كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

وكان يمين الدولة كلما فتح من الهند فتحاً، وكسر صنماً يقول الهنود: إن هذه الأصنام قد سخط عليها سومنات، ولو أنه راض عنها لأهلك من تقصدها بسوء، فلما بلغ ذلك يمين الدولة عزم على غزوه وإهلاكه، ظناً منه أن الهنود إذا فقدوه، ورأوا كذب ادعائهم الباطل، دخلوا في الإسلام، فاستخار الله تعالى وسار عن غزنة عاشر شعبان من هذه السنة، في ثلاثين ألف فارس من عساكره سوى المتطوعة، وسلك سبيل الملتان، فوصلها منتصف شهر رمضان.
وفي طريقه إلى الهند برية قفر، لا ساكن فيها، ولا ماء، ولا ميرة، فتجهز هو وعسكره على قدرها، ثم زاد بعد الحاجة عشرين ألف جمل تحمل الماء والميرة، وقصد أنهلوارة، فلما قطع المفازة رأى في طرفها حصوناً مشحونة بالرجال، وعندها آبار قد غوروها ليتعذر عليه حصرها، فيسر الله تعالى فتحها عند قربه منها بالرعب الذي قذفه في قلوبهم، وتسلمها، وقتل سكانها وأهلك أوثانها، وامتاروا منها الماء وما يحتاجون إليه.
وسار إلى أنهلوارة فوصلها مستهل ذي القعدة، فرأى صاحبها المدعو بهيم قد أجفل عنها وتركها وأمعن في الهرب وقصد حصناً له يحتمي به فاستولى يمين الدولة على المدينة، وسار إلى سومنات، فلقي في طريقه عدة حصون فيها كثير من الأوثان شبه الحجاب والنقباء لسومنات، على ما سول لهم الشيطان، فقاتل من بها، وفتحها وخربها، وكسر أصنامها، وسار إلى سومنات في مفازة قفرة قليلة الماء، فلقي فيها عشرين ألف مقاتل من سكانها لم يدينوا للملك، فأرسل إليهم السرايا، فقاتلوهم، فهزموهم وغنموا مالهم، وامتاروا من عندهم، وساروا حتى بلغوا دبولوارة، وهي على مرحلتين من سومنات، وقد ثبت أهلها له ظناً منهم أن سومنات يمنعهم ويدفع عنهم، فاستولى عليها، وقتل رجالها، وغنم أموالها، وسار عنها إلى سومنات، فوصلها يوم الخميس منتصف ذي القعدة، فرأى حصناً حصيناً مبنياً على ساحل البحر بحيث تبلغه أمواجه، وأهله على الأسوار يتفرجون على المسلمين، واثقين أن معبودهم يقطع دابرهم ويهلكهم.
فلما كان من الغد، وهو يوم الجمعة، زحف وقاتل من به، فرأى الهنود من المسلمين قتالاً لم يعهدوا مثله، ففارقوا السور، فنصب المسلمون عليه السلاليم، وصعدوا إليه، وأعلنوا بكلمة الإخلاص، وأظهروا شعار الإسلام، فحينئذ اشتد القتال، وعظم الخطب وتقدم جماعة الهنود إلى سومنات، فعفروا له خدودهم، وسألوه النصر، وأدركهم الليل فكف بعضهم عن بعض.
فلما كان الغد بكر المسلمون إليهم وقاتلوهم، فأكثروا في الهنود القتل، وأجلوهم عن المدينة إلى بيت صنمهم سومنات، فقاتلوا على بابه أشد قتال، وكان الفريق منهم بعد الفريق يدخلون إلى سومنات فيعتنقونه ويبكون، ويتضرعون إليه، ويخرجون فيقاتلون إلى أن يقتلوا، حتى كاد الفناء يستوعبهم، فبقي منهم القليل، فدخلوا البحر إلى مركبين لهم لينجو فيهما، فأدركهم المسلمون فقتلوا بعضاً وغرق بعض.
وأما البيت الذي فيه سومنات فهو مبني على ست وخمسين سارية من الساج المصفح بالرصاص، وسومنات من حجر طوله خمسة أذرع: ثلاثة مدورة ظاهرة، وذراعان في البناء، وليس بصورة مصورة، فأخذه يمين الدولة فكسره، وأحرق بعضه، وأخذ بعضه معه إلى غزنة، فجعله عتبة الجامع.
وكان بيت الصنم مظلماً، وإنما الضوء الذي عنده من قناديل الجوهر الفائق، وكان عنده سلسلة ذهب فيها جرس، وزنها مائتا من، كلما مضى طائفة معلومة من الليل حركت السلسلة فيصوت الجرس فيقوم طائفة من البرهميين إلى عبادتهم، وعنده خزانة فيها عدة من الأصنام الذهبية والفضية، وعليها الستور المعلقة المرصعة بالجوهر، كل واحد منها منسوب إلى عظيم من عظمائهم، وقيمة ما في البيوت تزيد على عشرين ألف ألف دينار، فأخذ الجميع، وكانت عدة القتلى تزيد على خمسين ألف قتيل.

ثم إن يمين الدولة ورد عليه الخبر أن بهيم صاحب أنهلوارة قد قصد قلعة تسمى كندهة في البحر، بينها وبين البر من جهة سومنات أربعون فرسخاً، فسار إليها يمين الدولة من سومنات، فلما حاذى القلعة رأى رجلين من الصيادين، فسألهما عن خوض البحر هناك، فعرفاه أنه يمكن خوضه لكن إن تحرك الهواء يسيراً غرق من فيه. فاستخار الله تعالى، وخاضه هو ومن معه، فخرجوا سالمين، فرأوا بهيم وقد فارق قلعته وأخلاها فعاد عنها، وقصد المنصورة، وكان صاحبها قد ارتد عن الإسلام، فلما بلغه خبر مجيء يمين الدولة فارقها واحتمى بغياض أشبة، فقصده يمين الدولة من موضعين، فأحاط به وبمن معه، فقتل أكثرهم، وغرق منهم كثير، ولم ينج منهم إلا القليل.
ثم سار إلى بهاطية، فأطاعه أهلها، ودانوا له، فرحل إلى غزنة، فوصلها عاشر صفر من سنة سبع عشرة وأربعمائة.
ذكر وفاة مشرف الدولة

وملك أخيه جلال الدولة
في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي الملك مشرف الدولة أبو علي بن بهاء الدولة بمرض حاد، وعمره ثلاث وعشرون سنة وثلاثة أشهر، وملكه خمس سنين وخمسة وعشرون يوماً، وكان كثير الخير، قليل الشر، عادلاً، حسن السيرة، وكانت والدته في الحياة، وتوفيت سنة خمس وعشرين.
ولما توفي مشرف الدولة خطب ببغداد، بعد موته، لأخيه أبي طاهر جلال الدولة، وهو بالبصرة، وطلب إلى بغداد، فلم يصل إليها، وإنما بلغ إلى واسط وأقام بها، ثم عاد إلى البصرة، فقطعت خطبته، وخطب لابن أخيه الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة في شوال، وهو حينئذ صاحب خوزستان، والحرب بينه وبين عمه أبي الفوارس، صاحب كرمان، بفارس، فلما سمع جلال الدولة بذلك أصعد إلى بغداد، فانحدر عسكرها ليردوه عنها، فلقوه بالسيب من أعمال النهروان، فردوه فلم يرجع، فرموه بالنشاب، ونهبوا بعض خزائنه، فعاد إلى البصرة، وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار ليصعد إلى بغداد ليملكوه، فوعدهم الإصعاد، ولم يمكنه لأجل صاحب كرمان، ولما أصعد جلال الدولة كان وزيره أبا سعد بن ماكولا.
ذكر ملك نصر الدولة بن مروان مدينة الرهاوفي هذه السنة ملك نصر الدولة بن مروان، صاحب ديار بكر، مدينة الرها.
وكان سبب ملكها أن الرها كانت لرجل من بني نمير يسمى عطيراً، وفيه شر وجهل، واستخلف عليها نائباً له اسمه أحمد بن محمد، فأحسن السيرة، وعدل في الرعية، فمالوا إليه.
وكان عطير يقيم بحلته، ويدخل البلد في الأوقات المتفرقة، فرأى أن نائبه يحكم في البلد، ويأمر وينهى، فحسده، فقال له يوماً: قد أكلت مالي، واستوليت على بلدي، وصرت الأمير وأنا النائب، فاعتذر إليه، فلم يقبل عذره وقتله. فأنكرت الرعية قتله، وغضبوا على عطير، وكاتبوا نصر الدولة ابن مروان ليسلموا إليه البلد، فسير إليهم نائباً كان له بآمد يسمى زنك، فتسلمها وأقام بها ومعه جماعة من الأجناد، ومضى عطير إلى صالح بن مرداس، وسأله الشفاعة له إلى نصر الدولة، فشفع فيه، فأعطاه نصف البلد، ودخل عطير إلى نصر الدولة بميافارقين، فأشار أصحاب نصر الدولة بقبضه، فلم يفعل وقال: لا أغدر به وإن كان أفسد، وأرجو أن أكف شره بالوفاء.
وتسلم عطير نصف البلد ظاهراً وباطناً، وأقام فيه مع نائب نصر الدولة. ثم إن نائب نصر الدولة عمل طعاماً ودعاه، فأكل وشرب، واستدعى ولداً كان لأحمد الذي قتله عطير، وقال: أتريد أن تأخذ بثأر أبيك؟ قال: نعم! قال: هذا عطير عندي في نفر يسير، فإذا خرج فتعلق به في السوق وقل له: يا ظالم قتلت أبي، فإنه سيجرد سيفه عليك، فإذا فعل فاستنفر الناس عليه واقتله وأنا من ورائك. ففعل ما أمره، وقتل عطيراً ومعه ثلاثة نفر من العرب.
فاجتمع بنو نمير وقالوا: هذا فعل زنك، ولا ينبغي لنا أن نسكت عن ثأرنا، ولئن لم نقتله ليخرجنا من بلادنا. فاجتمعت نمير، وكمنوا له بظاهر البلد كميناً، وقصد فريق منهم البلد، فأغاروا على ما يقاربه. فسمع زنك الخبر، فخرج فيمن عنده من العساكر، وطلب القوم، فلما جاوز الكمناء خرجوا عليه، فقاتلهم، فأصابه حجر مقلاع، فسقط وقتل، وكان قتله سنة ثماني عشرة وأربعمائة في أولها، وخلصت المدينة لنصر الدولة.

ثم إن صالح بن مرداس شفع في ابن عطير وابن شبل النميريين ليرد الرها إليهما، فشفعه وسلمها إليهما، وكان فيها برجان أحدهما أكبر من الآخر، فأخذ ابن عطير البرج الكبير، وأخذ ابن شبل البرج الصغير، وأقاما في البلد، إلى أن باعه ابن عطير من الروم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غرق الأسطول بجزيرة صقليةفي هذه السنة خرج الروم إلى جزيرة صقلية في جمع كثير، وملكوا ما كان للمسلمين في جزيرة قلورية، وهي مجاورة لجزيرة صقلية، وشرعوا في بناء المساكن ينتظرون وصول مراكبهم وجموعهم مع ابن أخت الملك. فبلغ ذلك المعز بن باديس، فجهز أسطولاً كبيراً: أربعمائة قطعة، وحشد فيها، وجمع خلقاً كثيراً، وتطوع جمع كثير بالجهاد، رغبة في الأجر، فسار الأسطول في كانون الثاني، فلما قرب من جزيرة قوصرة، وهي قريب من بر أفريقية، خرج عليهم ريح شديدة، ونوء عظيم، فغرق أكثرهم، ولم ينج إلا اليسير.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ظهر أمر العيارين ببغداد، وعظم شرهم، فقتلوا النفوس، ونهبوا الأموال، وفعلوا ما أرادوا، وأحرقوا الكرخ، وغلا السعر بها حتى بيع كر الحنطة بمائتي دينار قاسانية.
وفيها قبض جلال الدولة على وزيره أبي سعد بن ماكولا، واستوزر ابن عمه أبا علي بن ماكولا.
وفيها أرسل القادر بالله القاضي أبا جعفر السمناني إلى قرواش يأمره بإبعاد الوزير أبي القاسم المغربي، وكان عنده، فأبعده، فقصد نصر الدولة بن ميافارقين وقد تقدم السبب فيه.
وفيها توفي الوزير أبو منصور محمد بن الحسن بن صالحان، وزير مشرف الدولة أبي الفوارس، وعمره ست وسبعون سنة.
وقاضي القضاة أبو الحسن أحمد بن محمد بن أبي الشوارب، ومولده في ذي القعدة سنة تسع عشرة وثلاثمائة، وكان عفيفاً، نزهاً، وقيل توفي سنة سبع عشرة.
وبسيل ملك الروم، وملك بعده أخوه قسطنطين.
وفيها ورد رسول محمود بن سبكتكين إلى القادر بالله ومعه خلع قد سيرها له الظاهر لإعزاز دين الله العلوي، صاحب مصر، ويقول: أنا الخادم الذي أرى الطاعة فرضاً، ويذكر إرسال هذه الخلع إليه، وأنه سيرها إلى الديوان ليرسم فيها بما يرى، فأحرقت على باب النوبي، فخرج منها ذهب كثير تصدق به على ضعفاء بني هاشم.
وفيها توفي سابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة، وكان كاتباً سديداً، وعمل دار الكتب ببغداد سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجعل فيها أكثر من عشرة آلاف مجلد، وبقيت إلى أن احترقت عند مجيء طغرلبك إلى بغداد سنة خمسين وأربعمائة.
وفيها توفي عثمان الخركوشي، الواعظ النيسابوري، وكان صالحاً، خيراً، وكان إذا دخل على محمود بن سبكتكين يقوم ويلتقيه، وكان محمود قد قسط على نيسابور مالاً يأخذه منهم، فقال له الخركوشي: بلغني أنك تكدي الناس، وضاق صدري، فقال: وكيف؟ قال: بلغني أنك تأخذ أموال الضعفاء، وهذه كدية فترك القسط وأطلقه.
وفيها بطل الحج من العراق وخراسان.
ثم دخلت سنة سبع عشرة وأربعمائة

ذكر الحرب بين علاء الدولة والجوزقان
في هذه السنة كانت حرب شديدة بين عساكر علاء الدولة بن كاكويه وبين الأكراد الجوزقان.
وكان سببها أن علاء الدولة استعمل أبا جعفر ابن عمه على سابور خواست وتلك النواحي، فضم إليه الأكراد الجوزقان، وجعل معه على الأكراد أبا الفرج البابوني، منسوب إلى بطن منهم، فجرى بين أبي جعفر وأبي الفرج مشاجرة أدت إلى المنافرة، فأصلح بينهما علاء الدولة، وأعادهما إلى عملهما.
فلم يزل الحقد يقوى، والشر يتجدد، فضرب أبو جعفر أبا الفرج بلت كان في يده فقتله، فنفر الجوزقان بأسرهم، ونهبوا وأفسدوا، فطلبهم علاء الدولة، وسير عسكراً، واستعمل عليهم أبا منصور ابن عمه أخا أبي جعفر الأكبر، وجعل معه فرهاذ بن مرداويج، وعلي بن عمران.

فلما علم الجوزقان ذلك أرسلوا إلى علي بن عمران يسألونه أن يصلح حالهم مع علاء الدولة، وقصده جماعة منهم، فشرع في الإصلاح، فطالبه أبو جعفر وفرهاذ بالجماعة الذين قصدوه ليسلمهم إليهما، وأرادا أخذهم منه قهراً، فانتقل إلى الجوزقان، واحتمى كل منهم بصاحبه، وجرى بين الطائفتين قتال غير مرة كان في آخره لعلي بن عمران والجوزقان، فانهزم فرهاذ، وأسر أبو منصور وأبو جعفر، ابنا عم علاء الدولة. فأما أبو جعفر فقتل قصاصاً بأبي الفرج، وأما أبو منصور فسجن. فلما قتل أبو جعفر علم علي بن عمران أن الأمر قد فسد مع علاء الدولة، ولا يمكن إصلاحه، فشرع في الاحتياط.
ذكر الحرب بين قرواش وبني أسد وخفاجةفي هذه السنة اجتمع دبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسان، أمير بني خفاجة، وجمع عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلد العقيلي.
وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم، فاستعانوا بدبيس، فسار إليهم، واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد، فالتقوا بظاهر الكوفة، وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة.
وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير، وعلم أصحابه بذلك، فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار، وسارت أسد وخفاجة خلفهم، فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه، واستولوا على الأنبار، ثم تفرقوا.
ذكر الفتنة ببغداد وطمع الأتراك والعيارينفي هذه السنة كثر تسلط الأتراك ببغداد، فأكثروا مصادرات الناس، وأخذوا الأموال، حتى إنهم قسطوا على الكرخ خاصة مائة ألف دينار، وعظم الخطب، وزاد الشر، وأحرقت المنازل، والدروب، والأسواق، ودخل في الطمع العامة والعيارون، فكانوا يدخلون على الرجل فيطالبونه بذخائره، كما يفعل السلطان بمن يصادره، فعمل الناس الأبواب على الدروب، فلم تغن شيئاً، ووقعت الحرب بين الجند والعامة، فظفر الجند، ونهبوا الكرخ وغيره، فأخذ منه مال جليل، وهلك أهر الستر والخير.
فلما رأى القواد وعقلاء الجند أن الملك أبا كاليجار لا يصل إليهم، وأن البلاد قد خربت، وطمع فيهم المجاورون من العرب والأكراد، راسلوا جلال الدولة في الحضور إلى بغداد، فحضر، على ما نذكره سنة ثماني عشرة وأربعمائة.
ذكر إصعاد الأثير إلى الموصل والحرب الواقعة بين بني عقيلفي هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد.
وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية، ماضي الحكم، نافذ الأمر، والجند من أطوع الناس له، وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك، وخالفه الجند، فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه، فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش، فندم الجند على ذلك، وسألوه أن يعود، فلم يفعل وأصعد إلى الموصل مع قرواش، فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق.
ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش، وساروا يريدون حرب قرواش، وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع هو وغريب بن مقن، والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا، وثبت بعضهم لبعض، وكثر القتل، ففعل ثروان بن قراد فعلاً جميلاً، وذاك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع، وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.
ذكر إحراق خفاجة الأنبار وطاعتهم لأبي كاليجارفي هذه السنة سار منيع بن حسان أمير خفاجة إلى الجامعين، وهي لنور الدولة دبيس، فنهبها، فسار دبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل خفاجة الأنبار ونهبوها، وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً، ومعه غريب والأثير عنبر، إلى الأنبار ثم تركها ومضى إلى القصر، فاشتد طمع خفاجة، وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية.

وسار قرواش إلى الجامعين، فاجتمع هو ونور الدولة دبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل، وكانت خفاجة في ألف، فلم يقدم قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد، وأعانهم قرواش وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسان سار إلى الملك أبي كاليجار، فأطاعه، فخلع عليه، وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة فخطب فيها لأبي كاليجار، وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.
ذكر الصلح بإفريقية بين كتامة وزناتة

وبين المعز بن باديس
في هذه السنة وردت رسل زناتة وكتامة إلى المعز بن باديس، صاحب إفريقية، يطلبون منه الصلح، وأن يقبل منهم الطاعة والدخول تحت حكمه، وشرطوا أنهم يحفظون الطريق، وأعطوا على ذلك عهودهم، ومواثيقهم، فأجابهم إلى ما سألوا، وجاءت مشيخة زناتة وكتامة إليه، فقبلهم وأنزلهم ووصلهم، وبذل لهم أموالاً جليلة.
ذكر وفاة حماد بن المنصور وولاية ابنه القائدفي هذه السنة توفي حماد بن بلكين، عم المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وكان خرج من قلعته متنزهاً، فمرض ومات وحمل إلى القلعة فدفن بها، وولي بعده ابنه القائد، وعظم على المعز موته، لأن الأمر بينهما كان قد صلح، واستقامت الأمور للمعز بعده، وأذعن له أولاد عمه حماد بالطاعة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بالعراق برد شديد جمد فيه الماء في دجلة والأنهار الكبيرة، فأما السواقي فإنها جمدت كلها، وتأخر المطر وزيادة دجلة، فلم يزرع في السواد إلا القليل.
وفيها بطل الحج من خراسان والعراق.
وفيها انقض كوكب عظيم استنارت له الأرض، فسمع له دوي عظيم، كان ذلك في رمضان.
وفيها مات أبو سعد بن ماكولا، وزير جلال الدولة، في محبسه، وأبو خازم عمر بن أحمد بن إبراهيم العبدوي النيسابوري الحافظ، وهو من مشايخ خطيب بغداد، وأبو الحسن علي بن أحمد بن عمر الحمامي المقريء، مولده سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
ثم دخلت سنة ثماني عشرة وأربعمائة
ذكر الحرب بين علاء الدولة وأصبهبذ
ومن معه وما تبع ذلك من الفتن
في هذه السنة، في ربيع الأول، كانت حرب شديدة بين علاء الدولة بن كاكويه وبين الأصبهبذ ومن معه.
وكان سببها ما ذكرناه من خروج علي بن عمران عن طاعة علاء الدولة. فلما فارقه اشتد خوفه من علاء الدولة، فكاتب أصبهبذ صاحب طبرستان، وكان مقيماً بالري مع ولكين بن وندرين، وحثه على قصد بلاد الجبل، وكاتب أيضاً منوجهر بن قابوس بن وشمكير، واستمده، وأوهم الجميع أن البلاد في يده لا دافع له عنها.
وكان أصبهبذ معادياً لعلاء الدولة، فسار هو وولكين إلى همذان فملكاها وملكا أعمال الجبل، وأجليا عنها عمال علاء الدولة، وأتاهم عسكر منوجهر وعلي بن عمران، فازدادوا قوة، وساروا كلهم إلى أصبهان، فتحصن علاء الدولة بها، وأخرج الأموال، فحصروه، وجرى بينهم قتال استظهر فيه علاء الدولة، وقصده كثير من ذلك العسكر، وهو يبذل لمن يجيء إليه المال الجزيل ويحسن إليهم، فأقاموا أربعة أيام، وضاقت عليهم الميرة، فعادوا عنها.
وتبعهم علاء الدولة، واستمال الجوزقان، فمال إليه بعضهم، وتبعهم إلى نهاوند، فالتقوا عندها، واقتتلوا قتالاً كثر فيه القتلى والأسرى، فظفر علاء الدولة، وقتل ابنين لولكين في المعركة، وأسر الأصبهبذ وابنان له ووزيره، ومضى ولكين في نفر يسير إلى جرجان. وقصد علي بن عمران قلعة كنكور فتحصن بها، فسار إليه علاء الدولة، فحصره بها، وبقي أصبهبذ محبوساً عند علاء الدولة إلى أن توفي في رجب سنة تسع عشرة وأربعمائة.
ثم إن ولكين بن وندرين سار بعد خلاصه من الوقعة إلى منوجهر بن قابوس، وأطعمه في الري وملكها، وهون عليه أمر البلاد لا سيما مع اشتغال علاء الدولة بمحاصرة علي بن عمران، وانضاف إلى ذلك أن ولد ولكين كان صهر علاء الدولة على ابنته، وقد أقطعه علاء الدولة مدينة قم، فعصى عليه وصار مع أبيه، وأرسل إليه يحثه على قصد البلاد، فسار إليها ومعه عساكره، وعساكر منوجهر، حتى نزلوا على الري، وقاتلوا مجد الدولة بن بويه ومن معه، وجرى بين الفريقين وقائع استظهر فيها أهل الري. فلما رأى علاء الدولة ذلك صالح علي بن عمران.

فلما بلغ ولكين الصلح بين علاء الدولة وعلي بن عمران رحل عن الري من غير بلوغ غرض، فتوجه علاء الدولة إلى الري، وراسل منوجهر، ووبخه وتهدده، وأظهر قصد بلاده، فسمع أن علي بن عمران قد كاتب منوجهر وأطمعه، ووعده النصرة، وحثه على العود إلى الري، فعاد علاء الدولة عن قصد بلاد منوجهر، وتجهز لقصد علي بن عمران، فأرسل ابن عمران إلى منوجهر يستمده، فسير إليه ستمائة فارس وراجل مع قائد من قواده، وتحصن ابن عمران، وجمع عنده الذخائر بكنكور، وقصده علاء الدولة وحصره وضيق عليه، ففني ما عنده، فأرسل يطلب الصلح، فاشترط علاء الدولة أن يسلم قلعة كنكور والذين قتلوا أبا جعفر ابن عمه، والقائد الذي سيره إليه منوجهر، فأجابه إلى ذلك وسيرهم إليه، فقتل قتلة ابن عمه، وسجن القائد، وتسلم القلعة، وأقطع علياً عوضاً عنها مدنية الدينور، وأرسل منوجهر إلى علاء الدولة فصالحه، فأطلق صاحبه.
ذكر عصيان البطيحة على أبي كاليجارفي هذه السنة عصى أهل البطيحة على الملك أبي كاليجار، ومقدمهم أبو عبد الله الحسين بن بكر الشرابي، الذي كان قديماً صاحب البطيحة، وقد تقدم خبره.
وكان سبب هذا الخلاف أن الملك أبا كاليجار سير وزيره أبا محمد بن بابشاذ إلى البطيحة، فعسف الناس وأخذ أموالهم، وأمر الشرابي فوضع على كل دار بالصليق قسطاً، وكان في صحبته، ففعل ذلك، فتفرقوا في البلاد، وفارقوا أوطانهم، فعزم من بقي على أن يستدعوا من يتقدم عليهم في العصيان على أبي كاليجار، وقتل الشرابي، وكانوا ينسبون كل ما يجري عليهم إلى الشرابي. فعلم الشرابي بذلك، فحضر عندهم، واعتذر إليهم، وبذل من نفسه مساعدتهم على ما يريدونه، فرضوا به، وحلفوا له، وحلف لهم، وأمرهم بكتمان الحال.
وعاد إلى الوزير فأشار عليه بإرسال أصحابه إلى جهات ذكرها ليحصلوا الأموال، فقبل منه، ثم أشار عليه بإحدار سفنه إلى مكان ذكره ليصلح ما فسد منها، ففعل. فلما تم له ذلك وثب هو وأهل البطيحة عليه، وأخرجوه من عندهم، وكان عندهم جماعة من عسكر جلال الدولة في الحبس، فأخرجوهم، واستعانوا بهم، واتفقوا معهم، وفتحوا السواقي، وعادوا إلى ما كانوا عليه أيام مهذب الدولة، وقاتلوا كل من قصدهم، وامتنعوا فتم لهم ذلك. ثم قصده ابن المعبراني فاستولى على البطيحة، وفارقها الشرابي إلى دبيس بن مزيد، فأقام عنده مكرماً.
ذكر صلح أبي كاليجار مع عمهفي هذه السنة استقر الصلح بين أبي كاليجار وبين عمه أبي الفوارس، صاحب كرمان، وكان أبو كاليجار قد سار إلى كرمان لقتال عمه وأخذ كرمان منه، فاحتمى منه بالجبال، وحمي الحر على أبي كاليجار وعسكره، فكثرت الأمراض، فتراسلا في الصلح، فاصطلحا على أن تكون كرمان لأبي الفوارس، وبلاد فارس لأبي كاليجار، ويحمل إلى عمه كل سنة عشرين ألف دينار.
ولما عاد أبو كاليجار إلى الأهواز جعل أمور دولته إلى العادل بن مافنة، فأجابه بعد امتناع، وكان مولد العادل بكازرون سنة ستين وثلاثمائة، وشرط العادل أن لا يعارض في الذي يفعله، فأجيب إلى ذلك.
ذكر الخطبة لجلال الدولة ببغداد

وإصعاده إليها
في هذه السنة، في جمادى الأولى، خطب للملك جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة ببغداد، وأصعد إليها من البصرة فدخلها ثالث شهر رمضان.
وكان سبب ذلك أن الأتراك لما رأوا أن البلاد تخرب، وأن العامة والعرب والأكراد قد طمعوا، وأنهم ليس عندهم سلطان يجمع كلمتهم، قصدوا دار الخلافة، وأرسلوا يعتذرون إلى الخليفة من انفرادهم بالخطبة لجلال الدولة أولاً، ثم برده ثانياً، وبالخطبة لأبي كاليجار، ويشكرون الخليفة حيث لم يخالفهم في شيء من ذلك، وقالوا: إن أمير المؤمنين صاحب الأمر، ونحن العبيد، وقد أخطأنا ونسأل العفو، وليس عندنا الآن من يجمع كلمتنا، ونسأل أن ترسل إلى جلال الدولة ليصعد إلى بغداد، ويملك الأمر، ويجمع الكلمة، ويخطب له فيها، ويسألون أن يحلفه الرسول السائر لإحضاره لهم. فأجابهم الخليفة إلى ما سألوا، وراسله هو وقواد الجند في الإصعاد واليمين للخليفة والأتراك، فحلف لهم، وأصعد إلى بغداد، وانحدر الأتراك إليه، فلقوه في الطريق، وأرسل الخليفة إليه القاضي أبا جعفر السمناني، فأعاد تجديد العهد عليه للخليفة والأتراك، ففعل.

ولما وصل إلى بغداد نزل النجمي، فركب الخليفة في الطيار وانحدر يلتقيه، فلما رآه جلال الدولة قبل الأرض بين يديه، وركب في زبزبه، ووقف قائماً، فأمره الخليفة بالجلوس، فخدم وجلس ودخل إلى دار المملكة، بعد أن مضى إلى مشهد موسى بن جعفر فزار، وقصد الدار فدخلها، وأمر بضرب الطبل أوقات الصلوات الخمس، فراسله الخليفة في منعه، فقطعه غضباً، حتى أذن له في إعادته ففعل.
وأرسل جلال الدولة مؤيد الملك أبا علي الرخجي إلى الأثير عنبر الخادم، وهو عند قرواش، وقد ذكرنا ذلك، يعرفه اعتضاده به، واعتماده عليه، ومحبته له، ويعتذر إليه عن الأتراك، فعذرهم وقال: هم أولاد وإخوة.
ذكر وفاة أبي القاسم بن المغربي

وأبي الخطاب
أما أبو القاسم بن المغربي فتوفي هذه السنة بميافارقين، وكان عمره ستاً وأربعين سنة، ولما أحس بالموت كتب كتباً عن نفسه إلى كل من يعرفه من الأمراء والرؤساء الذين بينه وبين الكوفة، ويعرفهم أن حظية له توفيت، وأنه قد سير تابوتها إلى مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، وخاطبهم في المراعاة لمن في صحبته. وكان قصده أن لا يتعرض أحد لتابوته بمنع، وينطوي خبره. فلما توفي سار به أصحابه، كما أمرهم، وأوصلوا الكتب، فلم يعرض أحد إليه، فدفن بالمشهد، ولم يعلم به أحد إلا بعد دفنه.
ولأبي القاسم شعر حسن، فمنه هذه الأبيات:
وما ظبية أدماء تحنو على طلاً، ... ترى الإنس وحشاً وهي تأنس بالوحش
غدت فارتعت ثم انثنت لرضاعه، ... فلم تلف شيئاً من قوائمه الحمش
فطافت بذاك القاع ولهى، فصادفت ... سباع الفلا ينهشنه أيما نهش
بأوجع مني يوم ظلت أنامل ... تودعني بالدر من شبك النقش
وأجمالهم تحدى وقد خيل الهوى ... كأن مطاياهم على ناظري تمشي
وأعجب ما في الأمر أن عشت بعدهم، ... على أنهم ما خلفوا لي من بطش
وأما أبو الخطاب حمزة بن إبراهيم فإنه مات بكرخ سامرا مفلوجاً، غريباً، قد زال عنه أمره وجاهه، وكان مولده سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ورثاه المرتضى، وكان سبب اتصاله ببهاء الدولة معرفة النجوم، وبلغ منه منزلة لم يبلغها أمثاله، فكان الوزراء يخدمونه، وحمل إليه فخر الملك مائة ألف دينار فاستقلها، وصار أمره إلى ما صار من الضيق والفقر والغربة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سقط في العراق جميعه برد كبار يكون في الواحدة رطل أو رطلان، وأصغر كالبيضة، فأهلك الغلات، ولم يصح منها إلا القليل.
وفيها آخر تشرين الثاني هبت ريح باردة بالعراق جمد منها الماء والخل، وبطل دوران الدواليب على دجلة.
وفيها انقطع الحج من خراسان والعراق.
وفيها نقضت الدار المعزية، وكان معز الدولة بن بويه بناها وعظمها، وغرم عليها ألف ألف دينار، وأول من شرع في تخريبها بهاء الدولة، فإنه لما عمر داره بسوق الثلاثاء نقل إليها من أنقاضها، وأخذ سقفاً منها وأراد أن ينقله إلى شيراز، فلم يتم ذلك، فبذل فيه من يحك ذهبه ثمانية آلاف دينار، ونقضت الآن، وبيع أنقاضها.
وفيها توفي هبة الله بن الحسن بن منصور أبا القاسم اللالكائي الرازي، سمع الحديث الكثير، وتفقه على أبي حامد الأسفراييني، وصنف كتباً، وأبو القاسم طباطبا الشريف العلوي، وله شعر جيد، فمنه أن صديقاً له كتب إليه رقعة على ظهرها هذه الأبيات:
وقرأت الذي كتبت، وما زا ... ل نجيي ومؤنسي وسميري
وغدا الفأل بامتزاج السطور ... حاكماً بامتزاج ما في الضمير
واقتران الكلام لفظاً وخطاً ... شاهداً باقتران ود الصدور
وتبركت باجتماع الكلامي ... ن رجاء اجتماعنا في سرور
وتفاءلت بالظهور على الوا ... شي، فصارت إجابتي في الصدور
ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة
ذكر الحرب بين بدران ونصر الدولة

في هذه السنة، في جمادى الأولى، سار بدران بن المقلد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها، وقاتلوه، فهزمهم، واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسير نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً، فلقوهم، فقاتلوهم وهزموهم، وقتلوا أكثرهم. فأزعج ذلك ابن مروان، وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين، واجتمعوا بمن فيها، وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد، وقت الظهر، وتبعهم عسكر ابن مروان.
ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له، فأكثر فيهم القتل والأسر، وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مفلولين، فدخلوا نصيبين، فاجتمعوا بها واقتتلوا مرة أخرى، وكانوا على السواء، ثم سمع بدران بأن أخاه قروشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه لأنهما كانا مختلفين.
ذكر شغب الأتراك ببغداد على جلال الدولةفي هذه السنة ثار الأتراك ببغداد على جلال الدولة، وشغبوا، وطالبوا الوزير أبا علي بن ماكولا بما لهم من العلوفة والادرار، ونهبوا داره ودور كتاب الملك وحواشيه حتى المغنين والمخنثين، ونهبوا صياغات أخرجها جلال الدولة لتضرب دنانير ودراهم، وتفرق فيهم، وحصروا جلال الدولة في داره، ومنعوه الطعام والماء حتى شرب أهله ماء البئر، وأكلوا ثمرة البستان. فسألهم أن يمكنوه من الانحدار، فاستأجروا له ولأهله وأثقاله سفناً، فجعل بين الدار والسفن سرداقاً لتجتاز حرمه فيه، لئلا يراهم العامة والأجناد، فقصد بعض الأتراك السرادق، فظن جلال الدولة أنهم يريدون الحرم، فصاح بهم يقول لهم: بلغ أمركم إلى الحرم! وتقدم إليهم، وبيده طبر، فصاح صغار الغلمان والعامة: جلال الدولة يا منصور، ونزل أحدهم عن فرسه وأركبه إياه، وقبلوا الأرض بين يديه.
فلما رأى قواد الأتراك ذلك هربوا إلى خيامهم بالرملة، وخافوا على نفوسهم، وكان في الخزانة سلاح كثير، فأعطاه جلال الدولة أصاغر الغلمان وجعلهم عنده، ثم أرسل إلى الخليفة ليصلح الأمر مع أولئك القواد، فأرسل إليهم الخليفة القادر بالله، فأصلح بينهم وبين جلال الدولة، وحلفوا، فقبلوا الأرض بين يديه، ورجعوا إلى منازلهم، فلم يمض غير أيام حتى عادوا إلى الشغب، فباع جلال الدولة فرشه وثيابه وخيمه وفرق ثمنه فيهم حتى سكنوا.
ذكر الاختلاف بين الديلم والأتراك بالبصرةفي هذه السنة ولي النفيس أبو الفتح محمد بن أردشير البصرة، استعمله عليها جلال الدولة، فلما وصل إلى المشان منحدراً إليها وقع بينه وبين الديلم الذين بالمشان وقعة فاستظهر عليهم وقتل منهم.
وكانت الفتن بالبصرة بين الأتراك والديلم، وبها الملك العزيز أبو منصور ابن جلال الدولة، فقوي الأتراك بها، فأخرجوا الديلم، فمضوا إلى الأبلة، وصاروا مع بختيار بن علي، فسار إليهم الملك العزيز بالأبلة ليعيدهم ويصلح بينهم وبين الأتراك، فكاشفوه وحملوا عليه، ونادوا بشعار أبي كاليجار، فعاد منهزماً في الماء إلى البصرة، ونهب بختيار نهر الدير والأبلة وغيرهما من السواد، وأعانه الديلم، ونهب الأتراك أيضاً، وارتكبوا المحظور، ونهبوا دار بنت الأوحد بن مكرم زوجة جلال الدولة.
ذكر استيلاء أبي كاليجار على البصرةلما بلغ الملك أبا كاليجار ما كان بالبصرة سير جيشاً إلى بختيار، وأمره أن يقصد البصرة فيأخذها. فساروا إليها، وبها الملك العزيز جلال الدولة، فقاتلهم ليمنعهم، فلم يكن له بهم قوة، فانهزم منهم، وفارق البصرة، وكاد يهلك هو ومن معه عطشاً، فمن الله عليهم بمطر جود، فشربوا منه، وأصعدوا إلى واسط.
وملك عسكر أبي كاليجار البصرة، ونهب الديلم أسواقها، وسلم منها البعض بمال بذلوه لمن يحميهم، وتتبعوا أموال أصحاب جلال الدولة من الأتراك وغيرهم. فلما بلغ جلال الدولة الخبر أراد الانحدار إلى واسط، فلم يوافقه الجند، وطلبوا منه مالاً يفرق فيهم، فلم يكن عنده، فمد يده في مصادرات الناس وأخذ أموالهم لا سيما أرباب الأموال، فصادر جماعة.
ذكر وفاة صاحب كرمان

واستيلاء أبي كاليجار عليها

في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة أبو الفوارس بن بهاء الدولة، صاحب كرمان، وكان قد تجهز لقصد بلاد فارس، وجمع عسكراً كثيراً، فأدركه أجله. فلما توفي نادى أصحابه بشعار الملك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه إليهم، فسار مجداً، وملك البلاد بغير حرب ولا قتال، وأمن الناس معه، وكانوا يكرهون عمه أبا الفوارس لظلمه وسوء سيرته، وكان إذا شرب ضرب أصحابه، وضرب وزيره يوماً مائتي مقرعة، وحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحداً، فقيل إنهم سموه فمات.
ذكر استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدبيسيةكان منصور بن الحسين الأسدي قد ملك الجزيرة الدبيسية، وهي تجاور خوزستان، ونادى بشعار جلال الدولة، وأخرج صاحبها طراد بن دبيس الأسدي سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فمات طراد عن قريب، فلما مات طراد سار ابنه أبو الحسين علي إلى بغداد يسأل أن يرسل جلال الدولة معه عسكراً إلى بلده ليخرج منصوراً منه ويسلمه إليه، وكان منصور قد قطع خطبة جلال الدولة وخطب للملك أبي كاليجار، فسير معه جلال الدولة طائفة من الأتراك، فلما وصلوا إلى واسط لم يقف علي بن طراد حتى تجتمع معه طائفة من عسكر واسط، وسار عجلاً.
واتفق أن أبا صالح كوركير كان قد هرب من جلال الدولة، وهو يريد اللحاق بأبي كاليجار، فسمع هذا الخبر، فقال لمن معه: المصلحة أننا نعين منصوراً، ولا نمكن عسكر جلال الدولة من إخراجه، ونتخذ بهذا الفعل يداً عند أبي كاليجار. فأجابوه إلى ذلك، فسار إلى منصور واجتمع معه، والتقوا هم وعسكر جلال الدولة الذين مع علي بن طراد ببسبروذ، فاقتتلوا، فانهزم عسكر جلال الدولة، وقتل علي بن طراد وجماعة كثيرة من الأتراك، وهلك كثير من المنهزمين بالعطش، واستقر ملك منصور بها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سار الدزبري وعساكر مصر إلى الشام، فأوقعوا بصالح بن مرداس وابن الجراح الطائي، فهزمهما، وقتل صالحاً وابنه الأصغر، وملك جميع الشام، وقيل سنة عشرين.
وفيها توفيت أم مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، وهي التي تدبر المملكة وترتب الأمور.
وفيها عزل الحسن بن علي بن جعفر أبو علي بن ماكولا من وزارة جلال الدولة، وولي الوزراة بعده أبو طاهر المحسن بن طاهر، ثم عزل بعد أربعين يوماً، وولي بعده أبو سعد بن عبد الرحيم.
وفيها توفي قسطنطين ملك الروم، وانتقل الملك إلى بنت له، وقام بتدبير الملك والجيوش زوجها، وهو ابن خالها.
وفيها توفي الوزير أبو القاسم جعفر بن محمد بن فسانجس بأربق.
وفيها عدمت الأرطاب بالعراق للبرد الذي تقدم في السنة قبلها، وكان يحمل من الأماكن البعيدة الشيء اليسير منه.
وفيها انقطع الحج من العراق، فمضى بعض حجاج خراسان إلى كرمان، وركبوا في البحر إلى جدة، وحجوا.
وتوفي في هذه السنة محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد أبو الحسن التاجر، وهو آخر من حدث عن إسماعيل بن محمد الصفار، ومحمد بن عمرو الرزاز، وعمر بن الحسن الشيباني، وكان له مال كثير، فسافر إلى مصر خوف المصادرة، فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد، فأخذ ماله في التقسيط على الكرخ الذي ذكرناه سنة ثماني عشرة وأربعمائة، فافتقر، فلما مات لم يوجد له كفن، فأرسل له القادر بالله ما يكفن فيه.
ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة

ذكر ملك يمين الدولة الري
وبلد الجبل
في هذه السنة سار يمين الدولة محمود بن سبكتكين نحو الري، فانصرف منوجهر بن قابوس من بين يديه، وهو صاحب جرجان وطبرستان، وحمل إليه أربعمائة ألف دينار وأنزالاً كثيرة.
وكان مجد الدولة بن فخر الدولة بن بويه، صاحب الري، قد كاتبه يشكو إليه جنده، وكان متشاغلاً بالنساء، ومطالعة الكتب ونسخها، وكانت والدته تدبر مملكته، فلما توفيت طمع جنده فيه، واختلت أحواله، فحين وصلت كتبه إلى محمود سير إليه جيشاً، وجعل مقدمهم حاجبه، وأمره أن يقبض على مجد الدولة. فلما وصل العسكر إلى الري ركب مجد الدولة يلتقيهم، فقبضوا عليه وعلى أبي دلف ولده.

