كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ووصل خبرهم إلى هارون الشاري فاجتمع رأيه ورأي وجوه أصحابه على قصد الحصن أولأن فإذا فرغوا منه ساروا إلى محمد بن عباده، فجمع أصحابه، فبلغوا مائة راجل وألفاً ومائتي فارس، وسار إليه مبادرأن وأحدق به وحصره؛ ومحمد بن عبادة في قيراثا لا يعلم بذلك.
وجد هارون في قتال الحصن، وكان معه سلاليم قد أخذهأن وزحف إليه، وكان أصحابه قد منعوا أحداً يخرج رأسه من أعلى السور، فلما رأى من معه من بني تغلب تغلبه على الحصن أعطوا من فيه من بني زهير الأمان بغير أمر هارون، فشق عليه، ولم يقدر على تغيير ذلك، إلا أنه قتل أبا هلال بن محمد بن عبادة ونفراً معه قبل الأمان، وفتحوا الحصن وملكوا ما فيه.
وساروا إلى محمد، وهوبقبراثأن فلقوه وهوفي أربعة آلاف رجل، فاقتتلوأن فانهزم هارون ومن معه، فوقف بعض أصحابه ونادى رجالاً بأسمائهم فاجتمعوا نحوأربعين رجلأن وحملوا على ميمنة محمد بن عبادة، فانهزمت الميمنة، وعادت الحرب، فانهزم محمد ومن معه، ووضعوا السيف فيهم، فقتلوا منهم ألفاً وأربع مائة رجل، وحجز بينهم الليل، وجمع هارون مالهم فقسمه بين أصحابه، وانهزم محمد إلى آمد، فأخذه صاحبها أحمد ابن عيسى بن الشيخ، بعد حرب، فظفر به، فأخذه أسيرأن وسيره إلى المعتضد، فسلخ جلده كما يسلخ الشاة.
ذكر عدة حوادثلما افتتح محمد بن أبي الساج مراغة، بعد حرب شديدة وحصار عظيم، أخذ عبد الله الحسين، بعد أن أمنه وأصحابه، وقيده وحبسه، وقرره بجميع أمواله ثم قتله.
وفيها مات أحمد بن ثور عمان وبعث برؤوس جماعة من أهلها.
وفيها توفي جعفر بن المعتمد في ربيع الآخر، وكان ينادم المعتضد.
وفيها دخل عمروبن الليث نيسابور في جمادى الأولى.
وفيها وجه محمد بن أبي الساج ثلاثين نفساً من الخوارج من طريق الموصل فضربت أعناق أكثرهم، وحبس الباقون.
وفيها دخل أحمد بن أبا طرسوس للغزاة من قبل خمارويه بن أحمد ابن طولون، ودخل بعده بدر الحمامي، فغزوا جميعاً مع العجيفي أمير طرسوس حتى بلغوا البلقسون.
وفيها غزا إسماعيل بن أحمد الساماني بلاد الترك، وافتتح مدينة ملكهم، وأسر أباه وامرأته خاتون ونحواً من عشرة آلاف، وقتل منهم خلقاً كثيرأن وغمن من الدواب ما لا يعلم عددأن وأصاب الفارس من الغنيمة ألف درهم.
وفيها توفي راشد مولى الموفق بالدينور، وحمل إلى بغداد في رمضان.
وفي شوال مات مسرور والبلخي.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان، حتى بلغ الماء أرطال بدرهم، وغلت الأسعار.
وفي شوال انكسف القمر، وأصبح أهل دبيل والدنيا مظلمة، ودامت الظلمة عليهم، فلما كان عند العصر هبت ريح سوداء فدامت إلى ثلث الليل، فلما كان ثلث الليل زلزلوا فخربت المدينة، ولم يبق من منازلهم إلا قدر مائة دار، وزلزلوا بعد ذلك مس مرار، وكان جملة من أخرج من تحت الردم مائة ألف وخمسون ألفاً كلهم موتى.
وحج بالناس هذه السنة أبوبكر محمد بن هارون بن إسحاق المعروف بابن ترنجة.
وفيها توفي محمد بن إسماعيل بن يوسف أبوإسماعيل الترمذي في رمضان، وله تصنيف حسنة؛ واحمد بن سيار بن أيوب الفقيه المروزي، وكان زاهداً عالماً؛ وأبوجعفر أحمد بن أبي عمران الفقيه الحنفي بمصر.
حوادث سنة إحدى وثمانين ومائتين

ذكر مسير المعتضد إلى ما ردين
وملكه إياها
وفيها خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل، قاصداً لحمدان بن حمدون، لأنه بلغه أن حمدان مال إلى هارون الشاري، ودعا له، فلما بلغ الأعراب والأكراد مسير المعتضد تحالفوا أنهم يقتلون على دم واحد، واجتمعوأن وعبوا عسكرهم، وسار المعتضد إليهم في خيله جريدة، فأوقع بهم، وقتل منهم، وغرق منهم في الزاب خلق كثير.
وسار المعتضد إلى الموصل يريد قلعة ماردين، وكانت لحمدان بن حمدون، فهرب حمدان منها وخلف ابنه بهأن فنازلها المعتضد، وقاتل من فيها يومه ذلك، فلما كان من الغد ركب المعتضد فصعد إلى باب القلعة، وصاح: يا بن حمدان! فأجابه، فقال: افتح الباب، ففتحه، فقعد المعتضد في الباب، وأمر بنقل ما في القلعة وهدمهأن ثم وجه خلف ابن حمدون، وطلب اشد الطلب، وأخذت أموال له، ثم ظفر به المعتضد بعد عوده إلى بغداد.
وفي عوده قصد السنية وبها رجل كردي يقال له شداد، في جيش كثير، قيل كانوا عشرة آلاف رجل، وكان له قلعة، فظفر به المعتضد وهدم قلعته.

ذكر عدة حوادث
وفيها ورد ترك بن العباس، عامل المعتضد على ديار مضر، من الجزيرة إلى بغداد، ومعه نيف وأربعون من أصحاب ابن الأغر، صاحب سميساط، على جمال، عليهم برانس ودراريع حرير، فمضى بهم إلى الحبس، وعاد إلى داره.
وفيها كانت وقعة لوصيف خادم ابن أبي الساج لعمر بن عبد العزيز، فهزمه، ثم سار وصيف إلى مولاه محمد بن أبي الساج.
وفيها دخل طغج بن جف طرسوس لغزوالصائفة من قبل خمارويه ابن احمد بن طولون فبلغ طرابزون، وفتح بلودية في جمادى الآخرة.
وفيها مات أحمد بن محمد الطائي بالكوفة في جمادى.
وفيها غارت المياه بالري وطبرستان.
وفيها سار المعتضد إلى ناحية الجبل، وقصد الدينور، وولى ابنه عليأن وهوالمكتفي، الري، وقزوين، وزنجان، وأبهر، وقم، وهمذان، والدينور، وجعل على كتابته أحمد بن الأصبغ، وقلد عمر بن عبد العزيز ابن أبي دلف أصبهان، ونهاوند، والكرج، وعاد إلى بغداد لأجل غلاء السعر.
وفيها استأمن الحسن بن علي كورة، عامل رافع على الري، إلى علي بن المعتضد في زهاء ألف رجل، فوجهه ومن معه إلى أبيه.
وفيها دخل الأعراب سامرأن فقتلوا ابن سيما في ذي القعدة.
وفيها غزا المسلمون الروم، فدامت الحرب بينهم اثني عشر يومأن فظفر المسلمون وغمنوا غنيمة كثيرة وعادوا.
وفيها توفي عبيد الله بن محمد بن عبيد بن أبي الدنيأن صاحب التصانيف الكثيرة المشهورة.
حوادث سنة اثنتين وثمانين ومائتين
ذكر النيروز المعتضدي
فيها أمر المعتضد بالكتابة إلى الأعمال كلها جميعها بترك افتتاح الخراج في النيروز العجمي، وتأخير ذلك إلى الحادي عشر من حزيران، وسماه النيروز المعتضدي، وأنشئت الكتب بذلك من الموصل، والمعتضد بهأن وأراد بذلك الترفيه عن الناس، والرفق بهم.
ذكر قصد حمدان وانهزامه
وعوده إلى الطاعة
في هذه السنة كتب المعتضد إلى إسحاق بن أيوب، وحمدان بن حمدون، بالمسير إليه، وهوفي الموصل، فبادر إسحاق، وتحصن حمدان بقلاعه، وأودع أمواله وحرمه، فسير المعتضد الجيوش نحوه مع وصيف موشكير، ونصر القشوري، وغيرهمأن فصادفوا الحسن بن علي كورة وأصحابه متحصنين بموضع يعرف بدير الزعفران، من أرض الموصل.
وفيها وصل الحسين بن حمدان بن حمدون، فلما رأى الحسين أوائل العسكر طلب الأمان، فأمن، وسير إلى المعتضد، وسلم القلعة، فأمر المعتضد بهدمهأن وسار وصيف في طلب حمدان، وكان بباسورين، فواقعه وصيف، وقتل من أصحابه جماعة، وانهزم حمدان في زورق كان له في دجلة، وحمل معه مالاً كان له، وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة، فصار في ديار ربيعة.
وعبر نفر من الجند، فاقتصوا أثره، حتى أشرفوا على دير قد نزله، فلما رآهم هرب، وترك ماله، فأخذ وأتي به المعتضد، وسار أولئك في طلب حمدان، فضاقت عليه الأرض، فقصد خيمة إسحاق بن أيوب، وهومع المعتضد، واستجار به، فأحضره إسحاق عند المعتضد، فأمر بالاحتفاظ به، وتتابع رؤساء الأكراد في طلب الامان، وكان ذلك في المحرم.
ذكر انهزام هارون الخارجي من عسكر الموصلكان المعتضد بالله قد خلف بالموصل نصراً القشوري يجبي الأموال ويعين العمال على جبايتهأن فخرج عامل معلثايا إليها ومعه جماعة من أصحاب نصر، فوقع عليهم طائفة من الخوارج، فاقتتلوا إلى أن أدركهم الليل وفرق بينهم، وقتل من الخوارج إنسان اسمه جعفر، وهومن أعيان أصحاب هارون، فعظم عليه قتله، وأمر أصحابه بالإفساد في البلاد.
فكتب نصر القشوري إلى هارون الخارجي كتاباً يتهدده بقرب الخليفة، وأنه إن هم به أهلكه وأهلك أصحابه، وأنه لا يغتر بمن سار إلى حربه، فعاد عنه بمكر وخديعة، فكتب إليه هارون كتاباً منه: أما ما ذكرت ممن أراد قصدي، ورجع عني، فإنهم لما رأوا جدنا واجتهادنا كانوا بإذن الله فراشاً متتابعأن وقصباً أجوف، ومن صبر لنا منهم ما زاد على الاستتار بالحيطان، ونحن على فرسخ منهم، وما غرك إلا ما أصبت به صاحبنأن فظننت أن دمه مطلول أوأن وتره متروك لك، كلا إن الله تعالى من ورائك، وآخذ بناصيتك، ومعين على إدراك الحق منك، ولم تعيرنا بغيرك وتدع أن يكون ذلك إبداء صفحتك، وإظهار عداوتك؟ وإنا كما قيل:
فلا توعدونا باللقاء وأبرزوا ... إلينا سواداً نلقه بسواد

ولعمر الله ما ندعوإلى البراز ثقة بأنفسنأن ولا عن ظن أن الحول والقوة لنأن لكن ثقة بربنأن واعتماداً على جميل عوائده عندنا.
وأما ما ذكرت من أمر سلطانك، فإن سلطانك لا يزال منا قريبأن وبحالنا عالمأن فلا قدم أجلاً ولا أخره، ولا بسط رزقاً ولا قبضه قد بعثنا على مقابلتك، وستعلم عن قريب إن شاء الله تعالى.
فعرض نصر كتاب هارون على المعتضد، فجد في قصده، وولى الحسن بن علي كورة الموصل، وأمره بقصد الخوارج، وأمر مقدمي الولايات والأعمال كافة بطاعته، فجمعهم، وسار إلى أعمال الموصل، وخندق على نفسه، وأقام إلى أن رفع الناس غلاتهم، ثم سار إلى الخوارج، وعبر الزاب إليهم، فلقيهم قريباً من المغلة، وتصافوا للحرب، فاقتلوا قتالاً شديدأن وانكشف الخوارج عنه ليفرقوا جمعيته ثم يعطفوا عليه، فأمر الحسن أصحابه بلزوم مواقفهم، ففعلوأن فرجع الخوارج وحملوا عليهم سبع عشرة حملة، فانكشفت ميمنة الحسن، وقتل من أصحابه، وثبت هو، فحمل الخوارج عليه حملة رجل واحد، فثبت لهم وضرب على رأسه عدة ضربات فلم تؤثر فيه.
فلما رأى أصحابه ثباته تراجعوا إليه وصبروأن فانهزم الخوارج أقبح هزيمة وقتل منهم خلق كثير، وفارقوا موضع المعركة، ودخلوا أذربيجان.
وأما هارون فإنه تحير في أمره، وقصد البرية، ونزل عند بني تغلب، ثم عاد إلى معلثايأن ثم عاد إلى البرية، ثم رجع عبر دجلة إلى حزة، وعاد إلى البرية.
وأما وجوه أصحابه، فإنهم لما رأوا إقبال دولة المعتضد وقوته، وما لحقهم في هذه الوقعة، راسلوا المعتضد يطلبون الأمان فأمنهم، فأتاه كثير منهم، يبلغون ثلاثمائة وستين رجلأن وبقي معه بعضهم يجول بهم في البلاد، إلى أن قتل سنة ثلاث وثمانين على ما نذكره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة في ربيع الأول قبض على تكتمر بن طاشتمر، وقيد وأخذ ماله؛ وكان أميراً على الموصل، واستعمل بعده عليها الحسن بن علي الخراساني، ويعرف بكورة.
وفيها قدم ابن الجصاص بابنة خمارويه، زوجة المعتضد، ومعها أحد عمومتها، وكان المعتضد بالموصل.
وفيها عاد المعتضد إلى بغداد، وزفت إليه ابنة خمارويه في ربيع الآخر.
وفيها سار المعتضد إلى الجبل، فبلغ الكرج، وأخذ أموالاً لابن أبي دلف، وكتب إلى عمروبن عبد العزيز يطلب منه جوهراً كان عنده، فوجه به إليه، وتنحى من بين يديه.
وفيها أطلق لؤلؤ غلام ابن طولون، وحمل على دواب وبغال.
وفيها وجه يوسف بن أبي الساج إلى الصيمرة مدداً لفتح القلانسي، غلام الموفق، فهرب يوسف فيمن أطاعه إلى أخيه محمد بمراغة، ولقي مالاً للمعتضد فأخذه، فقال في ذلك عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:
إمام الهدى أنصاركم آل طاهر ... بلا سبب تخفون والدهر يذهب
وقد خلطوا شكراً بصبر ورابطوا ... وغيرهم يعطي ويجبي ويهرب
وفيها وجه المعتضد وزيره عبيد الله بن سليمان إلى ابنه الري وعاد منها.
وفيها وجه محمد بن زيد العلوي من طبرستان إلى محمد بن ورد العطار باثنين وثلاثين ألف دينار ليفرقها على أهل بيته ببغداد، والكوفة، والمدينة، فسعي به إلى المعتضد، فأحضر محمد عنه بدر، وسئل عن ذلك، فأقر أنه يوجه إليه كل سنة مثل ذلك، ففرقه، وأنهى بدر إلى المعتضد ذلك، فقال له المعتضد: أما تذكر الرؤيا التي خبرتك بها؟ قال: لا ، يا أمير المؤمنين؛ قال: رأيت في النوم كأني أريد ناحية انهروان، وأنا في جيشي، إذ مررت برجل واقف على تل يصلي ولا يلتفت إلي، فعجبت، فلما فرغ من صلاته قال لي: أقبل، قأقبلت إليه، فقال لي: أتعرفني؟ قلت: لا! قال: أنا علي بن أبي طالب، خذ هذه فاضرب بها الأرض، بمسحاة بين يديه، فأخذتهأن فضربت بها ضربات، فقال لي: إنه سيلي من ولدك هذا الأمر بعدد الضربات، فأوصهم بولدي خيراً.
وأمر بدراً بإطلاق المال والرجل، وأمره أن يكتب إلى صاحبه بطبرستان أن يوجه ما يريد ظاهرأن وأن يفرق ما يأتيه ظاهرأن وتقدم بمعونته على ذلك.
وفيها توفي أبوطلحة منصور ين مسلم في حبس المعتضد.
وفيها ولدت جارية اسمها شغب للمعتضد ولداً سماه جعفرأن وهوالمقتدر.
وفيها قتل خمارويه بن احمد بن طولون، ذبحه بعض خدمه على فراشه في ذي الحجة بدمشق، وقتل من خدمه الذين اتهموا نيف وعشرون نفساً.

وكان سبب قتله أنه سعى إليه بعض الناس وقال له إن جواري داره قد اتخذت كل واحدة منهم خصيأن من خصيان داره، لها كالزوج، وقال: إن شئت أن تعلم صحة ذلك فأحضر بعض الجواري فاضربهأن وقررهأن حتى تعلم صحة ذلك. فبعث من وقته إلى نائبه بمصر يأمره بإحضار عدة من الجواري ليعلم الحال منهن، فاجتمع جماعة من الخدم، قرروا بينهم الاتفاق على قتله، خوفاً من ظهور ما قيل له، وكانوا خاصته، فذبحوه ليلاً وهربوا.
فلما قتل اجتمع القواد وأجلسوا ابنه جيش بن خمارويه في الإمارة، وكان معه بدمشق، وهوأكبر ولده، فبايعوه ففرقت فيهم الأموال، وكان صبياً غراً.
وفيها توفي عثمان بن سعيد بن خالد أبوسعيد الداري، الفقيه الشافعي، أخذ الفقه عن البويطي صاحب الشافعي، والأجرب عن ابن الأعرابي.
وفيها توفي أبوحنيفة أحمد بن داود الدينوري اللغوي صاحب كتاب النبات وغيره.
وفيها توفي الحارث بن أبي أسامة، وله مسند يروى غالباً في زماننا هذا؛ وأبوالعيناء محمد بن القاسم وكان يروي عن الأصمعي.
حوادث سنة ثلاث وثمانين ومائتين

ذكر الظفر بهارون الخارجي
في هذه السنة سار المعتضد إلى الموصل بسبب هارون الشاري وظفر به.
وسبب الظفر به أنه وصل إلى تكريت وأقام بهأن وأحضر الحسين بن حمدان التغلبي وسيره في طلب هارون بن عبد الله الخارجي في جماعة من الفرسان والرجالة، فقال له الحسين: إن أنا جئت به فلي ثلاث حوائج عند أمير المؤمنين؛ قال: اذكرها! قال: إحداهن إطلاق أبي، وحاجتان أذكرهما بعد مجيئي به. فقال له المعتضد: لك ذلك. فانتخب ثلاثمائة فارس، وسار بهم، معهم وصيف بن موشكير، فقال به الحسين: تأمره بطاعتي، يا أمير المؤمنين. فأمره بذلك.
وسار بهم الحسين حتى انتهى إلى مخاضة في دجلة، فقال الحسين لوصيف ولمن معه: ليقفوا هناك، فإنه ليس له طريق إن هرب غير هذأن فلا تبرحن من هذا الموضع حتى يمر بكم فتمنعوه عن العبور، وأجيء أنأن أويبلغكم أني قتلت.
ومضى حسين في طلب هارون، فلقيه، وواقعه وقتل بينهما قتلى، وأنهزم هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنأن ولسنا نأمن أن يأخذ حسين الشاري، فيكون له الفتح دوننأن والصواب أن منضي في آثارهم، فأطاعهم ومضى.
وجاء هارون منهزماً إلى موضع المخاضة فعبر، وجاء حسين في أثره، فلم ير وصيفاً وأصحابه في الموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف لهم خبرأن فعبر في أثر هارون، وجاء إلى حي من أحياء العرب، فسأل عنه، فكتموه، فتهددهم، فاعلموه أنه اجتاز بهم، فتبعه حتى لحقه بعد أيام، وهارون في نحومائة رجل، فناشده الشاري ووعده، وأبى حسين إلا محاربته، فحاربه، فألقى الحسين نفسه عليه، فأخذه أسيراً وجاء به إلى المعتضد، فانصرف المعتضد إلى بغداد، فوصلها لثمان بقين من ربيع الأول.
وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان وطوقه، وخلع على إخوته، وأدخل هارون على الفيل، وأمر المعتضد بحل قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه والإحسان إليه، ووعد بإطلاقه.
ولما أركبوا هارون على الفيل أرادوا أن يلبسوه ديباجاً مشهرأن فامتنع وقال: هذا لا يحل؛ فألبسوه كارهأن ولما صلب نادى بأعلى صوته: لا حكم إلا لله، ولوم كره المشركون؛ وكان هارون صفرياً.
ذكر عصيان دمشق على جيش بن خمارويه وخلاف جنده عليه وقتلهفي هذه السنة خرج جماعة من قواد جيش بن خمارويه عليه، وجاهروا بالمخالفة، وقالوا: لا نرضى بك أميرأن فاعتزلنا حتى نولي عمك الإمارة.
وكان سبب ذلك أنه لما ولي وكان صبياً قرب الأحداث والسفل، وأخلد إلى استماع أقوالهم، فغيروا نيته على قواده وأصحابه، وصار يقع فيهم ويذمهم، ويظهر العزم على الاستبدال بهم، وأخذ نعمهم وأموالهم؛ فاتفقوا عليه ليقتلوه ويقيموا عمه، فبلغه ذلك، فلم يكتمه بل أطلق لسانه فيهم، ففارقه بعضهم، وخلعه طغج بن جف أمير دمشق.

