر بتجديد الآلات، وإعطاء الجند أرزاقهم، وإصلاح المسيريات والشذأن وشحنها بالقواد، وعاد إلى عسكر صاحب الزنج، وأمر جماعة من قواده بقصد مواضع سماها من نهر أبي الخصيب وغيره، وبقي معه جماعة، فمال أكثر الخلق، حين التقى الناس ونشبت الحرب، إلى نهر أبي الخصيب، وبقي أبوأحمد في قلة من أصحابه، فلم يزل عن موضعه خوفاً أن يطمع الزنج.
ولما رأى الزنج قلة من معه طمعوا فيه، وكثروا عليه، واشتدت الحرب عنده، وكثر القتل والجراح، وأحرق أصحاب أبي أحمد منازل الزنوج، واستنقذوا من النساء جمعاً كثيرأن ثم ألقى الزنج جدهم نحوه، فلما رأى أبوأحمد ذلك علم أن الحزم في الحاجزة، فأمر أصحابه بالرجوع إلى سفنهم على مهل وتؤدة.
واقتطع الزنج طائفة من أصحابه، فقاتلوهم، فقتلوا من الزنج خلقاً كثيرأن ثم قتلوا جميعهم، وحملت رؤوسهم إلى قائد الزنج، وهي مائة رأس وعشرة أرؤس، فزاد ذلك في عتوه.
ونزل أوأحمد في عسكره بباذاورد، فأقام يعبئ أصحابه للرجوع إلى الزنج، فوقعت نار في أطراف عسكره، في يوم ريح عاصف، فاحترق كثير منه، فرحل منها إلى واسط، فلما نزل واسط تفرق عنه عامة أصحابه، فسار منها إلى سامرأن واستخلف على واسط، لحرب العلوي، محمد بن المولد.
ذكر عدة حوادثوفيها وقع الوباء في كور دجلة، فهلك منها كثير ببغداد، وواسط، وسامرأن وغيرها.
وفيها قتل سرسجارس ببلاد الروم مع جماعة كثيرة من أصحابه.
وفيها كانت هدة عظيمة هائلة بالصيمرة، ثم سمع من ذلك اليوم هدة أعظم من الأولى، فانهدم اكثر المدينة، وتساقطت الحيطان، وهلك من أهلها زهاء عشرين ألفاً.
وفيها مات ياركوج التركي في رمضان، وصلى عليه أبوعيسى بن المتوكل، وكان صاحب مصر ومقطعها ودعي له فيها أحمد بن طولون، فلما توفي استقل أحمد بمصر.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب موسى بن بغا وأصحاب الحسن بن زيد العلوي، فانهزم أصحاب الحسن.
وفيها أسر مسرور البلخي جماعة من أصحاب مساور الشاري، وسار مسرور إلى البوازيج، فلقي مساور هناك، فكان فيها بينهما وقعة اسر فيها من أصحاب مسرور جماعة، ثم انصرف في ذي الحجة إلى سامرأن واستخلف على عسكره بحديثة الموصل جعلان.
وفيها رجع أكثر الناس من القرعاء خوف العطش، وسلم من سار إلى مكة؛ وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن الحسن.
وفيها أوقع بأعراب بتكريت كانوا أعانوا مساوراً الشاري.
وفيها أوقع مسرور البلخي بالأكراد اليعقوبية، فهزمهم وأصاب فيها.
وفيها صار محمد بن واصل في طاعة السلطان، وسلم فارس إلى محمد بن الحسن بن أبي الفياض. وفيها أسر جماعة من الزنج كان فيهم قاض كان لهم بعبادان، فحملوا إلى سامرأن فضربت أعناقهم.
وفيها توفي محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد الدهلي النيسابوري، وله مع البخاري حادثة ظلمه بها حسداً له، ليس هذا مكان ذكرها.

وفيها توفي يحيى بن معاذ الرازي الواعظ في جمادى الأولى، وكان عابداً صالحاً صحب أبا يزيد وغيره.
حوادث سنة تسع وخمسين ومائتين

ذكر دخول الزنج الأهواز
وفيهأن في رجب، دخلت الزنج الأهواز، وكان سببه أن العلوي أنفذ علي بن أبان المعلبي، وضم إليه الجيش الذي كان مع يحيى بن محمد البحراني، وسليمان بن موسى الشعراني، وسيره إلى الأهواز.
وكان المتولي لها بعد منصور بن جعفر رجل يقال له أصعجور، فبلغه خبر الزنج، فخرج إليهم، والتقى العسكران بدشت ميسان، فانهزم أصعجور، وقتل معه ثيرك، وجرح خلق كثير من أصحابه، وغرق أصعجور، وأسر خلق كثير، فيهم الحسن بن هرثمة، والحسن بن جعفر، وحملت الرؤوس والأعلام والأسرى إلى الخبيث، فأمر بحبس الأسرى، ودخل الزنج الأهواز، فأقاموا يفسدون فيهأن ويعيثون إلى أن قدم موسى بن بغا.
ذكر مسير موسى بن بغا لحرب الزنجوفيهأن في ذي القعدة، أمر المعتمد موسى بن بغا بالمسير إلى حرب صاحب الزنج، فسير إلى الأهواز عبد الرحمن بن مفلح، وإلى البصرة إسحاق بن كنداجيق، وإلى باذاورد إبراهيم بن سيمأن وأمرهم بمحاربة صاحب الزنج.
فلما ولي عبد الرحمن الأهواز سار إلى محاربة علي بن أبان، فتواقعأن فانهزم عبد الرحمن؛ ثم استعد، وعاد إلى علي فأوقع به وقعة عظيمة قتل فيها من الزنج قتلاً ذريعأن وأسر خلقاً كثيرأن وانهزم علي بن أبان والزنج، ثم أراد ردهم فلم يرجعوا من الخوف الذي دخلهم من عبد الرحمن؛ فلما رأى ذلك أذن لهم بالانصراف، فانصرفوا إلى مدينة صاحبهم.
ووافى عبد الرحمن حصن مهدي ليعسكر به، فوجه إليه صاحب الزنج علي بن أبان، فواقعه، فلم يقدر عليه، ومضى يريد الموضع المعروف بالدكة، وكان إبراهيم بن سيما بالباذاورد، فواقعه علي بن أبان، فهزمه علي بن أبان، ثم واقعه ثانية، فهزمه إبراهيم، فمضى علي في الليل ومعه الأدلاء في الآجام، حتى انتهى إلى نهر يحيى.
وانتهى خبره إلى عبد الرحمن، فوجه إليه طاشتمر في جمع من الموالي، فلم يصل إليه لامتناعه بالقصب والحلافي، فأضرمها عليه نارأن فخرجوا منها هاربين، فأسر منهم أسرى، وانصرف أصحاب عبد الرحمن بالأسرى والظفر.
ثم سار عبد الرحمن نحوعلي بن أبان بمكان نزل فيه، فكتب علي إلى صاحب الزنج يستمده، فأمده بثلاث عشرة شذاة، ووافاه عبد الرحمن، فتواقعا يومهمأن فلما كان الليل انتخب علي من أصحابه جماعة ممن يثق بهم وسار، وترك عسكره ليخفي أمره، وأتى عبد الرحمن من ورائه فبيته، فنال منه شيئاً يسيرأن وانحاز عبد الرحمن، فأخذ علي منهم أربع شذوات، وأتى عبد الرحمن دولاب فأقام به.
وسار طاشتمر إلى علي فوافاه وقاتله، فانهزم علي إلى نهر السدرة، وكتب يستمد عبد الرحمن، فأخبره بانهزام علي عنه، فأتاه عبد الرحمن، وواقع علياً نهر السدرة وقعة عظيمة، فانهزم علي إلى الخبيث، وعسكر عبد الرحمن بلنبان، فكان هووإبراهيم بن سيما يتناوبان المسير إلى عسكر الخبيث فيوقعان به، وإسحاق بن كنداجيق بالبصرة، وقد قطع الميرة عن الزنج، فكان صاحبهم يجمع أصحابه يوم محاربة عبد الرحمن وإبراهيم، فإذا انقضت الحرب سير طائفة منهم إلى البصرة يقاتل بهم إسحاق، فأقاموا كذلك بضعة عشر شهراً إلى أن صرف موسى بن بغا عن حرب الزنج، ووليها مسرور البلخي، فانتهى الخبر بذلك إلى الخبيث.
ذكر ملك يعقوب نيسابوروفيهأن في شوال، دخل يعقوب بن الليث نيسابور، وكان سبب مسيره إليها أن عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب بسجستان، فلما قوي عليه يعقوب هرب منه إلى محمد بن طاهر، فأرسل يعقوب يطلب من ابن طاهر أن يسلمه إليه فلم يفعل، فسار نحوه إلى نيسابور، فلما قرب منهأن وأراد دخولهأن وجه محمد بن طاهر يستأذنه في تلقيه، فلم يأذن له،! فبعث بعمومته وأهل بيته فتلقوه.
ثم دخل نيسابور في شوال، فركب محمد بن طاهر، فدخل إليه في مضربه، فساءله، ثم وبخه على تفريطه في عمله، وقبض على محمد بن طاهر وأهل بيته، واستعمل على نيسابور، وأرسل إلى الخليفة يذكر تفريط محمد ابن طاهر في عمله، وأن أهل خراسان سألوه المسير إليهم، ويذكر غلبة العلويين على طبرستان، وبالغ في هذا المعنى، فأنكر عليه ذلك، وأمر بالاقتصار على ما أسند إليه، وإلا يسلك معه مسلك المخالفين.

وقيل كان سبب ملك يعقوب نيسابور ما ذكرناه سنة سبع وخمسين من ضعف محمد بن طاهر أمير خراسان، فلما تحقق يعقوب ذلك، وأنه لا يقدر على الدفع، سار إلى نيسابور، وكتب إلى محمد بن طاهر يعلمه أنه قد عزم على قصد طبرستان ليمضي ما أمره الخليفة في الحسن بن زيد المتغلب عليهأن وأنه لا يعرض لشيء من عمله، ولا لأحد من أسبابه.
وكان بعض خاصة محمد بن طاهر وبعض أهله لما رأوا إدبار أمره مالوا إلى يعقوب، فكاتبوه، واستدعوه، وهونوا على محمد أمر يعقوب من نيسابور، فأعلمه أنه لا خوف عليه منه، وثبطوه عن التحرز منه، فركن محمد إلى قولهم، حتى قرب يعقوب من نيسابور، فوجه إليه قائداً من قواده يطيب قلبه، وأمره بمنعه عن الأنتزاح عن نيسابور إن أراد ذلك.
ثم وصل يعقوب إلى نيسابور رابع شوال وأرسل أخاه عمروبن الليث إلى محمد بن طاهر، فأحضره عنده، فقبض عليه وقيده، وعنفه على إهماله عمله، وعجزه عن حفظه، ثم قبض على جميع أهل بيته، وكانوا نحواً من مائة وستين رجلأن وحملهم إلى سجستان، واستولى على خراسان، ورتب في الأعمال نوابه.
وكانت ولاية محمد بن طاهر إحدى عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام.
ذكر ظهور ابن الصوفي بمصر ثانياً
وفيها عاد ابن الصوفي العلوي فظهر بمصر، وقد ذكرنا سنة ست وخمسين ظهوره وهربه إلى الواحات، فأحم نفسه، ودعا الناس إلى نفسه، فتبعه خلق كثير، وسار بهم إلى الأشمونين، فوجه إليه جيش عليهم قائد يعرف باب أبي الغيث، فوجده قد أصعد إلى لقاء أبي عبد الرحمن العمري، وسنذكر بعد هذا.
فلما وصل العلوي إلى العمري اتقيأن فكان بينهما قتال شديد، أجلت الوقعة عن انهزام العلوي، فولى منهزماً إلى أسوان، فعاث فيهأن وقطع كثيراً من نخلها.
فسير إليه ابن طولون جيشاً، وأمرهم بطلبه أين كان، فسار الجيش في طلبه، فولى هارباً إلى عيذاب، وعبر البحر إلى مكة، وتفرق أصحابه، فلما وصل إلى مكة بلغ خبره إلى واليهأن فقبض عليه وحبسه، ثم سيره إلى ابن طولون، فلما وصل إلى مصر أمر به فطيف به في البلد، ثم سجنه مدة وأطلقه، ثم رجع إلى المدينة فأقام بها إلى أن مات.
ذكر حال أبي عبد الرحمن العمريقد تقدم ذكر أبي عبد الرحمن العمري، واسمه عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب.
وكان سبب ظهوره بمصر أن البجاة أقبلت يوم العيد، فنهبوا وقتلوا وعادوا غامنين، وفعلوا ذلك مرات، فخرج هذا العمري غضباً لله وللمسلمين، وكمن لهم في طريقهم، فلما عادوا خرج يحصي، وتابع عليهم الغارات حتى أدوا إليه الجزية، ولم يفعلوها قبل ذلك.
واشتدت شوكة العمري، وكثر أتباعه؛ فلما بلغ خبره ابن طولون سير إليه جيشاً كثيفأن فلما التقوا تقدم العمري وقال لمقدم الجيش: إن ابن طولون لا يعرف خبري، لا شك، على حقيقته، فإني لم أخرج للفساد، ولم يتأذ بي مسلم ولا ذمي، وإمنا خرجت طلباً للجهاد، فاكتب إلى الأمير أحمد عرفه كيف حالي، فإن أمرك بالانصراف فانصرف، وإلا إن أمرك بغير ذلك كنت معذوراً. فلم يجبه إلى ذلك، وقاتله، فانهزم جيش ابن طولون، فلما وصلوا إليه أخبروه بحال العمري فقال: كنتم أنهيتم حاله إلي، فإنه نصر عليكم ببغيكم. وتركه.
فلما كان بعد مدة وثب على العمري غلامان له فقتلاه، وحملا رأسه إلى أحمد بن طولون، فلما حضرا عنده سألهما عن سبب قتله، فقالا: أردنا التقرب إليك بذلك، فقتلهمأن وأمر برأس العمري فغسل، وكفن، ودفن.
ذكر ما كان هذه السنة بالأندلسفي هذه السنة سار محمد بن عبد الرحمن الأموي، صاحب الأندلس، إلى طليطلة فنازلها وحصرهأن وكان أهلها قد خالفوا عليه، وطلبوا الأمان فأمنهم، وأخذ رهائنهم.
وفيها خرج أهل طليطلة إلى حصن سكيان، وكان فيه سبع مائة رجل من البربر، وكان أهل طليطلة في عشرة آلاف، فلما التحمت بينهم الحرب انهزم أحد مقدمي أهلهأن وهوعبد الرحمن بن حبيب، فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة، وإمنا انهزم لعداوة كانت بينه وبين مقدم آخر اسمه طريشة من أهل طليطلة، فأراد أن يوهنه بذلك، فلما انهزموا قتلوا البرقيل.
وفيها عاد عمروبن عمروس إلى طاعة محمد بن عبد الرحمن، وكان مخالفاً عليه عدة سنين، فولاه مدينة أمشقة وحصر محمد حصون بني موسى ثم تقدم إلى بنبلونة فوطئ أرضها وعاد.
ذكر عدة حوادث

وفيها سارت سرية للمسلمين إلى مدينة سرقوسة، فصالحها أهلها على أن أطلقوا الأسرى الذين كانوا عندهم من المسلمين، ثلاثمائة وستين أسيرأن فلما أطلقوهم عادت عنهم.
وفيها قتل كيجور، وكان سبب قتله أنه كان على الكوفة، فسار عنها إلى سامرا بغير إذن، فأمر بالرجوع فأبى، فحمل إليه مال ليفرقه في أصحابه فلم يقنع به، وسار حتى أتى عكبرأن فوجه إليه من سامرا عدة من القواد فقتلوه، وحملوا رأسه إلى سامرا.
وفيها غلب يعقوب بن الليث عن بلخ، فأقام بقهستان، وولى عماله هراة، وبوشنج، وباذغيس، وانصرف إلى سجستان.
وفيها فارق عبد الله السجزي، وحاصر نيسابور وبها محمد ابن طاهر قبل أن يملكها يعقوب بن الليث فوجه محمد بن طاهر إليه الرسل والفقهاء، فاختلفوا بينهمأن ثم ولاه الطبسين، وقهستان؛ وفيها غلب الحسن بن زيد على قومس ودخلها أصحابه.
وفيها كانت وقعة بين محمد بن الفضل بن بين ووهوسوذان بن جستان الديلمي، وانهزم وهسوذان.
وفيها نزلت الروم على سميساط، ثم نزلوا على ملطية وقاتلهم أهلهأن فانهزمت الروم، وقتل بطريق البطارقة.
وحج بالناس العباس بن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف ببرية.
وفيها مات محمد بن يحيى بن موسى أبوعبد الله بن أبي زكرياء الأسفرايني المعروف بابن حيويه، ومحمد بن عمروس بن يونس بن عمران بن دينار الكوفي الثعلبي، وكان شيعياً ضعيف الحديث.
وفيها توفي أبوالحسن بن علي بن حرب الطائي الموصلي، وكان محدثاً وممن روى عنه أبوه علي بن حرب.
حوادث سنة ستين ومائتين

ذكر دخول يعقوب طبرستان
وفيها واقع يعقوب بن الليث الحسن بن زيد العلوي، فهزمه، ودخل طبرستان.
وكان سبب ذلك أن عبد الله السجزي كان ينازع يعقوب الرئاسة بسجستان، فقهره يعقوب، فهرب منه عبد الله إلى نيسابور، فلما سار يعقوب إلى نيسابور، كما ذكرنأن هرب عبد الله إلى الحسن بن زيد بطبرستان، فسار يعقوب في أثره، فلقيه الحسن بن زيد بقرية سارية.
وكان يعقوب قد أرسل إلى الحسن يسأله أن يبعث إليه عبد الله ويرجع عنه، فإنه إمنا جاء لذلك لا لحربه، فلم يسلمه الحسن، فحاربه يعقوب، فانهزم الحسن، ومضى نحوالسر وأرض الديلم، ودخل يعقوب سارية، وآمل، وجبى أهلها خراج سنة، ثم سار في طلب الحسن، فسار إلى بعض جبال طبرستان، وتتابعت عليه الأمطار نحواً من أربعين يومأن فلم يتخلص إلا بمشقة شديدة، وهلك عامة ما معه من الظهر.
ثم أراد الدخول خلف الحسن، فوقف على الطريق الذي يريد أن يسكه، وأمر أصحابه بالوقوف، ثم تقدم وحده، وتأمل الطريق، ثم رجع إليهم فأمرهم بالانصراف، وقال لهم: إنه لم يكن طريق غير هذأن وإلا لا طريق إليه.
وكان نساء أهل تلك الناحية قلن لرجال: دعوه يدخل، فإنه إن دخل كفيناكم أمره، وعلينا أسره لكم. فلما خرج من طبرستان عرض رجاله، ففقد منهم أربعون ألفأن وذهب أكثر ما كان معه من الخيل، والإبل ،والبغال والأثقال، وكتب إلى الخليفة بما فعله مع الحسن من الهزيمة، وسار إلى الري في طلب عبد الله لأنه كان قد سار إليها بعد هزيمة الحسن، فلما قاربها يعقوب كتب إلى الصلاني واليها يخيره بين تسليم عبد الله إليه وينصرف عنه، وبين المحاربة، فسلم إليه عبد الله فرحل عنه، وقتل عبد الله.
ذكر الفتنة بالموصل وإخراج عاملهمكان الخليفة المعتمد على الله قد استعمل على الموصل أساتكين، وهومن أكابر قواد الأتراك، فسير إليها ابنه أذكوتكين في جمادى الأولى سنة تسع وخمسين ومائتين؛ فلما كان يوم النيروز من هذه السنة، وهوالثالث عشر من نيسان، غيره المعتضد بالله، ودعا أذكوتكين ووجوه أهل الموصل إلى قبة في الميدان، وأحضر أنواع الملاهي، وأكثر الخمر، شرب ظاهرأن وتجاهر أصحابه بالفسوق، وفعل المنكرات، وأساء السيرة في الناس.

وكان تلك السنة بدرد شديد أهلك الأشجار، والثمار، والحنطة، والشعير، وطالب الناس بالخراج على الغلات التي هلكت، فاشتد ذلك عليهم، وكان لا يسمع بفرس جيد عند أحد إلا أخذه، وأهل الموصل صابرون، إلى أن وثب رجل من أصحابه على امرأة فأخذها في الطريق، فامتنعت، واستغاثت، فقام رجل اسمه إدريس الحميري، وهومن أهل القرآن والصلاح، فخلصها من يده، فعاد الجندي أذكوتكين فشكا من أرجل، فأحضره وضربه ضرباً شديداً من غير أن يكشف الأمر، فاجتمع وجوه الموصل إلى الجامع وقالوا: قد ضربنا على أخذ الأموال، وشتم الأعراض، وإبطال السنن والعسف، وقد أفضى الأمر إلى أخذ الحريم، فاجمع رأيهم على إخراجه، والشكوى منه إلى الخليفة.
وبلغه الخبر، فركب إليهم في جنده، وأخذ معه النفاطين، فخرجوا إليه وقاتلوه قتالاً شديدأن حتى أخرجوه عن الموصل، ونهبوا داره، وأصابه حجر فأثخنه، ومضى من يومه إلى بلده، وسار منه إلى سامرا.
واجتمع الناس إلى يحيى بن سليمان، وقلدوه أمرهم، ففعل، فبقي كذلك إلى أن انقضت سنة ستين؛ فلما دخلت سنة إحدى وستين كتب أساتكين إلى الهيثم بن عبد الله بن المعمر التغلبي، ثم العدوي، في أن يتقلد الموصل، وأرسل إليه الخلع والواء وكان بديار ربيعة، فجمع جموعاً كثيرة، وسار إلى الموصل، ونزل بالجانب الشرقي، وبينه وبين البلد دجلة، فقاتلوه، فعبر إلى الجانب الغربي وزحف إلى باب البلد، فخرج إليه يحيى بن ليمان في أهل الموصل، فقاتلوه فقتل بينهم قتلى كثيرة، وكثرت الجراحات وعاد الهيثم عنهم.
فاستعمل أساتكين على الموصل إسحاق بن أيوب التغلبي فخرج في جمع يبلغون عشرين ألفأن منهم حمدان بن حمدون التغلبي وغيره، فنزل عند الدير الأعلى، فقاتله أهل الموصل ومنعوه، فبقوا كذلك مدة، فمرض يحيى بن سليمان الأمير، فطمع إسحاق في البلد، وجد في الحرب فانطشف الناس بين يديه، فدخل إسحاق البلد، ووصل إلى سوق الأربعاء، وأحرق سوق الحشيش، فخرج بعض العدول، اسمه زياد بن عبد الواحد. وعلق في عنقه مصحفأن واستغاث بالمسلمين فأجابوه، وعادوا إلى الحرب، وحملوا إلى إسحاق وأصحابه، وأخرجوهم من المدينة.
وبلغ يحيى بن سليمان الخبر، فأمر فحمل في محفة، وجعل أمام الصف، فلما رآه أهل الموصل قويت نفوسهم، واشتد قتالهم، ولم يزل الأمر كذلك وإسحاق يراسل أهل الموصل، وبعدهم الأمان وحسن السيرة، فأجابوه إلى أن يدخل البلد، ويقيم بالربض الأعلى، فدخل وأقام سبعة أيام.
ثم وقع بين بعض أصحابه وبين قوم من أهل الموصل شر، فرجعوا إلى الحرب، وأخرجوه عنهأن واستقر يحيى بن سليمان بالموصل.
ذكر الحرب بين أهل طليطلة وهوارةوفي هذه السنة ظهر موسى بن ذي النون الهواري بشنت برية، وأغار على أهل طليطلة، ودخل حصن وليد من شنت برية، فخرج أهل طليطلة إليه في نحوعشرين ألفأن فلما التقوا بموسى واقتتلوا انهزم محمد بن طريشة في أصحابه، وهومن أهل طليطلة، فتبعه أهل طليطلة في الهزيمة، وانهزم معهم مطرف بن عبد الرحمن، فعمل ذلك محمد مكافأة لمطرف حين انهزم بالناس في العام الماضي، فقتل أهل طليطلة خلق كثير، وقوي موسى ابن ذي النون، وهابه من حاذره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل رجل من أصحاب مساور الشاري محمد بن هارون ابن المعمر، رآه وهويريد سامرأن فقتله، وحمل رأسه إلى مساور، فطلبت ربيعة بثأره، فندب مسرور البلخي وغيره إلى أخذ الطرق على مساور.
وفيها اشتد الغلاء في عامة بلاد الإسلام، فانجلى من أهل مكة كثير، ورحل عنها عاملهأن وهوبرية، وبلغ الكر الحنطة ببغداد عشرين ومائة دينار، ودام ذلك شهوراً.
وفيها قتلت الأعراب منجوراً والي حمص، واستعمل عليها بكتمر.
وفيها قتل العلاء بن أحمد الأزدي عامل أذربيجان، وكان سبب قتله أنه فلج، فاستعمل الخليفة مكانه أبا الرديني عمر بن علي، فلما قاربها خرج إليه العلاء، فتحاربأن فقتل العلاء، وانهزم أصحابه، وأخذ أبوالرديني ما خلفه العلاء وكان مبلغه ألفي ألف وسبع مائة ألف درهم.
وحج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المعروف ببرية، وهوأمير مكة.

وفيها ظهر بمصر إنسان يكنى أبا روح، واسمه سكن، وكان من أصحاب ابن الصوفي، واجتمع له جماعة، فقطع الطريق، وأخاف السبيل، فوجه إليه ابن طولون جيشأن فوقف أبوروح في أرض كثيرة الشقوق، وقد كان بها قمح فحصد، وبقي من تبنه على الأرض ما يستر الشقوق، وقد ألفوا المشي على مثل هذه الأرض. فلما جاءهم الجيش لقوهم، ثم انهزم أصحاب أبي روح، فتبعهم عسكر ابن طولون، فوقعت حوافر خيولهم في تلك الشقوق، فسقط كثير من فرسانها عنهأن وتراجع أصحاب أبي روح عليهم، فقتلوهم شر قتلة وانهزم الباقون أسوأ هزيمة.
فسير أحمد جيشاً إلى طريقهم إلى الواحات، وجيشاً في طلبه، فلقيه الجيش الذي في طلبه وقد تحصن في مثل تلك الأرض فحذرها عسكر أحمد، فحين بطلت حيلهم انهزموأن وتبعهم العسكر ، فلما خرجوا إلى طريق الواحات رأى أبوروح الطريق قد ملكت عليه، فراسل يطلب الأمان، فبذل له، وبطلت الحرب، وكفي المسلمون شره.
وفيها توفي علي بن محمد العلوي الخماني، وكان يسكن الخمان، فنسب إليها.
وفيها قتل علي بن يزيد صاحب الكوفة، قتله صاحب الزنج.
وفيها كان بإفريقية وبلاد المغرب والأندلس غلاء شديد، وعم غيرها من البلاد، وتبعه وباء وطاعون عظيم هلك فيه كثير من الناس.
وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن عبدوس، الفيه المالكي، صاحب المجموعة في الفقه؛ وهومن أهل إفريقية.
وفيها مات مالك بن طوق التغلبي بالرحبة، وهوبناهأن وإليه تنسب.
وفيها توفي الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، عليه السلام، وهوأبومحمد العلوي العسكري، وهوأحد الأئمة الاثني عشر، على مذهب الإمامية، وهووالد محمد الذي يعتقدونه المنتظر بسرداب سامرأن وكان مولده سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
وفيها توفي أبوعلي الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، الفقيه الشافعي، وهومن أصحاب الشافعي البغداذيين.
وفيها توفي حسين بن إسحاق الحكيم البيب. وهوالذي نقل كتب الحكماء اليونانيين إلى العربية، وكان عالماً بها.
حوادث سنة إحدى وستين ومائتين

ذكر الحرب بين محمد بن واصل وابن مفلح
وفيها تحارب ابن واصل وعبد الرحمن بن مفلح وطاشتمر.
وكان سبب ذلك أن ابن واصل كان قتل الحارث بن سيمأن وتغلب على فارس، فأضاف المعتمد فارس إلى موسى بن بغأن والأهواز، والبصرة، والبحرين، واليمامة، مع ما كان إليه؛ فوجه موسى عبد الرحمن بن مفلح، وهوشاب عمره إحدى وعشرون سنة، إلى الأهواز، وولاه إياها مع فارس، وأضاف إليه طاشتمر؛ فلما علم ذلك ابن واصل، وأن ابن مفلح قد سار نحوه من الأهواز، زحف إليه من فارس، فالتقيا إليه من فارس، فالتقيا برامهرمز. وانضم أبوداود الصعلوك إلى ابن واصل، فاقتتلوأن فانهزم عبد الرحمن واخذ أسيرأن وقتل طاشتمر، واطلم عسكرهمأن وغمن ما فيه من الأموال والعدة وغير ذلك.
وأرسل الخليفة إلى ابن واصل في إطلاق عبد الرحمن، فلم يفعل، وقتله وأظهر أنه مات، وسار ابن واصل من رامهرمز، من بعد هذه الوقعة، مظهراً أنه يريد واسط لحرب موسى بن بغأن فانتهى إلى الأهواز وفيها إبراهيم بن سيما في جمع كثير، فلما رأى موسى شدة الأمر بهذه الناحية، وكثرة المتغلبين عليهأن وأنه يعجز عنهم، سأل أن يعفى، فأجيب إلى ذلك.
ذكر ولاية أبي الساج الأهوازوفيها ولي أبوالساج الأهواز، بعد مسير عبد الرحمن عنها إلى فارس، وأمر بمحاربة الزنج، فسير صهره عبد الرحمن لمحاربة الزنج، فلقيه علي ابن أبان بناحية دولاب، فقتل عبد الرحمن، وانحاز أبوالساج إلى ناحية عسكر مكرم، ودخل الزنج الأهواز، فقتلوا أهلهأن وسبوا وأحرقوا.
ثم انصرف أبوالساج عما كان إليه من الأهواز، وحرب الزنج، وولاها إبراهيم بن سيمأن فلم يزل بها حتى انصرف عنها مع موسى بن بغا.
وفيها ولي محمد بن أوس البلخي طريق خراسان.
ذكر عود الصفار إلى فارس
والحرب بينه وبين ابن واصل
لما كان من الوقعة بين عبد الرحمن بن مفلح وبين ابن واصل ما ذكرناه، اتصل خبرهما إلى يعقوب الصفار وهوبسجستان، فتجدد طمعه في ملك بلاد فارس، وأخذ الأموال والخزائن والسلاح التي غمنها ابن واصل من ابن مفلح، فسار مجداً.

وبلغ ابن واصل خبر قربه منه وانه نزل البيضاء من أرض فارس، وهوبالأهواز، فعاد عنها لا يلوي علي شيء، وأرسل خاله أب بلال مرداساً إلى الصفار، فوصل إليه، وضمن له طاعة ابن واصل، فأرسل يعقوب الصفار إلى ابن واصل كتباً ورسلاً في المعنى، فحبسهم ابن واصل، وسار يطلب الصفار والرسل معه يريد أن يخفي خبره، وأن يصل إلى الصفار بغتة لم يعلم به. فينال منه غرضه، ويوقع به.
فسار في يوم شديد الحر، في ارض صعبة المسلك، وهويظن أن خبره قد خفي عن الصفار، فلما كان الظهر تعبت دوابهم، فنزلوا ليستريحوأن فمات من أصحاب ابن واصل من الرجالة كثير جوعاً وعطشأن وبلغ خبرهم الصفار، فجمع أصحابه وأعلمهم الخبر وسار، وقال لأبي بلال: إن ابن واصل قد غدر بنأن وحسبنا الله ونعم الوكيل! ومضى الصفار إلى ابن واصل، فلما قاربهم وعلموا به انخذلوا وضعفت نفوسهم عن مقاومته ومقاتلته، ولم يتقدموا خطوة، فلما صار بين الفريقين رمية سهم انهزم أصحاب ابن واصل من غير قتال، وتبعهم عسكر الصفار، وأخذوا منهم جميع ما غمنوه من ابن مفلح، واستولى على بلاد فارس، ورتب بها أصحابه وأصلح أحوالها.
ومضى ابن واصل منهزمأن فأخذ أمواله من قلعته، وكانت أربعين ألف ألف درهم، وأوقع يعقوب بأهل زم لأنهم أعانوا ابن واصل، وحدث نفسه بالاستيلاء على الأهواز وغيرها.
ذكر تجهز أبي أحمد للمسير إلى البصرةوفيهأن في شوال، جلس المعتمد في دار العامة، فولى ابنه جعفراً العهد، ولقبه المفوض إلى الله، وضم إليه موسى بن بغأن فولاه إفريقية، ومصر، والشام، والجزيرة، والموصل، وأرمينية، وطريق خراسان ومهرجانقذق، وولى أخاه أبا أحمد العهد بعد جعفر، ولقبه الناصر لدين الله الموفق، وولاه المشرق، وبغداد، والسواد، والكوفة، وطريق مكة والمدينة، واليمن، وكسكر، وكور دجلة، والأهواز، وفارس، وأصبهان، وقم، وكرج، ودينور، والري، وزنجان، والسند، وعقد لكل واحد منهما لواءين: أسود وأبيض، وشرط إن حدث به الموت، وجعفر لم يبلغ، أن يكون الأمر للموفق، ثم لجعفر بعده، وأخذت البيعة بذلك.
فعقد جعفر لموسى على المغرب، وأمر الموفق أن يسير إلى حرب الزنج؛ فولى الموفق الأهواز والبصرة وكور دجلة مسروراً البلخي، وسيره في مقدمته في ذي الحجة. وعزم على المسير بعده، فحدث من أمر يعقوب الصفار ما منعه عن المسير، وسنذكر أول سنة اثنتين وستين ومائتين.
وفيها فارق محمد بن زيدويه يعقوب بن الليث، وسار إلى أبي الساج، وأقام معه بالأهواز، وخلع عليه المعتمد وسأل أن يوجه الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى خراسان.
وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق بن الحسن بن إسماعيل بن العباس ابن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس؛ ومات الحسن بن أبي الشوارب بمكة بعدما حج.
ذكر ولاية نصر بن أحمد الساماني

ما وراء النهر
في هذه السنة استعمل نصر بن أحمد بن أسد بن سامان خداه بن جثمان ابن طمغاث بن نوشرد بن بهرام جوبين بن بهرام خشنش؛ وكان بهرام خشنش من الري، فجعله كسرى هرمز بن أنوشروان مرزبان أذربيجان، وقد تقدم ذكر بهرام جوبين عند ذكر كسرى هرمز.
ولما ولي المأمون خراسان، واصطلح أولاد أسد بن سامان، وهم: نوح، وأحمد، ويحيى، وإلياس، بنوأسد بن سامان، قربهم ورفع منهم واستعملهم ورعى حق سلفهم؛ فلما رجع المأمون إلى العراق استخلف على خراسان غسان بن عباد، فولى غسان نوح بن أسد، في سنة أربع ومائتين، سمرقند، وأحمد بن أسد فرغانة، ويحيى بن أسد الشاش وأشروسنة، وإلياس بن أسد هراة.
فلما ولي طاهر بن الحسين خراسان ولاهم هذه الأعمال، ثم توفي نوح ابن أسد، وأقر طاهر بن عبد الله أخويه على عمله: يحيى، وأحمد، وكان أحمد بن أسد عفيف الطعمة، مرضي السيرة، لا يأخذ رشوة، ولا أحد من أصحابه، ففيه قيل، أوفي ابنه نصر:
ثوى ثلاثين حولاً في ولايته ... فجاع يوم ثوى في قبره حشمه
وكان إلياس يلي هراة، وله بها عقب وآثار كثيرة، فاستقدمه عبد الله ابن طاهر، وكان رسمه فيمن يستقدمه أن يعد أيامه، فأبطأ إلياس، فكتب إليه بالمقام حيث يلقاه كتابه، فبلغه الكتاب وقد سار عن بوشنج، فأقام بها سنة تأديباً له، ثم أذن له في القدوم عليه.

فلما مات إلياس بهراة أقر عبد الله ابنه أبا إسحاق محمد بن إلياس على عمله، فأقام بهراة، وكان لأحمد بن أسد سبعة بنين، وهم: نصر، وأبويوسف يعقوب، وأبوزكرياء يحيى، وأبوالأشعث أسد، وإسماعيل، وإسحاق وأبوغامن حميد، ولما توفي أحمد بن أسد استخلف ابنه نصراً على أعماله بسمرقند وما وراءهأن فبقي عاملاً عليها إلى آخر أيام الطاهرية، وبعد زوال أمرهم إلى أن مضى لسبيله.
وكان إسماعيل بن أحمد يخدم أخاه نصرأن فولاه نصر بخارى سنة إحدى وستين ومائتين.
ومعنى قول أبي جعفر: وفي سنة إحدى وستين ولي نصر بن أحمد ما وراء النهر، أنه تولاه من جانب الخليفة، وإمنا كان يتولاه، من قبل، من عمال خراسان، وإلا فالقوم تولوا قبل هذا التاريخ.
وكان سبب استعماله إسماعيل إنه لما استولى يعقوب بن الليث على خراسان أنفذ نصر جيشاً إلى شط جيحون ليأمن عبور يعقوب، فقتلوا مقدمهم، ورجعوا إلى بخارى، فخافهم أحمد بن عمر، نائب نصر، على نفسه، فتغيب عنهم، فأمروا عليهم أبا هاشم محمد بن المبشر بن رافع بن الليث بن نصر بن سيار، ثم عزلوه وولوا أحمد بن محمد بن ليث والد أبي عبد الله بن جنيد، ثم صرفوه وولوا الحسن بن محمد من ولد عبدة بن حديد؛ ثم صرفوه، وبقيت بخارى بغير أمير، فكتب رئيسها وفقيهها أبوعبد الله بن أبي حفص إلى نصر يسأله توجيه من يضبط بخارى، فوجه أخاه إسماعيل، ثم إن إسماعيل كاتب رافع بن هرثمة حين ولي خراسان، فتعاقدا على التعاون والتعاضد، فطلب منه إسماعيل أعمال خوارزم فولاه إياها.
وكان إسماعيل يؤامره في المكاتبة، ثم سعت السعاة بين نصر وإسماعيل فأفسدوا ما بينهمأن فقصده نصر سنة اثنتين وسبعين ومائتين، فأرسل إسماعيل حمويه بن علي إلى رافع بن هرثمة يستنجده، فسار إليه في جيش كثيف، فوافى بخارى، قال حمويه: ففكرت في نفسي، وقلت: إن ظفر إسماعيل بأخيه فما يؤمنني أن يقبض رافع على إسماعيل، ويتغلب على ما وراء النهر؟ وإن لم يفعل ذلك، ووفى لإسماعيل، فلا يزال إسماعيل معترفاً فقيد رافع وجريحه، ويحتاج أن يتصرف على أمره ونهيه، فاجتمعت برافع خلوة، وقلت له: نصيحتك واجبة علي، وقد ظهر لي من نصر وإسماعيل ما كان خفياً عني، ولست آمنهما عليك، والراي أن لا تشاهد الحرب، وتحملهما على الصلح؛ فقبل ذلك، فتصالحأن وانصرف عنهما.
قال لحمويه: ثم إنني أعلمت إسماعيل، بعد ذلك، الحال كيف كان، فعذر رافعاً في إلزامه بالصلح، واستصوب فعل حمويه، وبقي نصر وإسماعيل مدة، ثم عادت السعاة، فسد ما بينهمأن حتى تحاربا سنة خمس وسبعين ومائتين، فظفر إسماعيل بأخيه نصر؛ فلما حمل إليه ترجل له إسماعيل، وقبل يديه، ورده من موضعه إلى سمرقند، وتصرف على النيابة عنه ببخارى.
وكان إسماعيل خيرأن يحب أهل العلم والدين، ويكرمهم، وببركتهم دام ملكه وملك حكى أبوالفضل محمد بن عبد الله البلعمي قال: سمعت الأمير أبا إبراهيم إسماعيل بن أحمد يقول: كنت بسمرقند، فجلست يوماً لمظالم، وجلس أخي إسحاق إلى جانبي، فدخل أبوعبد الله محمد بن نصر الفقيه الشافعي، فقمت له إجلالاً لعلمه ودينه، فلما خرج عاتبني أخي إسحاق، وقال: أنت أمير خراسان، يدخل عليك رجل من رعيتك فتقوم له، فتذهب السياسة بهذا.
قال: فبت تلك الليلة، فرأيت النبي، صلى الله عليه وسلم، في المنام وكأني واقف وأخي إسحاق، فأقبل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فأخذ بعضدي فقال لي: يا إسماعيل! ثبت ملكك وملك بيتك لإجلالك لمحمد ابن نصر. ثم التفت إلى إسحاق وقال: ذهب ملك إسحاق وملك بيته باستخفافه بمحمد بن نصر.
وكان محمد بن نصر هذا من العلماء بالفقه على مذهب الشافعي، العاملين بعلمه، المصنفين فيه، وسافر إلى البلاد في طلب العلم، وأخذ العلم بمصر من أصحاب الشافعي يونس بن عبد الأعلى، والربيع بن سليمان، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، وصحب الحارث المحاسبي واخذ عنه علم المعاملة، وبرز فيه أيضاً.
ذكر عصيان أهل برقةوفي هذه السنة عصى أهل برقة على أحمد بن طولون، وأخرجوا أميرهم محمد بن الفرج الفرغاني، فبعث ابن طولون جيشاً عليهم غلامه لؤلؤ، وأمره بالرفق بهم، واستعمال اللين، فإن انقادوا وإلا السيف.