فلما انتهى الخبر إلى يمين الدولة بالقبض عليه سار إلى الري، فوصلها في ربيع الآخر، ودخلها وأخذ من الأموال ألف ألف دينار، ومن الجواهر ما قيمته خمسمائة ألف دينار، ومن الثياب ستة آلاف ثوب، ومن الآلات وغيرها ما لا يحصى، وأحضر مجد الدولة، وقال له: أما قرأت شاهنامه، وهو تاريخ الفرس، وتاريخ الطبري، وهو تاريخ المسلمين؟ قال: بلى! قال: ما حالك حال من قرأها، أما لعبت بالشطرنج؟ قال: بلى! قال: فهل رأيت شاهاً يدخل على شاه؟ قال: لا. قال: فما حملك على أن سلمت نفسك إلى من هو أقوى منك؟ ثم سيره إلى خراسان مقبوضاً، ثم ملك قزوين وقلاعها، ومدينة ساوة وآبة، ويافت، وقبض على صاحبها ولكين بن وندرين، وسيره إلى خراسان.
ولما ملك محمود الري كتب إلى الخليفة القادر بالله يذكر أنه وجد لمجد الدولة من النساء الحرائر ما يزيد على خمسين امرأة، ولدن له نيفاً وثلاثين ولداً، ولما سئل عن ذلك قال: هذه عادة سلفي. وصلب من أصحابه الباطنية خلقاً كثيراً، ونفى المعتزلة إلى خراسان، وأحرق كتب الفلسفة ومذاهب الإعتزال والنجوم، وأخذ من الكتب ما سوى ذلك مائة حمل.
وتحصن منه منوجهر بن قابوس بن وشمكير بجبال حصينة، وعرة المسالك، فلم يشعر إلا وقد أطل عليه يمين الدولة، فهرب منه إلى غياض حصينة، وبذلك خمسمائة ألف دينار ليصلحه، فأجابه إلى ذلك، فأرسل المال إليه، فسار عنه إلى نيسابور.
ثم توفي منوجهر عقيب ذلك، وولي ابنه أنوشروان، فأقره محمود على ولايته، وقرر عليه خمسمائة ألف دينار أخرى، وخطب لمحمود في أكثر بلاد الجبل إلى حدود أرمينية، وافتتح ابنه مسعود زنجان وأبهر، وخطب له علاء الدولة بأصبهان، وعاد محمود إلى خراسان واستخلف بالري ابنه مسعوداً، فقصد أصبهان، وملكها من علاء الدولة، وعاد عنها، واستخلف بها بعض أصحابه، فثار به أهلها فقتلوه، فعاد إليهم فقتل منهم مقتلة عظيمة نحو خمسة آلاف قتيل، وسار إلى الري فأقام بها.
ذكر ما فعله السالار إبراهيم بن المرزبان بعد عود يمين الدولة عن الريهذا السالار هو إبراهيم بن المرزبان بن إسماعيل بن وهسوذان بن محمد ابن مسافر الديلمي، وكان له من بلاد سرجهان، وزنجان، وأبهر، وشهرزور، وغيرها، وهي ما استولى عليها بعد وفاة فخر الدولة بن بويه. فلما ملك يمين الدولة محمود بن سبكتكين الري سير المرزبان بن الحسن بن خراميل، وهو من أولاد ملوك الديلم، وكان قد التجأ إلى يمين الدولة، فسيره إلى بلاد السالار إبراهيم ليملكها، فقصدها واستمال الديلم، فمال إليه بعضهم.
واتفق عود يمين الدولة إلى خراسان، فسار السالار إبراهيم إلى قزوين، وبها عسكر يمين الدولة، فقاتلهم، فأكثر القتل فيهم، وهرب الباقون، وأعانه أهل البلد، وسار السالار أيضاً إلى مكان بقرب سرجهان تطيف به الأنهار والجبال فتحصن به. فسمع مسعود بن يمين الدولة، وهو بالري، بما فعل، فسار مجداً إلى السالار فجرى بينهما وقائع كان الاستظهار فيها للسالار.
ثم إن مسعوداً راسل طائفة من جند السالار، واستمالهم، وأعطاهم الأموال فمالوا إليه، ودلوه على عورة السالار، وحملوا طائفة من عسكره في طريق غامضة، حتى جعلوه من ورائهم، وكبسوا السالار أول رمضان، وقاتله مسعود من بين يديه، وأولئك من خلفه، فاضطرب السالار ومن معه، وانهزموا وطلب كل إنسان منهم مهرباً، واختفى السالار في مكان، فدلت عليه امرأة سوادية، فأخذه مسعود وحمله إلى سرجهان، وبها ولده، فطلب منه أن يسلمها، فلم يفعل، فعاد عنها وتسلم باقي قلاعه وبلاده، وأخذ أمواله، وقرر على ابنه المقيم بسرجهان مالاً، وعلى كل من جاوره من مقدمي الأكراد، وعاد إلى الري.
ذكر ملك أبي كاليجار مدينة واسط

ومسير جلال الدولة إلى الأهواز ونهبها وعود واسط إليه
في هذه السنة صعد الملك أبو كاليجار إلى مدينة واسط فملكها، وكان ابتداء ذلك أن نور الدولة دبيس بن علي بن مزيد، صاحب الحلة، والنيل، ولم تكن الحلة بنيت ذلك الوقت، وخطب لأبي كاليجار في أعماله.
وسببه أن أبا حسان المقلد بن أبي الأغر الحسن بن مزيد كان بينه وبين نور الدولة عداوة، فاجتمع هو ومنيع أمير بني خفاجة، وأرسلا إلى بغداد يبذلان مالاً يتجهز به العسكر لقتال نور الدولة، فاشتد الأمر على نور الدولة، فخطب لأبي كاليجار، وراسله يطمعه في البلاد.

ثم اتفق أنه ملك البصرة، على ما ذكرناه، فقوي طمعه، فسار من الأهواز إلى واسط، وبها الملك العزيز بن جلال الدولة، ومعه جمع من الأتراك، ففارقها العزيز وقصد النعمانية، ففجر عليه نور الدولة البثوق من بلده، فهلك كثير من أثقالهم، وغرق جماعة منهم، وخطب في البطيحة لأبي كاليجار، وورد إليه نور الدولة.
وأرسل أبو كاليجار إلى قرواش، صاحب الموصل، وعنده الأثير عنبر، يطلب منه أن ينحدر إلى العراق ليبقى جلال الدولة بين الفريقين، فانحدر إلى الكحيل، فمات به الأثير عنبر، ولم ينحدر معه قرواش، وجمع جلال الدولة عساكره، واستنجد أبا الشوك وغيره، وانحدر إلى واسط، ولم يكن بين العسكرين قتال، وتتابعت الأمطار حتى هلكوا.
واشتد الأمر على جلال الدولة لفقره، وقلة الأموال وغيرها عنده، فاستشار أصحابه فيما يفعل، فأشاروا أن يقصدوا الأهواز وينهبها، ويأخذ ما بها من أموال أبي كاليجار وعسكره.
فسمع أبو كاليجار ذلك، فاستشار أيضاً أصحابه، فقال بعضهم: ما عدل جلال الدولة عن القتال إلا لضعف فيه، والرأي أن تسير إلى العراق فتأخذ من أموالهم ببغداد أضعاف ما يأخذون منا، فاتفقوا على ذلك، فأتاهم جاسوس من أبي الشوك يخبر بمجيء عساكر محمود بن سبكتكين إلى طخر، وأنهم يريدون العراق، ويشير بالصلح، واجتماع الكلمة على دفعهم عن البلاد. فأنفذ أبو كاليجار الكتاب إلى جلال الدولة، وقد سار إلى الأهواز، وأقام ينتظر الجواب، ظناً منه أن جلال الدولة يعود بالكتاب، فلم يلتفت جلال الدولة، ومضى إلى الأهواز فنهبها، وأخذ من دار الإمارة مائتي ألف دينار، وأخذوا ما لا يحصى، ودخل الأكراد والأعراب وغيرهم إلى البلد، فأهلكوا الناس بالنهب والسبي، وأخذت والدة أبي كاليجار وابنته وأم ولده وزوجته، فماتت أمه وحمل من عداها إلى بغداد.
ولما سمع أبو كاليجار الخبر سار ليلقى جلال الدولة، فتخلف عنه دبيس ابن مزيد، خوفاً على أهله وحلله من خفاجة، والتقى أبو كاليجار وجلال الدولة آخر ربيع الأول سنة إحدى وعشرين، فاقتتلوا ثلاثة أيام، وانهزم أبو كاليجار، وقتل من أصحابه ألفا رجل، ووصل إلى الأهواز بأسوأ حال، فأتاه العادل بن مافنة بمال، فحسنت حاله.
وأما جلال الدولة فإنه عاد واستولى على واسط، وجعل ابنه العزيز بها، وأصعد إلى بغداد، ومدحه المرتضى ومهيار وغيرهما، وهنأوه بالظفر.
ذكر حال دبيس بن مزيد بعد الهزيمةلما عاد دبيس بن مزيد الأسدي، وفارق أبا كاليجار، وصل إلى بلده، وكان قد خالف عليه قوم من بني عمه، ونزلوا الجامعين، وأتاهم وقاتلهم، فظفر بهم، وأسر منهم جماعة منهم شبيب، وسرايا، ووهب، بنو حماد بن مزيد، وأبو عبد الله الحسن بن أبي الغنائم بن مزيد، وحملهم إلى الجوسق.
ثم إن المقلد بن أبي الأغر بن مزيد وغيره اجتمعوا معهم عسكر من جلال الدولة، وقصدوا دبيساً وقاتلوه، فانهزم منهم، وأسر من بني عمه خمسة عشر رجلاً، فنزل المعتقلون بالجوسق، وهم شبيب وأصحابه، إلى حلله فحرسوها، وسار دبيس منهزماً إلى السندية، إلى نجدة الدولة أبي منصور كامل بن قراد، فاستصحبه إلى أبي سنان غريب بن مقن، حتى أصلح أمره مع جلال الدولة وعسكره، وتكفل به، وضمن عنه عشرة آلاف دينار سابورية إذا أعيد إلى ولايته، فأجيب إلى ذلك، وخلع عليه.
فعرف المقلد الحال ومعه جمع من خفاجة فنهبوا مطيراباذ، والنيل، وسورا، أقبح نهب، واستاقوا مواشيها، وأحرقوا منازلها، وعبر المقلد دجلة إلى أبي الشوك، وأقام عنده إلى أن أحكم أمره.
ذكر عصيان زناتة ومحاربتهم بإفريقيةفي هذه السنة تجمعت زناتة وعاودت الخلاف على المعز بإفريقية، فبلغ ذلك المعز، فجمع عساكره وسار إليهم بنفسه، فالتقوا بموضع يعرف بحمديس الصابون، ووقعت الحرب بين الطائفتين، واشتد القتال، فانهزمت زناتة وقتل منهم عدد كثير، أسر مثلهم، وعاد المعز ظافراً غانماً.
ذكر ما فعله يمين الدولة وولده بعده بالغزفي هذه السنة أوقع يمين الدولة بالأتراك الغزية، وفرقهم في بلاده، لأنهم كانوا قد أفسدوا فيها، وهؤلاء كانوا أصحاب أرسلان بن سلجوقي التركي، وكانوا بمفازة بخارى، فلما عبر يمين الدولة النهر إلى بخارى هرب علي تكين صاحبها منه، على ما نذكره.

وحضر أرسلان بن سلجوق عند يمين الدولة، فقبض عليه وسجنه ببلاد الهند، وأسرى إلى خركاهاته، فقتل كثيراً من أصحابه، وسلم منهم خلق كثير، فهربوا منه ولحقوا بخراسان فأفسدوا فيها، ونهبوا هذه السنة، فأرسل إليهم جيشاً فسبوهم وأجلوهم عن خراسان، فسار منهم أهل ألفي خركاة، فلحقوا بأصبهان، فكتب يمين الدولة إلى علاء الدولة بإنفاذهم، أو إنفاذ رؤوسهم، فأمر نائبه أن يعمل طعاماً ويدعوهم إليه ويقتلهم، فأرسل إليهم وأعلمهم أنه يريد إثبات أسمائهم ليستخدمهم، وكمن الديلم في البساتين، فحضر جمع كثير منهم، فلقيهم مملوك تركي لعلاء الدولة، فأعلمهم الحال، فعادوا، فأراد نائب علاء الدولة أن يمنعهم من العود، فلم يقبلوا منه، فحمل ديلمي من قواد الديلم على إنسان منهم، فرماه التركي بسهم فقتله.
ووقع الصوت بذلك، فخرجت الديلم وانضاف إليهم أهل البلد، فجرى بينهم حرب، فهزموهم، فقلع الترك خركاهاتهم وساروا، ولم يجتازوا على قرية إلا نهبوها إلى أن وصلوا إلى وهسوذان بأذربيجان، فراعاهم وتفقدهم.
وبقي بخراسان أكثر ممن قصد أصبهان، فأتوا جبل بلجان وهو الذي عنده خوارزم القديمة، فنزل كثير منهم من الجبل إلى البلاد، فنهبوا وأخربوا وقتلوا، فجرد محمود بن سبكتكين إليهم أرسلان الجاذب، أمير طوس، فسار إليهم، ولم يزل يتبعهم نحو سنتين في جموع كثيرة من العساكر، فاضطر محمود إلى قصد خراسان بسببهم، فسار يطلبهم من نيسابور إلى دهستان، فساروا إلى جرجان، ثم عاد عنهم، وجعل ابنه مسعوداً بالري، على ما ذكرناه، فاستخدم بعضهم وقدمهم يغمر.
فلما مات محمود بن سبكتكين سار مسعود ابنه إلى خراسان وهم معه، فلما ملك غزنة سألوه فيمن بقي منهم بجبل بلجان، فأذن لهم في العود على شرط الطاعة والاستقامة.
ثم إن مسعوداً قصد بلاد الهند عند عصيان أحمد ينالتكين، فعاودوا الفساد، فسير تاش فراش في عسكر كثير إلى الري لأخذها من علاء الدولة، فلما بلغ نيسابور، ورأى سوء فعلهم، دعا مقدميهم، وقتل نيفاً وخمسين رجلاً، فيهم يغمر، فلم ينتهوا، وساروا إلى الري.
وبلغ مسعوداً ما هم عليه من الشر والفساد، فأخذ حللهم وسيرها إلى الهند، وقطع أيدي كثير منهم وأرجلهم وصلبهم.
هذه أخبار عشيرة أرسلان بن سلجوق، وأما أخبار طغرلبك، وداود، وأخيهما بيغو، فإنهم كانوا بما وراء النهر، وكان من أمرهم ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى لأنهم صاروا ملوكاً تجيء أخبارهم على السنين.
ولما وقع تاش فراش حاجب السلطان مسعود بالغز ساروا إلى الري يزعمون أنهم يريدون أذربيجان، واللحاق بمن مضى منهم أولاً هناك، ويسمون العراقية، وكان اسم أمراء هذه الطائفة كوكتاش، وبوقا، وقزل، ويغمر، وناصغلي، فوصلوا إلى الدامغان، فخرج إليهم عسكرها وأهل البلد ليمنعوهم عنه، فلم يقدروا، فصعدوا الجبل وتحصنوا به، ودخل الغز، البلد ونهبوه، وانتقلوا إلى سمنان ففعلوا فيها مثل ذلك، ودخلوا خوار الري ففعلوا مثله، ونهبوا إسحاق آباذ وما يجاورها من القرى، وساروا إلى مشكويه من أعمال الري فنهبوها.
وتجهز أبو سهل الحمدوني، وتاش فراش، وكاتبا الملك مسعوداً، وصاحب جرجان وطبرستان بالحال، وطلبا النجدة، وأخذ تاش ثلاثة آلاف فارس، وما عنده من الفيلة والسلاح، وسار إلى الغز ليواقعهم، وبلغهم خبره، فتركوا نساءهم، وأموالهم، وما غنموا من خراسان، وهذه البلاد المذكورة، وساروا جريدة، فالتقوا فركب تاش الفيل، ووقعت الحرب بين الفريقين، فكانت أولاً لتاش، ثم إن الغز أسروا مقدم الأكراد الذين مع تاش، وأرادوا قتله، فقال لهم: استبقوني حتى آمر الأكراد الذين مع تاش بترك قتالهم، فتركوه، وعاهدوه على إطلاقه، فأرسل إلى الأكراد يقول لهم: إن قاتلتم قتلت، ففتروا في القتال.

وحملت الغز، وكانوا خمسة آلاف، على تاش فراش وعسكره، فانهزم الأكراد، وثبت تاش وأصحابه، فقتل الغز الفيل الذي تحته فسقط، فقتلوه وقطعوه أخذاً بثأر من قتل منهم، وقتل معه عدد كثير من الخراسانية، وأكابر القواد، وغنموا بقية الفيلة، وأثقال العسكر، وساروا إلى الري فاقتتلوا هم وأبو سهل الحمدوني ومن معه من الجند وأهل البلد، فصعد هو ومن معه قلعة طبرك، ودخل الغز البلد، ونهبوا عدة محال نهباً اجتاحوا به الأموال، ثم اقتتلوا هم وأبو سهل، فأسر منهم ابن أخت ليغمر أمير الغز، وقائداً كبيراً من قوادهم، فبذلوا فيهما إعادة ما أخذوا من عسكر تاش، وإطلاق الأسرى، وحمل ثلاثين ألف دينار، فقال: لا أفعل إلا بأمر السلطان.
وخرج الغز عن البلد، ووصل عسكر من جرجان، فلما قربوا من الري سار إليهم الغز فكبسوهم، وأسروا مقدمهم، وأسروا معه ألفي رجل، وانهزم الباقون وعادوا، وكان هذا سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
ذكر وصول علاء الدولة إلى الري

واتفاقه مع الغز وعودهم إلى الخلاف عليه
لما فارق الغز الري إلى أذربيجان علم علاء الدولة ذلك، فسار إليها، ودخلها، وهو يظهر طاعة السلطان مسعود بن سبكتكين، فأرسل إلى أبي سهل الحمدوني يطلب منه أن يقرر الذي عليه بمال يؤديه، فامتنع من إجابته مخافة علاء الدولة، فأرسل إلى الغز يستدعيهم ليعطيهم الأقطاع، ويتقوى بهم على الحمدوني، فعاد منهم نحو ألف وخمسمائة، مقدمهم قزل، وسار الباقون إلى أذربيجان.
فلما وصل الغز إلى علاء الدولة أحسن إليهم، وتمسك بهم، وأقاموا عنده، ثم ظهر على بعض القواد الخراسانية الذين عنده أنه دعا الغز إلى موافقته على الخروج عليه والعصيان، فأرسل إليه علاء الدولة وأحضره وقبض عليه، وسجنه في قلعة طبرك، فاستوحش الغز لذلك ونفروا، فاجتهد علاء الدولة في تسكينهم، فلم يفعلوا، وعاودوا الفساد والنهب وقطع الطريق، وعاد علاء الدولة فراسل أبا سهل الحمدوني، وهو بطبرستان، وقرر معه أمر الري ليكون في طاعة مسعود، فأجابه إلى ذلك، وسار إلى نيسابور وبقي علاء الدولة بالري.
ذكر ما كان من الغز الذين بأذربيجانقد ذكرنا أن طائفة من الغز وصلوا إلى أذربيجان، فأكرمهم وهسوذان، وصاهرهم، رجاء نصرهم وكف شرهم.
وكان أسماء مقدميهم: بوقا، وكوكتاش، ومنصور، ودانا، وكان ما أمله بعيداً، فإنهم لم يتركوا الشر والفساد، والقتل والنهب، وساروا إلى مراغة، فدخلوها سنة تسع وعشرين وأحرقوا جامعها، وقتلوا من عوامها مقتلة كثيرة، ومن الأكراد الهذبانية كذلك، وعظم الأمر، واشتد، البلاء.
فلما رأى الأكراد ما حل بهم وبأهل البلاد شرعوا في الصلح والإتفاق على دفع شرهم، فاصطلح أبو الهيجاء بن ربيب الدولة ووهسوذان صاحب أذربيجان واتفقت كلمتهما، واجتمع معهما أهل تلك البلاد، فانتصفوا من الغز. فلما رأوا اجتماع أهل البلاد على حربهم انصرفوا عن أذربيجان، وتعذر عليهم المقام بها، ثم إنهم افترقوا، فسار طائفة إلى الذين على الري، ومقدمهم بوقا، وسار طائفة منهم، مقدمهم منصور وكوكتاش، إلى همذان فحصروها، وبها أبو كاليجار بن علاء الدولة بن كاكويه، فاتفق هو وأهل البلاد على قتالهم ودفعهم عن أنفسهم وبلدهم، فقتل بين الفريقين جماعة كثيرة، وطال مقامهم على همذان، فلما رأى أبو كاليجار بن علاء الدولة ذلك، وضعفه عن مقاومتهم، راسل كوكتاش وصالحه وصاهره.
وأما الذين قصدوا الري فإنهم حصروها، وبها علاء الدولة بن كاكويه، واجتمع معهم فناخسرو بن مجد الدولة، وكامرو الديلمي، صاحب ساوة، فكثر جمعهم، واشتدت شوكتهم.
فلما رأى علاء الدولة أنهم كلما جاء أمرهم ازدادوا قوة، وضعف هو، خاف على نفسه، وفارق البلد في رجب ليلاً، ومضى هارباً إلى أصبهان، وأجفل أهل البلد وتمزقوا، وعدلوا عن القتال إلى الاحتيال للهرب، وغاداهم الغز من الغد للقتال، فلم يثبتوا لهم، ودخلوا البلد، ونهبوا نهباً فاحشاً، وسبوا النساء، وبقوا كذلك خمسة أيام، حتى لجأ الحرم إلى الجامع، وتفرق الناس في كل مذهب ومهرب، وكان السعيد من نجل بنفسه. وكانت هذه الوقعة بعد التي تقدمتها مستأصلة، حتى قيل إن بعض الجمع لم يكن بالجامع إلا خمسون نفساً.

ولما فارق علاء الدولة الري تبعه جمع من الغز فلم يدركوه، فعدلوا إلى كرج فنهبوها، وفعلوا فيها الأفاعيل القبيحة. ومضى طائفة منهم، ومقدمهم ناصغلي، إلى قزوين، فقاتلهم أهلها، ثم صالحوهم على سبعة آلاف دينار، وصاروا في طاعته.
وكان بأرمية طائفة منهم، فساروا إلى بلد الأرمن، فأوقعوا بهم، وأثخنوا فيهم، وأكثروا القتل، وغنموا وسبوا، وعادوا إلى أرمية وأعمال أبي الهيجاء الهذباني، فقاتلهم أكرادها لما أنكروه من سوء مجاورتهم، فقتل خلق كثير، ونهب الغز سواد البلاد هناك، وقتلوا من الأكراد كثيراً.
ذكر ملك الغز همذانقد ذكرنا حصار الغز همذان وصلحهم مع صاحبها أبي كاليجار بن علاء الدولة بن كاكويه، فلما كان الآن، وملك الغز الري، عاودوا حصار همذان، وساروا إليها من الري، ما عدا قزل وجماعته، واجتمعوا مع من بها من الغز. فلما سمع أبو كاليجار بهم علم أنه لا قدوة له عليهم، فسار عنها ومعه وجوه التجار وأعيان البلد، وتحصن بكنكور.
ودخل الغز همذان سنة ثلاثين وأربعمائة، واجتمع عليها من مقدميهم: كوكتاش، وبوقا، وقزل، ومعهم فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه في عدة كثيرة من الديلم، فلما دخلوها نهبوها نهباً منكراً لم يفعلوه بغيرها من البلاد، غيظاً منهم، وحنقاً عليهم، حيث قاتلوهم أولاً، وأخذوا الحرم، وضربت سراياهم إلى أسداباذ وقرى الدينور، واستباحوا تلك النواحي وكان الديلم أشدهم. فخرج إليهم أبو الفتح بن أبي الشوك، صاحب الدينور، فواقعهم، واستظهر عليهم، وأسر منهم جماعة، فراسله أمراؤهم في إطلاقهم، فامتنع إلا على صلح وعهود، فأجابوه وصالحوه فأطلقهم.
ثم إن الغز بهمذان راسلوا أبا كاليجار بن علاء الدولة وصالحوه، وطلبوا إليه أن ينزل إليهم ليدبر أمرهم، ويصدرون عن رأيه، وأرسلوا إليه زوجته التي تزوجها منهم، فنزل إليهم، فلما صار معهم وثبوا عليه فانهزم، ونهبوا ماله وما كان معه من دواب وغيرها. فسمع أبوه فخرج من أصبهان إلى أعماله بالجبل ليشاهدها، فوقع بطائفة كثيرة من الغز، فظفر بهم، وقتل منهم فأكثر، وأسر مثلهم، ودخل أصبهان منصوراً.
ذكر قتل الغز بمدينة تبريز

وفراقهم أذربيجان إلى الهكارية
في سنة اثنتين وثلاثين قتل وهسوذان بن مهلان جمعاً كثيراً من الغز بمدينة تبريز.
وكان سبب ذلك أنه دعا جمعاً كثيراً منهم إلى طعام صنعه لهم، فلما طعموا وشربوا قبض على ثلاثين رجلاً منهم من مقدميهم، فضعف الباقون، فأكثر فيهم القتل، فاجتمع الغز المقيمون بأرمية وساروا نحو بلاد الهكارية من أعمال الموصل، فقاتلهم أكرادها، وقاتلوهم قتالاً عظيماً، فانهزم الأكراد وملك الغز حللهم وأموالهم، ونساءهم وأولادهم، وتعلق الأكراد بالجبال والمضايق، وسار الغز في أثرهم فواقعوهم، فظفر بهم الأكراد، فقتلوا منهم ألفاً وخمسمائة رجل، وأسروا جمعاً فيه سبعة من أمرائهم، ومائة نفس من وجوههم، وغنموا سلاحهم ودوابهم وما معهم من غنيمة استردوها، وسلك الغز طريق الجبال فتمزقوا وتفرقوا.
وسمع ابن ربيب الدولة الخبر، فسير في آثراهم من يفني باقيهم، ثم توفي أمير الغز المقيم بالري، وخرج إبراهيم ينال أخو السلطان طغرلبك إلى الري، فلما سمع به الغز المقيمون بها أجفلوا من بين يديه، وفارقوا بلاد الجبل خوفاً منه، وقصدوا ديار بكر والموصل في سنة ثلاث وثلاثين.
ذكر دخول الغز ديار بكرفي سنة ثلاث وثلاثين فارق الغز أذربيجان.
وسبب ذلك أن إبراهيم ينال، وهو أخو طغرلبك، سار إلى الري، فلما سمع الغز الذين بها خبره أجفلوا من بين يديه، وفارقوا بلاد الجبل خوفاً، وقصدوا أذربيجان، ولم يمكنهم المقام بها لما فعلوا بأهلها، ولأن إبراهيم ينال وراءهم، وكانوا يخافونه لأنهم كانوا له ولأخويه طغرلبك وداود رعية، فأخذوا بعض الأكراد، وعرفهم الطريق، فأخذ بهم في جبال وعرة على الزوزان، وخرجوا إلى جزيرة ابن عمر، فسار بوقا وناصغلي وغيرهما إلى ديار بكر، ونهبوا قردى، وبازبدى، والحسنية، وفيشابور وبقي منصور ابن غرغلي بالجزيرة من الجانب الشرقي.

فراسله سليمان بن نصر الدولة بن مروان المقيم بالجزيرة في المصالحة والمقام بأعمال الجزيرة إلى أن ينكشف الشتاء، ويسير مع باقي الغز إلى الشام، فتصالحا وتحالفا، وأضمر سليمان الغدر به، فعمل له طعاماً احتفل فيه ودعاه، فلما دخل الجزيرة قبض عليه وحبسه، وانصرف أصحابه متفرقين في كل جهة.
فلما علم بذلك قرواش سير جيشاً كثيفاً إليهم، واجتمع معهم الأكراد البشنوية، أصحاب فنك، وعسكر نصر الدولة، فتبعوا الغز، فلحقوهم وقاتلوهم، فبذل الغز جميع ما غنموه على أن يؤمنوهم، فلم يفعلوا، فقاتلوا قتال من لا يخاف الموت، فجرحوا من العرب كثيراً، وافترقوا.
وكان بعض الغز قد قصد نصيبين وسنجار للغارة، فعادوا إلى الجزيرة وحصروها، وتوجهت العرب إلى العراق ليشتوا به، فأخربت الغز ديار بكر، ونهبوا وقتلوا، فأخذ نصر الدولة منصوراً أمير الغز من ابنه سليمان، وراسل الغز، وبذل لهم مالاً، وإطلاق منصور ليفارقوا عمله، فأجابوه، فأطلق منصوراً، وأرسل بعض المال، فغدروا، وزادوا في الشر، وسار بعضهم إلى نصيبين وسنجار والخابور، فنهبوا وعادوا، وسار بعضهم إلى جهينة وأعمال الفرج فنهبوها، فدخل قرواش الموصل خوفاً منهم.
ذكر ملك الغز مدينة الموصللما خرجوا من أذربيجان إلى جزيرة ابن عمر، وهي من أعمال نصر الدولة ابن مروان، سار بعضهم إلى ديار بكر مع أمرائهم المذكورين، وسار الباقون إلى البقعاء، ونزلوا برقعيد، فأرسل إليهم قرواش صاحب الموصل من ينظر فيهم، ويغير عليهم. فلما رأوا ذلك تقدموا إلى الموصل، فأرسل إليهم يستعطفهم ويلين لهم، وبذلك لهم ثلاثة آلاف دينار، فلم يقبلوا، فأعاد مراسلتهم ثانية، فطلبوا خمسة عشر ألف دينار، فالتزمها، وأحضر أهل البلد وأعلمهم الحال.
فبينما هو بجمع المال وصل الغز إلى الموصل ونزلوا بالحصباء، فخرج إليهم قرواش وأجناده والعامة، فقاتلوهم عامة نهارهم، وأدركهم الليل فافترقوا، فلما كان الغد عادوا إلى القتال، فانهزمت العرب وأهل البلد، وهرب قرواش في سفينة نزلها من داره، وخرج من جميع ماله إلا الشيء اليسير، ودخل الغز البلد فنهبوا كثيراً منه، ونهبوا جميع ما لقرواش من مال وجوهر وحلي وثياب وأثاث، ونجا قرواش في السفينة ومعه نفر، فوصل إلى السن وأقام بها، وأرسل إلى الملك جلال الدولة يعرفه الحال، ويطلب النجدة، وأرسل إلى دبيس بن مزيد وغيره من أمراء العرب والأكراد يستمدهم ويشكو ما نزل به.
وعمل الغز بأهل الموصل الأعمال الشنيعة من الفتك وهتك الحريم ونهب المال، وسلم عدة محال منها سكة أبي نجيح، والجصاصة، وجارسوك، وشاطيء نهر، وباب القصابين على مال ضمنوه، فكفوا عنهم.
ذكر وثوب أهل الموصل بالغز

وما كان بينهم
قد ذكرنا ملك الغز الموصل، فلما استقروا فيها قسطوا على أهلها عشرين ألف دينار وأخذوها، ثم تتبعوا الناس وأخذوا كثيراً من أموالهم بحجة أموال العرب، ثم قسطوا أربعة آلاف دينار أخرى، فحضر جماعة من الغر عند ابن فرغان الموصلي، وطالبوا إنساناً بحضرته، وأساءوا الأدب والقول.
وجرى بين بعض الغز وبعض المواصلة مشاجرة، فجرحه الغزي وقطع شعره، وكان للموصلي والدة سليطة، فلطخت وجهها بالدم، وأخذت الشعر بيدها وصاحت: المستغاث بالله وبالمسلمين، قد قتل لي ابن وهذا دمه، وابنة وهذا شعرها! وطافت في الأسواق، فثار الناس وجاؤوا إلى ابن فرغان فقتلوا من عنده من الغز، وقتلوا من ظفروا به منهم، ثم حصروهم في دار، فقاتلوا من بسطحها، فنقب الناس عليهم الدار وقتلوهم جميعهم، غير سبعة أنفس منهم أبو علي ومنصور، فخرج منصور إلى الحصباء، ولحق به من سلم منهم.
وكان كوكتاش قد فارق الموصل في جمع كثير، فأرسلوا إليه يعلمونه الحال، فعاد إليهم، ودخل البلد عنوة في الخامس والعشرين من رجب سنة خمس وثلاثين ووضعوا السيف في أهله، وأسروا كثيراً، ونهبوا الأموال، وأقاموا على ذلك اثني عشر يوماً يقتلون وينهبون، وسلمت سكة أبي نجيح، فإن أهلها أحسنوا إلى الأمير منصور، فرعى لهم ذلك، والتجأ من سلم إليها، وبقي القتلى في الطريق، فأنتنوا لعدم من يواريهم، ثم طرحوا بعد ذلك كل جماعة في حفيرة. وكانوا يخطبون للخليفة، ثم لطغرلبك.

ولما طال مقامهم بهذه البلاد، وجرى منهم ما ذكرناه، كتب الملك جلال الدولة بن بويه إلى طغرلبك يعرفه ما يجري منهم، وكتب إلى نصر الدولة بن مروان يشكو منهم، فكتب إلى نصر الدولة يقول له: بلغني أن عبيدنا قصدوا بلادك، وأنك صانعتهم بمال بذلته لهم، وأنت صاحب ثغر ينبغي أن تعطي ما تستعين به على قتال الكفار، ويعده أنه يرسل إليهم يرحلهم من بلده.
وكانوا يقصدون بلاد الأرمن وينهبون ويسبون، حتى إن الجارية الحسناء بلغت قيمتها خمسة دنانير، وأما الغلمان فلا يرادون. فأما كتاب طغرلبك إلى جلال الدولة، فيعتذر بأن هؤلاء التركمان كانوا لنا عبيداً، وخدماً، ورعايا، وتبعاً، يمتثلون الأمر، ويخدمون الباب، ولما نهضنا لتدبير خطب آل محمود بن سبكتكين، وانتدبنا لكفاية أمر خوارزم، انحازوا إلى الري فعاثوا فيها وأفسدوا، فزحفنا بجنودنا من خراسان إليهم مقدرين أنهم يلجأون إلى الأمان، ويلوذون بالعفو والغفران، فملكتهم الهيبة، وزحزحتهم الحشمة، ولا بد من أن نردهم إلى راياتنا خاضعين، ونذيقهم من بأسنا جزاء المتمردين، قربوا أم بعدوا، أغاروا أم أنجدوا.
ذكر ظفر قرواش صاحب الموصل بالغزقد ذكرنا انحدار قرواش إلى السن، ومراسلته سائر أصحاب الأطراف في طلب النجدة منهم، فأما الملك جلال الدولة فلم ينجده لزوال طاعته عن جنده االأتراك، وأما دبيس بن مزيد فسار إليه، واجتمعت عليه عقيل كافة، وأتته أمداد أبي الشوك وابن ورام وغيرهما، فلم يدركوا الوقعة، فإن قرواشاً لما اجتمعت عقيل ودبيس عنده سار إلى الموصل.
وبلغ الخبر إلى الغز، فتأخروا إلى تلعفر، وبومارية، وتلك النواحي، وراسلوا الغز الذين كانوا بديار بكر ومقدمهم ناصغلي وبوقا، وطلبوا منهم المساعدة على العرب، فساروا إليهم.
وسمع قرواش بوصولهم، فلم يعلم أصحابه لئلا يفشلوا ويجبنوا، وسار حتى نزل على العجاج، وسارت الغز فنزلوا برأس الأيل من الفرج، وبينهما نحو فرسخين، وقد طمع الغز في العرب، فتقدموا حتى شارفوا حلل العرب ووقعت الحرب في العشرين من شهر رمضان من أول النهار، فاستظهرت الغز، وانهزمت العرب حتى صار القتال عند حللهم، ونساؤهم يشاهدون القتال، فلم يزل الظفر للغز إلى الظهر، ثم أنزل الله نصره على العرب، وانهزمت الغز وأخذهم السيف وتفرقوا، وكثر القتل فيهم، فقتل ثلاثة من مقدميهم، وملك العرب حلل الغز وخركاهاتهم، وغنموا أموالهم، فعمتهم الغنيمة، وأدركهم الليل فحجز بينهم.
وسير قرواش رؤوس كثير من القتلى في سفينة إلى بغداد، فلما قاربتها أخذها الأتراك ودفنوها، ولم يتركوها تصل أنفة وحمية للجنس، وكفى الله أهل الموصل شرهم، وتبعهم قرواش إلى نصيبين، وعاد عنهم، فقصدوا ديار بكر فنهبوها، ثم مالوا على الأرمن والروم فنهبوهم، ثم قصدوا بلاد أذربيجان، وكتب قرواش إلى الأطراف يبشر بالظفر بهم، وكتب إلى ابن ربيب الدولة، صاحب أرمية، يذكر له أنه قتل منهم ثلاثة آلاف رجل، فقال للرسول: هذا عجيب! فإن القوم لما اجتازوا ببلادي أقمت على قنطرة لا بد لهم من عبورها من عدهم، فكانوا نيفاً وثلاثين ألفاً مع لفيفهم، فلما عادوا بعد هزيمتهم لم يبلغوا خمسة آلاف رجل، فإما أن يكونوا قتلوا أو هلكوا. ومدح الشعراء قرواشاً بهذا الفتح، وممن مدحه ابن شبل بقصيدة منها:
بأبي الذي أرست نزار بيتها ... في شامخ من عزه المتخير
وهي طويلة. هذه أخبار الغز العراقيين، وإنما أوردناها لأن دولتهم لم تطل حتى نذكر حوادثها في السنين، وإنما كانت سحابة صيف تقشعت عن قريب.
وأما السلجوقية فنحن نذكر حوادثهم في السنين ونذكر ابتداء أمرهم سنة اثنتين وثلاثين إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثوفي هذه السنة سير الظاهر جيشاً من مصر، مقدمهم أنوشتكين الزبري، فقتل صالح بن مرداس، وملك نصر بن صالح مدينة حلب، وقد تقدم ذكره في سنة اثنتين وأربعمائة.
وفيها سقط في البلاد برد عظيم، وكان أكثره بالعراق، وارتفعت بعده ريح شديدة سوداء، فقلعت كثيراً من الأشجار بالعراق، فقلعت شجراً كباراً من الزيتون من شرقي النهراون وألقته على بعد من غربيها، وقلعت نخلة من أصلها وحملتها إلى دار بينها وبين موضع هذه الشجرة ثلاث دور، وقلعت سقف مسجد الجامع ببعض القرى.
وفيها، في ذي القعدة، تولى عبد الله بن ماكولا قضاء القضاة.