وسار القواد الذين فارقوه إلى بغداد، وهم محمد بن إسحاق بن كنداجيق، وخاقان المفلحي وبدر بن جف، أخوطغج،وغيرهم من قواد مصر، فسلكوا البرية، وتركوا أهاليهم وأموالهم، فتاهوا أيامأن ومات من أصحابهم جماعة من العطش، وخرجوا فوق الكوفة بمرحلتين، وقدموا على المعتضد، فخلع عليهم، واحسن إليهم، وبقي سائر الجنود بمصر على خلافهم ابن خمارويه، فسألهم كاتبه علي بن أحمد الماذرائي أن ينصرفوا يومهم ذلك، فرجعوأن فقتل جيش عمين له، وبكر الجند إليه، فرمى بالراسين إليهم، فهجم الجند عليه فقتلوه ونهبوا داره، ونهبوا مصر وأحرقوهأن وأقعدوا أخاه هارون في الإمرة بعده، فكانت ولايته تسعة أشهر.
ذكر حصر الصقالبة القسطنطينيةوفي هذه السنة سارت الصقالبة إلى الروم، فحصروا القسطنطينية، وقتلوا من أهلها خلقاً كثيرأن وخربوا البلاد، فلما لم يجد ملك الروم منهم خلاصاً جمع من عنده من أسارى المسلمين، وأعطاهم السلاح، وسألهم معونته على الصقالبة، ففعلوا وكشفوا الصقالبة وأزاحوهم عن القسطنطينية، ولما رأى ملك الروم ذلك خاف المسلمين على نفسه، فردهم، وأخذ السلاح منهم، وفرقهم في البلاد حذراً من جنايتهم عليه.
ذكر الفداء بين المسلمين والرومفي هذه السنة كان الفداء بين المسلمين والروم، فكان جملة من فدي به من المسلمين الرجال، والنساء، والصبيان، ألفين وخمسمائة وأربعة أنفس.
ذكر الحرب بين عسكر المعتضد وأولاد أبي دلفوفيها سار عبيد الله بن سليمان إلى عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بالجبل، فسار عمر إليه بالأمان في شعبان، فأذعن بالطاعة، فخلع عليه وعلى أهل بيته.
وكان قبل ذلك قد دخل بكر بن عبد العزيز بالأمان إلى عبيد الله بن سليمان، وبدر، فولياه عمل أخيه على أن يسير إليه فيحاربه، فلما دخل عمر في الأمان قالا لبكر: إن أخاك قد دخل في الطاعة، وإمنا وليناك عمله على أنه عاص، والمعتضد يفعل في أمركما ما يراه، فامضيا إلى بابه.
وولي النوشري أصبهان، وأظهر أنه من قبل عمر بن عبد العزيز، فهرب بكر بن عبد العزيز، فكتب عبيد الله إلى المعتضد بذلك، فكتب إلى بدر ليقيم بمكانه إلى أن يعرف حال بكر.
وسار الوزير إلى علي بن المعتضد بالري، ولحق بكر بن عبد العزيز بالأهواز، فسير المعتضد إليه وصيف بن موشكير، فسار إليه، فلحقه بحدود فارس، وباتا متقابلين، وارتحل بكر إلى أصبهان ليلأن فلم يتبعه وصيف، بل رجع إلى بغداد، وسار بكر إلى أصبهان، فكتب المعتضد إلى بدر يأمره بطلب بكر وحربه، فأمر بدر عيسى النوشري بذلك، فقال بكر:
عني ملامك ليس حين ملام ... هيهات أجدب زائد الأيام
ظأرت عنايات الصبا عن مفرقي ... ومضى أوان شراستي وغرامي
ألقى الأحبة بالعراق عصيهم ... وبقيت نصب حوادث الأيام
وتقاذفت بأخي النوى ورمت به ... رمي العبيد قطيعة الأرحام
فلأقرعن صفاة دهر نابهم ... قرعاً يهز رواسي الأعلام
ولأضربن الهام دون حريمهم ... ضرب القدار نقيعة القدام
ولأتركن الواردين حياضهم ... بقرارة لمواطئ الأقدام
يا بدر إنك لوشهدت مواقفي ... والموت يلحظ والسيوف دوامي
لذممت رأيك في إضاعة حرمتي ... ولضاق ذرعك في اطراح ذمامي
حركتني بعد السكون وإمنا ... حركت من حصن جبال تهام
وعجمتني فعجمت مني من حمى ... خشن المناكب كل يوم زحام
قل للأمير أبي محمد الذي ... يجلوبغرته دجى الإظلام
أسكنتني ظل العلا فسكنته ... في عيشة رغد وعز نام
حتى إذا خليت عني نابني ... نوب أتت وتنكرت أيامي
فلأشكرن جميل ما أوليتني ... ما غردت في الأيك ورق حمام
هذا أبوحفص يدي وذخيرتي ... للنائبات وعدتي وسنامي
ناديته فأجابني وهززته ... فهززت حد الصارم الصمصام

من رام أن يغضي الجفون على القذى ... أويستكين يروم غير مرام
ويخيم حين يرى الأسنة شرعاً ... والبيض مصلتة لضرب الهام
ثم إن النوشري انهزم عن بكر، فقال بكر يذكر هربه، ويعير وصيفاً بالإحجام عنه، ويتهدد بدراً في أبيات منها:
قد أرى النوشري حين التقينا ... من إذا أشرع الرماح يفر
جاء في قسطل لهام فصلنا ... صولة دونها الكماة تهر
ولواء النوشري آثار نار ... رويت عند ذاك بيض وسمر
غر بدراً حلمي وفضل آتاني ... واحتمالي للعبء مما يغر
سوف يأتيه من خيولي قب ... لاحقات البطون جون وشقر
يتنادون كالسعالي عليها ... من بني وائل اسود تكر
لست بكراً إن لم أدعهم حديثاً ... ما سرى كوكب وما كر دهر
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أمر المعتضد بالكتابة إلى جميع البلدان أن يرد الفاضل من سهام المواريث إلى ذوي الأرحام، وأبطل ديوان المواريث.
وفيهأن في شوال مات علي بن محمد بن أبي الشوارب القاضي، وكانت ولايته لقضاء بمدينة المنصور ستة أشهر.
وفيها قدم عمر بن عبد العزيز بن أبي دلف بغداد، فأمر المعتضد الناس والقواد باستقباله، وقعد له المعتضد، فدخل عليه، وأكرمه وخلع عليه.
وفيهأن في رمضان، تحارب عمروبن الليث الصفار ورافع بن هرثمة، فانهزم رافع، وكان سبب ذلك أن عمراً فارق نيسابور، فخالفه إليها رافع وملكها وخطب فيها لمحمد بن زيد العلوي، فرجع عمرومن مروإلى نيسابور فحصرهأن فانهزم رافع منهأن ووجه عمروفي طلبه عسكراً فلحقوه بطوس، فانهزم منهم إلى خوارزم، فلحقوه بهأن فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى المعتضد، فوصله سنة أربع وثمانين في المحرم، أمر بنصبه ببغداد وخلع على القاصد به.
وفيها مات البحتري الشاعر، واسمه الوليد بن عبادة، بمنبج، أوحلب، وكان مولده سنة ست ومائتين.
وفيها توفي محمد بن سليمان أبوبكر المعروف بابن الباغندي، وأبوالحسن علي بن العباس بن جريج الشاعر المعروف بابن الرومي، وقيل: توفي سنة أربع وثمانين، وديوانه معروف، رحمه الله تعالى.
وفيها توفي سهل بن عبد الله بن يونس بن رفيع السري، ومولده سنة مائتين، وقيل ومائتين.
حوادث سنة أربع وثمانين ومائتينفي هذه السنة كان فتنة بطرسوس بين راغب مولى الموفق وبين دميانة.
وكان سبب ذلك أن راغباً ترك الدعاء لهارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون، ودعا لبدر مولى المعتضد، واختلف هووأحمد بن طوغان، فلما انصرف أحمد بن طوغان من الفداء سنة ثلاث وثمانين ركب البحر ومضى، ولم يدخل طرسوس، وخلف دميانة بها لقيام بأمرهأن وأمده ابن طوغان، فقوي بذلك، وأنكر ما كان يفعله راغب، فوقعت الفتنة، فظفر بهم راغب، فحمل دميانة إلى بغداد.
وفيها أوقع عيسى بن النوشري ببكر بن عبد العزيز بن أبي دلف بنواحي أصبهان، فقتل رجاله، واستباح عسكره، ونجا بكر في نفر يسير من أصحابه، فمضى إلى محمد بن زيد العلوي بطبرستان، وأقام عنده إلى سنة خمس وثمانين ومات، ولما وصل خبر موته إلى المعتضد أعطى القاصد به ألف دينار.
وفيهأن في ربيع الأول، قلد أبوعمر يوسف بن يعقوب القضاء بمدينة المنصور مكان علي بن أبي الشوارب.
وفيها أخذ خادم نصراني لغالب النصراني وشهد عليه أنه شتم النبي، صلى الله عليه وسلم، فاجتمع أهل بغداد، وصاحوا بالقاسم بن عبيد الله، وطالبوه بإقامة الحد عليه، فلم يفعل، فاجتمعوا على ذلك إلى دار المعتضد، فسئلوا عن حالهم، فذكروه للمعتضد، فأرسل معهم إلى القاضي أبي عمر، فكادوا يقتلونه من كثرة ازدحامهم، فدخل باباً وأغلقه، ولم يكن بعد ذلك للخادم ذكر، ولا للعامة ذكر اجتماع في أمره.
وفيها قدم قوم من أهل طرسوس على المعتضد يسألونه أن يولي عليهم واليأن وكانوا قد أخرجوا عامل ابن طولون، فسير إليهم المعتضد ابن الإخشيد أميراً.
وفيهأن في ربيع الآخر، ظهرت بمصر ظلمة وحمرة في السماء شديدة، حتى كان الرجل ينظر إلى وجه الآخر فيراه أحمد، فمكثوا كذلك من العصر إلى العشاء الآخرة، وخرج الناس من منازلهم يدعون الله تعالى، ويتضرعون إليه.

وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان على المنابر، وأمر بإنشاء كتاب يقرأ على الناس، وهوكتاب طويل قد أحسن كتابته، إلا أنه قد استدل فيه بأحاديث كثيرة على وجوب لعنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، لا تصح وذكر في الكتاب يزيد وغيره من بني أمية، وعملت به نسخ قرئت بجانبي بغداد، ومنع القضاة والعامة من القعود بالجامعين ورحابهمأن ونهى عن الاجتماع على قاض لمناظرة، أوجدل في أمر الدين، ونهى الذين يسقون الماء في الجامعين أن يترحموا على معاوية أويذكروه، فقال له عبيد الله بن سليمان: إنا نخاف اضطراب العامة وإثارة الفتنة، فلم يسمع منه، وحذره اضطراب العامة، فلم يلتفت، فقال: يا أمير المؤمنين! فما نصنع بالطالبيين الذين يخرجون من كل ناحية، ويميل إليهم خلق كثير من الناس لقرابتهم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ فإذا سمع الناس ما في هذا الكتاب من إطرائهم كانوا إليهم أميل، وكانوا هم أبسط ألسنة وأظهر حجة فيهم اليوم. فامسك المعتضد، ولم يأمر في الكتاب بعد ذلك بشيء، وكان عبيد الله من المنحرفة عن علي، عليه السلام.
وفيها سير المعتضد إلى عمروبن الليث الخلع والواء بولاية الري وهدايا.
وفيها فتحت قرة من بلد الروم على بد راغب مولى الموفق وابن كلوب في رجب.
وفيهأن في شعبان، ظهر بدار المعتضد إنسان بيده سيف، فمضى إليه بعض الخدم لينظر ما هو، فضربه بالسيف فجرحه، وهر بالخادم، ودخل الشخص في زرع البستان فتوارى فيه، فطلب باقي ليلته، ومن الغد، فلم يعرف له خبر، فاستوحش المعتضد، وكثر الناس في أمره بالظنون حتى قالوا: إنه من الجن، وظهر مراراً كثيرة، حتى وكل المعتضد بسور داره، وأحكمه بالظنون حتى قالوا: ثم أحضر المجانين والمعزمين بسبب ذلك الشخص، فسألهم عنه فقال المعزمون: نحن نعزم على بعض المجانين، فإذا سقط الجني عنه فاخبره خبره؛ فعزموا على امرأة مجنونة فصرعت والمعاضد ينظر إليهم، فلما صرعت أمرهم بالانصراف.
وفيها وجه كرامة بن مر من الكوفة بقوم مقيدين ذكر أنهم من القرامطة، فقروا بالضرب فأقروا على أبي هاشم بن صدقة الكاتب أنه منهم، فقبض عليه وحبسه.
وفيها وثب الحارث بن عبد العزيز بن أبي دلف المعروف بأبي ليلى بشفيع الخادم فقتله، وكان أخوه عمر بن عبد العزيز قد أخذه وقيده وحبسه في قلعته زر، ووكل به شفيعاً الخادم، ومعه جماعة من غلمان عمر، فلما استأمن عمر إلى المعتضد وهرب بكر بقيت القلعة بما فيها من الأموال بيد شفيع، فكلمه أبوليلى في إطلاقه، فلم يفعل، وطلب من غلام كان يخدمه مبردأن فادخله في الطعام، فبرد مسمار قيده.
وكان شفيع في كل ليلة يأتي إلى أبي ليلى يفتقده ويمضي ينام وتحت رأسه سيف مسلول، فجاء شفيع في ليلة إليه، فحادثه، فطلب منه أن يشرب معه أقداحأن وقام الخادم لحاجته، فجعل أبوليلى في فراشه ثياباً تشبه إنساناً نائمأن وغطاها باللحاف، وقال لجارية كانت تخدمه: إذا عاد شفيع قولي له هونائم. ومضى أبوليلى فاختفى ظاهر الدار، وقد اخرج قيده من رجله، فلما عاد شفيع قالت له الجارية: هونائم! فأغلق الباب ومشى إلى داره ونام فيها. فخرج أبوليلى وأخذ السيف من عند شفيع وقتله، فوثب الغلمان، فقال لهم أبوليلى: قد قتلت شفيعأن ومن تقدم إلي قتلته، فأنتم آمنون! فخرجوا من الدار، واجتمع الأنس إليه فكلمهم، ووعدهم الإحسان، وأخذ عليهم الإيمان، وجمع الأكراد وغيرهم، وخرج مخالفاً على المعتضد، وكان قتل شفيع في ذي القعدة.
ولما خرج أبوليلى على اللطان قصده عيسى النوشري، فاقتتلوأن فأصاب أبا ليلى في حلقه سهم فنحره، فسقط عن دابته، وانهزم أصحابه، وحمل رأسه إلى أصبهان ثم إلى بغداد.
وفيها كان المنجمون يوعدون بغرق أكثر الأقاليم إلا إقليم بابل فإنه يسلم منه اليسير، وأن ذلك يكون بكثرة الأمطار وزيادة الأنهار والعيون، فقحط الناس، وقلت الأمطار، وغارت المياه حتى احتاج الناس إلى الاستسقاء، فاستسقوا ببغداد مرات.

وفيها ظهر اختلال حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر، واختلفت القواد، وطمعوأن فانحل النظام، وتفرقت الكلمة، ثم اتفقوا على أن جعلوا مدير دولته أبا جعفر بن أبأن وكان عند والده وجده مقدمأن كبير القدر، فأصلح من الأحوال ما استطاع، وكم جهد الصناع إذ اتسع الخرق، وكان من بدمشق من الجند قد خالفوا على أخيه جيش كما ذكرنأن فلما تولى أبوجعفر الأمور سير جيشاً إلى دمشق عليهم بدر الحمامي، والحسين بن أحمد الماذرائي، فأصلحا حالها وقررا أمور الشام، واستعملا على دمشق طغج بن جف واستعملا على سائر الأعمال، ورجعا إلى مصر والأمور فيها اختلال، والقواد قد استولى كل واحد منهم على طائفة من الجند وأخذهم إليه، وهكذا يكون انتقاض الدول، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد لحكمه وهوسريع الحساب.
وفيها توفي إسحاق بن موسى بن عمران أبويعقوب الاسفرايني، الفقيه الشافعي، والغياثي واسمه عبد العزيز بن معاوية من ولد غياث بن أسيد، بفتح الهمزة وكسر السين.
وفيها أيضاً توفي أبوعبد الله محمد بن الوضاح بن ربيع الأندلسي، وكان من العلماء المشهورين.
حوادث سنة خمس وثمانين ومائتينفيها قطع صالخ بن مدرك الطائي الطريق على الحاج بالأجفر في المحرم، فحاربه حبي الكبير، وهوأمير القافلة، فلم يقوبه وبمن معه من الأعراب، وظفر بالحج ومن معه بالقافلة، فأخذوا ما كان فيها من الأموال والتجارات، وأخذوا جماعة من النساء، والجواري، والمماليك، فكانت قيمة ما أخذوه ألفي ألف دينار.
وفيها ولي عمروبن الليث ما وراء النهر، وعزل إسماعيل بن أحمد.
وفيها كان بالكوفة ريح صفراء، فبقيت إلى المغرب ثم اسودت، فتضرع الناس، ثم مطروا مطراً شديداً برعود هائلة وبروق متصلة، ثم سقط بعد ساعة بقرية تعرف بأحمداباذ ونواحيها أحجار بيض وسود مختلة الألوان، في أوساطها طبق، وحمل منها إلى بغداد فرآه الناس.
وفيها سار فاتك مولى المعتضد إلى الموصل لينظر في أعمالها وأعمال الجزيرة والثغور الشامية والجزرية وإصلاحهأن مضافاً إلى ما كان يتقلده من البريد بها.
وفيها كان بالبصرة ريح صفراء، ثم عادت خضراء، ثم سوداء، ثم تتابعت الأمطار بما لم يروا مثله، ثم وقع برد كبار، وزن البردة مائة وخمسون درهماً فيما قيل.
وفيها مات الخليل بن رمال بحلوان.
وفيها ولى المعتضدمحمد بن أبي الساج أعمال أذربيجان وأرمينية، وكان قد تغلب عليها وخالف؛ وبعث إليه بخلع.
وفيها غزا راغب مولى الموفق في البحر، فغمن مراكب كثيرة، فضرب أعناق ثلاثة آلاف من الروم كانوا فيهأن وأحرق المراكب، وفتح حصوناً كثيرة، وعاد سالماً ومن معه.
وفيها توفي أحمد بن عيسى بن الشيخ، وقام بعده ابنه محمد بآمد وما يليهأن على سبيل التغلب، فسار المعتضد إلى آمد بالعساكر، ومعه ابنه أبومحمد علي المكتفي في ذي الحجة، وجعل طريقه على الموصل، فوصل آمد، وحصرها إلى ربيع الآخر من سنة ست وثمانين ومائيتن، ونصب عليها المجانيق، فأرسل محمد بن أحمد بن عيسى يطلب الأمان لنفسه، ولمن معه، ولأهل البلد، فأمنهم المعتضد، فخرج إليه وسلم البلد، فخلع عليه المعتضد وأكرمه، وهدم سورها.
ثم بلغه أن محمد بن الشيخ يريد الهرب، فقبض عليه وعلى آله.
وفيها وجه هارون بن خمارويه إلى المعتضد ليسأله أن يقاطعه على ما في يده ويد نوابه من مصر والشام، ويسلم أعمال قنسرين إلى المعتضد، ويحمل كل سنة أربع مائة ألف وخمسين ألف دينار، وفأجابه إلى ذلك، وسار من آمد، واستخلف فيها ابنه المكتفي، ووصل إلى قنسرين والعواصم، فتسلمها من أصحاب هارون، وكان ذلك سنة ست وثمانين ومائيتن.
وفيها غزا ابن الأخشيد بأهل طرسوس، فتح اله على يديه، وبلغ إسكندرون؛ وحج بالناس محمد بن عبد الله بن داود الهاشمي.
وفيها توفي إبراهيم بن إسحاق الحربي ببغداد، وهومن أعيان المحدثين، وإسحاق بن إبراهيم الديري صاحب عبد الرزاق بصنعاء، وهوآخر من روى عن عبد الرزاق.
الدبري بفتح الدال المهملة والباء الموحدة وبعدها راء.
وفيها توفي أبوالعباس محمد بن يزيد الأزدي اليماني الخوي، المعروف بالمبرد، وكان قد أخذ النحوعن أبي عثمان المازني.
حوادث سنة ست وثمانين ومائيتن

وفي هذه السنة وجه محمد بن أبي الساج المعروف بأبي المسافر إلى بغداد برهينة بما ضمن من الطاعة والمناصحة، ومعه هدايا جليلة.
وفيها أرسل عمروبن الليث هدية إلى المعتضد من نيسابور، فكانت قيمتها أربعة آلاف درهم.
ذكر ابتداء أمر القرامطة بالبحرينوفيها ظهر رجل من القرامطة يعرف بأبي سعيد الجنابي بالبحرين، فاجتمع إليه جماعة من الأعراب والقرامطة، وقوي أمره، فقتل ما حوله من أهل القرى، ثم سار إلى القطيف فقتل ممن بهأن واظهر أنه يريد البصرة، فكتب أحمد بن محمد بن يحيى الواثقي، وكان متولي البصرة، إلى المعتضد بذلك، فأمره بعمل سورة على البصرة، وكان مبلغ الخرج عليه أربعة عشر ألف دينار.
وكان ابتداء القرامطة بناحية البحرين أن رجلاً يعرف بيحيى بن المهدي قصد القطيف فنزل على رجل يعرف بعلي بن المعلي بن حمدان، مولى الزياديين، وكان مغالياً في التشيع، فاظهر له يحيى أنه رسول المهدي، وكان ذلك سنة إحدى وثمانين ومائتين، وذكر أنه خرج إلى شيعته في البلاد يدعوهم إلى أمره، وأن ظهوره قد قرب؛ فوجه علي بن المعلي إلى الشيعة من أهل القطيف فجمعهم، وأقرأهم الكتاب الذي مع يحيى بن المهدي إليهم من المهدي، فأجابوه، وأنهم خارجون معه إذا اظهر أمره، ووجه إلى سائر قرى البحرين بمثل ذلك فأجابوه.
وكان فيمن أجابه أبوسعيد الجنابي، وكان يبيع للناس الطعام، ويحسب لهم بيعهم، ثم غاب عنهم يحيى بن المهدي مدة، ثم رجع معه كتاب يزعم أنه من المهدي إلى شيعته؛ فيه: قد عرفني رسولي يحيى بن امهدي مسارعتكم إلى أمري، فليدفع إليه كل منكم ستة دنانير وثلثين؛ ففعلوا ذلك.
ثم غاب عنهم وعاد ومعه كتاب فيه: أن ادفعوا إلى يحيى خمس أموالكم، فدفعوا إليه الخمس، وكان يحيى يتردد في قبائل قيس ويورد إليهم كتباً يزعم أنها من المهدي، وأنه ظاهر، فكونوا على أهبة.
وحكى إنسان منهم يقال له إبراهيم الصائغ أنه كان عند أبي سعيد الجنابي، وأتاه يحيى، فأكلوا طعامأن فلما فرغوا خرج أبوسعيد من بيته، وأمر امرأته أن تدخل إلى يحيى وأن لا تمنعه إن أراد، فانتهى هذا الخبر إلى الوالي، فأخذ يحيى فضربه، وحلق رأسه ولحيته، وهرب أبوسعيد الجنابي إلى جنابأن وسار يحيى بن المهدي إلى بني كلاب وعقيل والخريس، فاجتمعوا معه ومع أبي سعيد، فعظم أمر أبي سعيد وكان منه ما يأتي ذكره.
ذكر عدة حوادثوفيها سار المعتضد من آمد بعد أن ملكهأن كما ذكرناه، إلى الرقة، فولى ابنه علياً المكتفي قنسرين، والعواصم، والجزيرة، وكاتبه النصراين واسمه الحسين بن عمرو، فكان ينظر في الأموال، فقال الخليع في ذلك:
حسين ن عمروعدوالقرآن ... يصنع في العرب ما يصنع
يقوم لهيبته المسلمون ... صفوفاً لفرد إذا يطلع
فإن قيل قد أقبل الجاثليق ... تحفى له ومشى يظلع
وفيها توفي ابن الإخشيد أمير طرسوس واستخلف أبا ثابت على طرسوس.
وفيها سار إلى الأنبار جماعة أعراب من بني شيبان، وأغاروا على القرى، وقتلوا من لحقوا من الناس، وأخذوا المواشي، فخرج إليهم أحمد بن محمد بن كمشجور متوليهأن فلم يطقهم، فكتب إلى المعتضد بذلك، فأمده بجيش، فأدركوا الأعراب وقاتلوهم، فهزمهم الأعراب وقتلوا فيهم، وغرق أكثرهم وتفرقوأن وعاث الأعراب في تلك الناحية. وبلغ خبر الهزيمة إلى المعتضد، فسير جيشاً آخر، فرحل الأعراب إلى عين التمر فأفسدوا وعاثوأن وذلك في شعبان وشهر رمضان، فوجه إليهم عسكراً آخر إلى عين التمر، فسلكوا البرية إلى نواحي الشام، فعاد العسكر إلى بغداد ولم يلقهم.
وفيها استدعى المعتضد راغباً مولى الموفق من طرسوس، فقدم عليه وهوبالرقة، فحبسه وأخذ جميع ما كان له، فمات بعد أيام من حبسه، وكان ذلك في شعبان، وقبض على بكنون غلام راغب، وأخذ ما له بطرسوس. وفيها قلد المعتضد ديوان المشرق محمد بن داود بن الجراح، وعزل عنه أحمد بن محمد بن الفرات، وقلد ديوان المغرب علي بن عيسى بن داود ابن الجراح.
وفيها توفي أبوجعفر بن إبراهيم الأمناطي، المعروف بمربع، صاحب يحيى بن معين، وكان حافظاً لحديث؛ ومحمد بن يونس الكريمي البصري.
حوادث سنة سبع وثمانين ومائتين