فسار العسكر حتى نزلوا على برقة، وحصروا أهلهأن وفعلوا ما أمرهم من اللين، فطمع أهل برقة، وخرجوا يوماً على بعض العسكر، وهم نازلون على باب البلد، فأوقعوا بهم وقتلوا منهم.
فأرسل لؤلؤ إلى صاحبه أحمد يعرفه الخبر، فأمره بالجد في قتالهم، فنصب عليهم المجانيق، ووجد في قتالهم، وطلبوا الأمان، فأمنهم، ففتحوا له الباب، فدخل البلد، وقبض على جماعة من رؤسائهم، وضربهم بالسياط، وقطع أيدي بعضهم، وأخذ معه جماعة منهم وعاد إلى مصر، واستعمل على برقة عاملا.
ولما وصل لؤلؤ إلى مصر خلع عليه أحمد خلعة فيها طوقان، فوضعها في رقبته، وطيف بالأسرى في البلد.
ذكر ولاية إبراهيم بن أحمد إفريقيةفي هذه السنة توفي محمد بن أحمد بن الأغلب، صاحب إفريقية، سادس جمادى الأولى، وكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وستة عشر يوماً.
ولما حضره الموت عقد لابنه عقال العهد واستخلف أخاه إبراهيم لئلا ينازعه، وأشهد عليه آل الأغلب ومشايخ القيروان، وأمره أن يتولى الأمر إلى أن يكبر ولده، فلما مات أهل القيروان إبراهيم وسألوه أن يتولى أمرهم، لحسن سيرته وعدله، فلم يفعل، ثم أجاب، وانتقل إلى قصر الإمارة، وباشر الأمور، وقام بها قياماً مرضياً.
وكان عادلأن حازماً في أموره، أمن البلاد، وقتل أهل البغي والفساد، وكان يجلس لعدل في جامع القيروان يوم الخميس والاثنين، يسمع شكوى الخصوم، وبصبر عليهم، ووينصف بينهم.
وكان القوافل والتجار يسيرون في الطرق آمنين.
وبنى الحصون والمحارس على سواحل البحر، حتى كان يوقد النار من سبتة فيصل الخبر إلى الإسكندرية في الليلة الواحدة، وبني على سوسة سورأن وعزم على الحج، فرد المظالم، وأظهر الزهد والنسك، وعلم أنه إن جعل طريقه إلى مكة على مصر منعه صاحبها ابن طولون، فتجري بينهما حرب، فيقتل المسلمون، فجعل طريقه على جزيرة صقلية ليجمع بين الحج والجهاد، ويفتح ما بقي من حصونهأن فاخرج جميع ما أذخره من المال والسلاح وغير ذلك، وسار إلى سوسة فدخلها وعليه فرومرقع في زي الزهاد، أول سنة تسع وثمانين ومائتين، وسار منهأن في الأسطول، إلى صقلية.
وسار إلى مدينة فملكها سلخ رجب، وأظهر العدل، وأحسن إلى الرعية، وسار إلى طبرمين، فاستعد أهلها لقتاله، فلما وصل خرجوا إليه والتقوأن فقرأ القارئ: (إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً) الفتح: 1 فقال الأمير اقرأ: (هذان خصمان اختصموا في ربهم) الحج: 19؛ فقرأ فقال: اللهم إني أختصم أنا والكفار إليك في هذا اليوم! وحمل، ومعه أهل البصائر، فهزم الكفار، وقتلهم المسلمون كيف شاءوأن ودخلوا معهم المدينة عنوة، فركب بعض من بها من الروم مراكب فهربوا فيها.
والتجأ بعضهم إلى الحصن وأحاط بهم المسلمون وقاتلوهم، فاستنزلوهم قهرأن وغمنوا أموالهم، وسبوا ذراريهم، وذلك لسبع بقين من شعبان، وأمر بقتل المقاتلة، وبيع السبي والغنيمة.
ولما اتصل الخبر بفتح طبرمين إلى ملك الروم عظم عليه، وبقي سبعة أيام لا يلبس التاج، وقال: لا يلبس التاج محزون. وتحركت الروم، وعزموا على المسير إلى صقلية لمنعها من المسلمين، فبلغهم أنه سائر إلى القسطنطينية، فترك الملك ها عسكراً عظيمأن وسير جيشاً كثيراً إلى صقلية.
وأما الأمير إبراهيم فإنه لما ملك طبرمين بث السرايا في مدن صقلية التي بيد الروم، وبعث سرية إلى ميقش، وسرية إلى دمشق، فوجدوا أهلها قد أجلوا عنهأن فغمنوا ما وجدوا بها.
وبعث طائفة إلى رمطة، وطائفة إلى الياج، فأذعن القوم جميعاً إلى أداء الجزية، فلم يجبهم الرسل منها يطلبون الأمان فلم يجبهم.
وكان قد ابتدأ به المرض، وهوعلة الذرب، فنزلت العساكر على المدينة، فلم يجدوا في قتالها لغيبة الأمير عنهم، فإنه نزل منفرداً لشدة مرضه، وامتنع منه النوم، وحدث به الفواق، وتوفي ليلة السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة تسع وثمانين ومائتين، فاجتمع أهل الري من العسكر أن يولوا أمرهم أبا مضر بن أبي العباس عبد الله ليحفظ العساكر، والأموال، والخزائن، إلى أن يصل إلى ابنه بإفريقية، وجعلوا الأمير إبراهيم في تابوت، وحملوه إلى إفريقية، ودفنوه بالقيروان، رحمه الله.

وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة، وكان عاقلأن حسن السيرة، محباً لخير والإحسان، تصدق بجميع ما يملك، ووقف أملاكه جميعها؛ وكان له فطنة عظيمة بإظهار خفايا العملات، فمن ذلك أن تاجراً من أهل القيروان كانت له امرأة جميلة صالحة عفيفة، فاتصل خبرها بوزير الأمير إبراهيم، فأرسل إليهأن فلم تجبه، فاشتد غرامه بهأن وشكا حاله إلى عجوز كانت تغشاه، وكانت أيضاً لها من الأمير منزلة، ومن والدته منزلة كبيرة، وهي موصوفة عندهم بالصلاح، يتبركون بهأن ويسألونها الدعاء، فقالت للوزير: أنا أتلطف بهأن وأجمع بينكما.
وراحت إلى بيت المرأة، فقرعت الباب وقالت: قد أصاب ثوبي نجاسة أريد تطهيرها؛ فخرجت المرأة ولقيتها فرحبت بهأن وأدخلتهأن وطهرت ثوبهأن وقامت العجوز تصلي، فعرضت المرأة عليها الطعام، فقالت: إني صائمة، ولا بد من التردد إليك؛ ثم صارت تغشاهأن ثم قالت لها: عندي يتيمة أريد أن أحملها إلى زوجهأن فإن خفت عليك إعارة حليك أجملها به فعلت.
وأحضرت جميع حليها وسلمته إياهأن فأخذته العجوز وانرفت، وغابت أيامأن وجاءت إليهأن فقالت لها: أين الحلى؟ فقالت: هوعند الوزير، عبرت عليه وهومعي فأخذه مني، وقال لا يسلمه إلا إليك، فتنازعتأن وخرجت العجوز، وجاء التاجر زوج المرأة، فأخبرته الخبر، فحضر دار الأمير إبراهيم وأخبره الخبر، فدخل الأمير إلى والدته، وسألها عن العجوز، فقالت: هي تدعولك؛ فأمر بإحضارها ليتبرك بهأن فأحضرتها والدته، فلما رآها أكرمها وأقبل عليهأن وانبسط معها.
ثم إنه أخذ خاتماً من إصبعها وجعل يقبله ويعبث به، ثم إنه أحضر خصياً له وقال له: انطلق إلى بيت العجوز، وقل لابنتها تسلم الحق الذي فيه الحلي، وصفته كذأن وهوكذا وكذأن وهذا الخاتم علامة منها.
فمضى الخادم وأحضر الحق، فقال لعجوز: ما هذا؟ فلما رأت الحق سقط في يدهأن وقتلهأن ودفنها في الدار، وأعطى الحق لصاحبه، وأضاف إليه شيئاً آخر، وقال له: أما الوزير فإن انتقمت منه الآن ينكشف الأمر، ولكن سأجعل له ذنباً آخذه به؛ فتركه مدة يسيرة، وجعل له جرماً آخذه به فقتله.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استعمل المعتمد على الله، الخليفة على أذربيجان، محمد بن عمر ابن علي بن مرا الطائي الموصلي، فسار إليهأن وجمع معه جموعاً كثيرة من خوارج وغيرهم، وكان على أذربيجان العلاء بن أحمد الأزدي، وهومفلوج، فخرج في محفة ليمنع محمد بن عمر، فقاتله، فانهزم عسكر العلاء، وأخذ أسيرأن واستولى محمد بن عمر بن علي على قلعة العلاء، وأخذ منها ثلاثة آلاف ألف درهم، ومات العلاء في يده.
وفيها استعمل المعتمد على الله على الموصل الخضر بن أحمد بن عمر بن الخطاب التغلبي الموصلي.
وفيها رجع الحسن بن زيد إلى طبرستان، وأحرق شالوس لممالأة أهلها ليعقوب، وأقطع ضياعهم للديالمة.
وفيها أمر المعتمد بجمع حاج خرسان، والري، وطبرستان، وجرجان، وأعلمهم أنه لم يول يعقوب خراسان، ولم يكن دخوله خراسان وأسره محمد ابن طاهر بأمره.
وفيها قتل مساور الشاري يحيى بن جعفر الذي كان يلي خراسان، فسار مساور البلخي في طلبه، وتبعه أبوأحمد، وهوالموفق بن المتوكل، فسار من بين أيديهما فلم يدركاه.
وفيها هرب ابن مروان الجليقي من قرطبة، فقصد قلعة الحنش، فملكها وامتنع بهأن فسار إليه محمد، صاحب الأندلس، فحصره ثلاثة أشهر، فضاق به الأمر، حتى أكل دوابه، فطلب الأمان، فأمنه محمد، فأمنه محمد، فسار إلى مدينة بطليوس.
وفيها عصى أهل تاكرنا مع أسد بن الحارث بن رافع، فغزاهم جيش محمد، صاحب الأندلس، وقاتلهم، فعادوا إلى الطاعة.
وفيها توفي أبوهاشم داود بن سليمان الجعفري؛ والحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قاضي القضاة، وكان موته في رمضان؛ وأبوالحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري، صاحب الصحيح؛ وعبد العزيز بن حيان الموصلي، وكان كثير الحديث؛ والنضر بن الحسن الفقيه الحنفي، وكان من الموصل أيضاً.
حوادث سنة اثنتين وستين ومائتين

ذكر الحرب بين الموفق والصفار

في هذه السنة، في المحرم، سار الصفار من فارس إلى الأهواز، فلما بلغ المعتمد إقباله أرسل إليه إسماعيل بن إسحاق وبفراج، وأطلق من كان في حبسه من أصحاب يعقوب، فإنه كان حبسهم لما أخذ يعقوب محمد بن طاهر بن الحسين. عاد إسماعيل برسالة من عند يعقوب، فجلس أبوأحمد ببغداد، وكان قد أخر مسيره إلى الزنج لما بلغه من خبر يعقوب، وأحضر التجار، وأخبرهم بتولية يعقوب خراسان، وجرجان، وطبرستان، والري، وفارس، والشرطة ببغداد، وكان بمحضر من درهم، صاحب يعقوب، كان يعقوب قد أرسله يطلب لنفسه ما ذكرنأن وأعاده أبوأحمد إلى يعقوب، ومعه عمر بن سيمأن بما أضيف إليه من الولايات.
فعاد الرسل من عند يعقوب يقولون: إنه لا يرضيه ما كتب به دون أن يسير إلى باب المعتمد! وارتحل يعقوب من عسكر مكرم، وسار إليه أبوالساج، وصار معه، فأكرمه، وأحسن إليه ووصله.
فلما سمع المعتمد رسالة يعقوب خرج من سامرا ف عساكره، وسار إلى بغداد، ثم إلى الزعفرانية، فنزلهأن وقدم أخاه الموفق، وسار يعقوب من عسكر مكرم إلى واسط، فدخلها لست بقين من جمادى الآخرة، وارتحل المعتمد من الزعفرانية إلى سبب بني كومأن فوافاه هناك مسرور البلخي عائداً من الوجه الذي كان فيه، سار يعقوب من واسط إلى دير العاقول؛ وسير المعتمد أخاه الموفق في العساكر لمحاربة يعقوب، فجعل الموفق على ميمنته موسى بن بغأن وعلى ميسرته مسروراً البلخي، وقام هوفي القلب.
والتقيا، فحملت ميسرة يعقوب على ميمنة الموفق فهزمتهأن وقتلت منها جماعة من قوادهم، منهم إبراهيم بن سيما وغيره، ثم تراجع المنهزمون، وكشف أبوأحمد الموفق رأسه وقال: أنا الغلام الهاشمي! وحمل، وحمل معه سائر عسكره على عسكر يعقوب، قثبتوأن وتحاربوا حرباً شديدة، وقتل من أصحاب يعقوب جماعة منهم الحسن الدرهمي، وأصابت يعقوب ثلاثة أسهم في حلقه ويديه، ولم تزل الحرب إلى آخر وقت العصر، ثم وافى با أحمد الموفق الديراني، ومحمد بن أوس، فاجتمع جميع من بقي في عسكره، وقد ظهر من أصحاب يعقوب كراهة للقتال معه، إذ رأوا الخليفة يقاتله، فحملوا على يعقوب ومن قد ثبت معه للقتال، فانهزم أصحاب يعقوب، وثبت يعقوب في خاصة أصحابه، حتى مضوأن وفارقوا موضع الحرب، وتبعهم أصحاب الموفق، فغمنوا ما في عسكرهم، وكان فيه من الدواب والبغال أكثر من عشرة آلاف، ومن الأموال ما يكل عن حمله، ومن حرب المسك أمر عظيم، وتخلص محمد بن طاهر، وكان مثقلاً بالحديد، وخلع عليه الموفق، وولاه الشرطة ببغداد بعد ذلك.
وسار يعقوب من الهزيمة إلى خوزستان، فنزل جند يسابور، وراسله العلوي البصري يحثه على الرجوع إلى بغداد، ويعده الاسعدة، فقال لكاتبه: اكتب إليه: (قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون) الكافرون: 2، السورة، وسير الكتاب إليه.
وكانت الوقعة لإحدى عشرة خلت من رجب؛ وكتب المعتمد إلى ابن واصل بتوليته فارس، وكان قد سار إليها وجمع جماعة فغلب عليهأن فسير إليه يعقوب عسكراً عظيماً عليهم ابن عزيز ين السري إلى فارس، واستولى عليهأن ورجع المعتمد إلى سامرا.
وأما أبوأحمد الموفق فإنه سار إلى واسط ليتبع الصفار، وأمر أصحابه بالتجهز لذلك، فأصابه مرض، فعاد إلى بغداد ومعه مسرور، وقبض ما لأبي الساج من الضياع والمنازل، وأقطعها مسروراً البلخي، وقدم محمد بن طاهر بغداد.
ذكر أخبار الفرنجوفيها نفذ قائد الزنج جيوشه إلى ناحية البطيحة ودست ميسان.
وكان سبب ذلك أن تلك النواحي، لما خلت من العساكر السلطانية بسبب عود مسرور لحرب يعقوب، بث الزنج سارياه فيهأن تنهب، وتخرب.
وأتته الأخبار بخلو البطيحة من جند السلطان، فأمر سليمان بن جامع وجماعة من أصحابه بالمسير إلى الحوانيت، وسليمان بن موسى بالمسير إلى القادسية.
وقدم ابن التركي في ثالثين شذاة يريد عسكر الزنج، فنهب، وأحرق، فكتب الخبيث إلى سليمان بن موسى يأمره بمنعه من العبور، فأخذ سليمان عليه الطريق، فقاتلهم شهراً حتى تخلص، وانحاز إلى سليمان بن جامع من مذكوري البلالية، وأنجادهم، جمع كثير في خمسين ومائة سميرية، وكان مسرور قد وجه قبل مسيره عن واسط إلى المعتمد جماعة من أصحابه إلى سليمان في شذوات فظفر بهم سليمان، وهزمهم، وأخذ منهم سبع شذوات وقتل من اسر منهم.

وأشار الباهليون على سليمان أن يتحصن في عقر، ما وراء طهثأن والأدغال التي فيها وكرهوا خروجه عنهم لموافقته في فعله، وخافوا السلطان، فسار إليه، فنزل بقرية مروان، بالجانب الشرقي من نهر طهثأن وجمع إليه رؤساء الباهليين، وكتب إلى الخبيث يعلمه بما صنع، فكتب إليه يصوب رأيه، ويأمره بإنفاذ ما عنده ممنيرة ونعم، فأنفذ ذلك إليه.
وورد على سليمان أن أغرتمش وحشيشاً قد أقبلا في الخيل والرجال، والسميريات والذأن يريدون حربه، فجزع جزعاً شديداً؛ فلما أشرفوا عليه ورآهم أخذ جمعاً من أصحابه وسار راجلأن واستدبر أغرتمش، وجد أغرتمش في المسير إلى عسكر سليمان، وكان سليمان قد أمر الذي استخلفه من جيشه أن لا يظهر منهم أحد لأصحاب أغرتمش، وأن يخفوا أنفسهم ما قدروا إلى أن يسمعوا أصوات طبولهم، فإذا سمعوها خرجوا عليه.
وأقبل أغرتمش إليهم، فجزع أصحاب سليمان جزعاً عظيمأن فتفرقوأن ونهضت شرذمة منهم، فواقعوهم، وشغلوهم عن دخول العسكر، وعاد سليمان من خلفهم، وضرب طبوله، وألقوأنفسهم في الماء للعبور إليهم، فانهزم أغرتمش وظهر من كان من السودان بطهثأن ووضعوا السيوف فيهم وقتل حشيش، وانهزم أغرتمش، وتبعه الزنوج إلى عسكره، فنالوا حاجاتهم منه، واخذوا منهم شذوات فيها مال وغيره، فعاد أغرتمش فانتزعها من أيديهم، فعاد سليمان وقد ظفر وغمن، وكتب إلى صاحب الزنج بالخبر، وسير إليه رأس حشيش، فسيره إلى علي بن أبان، وهوبنواحي الأهواز، وسير سليمان سرية، فظفروا بإحدى عشرة شذاة، وقتلوا أصحابها.
ذكر وقعة للزنج عظيمة انهزموا فيهاوفيها كانت وقعة للزنوج مع أحمد بن ليثويه، وكان سبها أن مسروراً اللبلخي وجه أحمد بن ليثويه إلى كور الأهواز، فنزل السوس، وكان يعقوب الصفار قد قلد محمد بن عبيد الله بن هزارمرد الكردي كور الأهواز، فكاتب محمد قائد الزنج يطعمه في الميل إليه، وأوهمه أنه يتولى له كور الأهواز.
وكان محمد يكاتبه قديمأن وعزم على مداراة الصفار، وقائد الزنج، حتى يستقيم له الأمر فيهأن فكاتبه صاحب الزنج يجيبه إلى ما طلب على أن يكون علي بن أبان المتولي لليلاد، ومحمد بن عبيد الله يخلفه عليهأن فقبل محمد ذلك، فوجه إليه علي بن أبان جيشاً كثيرأن وأمدهم محمد بن عبيد الله، فساروا نحوالسوس، فمنعهم أحمد بن ليثويه ومن معه من جند الخليفة عنهأن وقاتلهم فقتل منهم خلقاً كثيرأن وأسر جماعة.
وسار أحمد حتى نزل جندي سابور، وسار علي بن أبان من الأهواز ممداً محمد بن عبيد الله على أحمد بن ليثويه، فلقيه محمد في جيش كثير من الأكراد والصعاليك، ودخل محمد تستر، فانتهى إلى أحمد بن ليثويه الخبر بتضافرهما على قتاله، فخرج عن جند يسابور إلى السوس.
وكان محمد قد وعد علي بن أبان أن يخطب لصاحبه قائد الزنج، يوم الجمعة، على منبر تستر، فلما كان يوم الجمعة خطب للمعتمد وللصفار، فلما علم علي بن أبان ذلك انصرف إلى الأهواز، وهدم قنطرة كانت هناك لئلا تلحقه الخيل، فانتهى أصحاب علي إلى عسكر مكرم فنهبوهأن وكانت داخلة في سلم الخبيث، فغدروا بها وساروا إلى الأهواز.
فلما علم أحمد ذلك أقبل إلى تستر، فواقع محمد بن عبيد الله ومن معه، فانهزم محمد بن عبيد الله، ودخل أحمد تستر، وأتت الأخبار علي بن أبان بأن أحمد على قصدك، فسار إلى لقائه ومحاربته، فالتقيأن واقتتل العسكران، فاستأمن إلى أحمد جماعة من الأعراب الذين مع علي بن أبان، فانهزم باقي أصحاب علي، وثبت معه جماعة يسيرة، واشتد القتال، وترجل علي بن أبان وباشر القتال راجلأن فعرفه بعض أصحاب أحمد فأنذر الناس به، فلما عرفوه انصرف هاربأن وألقى نفسه في المسرقان، فأتاه بعض أصحابه بسميرية، فركب فيها ونجا مجروحأن وقتل من أبطال أصحابه جماعة كثيرة.
ذكر أخبار أحمد بن عبد الله الخجستاني

كان أحمد بن عبد اله الخجستاني من خجستان، وهي من جبال هراة، من أعمال باذغيس، وكان من أصحاب محمد بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور، على ما ذكرناه، ضم أحمد إليه وإلى أخيه علي بن الليث، وكان ينوشركب ثلاثة أخوة: إبراهيم، وأبوحفص يعمر، وأبوطلحة منصور، أبومسلم، وكان أسنهم إبراهيم، وكان قد أبلى بين يدي يعقوب عند مواقعة الحسن بن زيد بجرجان، فقدمه، فدخل عليه يوماً نيسابور، وهويوم فيه برد شديد، فخلع عليه يعقوب وبر سمور كان على كتفه، فحسده عليه الخجستاني فقال له: إن يعقوب يريد الغدر بك، لأنه لا يخلع على أحد من خاصته خلعة إلا غدر به.
فغم ذلك إبراهيم، وقال: كيف الحيلة في الخلاص؟ قال: الحيلة أن نهرب جميعاً إلى أخيك يعمر، فإني خائف عليه أيضاً. وكان يعمر قد حاصر أبا داود الناهجوزي ببلخ، ومعه نحومن خمسة آلاف رجل، فاتفقا على الخروج ليلتهم، فسبقه إبراهيم إلى الموعد، فانتظره ساعة فلم يره، فسار نحوسرخس، وذهب الخجستاني إلى يعقوب فأعلمه، فأرسله في أثره، فلحقوه بسرخس فقتلوه، ومال يعقوب إلى الخجستاني.
فلما أراد يعقوب العود إلى سجستان استخلف على نيسابور عزيز بن السري، وولى أخاه عمروبن الليث هراة، فاستخلف عمروعليها طاهر ابن حفص الباذغيسى، وسار يعقوب إلى سجستان سنة إحدى وستين ومائتين، وأحب الخجستاني التخلف لما كان يحدث به نفسه، فقال لعلي بن الليث: إن خويك قد اقتسما خراسان، ولي سلك بها من يقوم بشغلك، فيجب أن تردني إليها لأقوم بأمورك؛ فاستأذن أخاه يعقوب في ذلك، فأذن له، فلما حضر أحمد يودع يعقوب أحسن له القول، وردة وخلع عليه، فلما ولى عنه قال يعقوب: اشهد أن قفاه قفا مستعص، وأن هذا آخر عهدنا بطاعته. فلما فارقهم جمع نحواً من مائة رجل فورد بهم بشت نيسابور، فحارب عاملهأن وأخرجه عنهأن وجباهأن ثم خرج إلى قومس، فقتل ببسطام مقتلة عظيمة، وتغلب عليها وذلك سنة وستين ومائتين.
وسار إلى نيسابور، وبها عزيز بن السري، فهرب عزيز، وأخذ أحمد أثقاله، واستولى على نيسابور يدعوإلى الطاهرية، وذلك أول سنة اثنتين وستين ومائتين، وكتب إلى رافع بن هرثمة يستقدمه، فقدم عليه، فجعله صاحب جيشه، وكتب إلى يعمر بن شركب، وهويحاصر بلخ، يستقدمه ليتفقا على تلك البلاد، فلم يثق إليه لفعله بأخيه، وسار يعمر إلى هراة، فحارب طاهر بن حفص فقتله، واستولى على أعمال طاهر، فسار إليه أحمد، فكانت بينهما مناوشات.
وكان أبوطلحة بن شركب غلاماً من أحسن الغلمان، وكان عبد الله ابن بلال يميل إليه، وهوأحد قواد يعمر، فراسل الخجستاني، وأعلمه أنه يعمل ضيافة ليعمر وقواده، ويدعوهم إليه يوماً ذكره، ويأمره بالنهوض إليهم فيه، فإنه يساعده، وشرط عليه أن يسلم إليه أبا طلحة، فأجابه أحمد إلى ذلك، فصنع ابن بلال طعامأن ودعا يعمر وأصحابه، وكبسهم أحمد، وقبض على يعمر، وسيره إلى نائبه بنيسابور فقتله، واجتمع إلى أبي طلحة جماعة من أصحاب أخيه فقتلوا ابن بلال وساروا إلى نيسابور وكان بها الحسين بن طاهر أخومحمد بن طاهر قد وردها من أصبهان، طمعاً أن يخطب لهم أحمد كما كان يظهره من نفسه، فلم يفعل، فخطب له أبوطلحة بهأن وأقام معه، فسار إليه الخجستاني من هراة في اثني عشر ألف عنان، فأقام على ثلاث مراحل من نيسابور، ووجه أخاه العباس إليهأن فخرج إليه أبوطلحة، فقاتله، فقتل العباس وانهزم أصحابه.
فلما بلغ خبرهم إلى أحمد عاد إلى هراة، ولم يعلمه لأخيه خبرأن فبذل الأموال لمن يأتيه بخبره، فلم يقدم أحد على ذلك، وأجابه رافع بن هرثمة إليه، فاستأمن إلى أبي طلحة فأمنه وقربه ووثق إليه، وتحقق رافع خبر العباس، فأنهاه إلى أخيه أحمد، وأنفذه أبوطلحة إلى بيهق وبست ليجبي أموالها لنفسه، وضم إليه قائدين، فجبى رافع الأموال، وقبض على القائدين، وسار إلى الخجستاني، إلى قرية من قرى خواف، فنزلها وبها حلي بن يحيى الخارجي، فنزل ناحية عنه.
فبلغ الخبر إلى أبي لحة، فركب كجدأن فوصل إليهم ليلأن فأوقع بحلي وأصحابه، وهويظنه رافعأن وهرب رافع سالمأن وعلم أبوطلحة بحال حلي بعد حرب شديدة، فكف عنه، وأحسن إليه وإلى أصحابه.

ثم وجه أبوطلحة جيشاً إلى جرجان، وبها ثابت بن الحسن بن زيد، ومعه الديلم، وكان على جيش أبي طلحة إسحاق الشاري، فحاربوا الديلم بجرجان، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وأجلوهم عنهأن وذلك في رجب سنة ثلاث وستين ومائتين.
ثم عصى إسحاق على أبي طلحة، فسار إليه أبوطلحة، واشتغل في طريقه باللهو والصيد، فكبسه إسحاق وقتل أصحابه، وانهزم أبوطلحة إلى نيسابور، فاستضعفه أهلهأن فأخرجوه منهأن فنزل على فرسخ عنهأن وجمع جمعاً وحاربهم، ثم افتعل كتاباً عن أهل نيسابور إلى إسحاق، يستقدمونه إليهم، ويعدونه المساعدة على أبي طلحة، فاغتر إسحاق بذلك، وكتب أبوطلحة عن إسحاق كتاباً إلى أهل نيسابور يعدهم أنه يساعدهم على أب يطلحة، ويأمرهم بحفظ الدروب، وترك مقاربة البلد إلى أن يوافيهم، فاغتروا بذلك، وظنوه كتابه، ففعلوا ما أمرهم.
وسار إسحاق مجدأن فلما قارب نيسابور لقيه أبوطلحة، فغافصه، فطعنه أبوطلحة، فألقاه عن فرسه في بئر هناك، فلم يعلم له خبر، وانهزم أصحابه، ودخل بعضهم إلى نيسابور، وضيق عليهم أوطلحة، فكاتبوا الخجستاني واستقدموه من هراة، فأتاهم في يومين وليلتين، وورد عليهم ليلأن ففتحوا له الأبواب، ودخلها وسار عنها أبوطلحة إلى الحسن بن زيد، فأمده بجنود، فعاد إلى نيسابور، فلم يظفر بشي، فسار إلى بلخ، وحصر أبا داود الناهجوزي، واجتمع معه خلق كثير، وذلك سنة خمس، وقيل ست وستين ومائتين.
وسار الخجستاني إلى محاربة الحسن بن زيد لمساعدته أبا طلحة، فاستعان الحسن بأهل جرجان، فأعانوه، فحاربهم الخجستاني فهزمهم، وأغار عليهم، وجباهم أربعة آلاف ألف درهم، وذلك في رمضان سنة خمس وستين.
واتفق أن يعقوب بن الليث توفي سنة خمس وستين أيضاً، وولي مكانه أخوه عمرو، فعاد إلى سجستان وقصد هراة فعاد الخجستاني من جرجان إلى نيسابور، ووافاه عمروبن الليث، فاقتتلأن وانهزم عمروورجع إلى هراة، وأقام أحمد بنيسابور، وكان كيكان، وهويحيى بن محمد بن يحيى الذهلي، وجماعة من المتطوعة والفقهاء بنيسابور يميلون إلى عمرولتولية السلطان إياه، فرأى الخجستاني أن يوقع بينهم ليشتغل بعضهم ببعض، وأحضر منهم جماعة من الفقهاء القائلين بمذاهب أهل العراق، فأحسن إليهم، وقربهم، وأكرمهم، وأظهروا الخلاف على كيكان، ونابذوه.
وكان كيكان يقول بمذهب أهل المدينة، فكفي شرهم، وسار إلى هراة فحصر بها عمروبن الليث سنة سبع وستين، فلم يظفر بشيء، فسار نحوسجستان فحصر في طريقه رمل سي فلم يظفر بشيء منهأن فاحتال حتى استمال رجلاً قطاناً كانت داره إلى جانب السور، ووعده أن ينقب من العسكر إلى داره، ويخرج أصحابه إلى البلد، فاستأمن رجلان إلى البلد من أصحاب الخجستاني وذكرا الخبر لصاحبه، فأخذ القطان وأخربت داره، وبطل ما كان الخجستاني عزم عليه.
وكان خليفة الخجستاني بنيساور قد أساء السيرة، وقوى العيارين وأهل الفساد، فاجتمع الناس إلى كيكان، فثار على نائبه، وأعانهم عمروبن الليث بجنده، فقبضوا على خليفة الخجستاني، وأقام أصحاب عمروبنيسابور، فبلغ الخبر إلى أحمد، فوافى نيسابور، فخرج عنها كيكان وغيره، فردهم أصحاب أحمد الخجستاني، فقتل منهم جماعة، وغيب كيكان، فلم يظهر إلا بعد مدة ميتأن وقد بنى عليه حائطاً فمات فيه.
وأقام أحمد بنيسابور تمام سنة سبع وستين ومائتين؛ ثم إن عمراً أبا طلحة، وهويحاصر بلخ، يستقدمه إلى هراة، فأتاه، فأكرمه، وأعطاه مالاً عظيمأن ووعده وتركه بخراسان، وعاد إلى سجستان؛ فسار أحمد إلى سرخس، وبها عامل عمرو، فأتاه أبوطلحة، فقاتله، فانهزم أبوطلحة ومر على وجه، وسار أحمد خلفه، فلحقه بخلم فحاربه، فهزمه أيضأن وسار نحوسجستان، وأقام أحمد بطخارستان.
وكان ناسرار عباس القطان قد أتى طلحة، فسار نحونيسابور، فأعانه أهلهأن فاخذوا والدة الخجستاني وما كان معها؛ وأقام بنيسابور، ولحق به أبوطلحة، فمنعه أهل نيسابور من دخولها.
واتصل الخبر بالخجستاني وهوبطايكان من طخارستان، فسار مجداً نحونيسابور.

ولما أيس الطاهرية من الخجستاني، وكان أحمد بن محمد بن طاهر بخوارزم والياً عليهأن أنفذ أبا العباس النوفلي في خمسة آلاف رجل ليخرج أحمد من نيسابور، فبلغ خبره أحمد، فأرسل إليه ينهاه عن سفك الدماء، فأخذ النوفلي الرسل، فأمر بضربهم، وحلق لحاهم، وأراد قتلهم، فبيمنا هم يطلبون الجلادين، والحجامين ليحلقوا لحاهم، أتاهم الخبر بقرب جيش أحمد منهم، فاشتغلوأن وتركوا الرسل، فهربوا إلى أحمد وأعلموه الخبر، فعبأ أصحابه، وحملوا على النوفلي حملة رجل واحد، فاكثروا فيهم القتل، وقبضوا على النوفلي، وأحضروه عنده، فقال له: إن الرسل لتختلف إلى بلاد الكفار، فلا تتعرض لهم، أفلا استحيت أن تأمر في رسلي بما أمرت؟ فقال النوفلي: أخطأت؛ فقال: لكني سأصيب في أمرك! ثم أمر به فقتل.
وبلغه أن إبراهيم بن محمد بن طلحة بمروقد جبى أهلها في سنتين خمسة عشر خراجأن فسار إليه في أبيورد في يوم وليلة، فأخذه من على فراشه، وأقام بمرو، فجبى خراجهأن ثم ولاها موسى البلخي، ثم وافاها الحسين بن طاهر، فأحسن فيهم السيرة، ووصل إليه نحوعشرين ألف ألف درهم.
ذكر قتل الخجستانيلما كان الخجستاني بطخارستان وافاه خبر أخذ والدته من نيسابور، وسار مجدأن فلما قارب هراة أتاه غلام لأبي طلحة، يعرف بينال ده هزار، مستأمناً فأتاه خبره قبل وصوله، وكان للخجستاني غلام اسمه رامجور على خزائنه، فقال له كالممازح له: إن سيدك ينال ده هزار قد استأمن إلي، كما علمت، فانظر كيف يكون برك به. فحقدها عليه رامجور، وخاف أن يقدم ذلك الغلام عليه، ويطلب الفرصة ليقتله.
وكان لأحمد غلام يدعى قتلغ، وهوعلى شرابه، فسقاه يومأن فرأى في الكوز شيئأن فأمر به فقلعت إحدى عينيه، فتواطأ قتلغ ورامجور على قتله، فشرب يوماً بنيسابور عند وصوله من طايكان، فسكر ونام، فتفرق عنه أصحابه، فقتله رامجور وقتلغ، وكان قتله في شوال سنة ثمان وستين ومائتين، وأخذ رامجور خاتمه فأرسله إلى الإصطبل يأمرهم بإسراج عدة دواب، ففعلوأن فسير عليها جماعة إلى أبي طلحة وهوبجرجان يعلمه الحال، ويأمره بالقدوم، ثم أغلق رامجور الباب على أحمد واختفى.
وبكر القواد إلى باب أحمد، فوجدوا باب حجرته مغلقأن فانتظروه ساعة طويلة، فرابهم الأمر، ففتحوا الباب فرأوه مقتولأن فبحثوا عن الحال، وأخبرهم صاحب الاصطبل خبر رامجور في إنفاذ الخاتم، فطلبوه فلم يجدوه، ثم وجدوه بعد مدة.
وكان سبب إطلاعهم عليه أن صبياً من أهل تلك الدار التي هوبها طلب نارأن فقيل له: ما تعلمون بالنار في اليوم الحار؟ فقيل: نتخذ طعاماً للقائد؛ قيل: ومن القائد؟ قال: رامجور؛ فأنهوا خبره إلى بعض القواد، فأخذوه وقتلوه.
واجتمع أصحاب أحمد بعد قتله على رافع بن هرثمة، وسنذكر أخبار رافع سنة صمان وستين ومائتين.
وكان أحمد بن عبد الله، لما عاد من طايكان بعد قتل والدته، نصب رمحاً طويلاً في صحن داره وقال: يحتاج أهل نيسابور أن يضعوا الدر حتى يغمروا هذا الرمح. فخافوا منه، واستخفى جمع من الرؤساء والتجار، وفزع الناس إلى الدعاء، وسألوا أبا عثمان وغيره من أصحاب أبي حفص الزاهد أن يتضرعوا إلى اله تعالى ليفرج عنهم، وفعلوأن فتداركهم الله برحمته، فقتل تلك الليلة، وفرج الله عنهم.
وكان أحمد كريمأن جوادأن شجاعأن حسن العشرة، كثير البر لإخوانه الذين صحبوه قبل إمارته، والإحسان إليهم، ولم يتغير لهم عما كان يفعله من التواضع والآداب.
ذكر عدة حوادثفيها ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب.
وفيها سار الحسين بن طاهر بن عبد الله بن طاهر إلى الجبل في صفر.
وفيها مات الصلاني والي الري ووليها كيغلغ.
وفيها نهب ابن زيدويه الطبيب؛ ومات صلح بن علي بن يعقوب بن المنصور، وولي إسماعيل بن إسحاق قضاء الجانب الشرقي من بغداد، فصار له قضاء الجانبين.
وفيها تنافر أبوأحمد الموفق وأحمد بن طولون، أمير ديار مصر، وصار به بينهما وحشة مستحكمة، وتطلب الموفق من يتولى الديار المصرية، فلم يجد أحداً لأن ابن طولون كانت خدمه وهداياه متصلة إلى القواد بالعراق وأرباب المناصب، فلهذا لم يجد من يتولاهأن فكتب إلى ابن طولون يهدده بالعزل، فأجابه جواباً فيه بعض الغلظة، فسير إليه الموفق موسى بن بغا في جيش كثيف، فسار إلى الرقة.