وفيها توفي أبو الحسن علي بن عيسى الربعي النحوي عن نيف وتسعين سنة، وأخذ النحو عن أبي علي الفارسي، وأبي سعيد السيرافي، وكان فكهاً، كثير الدعابة، فمن ذلك أنه كان يوماً على شاطيء دجلة ببغداد، والملك جلال الدولة، والمرتضى والرضي كلاهما في سميرية، ومعهما عثمان بن جني النحوي، فناداه الربعي: أيها الملك ما أنت صادق في تشيعك لعلي بن أبي طالب، يكون عثمان إلى جانبك، وعلي، يعني نفسه، هاهنا! فأمر بالسميرية فقربت إلى الشاطيء وحمله معه.
وقيل إن هذا القول كان للشريف الرضي وأخيه المرتضى، ومعهما عثمان ابن جني، فقال: ما أعجب أحوال الشريفين! يكون عثمان معهما، وعلي يمشي على الشط.
وفيها أيضاً توفي أبو المسك عنبر، الملقب بالأثير، وكان قد أصعد إلى الموصل مغاضباً لجلال الدولة، فلقيه قرواش وأهله، وقبلوا الأرض بين يديه، فأقام عندهم، وكان خصياً لبهاء الدولة بن بويه، وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً، لم يخل أمير ولا وزير في دولة بني بويه من تقبيل يده والأرض بين يديه، وكان قد استقر بينه وبين قرواش وأبي كاليجار قاعدة أن يصعد أبو كاليجار من واسط، وينحدر الأثير وقرواش من الموصل لقصد جلال الدولة، وكان الأثير قد انحدر من الموصل، فلما وصل مشهد الكحيل توفي فيه.
وفيها انقطع كوكب عظيم، في رجب، أضاءت منه الأرض، وسمع له صوت عظيم كالرعد، وتقطع أربع قطع، وانقض بعده بليلتين كوكب آخر دونه، وانقض بعدهما كوكب أكبر منهما وأكثر ضوءاً.
وفيها كانت ببغداد فتناً قوي فيها أمر العيارين واللصوص، فكانوا يأخذون العملات ظاهراً.
وفيها قطعت الجمعة من جامع براثا، وسببها أنه كان يخطب فيها إنسان يقول في خطبته: بعد الصلاة على النبي وعلى أخيه أمير المؤمنين على بن أبي طالب، مكلم الجمجمة، ومحييها البشري الإلهي، مكلم الفتية أهل الكهف، إلى غير ذلك من الغلو المبتدع، فأقام الخليفة خطيباً، فرجمه العامة، فانقطعت الصلاة فيه، فاجتمع جماعة من أعيان الكرخ مع المرتضى، واعتذروا إلى الخليفة بأن سفهاء لا يعرفون فعلوا ذلك، وسألوا إعادة الخطبة، فأجيبوا إلى ما طلبوا، وأعيدت الصلاة والخطبة فيه.
وفيها توفي ابن أبي الهبيش الزاهد المقيم بالكوفة، وهو من أرباب الطبقات الغالية في الزهد، وقبره يزار إلى الآن وقد زرته.
وفيها توفي منوجهر بن قابوس بن وشمكير، وملك ابنه أنوشروان.
ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة

ذكر ملك مسعود بن سبكتكين همذان
في هذه السنة سير مسعود بن يمين الدولة محمود جيشاً إلى همذان، فملكوها، وأخرجوا نواب علاء الدولة بن كاكويه عنها، وسار هو إلى أصبهان، فلما قاربها فارقها علاء الدولة، فغنم مسعود ما كان له بها من دواب وسلاح وذخائر، فإن علاء الدولة أعجل عن أخذه، فلم يأخذ إلا بعضه، وسار إلى خوزستان، فبلغ إلى تستر ليطلب من أبي كاليجار نجدة، ومن الملك جلال الدولة، ويعود إلى بلاده يستنقذها، فبقي عند أبي كاليجار مدة، وهو عقيب انهزامه من جلال الدولة ضعيف، ومع هذا فهو يعده النصرة، وتسيير العساكر، إذا اصطلح هو وجلال الدولة.
فبينما هو عنده إذ أتاه خبر وفاة يمين الدولة محمود، ومسير مسعود إلى خراسان، فسار علاء الدولة إلى بلاده، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر غزوة للمسلمين إلى الهندفي هذه السنة غزا أحمد بن ينالتكين، النائب عن محمود بن سبكتكين ببلاد الهند، مدينة للهنود هي من أعظم مدنهم، يقال لها نرسى، ومع أحمد نحو مائة ألف فارس وراجل، وشن الغارة على البلاد، ونهب، وسبى، وخرب الأعمال، وأكثر القتل والأسر، فلما وصل إلى المدينة دخل من أحد جوانبها ونهب المسلمون في ذلك الجانب يوماً من بكرة إلى آخر النهار، ولم يفرغوا من نهب سوق العطارين والجوهريين، حسب، وباقي أهل البلد لم يعلموا بذلك، لأن طوله منزل من منازل الهنود، وعرضه مثله، فلما جاء المساء لم يجسر أحد على المبيت فيه لكثرة أهله، فخرج منه ليأمن على نفسه وعسكره.
وبلغ من كثرة ما نهب المسلمون أنهم اقتسموا الذهب والفضة كيلاً، ولم يصل إلى هذه المدينة عسكر للمسلمين قبله ولا بعده، فلما فارقه أراد العود إليه، فلم يقدر على ذلك، منعه أهله عنه.
ذكر ملك بدران ابن المقلد نصيبين

قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين وأنه رحل عنها خوفاً من قرواش، فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا. ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة ابن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش ونصر فآثر عليها غيرها، فأرسلت إلى أبيها تشكو منه، فأرسل يطلبها إليه، فسيرها فأقامت بالموصل. ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش وأطمعه في الجزيرة فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته وهو عشرون ألف دينار، ويطلب الجزيرة لنفقتها، ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول، وترددت الرسل بينهما في ذلك فلم يستقر حال، فسير جيشاً لمحاصرة الجزيرة وجيشاً مع أخيه بدران إلى نصيبين، فحصرها بدران وأتاه قرواش فحصرها معه فلم يملك واحد من البلدين وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين، فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.
ذكر ملك أبي الشوك دقوقاوفيها حصر أبو الشوك دقوقا، وبها مالك بن بدران بن المقلد العقيلي، فطال حصاره، وكان قد أرسل إليه يقول له: إن هذه المدينة كانت لأبي، ولا بد لي منها، والصواب أن تنصرف عنها. فامتنع من تسليمها، فحصره بها، ثم استظهر، وملك البلد، فطلب منه مالك الأمان على نفسه وماله وأصحابه، فأمنه على نفسه حسب، فلما خرج إليه مالك قال له أبو الشوك: قد كنت سألتك أن تسلم البلد طوعاً، وتحقن دماء المسلمين، فلم تفعل. فقال: لو فعلت لعيرتني العرب، وأما الآن فلا عار علي. فقال أبو الشوك: إن من إتمام الصنيعة تسليم مالك وأصحابك إليك، فأعطاه ما كان له أجمع، فأخذه وعاد سالماً.
ذكر وفاة محمود بن سبكتكين

وملك ولده محمد
في هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، ومولده يوم عاشوراء سنة ستين وثلاثمائة، وقيل إنه توفي أحد عشر صفر، وكان مرضه سوء مزاج وإسهالاً، وبقي كذلك نحو سنتين، وكان قوي النفس لم يضع جنبه في مرضه بل كان يستند إلى مخدته، فأشار عليه الأطباء بالراحة، وكان يجلس للناس بكرة وعشية، فقال: أتريدون أن أعتزل الإمارة؟ فلم يزل كذلك حتى توفي قاعداً.
فلما حضره الموت أوصى بالملك لابنه محمد، وهو ببلخ، وكان أصغر من مسعود، إلا أنه كان معرضاً عن مسعود، لأن أمره لم يكن عنده نافذاً، وسعى بينهما أصحاب الأغراض، فزادوا أباه نفوراً عنه، فلما وصى بالملك لولده محمد توفي، فخطب لمحمد من أقاصي الهند إلى نيسابور، وكان لقبه جلال الدولة، وأرسل إليه أعيان دولة أبيه يخبرونه بموت أبيه ووصيته له بالملك، ويستدعونه، ويحثونه على السرعة، ويخوفونه من أخيه مسعود، فحين بلغه الخبر سار إلى غزنة، فوصلها بعد موت أبيه بأربعين يوماً، فاجتمعت العساكر على طاعته، وفرق فيهم الأموال والخلع النفيسة، فأسرف في ذلك.
ذكر ملك مسعود وخلع محمدلما توفي يمين الدولة كان ابنه مسعود بأصبهان، فلما بلغه الخبر سار إلى خراسان، واستخلف بأصبهان بعض أصحابه في طائفة من العسكر، فحين فارقها ثار أهلها بالوالي عليهم فقتلوه، وقتلوا من معه من الجند.
وأتى مسعوداً الخبر، فعاد إليها، وحصرها، وفتحها عنوة، وقتل فيها فأكثر، ونهب الأموال، واستخلف فيها رجلاً كافياً، وكتب إلى أخيه محمد يعلمه بذلك، وأنه لا يريد من البلاد التي وصى له أبوه بها شيئاً، وأنه يكتفي بما فتحه من بلاد طبرستان، وبلد الجبل، وأصبهان، وغيرها، ويطلب منه الموافقة، وأن يقدمه في الخطبة على نفسه، فأجابه محمد جواب مغالط.
وكان مسعود قد وصل إلى الري، فأحسن إلى أهلها، وسار منها إلى نيسابور ففعل مثل ذلك، وأما محمد فإنه أخذ على عسكره العهود والمواثيق على المناصحة له، والشد منه، وسار في عساكره إلى أخيه مسعود محارباً له، وكان بعض عساكره يميل إلى أخيه مسعود لكبره وشجاعته، ولأنه قد اعتاد التقدم على الجيوش، وفتح البلاد، وبعضها يخافه لقوة نفسه.

وكان محمد قد جعل مقدم جيشه عمه يوسف بن سبكتكين، فلما هم بالركوب، في داره بغزنة، ليسير سقطت قلنسونه من رأسه، فتطير الناس من ذلك، وأرسل إليه التونتاش، صاحب خوارزم، وكان من أعيان أصحاب أبيه محمود، يشير عليه بموافقة أخيه وترك مخالفته، فلم يصغ إلى قوله، وسار فوصل إلى تكناباذ أول يوم رمضان، وأقام إلى العيد، فعيد هناك، فلما كان ليلة الثلاثاء، ثالث شوال، ثار به جنده، فأخذوه وقيدوه وحبسوه، وكان مشغولاً بالشراب واللعب عن تدبير المملكة، والنظر في أحوال الجند والرعايا.
وكان الذي سعى في خذلانه علي خويشاوند، صاحب أبيه، وأعانه على ذلك عمه يوسف بن سبكتكين. فلما قبضوا عليه نادوا بشعار أخيه مسعود، ورفعوا محمداً إلى قلعة تكناباذ، وكتبوا إلى مسعود بالحال. فلما وصل إلى هراة لقيته العساكر مع الحاجب علي خويشاوند، فلما لقيه الحاجب علي قبض عليه وقتله، وقبض بعد ذلك أيضاً على عمه يوسف، وهذه عاقبة الغدر، وهما سعيا له في رد الملك إليه، وقبض أيضاً على جماعة من أعيان القواد في أوقات متفرقة، وكان اجتماع الملك له واتفاق الكلمة عليه في ذي القعدة، وأخرج الوزير أبا القاسم أحمد بن الحسن الميمندي الذي كان وزير أبيه من محبسه، واستوزره، ورد الأمر إليه، وكان أبوه قد قبض عليه سنة اثنتي عشرة وأربعمائة لأمور أنكرها، وقيل شره في ماله، وأخذ منه لما قبض عليه مالاً وأعراضاً بقيمة خمسة آلاف ألف دينار.
وكان وصول مسعود إلى غزنة ثامن جمادى الآخرة من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فلما وصل إليها وثبت ملكه بها أتته رسل الملوك من سائر الأقطار إلى بابه، واجتمع له ملك خراسان، وغزنة، وبلاد الهند والسند، وسجستان، وكرمان، ومكران، والري، وأصبهان، وبلد الجبل، وغير ذلك، وعظم سلطانه وخيف جانبه.
ذكر بعض سيرة محمود بن سبكتكينكان يمين الدولة محمود بن سبكتكين عاقلاً، ديناً، خيراً، عنده علم ومعرفة، وصنف له كثير من الكتب في فنون العلوم، وقصده العلماء من أقطار البلاد، وكان يكرمهم، ويقبل عليهم، ويعظمهم، ويحسن إليهم، وكان عادلاً، كثير الإحسان إلى رعيته والرفق بهم، كثير الغزوات، ملازماً للجهاد، وفتوحه مشهورة مذكورة، وقد ذكرنا منها ما وصل إلينا على بعد الدهر، وفيه ما يستدل به على بذل نفسه لله تعالى واهتمامه بالجهاد.
ولم يكن فيه ما يعاب إلا أنه كان يتوصل إلى أخذ الأموال بكل طريق، فمن ذلك أنه بلغه أن إنساناً من نيسابور كثير المال، عظيم الغنى، فأحضره إلى غزنة وقال له: بلغنا أنك قرمطي، فقال: لست بقرمطي، ولي مال يؤخذ منه ما يراد وأعفى من هذا الاسم، فأخذ منه مالاً، وكتب معه كتاباً بصحة اعتقاده.
وجدد عمارة المشهد بطوس الذي فيه قبر علي بن موسى الرضا، والرشيد، وأحسن عمارته، وكان أبوه سبكتكين أخربه، وكان أهل طوس يؤذون من يزوره، فمنعهم عن ذلك.
وكان سبب فعله أنه رأى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، عليه السلام، في المنام وهو يقول له: إلى متى هذا؟ فعلم أنه يريد أمر المشهد، فأمر بعمارته.
وكان ربعة مليح اللون، حسن الوجه، صغير العينين، أحمر الشعر، وكان ابنه محمد يشبهه، وكان ابنه مسعود ممتليء البدن، طويلاً.
ذكر عودة علاء الدولة إلى أصبهان وغيرها وما كان منهلما مات محمود بن سبكتكين طمع فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه في الري، وكان قد هرب منها لما ملكها عسكر يمين الدولة محمود، فقصد قصران، وهي حصينة، فامتنع بها. فلما توفي يمين الدولة وعاد ابنه مسعود إلى خراسان جمع فناخسرو هذا جمعاً من الديلم والأكراد وغيرهم، وقصدوا الريي، فخرج إليه نائب مسعود بها ومن معه من العسكر، فقاتلوه، فانهزم منهم وعاد إلى بلده، وقتل جماعة من عسكره.
ثم إن علاء الدولة بن كاكويه، لما بلغه وفاة يمين الدولة، كان بخوستان عند الملك أبي كاليجار، كما ذكرنا، وقد أيس من نصره، وتفرق بعض من عنده من عسكره وأصحابه، والباقون على عزم مفارقته، وخائف من مسعود أن يسير إليه من أصبهان فلا يقوى هو وأبو كاليجار به، فأتاه من الفرج بموت يمين الدولة ما لم يكن في حسابه، فلما سمع الخبر سار إلى أصبهان فملكها، وملك همذان، وغيرهما من البلاد، وسار إلى الري فملكها، وامتد إلى أعمال أنوشروان بن منوجهر بن قابوس، فأخذ منه خوار الري ودنباوند.

فكتب أنوشروان إلى مسعود يهنئه بالملك، وسأله تقرير الذي عليه بمال يحمله، فأجابه إلى ذلك، وسير إليه عسكراً من خراسان، فساروا إلى دنباوند فاستعادوها، وساروا نحو الري، فأتاهم المدد والعسكر، وممن أتاهم علي بن عمران، فكثر جمعهم، فحصروا الري، وبها علاء الدولة، فاشتد القتال في بعض الأيام، فدخل العسكر الري قهراً، والفيلة معهم، فقتل جماعة من أهل الري والديلم، ونهب المدينة، وانهزم علاء الدولة، وتبعه بعض العسكر وجرحه في رأسه وكتفه، فألقى لهم دنانير كانت معه، فاشتغلوا بها عنه، فنجا، وسار إلى قلعة فردجان، على خمسة عشر فرسخاً من همذان، فأقام بها إلى أن برأ من جراحته، وكان من أمره ما نذكر، إن شاء الله تعالى، وخطب بالري وأعمال أنوشروان لمسعود، فعظم شأنه.
ذكر الحرب بين عسكر جلال الدولة وأبي كاليجارفي هذه السنة، في شوال، سير جلال الدولة عسكراً إلى المذار، وبها عسكر أبي كاليجار، فالتقوا واقتتلوا، فانهزم عسكر أبي كاليجار، واستولى أصحاب جلال الدولة على المذار، وعملوا بأهلها كل محظور.
فلما سمع أبو كاليجار الخبر سير إليهم عسكراً كثيفاً، فاقتتلوا بظاهر البلد، فانهزم عسكر جلال الدولة، وقتل أكثرهم، وثار أهل البلد بغلمانهم فقتلوهم، ونهبوا أموالهم لقبيح سيرتهم معهم، وعاد من سلم من المعركة إلى واسط.
ذكر الحرب بين قرواش وغريب بن مقنفي هذه السنة، في جمادى الأولى، اختلف قرواش وغريب بن مقن.
وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة، فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها، وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل، وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة، وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيق على من بها، وأهلها يطلبون منه الأمان، فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال.
فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه، ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم، وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه، ولم يتعرضوا إلى حلته وما له فيها، وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.
ذكر خروج ملك الروم إلى الشام وانهزامهفي هذه السنة خرج ملك الروم من القسطنطينية في ثلاث مائة ألف مقاتل إلى الشام، فلم يزل بعساكره حتى بلغوا قريب حلب، وصاحبها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على يوم منها، فلحقهم عطش شديد، وكان الزمان صيفاً، وكان أصحابه مختلفين عليه، فمنهم من يحسده، ومنهم من يكرهه.
وممن كان معه ابن الدوقس، ومن أكابرهم، وكان يريد هلاك الملك ليملك بعده، فقال الملك: الرأي أن نقيم حتى تجيء الأمطار وتكثر المياه. فقبح ابن الدوقس هذا الرأي، وأشار بالإسراع قصداً لشر يتطرق إليه، ولتدبير كان قد دبره عليه. فسار، ففارقه ابن الدوقس، وابن لؤلؤ في عشرة آلاف فارس، وسلكوا طريقاً آخر، فخلا بالملك بعض أصحابه وأعلمه أن ابن الدوقس وابن لؤلؤ قد حالفا أربعين رجلاً، هو أحدهم، على الفتك به، واستشعر من ذلك وخاف، ورحل من يومه راجعاً.
ولحقه ابن الدوقس، وسأله عن السبب الذي أوجب عوده، فقال له: قد اجتمعت علينا العرب وقربوا منا، وقبض في الحال على ابن الدوقس وابن لؤلؤ وجماعة معهما، فاضطرب الناس واختلفوا، ورحل الملك، وتبعهم العرب وأهل السواد حتى الأرمن يقتلون وينهبون، وأخذوا من الملك أربعمائة بغل محملة مالاً وثياباً، وهلك كثير من الروم عطشاً، ونجا الملك وحده، ولم يسلم معه من أمواله وخزائنه شيء البتة، وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً.
وقيل في عوده غير ذلك، وهو أن جمعاً من العرب ليس بالكثير عبر على عسكره، وظن الروم أنها كبسة، فلم يدروا ما يفعلون، حتى إن ملكهم لبس خفاً أسود، وعادة ملوكهم لبس الخف الأحمر، فتركه ولبس الأسود ليعمى خبره على من يريده، وانهزموا، وغنم المسلمون جميع كان معهم.
ذكر مسير أبي علي بن ماكولا إلى البصرة وقتله

لما استولى الملك جلال الدولة على واسط، وجعل ولده فيها، سير وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح والبصرة ليملكها، فملك البطائح، وسار إلى البصرة في الماء، وأكثر من السفن والرجال.
وكان بالبصرة أبو منصور بختيار بن علي نائباً لأبي كاليجار، فجهز جيشاً في أربعمائة سفينة، وجعل عليهم أبا عبد الله الشرابي الذي كان صاحب البطيحة، وسيره، فالتقى هو والوزير أبو علي، فعند اللقاء والقتال هبت ريح شمال كانت على البصريين ومعونة للوزير، فانهزم البصريون وعادوا إلى البصرة، فعزم بختيار على الهرب إلى عبادان، فمنعه من سلم عنده من عسكره، فأقام متجلداً.
وأشار جماعة على الوزير أبي علي أن يعجل الانحدار، ويغتنم الفرصة قبل أن يعود بختيار يجمع. فلما قاربهم، وهو في ألف وثلاثمائة عدد من السفن، سير بختيار ما عنده من السفن، وهي نحو ثلاثين قطعة، وفيها المقاتلة، وكان قد سير عسكراً آخر في البر، وكان له في فم نهر أبي الخصيب نحو خمسمائة قطعة فيها ماله، ولجميع عسكره من المال والأثاث والأهل، فلما تقدمت سفنه صاح من فيها، وأجابه من في السفن التي فيها أهلوهم وأموالهم، وورد عليهم العسكر الذي في البر، فقال الوزير لمن أشار عليه بمعالجة بختيار: ألستم زعمتم أنه في خف من العسكر، وأن معالجته أولى، ورأى الدنيا مملوءة عساكر؟ فهونوا عليه الأمر، فغضب، وأمر بإعادة السفن إلى الشاطيء، إلى الغد، ويعود إلى القتال.
فلما أعاد سفنه ظن أصحابه أنه قد انهزم، فصاحوا: الهزيمة؟؟! فكانت هي. وقيل: بل لما أعاد سفنه لحقهم من في سفن بختيار، وصاحوا: الهزيمة! الهزيمة! وأجابهم من في البر من عسكر بختيار، ومن في سفنهم التي فيها أموالهم، فانهزم أبو علي حقاً، وتبعه أصحاب بختيار وأهل السواد، ونزل بختيار في الماء، واستصرخ الناس، وسار في آثارهم يقتل ويأسر، وهم يغرقون، فلم يسلم من السفن كلها أكثر من خمسين قطعة.
وسار الوزير أبو علي منهزماً، فأخذ أسيراً، وأحضر عند بختيار، فأكرمه وعظمه، وجلس بين يديه، وقال له: ما الذي تشتهي أن أفعل معك؟ قال: ترسلني إلى الملك أبي كاليجار.
فأرسله إليه فأطلقه، فاتفق أن غلاماً له وجارية اجتمعا على فساد، فعلم بهما، وعرفا أنه قد علم حالهما، فقتلاه بعد أسره بنحو من شهر.
وكان قد أحدث في ولايته رسوماً جائرة، وسن سنناً سيئة، ومنها جباية سوق الدقيق، ومقالي الباذنجان، وسميريات المشارع، ودلالة ما يباع من الأمتعة، وأجر الحمالين الذين يرفعون التمور إلى السفن، وبما يعطيه الذباحون لليهود، فجرى في ذلك مناوشة بين العامة والجند.
ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة

وأخذها منهم
لما انحدر الوزير أبو علي بن ماكولا إلى البصرة، على ما ذكرناه، لم يستصحب معه الأجناد البصريين الذين مع جلال الدولة، تأنيساً للديلم الذين بالبصرة، فلما أصيب، على ما ذكرنا، تجهز هؤلاء البصريون وانحدروا إلى البصرة، فوصلوا إليها، وقاتلوا من بها من عسكر أبي كاليجار، فانهزم عسكر أبي كاليجار، ودخل عسكر جلال الدولة البصرة في شعبان.
واجتمع عسكر أبي كاليجار بالأبلة مع بختيار، فأقاموا بها يستعدون للعود وكتبوا إلى كاليجار يستمدونه، فسير إليهم عسكراً كثيراً مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس، فقدموا إلى الأبلة، واجتمعوا مع بختيار، ووقع الشروع في قتال من بالبصرة من أصحاب جلال الدولة، فسير بختيار جمعاً كثيراً في عدة من سفن، فقاتلوهم، فنصر أصحاب جلال الدولة عليهم وهزموهم، فوبخهم بختيار، وسار من وقته في العدد الكثير، والسفن الكثيرة، فاقتتلوا، واشتد القتال، فانهزم بختيار، وقتل من أصحابه جماعة كثيرة، وأخذ هو فقتل من غير قصد لقتله، وأخذوا كثيراً من سفنه، وعاد كل فريق إلى موضعه.

وعزم الأتراك من أصحاب جلال الدولة على مباكرة الحرب، وإتمام الهزيمة، وطالبوا العامل الذي على البصرة بالمال، فاختلفوا، وتنازعوا في الإقطاعات، فأصعد ابن المعبراني، صاحب البطيحة، فسار إليه جماعة من الأتراك الواسطيين ليردوه، فلم يرجع، فتبعوه، وخاف من بقي بعضهم من بعض أن لا يناصحوهم، ويسلموهم عند الحرب، فتفرقوا، واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات، وقد كان خائفاً منهم، فجاءه ما لم يقده من الظفر، ونادى من بقي بالبصرة بشعار أبي كاليجار، فدخلها عسكره، وأرادوا نهبها، فمنعهم ذو السعادات.
ذكر غزو فضلون الكردي الخزر وما كان منهكان فضلون الكردي هذا بيده قطعة من أذربيجان قد استولى عليها، وملكها، فاتفق أنه غزا الخزر، هذه السنة، فقتل منهم، وسبى، وغنم شيئاً كثيراً، فلما عاد إلى بلده أبطأ في سيره وأمل الاستظهار في أمره، ظناً منه أنه قد دوخهم وشغلهم بما عمله بهم، فاتبعوه مجدين، وكيسوه، وقتلوا من أصحابه والمطوعة الذين معه أكثر من عشرة آلاف قتيل، واستردوا الغنائم التي أخذت منهم، وغنموا أموال العساكر الإسلامية وعادوا.
ذكر البيعة لولي العهدفي هذه السنة مرضض القادر بالله، وأرجف بموته، فجلس جلوساً عاماً وأذن للخاصة والعامة فوصلوا إليه، فلما اجتمعوا قام الصاحب أبو الغنائم فقال: خدم مولانا أمير المؤمنين داعون له بإطالة البقاء، وشاكرون لما بلغهم من نظره لهم وللمسلمين، باختيار الأمير أبي جعفر لولاية العهد.
فقال الخليفة للناس: قد أذنا في العهد له، وكان أراد أن يبايع له قبل ذلك، فثناه عنه أبو الحسن بن حاجب النعمان. فلما عهد إليه ألقيت الستارة، وقعد أبو جعفر على السرير الذي كان قائماً عليه، وخدمه الحاضرون وهنأوه، وتقدم أبو الحسن بن حاجب النعمان فقبل يده وهنأه، فقال: " ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال " يعرض له بإفساده رأي الخليفة فيه، فأكب على تقبيل قدمه، وتعفير خده بين يديه والاعتذار. فقبل عذره، ودعي له على المنابر يوم الجمعة لتسع بقين من جمادى الأولى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استوزر جلال الدولة أبا سعد عبد الرحيم بعد ابن ماكولا، ولقبه عميد الدولة.
وفيها توفي أبو الحسن بن حاجب النعمان، ومولده سنة أربعين وثلاثمائة، وكان خصيصاً بالقادر بالله، حاكماً في دولته كلها، وكتب له وللطائع أربعين سنة.
وفيها ظهر متلصصة ببغداد من الأكراد، فكانوا يسرقون دواب الأتراك، فنقل الأتراك خيلهم إلى دورهم، ونقل جلال الدولة دوابه إلى بيت في دار المملكة.
وفيها توفي أبو الحسن بن عبد الوارث الفسوي، النحوي، بفسا، وهو نسيب أبي علي الفارسي.
وفيها توفي أبو محمد الحسن بن يحيى العلوي، النهرسابسي، الملقب بالكافي، وكان موته بالكوفة.
وفيها، في رجب، جاء في غزنة سيل عظيم أهلك الزرع والضرع، وغرق كثيراً من الناس لا يحصون، وخرب الجسر الذي بناه عمرو بن الليث، وكان هذا الحادث عظيماً.
وفيها، في رمضان تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين، في غزنة، بألف ألف درهم، وأدر على الفقراء من العلماء والرعايا إدرارات كثيرة.
ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة

ذكر ملك مسعود بن سبكتكين التيز ومكران
في هذه السنة سير السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين عسكراً إلى التيز، فملكها وما جاورها.
وسبب ذلك أن صاحبها معدان توفي، وخلف ولدين أبا العساكر وعيسى، فاستبد عيسى بالولاية والمال، فسار أبو العساكر إلى خراسان، وطلب من مسعود النجدة، فسير معه عسكراً، وأمرهم بأخذ البلاد من عيسى، أو الاتفاق مع أخيه على طاعته، فوصلوا إليها، ودعوا عيسى إلى الطاعة والموافقة، فأبى وجمع جمعاً كثيراً بلغوا ثمانية عشر ألفاً، وتقدم إليهم، فالتقوا، فاستأمن كثير من أصحاب عيسى إلى أخيه أبي العساكر، فانهزم عيسى ثم عاد وحمل في نفر من أصحابه، فتوسط المعركة فقتل، واستولى أبو العساكر على البلاد، ونهبها ثلاثة أيام، فأجحف بأهلها.
ذكر ملك الروم مدينة الرها

في هذه السنة ملك الروم مدينة الرها، وكان سبب ذلك أن الرها كانت بيد نصر الدولة بن مروان، كما ذكرناه، فلما قتل عطير الذي كان صاحبها، شفع صالح بن مرداس، صاحب حلب، إلى نصر الدولة ليعيد الرها إلى ابن عطير، وإلى ابن شبل، بينهما نصفين، فقبل شفاعته، وسلمها إليهما.
وكان له في الرها برجان حصينان أحدهما أكبر من الآخر، فتسلم ابن عطير الكبير، وابن شبل الصغير، وبقيت المدينة معهما إلى هذه السنة، فراسل ابن عطير أرمانوس ملك الروم، وباعه حصته من الرها بعشرين ألف دينار، وعدة قرايا من جملتها قرية تعرف إلى الآن بسن ابن عطير، وتسلموا البرج الذي له، ودخلوا البلد فملكوه، وهرب منه أصحاب ابن شبل، وقتل الروم المسلمين، وخربوا المساجد.
وسمع نصر الدولة الخبر، فسير جيشاً إلى الرها، فحصروها وفتحوها عنوة، واعتصم من بها من الروم بالبرجين، واحتمى النصارى بالبيعة التي لهم، وهي من أكبر البيع وأحسنها عمارة، فحصرهم المسلمون بها، وأخرجوهم، وقتلوا أكثرهم، ونهبوا البلد، وبقي الروم في البرجين، وسير إليهم عسكراً نحو عشرة آلاف مقاتل، فانهزم أصحاب ابن مروان من بين أيديهم، ودخلوا البلد وما جاورهم من بلاد المسلمين، وصالحهم ابن وثاب النميري على حران وسروج وحمل إليهم خراجاً.
ذكر ملك مسعود كرمان

وعود عسكره عنها
وفيها سارت عساكر خراسان إلى كرمان فملكوها، وكانت للملك أبي كاليجار، فاحتمى عسكره بمدينة بردسير، وحصرهم الخراسانيون فيها، وجرى بينهم عدة وقائع، وأرسلوا إلى الملك أبي كاليجار يطلبون المدد، فسير إليهم العادل بهرام بن مافنة في عسكر كثيف، ثم إن الذين ببردسير خرجوا إلى الخراسانية فواقعوهم، واشتد القتال، وصبوا لهم، فأجلت الوقعة عن هزيمة الخراسانية، وتبعهم الديلم حتى أبعدوا، ثم عادوا إلى بردسير.
ووصل العادل عقيب ذلك إلى جيرفت، وسير عسكره إلى الخراسانية، وهم بأطراف البلاد، فواقعوهم، فانهزم الخراسانية، ودخلوا المفازة عائدين إلى خراسان، وأقام العادل بكرمان إلى أن أصلح أمورها وعاد إلى فارس.ز
ذكر وفاة القادر بالله وشيء من سيرته وخلافة القائم بأمر اللهفي هذه السنة، في ذي الحجة، توفي الإمام القادر بالله، أمير المؤمنين، وعمره ست وثمانون سنة وعشرة أشهر، وخلافته إحدى وأربعون سنة وثلاثة أشهر وعشرون يوماً، وكانت الخلافة قبله قد طمع فيها الديلم والأتراك، فلما وليها القادر بالله أعاد جدتها، وجدد ناموسها، وألقى الله هيبته في قلوب الخلق، فأطاعوه أحسن طاعة وأتمها.
وكان حليماً، كريماً، خيراً يحب الخير وأهله، ويأمر به، وينهى عن الشر ويبغض أهله، وكان حسن الاعتقاد، صنف فيه كتاباً على مذهب السنة.
ولما توفي صلى عليه ابنه القائم بأمر الله، وكان القادر بالله أبيض، حسن الجسم، كث اللحية، طويلها، يخضب، وكان يخرج من داره في زي العامة، ويزور قبور الصالحين، كقبر معروف وغيره، وإذا وصل إليه حال أمر فيه بالحق.
قال القاضي الحسين بن هارون: كان بالكرخ ملك ليتيم، وكان له فيه قيمة جيدة، فأرسل إلي ابن حاجب النعمان، وهو حاجب القادر، يأمرني أن أفك عنه الحجر ليشتري بعض أصحابه ذلك الملك، فلم أفعل، فأرسل يستدعيني، فقلت لغلامه: تقدمني حتى ألحقك، وخفته، فقصدت قبر معروف، فدعوت الله أن يكفيني شره، وهناك شيخ، فقال لي: على من تدعو؟ فذكرت له ذلك، ووصلت إلى ابن حاجب النعمان، فأغلظ لي في القول، ولم يقبل عذري، فأتاه خادم برقعة، ففتحها وقرأها وتغير لونه، ونزل من الشدة، فاعتذر إلي ثم قال: كتبت إلى الخليفة قصة؟ فقلت: لا. وعلمت أن ذلك الشيخ كان الخليفة.
وقيل: كان يقسم إفطاره كل ليلة ثلاثة أقسام: فقسم كان يتركه بين يديه، وقسم يرسله إلى جامع الرصافة، وقسم يرسله إلى جامع المدينة، يفرق على المقيمين فيهما، فاتفق أن الفراش حمل ليلة الطعام إلى جامع المدينة، ففرقه على الجماعة، فأخذوا، إلا شاباً فإنه رده.

فلما صلوا المغرب خرج الشاب، وتبعه الفراش، فوقف على باب فاستطعم، فأطعموه كسيرات فأخذها وعاد إلى الجامع، فقال له الفراش: ويحك ألا تستحي؟ ينفذ إليك خليفة الله بطعام حلال فترده وتخرج وتأخذ من الأبواب! فقال: والله ما رددته إلا لأنك عرضته علي قبل المغرب، وكنت غير محتاج إليه، فلما احتجت طلبت، فعاد الفراش فأخبر الخليفة بذلك فبكى وقال له: راع مثل هذا، واغتنم أخذه، وأقم إلى وقت الإفطار.
وقال أبو الحسن الأبهري: أرسلني بهاء الدولة إلى القادر بالله في رسالة، فسمعته ينشد:
سبق القضاء بكل ما هو كائن، ... والله يا هذا لرزقك ضامن
تعنى بما يفنى، وتترك ما به ... تغنى، كأنك للحوادث آمن
أوما ترى الدنيا ومصرع أهلها، ... فاعمل ليوم فراقها، يا حائن
واعلم بأنك لا أبا لك في الذي ... أصبحت تجمعه لغيرك خازن
يا عامر الدنيا أتعمر منزلاً ... لم يبق فيه مع المنية ساكن
الموت شيء أنت تعلم أنه ... حق، وأنت بذكره متهاون
إن المنية لا تؤامر من أتت ... في نفسه يوماً ولا تستأذن
فقلت: الحمد لله الذي وفق أمير المؤمنين لإنشاد مثل هذه الأبيات. فقال: بل لله المنة إذ ألزمنا بذكره، ووفقنا لشكره، ألم تسمع قول الحسن البصري في أهل المعاصي: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، ومناقبه كثيرة.
؟؟؟

ذكر خلافة القائم بأمر الله
لما مات القادر بالله جلس ابنه القائم بأمر الله، وأبو جعفر عبد الله، وجددت له البيعة، وكان أبوه قد بايع له بولاية العهد سنة إحدى عشرين، كما ذكرناه، واستقرت الخلافة له، وأول من بايعه الشريف أبو القاسم المرتضى، وأنشده:
فإما مضى جبل وانقضى ... فمنك لنا جبل قد رسا
وإما فجعنا ببدر التمام، ... فقد بقيت منه شمس الضحى
لنا حزن في محل السرور، ... وكم ضحك في خلال البكا
فيا صارم أغمدته يد، ... لنا بعدك الصارم المنتضى
وهي أكثر من هذا. وأرسل القائم بأمر الله قاضي القضاة أبا الحسن الماوردي إلى الملك أبي كاليجار ليأخذ عليه البيعة، ويخطب له في بلاده، فأجاب وبايع، وخطب له في بلاده، وأرسل إليه هدايا جليلة وأموالاً كثيرة.
؟؟؟؟
ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة، في ربيع الأول، تجددت الفتنة ببغداد بين السنة والشيعة.
وكان سبب ذلك أن الملقب بالمذكور أظهر العزم على الغزاة، واستأذن الخليفة في ذلك، فأذن له، وكتب له منشور من دار الخلافة، وأعطى علماً، فاجتمع له لفيف كثير، فسار واجتاز بباب الشعير، وطاق الحراني، وبين يديه الرجال بالسلاح، فصاحوا بذكر أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، وقالوا: هذا يوم معاوية، فنافرهم أهل الكرخ ورموهم، وثارت الفتنة، ونهبت دور اليهود لأنهم قيل عنهم إنهم أعانوا أهل الكرخ.
فلما كان الغد اجتمع السنة من الجانبين، ومعهم كثير من الأتراك، وقصدوا الكرخ، فأحرقوا وهدموا الأسواق، وأشرف أهل الكرخ على خطة عظيمة. وأنكر الخليفة ذلك إنكاراً شديداً، ونسب إليهم تخريق علامته التي مع الغزاة، فركب الوزير، فوقعت في صدره آجرة، فسقطت عمامته،وقتل من أهل الكرخ جماعة، وأحرق وخرب في هذه الفتنة سوق العروس، وسوق الصفارين، وسوق الأنماط، وسوق الدقاقين، وغيرها، واشتد الأمر، فقتل العامة الكلالكي، وكان ينظر في المعونة، وأحرقوه.

ووقع القتال في أصقاع البلد من جانبيه، وقتل أهل الكرخ، ونهر طابق، والقلائين، وباب البصرة، وفي الجانب الشرقي أهل سوق الثلاثاء، وسوق يحيى، وباب الطاق، والأساكفة، والرهادرة، ودرب سليمان، فقطع الجسر ليفرق بين الفريقين، ودخل العيارون البلد، وكثر الاستقفاء بها والعملات ليلاً ونهاراً. وأظهر الجند كراهة الملك جلال الدولة، وأرادوا قطع خطبته، ففرق فيهم مالاً وحلف لهم فسكنوا، ثم عاودوا الشكوى إلى الخليفة منه، وطلبوا أن يأمر بقطع خطبته، فلم يجبهم إلى ذلك، فامتنع حينئذ جلال الدولة من الجلوس، وضربه النوبة أوقات الصلوات، وانصرف الطبالون لانقطاع الجاري لهم، ودامت هذه الحال إلى عيد الفطر، فلم يضرب بوق، ولا طبل، ولا أظهرت الزينة، وزاد الاختلاط.
ثم حدث في شوال فتنة بين أصحاب الأكيسة وأصحاب الخلعان، وهما شيعة، وزاد الشر، ودام إلى ذي الحجة، فنودي في الكرخ بإخراج العيارين، فخرجوا، واعترض أهل باب البصرة قوماً من قم أرادوا زيارة مشهد علي والحسين، عليهما السلام، فقتلوا منهم ثلاثة نفر، وامتنعت زيارة مشهد موسى ابن جعفر.
ذكر ملك الروم قلعة أفاميةفي هذه السنة ملك الروم قلعة أفامية بالشام.
وسبب ملكها أن الظاهر خليفة مصر سير إلى الشام الدزبري، وزيره، فملكه، وقصد حسان بن المفرج الطائي، فألح في طلبه، فهرب منه، ودخل بلد الروم، ولبس خلعة ملكهم، وخرج من عنده وعلى رأسه علم فيه صليب، ومعه عسكر كثير، فسار إلى أفامية فكبسها، وغنم ما فيها، وسبى أهلها، وأسرهم، وسير الدزبري إلى البلاد يستنفر الناس للغزو.
ذكر الوحشة بين بارسطغان وجلال الدولةاجتمع أصاغر الغلمان هذه السنة إلى جلال الدولة، وقالوا له: قد هلكنا فقراً وجوعاً، وقد استبد القواد بالدولة والأموال عليك وعلينا، وهذا بارسطغان ويلدرك قد أفقرانا وأفقراك أيضاً.
فلما بلغهما ذلك امتنعا من الركوب إلى جلال الدولة، واستوحشا، وأرسل إليهما الغلمان يطالبونهما بمعلومهم، فاعتذرا بضيق أيديهما عن ذلك، وسارا إلى المدائن. فندم الأتراك على ذلك، وأرسل إليهما جلال الدولة إلى أن نهبوا من داره فرشاً، وآلات، ودواب، وغير ذلك، فركب وقت الهاجرة إلى دار الخلافة، ومعه نفر قليل من الركابية والغلمان وجمع كثير من العامة وهو سكران، فانزعج الخليفة من حضوره، فلما علم الحال أرسل إليه يأمره بالعود إلى داره، ويطيب قلبه، فقبل قربوس سرجه، ومسح حائط الدار بيده وأمرها على وجهه، وعاد إلى داره والعامة معه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قبل قاضي القضاة أبو عبيد الله بن ماكولا شهادة أبي الفضل محمد بن عبد العزيز بن الهادي، والقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي الحسين ابن المهتدي، وشهد عنده أبو القاسم بن بشران، وكان قد ترك الشهادة قبل ذلك.
وفيها فوض مسعود بن محمود بن سبكتكين إمارة الري، وهمذان، والجبال إلى تاش فراش، وكتب له إلى عامل نيسابور بإنفاق الأموال على حشمه، ففعل ذلك وسار إلى عمله، وأساء السيرة فيه.
وفيها، في رجب، أخرج الملك جلال الدولة دوابه من الإصطبل، وهي خمس عشرة دابة، وسيبها في المديان بغير سائس، ولا حافظ، ولا علف، فعل ذلك لسببين: أحدهما عدم العلف، والثاني أن الأتراك كانوا يلتمسون دوابه، ويطلبونها كثيراً، فضجر منهم، فأخرجها وقال: هذه دوابي منها: خمس لمركوبي، والباقي لأصحابي، ثم صرف حواشيه، وفراشيه، وأتباعه، وأغلق باب داره لانقطاع الجاري له، فثارت لذلك فتنة بين العامة والجند، وعظم الأمر، وظهر العيارون.
وفيها عزل عميد الدولة وزير جلال الدولة، ووزر بعده أبو الفتح محمد ابن الفضل بن أردشير، فبقي أياماً، ولم يستقم أمره، فعزل، ووزر بعده أبو إسحاق إبراهيم بن أبي الحسين، وهو ابن أخي أبي الحسين السهلي، وزير مأمون صاحب خوارزم، فبقي في الوزارة خمسة وخمسين يوماً وهرب.
وفيها توفي عبد الوهاب بن علي بن نصر أبو نصر الفقيه المالكي بمصر، وكان ببغداد، ففارقها إلى مصر عن ضائقة، فأغناه المغاربة.
ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة

ذكر وثوب الأجناد بجلال الدولة
وإخراجه من بغداد

في هذه السنة، في ربيع الأول، تجددت الفتنة بين جلال الدولة وبين الأتراك، فأغلق بابه، فجاءت الأتراك ونهبوا داره، وسلبوا الكتاب وأرباب الديوان ثيابهم، وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهلي، فهرب إلى حلة كمال الدولة غريب بن محمد، وخرج جلال الدولة إلى عكبرا في شهر ربيع الآخر، وخطب الأتراك ببغداد للملك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يطلبونه وهو بالأهواز، فمنعه العادل بن مافنة عن الإصعاد إلى أن يحضر بعض قوادهم.
فلما رأوا امتناعه من الوصول إليهم، أعادوا خطبة جلال الدولة، وساروا إليه، وسألوه العود إلى بغداد، واعتذروا، فعاد إليها بعد ثلاثة وأربعين يوماً، ووزر له أبو القاسم بن ماكولا، ثم عزل، ووزر بعده عميد الدولة أبو سعد ابن عبد الرحيم، فبقي وزيراً أياماً ثم استتر.
وسبب ذلك أن جلال الدولة تقدم إليه بالقبض على أبي المعمر إبراهيم بن الحسين البسامي، طمعاً في ماله، فقبض عليه، وجعله في داره، فثار الأتراك وأرادوا منعه، وقصدوا دار الوزير، وأخذوه وضربوه، وأخرجوه من داره حافياً، ومزقوا ثيابه، وأخذوا عمامته وقطعوها، وأخذوا خواتيمه من يده، فدميت أصابعه، وكان جلال الدولة في الحمام، فخرج مرتاعاً، فركب وظهر لينظر ما الخبر، فأكب الوزير يقبل الأرض، ويذكر ما فعل به، فقال جلال الدولة: أنا ابن بهاء الدولة، وقد فعل بي أكثر من هذا، ثم أخذ من البسامي ألف دينار وأطلقه، واختفى الوزير.
ذكر انهزام علاء الدولة بن كاكويه من عسكر مسعود بن محمود بن سبكتكينقد ذكرنا انهزام علاء الدولة أبي جعفر من الري ومسيره عنها، فلما وصل إلى قلعة فردجان أقام بها لتندمل جراحه، ومعه فرهاذ بن مرداويج، وكان قد جاءه مدداً له، وتوجهوا منها إلى بروجرد، فسير تاش فراش مقدم عسكر خراسان إلى علاء الدولة، واستعمل عليهم علي بن عمران، فسار يقص أثر علاء الدولة، فلما قارب بروجرد صعد فرهاذ إلى قلعة سليموه، ومضى أبو جعفر إلى سابور خواست، ونزل عند الأكراد الجوزقان.
وملك عسكر خراسان بروجرد، وراسل فرهاذ الأكراد الذي مع علي ابن عمران، واستمالهم، فصاروا معه، وأرادوا أن يفتكوا بعلي، وبلغه الخبر فركب ليلاً في خاصته وسار نحو همذان، ونزل في الطريق بقرية تعرف بكسب، وهي منيعة، فاستراح فيها، فلحقه فرهاذ وعسكره والأكراد الذين صاروا معه وحصروه في القرية، فاستسلم وأيقن بالهلاك، فأرسل الله تعالى ذلك اليوم مطراً وثلجاً، فلم يمكنهم المقام عليه لأنهم كانوا جريدة بغير خيام ولا آلة شتاء، فرحلوا عنه، وراسل علي بن عمران الأمير تاش فراش يستنجده ويطلب العسكر إلى همذان، ثم اجتمع فرهاذ وعلاء الدولة ببروجرد، واتفقا على قصد همذان، وسير علاء الدولة إلى أصبهان، وبها ابن أخيه، يطلبه، وأمره بإحضار السلاح والمال، ففعل وسار. فبلغ خبره علي بن عمران، فسار إليه من همذان جريدة، فكبسه بجرباذقان، وأسره واسر كثيراً من عسكره، وقتل منهم، وغنم ما معه من سلاح ومال غير ذلك.
ولما سار علي عن همذان دخلها علاء الدولة، وملكها ظناً منه أن علياً سار منهزماً، وسار علاء الدولة من همذان إلى كرج، فأتاه خبر ابن أخيه ففت في عضده.
وكان علي بن عمران قد سار بعد الوقعة إلى أصبهان طامعاً في الاستيلاء عليها، وعلى مال علاء الدولة وأهله، فتعذر عليه ذلك، ومنعه أهلها والعسكر الذي فيها، فعاد عنها، فلقيه علاء الدولة وفرهاذ، فاقتتلوا، فانهزم منهما، واخذا ما معه من الأسرى، إلا أبا منصور ابن أخي علاء الدولة، فإنه كان قد سيره إلى تاش فراش، وسار علي من المعركة منهزماً نحو تاش فراش، فلقيه بكرج فعاتبه على تأخره عنه، واتفقا على المسير إلى علاء الدولة وفرهاذ، وكان قد نزل بجبل عند بروجرد متحصناً فيه، فافترق تاش وعلي وقصداه من جهتين: إحداهما من خلفه، والأخرى من الطريق المستقيم، فلم يشعر إلا وقد خالطه العسكر، فانهزم علاء الدولة وفرهاذ، وقتل كثير من رجالهما، فمضى علاء الدولة إلى أصبهان، وصعد فرهاذ إلى قلعة سليموه فتحصن بها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي قدرخان ملك الترك بمار وراء النهر.
وفيها ورد أحمد بن محمد المنكدري الفقيه الشافعي رسولاً من مسعود ابن سبكتكين إلى القائم بأمر الله معزياً له بالقادر بالله.