ذكر قتل أبي ثابت أمير طرسوس
وولاية ابن الأعرابي

في هذه السنة اجتمعت الروم، وحشدت في ربيع الآخر، ووافت باب قلمية من طرسوس، فنفر أبوثابت أمير طرسوس بعد كوت ابن الإخشيد، وكان استخلفه عند موته، فبلغ أبوثابت في نفيره إلى نهر الرجان في طلبهم، فاسر أبوثابت، وأصيب الناس معه.
وكان ابن كلوب غازياً في ردب السلامة، فلما عاد جمع مشايخ الثغر ليتراضوا بأمير، فأجمعوا رأيهم على ابن الأعرابي، فولوه أمرهم، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة.
ذكر ظفر المعتضد بوصيف ومن معهفي هذه السنة هرب وصيف خادم محمد بن أبي الساج من برذعة إلى ملطية من أعمال مولاه، وكتب إلى المعتضد يسأله أن يوليه الثغور، فأخذ رسله وقررهم عن سبب مفارقة وصيف مولاه، فذكروا له أنه فارقه على مواطأة منهما أنه متى ولي وصيف الثغور سار إليه مولاه، وقصدا ديار مصر وتغلبا عليها.
فسار المعتضد نحوه، فنزل العين السوداء وأراد الرحيل في طريق المصيصة، فأتته العيون فأخبروه أن وصيفاً يريد عين زربة، فسأل أهل المعرفة بذلك الطريق، وسألهم عن أقرب الطرق إلى لقاء وصيف، فأخذوه وساروا به نحوه، وقدم جمعاً من عسكره بين يديه، فلقوا وصيفاً فقاتلوه، وأخذوه أسيرأن فأحضروه عند المعتضد فحبسه، وأمر فنودي في أصحاب وصيف بالأمان، وأمر العسكر برد ما نهبوه منهم، ففعلوا ذلك.
وكانت الوقعة لثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة؛ فلما فرغ منه رحل إلى المصيصة، واحضر رؤساء طرسوس فقبض عليهم لأنهم كاتبوا وصيفأن وأمر بإحراق مراكب طرسوس التي كانوا يغزون فيهأن وجميع آلاتهأن وكان من جملتها نحومن خمسين مركباً قديمة قد أنفق عليها من الأموال ما لا يحصى، ولا يمكن عمل مثلهأن فأضر ذلك المسلمين، وفت في أعضادهم، وأمر الروم أن يغزوا في البحر، وكان إحراقها بإشارة دميانة غلام بازمار لشيء كان في نفسه على أهل طرسوس، واستعمل على أهل الثغور الحسن بن علي كورة، وسار المعتضد إلى أنطاكية وحلب وغيرهمأن وعاد إلى بغداد.
وفيها توفيت ابنة خمارويه زوج المعتضد.
ذكر أمر القرامطة وانهزام العباس الغنوي منهمفي هذه السنة، في ربيع الآخر، عظم أمر القرامطة بالبحرين، وأغاروا على نواحي هجر، وقرب بعضهم من نواحي البصرة، فكتب أحمد الواثقي يسأل المدد، فسير إليه سميريات فيها ثلاثمائة رجل، وأمر المعتضد باختيار رجل ينفذه إلى البصرة، وعزل العباس بن عمرواللغوي عن بلاد فارس، وأقطعه اليمامة والبحرين، وأمره بمحاربة القرامطة وضم إليه زهاء ألفي رجل، فسار إلى البصرة، واجتمع إليه جمع كثير من المتطوعة والجند والخدم.
ثم سار إلى أبي سعيد الجنابي، فلقوه مساء، وتناوشوا القتال، وحجز بينهم الليل، فلما كان الليل انصرف عن العباس من كان معه من أعراب بني ضبة وكانوا ثلاثمائة إلى البصرة، وتبعهم مطوعة البصرة، فلما أصبح العباس باكر الحرب، فاقتتلوا قتالاً شديدأن ثم حمل نجاح غلام أحمد بن عيسى بن الشيخ من ميسرة العباس في مائة رجل على ميمنة أبي سعيد، فتوغلوا فيهم، فقتلوا عن آخرهم، وحمل الجنابي ومن معه على أصحاب العباس، فانهزموا وأسر العباس، واحتوى الجنابي على ما كان في عسكره، فلما كان من الغد أحضر الجنابي الأسرى فقتلهم جميعاً وحرقهم، وكانت الوقعة آخر شعبان.
ثم سار الجنابي إلى هجر بعد الوقعة، فدخلها وأمن أهلهأن وانصرف من سلم من المنهزمين، وهم قليل، نحوالبصرة بغير زاد، فخرج إليهم من البصرة نحوأربعمائة رجل على الرواحل، ومعهم الطعام والكسوة والماء، فلقوا بها المنهزمين، فخرج عليهم بنوأسد وأخذوا الرواحل وما عليهأن وقتلوا من سلم من المعركة، فاضطربت البصرة لذلك، وعزم أهلها على الانتقال منهأن فمنعهم الواثقي.
وبقي العباس عند الجنابي أياماً ثم أطلقه، وقال له: امض إلى صاحبك وعرفه ما رأيت؛ وحمله على رواحل، فوصل إلى بعض السواحل وركب البحر فوافى الأبلة، ثم سار منها إلى بغداد فوصلها في رمضان، فدخل على المعتضد فخلع عليه.
بلغني أن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: عجائب الدنيا ثلاث: جيش العباس بن عمرو يؤسر وحده، وينجووحده، ويقتل جميع جيشه؛ وجيش عمروبن الصفار يؤسر وحده، ويسلم جميع جيشه؛ وأنا أنزل في بيتي، وتولى ابني أبوالعباس الجسرين ببغداد.

ولما أطلق أبوسعيد العباس أعطاه درجاً ملصقاً وقال له: أوصله إلى المعتضد فإن لي فيه أسراراً. فلما دخل العباس على المعتضد عاتبه المعتضد، فأوصل إليه العباس الكتاب، فقال: والله ليس فيه شيء، وإمنا أراد أن يعلمني أني أنفذتك إليه في العدد الكثير، فردك فردتً؛ وفتح الكتاب وإذ ليس فيه شيء.
وفيهأن في ذي القعدة، أوقع بدر غلام الطائي بالقرامطة، على غرة منهم، فنواحي ميسن وغيرهمأن وقتل منهم مقتلة، ثم تركهم خوفاً أن تخرب السواد، وكانوا فلاحية، وطلب رؤساءهم فقتل من ظفر به منهم.
ذكر أسر عمرو الصفار

وملك إسماعيل خراسان
في هذه السنة، في ربيع الأول، أسر عمروبن الليث الصفار؛ وكان سبب ذلك أن عمراً أرسل إلى المعتضد برأس رافع بن هرثمة، وطلب منه أن يوليه ما وراء النهر، فوجه إليه الخلع والواء بذلك، وهوبنيسابور، فوجه لمحاربة إسماعيل بن أحمد الساماني، صاحب ما وراء النهر، محمد بن بشير، وكان خليفته وحاجبه، وأخص أصحابه بخدمته، وأكبرهم عنده، وغيره من قواده إلى آمل، فعبر إليهم إسماعيل جيجون، فحاربهم، فهزمهم، وقتل محمد بن بشير في نحوستة آلاف رجل.
وبلغ المنهزمون إلى عمرو، وهو بنيسابور، وعاد إسماعيل إلى بخارى فتجهز عمرولقصد إسماعيل، فأشار عليه أصحابه بإنفاذ الجيوش، ولا يخاطر بنفسه، فلم يقبل منهم، وسار عن نيسابور نحوبلخ، فأرسل إليه إسماعيل: أنك قد وليت دنيا عريضة، وأما في يدي ما وراء النهر، وأنا في يغر، فاقنع بما في يدك، واركني في هذا الثغر. فأبى، فذكر لعمرووأصحابه شدة العبور بنهر بلخ، فقال: لوشئت أن أسكره ببذر الأموال واعبره لفعلت.
فسار إسماعيل نحوه وعبر النهر إلى الجانب الغربي، وجاء عمروفنزل بلخ، وأخذ إسماعيل عليه النواحي لكثرة جمعه، وصار عمروكالمحاصر، وندم على ما فعل، وطلب المحاجزة، فأبى إسماعيل عليه، فاقتتلوأن فلم يكن بينهم كثير قتال حتى انهزم عمروفولى هاربأن ومر بأجمة في طريقه، فقيل له: إنها أقرب الطرق، فقال لعامة من معه: امضوا في الطريق الواضح؛ وسار هوفي نفر يسير، فدخل الأجمة، فوحلت به دابته فلم يكن له في نفسه حيلة، ومضى من معه ولم يعرجوا عليه، وجاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرأن فسيره إسماعيل إلى سمرقند.
ولما وصل الخبر إلى المعتضد ذم عمراً ومدح إسماعيل، ثم إن إسماعيل خبير عمراً بين مقامه عنده، أوإنفاذه إلى المعتضد، فاختار المقام عند المعتضد، فسيره إليه، فوصل إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائتين، فلما وصل ركب على جمل وأدخل بغداد، ثم حبس، فبقي محبوساً حتى قتل سنة تسع وثمانين على ما نذكره.
وأرسل المعتضد إلى إسماعيل بالخلع، وولاه ما كان بيد عمرو، وخلع على نائبه بالحضرة المعروف بالمرزباني، واستولى إسماعيل على خراسان وصارت بيده.
وكان عمروأعور شديد السمرة، عظيم السياسة، قد منع أصحابه وقواده أن يضرب أحد منهم غلاماً إلا بأمره، أويتولى عقوبة الغلام نائبه، أوأحد حجابه، وكان يشتري المماليك الصغار، ويربيهم، ويهبهم لقواده ويجري عليهم الجرايات الحسنة سرأن ليطالعوا بأحوال قواده، ولا ينكتم عنه من أخبارهم شيء، ولم يكونوا يعلمون من ينقل إليه عنهم، فكان أحدهم يحذره وهووحده.
حكي عنه أنه كان له عامل بفارس يقال له أبوحصين، فسخط عليه بمرو، وألزمه أن يبيع أملاكه ويوصل ثمنها إليه، ففعل ذلك، ثم طلب منه مائة ألف درهم، فإن أداها في ثلاثة أيام وإلا قتله، فلم يقدر على شيء منهأن فأرسل إلى أبي سعيد الكاتب يطلب منه أن يجتمع به، فأذن له، فاجتمع به، وعرفه ضيق يده وسأله أن يضمنه ليخرج من محبسه ويسعى في تحصيل المبلغ المطلوب منه، ففعل وأخرجه، فلم يفتح عليه بشيء، فعاد إلى أبي سعيد الكاتب، فبلغ خبره عمرأن فقال: والله ما أدري من أيهما أعجب، من أبي سعيد فيما فعل من بذل مائة ألف درهم، أم من أي حصين كيف عاد وقد علم أنه القتل! ثم أمر بإطلاق ما عليه ورده إلى منزله.

وحكي عنه أنه كان يحمل أحمالاً كثيرة من الجرب، ولا يعلم أحد ما مراده، فاتفق في بعض السنين أنه قصد طائفة من العصاة عليه للإيقاع بهم، فسلك طريقاً لا تظن العصاة أنهم يؤتون منه، وكان في طريقه واد، فأمر بتلك الجرب فملئت تراباً وحجارأن ونضد بعضها إلى بعض، وجعلها طريقاً في الوادي، فعبر أصحابه عليهأن وأتاهم وهم آمنون فأثخن فيهم وبلغ منهم ما أراد.
وحكي أيضاً أن أكفر حجابه كان اسمه محمد بن بشير، وكان يخلفه في كثير من أموره العظام، فدخل عليه يومأن وأخذ يعدد عليه ذنوبه، فحلف محمد بالله والطلاق والعتق أنه لا يملك إلا خمسين بدرة، وهويحملها إلى الخزانة، ولا يجعل له ذنباً لم يعلمه، فقال عمرو: ما أعقلك من رجل! احملها إلى الخزانة فحملهأن فرضي عنه، وما أقبح هذا من فعل وشره إلى أموال من أذهب عمره في خدمته!
ذكر قتل محمد بن زيد العلويفي هذه السنة قتل محمد بن زيد العلوي، صاحب طبرستان والديلم.
وكان سبب قتله أنه لما اتصل به أسر عمروبن الليث الصفار خرج من طبرستان نحوخراسان ظناً منه أن إسماعيل الساماني لا يتجاوز عمله، ولا يقصد خراسان، وانه لا دافع له عنها.
فلما سار إلى جرجان أرسل إليه إسماعيل، وقد استولى على خراسان، يقول له: الزم عملك، ولا تتجاوز عمله، ولا تقصد خراسان؛ وترك جرجان له، فأبى ذلك محمد، فندب إليه إسماعيل بن أحمد محمد بن هارون، ومحمد هذا كان يخلف رافع بن هرثمة أيام ولايته خراسان، فجمع محمد جمعاً كثيراً من فارس وراجل، وسار نحومحمد بن زيد، فالتقوا على باب جرجان، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فانهزم محمد بن هارون أولاً ثم رجع وقد تفرق أصحاب محمد بن زيد في الطلب، فلما رأوه قد رجع إليهم ولوا هاربين، وقتل منهم بشر كثير، وأصابت ابن زيد ضربات، وأسر ابنه زيد، وغمن ابن هارون عسكره وما فيه، ثم مات محمد بن زيد بعد أيام من جراحاته التي أصابته، فدفن على باب جرجان.
وحمل ابنه زيد بن محمد إلى إسماعيل بن احمد، فأكرمه ووسع في الإنزال عليه، وأنزله بخارى، وسار محمد ين هارون إلى طبرستان.
وكان محمد بن زيد فاضلأن أديبأن شاعرأن عارفأن حسن السيرة، قال أبوعمر الأسترباذي: كنت أورد على محمد بن زيد أخبار العباسيين، فقلت له: إنهم قد لقبوا أنفسهم، فإذا ذكرتهم عندك أسميهم أوألقبهم؟ فقال: الأمر موسع عليك، سمهم ولقبهم بأحسن ألقابهم وأسمائهم، وأحبها إليهم.
وقيل: حضر عنده خصمان أحدهما اسمه معاوية والآخر اسمه علي، فقال: الحكم بينكما ظاهر، فقال معاوية: إن تحت هذين الاسمين خبرأن قال محمد: وما هو؟ قال: إن أبي كان من صادقي الشيعة، فسماني معاوية لينفي شر النواصب، وإن أبا هذا كان ناصبيأن فسماع علياً خوفاً من العلوية والشيعة، فتبسم إليه محمد، واحسن إليه وقربه.
وقيل: استأذن عليه جماعة من أضراء الشيعة وقرائهم، فقال: ادخلوأن فإنه لا يحبنا كل كسير وأعور.
ذكر ولاية أبي العباس صقليةكان إبراهيم ابن الأمير أحمد أمير إفريقية قد استعمل على صقلية أبا مالك أحمد بن عمر بن عبد الله، فاستضعفه، فولى بعده ابنه أبا العباس بن إبراهيم ابن أحمد بن الأغلب، فوصل إليها غرة شعبان من هذه السنة في مائة وعشرين مركباً وأربعين حربي، وحصر طرابلس.
واتصل خبره بعسكر المسلمين بمدينة بلرم وهم يقاتلون أهل جرجنت، فعادوا إلى بلرم، وأرسلوا جماعة من شيوخهم إليه بطاعتهم، واعتذروا من قصدهم جرجنت، ووصل إليه جماعة من أهل جرجنت، وشكوا منهم واخبروه أنهم خالفون عليه، وانهم إمنا سيروا مشايخهم خديعة ومكرأن وأنهم لا إيمان لهم ولا عهد؛ وإن شئت أن تعلم مصداق هذا فاطلب إليك منهم فلاناً وفلاناً.
فأرسل إليهم يطلبهم فامتنعوا من الحضور عنده، وخالفوا عليه، واظهروا ذلك، فاعتقل الشيوخ الواصلين إليه منهم، واجتمع أهل بلرم وساروا إليه منتصف شعبان، ومقدمهم مسعود الباجي، وأمير السفهاء منهم ركموية، وصحبهم ثم أسطول في البحر نحوثلاثين قطعة، فهاج البحر على الأسطول، فعطب أكثره، وعاد الباقي إلى بلرم.

وأما العسكر الذين في البر فإنهم وصلوا إليه وهوعلى طرابلس، فاقتتلوا أشد قتال، فقتل من الفريقين جماعة وافترقوأن ثم عاودوا القتال في الثاني والعشين، فانهزم أهل بلرم وقت العصر وتبعهم أبوالعباس إلى بلرم براً وبحراً فعاودوا قتاله عاشر رمضان من بكرة إلى العصر، فانهزم أهل البلد، ووقع القتل فيهم إلى المغرب، واستعمل أبوالعباس على أرباضهأن ونهبت الأموال، وهرب كثير من الرجال والنساء إلى طبرمين، وهرب ركمويه وأمثاله من رجال الحرب إلى بلاد النصرانية، كالقسطنطينية وغيرهأن وملك أبوالعباس المدينة، ودخلهأن وأمن أهلهأن وأخذ جماعة من وجوه أهلها فوجههم إلى أبيه بإفريقية.
ثم رحل إلى طبرمين، فقطع كرومها وقاتلهم، ثم رحل إلى قطانية فحصرهأن فلم ينل منها غرضأن فرجع إلى المدينة وأقام إلى أد دخلت سنة ثمان وثمانين ومائتين فتجهز للغزو، وطاب الزمان، وعمر الأسطول وسيره أول ربيع الآخر ونزل على دمنش، ونصب عليها المجانيق، وأقام أياماً.
ثم انصرف إلى مسيني، وجاز في الحربية إلى ريو، وقد اجتمع بها كثير من الروم، فقاتلهم على باب المدينة، وهزمهم، وملك المدينة بالسيف في رجب، وغمن من الذهب والفضة ما لأحد، وشحن المراكب بالدقيق والأمتعة، ورجع إلى مسيني وهدم سورهأن ووجد بها مراكب قد وصلت من القسطنطينية، فأخذ منها ثلاثين مركباً ورجع إلى المدينة، وأقام إلى سنة تسع وثمانين، فأتاه كتاب أبيه إبراهيم يأمره بالعود إلى إفريقية، فرجع إليها جريدة في خمس قطع شواني، وترك العسكر مع ولديه أبي مضر وأبي معد.
فلما وصل إلى إفريقية استخلفه أبوه بهأن وسار هوإلى صقلية مجاهدأن عازماً على الحج بعد الجهاد، فوصلها في رجب سنة سبع وثمانين ومائتين، وقد ذكرنا خبره سنة إحدى وستين ومائتين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة جمعت طي من قدرت عليه من الأعراب، وخرجوا على قفل الحاج، فواقعوهم بالمعدن، وقاتلوهم يومين بين الخميس والجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة، فانهزم العرب وقتل كثير وسلم الحاج.
وفيها مات إسحاق بن أيوب بن أحمد بن عمر بن الخطاب العدوي، عدي ربيعة، أمير ديار ربيعة من بلاد الجزيرة، فولي مكانه عبد الله بن الهيثم ابن عبد الله بن المعتمر.
وفيها توفيت قطر الندى ابنة خمارويه بن احمد بن طولون، صاحب مصر، وهي امرأة المعتضد. وحج بالناس هذه السنة محمد بن عبد الله بن داود.
وفيها استعمل المعتضد عيسى النوشري، وهوأمير أصبهان، على بلاد فارس، وأمره بالمسير إليه.
وفيها توفي فهد بن أحمد فهد الأزدي الموصلي، وكان من الأعيان؛ وعلي بن عبد العزيز البغوي، توفي صاحب أبي عبيد القاسم ابن سلام، بالتشديد.
حوادث سنة ثمان وثمانين ومائتينفي هذه السنة وقع الوباء بأذربيجان فمات منه خلق كثير إلى أن فقد الناس ما يكفنون به الموتى، وكانوا يتركونهم على الطرق غير مكفنين ولا مدفنين. وفيها توفي محمد بن أبي الساج بأذربيجان في الوباء الكثير المذكور، فاجتمع أصحابه، فولوا ابنه ديوداد، واعتزلهم عمه يوسف بن أبي الساج مخالفاً لهم، فاجتمع إليه نفر يسير، فأوقع بابن أخيه ديوداد وهوعسكر أبيه فهزمه، وعرض عليه يوسف المقام معه فأبى، وسلك طريق الموصل إلى بغداد، وكان ذلك في رمضان.
وفيهأن في صفر، دخل طاهر بن محمد بن عمروبن الليث بلاد فارس في عسكره وأخرجوا عنها عامل الخليفة، فكتب الأمير إسماعيل بن أحمد الساماني إلى طاهر يذكر له أن الخليفة المعتضد قد ولاه سجستان، وأنه سائر إليهأن فعاد طاهر لذلك.
وفيها ولى المعتضد مولاه يدراً فارس، وأمره بالشخوص إليها لما بلغه أن طاهراً تغلب عليهأن فسار إليها في جيش عظيم في جمادى الآخرة، فلما قرب من فارس تنحى عنها من كان بها من أصحاب طاهر، فدخلها بدر، وجبى خراجهأن وعاد طاهر إلى سجستان، كما ذكرناه من مراسلة إسماعيل الساماني إليه بأنه يريد يقصد سجستان.
وفيها تغلب بعض العلويين على صنعاء، فقصده بنويعفر في جمع كثير فقاتلوه، فهزموه، ونجا هارباً في نحوخمسين فارسأن وأسروا ابناً له، ودخلها بنويعفر، وخطبوا فيها للمعتضد.

وفيها سير الحسين بن علي كورة صاحبه نزار بن محمد إلى صائفة الروم، فغزأن وفتح حصوناً كثيرة للروم، وعاد ومعه الأسرى، ثم إن الروم ساروا في البر والبحر إلى ناحية كيسوم، فأخذوا من المسلمين أكثر من خمسة عشر ألفاً وعادوا.
وفيها قرب أصحاب أبي سعيد الجنابي من البصرة، فخاف أهلهأن وهموا بالهرب منهم، فمنعهم من ذلك واليهم.
وفيهأن في ذي الحجة، قتل وصيف خادم ابن أبي الساج، وصلبت جثته ببغداد، وقيل إنه مات ولم يقتل. وحج بالناس هذه السنة هارون بن محمد المكنى أبا بكر.
وفيهأن في ربيع الآخر، توفي عبيد الله بن سليمان الوزير، فعظم موته على المعتضد، وجعل ابنه أبا الحسين بن عبيد الله بعد أبيه في الوزارة.
وفيها توفي إبراهيم وبشر بن موسى الأسدي، وهومن الحفاظ للحديث.
وفيهأن في صفر، توفي ثابت بن قرة بن سنان الصابي الطبيب المشهور، ومعاذ بن المثنى.
حوادث سنة تسع وثمانين ومائتين

ذكر أخبار القرامطة بالشام
في هذه السنة ظهر بالشام رجل من القرامطة، وجمع جموعاً من الأعراب، وأتى دمشق، وأميرها طغج بن جف من قبل هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون، وكانت بينهما وقعات.
وكان ابتداء حال هذا القرمطي أن زكرويه بن مهرويه الذي ذكرنا أنه داعية قرمط هذأن لما رأى أن الجيوش من المعتضد متتابعة إلى من بسواد الكوفة من القرامطة، فإن القتل قد أبادهم، سعي باستغواء من قرب من الكوفة عن الأعراب: أسد وطي وغيرهم، فلم يجبه منهم أحد، فأرسل أولاده إلى كلب بن وبرة فاستعوزهم، فلم يجبهم منهم إلا الفخذ المعروف ببني العليص بن ضمضم بن عدي بن خباب ومواليهم خاصة، فبايعوا في سنة تسع وثمانين ومائتين، بناحية السماوة، ابن زكرويه، المسمى بيحيى، المكنى أبا القاسم، فلقبوه الشيخ، وزعم أنه محمد بن عبد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وقيل: لم يكن لمحمد بن إسماعيل ولد اسمه عبد الله، وزعم أن له بالبلاد مائة ألف تابع، وأن ناقته التي يركبها مأمورة، فإذا تبعوها في مسيرها نصروأن وأظهر عضداً له ناقصة وذكر أنه ابنه، وأتاه جماعة من بني الأصبع، وسموا الفاطميين، ودانوا بدينه، فقصدهم شبل غلام المعتضد من ناحية الرصافة فاغتروه فقتلوه، وأحرقوا مسجد الرصافة، واعترضوا كل قرية اجتازوا بهأن حتى بلغوا هارون بن خمارويه التي قوطع عليها طغج بن جف، فأكثروا القتل بها والغارة، فقاتلهم طغج، فهزموه غير مرة.
ذكر أخبار القرامطة بالعراقوفيها انتشر القرامطة بسواد الكوفة، فوجه المعتضد شبلاً غلام أحمد بن محمد الطائي، وظفر بهم، وأخذ رئيساً لهم يعرف بأبي الفوارس، فسيره إلى المعتضد، فأحضره بين يديه وقال له: أخبرني! هل تزعمون أن روح الله تعالى وروح أنبيائه تحل في أجسادكم فتعصمكم من الزلل وتوفقكم لصالح العمل؟ فقال له: يا هذا إن حلت روح الله فينا فيما يضرك؟ وإن حلت روح إبليس فما ينفعك؟ فلا تسأل عما لا يعنيك وسل عما يخصك.
فقال: ما تقول فيما يخصني؟ قال أقول: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما ت وأبوكم العباس حي، فهل طالب بالخلافة أم هل بايعه أحد من الصحابة على ذلك؟ ثم مات أبوبكر فاستخلف عمر، وهويرى موضع العباس، ولم يوص إليه، ثم مات عمر وجعلها شورى في ستة أنفس، ولم يوص إليه، ولا أدخله فيهم، فبماذا تستحقون أنتم الخلافة؟ وقد اتفق الصحابة على دفع جدل عنها.
فأمر به المعتضد فعذب، وخلعت عظامه، ثم قطعت يداه ورجلاه، ثم قتل.
ذكر وفاة المعتضدفي هذه السنة، في ربيع الآخر، توفي المعتضد بالله أبوالعباس أحمد بن الموفق بن المتوكل ليلة الاثنين لثمان بقين منه، وكان مولده في ذي الحجة من سنة اثنتين وأربعين ومائتين.
ولما اشتد مرضه اجتمع القواد منهم يونس الخادم، وموشكير وغيرهمأن وقالوا للوزير القاسم بن عبيد الله ليجدد البيعة للمكتفي، وقالوا: إنا لا نأمن فتنة، فقال: إن هذا المال لأمير المؤمنين ولولده من بعده، وأخاف أن أطلق فيبرأ من علته فينكر علي ذلك.
فقال: إن برئ من مرضه فنحن المحتجون، والمناظرون، وإن صار الأمر إلى ولده فلا يلومنأن ونحن نطلب الأمر له.