وبلغ الخبر ابن طولون، فحصن الديار المصرية، وأقام ابن بغا عشرة أشهر بالرقة، لم يمكنه المسير لقلة الأموال معه، وطالبه الأجناد بالعطاء، فلم يكن معه ما يعطيهم، فاختلفوا عليه، وثاروا بوزيره عبد الله بن سليمان، فاستتر، واضطر ابن بغا إلى العود إلى العراق، وكفى اله أحمد بن طولون شرة فتصدق بأموال كثيرة.
وفيها قتل محمد بن عتاب وكان سائراً إلى السيبين، وهي في ولايته، فقتله الأعراب.
وفيها قتل القطان صاحب مفلح، وكان عاملاً بالموصل، فانصرف عنهأن فقتل بالرقة.
وفيها عقد لكفتمر علي بن الحسين بن دود على طريق مكة.
وفيها وقع بين الخياطين والجزارين بمكة قتال يوم التروية، حتى خاف الناس أن يبطل الحج، ثم تحاجزوا إلى أن يحج الناس، وقد قتل منهم سبعة عشر رجلاً؛ وحج بالناس الفضل بن إسحاق بن العباس بن محمد.
وفيها سير محمد صاحب الأندلس ابنه المنذر في جيش إلى الجليقي، وكان بمدينة بطليوس، فلا سمع خبرهم فارقهأن ودخل حصن كركر، فحوصر فيه، وكثر القتل في أصحابه في شوال.
وفيها مات عمروبن شبه المنيري الأخباري، وكان مولده سنة ثلاث وسبعين ومائة.
حوادث سنة ثلاث وستين ومائتين

ذكر وقعة الزنج
لما انهزم علي بن أبان جريحأن كما ذكرناه، وعاد إلى الأهواز لم يقم بهأن ومضى إلى عسكر صاحبه يداوي جراحه، واستخلف على عسكره بالأهواز، فلما برأ جرحه عاد إلى الأهواز، ووجه أخاه الخليل بن أبان في جيش كثيف إلى احمد بن ليثويه، وكان أحمد بعسكر مكرم، فكمن لهم أحمد، وخرج إلى قتالهم، فالتقى الجمعان، واقتتلوا أشد قتال، وخرج الكمين على الزنج فانهزموأن وتفرقوأن وقتلوأن ووصل المنهزمون إلى علي بن أبان، فوجه مسلحة إلى المسرقان، فوجه إليهم أحمد ثلاثين فارساً من أصحابه، من أعيانهم، فقتلهم الزنج جميعهم.
ذكر استيلاء يعقوب على الأهواز وغيرهاوفيها أقبل يعقوب بن الليث من فارس، فلما بلغ النوبندجان انصرف أحمد بن الليث عن تستر، فلما بلغ يعقوب جند يسابور ونزلهأن ارتحل عن تلك الناحية كل من بها من عسكر الخليفة، ووجه إلى الأهواز رجلاً من أصحابه يقال له الخضر بن العنبر، فلما قاربها خرج عنها علي بن أبان ومن معه من الزنج، فنزل نهر السدرة، ودخل الخضر الأهواز، وجعل أصحابه وأصحاب علي بن أبان بعضهم على بعض، ويصيب بعضهم من بعض، إلى أن استعد علي بن أبان وسار إلى الأهواز، فأوقع بالخضر ومن معه وقعة قتل فيها ن أصحاب الخضر خلقاً كثيرأن وأصاب الغنائم الكثيرة، وهرب الخضر ومن معه إلى عسكر مكرم.
وأقام علي بالأهواز ليستخرج ما كان فيها، ورجع إلى نهر لاسدرة، وسير طائفة إلى دورق، وأوقعوا بمن كان هناك من أصحاب يعقوب، وأنفذ يعقوب إلى الخضر مددأن وأمره بالكف عن قتال الزنج والاقتصار على المقام بالأهواز، فلم يجبهم علي إلى ذلك دون نقل طعام كان هناك، فأجابه يعقوب إليه، فقتله، وترك العلف الذي كان بالأهواز وكف بعضهم عن بعض.
ذكر ملك الروم لؤلؤةوفيها سلمت الصقالبة لؤلؤة إلى الروم؛ وكان سبب ذلك أن أحمد بن طولون قد أدمن الغزوبطرسوس قبل أن يلي مصر، فلما ولي مصر كان يؤثر أن يلي طرسوس ليغزومنها أميرأن فكتب إلى أبي أحمد الموفق يطلب ولايتهأن فلم يجبه إلى ذلك، واستعمل عليها محمد بن هارون التغلبي، فركب في سفينة في دجلة فألقتها الريح إلى الشاطئ، فأخذه أصحاب مساور الشاري فقتلوه، واستعمل عوضه محمد بن علي الأرمني، وأضيف إليه أنطاكية، فوثب به أهل طرسوس فقتلوه، فاستعمل عليها أرخوز بن يولغ بن طرخان التركي، فسار إليهأن وكان غراً جاهلأن فأساء السيرة، وأخر عن أهل لؤلؤة أرزاقهم وميرتهم، فضجوا من ذلك، وكتبوا إلى أهل طرسوس يشكون منه ويقولون: إن لم ترسلوا إلينا أرزاقنا وميرتنا وإلا سلمنا القلعة إلى الروم.
فأعظم ذلك أهل طرسوس وجمعوا من بينهم خمسة عشر ألف دينار ليحملوها إليهم، فأخذها أرخوز ليحملها إلى أهل لؤلؤة، فأخذها لنفسه.
فلما أبطأ عليهم المال سلموا القلعة إلى الروم، فقامت على أهل طرسوس القيامة، لأنها كانت شبحاً في حلق العدو، ولم يكن يخرج للروم في بر أوبحر إلا رأوه وأنذروا به؛ واتصل الخبر بالمعتمد، فقلدها أحمد بن طولون واستعمل عليها من يقوم بغزوالروم ويحفظ ذلك الثغر.
ذكر عدة حوادث

وفي هذه السنة مات مساور الشاري، وكان قد رحل من البوازيج يريد لقاء عسكر قد سار إليه من عند الخليفة، فكتب أصحابه إلى محمد بن خرزاد وهوبشهرزور ليولوه أمرهم فامتنع، وكان كثير العبادة، فبايعوا أيوب ابن حيان الوارقي البجلي، فأرسل إليهم محمد بن خرزاد ليذكر لهم أنه نظر في أمره، فلم يسعه إهمال الأمر لأن مساوراً عهد إليه، فقالوا له: قد بايعنا هذا الرجل ولا نغدر به؛ فسار إليهم فيمن بايعه فقاتلهم، فقتل أيوب بن حيان، فبايعوا بعده محمد بن عبد اله بن يحيى الوارقي المعروف بالغلام، فقتل أيضأن فبايع أصحابه هارون بن عبد الله البجلي، فكثر أتباعه، وعاد عنه ابن خرزاد، واستولى هارون على أعمال الموصل، وجبى خراجه.
وفيها كانت وقعة بين موسى والأعراب، فوجه الموفق ابنه أبا العباس المعتضد في جماعة من قواده في طلب الأعراب.
وفيها وثب الديراني ابن أوس، فكبسه ليلأن فتفرق عسكره، ونهبه، ومضى ابن أوس إلى واسط.
وفيها ظفر أصحاب يعقوب بن الليث بمحمد بن واصل، فأسروه.
وفيها مات عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وزير المعتمد، سقط بالميدان من صدمة خادم له، فسال دماغه من منخريه وأذنه، فمات لوقته، وصلى عليه الموفق، ومشى في جنازته، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، فقدم موسى بن بغا سامرأن فاختفى الحسن، واستوزر مكانه سليمان بن وهب، ودفعت دار عبيد الله إلى كيغلغ.
وفيها أخرج أخوشركب الحسين بن طاهر عن نيسابور، وغلب عليهأن وأخذ أهله بإعطائه ثلث أموالهم، وسار الحسين إلى مرووبها ابن خوارزم شاه يدعولمحمد بن طاهر.
وفيها سير محمد، صاحب الأندلس، ابنه المنذر في جيش كثير، وجعل طريقه على ماردة فلما جاز ماردة إلى أرض العدوتبعه تسع مائة فارس من العسكر، فخرج عليهم جمع كثر من المشركين قد استظهر، فاقتتلوا قتالاً كثيراً صبروا فيه، وقتل من المشركين عدد كثير، ثم استظهر ابن الجليقي ومن معه من المشركين على التسعمئة، فوضعوا السيف فيهم فقتلوهم عن آخرهم، وأكرمهم الله بالشهادة.
وفيها ابتدأ إبراهيم أمير إفريقية ببناء مدينة رقادة.
وفيها توفي أحمد بن حرب الطائي الموصلي أخوعلي بن حرب، توفي بآذنة من بلد الثغر.
حوادث سنة أربع وستين ومائتين

ذكر اسر عبد الله بن كاوس
في هذه السنة أسرت الروم عبد اله بن رشيد بن كاوس.
وكان سبب ذلك أنه دخل بلد الروم في أربعة آلاف من الأهل الثغور الشامية، فغمن وقتل، فلما رحل عن الساندون خرج عليه بطريق سلوقية، وبطريق قرة كوكب، وخرشنة، فأحدقوا بالمسلمين، فنزل المسلمون وعرقبوا دوابهم وقاتلوأن فقتلوا إلا خمس مائة، فإنهم حملوا حملة رجل واحد، ونجوا على دوابهم، وقتل الروم من قتلوأن وأسروا عبد الله بن رشيد بعد شربات أصابته، وحمل على ملك الروم.
ذكر أخبار الزنج هذه السنة ودخولهم واسطقد ذكرنا سنة اثنتين وستين ومائتين مسير سليمان بن جامع إلى البطائح، وما كان منه مع أغرتمش، فلما أوقع به كتب إلى صاحبه يستأذنه في المسير إليه ليحدث به عهدأن ويصلح أمور منزله، فأذن له في ذلك، فأشار عليه الحياتي أن يتطرق إلى عسكر تكين البخاري، وهوبيزدود، فقبل قوله، وسار إلى تكين، فلما كان على فرسخ منه قال له الحياتي: الرأي أن تقيم أنت عاهنأن وأمضي أنا في السميريات، وأجر القوم إليك، فيأتونك وقد تعبوأن فتنال منهم حاجتك.
ففعل سليمان ذلك، وجعل بعض أصحابه كمينأن ومضى الحياتي إلى تكين، فقالته ساعة، ثم تطارد لهم، فتبعوه، فأرسل إلى سليمان يعلمه ذلك، وقال لأصحابه، وهوبين يدي أصحاب تكين شبه المنهزم، ليسمع أصحاب تكين قوله فيطمعوا فيه: غررتموني وأهلكتموني، وكنت نهيتكم عن الدخول ها هنأن فأبيتم، ولا أرانا ننجومنه.
وطمع أصحاب تكين وجدوا في طلبه، وجعلوا ينادون: بلبل في قفص، فما زالوا كذلك حتى جازوا موضع الكمين، وقاربوا عسكر سليمان، وقد كمن أيضاً خلف جدر هناك، فخرج سليمان إليهم في أصحابه فقاتلهم، وخرج الكمين من خلفهم، وعطف الحياتي على من في النهر، فاشتد القتال فانهزم أصحاب تكين من الوجوه كلهأن وركبهم الزنج يقتلونهم ويسلبونهم أكثر من ثلاثة فراسخ، وعادوا عنهم.

فلما كان الليل عاد الزنج إليهم وهم في معسكرهم، فكبسوهم، فقالتهم تكين وأصحابه، فانكشف سليمان، ثم عبأ أصحابه، فأمر طائفة أن تأتيهم من جهة ذكرها لهم، وطائفة في الماء، وأتى هوفي الباقين، فقصدوا تكين من جهاته كلهأن لم يقف من أصحابه أحد، وانهزموأن وتركوا عسكرهم، فغمن الونج ما فيه، وعادوا بالغنيمة، واستخلف سليمان الحياتي على عسكره، وسار إلى صاحبه، وكان ذلك سنة ثلاث وستين ومائتين.
فلا سار سليمان إلى الخبيث خرج الحياتي بالعسكر الذي خلفه سليمان معه إلى مازوران لطلب الميرة، فاعترضه جعلان، فقاتلهن فانهزم الحياتي، وأخذت سفنه، وأتته الأخبار أن منجوراً ومحمد بن علي حبيب اليشكري قد بلغا الحجاجية، فكتب إلى صاحبه بذلك، فسير إليه سليمان، فوصل إلى طهثا مجدأن وأظهر أنه يريد قصد جعلان، وقدم الحياتي، وأمره أن يأتي جعلان ويقف بحيث يراه ولا يقاتله.
ثم سار سليمان نحومحمد بن علي بن حبيب مجدأن فأوقع به وقعة عظيمة، وغمن غنائم كثيرة، وقتل أخاً لمحمد بن علي ورجع، وكان ذلك في رجب من هذه السنة أيضاً.
ثم سار في شعبان إلى قرية حسان وبها قائد يقال له حسن بن خمارتكين، فأوقع به، فهزمه، ونهب القرية واحرقها وعاد.
ثم سار في شعبان أيضاً إلى مواضع، فنهبها وعاد؛ ثم سار في رمضان واظهر أنه يريد جعلان لمازوران، فبلغت الأخبار إلى جعلان بذلك، فضبط عسكره، فتركه سليمان وعدل إليه فأرقع به وهوغار، وغمن منه ست شذوات، ثم أرسل الحياتي في جماعة لينتهب، فصادفهم جعلان، فأخذ سفنهم، وغمن منهم، فأتاه سليمان في البر، فهزمه، واستنقذ سفنهم، وغمن شيئاً آخر وعاد.
ثم سار سليمان إلى الرصافة في ذي القعدة، فأوقع بمطر بن جامع وهوبهأن فغمن غنائم كثيرة، وأحرق الرصافة واستباحهأن وحمل أعلاماً وانحدر إلى مدينة الخبيث، وأقام ليعيد هناك بمنزلة، فسار مطر إلى الحجاجية، فأوقع بأهلهأن وأسر جماعة، وكان بها قاض لسليمان، فأسره مطر وحمله إلى واسط، وسار مطر إلى قريب طهثا ورجع، فكتب الحياتي إلى سليمان بذلك، فسار نحوه فوافاه لليلتين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، ثم صرف جعلان ووافى أحمد لن ليثويه بالشديدية.
ومضى سليمان إلى نهر أبان، وبه قائد من قواد أحمد، فأوقع به فقتله، ثم سار سليمان إلى تكين في خمس شذوات سنة أربع وستين، فواقعه تكين بالشديدية.
وكان أحمد بن ليثويه حينئذ قد سار إلى الكوفة وجنبلاء، فظهر تكين على سليمان، وأخذ الشذوات بما فيهأن وكان بها صناديد سليمان وقواده فقتلهم؛ ثم إن أحمد عاد إلى الشديدية، وضبط تلك الأعمال، حتى وافاه محمد بن المولد، وقد ولاه الموفق مدينة واسط، فكتب سليمان إلى الخبيث يستمده، فأمده بالخليل بن أبان في زهاء ألف وخمسمائة فارس، فلما أتاه المدد قصد إلى محاربة محمد بن المولد، ودخل سليمان مدينة واسط، فقتل فها خلقاً كثيرأن ونهب وأحرق، وكان بها إلى ابن منكجور البخاري، فقاتله يومه إلى العصر، ثم قتل، وانصرف سليمان عن واسط إلى جنبلاء ليعيث ويخرب، فأقام هناك تسعين ليلة، وعسكرهم بنهر الأمير.
ذكر وزارة سليمان بن وهب للخليفة ووزارة الحسن بن مخلد وعزلهوفيها خرج سليمان بن وهب من بغداد إلى سامرا وشيعه الموفق والقواد، فلما صار إلى سامرا غضب عليه المعتمد وحبسه وقيده وانتهب داره، واستوزر الحسن بن مخلد في ذي القعدة، فسار الموفق من بغداد إلى سامرا ومعه عبيد الله بن سليمان بن وهب، فلما قرب من سامرا تحول المعتمد إلى الجانب الغربي فعسكر به مغاضباً للموفق، واختلفت الرسل بينه وبين الموفق واتفقأن وخلع على الموف ومسرور وكيغلغ وأحمد بن موسى بن بغا وأطلق سليمان بن وهب وعاد إلى الجوسق، وهرب الحسن بن مخلد وأحمد ين صالح بن شيرزاد فكتب بقبض أموالهما وقبض أحمد بن أبي الاصبع، وهرب القواد الذين كانوا بسامرا مع المعتمد خوفاً من الموفق، فوصلووا إلى الموصل وجبوا الخراج.
ذكر وفاة أماجور وملك ابن طولون الشام وطرسوس وقتل سيما الطويل

وفي هذه السنة توفي أماجور مقطع دمشق، وولي ابنه مكانه، فتجهز ابن طولون ليسير إلى الشام فيملكه، فكتب إلى ابن أماجور له أن الخليفة قد أقطعه الشام والثغور، فأجابه بالسمع والطاعة، وسار أحمد، واستخلف بمصر ابنه العباس، فلقيه ابن أماجور بالرملة فأقره عليهأن وسار إلى دمشق فملكها وأقر أماجور على أقطاعهم، وسار إلى حمص فملكهأن وكذلك حماة، وحلب.
وراسل سيما الطويل بأنطاكية يدعوه إلى طاعته ليقره على ولايته، فامتنع، فعاوده فلم يطعه، فسار إليه أحمد بن طولون، فحصره بأنطاكية، وكان سيء السيرة مع أهل البلد، فكاتبوا أحمد بن طولون، ودلوه على عورة البلد، فنصب عليه المجانيق وقاتله، فملك البلد عنوة، والحصن الذي له، وركب سيما وقاتل قتالاً شديداً حتى قتل ولم يعلم به أحد، فاجتاز به بعض قواده فرآه قتيلأن فحمل رأسه إلى أحمد، فساءه قتله.
ورحل عن أنطاكية إلى طرسوس، فدخلها وعزم على المقام بهأن وملازمة الغزاة، فعلا السعر بهأن وضاقت عنه وعن عساكره، فركب أهلها إليه بالمخيم وقالوا له: قد ضيقت بلدنأن وأغليت أسعارنأن فإما أقمت في عدد يسير، وإما ارتحلت عنا؛ وأغلظوا له القول، وشغبوا عليه، فقال أحمد لأصحابه: لتنهزموا من الطرسوسيين، وترحلوا عنت البلد، ليظهر للناس وخاصة العدوأن ابن طولون على بعد صيته وكثرة عساكره لم يقدر على أهل طرسوس؛ وانهزم عنهم ليكون أهيب هم في قلب العدووعاد إلى الشام.
فأتاه خبر ولده العباس، وهوالذي استخلفه بمصر، أنه قد عصى عليه، وأخذ الأموال وسار إلى برقة مشاقاً لأبيه، فلم يكترث لذلك، ولم ينزعج له، وثبت، وقضى أشغاله، وحفظ أطراف بلاده، وترك بحران عسكرأن وبالرقة عسكراً مع غلامه لؤلؤ، وكان حران لمحمد بن أتامش، وكان شجاعأن فأخرجه عنها وهزمه هزيمة قبيحة.
واتصل خبره بأخيه موسى بن أتامش، وكان شجاعاً بطلأن فجمع عسكراً كثيراً وسار نحوحران، وبها عسكر ابن طولون، ومقدمهم أحمد ابن جيعويه، فلما اتصل به خبر مسير موسى أقلقه ذلك وأزعجه، ففطن له رجل من الأعراب يقال له أبوالأغر، فقال له: أيها الأمير أراك مفكراً منذ أتاك خبر ابن أتامش، وما هذا محله، فإنه طياش قلق، ولوشاء الأمير أن آتيه به أسيراً لفعلت. فغاظه قوله وقال: قد شئت أن تأتي به أسيراً؛ قال: فاضمم إلي عشرين رجلاً أختارهم؛ قال: افعل، فاختار عشرين رجلاً وسار بهم إلى عسكر موسى، فلما قاربهم كمن بعضهم، وجعل بينه وبينهم علامة إذا سمعوها ظهروا.
ثم دخل العسكر في الباقين في زي الأعراب، وقارب مضارب موسى، وقصد خيلاً مربوطة فأطلقهأن وصاح هووأصحابه فيها فنفرت، وصاح هوومن معه من الأعراب، وأصحاب موسى غارون، وقد تفرق بعضهم في حوائجهم، وانزعج العسكر، وركبوأن وركب موسى، فانهزم أبوالأغر من بين يديه، فتبعه حتى أخرجه من العسكر، وجاز به الكمين، فنادى أبوالأغر بالعلامة التي بينهم، فثاروا من النواحي، وعطف أبوالأغر على موسى فأسروه، فأخذوه وساروا حتى وصلوا إلى ابن جيعويه، فعجب الناس من ذلك، وحاروأن فسيره ابن جيعويه إلى ابن طولون، فاعتقله وعاد إلى مصر، وكان ذلك في سنة خمسين وستين ومائتين.
ذكر الفتنة ببلاد الصينوفي هذه السنة ظهر ببلاد الصين إنسان لا يعرف، فجمع جمعاً كثراً من أهل الفساد والعامة، فأهمل الملك أمره استصغاراً لشأنه، فقوي، وظهر حاله وكثف جمعه؛ وقصده أهل الشر من كل ناحية، فأغار على البلاد وأخربهأن ونزل على مدينة خانقوا وحصرهأن وهي حصينة، ولها نهر عظيم، وبها عالم كثير من المسلمين، والنصارى، واليهود، والمجوس، وغيرهم من أهل الصين، فلما حصر البلد اجتمعت عساكر الملك وقصدته، فهزمهأن وافتتح المدينة عنوة، وبذل السيف، فقتل منهم ما لا يحصى كثرة.
ثم سار إلى المدينة التي فيها الملك، وأراد حصرهأن فالتقاه ملك الصين، ودامت الحرب بينهم نحوسنة، ثم انهزم الملك، وتبعه الخارجي إلى أن تحصن منه في مدينة من أطراف بلاده، واستولى الخارجي على أكثر البلاد والخزائن، وعلم أنه لا بقاء له في الملك إذ ليس هومن أهله، فأخرب البلاد، ونهب الأموال، وسفك الدماء.

فكاتب ملك الصين ملوك الهند يستمدهم، فأمدوه بالعساكر، فسار إلى الخارجي، فالتقوا واقتتلوا نحوسنة أيضأن وصبر الفريقان، ثم إن الخارجي عدم، فقيل إنه قتل، ون قيل بل غرق، وظفر الملك بأصحابه وعاد إلى مملكته، ولقب ملوك الصين يعفور، ومعناه ابن السماء تعظيماً لشأنه؛ وتفرق الملك عليه، وتغلبت كل طائفة على طرف من البلاد، وصار الصين على ما كن عليه ملوك الطوائف يظهرون له الطاعة، وقنع منهم بذلك، وبقي على ذلك مدة طويلة.
ذكر ملك المسلمين مدينة سرقوسةوفي هذه السنة، رابع عشر رمضان، ملك المسلمون سرقوسة، وهي من أعظم صقلية.
وكان سبب ملكها أن جعفر بن محمد أمير صقلية غزاهأن فأفسد زرعهأن وزرع قطانية، وطبرمين، ورمطة، وغيرها من بلاد صقلية التي بيد الروم، ونازل سرقوسة، وحصرها براً وبحراً وملك بعض أرباضها ووصلت مراكب الروم نجدة لهأن فسير إليها أسطولأن فأصابوهأن فتمكنوا حينئذ من حصرهأن فأقام العسكر محاصراً لها تسعة اشهر، وفتحت، وقتل من أهلها عدة ألوف، وأصيب فيها من الغنائم ما لم يصب بمدينة أخرى، ولم ينج من رجالها إلا الشاذ الفذ.
وأقاموا فيها بعد فتحها بشهرين، ثم هدموهأن ثم وصل بعد هدمها من القسطنطينية أسطول، فالتقوا هم والمسلمون، فظفر بهم المسلمون، وأخذوا منهم أربع قطع، فقتلوا من فيهأن وانصرف المسلمون إلى بلدهم آخر ذي القعدة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، ابنه المنذر في جيش إلى مدينة بنبلونة، وجعل طريقه على سرقسطة، فقاتل أهلهأن ثم انتقل إلى تطيلة، وجال مع مواضع بني موسى، ثم دخل بنبلونة، فخرب كثيراً من حصونها وأذهب زروعها وعاد سالماً.
وفيها سار جمع من العرب إلى مدينة جليقية، فكان بينهم وقعة عظيمة قتل فيها من الطائفتين كثير.
وفيها فرغ إبراهيم بن محمد بن الأغلب، صاحب إفريقية، من بناء رقادة، وكان ابتداء عمارتها سنة ثلاث وستين ومائتين، ولما فرغت انتقل إبراهيم إليها.
وفيها وجه يعقوب بن الليث إلى الصيمرة، مقدمة إليهأن واخذوا صعون فأحضروه عنده، فمات.
وفيها ماتت قبيحة أم المعتز.
وفيها وقع الطاعون بخراسان جميعها وقومس، فأفنى خلقاً كثيراً؛ وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى الهاشمي.
وفيها توفي أبوزرعة الرازي، واسمه عبيد الله بن عبد الكريم، وكان حافظاً للحديث ثقة؛ ومحمد بن إسماعيل بن عليه، وكان موته بدمشق.
وفيها مات أبوإبراهيم المزني، صاحب الشافعي، وكان موته بمصر؛ وعلي بن حرب الطائي، وكان إماماً في الحديث.
حوادث سنة خمس وستين ومائتين

ذكر أخبار الزنج
في هذه السنة كانت وقعة بين أحمد بن ليثويه وبين سليمان بن جامع والزنج بناحية جنبلاء.
وكان سببها أن سليمان كتب إلى الخبيث يخبره بحال نهر يسمى الزهري، ويسأله أن يأذن في عمله، فإنه متى أنفذه تهيأ له حمل ما في جنبلاء وسواد الكوفة، فأنفذ إليه نكرويه لذلك، وأمره بمساعدته، والنفقة على عمل النهر، فمضى سليمان فيمن معه وأقام بالشريطة نحواً من شهر، وشرعوا في عمل النهر.
وكان أصحاب سليمان، في أثناء ذلك، يتطرقون ما حولهم، فواقعه أحمد ابن ليثويه، وهوعامل الموفق بجنبلاء، فقتل من الزنوج نيفاً وأربعين قائدأن ومن عامتهم ما لا يحصى كثرة، وأحرق سفنهم، فمضى سليمان مهزوماً إلى طهثا.
وفيها سار جماعة من الزنوج في ثلاثين سميرية إلى جبل، فأخذوا أربع سفن فيها طعام وانصرفوا.
وفيها دخل الزنج النعمانية فأحرقوهأن وسبوأن وساروا إلى جرجرايأن ودخل أهل السواد بغداد.
ذكر استعمال مسرور البلخي على الأهواز وانهزام الزنج منهوفيها استعمل الموفق مسروراً البلخي على كور الأهواز، فولى مسرور ذلك تكين البخاري، فسار إليها تكين، وكان علي بن أبان والزنج قد احاطوا بتستر، فخاف أهلهأن وعزموا على تسليمها إليهم، فوافاهم في تلك الحال تكين البخاري، فواقع علي بن أبان قبل أن ينزع ثيابه، فانهزم علي والزنج، وقتل منهم كثير، وتفرقوأن ونزل تيكن بتستر؛ وهذه الوقعة تعرف بوقعة باب كورك، وهي مشهورة.

ثم إن علياً قدم عليه جماعة من قواد الزنج، فأمرهم بالمقام بقنطرة فارس، فهرب منهم غلام رومي إلى تكين، وأخبره بمقامهم بالقنطرة، وتشاغلهم بالنبيذ، وتفرقهم في جمع الطعام، فسار تكين إليهم ليلأن فأوقع بهم، وقتل من قوادهم جماعة، فانهزم الباقون.
وسار تكين إلى علي بن أبان، فلم يقف له علي، وانهزم غلام له يعرف بجعفرويه، ورجع علي إلى الأهواز، ورجع تكين إلى تستر، وكتب علي إلى تكين يسأله الكف عن قتل غلامه، فحبسه، ثم تراسل علي وتكين وتهاديأن فبلغ الخبر مسروراً بميل تكين إلى الزنج، فسار حتى وافى تكين وقبض عليه، وحبسه عند إبراهيم بن جعلان، حتى مات وتفرق أصحاب تكين، ففرقة سارت إلى الزنج، وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي، فبلغ ذلك مسرورأن فأمنهم، فجاءه منهم الباقون؛ وكان بعض ما ذكرناه من أمر مسرور سنة خمس وستين، وبعضه سنة ست وستين ومائتين.
ذكر عصيان العباس بن طولون على أبيهوفيها عصى العباس بن أحمد بن طولون على أبيه؛ وسبب ذلك أن أباه كان قد خرج إلى الشام، واستخلف انه العباس، كما ذكرناه، فلما أبعد عن مصر حسن للعباس جماعة كانوا عنده أخذ الأموال والانشراح إلى برقة، ففعل ذلك، وأتى برقة في ربيع الأول.
وبلغ لخبر أباه، فعاد إلى مصر، وأرسل إلى ابنه ولاطفه واستعطفه، فلم يرجع إليه، وخاف من معه فأشاروا عليه بقصد إفريقية، فسار إليهأن وكاتب وجوه البربر، فأتاه بعضهم، وامتنع بعضهم، وكتب إلى إبراهيم بن الأغلب يقول: إن أمير المؤمنين قد قلدني أمر إفريقية وأعمالها؛ ورحل، حتى أتى حصن لبدة، ففتحه أهله له، فعاملهم أسوأ معاملة، ونهبهم، فمضى أهل الحصن إلى إلياس بن منصور النفوسي، رئيس الإباضية هناك، فاستعانوا به، فغضب لذلك، وسار إلى العباس ليقاتله.
وكان إبراهيم بن الأغلب قد أرسل إلى عامل طرابلس جيشأن وأمره بقتال العباس، فالتقوأن واقتتلوا قتالاً شديداً قاتل العباس فيه بيده، فلما كان الغد وافاهم إلياس بن منصور الإباضي في اثني عشر ألفاً من الإباضية، فاجتمع هووعامل طرابلس على قتال العباس، فقتل من أصحابه خلق كثير، وانهزم أقبح هزيمة، وكاد يؤسر، فخلصه مولى له، ونهبوا سواده واكثر ما حمله من مصر، وعاد إلى برقة أقبح عود.
وشاع بمصر أن العباس انهزم، فاغتم والده حتى ظهر عليه، وسير إليه العساكر لما علم سلامته، فقاتلوه قتالاً صبر فيه الفريقان، فانهزم العباس ومن معه، وكثر القتلى في أصحابه، وأخذ العباس أسيراً، وحمل إلى أبيه، فحبسه في حجرة في داره إلى أن قدم باقي الأسرى من أصحابه، فلما قدموا أحضرهم أحمد عنده، والعباس معهم، فأمره أبوه أن يقطع أيدي أعيانهم وأرجلهم، ففعل، فلما فرغ منه وبخه وذمه وقال له: هكذا يكون الرئيس والمقدم؟ كان الأحسن أنك كنت ألقيت نفسك بين يدي، وسألت الصفح عنك وعنهم، فكان أعلى لمحلك، وكنت قضيت حقوقهم فيما ساعدوك وفارقوا أوطانهم لأجلك، ثم أمر به فضرب مائة مقرعة، ودموعه تجري على خديه رقة لولده، ثم رده إلى الحجرة واعتقله وذلك سنة ثمان وستين ومائتين.
ذكر موت يعقوب وولاية أخيه عمرووفيها مات يعقوب بن الليث الصفار تاسع شوال بجند يسابور من كور الأهواز، وكانت علته القولنج، فأمره الأطباء بالاحتقان بالدواء، فلم يفعل، واختار الموت.
وكان المعتمد قد أنفذ إليه رسولاً وكتاباً يستميله ويترضاه، ويقلده أعمال فارس، فوصل الرسول ويعقوب مريض، فجلس له، وجعل عنده سيفأن ورغيفاً من الخبز الخشكار، ومعه بصل، وأحضر الرسول، فأدى الرسالة، فقال له: قل للخليفة إنني عليل، فإن مت فقد استرحت منك واسترحت مني، وإن عوفيت فليس بيني وبينك إلا هذا السيف، حتى آخذ بثأري، أوتكسرني وتعقرني، وأعود إلى هذا الخبز والبصل؛ وأعاد الرسول، فلم يلبث يعقوب أن مات.
وكان الحسن بن زيد العلوي يسمى يعقوب بن الليث السندان لثباته؛ وكان يعقوب قد افتتح الرخج، وقتل ملكهأن وأسلم أهلها على يده، وكانت مملكته واسعة الحدود، وكان اسم ملكها كتير، وكان يحمل على سرير من ذهب يحمله اثنا عشر رجلأن وابتنى على جبل عال بيتأن وسماه مكة، وكان يدعي الإلهية، فقتله يعقوب، وافتتح الخلجية وزابل وغير ذلك، ولم أعلم أي سنة كان ذلك حتى اذكره فيها.

وكان يعقوب عاقلأن حازماً: من عاشرته أربعين يوماً فلم تعرف أخلاقه، فلا تعرفها في أربعين سنة؛ وقد تقدم من سيرته ما يدل على عقله.
ولما مات قام بالأمر بعد أخوه عمروبن الليث، وكتب إلى الخليفة بطاعته، فولاه الموفق خراسان، وفارس، وأصبهان، وسجستان، والسند، وكرمان، والشرطة ببغداد، وأشهد بذلك، وسيره إليه مع الخلع.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة وثب القاسم بن مهاة بدلف بن عبد العزيز بن أبي دلف بأصبهان، فقتله، ووثب جماعة من أصحاب أبي دلف بالقاسم، فقتلوه وريسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز.
وفيها لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث، فأكرمه يعقوب، وأحسن إليه. فأمر الخليفة بقبض أمواله وعقاره.
وفيها قتلت الأعراب جعلان، المعروف بالعيار، بدممأن وكان خرج يسير قافلة فقتلوه، فوجه في طلبهم، فلم يلحقوا.
وفيها حبس الموفق سليمان بن وهب، وابنه عبيد اله، وعدة من أصحابهمأن وقبض أموالهم وضياعهم، خلا أحمد بن سليمان، ثم صالح سليمان وابنه عبيد الله على تسع مائة ألف دينار، وجعلا في موضع يصل إليهما من أرادوأن وعسكر موسى بن أتامش، وإسحاق بن كنداجيق، والفضل بن موسى بن بغأن وعبروا جسر بغداد، ومنعهم الموفق، فلم يرجعوأن ونزلوا صرصر، فاستكتب أبوأحمد الموفق صاعد بن مخلد، فمضى إلى أولئك القواد فردهم من صرصر فخلع عليهم.
وفيها خرج خمسة بطارقة من الروم إلى أذنة فقتلوا وأسروا، وكان أرجوز والي الثغور، فعزل عنهأن فأقام مرابطأن وأسروا نحواً من أربع مائة، وقتلوا نحواً من ألف وأربع مائة، وذلك في جمادى الأولى.
وفيها غلب أحمد بن عبد الله الخجستاني على نيسابور، وسار الحسين ابن طاهر بن عبد الله إلى مرو، وهوعامل أخيه محمد بن طاهر، وأخربت طوس.
وفيها استوزر أبوالصقر إسماعيل بن بلبل.
وفيها وثب جماعة من الأعراب، من بني أسد، على علي ين مسرور البلخي قبل وصوله إلى المغيثة بطريق مكة، وكان الموفق ولاه الطريق.
وفها بعث ملك الروم إلى أحمد بن طولون عبد الله بن رشيد بن كاوس وعدة أسرى، وأنفذ معهم عدة مصاحف منه هدية إليه، وحج بالناس هارون ابن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها كانت موافاة أبي المغيرة عيسى بن محمد المخزومي إلى مكة لصاحب الزنج.
وفيها توفي أبوبكر أحمد بن منصور الزنادي وعمره ثلاث وثمانون سنة؛ وإبراهيم بن هاني أبوإسحاق النيسابوري، وكان من الأبدال قد صحب أحمد بن حنبل؛ وعلي بن حرب بن محمد الطائي الموصلي ومولده سنة خمس وسبعين ومائة وقيل غير ذلك، وقد تقدم؛ وعلي بن موفق الزاهد.
وفيها قتل أبوالفضل العباس بن الفرج الرياشي، قتله الزنج بالبصرة، أخذ العلم عن أبي عبيدة والأصمعي.
حوادث سنة ست وستين ومائتين

ذكر أخبار الزنج مع أغرتمش
في هذه السنة ولي أغرتمش ما كان يتولاه تكين البخاري من أعمال الأهواز، فدخل تستر في رمضان، ومعه أبأن ومطر بن جامع، وقتل مطر ابن جامع جعفرويه غلام علي بن أبان، وجماعة معه كانوا مأسورين، وساروا إلى عسكر مكرم، وأتاهم الزنج هناك مع علي بن أبان، فاقتتلوأن فلما رأوا كثرة الزنج قطعوا الجسر وتحاجزوأن ورجع علي إلى الأهواز، وأقام أخوه الخليل بالمسرقان في جماعة كثيرة من الزنج.
وسار أغرتمش ومن معه نحوالخليل ليعبروا إليه من قنطرة أربك، فكتب إلى أخيه علي، فوافاه في النهر، وأخاف أصحابه الذين خلفهم بالأهواز، فارتحلوا إلى نهر السدرة، وتحارب علي وأغرتمش يومهم، ثم انصرف علي إلى الأهواز، فلم يجد أصحابه الذي خلفهم بالأهواز، فوجه من يردهم من نهر السدرة، فعسر عليهم ذلك، فتبعهم وأقام معهم، ورجع أغرتمش فنزل عسكر مكرم، واستعد علي لقتالهم.
وبلغ ذلك أغرتمش ومن معه من عسكر الخليفة، فساروا إليه، فكمن لهم علي وقدم الخليل إلى قتالهم، فاقتتلوأن فكان أول النهار لأصحاب الخليفة، ثم خرج عليهم الكمين، فانهزموا وأسر مطر بن جامع وعدة من القواد، فقتله علي بغلامه جعفرويه، وعاد إلى الأهواز، وأرسل رؤوس القتلى إلى الخبيث العلوي.
وكان علي وأغرتمش بعد ذلك في حروبهم على السواء، وصرف صاحب الزنج أكثر جنوده إلى علي بن أبان؛ فلما رأى ذلك أغرتمش وادعه، وجعل علي يغي على النواحي، فمن ذلك أنه أغار على قرية بيروذ فهبهأن ووجه الغنائم إلى صاحبه.
ذكر دخول الزنج رامهرمز

وفيها دخل علي بن أبان والزنج رامهرمز؛ وسبب ذلك أن محمد بن عبيد الله كان يخاف علي بن أبان لما في نفس علي منه، لما ذكرناه، فكتب إلى انكلاي بن العلوي وسأله أن يسأل أباه ليرفع يد علي عنه ويضمه إلى نفسه، فزاد ذلك غيظ علي منه، وكتب إلى الخبيث بالإيقاع بمحمد، ويجعل ذلك الطريق إلى مطالبته بالخراج، فأذن له، فكتب إلى محمد يطلب منه حمل الخراج، فمطله ودافعه، فسار إليه علي وهوبرامهرمز، فهرب محمد عنهأن ودخلها علي والزنج فاستباحهأن ولحق بأقصى معاقله، وانصرف علي غامناً.
وخاف محمد فكتب إليه يطلب المسالمة، فأجابه إلى ذلك على مال يؤديه إليه، فحمل إليه مائتي ألف درهم، فأنفذها إلى صاحب الزنج، وأمسك عن محمد بن عبيد الله وأعماله.
وقعة أكراد داربان والزنجوفيها كانت وقعة للزنج انهزموا فيهأن وكان سببها أن محمد بن عبيد الله كتب إلى علي بن أبان، بعد الصلح، يسأله المعونة على الأكراد الدارنان، على أن يجعل له ولأصحابه غنائمهم، فكتب علي إلى صاحبه يستأذنه، فكتب إليه أن وجه إليه جيشأن وأقم أنت، ولا تنفذ أحداً حتى تستوثق منه بالرهائن ولا يأمن غزوه والطلب ثاره. فكتب عل إلى محمد يطلب منه اليمين والرهائن، فبذل له اليمين، ومطله بالرهائن، فلحرص علي على الغنائم أنفذ إليه جيشأن فسير محمد معهم طائفة من أصحابه إلى الأكراد، فخرج إليهم الأكراد فقاتلوهم، ونشبت الحرب، فتخلى أصحاب محمد عن الزنج، فانهزموا وقتلت الأكراد منهم خلقاً كثيراً.
وكان محمد قد أعد لهم من يتعرضهم إذا انهزموأن فصادفوهم، وأوقعوا بهم، وسلبوهم، وأخذوا دوابهم، ورجعوا بأسوأ حال، فكتب علي إلى الخبيث بذلك فعنفه وقال: ضيعت أمري في ترك الرهائن؛ وكتب إلى محمد يتهدده، فخاف محمد وكتب يخضع ويذل، ورد بعض الدواب وقال: إنني كبست من كانت عندهم، وخلصت هذه منهم. فأظهر الخبيث الغضب عليه، فأرسل محمد إلى بهبود، ومحمد بن يحيى الكرماني، وكانا أقرب الناس إلى علي، فضمن لهما مالاً إن أصلحا له علياً وصاحبه، ففعلا ذلك، فأجابهما الخبيث إلى الرضى عن محمد على أن يخطب له على منابر بلاده، وأعلما محمداً ذلك، فأجابهما إلى كل ما طلبأن وجعل يراوغ في الدعاء له على المنابر.
ثم إن علياً استعد لمتوث، وسار إليهأن فلم يظفر بهأن فرجع، وعمل السلاليم والآلات التي يصعد بها إلى السور، واستعد لقصدهأن فعرف ذلك مسرور البلخي، وهويومئذ بكور الأهواز، فلما سار علي إليها سار إليه مسرور، فوافاه قبل المغرب وهونازل عليهأن فلما عاين الزنج أوائل خيل مسرور انهزموا أقبح هزيمة، وتركوا جميع ما كانوا أعدوه، وقتل منهم خلق كثير، وانصرف علي مهزومأن فلم يلبث إلا يسيراً حتى أتته الأخبار بإقبال الموفق، ولم يكن لعلي بعد متوث وقعة، حتى فتحت سوق الخميس وطهثا على الموفق، فكتب إليه صاحبه يأمره بالعود إليه، ويستحثه حثاً شديداً.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولى عمروبن الليث عبيد الله بن عبد اله بن طاهر خلافته على الشرطة ببغداد وسر من رأى في صفر، وخلع عليه الموفق، وعمروابن الليث.
وفيهأن في صفر، غلب اساتكين على الشرطة وهي الآن من أعمال سجستان، وعلى الري، وأخرج منهاخطلنخجور العامل عليهأن ثم مضى إلى قزوين وعليها أخو كيغلغ، فصالحه، ودخل اساتكين قزوين، ثم رجع إلى الري.
وفيها وردت سرية من سرايا الروم إلى تل يسهى، من ديار ربيعة، فأسرت نحواً من مائتين وخمسين إنسانأن ومثلت بالمسلمين، فنفر إليهم أهل الموصل ونصيين، فرجعت الروم.
وفيها مات أبوالساج بجند يسابور، منصرفاً من عسكر عمروبن الليث إلى بغداد؛ ومات قبله سليمان بن عبد اله بن طاهر، وولى عمروبن الليث فيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف أصبهان؛ وولى محمد ابن أبي الساج طريق مكة والحرمين.
وفيها فارق إسحاق بن كنداج أحمد بن موسى بن بغأن وكان سبب ذلك أن أحمد لما سار إلى الجزيرة، وولي موسى بن اتامش ديار ربيعة، أنكر ذلك إسحاق بن كنداج، وفارق عسكره، وسار إلى بلد، فأوقع بالأكراد اليعقوبية فهزمهم، وأخذ أموالهم، ثم لقي ابن مساور الخارجي فقتله، وسار إلى الموصل فقاطع أهلها على مال قد أعدوه.