وفيها نقل تابوت القادر بالله إلى المقبرة بالرصافة، وشهده الخلق العظيم، وحجاج خراسان، وكان يوماً مشهوداً.
وفيها كان بالبلاد غلاء شديد، واستسقى الناس فلم يسقوا، وتبعه وباء عظيم، وكان عاماً في جميع البلاد بالعراق، والموصل، والشام، وبلد الجبل، وخراسان، وغزنة، والهند، وغير ذلك، وكثر الموت، فدفن في أصبهان، في عدة أيام، أربعون ألف ميت، وكثر الجدري في الناس، فأحصي بالموصل أنه مات به أربعة آلاف صبي، ولم تخل دار من مصيبة لعموم المصائب، وكثرة الموت، وممن جدر القائم بأمر الله وسلم.
وفيها جمع نائب نصر الدولة بن مروان بالجزيرة جمعاً ينيف على عشرة آلاف رجل، وغزا من يقاربه من الأرمن، وأوقع بهم، وأثخن فيهم، وغنم وسبى كثيراً، وعاد ظافراً منصوراً.
وفيها كان بن أهل تونس من إفريقية خلف، فسار المعز بن باديس إليهم بنفسه، فأصلح بينهم، وسكن الفتنة وعاد.
وفيها اجتمع ناس كثير من الشيعة بإفريقية، وساروا إلى أعمال نفطة، فاستولوا على بلد منها وسكنوه، فجرد إليهم المعز عسكراً، فدخلوا البلاد وحاربوا الشيعة وقتلوهم أجمعين.
وفيها خرجت العرب على حاج البصرة ونهبوهم، وحج الناس من سائر البلاد إلا من العراق.
وفيها توفي أبو الحسن بن رضوان المصري، النحوي، في رجب.
وفيها قتل الملك أبو كاليجار صندلاً الخصي، وكان قد استولى على المملكة، وليس لأبي كاليجار معه غير الاسم.
وفيها توفي علي بن أحمد بن الحسن بن محمد بن نعيم أبو الحسن النعيمي البصري، حدث عن جماعة، وكان حافظاً، شاعراً، فقيهاً على مذهب الشافعي.
ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة

ذكر عود مسعود إلى غزنة
والفتن بالري وبلد الجبل
في هذه السنة، في رجب، عاد الملك مسعود بن سبكتكين من نيسابور إلى غزنة وبلاد الهند.
وكان سبب ذلك أنه لما كان قد استقر له الملك بعد أبيه أقر بما كان قد فتحه أبوه من الهند نائباً يسمى أحمد ينالتكين، وقد كان أبوه محمد استنابه بها ثقة بجلده ونهضته، فرست قدمه فيها، وظهرت كفايته.
ثم إن مسعوداً بعد فراغه من تقرير قواعد الملك، والقبض على عمه يوسف والمخالفين له، سار إلى خراسان عازماً على قصد العراق، فلما أبعد عصى ذلك النائب بالهند، فاضطر مسعود إلى العود، فأرسل إلى علاء الدولة بن كاكويه وأمره على أصبهان بقرار يؤديه كل سنة، وكان علاء الدولة قد أرسل يطلب ذلك، فأجابه إليه، وأقر ابن قابوس بن وشمكير على جرجان وطبرستان على مال يؤديه إليه، وسير أبا سهل الحمدوني إلى الري للنظر في أمور هذه البلاد الجبلية، والقيام بحفظها، وعاد إلى الهند، فأصلح الفاسد، وأعاد المخالف إلى طاعته، وفتح قلعة حصينة تسمى سرستي، على ما نذكره، وقد كان أبوه حصرها غير مرة فلم يتهيأ له فتحها.
ولما سار أبو سهل إلى الري أحسن الناس، وأظهر العدل، فأزال الأقساط والمصادرات، وكان تاش فراش قد ملأ البلاد ظلماً وجوراً، حتى تمنى الناس الخلاص منهم ومن دولتهم، وخربت البلاد، وتفرق أهلها، فلما ولي الحمدوني، وأحسن، وعدل، عادت البلاد فعمرت، والرعية أمنت، وكان الإرجاف شديداً بالعراق، لما كان الملك مسعود بنيسابور، فلما عاد سكن الناس واطمأنوا.
ذكر ظفر مسعود بصاحب ساوة وقتلهفيها قبض عسكر السلطان مسعود بن محمود على شهريوش بن ولكين، فأمر به مسعود فقتل وصلب على سور ساوة.
وكان سبب ذلك أن شهريوش كان صاحب ساوة وقم وتلك النواحي، فلما اشتغل مسعود بأخيه محمد بعد موت والده جمع شهريوش جمعاً وسار إلى الري محاصراً لها، فلم يتم ما أراده، وجاءت العساكر فعاد عنها.
ثم في هذه السنة اعترض الحجاج الواردين من خراسان، وعمهم أذاه، وأخذ منهم ما لم تجر عادة، وأساء إليهم، وبلغ ذلك إلى مسعود، فتقدم إلى تاش فراش، وإلى أبي الطيب طاهر بن عبد الله خليفته معه، يطلب شهريوش وقصده أين كان، واستنفاد الوسع في قتاله، فسارت العساكر في أثره، فاحتمى بقلعة تقارب قم تسمى فستق، وهي حصينة، عالية المكان، وثيقة البنيان، فأحاطوا به وأخذوه، وكتبوا إلى مسعود في أمره، فأمرهم بصلبه على سور ساوة.
ذكر استيلاء جلال الدولة على البصرة
وخروجها عن طاعته
في هذه السنة سارت عساكر جلال الدولة مع ولده الملك العزيز فدخلوا البصرة في جمادى الأولى.

وكان سبب ذلك أن بختيار متولي البصرة تولى فقام بعد ظهير الدين أبو القاسم خال ولده لجلد كان فيه، وكفاية، وهو في طاعة الملك أبي كاليجار، ودام كذلك، فقيل لأبي كاليجار: إن أبا القاسم ليس لك من طاعته غير الاسم، ولو رمت عزله لتعذر عليك.
وبلغ ذلك ابا القاسم، فاستعد للامتناع، وأرسل أبو كاليجار إليه ليعزله فامتنع، وأظهر طاعة جلال الدولة، وخطب له، وأرسل إلى ابنه، وهو بواسط، يطلبه، فانحدر إليه في عساكر أبيه التي كانت معه بواسط، ودخلوا البصرة مع أبي القاسم إلى أن دخلت سنة خمس وعشرين وليس له معه أمر، والحكم إلى أبي القاسم.
ثم إنه أراد القبض على بعض الديلم، فهرب ودخل دار الملك العزيز مستجيراً، فاجتمع الديلم إليه، وشكوا من أبي القاسم، فصادفت شكواهم صدراً موغراً حنقاً عليه لسوء صحبته، فأجابهم إلى ما أرادوه من إخراجه عن البصرة، واجتمعوا، وعلم أبو القاسم بذلك، فامتنع بالأبلة، وجمع أصحابه، وجرى بين الفريقين حروب كثيرة أجلت عن خروج العزيز عن البصرة وعوده إلى واسط، وعود أبي القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.
ذكر إخراج جلال الدولة من دار المملكة

وإعادته إليها
في هذه السنة، في رمضان، شغب الجند على جلال الدولة، وقبضوا عليه، ثم أخرجوه من داره، ثم سألوه ليعود إليها فعاد.
وسبب ذلك أنه استقدم الوزير أبا القاسم من غير أن يعلموا، فلما قدم ظنوا أنه إنما ورد للتعرض إلى أموالهم ونعمهم، فاستوحشوا واجتمعوا إلى داره وهجموا عليه، وأخرجوه إلى مسجد هناك، فوكلوا به فيه، ثم إنهم أسمعوه ما يكره، ونهبوا بعض ما في داره، فلما وكلوا به جاء بعض القواد في جماعة من الجند، ومن انضاف إليه من العامة والعيارين، فأخرجه من المسجد وأعاده إلى داره، فنقل جلال الدولة ولده وحرمه وما بقي له إلى الجانب الغربي، وعبر هو في الليل إلى الكرخ، فلقيه أهل الكرخ بالدعاء، فنزل بدار المرتضى، وعبر الوزير أبو القاسم معه.
ثم إن الجند اختلفوا، فقال بعضهم: نخرجه من بلادنا ونملك غيره. وقال بعضهم: ليس من بني بويه غير وغير أبي كاليجار، وذلك قد عاد إلى بلاده، ولا بد من مداراة هذا. فأرسلوا إليه يقولون له: نريد أن تنحدر عنا إلى واسط، وأنت ملكنا، وتترك عندنا بعض أولادك الأصاغر. فأجابهم إلى ذلك، وأرسل سراً إلى الغلمان الأصاغر فاستمالهم، إلى كل واحد من الأكابر، وقال: إنما أثق بك، وأسكن إليك، واستمالهم أيضاً، فعبروا إليه، وقبلوا الأرض بين يديه، وسألوه العود إلى دار الملك، فعاد، وحلف لهم على إخلاص النية، والإحسان إليهم، وحلفوا له على المناصحة، واستقر في داره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي الوزير أحمد بن الحسن الميمندي، وزير مسعود بن سبكتكين، ووزر بعده أبو نصر أحمد بن علي بن عبد الصمد، وكان وزير هارون التونتاش، صاحب خوارزم، ووزر بعده لهارون ابنه عبد الجبار.
وفيها ثار العيارون ببغداد، وأخذوا أموال الناس ظاهراً، وعظم الأمر على أهل البلد، وطمع المفسدون إلى حد أن بعض القواد الكبار أخذ أربعة من العيارين، فجاء عقيدهم وأخذ من اصحاب القائد أربعة، وحضر باب داره ودق عليه الباب، فكلمه من داخل، فقال العقيد: قد أخذت من أصحابك أربعة، فإن أطلقت من عندك أطلقت من عندي، وإلا قتلتهم، وأحرقت دارك! فأطلقهم القائد.
وفيها تأخر الحاج من خراسان.
وفيها خرج حجاج البصرة بخفير، فغدر بهم ونهبهم.وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيضاوي، الفقيه الشافعي، عن نيف وثمانين سنة.
وفيها، في شوال، توفي أبو الحسن بن السماك القاضي عن خمس وتسعين سنة.
ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة
ذكر فتح قلعة سرستي
وغيرها من بلد الهند
في هذه السنة فتح السلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة سرستي وما جاورها من بلد الهند.
وكان سبب ذلك ما ذكرناه من عصيان نائبه بالهند أحمد ينالتكين عليه ومسيره إليه فلما عاد أحمد إلى طاعته أقام بتلك البلاد طويلاً حتى أمنت واستقرت، وقصد قلعة سرستي، وهي من أمنع حصون الهند وأحصنها، فحصرها، وقد كان أبوه حصرها غير مرة، فلم يتهيأ له فتحها، فلما حصرها مسعود راسله صاحبها، وبذل له مالاً على الصلح، فأجابه إلى ذلك.

وكان فيها قوم من التجار المسلمين، فعزم صاحبها على أخذ أموالهم وحملها إلى مسعود من جملة القرار عليه، فكتب التجار رقعة في نشابة ورموا إليه يعرفونه فيها ضعف الهنود بها، وأنه إن صابرهم ملكهم فرجع عن الصلح إلى الحرب، وطم خندقها بالشجر وقصب السكر وغيره، وفتح الله عليه، وقتل كل من فيها، سبى ذراريهم، وأخذ ما جاورها من البلاد، وكان عازماً على طول المقام والجهاد، فأتاه من خراسان خبر الغز، فعاد، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر حصر قلعة بالهند أيضاً
لما ملك مسعود قلعة سرستي رحل عنها إلى قلعة نغسى، فوصل إليها عاشر صفر، وحصرها فرآها عالية لا ترام، يرتد البصر دونها وهو حسير، إلا أنه أقام عليها يحصرها، فخرجت عجوز ساحرة، فتكلمت باللسان الهندي طويلاً، وأخذت مكنسة فبلتها بالماء ورشته منها إلى جهة عسكر المسلمين، فمرض وأصبح ولا يقدر أن يرفع رأسه، وضعفت قوته ضعفاً شديداً، فرحل عن القلعة لشدة المرض، فحين فارقها زال ما كان به، وأقبلت الصحة والعافية إليه، وسار نحو غزنة.
؟؟

ذكر الفتنة بنيسابور
لما اشتد أمر الأتراك بخراسان، على ما نذكره، تجمع كثير من المفسدين وأهل العيث والشر، وكان أول من أثار الشر أهل أبيورد وطوس، واجتمع معهم خلق كثير، وساروا إلى نيسابور لينهبوها، وكان الوالي عليها قد سار عنها إلى الملك مسعود، فخافهم خوفاً عظيماً، وأيقنوا بالهلاك.
فبينما هم يترقبون البوار والاستئصال، وذهاب الأنفس والأموال، إذ وصل إليهم أمير كرمان في ثلاثمائة فارس، قدم متوجهاً إلى مسعود أيضاً، فاستغاث به المسلمون، وسألوه أن يقيم عندهم ليكف عنهم الأذى، فأقام عليهم، وقاتل معهم، وعظم الأمر، واشتدت الحرب، وكان الظفر له ولأهل نيسابور، فانهزم أهل طوس وأبيورد ومن تبعهم، وأخذتهم السيوف من كل جانب، وعمل بهم أمير كرمان أعمالاً عظيمة، وأثخن فيهم، وأسر كثيراً منهم، وصلبهم على الأشجار وفي الطرق، فقيل إنه عدم من أهل طوس عشرون ألف رجل.
ثم إن أمير كرمان أحضر زعماء قرى طوس، وأخذ أولادهم وإخوانهم وغيرهم من أهليهم رهائن، فأودعهم السجون، وقال: إن اعترض منكم واحد إلى أهل نيسابور أو غيرهم، أو قطع طريقاً، فأولادكم، وإخوانكم، ورهائنكم مأخوذون بجناياتكم. فسكن الناس، وفرج الله عن أهل نيسابور بما لم يكن في حسابهم.
ذكر الحرب بين علاء الدولة وعسكر خراسانفي هذه السنة اجتمع علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بن مرداويج، واتفقا على قتال عسكر مسعود بن محمود بن سبكتكين، وكانت العساكر قد خرجت من خراسان مع أبي سهل الحمدوني، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً صبر فيه الفريقان، ثم انهزم علاء الدولة، وقتل فرهاذ، واحتمى علاء الدولة بجبال بين أصبهان وجرباذقان، ونزل عسكر مسعود بكرج.
وأرسل أبو سهل إلى علاء الدولة يقول له ليبذل المال، ويراجع الطاعة ليقره على ما بقي من البلاد، ويصلح حاله مع مسعود. فترددت الرسل، فلم يستقر بينهم أمر فسار أبو سهل إلى أصبهان فملكها، وانهزم علاء الدولة من بين يديه لما خاف الطلب إلى إيذج، وهي للملك أبي كاليجار.
ولما استولى أبو سهل على أصبهان نهب خزائن علاء الدولة وأمواله، وكان أبو علي بن سينا في خدمة علاء الدولة، فأخذت كتبه حملت إلى غزنة فجعلت في خزائن كتبها إلى أن أحرقها عساكر الحسين بن الحسين الغوري، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين نور الدولة دبيس وأخيه ثابتفي هذه السنة كانت حرب شديدة بين دبيس بن علي بن مزيد وأخيه أبي قوام ثابت بن علي بن مزيد.
وسبب ذلك أن ثابتاً كان يعتضد بالبساسيري ويتقرب إليه، فلما كان سنة أربع وعشرين وأربعمائة سار البساسيري معه إلى قتال أخيه دبيس، فدخلوا النيل واستولوا عليه وعلى أعمال نور الدولة، فسير نور الدولة إليهم طائفة من أصحابه، فقاتلوهم فانهزموا، فلما رأى دبيس هزيمة أصحابه سار عن بلده، وبقي ثابت فيه إلى الآن، فاجتمع دبيس وأبو المغرا عنازا ابن المغرا، وبنو أسد وخفاجة، وأعانه ابو كامل منصور بن قراد، وساروا جريدة لإعادة دبيس إلى بلده وأعماله، وتركوا حللهم بين خصاوحربى.

فلما ساروا لقيهم ثابت عند جرجرايا، وكانت بينهم حرب قتل فيها جماعة من الفريقين، ثم تراسلوا واصطلحوا ليعود دبيس إلى أعماله، ويقطع أخاه ثابتاً إقطاعاً، وتحالفوا على ذلك، وسار البساسيري نجدة لثابت، فلما وصل إلى النعمانية سمع بصلحهم، فعاد إلى بغداد.
ذكر ملك الروم قلعة بركويهذه قلعة متاخمة للأرمن في يد أبي الهيجاء بن ربيب الدولة، ابن أخت وهسوذان بن مملان، فتنافر هو وخاله، فأرسل خاله إلى الروم فأطمعهمم فيها، فسير الملك إليها جمعاً كثيراً فملكوها، فبلغ الخبر إلى الخليفة، فأرسل إلى أبي الهيجاء وخاله من يصلح بينهما ليتفقا على استعادة القلعة، فاصطلحا، ولم يتمكنا من استعادتها، واجتمع إليهما خلق كثير من المتطوعة، فلم يقدروا على ذلك لثبات قدم الروم بها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استوزر جلال الدولة عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم، وهي الوزارة الخامسة، وكان قبله في الوزارة ابن ماكولا، ففارقها وسار إلى عكبرا، فرده جلال الدولة إلى الوزارة، وعزل أبا سعد، فبقي أياماً، ثم فارقها إلى أوانا.
وفيها استخلف البساسيري في حماية الجانب الغربي ببغداد لأن العيارين اشتد أمرهم وعظم فسادهم، وعجز عنهم نواب السلطان، فاستعملوا البساسيري لكفايته ونهضته.
وفيها توفي أبو سنان غريب بن محمد بن مقن في شهر ربيع الآخر، في كرخ سامرا، وكان يلقب سيف الدولة، وكان قد ضرب دراهم سماها السيفية، وقام بالأمر بعده ابنه أبو الريان، وخلف خمسمائة ألف دينار، وأمر فنودي :قد أحللت كل من لي عنده شيء فحللوني كذلك، فحللوه، وكان عمره سبعين سنة.
وفيها توفي بدران بن المقلد، وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.
وفيها توفي أرمانوس ملك الروم، وملك بعده رجل صيرفي ليس من بيت الملك، وإنما بنت قسطنطين اختارته.
وفيها كثرت الزلازل بمصر والشام، وكان أكثرها بالرملة، فإن أهلها فارقوا منازلهم عدة أيام، وانهدم منها نحو ثلثها، وهلك تحت الهدم خلق كثير.
وفيها كان بإفريقية مجاعة شديدة وغلاء.
وفيها قبض قرواش على البرجمي العيار وغرقه، وكان سبب ذلك أن قرواشاً قبض على ابن القلعي عامل عكبرا، فحضر البرجمي العيار عند قرواش مخاطباً في أمره لمودة بينهما، فأخذه قرواش وقبض عليه، فبذل مالاً كثيراً ليطلقه، فلم يفعل وغرقه، وكان هذا البرجمي قد عظم شأنه وزاد شره، وكبس عدة مخازن بالجانب الشرقي، وكبس دار المرتضى، ودار ابن عديسة، وهي مجاورة دار الوزير، وثار العامة بالخطيب يوم الجمعة، وقالوا: إما أن تخطب للبرجمي، وإلا فلا تخطب لسلطان ولا غيره، وأهلك الناس ببغداد، وحكاياته كثيرة، وكان مع هذا فيه فتوة، وله مروءة، لم يعرض إلى امرأة، ولا إلى من يستسلم إليه.
وفيها هبت ريح سوداء بنصيبين فقلعت من بساتينها كثيراً من الأشجار، وكان في بعض البساتين قصر مبني بجص وآجر وكلس، فقلعته من أصله.
وفيها كثر الموت بالخوانيق في كثير من بلاد العراق، والشام، والموصل، وخوزستان، وغيرها حتى كانت الدار يسد بابها لموت أهلها.
وفيها، في ذي القعدة انقض كوكب هال منظره الناس، وبعد بليلتين انقض شهاب آخر أعظم منه كأنه البرق ملاصق الأرض، وغلب على ضوء المشاعل، ومكث طويلاً حتى غاب أثره.
وفيها توفي أبو العباس الأيبوردي، الفقيه الشافعي، قاضي البصرة، وأبو بكر محمد بن أحمد بن غالب البرقاني، المحدث، الإمام المشهور، وكانت وفاته في رجب، والحسين بن عبد الله بن يحيى أبو علي البندنيجي، الفقيه الشافعي، وهو من أصحاب أبي حامد الأسفراييني، وعبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد أبو الفرج التميمي الفقيه الحنبلي.
ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة

ذكر حال الخلافة والسلطنة ببغداد
في هذه السنة انحل أمر الخلافة والسلطنة ببغداد، حتى إن بعض الجند خرجوا إلى قرية يحيى، فلقيهم أكراد، فأخذوا دوابهم، فعادوا إلى قراح الخليفة القائم بأمر الله، فنهبوا شيئاً من ثمرته، وقالوا للعمالين فيه: أنتم عرفتم حال الأكراد ولم تعلمونا.

فسمع الخليفة الحال، فعظم عليه، ولم يقدر جلال الدولة على أخذ أولئك الأكراد لعجزه ووهنه، واجتهد في تسليم الجند إلى نائب الخليفة، فلم يمكنه ذلك، فتقدم الخليفة إلى القضاة بترك القضاء والامتناع عنه، وإلى الشهود بترك الشهادة، وإلى الفقهاء بترك الفتوى.
فلما رأى جلال الدولة ذلك سأل أولئك الأجناد ليجيبوه إلى أن يحملهم إلى ديوان الخلافة، ففعلوا، فلما وصلوا إلى دار الخلافة أطلقوا، وعظم أمر العيارين، وصاروا يأخذون الأموال ليلاً ونهاراً، ولا مانع لهم لأن الجند يحمونهم على السلطان ونوابه، والسلطان عاجز عن قهرهم، وانتشر العرب في البلاد فنهبوا النواحي، وقطعوا الطريق، وبلغوا إلى أطراف بغداد، حتى وصلوا إلى جامع المنصور، وأخذوا ثياب النساء في المقابر.
ذكر إظهار أحمد ينالتكين العصيان وقتلهفي سنة خمس وعشرين عاد مسعود بن محمود من الهند لقتال الغز، كما ذكرناه، فعاد أحمد ينالتكين إلى إظهار العصيان ببلاد الهند، وجمع الجموع، وقصد البلاد بالأذى، فسير إليه مسعود جيشاً كثيفاً، وكانت ملوك الهند تمنعه من الدخول إلى بلادهم، وسد منافذ هربه.
ولما وصل الجيش المنفذ إليه قاتلهم، فانهزم ومضى هارباً إلى الملتان، وقصد بعض ملوك الهند بمدينة بهاطية ومعه جمع كثير من عساكره الذين سلموا، فلم يكن لذلك الملك قدرة على منعه، وطلب منه سفناً ليعبر نهر السند، فأحضره له السفن.
وكان في وسط النهر جزيرة ظنها أحمد ومن معه متصلة بالبر من الجانب الآخر، ولم يعلموا أن الماء محيط بها، فتقدم ملك الهند إلى أصحاب السفن بإنزالهم في الجزيرة والعود عنهم، ففعلوا ذلك، وبقي أحمد ومن معه فيها وليس معهم طعام إلا ما معهم، فبقوا بها تسعة أيام، ففني زادهم، وأكلوا دوابهم، وضعفت قواهم، فأرادوا خوض الماء فلم يتمكنوا منه لعمقه وشدة الوحل فيه، فعبر الهند إليهم عسكرهم في السفن، وهم على تلك الحال، فأوقعوا بهم وقتلوا أكثرهم، وأخذوا ولداً لأحمد أسيراً، فلما رآه أحمد على تلك الحال قتل نفسه، واستوعب أصحابه القتل والأسر والغرق.
ذكر ملك مسعود جرجان وطبرستانكان الملك مسعود قد أقر دارا بن منوجهر بن قابوس على جرجان وطبرستان وتزوج أيضاً بابنة أبي كاليجار القوهي، مقدم جيش دارا، واقيم بتدبير أمره استمالة. فلما سار إلى الهند منعوا ما كان استقر عليهم من المال، وراسلوا علاء الدولة بن كاكويه وفرهاذ بالاجتماع على العصيان والمخالفة، وقوي عزمهم على ذلك ما بلغهم من خروج الغز بخراسان.
فلما عاد مسعود من الهند وأجلى الغز وهزمهم سار إلى جرجان فاستولى عليها وملكها، وسار إلى آمل طبرستان، وقد فارقها أصحابها، واجتمعوا بالغياض والأشجار الملتفة، الضيقة المدخل ، الوعرة المسلك، فسار إليهم واقتحمها عليهم فهزمهم وأسر منهم وقتل، ثم راسله دارا وأبو كاليجار وطلبوا منه العفو وتقرير البلاد عليهم، فأجابهم إلى ذلك، وحملوا من الأموال ما كان عليهم، وعاد إلى خراسان.
ذكر مسير ابن وثاب والروم إلى بلد ابن مروانفيها جمع ابن وثاب النميري جمعاً كثيراً من العرب وغيرهم، واستنجد من بالرها من الروم، فسار معه منهم جيش كثيف، وقصد بلد نصر الدولة بن مروان، ونهب وأخرب. فجمع ابن مروان جموعه وعساكره واستمد قرواشاً وغيره، وأتته الجنود من كل ناحية، فلما رأى ابن وثاب ذلك وأنه لا يتم له غرض عاد عن بلاده.
وأرسل ابن مروان إلى ملك الروم يعاتبه على نقض الهدنة وفسخ الصلح الذي كان بينهما، وراسل أصحاب الأطراف يستنجدهم للغزاة، فكثر جمعه من الجند والمتطوعة، وعزم على قصد الرها ومحاصرتها، فوردت رسل ملك الروم يعتذر، ويحلف أنه لم يعلم بما كان، وأرسل إلى عسكره الذين بالرها والمقدم عليهم ينكر ذلك، وأهدى إلى نصر الدولة هدية سنية، فترك ما كان عازماً عليه من الغزو، وفرق العساكر المجتمعة عنده.
ذكر عدة حوادثفيها خرج أبو سعد، وزير جلال الدولة، إلى أبي الشوك مفارقاً للوزارة، ووزر بعده أبو القاسم، وكثرت مطالبات الجند، فهرب، فأخرج وحمل إلى دار المملكة مكشوف الرأس في قميص خفيف، وكانت وزارته هذه شهرين وثمانية أيام، وعاد أبو سعد بن عبد الرحيم إلى الوزارة.

وفيها، في ذي الحجة، وثب الحسن بن أبي البركات بن ثمال الخفاجي بعمه علي بن ثمال أمير بني خفاجة، فقتله، وقام بإمارة بني خفاجة.
وفيها جمعت الروم وسارت إلى ولاية حلب، فخرج إليهم صاحبها شبل الدولة بن صالح بن مرداس، فتصافوا واقتتلوا، فانهزمت الروم، وتبعهم إلى عزاز، وغنم غنائم كثيرة وعاد سالماً.
وفيها قصدت خفاجة الكوفة، ومقدمهم الحسن بن أبي البركات بن ثمال، فنهبوها، وأرادوا تخريبها، ومنعوا النخل من الماء فهلك أكثره.
وفيها هرب الزكي أبو علي النهرسابسي من محبسه، وكان قرواش قد اعتقله بالموصل، فبقي سنتين إلى الآن، ولم يحج هذه السنة من العراق أحد.
وفي هذه السنة توفي أحمد بن كليب، الأديب، الشاعر الأندلسي، وحديثه مع أسلم بن أحمد بن سعيد مشهور، وكان يهواه، فقال فيه:
أسلمني في هواه ... أسلم هذا الرشا
غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا
وشى بيننا حاسد ... سيسأل عما وشى
ولو شاء أن يرتشي ... على الوصل روحي ارتشى
ومات كمداً من هواه.
وتوفي في جمادى الأولى منها أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن شهيد الأديب الأندلسي، ومن شعره:
إن الكريم إذا نالته مخمصة ... أبدى إلى الناس شبعاً، وهو طيان
يحني الضلوع على مثل اللظى حرقاً ... والوجه غمر بماء البشر ملآن
وله أيضاً:
كتبت لها انني عاشق ... على مهرق اللثم بالناظر
فردت علي جواب الهوى ... بأحور عن مائه حائر
منعمة نطقت بالجفون، ... فدلت على دقة الخاطر
كأن فؤادي، إذا أعرضت، ... تعلق في مخلبي طائر
وفيها توفي أبو المعالي بن سخطة العلوي النقيب بالبصرة، وأبو محمد بن معية العلوي بها أيضاً، وأبو علي الحسين بن أحمد بن شاذان، المحدث الأشعري مذهباً، وكان مولده ببغداد سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وحمزة بن يوسف الجرجاني، وكان من أهل الحديث.
ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة

ذكر وثوب الجند بجلال الدولة
في هذه السنة ثار الجند ببغداد بجلال الدولة، وأرادوا إخراجه منها، فاستنظرهم ثلاثة أيام، فلم ينظروه، ورموه بالآجر، فأصابه بعضهم، واجتمع الغلمان فردوهم عنه، فخرج من باب لطيف في سميرية متنكراً، وصعد راجلاً منها إلى دار المرتضى بالكرخ، وخرج من دار المرتضى، وسار إلى رافع بن الحسين بن مقن بتكريت، وكسر الأتراك أبواب داره ودخلوها ونهبوها، وقلعوا كثيراً من ساجها وأبوابها، فأرسل الخليفة إليه، وقرر أمر الجند وأعاده إلى بغداد.ز
ذكر الحرب بين أبي سهل الحمدوني وعلاء الدولةفي هذه السنة سار طائفة من العساكر الخراسانية التي مع الوزير أبي سهل الحمدوني بأصبهان يطلبون الميرة، فوضع عليهم علاء الدولة من أطعمهم في الامتياز من النواحي القريبة منه، فساروا إليها، ولا يعلمون قربه منهم، فلما أتاه خبرهم خرج إليهم وأوقع بهم وغنم ما معهم.
وقوي طمعه بذلك، فجمع جمعاً من الديلم وغيرهم وسار إلى أصبهان، وبها أبو سهل في عساكر مسعود بن سبكتكين، فخرجوا إليه وقاتلوه، فغدر الأتراك بعلاء الدولة، فانهزم ونهب سواده، فسار إلى بروجرد، ومنها إلى الطرم، فلم يقبله ابن السلار، وقال: لا قدرة لي على مباينة الخراسانية، فتركه وسار عنه.
ذكر وفاة الظاهر وولاية ابنه المستنصرفي هذه السنة، في منتصف شعبان توفي الظاهر لإعزاز دين الله أبو الحسن علي بن أبي علي المنصور الحاكم، الخليفة العلوي، بمصر، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وكانت خلافته خمس عشرة سنة وتسعة أشهر وسبعة عشر يوماً، وكان له مصر، والشام، والخطبة له بإفريقية، وكان جميل السيرة، حسن السياسة، منصفاً للرعية، إلا أنه مشتغل بلذاته محب للدعة والراحة، قد فوض الأمور إلى وزيره أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي لمعرفته بكفايته وأمانته.
ولما مات ولي بعده ابنه تميم معد، ولقب المستنصر بالله، ومولده بالقاهرة سنة عشر وأربعمائة، وفي أيامه كانت قصة البساسيري، وخطب له ببغداد سنة خمسين وأربعمائة.

وكان الحاكم في دولته بدر بن عبد الله الجمال الملقب بالأفضل، أمير الجيوش، وكان عادلاً، حسن السيرة.
وفي سنة تسع وسبعين وصل الحسن بن الصباح الإسماعيلي في زي تاجر إلى المستنصر بالله، وخاطبه في إقامته الدعوة له بخراسان وبلاد العجم، فأذن له في ذلك، فعاد ودعا إليه سراً، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار. والإسماعيلية يعتقدون إمامة نزار، وسيرد كيف صرف الأمر عنه سنة سبع وثمانين إن شاء الله تعالى.
ذكر فتح السويداء وربض الرهافي رجب من هذه السنة اجتمع ابن وثاب وابن عطير، وجمعا، وأمدهما نصر الدولة بن مروان بعسكر كثيف، فساروا جميعهم إلى السويداء، وكان الروم قد أحدثوا عمارتها في ذلك الوقت، واجتمع إليها أهل القرى المجاورة لها، فحصرها المسلمون وفتحوها عنوة، وقتلوا فيها ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، وغنموا ما فيها، وسبوا خلقاً كثيراً، وقصدوا الرها فحصروها، وقطعوا الميرة عنها، حتى بلغ مكوك الحنطة ديناراً، واشتد الأمر، فخرج البطريق الذي فيها متخفياً، ولحق بملك الروم، وعرفه الحال، فسير معه خمسة آلاف فارس، فعاد بهم.
فعرف ابن وثاب ومقدم عساكر نصر الدولة الحال، فكمنا لهم، فلما قاربوهم خرج الكمين عليهم، فقتل من الروم خلق كثير، وأسر مثلهم، وأسر البطريق وحمل إلى باب الرها، وقالوا لمن فيها إما أن تفتحوا البلد لنا، وإما قتلنا البطريق والأسرى الذين معه! ففتحوا البلد للعجز عن حفظه، وتحصن أجناد الروم بالقلعة، ودخل المسلمون، وغنموا ما فيها، وامتلأت أيديهم من الغنائم والسبي، وأكثروا القتل، وأرسل ابن وثاب إلى آمد مائة وستين راحلة عليها رؤوس القتلى وأقام محاصراً للقلعة.
ثم إن حسان بن الجراح الطائي سار في خمسة آلاف فارس من العرب والروم نجدة لمن بالرها، فسمع ابن وثاب بقربه، فسار إليه مجداً ليلقاه قبل وصوله، فخرج من الرها من الروم إلى حران، فقاتلهم أهلها، وسمع ابن وثاب الخبر فعاد مسرعاً، فوقع على الروم، فقتل منهم كثيراً، وعاد المنهزمون إلى الرها.
ذكر غدر السناسنة وأخذ الحاج وإعادة ما أخذوهفي هذه السنة ورد خلق كثير من أذربيجان، وخراسان، وطبرستان، وغيرها من البلاد يريدون الحج، وجعلوا طريقهم على أرمينية وخلاط، فوردوا إلى آني ووسطان، فثار بهم الأرمن من تلك البلاد، وأعانهم السناسنة، وهم من الأرمن أيضاً إلا أنهم لهم حصون منيعة تجاور خلاط، وهم صلح مع صاحب خلاط.
ولم تزل هذه الحصون بأيديهم منفردين بها، إلا أنهم متعاهدون إلى سنة ثمانين وخمسمائة، فملكها المسلمون منهم، وأزالوهم عنها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
فلما اتفقوا مع الأرمن من رعية البلاد أخذوا الحاج فقتلوا منهم كثيراً، وأسروا، وسبوا، ونهبوا الأموال، وحملوا ذلك أجمع إلى الروم، وطمع الأرمن في تلك البلاد، فسمع نصر الدولة بن مروان الخبر، فجمع العساكر وعزم على غزوهم، فلما سمعوا ذلك، ورأوا جده فيه، راسله ملك السناسنة، وبذل إعادة جميع ما أخذ أصحابه، وإطلاق الأسرى والسبي، فأجابهم إلى الصلح، وعاد عنهم لحصانة قلاعهم، وكثرة المضايق في بلادهم، ولأنهم بالقرب من الروم، فخاف أن يستنجدوهم ويمتنعوا بهم، فصالحهم.
ذكر الحرب بين المعز وزناتةفي هذه السنة اجتمعت زناتة بإفريقية ، وزحفت في خيلها ورجلها يريدون مدينة المنصورة، فلقيهم جيوش المعز بن باديس، صاحبها، بموضع يقال له الجفنة قريب من القيروان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت عساكر المعز، ففارقت المعركة، وهم على حامية، ثم عاودوا القتال، وحرض بعضهم بعضاً فصبرت صنهاجة، وانهزمت زناتة هزيمة قبيحة، وقتل منهم عدد كثير، وأسر خلق عظيم، وتعرف هذه الوقعة بوقعة الجفنة، وهي مشهورة لعظمها عندهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في رجب، انقض كوكب عظيم غلب نوره على نور الشمس وشوهد في آخرها مثل التنين يضرب إلى السواد، وبقي ساعة وذهب.
وفيها كانت ظلمة عظيمة اشتدت حتى أن إنساناً كان لا يبصر جليسه، وأخذ بأنفاس الخلق، فلو تأخر انكشافها لهلك أكثرهم.
وفيها قبض على الوزير أبي سعد بن عبد الرحيم، وزير جلال الدولة، وهي الوزارة السادسة.