فأطلق المال وجدد عليه البيعة، وأحضر عبد الواحد بن الموفق وأخذ عليه البيعة فوكل به وأحضر ابن المعتز، ومضى ابن المؤيد وعبد العزيز بن المعتمد ووكل بهم.
فلما توفي أحضر يوسف بن يعقوب وأبا حازم وأبا عمر محمد بن يوسف بن يعقوب، فتولى غسله محمد بن يوسف، وصلى عليه الوزير، ودفن ليلاً في دار محمد بن طاهر، وجلس الوزير في دار الخلافة للعزاء. وجدد البيعة للمكتفي.
وكانت أم المعتضد، واسمها ضرار، قد توفيت قبل خلافته، وكانت خلافته سبع سنين وتسعة أشهر وثلاثة عشر يوماً؛ وخلف من الولد الذكور: علياً وهوالمكتفي، وجعفراً وهوالمقتدر، وهارون، ومن البنات إحدى عشرة بنتأن وقيل سبع عشرة، ولما حضرته الوفاة أنشد:
تمتع من الدنيا فإنك لا تبقى ... وخذ صفوها ما إن صفت ودع الرنقا
ولا تأمن الدهر إن قد أمتنه فلم يبق لي حالاً ولم يرع لي حقاً
قتلت صناديد الرجال ولم أدع ... عدواً ولم أمهل على طغيه خلقا
وأخلبت دار الملك من كل نازع ... فشردتهم غرباً ومزقتهم شرقا
فلما بلغت النجم عزاً ورفعةً ... وصارت راقاب الخلق أجمع لي رقا
رماني الردى سهماً فأخمد جمرتي ... فها أنا ذا في حفرتي عاجلاً ألقي
ولم يغن عني ما جمعت ولم أجد ... لذي الملك والأحياء في حسنها رفقا
فيا ليت شعري بعد موتي ما ألقى؟ ... إلى نعم الرحمن أم ناره ألقى
ذكر صفته وسيرتهكان المعتضد اسمر، نحيف الجسم، معتدل الخلق، قد وخطه الشيب، وكان شهمأن شجاعأن مقدامأن وكان ذا عزم، وكان فيه شح بلغه خبر وصيف خادم ابن أبي الساج وعليه قباء اصفر، فسار من ساعته وظفر بوصيف وعاد، فدخل أنطاكية وعليه القباء، فقال بعض أهلها: الخليفة بغير سواد؛ فقال بعض أصحابه: إنه سار فيه، ولم ينزعه إلى الآن. وكان عفيفاً.
حكى القاضي إسماعيل بن إسحاق قال: دخلت على المعتضد وعلى رأسه أحداث روم صباح الوجوه، فأطلت النظر إليهم، فلما قمت أمرني بالقعود فجلست، فلما تفرق الناس قال: يا قاضي، والله ما حللت سراويلي على غير حلال قط.
وكان مهيباً عند أصحابه يتقون سطوته ويكفون عن الظلم خوفاً منه.
ذكر خلافة المكتفي باللهولما توفي المعتضد كتب الوزير إلى أبي محمد علي بن المعتضد، وهوالمكتفي بالله، يعرفه بذلك بأخذ البيعة له، وكان بالرقة، فلما وصله الخبر أخذ البيعة على من عنده من الأجناد، ووضع لهم العطاء وسار إلى بغداد، ووجه إلى النواحي من ديار ربيعة ومضر ونواحي العرب من يحفظهأن ودخل بغداد لثمان خلون من جمادى الأولى، فلما سار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان أبوه اتخذها لأهل الجرائم.
ذكر قتل عمرو بن الليث الصفاروفي هذا اليوم الذي دخل فيه المكتفي بغداد قتل عمروبن الليث بن الصفار، ودفن من الغد. وكان المعتضد، بعدما امتنع من الكلام، أمر صافياً الخرمي بقتل عمروابن الليث بالإيماء والإشارة، ووضع يده على رقبته وعلى عينه بأن اذبح الأعور، وكان عمروأعور، فلم يفعل ذلك صافي لعلمه بقرب وفاة المعتضد، وكره قتل عمرو، فلما وصل المكتفي بغداد سأل الوزير عنه، فقال، هوحي، فسر بذلك، وأراد الإحسان إليه لأنه كان يكثر من الهدية إليه لما كان بالري، فكره الوزير ذلك، فبعث إليه من قتله.
ذكر استيلاء محمد بن هارون على الريوفي هذه السنة كاتب أهل الري محمد بن هارون الذي كان حارب محمد ابن زيد العلوي، وتولى طبرستان لإسماعيل بن أحمد، وكان محمد بن هارون قد خلع طاعة إسماعيل، فسأله أهل الري المسير إليهم ليسلموها إليه.
وكان سبب ذلك أن الوالي عليهم كان قد أساء السيرة فيهم، فسار محمد بن هارون إليهم فحاربه واليها وهوالدتمش التركي، فقتله محمد وقتل ابنين وأخا كيغلغ، وهومن قواد الخليفة، ودخل محمد بن هارون الري، واستولى عليها في رجب.
ذكر قتل بدر

وفيها قتل بدر غلام المعتضد؛ وكان سبب ذلك أن القاسم الوزير كان قد هم بنقل الخلافة عن ولده المعتضد بعده، فقال لبدر في ذلك في حياة المعتضد بعد أن استخلفه واستكتمه، فقال بدر: ما كنت لأصرفها عن ولد مولاي وولي نعمتي؛ فلم يمكنه مخالفة بدر، إذ كان صاحب الجيش، وحقدها على بدر، فلما مات المعتضد كان بدر بفارس، فعقد القاسم البيعة لمكتفي، وهوبالرقة.
وكان المكتفي أيضاً مباعداً لبدر في حياة أبيه، وعمل القاسم في هلاك بدر خوفاً على نفسه أن يذكر ما كان منه للمكتفي، فوجه المكتفي محمد بن كشتمر برسائل إلى القواد الذين مع بدر يأمرهم بالمسير إليه ومفارقة بدر، ففارقه جماعة منهم العباس بن عمروالغنوي، ومحمد بن إسحاق بن كنداج، وخاقان المفلحي وغيرهم، فاحسن إليهم المكتفي، وسار بدر إلى واسط، فوكل المكتفي بداره، وقبض على أصحابه وقواده وحبسهم، وأمر بمحواسم بدر من التراس والأعلام، وسير الحسين بن علي كورة في جيش إلى واسط.
وأرسل إلى بدر يعرض عليه أي النواحي شاء، فأبى ذلك، وقال: لا بد لي من المسير إلى باب مولاي؛ فوجد القاسم مساغاً للقول، وخوف المكتفي عائلته، وبلغ بدراً ما فعل بأهله وأصحابه، وأرسل من يأتيه بولده هلال سرأن فعلم الوزير بذلك، فاحتاط عليه، ودعا أبا حازم، قاضي الشرقية، وأمره بالمسير إلى بدر، وتطيب نفسه عن المكتفي، وإعطائه الأمان عنه لنفسه وولده وماله، فقال أبوحازم: أحتاج إلى سماع ذلك من أمير المؤمنين؛ فصرفه ودعا أبا عمر القاضي، وأمره بمثل ذلك فأجابه، وسار ومعه كتاب الأمان، فسار بدر عن واسط نحوبغداد، فأرسل إليه الوزير من قتله، فلما أيقن بالقتل سأل أن يمهل حتى يصلي ركعتين، فصلاهمأن ثم ضربت عنقه يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، ثم أخذ رأسه وتركت جثته هنالك، فوجه عياله من أخذها سراً وجعلوها في تابوت، فلما كان وقت الحج حملوها إلى مكة، فدفنوها بهأن وكان أوصى بذلك وأعتق قبل أن يقتل كل مملوك كان له.
ورجع أبوعمر إلى داره كئيباً حزيناً لما كان منه، وقال الناس فيه أشعارأن وتكلموا فيه، ففما قيل فيه:
قل لقاضي مدينة المنصور ... بم أحللت أخذ رأس الأمير
عند إعطائه المواثيق والعه ... د وعقد الأيمان في منشور
أين أيمانك التي شهد الل ... ه على أنها يمين فجو
إن كفيك لا تفارق كفي ... ه إلى ، ترى عليل السرير
يا قليل الحياء يا أكذب الام ... ة يا شاهداً شهادة زور
ليس هذا فعل القضاة ولا يح ... سن أمثاله ولاة الجسور
أي أمر ركبت في الجمعة الزه ... راء منه في خير هذي الشهور
قد مضى من قتلت في رمضا ... ن صائماً بعد سجدة التعفير
يا بني يوسف بن يعقوب أضحى ... أهل بغداد منكم في غرور
بدد الله شملكم وأراني ... ذلكم في حياة هذا الوزير
فأعدوا الجواب للحكم العد ... ل ومن بعد منكر ونكير
أنتم كلكم فدىً لأبي حا ... زم المستقيم كل الأمور
ذكر ولاية أبي العباس إفريقيةقد ذكرنا سنة إحدى وستين ومائتين أن إبراهيم بن أحمد، أمير إفريقية، عهد إلى ولده أبي العباس عبد الله سنة تسع وثمانين ومائتين، وتوفي فيهأن فلما توفي والده قام بالملك بعده، وكان أديبأن لبيبأن شجاعأن أحد الفرسان المذكورين، مع علمه بالحرب وتصرفها.
وكان عاقلأن عالمأن له نظر حسن في الجدل، وفي أيامه عظم أمر أبي عبد الله الشيعي فأرسل أخاه الأحول، ولم يكن أحول، وإمنا لقب بذلك لأنه كان إذا نظر دائماً ربما كسر جفنه، فلقب بالأحول، إلى قتال أبي عبد الله الشيعي، فلما بلغه حركته إليهم في جموع كثيرة والتقوا عند كموشة، فقتل بينهم خلق عظيم، وانهزم الأحوال، إلا أنه أقام في مقابلة أبي عبد الله.

وكان أبوالعباس أيام أبيه على خوف شديد منه بسوء أخلاقه، واستعمله أبوه على صقلية، ففتح فيها مواضع متعددة، وقد تقدم ذكر ذلك أيام والده، ولما ولي أبوالعباس إفريقية كتب إلى العمال كتاباً يقرأ على العامة يعدهم فيه الإحسان، والعدل، والرفق، والجهاد، ففعل ما وعد من نفسه، وأحضر من العلماء ليعينوه على أمر الرعية.
وله شعر، فمن ذلك قوله بصقلية، وقد شرب دواء:
شربت الدواء على غربة ... بعيداً من الأهل والمنزل
وكنت إذا ما شربت الدوا ... أطيب بالمسك والمندل
وقد صار شربي بحار الدما ... ونقع العجاجة والقسطل
واتصل بأبي العباس عن ولده أبي مضر زيادة الله والي صقلية له اعتكافه على اللهو، وإدمانه شرب الخمر، فعزله وولى محمد بن السرقوسي، وحبس ولده، فلما كان ليلة الأرعاء آخر شعبان من سنة تسعين ومائتين قتل أبوالعباس، قتله ثلاثة نفر من خدمه الصقالبة بوضع من ولده، وحملوا رأسه إلى ولده أبي مضر، وهوفي الحبس، فقتل الخدم وصلبهم، وكان هوالذي وضعهم، فكانت إمارته سنة اثنين وخمسين يوماً، وكان سكناه وقتله، رحمه الله، بمدينة تونس.
وكان كثير العدل، أحضر جماعة كثيرة عنده ليعينوه على العدل، ويعرفوه من أحوال الناس ما يفعل فيه على سبيل الإنصاف، وأمر الحاكم في بلده أن يقضي عليه، وعلى جميع أهله، وخواص أصحابه، ففعل ذلك، ولما قتل ولي ابنه أبومضر، وكان من أمره ما نذكره سنة ست وتسعين ومائتين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، منتصف رمضان، قتل عبد الواحد بن الموفق، وكانت والدته إذا سألت عنه قيل لها إنه في دار المكتفي، فلما مات المكتفي أيست منه، فأقامت عليه مأتماً.
وفيها كانت وقعة بين أصحاب إسماعيل بن أحمد وبين ابن جستان الديلمي بطبرستان، فانهزم ابن جستان.
وفيها لحق إسحاق الفرغاني، وهومن أصحاب بدر، بالبادية، واظهر الخلاف على الخليفة المكتفي، فحاربه أبوالأغر، فهزمه إسحاق، وقتل من أصحابه جماعة.
وفيها سير خاقان المفلحي إلى الري في جيش كثيف ليتولاها.
وفيها صلى الناس العصر بحمص وبغداد في الصيف، ثم هب هواء من ناحية الشمال، فبرد الوقت، واشتد البرد حتى احتاج الناس إلى النار ولبس الجباب، وجعل البرد يزداد حتى جمد الماء.
وفيها كانت وقعة بين إسماعيل بن أحمد وبين محمد بن هارون بالري، فانهزم محمد، ولحق بالديلم مستجيراً بهم، ودخل إسماعيل الري.
وفيها زادت دجلة قدر خمسة عشر ذراعاً.
وفيها خلع المكتفي على هلال بن بدر وغيره من أصحاب أبيه في جمادى الأولى.
وفيها هبت ريح عاصف بالبصرة، فقلعت كثيراً من نخلهأن وخسف بموضع منها هلك فيه ستة آلاف نفس، وزلزلت بغداد، في رجب، عدة مرات، فتضرع أهلها في الجامع فكشف عنهم.
وفيها مات أبوحمزة بن محمد بن إبراهيم الصوفي، وهومن أقران سري السقطي.
حوادث سنة تسعين ومائتين

ذكر أخبار القرامطة
في هذه السنة، في ربيع الآخر، سير طغج بن جف جيشاً من دمشق إلى القرمطي، عليهم غلام له اسمه بشير، فهزمهم القرمطي وقتل بشيراً.
وفيها حصر القرمطي دمشق، وضيق على أهلهأن وقتل أصحاب طغج، ولم يبق منه إلا القليل، واشرف أهلها على الهلكة، فاجتمع جماعة من أهل بغداد، وانهوا ذلك إلى الخليفة فوعدهم النجدة، وأمد المصريون أهل دمشق ببدر وغيره من القواد، فقاتلوا الشيخ مقدم القرامطة، فقتل على باب دمشق، رماه بعض المغاربة بمزراق، وزرقه نفاط بالنار فاحترق، وقتل منهم خلق كثير.
وكان هذا القرمطي يزعم أنه إذا أشار بيده إلى جهة من التي فيها محاربوه انهزموا؛ ولما قتل يحيى المعروف بالشيخ، وقتل أصحابه، اجتمع من بقي منهم على أخيه الحسين، وسمى نفسه أحمد، وكناه أبا العباس، ودعا الناس فأجابه أكثر أهل البوادي وغيرهم، فاشتدت شوكته، وأظهر شامة في وجه، وزعم أنها آيته، فسار إلى دمشق، فصالحه أهلها على خراج دفعوه إليه وانصرف عنهم.
ثم سار إلى أطراف حمص، فغلب عليهأن وخطب له على منابرها، وتسمي المهدي أمير المؤمنين، وأتاه ابن عمه عيسى بن المهدي، المسمى عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل، فلقبه المدثر، وعهد إليه، وزعم أنه المدثر الذي في القرآن، ولقب غلاماً من أهله المطوق، وقلده قتل أسرى المسلمين.

ولما أطاعه أهل حمص، وفتحوا له بابها خوفاً منه، سار إلى حماه، ومعرة النعمان، وغيرهمأن فقتل أهلهأن وقتل النساء والصبيان، ثم سار إلى بعلبك فقتل عامة أهلهأن ولم يبق منهم إلا اليسير، ثم سار إلى سلمية فمنعه أهلهأن ثم صالحهم وأعطاهم الأمان، ففتحوا له بابهأن فبدأ بمن فيها من بني هاشم، وكانوا جماعة، فقتلهم أجمعين، ثم قتل البهائم، والصبيان بالمكاتب ثم خرج منها وليس بها عين تطرف.
وسار فيها حولها من القرى يسبي، ويقتل، ويخيف السبيل، فذكر عن متطبب بباب المحول يدعى أبا الحسين قال: جاءتني امرأة بعدما أدخل القرمطي صاحب الشامة بغداد، وقالت: أريد أن تعالج جرحاً في كتفي؛ فقلت: ها هنا امرأة تعالج النساء، فانتظرتهأن فقعدت وهي باكية مكروبة، فسألتها عن قصتها قالت: كان لي ولد طالت غيبته عني، فخرجت أطوف عليه البلاد فلم أره، فخرجت من الرقة في طلبه، فوقعت في عسكر القرمطي أطلبه، فرأيته، فشكوت إليه حالي وحال أخواته، فقال: دعيني من هذأن أخبريني ما دينك؟ فقلت: أما تعرف ما ديني؟ فقال: ما كنا فيه باطل، والدين ما نحن فيه اليوم؛ فعجبت من ذلك، وخرج وتركني، ووجه بخبز ولحم، فلم أمسه حتى عاد فأصلحه.
وأتاه رجل من أصحابه فسأله عني هل أحسن من أمر النساء شيئأن فقلت: نعم، فأدخلني دارأن فإذا امرأة تطلق، فقعدت بين يديهأن وجعلت أكلمها ولا تكلمني، حتى ولدت غلامأن فأصلحت من شأنه، وتلطفت بها حتى كلمتني، فسألتها عن حالهأن فقالت: أنا امرأة هاشمية، أخذنا هؤلاء أقوام، فذبحوا أبي وأهلي جميعأن وأخذني صاحبهم، فأقمت عنده خمسة أيام، ثم أمر بقتلي، فطلبني منه أربعة أنفس من قواده، فوهبني لهم، وكنت معهم، فوالله ما ادري ممن هذا الولد منهم.
قالت: فجاء رجل فقالت لي: هنيه، فهنيته، فأعطاني سبيكة فضة، وجاء آخر وآخر، أهني كل واحد منهم، ويعطيني سبيكة فضة، ثم جاء الرابع ومعه جماعة، فهنيته، فأعطاني ألف درهم، وبتنأن فلما أصبحنا قلت للمرأة: قد وجب حقي عليك فالله الله خلصني! قالت: ممن أخلصك؟ فأخبرتها خبر ابني، فقالت: عليك بالرجل الذي جاء آخر القوم، فأقمت يومي، فلما أمسيت وجاء الرجل قمت له، وقبلت يده ورجله، ووعدته أنني أعود بعد أن أوصل ما معي إلى بناتي؛ فدعا قوماً من غلمانه وأمرهم بحملي إلى مكن ذكره، وقال: اتركوها فيه وارجعوا؛ فساروا بين عشرة فراسخ، فلحقنا ابني، فضربني بالسيف فجرحني، ومنعه القوم، وساروا بي إلى المكان الذي سماه لهم صاحبهم، وتركوني وجئت إلى هاهنا.
قالت: ولما قدم الأمير بالقرامطة وبالأساري رأيت ابني فيهم على جمل عليه برنس، وهويبكي، فقلت: لا خفف الله عنك ولا خلصك! ثم إن كتب أهل الشام ومصر وصلت إلى المكتفي يشكون ما يلقون من القرمطي من القتل، والسبي، وتخريب البلاد، فأمر الجند بالتأهب، وخرج من بغداد ف برمضان، وسار إلى الشام وجعل طريقه على الموصل، وقدم بين يديه أبا الأغر في عشرة آلاف رجل، فنزل قريباً من حلب، فكبسهم القرمطي، صاحب الشامة، فقتل منهم خلقاً كثيرأن وسلم أبوالأغر، فدخل حلب في ألف رجل، وكانت هذه الوقعة في رمضان، وسار القرمطي إلى باب حلب، فحاربه أبوالأغر بمن بقي معه، وأهل البلد، فرجع عنهم.
وسار المكتفي حتى نزل الرقة، وسير الجيوش إليه، وجعل أمرهم إلى محمد بن سليمان الكاتب.
وفيهأن في شوال تحارب القرمطي صاحب الشامة وبدر مولى ابن طولون، فانهزم القرمطي وقتل من أصحابه خلق كثير، ومضى من سلم منهم نحوالبادرية، فوجه المكتفي في أثرهم الحسين بن حمدان وغيره من القواد.
وفيها كبس ابن بانوا أمير البحرين حصناً للقرامطة، فظفر بمن فيه، وواقع قرابة أبي سعيد الجنابي، فهزمه ابن بانوأن وكان مقام هذا القرمطي بالقطيف، وهوولي عهد أبي سعيد، ثم إنه وجد بعدما انهزم أصحابه قتيلاً فاخذ رأسه وسار ابن بانوا إلى القطيف فافتتحها.
ذكر أسر محمد بن هارون

وفيها اخذ محمد بن هارون أسيراً؛ وكان سبب ذلك أن المكتفي أنفذ عهداً إلى إسماعيل بن أحمد الساماني بولاية الري، فسار إليهأن وبها محمد بن هارون، فسار عنها إلى محمد إلى قزوين وزنجاز، ثم عاد إلى طبرستان، فاستعمل إسماعيل ابن احمد على جرجان بارس الكبير، وألزمه بإحضار محمد بن هارون قسرأن أوصلحأن وكاتبه بارس وضمن له إصلاح حاله مع الأمير إسماعيل، فقبل محمد قوله، وانصرف عن جستان الديلمي، وقصد بخارى، فلما بلغ مروقيد بهأن وذلك في شعبان سنة تسعين ومائتين، ثم حمل إلى بخارى فأدخلها على جمل وحبس بها فمات بعد شهرين محبوساً.
وكان ابتداء أمره أنه كان خياطأن ثم جمع جمعاً من الرعاع وأهل الفساد، فقطع الطريق بمفازة سرخس مدة، ثم استأمن إلى رافع بن هرثمة، وبقي معه إلى أن انهزم عمروالصفار، فاستأمن إلى إسماعيل بن أحمد الساماني، صاحب ما وراء النهر، بعد قتل رافع، فسيره إسماعيل إلى قتال محمد بن زيد، على ما تقدم ذكره، وقد ذكره الخوافي في شعره فقال:
كان ابن هارون خياطاً له إبر ... وراية سامها عشراً بقيراط
فانسل في الأرض يبغي الملك في عصب ... زط ونوب وأكراد وأنباط
أنى ينال الثريا كف ملتزق ... بالترب عن ذروة العلياء هباط
صبراً أميرك إسماعيل منتقم ... منه ومن كل غدار وخياط
رأيت عيراً سما جهلاً على أسد ... يا عين ويحك ما أشقاك من شاطي
ذكر عدة حوادثوفيهأن في ربيع الآخر، خلع على أبي العشائر أحمد بن نصر وولي طرسوس، وعزل عنها مظفر بن حاج لشكوى أهل الثغور منه.
وفيها قوطع طاهر بن محمد بن عمروبن الليث على مال يحمله عن بلاد فارس، وعقد له المكتفي عليها.
وفيهأن في جمادى الأولى، هرب القائد أبوسعيد الخوارزمي الذي استأمن إلى الخليفة، وأخذ نحوطريق الموصل، فكتب إلى عبد الله المعروف بغلام نون بتكريت، وهويتولى تلك النواحي، فعارضه عبد الله، واجتمع به، فخدعه أبوسعيد وقتله، وسار نحوشهرزور، واجتمع هووابن الربيع الكردي على عصيان الخليفة.
وفيها أراد المكتفي البناء بسامرأن وخرج إليها ومعه الصناع، فقدروا له ما يحتاج، وكان مالاً جليلأن وطولوا له مدة الفراغ، فعظم الوزير ذلك عليه، وصرفه إلى بغداد.
وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الملك بن عبد الواحد ين عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس.
وفيها توفي محمد بن علي بن علوية بن عبد الله الفقيه الشافعي الجرجاني، وكان قد تفقه على المزني صاحب الشافعي؛ وتوفي عبد الله بن أحمد بن حنبل في جمادى الآخرة، وكان مولده سنة ثلاث عشرة ومائتين.
حوادث سنة إحدى وتسعين ومائيتن

ذكر أخبار القرامطة وقتل صاحب الشامة
قد ذكرنا مسير المكتفي إلى الرقة، وإرساله الجيوش إلى صاحب الشامة، وتولية حرب صاحب الشامة محمد بن سليمان الكاتب، فلما كانت هذه السنة أمر محمد بن سليمان بمناهضة صاحب الشامة، فسار إليه في عساكر الخليفة، حتى لقوه وأصحابه بمكان بينهم وبين حماة اثنا عشر ميلاً لست خلون من المحرم، فقدم القرمطي أصحابه إليهم، وبقي في جماعة من أصحابه، معه مال كان جمعه، وسواد عسكره والتحمت الحرب بين أصحاب الخليفة والقرامطة، واشتدت، وانهزمت القرامطة وقتلوا كل قتلة وأسر من رجالهم بشر كثير، وتفرق الباقون في البوادي، وتبعهم أصحاب الخليفة.