وكان قائد كبير بمعلثايا، اسمه علي بن داود، وهوالمخاطب له عن أهل الموصل، والمدافع، فسار ابن كنداج إليه، فلما بلغه الخبر فارق معلثايأن وعبر دجلة، ومعه حمدان بن حمدون، إلى إسحاق بن أيوب بن أحمد التغلبي العدوي، فاجتمعوا كلهم فبلغت عدتهم نحوخمسة عشر ألفأن وسمع ابن كنداج باجتماعهم، فعبر إلى بلد، وعبر دجلة إليه وهوفي ثلاثة آلاف، وسار إلى نهر أيوب، فالتقوا بكراثا وهي التي تعرف اليوم بتل موسى وتصافوا للحرب، فأرسل مقدم ميسرة ابن أيوب إلى ابن كنداج يقول له: إنني في الميسرة، فاحمل علي لأنهزم؛ ففعل ذلك، فانهزمت ميسرة ابن أيوب، وتبعها الباقون، فسار حمدان بن حمدون، وعلي بن داود إلى نيسابور وأخذ ابن أيوب نحونصيبين، فاتبعه ابن كنداج، فسار ابن أيوب عن نصيبين إلى آمد، واستولى ابن كنداج على نصيبين وديار ربيعة، واستجار ابن أيوب بعيسى بن الشيخ الشيباني، وهوبآمد، فأنجده، وطلب النجدة من أبي المعز بن موسى بن زرارة، وهوبأزرن، فأنجده أيضأن وعاد ابن كنداج إلى الموصل، ووصل إليه من الخليفة المعتمد عهد بولاية الموصل، فعاد إليهأن فأرسل إليه ابن الشيخ وابن زرارة وغيرهما بذلوا له مائتي ألف دينار ليقرهم على أعمالهم، فلم يجبهم، فاجتمعوا على حربه، فلما رأى ذلك أجابهم إلى ما طلبوا وعاد عنهم وقصدوا بلادهم.
وفيها أمر محمد بن عبد الرحمن بإنشاء مراكب بنهر قرطبة، وحملها إلى البحر المحيط، وكان سبب عملها أنه قيل له إن جليقية ليس لها مانع من جهة البحر المحيط، وإن ملكها من هناك سهل، فأمر بعمل المراكب، فلما فرغت، وكملت برجالها وعدتها، سيرها إلى البحر المحيط، فلما دخلته المراكب تقطعت، ولم يجتمع منها مركبان، ولم يرجع منها إلا اليسير.
وفيها التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم عند صقلية، فجرى بينهم قتال شديد، فظفر الروم بالمسلمين، وأخذوا مراكبهم، وانهزم من سلم منهم إلى مدينة بلرم بصقلية.
وفيها مكان بإفريقية غلاء شديد وقحط عظيم، كادت الأقوات تعدم.
وفيها قتل أهل حمص عاملهم عيسى الكرخي.
وفيها أسرى لؤلؤ غلام أحمد بن طولون من رابية بني تميم إلى موسى بن أتامش، وهوبرأس عين، فأخذه أسيرأن وسيره إلى الرقة، ثم لقي لؤلؤ أحمد بن موسى بن أتامش ومن معه من الأعراب، فانهزم لؤلؤ، ورجع الأعراب إلى عسكر أحمد لينهبوه، فطف عليهم لؤلؤ وأصحابه، فانهزموأن فبلغت هزيمتهم قرقيسيأن ثم ساروا إلى بغداد وسامرأن وقد ذكرت فيما تقدم أن الذي أسر موسى غير لؤلؤ على ما ذكره مؤرخومصر.
وفيها كانت بين أحمد بن عبد العزيز وبكتمر رقعة، فانهزم بكتمر، وسار إلى بغداد.
وفيها أوقع الخجستاني بالحسن بن زيد بجرجان، وهوغار، فلحق بآمل، وغلب الخجستاني على جرجان وأطراف طبرستان، وكان الحسن لما سار عن طبرستان إلى جرجان استخلف بسارية الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله ابن حسين الأصغر العقيقي، فلما انهزم الحسن ين زيد أظهر العقيقي بسارية أنه قتل، ودعا إلى البيعة لنفسه، فبايعه قوم، ووافاه الحسن بن زيد، فحاربه، ثم ظفر به فقتله.
وفيها كانت وقعة بين الخجستاني وعمروبن الليث انهزم فيها عمرو، ودخل الخجستاني نيسابور، وأخرج منها عامل عمروومن كان يميل إليه.
وفيها كانت فتنة بالمدينة ونواحيها بين العلويين والجعفريين.
وفيها وثب الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوهأن وصار بعضها إلى صاحب الزنج، وأصاب الحجاج فيها شدة شديدة.
وفيها خرجت الروم على ديار ربيعة، فاستنفر الأنس، فنفروا في برد شديد لا يمكن فيه دخول الدرب.
وفيها غزت سيما خليفة أحمد بن طولون على الثغور الشامية في ثلاثمائة رجل من أهل طرسوس، فخرج عليهم نحومن أربعة آلاف من بلاد هرقلة، فاقتتلوا قتالاً شديدأن وقتل المسلمون خلقاً كثيراً من العدو، وأصيب من المسلمين جماعة.
وفيها كانت بمدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، حرب بين العلويين والجعفريين، وغلا السعر بها حتى تعذرت الأقوات، وعم الغلاء سائر البلاد من الحجاز، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، وغير ذلك، إلا أنه لم يبلغ الشدة التي بالمدينة.

وفيها كان الناس في البلاد التي تحت حكم الخليفة جميعها في شدة عظيمة بتغلب القواد وأمراء الأجناد على الأمر وقلة المراقبة والأمن من إنكار ما يأتونه ويفعلونه، لاشتغال الموفق بقتال صاحب الزنج، ولعجز الخليفة المعتمد، واشتغاله بغير ذلك.
وفيها اشتد الحر في تشرين الثاني، ثم اشتد فيه البرد حتى جمد الماء.
وفيها قدم محمد بن أبي الساج مكة، فحاربه المخزومي فهزمه محمد، واستباح ماله، وذلك يوم التروية.
وفيها سار كيغلغ إلى الجبل وبكتمر راجعاً إلى الدينور. وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن شجاع أبوبكر الثلجي، وكان من أصحاب الحسن ابن زياد اللؤلؤي صاحب أبي حنيفة، الثلجي بالثاء المعجمة بثلاث والجيم.
وفيها توفي صالح بن أحمد بن حنبل، وكان مولده سنة ثلاث وثلاثين ومائتين.
حوادث سنة سبع وستين ومائتين

ذكر أخبار الزنج
وفيها غلب أبوالعباس بن الموفق على عامة ما كان بيد سليمان بن جامع والزنج من أعمال دجلة، وأبوالعباس هذا هوالذي صار خليفة بعد المعتمد، فلقي المعتضد بالله.
وكان سبب مسيره أن الزنج لما دخلوا واسط، وعملوا بأهلها ما ذكرنأن بلغ ذلك الموفق، فأمر ابنه بتعجيل المسير بين يديه إليهم، فسار في ربيع الآخر سنة ست وستين ومائتين، وشيعه أبوه، وسير معه عشرة آلاف من الرجالة والخيالة في العدة الكاملة، وأخذ معه الشذوات، والسميريات، والمعابر للرجالة، فسار حتى وافى إلى دير العاقول.
وكان على مقدمته في الشذوات نصير، المعروف بأبي حمزة، فكتب إليه نصير يخبره أن سليمان بن جامع قد وافى بخيلة ورجله في شذوات وسميريات، والحياتي على مقدمته، حتى نزل الجزيرة بحضرة بردرويا، وأن سليمان بن موسى الشعراني قد وافى نهر أبا بخيله ورجله في سميريات، فركب أبوالعباس حتى وافى الصلح، ووجه طلائعه ليعرف أخبارهم، فعادوا وأعلموه بموافاة الزنج وجيشهم، وأن أولهم بالصلح، وآخرهم ببستان موسى بن بغأن أسفل واسط.
وكان سبب جمع الزنج وحشدهم أنهم قالوا: إن أبا العباس فتى حدث، غر بالحرب، والرأي لنا أن نرميه بحدنا كله، ونجبهه في أول مرة نلقاه في إزالته، فلعل ذلك يروعه فينصرف عنا؛ فجمعوأن وحشدوأن فلما علم أبوالعباس قربهم عدل عن سنن الطريق، واعترض في مسيره، ولقي أصحابه أوائل الزنج، فتطاردوا لهم، حتى طمعوا فيهم، واغتروا وابتعوهم، وجعلوا يقولون: اطلبوا أميراً للحرب، فإن أميركم قد اشتغل بالصيد.
فلما قربوا منه خرج عليهم فيمن معه من الخيل والرجل، وصاح بنصير: إلى أين تتأخر عن هذه الأكلب! فرجع نصير، وركب أبوالعباس سميرية وحف به أصحابه من جميع الجهات، فانهزمت الزنج، وكثر القتل فيهم، وتبعوهم إلى أن وصلوا قرية عبد الله، وهي على ستة فراسخ من الموضع الذي لقوهم به، وأخذوا منهم خمس شذوات، وعدة سميريات، وأسر جماعة، واستأمن جماعة، فكان هذا أول الفتح، فسار سليمان بن جامع إلى نهر الأمير، وسار سليمان بن موسى الشعراني إلى سوق الخميس، وانحدر أبوالعباس فأقام بالعمر وهوعلى فرسخ من واسط، وأصلح شذواته، وجعل يراوح القوم القتال ويغاديهم.
ثم إن سليمان استعد وحشد، وجعل أصحابه في ثلاثة أوجه، قالوا: إنه حدث، غر يغرر بنفسه، وكمنوا كناء، فبلغ الخبر أبا العباس، فحذروا وأقبلوا وقد كمنوا الكمناء ليغتر بأتباعهم فيخرج الكمين عليه، فمنع أبوالعباس أصحابه أن يتبعوهم، فلما علموا أن كيدهم لم يتم خرج سليمان في الشذوات والسميريات، فأمر أبوالعباس نصيراً أن يبرز إليهم، وركب هوشذاة من شذواته سماها الغزال، ومعه جماعة من خاصته، وأمر الخيالة بالمسير بإزائه على شاطئ النهر إلى أن ينقطع، فعبروا دوابهم، ونشبت الحرب بين الفريقين، فوقعت الهزيمة على الزنج، وغمن أبوالعباس منهم أربع عشرة شذاة، وأفلت سليمان والحياتي بعد أن أشفيا على الهلاك، وبلغوا طهثا وأسلموا ما كان معهم.
ورجع أبوالعباس إلى معسكره، وأمر بإصلاح ما أخذ منهم من الشذوات والسميريات، وأقام الزنج عشرين يوماً لا يظهر منهم أحد، وجعلوا على طريق الخيل آبارأن وجعلوا فيها سفافيد حديد، وجعلوا على رؤوسهم البواري والتراب ليسقط فيها المجتازون، فاتفق أنه سقط فيها رجل من الفراغنة، ففطنوا لهأن وتركوا ذلك الطريق.

واستمد سليمان صاحب الزنج، فأمده بأربعين سميرية بآلاتها ومقاتليهأن فعادوا للتعرض للحرب، فلم يكونوا يثبتون لأبي العباس؛ ثم سير إليهم عدة سميريات، فأخذها الزنج، فبلغه الخبر وهويتغذى، فركب في سميرية، ولم ينتظر أصحابه، وتبعه منهم من خف، فأدرك الزنج، فانهزموأن وألقوا أنفسهم في الماء، فاستنقذ سميرياته ومن كان فيهأن وأخذ منهم إحدى وثلاثين سميرية؛ ورمى أبوالعباس، يومئذ، عن قوس حتى دميت إبهامه؛ فلما رجع أمر لمن معه بالخلع، وأمر بإصلاح السميريات المأخوذة من الزنج.
ثم إن أبا العباس رأى أن يتوغل في مازروان حتى يصير إلى الحجاجية ونهر الأمير، ويعرف ما هناك، فقدم نصيراً في أول السميريات وركب أبوالعباس في سميرية ومعه محمد بن شعيب، ودخل مازوران وهويظن أن نصيراً أمامه، فلم يقف له على خبر، وكان قد سار على غير طريق أبي العباس، وخرج من مع أبي العباس من الملاحين إلى غمن رأوها ليأخذوهأن فبقي هوومحمد بن شعيب، فأتاهما جمع من الزنج من جانبي النهر، فقاتلهم أبون العباس بالنشاب، ووافاه زيرك في باقي الشذوات، فسلم أبوالعباس وعاد إلى عسكره.
ورجع نصير وجمع سليمان بن جامع أصحابه بطهشا وتحصن الشعراني وأصحابه بسوق الخميس، وجعلوا يحملون الغلات إليهأن وكذلك اجتمع بالصينية جمع كثير، فوجه أبوالعباس جماعة من قواده على الخيل إلى ناحية الصينية، وأمرهم بالمسير في البر، وإذا عرض لهم نهر عبروه، وركب هوفي الشذوات والسميريات، فلما أبصرت الزنج الخيل خافوأن ولجأوا إلى الماء والسفن، فلم يلبثوا أن وافتهم الشذا مع أبي العباس، فلم يجدوا ملجأن فاستسلموأن فقتل منهم فريق، وأسر فريق، وألقى نفسه في الماء فريق، وأخذ أصحاب أبي العباس سفنهم وهي مملوءة أرزأن وأخذ الصينية، وأزاح الزنج عنهأن فانحازوا إلى طهثا وسوق الخميس.
وكان قد رأى أبوالعباس كركيأن فرماه بسهم، فسقط في عسكر الزنج، فعرف الزنج السهم فزاد ذلك في خوفهم، ورجع أبوالعباس إلى عسكره وقد فتح الصينية.
وبلغه أن جيشاً عظيماً للزنج مع ثابت بن أبي دلف ولؤلؤ الزنجيين، فسار إليهم، وأوقع بهم وقعة عظيمة وقت السحر، فقتل منهم خلقاً كثيرأن منهم لؤلؤ، واسر ثابتأن فمن عليه، وجعله مع بعض قواده، واستنقذ من النساء خلقاً كثيرأن فأمر بإطلاقهن وردهن إلى أهلهن، وأخذ كل ما كان الزنج جمعوه، وأمر أصحابه أن يستريحوا لمسير إلى سوق الخميس، وأمر نصيراً بتعبئة أصحابه للمسير، فقال له: إن نهر سوق الخميس ضيق، فأقم أنت ونسير نحن؛ فأبى عليه، فقال له محمد بن شعيب: إن كنت لا بد فاعلاً فلا تكثر من الشذأن ولا من الرجال، فإن النهر ضيق.
فسار إليه، ونصير بين يديه، إلى فم نهر مساور، فوقف أبوالعباس، وتقدمه نصير في خمس عشرة شذاة في نهر براطق، وهوالذي يؤدي إلى مدينة الشعراني التي سماها المنيعة في سوق الخميس، فلما غاب عنه نصير خرج جماعة كبيرة في البر على أبي العباس، فمنعوه من الوصول إلى المدينة، وقاتلوه قتالاً شديداً من أول النهار إلى الظهر، وخفي عليه خبر نصير، وجعل الزنج يقولون: قد قتلنا نصيراً. واغتم أبوالعباس لذلك، وأمر محمد بن شعيب يتعرف خبره، فسار، فرآه عند عسكر الزنج وقد أحرقه وأضرم النار في مدينتهم، وهويقاتلهم قتالاً شديدأن فعاد إلى أبي العباس فاخبره، فسر بذلك.
وأسر نصير من الزنج جماعة كثيرة، ورجع حتى وافى أبا العباس فأخبره، ووقف أبوالعباس يقاتلهم، فرجعوا عنه، وكمن بعض شذواته، وأمر أن يظهر واحدة منهأن فطمعوا فيها وتبعوها حتى أدركوها فعلقوا بسكانهأن فخرجت عليهم السفن المكمنة وفيها أبوالعباس، فانهزم الزنج، وغمن أبوالعباس منهم ست سميريات، وانهزموا لا يلوون على شيء من الخوف، ورجع إلى عسكره سالمأن وخلع على الملاحين وأحسن إليهم.
ذكر وصول الموفق إلى قتال الزنج

وفتح المنيعة
وفيها في صفر سار الموفق عن بغداد إلى واسط لحرب الزنج؛ وكان سبب تأخره عن ابنه أبي العباس هذه المدة انه يجمع ويحشد الفرسان والرجالة، ويستكثر من العدة التي يقوى بها على حرب الزنج، ويسد الجهات التي يخاف فيها لئلا يبقى له ما يشغل قلبه.

إلا أن الخبيث رئيس الزنج قد أرسل إلى علي بن أبان المهلبي يأمره بالاجتماع مع سليمان بن جامع على حرب أبي العباس، فخاف وهناً يتطرق إلى ابنه أبي العباس، فسار عن بغداد في صفر، فوصل إلى واسط في ربيع الأول، فلقيه ابنه، واخبره بحال جنده وقواده، فخلع عليه وعليهم، ورجع أبوالعباس إلى معسكره بالعمر، ثم نزل الموفق على نهر شداد بإزاء قرية عبد الله، وأمر ابنه أن يسير لما معه من آلات الحرب إلى فوهة نهر مساور، فرحل في نخبة أصحابه، ورحل الموفق بعده، فنزل فوهة نهر مساور فأقام يومين.
ثم رحل إلى المدينة التي سماها صاحب الزنج المنيعة من سوق الخميس يوم الثلاثاء لثمان خلون من ربيع الآخر من هذه السنة، وسلك بالسفن في نهر مساور، وسارت الخيل بإزائه شرقي نهر مساور، حتى جاوزوا براطق الذي يوصل إلى المنيعة، وأمر بتعبير الخيل، وتصييرها من الجانبين، وأمر ابنه العباس بالتقدم بالشذا بعامة الجيش، ففعل، فلقيه الزنج، فحاربوه حرباً شديدة، ووافاهم أبوأحمد الموفق والخيل من جانبي النهر، فلما رأوا ذلك انهزموا وتفرقوأن وعلا أصحاب أبي العباس السور، ووضعوا السيوف فيمن لقيهم، ودخلوا المدينة فقتلوا فيها خلقاً كثيرأن وأسروا عالماً عظيمأن وغمنوا ما كان فيهأن وهرب الشعراني ومن معه، وتبعه أصحاب الموفق إلى البطائح، فغرق منهم خلق كثير، ولجأ الباقون إلى الآجام.
ورجع أبوأحمد إلى معسكره من يومه، وقد استنقذ من المسلمات زهاء خمسة آلاف امرأة سوى من ظفر به من الزنجيات، وأمر أبوأحمد بحفظ النساء وحملهم إلى واسط ليدفعن إلى أهلهن، ثم بكر إلى المدينة، فأمر الناس بأخذ ما فيهأن فأخذ جميعه، وأمر بهدم سورهأن وطم خندقهأن وإحراق ما بقي بها من السفن، وأخذوا من الطعام، والشعير، والأرز، وغير ذلك، ما لأحد عليه، فأمر ببيع ذلك وصرفه إلى الجند.
ولما انهزم سليمان ولحق بالمزار، وكتب إلى الخائن، صاحب الزنج، بذلك، فورد الكتاب عليه وهويتحدث، فانحل بطنه، فقام إلى الخلاء دفعات، وكتب إلى سليمان بن جامع يحذره مثل الذي نزل بالشعراني، ويأمره بالتيقظ.
وأقام الموفق بنهر مساور يومين يتعرف أخبار الشعراني وسليمان ابن جامع، فأتاه من أخبره أن سليمان بن جامع بالحوانيت فسار حتى وافى الصينينة، وأمر ابنه العباس بالتقدم بالشذا والسميريات إلى الجوانيت مختفيأن فسار أبوالعباس إليهأن فلم ير سليمان بهأن ورأى هناك جميعاً من الزنج مع قائدين لهم خلفهم سليمان بن جامع هناك لحفظ غلات كثيرة لهم فيهأن فحاربهم أبوالعباس، ودامت الحرب إلى أن حجز بينهم الليل، واستأمن إلى أبي العباس رجل، فسأله عن سليمان بن جامع، وأخبره أنه مقيم بطهثأن بمدينته التي سماها المنصورة، فعاد أبوالعباس إلى أبيه بالخبر، فأمره بالمسير إليه، فسار حتى نزل بردودأن فأقام بها لإصلاح ما يحتاج إليه، واستكثر من الآلات اليت يسد بها الأنهار، ويصلح بها الطرق لخيل، وخلف ببردودا بفراج التركي.
ذكر استيلاء الموفق على طهثالما فرغ الموفق من الذي يحتاج إليه سار عن بردودا إلى كهثا لعشر بقين من ربيع الآخر سنة سبع وستين ومائتين، وكان مسيره على الظهر في خيله، وانحدرت السفن والآلات، فنزل بقرية الجوزية، وعقد جسرأن ثم غدا فعبر خيله عليه، ثم عبر بعد ذلك، فسار حتى نزل معسكراً على ميلين من طهثأن فأقام هنالك يومين.
ومطرت السماء مطراً شديدأن فشغل عن القتال، ثم ركب لينظر موضعاً للحرب، فانتهى إلى قريب من سور مدينة سليمان بطهثأن وهي التي سماها المنصورة، فتلقاه خلق كثير، وخرج عليهم كمناء من مواضع شتى، واشتدت الحرب، وترجل جماعة من الفرسان، وقاتلوا حتى خرجوا عن المضيق الذي كانوا فيه، واسروا من غلمان الموفق جماعة.
ورمي أبوالعباس بن الموفق أحمد بن هندي الحيامي بسهم خالط دماغه، فسقط وحمل إلى العلوي، صاحب الزنج، فلم يلبث أن مات، فحضره الخبيث، وصلى عليه، وعظمت لديه المصيبة بموته، إذ كان أعظم أصحابه غناء عنه.

وانصر ف الموفق إلى عسكره وقت المغرب وأمر أصحابه بالتحاس ليلتهم والتأهب للحرب، فلما أصبحوا وذلك يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر، عبأ الموفق أصحابه، وجعلهم كتائب يتلوبعضهم بعضأن فرساناً ورجالة، وأمر بالشذا والسميريات أن يسار بها إلى النهر الذي يشق مدينة سليمان، وهوالنهر المعروف بنهر المنذر، ورتب أصحابه في المواضع التي يخاف منهأن ثم نزل فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله تعالى في النصر، ثم لبس سلاحه، وأمر ابنه أب العباس أن يتقدم إلى السور، فتقدم إليه، فرأى خندقأن فأحجم الناس عنه، فحرضهم قوادهم وترجلوا معهم، فاقتحموه وعبروه، وانتهوا إلى الزنج وهم على سورهم.
فلما رأى الزنج تسرعهم إليه ولوا منهزمين، واتبعهم أصحاب أبي العباس، فدخلوا المدينة، وكان الزنج قد حصنوها بخمسة خنادق، وجعلوا أمام كل خندق سورأن فجعلوا يقفون عند كل سور وخندق، فكشفهم أصحاب أبي العباس، ودخلت الشذا والسميريات المدينة من النهر، فجعلت تغرق كل ما مرت له به من سميرية وشذاة، وقتلوا من بجانبي النهر وأسروا حتى أجلوهم عن المدينة وعما اتصل بهأن وكان مقدار العمارة فيها فرسخاً.
وحوى الموفق ذلك كله، وأفلت سليمان بن جامع ونفر من أصحابه، وكثر القتل فيهم والأسر، واستنقذ أبوأحمد من نساء أهل واسط، والكوفة، والقرى، وغيرهأن وصبيانهم أكثر من عشرين ألفاً، فأمر أبوأحمد بحملهم إلى واسط، ودفعهم إلى أهليهم، وأخذ ما كان فيها من الذخائر والأموال، وأمر بصرفه إلى الأجناد، وأسر من نساء سليمان وأولاده عدة، وتخلص من كان أخذ من أصحاب الموفق، ونجا جمع كثير إلى الآجام فأمر أصحابه برجل منهم جعلأن فكان إذا أتي بالواحد منهم عفا عنه وضمه إلى قواده وغلمانه، لما كان دبره من استمالتهم.
وأرسل في طلب سليمان بن جامع، حتى بلغوا دجلة العوراء، فلم يظفروا به، وأمر زيرك بالمقام بطهثا ليتراجع إلى تلك الناحية أهلها ويأمنوا.
ذكر مسير الموفق إلى الأهواز وإجلاء الزنج عنهافلما فرغ أبوأحمد الموفق من المنصورة رحل نحوالأهواز لإصلاحها وإجلاء الزنج عنهأن فأمر ابنه العباس أن يتقدمه، فأمر بإصلاح الطريق للجيوش، واستخلف على من ترك من عسكره بواسطة ابنه هارون، ولحقه زيرك فأخبره بعود أهل طهثا إليهأن وأمن الناس، فأمره الموفق بالانحدار في الشذا والسميريات مع نصير، وتتبع المنهزمين، والإيقاع بهم وبمن ظفروا به من الزنج، حتى ينتهي إلى مدينة الخبيث بنهر أبي الخصيب، وسار.
وارتحل الموفق مستهل جمادى الآخرة من واسط حتى أتى السوس، وأمر مسروراً بالقدوم عليه، وهوعامله هناك، فأتاه.
وكان الخبيث لما بلغه ما عمل الموفق بسليمان بن جامع والزنج خاف أن يأتيه وهوعلى حال تفرق أصحابه عنه، وكتب إلى علي بن أبان بالقدوم إليه، وكان بالأهواز في ثلاثين ألفأن فترك جميع ما كان عنده من طعام ودواب وأغنام وغير ذلك، واستخلف عليه محمد بن يحيى الكرنبائي، فلم يقم، وابتع علياً.
وكتب صابح الزنج أيضاً إلى بهبود بن عبد الوهاب، وهوبالفيدم والباسيان، وما اتصل بهمأن يأمره بالقدوم عليه، فترك ما كان عنده من الذخائر وسار نحوه، فحوى ذلك جميعه الموفق، وقوي به على حرب الخبيث.
ولما سار علي بن أبان عن الأهواز تخلف بها جمع من أصحابه، زهاء ألف رجل، فأرسلوا إلى الموفق يطلبون الأمان فأمنهم، فقدموا عليه، فأجرى عليهم الأرزاق، ثم رحل عن السوس إلى جند يسابور، وتستر ، وجبى الأموال، ووجه إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وكان خائفاً منه، فأمنه وعفا عنه، فطلب منه الأموال والعساكر، فحضر عنده فأحسن إليه.
ثم رحل إلى عسكر مكرم ووافى الأهواز، ثم رحل عنها إلى نهر المبارك من فرات البصرة، وكتب إلى ابنه هارون ليوافيه بجميع الجيش إلى نهر المبارك، فلقيه الجيش بالمبارك منتصف رجب.

وكان زيرك ونصيراً لما خلفهما الموفق ليتتبعا الزنج انحدرا حتى وافيا الأبلة، فاستأمن إليهما رجل أخبرهما أن الخبيث قد أنفذ إليهما عدداً كثيراً في الشذا والسميريات إلى دجلة ليمنع عنها من يريدهأن فإنهم يريدون عسكر نصير، وكان عسكره بنهر المرأة، فرجع نصير إلى عسكره من الأبلة لما بلغه ذك، وسار زيرك من طريق آخر، لأنه قدر أن الزنج يأتون عسكر نصير من ذلك الوجه، فكان ذلك، فلقيهم في طريقهم، فظفر بهم، وانهزموا منه، وكانوا قد جعلوا كمينأن فدل زيرك عليه، فتوغل حتى أتاه، فقتل من الكمناء جماعة واسر جماعة.
وكان ممن ظفر به مقدم الزنج، وهوأبوعيسى محمد بن إبراهيم البصري، وهومن أكابر قوادهم، وأخذ منهم ما يزيد على ثلاثين سميرية، فجزع لذلك جميع الزنج، فاستأمن إلى نصير منهم زهاء ألفي رجل، فكتب بذلك إلى الموفق، فأمره بقبولهم والإقبال إليه بالنهر المبارك، فوافاه هناك.
وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسير إلى محاربة العلوي بنهر أبي الخصيب، فسار إليه، فحاربه من بكرة إلى الظهر فاستأمن إليه قائد من قواد العلوي ومعه جماعة، فكسر ذلك الخبيث، وعاد أبوالعباس بالظفر، وكتب الموفق إلى العلوي كتاباً يدعوه إلى التوبة والإنابة إلى الله تعالى مما ركب من سفك الدماء، وانتهاك المحارم، وإخراب البلدان، واستحلال الفروج والأموال، وادعاء النبوة والرسالة، ويبذل له الأمان، فوصل الكتاب إليه، فقرأه، ولم يكتب جوابه.
ذكر محاصرة مدينة صاحب الزنجلما أنفذ الموفق الكتاب إلى العلوي، ولم يرد جوابه، عرض عسكره، وأصلح آلاته، ورتب قواده، ثم سار هووابنه العباس في العشرين من رجب إلى مدينة الخبيث التي سماها المختارة، وأشرف عليهأن وتأملها ورأى حصانتها بالأسوار والخنادق، وغور الطريق إليهأن وما أعد من المجانيق والعرادات والقسي وسائر الآلات على سورهأن مما لم ير مثله لمن تقدم من منازعي السلطان، ورأى من كثرة عدد المقاتلة ما استعظمه.
فلما عاين الزنج أصحاب الموفق ارتفعت أصواتهم حتى ارتجت الأرض، فأمر الموفق ابنه بالتقدم إلى سور المدينة والرمي لمن عليه بالسهام، فتقدم حتى ألصق شذواته بمسناة قصر الخبيث، فكثر الزنج وأصحابهم على أبي العباس ومن معه، وتتابعت سهامهم وحجارة مجانيقهم ومقاليعهم، ورمى عوامهم بالحجارة عن أيديهم، حتى ما يقع الطرف إلا على سهم أوحجر.
وثبت أبوالعباس، فرأى العلوي من صبره وثبات أصحابه ما لم ير مثله من أحد حاربهم، ثم أمرهم الموفق بالرجوع ففعلوأن واستأمن إلى الموفق مقاتلة في سميريتين، فأمنهم، فخلع على من فيهما من المقاتلة والملاحين على أقدارهم ووصلهم وأمر بإدنائهم إلى موضع يراهم فيه نظراؤهم، وكان ذلك من أنجع المكايد، فلما رآهم الباقون رغبوا في الأمان، وتنافسوا فيه، وابتدروا إليه، فصار إلى الموفق عدد كثير ذلك اليوم من أصحاب السميريات، فعمهم بالخلع والصلات.
فلما رأى صاحب الزنج ذلك أمر برد أصحاب السميريات إلى نهر أبي الخصيب، ووكل بفوهة النهر من يمنعهم من الخروج، وأمر بهبود وهومن أشرس قواده، أن يخرج في الشذوات، فخرج وبرز إليه أبوالعباس في شذواته، وقاتله، واشتدت الحرب، فانهزم بهبود إلى فناء قصر الخبيث، وأصابته طعنتان، وجرح بالسهام، وأوهنت أعضاؤه بالحجارة، فأولجوه نهر أبي الخصيب وقد أشفى على الموت، فقتل ممن كان معه قائد ذوبأس يقال له عميرة، وظفر أبوالعباس بشذاة فقتل أهلهأن وهوومن معه سالمين، فاستأمن إلى أبي العباس أهل شذاة منهم، فأمنهم، وأحسن إليهم، وخلع عليهم.
ورجع الموفق ومن معه إلى عسكره بالنهر المبارك، واستأمن إليه عند منصرفه خلق كثير، فأمنهم، وخلع عليهم، ووصلهم، وأثبت أسماءهم مع أبي العباس، وأقام في عسكره يومين، ثم نقل عسكره لست بقين من رجب إلى نهر جطى فنزله، وأقام به إلى منتصف شعبان لم يقاتل.

ثم ركب منتصف شعبان ف يالخيل والرجال وأعد الشذا والسميريات، وكان من معه من الجند والمتطوعة زهاء خمسين ألفأن وكان من مع الخبيث أكثر من ثلاثمائة ألف إنسان، كلهم ممن يقاتل بسيف، أورمح، أوقوس، أومقلاع، أومنجنيق، وأضعفهم رماة الحجارة من أيديهم، وهم النظارة، والنساء تشركهم في ذلك، فأقام أبوأحمد ذلك اليوم، ونودي بالأمان للناس كافة إلا الخبيث، وكتب الأمان في رقاع، ورماها في السهام، ووعد فيها الإحسان، فمالت قلوب أصحاب الخبيث، واستأمن ذلك اليوم خلق كثير، فخلع عليهم ووصلهم، ولم يكن ذلك اليوم حرب.
ثم رحل من نهر جطى من الغد، فعسكر قرب مدينة الخبيث، ورتب قواده وأجناده، وعين لكل طائفة موضعاً يحافظون عليه ويضبطونه، وكتب الموفق إلى البلاد في عمل السميريات، والشذوات، والزواريق، والإكثار منها ليضبط بها الأنهار، ليقطع الميرة عن الخبيث، وأسس في منزلته مدينة سماها الموفقية، وكتب إلى عماله في النواحي بحمل الأموال والميرة في البر والبحر إلى مدينته، وأمرهم بإنفاذ من يصلح للإثبات في الديوان، وأقام ينتظر ذلك شهرأن فوردت عليه الميرة متتابعة، وجهز التجار صنوف التجارات إلى الموفقية، واتخذت فيها الأسواق، ووردتها مراكب البحر، وبنى الموفق بها المسجد الجامع، وأمر الناس بالصلاة فيه، فجمعت هذه المدينة من المرافق، وسيق إليها من صنوف الأشياء ما لم يكن في مصر من الأمصار القديمة، وحملت الأموال، وأدرت الأرزاق.
وعبرت طائفة من الزنج، فنهبوا أطراف عسكر نصير، وأوقعوا به، فأمر الموفق نصيراً بجمع عسكره وضبطهم، وأمر الموفق ابنه أبا العباس بالمسر إلى طائفة من الزنج كانوا خارج المدينة، فقاتلهم، فقتل منهم خلقاً كثيرأن وغمن ما كان معهم، فصار إليه طائفة منهم في الأمان، فأمنهم، وخلع عليهم ووصلهم، وأقام أبوأحمد يكايد الخبيث ببذل الأموال لمن صار إليه، ومحاصرة الباقين، والتضييق عليهم.
وكانت قافلة قد أتت من الأهواز، وأسرى إليها بهبود في سميريات فأخذهأن وعظم ذلك على الموفق، وغرم لأهلها ما أخذ منهم، وأمر بترتيب الشذوات على مخارج الأنهار، وقلد ابنه أبا العباس الشذأن وحفظ الأنهار بها من البحر إلى المكان الذي هم به.
وفي رمضان عبر طائفة من أصحاب الخبيث يريدون الإيقاع بنصير، فنذر بهم الناس، فخرجوا إليهم فردوهم خائبين، وظفروا بصندل الزنجي، وكان يكشف رؤوس المسلمات، ويقلبهن تقليب الإماء، فلما أتي به أمر الموفق أن يرمي بالسهام ثم قتله.
واستأمن إلى الموفق من الزنج خلق كثير، فبلغت عدة من استأمن إليه في آخر رمضان خمسين ألفاً.
وفي شوال انتخب صاحب الزنج من عسكر ه خمسة آلاف من شجعانهم وقوادهم، وأمر علي بن أبان المهلبي بالعبور لكبس عسكر الموفق، فكان فيهم أكثر من مائتي قائد، فعبروا ليلأن واختفوا في آخر النخل، وأمرهم، إذا ظهر أصحابهم، وقاتلوا الموفق من بين يديه، ظهروأن وحملوا على عسكره وهم غارون، مشاغيل بحرب من أمامهم، فاستأمن منهم إنسان من الملاحين، فاخبر الموفق، فسير ابنه أبا العباس لقتالهم وضبط الطرق التي يسلكونهأن فقاتلوا قتالاً شديدأن وأسر أكثرهم، وغرق منهم خلق كثير، وقتل بعضهم، ونجا بعضهم، فأمر أبوالعباس أن يحمل الأسرى والرؤوس والسميريات ويعبر بهم على مدينة الخبيث، ففعلوا ذلك.
وبلغ الموفق أن الخبيث قال لأصحابه: إن الأسرى من المستأمنة، وإن الرؤوس تمويه عليهم، فأمر بإلقاء الرؤوس في منجنيق إليهم، فلما رأوها عرفوهأن فأظهروا الجزع والبكاء، وظهر لهم كذب الخبيث.
وفيها أمر الخبيث باتخاذ شذوات، فعملت له، فكانت له خمسون شذاة، فقسمها بين ثلاثة من قواده وأمرهم بالتعرض لعسكر الموفق؛ وكان شذوات الموفق يومئذ قليلة لأنه لم يصل إليه ما أمر بعمله، والتي كانت عنده منها فرقها على أفواه الأنهار لقطع الميرة عن الخبيث، فخافهم أصحاب الموفق، فورد عليهم شذوات كان الموفق أمر بعملهأن فسير ابنه أبا العباس ليوردها خوفاً عليهم من الزنج، فلما أقبل بها رآها الزنج فعارضوها بشذواتهم، فقصدهم غلام لأبي العباس ليمنعهم، وقاتلهم، فانكشفوا بين يديه، وتبعهم حتى أدخلهم نهر أبي الخصيب، وانقطع عن أصحابه، فعطفوا عليه، فأخذوه ومن معه بعد حرب شديدة، فقتلوأن وسلمت الشذوات مع أبي العباس، وأصلحهأن ورتب فيها من يقاتل.