وفيها، في رمضان، توفي رافع بن الحسين بن مقن، وكان حازماً شجاعاً، وخلف بتكريت ما يزيد على خمس مائة ألف دينار، فملكها ابن أخيه خميس بن ثعلب، وكان طريداً في أيام عمه، وحمل إلى جلال الدولة ثمانين ألف دينار فأصلح بها الجند، وكانت يده قد قطعت لأن بعض عبيد بني عمه كان يشرب معه، فجرى بينه وبين آخر خصومة، فجردا سيفيهما، فقام رافع ليصلح بينهما، فضرب العبد يده فقطعها غلطاً، ولرافع فيها شعر، ولم تمنعه من قتال فقد عمل له كفاً أخرى يمسك بها العنان ويقاتل، وله شعر جيد، من ذلك قوله:
لها ريقة، استغفر الله، إنها ... ألذ وأشهى في النفوس من الخمر
وصارم طرف لا يزايل جفنه، ... ولم أر سيفاً قط في جفنه يفري
فقلت لها، والعيس تحدج بالضحى: ... أعدي لفقدي ما استطعت من الصبر
سأنفق ريعان الشبيبة آنفاً ... على طلب العلياء أو طلب الأجر
أليس من الخسران أن ليالياً ... تمر بلا نفع وتحسب من عمري
وفيها، في صفر، أمر القائم بأمر الله بترك التعامل بالدنانير المغربية، وأمر الشهود أن لا يشهدوا في كتاب ابتياع ولا غيره يذكر فيه هذا الصنف من الذهب، فعدل الناس إلى القادرية، والسابورية، والقاسانية.
ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

ذكر الفتنة بين جلال الدولة وبارسطغان
في هذه السنة كانت الفتنة بين جلال الدولة وبين بارسطغان، وهو من أكابر الأمراء ويلقب حاجب الحجاب.
وكان سبب ذلك أن جلال الدولة نسبه إلى فساد الأتراك، والأتراك نسبوه إلى أخذ الأموال، فخاف على نفسه، فالتجأ إلى دار الخلافة في رجب من السنة الخالية.
وترددت الرسل بين جلال الدولة والقائم بأمر الله في أمره، فدافع الخليفة عنه، وبارسطغان يراسل الملك أبا كاليجار، فأرسل أبو كاليجار جيشاً، فوصلوا إلى واسط، واتفق معهم عسكر واسط، وأخرجوا الملك العزيز بن جلال الدولة، فأصعد إلى أبيه، وكشف بارسطغان القناع، فاستتبع أصاغر المماليك ونادوا بشعار أبي كاليجار، وأخرجوا جلال الدولة من بغداد، فسار إلى أوانا ومعه البساسيري، وأخرج بارسطغان الوزير أبا الفضل العباس بن الحسن بن فسانجس، فنظر في الأمور نيابة عن الملك أبي كاليجار، وأرسل بارسطغان إلى الخليفة يطلب الخطبة لأبي كاليجار، فاحتج بعهود جلال الدولة، فأكره الخطباء على الخطبة لأبي كاليجار، ففعلوا.
وجرى بين الفريقين مناوشات، وسار الأجناد الواسطيون إلى بارسطغان ببغداد، فكانوا معه، وتنقلت الحال بين جلال الدولة وبارسطغان، فعاد جلال الدولة إلى بغداد، ونزل بالجانب الغربي ومعه قرواش بن المقلد العقيلي، ودبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وخطب لجلال الدولة به، وبالجانب الشرقي لأبي كاليجار، وأعان أبو الشوك، وأبو الفوارس منصور بن الحسين بارسطغان على طاعة أبي كاليجار.
ثم سار جلال الدولة إلى الأنبار، وسار قرواش إلى الموصل، وقبض بارسطغان على ابن فسانجس، فعاد منصور بن الحسين إلى بلده، وأتى الخبر إلى بارسطغان بعود الملك أبي كاليجار إلى فارس، ففارقه الديلم الذين جاؤوا نجدة له، فضعف أمره، فدفع ماله وحرمه إلى دار الخلافة، وانحدر إلى واسط، وعاد جلال الدولة إلى بغدا، وأرسل البساسيري والمرشد وبني خفاجة في أثره، فتبعهم جلال الدولة ودبيس بن علي بن مزيد، فلحقوه بالخيزرانية، فقاتلوه، فسقط عن فرسه، فأخذ أسيراً وحمل إلى جلال الدولة، فقتله وحمل رأسه، وكان عمره نحو سبعين سنة.
وسار جلال الدولة إلى واسط فملكها، وأصعد إلى بغداد، فضعف أمر الأتراك، وطمع فيهم الأعراب، واستولوا على إقطاعاتهم، فلم يقدروا على كف أيديهم عنها، وكانت مدة بارسطغان من حين كاشف جلال الدولة إلى أن قتل ستة أشهر وعشرة أيام.
ذكر الصلح بين جلال الدولة وأبي كاليجار والمصاهرة بينهما

في هذه السنة ترددت الرسل بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار، سلطان الدولة، في الصلح والاتفاق، وزوال الخلف، وكان الرسل أقضى القضاة أبا الحسن الماوردي، وأبا عبد الله المردوستي، وغيرهما، فاتفقا على الصلح، وحلف كل واحد من الملكين لصاحبه، وأرسل الخليفة القائم بأمر الله إلى أبي كاليجار الخلع النفيسة، ووقع العقد لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنة جلال الدولة، وكان الصداق خمسين ألف دينار قاسانية.
ذكر عدة حوادثفيها توفي أبو القاسم علي بن الحسين بن مكرم، صاحب عمان، وكان جواداً، ممدحاً، وقام ابنه مقامه.
وفيها توفي الأمير أبو عبد الله الحسين بن سلامة، أمير تهامة، باليمن، وولي ابنه بعده، فعصى عليه خادم كان لوالده، وأراد أن يملك، فجرى بينهما حروب كثيرة تمادت أيامها، ففارق أهل تهامة أوطانهم إلى غير مملكة ولد الحسين هرباً من الشر وتفاقم الأمر.
وفيها توفي مهيار الشاعر، وكان مجوسياً، فأسلم سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وصحب الشريف الرضي، وقال له أبو القاسم بن برهان: يا مهيار قد انتقلت بإسلامك في النار من زاوية إلى زاوية! قال: كيف؟ قال: لأنك كنت مجوسياً، فصرت تسب أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، في شعرك.
وفيها توفي أبو الحسين القدوري الفقيه الحنفي، والحاجب أبو الحسين هبة الله بن الحسين ، المعروف بابن أخت الفاضل، وكان من أهل الأدب وله شعر جيد، وأبو علي بن أبي الريان بمطيراباذ، ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، وقد مدحه الرضي وابن نباتة وغيرهما.
وفيها عاود المعز بن باديس حرب زناتة بإفريقية، فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وخرب مساكنهم وقصورهم.
وفي شعبان توفي أبو علي بن سينا الحكيم، الفيلسوف المشور، صاحب التصانيف السائرة على مذاهب الفلاسفة، وكان موته بأصبهان، وكان يخدم علاء الدولة أبا جعفر بن كاكويه، ولا شك أن أبا جعفر كان فاسد الاعتقاد، فلهذا أقدم ابن سينا على تصانيفه في الإلحاد، والرد على الشرائع في بلده.
ثم دخلت سنة تسع وعشرين وأربعمائة

ذكر محاصرة الأبخاز تفليس وعودهم عنها
في هذه السنة حصر ملك الأبخاز مدينة تفليس، وامتنع أهلها عليه، فأقام عليهم محاصراً ومضيقاً، فنفدت الأقوات، وانقطعت الميرة، فأنفذ أهلها إلى أذربيجان يستنفرون المسلمين، ويسألونهم إعانتهم، فلما وصل الغز إلى أذربيجان، وسمع الأبخاز بقربهم، ومما فعلوا بالأرمن، رحلوا عن تفليس مجفلين خوفاً. ولما رأى وهسوذان صاحب أذربيجان قوة الغز، وأنه لا طاقة له بهم، لاطفهم وصاهرهم واستعان بهم، وقد تقدم ذكر ذلك.
ذكر ما فعله طغرلبك بخراسانفي هذه السنة دخل ركن الدين أبو طالب طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجوق مدينة نيسابور مالكاً لها.
وكان سبب ذلك أن الغز السلجقية لما ظهروا بخراسان أفسدوا، ونهبوا، وخربوا البلاد، وسبوا، على ما ذكرناه، وسمع الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين الخبر، فسير إليهم حاجبه سباشي في ثلاثين ألف مقاتل، ! فسار إليهم من غزنة، فلما بلغ خراسان ثقل على ما سلم من البلد بالإقامات، فخرب السالم من تخريب الغز، فأقام مدة سنة على المدافعة والمطاولة، لكنه كان يتبع أثرهم إذا بعدوا، ويرجع عنهم إذا أقبلوا استعمالاً للمحاجزة، وإشفاقاً من المحاربة، حتى إذا كان في هذه السنة، وهو بقرية بظاهر سرخس، والغز بظاهر مرو مع طغرلبك، وقد بلغهم خبره، أسروا إليه وقاتلوه يوم وصلوا، فلما جنهم الليل أخذ سباشي ما خف من مال وهرب في خواصه، وترك خيمه ونيرانه على حالها، قيل فعل ذلك مواطأة للغز على الهزيمة، فلما أسفر الصبح عرف الباقون من عسكره خبره، فانهزموا، واستولى الغز على ما وجدوه في معسكرهم من سوادهم، وقتلوا من الهنود الذي تخلفوا مقتلة عظيمة.
وأسرى داود أخو طغرلبك، وهو والد السلطان ألب أرسلان، إلى نيسابور، وسمع أبو سهل الحمدوني ومن معه بها، ففارقوها، ووصل داود ومن معه إليها، فدخلوها بغير قتال، ولم يغيروا شيئاً من أمورها، ووصل بعدهم طغرلبك ثم وصلت إليهم رسل الخليفة في ذلك الوقت، وكان قد أرسل إليهم وإلى الذين بالري وهمذان وبلد الجبل ينهاهم عن النهب والقتل والإخراب، ويعظهم، فأكرموا الرسل، وعظموهم، وخدموهم.

وخاطب داود طغرلبك في نهب البلد، فمنعه فامتنع واحتج بشهر رمضان، فلما انسلخ رمضان صمم داود على نهبه، فمنعه طغرلبك، واحتج علهي برسل الخليفة وكتابه، فلم يلتفت داود إليه، وقوي عزمه على النهب، فأخرج طغرلبك سكيناً وقال له: والله لئن نهبت شيئاً لأقتلن نفسي! فكف عن ذلك، وعدل إلى التقسيط، فقسط على أهل نيسابور نحو ثلاثين ألف دينار، وفرقها في أصحابه.
وأقام طغرلبك بدار الإمارة، وجلس على سرير الملك مسعود، وصار يقعد للمظالم يومين في الأسبوع على قاعدة ولاة خراسان، وسير أخاه داود إلى سرخس فملكها، ثم استولوا على سائر بلاد خراسان سوى بلغ، وكانوا يخطبون للملك مسعود على سبيل المغالطة. وكانوا ثلاثة أخوة: طغرلبك، وداود، وبيغو، وكان ينال، واسمه إبراهيم، أخا طغرلبك وداود لأمهما، ثم خرج مسعود من غزنة وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر مخاطبة جلال الدولة بملك الملوكفي هذه السنة سأل جلال الدولة الخليفة القائم بأمر الله ليخاطب بملك الملوك، فامتنع، ثم أجاب إليه إذا أفتى الفقهاء بجوازه، فكتب فتوى إلى الفقهاء في ذلك، فأفتى القاضي أبو الطيب الطبري، والقاضي أبو عبد الله الصيمري، والقاضي ابن البيضاوي، وأبو القاسم الكرخي بجوازه، وامتنع منه قاضي القضاة أبو الحسن الماوردي، وجرى بينه وبين من أفتى بجوازه مراجعات، وخطب لجلال الدولة بملك الملوك.
وكان الماوردي من أخص الناس بجلال الدولة، وكان يتردد إلى دار المملكة كل يوم، فلما أفتى بهذه الفتيا انقطع ولزم بيته خائفاً، وأقام منقطعاً من شهر رمضان إلى يوم عيد النحر، فاستدعاه جلال الدولة، فحضر خائفاً، فأدخله وحده وقال له: قد علم كل أحد أنك من أكثر الفقهاء مالاً، وجاهاً، وقرباً منا، وقد خالفتهم فيما خالف هواي، ولم تفعل ذلك إلا لعدم المحاباة منك، واتباع الحق، وقد بان لي موضعك من الدين، ومكانك من العلم، وجعلت جزاء ذلك إكرامك بأن أدخلتك إلي، وجعلت أذن الحاضرين إليك، ليتحققوا عودي إلى ما تحب. فشكره ودعا له، وأذن لكل من حضر بالخدمة والانصراف.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قتل شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، صاحب حلب، قتله الدزبري وعساكر مصر، وملكوا حلب.
وفيها أنكر العلماء على أبي يعلى بن الفراء الحنبلي ما ضمنه كتابه من صفات الله، سبحانه وتعالى، المشعرة بأنه يعتقد التجسم، وحضر أبو الحسن القزويني الزاهد بجامع المنصور، وتكلم في ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وفيها صالح ابن وثاب النميري، صاحب حران، الروم الذين بالرها لعجزه عنهم، وسلم إليهم ربض الرها، وكان تسلمه على ما ذكرناه أولاً، فنزلوا من الحصن الذي للبلد إليه، وكثر الروم بها، وخاف المسلمون على حران منهم، وعمر الروم الرها العمارة الحسنة وحصنوها.
وفيها هادن المستنصر بالله الخليفة العلوي، صاحب مصر، ملك الروم، وشرط عليه إطلاق خمسة آلاف أسير، وشرط الروم عليه أن يعمروا بيعة قمامة، فأرسل الملك إليها من عمرها، وأخرج مالاً جليلاً.
وفي هذه السنة سارت عساكر المعز بن باديس بإفريقية إلى بلد الزاب، ففتحوا مدينة تسمى بورس، وقتلوا من البربر خلقاً كثيراً، وفتح من بلاد زناتة قلعة تسمى كروم.
وفيها توفي إسحاق بن إبراهيم بن مخلد أبو الفضل المعروف بابن الباقرحي في ربيع الآخر.
ثم دخلت سنة ثلاثين وأربعمائة

ذكر وصول الملك مسعود إلى خراسان
وإجلاء السلجقية عنها
في صفر من هذه السنة وصل الملك مسعود إلى بلخ من غزنة، وزوج ابنه من ابنة بعض ملوك الخانية، كان يتقي جانبه، وأقطع خوارزم لشاه ملك الجندي، فسار إليها، وبها خوارزمشاه إسماعيل بن التوتناش، فجمع أصحابه، ولقي شاه ملك وقاتله، ودامت الحرب بينهما مدة شهر، وانهزم إسماعيل، والتجأ إلى طغرلبك وأخيه داود السلجقية، وملك شاه ملك خوارزم.
وكان مسير مسعود من غزنة أول سنة ثمان وعشرين، وسبب خروجه ما وصل إليه من أخبار الغز، وما فعلوه بالبلاد وأهلها من الإخراب والقتل والسبي والاستيلاء، وأقام ببلخ حتى أراح واستراح، وفرغ من أمر خوارزم والخانية ثم أمد سباشي الحاجب بعسكر ليتقوى بهم ويهتم بأمر الغز واستئصالهم، فلم يكن عنده من الكفاية ما يقهرهم بل أخلد إلى المطاولة التي هي عادته.

وسار مسعود بن سبكتكين من بلخ بنفسه، وقصد سرخس، فتجنب الغز لقاءه، وعدلوا إلى المراوغة والمخاتلة، وأظهروا العزم على دخول المفازة التي بين مرو وخوارزم، فبينما عساكر مسعود تتبعهم وتطلبهم إذ لقوا طائفة منهم، فقاتلوهم وظفروا بهم وقتلوا منهم.
ثم إنه واقعهم بنفسه، في شعبان من هذه السنة، وقعة استظهر فيها عليهم، فأبعدوا عنه، ثم عاودوا القرب منه بنواحي مرو، فواقعوهم وقعة أخرى قتل منهم فيها نحو ألف وخمسمائة قتيل، وهرب الباقون فدخلوا البرية التي يحتمون بها.
وثار أهل نيسابور بمن عندهم منهم، فقتلوا بعضاً، وانهزم الباقون إلى أصحابهم بالبرية وعدل مسعود إلى هراة ليتأهب في العساكر للمسير خلفهم وطلبهم أين كانوا، فعاد طغرلبك إلى الأطراف النائية عن مسعود، فنهبها وأثخن فيها، وكان الناس قد تراجعوا، فملأوا أيديهم من الغنائم، فحينئذ سار مسعود يطلبه، فلما قاربه انزاح طغرلبك من بين يديه إلى أستوا وأقام بها، وكان الزمان شتاء، ظناً منه أن الثلج والبرد يمنع عنه، فطلبه مسعود إليها، ففارقه طغرلبك وسلك الطريق على طوس، واحتمى بجبال منيعة، ومضايق صعبة المسلك، فسير مسعود في طلبه وزيره أحمد بن محمد بن عبد الصمد في عساكر كثيرة، فطوى المراحل إليه جريدة، فلما رأى طغرلبك قربه منه فارق مكانه إلى نواحي أبيورد.
وكان مسعود قد سار ليقطعه عن جهة إن أرادها، فلقي طغرلبك مقدمته، فواقعوهم فانتصروا عليه، واستأمن من أصحابه جماعة كثيرة، ورأى الطلب له من كل جانب، فعاود دخول المفازة إلى خوارزم وأوغل فيها.
فلما فارق الغز خراسان قصد مسعود جبلاً من جبال طوس منيعاً لا يرام، وكان أهله قد وافقوا الغز وأفسدوا معهم، فلما فارق الغز تلك البلاد تحصن هؤلاء بجبلهم ثقة منهم بحصانته وامتناعه، فسرى مسعود إليهم جريدة، فلم يرعهم إلا وقد خالطهم، فتركوا أهلهم وأموالهم وصعدوا إلى قلة الجبل واعتصموا بهال وامتنعوا، وغنم عسكر مسعود أموالهم وما ادخروه.
ثم أمر مسعود أصحابه أن يزحفوا إليهم في قلة الجبل، وباشر هو القتال بنفسه، فزحف الناس إليهم، وقاتلوهم قتالاً لم يروا مثله، وكان الزمان شتاء، والثلج على الجبل كثيراً، فهلك من العسكر في مخارم الجبل وشعابه كثير، ثم إنهم ظفروا بأهله وأكثروا فيهم القتل والأسر وفرغوا منهم وأراحوا المسلمين من شرهم.
وسار مسعود إلى نيسابور في جمادى الأولى سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، ليريح ويستريح، وينتظر الربيع ليسير خلف الغز، ويطلبهم في المفاوز التي احتموا بها. وكانت هذه الوقعة، وإجلاء الغز عن خراسان، سنة إحدى وثلاثين، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك أبي الشوك مدينة خولنجانكان حسام الدولة أبو الشوك قد فتح قرميسين من أعمال الجبل، وقبض على صاحبها، وهو من الأكراد القوهية، فسار أخوه إلى قلعة أرنبة، فاعتصم بها من أبي الشوك، وجعل أصحابه في مدينة خولنجان يحفظونها منه أيضاً.
فلما كان الآن سير أبو الشوك عسكراً إلى خولنجان فحصروها فلم يظفروا منها بشيء، فأمر العسكر فعاد فأمن من في البلد بعود العسكر عنه.
ثم جهز عسكراً آخر جريدة لم يعلم بهم أحد، وسيرهم ليومهم، وأمرهم بنهب ربض قلعة أرنبة، وقتل من ظفروا به والإتمام لوقتهم إلى خولنجان ليسبقوا خبرهم إليها، ففعلوا ذلك، ووصلوا إليها ومن بها غير متأهبين، فاقتتلوا شيئاً من قتال، ثم استسلم من بالمدينة إليهم فتسلموها، وتحصن من كان بها من الأجناد في قلعة في وسط البلد، فحصروها أصحاب أبي الشوك، فملكوها في ذي القعدة من هذه السنة.
ذكر الخطبة العباسية بحران والرقةفي هذه السنة خطب شبيب بن وثاب النميري، صاحب حران والرقة، للإمام القائم بأمر الله، وقطع خطبة المستنصر بالله العلوي.
وكان سببها أن نصر الدولة بن مروان كان قد بلغه عن الدزبري نائب العلويين بالشام أنه يتهدده، ويريد قصد بلاده، فراسل قرواشاً، صاحب الموصل، وطلب منه عسكراً، وراسل شبيباً النميري يدعوه إلى الموافقة، ويحذره من المغاربة، فأجابه إلى ذلك، وقطع الخطبة العلوية، وأقام الخطبة العباسية، فأرسل إليه الدزبري يتهدده، ثم أعاد الخطبة العلوية بحران في ذي الحجة من السنة.
ذكر عدة حوادث

فيها توفي الملك أبو علي الحسين بن الحسن الرخجي، وكان وزيراً لملوك بني بويه، ثم ترك الوزارة، وكان في عطلته يتقدم على الوزراء.
وفيها أيضاً توفي أبو الفتوح الحسن بن جعفر العلوي أمير مكة.
وفيها توفي الوزير أبو القاسم بن ماكولا محبوساً بهيت، وكان مقامه في الحبس سنتين وخمسة أشهر، ومولده سنة خمس وستين وثلاثمائة، وكان وزير جلال الدولة، وهو والد الأمير أبي نصر، مصنف كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف، وكان جلال الدولة سلمه إلى قرواش، فحبسه بهيت.
وفيها سقط الثلج ببغداد لست بقين من ربيع الأول، فارتفع على الأرض شبراً، ورماه الناس عن السطوح إلى الشوارع، وجمد الماء ستة أيام متوالية، وكان أول ذلك الثالث والعشرين من كانون الثاني.
وتوفي هذه السنة أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الأصبهاني الحافظ، وأبو الرضا الفضل بن منصور بن الظريف الفارقي، الأمير الشاعر، له ديوان حسن، وشعر جيد، فمنه:
ومخطف الخصر مطبوع على صلف ... عشقته، ودواعي البين تعشقه
وكيف أطمع منه في مواصلة، ... وكل يوم لنا شمل يفرقه
وقد تسامح قلبي في مواصلتي ... على السلو ولكن من يصدقه
أهابه، وهو طلق الوجه مبتسم، ... وكيف يطمعني في السيف رونقه
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين وأربعمائةفي هذه السنة فتح الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين قلعة بخراسان كانت بيد الغز، وقتل فيها جماعة منهم، وكانت بينه وبينهم وقعات أجلت عن فراقهم خراسان إلى البرية، وقد ذكرناه سنة ثلاثين.
ذكر ملك الملك أبي كاليجار البصرةفي هذه السنة سير الملك أبو كاليجار عساكره مع العادل أبي منصور بن مافنة إلى البصرة، فملكها في صفر، وكانت بيد الظهير أبي القاسم، وقد ذكرنا أنه وليها بعد بختيار، وأنه عصى على أبي كاليجار مرة، وصار في طاعة جلال الدولة ، ثم فارق طاعته وعاد إلى طاعة الملك أبي كاليجار، وكان يترك محاقته ومعارضته فيما يفعله، ويضمن الظهير أن يحمل إلى أبي كاليجار كل سنة سبعين ألف دينار، وكثرت أمواله، ودامت أيامه، وثبت قدمه، وطار اسمه.
واتفق أنه تعرض إلى أملاك أبي الحسن بن أبي القاسم بن مكرم، صاحب عمان، وأمواله، وكاتب أبو الحسن الملك أبا كاليجار، وبذل له زيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة كل سنة، وجرى الحديث في قصد البصرة، فصادف قلباً موغراً من الظهير، فحصلت الإجابة، وجهز الملك العساكر مع العادل أبي منصور، فسار إليها وحصرها.
وسارت العساكر من عمان أيضاً في البحر وحصرت البصرة وملكت، وأخذ الظهير وقبض عليه، وأخذ جميع ماله، وقرر عليه مائة ألف وعشرة آلاف دينار، يحملها في أحد عشر يوماً، بعد تسعين ألف دينار أخذت منه قبلها، ووصل الملك أبي كاليجار إلى البصرة، فأقام بها، ثم عاد إلى الأهواز، وجعل ولده عز الملوك فيها، ومعه الوزير أبو الفرج بن فسانجس، ولما سار أبو كاليجار عن البصرة أخذ معه الظهير إلى الأهواز.
ذكر ما جرى بعمان بعد موت أبي القاسم بن مكرملما توفي أبو القاسم بن مكرم خلف أربعة بنين: أبو الجيش، والمهذب، وأبو محمد، وآخر صغير، فولي بعده ابنه أبو الجيش، وأقر علي بن هطال المنوجاني، صاحب جيش أبيه، على قاعدته، وأكرمه، وبالغ في احترامه، فكان إذا جاء إليه قام له، فأنكر هذه الحال عليه أخوه المهذب، فطعن على ابن هطال، وبلغه ذلك، فأضمر له سوءاً، واستأذن أبا الجيش في أن يحضر أخاه المهذب لدعوة عملها له، فأذن له في ذلك، فلما حضر المهذب عنده خدمه، وبالغ في خدمته، فلما أكل وشرب وانتشى، وعمل السكر فيه، قال له ابن هطال: إن أخاك أبا الجيش فيه ضعف، وعجز عن الأمر، والرأي أننا نقوم معك، وتصير أنت الأمير، وخدعه، فمال إلى هذا الحديث، فأخذ ابن هطال خطه بما يفوض إليه، وبما يعطيه من الأعمال إذا عمل معه هذا الأمر. فلما كان الغد حضر ابن هطال عند أبي الجيش، وقال له: إن أخاك كا نقد أفسد كثيراً من أصحابك عليك، وتحدث معي، واستمالني فلم أوافقه، فلهذا كان يذمني، ويقع في، وهذا خطه بما استقر هذه الليلة. فلما رأى خط أخيه أمره بالقبض عليه، ففعل ذلك واعتقله، ثم وضع عليه من خنقه وألقى جثته إلى منخفض من الأرض، وأظهر أنه سقط فمات.

ثم توفي أبو الجيش بعد ذلك بيسير، وأراد ابن هطال أن يأخذ أخاه أبا محمد فيوليه عمان ثم يقتله، فلم تخرجه إليه والدته، وقالت له: أنت تتولى الأمور، وهذا صغير لا يصلح لها. ففعل ذلك، وأساء السيرة، وصادر التجار، وأخذ الأموال.
وبلغ ما كان منه مع بني مكرم إلى الملك أبي كاليجار، والعادل أبي منصور ابن مافنة، فأعظما الأمر واستكبراه، وشد العادل في الأمر، وكاتب نائباً كان لأبي القاسم بن مكرم بجبال عمان يقال له المرتضى، وأمره بقصد ابن هطال، وجهز العساكر من البصرة لتسير إلى مساعدة المرتضى، فجمع المرتضى الخلق، وتسارعوا إليه وخرجوا عن طاعة ابن هطال، وضعف أمره، واستولى المرتضى على أكثر البلاد، ثم وضعوا خادماً كان لابن مكرم، وقد التحق بابن هطال، على قتله، وساعده على ذلك فراش كان له، فما سمع العادل بقتله سير إلى عمان من أخرج أبا محمد بن مكرم، ورتبه في الإمارة، وكان قد استقر أن الأمر لأبي محمد في هذه السنة.
ذكر الحرب بين أبي الفتح ابن أبي الشوك وبين عمه مهلهلفي هذه السنة كان بين أبي الفتح ابن أبي الشوك وبين عمه مهلهل حرب شديدة.
وكان سبب ذلك أن أبا الفتح كان نائباً عن والده في الدينور، وقد عظم محله، وافتتح عدة قلاع، وحمى أعماله من الغز، وقتل فيهم، فأعجب بنفسه، وصار لا يقبل أمر والده.
فلما كان هذه السنة، في شعبان، سار إلى قلعة بلوار ليفتحها، وكان فيها زوجة صاحبها، وكان من الأكراد، فعلمت أنها تعجز عن حفظها، فراسلت مهلهل بن محمد بن عناز، وهو بحلله في نواحي الصامغان، واستدعته لتسلم إليه القلعة، فسأل الرسول عن أبي الفتح: هل هو بنفسه على القلعة أم عسكره؟ فأخبره أنه عاد عنها وبقي عسكره، فسار مهلهل إليها، فلما وصل رأى أبا الفتح قد عاد إلى القلعة، فقصد موضعاً يوهم أبا الفتح أنه لم يرد هذه القلعة، ثم رجع عائداً، وتبعه أبا الفتح ولحقه وتراءت الفئتان، فعاد مهلهل إليه، فاقتتلوا، فرأى أبو الفتح من أصحابه تغيراً، فخافهم، فولى منهزماً، وتبعه أصحابه في الهزيمة، وقتل عسكر مهلهل من كان في عسكر أبي الفتح من الرجالة، وساروا في أثر المنهزمين يقتلون ويأسرون، ووقف فرس أبي الفتح به فأسر وأحضر عند عمه مهلهل، فضربه عدة مقارع، وقيده، وحبسه عنده وعاد.
ثم إن أبا الشوك جمع عساكره وسار إلى شهرزور وحصرها، وقصد بلاد أخيه ليخلص ابنه أبا الفتح، فطال الأمر ولم يخلص ابنه، وحمل مهلهل اللجاج على أن استدعى علاء الدولة بن كاكويه إلى بلد أبي الفتح، فدخل الدينور وقرميسين، وأساء إلى أهلها وظلمهم وملكها، وكان ذلك سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
ذكر شغب الأتراك على جلال الدولة ببغدادفي هذه السنة شغب الأتراك على الملك جلال الدولة ببغداد، وأخرجوا خيامهم إلى ظاهر البلد، ثم أوقعوا النهب في عدة مواضع، فخافهم جلال الدولة، فعبر خيامه إلى الجانب الغربي، وترددت الرسل بينهم في الصلح، وأراد الرحيل عن بغداد، فمنعه أصحابه، فراسل دبيس بن مزيد، وقرواشاً، صاحب الموصل، وغيرهما، وجمع عنده العساكر، فاستقرت القواعد بينهم وعاد إلى داره، وطمع الأتراك، وآذوا الناس، ونهبوا وقتلوا، وفسدت الأمور بالكلية إلى حد لا يرجى صلاحه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الآخرة، ولد للخليفة القائم بأمر الله ولده أبو العباس، وهوذخيرة الدين.
وفيها توفي شبيب بن وثاب النميري، صاحب الرقة وسروج وحران.
وفيها توفي أبو نصر بن مشكان، كاتب الإنشاد لمحمود بن سبكتكين ولولده مسعود، وكان من الكتاب المفلقين، رأيت له كتابة في غاية الجودة.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة

ذكر ابتداء الدولة السلجوقية
وسياقة أخبارهم متتابعة
في هذه السنة اشتد ملك السلطان طغرلبك محمد وأخيه جغري بك داود ابني ميكائيل بن سلجوق بن تقاق، فنذكر أولاً حال آبائه، ثم نذكر حاله كيف تنقلت حتى صار سلطاناً، على أنني قد ذكرت أكثر أخبارهم متقدمة على السنين، وإنما أوردناها هاهنا مجموعة لترد سياقاً واحداً، فهي أحسن، فأقول:

فأما تقاق فمعناه القوس الجديد، وكان شهماً، ذا رأي وتدبير، وكان مقدم الأتراك الغز، ومرجعهم إليه، لا يخالفون له قولاً، ولا يتعدون أمراً. فاتفق يوماً من الأيام أن ملك الترك الذي يقال له بيغو جمع عساكره، وأراد المسير إلى بلاد الإسلام، فنهاه تقاق عن ذلك، وطال الخطاب بينهما فيه فأغلظ له ملك الترك الكلام، فلطمه تقاق فشج رأسه، فأحاط به خدم ملك الترك، وأرادوا أخذه، فمانعهم وقاتلهم، واجتمع معه من أصحابه من منعه، فتفرقوا عنه، ثم صلح الأمر بينهما، واقام تقاق عنده، وولد له سلجوق.
وأما سلجوق فإنه لما كبر ظهرت عليه أمارات النجابة، ومخايل التقدم، فقربه ملك الترك وقدمه، ولقبه سباشي، معناه قائد الجيش، وكانت امرأة الملك تخوفه من سلجوق لما ترى من تقدمه، وطاعة الناس له، والانقياد إليه، وأغرته بقتله، وبالغت في ذلك.
وسمع سلجوق الخبر، فسار بجماعته كلهم ومن يطيعه من دار الحرب إلى ديار الإسلام، وسعد بالإيمان ومجاورة المسلمين، وازداد حاله علواً، وإمرة، وطاعة، وأقام بنواحي جند، وأدام غزو كفار الترك، وكان ملكهم يأخذ الخراج من المسلمين في تلك الديار، وطرد سلجوق عماله منها وصفت للمسلمين.
ثم إن بعض ملوك السامانية كان هارون بن ايلك الخان قد استولى على بعض أطراف بلاده، فأرسل إلى سلجوق يستمده، فأمده بابنه أرسلان في جمع من أصحابه، فقوي بهم الساماني على هارون، واسترد ما أخذه منه، وعاد أرسلان إلى أبيه.
وكان لسلجوق من الأولاد: أرسلان، وميكائيل، وموسى، وتوفي سلجوق بجند، وكان عمره مائة سنة وسبع سنين، ودفن هناك، وبقي أولاده، فغزا ميكائيل بعض بلاد الكفار الأتراك، فقاتل، وباشر القتال بنفسه، فاستشهد في سبيل الله، وخلف من الأولاد: بيغو، وطغرلبك محمداً، وجغري بك، داود، فأطاعهم عشائرهم، ووقفوا عند أمرهم ونهيهم، ونزلوا بالقرب من بخارى على عشرين فرسخاً منها، فخافهم أمير بخارى فأساء جوارهم، وأراد إهلاكهم والإيقاع بهم، فالتجأوا إلى بغراجان ملك تركستان، وأقاموا في بلاده، واحتموا به وامتنعوا، واستقر الأمير بين طغرلبك وأخيه داود أنهما لا يجتمعان عند بغراجان، إنما يحضر عنده أحدهما، ويقيم الآخر في أهله خوفاً من مكر يمكره بهم، فبقوا كذلك.
ثم إن بغراجان اجتهد في اجتماعهما عنده، فلم يفعلا، فقبض على طغرلبك وأسره، فثار داود في عشائره ومن يتبعه، وقصد بغراجان ليخلص أخاه، فأنفذ إليه بغراجان عسكراً، فاقتتلوا، فانهزم عسكر بغراجان وكثر القتل فيهم، وخلض أخاه من الأسر، وانصرفوا إلى جند، وهي قريب بخارى، فأقاموا هناك.
فلما انقرضت دولة السامانية وملك ايلك الخان بخارى عظم محل أرسلان ابن سلجوق عم داود وطغرلبك بما وراء النهر، وكان علي تكين في حبس أرسلان خان، فهرب، وهو أخو ايلك الخان، ولحق ببخارى واستولى عليها، واتفق مع أرسلان بن سلجوق فامتنعا، واستفحل أمرهما، وقصدهما ايلك أخو أرسلان خان، وقاتلهما فهزماه وبقيا ببخارى.
وكان علي تكين يكثر معارضة يمين الدولة محمود بن سبكتكين فيما يجاوره في بلاده، ويقطع الطريق على رسله المترددين إلى ملوك الترك، فلما عبر محمود جيحون، على ما ذكرناه، هرب علي تكين من بخارى، وأما أرسلان بن سلجوق وجماعته فإنهم دخلوا المفازة والرمل، فاحتموا من محمود، فرأى محمود قوة السلجوقية، وما لهم من الشوكة وكثرة العدد، فكاتب أرسلان ابن سلجوق واستماله ورغبه، فورد إليه، فقبض يمين الدولة عليه في الحال، ولم يمهله، وسجنه في قلعة، ونهب خركاهاته، واستشار فيما يفعل بأهله وعشيرته، فأشار أرسلان الجاذب، وهو من أكبر خواص محمود، بأن يقطع أباهمهم لئلا يرموا بالنشاب، أو يغرقوا في جيحون، فقال له: ما أنت إلا قاسي القلب! ثم أمر بهم فعبروا نهر جيحون، ففرقهم في نواحي خراسان، ووضع عليهم الخراج، فجار العمال عليهم، وامتدت الأيدي إلى أموالهم وأولاهم، فانفصل منهم أكثر من ألفي رجل، وساروا إلى كرمان، ومنها إلى أصبهان، وجرى بينهم وبين صاحبها علاء الدولة بن كاكويه حرب قد ذكرناها، فساروا من أصبهان إلى أذربيجان، وهؤلاء جماعة أرسلان.

فأما أولاد إخوته فإن علي تكين صاحب بخارى أعمل الحيل في الظفر بهم، فأرسل إلى يوسف بن موسى بن سلجوق، وهو ابن عم طغرلبك محمد وجغري بك داود، ووعده الإحسان، وبالغ في استمالته، وطلب منه الحضور عنده، ففعل، ففوض إليه علي تكين التقدم على جميع الأتراك الذين في ولايته، وأقطعه أقطاعاً كثيرة، ولقب بالأمير اينانج بيغو.
وكان الباعث له على ما فعله به أن يستعين به وبعشيرته وأصحابه على طغرلبك وداود ابني عمه، ويفرق كلمتهم، ويضرب بعضهم ببعض، فعلموا مراده، فلم يطعه يوسف إلى شيء مما أراده، منه، فلما رأى علي تكين أن مكره لم يعمل في يوسف، ولم يبلغ به غرضاً، أمر بقتله، فقتل يوسف، تولى قتله أمير من أمراء علي تكين اسمه الف قرا. فلما قتل عظم ذلك على طغرلبك وأخيه داود وجميع عشائرهما، ولبسوا ثياب الحداد، وجمعا من الأتراك من قدرا على جمعه للأخذ بثأره، وجمع علي تكين أيضاً جيوشه، وسيرها إليهم، فانهزم عسكر علي تكين، وكان قد ولد السلطان ألب أرسلان بن داود أول محرم سنة عشرين وأربعمائة قبل الحرب، فتبركوا به، وتيمنوا بطلعته، وقيل في مولده غير ذلك.
فلما كان سنة إحدى وعشرين قصد طغرلبك وداود ألب قرا الذي قتل يوسف ابن عمهما، فقتلاه، وأوقعا بطائفة من عسكر علي تكين، فقتلا منها نحو ألف رجل، فجمع علي تكين عسكره وقصدهم هو وأولاده ومن حمل السلاح من أصحابه، وتبعهم من أهل البلاد خلق كثير، فقصدوهم من كل جانب، وأوقعوا بهم وقعة عظيمة قتل فيها كثير من عساكر السلجوقية، وأخذت أموالهم وأولادهم، وسبوا كثيراً من نسائهم وذراريهم، فألجأتهم الضرورة إلى العبور إلى خراسان.
فلما عبروا جيحون كتب إليهم خوارزمشاه هارون بن التونتاش يستدعيهم ليتفقوا معه، وتكون أيديهم واحدة. فسار طغرلبك وأخواه داود وبيغو إليه، وخيموا بظاهر خوارزم سنة ست وعشرين ووثقوا به واطمأنوا إليه، فغدر بهم، فوضع عليهم الأمير شاهملك، فكبسهم، ومعه عسكر من هارون، فأكثر القتل فيهم والنهب والسبي، وارتكب من الغدر خطة شنيعة، فساروا عن خوارزم بجموعهم إلى مفازة نسا، قصدوا مرو في هذه السنة أيضاً، ولم يتعرضوا لأحد بشر، وبقي أولادهم وذراريهم في الأسر.
وكان الملك مسعود بن محمود بن سبكتكين هذه السنة بطبرستان قد ملكها، كما ذكرناه، فراسلوه وطلبوا منه الأمان، وضمنوا أنهم يقصدون الطائفة التي تفسد في بلاده، ويدفعونهم عنها، ويقاتلونهم، ويكونون من أعظم أعوانه وعلى غيرهم. فقبض على الرسل وجهز عسكراً جراراً إليهممع ايلتغدي حاجبه، وغيرهم من الأمراء الأكابر، فساروا إليهم، والتقوا عند نسا في شعبان من السنة، واقتتلوا، وعظم الأمر، وانهزم السلجوقية، وغنمت أموالهم، فجرى بين عسكر مسعود منازعة في الغنيمة أدت إلى القتال.
واتفق في تلك الحال أن السلجوقية لما انهزموا قال لهم داود: إن العسكر الآن قد نزلوا، واطمأنوا، وأمنوا الطلب، والرأي أن نقصدهم لعلنا نبلغ منهم غرضاً. فعادوا فوصلوا إليهم وهم على تلك الحال من الاختلاف، وقتال بعضهم بعضاً، فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم وأسروا، واستردوا ما أخذوا من أموالهم ورجالهم، وعاد المنهزمون من العسكر إلى الملك مسعود، وهو بنيسابور، فندم على رده طاعتهم، وعلم أن هيبتهم قد تمكنت من قلوب عساكره، وأنهم قد طمعوا بهذه الهزيمة، وتجرأوا على قتال العساكر السلطانية بعد الخوف الشديد، وخاف من أخوات هذه الحادثة، فأرسل إليهم يتهددهم ويتوعدهم، فقال طغرلبك لإمام صلاته: اكتب إلى السلطان " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير " ، ولا تزد على هذا.

فكتب ما قال، فلما ورد الكتاب على مسعود أمر فكتب إليهم كتاب مملوء من المواعيد الجميلة، وسير معه الخلع النفيسة، وأمرهم بالرحيل إلى آمل الشط، وهي مدينة على جيحون، ونهاهم عن الشر والفساد، وأقطع دهستان لداود، ونسا لطغرلبك، وفراوة لبيغو، ولقب مل واحد منهم بالدهقان. فاستخفوا بالرسول والخلع، وقالوا للرسول: لو علمنا أن السلطان يبقي علينا، إذا قدر، لأطعناه، ولكنا نعلم أنه متى ظفر بنا أهلكنا لما عملناه وأسلفناه، فنحن لا نطيعه، ولا نثق به. وأفسدوا، ثم كفوا، وتركوا ذلك، فقالوا: إن كان لنا قدرة على الانتصاف من السلطان، وإلا فلا حاجة بنا إلى إهلاك العالم، ونهب أموالهم، وأرسلوا إلى مسعود يخادعونه بإظهار الطاعة له، والكف عن الشر، ويسألونه أن يطلق عمهم أرسلان بن سلجوق من الحبس، فأجابهم إلى ذلك، فأحضره عنده ببلخ، وأمره بمراسلة بني أخيه بيغو، وطغرلبك، وداود يأمرهم بالاستقامة، والكف عن الشر، فأرسل إليهم رسولاً يأمرهم بذلك، وأرسل معه إشفى، وأمره بتسليمه إليهم، فلما وصل الرسول وأدى الرسالة وسلم إليهم الإشفى نفروا واستوحشوا، وعادوا إلى أمرهم الأول في الغارة والشر، فأعاده مسعود إلى محبسه، وسار إلى غزنة، فقصد السلجوقية بلخ ونيسابور وطوس وجوزجان، على ما ذكرناه.
وأقام داود بمدينة مرو، وانهزمت عساكر السلطان مسعود منهم مرة بعد مرة، واستولى الرعب على أصحابه، لاسيما مع بعده إلى غزنة، فتوالت كتب نوابه وعماله إليه يستغيثون به، ويشكون إليه، ويذكرون ما يفعل السلجوقية في البلاد، وهو لا يجيبهم، ولا يتوجه إليهم، وأعرض عن خراسان والسلجوقية، واشتغل بأمور بلاد الهند.
فلما اشتد أمره بخراسان وعظمت حالهم اجتمع وزراء مسعود وأرباب الرأي في دولته، وقالوا له: إن قلة المبالاة بخراسان من أعظم سعادة السلجوقية، وبها يملكون البلاد، ويستقيم لهم الملك، ونحن نعلم، وكل عاقل، أنهم إذا تركوا على هذه الحال استولوا على خراسان سريعاً، ثم ساروا منها إلى غزنة، وحينئذ لا ينفعنا حركاتنا، ولا نتمكن من البطالة والاشتغال باللعب واللهو والطرب. فاستيقظ من رقدته، وأبصر رشده بعد غفلته، وجهز العساكر الكثيرة مع أكبر أمير عنده يعرف بسباشي، وكان حاجبه، وقد سيره قبل إلى الغز العراقية، وقد تقدم ذكر ذلك، وسير معه أميراً كبيراً اسمه مرداويج ابن بشو.
وكان سباشي جباناً، فأقام بهراة ونيسابور، ثم أغار بغتة على مرو، وبها داود، فسار مجداً، فوصل إليها في ثلاثة أيام، فأصاب جيوشه ودوابه التعب والكلال، فانهزم داود بين يديه، ولحقه العسكر، فحمل عليه صاحب جوزجان، فقاتله داود، فقتل صاحب جوزجان وانهزمت عساكره، فعظم قتله على سباشي وكل من معه، ووقعت عليهم الذلة، وقويت نفوس السلجوقية، وزاد طمعهم.
وعاد داود إلى مرو، فأحسن السيرة في أهلها، وخطب له فيها أول جمعة في رجب سنة ثمان وعشرين واربعمائة، ولقب في الخطبة بملك الملوك، وسباشي يمادي الأيام، ويرحل من منزل إلى منزل، والسلجوقية يراوغونه مراوغة الثعلب، فقيل إنه كان يفعل ذلك جبناً وخوراً، وقيل بل راسله السلجوقية واستمالوه ورغبوه، فنفس عنهم، وتراخى في تتبعهم، والله أعلم.
ولما طال مقام سباشي وعساكره والسلجوقية بخراسان، والبلاد منهوبة، والدماء مسفوكة، قلت الميرة والأقوات على العساكر خاصة. فأما السلجوقية فلا يبالون بذلك لأنهم يقنعون بالقليل، فاضطر سباشي إلى مباشرة الحرب وترك المحاجزة، فسار إلى داود، وتقدم داود إليه، فالتقوا في شعبان سنة ثمان وعشرين على باب سرخس. ولداود منجم يقال له الصومعي، فأشار على داود بالقتال، وضمن له الظفر، وأشهد على نفسه انه إن أخطأ فدمه مباح له، فاقتتل العسكران، فلم يثبت عسكر سباشي وانهزموا أقبح هزيمة، وساروا أخزى مسير إلى هراة، فتبعهم داود وعسكره إلى طوس يأخذونهم باليد، وكفوا عن القتل، وغنموا أموالهم، فكانت هذه الوقعة هي التي ملك السلجوقية بعدها خراسان، ودخلوا قصبات البلاد، فدخل طغرلبك نيسابور، وسكن الشاذياخ، وخطب له فيها في شعبان بالسلطان المعظم، وفرقوا النواب في النواحي.