فلما رأى صاحب الشامة ما نزل بأصحابه حمل أخاً له يكنى أبا الفضل مالأن وأمره أن يلحق بالبوادي إلى أن يظهر بمكان فيسير إليه، وركب هووابن عمه المسمى بالمدثر، والمطوق صاحبه، وغلام له رومي، واخذ دليلاً وسار يريد الكوفة عرضاً في البرية، فانتهى إلى الدالية من أعمال الفرات وقد نفد ما معهم من الزاد والعلف، فوجه بعض أصحابه إلى الدالية المعروفة بابن طوق ليشتري لهم ما يحتاجون إليه، فأنكروا رأيه، فسألوه عن حاله فكتمه، فرفعوه إلى متولي تلك الناحية خليفة أحمد بن محمد بن كشمرد، فسأله عن خبره، فأعلمه أن صاحب الشامة خلف رابية هناك مع ثلاثة نفر، فمضى إليهم وأخذهم، وأحضرهم عند ابن كشمرد، فوجه بهم إلى المكتفي بالرقة، ورجعت الجيوش من الطلب بعد أن قتلوا وأسروأن وكان أكثر الأنس أثراً في الحرب الحسين بن حمدان، وكتب محمد بن سليمان يثني عليه وعلى بني شيبان، فإنهم اصطلحوا الحرب، وهزموا القرامطة، واكثروا القتل فيهم والأسر، حتى لم ينج منهم إلا قليل.
وفي يوم الاثنين لأربع بقين من المحرم أدخل صاحب الشامة الرقة ظاهراً على فالج وهوالجمل ذوالسنامين وبين يديه المدثر والمطوق؛ وسار المكتفي إلى بغداد ومعه صاحب الشامة وأصحابه، وخلف العساكر مع محمد بن سليمان، وأدخل القرمطي بغداد على فيل، وأصحابه على الجمل، ثم أمر المكتفي بحبسهم إلى أن يقدم محمد بن سليمان، فقدم بغداد، وقد استقصى في طلب القرامطة، فظفر بجماعة من أعيانهم ورؤوسهم، فأمر المكتفي بقطع أيديهم وأرجلهم، وضرب أعناقهم بعد ذلك، واخرجوا من الحبس، وفعل بهم ذلك، وضرب صاحب الشامة مائتي سوط، وقطعت يداه، وكوي، فغشي عليه، وأخذوا خشباً وجعلوا فيه نارأن ووضعوه على خواصره، فجعل يفتح عينه ويغمضهأن فلما خافوا موته ضربوا عنقه، ورفعوا رأسه على خشبة، فكبر الناس لذلك، ونصب على الجسر.
وفيها قدم رجل من بني العليص من وجوه القرامط، يسمى إسماعيل ابن النعمان، وكان نجا في جماعة لم ينج من رؤسائهم غيره، فكاتبه المكتفي وبذل له الأمان، فحضر في الأمان هوونيف ومائة وستون نفسأن فأمنوا واحسن إليهم ووصلوا بمال، وصاروا إلى رحبة مالك بن طوق مع القاسم بن سيمأن وهي من عمله، فأقاموا معه مدة، ثم أرادوا الغدر بالقاسم، وعزموا على أن يثبوا بالرحبة يوم الفطر عند اشتغال الناس بالصلاة، وكان قد صار معهم جماعة كبيرة، فعلم بذلك، فقتلهم، فارتدع من كان بقي من موالي بني العيص، وذلوأن وألزموا السماوة، حتى جاءهم كتاب من الخبيث زكرويه يعلمهم أنه مما أوحي إليه أن صاحب الشامة وأخاه المعروف بالشيخ يقتلان، وأن إمامه الذي هوحي يظهر بعدهما ويظفر.
ذكر عدة حوادثوفيها جاءت أخبار أن حوى وما يليها جاءها سيل فغرق نحومن ثلاثين فرسخأن وغرق خلق كثير، وغرقت المواشي والغلات وخربت القرى، واخرج من الغرقى ألف ومائتا نفس، سوى من لم يلحق منهم.
وفيها خلع المكتفي على محمد بن سليمان، كاتب الجيش، وعلى جماعة من القواد، وأمرهم بالمسير إلى الشام ومصر لأخذ الأعمال من هارون بن خمارويه، لما ظهر من عجزه، وذهاب رجاله بقتل القرمطي، فسار عن بغداد في رجب وهوفي عشرة آلاف رجل، وجد في السير.
وفيها خرجت الترك في خلق كثير لا يحصون إلى ما وراء النهر، وكان في عسكرهم سبع مائة قبة تركية، ولا يكون إلا للرؤساء منهم، فوجه إليهم إسماعيل بن احمد جيشاً كثيرأن وتبعهم من المتطوعة خلق كثير، فساروا نحوالترك، فوصلوا إليهم وهم غارون، فكبسهم المسلمون مع الصبح، فقتلوا منهم خلقاً عظيماً لا يحصون، وانهزم الباقون، واستبيح عسكرهم، وعاد المسلمون سالمين غامنين.
وفيها خرج من الروم عشرة صلبان مع كل صليب عشرة آلاف إلى الثغور، فقصد جماعة منهم إلى الحدث فأغاروا وسبوا واحرقوا.
وفيها سار المعروف بغلام زرافة من طرسوس نحوبالد الروم، ففتح مدينة أنطاكية، وهي تعادل القسطنطينية، فتحها بالسيف عنوة، فقتل خمسة آلاف رجل، وأسر مثلهم، واستنقذ من الأسارى خمسة آلاف، وأخذ لهم ستين مركباً فحمل فيها ما غمن لهم من الأموال والمتاع والرقيق، وقدر نصيب كل رجل ألف دينار، وهذه المدينة على ساحل البحر، فاستبشر المسلمون بذلك.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن العباس.

وفيها توفي القاسم بن عبيد الله، وزير الخليفة، في ذي القعدة، وكان عمره اثنتين وثلاثين سنة وسبعة أشهر واثنين وعشرين يوماً، ولما مات قال ابن سيار:
أمات ليحيأن فما إن حيي، ... وأفنى ليبقى، فما إن بقي
ومازال في كل يوم يرى ... أمارة حتف وشيك وحي
وما زال يسلح من دبره ... إلى أن خزي النفس فيما خري
وفيها مات أبوعبد الله محمد بن إبراهيم بن سعيد ين عبد الرحمن الماستواي الفقيه بنيسابور، ومحمد بن الجزوعي، قاضي الموصل ببغداد.
وفيها توفي أبوالعباس أحمد بن يحيى الشيباني النحوي، وكان عالماً بنحوالكوفيين، وكان موته ببغداد.
حوادث سنة اثنتين وتسعين ومائتين

ذكر استيلاء المكتفي على الشام ومصر
وانقراض ملك الطولونية
وفي المحرم منها سار محمد بن سليمان إلى حدود مصر لحرب هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون.
وسبب ذلك أن محمد بن سليمان لما تخلف عن المكتفي، وعاد عن محاربة القرامطة، واستقصى محمد في طلبهم، فلما بلغ ما أراد عزم على العود إلى العراق، فأتاه كتاب بدر الحمامي غلام ابن طولون، وكتاب فائق، وهما بدمشق، يدعوانه إلى قصد البلاد بالعساكر بساعداه على أخذهأن فلما عاد إلى بغداد أنهى ذلك إلى المكتفي، فأمره بالعود، وسير معه الجنود، والأموال، ووجه المكتفي دميانة غلام بازمار، وأمره بركوب البحر إلى مصر، ودخول النيل، وقطع المواد عن مصر، ففعل، وضيق عليهم.
وزحف إليهم محمد بن سليمان في الجوش، في البر، حتى دنا من مصر وكاتب من بها من القواد، وكان أول من خرج إليه بدر الحمامي، وكان رئيسهم، فكسرهم ذلك، وتتابعه المستأمنة من قواد المصريين، فلما رأى ذلك هارون، في بعض الأيام، عصبية، فاقتتلوأن فخرج هارون يسكنهم، فرماه بعض المغاربة بمرزاق معه فقتله، فلما قتل قام عمه شيبان بالأمر من بعده، وبذل المال للجند، فأطلقوه وقاتلوا معه، فأتتهم كتب بدر يدعوهم إلى الأمان، فأجابوه إلى ذلك.
فلما علم محمد ين سليمان الخبر سار إلى مصر، فأرسل إليه شيبان يطلب الأمان، فأجابه، فخرج إليه ليلاً، ولم يعلم به أحد من الجند، فلما أصبحوا قصدوا داره ولم يجدوه، فبقوا حيارى، ولما وصل محمد مصر دخلهأن واستولى على دور طولون وأموالهم، وأخذهم جميعأن وهم بضعة عشر رجلأن فقيدهم، وحبسهم واستقصى أموالهم، وكان ذلك في صفر، وكتب بالفتح إلى المكتفي، فأمره بإشخاص آل طولون وأسبابهم من مصر والشام إلى بغداد، ولا يترك منهم أحدأن ففعل ذلك، وعاد إلى بغداد، وولى معونة مصر عيسى النوشري.
ثم ظهر بمصر إنسان يعرف بالخلنجي، وهومن قوادهم، وكان تخلف عن محمد بن سليمان، فاستمال جماعة، وخالف على السلطان، وكثر جمعه وعجز النوشري عنه، فسار إلى الإسكندرية، ودخل إبراهيم الخلنجي مصر، وكتب النوشري إلى المكتفي بالخبر، فسير إليه الجنود مع فاتك، مولى المعتضد، وبدر الحمامي، فساروا في شوال نحومصر.
ذكر عدة حوادثوفيها أخذ بالبصرة رجل ذكروا أنه أراد الخروج، وأخذ معه ولده وتسعة وثلاثون رجلأن وحملوا إلى بغداد، فكانوا يبكون، ويستغيثون، ويحلفون انهم برآء، فأمر بهم المكتفي فحبسوا.
وفيها أغار أندرونقس الرومي على مرعش ونواحيهأن فنفر أهل المصيصة وأهل طرسوس فأصيب أبوالرجال بن أبي بكار في جماعة من المسلمين، فعزل الخليفة أبا العشائر عن الثغور، واستعمل عليهم رستم بن بردوا.
وفيها كان الفداء على ي رستم، فكان جملة من فودي به من المسلمين ألف نفس ومائتي نفس.
وحج بالناس الفضل بن عبد الملك بن عبد الله بن عباس بن محمد.
وفيها زادت دجلة زيادة مفرطة، حتى تهدمت الدور التي على شاطئها بالعراق.
وفيهأن في العشرين من أيار، طلع كوكب له ذنب عظيم جداً في برج الجوزاء.
وفيها وقع الحريق ببغداد بباب الطاق من الجانب الشرقي إلى طرق الصفارين، فاحترق ألف دكان مملوءة متاعاً للتجار.
وفيها توفي أبومسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي، ويقال الكشي.
وفيها توفي القاضي عبد الحميد بن عبد العزيز أبوحازم، قاضي المعتضد بالله، ببغداد، وكان من أفاضل القضاة.
حوادث سنة ثلاث وتسعين ومائتين
ذكر أول إمارة بني حمدان بالموصل
وما فعلوه بالأكراد

في هذه السنة ولى المكتفي بالله الموصل وأعمالها أبا الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون التغلبي العدوي، فسار إليهأن فقدمها أول المحرم، فأقام بها يومه، وخرج من الغد لعرض الرجال الذين قدموا معه، والذين بالموصل، فأتاه الصريخ من نينوى بأن الأكراد الهذبانية، ومقدمهم محمد بن بلال، قد أغاروا على البلد، وغمنوا كثيراً منه، فسار من وقته وعبر الجسر إلى الجانب الشرقي، فلحق الأكراد بالمعروبة على الخازر، فقاتلوه، فقتل رجل من أصحابه اسمه سيما الحمداني، فعاد عنهم، وكتب إلى الخليفة يستدعي النجدة، فأتته النجدة بعد شهور كثيرة، وقد انقضت سنة ثلاث وتسعين ودخلت سنة أربع وتسعين.
ففي ربيع الأول منها سار فيمن معه إلى الهدباينة، وكانوا قد اجتمعوا في خمسة آلاف بيت، فلما رأوا جدة في طلبهم ساروا إلى البابة التي في جبل السلق، وهومضيق في جبل عال مشرف على شهرزور، فامتنعوا وغار مقدمهم محمد بن بلال، وقرب من ابن حمدان، وراسله في أن يطيعه، ويحضر هووأولاده، ويجعلهم عنده يكونون رهينة، ويتركون الفساد، فقبل ابن حمدان ذلك، فرجع محمد ليأتي بمن ذكر، فحث أصحابه على المسير نحوأذربيجان، وغمنا أراد في الذي فعله مع ابن حمدان أن يترك الجد في الطلب ليأخذ أصحابه أهبتهم ويسيروا آمنين.
فلما تأخر عود محمد عن ابن حمدان علم مراده، فجرد معه جماعة من جملتهم إخوته سليمان، وداود، وسعيد، وغيرهم ممن يثق به وبشجاعته، وأمر النجدة التي جاءته من الخليفة أن يسيروا معه، فتثبطوأن فتركهم وسار يقفوا أثرهم، فلحقهم وقد تعلقوا بالجبل المعروف بالقنديل، فقتل منهم جماعة، وصعدوا ذروة الجبل، وانصرف ابن حمدان عنهم، ولحق الأكراد بأذربيجان، وأنهى ابن حمدان ما كان من حالهم إلى الخليفة والوزير فأنجدوه بجماعة صالحة وعاد إلى الموصل فجمع رجاله وسار إلى جبل السلق، وفيه محمد بن بلال ومعه الأكراد، فدخله ابن حمدان، والجواسيس بين يديه، خوفاً من كمين يكون فيه، وتقدم من بين يدي أصحابه، وهم يتبعونه، فلم يتخلف منهم أحد، وجاوزوا الجبل، وقاربوا الأكراد، وسقط عليهم الثلج، واشتد البرد، وقلت الميرة والعلف عندهم، وأقام على ذلك عشرة أيام، وبلغ الحمل التبن ثلاثين درهمأن ثم عدم عندهم وهوصابر.
فلما رأى الأكراد صبرهم وأنهم لا حيلة لهم في دفعهم لجأ محمد بن بلال وأولاده ومن لحق به، واستولى ابن حمدان على بيوتهم، وسوادهم، وأهلهم، وأموالهم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وأبقى عليهم، وردهم إلى بلد حزة، وورد عليهم أموالهم وأهليهم، ولم يقتل منهم غير رجل واحد، وهوالذي قتل صاحبه سيما الحمداني، وأمنت البلاد معه، واحسن السيرة في أهلها.
ثم إن محمد بن بلال طلب الأمان من ابن حمدان فأمنه وحضر عنده، وأقام بالموصل وتتابع الأكراد الحميدية، وأهل جبل داسن إليه بالأمان، فأمنت البلاد واستقامت.
ذكر الظفر بالخلنجيفي هذه السنة، في صفر، وصل عسكر المكتفي إلى نواحي مصر، وتقدم أحمد بن كيغلغ في جماعة من القواد، فلقيهم الخلنجي بالقرب من العريش، فهزمهم أقبح هزيمة، فندب جماعة من القواد إليهم ببغداد، وفيهم إبراهيم بن كيغلغ، فخرجوا في ربيع الأول وساروا نحومصر.
واتصلت الأخبار بقوة الخلنجي، فبرز المكتفي إلى باب الشماسية ليسير إلى مصر في رجب، فوصل إليه كتاب فاتك في شعبان يذكر أنه والقواد رجعوا إلى الخلنجي، وكانت بينهم حروب كثيرة قتل بينهم فيها خلق كثير، فإن آخر حرب كانت بينهم قتل فيها معظم أصحاب الخلنجي، وانهزم الباقون، وظفروا بهم، وغمنوا عسكرهم، وهرب الخلنجي، فدخل فسطاط مصر، فاستتر بها عند رجل من أهل البلد، فدخلنا المدينة، فدلونا عليه، فأخذناه ومن استتر عنده، وهم في الحبس.
فكتب المكتفي إلى فاتك في حمل الخلنجي ومن معه إلى بغداد، وعاد المكتفي بغداد، وأمر برد خزائنه، وكانت قد بلغت تكريت، فوجه فاتك الخلنجي إلى بغداد، فدخلها هوومن معه في شهر رمضان، فأمر المكتفي بحبسهم.
ذكر أمر القرامطة

فيها انفذ زكروية بن مهرويه، بعد قتل صاحب الشامة، رجلاً كان يعلم الصبيان بالرافوفة من الفلوجة يسمى عبد الله بن سعيد، ويكنى أبا غامن، فسمي نصرأن وقيل كان المنفذ ابن زكرويه، فدار على أحياء العرب من كلب وغيرهم يدعوهم إلى رأيه، فلم يقبله منهم أحد، إلا رجلاً من بني زياد يسمى مقدام بن الكيال، واستقوى بطوائف من الأصبغيين المنتمين إلى الفواطم، وغيرهم من العليصيين، وصعاليك من سائر بطون كلب، وقصد ناحية الشام، والعامل بدمشق والأردن احمد بن كيغلغ، وهوبمصر يحارب الخلنجي، فاغتمن ذلك عبد الله بن سعيد، وسار إلى بصرى وأذرعات والبثينة، فحارب أهلهأن ثم أمنهم، فلما استسلموا إليه قتل مقاتليهم، وسبى ذراريهم واخذ أموالهم.
ثم قصد دمشق، فخرج إليهم نائب ابن كيغلغ، وهوصالح بن الفضل، فهزمه القرامطة، وأثخنوا فيهم، ثم أمنوهم وغدروهم بالأمان، وقتلوا صالحأن وفضوا عسكره، وساروا إلى دمشق، فمنعهم أهلهأن فقصدوا طبرية، وانضاف إليه جماعة من جند دمشق افتتنوا به، فواقعهم يوسف بن إبراهيم بن بغامردي، وهوخليفة أحمد بن كيغلغ بالأردن، فهزموه، وبذلوا له الأمان، وغدروا به، وقتلوه، ونهبوا طبرية، وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها وسبوا النساء.
فأنفذ الخليفة الحسين بن حمدان وجماعة من القواد في طلبهم، فوردوا دمشق، فلما علم بهم القرامطة رجعوا نحوالسماوة، وتبعهم الحسين في السماوة وهم ينتقلون في المياه ويغورونهأن حتى لجؤوا إلى ماءين يعرف أحدهما بالدمعانة، والآخر بالحبالة، وانقطع ابن حمدان عنهم لعدم الماء، وعاد إلى الرحبة، وأسرى القرامطة مع نصر إلى هيت وأهلها غافلون، فنهبوا ربضهأن وامتنع أهل المدينة بسورهم، ونهبوا السفن، وقتلوا من أهل المدينة مائتي نفس، ونهبوا الأموال والمتاع، وأوقروا ثلاثة آلاف راحلة من الحنطة.
وبلغ الخبر إلى المكتفي فسير محمد بن إسحاق بن كنداج، فلم يقيموا لمحمد، ورجعوا إلى الماءين فنهض محمد خلفهم، فوجدهم قد غوروا المياه، فأنفذ إليه من بغداد الأزواد والدواب، وكتب إلى ابن حمدان بالمسير إليهم من جهة الرحبة ليجتمع هوومحمد على الإيقاع بهم، ففعل ذلك.
فلما أحس الكبيون بإقبال الجيش إليهم وثبوا بنصر فقتلوه، قتله رجل منهم يقال له الذئب ابن القائم، وسار برأسه إلى المكتفي متقرباً بذلك، مستأمنأن فأجيب إلى ذلك، وأجيز بجائزة سنية، وأمر بالكف عن قومه.
واقتتلت القرامطة بعد نصر حتى صارت بينهم الدماء، وسارت فرقة كرهت أمورهم إلى بني أسد بنواحي عين التمر، واعتذروا إلى الخليفة، فقبل عذرهم، وبقي على المائين بقيتهم ممن له بصيرة في دينه، فكتب الخليفة إلى ابن حمدان يأمره بمعاودتهم، واجتثاث أصلهم، فأرسل إليهم زكرويه ابن مهرويه داعية له يسمى القاسم بن أحمد، ويعرف بأبي محمد، وأعلمهم أن فعل الذئب قد نفره منهم، وأنهم قد ارتدوا عن الدين وأن وقت ظهورهم قد حضر، وقد بايع له من أهل الكوفة أربعون ألفأن وأن يوم موعدهم الذي ذكره الله في شأن موسى، صلى الله عليه وسلم، وعدوه فرعون إذ (قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى) طه: 59، ويأمرهم أن يخفوا أمرهم، وأن يسيروا حتى يصبحوا الكوفة يوم النحر سنة ثلاث وتسعين ومائتين، فإنهم لا يمنعون منهأن وأنه يظهر لهم، وينجز لهم وعده الذي يعدهم إياه، وأن يحملوا إليه القاسم بن احمد.
فامتثلوا رأيه، ووافوا باب الكوفة وقد انصرف عن مصلاهم، وعاملهم إسحاق بن عمران، ووصلوها في ثماني مائة فارس عليهم الدروع، والجواشن، والآلات الحسنة، وقد ضربوا على القاسم بن أحمد قبة، وقالوا هذا أثر رسول الله. ونادوا: يا لثارات الحسين، يعنون الحسين بن زكرويه المصلوب ببغداد، وشعارهم: يا أحمد، يا محمد، يعنون ابني زكرويه المقتولين، فأظهروا الأعلام البيض، وأرادوا استمالة رعاع الناس بالكوفة بذلك، فلم يمل إليهم أحد، فأوقع القرامطة من أهل الكوفة، وقتلوا نحواًمن عشرين نفساً.
وبادر الناس الكوفة، وأخذوا السلاح، ونهض بهم إسحاق، ودخل مدينة الكوفة القرامطة مائة فارس، فقتل منهم عشرون نفسأن وأخرجوا عنهأن وظهر إسحاق، وحاربهم إلى العصر، ثم انصرفوا نحوالقادسية، وكان فيمن يقاتلهم مع إسحاق جماعة من الطالبية.