ثم أقبلت شذوات العلوي على عاداتهأن فخرج إليهم أبوالعباس في أصحابه، فقاتلهم فهزمهم، وظفر منهم بعدة شذوات، فقتل منهم من ظفر به فيهأن فمنع الخبيث أصحابه من الخروج عن فناء قصره، وقطع أبوالعباس الميرة عنهم، فاشتد جزع الزنج، وطلب جماعة من وجوه أصحابه الأمان، فأمنوأن وكان منهم محمد بن الحرث القمي، وكان إليه ضبط السور مما يلي عسكر الموفق، فخرج ليلأن فأمنه الموفق، ووصله بصلات كثيرة له ولمن خرج معه، وحمله على عدة دواب بآلاتها وحليتهأن وأراد إخراج زوجته فلم يقدر، فأخذها الخبيث فباعها؛ ومنهم أحمد اليربوعي، وكان من أشجع رجال العلوي، وغيرهمأن فخلع عليهم، ووصلهم بصلات كثيرة.
ولما انقطعت الميرة والمواد عن العلوي أمر شبلاً وأبوالبذي، وهما من رؤساء قواده يثق بهم، بالخروج إلى البطيحة في عشرة آلاف من ثلاثة وجوه للغارة على المسلمين، وقطع الميرة عن الموفق، فسر الموفق إليهم زيرك في جمع من أصحابه، فلقيهم بنهر ابن عمر، فرأى كثرتهم، فراعه ذلك، ثم استخار الله تعالى في قتالهم، فحمل عليهم وقاتلهم، فقذف الله تعالى الرعب في قلوبهم فانهزموأن ووضع فيهم السيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم مثل ذلك، وأسر خلقاً كثيرأن وأخذ من سفنهم ما أمكنه أخذه، وغرق ما أمكنه تغريقه، وكان ما أخذه من سفنهم نحوأربع مائة سفينة، وأقبل بالأسارى والرؤوس إلى مدينة الموفق.
ذكر عبور الموفق مدينة صاحب الزنجوفيها عبر الموفق إلى مدينة الخبيث لست بقين من ذي الحجة، وكان سبب ذلك أن جماعة من قواد الخبيث لما رأوا ما حل بهم من البلاء من قبل من يظهر منهم، وشدة الحصار على من لزم المدينة، وحال من خرج بالأمان، جعلوا يهربون من كل وجه، ويخرجون إلى الموفق بالأمان.
فلما رأى الخبيث ذلك جعل على الطرق التي يمكنهم الهرب منها من يحفظها؛ فأرسل جماعة من القواد إلى الموفق يطلبون الأمان، وأن يوجه لمحاربة الخبيث جيشاً ليجدوا طريقاً إلى المصير إليه، فأمر ابنه أبا العباس بالمسير إلى النهر الغربي، وبه علي بن أبان يحميه، فنهض أبوالعباس ومعه الشذوات، والسميريات، والمعابر، فقصده، وتحارب هووعلي بن أبان واشتدت الحرب، واستظهر أبوالعباس على الزنج، وأمد الخبيث أصحابه بسليمان بن جامع في جمع كثير، فاتصلت الحرب من بكرة إلى العصر، وكان الظفر لأبي العباس، وصار إليه القوم الذين كانوا طلبوا الأمان.
واجتاز أبوالعباس بمدينة الخبيث عند نهر الأتراك، فرأى قلة الزنج هناك، فطمع فيهم، فقصدهم أصحابه وقد انصرف أكثرهم إلى الموفقية، فدخلوا ذلك المسلك، وصعد جماعة منهم السور وعليه فريق من الزنج، فقتلوهم، وسمع العلوي فجهز أصحابه لحربهم، فلما رأى أبوالعباس اجتماعهم وحشدهم لحربه مع قلة أصحابه، رحل فأرسل إلى الموفق يستمده، فأتاه من خف من الغلمان، فظهروا على الزنج فهزموهم.
وكان سليمان بن جامع لما رأى ظهور أبي العباس سار في النهر مصعداً في جمع كبير، ثم أتى أصحاب أبي العباس من خلفهم، وهم يحاربون من بإزائهم، وخففت طبوله، فانكشف أصحاب أبي العباس، ورجع عليهم من كان انهزم عنهم من الزنج، فأصيب جماعة من غلمان الموفق وغيرهم، فأخذ الزنج عدة أعلام، وحامى أبوالعباس عن أصحابه، فسلم أكثرها ثم انصرف.
وطمع الزنج بهذه الوقعة، وشدت قلوبهم، فأجمع الموفق على العبور إلى مدينتهم بجيوشه أجمع، وأمر الناس بالتأهب، وجمع المعابر والسفن وفرقها عليهم، وعبر يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، وفرق أصحابه على المدينة ليضطر الخبيث إلى تفرقة أصحابه، وقصد الموفق إلى ركن من أركان المدينة، وهوأحصن ما فيهأن وقد أنزله الخبيث ابنه، وهوانكلاي، وسليمان ابن جامع، وعلي بن أبان وغيرهم، وعليه من المجانيق والآلات للقتال ما لا حد له.

فلما التقى الجمعان أمر الموفق غلمانه بالدنومن ذلك الركن، وبينهم وبين ذلك السور نهر الأتراك، وهونهر عريض كثير الماء، فأحجموا عنه، فصاح بهم الموفق، وحرضهم على العبور، فعبروا سباحة، والزنج ترميهم بالمجانيق، والمقاليع، والحجارة، والسهام، فصبروا حتى جاوزوا النهر وانتهوا إلى السور ولم يكن عبر معهم من الفعلة من كان أعد لهدم السور، فتولى الغلمان تشعيث السور بما كان معهم من السلاح، وسهل اله تعالى ذلك، وكان معهم بعض السلاليم، فصعدوا على ذلك الركن، ونصبوا علماً من أعلام الموفق، فانهزم الزنج عنه، وأسلموه بعد قتال شديد، وقتل من الفريقين خلق كثير؛ ولما علا أصحاب الموفق السور أحرقوا ما عليه من منجنيق وقوس وغير ذلك.
وكان أبوالعباس قصد ناحية أخرى، فمضى علي بن أبان إلى مقاتلته، فهزمه أبوالعباس، وقتل جمعاً كثيراً من أصحابه ونجا علي، ووصل أصحاب أبي العباس إلى السور، فثلموا فيه ثلمة ودخلوه، فلقيهم سليمان ابن جامع، فقاتلهم حتى درهم إلى مواضعهم؛ ثم أن الفعلة وافوا السور فهدموه في عدة مواضع، فعملوا على الخندق جسرأن فعبر عليه الناس من ناحية الموفق، فانهزم الزنج عن سور باب كانوا قد اعتصموا به، وانهزم الناس معهم، وأصحاب الموفق يقتلونهم، حتى انتهوا إلى نهر ابن سمعان، وقد صارت دار ابن سمعان في أيدي أصحاب الموفق، فأحرقوهأن وقاتلهم الزنج هناك، ثم انهزموا حتى بلغوا ميدان الخبيث، فركب في جمع من أصحابه، فانهزم أصحابه عنه، وقرب منه بعض رجالة الموفق، فضرب وجه فقرسه بترسه، وكان ذلك مع مغيب الشمس، فأمر الموفق الناس بالجوع، فرجعوا ومعهم من رؤوس أصحاب الخبيث شيء كثير.
وكان قد استأمن إلى أبي العباس أول النهار نفر من قواد الخبيث، فتوقف عليهم حتى حملهم في السفن، وأظلم الليل، وهبت ريح عاصف، وقوي الجزر، فلصق أكثر السفن بالطين، فخرج جماعة من الزنج فنالوا منهأن وقتلوا فيها نفرأن وكان بهبود بإزاء مسرور البلخي، فأوقع بأصحاب مسرور، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة، فكسر ذلك من نشاط أصحاب الموفق.
وكان بعض أصحاب الخبيث قد انهزم على وجهه نحونهر الأمير، والقندل، وعبادان، وهرب جماعة من الأعراب إلى البصرة، وأرسلوا يطلبون الأمان فأمنهم الموفق، وخلع عليهم وأجرى الأرزاق عليهم، وكان ممن رغب في الأمان من قواد الفاجر ريحان بن صالح المغربي، وكان من رؤساء أصحابه، أرسل يطلب الأمان، وأن يرسل جماعة إلى مكان ذكره ليخرج إليهم، ففعل الموفق، فصار إليه فخلع عليه، واحسن إليه ووصله، وضمه إلى أبى العباس، واستأمن من بعده جماعة من أصحابه؛ وكان خروج ريحان لليلة بقيت من ذي الحجة من السنة.
ذكر الحرب بين الخوارج ببلد الموصلفي هذه السنة كان بين هارون الخارجي وين محمد بن خرزاد، وهومن الخوارج أيضاً وقعة ببعدرى من أعمال الموصل.
وسبب ذلك أنا قد ذكرنأن سنة ثلاث وستين ومائتين، الحرب الحادثة بين هارون ومحمد بعد موت مساور، فلما كان إلى جمع محمد بن خرزاد أصحابه وسار إلى هارون محارباً له، فنزل واسط، وهي محلة بالقرب من الموصل، وكان يركب البقر لئلا يفر من القتال، ويلبس الصوف الغليظ، ويرفع ثيابه، وكان كثير العبادة والنسك، ويجلس على الأرض ليس بينها وبينه حائل.
فلما نزل واسط خرج إليه وجوه أهل الموصل وكان هارون بمعلثايا يجمع لحرب محمد، فلما سمع بنزول محمد عند الموصل سار إليه ورحل ابن خرزاد نحوه، فالتقوا بالقرب من قرية شمرخ، واقتتلوا قتالاً شديداً كان فيه مبارزة وحملات كثيرة، فانهزم هارون، وقتل من أصحابه نحومائتي رجل، منهم جماعة من الفرسان المشهورين، ومضى هارون منهزمأن فعبر دجلة إلى العرب قاصداً بني تغلب، فنصروه واجتمعوا إليه، ورجع ابن خرزاد من حيث أقبل، وعاد هارون إلى الحديثة، فاجتمع عليه خلق كثير، وكاتب أصحاب ابن خرزاد، واستمالهم، فأتاه منهم الكثير، ولم يبق مع ابن خرزاد إلا عشيرته من الشمردلية، وهم من أهل شهرزور، وإمنا فارقه أصحابه لأنه كان خشن العيش، وهوببلد شهرزور، وهوبلد كثير الأعداء، من الأكراد وغيرهم.

وكان هارون ببلد الموصل قد صلح حاله وحال أصحابه، فلما رأى أصحاب ابن خرزاد ذلك مالوا إليه وقصدوه، وواقع ابن خرزاد بنواحي شهرزور الأكراد الجلالية وغيرهم، فقتل، وتفرد هارون بالرئاسة على الخوارج، وقوي وكثر أتباعه، وغلبوا على القرى والرساتيق، وجعلوا على دجلة من يأخذ الزكاة من الأموال المنحدرة والمصعدة، وبثوا نوابهم في الرساتيق يأخذون الأعشار من الغلات.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ابتدر ابن حفصون بالأندلس بالخلاف على محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، بناحية رية، فخرج إليه جيش من تلك الناحية مع عاملهأن فقاتله، فانهزم صاحب الأندلس، وقوي أمر عمر بن حفصون، وشاع ذكره، وأتاه من يريد الشر والفساد، فسير محمد، صاحب الأندلس، عاملاً آخر في جيش، فصالحه عمر، فطلب الهامل كل من كان له أثر في مساعدة عمر، فأهلكه، وفيهم من أبعده، فاستقامت تلك الناحية.
وفيها كانت زلزلة عظيمة بالشام، ومصر، وبلاد الجزيرة، وإفريقية، والأندلس، وكان قبلها هدة عظيمة قوية.
وفيها ولي جزيرة صقلية الحسن بن العباس، فبث السرايا إلى كل ناحية، وخرج إلى قطانية فأفسد زرعها وزرع طبرمين، وقطع أشجارهأن وسار إلى بقارة فأفسد زرعهأن وانصرف إلى بلرم، وأخرجت الروم سرايا فأصابوا من المسلمين كثيرأن وذلك أيام الحسن بن العباس.
وفيها حبس السلطان محمد بن عبد الله بن طاهر وعدة من أهل بيته، بعد ظفر الخجستاني بعمر بن الليث، وكان عمرواتهمه بمكاتبة الخجستاني والحسين بن طاهر، حيث كان يذكر أنه على منابر خراسان.
وفيها كانت بين كيغلغ التركي وبين أصحاب أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف حرب انهزم فيها أصحاب أحمد، وسار كيغلغ إلى همذان، فوافاه أحمد بن عبد العزيز فيمن اجتمع إليه من أصحابه، فانهزم كيغلغ وانحاز إلى الصيمرة.
وفيها في ربيع الآخر أم حبيب بنت الرشيد.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق، وإسحاق بن أيوب، وعيسى ابن الشيخ، وأبي المغر، وحمدان بن حمدون، ومن اجتمع إليهم من ربيعة، وتغلب، وبكر، واليمن، فهزمهم ابن كنداجيق إلى نصيبين، وتبعهم إلى آمد، وخلف على آمد من حصر عيسى، فكانت بينهم وقعات عند آمد.
وفيها دخل الخجستاني نيسابور، وانهزم عمروبن الليث وأصحابه، فأساء السيرة في أهلهأن وهدم دور معاذ بن مسلم، وضرب من قدر عليه منهم وترك ذكر محمد بن طاهر، ودعا للمعتمد ولنفسه.
وفيها في شوال كانت لأصحاب أبي الساج وقعة بالهيصم العجلي قتلوا فيها مقدمته، وغمنوا عسكره.
وفيها أقبل بن عبد اله الخجستاني يريد العراق، فبلغ سمنان، وتحصن منه أهل الري، فرجع إلى خراسان.
وفيها رجع حلق ثير من الحجاج من طريق مكة لشدة الحر، ومضى خلق كثير، فمات منهم عالم عظيم من الحر والعطش، وذاك كله في البيداء، وأوقعت فزارة فيها بالتجار، فأخذ فيما قيل سبع مائة حمل بز.
وفيها نفي الطباع من سامرأن وفيها ضرب الخجستاني لنفسه دنانير ودراهم. وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي محمد بن حماد بن بكر بن حماد أبوبكر المقرئ، صاحب خلف بن هشام، في ربيع الآخر، ببغداد.
حوادث سنة ثمان وستين ومائتين

ذكر أخبار الزنج
في هذه السنة في المحرم خرج إلى الموفق من قواد الخبيث جعفر بن إبراهيم المعروف بالسحان، وكان من ثقات الخبيث، فاتاع لذلك، وخلع عليه الموفق، وأحسن إليه، وحمله في سميرية إلى إزاء قصر الخبيث، فكلم الناس من أصحابه، وأخبرهم أنهم في غرور، وأعلمهم بما وقف عليه من كذب الخبيث وفجوره، فاستأمن في ذلك اليوم خلق كثير من قواد الزنج وغيرهم، فاحسن إليهم الموفق، وتتابع الناس في طلب الأمان.
ثم أقام الموفق لا يحارب ليريح أصحابه إلى شهر ربيع الآخر، فلما انتصف ربيع الآخر قصد الموفق إلى مدينة الخبيث، وفرق قواده على جهاتهأن وجعل مع كل طائفة منهم من النقابين جماعة لهدم السور، وتدم إلى جميعهم أن لا يزيدوا على هدم السور، ولا يدخلوا المدينة، وتقدم إلى الرماة أن يحموا بالسهام من يهدم السور وينقبه، فتقدموا إلى المدينة من جهاتها وقابلوهأن فوصلوا إلى السور، وثلموه في مواضع كثيرة.

ودخل أصحاب الموفق من جميع تلك الثلم، وجاء أصحاب الخبيث يحاربونهم، فهزمهم أصحاب الموفق وتبعوهم حتى أوغلوا في طلبهم، فاختلفت بهم طرق المدينة، فبلغوا أبعد من الموضع الذي وصلوا إليه في المرة الأولى، وأحرقوأن وأسروأن وتراجع الزنج عليهم، وخرج الكمناء من مواضع يعرفونها ويجهلها الآخرون، فتحيروأن ودافعوا عن أنفسهم، وتراجعوا نحودجلة بعد أن قتل منهم جماعة، وأخذ الزنج أسلابهم.
ورجع الموفق إلى مدينته، وأمر بجمعهم، فلامهم على مخالفة أمره، والإفساد عليه من رأيه وتدبيره، وأمر بإحصاء من فقد، وأقر ما كان لهم من رزق على أولادهم وأهليهم، فحسن ذلك عندهم وزاد في صحة نياتهم.
ذكر الوقعة بين المعتضد والأعرابوفي هذه السنة أوقع أبوالعباس أحمد بن الموفق، وهوالمعتضد بالله، بقوم من الأعراب كانوا يحملون الميرة إلى عسكر الخبيث، فقتل منهم جماعة، وأسر الباقين، وغمن ما كان معهم، وأرسل إلى البصرة من أقام بها لأجل قطع الميرة.
وسير الموفق رشيقأن مولى أبي العباس، فأوقع بقوم من بني تميم كانوا يجلبون الميرة إلى الخبيث، فقتل أكثرهم، وأسر جماعة منهم، فحمل الأسرى والرؤوس إلى الموفقية، فأمر بهم الموفق، فوقفوا بإزاء عسكر الزنج، وكان فيهم رجل يسفر بين صاحب الزنج والأعراب بجلب الميرة، فقطعت يده ورجله، وألقي في عسكر الخبيث، وأمر بضرب أعناق الأسارى، وانقطعت الميرة بذلك عن الخبيث بالكلية، فأضر بهم الحصار، وأضعف أبدانهم، فكان يسال الأسير والمستأمن عن عهده بالخبز فيقول: عهدي ه منذ زمان طويل.
فلما وصلوا إلى هذا الحال رأى الموفق أن يتابع عليهم الحرب ليزيدهم ضراً وجهدأن فكثر المستأمنون في هذا الوقت، وخرج كثير من أصحاب الخبيث، فتفرقوا في القرى والأنهار البعيدة في طلب القوت، فبلغ ذلك الموفق، فأمر جماعة من قواد غلمانه السودان بقصد تلك المواضع ودعوة من بها إليه، فمن أبى قتلوه، فقتلوا نهم خلقاً كثيراً وأتاه أكثر منهم.
فلما كثر المستأمنون عند الموفق عرضهم، فمن كان ذا قوة وجلد أحسن إليه وخلطهم بغلمانه، ومن كان منهم ضعيفأن أوشيخأن أوجريحاً قد أزمنته الجراحة كساه، وأعطاه دراهم، وأمر به أن يحمل إلى عسكر الخبيث فيلقى هناك، ويؤمر بذكر ما رأى من إحسان الموفق إلى من صار إليه، وأن ذلك رأيه فيهم، فتهيأ له بذلك ما أراد من استمالة أصحاب الخبيث.
وجعل الموفق وابنه أبوالعباس يلازمان قتال الخبيث تارة هذا وتارة هذأن وجرح أبوالعباس ثم برأ.
وكان من جملة من قتل من أعيان قواد الخبيث: بهبود بن عبد الوهاب، وكان كثير الخروج في السميريات، وكان ينصب عليها أعلاماً تشبه أعلام الموفق، فإذا رأى من يستضعفه أخذه وأخذ من ذلك مالاً جزيلأن فواقعه في بعض خرجاته أبوالعباس، فأفلت بعد أن أشفى على الهلاك، ثم إنه خرج مرة أخرى فرأى سميرية فيها بعض أصحاب أبي العباس، فقصدها طامعاً في أخذهأن فحاربه أهلهأن فطعنه غلام من غلمان أبي العباس في بطنه فسقط في الماء، فأخذه أصحابه، فحملوه إلى عسكر الخبيث، فمات قبل وصوله، فأراح الله المسلمين من شره.
وكان قتله من أعظم الفتوح، وعظمت الفجيعة على الخبيث وأصحابه، واشتد جزعهم عليه، وبلغ الخبر الموفق بقتله، فأحضر ذلك الغلام، فوصله، وكساه، وطوقه، وزاد في أرزاقه، وفعل بكل من كان معه في تلك السميرية نحوذلك؛ ثم ظفر الموفق بالدوابني وكان ممايلاً لصاحب الزنج.
ذكر أخبار رافع بن هرثمةلما قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني، على ما ذكرناه، وكان قتله هذه السنة، اتفق أصحابه على رافع بن هرثمة فولوه أمرهم.
وكان رافع هذا من أصحاب محمد بن طاهر بن عبد اله بن طاهر، فلما استولى يعقوب بن الليث على نيسابور، وأزال الطاهرية، صار رافع في جملته، فلما عاد يعقوب إلى سجستان صحبه رافع؛ وكان طويل الحية، كريه الوجه، قليل الطلاقة، فدخل يوماً على يعقوب، فلما خرج من عنده قال: أنا لا أميل إلى هذا الرجل، فليلحق بما شاء من البلاد؛ فقيل له ذلك، ففارقه وعاد إلى منزله بتامين، وهي من باذغيس، وأقام به إلى أن استقدمه الخجستاني، على ما ذكرناه، وجعله صاحب جيشه.

فلما قتل الخجستاني اجتمع الجيش عليه، وهوبهراة، فأمروه كما ذكرناه، وسار رافع من هراة إلى نيسابور، وكان أبوطلحة بن شركب قد وردها من جرجان، فحصره فيها رافع وقطع الميرة عنه وعن نيسابور، فاشتد الغلاء بها ففارقها أبوطلحة، ودخلها رافع فأقام بها وذلك سنة تسع وستين ومائتين، فسار أبوطلحة إلى مرو، وولى محمد بن مهتدي هراة، وخطب لمحمد ابن طاهر بمرووهراة، فقصده عمروبن الليث، فحاربه، فهزمه، واستخلف عمروبمرومحمد بن سهل بن هاشم، وعاد عنهأن وخرج شركب إلى بيكند، واستعان بإسماعيل بن أحمد الساماني، فأمده بعسكره، فعاد إلى مرو، فأخرج عنها محمد بن سهل، وأغار على أهل البلد، وخطب لعمروبن الليث، وذلك في شعبان سنة إحدى وسبعين.
وقلد الموفق تلك السنة أعمال خراسان محمد بن طاهر، وكان ببغداد، فاستخلف محمد على أعماله رافع بن هرثمة، ما خلا ما وراء النهر فإنه أقر عليه نصر بن أحمد، ووردت كتب الموفق إلى خراسان بذلك، وبعزل عمروبن الليث ولعنه، فسار رافع إلى هراة وبها محمد بن مهتدي، خليفة أبي طلحة شركب، فقتله يوسف بن معبد وأقام بهراة، فلما وافاه رافع استأمن إله يوسف فأمنه، وعفا عنه، فاستعمل على هراة مهدي بن محسن، فاستمد رافع إسماعيل بن أحمد، فسار إليه بنفسه في أربعة آلاف فارس، واستقدم رافع أيضاً علي بن الحسين المروروذي، فقدم عليه، فساروا بأجمعهم إلى شركب، وهوبمرو، فحاربوه فهزموه، وعاد إسماعيل إلى محازل وذلك سنة اثنتين وسبعين ومائتين، فسار شركب إلى هراة، فطابقه مهدي وخالف رافعأن فقصدهما رافع فهزمهما.
وأما شركب فإنه لحق بعمروبن الليث؛ وأما مهدي فإنه اختفى في سرب، فدل عليه رافع، فأخذه وقال له: تباً لك يا قليل الوفاء! ثم عفا عنه وخلى سبيله، وسار رافع إلى خوارزم سنة اثنتين وسبعين فجبى أموالها ورجع إلى نيسابور.
ذكر الحوادث بالأندلس وبإفريقيةفي هذه السنة سير محمد بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، جيشاً مع ابنه المنذر إلى المخالفين عليه، فقصد مدينة سرقسطة، فأهلك زرعهأن وخرب بلدهأن وافتتح حصن روطة، فأخذ منه عبد الواحد الروطي، وهومن أشجع أهل زمانه، وتقدم إلى دير تروجة، وبلد محمد بن مركب بن موسى، فهتكا بالغارة، وقصد مدينة لاردة وقرطاجنة فكان فيها إسماعيل بن موسى، فحاربه، فأذعن إسماعيل بالطاعة، وترك الخلاف وأعطى رهائنه على ذلك، وقصد مدينة أنقرة وهي للمشركين، فافتتح هنالك حصوناً وعاد.
وفيها أوقع إبراهيم بن أحمد بن الأغلب بأهل بلد الزاب، وكان قد حضر وجوههم عنده، فأحسن إليهم، ووصلهم، وكساهم، وحملهم، ثم قتل أكثرهم، حتى الأطفال، وحملهم على العجل إلى حفرة فألقاهم فيها.
وفيها سارت سرية بصقلية مقدمها رجل يعرف بأبي الثور، فلقيهم جيش الروم، فأصيب المسلمون كلهم غير سبعة نفر، وعزل الحسن بن العباس عن صقلية، ووليها محمد بن الفضل، فبث السرايا في كل ناحية من صقلية وخرج هوفي حشد وجمع عظيم، فسار إلى مدينة قطانية فأهلك زرعهأن ثم رحل إلى أصحاب الشلندية فقاتلهم، فأصاب فيهم فأكثر القتل، ثم رحل إلى طبرمين فافسد زرعهأن ثم رحل فلقي عساكر الروم، فاقتتلوأن فانهزم الروم، وقتل أكثرهم فكانت عدة القتلى ثلاثة آلاف قتيل، ووصلت رؤوسهم إلى بلرم.
ثم سار المسلمون إلى قلعة كان الروم بنوها عن قريب، وسموها مدينة الملك، فملكها المسلمون عنوة، وقتلوا مقاتليهأن وسبوا من فيها.
ذكر عدة حوادثفيها سار عمروبن الليث إلى فارس لحرب عاملها محمد بن الليث عليهأن فهزمه عمرو، واستباح عسكره، ونجا محمد، ودخل عمرواصطخر فنهبها وأصحابه، ووجه في طلب محمد، فظفر به، وأخذه أسيرأن ثم سار إلى شيراز فأقام بها.
وفيها زلزلت بغداد في ربيع الأول، ووقع بها أربع صواعق.
وفيها زحف العباس بن أحمد بن طولون لحرب أبيه فخرج إليه أبوه إلى الاسكندرية، فظفر به، ورده إلى مصر، فرجع معه إليهأن وقد تقدم خبره سابقاً.
وفيها أوقع أخوشركب بالخجستاني واخذ أمه.
وفيها وثب ابن شبث بن الحسين، فأسر عمر بن سيما عامل حلوان.

وفيها انصرف أحمد بن أبي الأصبع من عند عمروبن الليث، وكان عمروقد أنفذه إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فقدم معه بمال، فأرسل عمروإلى الموفق من المال ثلاثمائة ألف دينار، وخمسين مناص مسكأن وخمسين مناً عنبرأن ومائتي من عود، وثلثمائة ثوب وشي، وآنية ذهب وفضة، ودواب، وغلماناً بقيمة مائتي ألف دينار.
وفها ولي كيغلغ الخليل بن رمال حلوان، فنالهم بالمكاره بسبب عمر ابن سيمأن وأخذهم بجزيرة ابن شبث، وضمنوا له خلاص عمر وإصلاح ابن شبث.
وفيها كانت وقعة بين أذكوتكين بن أساتكين وبين أحمد بن عبد العزيز ابن أبي دلف، فهزمه أذكوتكين، وغلبه على قم.
وفيها وجه عمروبن الليث قائداً بأمر أبي احمد إلى محمد بن عبيد الله الكردي، فأسره القائد وحمله إليه.
وفيها في ذي القعدة، خرج بالشام رجل من ولد عبد الملك بن صالح الهاشمي يقال له بكار بين سلمية وحلب وحمص، فدعا لأبي أحمد، فحاربه ابن عباس الكلابي، فانهزم الكلابي، فوجه إليه لؤلؤ صاحب ابن طولون قائداً يقال له يوذر في عسكر، فرجع وليس معه كبير أمر.
وفيها اظهر لؤلؤ الخلاف على مولاه أحمد بن طولون.
وفيها قتل أحمد بن عبد الله الخجستاني في ذي الحجة، قتله غلام له.
وفيها قتل أصحاب أبي الساج محمد بن علي بن حبيب اليشكري بالقرية، بناحية واسط، ونصب رأسه ببغداد.
وفيها حارب محمد بن كيجور علي بن الحسين كفتمر، فأسر ككفتمر، ثم أطلقه، وذلك في ذي الحجة.
وفيها سار أبوالمغيرة المخزومي إلى مكة، وعاملها هارون بن محمد الهاشمي، فجمع هارون جمعاً احتمى بهم، فسار المخزومي إلى مشاش فغور ماءهأن وإلى جدة فنهب الطعام، وأحرق بيوت أهلهأن فصار الخبز بمكة: أوقيتان بدرهم.
وفيها خرج ملك الروم المعروف بابن الصقلبية، فنازل ملطية، فأعانهم أهل مرعش والحدث، فانهزم ملك الروم.
وغزا الصائفة، من ناحية الثغور الشامية، الفرغاني، عامل ابن طولون، فقتل من الروم بضعة عشر ألفاً، وغمن الناس، فبلغ السهم أربعين ديناراً.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي، وابن أبي الساج على الأحداث والطريق.
وفيها مات محمد بن عبد الله بين عبد الحكم، والبصري، الفقيه المالكي، وكان قد صحب الشافعي، وأخذ عنه العلم.
حوادث سنة تسع وستين ومائتين

ذكر أخبار الزنج
وفي هذه السنة رمي الموفق بسهم في صدره؛ وكان سبب ذلك أن بهبود لما هلك طمع العلوي في ما له من الأموال، وكان قد صح عنده أن ملكه قد حوى مائتي ألف دينار، وجوهرأن وفضه، فطلب ذلك، واخذ أهله وأصحابه فضربهم، وهدم أبنيته طمعاً في المال، فلم يجد شيئأن فكان فعله مما أفسد قلوب أصحابه عليه، ودعاهم إلى الهرب منه، فأمر الموفق بالنداء بالأمان في أصحاب بهبود، فسارعوا إليه فألحقهم في العطاء بمن تقدم.
ورأى الموفق ما كان يتعذر عليه من العبور إلى الزنج في الأوقات التي تهب فيها الرياح لتحرك الأمواج، فعزم على أن يوسع لنفسه ولأصحابه موضعاً في الجانب الغربي، فأمر بقطع النخل وإصلاح المكان وأن يعمل له الخنادق والسور ليأمن البيات، وجعل حماية العمالين فيه نوباً على قواده.
فعلم صاحب الزنج وأصحابه أن الموفق إذا جاورهم قرب على من يريد اللحاق به المسافة مع ما يدخل قلوب أصحابه من الخوف، وانتقاض تدبيره عليه، فاهتموا بمنع الموفق من ذلك وبذل الجهد فيه، وقاتلوا أشد قتال، فاتفق أن الريح عصفت في بعض تلك الأيام وقائد من القواد هناك، فانتهز الخبيث الفرصة في إنفاذ هذا القائد وانقطاع المدد عنه، فسير إليه جميع أصحابه، فقاتلوه، فهزموه، وقتلوا كثيراً من أصحابه، ولم تجد الشذوات التي لأصحاب الموفق سبيلاً إلى القرب منهم خوفاًمن الزنج أن تلقيها على الحجارة فتنكسر، فغلب الزنج عليهم، وأكثروا القتل والأسر، ومن سلم منهم ألقى نفسه في الشذوات وعبروا إلى الموفقية، فعظم ذلك على الناس.

ونظر الموفق فرأى أن نزلوه بالجانب الغربي لا يأمن عليه حيلة الزنج وصاحبهم، وانتهاز فرصة، لكثرة الأدغال، وصعوبة المسالك، وأن الزنج أعرق بتلك المضايق وأجرأ عليها من أصحابه، فترك ذلك، وجعل قصده إلى هدم سور الفاسق وتوسعة الطريق والمسالك، فأمر بهدم السور من ناحية النهر المعروف بمنكي، وباشر الحرب بنفسه، واشتد القتال، وكثر القتل والجراح من الجانبين، ودام ذلك أياماً عدة.
وكان أصحاب الموفق لا يستطيعون الولوج لقنطرتين كانتا في نهر منكي، كان الزنج يعبرون عليهما وقت القتال، فيأتون أصحاب الموفق من وراء ظهورهم فينالون منهم، فعمل الحيلة في إزالتهمأن فأمر أصحابه بقصدهما عند اشتغال الزنج وغفلتهم عن حراستهمأن وأمرهم أن يعدوا الفؤوس والمناشير، وما يحتاجون إليه من الآلات، فقصدوا القنطرة الأولى نصف النهار، فأتاهم الزنج لمنعهم، فاقتتلوأن فانهزم الزنج، وكان مقدمهم أبوالندى، فأصابه سهم في صدره فقتله، وقطع أصحاب الموفق القنطرتين ورجعوا.
وألح الموفق على الخبيث بالحرب، وهدم أصحابه من السور ما أمكنهم، ودخلوا المدينة وقاتلوا فيهأن وانتهوا إلى داري ابن سمعان وسليمان بن جامع، فهدموهما ونهبوا ما فيهمأن وانتهوا إلى سويقة للخبيث، سماها الميمونة، فهدمت وأخربت، وهدموا دار الحياتي، وانتهبوا ما كان فيها من خزائن الفاسق، وتقدموا إلى الجامع ليهدموه، فاشتدت محاماة الزنج عنه، فلم يصل إليه أصحاب الموفق لأنه كان قد خلص مع الخبيث نخبة أصحابه وأرباب البصائر، فكان أحدهم يقتل، أويجرح، فيجذبه الذي إلى جنبه ويقف مكانه.
فلما رأى الموفق ذلك أمر أبا العباس بقصد الجامع مع أحد أركانه بشجعان أصحابه، وأضاف إليهم الفعلة للهدم، ونصب السلاليم، فعل ذلك، وقاتل عليه أشد قتال، فوصلوا إليه، فهدموه، فاخذ منبره، فأتي به الموفق؛ ثم عاد الموفق لهدم السور فأكثر منه، وأخذ أصحابه دواوين الخبيث وبعض خزائنه، فظهر للموفق أمارات الفتح، فإنهم لعلى ذلك إذ وصل سهم إلى الموفق فأصابه في صدره، رماه به رومي كان مع صاحب الزنج، اسمه قرطاس، وذلك لخمس بقين من جمادى الأولى، فستر الموفق ذلك، وعاد إلى مدينته وبات، ثم عاد إلى الحرب على ما به من ألم الجراح ليشتد بذلك قلوب أصحابه، فزاد ف علته، وعظم أمرهأن حتى خيف عليه.
واضطرب العسكر والرعية وخافوأن فخرج من مدينته جماعة، وأتاه الخبر، وهوفي هذه الحال، بحادث في سلطانه، فأشار عليه أصحابه وثقاته بأن يعود إلى بغداد ويخلف من يقوم مقامه، فأبى ذلك، وخاف أن يستقيم من حال الخبيث ما فسد، واحتجب عن الناس مدة، ثم برأ من علته، وظهر لهم، ونهض لحرب الخبيث، وكان ظهوره في شعبان من هذه السنة.
ذكر إحراق قصر صاحب الزنجلما صح الموفق من جراحه عاد إلى ما كان عليه من محاربة العلوي، وكان قد أعاد بناء بعض الثلم في السور، فأمر الموفق بهدم ذلك، وهدم ما يتصل به.
وركب في بعض العشايأن وكان القتال، ذلك اليوم، متصلاً مما يلي نهر منكي، والزنج مجتمعون فيه قد شغلوا بتلك الجهة، وظنوا أنهم لا يأتون إلا منهأن فأتى الموفق ومعه الفعلة، وقرب من نهر منكي وقاتلهم، فلما اشتدت الحرب أمر الذين بالشذوات بالمسير إلى أسفل نهر أبي الخصيب، وهوفارغ من المقاتلة والرجالة، فقدم أصحاب الموفق، وأخرجوا الفعلة، فهدموا السور من تلك الناحية، وصعد المقاتلة فقتلوا في النهر مقتلة عظيمة، وانتهوا إلى قصور من قصور الزنج فأحرقوهأن وانتهبوا ما فيهأن واستنقذوا عدداً كثيراً من النساء اللواتي كن فيهأن وغمنوا منها.
وانصرف الموفق، عند غروب الشمس، بالظفر والسلامة، وبكر إلى حربهم، وهدم السور، فأسرع الهدم حتى اتصل بدار الكلابي وهي متصلة بدار الخبيث، فلما أعيت الخبيث الحبل أشار عليه علي بن أبان بإجراء الماء على السباخ، وأن يحفر خنادق في مواضع عدة يمنعهم عن دخول المدينة، ففعل ذلك؛ فرأى الموفق أن يجعل قصده لطم الخنادق، والأنهار، والمواضع المغورة فدام ذلك، فحامى عنه الخبثاء، ودامت الحرب، ووصل إلى الفريقين من القتل والجراح أمر عظيم، وذلك لتقارب ما بين الفريقين.

فلما رأى شدة الأمر من هذه الناحية قصد لإحراق دار الخبيث، والهجوم عليها من دجلة، فكان يعوق عن ذلك كثرة ما أعد الخبيث لها من المقاتلة والحماة عن داره، فكانت الشذا إذا قربت من قصره رميت من فوق القصر بالسهام، والحجارة من المنجنيق والمقالع، وأذيب الرصاص وأفرغ عليهم، فتعذر إحراقها لذلك، فأمر الموفق أن تسقف الشذا بالأخشاب، ويعمل عليها الجبس ويطلى بالأدوية التي تمنع النار من إحراقهأن ففرغ منهأن ورتب فيها أنجاد أحابه، ومن النفاطين جمعاً كثيراً.
واستأمن إلى الموفق محمد بن سمعان، كاتب الخبيث، وكان أوثق أصحابه في نفسه، وكان سبب اسئمانه أن الخبيث أطلعه إلى انه عازم على الخلاص وحده بغير أهل ولا مال، فلما رأى ذلك من عزمه أرسل يطلب الأمان، فأمنه الموفق وأحسن إليه، وقيل: كان سبب خروجه أنه كان كارهاً لصحبة الخبيث، مطلعاً على كفره وسوء باطنه، ولم يمكنه التخلص منه إلى الآن ففارقه، وكان خروجه عاشر شعبان.
فلما كان الغد بكر الموفق إلى محاربة الخبثاء، فأمر أبا العباس بقصد دار محمد الكرنابي، وهي بإزاء دار الخبيث، وإحراقها وما يليها من منازل قواد الزنج، ليشغلهم بذلك عن حماية دار الخبيث، وأمر المرتبين في الشذا المطلية بقصد دار الخبيث وإحراقهأن ففعلوا ذلك، وألصقوا شذواتهم بسور قصره، وحاربهم الفجرة أشد حرب، ونضحوهم بالنيران، فلم تعمل شيئأن واحرق من القصر الرواشين والأبنية الخارجة، وعملت النار فيهأن وسلم الذين كانوا في الشذا مما كان الخبثاء يرسلونه عليهم بالظلال التي كانت في الشذأن وكان ذلك سبباً لتمكينهم من قصره.
وأمر الموفق الذين في الشذا بالرجوع، فرجعوأن فأخرج من كان فيها ورتب غيرهم، وانتظر إقبال المد وعلوه، فلما أقبل عادت الشذا إلى قصره، وأحرقوا بيوتاً منه كانت تشرع على دجلة، فأضرمت النار فيهأن واتصلت، وقويت، فأعجلت الخبيث ومن كان معه عن التوقف على شيء مما كان له من الأموال والذخائر وغير ذلك، فخرج هاربأن وتركه كله.
وعلا غلمان الموفق قصره مع أصحابهم، فانتهبوا ما لم تأت النار عليه من الذهب والفضة والحلي وغير ذلك، واستنقذوا جماعة ن النساء اللواتي كان الخبيث يأنس بهن ممن كان استرقهن، ودخلوا دوره ودور ابنه انكلاي، فاحرقوها جميعأن وفرح الناس بذلك، وتحاربوا هم وأصحاب الخبيث على باب قصره، فكثر القتل في أصحابه، والجراح والأسر، وفعل أبوالعباس في دار الكرنابي من النهب والهدم والإحراق مثل ذلك، وقطع أبوالعباس، يومئذ، سلسلة عظيمة كان الخبيث قطع بها نهر أبي الخصيب ليمنع الشذا من دخوله، فحازها أبوالعباس وأخذها معه.
وعاد الموفق بالناس مع المغرب مظفرأن وأصيب الفاسق في ماله ونفسه وولده، ومن كان عنده من نساء المسلمين، مثل الذي أصاب المسلمين منه من الذعر والجلاء وتشتت الشمل والمصيبة، وجرح ابنه انكلاي في بطنه جراحة أشفى منها على الهلاك.
ذكر غرق نصيروفي يوم الأحد لعشر بقين من شعبان غرق أبوحمزة نصير، وهوصاحب الشذوات.
وكان سبب غرقه أن الموفق بكر إلى القتال، وأمر نصيراً بقصد قنطرة كان الخبيث عملها في نهر أبي الخصيب، دون الجسرين اللذين كان اتخذهما على النهر، وفرق أصحابه من الجهات، فعجل نصير فدخل نهر أبي الخصيب، في أول المد، في عدة من شذواته، فحملها الماء فألصقها بالقنطرة، ودخلت عدة من شذوات الموفق مع غلمانه ممن لم يأمرهم بالدخول، فصكت شذوات نصير، وصك بعضها بعضأن ولم يبق للملاحين فيها عمل.
ورأى الزنج ذلك فاجتمعوا على جانبي النهر، وألقى الملاحون أنفسهم في الماء خوفاً من الزنج، ودخل الزنج الشذوات، فقتلوا بعض المقاتلة، وغرق أكثرهم، وصابرهم نصير، حتى خاف الأسر، فقذف نفسه في الماء فغرق، وأقام الموفق يومه يحاربهم، وينهبهم، ويحرق منازلهم، ولم يزل يومه مستعلياً عليهم.
وكان سليمان بن جامع ذلك اليوم من أشد الناس قتالاً لأصحاب الموفق، وثبت مكانه، حتى خرج عليه كمين للموفق، فانهزم أصحابه، وجرح سليمان جراحة في ساقه، وسقط لوجهه في موضع كان فيه حريق، وفيه بعض الجمر، فاحترق بعض جسده، وحمله أصحابه بعد أن كاد يؤسر؛ وانصرف الموفق سالماً ظافراً؛ وأصاب الموفق المفاصل، فبقي به شهر شعبان، وشهر رمضان، وأياماً من شوال، وأمسك عن حرب الزنج، ثم برأ وتماثل فأمر بإعداد آلة الحرب.