وسار داود إلى هراة، ففارقها سباشي ومضى إلى غزنة، فعاتبه مسعود وحجبه، وقال له: ضيعت العساكر وطاولت الأيام، حتى قوي أمر العدو وصفا لهم مشربهم، وتمكنوا من البلاد ما أرادوا، فاعتذر بأن القوم تفرقوا ثلاث فرق كلما تبعت فرقة سارت بين يدي، وخلفي الفريقان في البلاد يفعلون ما أرادوا، فاضطر مسعود إلى المسير إلى خراسان، فجمع العساكر وفرق فيهم الأموال العظيمة، وسار عن غزنة في جيوش يضيق بها الفضاء، ومعه من الفيلة عدد كثير، فوصل إلى بلخ وقصده داود إليها أيضاً، ونزل قريباً منها، فدخلها يوماً جريدة في طائفة يسيره على حين غفلة من العساكر، فأخذ الفيل الكبير الذي على باب دار الملك مسعود، وأخذ معه عدة جنائب، فعظم قدره في النفوس، وازداد العسكر هيبة له.
ثم سار مسعود من بلخ أول شهر رمضان سنة تسع وعشرين وأربعمائة، ومعه مائة ألف فارس سوى الأتباع، وسار على جوزجان، فأخذ واليها الذي كان بها للسلجوقية، فصلبه وسار منها فوصل إلى مرو الشاهجان، وسار داود إلى سرخس، واجتمع هو وأخوه طغرلبك وبيغو، فأرسل مضمون رسالته: إنا لا نثق بمصالحتك، بعد ما فعلنا هذه الأفعال التي سخطتها كل فعل منها موبق مهلك، وآيسوه من الصلح، فسار مسعود من مرو إلى هراة، وقصد داود مرو، فامتنع أهلها عليه، فحصرها سبعة أشهر، وضيق عليهم، وألح في قتالهم فملكها.
فلما سمع مسعود هذا الخبر سقط في يده، وسار من هراة إلى نيسابور، ثم منها إلى سرخس، وكلما تبع السلجوقية إلى مكان ساروا منه إلى غيره، ولم يزل كذلك، فأدركهم الشتاء، فأقاموا بنيسابور ينتظرون الربيع. فلما جاء الربيع كان الملك مسعود مشغولاً بلهوه وشربه، فتقضى الربيع والأمر كذلك، فلما جاء الصيف عاتبه وزراؤه وخواصه على إهماله أمر عدوه، فسار من نيسابور إلى مرو يطلب السلجوقية، فدخلوا البرية، فدخلها وراءهم مرحلتين والعسكر الذي له قد ضجروا من طول سفرهم وبيكارهم، وسئموا الشد والترحل، فإنهم كان لهم في السفر نحو ثلاث سنين، بعضها مع سباشي، وبعضها مع الملك مسعود، فلما دخلوا البرية نزل منزلاً قليل الماء، والحر شديد، فلم يكف الماء للسلطان وحواشيه.
وكان داود في معظم السلجوقية بإزائه، وغيره من عشرته مقابل ساقة عساكره، يتخطفون من تخلف منهم. فاتفق لما يريده الله تعالى أن حواشي مسعود اختصموا هم وجمع من العسكر على الماء وازدحموا، وجرى بينهم فتنة، حتى صار بعضهم يقاتل بعضاً، وبعضهم نهب بعضاً، فاستوحش لذلك أمر العسكر، ومشى بعضهم إلى بعض في التخلي عن مسعود، فعلم داود ما هم فيه من الاختلاف، فتقدم إليهم وحمل عليهم، وهم في ذلك التنازع، والقتال، والنهب، فولوا منهزمين لا يلوي أول على آخر، وكثر القتل فيهم، والسلطان مسعود ووزيره يناديانهم، ويأمرانهم بالعود، فلا يرجعون، وتمت الهزيمة على العسكر، وثبت مسعود، فقيل له: ما تنتظر وقد فارقك أصحابك، وأنت في برية مهلكة، وبين يديك عدو، وخلفك عدو، ولا وجه للمقام. فمضى منهزماً ومعه نحو مائة فارس، فتبعه فارس من السلجوقية، فعطف عليه مسعود فقتله، وصار لا يقف على شيء، حتى أتى غرشستان.
وأما السلجوقية فإنهم غنموا من العسكر المسعودي ما لا يدخل تحت الإحصاء، وقسمه داود على أصحابه، وآثرهم على نفسه، ونزل في سرادق مسعود، وقعد على كرسيه، ولم ينزل عسكره ثلاثة أيام عن ظهور دوابهم لا يفارقونها إلا لما لا بد لهم منه من مأكول ومشروب وغير ذلك، خوفاً من عود العسكر، وأطلق الأسرى، وأطلق خراج سنة كاملة، وسار طغرلبك إلى نيسابور، فملكها ودخل إليها آخر سنة إحدى وثلاثين وأول سنة اثنتين وثلاثين، ونهب أصحابه الناس، فقيل عنه إنه رأى لوزينجاً فأكله وقال: هذا قطماج طيب، إلا أنه لا ثوم فيه، ورأى الغز الكافور فظنوه ملحاً، وقالوا: هذا ملح مر، ونقل عنهم أشياء من هذا كثير.
وكان العيارون قد عظم ضررهم، واشتد أمرهم، وزادت البلية بهم على أهل نيسابور، فهم ينهبون الأموال، ويقتلون النفوس، ويرتكبون الفروج الحرام، ويفعلون كل ما يريدونه لا يردعهم عن ذلك رادع، ولا يزجرهم زاجر، فلما دخل طغرلبك البلد خافه العيارون، وكفوا عما كانوا يفعلونه، وسكن الناس واطمأنوا.

واستولى السلجوقية حينئذ على جميع البلاد، فسار بيغو إلى هراة فدخلها، وسار داود إلى بلخ، وبها التونتاق الحاجب والياً عليها لمسعود، فأرسل إليه داود بطلب منه تسليم البلد إليه، ويعرفه عجز صاحبه عن نصرته، فسجن التونتاق الرسل، فنازله داود، وحصر المدينة، فأرسل التونتاق إلى مسعود وهو بغزنة، يعرفه الحال وما هو فيه من ضيق الحصار، فجهز مسعود العساكر الكثيرة وسيرها، فجاءت طائفة منهم إلى الرخح، وبها جمع من السلجوقية، فقاتلوهم، فانهزم السلجوقية وقتل منهم ثمانمائة رجل، وأسر كثير، وخلا ذلك الصقع منهم.
وسار طائفة منهم إلى هراة، وبها بيغو، فقاتلوه ودفعوه عنها، ثم إن مسعوداً سير ولده مودوداً في عسكر كثير مدداً لهذهالعساكر، فقتل مسعود وهو بخراسان، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فساروا عن غزنة سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فلما قاربوا بلخ سير داود طائفة من عسكره، فأوقعوا بطلائع مودود، وانهزمت الطلائع، وتبعهم عسكر داود، فلما أحس به معسكر مودود رجعوا إلى ورائهم، وأقاموا، فلما سمع التونتاق صلحب بلخ الخبر أطاع داود، وسلم إليه البلد، ووطيء بساطه.
ذكر قبض السلطان مسعود

وقتله وملك أخيه محمد
قد ذكرنا عود مسعود بن محمود بن سبكتكين إلى غزنة من خراسان، فوصلها في شوال سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة ، وقبض على سباشي وغيره من الأمراء، كما ذكرناه، وأثبت غيرهم، وسير ولده مودوداً إلى خراسان في جيش كثيف ليمنع السلجوقية عنها، فسار مودود إلى بلخ ليرد عنها داود أخا طغرلبك، وجعل أبوه مسعود مع وزيره أبا نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد يدبر الأمور، وكان مسيرهم من غزنة في ربيع الأول سنة اثنتين وثلاثين.
وسار مسعود بعدهم بسبعة أيام يريد بلاد الهند ليشتوا بها، على عادة والده، فلما سار أخذ معه أخاه محمداً مسمولاً، واستصحب الخزائن، وكان عازماً على الاستنجاد بالهند على قتال السلجوقية ثقة بعهودهم. فلما عبر سيحون، وهو نهر كبير، نحو دجلة، وعبر بعض الخزائن اجتمع أنوشتكين البلخي وجمع من الغلمان الدارية ونهبوا ما تخلف من الخزانة، وأقاموا أخاه محمداً ثالث عشر ربيع الآخر، وسلموا عليه بالإمارة، فامتنع من قبول ذلك، فتهددوه وأكرهوه، فأجاب وبقي مسعود فيمن معه من العسكر وحفظ نفسه، فالتقى الجمعان منتصف ربيع الآخر، فاقتتلوا، وعظم الخطب على الطائفتين، ثم انهزم عسكر مسعود، وتحصن هو في رباط ماريكلة، فحصره أخوه، فامتنع عليه، فقالت له أمه: إن مكانك لا يعصمك، ولأن تخرج إليهم بعهد خير من أن يأخوك قهراً. فخرج إليهم، فقبضوا عليه، فقال له أخوه محمد: والله لا قابلتك على فعلك بي، ولا عاملتك إلا بالجميل، فانظر أين تريد أن تقيم حتى أحملك إليه ومعك أولادك وحرمك. فاختار قلعة كيكي، فأنفذه إليها محفوظاً، وأمر بإكرامه وصيانته.
وأرسل مسعود إلى أخيه يطلب منه مالاً ينفقه، فأنفذ له خمسمائة درهم، فبكى مسعود وقال: كان بالأمس حكمي على ثلاثة آلاف حمل من الخزائن، واليوم لا أملك الدرهم الفرد، فأعطاه الرسول من ماله ألف دينار فقبلها، وكانت سبب سعادة الرسول، لأنه لما ملك مودود بن مسعود بالغ في الإحسان إليه.
ثم إن محمداً فوض أمر دولته إلى ولده أحمد، وكان فيه خبط وهوج، فاتفق هو وابن عمه يوسف بن سبكتكين وابن علي خويشاوند على قتل مسعود ليصفو الملك له ولوالده، فدخل إلى أبيه، فطلب خاتمه ليختم به بعض الخزائن، فأعطاه، فسار به إلى القلعة، وأعطوا الخاتم لمستحفظها، وقالوا: معنا رسالة إلى مسعود، فأدخلهم إليه فقتلوه، فلما علم محمد بذلك ساءه، وشق عليه، وأنكره.
وقيل إن مسعوداً لما حبس دخل عليه ولدا أخيه محمد، واسم أحدهما عبد الرحمن، والآخر عبد الرحيم، فمد عبد الرحمن يده فأخذ القلنسوة من رأس عمه مسعود، فمد عبد الرحيم يده وأخذ القلنسوة من أخيه، وأنكر عليه ذلك، وسبه، وقبلها، وتركها على رأس عمه، فنجا بذلك عبد الرحيم من القتل والأسر لما ملك مودود بن مسعود، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ثم إن محمداً أغراه ولده أحمد بقتل عمه مسعود، فأمر بذلك، وأرسل إليه من قتله وألقاه في بئر وسد رأسها، وقيل بلى ألقي في بئر حياً وسد رأسها فمات، والله أعلم.

فلما مات كتب محمد إلى ابن أخيه مودود، وهو بخراسان، يقول: إن والدك قتل قصاصاً، قتله أولاد أحمد ينالتكين بلا رضا مني، فأجاب مودود يقول: أطال الله بقاء الأمير العم، ورزق ولده المعتوه أحمد عقلاً يعيش به، فقد ركب أمراً عظيماً، وأقدم على إراقة دم ملك مثل والدي الذي لقبه أمير المؤمنين سيد الملوك والسلاطين، وستعلمون في أي حتف تورطتم، وأي شر تأبطتم " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " .
نفلق هاماً من رجال أعزة ... علينا، وهم كانوا أعق وأظلما
وطمع جند محمد فيه، وزالت عنهم هيبته، فمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا فنهبوها، فخربت البلاد، وجلا أهلها، لاسيما مدينة برشاوور فإنها هلك أهلها، ونهبت أموالهم، وكان المملوك بها يباع بدينار، وتباع الخمر كل منا بدينار، ثم رحل محمد عنها لليلتين بقيتا من رجب، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان السلطان مسعود شجاعاً كريماً، ذا فضائل كثيرة، محباً للعلماء، كثير الإحسان إليهم، والتقرب لهم، صنفوا له التصانيف الكثيرة في فنون العلوم، وكان كثير الصدقة والإحسان إلى أهل الحاجة، تصدق مرة في شهر رمضان بألف ألف درهم، وأكثر الإدرارات والصلاة، وعمر كثيراً من المساجد في ممالكه، وكانت صنائعه ظاهرة مشهورة، تسير بها الركبان مع عفة عن أموال رعاياه، وأجاز الشعراء بجوائز عظيمة، أعطى شامراً على قصيدته ألف دينار، وأعطى آخر بكل بيت ألف درهم، وكان يكتب خطاً حسناً، وكان ملكه عظيماً، فسيحاً، ملك أصبهان والري وهمذان وما يليها من البلاد، وملك طبرستان وجرجان وخراسان وخوارزم وبلاد الروان وكرمان وسجستان والسند والرخج وغزنة، وبلاد الغور والهند، وملك كثيراً منها، وأطاعه أهل البر والبحر، ومناقبه كثيرة، وقد صنفت فيها التصانيف المشهورة، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها.
ذكر ملك مودود بن مسعود

وقتله عمه محمدا
ً
لما قتل الملك مسعود وصل الخبر إلى ابنه مودود، وهو بخراسان، فعاد مجداً في عساكره إلى غزنة فتصاف هو وعمه محمد في ثالث شعبان، فانهزم محمد وعسكره وقبض عليه وعلى ولده أحمد، وأنوشتكين الخصي البلخي، وابن علي خويشاوند، فقتلهم، وقتل أولاد عمه جميعهم، إلا عبد الرحيم لإنكاره على أخيه عبد الرحمن ما فعله بعمه مسعود، وبنى موضع الوقعة قرية ورباطاً، وسماها فتح آباذ، وقتل كل من له في القبض على والده صنع، وعاد إلى غزنة فدخلها في ثالث وعشرين شعبان سنة اثنتين وثلاثين، واستوزر أبا نصر وزير أبيه، وأظهر العدل وحسن السيرة، وسلك سيرة جده محمود.
وكان داود أخو طغرلبك قد ملك مدينة بلخ، واستباحها، كما ذكرناه، ومودود مقابله، فتجدد قتل مسعود، فعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، فلما تجدد هذا الظفر لمودود ثار أهل هراة بمن عندهم من الغز السلجوقية، فأخرجوهم وحفظوها لمودود، واستقر الأمر لمودود بغزنة، ولم يبق له هم إلا أمر أخيه مجدود، فإن أباه قد سيره إلى الهند سنة ست وعشرين، فخاف أن يخالف عليه، فأتاه خبره أنه قصد لهاوور، وملتان، فملكهما، وأخذ الأموال، وجمع بها العساكر، وأظهر الخلاف على أخيه، فندب إليد مودود جيشاً ليمنعوه ويقاتلوه، وعرض مجدود عسكره للمسير، وحضر عيد الأضحى، فبقي بعده ثلاثة أيام، وأصبح ميتاً بلهاوور لا يدري كيف كان موته، وأطاعت البلاد بأسرها مودوداً، ورست قدمه، وثبت ملكه، ولما سمعت الغز السلجوقية ذلك خافوه، واستشعروا منه، وراسله ملك الترك بما وراء النهر بالانقياد والمتابعة.
ذكر الخلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصلفي هذه السنة اختلف جلال الدولة، ملك العراق، وقرواش بن المقلد العقيلي، صاحب الموصل.
وكان سبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنفذ عسكراً سنة إحدى وثلاثين فحصروا خميس بن ثعلب بتكريت، وجرى بين الطائفتين حرب شديدة في ذي القعدة منها، فأرسل خميس ولده إلى الملك جلال الدولة، وبذل بذولاً كثيرة ليكف عنه قرواشاً، فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى قرواش يأمره بالكف عنه، فغالط ولم يفعل، وسار بنفسه ونزل عليه يحاصره، فتأثر جلال الدولة منه.

ثم إنه أرسل كتباً إلى الأتراك ببغداد يفسدهم، وأشار عليهم بالشغب على الملك وإثارة الفتنة معه، فوصل خبرها إلى جلال الدولة، وأشياء أخر كانت هذه هي الأصل، فأرسل جلال الدولة أبا الحارث أرسلان البساسيري في صفر من سنة اثنتين وثلاثين ليقبض على نائب قرواش بالسندية، فسار ومعه جماعة من الأتراك، وتبعه جمع من العرب، فرأى في طريقه جمالاً لبني عيسى، فتسرع إليها الأتراك والعرب فأخذوا منها قطعة، وأوغل الأتراك في الطلب.
وبلغ الخبر إلى العرب، وركبوا وتبعوا الأتراك، وجرى بين الطائفتين حرب انهزم فيها الأتراك، وأسر منهم جماعة، وعاد المنهزمون فأخبروا البساسيري بكثرة العرب، فعاد ولم يصل إلى مقصده.
وسار طائفة من بني عيسى، فكمنوا بين صرصر وبغداد ليفسدوا في السواد، فاتفق أن وصل بعض أكابر القواد الأتراك، فخرجوا عليه فقتلوه وجماعة من أصحابه، وحملوا إلى بغداد، فارتج البلد، واستحكمت الوحشة مع معتمد الدولة قرواش، فجمع جلال الدولة العساكر وسار إلى الأنبار، وهي لقرواش، على عزم أخذها منه، وغيرها من أقطاعه بالعراق، فلما وصلوا إلى الأنبار أغلقت، وقاتلهم أصحاب قرواش، وسار قرواش من تكريت إلى خصة على عزم القتال، فلما نزل الملك جلال الدولة على الأنبار قلت عليهم العلوفة، فسار جماعة من العسكر والعرب إلى الحديثة ليمتاروا منها، فخرج عليهم عندها جمع كثير من العرب، فأوقعوا بهم، فانهزم بعضهم وعادوا إلى العسكر، ونهبت العرب ما معهم من الدواب التي تحمل الميرة، وبقي المرشد أبو الوفاء وهو المقدم على العسكر الذين ساروا لإحضار الميرة وثبت معه جماعة.
ووصل الخبر إلى جلال الدولة أن المرشد أبا الوفاء يقاتل، وأخبر سلامته وصبره للعرب، وأنهم يقاتلونه وهو يطلب النجدة، فسار الملك إليه بعسكر، فوصلوا، وقد عجز العرب عن الوصول إليه، وعادوا عنه بعد أن حملوا عليه وعلى من معه عدة حملات صبر لها في قلة من معه. ثم اختلف عقيل على قرواش، فراسل جلال الدولة، وطلب رضاه، وبذل له بذلاً أصلحه به، وعاد إلى طاعته، فتحالفا، وعاد كل إلى مكانه.
ذكر ملك أبي الشوك دقوقاكانت دقوقا لأبي الماجد المهلهل بن محمد بن عناز، فسير إليها أخوه حسام الدولة أبو الشوك ولده سعدي، فحصرها، فقاتله من بها.
ثم سار أبو الشوك إليها، فجد في حصارها ونقب سورها ودخلها عنوة، ونهب أصحابه بعض البلد، وأخذوا سلاح الأكراد وثيابهم، وأقام حسام الدولة بالبلد ليلة، وعاد خوفاً على البندنيجين وحلوان، فإن أخاه سرخاب ابن محمد بن عناز كان قد أغار على عدة مواضع من ولايته، وحالف أبا الفتح ابن ورام والجاوانية عليه ، فأشفق من ذلك، وأرسل إلى جلالة الدولة يطلبمنه نجدة، فسير إليه عسكراً امتنع بهم.
ذكر الحرب بين عسكر مصر والرومفي هذه السنة كانت الوقعة بين عسكر المصريين سيره الدزبري وبين الروم، فظفر المسلمون.
وكان سبب ذلك أن ملك الروم قد هادنه المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، على ما ذكرناه. فلما كان الآن شرع يراسل ابن صالح بن مرداس ويستميله، وراسله قبله صالح ليتقوى به على الدزبري، خوفاً أن يأخذ منه الرقة، فبلغ ذلك الدزبري فتهدد ابن صالح فاعتذر وجحد.
ثم إن جمعاً من بني جعفر بن كلاب دخلوا ولاية أفامية، فعاثوا فيها، ونهبوا عدة قرى، فخرج عليهم جمع من الروم فقاتلوهم وأوقعوا بهم، ونكلوا فيهم، وأزالوهم عن بلادهم.
وبلغ ذلك الناظر بحلب، فأخرج من بها من تجار الفرنج، وأرسل إلى المتولي بأنطاكية يأمره بإخراج من عندهم من تجار المسلمين، فأغلظ للرسول، وأراد قتله، ثم تركه، فأرسل الناظر بحلب إلى الدزبري يعرفه الحال، وأن القوم على التجهز لقصد البلاد، فجهز الدزبري جيشاً وسيره على مقدمته، فاتفق أنهم لقوا جيشاً للروم وقد خرجوا لمثل ما خرج إليه هؤلاء، والتقى الفريقان بين مدينة حماة وأفامية واشتد القتال بينهم، ثم إن الله نصر المسلمين، وأذل الكافرين، فانهزموا وقتل منهم عدة كثيرة، وأسر ابن عم للملك، بذلوا في فدائه مالاً جزيلاً، وعدة وافرة من أسراء المسلمين، وانكف الروم عن الأذى بعدها.
ذكر الخلف بين المعز وبني حماد

في هذه السنة خالف أولاد حماد على المعز بن باديس، صاحب إفريقية، وعادوا إلى ما كانوا عليه من العصيان والخلاف عليه، فسار إليه المعز، وجمع العساكر وحشدها، وحصر قلعتهم المعروفة بقلعة حماد، وضيق عليهم، وأقام عليهم نحو سنتين.
ذكر صلح أبي الشوك وعلاء الدولةوفيها سار مهلهل أخو أبي الشوك إلى علاء الدولة بن كاكويه، واستصرخه، واستعان به على أخيه أبي الشوك، فسار معه، فلما بلغ قرميسين رجع أبو الشوك إلى حلوان، فعرف علاء الدولة رجوعه، فسار يتبعه، حتى بلغ المرج، وقرب من أبي الشوك، فعزم أبو الشوك على قصد قلعة السيروان والتحصن بها، ثم تجلد، وأرسل إلى علاء الدولة: إنني لم أنصرف من بين يديك إلا مراقبة لك، وإعظاماً لقدرك، واستعطافاً لك، فإذا اضطررتني إلى ما لا أجد بداً منه كان الغدر قائماً لي فيه، فإن ظفرت بك طمع فيك الأعداء، وإن ظفرت بي سلمت قلاعي وبلادي إلى الملك جلال الدولة. فأجابه علاء الدولة إلى الصلح على أن يكون له الدينور، وعاد فلحقه المرض في طريقه وتوفي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كان بإفريقية غلاء شديد، وسببه عدم الأمطار، فسميت سنة الغبار، ودام ذلك إلى سنة أربع وثلاثين، فخرج الناس فاستسقوا.
وفيها توفي أمير الغز العراقية بالري، ودفن بناحية من أعمالها.
وفيها توفي صاعد بن محمد أبو العلاء النيسابوري ثم الاستوائي، قاضي نيسابور، وكان عالماً فقيهاً، حنفياً، انتهت إليه رئاسة الحنفية بخراسان.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة

ذكر وفاة علاء الدولة بن كاكويه
في هذه السنة، في المحرم، توفي علاء الدولة أبو جعفر بن دشمنزيار، المعروف بابن كاكويه، بعد عوده من بلد أبي الشوك، وإنما قيل له كاكويه لأنه ابن خال مجد الدولة بن بويه، والخال بلغتهم كاكويه، وقام بأصبهان ابنه ظهير الدين أبو منصور فرامرز مقامه، وهو أكبر أولاده، وأطاعه الجند بها، فسار ولده أبو كاليجار كرشاسف إلى نهاوند، فأقام بها وحفظها، وضبط أعمال الجبل، وأخذها لنفسه، فأمسك عنه أخوه أبو منصور فرامرز.
ثم إن مستحفظاً لعلاء الدولة بقلعة نطنز أرسل أبو منصور إليه يطلب شيئاً مما عنده من الأموال والذخائر، فامتنع وأظهر العصيان، فسار إليه أبو منصور، وأخوه الأصغر أبو حرب، ليأخذ القلعة منه كيف أمكن، فصعد أبو حرب إليها، ووافق المستحفظ على العصيان، فعاد أبو منصور إلى أصبهان، وأرسل أبو حرب إلى الغز السلجوقية بالري يستنجدهم، فسار طائفة منهم إلى قاجان، فدخلوها ونهبوها وسلموها إلى أبي حرب وعادوا إلى الري، فسير إليها أبو منصور عسكراً ليستنقذها من أخيه، فجمع أبو حرب الأكراد وغيرهم، وجعل عليهم صاحباً له وسيرهم إلى أصبهان ليملكوها بزعمه، فسير إليهم أخوه أبو منصور عسكراً، فالتقوا، وانهزم عسكر أبي حرب وأسر جماعة منهم.
وتقدم أصحاب أبي منصور فحصروا أبا حرب، فلما رأى الحال، وخاف، نزل منها متخفياً، وسار إلى شيراز إلى الملك أبي كاليجار، صاحب فارس والعراق، فحسن له قصد أصبهان وأخذها من أخيه، فسار الملك إليها وحصرها، وبها الأمير أبو منصور، فامتنع عليه، وجرى بين الفريقين عدة وقائع، وكان آخر الأمر الصلح على أن يبقى أبو منصور بأصبهان، وتقرر عليه مال، وعاد أبو حرب إلى قلعة نطنز واشتد الحصار عليه، فأرسل إلى أخيه يطلب المصالحة، فاصطلحا على أن يعطي أخاه بعض ما في القلعة، ويبقى بها على حاله.
ثم إن إبراهيم ينال خرج إلى الري، على ما نذكره، وأرسل إلى أبي منصور فرامرز يطلب منه الموادعة، فلم يجبه، وسار فرامرز إلى همذان وبروجرد فملكهما، ثم اصطلح هو وأخوه كرشاسف، وأقطعه همذان، وخطب لأبي منصور على منابر بلاد كرشاسف، واتفقت كلمتهما، وكان المدبر لأمرهما الكيا أبو الفتح الحسن بن عبد الله، وهو الذي سعى في جمع كلمتهما.
ذكر ملك طغرلبك جرجان وطبرستان

في هذه السنة ملك طغرلبك جرجان وطبرستان، وسبب ذلك أن أنوشروان ابن منوجهر بن قابوس بن وشمكير صاحبها قبض على أبي كاليجار بن ويهان القوهي، صاحب جيشه، وزوج أمه بمساعدة أمه عليه، فعلم حينئذ طغرلبك أن البلاد لا مانع له عنها، فسار إليها، وقصد جرجان ومعه مرداويج بن بسو، فلما نازلها فتح له المقيم بها، فدخلها وقرر على أهلها مائة ألف دينار صلحاً، وسلمها إلى مرداويج بن بسو، وقرر عليه خمسين ألف دينار كل سنة عن جميع الأعمال، وعاد إلى نيسابور.
وقصد مرداويج أنوشروان بسارية، وكان بها، فاصطلحا على أن ضمن أنوشروان له ثلاثين ألف دينار، وأقيمت الخطبة لطغرلبك في البلاد كلها، وتزوج مرداويج بوالدة أنوشروان، وبقي أنوشروان يتصرف بأمر مرداويجلا يخالفه في شيء البتة.
ذكر أحوال ملوك الرومنذكر هاهنا أحوال ملوك الروم من عهد بسيل إلى الآن، فنقول: من عادة ملوك الروم أن يركبوا أيام الأعياد إلى البيعة المخصوصة بذلك العيد، فإذا اجتاز الملك بالأسواق شاهده الناس وبأيديهم المداخن يبخرون فيها، فركب والد بسيل وقسطنطين في بعض الأعياد، وكان لبعض أكابر الروم بنت جميلة، فخرجت تشاهد الملك، فلما مر بها استحسنها، فأمر من يسأل عنها، فلما عرفها خطبها وتزوجها وأحبها، وولدت منه بسيل وقسطنطين، وتوفي وهما صغيران، فتزوجت بعده بمدة طويلة نقفور، فكره كل واحد منهما صاحبه، فعملت على قتله، فراسلت الشمشقيق في ذلك، فقصد قسطنطينية متخفياً، فأدخلته إلى دار الملك، واتفقا وقتلاه ليلاً، وأحضرت البطارقة متفرقين، وأعطتهم الأموال ودعتهم إلى تمليك الشمشقيق، ففعلوا، ولم يصبح، وقد فرغت مما تريد ولم يجر خلف.
وتزوجت الشمشقيق وأقامت معه سنة، فخافها، واحتال عليها وأخرجها إلى دير بعيد، وحمل ولديها معها، فأقامت فيه سنة، ثم أحضرت راهباً، ووهبته مالاً، وأمرته بقصد قسطنطينية، والمقام بكنيسة الملك، والاقتصار على قدر القوت، فإذا وثق به الملك، وأراد القربان من يده ليلة العيد، سقاه سماً، ففعل الراهب ذلك، فلما كان ليلة العيد سارت ومعها ولداها، ووصلت قسطنطينية في اليوم الذي توفي فيه الشمشقيق، فملك ولدها بسيل، ودبرت هي الأمر لصغره، فلما كبر بسيل قصد بلد البلغار، وتوفيت، وهو هناك، فبلغه وفاتها، فأمر خادماً له أن يدبر الأمور في غيبته.
ودام قتاله لبلغار أربعين سنة، فظفروا به فعاد مهزوماً، وأقام بالقسطنطينية يتجهز للعود، فعاد إليهم، فظفر بهم، وقتل ملكهم، وسبى أهله وأولاده، وملك بلاده، ونقل أهلها إلى الروم، وأسكن البلاد طائفة من الروم، وهؤلاء البلغار غير الطائفة المسلمة، فإن هؤلاء أقرب إلى بلد الروم من المسلمين بنحو شهرين، وكلاهما يسمى بلغار.
وكان بسيل عادلاً، حسن السيرة، ودام ملكه نيفاً وسبعين سنة، وتوفي ولم يخلف ولداً، فملك أخوه قسطنطين، وبقي إلى أن توفي، ولم يخلف غير ثلاث بنات، فملكت الكبرى، وتزوجت أرمانوس، وهو من أقارب الملك، وملكته، فبقي مدة، وهو الذي ملك الرها من المسلمين.
وكان لأرمانوس صاحب له يخدمه، قبل ملكه، من أولاد بعض الصيارف، اسمه ميخائيل، فلما ملك حكمه في داره، فمالت زوجة قسطنطين إليه، وعملا الحيلة في قتل أرمانوس، فمرض أرمانوس فأدخلاه إلى الحمام كارهاً وخنقاه، وأظهرا أنه مات في الحمام، وملكت زوجته ميخائيل، وتزوجته على كره من الروم.

وعرض لميخائيل صرع لازمه وشوه صورته، فعهد بالملك بعده إلى ابن أخت له اسمه ميخائيل أيضاً، فلما توفي ملك ابن أخته وأحسن السيرة، وقبض على أهل خاله وإخوته، وهم أخواله، وضرب الدنانير في هذه السنة، وهي سنة ثلاث وثلاثين، ثم أحضر زوجته بنت الملك وطلب منها أن تترهب وتنزع نفسها عن الملك، فأبت، فضربها وسيرها إلى جزيرة في البحر، ثم عزم على القبض على البطرك، والاستراحة من تحكمه عليه، فإنه كان لا يقدر على مخالفته، فطلب إليه أن يعمل له طعاماً في دير ذكره بظاهر القسطنطينية ليحضر عنده، فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى الدير ليعمل ما قال الملك، فأرسل الملك جماعة من الروس والبلغار، ووافقهم على قتله سراً، فقصدوه ليلاً وحصروه في الدير، فبذل لهم مالاً كثيراً، وخرج متخفياً، وقصد البيعة التي يسكنها، وضرب الناقوس، فاجتمع الروم عليه، ودعاهم إلى عزل الملك، فأجابوه إلى ذلك، وحصروا الملك في دار، فأرسل الملك إلى زوجته وأحضرها من الجزيرة التي نفاها إليها، ورغب في أن ترد عنه، فلم تفعل، وأخرجته إلى البيعة يترهب فيها.
ثم إن البطرك والروم نزعوا زوجته من الملك، وملكوا أختاً لها صغيرة، واسمها تذورة، وجعلوا معها خدم أبيها يدبرون الملك، وكحلوا ميخائيل، ووقعت الحرب بالقسطنطينية بين من يتعصب له وبين من يتعصب لتذورة والبطرك، فظفر أصحاب تذورة بهم، ونهبوا أموالهم.
ثم إن الروم افتقروا إلى ملك يدبرهم، فكتبوا أسماء جماعة يصلحون للملك في رقاع، ووضعوها في بنادق طين، وأمروا من يخرج منها بندقة، وهو لا يعرف باسم من فيها، فخرج اسم قسطنطين، فملكوه وتزوجته الملكة الكبيرة، واستنزلت أختها الصغيرة تذورة عن الملك بمال بذلته لها، واستقر في الملك سنة أربع وثلاثين، فخرج عليه فيها خارجي من الروم اسمه أرميناس، ودعا إلى نفسه فكثر جماعه حتى زادوا على عشرين ألفاً، فأهم قسطنطين أمره، وسير إليه جيشاً كثيفاً، فظفروا بالخارجي وقتلوه، وحملوا رأسه إلى القسطنطينية، وأسر من أعيان أصحابه مائة رجل، فشهروا في البلد، ثم أطلقوا وأعطوا نفقة، وأمروا بالانصراف إلى أي جهة أرادوا.
ذكر فاسد حال الدزبري بالشام وما صار الأمر إليه بالبلادفي هذه السنة فسد أمر أنوشتكين الدزبري، نائب المستنصر بالله، صاحب مصر، بالشام، وقد كان كبيراً على مخدومه بما يراه من تعظم الملوك له، وهيبة الروم منه.
وكان الوزير أبو القاسم الجرجرائي يقصده ويحسده، إلا أنه لا يجد طريقاً إلى الوقيعة فيه، ثم اتفق أنه سعي بكاتب للدزبري اسمه أبو سعد، وقيل عنه إنه يستميل صاحبه إلى غير جهة المصريين، فكوتب الدزبري بإبعاده، فلم يفعل، واستوحشوا منه، ووضع الجرجرائي حاجب الدزبري وغيره على مخالفته.
ثم إن جماعة من الأجناد قصدوا مصر، وشكوا إلى الجرجرائي منه، فعرفهم سوء رأيه فيه، وأعادهم إلى دمشق، وأمرهم بإفساد الجند عليه ففعلوا ذلك.
وأحس الدزبري بما يجري، فأظهر ما في نفسه، وأحضر نائب الجرجرائي عنده، وأمر بإهانته وضربه، ثم إنه أطلق لطائفة من العسكر يلزمون خدمته أرزاقهم، ومنع الباقين، فحرك ما في نفوسهم، وقوى طمعهم فيه، بما كوتبوا به من مصر، فأظهروا الشغب عليه، وقصدوا قصره، وهو بظاهر البلد، وتبعهم من العامة من يريد النهب، فاقتتلوا، فعلم الدزبري ضعفه وعجزه عنهم، ففارق مكانه، واستصحب أربعين غلاماً له، وما أمكنه من الدواب والأثاث والأموال، ونهب الباقي، وسار إلى بعلبك، فمنعه مستحفظها، وأخذ ما أمكنه أخذه من مال الدزبري، وتبعه طائفة من الجند يقفون أثره، وينهبون ما يقدرون عليه.
وسار إلى مدينة حماة، فمنع عنها، وقوتل، وكاتب المقلد الكناني الكفرطابي، واستدعاه، فأجابه، وحضر عنده في نحو ألفي رجل من كفرطاب وغيرها، فاحتمى به، وسار إلى حلب، ودخلها، وأقام بها مدة، وتوفي في منتصف جماى الأولى من هذه السنة.

فلما توفي فسد أمر بلاد الشام، وانتشرت الأمور بها، وزال النظام، وطمعت العرب، وخرجوا في نواحيه، فخرج حسان بن المفرج الطائي بفلسطين، وخرج معز الدولة بن صالح الكلابي بحلب، وقصدها وحصرها، وملك المدينة، وامتنع أصحاب الدزبري بالقلعة، وكتبوا إلى مصر يطلبون النجدة، فلم يفعلوا، واشتغل عساكر دمشق ومقدمهم الحسين بن أحمد الذي ولي أمر دمشق، بعد الدزبري، بحرب حسان، ووقع الموت في الذين في القلعة، فسلموها إلى معز الدولة بالأمان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة سير الملك أبو كاليجار من فارس عسكراً في البحر إلى عمان، وكان قد عصى من بها، فوصل العسكر إلى صحار مدينة عمان فملكوها، واستعادوا الخارجين عن الطاعة، واستقرت الأمور بها، وعادت العساكر إلى فارس.
وفيها قصد أبو نصر بن الهيثم الصليق من البطائح، فملكها ونهبها، ثم استقر أمرها على مال يؤديه إلى جلال الدولة.
وفيها توفي أبو منصور بهرام بن مافنة، وهو الملقب بالعادل، وزير الملك أبي كاليجار، ومولده سنة ست وستين وثلاثمائة، وكان حسن السيرة، وبنى دار الكتب بفيروزاباذ، وجعل فيها سبعة آلاف مجلد فلما مات وزر بعده مهذب الدولة أبو منصور هبة الله بن أحمد الفسوي.
وفيها وصل جماعة من البلغار إلى بغداد يريدون الحج، فأقيم لهم من الديوان الإقامات الوافرة، فسئل بعضهم: من أي الأمم هم البلغار؟ فقال: هم قوم تولدوا بين الترك والصقالبة، وبلدهم في أقصى الترك، وكانوا كفاراً، فأسلموا عن قريب، وهم على مذهب أبي حنيفة، رضي الله عنه.
وفيها توفي ميخائيل ملك الروم، وملك بعده ابن أخيه ميخائيل أيضاً.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي أبو الحسن محمد بن جعفر الجهرمي الشاعر، وهو القائل:
يا ويح قلبي من تقلبه ... أبداً يحن إلى معذبه
قالوا: كتمت هواه عن جلد ... لو أن لي رمقاً لبحت به
بأبي حبيباً غير مكترث ... عني، ويكثر من تعتبه
حسبي رضاه من الحياة، وما ... قلقي وموتي من تغضبه
وكان بينه وبين المطرز مهاجاة.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثين وأربعمائة

ذكر ملك طغرلبك مدينة خوارزم
قد تقدم أن خوارزم كانت من جملة مملكة محمود بن سبكتكين، فلما توفي وملك بعده ابنه مسعود كانت له، وكان فيها التونتاش، حاجب أبيه محمود، وهو من أكابر أمرائه، يتولاها لمحمود، ومسعود بعده، ولما كان مسعود مشغولاً بقصد أخيه محمد لأخذ الملك قصد الأمير علي تكين، صاحب ما وراء النهر، أطراف بلاده وشعثها، فلما فرغ مسعود من أمر أخيه واستقر الملك له كاتب التونتاش في سنة أربع وعشرين بقصد أعمال علي تكين، وأخذ بخارى وسمرقند، وأمده بجيش كثيف، فعبر جيحون، وفتح من بلاد علي تكين ما أراد وانحاز علي تكين من بين يديه.
وأقام التونتاش بالبلاد التي فتحها، فرأى دخلها لا يفي بما تحتاج عساكره لأنه كان يريد أن يكون في جمع كثير يمتنع بهم على الترك، فكاتب مسعوداً في ذلك واستأذنه في العود إلى خوارزم، فأذن له، فلما عاد لحقه علي تكين على غرة، وكبسه، فانهزم علي تكين، وصعد إلى قلعة دبوسية، فحصره التونتاش، وكاد يأخذه،! فراسله علي تكين واستعطفه وضرع إليه، فرحل عنه وعاد إلى خوارزم.
وأصاب التونتاش في هذه الوقعة جراحة، فلما عاد إلى خوارزم مرض منها وتوفي، وخلف من الأولاد ثلاثة بنين: هارون، ورشيد، وإسماعيل، فلما توفي ضبط البلد وزيره أبو نصر أحمد بن محمد بن عبد الصمد، وحفظ الخزائن وغيرها، وأعلم مسعوداً، فولى ابنه الكبر هارون خوارزم، وسيره إليها وكان عنده.
واتفق أن الميمندي، وزير مسعود، توفي، فاستحضر أبا نصر بن محمد ابن عبد الصمد واستوزره، فاستناب أبو نصر عند هارون ابنه عبد الجبار، وجعله وزيره، فجرى بينه وبين هارون منافرة أسرها هارون في نفسه، وحسن له أصحابه القبض على عبد الجبار، والعصيان على مسعود، فأظهر العصيان في شهر رمضان سنة خمس وعشرين، وأراد قتل عبد الجبار، فاختفى منه، فقال أعداء أبيه للملك مسعود: إن أبا نصر واطأ هارون على العصيان، وإنما اختفى ابنه حيلة ومكراً، فاستوحش منه إلا أنه لم يظهر ذلك له.