وكتب إسحاق إلى الخليفة يستمده، فأمده بجماعة من قواده، منهم: وصيف بن صوارتكين التركي، والفضل بن موسى بن بغأن وبشر الخادم الأفشيني، ورائق الحري، مولى أمير المؤمنين، وغيرهم من الغلمان الحجرية، فساروا منتصف ذي الحجة حتى قاربوا القادسية فنزلوا بالصوان، فلقيهم زكرويه.
وأما القرامطة فإنهم أنفذوا واستخرجوا زكرويه من جب في الأرض كان منقطعاً فيه سنين كثيرة، بقرية الدرية، وكان على الجب باب حديد محكم العمل، وكان زكرويه إذا خاف الطلب جعل تنوراً هناك على باب الجب، وقامت امرأة تسجره، فلا يفطن إليه، وكان ربما أخفي في بيت خلف باب الدار التي كان بها ساكنأن فإذا انفتح باب الدار انطبق على باب البيت، فيدخل الداخل الدار فلا يرى شيئأن فلما استخرجوه حملوه على أيديهم، وسموه ولي الله، ولما رأوه سجدوا له، وحضر معه جماعة من دعاته وخاصته، وأعلمهم أن القاسم بن أحمد من أعظم الناس عليهم ذمة ومنة، وأنه ردهم إلى الدين بعد خروجهم عنه، وأنهم إن امتثلوا أوامره أنجز موعدهم وبلغوا آمالهم، ورمز لهم رموزاً ذكر فيها آيات من القرآن نقلها عن الوجه الذي أنزلت فيه، فاعترف له من رسخ حب الكفر في قلبه أنه رئيسهم وكهفهم، وأيقنوا بالنصر وبلوغ الأمل.
وسار بهم وهومحجوب يدعونه ولا يبرزونه، والقاسم يتولى الأمور، وأعلمهم أن أهل السواد قاطبة خارجون إليه، فأقام بسقي الفرات عدة أيام، فلم يصل إليه منهم إلا خمس مائة رجل، ثم وافته الجنود المذكورة من عند الخليفة، فلقيهم زكرويه بالصوان، وقالتهم واشتدت الحرب بينهم، وكانت الهزيمة أول النهار على القرامطة، وكان زكرويه قد كمن لهم كميناً من خلفهم، فلم يشعر أصحاب الخليفة إلا والسيف فيهم من ورائهم، فانهزموا أقبح هزيمة، ووضع القرامطة السيف فيهم، فقتلوهم كيف شاءوأن وغمنوا سوادهم، ولم يسلم من أصحاب الخليفة إلا من دابته قوية، أومن أثخن بالجراح، فوضع نفسه بين القتلى، فتحاملوا بعد ذلك، وأخذ للخليفة في هذا العسكر أكثر من ثلاثمائة جمازة عليها المال والسلاح، وخمس مائة بغل، وقتل من أصحاب الخليفة، سوى الغلمان ألف وخمس مائة رجل، وقوي القرامطة بما غمنوا.
ولما ورد خبر هذه الوقعة إلى بغداد أعظمها الخلفة والناس، وندب إلى القرامطة محمد بن إسحاق بن كنداج، وضم إليه من الأعراب بني شيبان وغيرهم أكثر من ألفي رجل، وأعطاهم الأرزاق، ورحل زكرويه من مكانه إلى نهر المثنية لنتن القتلى.
ذكر عدة حوادثوفيهأن في ربيع الآخر، قدم إلى بغداد قائد من أصحاب طاهر بن محمد ابن عمروبن الليث مستأمنأن ويعرف بأبي قابوس.
وسبب ذلك أن طاهراً تشاغل باللهو والصيد، ومضى إلى سجستان للصيد والتنزه، فغلب على الأمر بفارس الليث بن علي بن الليث، وسبكرى مولى عمروبن الليث، فوقع بينهما وبين هذا القائد تباعد، ففارقهم، ووصل إلى بغداد، فخلع عليه الخليفة وأحسن إليه، فكتب طاهر بن محمد يسأل رد أبي قابوس، ويذكر أنه جبى المال وأخذه، ويقول له: إما أن ترد إليه، أوتحتسب له بما ذهب معه من المال من جملة القرار الذي عليه، لم يجبه الخليفة إلى ذلك.
وفيها صارت الداعية التي للقرامطة باليمن إلى مدينة صنعاء، فحاربه أهلهأن فظفر بهم وقتلهم، فلم يفلت إلا اليسير، وتغلب على سائر مدن اليمن، ثم اجتمع أهل صنعاء وغيرهأن فحاربوا الداعية، فهزموه، فانحاز إلى موضع من نواحي اليمن، وبلغ الخبر الخليفة، فخلع على المظفر بن حاج في شوال، وسيره إلى عمله باليمن، وأقام بها إلى أن مات.
وفيها أغارت الروم على قورس، من أعمال حلب، فقاتلهم أهلها قتالاً شديدأن ثم انهزموأن وقتلوا أكثرهم، وقتلوا رؤساء بني تميم، ودخل الروم قورس فأحرقوا جامعهأن وساقوا من بقي من أهلها.
وفيها فتح إسماعيل بن أحمد الساماني، ملك ما وراء النهر، مواضع من بلاد الترك ومن بلاد الديلم؛ وحج بالناس محمد بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي نصر بن احمد الحافظ في رمضان، وأبوالعباس عبد الله بن محمد الناشي الشاعر الكاتب الأنباري.
حوادث سنة أربع وتسعين ومائتين

ذكر أخبار القرامطة وأخذهم الحاج

في هذه السنة، في المحرم، أرتحل زكرويه من نهر المثنية يريد الحاج، فبلغ السلمان، وأقام ينتظرهم، فبلغت القافلة الأولى واقصة سابع المحرم، فأنذرهم أهلها وأخبروهم بقرب القرامطة، فارتحلوا لساعتهم.
وسار القرامطة إلى واقصة، فسألوا أهلها عن الحاج، فأخبروهم أنهم ساروأن فاتهمهم زكرويه، فقتل العلافة، وأحرق العلف، وتحصن أهل واقصة في حصنهم، فحصرهم أياماً ثم ارتحل عنهم نحوزبالة، وأغار في طريقه على جماعة من بني أسد.
ووصلت العساكر المنفذة من بغداد إلى عيون الطف، فبلغهم مسير زكرويه من السلمان، فانصرفوأن وسار علان بن كشمرد جريدة، فنزل واقصة بعد أن جازت القافلة الأولى، ولقي زكرويه القرمطي قافلة الخراسانية بعقبة الشيطان راجعين من مكة، فحاربهم حرباً شديدة، فلما رأى شدة حربهم سألهم: هل فيكم نائب للسلطان؟ فقالوا: ما معنا أحد. قال: فلست أريدكم؛ فاطمأنوا وساروأن فلما ساروا أوقع بهم، وقتلهم عن آخرهم، ولم ينج إلا الشريد، وسبوا من الناس ما أرادوأن وقتلوا منهم.
ولقي بعض المنهزمين علان بن كشمرد، فأخبروه خبرهم، وقالوا له: ما بينك وبينهم إلا القليل، ولورأوك لقوزويت نفوسهم، فالله الله فيهم! فقال: لا أعرض أصحاب السلطان للقتل. ورجع هووأصحابه. وكتب من نجا من الحجاج من هذه القافلة الثانية إلى رؤساء القافلة الثالثة من الحجاج يعلمونهم ما جرى من القرامطة، ويأمرونهم بالتحذر، والعدول عن الجادة نحوواسط والبصرة، والرجوع إلى فيد والمدينة إلى أن تأتيهم جيوش السلطان، فلم يسمعوأن ولم يقيموا.
وسارت القرامطة من العقبة بعد اخذ الحاج، وقد طموا الآبار والبرك بالجيف، والأراب، والحجارة، بواقصة، والثعلبية، والعقبة، وغيرها من المناهل في جميع طريقهم، وأقام بالهيبر ينتظر القافلة الثالثة، فساروا فصادفوه هناك، فقاتلهم زكرويه ثلاثة أيام، وهم على غير ماء، فاستسلموا لشدة العطش، فوضع فيهم السيف وقتلهم عن آخرهم، وجمع القتلى كالتل، وأرسل خلف المنهزمين من يبذل لهم الأمان، فلما رجعوا قتلهم، وأن في القتلى مبارك القمي، وولده أبوالعشائر بن حمدان.
وكان نساء القرامطة يطفن بالماء بين القتلى يعرضن عليهم الماء، فمن كلمهن قتلنه، فقيل إن عدة القتلى بلغت عشرين ألفأن ولم ينج إلا من كان بين القتلى فلم يفطن له فنجا بعد ذلك، ومن هرب عند اشتغال القرامطة بالقتل والنهب، فكان من مات من هؤلاء أكثر ممن سلم ومن استعبدوه، وكان مبلغ ما أخذوه من هذه القافلة ألفي ألف دينار.
وكان في جملة ما أخذوا فيها أموال الطولونية وأسبابهم، فإنهم لما عزموا على الانتقال من مصر إلى بغداد خافوا أن يستصحبوها فتؤخذ منهم، فعملوا الذهب والنقرة سبائك، وجعلوها في حدائج الجمال، وجميع ما لهم من الحلي والجوهر، وسيروا الجميع إلى مكة سرأن وسار من مكة في هذه القافلة فأخذت.
وبث زكرويه الطلائع خوفاً من عسكر الذي كان بالقادسية، وأقام ينتظر وصول من كان في الحج من عسكر الخليفة وأصحابه، فكانوا بفيد ينتظرون هل تعرض القرامطة لحاج أم لأن فكان معهم جماعة من التجار أرباب الأموال، فلما بلغهم ما صنع القرامطة أقاموا ينتظرون وصول عسكر من عند الخليفة، فسار زكرويه إليهم، وغور الآبار، والمصانع، والمياه إلى فيد، فاحتمى أهل فيد ومن بها من الحجاج بالحصنين اللذين بفيد وحصرهم فيهما القرامطة، وأرسل زكرويه إلى أهل فيد يأمرهم بإخراجهم أوبتسليم الحصنين إليه، وبذل لهم الأمان على ذلك، فلم يجيبوه، فتهددهم بالنهب والقتل، فازداد امتناعهم، وأقام عليهم عدة أيام، ثم سار إلى الساج ثم إلى جعفر أبي موسى.
ذكر قتل زكرويه لعنه اللهلما فعل زكرويه بالحجاج ما ذكرناه عظم ذلك على الخليفة خاة، وعلى جميع المسلمين عامة، فجهز المكتفي الجيوش، فلما كان أول ربيع الأول سير وصيف بن صوارتكين مع جماعة من القواد والعساكر إلى القرامطة، فساروا على طريق حفان فلقيهم زكرويه، ومن معه من القرامطة، ثامن ربيع الأول، فاقتتلوا يومهم، ثم حجز الليل، وباتوا يتحارسون، ثم بكروا إلى القتال، فاقتتلوا قتالاً شديدأن فقتل من القرامطة مقتلة عظيمة.

ووصل عسكر الخليفة إلى عدوالله زكرويه، فضربه بعض الجند وهومول بالسيف على رأسه، فبلغت الضربة دماغه، وأخذه أسيرأن وأخذ خليفته وجماعة من خواصه وأقربائه، وفيهم ابنه وكاتبه، وزوجته، واحتوى الجند على ما في العسكر.
وعاش زكرويه خمسة أيام ومات، فسيرت جيفته والأسرى إلى بغداد، وانهزم جماعة من أصحابه إلى الشام، فأوقع بهم الحسين بن حمدان، فتلوهم جميعأن وأخذوا جماعة من النساء والصبيان، وحمل رأس زكرويه إلى خراسان، لئلا ينقطع الحجاج، وأخذ الأعراب رجلين من أصحاب زكرويه يعرف أحدهما بالحداد، والآخر بالمنتقم، وهوأخوامرأة زكرويه، كانا قد سارا إليهم يدعوانهم إلى الخروج معهم، فلما أخذوهما سيروهما إلى بغداد، وتتبع الخليفة القرامطة بالعراق، فقتل بعضهم، وحبس بعضهم، وما ت بعضهم في الحبس.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا ابن كيغلغ الروم من طرسوس، فأصاب من الروم أربعة آلاف رأس سبي ودواب ومتاعاً؛ ودخل بطريق من بطارقة الروم في الأمان واسلم.
وفيها غزا ابن كيغلغ فبلغ شكند، وافتتح الله عليه، وسار إلى الليس، فغمنوا نحواً من خمسين ألف رأس، وقتلوا مقتلة عظيمة من الروم، وانصرفوا سالمين.
وكاتب أندرونقس البطريق المكتفي بالله يطلب منه الأمان، وكان على حرب أهل الثغور من قبل ملك الروم، فأعطاه المكتفي ما طلب، فخرج ومعه مائتا أسير من المسلمين كانوا في حصنه، وكان ملك الروم قد أرسل لقبض عليه، فأعطى المسلمين سلاحاً وخرجوا معه، فقبضوا على الذي أرسله ملك الروم ليقبض عليه ليلأن فقتلوا ممن معه خلقاً كثيرأن وغمنوا ما في عسكرهم، فاجتمعت الروم على أندرونقس ليحاربوه، فسار إليهم جمع من المسلمين ليخلصوه ومن معه من أسرى المسلمين، فبلغوا قونية، فبلغ الخبر إلى الروم، فانصرفوا عنه، وسار جماعة من ذلك العسكر إلى أندرونقس، وهوبحصنه، فخرج ومعه أهله إليهم، وسار معهم إلى بغداد، واخرب المسلمون قونية، فأرسل ملك الروم إلى الخليفة المكتفي فطلب الفداء.
وفيها ظهر بالشام رجل يدعي أنه السفياني فأخذ وحمل إلى بغداد فقيل إنه موسوس.
وفيها كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وبين أعراب من بني كلب، وطي، واليمن، وأسد، وغيرهم.
وفيها حاصر أعراب طي وصيف بن صوارتكين بفيد، وقد سيره المكتفي أميراً على الموسم، فحصروه ثلاثة أيام، ثم خرج فواقعهم، فقتل منهم قتلى، ثم انهزمت الأعراب ورحل وصيف بمن معه؛ وحج بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الله الهاشمي.
وفيها توفي صالح بن محمد الحافظ الملقب بجزرة البغدادي، وأبوعبيد الله محمد بن نصر الروزي، الفقيه الشافعي، وكان موته بسمرقند، وله تصتنيف كثيرة.
وفيها قتل محمد بن إسحاق بن إبراهيم المعروف بابن راهويه بطريق مكة؛ قتله القرامطة حين أخذوا الحاج.
حوادث سنة خمس وتسعين ومائتين

ذكر وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني
وولاية ابنه أحمد
في هذه السنة، منتصف صفر، توفي إسماعيل بن أحمد أمير خراسان وما وراء النهر، ببخارى، وكان يلقب بعد موته بالماضي، وولي بعده ابنه أبونصر أحمد، وأرسل إليه المكتفي عهده بالولاية، وعقد لواءه بيده.
وكان إسماعيل عاقلأن عادلأن حسن السيرة في رعيته، حليماً؛ حكي عنه أنه كان لولده أحمد مؤدب يؤدبه، فمر به الأمير إسماعيل يومأن والمؤدي لا يعلم به، فسمعه وهويسب إبنه، ويقول له: لا بارك الله فيك، ولا فيمن ولدك! فدخل إليه، وقال له: يا هذأن نحن لم نذنب ذنباً لتسبّنا، فهل ترى أن تعفينا من سبك، وتخص المذنب بشتمك وذمك؟ فارتاع المؤدب، فخرج إسماعيل عنه، وأمر له بصلة جزء لخوفه منه.
وقيل: جرى بين يديه ذكر الأنساب والأخشاب فقال لبعض جلسائه: كن عصامياً ولا تكن عظامياً؛ فلم يفهم مراده، فذر له معنى ذلك.

وسأل يوماً يحيى بن زكرياء النيسابوري فقال له: ما السبب في أن آل معاذ لما زلت دولتهم بقيت عليهم نعمتهم بخراسان، مع سوء سيرتهم وظلمتهم، وأن آل طاهر لما زالت دولتهم عن خراسان زالت معها نعمتهم مع عدلهم، وحسن سيرتهم، ونظرهم لرعيتهم؟ فقال له يحيى: السبب في ذلك أن آل معاذ لما تغير أمرهم كان الذي ولي البلاد بعدهم آل طاهر في عدلهم، وإنصافهم، واستعفافهم عن أموال الناس، ورغبتهم في اصطناع أهل البيوتات، فقدموا آل معاذ وأكرموهم، وأن آل طاهر لما زالت عنهم كان سلطان بلادهم آل الصفار في ظلمتهم، وغشمهم، ومعاداتهم لأهل البيوتات ومناصبتهم لأهل الشرف والنعم، فأتوا عليهم وأزالوا نعمتهم.
فقال إسماعيل: لله درك يا يحيى، فقد شفيت صدري! وأمر له لصلة.
ولما ولي بعد أخيه كان يكتب أصحابه وأصدقاءه بما كان يكاتبهم أولأن فقيل له في ذلك، فقال: يجب علينأن إذا زادنا الله رفعة، أن لا ننقص إخواننا بل نزيدهم رفعة، وعلى، وجاهأن ليزيدوا لنا إخلاصاً وشكراً.
ولما ولي بعده أبونصر أحمد، واستوثق أمره، أراد الخروج إلى الري، فاشرا عليه إبراهيم بن زيدويه بالخروج إلى سمرقند والقبض على عمه إسحاق ابن أحمد لئلا يخرج عليه ويشغله، ففعل ذلك، واستدعى عمه إلى بخارى، فحضر فاعتقله بهأن ثم عبر إلى خراسان، فلما ورد نيسابور هرب بارس الكبير من جرجان إلى بغداد، خوفاً منه.
وكان سبب خوفه أن الأمير إسماعيل كان قد استعمل ابنه أحمد على جرجان لما أخذها من محمد بن زيد، ثم عزله عنهأن واستعمل عليها بارس الكبير، على ما ذكرناه، فاجتمع عند بارس أموال جمة من خراج الري، وطبرستان، وجرجان، فبلغت ثمانين وقرأن فحملها إلى إسماعيل، فلما سارت عنه بلغه خبر موت إسماعيل، فردها واخذهأن فلما سار إليه أحمد خافه، وكتب إلى المكتفي يستأذنه في المصير إليه، فأذن له في ذلك، فسار إليه في رابعة آلاف فارس، فأرسل أحمد خلفه عسكرأن فلم يدركوه، واجتاز الري، فتحصن بها نائب أحمد بن إسماعيل، فسار إلى بغداد، فوصلها وقد مات المكتفي، وولي المقتدر بعده، فأعجبه المقتدر.
وكان وصوله بعد حادثة ابن المعتز، فسيره المقتدر في عسكره إلى بني حمدان، وولاه ديار ربيعة، فخافه أصحاب الخليفة أن يتقدم عليهم، فووضعوا عليه غلاماً فسمه فمات، واستولى غلامه على ماله، وتزوج امرأته، وكان موته بالموصل.
ذكر وفاة المكتفيفي هذه السنة في ذي القعدة توفي أمير المؤمنين المكتفي بالله أبومحمد علي ابن المعتضد بالله أبي العباس احمد بن الموفق بن المتوكل؛ وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً، وكان عمره ثلاثاً وثلاثين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين سنة؛ وكان ربعاً جميلأن رقيق البشرة، حسن الشعر، وافر اللحية، وكنيته أبومحمد، وأمه أم ولد تركية، اسمها جيجك؛ وطال عليه مرضه عدة شهور، ولما مات دفن بدار محمد بن طاهر، رحمه الله.
ذكر خلافة المقتدر باللهوكان السبب في ولاية المقتدر بالله الخلافة، وهوأبوالفضل جعفر بن المعتضد، أن المكتفي لما ثقل في مرضه أفكر الوزير جينئذ، وهوالعباس بن الحسن، فيمن يصلح للخلافة، وكان عادته أن يسايره، إذا ركب إلى دار الخلافة، واحد من هؤلاء الأربعة الذين يتولون الدواوين، وهم: أبوعبد الله محمد بن داود بن الجراح، وأبوالحسن محمد بن عبدان، وأبوالحسن علي بن محمد بن الفرات، وأبوالحسن علي بن عيسى، فاستشار الوزير يوماً محمد ابن داود بن الجراح في ذلك، فأشار بعبد الله بن المعتز، ووصفه بالعقل والأدب والرأي، واستشار بعده أبا الحسن بن الفرات، فقال: هذا شيء ما جرت به عادتي أشير فيه، وإمنا اشاور في العمال لا في الخلفاء؛ فغضب الوزير وقال: هذه مقاطعة باردة، وليس يخفي عليك الصحيح.

وألح عليه، فقال: إن كان رأي الوزير قد استقر على احد يعينه فليفعل؛ فعلم أنه عنى ابن المعتز لأشتهار خبره. فقال الوزير: لا أقنع إلا أن تمحضني النصيحة. فقال ابن الفرات: فليتفق الله الوزير، ولا ينصب إلا من قد عرفه، واطلع على جميع أمواله، ولا ينصب بخيلاً فيضيق على الناس ويقطع أرزاقهم، ولا طماعاً فيشره في أموالهم، فيصادرهم ويأخذ أموالهم وأملاكهم، ولا قليل الدين فلا يخاف العقوبة والأثام، ويرجوالثواب فيما يفعله، ولا يول من عرف نعمة هذأن وبستان هذأن وضيعة هذأن وفرس هذأن ومن قد بقي الناس ولقوه، وعاملهم وعاملوه، ويتخيل، ويحسب حساب نعم الناس، وعرف وجوه دخلهم وخرجهم. فقال الوزير: صدقت ونصحت، فبمن تشير؟ قال: أصلح الموجود جعفر بن المعتضد؛ قال: ويحك، هوصبي؛ قال ابن الفرات: إلا أنه ابن المعتضد، ولم نأت برجل كامل يباشر الأمور بنفسه، غير محتاج إلينا.
ثم إن الوزير استشار علي بن عيسى، فلم يسم أحدأن وقال: لكن ينبغي أن يتقي الله، وينظر من يصلح لدين والدنيا؛ فمالت نفس الوزير ألى ما أشار به ابن الفرات، وانضاف إلى ذلك وصية المكتفي، فإنه أوصى، لما اشتد مرضه، بتقليد أخيه جعفر الخلافة، فلما مات المكتفي نصب الوزير جعفراً للخالفة، وعينه لهأن وأرسل صافياً الحرمي إليه ليحذره من دور آل طاهر بالجانب الغربي وكان يسكنهأن فلما حطه في الحراقة وحدره، وصارت الحراقة مقابل دار الوزير، صاح غلمان الوزير بالملاح ليدخل إلى دار الوزير، فظن الحرمي أن الوزير يريد القبض على جعفر، وينصب في الخلافة غيره، فمنع الملاح من ذلك، وسار إلى دار الخلافة، وأخذ له صافي البيعة على الخدم، وحاشية الدار، ولقب نفسه المقتدر بالله، ولحق الوزير به وجماعة الكتاب فبايعوه، ثم جهزوا المكتفي ودفنوه بدار محمد بن طاهر.
ولما بويع المقتدر كان في بيت المال، حين بويع، خمسة عشر ألف ألف دينار، فأطلق يد الوزير في بيت المال فأخرج منه حق البيعة.
وكان مولده المقتدر ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وأمه أم ولد يقال لها شغب، فلما بويع استصغره الوزير، وكان عمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة، وكثر كلام الناس فيه، فعزم على خلعه، وتقليد الخلافة أبا عبد الله محمد بن المعتمد على الله وكان حسن السيرة، جميل الوجه والفعل، فراسله في ذلك، واستقر الحال، وانتظر الوزير قدوم بارس حاجب إسماعيل صاحب خراسان، وكان قد أذن له في القدوم، كما ذكرناه، وأراد الوزير أن يستعين به على ذلك، ويتقوى به على غلمان المعتضد، فتأخر بارس.
واتفق أنه وقع بين أبي عبد الله بن المعتمد وبين ابن عمرويه، صاحب الشرطة، منازعه في ضيعة مشتركة بينهمأن فاغلظ له ابن عمرويه، فغضب ابن المعتمد غضباً شديدأن أغمي عليه وفلج في المجلس، فحمل إلى ثيته في محفة، فمات في اليوم الثاني، فأراد الوزير البيعة لأبي الحسين بن المتوكل، فمات أيضاً بعد خمسة أيام، وتم أمر المقتدر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت وقعة بين نجح بن جاخ وبين الاجناد بمنى، ثاني عشر ذي الحجة، فقتل منهم جماعة، لأنهم طلبوا جائزة بيعة المقتدر بالله، وهرب الناس إلى بستان ابن عامر، وأصحاب الحجاج في عودهم عطش عظيم فمات منهم جماعة.
وحكي أن أحدهم كان يبول في كفه تم يشربه.
وفيها خرج عبد الله بن إبراهيم المسمعي عن أصبهان إلى قرية من قراها مخالفاً للخليفة، واجتمع إليه نحومن عشرة آلاف من الأكراد وغيرهم، فامر بدر الحمامي بالمسير إليه، فسار في خمسة آلاف من الجند، وأرسل إليه المنصور بن عبد الله بن منصور الكاتب يخوفه عاقبة الخلاف، فسار إليه وادى إليه الرسالة، فرجع إلى الطاعة، وسار إلى بغداد، واستخلف على عمله باصبهان، فرضي عنه المكتفي بالله.
وفيها كانت وقعة للحسين بن موسى على أعراب طي، الذين كانوا حصروا وصيفأن على غرة منهم، فقتل فيهم كثيرأن وأسر.
وفيها أوقع الحسن بن أحمد بالأكراد الذين تغلبوا على نواحي الموصل، فظفر بهم، واستباحهم، ونهب أموالهم، وهرب رئيسهم إلى رؤوس الجبال، فلم يدرك.
وفيها فتح المظفر بن جاخ بعض ما كان غلب عليه الخارجي باليمن، وخذ رئيساً من رؤساء أصحابه، ويعرف بالحكيمي.