ذكر إحراق قنطرة العلوي صاحب الزنج
ولما اشتغل الموفق بعلته أعاد الخبيث القنطرة التي غرق عندها نصير، وزاد فيها واحكمهأن ونصب دونها أدقال ساج، وألبسها الحديد، وسكر أمام ذلك سكراً من حجارة ليضيق المدخل على الشذأن وتحتد جربة الماء في النهر، فندب الموفق أصحابه، وسير طائفة في شرقي نهر أبي الخصيب، وطائفة غربيه، وأرسل معهما النجارين والفعلة لقطع القنطرة وما جعل أمامهأن وأمر بسفن مملوءة من القصب أن يصب عليها النفط، وتدخل النهر، ويلقى فيها النار ليحترق الجسر، وفرق جنده على الخبثاء ليمنعوهم عن معاونة من عند القنطرة.
فسار الناس إلى ما أمرهم به عاشر شوال، وتقدمت الطائفتان إلى الجسر، فلقيهما انكلاي ابن الخبيث، وعلي بن أبان، وسليمان بن جامع، واشتبكت الحرب ودامت، وحامى أولئك عن القنطرة لعلمهم بما عليهم في قطعها من المضرة، وأن الوصول إلى الجسرين العظيمين اللذين يأتي ذكرهما بسهل.
ودامت الحرب على القنطرة إلى العصر، ثم إن غلمان الموفق أزالوا الخبثاء عنهأن وقطعها النجارون ونقضوها وما كان عمل من الأدقال الساج، وكان قطعها قد تعذر عليهم، فادخلوا تلك السفن التي فيها القصب والنفط وأضرموها نارأن فوافت القنطرة، فاحرقوهأن فوصل النجارون بذلك إلى ما أرادوأن وأمكن أصحاب الشذا دخول النهر، فدخلوا وقتلوا الزنج حتى أجلوهم عن مواقفهم إلى الجسر الأول الذي يتلوهذه القنطرة، وقتل من الزنج خلق كثير واستأمن بشر كثير، ووصل أصحاب الموفق إلى الجسر المغرب، فكره أن يدركهم الليل، فأمرهم بالرجوع فرجعوأن وكتب إلى البلدان أن يقرأ على المنابر أن يؤتى المحسن على قدر إحسانه ليزدادوا جداً في حرب عدوه، وأخرب من الغد برجين من حجارة كانوا عملوهما ليمنعوا الشذا من الخروج منه إذا دخلته، فلما أخربهما سهل له ما أراد من دخول النهر والخروج منه.
ذكر انتقال صاحب الزنج
إلى الجانب الشرقي وإحراق سوقه
لما أحرقت دوره ومساكن أصحابه، ونهبت أموالهم، وانتقوا إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، وجمع عياله حوله، ونقل أسواقه إليه، فضعف أمره بذلك ضعفاً شديداً ظهر للناس، فامتنعوا من جلب الميرة إليه، فانقطعت عنه كل مادة، وبلغ الرطل من خبز البر عشرة دراهم، فأكلوا الشعير وأصناف الحبوب.
ثم لم يزل الأمر بهم إلى أن كان أحدهم يأكل صاحبه إذا انفرد به، والقوي يأكل الضعيف، ثم أكلوا أولادهم.
ورأى الموفق أن يخرب الجانب الشرقي كما اخرب الغربي، فأمر أصحابه بقصد دار الهمداني ومعهم الفعلة، وكان هذا الوضع محصناً بجمع كثير، وعليه عرادات ومنجنيقات وقسي، فاشتبكت الحرب، وكثرت القتلى، فانتصر أصحاب الموفق عليهم، وقتلوهم وهزموهم، وانتهوا إلى الدار، فتعذر عليهم الصعود إليها لعلوسورهأن فلم تبلغه السلاليم الطوال، فرمى بعض غلمان الموفق بكلاليب كانت معهم، فعلقوها في أعلام الخبيث وجذبوهأن فتساقطت الأعلام منكوسة، فلم يشك المقاتلة عن الدار في أن أصحاب الموفق قد ملكوهأن فانهزموا لا يلوي أحد منهم على صاحبه، فأخذها أصحاب الموفق، وصعد النفاطون وأحرقوها وأم كان عليها من المجانيق والعرادات، ونهبوا ما كان فيها من المتاع والأثاث، وأحرقوا ما كان حولها من الدور، واستنقذوا ما كان فيها من النساء، وكن عالماً كثيراً من المسلمات، فحملن إلى الموفقية، وأمر الموفق بالإحسان إليهن.
واستأمن يومئذ من أصحاب الخبيث، وخاصته الذين يلون خدمته، جماعة كثيرة، فأمنهم الموفق، وأحسن إليهم، ودلت جماعة من المستأمنة الموفق على سوق عظيمة كانت للخبيث، متصلة بالجسر الأول، تسمى المباركة، وأعلموه إن أحرقها لم يبق لهم سوى غيرهأن وخرج عنهم تجارهم الذين كان بهم قوامهم، فعزم الموفق على إحراقهأن وأمر أصحابه بقصد السوق من جانبيها، فقصدوهأن وأقبلت الزنج إليهم، فتحاربوا أشد حرب تكون، واتصلت أصحاب الموفق إلى طرف من أطراف السوق وألقوا فيه النار فاحترق واتصلت النار.
وكان الناس يقتتلون، والنار محيطة بهم، واتصلت النار بظلال السوق فاحترقت وسقطت على المقاتلة، واحترق بعضهم، فكانت هذه حالهم إلى مغيب الشمس، ثم تحاجزوأن ورجع أصحاب الموفق إلى عسكرهم، وانتقل تجار السوق إلى أعلى المدينة، وكانوا قد نقلوا معظم أمتعتهم وأموالهم من هذه السوق خوفاً من مثل هذه.

ثم إن الخبيث فعل بالجانب الشرقي من حفر الخنادق، وتغوير الطرق، مثل ما كان فعل بالجانب الغربي، بعد هذه الرقعة، واحتفر خندقاً عريضاً حصن به منازل أصحابه التي على النهر الغربي، فرأى الموفق أن يخرب باقي السور إلى النهر الغربي، فعل ذلك بعد حرب طويلة في مدة بعيدة.
وكان للخبيث في الجانب الغربي جمع من الزنج قد تحصنوا بالسور وهومنيع، وهم أشجع أصحابه، فكانوا يحامون عنه، وكانوا يخرجون على أصحاب الموفق، عند محاربتهم، على حرى كور وما يليه. وأمر الموفق أن يقصد هذا الموضع، ويخرب سوره، ويخرج من فيه، فأمر أبا العباس والقواد بالتأهب لذلك، وتقدم إليهم، وأمر بالشذا أن تقرب من السور، ونشبت الحرب، ودامت إلى بعد الظهر، وهدم مواضع، وأحرق ما كان عليه من العرادات، وتحاجز الفريقان، وهما على السواء سوى هدم السور، وإحراق عرادات كانت عليه، فنال الفريقين من الجراح أمر عظيم.
وعاد الموفق، فوصل أهل البلاد والمجروحين على قدر بلائهم، وهكذا كان عمله ف محاربته، وأقام الموفق بعد هذه الوقعة أيامأن ثم رأى معاودة هذا الموضع لما رأى من صحانته وشجاعة من فيه وأنه لا يقدر على ما بينه وبين حرى كور إلا بعد إزالة هؤلاء، فأعد الآلات، ورتب أصحابه، وقصده وقاتل من فيه، وأدخلت الشذوات النهر واشتدت الحرب ودامت.
وأمد الخبيث أصحابه بالمهلبي وسليمان بن جامع في جيشهمأن فحملوا على أصحاب الموفق حتى ألحقوهم بسفنهم، وقتلوا منهم جماعة، فرجع الموفق ولم يبلغ منهم ما أراد، وتبين له أنه كان ينبغي أن يقاتلهم من عدة وجوه لتخف وطأتهم على من يقصد هذا الموضع، ففعل ذلك، وفرق أصحابه على جهات أصحاب الخبيث، وسار هوإلى جهة النهر الغربي، وقاتل من فيه.
وطمع الزنج بما تقدم من تلك الوقعة، فصدقهم أصحاب الموفق القتال، فهزموهم، فولوا منهزمين وتركوا حصنهم في أيدي أصحاب الموفق، فهدموه، وغمنوا ما فيه، وأسروأن وقتلوا خلقاً لا يحصى، وخلصوا من هذا الحصن خلقاً كثيراً من النساء والصبيان، ورجع الموفق إلى عسكره بما أراد.
ذكر استيلاء الموفق على مدينة صاحب الزنج الغربيةلم اهدم الموفق دور الخبيث أمر بإصلاح المسالك لتتسع على المقاتلة الطريق للحرب، ثم رأى قلع الجسر الأول الذي على نهر أبي الخصيب، لما في ذلك من منع معاوية بعضهم بعضأن وأمر بسفينة كبيرة أن تملأ قصباً ويجعل فيه النفط، ويوضع في وسطها دقل طويل يمنعها من مجاوزة الجسر إذا التصقت به، ثم أرسلها عند غفلة الزنج وقوة المد، فوافت الجسر، وعلم بها الزنج، فأتوها وطموها بالحجارة والتراب، ونزل بعضهم في الماء فنقبها فغرقت، وكان قد احترق من الجسر شيء يسير فأطفأها الزنج.
فعند ذلك اهتم الموفق بالجسر، فندب أصحابه، وأعد النفاطين والفعلة والفؤوس، وأمرهم بقصده من غربي وشرقيه، وركب الموفق في أصحابه، وقصد فوهة نهر أبى الخصيب، وذلك منتصف شوال سنة تسع وستين، فسبق الطائفة التي في غرب النهر، فهزم الموكلين على الجسر، وهما سليمان بن جامع وانكلاي، ولد الخبيث، وأحرقوه.
وأتى بعد ذلك الطائفة الأخرى، ففعلوا بالجانب الشرقي مثل ذلك، وأحرقوا الجسر، وتجاوزوه إلى جانب حظيرة كانت تعمل فيها سميريات الخبيث وآلاته، واحترق ذلك عن آخره، إلا شيئاً يسيراً من الشذوات والسميريات كانت في النهر، وقصدوا سجناً للخبيث، فقاتلهم الزنج عليه ساعة من النهار، ثم غلبهم أصحاب الموفق عليه، فأطلقوا من فيه، وأحرقوا كل ما مروا به إلى دار مصلح، وهومن قدماء أصحابه، فدخلوهأن فنهبوها وما فيهأن وسبوا نساءه وولده، واستنقذوا خلقاً كثيرأن وعاد الموفق وأصحابه سالمين.
وانحاز الخبيث وأصحابه من هذا الجانب إلى الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، واستولى الموفق على الجانب الغربي، غير طريق يسير على الجسر الثاني، فاصلحوا الطرق، فزاد ذلك في رعب الخبيث وأصحابه، فاجتمع كثير من أصحابه وقواده، وأصحابه الذين كان يرى أنهم لا يفارقونه، على طلب الأمان، فبذل لهم، فخرجوا أرسالأن فأحسن الموفق إليهم، وألحقهم بأمثالهم.

ثم إن الموفق أحب أن يتمرن أصحابه بسلوك النهر ليحرق الجسر الثاني، فكان يأمرهم بإدخال الشذا فيه وإحراق ما على جانبه من المنازل، فهرب إليه بعض الأيام قائد للزنج، ومعه قاض كان لهم، ومنبر، ففت ذلك في أعضاد الخبثاء، ثم إن الخبيث وكل بالجسر الثاني من يحفظه، وشحنه بالرجال، فأمر الموفق بعض أصحابه بإحراق ما عند الجسر من سفن، ففعلوا حتى أحرقوهأن فزاد ذلك في احتياط الخبيث، وفي حراسته للجسر لئلا يحرق ويستولي الموفق على الجانب الغربي فيهلك.
وكان قد تخلف من أصحابه جمع في منازلهم المقاربة للجسر الثاني، وكان أصحاب الموفق يأتونهم ويقفون على الطريق الخفية، فلما عرفوا ذلك عزموا على إحراق الجسر الثاني، فأمر الموفق ابنه أبا العباس والقواد بالتجهز لذلك، وأمرهم أن يأتوا من عدة جهات ليوافوا الجسر، وأعد معهم الفؤوس والنفط والآلات؛ ودخل هوفي النهر بالشذوات، ومعه أنجاد غلمانه، ومعهم الآلات أيضأن واشتبكت الحرب في الجانبين جميعاً بين الفريقين، واشتد القتال.
وكان في الجانب الغربي بإزاء أبي العباس ومن معه انكلاي ابن الخبيث وسليمان بن جامع، وفي الجانب الشرقي بإزاء راشد مولى الموفق، ومن معه، الخبيث، والمهلبي في باقي الجيش، فدامت الحرب مقدار ثلاث ساعات، ثم انهزم الخبثاء لا يلوون على شيء، وأخذت السيوف منهم، ودخل أصحاب الشذا النهر، ودنوا من الجسر فقاتلوا من يحميه بالسهام، وأضرموا ناراً.
وكان من المنهزمين سليمان وانكلاي، وكانا قد أثخنا بالجراح، فوافيا الجسر والنار فيه، فحالت بينهما وبين العبور، وألقيا أنفسهما في النهر ومن معهمأن فغرق منهم خلق كثير، وأفلت انكلاي وسليمان بعد أن أشفيا على الهلاك، وقطع الجسر وأحرق، وتفرق الجيش في مدينة الخبيث في الجانبين، فأحرقوا من دورهم وقصورهم وأسواقهم شيئاً كثيرأن واستنقذوا من النساء والصبيان ما لا يحصى، ودخلوا الدار التي كان الخبيث سكنها بعد إحراق قصره، وأحرقوها ونهبوا ما كان فيها مما كان سلم معه، وهرب الخبيث ولم يقف ذلك اليوم على مواضع أمواله.
واستنقذ في هذا اليوم نسوة من العلويات كن محبسات في موضع قريب من داره التي كان يسكنهأن فأحسن الموفق إليهن، وحملهن، وفتح سجناً كان له واخرج منه خلقاً كثيراً ممن كان يحارب الخبيث، ففك الموفق عنهم الحديد، واخرج ذلك اليوم كل ما كان في نهر أبي الخصيب من شذأن ومراكب بحرية، وسفن صغار وكبار، وحراقات وغير ذلك من أصناف السفن إلى دجلة، فأباحها الموفق أصحابه مع ما فيها من السلب، وكانت له قيمة عظيمة.
وأرسل انلكلاي ابن الخبيث يطلب الأمان، وسأل أشياء فأجابه الموفق إليهأن فعلم أبوه بذلك فعذله، وورده عما عزم عليه، فعاد إلى الحرب ومباشرة القتال.
ووجه سليمان بن موسى الشعراني، وهوأحد رؤساء الخبيث، يطلب الأمان، فلم يجبه الموفق إلى ذلك، لما كان قد تقدم منه من سفك الدماء والفساد، فاتصل به أن جماعة من رؤساء أصحاب الخبيث قد استوحشوا المنعة، فأجابه إلى الأمان، فأرسل الشذا إلى موضع ذكره، فخرج هووأخوه وأهله وجماعة من قواده، فأرسل الخبيث من يمنعهم عن ذلك، فقاتلهم، ووصل إلى الموفق، فزاد في الإحسان إليه وخلع عليه وعلى من معه، وأمر بإظهاره لأصحاب الخبيث ليزدادوا ثقة، فلم يبرح من مكانه، حتى استأمن جماعة من قواد الزنج منهم شبل بن سالم، فأجابه الموفق، وأرسل إليه شذوات، فركب فيها هووعياله وولده وجماعة من قواده، فلقيهم قوم من الزنج، فقاتلهم ونجا ووصل إلى الموفق، فأحسن إليه ووصله بصلة جليلة، وهومن قدماء أصحاب الخبيث، فعظم ذلك عليه وعلى أوليائه لما رأوا من رغبة رؤسائهم في الأمان.
ولما رأى الموفق مناصحة شبل، وجودة فهمه، أمره أن يكفيه بعض الأمور، فسار ليلاً في جمع من الزنج، ولم يخالطهم غيرهم، إلى عسكر الخبيث يعرف مكانهم، وأوقع بهم، وأسر منهم وقتل وعاد، فأحسن إليه الموفق وإلى أصحابه.
وصار الزنج بعد هذه الوقعة لا ينامون الليل، ولا يزالون يتحارسون للرعب الذي دخلهم، وأقام الموفق ينفذ السرايا إلى الخبيث ويكيده، ويحول بينه وبين القوت، وأصحاب الموفق يتدربون في سلوك تلك المضايق التي في أرضه ويوسعونها.
ذكر استيلاء الموفق على مدينة الخبيث الشرقية

لما علم الموفق أن أصحابه قد تمرنوا على سلوك تلك الأرض وعرفوهأن صمم العزم على العبور إلى محاربة الخبيث من الجانب الشرقي من نهر أبي الخصيب، فجلس مجلساً عامأن وأحضر قواد المستأمنة وفرسانهم، فوقفوا بحيث يسمعون كلامه، ثم كلمهم فعرفهم ما كانوا عليه من الضلالة والجهل، وانتهاك المحارم، ومعصية الله عز وجل، وأن ذلك قد أحل له دمائهم، وأنه غفر لهم زلتهم ووصلهم، وأن ذلك يوجب عليهم حقه وطاعته، وأنهم لن يرضوا ربهم وسلطانهم بأكثر من الجد في مجاهدة الخبيث، وأنهم ليعرفون مسالك العسكر، ومضايق مدينته، ومعاقلها التي أعدهأن فهم أولى أن يجتهدوا في الولوج على الخبيث، والوغول إلى حصونه، حتى يمكنهم الله منه، فإذا فعلوا ذلك فلهم الإحسان والمزيد، ومن قصر منهم فقد أسقط منزلته وحاله.
فارتفعت أصواتهم بالدعاء له، والاعتراف بإحسانه، وبما هم عليه من المناصحة والطاعة، وأنهم يبذلون دماءهم في كل ما يقربهم منه، وسألوه أن يفردهم ناحية ليظهر من نكايتهم في العدوما يعرف به إخلاصهم وطاعتهم، فأجابهم إلى ذلك، وأثنى عليهم ووعدهم، وكتب في جمع السفن والمعابر من دجلة والبطيحة ونواحيها ليضيفها إلى ما في عسكره، إذ كان ما عنده يقصر عن الجيش لكثرته، وأحصى ما في الشذأن والسميريات، وأنواع السفن، فكانوا زهاء عشرة آلاف ملاح ممن يجري عليه الرزق من بيت المال مشاهرة، سوى سفن أهل العسكر التي يحمل فيها الميرة، ويركبها الناس في حوائجهم، وسوى ما كان لكل قائد من السميريات، والحربيات، والزواريق.
فلما تكاملت السفن تقدم إلى ابنه أبي العباس، وقواده بقصد مدينة الخبيث الشرقية من جهاتهأن فسير ابنه أبا العباس إلى ناحية دار المهلبي، أسفل العسكر، وكان قد شحنها بالرجال والمقاتلين، وأمر جميع أصحابه بقصد دار الخبيث وإحراقهأن فإن عجزوا عنها اجتمعوا على دار المهلبي، وسار هوفي الشذأن وهي مائة وخمسون قطعة، فيها أنجاد غلمانه، وانتخب من الفرسان والرجالة عشرة آلاف، وأمرهم أن يسيروا على جانبي النهر معه إذا سار، وأن يقفوا معه إذا وقف، ليتصرفوا بأمره.
وبكر الموفق لقتال الفاسقين يوم الثلاثاء لثمان خلون من ذي القعدة سنة تسع وستين ومائتين، وكانوا قد تقدموا إليهم يوم الاثنين وواقعوهم، وتقدم كل طائفة إلى الجهة التي أمرهم بهأن فلقيهم الزنج، واشتدت الحرب، وكثر القتل والجراح في الفريقين، وحامى الفسقة عن الذي اقتصروا عليه من مدينتهم واستماتوأن وصبروأن فنصر الله أصحاب الموفق، فانهزم الزنج، وقتل منهم خلق كثير، وأسر من أنجادهم وشجعانهم جمع كثير، فأمر الموفق فضربت أعناق الأسرى في المعركة، وقصد بجمعه الدار التي يسكنها الخبيث، وكان قد لجأ إليهأن وجمع أبطال أصحابه للمدافعة عنهأن فلم يغنوا عنها شيئأن وانهزموا عنها وأسلموهأن ودخلها أصحاب الموفق وفيها بقايا ما كان سلم للخبيث من ماله وولده وأثاثه، فنهبوا ذلك أجمع، وأخذوا حرمه وأولاده، وكانوا عشرين ما بين صبية وصبي، وسار الخبيث هارباً نحودار المهلبي لا يلوي على أهل وال مال، وأحرقت داره، وأتي الموفق بأهل الخبيث وأولاده، فسيرهم إلى بغداد.
وكان أصحاب أبي العباس قد قصدوا دار المهلبي، وقد لجأ إليها خلق كثير من المنهزمين، فغلبوهم عليهأن واشتغلوا بنهبهأن وأخذوا ما فيها من حرم المسلمين وأولادهم، وجعل من ظفر منهم بشيء حمله إلى سفينته، فعلوا في الدار ونواحيهأن فلما رآهم الزنج كذلك رجعوا إليهم فقتلوا فيهم مقتلة يسيرة.
وكان جماعة من غلمان الموفق الذي قصدوا دار الخبيث تشغلوا بحمل الغنائم إلى السفن أيضأن فأطمع ذلك الزنج فيهم، فأكبوا عليهم فكشفوهم، واتبعوا آثارهم، وثبت جماعة من أبطال الموفق، فردوا الزنج حتى تراجع الناس إلى مواقفهم، ودامت الحرب إلى العصر، فأمر الموفق غلمانه بصدق الحملة عليهم، ففعلوأن فانهزم الخبيث وأصحابه، وأخذتهم السيوف حتى انتهوا إلى داره أيضأن فرأى الموفق عند ذلك أن يصرف أصحابه إلى إحسانهم، فردهم وقد غمنوأن واستنقذوا جمعاً من النساء المأسورات كن يخرجن ذلك اليوم أرسالاً فيحملن إلى الموفقية.

وكان أبوالعباس قد أرسل في ذلك اليوم قائدأن فأحرق ثم بيادر كانت ذخيرة للخبيث، وكان ذلك مما أضعف به الخبيث وأصحابه، ثم وصل إلى الموفق كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون في القدوم عليه، فأمره بذلك، وأخر القتال إلى أن يحضر.
ذكر خلاف لؤلؤ على مولاه أحمد بن طولونوفيها خالف لؤلؤ أحمد بن طولون، صاحب مصر، على مولاه أحمد بن طولون، وفي يده حمص، وقنسرين، وحلب، وديار مصر، من الجزيرة، وسار إلى بالس فنهبهأن وكاتب الموفق في المسير إليه، واشترط شروطأن فأجابه أبوأحمد إليهأن وكان بالرقة، فسار إلى الموفق فنزل قرقيسيأن وبها ابن صفوان العقيلي، فحاربه، وأخذها منه، وسلمها إلى أحمد بن مالك ابن طوق، وسار إلى الموفق، فوصل إليه وهويقاتل الخبيث العلوي.
ذكر مسير المعتمد إلى الشام

وعوده من الطريق
وفيها سار المعتمد نحو مصر، وكان سبب ذلك أنه لم يكن له من الخلافة غير اسمهأن ولا ينفذ له توقيع لا في قليل ولا في كثير، وكان الحكم كله لموفق، والأموال تجبى إليه، فضجر المعتمد من ذلك، وأنف منه، فكتب إلى أحمد بن طولون يشكوإليه حاله سراً من أخيه الموفق، فأشار عليه أحمد باللحاق به بمصر، ووعده النصرة، وسير عسكراً إلى الرقة ينتظر وصول المعتمد إليهم، فاغتمن المعتمد غيبة الموفق عنه، فسار في جمادى الأولى ومعه جماعة من القواد، فأقام بالكحيل يتصيد.
فلما سار إلى عمل إسحاق بن كنداجيق، وكان عامل الموصل وعامة الجزيرة، وثب ابن كنداجيق بمن مع المعتمد من القواد، فقبضهم، وهم نيزك، وأحمد بن خاقان، وخطارمش، فقيدهم، وأخذ أموالهم ودوابهم، وكان قد كتب إليه صاعد بن مخلد وزير الموفق عن الموفق، وكان سبب وصوله إلى قبضهم انه أظهر أنه معهم في طاعة المعتمد، إذ هوالخليفة، ولقيهم لما صاروا إلى عمله،، وسار معهم عدة مراحل، فلما قارب عمل ابن طولون ارتحل الأتباع والغلمان الذين مع المعتمد، وقواد، ولم يترك ابن كنداجيق أصحابه يرحلون، ثم خلا بالقواد عند المعتمد، وقال لهم: إنكم قاربتم عمل ابن طولون والأمر أمره، وتصيرون من جنده، وتحت يده، أفترضون بذلك، وقد علمتم أنه كواحد منكم؟ وجرت بينهم في ذلك مناظرة، حتى تعالى النهار، ولم يرحل المعتمد ومن معه، فقال ابن كنداجيق: قوموا بنا نتناظر في غير حضرة أمير المؤمنين؛ فأخذ بأيديهم إلى خيمته لأن مضاربهم كانت قد سارت، فلما دخلوا خيمته قبض عليهم وقيدهم، وأخذ سائر من مع المعتمد من القواد فقيدهم، فلما فرغ من أمورهم مضى إلى المعتمد فعذله في مسيره من دار ملكه وملك آبائه، وفراق أخيه الموفق إلى الحال التي هوبها من حرب من يريد قتله، وقتل أهل بيته، وزوال ملكهم، ثم حمله والذين كانوا معه حتى أدخلهم سامرا.
ذكر الحرب بين عسكر ابن طولون وعسكر الموفق بمكةوفيها كانت وقعة بمكة بين جيش لأحمد بن طولون وبين عسكر الموفق في ذي القعدة.
وكان سببها أن أحمد بن طولون سير جيشاً مع قائدين إلى مكة، فوصلوا إليهأن وجمعوا الحناطين، والجزارين، وفرقوا فيهم مالاً؛ وكان عامل مكة هارون بن محمد إذ ذاك ببستان ابن عامر قد فارقها خوفاً منهم، فوافى مكة جعفر الناعمودي في ذي الحجة في عسكر، وتلقاه هارون بن محمد في جماعة، فقوي بهم جعفر، والتقوا هم وأصحاب ابن طولون فاقتتلوأن وأعان أهل خراسان جعفرأن فقتل من أصحاب ابن طولون مائتي رجل، وانهزم الباقون وسلبوا وأخذت أموالهم، واخذ جعفر من القائدين نحومائتي ألف دينار، وأمن المصريين، والجزارين، والحناطين، وقرئ كتاب المسجد الجامع بلعن ابن طولون، وسلم الناس وأموال التجار.
ذكر عدة حوادثفي المحرم من هذه السنة قطع الأعراب الطريق على قافلة من الحاج بين ثور وسميراء، فسلبوهم، وساقوا نحواً من خمسة آلاف بعير بأحمالها وأناساً كثيراً.
وفيها انخسف القمر، وغاب منخسفأن وانكسفت الشمس فيه أيضاً آخر النهار، وغابت منكسفة، فاجتمع في المحرم كسوفان.

وفيهأن وفي صفر، وثبت العامة ببغداد بإبراهيم الخليجي، فانتهبوا داره، وكان سبب ذلك أن غلاماً له رمى امرأة بسهم فقتلهأن فاستعدى السلطان عليه، فامتنع، ورمى غلمانه الناس، فقتلوا جماعة، وجرحوأن فثارت بهم العامة فقتلوا فيهم رجلين من أصحاب السلطان، ونهبوا منزله ودواببه، وخرج هاربأن فجمع محمد بن عبيد اله بن عبد الله بن طاهر، وكان نائب أبيه، دواب إبراهيم، وما أخذ له، فرده عليه.
وفيها وجه إلى أبي الساج جيش انصرف من مكة، فسيره إلى جدة، فأخذ للمخزومي مركبين فيهما مال وسلاح.
وفيها وثب خلف صاحب أحمد بن طولون بالثغور الشامية وعامله عليها بازمار الخادم، مولى مفلح بن خاقان، فحبسه، فوثب به جماعة فاستنقذوا بازمار، وهرب خلف، وتركوا الدعاء لابن طولون، فسار إليهم ابن طولون، ونزل أذنة، فاعتصم أهل طرسوس بهأن ومعهم بازمار، فرجع عنهم ابن طولون إلى حمص، ثم إلى دمشق، فأقام بها.
وفيها قام رافع هرثمة بما كان الخجستاني غلب غليه من مدن خراسان، فاجتبى عدة من كور خراسان خراجها لبضع عشرة سنة، فأفقر أهلها وأخربها.
وفيها كانت وقعة بين الحسنيين والحسينيين بالحجاز، والجعفريين، فقتل من الجعفريين ثمانية نفر، وخلصوا الفضل بن العباس العباسي عامل المدينة.
وفيهأن في جمادى الآخرة، عقد هارون بن الموفق لابن أبي الساج على الأنبار وطريق الفرات والرحبة، وولى محمد بن احمد الكوفة وسوادهأن فلقي محمد الهيصم العجلي، فانهزم الهيصم.
وفيها توفي عيسى بن الشيخ بن الشليل الشيباني، ويده أرمينية، وديار بكر.
وفيها لعن المعتمد أحمد بن طولون في دار العامة بلعنه على المنابر، وولى إسحاق بن كنداجيق على أعمال ابن طولون، وفوض إليه من باب الشماسية إلى إفريقية، وولى شرطة الخاصة.
وكان سبب هذا اللعن أن ابن طولون قطع خطبة الموفق، وأسقط اسمه من الطرز، فتقدم الموفق إلى المعتمد بلعنه، ففعل مكرهأن لأن هوى المعتمد كان مع ابن طولون.
وفيها كانت وقعة بين ابن أبي الساج والأعراب، فهزموه، ثم بيتهم فقتل منهم وأسر، ووجه بالرؤوس والأسرى إلى بغداد.
وفيهأن في شوال، دخل ابن أبي الساج رحبة مالك بن طوق، بعد أن قاتله أهلها فغلبهم وقتلهم، وهرب أحمد بن مالك بن طوق إلى الشام، ثم سار ابن أبي الساج إلى قرقيسيا فدخلها. وحج بالناس هارون بن محمد ابن إسحاق الهاشمي.
وفيها خرج محمد بن الفضل أمير صقلية في عسكر إلى ناحية رمطة، وبلغ العسكر إلى قطانية، فقتل كثيراً من الروم، وسبى وغمن، ثم انصرف إلى بلرم في ذي الحجة.
وفيها توفي أحمد بن مخالد، مولى المعتصم، وهومن دعاة المعتزلة، وأخذ الكلام عن جعفر بن مبشر.
وفيها توفي سليمان بن حفص بن أبي عصفور الإفريقي، وكان معتزلياً يقول بخلق القرآن، وأراد أهل القيروان، فسلم لذلك، وصحب بشراً المريسي، وأب الهذيل وغيرهما من المعتزلة.
حوادث سنة سبعين ومائتين

ذكر قتل الخبيث صاحب الزنج
قد ذكرنا من حرب الزنج، وعود الموفق عنهم مؤيداً بالظفر، فلما عاد من قتالهم إلى مدينة الموفقية عزم على مناجزة الخبثاء، فأتاه كتاب لؤلؤ غلام ابن طولون يستأذنه في المسير إليه، فأذن له وترك القتال ينتظره ليحضر القتال، فوصل إليه ثالث المحرم من هذه السنة في جيش عظيم، فأكرمه الموفق، وأنزله وخلع عليه وعلى أصحابه ووصلهم، واحسن إليهم، وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم، وأضعف ما كان لهم، ثم تقدم إلى لؤلؤ بالتأهب لحرب الخبثاء.
وكان الخبيث لما غلب على نهر أبي الخصيب، وقطعت القناطر والجسور التي عليه، أحدث سكراً في النهر وجانبيه، وجعل في وسط النهر باباً ضيقاً لتحتد جرية الماء فيه، فتمتنع الشذا من دخوله في الجزر، ويتعذر خروجها منه في المد، فرأى الموفق أن جريه لا يتهيأ إلا بقلع هذا السكر، فحاول ذلك، فاشتدت محاماة الخبثاء عليه، وجعلوا يزيدون كل يوم فيه، وهومتوسط دورهم، والمروية تسهل عليهم، وتعظم على من أراد قلعه، فشرع في محاربتهم بفريق بعد فريق من أصحاب لؤلؤ ليتمرنوا على قتالهم، ويقفوا على المسالك والطرق في مدينتهم، فأمر لؤلؤاً أن يحضر في جماعة من أصحابه للحرب على هذا السكر، ففعل، فرأى الموفق من شجاعة لؤلؤ وإقدامه وشجاعة أصحابه ما سره، فأمر لؤلؤاً بصرفهم إشفاقاً عليهم، ووصلهم الموفق وأحسن إليهم.

وألح على هذا السكر، وكان يحارب المحامين عليه وأصحابه وأصحاب لؤلؤ وغيرهم، والفعلة يعملون في قلعة، ويحارب الخبيث وأصحابه في عدة وجوه، فيحرق مساكنهم، ويقتل مقاتليهم، واستأمن إليه الجماعة، وكان قد بقي لخبيث وأصحابه بقية من أرضين بناحية النهر الغربي، لهم فيها مزارع وحصون وقنطرتان، وبه جماعة يحفظونه، فسار إليهم أبوالعباس، وفرق أصحابه من جهاتهم، وجعل كمينأن ثم أوقع بهم فانهزموأن فكلما قصدوا جهة خرج عليهم من يقاتلهم فيهأن فقتلوا عن آخرهم لم يسلم منهم إلا الشريد، فأخذوا من أسلحتهم ما أثقلهم حمله، وقطع القنطرتين، ولم يزل الموفق يقاتلهم على سكرهم، حتى تهيأ له فيه ما أحبه في خرقه.
فلما فرغ منه عزم على لقاء الخبيث، فأمر بإصلاح السفن والآلات للماء والظهر، وتقدم إلى أبي العباس ابنه أن يأتي الخبيث من ناحية دار المهلبي، وفرق العساكر من جميع جهاته، وأضاف المستأمنة إلى شبل، وأمره بالجد في قتال الخبيث، وأمر الناس أن لا يزحف أحد حتى يحرك علماً أسود كان نصبه على دار الكرماني وحتى ينفخ في بوق بعيد الصوت.
وكان عبوره يوم الاثنين لثلاث بقين من المحرم، فعجل بعض الناس، وزحف نحوهم، فلقيه الزنج، فقتلوه منهم، وردوهم إلى مواقفهم، ولم يعلم سائر العسكر بذلك لكثرتهم، وبعد المسافة فيما بين بعضهم وبعض، وأمر الموفق بتحريك العلم الأسود، والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلوبعضهم بعضأن فلقيهم الزنج وقد حشدوا واجترأوأن بما تهيأ لهم، على من كان يسرع إليهم، فلقيهم الجيش بنيات صادقة، وبصائر نافذة، واشتد القتال، وقتل من الفريقين جمع كثير، فانهزم أصحاب الخبيث، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون، واختلط بهم ذلك اليوم أصحاب الموفق، فقتل منهم ما لا يحصى عددأن وغرق منهم مثل ذلك، وحوى الموفق المدينة بأسرهأن فغمنها أصحابه، واستنقذوا من كان بقي من الأسرى من الرجال، والنساء، والصبيان، وظفروا بجميع عيال علي بن أبان المهلبي، وبأخويه: الخليل، ومحمد وأولادهمأن وعبر بهم إلى المدينة الموفقية.
ومضى الخبيث في أصحابه، ومعه ابنه انكلاي، وسليمان بن جامع، وقواد من الزنج وغيرهم، هاربين، عامدين إلى موضع كان الخبيث قد أعده ملجأ إذا غلب على مدينته، وذلك المكان على النهر المعروف بالسفياني، وكان أصحاب الموفق قد اشتغلوا بالنهب والإحراق، وتقدم الموفق في الشذا نحونهر السفياني، ومعه لؤلؤ وأصحابه، فظن أصحاب الموفق أنه رجع إلى مدينتهم الموفقية، فانصرفوا إلى سفنهم بما قد حووأن وانتهى الموفق ومن معه إلى عسكر الخبيث وهم منهزمون، واتبعهم لؤلؤ في أصحابه، حتى عبر السفياني فاقتحم لؤلؤ بفرسه، وابتعه أصحابه، حتى انتهى إلى النهر المعروف بالفربري فوصل إليه لؤلؤ وأصحابه فأوقعوا به وبمن معه، فهزمهم حتى عبر نهر السفياني، ولؤلؤ في أثرهم، فاعتصموا بجبل وراءه، وانفرد لؤلؤ وأصحابه بأتباعهم إلى هذا المكان في آخر النهار، فأمر الموفق بالانصراف فعاد مشكوراً محموداً لفعله، فحمله الموفق معه، وجدد له من البر والكرامة ورفعة المنزلة ما كان مستحقاً له، ورجع الموفق فلم ير أحداً من أصحابه بمدينة الزنج، فرجع إلى مدينته واستبشر الناس بالفتح وهزيمة الزنج وصاحبهم.
وكان الموفق قد غضب على أصحابه بمخالفتهم أمره، وتركهم الوقوف حيث أمرهم، فجمعهم جميعأن ووبخهم على ذلك، وأغلظ لهم، فاعتذروا بما ظنوه من انصرافه، وانهم لم يعلموا بمسيره، ولوعلموا ذلك لأسرعوا نحوه، ثم تعاقدوا وتحالفوا بمكانهم على أن لا ينصرف منهم أحد إذا توجهوا نحوالخبيث حتى يظفروا به، فإن أعياهم أقاموا بمكانه حتى يحكم الله بينهم وبينه. وسألوا الموفق أن يرد السفن التي يعبرون فيها إلى الخبيث، لينقطع الناس عن الرجوع، فشكرهم وأثنى عليهم وأمرهم بالتأهب.
وأقام الموفق بعد ذلك إلى الجمعة يصلح ما يحتاج الناس إليه، وأمر الناس عشية الجمعة بالمسير إلى حرب الخبثاء بكرة السبت، وطاف عليهم هوبنفسه يعرف كل قائد مركزه، والمكان الذي يقصده، وغدا الموفق يوم السبت لليلتين خلتا من صفر، فعبر بالناس، وأمر برد السفن، فردت وسار يقدمهم إلى المكان الذي قدر أن يلقاهم فيه.