وعزم مسعود على الخروج من غزنة إلى خوارزم، فسار عن غزنة، والزمان شتاء، فلم يمكنه قصد خوارزم، فسار إلى جرجان طالباً أنوشروان بن منوجهر ليقابله على ما ظهر منه عند اشتغال مسعود بقتال أحمد ينالتكين ببلاد الهند. فلما كان ببلاد جرجان أتاه كتاب عبد الجبار بن أبي نصر بقتل هارون، وإعادة البلد إلى طاعته، وكان عبد الجبار في بدء استتاره يعمل على قتل هارون، ووضع جماعة على الفتك به، فقتلوه عند خروجه إلى الصيد، وقام عبد الجبار بحفظ البلد.
فلما وقف مسعود على كتاب عبد الجبار علم أن الذي قيل عن أبيه كان باطلاً، فعاد إلى الثقة به، وبقي عبد الجبار أياماً يسيرة، فوثب به غلمان هارون فقتلوه، وولوا البلد إسماعيل بن التونتاش، وقام بأمره شكر خادم أبيه، وعصوا على مسعود. فكتب مسعود إلى شاهملك بن علي، أحد أصحاب الأطراف بنواحي خوارزم، بقصد خوارزم وأخذها، فسار إليها، فقاتله شكر وإسماعيل، ومنعاه عن البلد، فهزمهما وملك البلد، فسار إلى طغرلبك وداود السلجقيين والتجآ إليهما، وطلبا المعونة منهما، فسار داود معهما إلى خوارزم، فلقيهم شاهملك وقاتلهم فهزمهم، ولما جرى على مسعود من القتل ما جرى وملك مودود دخل شاهملك في طاعته وصافاه، وتمسك كل واحد منهما بصاحبه.
ثم إن طغرلبك سار إلى خوارزم فحصرها وملكها واستولى عليها، وانهزم شاهملك بين يديه، واستصحب أمواله وذخائره، ومضى في المفازة إلى دهستان، ثم انتقل عنها إلى طبس، ثم إلى أطراف كرمان، ثم إلى عمال التيز ومكران، فلما وصل إلى هناك علم خلاصه ببعده، وأمن في نفسه، فعرف خبره أرتاش، أخو إبراهيم ينال، وهو ابن عم طغرلبك، فقصده في أربعة آلاف فارس، فأوقع به وأسره وأخذ ما معه، ثم عاد به فسلمه إلى داود، وحصل هو بما غنم من أمواله، وعاد بعد ذلك إلى باذغيس المقاربة لهراة، وأقام على محاصرة هراة، لأنهم إلى هذه الغاية كانوا مقيمين على الامتناع والاعتصام ببلدهم والثبات على طاعة مودود بن مسعود، فقاتلهم أهل هراة، وحفظوا بلدهم مع خراب سوادهم، وإنما حملهم على ذلك، الحرب خوفاً من الغز.
ذكر قصد إبراهيم ينال همذان وما كان منهقد ذكرنا خروج إبراهيم ينال من خراسان إلى الري، واستيلاءه عليها. فلما استقر أمرها سار عنها، وملك البلاد المجاورة لها، ثم انتقل إلى بروجرد فملكها، ثم قصد همذان، وكان بها أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة صاحبها، ففارقها إلى سابور خواست، ونزل إبراهيم ينال على همذان، وأراد دخولها، فقال له أهلها: إن كنت تريد الطاعة، وما يطلبه السلطان من الرعية، فنحن باذلوه، وداخلون تحته، فاطلب أولاً هذا المخالف عليك الذي كان عندنا، يعنون كرشاسف، فإنا لا نأمن عوده إلينا، فإذا ملكته أو دفعته كنا لك.
فكف عنهم وسار إلى كرشاسف، بعد أن أخذ من أهل البلد مالاً، فلما قارب سابور خواست صعد كرشاسف إلى القلعة، فتحصن بها، وحصر إبراهيم البلد، فقاتله أهله خوفاً من الغز، فلم يكن لهم طاقة على دفعهم، فملك البلد قهراً، ونهب الغز أهله، وفعلوا الأفاعيل القبيحة بهم، ثم عادوا بما غنموه إلى الري، فرأوا طغرلبك قد وردها، ولما فارق إبراهيم والغز همذان نزل كرشاسف إليها، فأقام بها إلى أن وصل طغرلبك إلى الري فسار إليه إبراهيم، على ما نذكر إن شاء الله تعالى.
ذكر خروج طغرلبك إلى الري

وملك بلد الجبل
في هذه السنة خرج طغرلبك من خراسان إلى الري، بعد فراغه من خوارزم، وجرجان، وطبرستان، فلما سمع أخوه إبراهيم ينال بقدومه سار إليه فلقيه، وتسلم طغرلبك الري منه، وتسلم غيرها من بلد الجبل وسار إبراهيم إلى سجستان، وأخذ طغرلبك أيضاً قلعة طبرك من مجد الدولة بن بويه، وأقام عنده مكرماً، وأمر طغرلبك بعمارة الري وكانت قد خربت، فوجد في دار الإمارة مراكب ذهب مجوهرة وبرنيتي صيني مملوءتين جوهراً، ومالاً كثيراً، وغير ذلك.
وكان كامرو يهادي طغرلبك، وهو بخراسان، ويخدمه، وخدم أخاه إبراهيم لما كان بالري، فلما حضر عنده أهدى له هدايا كثيرة من أنواع شتى، وهو يظن أن طغرلبك يزيد في إقطاعه، ويرعى له ما تقدم من خدمته له، فخاب ظنه، وقرر على بيده كل سنة سبعة وعشرين ألف دينار.

ثم ساروا إلى قزوين، فامتنع عليه أهلها، فزحف إليهم ورماهم بالسهام والحجارة، فلم يقدروا أن يقفوا على السور، وقتل من أهل البلد برشق، وأخذ ثلاثمائة وخمسين رجلاً، فلما رأى كامرو ومرداويج بن بسو ذلك خافوا أن يملك البلد عنوة وينهب، فمنعوا الناس من القتال، وأصلحوا الحال على ثمانين ألف دينار، وصار صاحبها في طاعته.
ثم إنه أرسل إلى كوكتاش وبوقا وغيرهما من أمراء الغز، الذين تقدم خروجهم، يمنيهم، ويدعوهم إلى الحضور في خدمته، فلما وصل رسوله إليهم ساروا حتى نزلوا على نهر بنواحي زنجان، ثم أعادوا رسوله، وقالوا له: قل له قد علمنا أن غرضك أن تجمعنا لتقبض علينا، والخوف منك أبعدنا عنك، وقد نزلنا هاهنا، فإن أردنا قصدنا خراسان، أو الروم، ولا نجتمع بك ابداً.
وأرسل طغرلبك إلى ملك الديلم يدعوه إلى الطاعة، ويطلب منه مالاً، ففعل ذلك، وحمل إليه مالاً وعروضاً، وأرسل أيضاً إلى سلار الطرم يدعوه إلى خدمته، ويطالبه بحمل مائتي ألف دينار، فاستقر الحال بينهما على الطاعة وشيء من المال. وأرسل سرية إلى أصبهان، وبها أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة، فأغارت على أعمالها وعادت سالمة.
وخرج طغرلبك من الري، وأظهر قصد أصبهان، فراسله فرامرز، وصانعه بمال، فعاد عنه وسار إلى همذان فملكها من صاحبها كرشاسف بن علاء الدولة، وكان قد نزل إليه، وهو بالري، بعد أن راسله طغرلبك غير مرة، وسار معه من الري إلى أبهر وزنجان، فأخذ منه همذان، وتفرق أصحابه عنه، وطلب منه طغرلبك تسليم قلعة كنكور، فأرسل إلى من بها بالتسليم، فلم يفعلوا، وقالوا لرسل طغرلبك: قل لصاحبك والله لو قطعته قطعاً ما سلمناها إليك. فقال له طغرلبك: ما امتنعوا إلا بأمرك ورأيك، فاصعد إليهم، وأقم معهم، ولا تفارق موضعك حتى آذن لك.
ثم عاد إلى الري، واستناب بهمذان ناصراً العلوي، وكان كرشاسف قد قبض عليه، فأخرجه طغرلبك وولاه الري وأمره بمساعدة من يجعله في البلد، وكان معه مرداويج بن بسو نائبه في جرجان وطبرستان، فمات، وقام ولده جستان مقامه، فسار طغرلبك إلى جرجان، فعزل جستان عنها، واستعمل على جرجان أسفار، وهو من خواص منوجهر بن قابوس، فلما فرغ أمر جرجان وطبرستان سار إلى دهستان فحصرها، وبها صاحبها كاميار، معتصماً بها لحصانتها.
ذكر مسير عساكر طغرلبك إلى كرمانوسير طغرلبك طائفة من أصحابه إلى كرمان مع أخيه إبراهيم ينال، بعد أن دخل الري، وقيل إن إبراهيم لم يقصد كرمان، وإنما قصد سجستان، وكان مقدم العساكر التي سارت إلى كرمان غيره، فلما وصلوا إلى أطراف كرمان نهبوا، ولم يقدموا على التوغل فيها، فلم يروا من العساكر من يكفهم، فتوسطوا وملكوا عدة مواضع منها ونهبوها.
فبلغ الخبر إلى الملك أبي كاليجار، صاحبها، فسير وزيره مهذب الدولة في العساكر الكثيرة، وأمره بالجد في المسير ليدركهم قبل أن يملكوا جيرفت، وكانوا يحاصرونها، فطوى المراحل حتى قاربهم، فرحلوا عن جيرفت ونزلوا عى ستة فراسخ منها.
وجاء مهذب الدولة فنزلها وأرسل ليحمل الميرة إلى العسكر، فخرجت الغز إلى الجمال والبغال والميرة ليأخذوها، وسمع مهذب الدولة ذلك، فسير طائفة من العسكر لمنعهم، فتواقعوا واقتتلوا، وتكاثر الغز، فسمع مهذب الدولة الخبر، فسار في العساكر إلى المعركة، وهم يقتتلون، وقد ثبتت كل طائفة لصاحبتها واشتد القتال إلى حد أن بعض الغز رمى فرس بعض أصحاب أبي كاليجار بسهم، فوقع فيه، وطعنه صاحب الفرس برمح، فأصاب فرس الغزي، وحمل الغزي على صاحب الفرس، فضربه ضربة قطعت يده، وحمل عليه صاحب الفرس وهو على هذه الحالة، فضربه بسيفه فقطعه قطعتين، وسقطا إلى الأرض قتيلين، والفرسان قتيلان، وهذه حالة لم يدون عن مقدمي الشجعان أحسن منها.
فلما وصل مهذب الدولة إلى المعركة انهزم الغز وتركوا ما كانوا ينهبونه، ودخلوا المفازة، وتبعهم الديلم إلى رأس الحد، وعادوا إلى كرمان فأصلحوا ما فسد منها.
ذكر الوحشة بين القائم بأمر الله أمير المؤمنين وجلال الدولة

في هذه السنة افتتحت الجوالي في المحرم ببغداد، فأنفذ الملك جلال الدولة فأخذ ما تحصل منها، وكانت العادة أن يحمل منها إلى الخلفاء لا تعارضهم فيها الملوك، فلما فعل جلال الدولة ذلك عظم الأمر فيه على القائم بأمر الله واشتد عليه، وأرسل مع أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي في ذلك، وتكررت الرسائل، فلم يصغ جلال الدولة لذلك، وأخذ الجوالي، فجمع الخليفة الهاشميين بالدار والرجالة، وتقدم بإصلاح الطيار والزبازب، وأرسل إلى أصحاب الأطراف والقضاة بما عزم عليه، وأظهر العزم على مفارقة بغداد، فلم يتم ذلك، وحدث وحشة من الجهتين، فاقتضت الحال أن الملك يترك معارضة النواب الإمامية فيها في السنة الآتية.
ذكر محاصرة شهرزور وغيرهافي هذه السنة سار أبو الشوك إلى شهرزور، فحصرها ونهبها وأحرقها وخرب قراها وسوادها، وحصر قلعة تبرانشاه، فدفعه أبو القاسم بن عياض عنها، ووعده أن يخلص ولده أبا الفتح من أخيه مهلهل، وأن يصلح بينها.
وكان مهلهل قد سار من شهرزور لما بلغه أن أخاه أبا الشوك يريد قصدها، وقصد نواحي سندة وغيرها من ولايات أبي الشوك، فنهبها وأحرقها وهلكت الرعية في الجهتين.
ثم إن أبا الشوك راسل أبا القاسم بن عياض يستنجزه ما وعده به من تخليص ولده والشروط التي تقررت بينهما، فأجابه بأن مهلهلاً غير مجيب إليه. فعند ذلك سار أبو الشوك من حلوان إلى الصامغان ونهبها، ونهب الولاية التي لمهلهل جميعها، فانزاح مهلهل من بين يديه، وترددت الرسل بينهما، فاصطلحا على دغل ودخل، وعاد أبو الشوك.
ذكر خروج سكين بمصرفي هذه السنة، في رجب، خرج بمصر إنسان اسمه سكين، كان يشبه الحاكم صاحب مصر، فادعى أنه الحاكم، وقد رجع بعد موته، فاتبعه جمع ممن يعتقد رجعة الحاكم، فاغتنموا خلو دار الخليفة بمصر من الجند وقصدوها مع سكين نصف النهار، فدخلوا الدهليز، فوثب من هناك من الجند، فقال لهم أصحابه: إنه الحاكم، فارتاعوا لذلك، ثم ارتابوا به، فقبضوا على سكين، ووقع الصوت، واقتتلوا، فتراجع الجند إلى القصر، والحرب قائمة، فقتل من أصحابه جماعة، وأسر الباقون وصلبوا أحياء، ورماهم الجند بالنشاب حتى ماتوا.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت زلزلة عظيمة بمدينة تبريز، هدمت قلعتها وسورها ودورها وأسواقها وأكثر دار الإمارة، وسلم الأمير لأنه كان في بعض البساتين، فأحصي من هلك من أهل البلد، وكانوا قريباً من خمسين ألفاً، ولبس الأمير السواد والمسوح لعظم المصيبة، وعزم على الصعود إلى بعض قلاعه، خوفاً من توجه الغز السلجوقية إليه، وأخبر بذلك أبو جعفر بن الرقي العلوي النقيب بالموصل.
وفيها قتل قرواش كاتبه أبا الفتح صبراً.
وفيها توفي عبد الله بن أحمد أبو ذر الهروي الحافظ، أقام بمكة، وتزوج من العرب، وأقام بالسروات، وكان يحج كل سنة يحدث في الموسم، ويعود إلى أهله، وصحب القاضي أبا بكر البقلاني.
وفيها توفي عمر بن إبراهيم بن سعيد الزهري من ولد سعد بن أبي وقاص، وكان فقيهاً شافعياً.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين وأربعمائة

ذكر إخراج المسلمين والنصارى القسطنطينية
في هذه السنة أخرج ملك الروم الغرباء من المسلمين والنصارى وسائر الأنواع من القسطنطينية.
وسبب ذلك أنه وقع الخبر بالقسطنطينية أن قسطنطين قتل ابنتي الملك المتقدم اللتين قد صار الملك فيهما الآن، فاجتمع أهل البلد وأثاروا الفتنة، وطمعوا في النهب، فأشرف عليهم قسطنطين، وسألهم عن السبب في ذلك، فقالوا: قتلت الملكتين، وأفسدت الملك، فقال: ما قتلتهما، وأخرجهما حتى رآهما الناس، فسكنوا.
ثم إنه سأل عن سبب ذلك، فقيل له: إنه فعل الغرباء، وأشاروا بإبعادهم، وأمر فنودي أن لا يقيم أحد ورد البلد منذ ثلاثين سنة، فمن أقام بعد ثلاثة أيام كحل، فخرج منها أكثر من مائة ألف إنسان، ولم يبق بها أكثر من اثني عشر نفساً، ضمنهم الروم فتركهم.
ذكر وفاة جلال الدولة
وملك أبي كاليجار

في هذه السنة، في سادس شعبان، توفي الملك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه ببغداد، وكان مرضه ورماً في كبده، وبقي عدة أيام مريضاً وتوفي، وكان مولده سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وملكه ببغداد ست عشرة سنة وأحد عشر شهراً، ودفن بداره، ومن علم سيرته، وضعفه، واستيلاء الجند والنواب عليه، ودوام ملكه إلى هذه الغاية، علم أن الله على كل شيء قدير يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء.
وكان يزور الصالحين، ويقرب منهم، وزار مرة مشهدي علي والحسين، عليهما السلام، وكان يمشي حافياً قبل أن يصل إلى كل مشهد منهما، نحو فرسخ، يفعل ذلك تديناً.
ولما توفي انتقل الوزير كمال الملك بن عبد الرحيم وأصحاب الملك الأكابر إلى باب المراتب، وحريم دار الخلافة، خوفاً من نهب الأتراك والعامة دورهم، فاجتمع قواد العسكر تحت دار المملكة، ومنعوا الناس من نهبها.
ولما توفي كان ولده الأكبر الملك العزيز أبو منصور بواسط، على عادته، فكاتبه الأجناد بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل ما جرت به العادة من حق البيعة، فترددت المراسلات بينهم في مقداره وتأخيره لفقده.
وبلغ موته إلى الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة، فكاتب القواد والأجناد، ورغبهم في المال وكثرته وتعجيله، فمالوا إليه وعدلوا عن الملك العزيز.
وأما الملك العزيز فإنه أصعد إلى بغداد لما قرب الملك أبو كاليجار منها، على ما نذكره سنة ست وثلاثين، عازماً على قصد بغداد ومعه عسكره، فلما بلغ النعمانية غدر به عسكره ورجعوا إلى واسط، وخطبوا لأبي كاليجار، فلما رأى ذلك مضى إلى نور الدولة دبيس بن مزيد، لأنه بلغه ميل جند بغداد إلى أبي كاليجار، وسار من عند دبيس إلى قرواش بن المقلد، فاجتمع به بقرية خصة من أعمال بغداد، وسار مع إلى الموصل، ثم فارقه وقصد أبا الشوك لأنه حموه، فلما وصل إلى أبي الشوك غدر به، وألزمه بطلاق ابنته، ففعل، وسار عنه إلى إبراهيم ينال أخي طغرلبك، وتنقلت به الأحوال، حتى قدم بغداد في نفر يسير عازماً على استمالة العسكر وأخذ الملك، فثار به أصحاب الملك أبي كاليجار، فقتل بعض من عنده، وسار هو متخفياً، فقصد نصر الدولة بن مروان فتوفي عنده بميافارقين، وحمل إلى بغداد، ودفن عند أبيه بمقابر قريش، في مشهد باب التبن سنة إحدى وأربعين.
وقد ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي أنه آخر ملوك بني بويه، وليس كذلك، فإنه ملك بعده أبو كاليجار، ثم الملك الرحيم بن أبي كاليجار، وهو آخرهم على ما تراه.
وأما الملك أبو كاليجار فلم تزل الرسل تتردد بينه وبين عسكر بغداد، حتى استقر الأمر له، وحلفوا، وخطبوا له ببغداد في صفر من سنة ست وثلاثين وأربعمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر حال أبي الفتح مودود بن سبكتكينفي هذه السنة سير الملك أبو الفتح مودود بن مسعود بن سبكتكين عسكراً مع حاجب له إلى نواحي خراسان، فأرسل إليهم داود أخو طغرلبك، وهو صاحب خراسان، ولده ألب أرسلان في عسكر، فالتقوا واقتتلوا فكان الظفر للملك ألب أرسلان، وعاد عسكر غزنة منهزماً.
وفيها أيضاً، في صفر، سار جمع من الغز إلى نواحي بست، وفعلوا ما عرف منهم من النهب والشر، فسير إليهم أبو الفتح مودود عسكراً، فالتقوا بولاية بست، واقتتلوا قتالاً شديداً انهزم الغز فيه، وظفر عسكر مودود، وأكثروا فيهم القتل والأسر.
ذكر ملك مودود عدة حصونفي هذه السنة اجتمع ثلاث ملوك من ملوك الهند، وقصدوا لهاوور وحصروها، فجمع مقدم العساكر الإسلامية بتلك الديار من عنده منهم، وأرسل إلى صاحبه مودود يستنجده، فسير إليه العساكر.

فاتفق أن بعض أولئك الملوك فارقهم وعاد إلى طاعة مودود، فرحل الملكان الآخران إلى بلادهما، فسارت العساكر الإسلامية إلى أحدهما، ويعرف بدوبال هرباته، فانهزم منهم، وصعد إلى قلعة له منيعة هو وعساكره، فاحتموا بها، وكانوا خمسة آلاف فارس وسبعين ألف راجل، وحصرهم المسلمون وضيقوا عليهم، وأكثروا القتل فيهم، فطلب الهنود الأمان على تسليم الحصن، فامتنع المسلمون من إجابتهم إلى ذلك إلا بعد أن يضيفوا إليه باقي حصون ذلك الملك الذي لهم، فحملهم الخوف وعدم الأقوات على إجابتهم إلى ما طلبوا وتسلموا الجميع، وغنم المسلمون الأموال، وأطلقوا ما في الحصون من أسرى المسلمين، وكانوا نحو خمسة آلاف نفر.
فلما فرغوا من هذه الناحية قصدوا ولاية الملك الثاني، واسمه تابت، بالري، فتقدم إليهم ولقيهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزمت الهنود، وأجلت المعركة عن قتل ملكهم وخمسة آلاف قتيل، وجرح وأسر ضعفاهم، وغنم المسلمون أموالهم وسلاحهم ودوابهم. فلما رأى باقي الملوك من الهند ما لقي هؤلاء أذعنوا بالطاعة، وحملوا الأموال، وطللبوا الأمان والإقرار على بلادهم، فأجيبوا إلى ذلك.
ذكر الخلف بين الملك أبي كاليجار وفرامرز بن علاء الدولةفي هذه السنة نكث الأمير أبو منصور فرامرز بن علاء الدولة بن كاكويه، صاحب أصبهان، العهد الذي بينه وبين الملك أبي كاليجار، وسير عسكراً إلى نواحي كرمان، فملكوا منها حصنين، وغنموا ما فيهما.
فأرسل الملك أبو كاليجار إليه في إعادتهما وإزالة الاعتراض عنهما، فلم يفعل، فتجهز عسكراً وسيره إلى أبرقوة، فحصرها وملكها، فانزعج فرامرز لذلك، وجهز عسكراً كثيراً وسيره إليهم، فسمع الملك أبو كاليجار بذلك، فسير عسكراً ثانياً مدداً لعسكره الأول، والتقى العسكران فاقتتلوا وصبروا، ثم انهزم عسكر أصبهان، وأسر مقدمهم الأمير إسحاق بن ينال، واسترد نواب أبي كاليجار ما كانوا أخذوه من كرمان.
ذكر أخبار الترك بما وراء النهرفي هذه السنة، في صفر، أسلم من كفار الترك الذين كانوا يطرقون بلاد الإسلام بنواحي بلاساغون وكاشغر، ويغيرون ويعيثون، عشرة آلاف خركاة، وضحوا يوم عيد الأضحى بعشرين ألف رأس غنم، وكفى الله المسلمين شرهم.
وكانوا يصيفون بنواحي بلغار، ويشتون بنواحي بلاساغون، فلما أسلموا تفرقوا في البلاد، فكان في كل ناحية ألف خركاة، وأقل وأكثر لأمنهم، فإنهم إنما كانوا يجتمعون ليحمي بعضهم بعضاً من المسلمين، وبقي من الأتراك من لم يسلم تتر وخطا، وهم بنواحي الصين.
وكان صاحب بلاساغون، وبلاد الترك، شرف الدولة، وفيه دين، وقد أقنع من إخوته وأقاربه بالطاعة، وقسم البلاد بينهم، فأعطى أخاه أصلان تكين كثيراً من بلاد الترك، وأعطى أخاه بغراجان طراز وأسبيجاب، وأعطى عمه طغاخان، فرغانة بأسرها، وأعطى ابن علي تكين بخارى وسمرقند وغيرهما وقنع هو ببلاساغون وكاشغر.
ذكر أخبار الروم والقسطنطينيةفي هذه السنة، في صفر أيضاً، ورد إلى القسطنطينية عدد كثير من الروس في البحر، وراسلوا قسطنطين ملك الروم بما لم تجر به عادتهم، فاجتمعت الروم على حربهم، وكان بعضهم قد فارق المراكب إلى البر، وبعضهم فيها، فألقى الروم في مراكبهم النار، فلم يهتدوا إلى إطفائها، فهلك كثير منهم بالحرق والغرق، وأما الذين على البر فقاتلوا، وأبلوا، وصبروا، ثم انهزموا، فلم يكن لهم ملجأ، فمن استسلم أولاً استرق وسلم، ومن امتنع، حتى أخذ قهراً، قطع الروم أيمانهم، وطيف بهم في البلد، ولم يسلم منهم إلا اليسير مع ابن ملك الروسية، وكفي الروم شرهم.
ذكر طاعة المعز بإفريقية للقائم بأمر اللهفي هذه السنة أظهر المعز ببلاد إفريقية الدعاء للدولة العباسية، وخطب للإمام القائم بأمر الله، أمير المؤمنين، ووردت عليه الخلع والتقليد ببلاد إفريقية وجميع ما يفتحه، وفي أول الكتاب الذي مع الرسل: من عبد الله ووليه أبي جعفر القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى الملك الأوحد، ثقة الإسلام، وشرف الإمام، وعمدة الأنام ناصر دين الله، قاهر أعداء الله، ومؤيد سنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أبي تميم المعز بن باديس بن المنصور ولي أمير المؤمنين بولاية جميع المغرب، وما افتتحه بسيف أمير المؤمنين، وهو طويل.

وأرسل إليه سيف وفرس وأعلام على طريق القسطنطينية، فوصل ذلك يوم الجمعة، فدخل به إلى الجامع، والخطيب ابن الفاكاة على المنبر يخطب الخطبة الثانية، فدخلت الأعلام، فقال: هذا لواء الحمد يجمعكم. وهذا معز الدين يسمعكم. وأستغفر الله لي ولكم. وقطعت الخطبة للعلويين من ذلك الوقت، وأحرقت أعلامهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جرت حرب بين ابن الهيثم، صاحب البطيحة، وبين الأجناد من الغز والديلم، فأحرق الجامدة وغيرها، وخطب الجند للملك أبي كاليجار.
وفيها أرسل الخليفة القائم بأمر الله أقضى القضاة أبا الحسن علي بن محمد ابن حبيب الماوردي، الفقيه الشافعي، إلى السلطان طغرلبك قبل وفاة جلال الدولة، وأمره أن يقرر الصلح بين طغرلبك والملك جلال الدولة وأبي كاليجار، فسار إليه وهو بجرجان، فلقيه طغرلبك على أربعة فراسخ إجلالاً لرسالة الخليفة، وعاد الماوردي سنة ست وثلاثين وأخبر عن طاعة طغرلبك للخليفة، وتعظيمه لأوامره ووقوفه عنده.
وفيها توفي عبد الله بن أحمد بن عثمان بن الفرج بن الأزهر أبو القاسم ابن أبي الفتح الأزهري الصيرفي المعروف بابن السواري شيخ الخطباء أبي بكر، وكان إماماً في الحديث، ومن تلامذته الخطيب البغدادي.
ثم دخلت سنة ست وثلاثين وأربعمائة

ذكر قتل الإسماعيلية بما وراء النهر
في هذه السنة أوقع بغراخان، صاحب ما وراء النهر، بجمع كثير من الإسماعيلية.
وكان سبب ذلك أن نفراً منهم قصدوا ما وراء النهر، ودعوا إلى طاعة المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، فتبعهم جمع كثير وأظهروا مذاهب أنكرها أهل تلك البلاد.
وسمع ملكها بغراخان خبرهم، وأراد الإيقاع بهم، فخاف أن يسلم منه بعض من أجابهم من أهل تلك البلاد، فأظهر لبعضهم أنه يميل إليهم، ويريد الدخول في مذاهبهم، وأعلمهم ذلك، وأحضرهم مجالسة، ولم يزل حتى علم جميع من أجابهم إلى مقالتهم، فحينئذ قتل من بحضرته منهم، وكتب إلى سائر البلاد بقتل من فيها، ففعل بهم ما أمر، وسلمت البلاد منهم.
ذكر الخطبة للملك أبي كاليجار وإصعاده إلى بغدادقد ذكرنا لما توفي الملك جلال الدولة ما كان من مراسلة الجند الملك أبا كاليجار والخطبة له. فلما استقرت القواعد بينه وبينهم أرسل أموالاً فرقت على الجند ببغداد، وعلى أولادهم، وأرسل عشرة آلاف دينار للخليفة ومعها هدايا كثيرة، فخطب به ببغداد في صفر، وخطب له أيضاً أبو الشوك في بلاده، ودبيس بن مزيد ببلاده، ونصر الدولة بن مروان بديار بكر، ولقبه الخليفة محيي الدين، وسار إلى بغداد في مائة فارس من أصحابه لئلا تخافه الأتراك.
فلما وصل إلى النعمانية لقيه دبيس بن مزيد، ومضى إلى زيارة المشهدين بالكوفة وكربلاء، ودخل إلى بغداد في شهر رمضان ومعه وزيره ذو السعادات أبو الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن فسانجس، ووعده الخليفة القائم بأمر الله أن يستقبله، فاستعفى من ذلك، وأخرج عميد الدولة أبا سعد بن عبد الرحيم وأخاه كمال الملك وزيري جلال الدولة من بغداد، فمضى أبو سعد إلى تكريت، وزينت بغداد لقدومه، وأمر فخلع على أصحاب الجيوش، وهم: البساسيري، والنشاووري، والهمام أبو اللقاء، وجرى من ولاة العرض تقديم لبعض الجند وتأخير، فشغب بعضهم، وقتلوا واحداً من ولاة العرض بمرأى من الملك أبي كاليجار، فنزل في سميرية بكنكور، وانحدر خوفاً من انخراق الهيبة، وأصعد بفم الصلح.
وفي رمضان منها توفي أبو القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وزير الظاهر والمستنصر الخليفتين، وكان فيه كفاية، وشهامة، وأمانة، وصلى عليه المستنصر بالله.ز
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة نزل الأمير أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة من كنكور وقصد همذان فملكها وأزاح عنها نواب السلطان طغرلبك، وخطب للملك أبي كاليجار، وصار في طاعته.
وفيها أمر الملك أبي كاليجار ببناء سور مدينة شيراز، فبني وأحكم بناؤه، وكان دوره اثني عشر ألف ذراع، وعرضه ثمانية أذرع، وله أحد عشر باباً، وفرغ منه سنة أربعين وأربعمائة.
وفيها نقل تابوت جلال الدولة من داره إلى مشهد باب التبن، إلى تربة له هناك.

وفيها استوزر السلطان طغرلبك وزيره أبا القاسم علي بن عبد الله الجويني، وهو أول وزير وزر له، ثم وزر له بعده رئيس الرؤساء أبو عبد الله الحسين ابن علي بن ميكائيل، ثم وزر له بعدهنظام الملك أبو محمد الحسن بن محمد الدهستاني، وهو أول من لقب نظام الملك، ثم وزر له بعده عميد الملك الكندري، وهو أشهرهم، وإنما اشتهر لأن طغرلبك، في أيامه، عظمت دولته، ووصل إلى العراق، وخطب به بالسلطنة، وسيرد من أخباره ما فيه كفاية، فلا حاجة إلى ذكرها هاهنا.
وفيها توفي الشريف المرتضى أبو القاسم علي أخر الرضي في آخر ربيع الأول، ومولده سنة خمس وخمسين وثلاثمائة، وولي نقابة العلويين بعده أبو أحمد عدنان ابن أخيه الرضي.
وفيها توفي القاضي أبو عبد الله الحسين بن علي بن محمد الصيمري، وهو شيخ أصحاب أبي حنيفة في زمانه، ومن جملة تلامذته القاضي أبو عبد الله الدامغاني، ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، وولي بعده قضاء الكرخ القاضي أبو الطيب الطبري مضافاً إلى ما كان يتولاه من القضاء بباب الطاق.
وفيها توفي القاضي أبو الحسن عبد الوهاب بن منصور بن المشتري قاضي خوزستان وفارس، وكان شافعي المذهب.
وفيها توفي أبو الحسين محمد بن علي البصري، المتكلم المعتزلي، صاحب التصانيف المشهورة.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين وأربعمائة

ذكر وصول إبراهيم ينار إلى همذان
في هذه السنة أمر السلطان طغرلبك أخاه إبراهيم ينال بالخروج إلى بلد الجبل وملكها، فسار إليها من كرمان، وقصد همذان، وبها كرشاسف بن علاء الدولة، ففارقها خوفاً، ودخلها ينال فملكها، والتحق كرشاسف بالأكراد الجوزقان.
وكان أبو الشوك حينئذ بالدينور، فسار عنها إلى قرميسين خوفاً وإشفاقاً من ينال، فقوي طمع ينال حينئذ في البلاد، وسار الدينور فملكها ورتب أمورها، وسار منها يطلب قرميسين.
فلما سمع أبو الشوك به سار إلى حلوان وترك بقرميسين من في عسكره من الديلم، والأكراد الشاذنجان، ليمنعوها ويحفظوها، ووافاهم ينال جريدة، فقاتلوه، فدفعوه عنها، فانصرف عنهم وعاد بخركاهاته وحلله، فقاتلوه، فضعفوا عنه وعجزوا عن منعه، فملك البلد في رجب عنوة وقتل من العساكر جماعة كثيرة، وأخذ أموال من سلم من القتل، وسلاحهم، وطردهم، ولحقوا بأبي الشوك، ونهب البلد وقتل وسبى كثيراً من أهله.
ولما سمع أبو الشوك ذلك سير أهله وأمواله وسلاحه من حلوان إلى قلعة السيروان، وأقام جريدة في عسكره، ثم إن ينال سار إلى الصيمرة في شعبان، فملكها ونهبها، وأوقع بالأكراد المجاورين لها من الجوزقان، فانهزموا، وكان كرشاسف بن علاء الدولة نازلاً عندهم، فسار هو وهم إلى بلد شهاب الدولة أبي الفوارس منصور بن الحسين.
ثم إن إبراهيم ينال سار إلى حلوان، وقد فارقها أبو الشوك، ولحق بقلعة السيروان، فوصل إليها إبراهيم آخر شعبان، وقد جلا أهلها عنها، وتفرقوا في البلاد، فنهبها وأحرقها، وأحرق دار أيب الشوك، وانصرف بعد أن اجتاحها ودرسها.
وتوجه طائفة من الغز إلى خانقين في أثر جماعة من أهل حلوان كانوا ساروا بأهليهم وأولادهم وأموالهم، فأدركوهم وظفروا بهم وغنموا ما معهم، وانتشر الغز في تلك النواحي، فبلغوا مايدشت وما يليها، فنهبوها وأغاروا عليها.
فلما سمع الملك أبو كاليجار هذه الأخبار أزعجته وأقلقته، وكان بخوزستان، فعزم على المسير، ودفع ينال ومن معه من الغز عن البلاد، فأمر عساكره بالتجهز للسفر إليهم، فعجزوا عن الحركة لكثرة ما مات من دوابهم، فلما تحقق ذلك سار نحو بلاد فارس، فحمل العسكر أثقالهم على الحمير
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، خطب للملك أبي كاليجار بأصبهان وأعمالها، وعاد الأمير أبو منصور بن علاء الدولة إلى طاعته.
وكان سبب ذلك أنه لما عصى على الملك أبي كاليجار، وقصد كرمان، على ما ذكرناه، والتجأ إلى طاعة طغرلبك، لم يبلغ ما كان يؤمله من طغرلبك، فلما عاد طغرلبك إلى خراسان خاف أبو منصور من الملك أبي كاليجار فراسله في العود إلى طاعته، فأجابه إلى ذلك واصطلحا.

وفيها اصطلح أبو الشوك وأخوه مهلهل، وكان متقاطعين من حين أسر مهلهل أبا الفتح بن أبي الشوك، وموت أبي الفتح في سجنه. فلما كان الآن وخافا من الغز تراسلا في الصلح، واعتذر مهلهل، وأرسل ولده أبا الغنائم إلى أبي الشوك، وحلف له أن أبا الفتح توفي حتف أنفه من غير قتل، وقال: هذا ولدي تقتله عوضه، فرضي أبو الشوك، وأحسن إلى أبي الغنائم، ورده إلى أبيه، واصطلحا واتفقا.
وفيها، في جمادى الأولى، خلع الخليفة على أبي القاسم علي بن الحسن بن المسلمة، واستوزره، ولقبه رئيس الرؤساء، وهو ابتداء حاله.
وكان السبب في ذلك أن ذا السعادات بن فسانجس، وزير الملك أبي كاليجار، كان يسيء الرأي في عميد الرؤساء، وزير الخليفة، فطلب من الخليفة أن يعزله، فعزله واستوزر رئيس الرؤساء نيابة، ثم خلع عليه وجلس في الدست.
وفيها، في شعبان، سار سرخاب بن محمد بن عناز أخو أبي الشوك إلى البندنيجين وبها سعدي بن أبي الشوك، ففارقها سعدي ولحق بأبيه، ونهب سرخاب بعضها، وكان أبو الشوك قد أخذ بلد سرخاب ما عدا دزديلويه وهما متباينان لذلك.
وفيها، في آخر رمضان، توفي أبو الشوك فارس بن محمد بن عناز بقلعة السيروان، وكان مرض لما سار إلى السيروان من حلوان، ولما توفي غدر الأكراد بابنه سعدي، وصاروا مع عمه مهلهل، فعند ذلك مضى سعدي إلى إبراهيم ينال، وأتى بالغز، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها قتل عيسى بن موسى الهذباني صاحب أربل، وكان خرج إلى الصيد، فقتله ابنا أخ له، وساروا إلى قلعة إربل فملكاها، وكان سلار بن موسى، أخو المقتول، نازلاً على قرواش بن المقلد، صاحب الموصل، لنفرة كانت بينه وبين أخيه، فلما قتل سار قرواش مع السلار إلى إربل، فملكها وسلمها إلى السلار، وعاد قرواش إلى الموصل.
وفيها كانت ببغداد فتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، وقتال اشتد قتل فيه جماعة.
وفيها وقع البلاء والوباء في الخيل، فهلك من عسكر الملك أبي كاليجار اثنا عشر ألف فرس، وعم ذلك البلاء.
وفيها توفي علي بن محمد بن نصر أبو الحسن الكاتب بواسط، صاحب الرسائل المشهورة.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة

ذكر ملك مهلهل قرميسين والدينور
في هذه السنة ملك مهلهل بن محمد بن عناز مدينة قرميسين والدينور.
وسبب ذلك أن إبراهيم ينال كان قد استعمل عند عوده من حلوان على قرميسين بدر بن طاهر بن هلال، فلما ملك مهلهل، بعد موت أخيه أبي الشوك، سار إلى مايدشت، ونزل بها ثم توجه نحو قرميسين، فانصرف عنها بدر فملكها مهلهل، وسير ابنه محمداً إلى الدينور، وبها عساكر ينال، فاقتتلوا، فقتل بين الفريقين جماعة، وانهزم أصحاب ينال، وملك محمد البلد.
ذكر اتصال سعدي بن أبي الشوك بإبراهيم ينال وما كان منهفي هذه السنة، في شهر ربيع الأول، فارق سعدي بن أبي الشوك عمه مهلهلاً، ولحق بإبراهيم ينال فصار معه.
وسبب ذلك أن عمه تزوج أمه وأهمل جانبه واحتقره، وكذلك أيضاً قصر في مراعاة الأكراد الشاذنجان، فراسل سعدي إبراهيم ينال في اللحاق به، فأذن له في ذلك، ووعده أن يملكه ما كان لأبيه، فسار إليه في جماعة من الأكراد الشاذنجان، فقوي بهم، فأكرمه ينال، وضم إليه جمعاً من الغز وسيره إلى حلوان فملكها، وخطب فيها لإبراهيم ينال في شهر ربيع الأول، وأقام بها أياماً، ورجع إلى مايدشت، فسار عمه مهلهل إلى حلوان فملكها وقطع منها خطبة ينال.
فلما سمع سعدي بذلك سار إلى حلوان، ففارقها عمه مهلهل إلى ناحية بلوطة، وملك سعدي حلوان وسار إلى عمه سرخاب فكبسه ونهب ما كان معه، وسير جمعاً إلى البندنيجين، فاستولوا عليها وقبضوا على نائب سرخاب بها، ونهبوا بعضها، وانهزم بعضها، وانهزم سرخاب، فصعد إلى قلعة دزديلويه، ثم عاد سعدي إلى قرميسين، فسير عمه مهلهل ابنه بدراً إلى حلوان فملكها، فجمع سعدي وأكثر وعاد إلى حلوان، ففارقها من كان بها من أصحاب عمه من كان بالقلعة، وملكها سعدي، وكان قد صحبه كثير من الغز، فسار بهم منها إلى عمه مهلهل، وترك بها من يحفظها. فلما علم عمه بقربه منه سار بين يديه إلى قلعة تيرانشاه، بقرب شهرزور، فاحتمى بها، وملك الغز كثيراً من النواحي والمواشي، وغنموا كثيراً من الأموال والدواب.