وفيها تم الفداء بين المسلمين والروم في ذي القعدة، وكان عدة من فودي به من الرجال والنساء ثلاثة آلاف نفس؛ وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي.
وفيها توفي أبوبكر محمد بن إسماعيل بن مهران الجرجاني الإسماعيلي، الفقيه الشافعي المحدث؛ ومحمد بن أحمد بن نصر أبوجعفر الترمذي الفقيه الشافعي، توفي ببغداد؛ وأبوالحسين أحمد بن محمد النوري شيخ الصوفية؛ وتوفي الحسين بن عبد الله بن أحمد أبوعلي الخرقي، الفقيه الحنبلي، يوم الفطر الخرقي بالخاء المعجمة والقاف؛ وعبد الله ابن أبي دارة.
المجلد الخامس

بسم الله الرحمن الرحيم
ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين
ذكر خلع المقتدر وولاية ابن المعتز
وفي هذه السنة اجتمع القوّاد، والقضاة، والكتّاب، مع الوزير العبّاس بن الحسن، على خلع المقتدر، والبيعة لابن المعتزّ، وأرسلوا إلى ابن المعتز في ذلك، فأجابهم على أن لا يكون فيه سفك دم، ولا حرب، فأخبروه باجتماعهم عليه، وأنّهم ليس لهم منازعٌ ولا محاربٌ.
وكان الرأس في ذلك العبّاس بن الحسن، ومحمّد بن داود بن الجَرّاح، وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي؛ ومن القوّاد الحسين بن حمدان، وبدر الأعجميُّ، ووصيف بن صوارتكين.
ثمّ إنّ الوزير رأى أمره صالحاً مع المقتدر، وأنّه على ما يحبّ، فبدا له في ذلك، فوثب به الآخرون فقتلوه، وكان الذي تولى قتله منهم الحسين ابن حّمدان، وبدر الأعجميّ، ووصيف، ولحقوه، وهو سائر إلى بستان له، فقتلوه في طريقه، وقتلوا معه فاتكاً المعتضديَّ، وذلك في العشرين من ربيع الأوّل، وخُلع المقتدر من الغد، وبايع الناس لابن المعتّز.
وركض الحسين بن حَمدان إلى الحَلبة ظنّاً منه أنّ المقتدر يلعب هناك بالكرة، فيقتله، فلم يصادفه، لأنّه كان هناك، فبلغه قتل الوزير وفاتك، فركض دابّته فدخل الدار، وغُلّقت الأبواب، فندم الحسين حيث لم يبدأ بالمقتدر.
وأحضروا ابن المعتّز وبايعوه بالخلافة، وكان الذي يتولّى أخذ البيعة له محمّد بن سعيد الأزرق، وحضر الناس، والقوّاد، وأصحاب الدواوين، سوى أبي الحسن بن الفُرات، وخواصّ المقتدر، فإنّهم لم يحضروا، ولُقّب ابنُ المعتزّ المرتضي بالله، واستوزر محمّد بن داود بن الجرّاح، وقلّد عليّ بن عيسى الدواوين، وكُتبت الكتبُ إلى البلاد من أمير المؤمنين المرتضي بالله أبي العبّاس عبدالله بن المعتزّ بالله، ووجّه إلى المقتدر يأمره بالانتقال إلى دار ابن طاهر التي كان مقيماً فيها، لينتقل هو إلى دار الخلافة، فأجابه بالسمع والطاعة، وسأل الإمهال إلى الليل.
وعاد الحسين بن حَمدان بُكرة غد إلى دار الخلافة، فقاتله الخدم والغلمان والرجّالة من وراء الستور عامّة النهار، فانصرف عنهم آخر النهار، فلمّا جنّه الليل سار عن بغداد بأهله وماله وكلّ ما له إلى الموصل، لا يُدرى لِمَ فعل ذلك؛ ولم يكن بقي مع المقتدر من القوّاد غير مُؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، وغريب الخال وحاشية الدار.
فلمّا همّ المقتدر بالانتقال عن الدار قال بعضهم لبعض: لا نسلم الخلافة من غير أن نُبلي عّذراً، ونجتهد في دفع ما أصابنا؛ فأجمع رأيهم على أن يصعدوا في الماء إلى الدار التي فيها ابن المعتزّ بالحرم يقاتلونه، فأخرج لهم المقتدر السلاح والزرديّات وغير ذلك، وركبوا السُّمَيريّات، وأصعدوا في الماء، فلمّا رآهم مَن عند ابن المعتزّ هالهم كثرتهم، واضطربوا، وهربوا على وجوههم من قبل أن يصلوا إليهم، وقال بعضهم لبعض: إنّ الحسين بن حمدان عرف ما يريد أن يجري فهرب من الليل، وهذه مواطأة بينه وبين المقتدر، وهذا كان سبب هربه.
ولمّا رأى ابن المعتزّ ذلك ركب ومعه وزيره محمّد بن داود وهربا، وغلام له ينادي بين يديه: يا معشر العامّة، ادعوا لخليفتكم السنّيّ البربهاريّ، وإنّما نسبت هذه النسبة لأنّ الحسين بن القاسم بن عبيد الله البربهاريّ كان مقدّم الحَنابلة والسُّنّة من العامّة، ولهم فيه اعتقاد عظيم، فأراد استمالتهم بهذا القول.

ثمّ إنّ المعتزّ ومَن معه ساروا نحو الصحراء، ظنّاً منهم أنّ مَن بايعه من الجند يتبعونه، فلم يلحقه منهم أحد، فكانوا عزموا أن يسيروا إلى سُرَّ من رأى بمن يتبعهم من الجند، فيشتدّ سلطانهم، فلمّا رأوا أنّهم لم يأتهم أحدٌ رجعوا عن ذلك الرأي، واختفى محمّد بن داود في داره ونزل ابن المعتزّ عن دابّته، ومعه غلامه يَمِن، وانحدر إلى دار أبي عبد الله بن الجصّاص، فاستجار به، واستتر أكثر مَن بايع ابن المعتزّ، ووقعت الفتنة والنهب والقتل ببغداد، وثار العيّارون والسُّفّل ينهبون الدور.
وكان ابن عمرَويْه، صاحب الشُّرطة، ممّن بايع ابن المعتزّ، فلمّا هرب جمع ابن عمرّويْه أصحابه، ونادى بشعار المقتدر، يدلّس بذلك، فناداه العامّة: يا مرائي، يا كذّاب ! وقاتلوه، فهرب واستتر، وتفرّق أصحابه، فهجاه يحيى بن عليّ بأبياتٍ منها:
بايعوه فلم يكن عند الأن ... وك إلاّ التغييرُ والتخبيط
رافضيّون بايعوا أنْصَبَ الأ ... مَة هذا لعَمْريَ التخليطُ
ثمّ ولَّى من زَعْقَةٍ ومحامو ... ومن خلفهم لهم تَضريطُ
وقلّد المقتدر، تلك الساعة، الشُّرطة مؤنساً الخازن، وهُو غير مؤنس الخادم، وخرج بالعسكر، وقبض على وصيف بن صُوارتكين وغيره، فقتلهم، وقبض على القاضي أبي عُمر، وعليّ بن عيسى، والقاضي محمّد ابن خلف وكيع، ثمّ أطلقهم، وقبض على القاضي المثنّى أحمد بن يعقوب، فقتله لأنّه قيل له: بايع المقتدر، فقال: لا أبايع صبيّاً، فذُبح.
وأرسل المقتدر إلى أبي الحسن بن الفُرات، وكان مختفياً، فاحضره واستوزره، وخلع عليه.
وكان في هذه الحادثة عجائب منها: أنّ الناس كلّهم أجمعوا على خلع المقتدر والبيعة لأبن المعتزّ، فلم يتمّ ذلك، بل كان على العكس من إرادتهم، وكان أمر الله مفعولاً.
ومنها أنّ ابن حَمدان، على شدّة تشيّعه وميله إلى عليّ، عليه السلام، وأهل بيته، يسعى في البيعة لابن المعتزّ على انحرافه عن عليّ وغلوّه في النصْب إلى غير ذلك.
ثمّ إنّ خادماً لابن الجَصّاص، يُعرف بسوسن، أخبر صافياً الحرميَّ بأنّ ابن المعتزّ عند مولاه، ومعه جماعة، فكُبست دار ابن الجَصّاص، وأُخذ ابن المعتزّ منها، وحُبس إلى الليل، وعُصِرتْ خصيتاه حتّى مات، ولُفّ في كساء، وسُلّم إلى أهله.
وصودر ابن الجَصّاص على مال كثير، وأُخذ محمّد بن داود وزير ابن المعتزّ، وكان مستتراً، فقُتل، ونُفي عليُّ بن عيسى إلى واسط، فأرسل إلى الوزير ابن الفُرات يطلب منه أن يأذن له في المسير إلى مكّة، فأذن له في ذلك فسار إليها على طريق البصرة وأقام بها.
وصودر القاضي أبو عُمر على مائة ألف دينار، وسُيّرت العساكر من بغداد في طلب الحسين بن حَمدان فتبعوه إلى الموصل، ثمّ إلى بَلَد فلم يظفروا به، فعادوا إلى بغداد فكتب الوزير إلى أخيه أبي الهيجاء بن حمدان، وهو الأمير على الموصل، يأمره بطلبه، فسار إليه إلى بَلَد، ففارقها الحسين إلى سِنجار، وأخوه في أثره، فدخل البرّيّة فتبعه أخوه عشرة أيّام، فادركه، فاقتتلوا، فظفر أبو الهيجاء، وأسر بعض أصحابه، وأخذ منه عشرة آلاف دينار، وعاد عنه إلى الموصل، ثمّ انحدر إلى بغداد، فلمّا كان فوق تكريت أدركه أخوه الحسين، فبيّته، فقتل منهم قتلى، وانحدر أبو الهيجاء إلى بغداد.
وأرسل الحسين إلى ابن الفُرات، وزير المقتدر، يسأله الرضى عنه، فشفع فيه إلى المقتدر بالله ليرضى عنه، وعن إبراهيم بن كَيْغَلَغ، وابن عمرَوَيْه صاحب الشُّرطة وغيرهم، فرضي عنهم، ودخل الحسين بغداد، فرد عليه أخوه ما أخذ منه، وأقام الحسين ببغداد إلى أن وليّ قُمّ فسار إليها، وأخذ الجرائد التي فيها أسماء مَن أعان على المقتدر، فغرَّقها في دجلة، وبسط ابن الفُرات العدل والإحسان وأخرج الإدرارات للعبّاسيّين والطالبيّين، وأرضى القوّاد بالأموال، ففرّق معظم ما كان في بيوت الأموال.
ذكر حادثة ينبغي أن يحتاط من مثلها ويفعل فيها مثل فعل صاحبها

كان سليمان بن الحسن بن مخلَّد متّصلاً بابن الفرات، وبينهما مودّة وصداقة، فوجد الوزير كتب البيعة لابن المعتزّ بخطّ سليمان، وقلّده الأعمال، فسعى سليمان بابن الفرات إلى المقتدر، وكتب بخطّه مطالعة تتضمّن ذكر أملاك الوزير وضياعه ومستغلاته وما يتعلّق بأسبابه، وأخذ الرقعة ليوصلها إلى المقتدر، فلم يتهيّأ له ذلك.
وحضر دارَ الوزير وهي معه، وسقطت من كمّه، فظفر بها بعضُ الكتّاب فأوصلها إلى الوزير، فلمّا قرأها قبض على سليمان، وجعله في زورق، وأحضره إلى واسط، ووكّل به هناك، وصادره، ثمّ أراد العفو عنه، فكتب إليه: نظرتُ، أعزّك الله، في حقّك عليّ وجرمك إليّ، فرأيتُ الحقّ مُوفياً على الجرم، وتذكّرتُ من سالف خدمتك ما عطفني عليك، وثناني إليك وأعادني لك إلى أفضل ما عهدت، وأجمل ما ألفت؛ وأطلق له عشرة آلاف درهم، وعفا عنه، واستعمله وأكرمه.
ذكر ولاية أبي مضر إفريقية وهربه إلى العراق وما كان من أمرهفي هذه السنة، مستهلّ شهر رمضان، وليّ أبو مُضر زيادة الله بن أبي العبّاس بن عبدالله إفريقية، بعد قتل أبيه، فعكف على اللذّات والشهوات وملازمة الندماء والمضحكين، وأهمل أمور المملكة وأحوال الرعيّة، وأرسل كتاباً يوم وُلّي إلى عمّه الأحول على لسان أبيه يستعجله في القدوم عليه، ويحثّه على السُّرعة، فسار مجدّاً ولم يعلم بقتل أبي العبّاس، فلمّا وصل قتله، وقتل مَن قدر عليه من أعمامه وإخوته.
واشتدّت شوكة أبي عبدالله الشيعيّ في أيّامه، وقوي أمرُه، وكان الأحوال قبالته، فلمّا قُتل صفتْ له البلاد، ودانت له الأمصار والعباد، فسيّر إليه زيادة الله جيشاً مع إبراهيم بن أبي الأغلب، وهو من بني عمّه، بلغت عدّتهم أربعين ألفاً سوى من انضاف إليه، فهزمه أبو عبدالله الشيعيُّ على ما ذكرناه آنفاً؛ فلمّا اتّصل بزيادة الله خبر الهزيمة علم أنّه لا مقام له لأن هذا الجمع هو آخر ما انتهت قدرته إليه، فجمع ما عزّ عليه من أهل ومال وغير ذلك، وعزم على الهرب إلى بلاد الشرق، وأظهر للناس أنّه قد جاءه خبرُ هزيمة أبي عبدالله الشيعيّ، وأمر بإخراج رجال من الحبس، فقتلهم، وأعلم خاصّته حقيقة الحال، وأمرهم بالخروج معه.
فأشار عليه بعض أهل دولته بأن لا يفعل ولا يترك ملكه. قال له: إنّ أبا عبدالله لا يجسر عليك، فشتمه، وردّ عليه رأيه، وقال: أحبّ الأشياء إليك أن يأخذني بيدي. وانصرف كلّ واحد من خاصّته وأهله يتجهّز للمسير معه، وأخذ ما أمكنه حمله.
وكانت دولة آل الأغلب بإفريقية قد طالت مدّتها، وكثرت عبيدها وقوي سلطانها، وسار عن إفريقية إلى مصر في سنة ستّ وتسعين ومائتين، واجتمع معه خلق عظيم، فلم يزل سائراً حتّى وصل طرابلس، فدخلها، فأقام بها تسعة عشر يوماً، ورأى بها أبا العبّاس أخا أبي عبدالله الشيعيّ، وكان محبوساً بالقيروان، حبسه زيادة الله، فهرب إلى طرابلس، فلمّا رآه أحضره وقرّره: هل هو أخو أبي عبدالله ؟ فأنكر وقال: أنا رجل تاجر قيل عنّي إنّني أخو أبي عبدالله فحبستَني. فقال له زيادة الله: أنا أطلقك، فإن كنت صادقاً في أنّك تاجر فلا نأثم فيك، وإنّ كنتَ كاذباً، وأنت أخو أبي عبدالله، فليكن للصنيعة عندك موضع، وتحفظنا فيمن خلّفناه. وأطلقه.
وكان من كبار أهله وأصحابه إبراهيم بن أبي الأغلب، فأراد قتله وقتل رجل آخر كانا قد عرضا أنفسهما على ولاية القيروان، فعلما ذلك، وهربا إلى مصر، وقدما على العامل بها وهو عيسى النُّوشريُّ، فتحدّثا معه، وسعيا بزيادة الله، وقالا له: إنّه يُمنيّ نفسه بولاية مصر، فوقع ذلك في نفسه، وأراد منعه عن دخول مصر إلاّ بأمر الخليفة من بغداد، فوصل زيادة الله ليلاً، وعبر الجسر إلى الجيزة قهراً، فلمّا رأى ذلك النُّوشريُّ لم يمكنه منعه، فأنزله بدار ابن الجصّاص، ونزل أصحابه في مواضع كثيرة، فأقام ثمانية أيّام، ورحل يريد بغداد، فهرب عنه بعض أصحابه، وفيهم غلام له، وأخذ منه مائة ألف دينار، فأقام عند النُّوشريِّ، فأسرل النُّوشريُّ إلى الخليفة، وهو المقتدر بالله، يعرّفه حال زيادة الله وحال من تخلّف بمصر، فأمره بردّ من تخلّف عنه إليه مع المال، ففعل.

وسار زيادة الله حتّى بلغ الرَّقّة وكتب إلى الوزير، وهو ابن الفرات، يسأله في الإذن له لدخول بغداد، فأمره بالتوقّف، فبقي على ذلك سنة، فتفرّق عنه أصحابه، وهو مع هذا مُدمن الخمر، واستماع الملاهي، وسُعي به إلى المقتدر، وقيل له يُرَدّ إلى المغرب يطلب بثأره، فكتب إليه بذلك وكتب إلى النوشري بإنجاده بالرجال والعُدد والأموال من مصر ليعود إلى المغرب، فعاد إلى مصر، فأمره النُّوشريُّ بالخروج إلى ذات الحمّام ليكون هناك إلى أن يجتمع إليه ما يحتاج إليه من الرجال والمال، ففعل، ومطله، فطال مُقامه، وتتابعت به الأمراض، وقيل بل سمّه بعض غلمانه، فسقط شعر لحيته، فعاد إلى مصر، وقصد البيت المقدّس، فتوفّي بالرملة ودُفن بها.
فسبحان الحيّ الذي لا يموت، ولا يزول ملكه، ولم يبق بالمغرب من بني الأغلب أحد، وكانت مدّة ملكهم مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وكانوا يقولون: إنّنا نخرج إلى مصر والشام، ونربط خيلنا في زيتون فلسطين؛ فكان زيادة الله هو الخارج إلى فلسطين على هذه الحال لا على ما ظّنوه.
ذكر ابتداء الدولة العلويّة بإفريقية
هذه دولة اتّسعت أكناف مملكتها، وطالت مدّتها، فإنّها ملكت إفريقية هذه السنة، وانقرضت دولتهم بمصر سنة سبع وستين وخمسمائة، فنحتاج أن نستقصي ذكرها فنقول: أوّل مَن وليَ منهم أبو محمّد عبيد الله، فقيل هو محمّد بن عبد الله بن ميمون بن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ ابن أبي طالب، رضي الله عنهم، ومَن ينسب هذا النسب يجعله عبد الله بن ميمون القدّاح الذي يُنسب إليه القدّاحيّة، وقيل هو عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل الثاني ابن محمّد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن عليّ بن عليّ بن الحسين بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
وقد اختلف العلماء في صحّة نسبه، فقال هو وأصحابه القائلون بإمامته: إنّ نسبه صحيح على ما ذكرناه، ولم يرتابوا فيه، وذهب كثير من العلويّين العالمين بالأنساب إلى موافقتهم أيضاً، ويشهد بصحّة هذا القول ما قاله الشريف الرَّضيُّ:
ما مُقامي على الهوان وعندي ... مِقْوَلٌ صارمٌ، وأنْفٌ حميُّ
ألبَسُ الذُّلّ في بلاد الأعادي؛ ... وبمصر الخليفةُ العَلَويُّ
مَنْ أبوه أبي، ومولاه مولا ... ي إذا ضامني البعيدُ القَصيُّ
لفّ عرقي بعرقه سيّدَا النّا ... س جميعاً: محمّدٌ، وعليُّ
إنّ ذُلّي بذلك الجَوّ عزٌّ ... وأُوامي بذلك النّقْعِ ريُّ
وإنّما لم يودعها في بعض ديوانه خوفاً، ولا حجّة بما كَتبه في المحضر المتضمّن القدح في أنسابهم، فإنّ الخوف يحمل على أكثر من هذا، على أنّه قد ورد ما يصدّق ما ذكرتُه، وهو أنّ القادر بالله لمّا بلغته هذه الأبيات أحضر القاضي أبا بكر بن الباقلانيّ، فأرسله إلى الشريف أبي أحمد الموسويّ، والد الشريف الرضيّ، يقول له: قد عرفتَ منزلتك منّا، وما لا نزال عليه من الاعتداد بك بصدق الموالاة منك، وما تقدّم لك في الدولة من مواقف محمودة، ولا يجوز أن تكون أنت على خليفة ترضاه، ويكون ولدك على ما يضادّها، وقد بلغنا أنّه قال شعراً، وهو كذا وكذا، فيا ليت شعري على أيّ مقام ذلٍّ أقام، وهو ناظر في النّقابة والحجّ، وهما من أشرف الأعمال، ولو كان بمصر لكان كبعض الرعايا؛ وأطال القول، فحلف أبو أحمد أنّه ما علم بذلك.
وأحضر ولده وقال له في المعنى فأنكر الشعر، فقال له: اكتب خطّك إلى الخليفة بالاعتذار، واذكر فيه أنّ نسب المصريّ مدخولٌ، وأنّه مدّع في نسبه؛ فقال: لا أفعل ! فقال أبوه: تكذّبني في قولي ؟ فقال: ما أكذبك، ولكنيّ أخاف من الديلم، أخاف من المصريّ ومن الدُّعاة في البلاد؛ فقال أبوه: أتخاف ممّن هو بعيد عنك، وتراقبه، وتُسخط من هو قريب، وأنت بمرأى منه ومسمع، وهو قادر عليك وعلى أهل بيتك ؟ وتردّد القول بينهما، ولم يكتب الرضيُّ خطّه، فحرد عليه أبوه وغضب وحلف أنّه لا يقيم معه في بلد، فآل الأمر إلى أنّ حلف الرضيُّ أنّه ما قال هذا الشعر واندرجت القصّة على هذا.
ففي امتناع الرضيّ من الاعتذار، ومن أن يكتب طعناً في نسبهم مع الخوف، دليلٌ قويٌّ على صحّة نسبهم.