وكان الخبيث وأصحابه قد رجعوا إلى مدينتهم بعد انصراف الجيش عنهم، وأملوا أن تتطاول بهم الأيام وتندفع عنهم المناجزة، فوجد الموفق المتسرعين من فرسان غلمانه والرجالة قد سبقوا الجيش فأوقعوا بالخبيث وأصحابه وقعة هزموهم بهأن وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض، وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون من لحقوا منهم، وانقطع الخبيث في جماعة من حماة أصحابه وفيهم المهلبي، وفارقه ابنه انكلاي، وسليمان بن جامع، فقصد كل فريق منهم جمعاً كثيفاً من الجيش.
وكان أبوالعباس قد تقدم، فلقي المنهزمين في الموضع المعروف بعسكر ريحان، فوضع أصحابه فيهم السلاح، ولقيهم طائفة أخرى، فأوقعوا بهم أيضأن وقتلوا منهم جماعة، وأسروا سليمان بن جامع، فأتوا به الموفق من غير عهد ولا عقد، فاستبشر الناس بأسره، وكثر التكبير، وأيقنوا بالفتح، إذ كان أكثر أصحاب الخبيث غناء عنه وأسر من بعده إبراهيم بن جعفر الهمداني وكان أحد أمراء جيوشه، فأمر الموفق بالاستيثاق منهم، وجعلهم في شذاة لأبي العباس.
ثم إن الزنج الذين انفردوا مع الخبيث حملوا على الناس حملة أزالوهم عن مواقفهم، فقتروأن فأحس الموفق بفتورهم، فجد في طلب الخبيث وأمعن، فتبعه أصحابه، وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب، فلقيه البشير بقتل الخبيث، وأتاه بشير آخر ومعه كف ذكر أنها كفه، فقوي الخبر عنده، ثم أتاه غلام من أصحاب لؤلؤ يركض ومعه رأس الخبيث، فأدناه منه، وعرضه على جماعة من المستأمنة فعرفوه، فخر لله ساجدأن وسجد معه الناس، وأمر الموفق برفع رأسه على قناة، فتأمله الناس، فعرفوه، وكثر الضجيج بالتحميد.
وكان مع الخبيث، لما أحيط به، المهلبي وحده، فولى عنه هاربأن وقصد نهر الأمير فألقى نفسه فيه يريد النجاة؛ وكان انكلاي قد فارق أباه قبل ذلك وسار نحوالديناري.
ورجع الموفق ورأس الخبيث بين يديه، وسليمان معه، وأصحابه إلى مدينته، وأتاه من الزنج عالم كبير يطلبون الأمان فأمنهم، وانتهى إليه خبر انكلاي والمهلبي، ومكانهمأن ومن معهما من مقدمي الزنج، فبث الموفق أصحابه في طلبهم، وأمرهم بالتضييق عليهم، فلما أيقنوا أن لا ملجأ أعطوا بأيديهم، فظفر بهم وبمن معهم، وكانوا زهاء خمسة آلاف، فأمر بالاستيثاق من المهلبي وانكلاي، وكان ممن هرب قرطاس الرومي الذي رمى الموفق بالسهم في صدره، فانتهى إلى رامهرمز، فعرفه رجل، فدل عليه عامل البلد، فأخذه وسيره إلى الموفق فقتله أبوالعباس.
وفيها استأمن درمويه الزنجي إلى أبي أحمد، وكان درمويه من أنجاد الزنج وأبطالهم، وكان الخبيث قد وجهه قبل هلاكه بمدة إلى موضع كثير الشجر والأدغال والآجام، متصل بالبطيخة، وكان هوومن معه يقطعون هنالك على السابلة في زواريق خفاف، فإذا طلبوا دخلوا الأنهار الصغار الضيقة واعتصموا بالأدغال، وإذا تعذر عليهم مسلك لضيقه حملوا سفنهم ولجأوا إلى الأمكنة الوسيعة، ويعبرون على قرى البطيحة، ويقطعون الطريق، فظفر بجماعة من عسكر الموفق معهم نساء قد عادوا إلى منازلهم، فقتل الرجال، وأخذ النساء، فسألهن عن الخبر، فأخبرهن بقتل الخبيث وأسر أصحابه وقواده، ومصير كثير منهم إلى الموفق بالأمان، وإحسانه إليهم، فسقط في يده، ولم ير لنفسه ملجأ إلا طلب الأمان والصفح عن جرمه، فأرسل يطلب الأمان، فأجابه الموفق إليه، فخرج وجميع من معه، حتى وافى عسكر الموفق، فأحسن إليهم وأمنهم.
فلما اطمأن درمويه أظهر ما كان في يده من الأموال والأمتعة، وردها إلى أربابها ظاهرأن فعلم بذلك حسن نيته، فازداد إحسان الموفق إليه، وأمر أن يكتب إلى أمصار المسلمين بالنداء في أهل النواحي التي دخلها الزنج بالرجوع إلى أوطانهم، فسار الناس إلى ذلك؛ وأقام الموفق بالمدينة الموفقية ليأمن الناس بمقامه، وولى البصرة، والأبلة، وكور دجلة، رجلاً من قواده قد حمد مذهبه، وعلم حسن سيرته، يقال له العباس بن تركس، وأمره بالمقام بالبصرة، وولى قضاء البصرة والأبلة وكور دجلة محمد بن حماد.
وقدم ابنه أبا العباس إلى بغداد، ومعه راس الخبيث ليراه الناس، فبلغها لاثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.

وكان خروج صاحب الزنج يوم الأربعاء لأربع بقين من شهر رمضان سنة خمس وخمسين ومائتين، وقتل يوم السبت لليلتين خلتا من صفر سنة سبعين ومائتين، وكانت أيامه أربع عشرة سنة وأربعة اشهر وستة أيام، وقيل في أمر الموفق وأصحاب الزنج أشعار كثيرة، فمن ذلك قول يحيى بن محمد الأسلمي:
أقول وقد جاء البشير بوقعة ... أعزت من الإسلام ما كان واهيا
جزى الله خير الناس للناس بعدما ... أبيح حماهم خير ما كان جازيا
تفرد، إذ لم ينصر الله ناصر ... بتجديد دين كان أصبح باليا
وتجديد ملك قد وهى بعد عزه ... واخذ يثارات تبين الأعاديا
ورد عمارات أزيلت وأخربت ... ليرجع فيء قد تخرم وافيا
وترجع أمصار أبيحت وأحرقت ... مراراً فقد أمست قواءً عوافيا
ويشفي صدور المسلمينبوقعة ... يقر بها منها العيون البواكيا
ويتلى كتاب الله في كل مسجد ... ويلقى دعاء الطالبيين خاسيا
فأعرض عن جناته ونعيمه ... وعن لذة الدنيا وأصبح عاريا
وهي قصيدة طويلة، وقال غيره في هذا المعنى أيضاً شعراً كثيراً؛ وقد انقضى أمر الزنج.
ذكر الظفر بالروموفي هذه السنة خرجت الروم في مائة ألف، فنزلوا على قلمية، وهي على ستة أميال من طرسوس، فخرج إليهم بازمار ليلاً فبيتهم في ربيع الأول، فقتل منهم، فيما يقال، سبعين ألفأن وقتل مقدمهم، وهوبطريق البطارقة، وقتل أيضاً بطريق الفنادين، وبطريق الباطليق، وأفلت بطريق قرة وبه عدة جراحات، وأخذ لهم سبعة صلبان من ذهب وفضة؛ وصليبهم الأعظم من ذهب مكلل بالجوهر؛ وأخذ خمسة عشر ألف دابة، ومن السروج وغير ذلك، وسيوفاً محلاة، وأربع كراسي من ذهب، ومائتي كرسي من فضة، وآنية كثيرة، ونحواً من عشرة آلاف علم ديباج، وديباجاً كثيراً وبزيون وغير ذلك.
ذكر وفاة الحسن بن زيد وولاية أخيه محمدوفيها توفي الحسن بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، في رجب، وكانت ولايته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر وستة أيام، وولي مكانه أخوه محمد ابن زيد.
وكان الحسن جواداً امتدحه رجل فأعطاه عشرة آلاف درهم، وكان متواضعاً لله تعالى.
حكي عنه أنه مدحه شاعر فقال: اله فرد، وابن زيد فرد، فقال: بفيك الحجر، يا كذاب، هلا قلت الله فرد، وابن زيد عبد! ثم نزل عن مكانه، وخر ساجداً له تعالى، وألصق خده بالتراب، وحرم الشاعر.
وكان عالماً بالفقه والعربية، مدحه شاعر فقال:
لا تقل بشرى، ولكن بشريان ... عزة الداعي ويوم المهرجان
فقال له: كان الواجب أن تفتتح الأبيات بغير لأن فإن الشاعر المجيد يتخير لأول القصيدة ما يعجب السامع، ويتبرك به، ولواتدأت بالمصراع الثاني لكان أحسن؛ فقال له الشاعر: ليس في الدنيا كلمة أجل من قول: لا إله إلا الله، وأولها لا فقال: أصبت! وأجازه.
وحكي عنه أنه غنى عنده مغن بأبيات الفضل بن العباس في عتبة بن أبي لهب التي أولها: وأنا الأخضر من يعرفني؟ أخضر الجلدة من بيت العرب فلما وصل إلى قوله:
برسول الله وابني عمه ... وبعباس بن عبد المطلب
غير البيت فقال: لا بعباس بن عبد المطلب، فغضب الحسن وقال: يا ابن اللخناء، تهجوبني عمنا بين يدي، وتحرف ما مدحوا به؟ لئن فعلتها مرة ثانية لأجعلنها آخر غنائك.
ذكر وفاة أحمد بن طولون

وولاية ابنه خمارويه
في هذه السنة توفي احمد بن طولون، صاحب مصر، والشام، والثغور الشامية.
وكان سبب موته أن نائبه بطرسوس وثب عليه بازمار الخادم، وقبض عليه، وعصى على أحمد، وأظهر الخلاف، فجمع أحمد العساكر وسار إليه، فلما وصل أذنة كاتبه وراسله يستميله، فلم يلتفت إلى رسالته، فسار إليه احمد، ونازله وحصره، فخرق بازمار نهر البلد على منزلة العسكر، فكاد الناس يهلكون، فرحل أحمد مغيظاً حنفاً وكان الزمان شتاء، وأرسل إلى بازمار: إنني لم أرحل إلا خوفاً أن تنخرق حرمة هذا الثغر فيطمع فيه العدو.
فلما عاد إلى أنطاكية أكل لبن الجواميس، فأكثر منه، فأصابه منه هيضة، واتصلت حتى صار منها ذرب، وكان الأطبار يعالجونه، وهويأكل سرأن فلم ينجح الدواء، فتوفي رحمه الله.

وكانت إمارته نحوست وعشرين سنة، وكان عاقلاً حازمأن كثير المعروف والصدقة، متدينأن يحب العلماء وأهل الدين، وعمل كثيراً من أعمال البر ومصالح المسلمين، وهوالذي بنى قلعة يافأن وكانت المدينة بغير قلعة، وكان يميل إلى مذهب الشافعي، ويكرم أصحابه.
وولي بعده ابنه خمارويه، وأطاعه القواد، وعصى عليه نائب أبيه بدمشق، فسير إليه العساكر فأجلوه، وساروا من دمشق إلى شيزر.
ذكر مسير إسحاق بن كنداجيق إلى الشاملما توفي احمد بن طولون كان إسحاق بن كنداجيق على الموصل والجزيرة، فطمع هووابن أبي الساج في الشام، واستصغرا أولاد أحمد، وكاتبا الموفق بالله في ذلك، واستمداه، فأمرهما بقصد البلاد، ووعدهما إنفاذ الجيوش، فجمعأن وقصدا ما يجاورهما من البلاد، فاستوليا عليه وأعانهما النائب بدمشق لأحمد بن طولون، ووعدهما الانحياز إليهمأن فتراجع من بالشام من نواب أحمد بانطاكية، وخلب وحمص، وعصى متولي دمشق، واستولى إسحاق على ذلك.
وبلغ الخبر إلى أبي الجيش خمارويه بن أحمد، فسير الجيوش إلى الشام فملكوا دمشق، وهرب النائب الذي كان بها؛ وسار عسكر خمارويه من دمشق إلى شيزر لقتال إسحاق بن كنداجيق وابن أبي الساج، فطاولهم إسحاق ينتظر المدد من العراق، وهجم الشتاء على الطائفتين، وأضر بأصحاب ابن طولون، فتفرقوا في المنازل بشيزر.
ووصل العسكر العراقي إلى كنداجيق وعليهم أبوالعباس أحمد بن الموفق وهوالمعتضد بالله، فلما وصل سار مجداً إلى عسكر خمارويه بشيزر، فلم يشعروا حتى كبسهم في المساكن، ووضع السيف فيهم، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وسار من سلم إلى دمشق على أقبح صورة، فسار المعتضد إليهم، فجلوا عن دمشق إلى الرملة، وملك هودمشق، ودخلها في شعبان سنة إحدى وسبعين ومائتين، وأقام عسكر ابن طولون بالرملة، فأرسلوا إلى خمارويه يعرفونه بالحال، فخرج من مصر في عساكره قاصداً إلى الشام.
ذكر عدة حوادثوفيهأن في جمادى الأولى، توفي هارون بن الموفق ببغداد.
وفيها كان فداء أهل سندية على يد بازمار.
وفيهأن في شعبان، شغب أصحاب أبي العباس بن الموفق على صاعد بن مخلد، وهووزير الموفق، وطلبوا الأرزاق، وقاتلهم أصحاب صاعد، وكان بينهم حرب شديدة قتل فيها جماعة، وأسر من أصحاب أبي العباس جماعة، ولم يكن أبوالعباس حاضرأن كان قد خرج متصيدأن ودامت الحرب إلى بعد المغرب، ثم كف بعضهم عن بعض، ثم وضع العطاء من الغد، واصطلحوا.
وفيها كانت وقعة بين إسحاق بن كنداجيق وبين ابن دعباش وكان ابن دعباش بالرقة عاملاً عليهأن وعلى الثغور والعواصم، لابن طولون، وابن كنداجيق على الموصل للخليفة.
وفيها ابتدأ إسماعيل بن موسى بناء مدينة لاردة من الأندلس، وكان مخالفاً لمحمد صاحب الأندلس، ثم صالحه في العام الماضي، فلما سمع صاحب برشلونة الفرنجي جمع وحشد وسار يريد منعه من ذلك، فسمع به إسماعيل، فقصده وقاتله، فانهزم المشركون، وقتل أكثرهم، وبقي أكثر القتلى في تلك الأرض دهراً طويلاً.
وفيها توفي محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني الحافظ، ومحمد بن مسلم بن عثمان، المعروف بابن واره الرازي، وكان إماماً في الحديث، وله فيه مصنفات.
وفيها توفي داود بن علي الاصبهاني الفقيه، إمام أصحاب الظاهر، وكان مولده سنة اثنتين ومائتين.
وفيها توفي مصعب بن أحمد بن مصعب أبواحمد الصوفي الزاهد، وهومن أقران الجنيد.
وفيها مات ملك الروم، وهوابن الصقلبية، وحج بالناس هارون بن محمد بن محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله ابن العباس.
وفيها توفي خالد بن أحمد بن خالد السدوسي الذهلي الذي كان أمير خراسان ببغداد، وكان قد قصد الحج فقبض عليه الخليفة المعتمد وحبسه، فمات بالحبس، وهوالذي أخرج البخاري، صاحب الصحيح، من بخارى، وخبره معه مشهور، فدعا عليه البخاري فأدركته الدعوة.
حوادث سنة إحدى وسبعين ومائتين

ذكر خلاف محمد وعلي العلويين
في هذه السنة دخل محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب المدينة، وقتلا جماعة من أهلهأن وأخذا من قوم مالأن ولم يصل أهل المدينة في مسجد رسول الله، صلى اله عليه وسلم، لا جمعة، ولا جماعة، فقال الفضل بن العباس العلوي في ذلك:

أخربت دار هجرة المصطفى الب ... ر فأبكى خراببها المسلمينا
عين فأبكي مقام جبريل والقب ... ر فبكي والمنبر الميمونا
وعلى المسجد الذي اسه التق ... وى، خلاءً امسى من العابدينا
وعلى طيبة التي بارك الل ... ه عليها بخاتم المرسلينا
ذكر عزل عمرو بن الليث عن خراسانوفيها ادخل المعتمد إليه حاج خراسان، وأعلمهم أنه قد عزل عمروبن الليث عما كان قلده، ولعنه بحضرتهم، وأخبرهم أنه قلد خراسان محمد ابن طاهر، وأمر أيضاً بلعن عمروعلى المنابر، فلعن، فسار صاعد بن مخلد إلى فارس لحرب عمرو، فاستخلف محمد بن طاهر رافع بن هرثمة على خراسان، فلم يغير السامانية عما وراء النهر.
ذكر وقعة الطواحينوفي هذه السنة كانت وقعة الطواحين بين أبي العباس المعتضد وبين خماريه ابن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن المعتضد سار من دمشق، بعد أن ملكهأن نحوالرملة إلى عساكر خمارويه، فأتاه الخبر بوصول خمارويه إلى عساكره، وكثرة من معه من الجموع، فهم بالعود، فلم يمكنه من معه من أصحاب خمارويه الذين صاروا معه؛ وكان المعتضد قد أوحش ابن كنداجيق، وابن أبي الساج، ونسبهما إلى الجبن، حيث انتظراه ليصل إليهمأن ففسدت نياتهما معه.
ولما وصل خمارويه إلى الرملة نزل على الماء الذي عليه الطواحين، فملكه، فنسبت الوقعة إليه؛ ووصل المعتضد وقد عبأ أصحابه، وكذلك أيضاً فعل خمارويه، وجعل له كميناً عليهم سعيداً الأيسر، وحملت ميسرة المعتضد على ميمنة خمارويه، فانهزمت، فلما رأى ذلك خمارويه، ولم يكن رأى مصافاً قبله، ولى منهزماً في نفر من الأحداث الذين لا علم لهم بالحرب، ولم يقف دون مصر.
ونزل المعتضد إلى خيام خمارويه، وهولا يشك في تمام النصر، فخرج الذين عليهم سعيد الأيسر، وانضاف إليه من بقي من جيش خمارويه، ونادوا بشعارهم، وحملوا على عسكر المعتضد وهم مشغولون بنهب السواد، ووضع المصريون السيف فيهم، وظن المعتضد أن خمارويه قد عاد، فركب فانهزم ولم يلوعلى شيء، فوصل إلى دمشق، ولم يفتح له أهلها بابهأن فمضى منهزماً حتى بلغ طرسوس، وبقي العسكران يضطربان بالسيوف، وليس لواحد منهما أمير.
وطلب سعيد الأيسر خمارويه فلم يجده، فأقام أخاه أبا العشائر، وتمت الهزيمة على العراقيين، وقتل منهم خلق كثير وأسر كثير.
وقال سعيد لعساكر: إن هذا أخوصاحبكم، وهذه الأموال تنفق فيكم؛ ووضع العطاء، فاشتغل الجند عن الشغب بالأموال، وسيرت البشارة إلى مصر، ففرح خمارويه بالظفر، وخجل للهزيمة، غير أنه أكثر الصدقة، وفعل مع الأسرى فعلة لم يسبق إلى مثلها أحد قبله، فقال لأصحابه: إن هؤلاء أضيافكم فأكرموهم؛ ثم أحضرهم بعد ذلك وقال لهم: من اختار المقام عندي فله الإكرام والمواساة، ومن أراد الرجوع جهزناه وسيرناه؛ فمنهم من قام ومنهم من سار مكرماً؛ وعادت عساكر خمارويه إلى الشام أجمع، فاستقر ملك خمارويه له.
ذكر الحرب بين عسكر الخليفة وعمرو الصفارفي هذه السنة عاشر ربيع الأول كانت وقعة بين عساكر الخليفة وفيها أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، وبين عمروبن الليث الصفار، ودامت الحرب من أول النهار إلى الظهر، فانهزم عمرووعساكره وكانوا خمسة عشر ألفاً بين فارس وراجل، وجرح الدرهمي مقدم جيش عمروبن الليث، وقتل مائة رجل من حماتهم، واسر ثلاثة آلاف أسير، واستأمن منهم ألف رجل، وغمنوا من معسكر عمرومن الدواب والبقر والحمير ثلاثين ألف رأس، وما سوى ذلك فخارج عن الحد.
ذكر حروب الأندلس وإفريقيةفي هذه السنة سير محمد، صاحب الأندلس، جيشاً مع ابنه المنذر إلى مدينة بطليوس، فزال عنها ابن مروان الجليقي، وكان مخالفأن كما ذكرنأن وقصد حصن أشير غوة فتحصن به، فأحرق المنذر بطليوس، وسير محمد أيضاً جيشاً مع هاشم بن عبد العزيز إلى مدينة سرقسطة، وبها محمد بن لب بن موسى، فملكها هاشم واخرج منها محمدأن وكان معه عمروبن حفصون الذي ذكرنا خروجه على صاحب الأندلس فصالحه.
فلما عادوا إلى قرطبة هرب عمر بن حفصون، وقصد بربشتر مخالفأن فاهتم صاحب الأندلس به، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها سارت سرية للمسلمين عظيمة بصقلية إلى رمطة، فخربت وغمنت وسبت، وأسرت كثيراً وعادت.

وتوفي أمير صقلية، وهوالحسين بن أحمد، فولي بعد سوادة بن محمد ابن خفاجة التميمي، وقدم إليهأن فسار عسكر كبير إلى مدينة قطانية فأهلك ما فيهأن وسار إلى طبرمين فقاتل أهلهأن وأفسد زرعهأن وتقدم فيهأن فأتاه رسول بطريق الروم يطلب الهدنة والمفاداة، فهادنه ثلاثة أشره، وفاداه ثلاثمائة أسير من المسلمين، فرجع سوادة إلى بلرم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عقد لأحمد بن محمد الطائي على المدينة وطريق مكة، فوثب يوسف بن أبي الساج، وهووالي مكة، على بدر غلام الطائي، وكان أميراً على الحاج، فحاربه وأسره، فثار الجند والحاج بيوسف، فقاتلوه، واستنقذوا بدرأن وأسروا يوسف وحملوه إلى بغداد، وكانت الحرب بينهم على أبواب المسجد الحرام.
وفيها خربت العامة الدير العتيق الذي نهر عيسى وانتهبوا ما فيه، وقلعوا أبوابه، فسار إليهم الحسين بن إسماعيل، صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر، فمنعهم من هدم ما بقي منه، وكن يتردد هووالعامة إليه أيامأن حتى كاد أن يكون بينهم حرب، ثمبني ما هدم بعد أيام، وكانت إعادة بنائه عبدون أخي صاعد بن مخلد. وحج بالناس هارون بن إسحاق.
وفيها توفي عبد الرحمن بن محمد بن منصور البصري.
حوادث سنة اثنتين وسبعين ومائتين

ذكر الحرب بين اذكوتكين ومحمد بن زيد العلوي
في هذه السنة، منتصف جمادى الأولى، كانت حرب شديدة بين أذكوتكين وبين محمد بن زيد العلوي، صاحب طبرستان، ثم سار أذكوتكين من قزوين إلى الري ومعه أربعة آلاف فارس، وكان مع محمد بن زيد من الديلم والطبرية والخراسانية عالم كبير، فاقتتلوأن فانهزم عسكر محمد بن زيد وتفرقوأن وقتل منهم ستة آلاف وأسر ألفان، وغمن أذكوتكين وعسكره من أثقالهم وأموالهم ودوابهم شيئاً لم يروا مثله، ودخل أذكوتكين الري فأقام بهأن وأخذ من أهلها مائة ألف ألف دينار، وفرق عماله في أعمال الري.
ذكر عدة حوادثفيها وقع بين أبي العباس بن الموفق وبين بازمار بطرسوس، فثار أهل طرسوس بأبي العباس فأخرجوه، فسار إلى بغداد في النصف من المحرم.
وفيها توفي سليمان بن وهب في جيش الموفق في صفر.
وفيها خرج خارجي بطريق خراسان، وسار إلى دسكرة الملك فقتل.
وفيها دخل حمدان بن حمدون، وهارون الشاري مدينة الموصل، وصلى بهم الشاري في جامعها.
وفيها نقب المطبق من داخله، وأخرج منه الدوباني العلوي، وفتيان معه، فركبوا دواب أعدت لهم وهربوأن فأغفلت أبواب بغداد، فأخذ الدوباني ومن معه، فأمر الموفق، وهوبواسط، أن تقطع يده ورجله من خلاف، فقطع.
وفيها قدم صاعد بن مخلد ن فارس إلى واسط، فأمر الموفق جميع القواد أن يستقبلوه، فاستقبلوه وترجلوا له، وقبلوا يده، وهولا يكلمهم كبراً وتيهأن ثم قبض الموفق عليه وعلى جميع أهله وأصحابه، ونهب منازلهم بعد أيام، وكان قبضه في رجب، وقبض ابناه أبوعيسى وصالح، وأخوه عبدون ببغداد، واستكب مكانه أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، واقتصر به على الكتابة دون غيرها.
وفيها نزل بنوشيبان ومن معهم بين الزانين من أعمال الموصل، وعاثوا في البلد وأفسدوأن وجمع هارون الخارجي على قصدهم، وكتب إلى حمدان ابن حمدون التغلبي في المجيء إليه، إلى الموصل، فسار هارون نحوالموصل، وسار حمدان ومن معه إليه، فعبروا إليه بالجانب الشرقي من دجلة، وساروا جميعاً إلى نهر الخازر، وقاربوا حلل بني شيبان، فواقعته طليعة لبني شيبان على طليعة هارون، فانهزمت طليعة هارون، وانهزم هارون، وجلا أهل نينوى عنهأن إلا من تحصن بالقصور.
وفيها زلزلت مصر، في جمادى الآخرة، زلزلة شديدة أخربت الدور والمسجد الجامع، وأحصي بهأن في يوم واحد، ألف جنازة.
وفيها غلا السعر ببغداد، وكان سببه أن أهل سامرا منعوا من انحدار السفن بالطعام ومنع الطائي أرباب الضياع من الدياس ليغلوا الأسعار، ومنع أهل بغداد عن سامرا الزيت والصابون وغير ذلك، واجتمعت العامة ووثبوا بالطائي، فجمع أصحابه وقاتلهم، فجرح بينهم جماعة، وركب محمد بن طاهر وسكن الناس، وصرفهم عنه.
وفيها توفي إسماعيل بن برية الهاشمي في شوال! وعبيد الله بن عبد الله الهاشمي.

وفيها تحركت الزنج بواسط، وصاحوا: انكلاي، يا منصور، وكان هووالمهلبي وسليمان بن جامع، وجماعة من قوادهم في حبس الموفق ببغداد، وكتب الموفق بقتلهم، فقتلوأن وأرسلت رؤوسهم إليه، وصلبت أبدانهم ببغداد.
وفيها صلح أمر مدينة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وتراجع الناس إليها.
وفيها غزا الصائفة بازمار، وحج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق.
وفيها سير صاحب الأندلس إلى ابن مروان الجليقي، وهوبحصن أشير غرة، فحصروه وضيقوا عليه، وسير جيشاً آخر إلى محاربة عمر بن حفصون بحصن بربشتر.
وفيها انقضت الهدنة بين سوادة أمير صقلية والروم، فأخرج سوادة السرايا إلى بلد الروم بصقلية، فغمنت وعادت.
وفيها قدم من القسطنطينية، بطريق، يقال له انجفور، في عسكر كبير، فنزل على مدينة سبرينة فحصرهأن وضيق على من بها من المسلمين، فسلموها على أمان ولحقوا بأرض صقلية، ثم وجه انجفور عسكراً إلى مدينة منتيه، فحصروهأن حتى سلمها أهلها بأمان إلى بلرم من صقلية.
وفيها مات أبوبكر محمد بن صالح بن عبد الرحمن الأمناطي ، المعروف بكنجلة، وهومن أصحاب يحيى بن معين، وهولقبه.
وفيها توفي أحمد بن عبد الجبار بن محمد بن عطارد العطاردي التميمي، وهويروي مغازي ابن إسحاق عن يونس عن ابن إسحاق، ومن طريقه سمعناه.
وفيها توفي إبراهيم بن الوليد بن الخشخاش.
وفيها توفي شعيب بن بكار الكاتب، وله حديث عن أبي عاصم النبيل.
حوادث سنة ثلاث وسبعين ومائتين

ذكر اختلاف بين ابن أبي الساج وابن كنداج والخطبة بالجزيرة لابن طولون
في هذه السنة فسد الحال بين محمد بن أبي الساج وإسحاق بن كنداج، وكانا متفقين في الجزيرة.
وسبب ذلك أن ابن أبي الساج نافر إسحاق في الأعمال، وأراد التقدم، وامتنع عليه إسحاق، فأرسل ابن أبي الساج إلى خمارويه بن احمد بن طولون، صاحب مصر، وأطاعه، وصار معه وخطب له بأعماله، وهي قنسرين، وسير ولده ديوداد إلى خمارويه رهينةً، فأرسل إليه خمارويه مالاً جزيلاً له ولقواده.
وسار خمارويه إلى الشام، فاجتمع هووابن أبي الساج ببالس، وعبر ابن أبي الساج الفرات إلى الرقة، فلقيه ابن كنداج، وجرى بينهما حرب انهزم فيها ابن كنداج، واستولى ابن أبي الساج على ما كان لابن كنداج، وعبر خمارويه الفرات ونزل الرافقة، ومضى إسحاق منهزماُ إلى قلعة ماردين، فحصره ابن أبي الساج، وسار عنها إلى سنجار، فأوقع بقوم من الأعراب، وسار ابن كنداج من ماردين نحوالموصل، فلقيه ابن أبي الساج ببرقعيد، فكمن كمينأن فخرجوا على ابن كنداج وقت القتال، فانهزم عنهأن وعاد إلى ماردين فكان فيها؛ وقوي ابن أبي الساج، وظهر أمره، واستولى على الجزيرة والموصل، وخطب لخمارويه فيها ثم لنفسه بعده.
ذكر وقعة بين عسكر ابن أبي الساج والشراةلما استولى ابن أبي الساج على الموصل أرسل طائفة من عسكره مع غلامه فتح، وكان شجاعاً مقدماً عنده، إلى المرج من أعمال الموصل، فساروا إليهأن وجبوا الخراج منها.
وكان اليعقوبية الشراة بالقرب منه، فأرسل إليهم فهادنهم، وقال: إمنا مقامي بالمرج مدة يسيرة ثم أرحل عنه. فسكنوا إلى قوله وتفرقوأن فنزل بعضهم بالقرب من سوق الأحد، فأسرى إليهم فتح في السحر، فكبسهم وأخذ أموالهم، وانهزم الرجال عنه.
وكان باقي اليعقوبية قد خرجوا إلى أصحابهم الذين أوقع بهم فتح من غير أن يعلموا بالوقعة، فلقيهم المنهزمون من أصحابهم، فاجتمعوأن وعادوا إلى فتح فقاتلوه، وحملوا حملة رجل واحد، فهزموه وقتلوا من أصحابه ثماني مائة رجل، وكان أصحابه ألف رجل، فأفلت في نحومائة رجل، وتفرق مائة في القرى واختفوأن وعادوا إلى الموصل متفرقين، وأقاموا بها.
ذكر وفاة محمد بن عبد الرحمن
وولاية ابنه المنذر
في هذه السنة توفي محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، لخ صفر، وكان عمره نحواً من خمس وستين سنة، وكانت ولايته أربعاً وثلاثين سنة وأحد عشر شهراً، وكان أبيض، مشرباً بحمرة، ربعة، أوقص، يخضب بالحناء والكتم، وخلف ثلاثة وثلاثين ولداً ذكورأن وكان ذكيأن فطناً بالأمور المشتبهة متعانياً منها.
ولما مات ولي بعده ابنه المنذر بن محمد، بويع له بعد موت أبيه لثلاث ليال، وأطاعه الناس، وأحسن إليهم.
ذكر عدة حوادث

وفيها أيضاً وقعة بالرقة في جمادى الأولى بين إسحاق بن كنداجيق وبين محمد بن أبي الساج، فانهزم إسحاق، ثم كانت بينهما وقعة أخرى في ذي الحجة فانهزم إسحاق أيضاً.
وفي هذه السنة وثب أولاد ملك الروم على أبيهم فقتلوه، وملك أحدهم بعده.
وفيها قبض الموفق على لؤلؤ غلام ابن طولون الذي كان قدم عليه بالأمان حين كان يقاتل الزنج بالبصرة، ولما قبضه قيده، وضيق عليه، وأخذ منه أربع مائة ألف دينار، فكان لؤلؤ يقول: ليس لي ذنب إلا كثرة مالي؛ ولم تنزل أموره في إدبار إلى أن افتقر ولم يبق له شيء، ثم عاد إلى مصر في آخر أيام هارون بن خمارويه، فريداً وحيدأن بغلام واحد، فكان هذا ثمرة العقل السخيف وكفر الإحسان.
وحج بالناس فيها هارون بن محمد بن إسحاق.
وفيها ثار السودان بمصر، وحصروا صاحب الشرطة، فسمع خمارويه ابن أحمد بن طولون الخبر، فركب، وفي يده سيف مسلول، وقصد دار صاحب الشرطة، وقتل كل من لقيه من السودان، فانهزموا منه، وأكثر القتل فيهم، وسكنت مصر وأمن الناس.
وفيها مات أبوداود سليمان بن الأشعث السجستاني، صاحب كتاب السنن، ومحمد بن زيد بن ماجة القزويني، وله أيضاً كتاب السنن، وكان عاقلأن إماماً عالماً؛ وتوفي الفتح بن شحرق أبوداود الكشي الصوفي، وكان موته ببغداد، وهومن أصحاب الأحوال الشريفة؛ وتوفي حنبل بن إسحاق.
حوادث سنة أربع وسبعين ومائتين

ذكر الحرب بين عسكر عمرو بن الليث وبين عسكر الموفق
في هذه السنة سار الموفق إلى فارس لحرب عمروبن الليث الصفار، فبلغ الخبر إلى عمرو، فسير العباس بن إسحاق في جمع كبير من العسكر إلى سيراف، وأنفذ ابنه محمد بن عمروإلى أرجان، وسير أبا طلحة شركب، صاحب جيشه، على مقدمته، فاستأمن أبوطلحة إلى الموفق، وسمع عمروذلك، فتوقف عن قصد الموفق.
ثم إن أبا طلحة عزم على العود إلى عمرو، فبلغ الموفق خبره فقبض عليه بقرب شيراز، وجعل ماله لابنه المعتضد أبي العباس، وسار يطلب عمرأن فعاد عمروإلى كرمان، ومنها إلى سجستان على المفازة، فتوفي ابنه محمد بالمفازة، ولم يقدر الموفق على اخذ كرمان وسجستان من عمروفعاد عنه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا بازمار، فأوغل في أرض الروم فأوقع فيها بكثير من أهلهأن وقتل وغمن، وسبى وأسر، وعاد سالماً إلى طرسوس.
وفيها دخل صديق الفرغاني دور سامرا فنهبهأن وأخذ أموال التجار منها وأفسد؛ وكان صديق هذا يحفر الطريق ويحميه، ثم صار يقطعه.
وحج بالناس هارون بن محمد.
وفيها توفي أبوالعباس بن الكبش بن المتوكل، وكان قد حبسه أخوه المعتمد ثم أطلقه.
وفيها توفي الحسن بن مكر، وعلي بن عبد الحميد الواسطي.
وفيها جمع إسحاق بن كنداج جمعاً كثيراً وسار نحوالشام، فبلغ الخبر خمارويه، فسار إليه وقد عبر الفرات، فالتقيأن وجرى بين الطائفتين قتال شديد، انهزم فيه إسحاق هزيمة عظيمة لم يرده شيء، حتى عبر الفرات وتحصن بهأن وسار خمارويه إلى الفرات، فعمل جسرأن فلما علم إسحاق بذلك سار من هناك إلى قلاع له قد أعدها وحصنهأن وأرسل إلى خماريه يخضع له، ويبذل له الطاعة في جميع ولايته، وهي الجزيرة وما والاهأن فأجابه إلى ذلك.
وصالحه ابن أبي الساج، وجمع جمعاً كثيرأن وسار نحوالشام قاصداً منازعة خمارويه حيث كان أبعد إلى مصر، فبلغ الخبر خمارويه، فخرج عن مصر في عساكره، فالتقيا في البثينة من أعمال دمشق، فاقتتلا قتالاً عظيمأن فانهزم ابن أبي الساج، وعاد منهزماً حتى عبر الفرات، فأحضر خمارويه ولد ابن أبي الساج، وكان رهينة عنده، فخلع عليه، وسيره إلى أبيه، وعاد إلى مصر.
حوادث سنة خمس وسبعين ومائتين
ذكر الاختلاف بين خمارويه وابن أبي الساج
قد ذكرنا اتفاق ابن أبي الساج وخمارويه بن طولون، وطاعة ابن أبي الساج له، فلما كان الآن خالف ابن أبي الساج على خمارويه، فسمع خمارويه الخبر، فسار عن مصر في عساكره نحوالشام، فقدم إليه آخر سنة أربع وسبعين، فسار أبن أبي الساج إليه، فالتقوا عند ثنية العقاب بقرب دمشق، واقتتلوا في المحرم من هذه السنة، وكان القتال بينهمأن فانهزمت ميمنة خمارويه وأحاط باقي عسكره بابن أبي الساج ومن معه، فمضى منهزماً واستبح معسكره، وأخذت الأثقال والدواب وجميع ما فيه.

وكان قد خلف بحمص شيئاً كثيرأن فسير إليه خمارويه قائداً في طائفة من العسكر جريدة، فسبقوا ابن أبي الساج إليهأن ومنعوه من دخولها والاعتصام بهأن واستولوا على ما له فيهأن فمضى ابن أبي الساج منهزماً إلى حلب، ثم منها إلى الرقة، فتبعه خمارويه، ففارق الرقة، فعبر خمارويه الفرات، وسار في أثر ابن أبي الساج، فوصل خمارويه إلى مدينة بلد، وكان قد سبقه ابن أبي الساج إلى الموصل.
فلما سمع ابن أبي الساج بوصوله إلى بلد سار عن الموصل إلى الحديثة، وأقام خمارويه ببلد، وعمل له سريراً طويل الأرجل، فكأنه يجلس عليه في دجلة، هكذا ذكر أبوزكرياء يزيد بن إياس الأزدي الموصلي صاحب تاريخ الموصل: أن خمارويه وصل إلى بلد؛ وكان إماماً فاضلاً عالماً بما يقول وهويشاهد الحال.
ذكر الحرب بين ابن كنداج وابن أبي الساجلما انهزم ابن كنداج من ابن أبي الساج، كما ذكرناه، أقام إلى أن انهزم ابن أبي الساج من خمارويه، فلما وافى خمارويه بلداً أقام بهأن وسير مع إسحاق بن كنداج جيشاً كثيرأن وجماعة من القواد، ورحل يطلب ابن أبي الساج، فمضى بين يديه وابن كنداج يتبعه إلى تكريت، فعبر ابن أبي الساج دجلة، وأقام ابن كنداج، وجمع السفن ليعمل جسراً يعبر عليه، وكان يجري بين الطائفتين مراماة.
وكان ابن أبي الساج في نحوألفي فارس، وابن كنداج في شعرين ألفأن فلما رأى ابن أبي الساج اجتماع السفن سار عن تكريت إلى الموصل ليلأن فوصل إليها في اليوم الرابع، فنزل بظاهرها عن الدير الأعلى، وسار ابن كنداج يتبعه، فوصل إلى العزيق، فلما سمع ابن أبي الساج خبره سار إليه، فالتقوأن واقتتلوا عند قصر حرب، فاشتد القتال بينهم، وصبر محمد بن أبي الساج صبراً عظيمأن لأنه كان في قلة، فنصره الله، وانهزم ابن كنداج وجميع عسكره، ومضى منهزماً.
وكان أعظم الأسباب في هزيمته بغيه، فإنه لما قيل له: إن ابن أبي الساج قد أقبل نحوك من الموصل ليقاتلك، قال: أستقبل الكلب! فعد الناس هذا بغياً وخافوا منه، فلما انهزم، وسار إلى القة، تبعه محمد إليهأن وكتب إلى أبي أحمد الموفق يعرفه ما كان فيه، ويستأذنه في عبور الفرات إلى الشام، بلاد خمارويه، فكتب إليه الموفق يشكره، ويأمره بالتوقف إلى أن تصله الإمداد من عنده.
وأما ابن كنداج فإنه سار إلى خمارويه، فسير معه جيشأن فوصلوا إلى الفرات، فكان إسحاق بن كنداج، وابن أبي الساج بالرقة، ووكل بالفرات من يمنع من عبورهأن فبقوا كذلك مدة.
ثم إن ابن كنداج سير طائفة من عسكره، فعبروا الفرات في غير ذلك الموضع، وساروا فلم تشعر طائفة عسكر ابن أبي الساج، وكانوا طليعة، إلا وقد أوقعوا بهم، فانهزموا من عسكر إسحاق إلى الرقة، فلما رأى ابن أبي الساج ذلك سار عن الرقة إلى الموصل، فلما وصل إليها طلب من أهلها المساعدة بالمال، وقال لهم: ليس بالمضطر مروءة؛ فأقام بها نحوشهر، وانحدر إلى بغداد، فاتصل بأبي أحمد الموفق في ربيع الأول من سنة ست وسبعين ومائتين، فاستصحبه معه إلى الجبل، وخلع عليه، ووصله بمال، وأقام ابن كنداج بديار ربيعة وديار مضر من أرض الجزيرة.
ذكر الحرب بين الطائي وفارس العبديوفيها ظهر فارس العبدي في جمع، فأخاف السبيل، وسار إلى دور سامرا ونهب، فسار إليه الطائي مقاتلأن فهزمه الطائي، وأخذ سواده، ثم سار الطائي إلى دجلة ليعبرهأن فدخل طيارة له، لأدركه بعض أصحاب فارس، فتعلقوا بكوثل الطيارة، فرمى الطائي نفسه في الماء وسبح، فلما خرج منه نفض لحيته وقال: أيش ظن العبدي؟ أليس أنا أسبح من سمكة؟ ثم نزل الطائي السن والعبدي بإزائه، وقال علي بن بسام في الطائي:
قد أقبل الطائي ما أقبلا ... يفتح في الأفعال ما أجملا
كأنه من لين ألفاظه ... صبية تمضع جهد البلا
وجهد البلا ضرب من النافط يتعلك.
وفيها قبض الموفق على الطائي وقيده، وختم على كل شيء له، وكان يلي الكوفة وسوادهأن وطريق خراسان، وسامرأن والشرطة ببغداد، وخراج بادوريأن وقطربل، ومسكن.
ذكر قبض الموفق على ابنه المعتضد باللهفي هذه السنة، في شوال، قبض الموفق على ابنه المعتضد بالله أبي العباس أحمد.