فلما رأى سعدي تحصن عمه منه خاف على من خلفه بحلوان فعاد عازماً على محاصرة القلعة، فمضى وحصرها، وقاتله من بها من أصحاب عمه، ونهب الغز حلوان، وفتكوا فيها وافتضوا الأبكار، وأحرقوا المساكن، وتفرق الناس،! وفعلوا في تلك النواحي جميعها أقبح فعل.
ولما سمع أصحاب الملك أبي كاليجار ووزيره هذه الأخبار ندبوا العساكر إلى الخروج إلى مهلهل ومساعدته على ابن أخيه، ودفعه عن هذه الأعمال، فلم يفعلوا.
ثم إن سعدي أقطع أبا الفتح بن ورام البندنيجين، واتفقا، واجتمعا على قصد عمه سرجاب بن محمد بن عناز، وحصره بقلعة دزديلويه، فسارا فيمن معهما من العساكر، فلما قاربوا القلعة دخلوا في مضيق هناك من غير أن يجعلوا لهم طليعة طمعاً فيه وإدلالاً بقوتهم، وكان سرخاب قد جعل على رأس الجبل، على فم المضيق، جمعاً من الأكراد، فلما دخلوا المضيق، فتقطرت بهم خيلهم، فسقطوا عنها ورماهم الأكراد الذين على الجبل، فوهنوا وأسر سعدي وأبو الفتح بن ورام وغيرهما من الرؤوس، وتفرق الغز والأكراد من تلك النواحي، بعد أن كانوا قد توطنوها وملكوها.
ذكر حصار طغرلبك أصبهانفي هذه السنة حصر طغرلبك مدينة أصبهان، وبها صاحبها أبو منصور فرامرز ابن علاء الدولة، فضيق عليه، ولم يظفر من البلد بطائل، ثم اصطلحوا على مال يحمله فرامرز بن علاء الدولة لطغرلبك، وخطب له بأصبهان وأعمالها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج من الترك من بلد التبت خلق لا يحصون كثرة، فراسلوا أرسلان خان، صاحب بلاساغون، يشكرونه على حسن سيرته في رعيته، ولم يكن منهم تعرض إلى مملكته، ولكنهم أقاموا بها، وراسلهم ودعاهم إلى الإسلام، فلم يجيبوا، ولم ينفروا منه.
وفيها توفي أبو الحسن الخيشي النحوي في ذي الحجة، وله نيف وتسعون سنة.
وفيها انحدر علاء الدين أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات إلى البطائح وحصرها، وبها صاحبها أبو نصر بن الهيثم، وضيق عليه، واجتمع مع جمع كثير.
وفيها، في ذي القعدة، توفي عبد الله بن يوسف أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين أبي المعالي، وكان إماماً في الشافعية، تفقه على أبي الطيب سهل ابن محمد الصعلوكي، وكان عالماً بالأدب وغيره من العلوم، وهو من بني سنبس، بطن من طيء.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثين وأربعمائة

ذكر صلح أبي كاليجار والسلطان طغرلبك
في هذه السنة أرسل الملك أبو كاليجار إلى السلطان ركن الدين طغرلبك في الصلح، فأجابه إليه، واصطلحا، وكتب طغرلبك إلى أخيه ينال يأمره بالكف عما وراء ما بيده، واستقر الحال بينهما أن يتزوج طغرلبك بابنة أبي كاليجار، ويتزوج الأمير أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة الملك داود أخي طغرلبك، وجرى العقد في شهر ربيع الآخر من هذه السنة.
ذكر القبض على سرخاب أخي أبي الشوكفي هذه السنة قبض الأكراد اللرية وجماعة من عسكر سرخاب عليه، لأنه أساء السيرة معهم ووترهم، فقبضوا عليه، وحملوه إلى إبراهيم ينال، فقلع إحدى عينيه، وطالبه بإطلاق سعدي بن أبي الشوك فلم يفعل.
وكان أبو العسكر بن سرخاب قد غاضبه لما قبض على سعدي، واعتزله كراهية لفعله، فلما أسر أبوه سرخاب سار إلى القلعة وأخرج سعدي ابن عمه، وفك قيوده، وأحسن إليه وأطلقه، وأخذ عليه بطرح ما مضى، والسعي في خلاص والده سرخاب، فسار سعدي، واجتمع عليه خلق كثير من الأكراد، ووصل إلى إبراهيم ينال، فلن يجد عنده الذي أراد، ففارقه وعاد إلى الدسكرة، وكاتب الخليفة ونواب الملك أبي كاليجار بالعود إلى الطاعة وأقام بها.
ذكر ملك إبراهيم ينال قلعة كنكور وغيرها

في هذه السنة سار إبراهيم ينال إلى قلعة كنكور، وبها عكبر بن فارس، صاحب كرشاسف، بن علاء الدولة يحفظها له، فامتنع عكبر بها إلى أن فنيت ذخائره، وكانت قليلة، فلما نفدت الذخائر عمد إلى بيوت الطعام التي في القلعة وملأها ترابا وحجارة، وسد أبوابها، ونثر من داخل الأبواب شيئاً من طعام، وعلى رأس التراب والحجارة كذلك أيضاً، وراسل إبراهيم في تسليم القلعة إليه، على أن يؤمنه على من بها من الرجال، وما بها من الأموال، فأرسل إليه إبراهيم يمتنع عليه من ترك المال، فأخذ عكبر رسول إبراهيم فطوفه على البيوت التي فيها الطعام، وفتح مواضع من المسدود فرآها مملوءة، فظنها طعاماً، وقال له عكبر: ما راسلت صاحبك خوفاً من المطاولة، ولا إشفاقاً من نفاد الميرة، لكنني أحببت الدخول في طاعته، فإن بذل لي الأمان على ما طلبته لي وللأمير كرشاسف وأمواله، ولمن بالقلعة، سلمت إليه وكفيته مؤونة المقام.
فلما عاد الرسول إلى إبراهيم وأخبره أجابه إلى ما طلب، ونزل عكبر، وتسلمها إبراهيم، فلما صعد إلى القلعة انكشفت الحيلة، وسار عكبر بمن معه إلى قلعة سرماج، وصعد إليها.
ولما ملك ينال كنكور عاد إلى همذان، فسير جيشاً لأخذ قلاع سرخاب، واستعمل عليهم نسيباً له اسمه أحمد، وسلم إليه سرخاباً ليفتح به قلاعه، فسار به إلى قلعة كلكان، فامتنعت عليه، فساروا إلى قلعة دزديلويه فحصروها، وامتدت طائفة منهم إلى البندنيجين فنهبوها في جمادى الآخرة، وفعلوا الأفاعيل القبيحة من النهب والقتل وافتراش النساء والعقوبة على تخليص الأموال، فمات منهم جماعة لشدة الضرب.
وسارت طائفة منهم إلى أبي الفتح بن ورام، فانصرف عنهم خوفاً منهم، وترك حلله بحالها، وقصد أن يشتغلوا بنهب حلله، فيعود عليهم، فلم يعرجوا على النهب وتبعوه، فلشدة خوفه أن يظفروا به ويأخذوه قاتلهم، فظفر بهم، وقتل وأسر جماعة منهم، وغنم ما معهم، ورجع الباقون، وأرسل إلى بغداد يطلب نجدة خوفاً من عودهم، فلم ينجدوه لعدم الهيبة وقلة إمساك الأمر، فعبر بنو ورام دجلة إلى الجانب الغربي.
ثم إن الغز أسروا إلى سعدي بن أبي الشوك في رجب، وهو نازل على فرسخين من باحسري، وكبسوه، فانهزم هو ومن معه لا يلوي الأخ على أخيه، ولا الوالد على ولده، فقتل منهم خلق كثير، وغنم الغز أموالهم، ونهبوا تلك الأعمال، وكان سعدي قد أنزل مالاً من قلعة السيروان، فوصله تلك الليلة، فغنمه الغز إلا من سلم معه، ونجا سعدي من الوقعة بجريعة الذقن، ونهب الغز الدسكرة، وباجسري، والهارونية، وقصر سابور وجميع تلك الأعمال.
ووصل الخبر إلى بغداد بأن إبراهيم ينال عازم على قصد بغداد، فارتاع الناس، واجتمع الأمراء والقواد إلى الأمير أبي منصور ابن الملك أبي كاليجار ليجتمعوا ويسيروا إليه ويمنعوه، واتفقوا على ذلك، فلم يخرج غير خيم الأمير أبي منصور والوزير ونفر يسير، وتخلف الباقون، وهلك من أهل تلك النواحي المنهوبة خلق كثير، فمنهم من قتل، ومنهم من غرق، ومنهم من قتله البر.
ووصل سعدي إلى ديالى، ثم سار منها إلى أبي الأغر دبيس بن مزيد فأقام عنده. ثم إن إبراهيم ينال سار إلى السيروان، فحصر القلعة، وضيق على من بها، وأرسل سرية نهبت البلاد، وانتهت إلى مكان بينه وبين تكريت عشرة فراسخ، ودخل بغداد من أهل طريق خراسان خلق كثير، وذكروا من حالهم ما أبكى العيون، ثم سلمها إليه مستحفظاً، بعد أن أمنه على نفسه وماله، وأخذ منها ينال من بقايا ما خلفه سعدي شيئاً كثيراً، ولما فتحها استخلف فيها مقدماً كبيراً من أصحابه يقال له سخت كمان، وانصرف إلى حلوان، وعاد منها إلى همذان ومعه بدر ومالك ابنا مهلهل فأكرمهما.
ثم إن صاحب قلعة سرماج توفي، وهو من ولد بدر بن حسنويه، وسلمت القلعة بعده إلى إبراهيم ينال، وسير إبراهيم ينال وزيره إلى شهرزور فأخذها وملكها، فهرب منه مهلهل، فأبعد في الهرب. ثم نزل أحمد على قلعة تيرانشاه وحاصرها، ونقب عليها عدة نقوب، ثم إن مهلهلاً راسل أهل شهرزور يعدهم بالمسير إليهم في جمع كثير، ويأمرهم بالوثوب بمن عندهم من الغز، ففعلوا وقتلوا منهم، وسمع أحمد بن طاهر، فعاد إليهم وأوقع بهم ونهبهم، وقتل كثيراً منهم.

ثم إن الغز المقيمين بالبندنيجين ومن معهم ساروا إلى براز الروز، وتقدموا إلى نهر السليل، فاقتتلوا هم وأبو دلف القاسم بن محمد الجاواني قتالاً شديداً ظفر فيه أبو دلف، وانهزم الغز وأخذ ما معهم.
وسار، في ذي الحجة، جمع من الغز إلى بلد علي بن القاسم الكردي، فأغاروا وعاثوا، فأخذ عليهم المضيق وأوقع بهم وقتل كثيراً منهم، وارتجع ما غنموه من بلده.
ذكر استيلاء أبي كاليجار على البطيحةفي هذه السنة اشتد الحصار من عسكر الملك أبي كاليجار على أب نصر بن الهيثم، صاحب البطيحة، فجنح إلى الصلح، فاشتط عليه أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات، ثم استأمن نفر من أصحاب أبي نصر وملاحيه إلى أبي الغنائم، وأخبروه بضعف أبي نصر، وعزمه على الانتقال من مكانه، فحفظ الطرق عليه، فلما كان خامس صفر جرت وقعة كبيرة بين الفريقين، واشتد القتال، فظفر أبو الغنائم، وقتل من البطائحيين جماعة كثيرة وغرق منهم سفن كثيرة، وتفرقوا في الآجام، ومضى ابن الهيثم ناجياً بنفسه في زبزب، وملكت داره ونهب ما فيها.
ذكر ظهور الأصفر وأسرهفي هذه السنة ظهر الأصفر التغلبي برأس عين، وادعى أنه من المذكورين في الكتب، واستغوى قوماً بمخاريق وضعها، وجمع جمعاً وغزا نواحي الروم، فظفر وغنم وعاد، وظهر حديثه، وقوي ناموسه، وعاودوا الغزو في عدد أكثر من العدد الأول، ودخل نواحي الروم وأوغل، وغنم أضعاف ما غنمه أولاً، حتى بيعت الجارية الجميلة بالثمن البخس.
وتسامع الناس به فقصدوه، وكثر جمعه، واشتدت شوكته، وثقلت على الروم وطأته فأرسل ملك الروم إلى نصر الدولة بن مروان يقول له: إنك عالم بما بيننا من الموادعة، وقد فعل هذا الرجل هذه الأفاعيل، فإن كنت قد رجعت عن المهادنة فعرفنا لندبر أمرنا بحبسه.
واتفق، في ذلك الوقت، أن وصل رسول من الأصفر إلى نصر الدولة أيضاً، ينكر عليه ترك الغزو والميل إلى الدعة، فساءه ذلك أيضاً، واستدعى قوماً من بني نمير وقال لهم: إن هذا الرجل قد أثار الروم علينا، ولا قدرة لنا عليهم، وبذل لهم مالاً على الفتك به، فساروا إليه، فقربهم، ولازموه، فركب يوماً غير متحرز، فأبعد وهم معه، فعطفوا عليه وأخذوه وحملوه إلى نصر الدولة بن مروان، فاعتقله، وتلافى أمر الروم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة تجددت الهدنة بين صاحب مصر وبين الروم، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية عظيمة.
وفيها كان ببغداد والموصل، وسائر البلاد العراقية والجزرية، غلاء عظيم، حتى أكل الناس الميتة، وتبعه وباء شديد مات فيه كثير من الناس، حتى خلت الأسواق، وزادت أثمان ما يحتاج إليه المرضى، حتى بيع المن من الشراب بنصف دينار، ومن اللوز بخمسة عشر قيراطاً، والرمانة بقيراطين، والخيارة بقيراط، وأشباه ذلك.
وفيها جمع الأمير أبو كاليجار فناخسرو بن مجد الدولة بن بويه جمعاً، وسار إلى آمد، فدخلها، وساعده أهلها، وأوقع بمن كان فيها من أصحاب طغرلبك، فقتل وأسر، وعرف طغرلبك ذلك، فسار عن الري قاصداً إليه، ومتوجهاً إلى قتاله. وفيها توفي عميد الدولة أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم بجزيرة ابن عمر في ذي القعدة، وله شعر حسن، ووزر لجلال الدولة عدة دفعات.
وفيها سير المعز بن باديس صاحب إفريقية أسطولاً إلى جزائر القسطنطينية، فظفر وغنم وعاد.
وفيها اقتتلت طوائف من تلكاتة، قاتل بعضهم بعضاً، وكان بينهم حرب صبروا فيها، فقتل منهم خلق كثير.
وفيها قبض الملك أبي كاليجار على وزيره محمد بن جعفر بن أبي الفرج الملقب بذي السعادات بن فسانجس، وسجنه، وهرب ولده أبو الغنائم، وبقي الوزير مسجوناً إلى أن مات في شهر رمضان سنة أربعين، وقيل أرسل إليه أبو كاليجار من قتله، وعمره إحدى وخمسون سنة، وللوزير ذي السعادات مكاتبات حسنة، وشعر جيد منه:
أودعكم، وإني ذو اكتئاب، ... وأرحل عنكم، والقلب آبي
وإن فراقكم في كل حال ... لأوجع من مفارقة الشباب
أسير، وما ذممت لكم جواراً، ... ولا ملت منازلكم ركابي
وأشكر كلما أوطنت داراً ... ليالينا القصار بلا اجتناب
وأذكركم، إذا هبت جنوب، ... فتذكرني غرارات التصابي
لكم مني المودة في اغتراب، ... وأنتم إلف نفسي في اقترابي

وهو أطول من هذا.
ولما قبض ذو السعادات استوزر أبو كاليجار كمال الملك أبا المعالي بن عبد الرحيم.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الواحد بن محمد بن يحيى بن أيوب المعروف بالمطرز الشاعر، وله شعر جيد، فمن قوله في الزهد:
يا عبد كم لك من ذنب ومعصية، ... إن كنت ناسيها، فالله أحصاها
لا بد يا عبد من يوم تقوم به، ... ووقفة لك يدمي القلب ذكراها
إذا عرضت على قلبي تذكرها، ... وساء ظني فقلت استغفر اللاها
وفيها مات أبو الخطاب الجبلي الشاعر، ومضى إلى الشام، ولقي المعري، وعاد ضريراً، وله شعر منه قوله:
ما حكم الحب فهو ممتثل، ... وما جناه الحبيب محتمل
تهوى، وتشكو الضنى، وكل هوى ... لا ينحل الجسم، فهو منتحل
وفيها توفي أبو محمد الحسن بن محمد بن الحسن الخلال، الحافظ، ومولده سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، سمع أبا بكر القطيعي وغيره، ومن أصحابه الخطيب أبو بكر الحافظ.
وفيها قتل الفقيه أحمد الولوالجي، وهو من أعيان الفقهاء الحنفية، إلا أنه كان يكثر الوقيعة في الأئمة والعلماء، وسلك طريق الرياضة، وفسد دماغه، فقتل بين مرو وسرخس في ذي الحجة.
ثم دخلت سنة أربعين وأربعمائة

ذكر رحيل عسكر ينال عن تيرانشاه
وعود مهلهل إلى شهرزور
قد ذكرنا في السنة المتقدمة استيلاء أحمد بن طاهر، وزير ينال، على شهرزور، ومحاصرته قلعة تيرانشاه، ولم يزل يحاصرها إلى الآن، فوقع في عسكره الوباء وكثر الموت، فأرسل إلى صاحبه ينال يستمده، ويطلب إنجاده، ويعرفه كثرة الوباء عنده، فأمره بالرحيل عنها، فسار إلى مايدشت. فلما سمع مهلهل ذلك سير أحد أولاد شهرزور، فملكها وانزعج الغز الذين بالسيروان وخافوا.
ثم سار جمع من عسكر بغداد إلى حلوان، وحصروا قلعتها، فلم يظفروا بها، فنهبوا تلك الأعمال، وأتوا على ما تخلف من الغز، فخربت الأعمال بالكلية، وسار مهلهل ومعه أهله وأمواله إلى بغداد، فأنزلهم بباب المراتب، بدار الخلافة، خوفاً من الغز، وعاد إلى حلله، وبينه وبين بغداد ستة فراسخ، وسار جمع من عسكر بغداد إلى البندنيجين، وبها جمع من الغز مع عكبر ابن أحمد بن عياض، فتواقعوا، واقتتلوا، فانهزم عسكر بغداد، وقتل منهم جماعة، وأسر جماعة قتلوا أيضاً صبراً.
ذكر غزو إبراهيم ينال الرومفي هذه السنة غزا إبراهيم ينال الروم، فظفر بهم وغنم.
وكان سبب ذلك أن خلقاً كثيراً من الغز بما وراء النهر قدموا عليه، فقال لهم: بلادي تضيق عن مقامكم والقيام بما تحتاجون إليه، والرأي أن تمضوا إلى غزو الروم، وتجاهدوا في سبيل الله، وتغنموا، وأنا سائر على أثركم، ومساعد لكم على أمركم. ففعلوا.
وساروا بين يديه، وتبعهم، فوصلوا إلى ملازكرد، وأرزن الروم، وقاليقلا، وبلغوا طرابزون وتلك النواحي كلها، ولقيهم عسكر عظيم لروم والأبخاز يبلغون خمسين ألفاً، فاقتتلوا، واشتد القتال بينهم، وكانت بينهم عدة وقائع تارة يظفر هؤلاء وتارة هؤلاء وكان آخر الأمر الظفر للمسلمين، فأكثروا القتل في الروم وهزموهم، وأسروا جماعة كثيرة من بطارقتهم، وممن أسر قاريط ملك الأبخاز، فبذل في نفسه ثلاثمائة ألف دينار، وهدايا بمائة ألف، فلم يجبه إلى ذلك، ولم يجوس تلك البلاد وينهبها إلى انهزموا أن بقي بينه وبين القسطنطينية خمسة عشر يوماً، واستولى المسلمون على تلك النواحي فنهبوها، وغنموا ما فيها، وسبوا أكثر من مائة ألف رأس، وأخذوا من الدواب والبغال والغنائم والأموال ما لا يقع عليه الإحصاء، وقيل إن الغنائم حملت على عشرة آلاف عجلة، وإن في جملة الغنيمة تسعة عشر ألف درع.
وكان قد دخل بلد الروم جمع من الغز يقدمهم إنسان نسيب طغرلبك، فلم يؤثر كبير أثر، وقتل من أصحابه جماعة، وعاد، ودخل بعده إبراهيم ينال، ففعل هذا الذي ذكرناه.
ذكر موت الملك أبي كاليجار وملك ابنه الملك الرحيمفي هذه السنة توفي الملك أبي كاليجار المرزبان بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه، رابع جمادى الأولى، بمدينة جناب من كرمان.

وكان سبب مسيره إليها أنه كان قد عول في ولاية كرمان حرباً وخراباً على بهرام بن لشكرستان الديلمي، وقرر عليه مالاً، فتراخى بهرام في تحرير الأمر، وأحاله إلى المغالطة والمدافعة، فشرع حينئذ أبو كاليجار في إعمال الحيلة عليه، وأخذ قلعة بردسير من يده، وهي معقله الذي يحتمي به ويعول عليه، فراسل بعض من بها من الأجناد وأفسدهم، فعلم بهم بهرام فقتلهم، وزاد نفوره واستشعاره، وأظهر ذلك، فسار إليه الملك أبو كاليجار في ربيع الآخر، فبلغ قصر مجاشع، فوجد في حلقه خشونة، فلم يبال بها، وشرب وتصيد وأكل من كبد غزال مشوي، واشتدت علته، ولحقه حمى، وضعف عن الركوب، ولم يمكنه المقام لعدم الميرة بذلك المنزل، فحمل في محفة على أعناق الرجال إلى مدينة جناب، فتوفي بها، وكان عمره أربعين سنة وشهوراً، وكان ملكه بالعراق بعد وفاة جلال الدولة أربع سنين وشهرين ونيفاً وعشرين يوماً.
ولما توفي نهب الأتراك من العسكر الخزائن والسلاح والدواب، وانتقل ولده أبو منصور فلاستون إلى مخيم الوزير أبي منصور، وكانت منفردة عن العسكر، فأقام عنده، وأراد الأتراك نهب الوزير والأمير، فمنعهم الديلم، وعادوا إلى شيراز، فملكها الأمير أبو منصور، واستشعر الوزير، فصعد إلى قلعة خرمة فامتنع بها.
فلما وصل خبر وفاته إلى بغداد، وبها ولده الملك الرحيم أبو نصر خرة فيروز، أحضر الجند واستحلفهم، وراسل الخليفة القائم بأمر الله في معنى الخطبة له، وتلقيبه بالملك الرحيم، وترددت الرسل بينهم في ذلك إلى أن أجيب إلى ملتمسه سوى الملك الرحيم فإن الخليفة امتنع من إجابته وقال: لا يجوز أن يلقب بأخص صفات الله تعالى.
واستقر ملكه بالعراق، وخوزستان، والبصرة، وكان بالبصرة أخوه أبو علي بن أبي كاليجار. وخلف أبو كاليجار من الأولاد: الملك الرحيم، والأمير أبا منصور فلاستون، وأبا طالب كامرو، وأبا المظفر بهرام، وأبا علي كيخسرو، وأبا سعد خسروشاه، وثلاثة بنين أصاغر، فاستولى ابنه أبو منصور على شيراز، فسير إليه الملك الرحيم أخاه أبا سعد في عسكر، فملكوا شيراز، وخطبوا للملك الرحيم، وقبضوا على الأمير أبي منصور والدته، وكان ذلك في شوال.
ذكر محاصرة العساكر المصرية مدينة حلبفي جمادى الآخرة وصلت عساكر مصر إلى حلب في جمع كثير فحصروها، وبها معز الدولة أبو علوان ثمال بن صالح الكلابي، فجمع جمعاً كثيراً بلغوا خمسة آلاف فارس وراجل، فلما نزلوا على حلب خرج إليهم ثمال وقاتلهم قتالاً شديداً صرب فيه لهم إلى الليل، ثم دخل البلد، فلما كان الغد اقتتلوا إلى آخر النهار، وصبر أيضاً ثمال، وكذلك أيضاً اليوم الثالث. فلما رأى المصريون صبر ثمال، وكانوا ظنوا أن أحداً لا يقوم بين أيديهم، رحلوا عن البلد، فاتفق أن تلك الليلة جاء مطر عظيم لم ير الناس مثله، جاءت المدود إلى منزلهم، فبلغ الماء ما يقارب قامتين، ولو لم يرحلوا لغرقوا، ثم رحلوا إلى الشام الأعلى.
ذكر الخلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانيةفي هذه السنة اختلف قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية، وكان للحميدية عدة حصون تجاور الموصل منها العقر وما قاربها، وللهذبانية قلعة إربل وأعمالها، وكان صاحب العقر حينئذ أبا الحسن بن عيسكان الحميدي، وصاحب إربل أبو الحسن بن موسك الهذباني، وله أخ اسمه أبو علي بن موسك فأعانه الحميدي على أخذ إربل من أخيه أبي الحسن، فملكها منه، وأخذ صاحبها أبا الحسن أسيراً.
وكان قرواش وأخوه زعيم الدولة أبو كامل بالعراق مشغولين، فلما عادا إلى الموصل وقد سخطا هذه الحالة لم يظهراها، وأرسل قرواش يطلب من الحميدي والهذباني نجدة له على نصر الدولة بن مروان. فأما أبو الحسن الحميدي فسار إليه بنفسه، وأما أبو علي الهذباني فأرسل أخاه، واصطلح قرواش ونصر الدولة، وقبض على أبي الحسن الحميدي، ثم صانعه على إطلاق أبي الحسن الهذباني، الذي كان صاحب إربل وأخذ إربل من أخيه أبي علي وتسليمها إليه، فإن امتنع أبو علي كان عوناً عليه، فأجاب إلى ذلك، ورهن عليه أهله وأولاده وثلاث قلاع من حصونه إلى أن يتسلم إربل وأطلق من الحبس.

وكان أخ له قد استولى على قلاعه، فخرج إليها وأخذها منه، وعاد إلى قرواش أخيه زعيم الدولة، فوثقا به، وأطلقا أهله، ثم إنه راسل أبا علي، صاحب إربل، في تسليمها، فأجاب إلى ذلك وحضر بالموصل ليسلم إربل إلى أخيه أبي الحسن، فقال الحميدي لقراوش: إنني قد وفيت بعهدي، فتسلمان إلي حصوني، فسلما إليه قلاعه، وسار هو وأبو الحسن، وأبو علي الهذباني إلى إربل ليسلماها إلى أبي الحسن، فغدرا به في الطريق، وكان قد أحس بالشر، فتخلف عنهما، وسير معهما أصحابه ليتسلموا إربل، فقبضا على أصحابه وطلبوه ليقبضوه، فهرب إلى الموصل، وتأكدت الوحشة حينئذ بين الأكراد وقرواش وأخيه، وتقاطعوا، وأضمر كل منهم الشر لصاحبه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اسر الملك الرحيم من بغداد إلى خوزستان، فلقيه من بها من الجند وأطاعوه، وفيهم كرشاسف بن علاء الدولة الذي كان صاحب همذان وكنكور، فإنه كان انتقل إلى الملك أبي كاليجار، بعد أن استولى ينال على أعماله، ولما مات أبو كاليجار سار الملك العزيز ابن الملك جلال الدولة إلى البصرة طمعاً في ملكها، فلقيه من بها من الجند وقاتلوه وهزموه، فعاد عنها، وكان قبل ذلك عند قرواش ثم عند ينال، ولما سمع باستقامة الأمور للملك الرحيم انقطع أمله، ولما سار الملك الرحيم عن بغداد كثرت الفتن بها، ودامت بين أهل باب الأزج والأساكفة، وهم السنة، فأحرقوا عقاراً كثيراً.
وفيها سار سعدي بن أبي الشوك من حلة دبيس بن مزيد إلى إبراهيم ينال، بعد أن راسله، وتوثق منه، وتقرر بينهما أنه كل ما يملكه سعدي مما ليس بيد ينال ونوابه فهو له، فسار سعدي إلى الدسكرة، وجرى بينه وبين من بها من عسكر بغداد حرب انهزموا فيها منه، وملكها وما يليها، فسير إليها عسكر ثان من بغداد، فقتل مقدمهم وهزمهم، وسار من الدسكرة وتوسط تلك الأعمال بالقرب من بعقوبا، ونهب أصحابه البلاد، وخطبوا لإبراهيم ينال.
وفيها كان ابتداء الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلد إلى عمه قرواش، وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل، ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة، وتفاقم الشر بينهما.
وفيها خطب للأمير أبي العباس محمد بن القائم بأمر الله بولاية العهد، ولقب ذخيرة الدين، وولي عهد المسلمين.
وفيها، في رمضان، قتل الأمير أقسنقر بهمذان، قتله الباطنية لأنه كان كثير الغزو إليهم، والقتل فيهم، والنهب لأموالهم، والتخريب لبلادهم، فلما كان الآن قصد إنساناً من الزهاد ليزوره، فوثب عليه جماعة من الإسماعيلية فقتلوه.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله، وكان من الصالحين ورواة الحديث، وأوصى أن يدفن بجوار أحمد بن حنبل، ومولده سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة، وأبو طالب محمد بن محمد بن غيلان البزاز، ومولده سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، روى عن أبي بكر الشافعي وغيره، وتوفي في شوال، وهو راوي الأحاديث المعروفة بالغيلانيات التي خرجها الدارقطني له، وهي من أعلى الحديث وأحسنه، وعبيد الله بن عمر أحمد ابن عثمان أبو القاسم الواعظ المعروف بابن شاهين، ومولده سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
وفيها كان الغلاء والوباء عاماً في البلاد جميعها، بمكة، والعراق، والموصل، والجزيرة، والشام، ومصر وغيرها من البلاد.
وفيها قبض بمصر على الوزير فخر الملك صدقة بن يوسف وقتل، وكان أول أمره يهودياً فأسلم، واتصل بالدزبري، وخدمه بالشام ثم خافه فعاد إلى مصر، وخدم الجرجرائي الوزير، وأنفق عليه، فلما توفي الجرجرائي استوزره المستنصر إلى الآن، ثم قتله واستوزر القاضي أبا محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري في ذي القعدة.
ثم دخلت سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

ذكر ظهور الخلف بين قرواش وأخيه
أبي كامل وصلحهما

في هذه السنة ظهر الخلف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر، وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه، جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم، وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي، وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلشايا فأخربوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب، فنزلوا بمرج بابنيثا، وبين الطائفتين نحو فرسخ، واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك، ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحميدي، وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب، وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش، وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير، فركب العرب من أصحابه أبي كامل لقصده، فمنعهم، وأسفر الصبح يوم الاثنين وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته، وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار.
وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار لسوء طريقهم وفسادهم، فهرب الباقون منهم، وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار، وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً، وفتحوا الباب، ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا، وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة، وهرب الباقون، فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه.
ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه، واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه، وقبل يده وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك، وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك في، وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير، وأنا الطائع لأمرك والتابع لك، فقال له قرواش: بل أنت الأخ، والأمر لك مسلم، وأنت أقوم به مني. وصلح الحال بينهما، وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره.
وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى، وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما، وجمع إلى نفسه جمعاً وقاتل أصحاب قرواش، وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما.
ذكر مسير الملك الرحيم إلى شيراز وعوده عنهافي هذه السنة، في المحرم، اسر الملك الرحيم من الأهواز إلى بلاد فارس، فوصلها، وخرج عسكر شيراز إلى خدمته، ونزل بالقرب من شيراز ليدخل البلد.
ثم إن الأتراك الشيرازيين والبغداديين اختلفوا، وجرى بينهم مناوشة استظهر فيها البغداديون، وعادوا إلى العراق، فاضطر الملك الرحيم إلى المسير معهم، لأنه لم يكن يثق بالأتراك الشيرازية.
وكان ديلم بلاد فارس قد مالوا إلى أخيه فولاستون، وهو بقلعة إصطخر، فهو أيضاً منحرف عنهم، فاضطر إلى صحبة البغداديين فعاد، في ربيع الأول من هذه السنة، إلى الأهواز وأقام بها، واستخلف بأرجان أخويه أبا سعد، وأبا طالب، ووقع الخلف بفارس، فإن الأمير أبا منصور، فولاستون، وكان قد خلص وصار بقلعة إصطخر، واجتمع معه جماعة من أعيان العسكر الفارسي، فلما عاد الملك الرحيم إلى الأهواز انبسط في البلاد، وقصده كثير من العساكر، واستولى على بلاد فارس، ثم سار إلى أرجان عازماً على قصد الأهواز وأخذها.
ذكر الحرب بين البساسيري وعقيلفي هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوهما، وأخذوا من الأموال الكثير، وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل ابن المقلد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً، وصبرا صبراً جميلاً، وقتل جماعة من الفريقين.
ذكر الوحشة بين طغرلبك وأخيه

إبراهيم ينال
في هذه السنة استوحش إبراهيم ينال من أخيه السلطان طغرلبك.

وكان سبب ذلك أن طغرلبك طلب من إبراهيم ينال أن يسلم إليه مدينة همذان والقلاع التي بيده من بلد الجبل، فامتنع من ذلك، واتهم وزيره أبا علي بالسعي بينهما في الفساد، فقبض عليه، وأمر فضرب بين يديه، وسمل إحدى عينيه، وقطع شفتيه، وسار عن طغرلبك، وجمع جمعاً من عسكره، والتقيا، وكان بين العسكرين قتال شديد انهزم ينال وعاد منهزماً، فسار طغرلبك في أثره، فملك قلاعه وبلاده جميعها.
وتحصن إبراهيم ينال بقلعة سرماج، وامتنع على أخيه، فحصره طغرلبك فيها، وكانت عساكره قد بلغت مائة ألف من أنواع العسكر، وقاتله، فملكها في أربعة أيام، وهي من أحصن القلاع وأمنعها، واستنزل ينال منها مقهوراً، وأرسل إلى نصر الدولة بن مروان يطلب منه إقامة الخطبة له في بلاده، فأطاعه وخطب له في سائر ديار بكر، وراسل ملك الروم طغرلبك، وأرسل إليه هدية عظيمة، وطلب منه المعاهدة، فأجابه إلى ذلك.
وأرسل ملك الروم إلى ابن مروان يسأله أن يسعى في فداء ملك الأبخاز المقدم ذكره، فأرسل نصر الدولة شيخ الإسلام أبا عبد الله بن مروان في المعنى إلى السلطان طغرلبك، فأطلقه بغير فداء، فعظم ذلك عنده وعند ملك الروم، وأرسل عوضه من الهدايا شيئاً كثيراً، وعمروا مسجد القسطنطينية، وأقاموا فيه الصلاة والخطبة لطغرلبك، ودان حينئذ الناس كلهم له، وعظم شأنه وتمكن ملكه وثبت.
ولما نزل ينال إلى طغرلبك أكرمه وأحسن إليه، ورد عليه كثيراً مما أخذ منه، وخيره بين أن يقطعه بلاداً يسير إليها، وبين أن يقيم معه، فاختار المقام معه.
ذكر الحرب بين دبيس بن مزيد وعسكر واسطفي هذه السنة كانت حرب شديدة بين نور الدولة دبيس بن مزيد وبين الأتراك الواسطيين.
وسبب ذلك أن الملك الرحيم أقطع نور الدولة حماية نهر الصلة، ونهر الفضل، وهما من إقطاع الواسطيين، فسار إليهما ووليهما، فسمع عسكر واسط ذلك فسخطوه، واجتمعوا وساروا إلى نور الدولة ليقاتلوه ويدفعوه عنهما، وأرسلوا إليه يتهددونه، فأعاد الجواب يقول: إن الملك أقطعني هذا، فنرسل إليه أنا وأنتم، فبأي شيء أمر رضينا به. فسبوه، وساروا مجدين إليه، فأرسل إلى طريقهم طائفة من عسكره، فلقوهم، وكمن لهم، فلما التقوا استجرهم العرب إلى أن جاوزوا الكمين، وخرج عليهم الكمين فأوقعوا بهم، وقتلوا منهم جماعة كثيرة، وأسروا كثيراً، وجرح مثلهم، وتمت الهزيمة على الواسطيين، وغنم نور الدولة أموالهم ودوابهم وساروا إلى واسط فنزلوا بالقرب منها.
وأرسل الواسطيون إلى بغداد يستنجدون جندها، ويبذلون للبساسيري أن يدفع عنهم نور الدولة، ويأخذ نهر الصلة ونهر الفضل لنفسه.
ذكر وفاة مودود بن مسعود

وملك عمه عبد الرشيد
في هذه السنة، في العشرين من رجب، توفي أبو الفتح مودود بن مسعود ابن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وعمره تسع وعشرون سنة، وملكه تسع سنين وعشرة أشهر، وكان موته بغزنة، وكان قد كاتب أصحاب الأطراف في سائر البلاد، ودعاهم إلى نصرته وإمداده بالعساكر، وبذل لهم الأموال الكثيرة، وتفويض أعمال خراسان ونواحيها إليهم على قدر مراتبهم، فأجابوا إلى ذلك منهم أبو كاليجار، صاحب أصبهان، فإنه جمع عساكره وسار في المفازة، فهلك كثير من عسكره، ومرض وعاد.
ومنهم خاقان ملك الترك، فإنه سار إلى ترمذ، ونهب وخرب، وصادر أهل تلك الأعمال، وسارت طائفة أخرى مما وراء النهر إلى خوارزم.
وسار مودود من غزنة، فلم يسر غير مرحلة واحدة حتى عارضه قولنج اشتد عليه، فعاد إلى غزنة مريضاً، وسير وزيره أبا الفتح عبد الرزاق بن أحمد الميمندي إلى سجستان في جيش كثيف لأخذها من الغز، واشتدت العلة بمودود فتوفي، وقام في الملك بعده ولده، فبقي خمسة أيام ثم عدل الناس عنه إلى عمه علي بن مسعود، وكان مودود لما ملك قبض على عمه عبد الرشيد ابن محمود وسجنه في قلعة ميدين، بطريق بست، فلما توفي كان وزيره قد قارب هذه القلعة، فنزل عبد الرشيد إلى العسكر ودعاهم إلى طاعته، فأجابوه وعادوا معه إلى غزنة، فلما قاربها هرب عنها علي بن مسعود، وملك عبد الرشيد، واستقر الأمر له، ولقب شمس دين الله سيف الدولة، وقيل جمال الدولة، ودفع الله شر مودود عن داود، وهذه السعادة التي تقتل الأعداء بغير سلاح ولا أجناد.
ذكر استيلاء البساسيري على الأنبار

في هذه السنة أيضاً، في ذي القعدة، ملك البساسيري الأنبار، ودخلها أصحابه.
وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم، فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار، فأجابهم إلى ذلك، وسير معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار، ولحقهم البساسيري وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم، ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه، وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.
ذكر انهزام الملك الرحيم من عسكر فارسفي هذه السنة عاد الملك الرحيم من الأهواز إلى رامهرمز في ذي القعدة، فلما وصل إلى وادي الملح لقيه عسكر فارس، واقتتلوا قتالاً شديداً، فغدر بالملك الرحيم بعض عسكره، وانهزم هو وجميع العسكر، ووصل إلى بصنى ومعه أخوه أبو سعد وأبو طالب، وسار منها إلى واسط، وسار عسكر فارس إلى الأهواز، فملكوها وخيموا بظاهرها.
ذكر عدة حوادثوفيها وصل عسكر من مصر إلى حلب، وبها صاحبها ثمال بن صالح بن مرداس، فخالفهم لكثرتهم، فانصرف عنها، فملكها المصريون.
وفيها، في ذي القعدة، ارتفعت سحابة سوداء مظلمة ليلاً،! فزادت ظلمتها على ظلمة الليل، وظهر في جوانب السماء كالنار المضطرمة، وهبت معها ريح شديدة قلعت رواشن دار الخليفة، وشاهد الناس من ذلك ما أزعجهم وخوفهم، فلزموا الدعاء والتضرع، فانكشفت في باقي الليل.
وفيها، في شعبان، سار البساسيري من بغداد إلى طريق خراسان، وقصد ناحية الدزدار وملكها وغنم ما فيها، وكان سعدي بن أبي الشوك قد ملكها، وقد عمل لها سوراً وحصنها، وجعلها معقلاً يتحصن فيه، ويدخر بها كل ما يغنمه، فأخذه البساسيري جميعه.
وفيها منع أهل الكرخ من النوح، وفعل ما جرت عادتهم بفعله يوم عاشوراء، فلم يقبلوا وفعلوا ذلك، فجرى بينهم وبين السنة فتنة عظيمة قتل فيها وجرح كثير من الناس، ولم ينفصل الشر بينهم حتى عبر الأتراك وضربوا خيامهم عندهم، فكفوا حينئذ، ثم شرع أهل الكرخ في بناء سور على الكرخ، فلما رآهم السنة من القلائين ومن يجري مجراهم شرعوا في بناء سور على سوق القلائين، وأخرج الطائفتان في العمارة مالاً جليلاً، وجرت بينهما فتن كثيرة، وبطلت الأسواق، وزاد الشر، حتى انتقل كثير من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي فأقاموا به، وتقدم الخليفة إلى أبي محمد بن النسوي بالعبور وإصلاح الحال وكف الشر، فسمع أهل الجانب الغربي ذلك، فاجتمع السنة والشيعة على المنع منه، وأذنوا في القلائين وغيرها بحي على خير العمل، وأذنوا في الكرخ: الصلاة خير من النوم، وأظهروا الترحم على الصحابة، فبطل عبوره.
وفيها توفي أبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله الصوري الحافظ، كان إماماً صحب عبد الغني بن سعيد، وتخرج به، ومن تلامذته الخطيب أبو بكر.
وفيها توفي الملك العزيز أبو بكر منصور بن جلال الدولة، وقد ذكرنا تنقل الأحوال به فيما تقدم، وله شعر حسن.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن العتيقي، نسب إلى جد له يسمى عتيقاً، ومولده سنة سبع وستين وثلاثمائة.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب ابن أقضى القضاة أبي الحسن الماوردي، وكانت شهادته سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وقبلها القاضي في بيت النوبة، ولم يفعل ذلك مع غيره، وإنما فعل معه هذا احتراماً لأبيه.
ثم دخلت سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

ذكر ملك طغرلبك أصبهان
كان أبو منصور بن علاء الدولة، صاحب أصبهان، غير ثابت على طريقة واحدة مع السلطان طغرلبك، كان يكثر التلون معه، تارة يطيعه وينحاز إليه، وتارة ينحرف عنه ويطيع الملك الرحيم، فأضمر له طغرلبك سوءاً، فلما عاد هذه الدفعة من خراسان لأخذ البلاد الجبلية من أخيه إبراهيم ينال، واستولى عليها، على ما ذكرناه، عدل إلى أصبهان عازماً على أخذها من أبي منصور، فسمع ذلك، فتحصن ببلده، واحتمى بأسواره، ونازله طغرلبك في المحرم، وأقام على محاصرته نحو سنة، وكثرت الحروب بينهما، إلا أن طغرلبك قد استولى على سواد البلد، وأرسل سرية من عسكره نحو فارس، فبلغوا إلى البيضاء، فأغاروا على السواد هناك وعادوا غانمين.

ولما طال الحصار على أصبهان، وأخرب أعمالها، ضاق الأمر بصاحبها وأهلها، وأرسلوا إليه يبذلون له الطاعة والمال، فلم يجبهم إلى ذلك، ولم يقنع منهم إلا بتسليم البلد، فصبروا حتى نفدت الأقوات، وامتنع الصبر، وانقطعت المواد، واضطر الناس حتى نقضوا الجامع، وأخذوا أخشابه لشدة الحاجة إلى الحطب، فحيث بلغ بهم الحال إلى هذا الحد خضعوا له واستكانوا، وسلموا البلد إليه فدخله وأخرج أجناده منه وأقطعهم في بلاد الجبل، وأحسن إلى الرعية، وأقطع صاحبها أبا منصور ناحيتي يزد وأبرقوية، وتمكن من أصبهان ودخلها في المحرم من سنة ثلاث وأربعين واستطابها، ونقل ما كان له بالري من مال وذخائر وسلاح إليها، وجعلها دار مقامه، وخرب قطعة من سورها، وقال: وإنما يحتاج إلى الأسوار من تضعف قوته، فأما من حصنه عساكره وسيفه فلا حاجة به إليها.
ذكر عود عساكر فارس من الأهواز

وعود الرحيم إليها
في هذه السنة، في المحرم، عادت عساكر فارس التي مع الأمير أبي منصور صاحبها عن الأهواز إلى فارس.
وسبب هذا العود أن الأجناد اختلفوا، وشغبوا، واستطالوا وعاد بعضهم إلى فارس بغير أمر صاحبهم، وأقام بعضهم معه، وسار بعضهم إلى الملك الرحيم، وهو بالأهواز، يطلبونه ليعود إليهم، فعاد فيمن عنده من العساكر، وأرسل إلى بغداد يأمر العساكر التي فيها بالحضور عنده ليسير بهم إلى فارس، فلما وصل إلى الأهواز لقيه العساكر مقرين بالطاعة، وأخبروه بطاعة عساكر فارس، وأنهم ينتظرون قدومه، فدخل الأهواز في شهر ربيع الآخر، فتوقف بالأهواز ينتظر عساكر بغداد، ثم سار عنها إلى عسكر مكرم فملكها وأقام بها.
ذكر استيلاء زعيم الدولة على مملكة أخيه قرواشفي هذه السنة، في جمادى الأولى، استولى زعيم الدولة أبو كامل بركة ابن المقلد على أخيه قرواش، وحجر عليه، ومنعه من التصرف على اختياره.
وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له، فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه، وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده.
ثم أرسل إليه نفراً من أعيان يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة، ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك، والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم، فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه، وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً، فأمنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة، وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.
ذكر استيلاء الغز على مدينة فساوفيها، في جمادى الأولى، سار الملك ألب أرسلان بن داود أخي طغرلبك من مدينة مرو بخراسان، وقصد بلاد فارس في المفازة، فلم يعلم به أحد، ولا أعلم عمه طغرلبك، فوصل إلى مدينة فسا، فانصرف النائب بها من بين يديه، ودخلها ألب أرسلان فقتل من الديلم بها ألف رجل، وعدداً كثيراً من العامة، ونهبوا ما قدره ألف ألف دينار، وأسروا ثلاثة آلاف إنسان، وكان الأمر عظيماً. فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى خراسان، ولم يلبثوا خوفاً من طغرلبك أن يرسل إليهم، ويأخذ ما غنموه منهم.
ذكر استيلاء الخوارج على عمانفي هذه السنة استولى الخوارج المقيمون بجبال عمان على مدينة تلك الولاية.
وسبب ذلك أن صاحبها الأمير أبا المظفر ابن الملك أبي كاليجار كان مقيماً بها، ومعه خادم له قد استولى على الأمور، وحكم على البلاد، وأساء السيرة في أهلها، فأخذ أموالهم، فنفروا منه وأبغضوه.
وعرف إنسان من الخوارج يقال له ابن راشد الحال، فجمع من عنده منهم فقصد المدينة، فخرج إليه الأمير أبو المظفر في عساكره، فالتقوا واقتتلوا، فانهزمت الخوارج وعادوا إلى موضعهم.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34