وسبب ذلك أن الموفق دخل إلى واسط ونزل بهأن ثم عاد إلى بغداد، وتخلف المعتمد على اله بالمدائن، وأمر الموفق ابنه أن يسير إلى بعض الوجوه، فقال: لا أخرج إلا إلى الشام لأنها الولاية التي ولانيها أمير المؤمنين. فلما امتنع عليه أمر بإحضاره، فلما حضر أمر بعض خدمه أن يحبسه في حجرة في داره، فلما قام المعتضد تقدم إليه الخادم وأمره بدخول تلك الدار، فدخل ووكل بع فيها.
وثار القواد من أصحابه ومن تبعهم وركبوأن واضطربت بغداد لما رأوا السلاح والقواد، فركب الموفق إلى الميدان وقال لهم: ما شأنكم؟ أترون أشفق على ولدي مني، وقد احتجت إلى تقويمه! فانصرفوا.
في هذه السنة سار الطائي إلى سامرا بسب صديق، فراسله وأمنه، ودخل سامرا في جماعة من أصحابه، فأخذهم الطائي وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف،وحملهم إلى بغداد.
وفيها غزا بازمار في البحر، فغمن من الروم أربعة مراكب.
ذكر استيلاء رافع بن هرثمة على جرجانفي هذه السنة سار رافع بن هرثمة إلى جرجان، فأزال عنها محمد بن زيد، وسار محمد إلى استراباذ، فحصره فيها رافع، وأقام عليه نحوسنتين، فغلت الأسعار بحيث لم يوجد ما يؤكل، وبيع وزن درهم ملح بدرهمين فضة، وفارقها محمد بن زيد ليلاً في نفر يسير إلى سارية، فسير إليه رافع عسكرأن فتحاربأن وسار محمد عن سارية وعن طبرستان، وذلك في ربيع الأول سنة سبع وسبعين ومائتين، واستأمن رستم بن قارن إلى رافع بطبرستان، فصاهره ابن قوله.
وقدم على رافع، وهوبطبرستان، علي بن الليث، وكان قد حبسه أخوه عمروبكرمان، فاحتال حتى تخلص هووابناه المعدل والليث، وأنفذ رافع إلى شالوس محمد بن هارون نائباً عنه، فأتاه بها علي بن كالي مستأمنأن فأتاهما محمد بن زيد وحصرهما بشالوس، وأخذ الطريق عليهمأن فلم يصل منهما إلى رافع خبر، فلما تأخر خبرهما عنه أرسل جاسوساً يأتيه بأخبارهمأن فعاد إليه فأخبره بحصر محمد بن زيد إياهما بشالوس، فعظم عليه، وسار إليهمأن فرحل عنهما محمد بن زيد إلى أرض الديلم، فدخل رافع خلفه أرض الديلم فخرقها حتى اتصل بحدود قزوين، وعاد إلى الري، وأقام بها إلى أن توفي الموفق في رجب سنة ست وسبعين ومائتين.
ذكر وفاة المنذر بن محمد الأمويوفيها في المحرم توفي المنذر بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام الأموي، صاحب الأندلس، وقيل في صفر، وكانت ولايته سنة واحدة وأحد عشر شهراً وعشرة أيام، وكان عمره نحواً من ست وأربعين سنة.
وكان أسمر طويلاً بوجهه أثر جدري، جعدأن كث اللحية، وخلف ستى ذكرو، وكان جواداً يصل الشعراء ويحب الشعر.
ولما توفي بويع أخوه عبد اله بن محمد، بويع له يوم موت أخيه، وكنيته أبومحمد، أمه أم ولد اسمها عشار توفيت قبل ابنها بسنة، وفي أيامه امتلأت الأندلس بالفتن، وصار في كل جهة متغلب، ولم تزل كذلك طول ولايته.
ذكر عدة حوادثوفيها توفي أبوبكر أحمد بن محمد بن الحجاج المروروذي، وهوصاحب أحمد بن حنبل؛ وعبد الله بن يعقوب بن إسحاق العطار الموصلي التميمي، وكان كثير الحديث والرواية، وكان معدلاً عند الحكام.
وفيها توفي أبوسعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله البكري النحوي الغوي المشهور، صاحب التصانيف، وقيل توفي سنة سبعين، والأول أصح.
حوادث سنة ست وسبعين ومائتينفي هذه السنة جعلت شرطة بغداد إلى عمروبن الليث، وكتب اسمه على الأعلام والترسة وغيرهأن وكان ذلك في شوال، ثم ترتب في الشرطة عبيد الله بن طاهر من قبل عمرو، ثم أمره بطرح اسم عمروعن الأعلام وغيرها في شوال من هذه السنة.
وفيهأن في منتصف شهر ربيع الأول، سار الموفق إلى بلاد الجبل، وسبب مسيره أن الماذرائي، كاتب أذكوتكين، أخبره أن له هناك مالاً عظيمأن وأنه إن سار معه أخذه جميعه، فسار إليه، فلم يجد المال، فلما لم يجد شيئاً سار إلى الكرج، ثم إلى أصبهان يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف، فتنحى أحمد عن البلد بجيشه وعياله، وترك داره بفرشها لينزلها الموفق إذا قدم.
وفيها استعمل الموفق بالله على أذربيجان ابن أبي الساج، فسار إليهأن فخرج إليه عبد الله بن الحسن الهمداني، صاحب مراغة، ليصدره عنهأن فحاربه، فانهزم عبد الله وحصر، وأخذت منه سنة ثمانين ومائتين، كما نذكره، واستقر ابن أبي الساج لعمله.

وفيها توفي محمد بن حماد بن إسحاق بن حماد بن يزيد القاضي.
وفيها قتل عامل الموصل لاين كنداج إنساناً من الخوارج اسمه نعيم، فسمع هارون وتقدم الخوارج بذلك وهوبحديثه الموصل، فجمع أصحابه وسار إلى الموصل يريد حرب أهلهأن فنزل شرقي دجلة، فأرسل إليه أعيانهم ومقدموهم يسألونه ما الذي أقدمه؟ فذكر قتل نعيم؛ فقالوا: إمنا قتله عامل السلطان من غير اختيار منأن وطلبوا منه الأمان ليحضروا عنده يعتذرون، ويتبرئون من قتله، فأمنهم، فخرج إليه جماعة من أهل الموصل وأعيانهم، وتبرؤوا من قتله، فرحل عنهم.
وفيها عاد حجاج اليمن عن مكة، فنزلوا واديأن فأتاهم السيل فحملهم جميعهم وألقاهم في البحر.
وفيها توفي أبوقلابة عبد الملك بن محمد الرقاشي البصري، وكان يسكن بغداد.
وفيها ورد الخبر بانفراج تل من نهر البصرة، يعرف بتل شقيق، عن سبعة أقبر فيها سبعة أبدان صحيحة، والقبور في شبه الحوض من حجر في لون المسن، عليه كتاب لا يدري ما هو، وعليهم أكفان جدد ويفوح منها ريح المسك، أحدهم شاب له جمة وعلى شفتيه بلل كأنه قد شرب ماء، كأنه قد كحل، وبه ضربة في خاصرته.
وحج بالناس هارون بن محمد الهاشمي.
وفيها توفي أبومحمد عبد اله بن مسلم بن قتيبة، صاحب كتاب: أدب الكاتب، وكتاب المعارف، وهوكوفي، وإمنا قيل له الدينوري لأنه كان قاضيهأن وقيل مات سنة سبعين؛ وأبوسعيد الحسن بن الحسين بن عبد الله اليشكري النحوي الراوية، وكان مولده سنة اثنتي عشرة ومائتين.
وفيها توفي محمد بن علي أبوجعفر القصاب الصوفي، وهومن أقران السري وصحبه الجنيد كثيراً.
حوادث سنة سبع وسبعين ومائتينفي هذه السنة دعا بازمار بطرسوس لخماريه بن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن خمارويه أنفذ إليه ثلاثين ألف دينار، وخمسمائة ثوب، وخمسمائة مطرف، وسلاحاً كثيرأن فلما وصل إليه دعا له، ثم وجه إليه بخمسين ألف دينار.
وفيهأن في شهر ربيع الآخر، كان بين وصيف خادم ابن أبي الساج والبرابرة أصحاب أبي الصقر قتنة، فاقتتلوأن فقتل بينهم جماعة؛ كان ذلك بباب الشام، فركب أبوالصقر ففرقهم.
وفيها ولي يوسف بن يعقوب المظالم، وأمر من ينادي: من كانت له مظلمة قبل الأمير الناصر لدين الله الموفق، أوأحد من الناس، فليحضر.
وفيهأن في شعبان، قدم بغداد قائد عظيم من قواد خمارويه بن أحمد بن طولون في جيش عظيم؛ وحج بالناس هارون بن محمد بن عيسى الهاشمي.
وفيها توفي أبوجعفر أحمد بن أبي المثنى الموصلي، وكان كثير الحديث، وهومن أهل الصدق والأمانة.
وفيها توفي أبوحاتم الرازي، واسمه محمد بن إدريس بن المنذر، وهومن أقران البخاري ومسلم.
ومات فيها يعقوب بن سفيان بن حوان السري، وكان يتشيع؛ ويعقوب ابن يوسف بن معقل الأموي، والد أبي العباس الأصم.
وفيها توفيت عريب المغنية المأمونية، وقيل إنها ابنة جعفر بن يحيى ابن خالد بن بمك، وكان مولدها سنة إحدى وثمانين ومائة.
وفيها توفي أبوسعيد الخراز، واسمه أحمد بن عيسى، وقيل سنة ست وثمانين، والأول أشبه بالصواب.
الخراز بالخاء المعجمة والراء والزاي.
حوادث سنة ثمان وسبعين ومائتين

ذكر الفتنة ببغداد
فيها كانت الحرب ببغداد بين أصحاب وصيف الخادم والبربر، وأصحاب موسى ابن أخت مفلح، أربعة أيام من المحرم، ثم أصطلحوأن وقد قتل بينهم جماعة، ثم وقع بالجانب الشرقي وقعة بين أصحابه يونس قتل فيها رجل، ثم انصرفوا.
ذكر وفاة الموفقوفيها توفي أبوأحمد الموفق بالله بن المتوكل، وكان قد مرض في بلاد الجبل، فانصرف وقد اشتد به وجع النقرس، فلم يقدر على الركوب، فعمل على سرير عليه قبة، فكان يقعد عليه، وخادم له يبرد رجله بالأشياء الباردة، حتى إنه يضع عليها الثلج، ثم صارت علة برجله، داء الفيل، وهوورم عظيم يكون في الساق، يسيل منه ماء، وكان يحمل سريره أربعون رجلاً بالنوبة، فقال لهم يوماً: قد ضجرتم من حملي، بودي أن أكون كواحد منكم أحمل على رأسي، وآكل، وأنا في عافية.

وقال في مرضه: أطبق ديواني على مائة ألف مرتزق، ما أصبح فيهم أسوأ حالاً مني؛ فوصل إلى داره لليلتين خلتا من صفر، وشاع موته بعد انصرف أبي الصفر من داره، وكان تقدم بحفظ أبي العباس، فأغلقت عليه أبواب دون أبواب، وقوي الإرجاف بموته، وكان قد اعترته غشية، فوجه أبوالصقر إلى المدائن، فحمل منها المعتمد وأولاده، فجيء بهم إلى داره، ولم يسر أبوالصقر إلى دار الموفق.
فلما رأى غلمان الموفق الماثلون إلى أبي العباس والرؤساء من غلمان أبي العباس ما نزل بالموفق، كسورا الأقفال والأبواب المغلقة على أبي العباس، فلما سمع أبوالعباس ذلك ظن أنهم يريدون قتله، وأخذ سيفه بيده، وقال غلام عنده: واله لا يصلون إلي وفي شيء من الروح! فلما وصلوا إليه رأى في أولهم غلامه وصيفاً موشكير، فلما رآه ألقي السيف من يده، وعلم أنهم ما يريدون إلا الخير، فأخرجوه وأقعدوه عند أبيه، فلا فتح عينه رآه، فقربه وأدناه إليه.
وجمع أبوالصقر عنده القواد والجند، وقطع الجسرين، وحاربه قوم من الجانب الشرقي، فقتل بينهم قتلى، فلما بلغ الناس أن الموفق حي حضر عنده محمد بن أبي الساج، وفارق أبا الصقر، وتسلل القواد والناس عن أبي الصقر؛ فلما رأى أبوالصقر ذلك حضر هووابنه دار الموفق، فما قال له الموفق شيئاً مما جرى، فأقام في داره الموفق، فلما رأى المعتمد أنه بقي في الدار نزل هووبنوه وبكتمر، فركبوا زورقاً فلقيهم طيار لأبي ليلى بن عبد العزيز بن أبي دلف، فحمله فيه إلى دار علي بن جهشيار.
وذكر أعداء أبي الصقر أنه أراد أن يقرب إلى المعتمد بمال الموفق أسبابه، وأشاعوا ذلك عنه عند أصحاب الموفق، فنهبت دار أبي الصقر، حتى أخرجت نساؤه منها حفاة بغير أزر، ونهب ما يجاورها من الدور، وكسرت أبواب السجون وخرج من كان فيها.
وخلق الموفق على ابنه أبي العباس، وعلى أبي الصقر، وركبا جميعأن فمضى أبوالعباس إلى منزله، وأبوالصقر إلى منزله وقد نهب، فطلب حصيرة يقعد عليها عارية؛ فولى أبوالعباس غلامه بدراً الشرطة، واستخلف محمد بن غامن بن الشاة على الجانب الشرقي.
ومات الموفق يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر من هذه السنة، ودفن ليلة الخميس بالرصافة، وجلس أبوالعباس للتعزية.
وكان الموفق عادلأن حسن السيرة، يجلس لمظالم وعنده القضاة وغيرهم، فينتصف الناس بعضهم من بعض، وكان عالماً بالأدب، والنسب، والفقه، وسياسة الملك، وغير ذلك.
قال يوماً: إن جدي عبد الله بن العباس قال: إن الذباب ليقع على جليسي فيؤذيني ذلك؛ وهذا نهاية الكرم، وأنا والله أرى جلسائي بالعين التي أرى بها إخواني، والله لوتهيأ لي أن أغير أسماءهم لنقلتها من الجلساء إلى الأصدقاء والإخوان.
وقال يحيى بن علي: دعا الموفق يوماً جلساءه، فسبقتهم وحدي، فلما رآني وحدي أنشد يقول:
واستصحب الأصحاب حتى إذا دنوا ... وملوا من الإدلاج جئتكم وحدي
فدعوت له، واستحسنت إنشاده في موضعه، وله محاسن كثيرة ليس هذا موضع ذكرها.
ذكر البيعة للمعتضد بولاية العهدلما مات الموفق اجتمع القواد وبايعوا ابنه أبا العباس بولاية العهد بعد المفوض ابن المعتمد، ولقب المعتضد بالله، وخطب له يوم الجمعة بعد المفوض، وذلك لسبع ليال بقين من صفر، واجتمع عليه أصحاب أبيه، وتولى ما كان أبوه يتولاه.
وفيها قبض المعتمد على أبي الصقر وأصحابه، وانتهب منازلهم، وطلب بني الفرات فاختفوأن وخلع على عبيد اله بن سليمان بن وهب، وولاه الوزارة، وسير محمد بن أبي الساج إلى واسط ليرد غلامه وصيفاً إلى بغداد، فمضى وصيف إلى السوس فعاث بها ونهب الطيب، وأبى الرجوع إلى بغداد.
وفيها قتل علي بن الليث أخوالصفار، قتله رافع بن هرثمة، وكان قد يحنق به، وترك أخاه.
وفيها غار ماء النيل، فغلت الأسعار بمصر.
ذكر ابتداء أمر القرامطة

وفيها تحرك بسواد الكوفة قوم يعرفون بالقرامطة، وكان ابتداء أمرهم، فيما ذكر، أن رجلاً منهم قدم من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة، فكان بموضع يقال له النهرين، يظهر الزهد والتقشف، ويسف الخوص، ويأكل من كسب يده، ويكثر الصلاة، فأقام على ذلك مدة فكان إذا قعد إليه رجل ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيأن وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة، حتى فشا ذلك عنه بموضعه، ثم أعلمهم أنه يدعوإلى إمام من آل بيت الرسول، فلم يزل على ذلك حتى استجاب له جمع كثير.
وأن يقعد إلى بقال هناك: فجاء قوم إلى البقال يطلبون منه رجلاً يحفظ عليهم ما صرموا من نخلهم، فدلهم عليه وقال لهم: إن أجابكم إلى حفظ تمركم فإنه بحيث تحبون؛ فكلموه في ذلك؛ فأجابهم على أجرة معلومة، فكان يحفظ لهم، ويصلي اكثر نهاره، ويصوم، ويأخذ عند إفطاره من البقال رطل تمر فيفطر عليه، ويجمع نوى ذلك التمر ويعطيه البقال، فلما حمل التجار تمرهم حاسبوا أجيرهم عند البقال، ودفعوا إليه أجرته، وحاسب الأجير البقال على ما أخذ منه من التمر، وحط ثمن النوى، فسمع أصحاب التمر محاسبته لبقال بثمن النوى فضربوه وقالوا له: ألم ترض بأكل تمرنأن حتى بعت النوى؟ فقال لهم البقال: لا تفعلوا! وقص عليهم القصة، فندموا على ضربه، واستحلوا منه ففعل، وازداد بذلك عند أهل القرية لما وقفوا عليه من زهده.
ثم مرض، فمكث على الطريق مطروحأن وكان في القرية رجل أحمر العينين، يحمل على أثوار له، يسمونه كرميته لحمرة عينيه، وهوبالنبطية أحمر العين، فكلم البقال الكرميتة في حمل المريض إلى منزله والعناية به، ففعل، وأقام عنده حتى برأن ودعا أهل تلك الناحية إلى مذهبه، فأجابوه، وكان يأخذ من الرجل إذا أجابه دينارأن ويزعم أنه للإمام، واتخذ منهم اثني عشر نقيباً أمرهم أن يدعوا الناس إلى مذهبهم، وقال: أنتم كحواريي عيسى بن مريم. فاشتغل أهل كور تلك الناحية عن أعمالهم بما رسم لهم من الصلوات. وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع، فرأى تقصير الأكرة في عمارتهأن فسأل عن ذلك، فأخبر بخبر الرجل، فأخذه وحبسه، وحلف أن يقتله لما اطلع على مذهبه، وأغلق باب البيت عليه، وجعل مفتاح البيت تحت وسادته، واشتغل بالشرب، فسمع بعض من في الدار من الجواري بحبسه، فرقت للرجل، فلما نسام الهيصم أخذت المفتاح وقتحت الباب وأخرجته، ثم أعادت المفتاح إلى مكانه، فلما أصبح الهيصم فتح الباب ليقتله فلم يجده.
وشاع ذلك في الناس، فافتتن أهل تلك الناحية، وقالوا: رفع، ثم ظهر في ناحية أخرى، ولقي جماعة من أصحابه وغيرهم، وسألوه عن قصته فقال: لا يمكن أحداً أن ينالني بسوء! فعظم في أعينهم، ثم خاف على نفسه، فخرج إلى ناحية الشام، فلم يوقف له على خبر، وسمي باسم الرجل الذي كان في داره كرميتة صاحب الأنوار؛ ثم خفف فقيل قرمط، هكذا ذكره بعض أصحاب زكرويه عنه.
وقيل إن قرمط لقب رجل كان بسواد الكوفة يحمل غلة السواد على أثوار له، واسمه حمدان؛ ثم فشا مذهب القرامطة بسواد الكوفة، ووقف الطائي أحمد بن محمد على أمرهم، فجعل على الرجل منهم في السنة دينارأن فقدم قوم من الكوفة، فرفعوا أمر القرامطة والطائي إلى السلطان، وأخبروه أنهم قد أحدثوا ديناً غير دين الإسلام، وأنهم يرون السيف على أمة محمد، صلى الله عليه وسلم، إلا من بايعهم، فلم يلتفت إليهم ولم يسمع قولهم.
وكان فيما حكي عن القرامطة من مذهبهم أنهم جاؤوا بكتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم! يقول الفرج بن عثمان، وهومن قرية يقال لها نصرانة، داعية المسيح، وهوعيسى، وهوالكلمة، وهوالمهدي، وهوأحمد بن محمد بن الحنيفة، وهوجبريل؛ وذكر أن المسيح تصور له في جسم إنسان، وقال له: إنك الداعية، وإنك الحجة، وإنك الناقة، وإنك الدابة، وإنك يحيى بن زكرياء، وإنك روح القدس.

وعرفه أن الصلاة أربع ركعات: ركعتان قبل طلوع الشمس، وركعتان بعد غروبهأن وأن الأذان في كل صلاة أن يقول المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، مرتين، أشهد أن آدم رسول الله، أشهد أن نوحاً رسول الله، أشهد أن إبراهيم رسول الله، أشهد أن موسى رسول الله، أشهد أن عيسى رسول الله؛ أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن أحمد ابن محمد بن الحنيفة رسول اله، وأن يقرا في كل ركعة الاستفتاح، وهي من المنزل على أحمد بن محمد بن الحنيفة، والقبلة إلى بيت المقدس، والحج إلى بيت المقدس، وأن الجمعة يوم الاثنين لا يعمل فيه شيء، والسورة: الحمد لله بكلمته، وتعالى باسمه، المتخذ لأوليائه بأوليائه.
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس) البقرة: 189، ظاهرها ليعلم عدد السنين والحساب والشهور والأيام، وباطنها أوليائي الذين عرفوا عبادي سبيلي اتقوني يا أولي الألباب، وأنا الذي لا أسأل عما أفعل، وأنا العليم الحكيم، وأنا الذي أبلوعبادي، وامتحن خلقي، فمن صبر على بلائي، ومحنتي، واختباري ألقيته في جنتي، وأخلدته في نعمتي، ومن زال عن أمري، وكذب رسلي أخذته مهاناً في عذابي، وأتممت أجلي، وأظهرت أمري على ألسنة رسلي.
وأنا الذي لم يعلوعلي جبار إلا وضعته، ولا عزيز إلا أذللته، وليس الذي أصر على أمري ودام على جهالته، وقالوا: لن نبرح عليه عاكفين، وبه موقنين، أولئك هم الكافرون.
ثم يركع، ويقول في ركوعه: سبحان ربي رب العزة وتعالى عما يصف الظالمون، يقولها مرتين فإذا سجد قال: الله أعلى، الله أعلى، الله أعظم، الله أعظم.
ومن شريعته أن يصوم يومين في السنة، وهما المهرجان والنيروز، وأن النبيذ حرام، والخمر حلال، ولا غسل من جنابة إلا الوضوء كوضوء الصلاة، وأن من حاربه وجب قتله، ومن لم يحاربه ممن يخالفه أخذ منه الجزية، ولا يؤكل كل ذي ناب، ولا كل ذي مخلب.
وكان مسير قرمط إلى سواد الكوفة قبل قتل صاحب الزنج، فسار قومط إليه وقال له: إني على مذهب رأي، ومعي مائة ألف ضارب سيف، فتناظرني، فإن اتفقنا على المذهب ملت إليك بمن معي، وإن تكن الأخرى انصرفت عنك. فتناظرا، فاختلفت رؤاهما، فانصرف قرمط عنه.
ذكر غزو الروم ووفاة بازمارفيهأن في جمادى الآخرة، دخل أحمد العجيفي طرسوس، وغزا مع بازمار الصائفة، فبلغوا شكند، فأصابت بازمار شظية من حجر منجنيق في أضلاعه، فارتحل عنها بعد أن أشرف على أخذهأن فتوفي في الطريق منتصف رجب، وحمل إلى طرسوس فدفن بها.
وكان قد أطاع خمارويه بن أحمد بن طولون، فلما توفي خلفه ابن عجيف، وكتب إلى خمارويه يخبره بوته، فأقره على ولاية طرسوس، وأمده بالخيل والسلاح والذخائر وغيرهأن ثم عزله، واستعمل عليها ابن عمه محمد بن موسى بن طولون.
ذكر الفتنة بطرسوسوفيها ثار الناس، بطرسوس، بالأمير محمد بن موسى، فقبضوا عليه.
وسبب ذلك أن الموفق لما توفي كان له خادماً من خواصه يقال له: راغب، فاختار بالجهاد، فسار إلى طرسوس على عزم المقام بهأن فلما وصل إلى الشام سير ما معه من دواب وآلات وخيام وغير ذلك إلى طرسوس، وسار هوجريدة إلى خمارويه ليزوره، ويعرفه عزمه، فلما لقيه بدمشق أكرمه خمارويه، وأحبه، وأنس به، واستحيا راغب أن يطلب منه المسير إلى طرسوس، فطال مقامه عنده، فظن أصحابه أن خمارويه قبض عليه، فأذاعوا ذلك، فاستعظمه الناس، وقالوا: يعمد إلى رجل قصد الجهاد في سبيل الله فيقبض عليه! ثم شغبوا على أميرهم محمد ابن عم خمارويه، وقبضوا عليه، وقالوا: لا يزال في الحبس إلى أن يطلق ابن عمك راغباً؛ ونهبوا داره، وهتكوا حرمه.
وبلغ الخبر إلى خمارويه، فأطلع راغباً عليه، وأذن له على في المسير إلى طرسوس، فلما بلغ إليها أطلق أهلها أميرهم، فلما أطلقوه قال لهم: قبح الله جواركم! وسار عنها إلى البيت المقدس، فأقام به، ولما سار عن طرسوس عاد العجيفي إلى ولايتها.
ذكر عدة حوادثوفيها ظهر كوكب ذو جمة، وصارت الجمة ذؤابة.
وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد بن إسحاق الهاشمي.
وتوفي فيها عبد الكريم الدير عاقولي.
وفيها توفي إسحاق بن كنداج، وولي ما كان إليه من أعمال الموصل وديار ربيعة ابنه محمد.
وتوفي إدريس بن سليم الفقعسي الموصلي، وكان كثير الحديث والصلاح.
حوادث سنة تسع وسبعين ومائتين

ذكر خلع جعفر بن المعتمد
وولاية المعتضد
في هذه السنة، في المحرم، خرج المعتمد على الله، وجلس للقواد والقضاة ووجوه الناس، وأعلمهم أنه خلع ابنه المفوض إلى الله جعفراً من ولاية العهد، وجعل ولاية العهد للمعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق، وشهدوا على المفوض أنه قد تبرأ من العهد، وأسقط اسمه من السكة، والخطبة، والطراز، وغير ذلك، وخطب للمعتضد، وكان يوماً مشهوداً. فقال يحيى بن علي يهنئ المعتضد:
ليهنك عقد أنت فيه المقدم ... حباك به رب بفضلك أعلم
فإن كنت قد أصبحت والي عهدنا ... فأنت غداً فينا الإمام المعظم
ولا زال من ولاك فينا مبلغاً ... مناه، ومن عاداك يشجى ويرغم
وكان عمود الدين فيه تأود ... فعاد بهذا العهد وهومقوم
وأصبح وجه الملك جذلان ضاحكاً ... يضيء لنا منه الذي كان يظلم
فدونك فاشدد عقد ما قد حويته ... فإنك دون الناس فيه المحكم
وفيها نودي بمدينة السلام أن لا يقعد على الطريق ولا في المسجد الجامع قاض، ولا منجم، ولا زاجر، وحلف الوراقون أن لا يبيعوا كتب الكلام والجدل والفلسفة.
وفيها قبض على جراد كاتب أبي الصقر إسماعيل بن بلبل.
وفيها انصرف أبوطلحة منصور بن مسلم من شهرزور، وكانتله، فقبض عليه.
ذكر الحرب بين الخوارح وأهل الموصل والأعرابفي هذه السنة اجتمعت الخوارج، ومقدمهم هارون، ومعهم متطوعة أهل الموصل وغيرهم، وحمدان بن حمدون التغلبي، على قتال بني شيبان.
وسبب ذلك أن جمعاً كثيراً من بني شيبان عبروا الزاب، وقصدوا نينوى من أعمال الموصل، للإغارة عليها وعلى البلد، فاجتمع هارون الشاري، وحمدان بن حمدون، وكثير من المتطوعة المواصلة، وأعيان أهلهأن على قتالهم ودفعهم.
وكان بنوشيبان نزلوا على باعشيقا، ومعهم هارون بن سليمان، مولى أحمد بن عيسى بن الشيخ الشيباني، صاحب ديار بكر، وكان قد أنفذه محمد ابن إسحاق بن كنداج والياً على الموصل، فلم يمكنه أهلها من المقام عندهم، فطردوه، فقصد بني شيبان معاوناً على الخوارج وأهل الموصل، فالتقوأن وتصافوأن واقتتلوأن فانهزمت بنوشيبان، وتبعهم حمدان والخوارج، وملكوا بيوتهم، واشتغلوا بالنهب.
وكان الزاب لما عبره بنوشيبان زائدأن فلما انهزموا علموا أن لا ملجأ ولا منجى غير الصبر، فعادوا إلى القتال، والناس مشغولون بالنهب، فأوقعوا بهم، وقتل كثير من أهل الموصل ومن معهم وعاد الظفر للأعراب.
وكتب هارون بن سيما إلى محمد بن إسحاق بن كنداج يعرفه أن البلد خارج عن يده إن لم يحضر هوبنفسه، فسار في جيش كثيف يريد الموصل، فخافه أهلهأن فانحدر بعضهم إلى بغداد يطلبون إرسال وال إليهم، وإزالة ابن كنداج عنهم، فاجتازوا في طريقهم بالحديثة، وبها محمد بن يحيى المجروح يحفظ الطريق، قد ولاه المعتضد ذلك، وقد وصل إليه عهد بولايته الموصل، فحثوه على تعجيل الير وأن يسبق محمد بن كنداج إليهأن وخوفوه من ابن كنداج إن دخل الموصل قبله، فسار، فسبق محمد إليهأن ووصل محمد بن كنداج إلى بلد، فبلغه دخول المجروح الموصل، فندم على التباطؤ وكتب إلى خمارويه بن طولون يخبره الخبر، فأرسل أبا عبد الله بن الخصاص بهدايا كثيرة إلى المعتضد، ويطلب أموراً، منها إمرة الموصل كما كانت له قبل، فلم يجب إلى ذلك، وأخبره كراهة أهل الموصل من عماله، فأعرض عن ذكرها.
وبقي المجروح بالموصل يسيرأن وعزله المعتضد، واستعمل بعده علي ابن داود بن زهراد الكردي، فقال شاعر يقال له العجيني:
ما رأى الناس لهذا ال ... دهر مذ كانوا شبيهاً
ذلت الموصل حتى ... أمر الأكراد فيها
ذكر وفاة المعتمدوفيها توفي المعتمد على الله ليلة الاثنين لإحدى عشرة بقيت من رجب ببغداد، وكان قد شرب على الشط في الحسني ببغداد، يوم الأحد، شراباً كثيرأن وتعشى فأكثر، فمات ليلاً؛ وأحضر المعتمد القضاة وأعيان الناس، فنظروا إليه، وحمل إلى سامرا فدفن بهأن وكان عمره خمسين سنة وستة أشهر، وكان آسن من الموفق بستة اشهر، وكانت خلافته ثلاثاً وعشرين سنة وستة أشهر.

وكان في خلافته محكوماً عليه، قد تحكم عليه اخوة أبوأحمد الموفق، وضيق عليه، حتى إنه احتاج، في بعض الأوقات، إلى ثلاثمائة دينار، فلم يجدها ذلك الوقت، فقال:
أليس من العجائب أن نثلي ... يرى ما قل ممتنعاُ عليه
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعاً ... وما من ذاك شيء في يديه
إليه تحمل الأموال طراً ... ويمنع بعض ما يجبى إليه
وكان أول الخلفاء انتقل من سر من رأى، مذ بنيت، ثم لم يعد إليها أحد منهم.
ذكر خلافة أبي العباس المعتضدوفي صبيحة الليلة التي مات فيها المعتمد بويع لأبي العباس المعتضد بالله أحمد بن الموفق أبي أحمد طلحة بن المتوكل بالخلافة، فولى غلامه بدراً الشرطة، وعبيد الله بن سليمان الوزارة، ومحمد بن الشاه بن مالك الحرس، ووصله في شوال رسول عمروبن اليث ومعه هدايا كثيرة، وسأله أن يوليه خراسان، فعقد له عليهأن وسير إليه الخلع واللواء والعهد، فنصب الواء في داره ثلاثة أيام.
ذكر وفاة نصر السامانيوفيها مات نصر بن أحمد الساماني، وقام بما كان إليه من العمل بما وراء النهر، أخوه إسماعيل بن أحمد، وكان نصر دينأن عاقلأن له شعر حسن، منه ما قاله في رافع بن هرثمة:
أخوك فيك على خبر ومعرفة ... إن الذليل ذليل حيثما كانا
لولا زمان خؤون في تصرفه ... ودولة ظلمت ما كنت إنساناً
ذكر عزل رافع بن هرثمة من خراسان وقتلهوفيها عزل المعتضد رافع بن هرثمة عن خراسان.
وسبب ذلك أن المعتضد كتب إلى رافع بتخلية قرى السلطان بالري، فلم يقبل، فأشار على رافع أصحابه برد القوى لئلا يفسد حاله بكتاب، فلم يقبل أيضأن وكتب المعتضد إلى أحمد بن عبد العزيز بن أبي دلف يأمره بمحاربة رافع وإخراجه عن الري، وكتب إلى عمروبن الليث بتوليته خراسان.
ثم إن أحمد بن عبد العزيز لقي رافعاً فقاتله، فانهزم رافع عن الري وسار إلى جرجان، ومات أحمد بن عبد العزيز سنة ثمانين ومائتين، فعاد رافع إلى الري، فلاقاه عمرووبكر ابنا عبد العزيز، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فانهزم عمرووبكر، وقتل من أصحابهما مقتلة عظيمة، ووصلوا إلى أصبهان، وذلك في جمادى الأولى سنة ثمانين.
وأقام رافع بالري باقي سنته، ومات علي بن الليث معه في الري، ثم إن عمروبن الليث وافى نيسابور في جمادى الأولى سنة ثمانين واستولى عليها وعلى خراسان، فبلغ الخبر إلى رافع، فجمع أصحابه واستشارهم فيما يفعل، وقال لهم: إن الأعداء قد أحدقوا بنأن ولا آمن أن يتفقوا علينا؛ هذا محمد بن زيد بالديلم ينتظر فرصة لينتهزها؛ وهذا عمروبن عبد العزيز قد فعلت به ما فعلت، فهويتربص الدوائر؛ وهذا عمروبن الليث قد وافى خراسان بجموعه؛ وقد رأيت أن أصالح محمد بن زيد وأعيد إليه طبرستان، وأصالح ابن عبد العزيز، ثم أسير إلى عمروفأخرجه عن خراسان، فوافقوه على ذلك، وأرسل إلى ابن عبد العزيز فصالحه، واستقر الأمر بينهما في شعبان سنة ثمانين.
ثم سار إلى طبرستان، فوردها في شعبان سنة إحدى وثمانين، وكان قد أقام بجرجان، فأحكم أمورهأن ولما استقر بطبرستان راسل محمد ابن زيد وصالحه، وعده محمد بن زيد أن ينجده بأربعة آلاف رجل من شجعان الديلم، وخطب لمحمد بطبرستان وجرجان في ربيع الآخر سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وبلغ خبر مصالحة محمد بن زيد ورافع إلى عمروبن الليث، فأرسل إلى محمد يذكره ما فعل يه، ويحذره منه ومن غدره إن استقام أمره، فعاد عن إنجاده بعسكر.
فلما قوي عمروعرف لمحمد ين زيد ذلك، وخلى عليه طبرستان؛ ولما أحكم رافع أمر محمد ين زيد سار إلى خراسان، فورد نيسابور في ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وجرى بينه وبين عمروحرب شديدة انهزم فيها رافع إلى أبيورد، وأخذ عمرومنه المعدل والليث ولدي أخيه علي ابن الليث، وكانا عنده بعد موت أخيه علي.

ولما ورد رافع أبيورد أراد المسير إلى هراة أومرو، فعلم عمروبذلك، فاخذ عليه الطريق بسرخس، فلما علم رافع بمسير عمروبن نيسابور سار على مضايق وطرق غامضة غير طريق الجيش إلى نيسابور، فدخلهأن وعاد إليه عمرومن سرخس فحصره فيهأن وتلاقيأن واستأمن بعض قواد رافع إلى عمرو، فانهزم رافع وأصحابه، وسير أخاه محمد بن هرثمة إلى محمد بن زيد يستمده، ويطلب ما وعده من الرجال، فلم يفعل، ولم يمده برجل واحد، وتفرق عن رافع أصحابه وغلمانه، وكان له أربعة آلاف غلام، ولم يملك أحد من ولاة خراسان قبله مثله، وفارقه محمد بن هارون إلى إسماعيل ابن أحمد الساماني ببخارى، وخرج رافع منهزماً إلى خوارزم على الجمازات، وحمل ما بقي معه من مال وآلة، وهوفي شرذمة قليلة، وذلك في رمضان سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
فلما بلغ رباط جبوه وجه إليه خوارزمشاه أبا سعيد الدرغاني له الأنزال، ويخدمه إلى خوارزم، فرآه أبوسعيد في قلة من رجاله، وغدر به وقتله لسبع خلون من شوال سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وحمل رأسه إلى عمروبن الليث، وهوبنيساور، وأنفذ عمروالرأس إلى المعتضد بالله، فوصل إليه سنة أربع وثمانين، فنصب ببغداد، وصفت خراسان، إلى شاطئ جيجون، لعمرو.
ذكر عدة حوادثوفيها قدم الحسين بن عبد الله، المعروف بابن الجصاص، من مصر بهدايا عظيمة من خمارويه، فتزوج المعتضد ابنة خمارويه.
وفيها ملك أحمد بن عيسى بن الشيخ قلعة ماردين، وكانت بيد محمد بن إسحاق بن كنداجيق.
وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد، وهي آخر حجة حجهأن وأول حجة حجها بالناس، سنة أربع وستين ومائتين إلى هذه السنة.
وفيها توفي أبوعيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي السلمي بترمذ في رجب، وكان إماماً حافظاً له تصانيف حسنة، منها: الجامع الكبير في الحديث، وهوأحسن الكتب، وكان ضريراً؛ وتوفي إبراهيم بن محمد المدبر في شوال وكان يلي ديوان الضياع.
حوادث سنة ثمانين ومائتين

ذكر حبس عبد الله بن المهتدي
في هذه السنة أخذ المعتضد عبد الله بن المهتدي، ومحمد بن الحسين المعروف بشميلة، وكان شميلة هذا مع صاحب الزنج إلى آخر أيامه، ثم لحق بالموفق في الأمان، فأمنه.
وكان سبب أخذه إياه أن بعض المستأمنة سعى به إلى المعتضد، وأنه يدعولرجل لا يعرف اسمه، وأنه قد أفسد جماعة من الجند وغيرهم، فأخذه المعتضد فقرره، فلم يقرر بشيء وقال: لوكان الرجل تحت قدمي ما رفعتهما عنه! فأمر به فشد على خشبة من خشب الخيم، ثم أوقدت نار عظيمة، وأدير على النار حتى تقطع جلده، ثم ضربت عنقه، وصلب عند الجسر؛ وحبس عبد الله بن المهتدي إلى أن علم براءته، وأطلقه، وكان المعتضد قثال لشميلة: بلغني أنك تدعوإلى ابن المهتدي؟ فقال: المشهور عني أنني أتولى آل أبي طالب.
ذكر قصة المعتضد بني شيبان وصلحة معهموفيهأن في أول صفر، سار المعتضد من بغداد يريد بني شيبان بالموضع الذي يجتمعون به من أرض الجزيرة، فلما بلغهم قصده جمعوا إليهم أموالهم، وأغار المعتضد على أعراب عند السن، فنهب أموالهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وغرق منهم في الزاب مثل ذلك، وعجز الناس عن حمل ما غمنوه، فبيعت الشاة بدرهم، والبعير بخمسة دراهم.
وسار إلى الموصل وبلد، فلقيه بنوشيبان يسألونه العفو، ويبذلوا له رهائن، فأجابهم إلى ما طلبوأن وعاد إلى بغداد، وأرسل إلى أحمد بن عيسى بن الشيخ يطلب منه ما أخذه من أموال ابن كنداجيق بآمد، فبعثه إليه ومعه هدايا كثيرة.
ذكر خروج محمد بن عبادة على هارون وكلاهما خارجيانفي هذه السنة خرج محمد بن عبادة، ويعرف بأبي جوزة، وهومن بني زهير من أهل قبراثأن من البقعاء، على هارون، وكلاهما من الخوارج، وكان أول أمره فقيرأن وكان هووابنان له يلتقطون الكمأة ويبيعونهأن إلى غير ذلك من الأعمال، ثم إنه جمع جماعة، وحكم، فاجتمع إليه أهل تلك النواحي من الأعراب، وقوي أمره، وأخذ عشر الغلات، وقبض الزكاة، وسار إلى معلثايأن فقاطعه أهلها على خمسمائة دينار، وجبى تلك الأعمال، وعاد وبنى عند سنجار حصنأن وحمل إليه الأمتعة والميرة، وجعل فيه ابنه أبا هلال ومعه مائة وخمسون رجلاً من وجوه بني زهير وغيرهم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34