وسألتُ أنا جماعة من أعيان العلويّين في نسبه، فلم يرتابوا في صحّته، وذهب غيرهم إلى أنّ نسبه مدخول ليس بصحيح، وعدا طائفة منهم إلى أن جعلوا نسبه يهوديّاً، وقد كُتب في الأيّام القادريّة محضر يتضمّن القدح في نسبه ونسب أولاده، وكتب فيه جماعة من العلويّين وغيرهم أنّ نسبه إلى أمير المؤمنين عليّ غير صحيح.
فممن كتب فيه من العلويّين المرتضى، وأخوه الرضيُّ، وابن البطحاوي، وابن الأزرق العلويّان، ومن غيرهم ابن الأكفانيّ وابن الخرزيّ، وأبو العبّاس الأبيورديُّ، وأبو حامد، والكشفليُّ، والقدوريُّ، والصَّيْمريُّ، وأبو الفضل النسويُّ، وأبو جعفر النسفيُّ، وأبو عبدالله بن النُّعمان، فقيه الشيعة.
وزعم القائلون بصحّة نسبه أنّ العلماء ممّن كتب في المحضر إنّما كتبوا خوفاً وتقيّة، ومن لا علم عنده بالأنساب فلا احتجاج بقوله.
وزعم الأمير عبد العزيز، صاحب تاريخ إفريقية والمغرب، أنّ نسبه مُعرِقٌ في إليهوديّة، ونقل فيه عن جماعة من العلماء، وقد استقصى ذكر ابتداء دولتهم، وبالغ.
وأنا أذكر معنى ما قاله مع البراءة من عهدة طعنه في نسبه، وما عداه فقد أحسن فيما ذكر، قال: لّما بعث الله تعالى سيّد الأوّلين والآخرين محمّداً، صلى الله عليه وسلم، عظم ذلك على إليهود والنصارى والروم والفرس وقريش، وسائر العرب، لأنّه سفَّه أحلامهم، وعاب أديانهم وآلهتهم، وفرَّق جمعهم، فاجتمعوا يداً واحدةً عليه، فكفاه الله كيدهم، ونصره عليهم، فأسلم منهم مَن هداه الله تعالى؛ فلمّا قُبض، صلى الله عليه وسلم، نجم النفاق، وارتدّت العرب، وظنّوا أنّ الصحابة يضعفون بعده، فجاهد أبو بكر، رضي الله عنه، في سبيل الله، فقتل مُسَيْلمة، وردّ الرِّدّة، وأذلّ الكفر، ووطّأ جزيرة العرب، وغزا فارس والروم، فلمّا حضرتْه الوفاة ظنّوا أن بوفاته ينتقص الإسلام، فاستخلف عمر بن الخطّاب، فأذلّ فارس والروم، وغلب على ممالكها، فدسّ عليه المنافقون أبا لؤلؤة فقتله، ظنّاً منهم أن بقتله ينطفئ نور الإسلام، فوليَ بعده عثمان، فزاد في الفتوح، واتّسعت مملكة الإسلام، فلمّا قُتل ووليَ بعده أمير المؤمنين عليٌّ قام بالأمر أحسن قيام، فلمّا يئس أعداء الإسلام من استئصاله بالقوّة أخذوا في وضع الأحاديث الكاذبة، وتشكيك ضعفة العقول في دينهم، بأمور قد ضبطها المحدّثون، وأفسدوا الصحيح بالتأويل والطعن عليه.
فكان أوّل من فعل ذلك أبو الخطّاب محمّج بن أبي زينب مولى بني أسد، وأبو شاكر ميمون بن ديصان، صاحب كتاب الميزان في نصرة الزندقة، وغيرهما، فألقوا إلى من وثقوا به أنّ لكلّ شيء من العبادات باطناً، وأنّ الله تعالى لم يوجب على أوليائه، ومن عرف الأئمّة والأبواب، صلاة، ولا زكاة، ولا غير ذلك، ولا حرّم عليهم شيئاً، وأباحوا لهم نكاح الأمّهات والأخوات، وإنّما هذه قيود للعامّة ساقطة عن الخاصّة.
وكانوا يظهرون التشيّع لآل النبيّ، صلى الله عليه وسلم، ليستروا أمرهم، ويستميلوا العامّة، وتفرّق أصحابهم في البلاد، وأظهروا الزهد والعبادة، يغرّون الناس بذلك وهم على خلافه، فقُتل أبو الخطّاب وجماعة من أصحابه بالكوفة، وكان أصحابه قالوا له: إنّا نخاف الجند؛ فقال لهم: إنّ أسلحتهم لا تعمل فيكم؛ فلمّا ابتدأوا في ضرب أعناقهم قال له أصحابه: ألم تقُلْ إنّ سيوفهم لا تعمل فينا ؟ فقال: إذا كان قد أراد اللهُ فما حيلتي ؟ وتفرّقت هذه الطائفة في البلاد وتعلّموا الشعبذة، والنارنجيات، والزرق، والنجوم، والكيمياء، فهم يحتالون على كل قوم بما يتّفق عليهم وعلى العامّة بإظهار الزهد.
ونشأ لأبن ديصان ابن يقال له عبدالله القدّاح، علّمه الحيل، وأطلعه على أسرار هذه النِّحلة، فحذق وتقدّم.

وكان بنواحي كرْخ وأصبهان رجل يُعرف بمحمّد بن الحسين ويلقّب بدندان يتولّى تلك المواضع، وله نيابة عَظيمة، وكان يبغض العرب، ويجمع مساويهم، فسار إليه القدّاح، وعرّفه من ذلك ما زاد به محلّه، وأشار عليه أن لا يُظهر ما في نفسه، إنّما يكتمه، ويُظهر التشيّع والطعن على الصحابة، فإنّ الطعن فيهم طعن في الشريعة، فإنّ بطريقهم وصلتَ إلى من بعدهم. فاستحسن قوله وأعطاه مالاً عظيماً ينفقه على الدُّعاة إلى هذا المذهب، فسيّره إلى كُوَر الأهواز، والبصرة، والكوفة، وطالقان، وخُراسان، وسلميّة، من أرض حِمص، وفرّقه في دعاته؛ وتوفّي القدّاح، ودندان.
وإنّما لُقّب القدّاح لأنّه كان يعالج العيون ويقدحها. فلمّا توفّي القدّاح قام بعده ابنه أحمد مقامه، وصحبه إنسان يقال له رستم بن الحسين ابن حوشب بن داذان النجّار، من أهل الكوفة، فكانا يقصدان المشاهد، وكان باليمن رجل اسمه محمّد بن الفضل كثير المال والعشيرة من أهل الجَنَد، يتشيّع، فجاء إلى مشهد الحسين بن عليّ يزوره، فرآه أحمد ورستم يبكي كثيراً، فلمّا خرج اجتمع به أحمد، وطمع فيه لما رأى من بكائه، وألقى إليه مذهبه، فقبله، وسيّر معه النّجّار إلى اليمن، وأمره بلزوم العبادة والزهد ودعوة الناس إلى المهديّ وأنّه خارج في هذا الزمان باليمن، فسار النّجار إلى اليمن، ونزل بعدن، بقرب قوم من الشيعة يُعرفون ببني موسى، وأخذ في بيع ما معه.
وأتاه بنو موسى، وقالوا له: فِيمَ جئتَ ؟ قال: للتجارة. قالوا: لستَ بتاجر، وإنّما أنت رسول المهديّ، وقد بلغنا خبرُك، ونحن بنو موسى، ولعلّك قد سمعتَ بنا، فانبسطْ، ولا تحتشم، فإنّا إخوانك. فأظهر أمره، وقوّي عزائمهم، وقرب أمر المهديّ فأمرهم بالاستكثار من الخيل والسلاح، وأخبرهم أنّ هذا أوان ظهور المهديّ، ومن عندهم يظهر.
واتّصلت أخباره بالشيعة الذين بالعراق، فساروا إليه فكثر جمعهم، وعظم بأسهم، وأغاروا على من جاورهم، وسبوا، وجبوا الأموال، وأرسل إلى مَن بالكوفة من ولد عبدالله القدّاح هدايا عظيمة، وكانوا أنفذوا إلى المغرب رجلينْ أحدهما يُعرف بالحلوانيّ، والآخر يعرف بأبي سفيان، وقالوا لهما: إنّ المغرب أرض بور، فاذهبا فاحرثا حتى يجيء صاحب البدر؛ فسارا فنزل أحدهما بأرض كُتامة ببلد يسمّى مَرْمجَنّة والآخر بسوق حمار، فمالت قلوب أهل تلك النواحي إليهما، وحملوا إليهما الأموال والتحف، فأقاما سنين كثيرة، وماتا، وكان أحدهما قريب الوفاة من الآخر.
ذكر إرسال أبي عبد الله الشيعيّ إلى المغرب
كان أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن محمّد بن زكريّاء الشيعيُّ من أهل صنعاء، وقد سار إلى ابن حوشب النجّار، وصحبه بعدن، وصار من كبار أصحابه، وكان له علم وفهم ودهاء ومكر، فلمّا أتى خبر وفاة الحلوانيّ وأبي سفيان إلى ابن حوشب قال لأبي عبد الله الشيعيّ: إنّ أرض كُتامة من المغرب قد حرثها الحلوانيُّ وأبو سفيان، وقد ماتا، وليس لها غيرك، فبادِرْ، فإنّها موطَّأة ممهّدة لك.
فخرج أبو عبدالله إلى مكّة، وأعطاه ابن حوشب مالاً، وسيّر معه عبد الله بن أبي ملاحف، فلمّا قدم أبو عبدالله مكّة سأل عن حُجّاج كُتامة فأُرشد إليهم، فاجتمع به، ولم يعرّفهم قصده، وجلس قريباً منهم، فسمعهم يتحدّثون بفضائل أهل البيت، فأظهر استحسان ذلك، وحدثهم بما لم يُعلموه، فلمّا أراد القيام سألوه أن يأذن لهم في زيارته والأنبساط معه، فأذن لهم في ذلك، فسألوه أين مقصده، فقال: أُريد مصر؛ ففرحوا بصحبته.
وكان من رؤساء الكُتاميّين بمكّة رجل اسمه حُرَيْث الجُميليُّ، وآخر اسمه موسى بن مكاد، فرحلوا، وهو لا يخبرهم بغرضه، وأظهر لهم العبادة والزهد، فازدادوا فيه رغبةً، وخدموه، وكان يسألهم عن بلادهم وأحوالهم وقبائلهم، وعن طاعتهم لسلطان إفريقية، فقالوا: ما له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيّام. قال: أفتحملون السلاح ؟ قالوا: هو شغلنا؛ ولم يزل يتعرّف أحوالهم، حتّى وصلوا إلى مصر، فلمّا أراد وداعهم قالوا له: أيّ شيء تطلب بمصر ؟ قال: أطلب التعليم بها، قالوا: إذا كنتَ تقصد هذا فبلادنا أنفع لك، ونحن أعرف بحقّك؛ ولم يزالوا به حتّى أجابهم إلى المسير معهم بعد الخضوع والسؤال، فسار معهم.

فلمّا قاربوا بلادهم لقيهم رجال من الشيعة، فأخبروهم بخبره، فرغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيفه منهم ثم رحلوا حتّى وصلوا إلى أرض كُتامة، منتصف شهر ربيع الأوّل سنة ثمانين ومائتين، فسأله قوم منهم أن ينزل عندهم حتّى يقاتلوا دونه، فقال لهم: أين يكون فجّ الأخيار ؟ فتعجّبوا من ذلك، ولم يكونوا ذكروه له، فقالوا له: عند بني سليان. فقال: إليه نقصد، ثمّ نأتي كلّ قوم منكم في ديارهم، ونزورهم في بيوتهم؛ فأرضى بذلك الجميع.
وسار إلى جبل يقال له إنْكِجان، وفيه فجّ الأخيار، فقال: هذا فجّ الأخيار، وما سُمّي إلاّ بكم، ولقد جاء في الآثار: إنّ للمهديّ هِجرة تنبو عن الأوطان، ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان، قوم مشتقٌ اسمهم من الكِتمان، فإنّهم كُتامة، وبخروجكم من هذا الفجّ يسمّى فجّ الأخيار.
فتسامعتِ القبائل، وصنع من الحيل والمَكِيدات والنارنجيات ما أذهل عقولهم، وأتاه البربر من كلّ مكان، وعظم أمره إلى أن تقاتلتْ كُتامة عليه مع قبائل البربر، وسلم من القتل مراراً، وهو في كلّ ذلك لا يذكر اسم المهديّ، فاجتمع أهل العلم على مناظرته وقتله، فلم يتركه الكُتاميّون يناظرهم، وكان اسمه عندهم أبا عبدالله المشرقيّ.
وبلغ خبره إلى إبراهيم بن أحمد بن الأغلب أمير إفريقية، فأرسل إلى عامله على مدينة ميْلَةَ يسأله عن أمره، فصغّره وذكر له أنّه يلبس الخشن، ويأمر بالخير والعبادة، فسكت عنه.
ثمّ إنّه قال للكُتاميّين. أنا صاحب البدر الذي ذكر لكم أبو سفيان والحلوانيُّ؛ فازدادت محبّتهم له، وتعظيمهم لأمره، وتفرّقت كلمة البربر وكُتامة بسببه، فأراد بعضهم قتله، فاختفى، ووقع بينهم قتال شديد، واتّصل الخبر بإنسان اسمه الحسن بنهارون، وهو من أكابر كُتامة، فأخذ أبا عبدالله إليهن ودافع عنه، ومضيا إلى مدينة ناصرون، فأتته القبائل من كلّ مكان وعظم شأنه، وصارت الرئاسة للحسن بن هارون، وسلّم إليه أبو عبدالله أعنّة الخيل، وظهر من الاستتار، وشهر الحروب، فكان الظفر له فيها، وغنم الأموال، وانتقل إلى مدينة ناصرون وخندق عليها، فزحفت قبائل البربر إليها، واقتتلوا، ثمّ اصطلحوا، ثمّ أعادوا القتال، وكان بينهم وقائع كثيرة، وظفر بهم، وصارت إليه أموالهم، فاستقام له أمر البربر وعامّة كُتامة.
ذكر ملكه مدينة مِيْلَةَ وانهزامه
فلمّا تمّ لأبي عبد الله ذلك زحف إلى مدين مِيْلة، فجاءه منها رجل اسمه الحسن بن أحمد، فأطلعه على غرّة البلد، فقاتل أهله قتالاً شديداً، وأخذ الأرباض، فطلبوا منه الأمان فأمّنهم، ودخل مدينة مِيلة، وبلغ الخبر أمير إفريقية، وهو حينئذٍ إبراهيم بن أحمد، فنفّذ ولده الأحول في اثني عشر ألفاً، وتبعه مثلهم، فالتقيا، فاقتتل العسكران، فانهزم أبو عبد الله، وكثر القتل في أصحابه، وتبعه الأحول، وسقط ثلج عظيم حال بينهم، وسار أبو عبد الله إلى جبل إنِكجَان، فوصل الأحوال إلى مدينة ناصرون، فأحرقها، وأحرق مدينة مِيلَة، ولم يجد بها أحداً.
وبنى أبو عبد الله بإنْكِجَانَ دار هجرة، فقصدها أصحابه، وعاد الأحول إلى إفريقية، فسار أبو عبد الله بعد رحيلهم، فغنم ما رأى ممّا تخلّف عنهم؛ وأتاه خبر وفاة إبراهيم، فسُرّ به، ثمّ أتاه خبر قتل أبي العبّاس ولده، وولاية زيادة الله، واشتغاله باللهو اللعب، فاشتدّ سروره.
وكان الحول قد جمع جيشاً كثيراً أيّام أخيه أبي العبّاس، ولقي أبا عبد الله، فانهزم الأحول.
وبقي الأحول قريباً منه يقاتله ويمنعه من التقدّم، فلمّا وليَ أبو مُضر زيادة الله إفريقية أحضر الأحولَ وقتله، كما ذكرناه؛ ولم يكن أحولَ، وإنّما كان يكسر عينه إذا أدام النظر فلُقّب بهِ، فلمّا قُتل انتشرت حينئذ جيوش أبي عبدالله في البلاد، وصار أبو عبدالله يقول: المهديُّ يخرج في هذه الأيّام، ويملك الأرض، فيا طوبى لمن هاجر إليّ وأطاعني ! ويغري الناس بأبي مُضر، ويعيبه.
وكان كلّ مَن عنده زيادة الله من الوزراء شيعة، فلا يسوءهم أن يظفر أبو عبدالله لا سيّما مع ما كان يُذْكَر لهم من الكرامات التي للمهديّ من إحياء الموتى، وردّ الشمس من مغربها، وملكه الأرض بأسرها ! وأبو عبد الله يرسل إليهم، ويسحرهم، ويعدهم.
ذكر سبب اتّصال المهديّ عبيد الله بأبي عبد الله الشيعيّ ومسيره إلى سِجِلْماسة

لمّا توفّي عبد الله بن ميمون القدّاح ادّعى ولده أنهم من ولد عَقِيل بن أبي طالب، وهم مع هذا يسترون، ويُسِرّون أمرهم، ويخُفون أشخاصهم.
وكان ولده أحمد هو المشار إليه منهم، فتوفّي وخلّف ولَدهُ محمّداً، وكان هو الذي يكاتبه الدعاة في البلاد، وتوفّي محمّد وخلّف أحمد والحسين، فسار الحسين إلى سَلَمِيّة من أرض حِمص، وله بها ودائع وأموال من ودائع جدّه عبدالله القدّاح، ووكلاء، وغلمان، وبقي ببغداد من أولاد القدّاح أبو الشلَغْلَغ.
وكان الحسين يدّعي أنّه الوصيّ وصاحب الأمر، والدعاة باليمن والمغرب يكاتبونه ويراسلونه؛ واتّفق أنّه جرى بحضرته حديث النساء بسَلَمِيّة، فوصفوا له امرأة رجل يهوديّ حدّاد، مات عنها زوجها، وهي في غاية الحسن، فتزوّجها، ولها ولد من الحدّاد يماثلها في الجمال، فأحبّها وحسُن موقعها معه، وأحبّ ولدها، وأدّبه، وعلّمه، فتعلّم العلم، وصارت له نفس عظيمة، وهمّة كبيرة.
فمن العلماء من أهل هذه الدعوة مَن يقول: إنّ الإمام الذي كان بسَلَمِيّة، وهو الحسين، مات ولم يكن له ولدٌ، فعهد إلى ابن إليهوديّ الحدّاد، وهو عبيدالله، وعرّفه أسرار الدعوة من قول وفعل، وأين الدُّعاة، وأعطاه الأموال والعلامات، وتقدّم إلى أصحابه بطاعته وخدمته، وأنّه الإمام والوصيّ، وزوّجه ابنة عمّه أبي الشلَغْلَغ. وهذا قول أبي القاسم الأبيض العلويّ وغيره، وجعل لنفسه نسباً، وهو عبيدالله بن الحسن بن عليّ بن محمّد بن عليّ ابن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب.
وبعض الناس يقولون، وهم قليل: إنّ عبيدالله هذا من ولد القدّاح، وهذه الأقوال فيها ما فيها، فيا ليت شعري ما الذي حمل أبا عبدالله الشيعيّ وغيره ممّن قام بإظهار هذه الدعوة، حتّى يخرجوا هذا الأمر من أنفسهم، ويسلّموه إلى ولد يهوديّ، وهل يسامح نفسه بهذا الأمر من يعتقده ديناً يثاب عليه ؟ قال: فلمّا عهد الحسين إلى عبيدالله قال له: إنّك ستهاجر بعدي هجرة بعيدة، وتلقى محناً شديدةً؛ فتوفّي الحسين، وقام بعده عبيدالله، وانتشرت دعوته، وبذل الأموال خلاف مَن تقدّم، وأرسل إليه أبو عبدالله رجالاً من كُتامة من المغرب ليخبروه بما فتح الله عليه، وأنّهم ينتظرونه.
وشاع خبره عند الناس أيّام المكتفي فطُلب، فهرب هو وولده أبو القاسم نزار الذي وليّ بعده، وتلقّب بالقائم، وهو يومئذ غلام، وخرج معه خاصّته وموإليه يريد المغرب، وذلك أيّام زيادة الله، فلمّا انتهى إلى مصر أقام مستتراً بزيّ التجار، وكان عامل مصر حينئذ عيسى النُّوشريّ، فأتته الكتب من الخليفة بصفته وحليته، وأمر بالقبض عليه وعلى كلّ مَن يشبهه.
وكان بعض خاصّة عيسى متشيّعاً، فأخبر المهديَّ وأشار عليه بالانصراف، فخرج من مصر مع أصحابه، ومعه أموال كثيرة، فأوسع النفقة على مَن صحبه، فلمّا وصل الكتاب إلى النُّوشريّ فرّق الرسل في طلب المهديّ وخرج بنفسه فلحقه، فلمّا رآه لم يشكّ فيه، فقبض عليه، ونزل ببستان، ووكّل به، فلمّا حضر الطعام دعاه ليأكل، فأعلمه أنّه صائم، وفرّق له، وقال له: أعلمني بحقيقة حالك حتّى أُطلقك؛ فخوّفه بالله تعالى، وأنكر حاله، ولم يزل يخوّفه ويتلطّفه فأطلقه، وخلّى سبيله، وأراد أن يرسل معه مَن يوصله إلى رفقته، فقال: لا حاجة بي إلى ذلك، ودعا له.
وقيل: إنّه أعطاه في الباطن مالاً حتّى أطلقه، فرجع بعض أصحاب النُّوشريّ عليه اللوم، فندم على إطلاقه، وأراد إرسال الجيش وراءه ليردّوه، وكان المهديُّ لمّا لحق أصحابه رأى أبنه أبا القاسم قد ضيّع كلباً كان له يصيد به، وهو يبكي عليه، فعرّفه عبيده أنّهم تركوه في لبستان الذي كانوا فيه، فرجع المهديُّ بسبب الكلب، حتّى دخل البستان ومعه عبيده، فرآهم لنُّوشريُّ فسأل عنهم فقيل: إنّه فلان، وقد عاد بسبب كذا وكذا؛ فقال النُّوشريُّ لأصحابه: فبحكم الله ! أردتم أن تحملوني على قتل هذا حتّى آخذه، فلو كان يطلب ما يقال أو كان مُريباً كان يطوي المراحل، ويخفي نفسه، وما كان رجع في طلب كلب؛ وتركه.
وجدّ المهديُّ في الهرب، فلحقه لصوصٌ بموضع يقال له الطاحونة، فأخذوا بعض متاعه، وكانت عنده كتب وملاحم لآبائه، فأُخذت، فعظم أمرها عليه، فيقال إنّه لمّا خرج ابنه أبو القاسم في المرّة الأولى إلى الديار المصريّة أخذها من ذلك المكان.

وانتهى المهديُّ وولده إلى مدينة طرابلس، وتفرّق مَن صحبه من التجار، وكان في صحبته أبو العبّاس أخو أبي عبدالله الشيعيّ، فقدّمه المهديًُّ إلى القَيروان ببعض ما معه، وأمره أن يلحق بكُتامة. فلمّا وصل أبو العبّاس إلى القَيروان وجد الخبر قد سبقه إلى زيادة الله بخبر المهديّ، فسأل عنه رفقته، فأخبروا أنّه تخلّف بطرابلس، وأنّ صاحبه أبا العبّاس بالقَيروان، فأُخذ أبو العبّاس، وقُرّر فأنكر وقال: إنّما أنا رجل تاجر صحبتُ رجلاً في القفل؛ فحبسه.
وسمع المهديُّ، فسار إلى قَسطيلة، ووصل كتاب زيادة الله إلى عامل طرابلس بأخذه، وكان المهديُّ قد أهدى له واجتمع به، فكتب العامل يخبره أنّه قد سار ولم يدركه، فلمّا وصل المهديُّ إلى قَسطيلة ترك قصد أبي عبد الله الشيعيّ، لأن أخاه أبا العبّاس كان قد أُخذ، فعلم أنّه إذا قصد أخاه تحقّقوا الأمر وقتلوه، فتركه وسار إلى سِجِلْماسة، ولّما سار من قَسطيلة وصل الرسل في طلبه فلم يوجد، ووصل إلى سِجِلماسة، فأقام بها؛ وفي كلّ ذلك عليه العيون في طريقه.
وكان صاحب سِجِلماسة رجلاً ألِيْسَع بن مدرار، فأهدى له المهديُّ، وواصله، فقرّب ألِيْسَع، وأحبّه، فأتاه كتاب زيادة الله يعرّفه أنّه الرجل الذي يدعو إليه أبو عبد الله الشيعيُّ، فقبض عليه وحبسه، فلم يزل محبوساً حتّى أخرجه أبو عبد الله على ما نذكره.
ذكر استيلاء أبي عبد الله على إفريقية وهرب زيادة الله أميرهاقد ذكرنا من حال أبي عبد الله ما تقدّم، ثمّ إنّ زيادة الله لما رأى استيلاء أبى عبد الله على البلاد، وأنّه قد فتح مدينة مِيْلة ومدينة سَطيف، وغيرهما، أخذ في جمع العساكر، وبذل الأموال، فاجتمعت إليه عساكر عظيمة، فقدّم عليهم إبراهيم بن خُنَيْش وهو من أقاربه، وكان لا يعرف الحرب، فبلغت عدّة جيشه أربعين ألفاً، وسلّم إليه الأموال والعُدد، ولم يترك بإفريقية شجاعاً إلاّ أخرجه معه، وسار إليه، فانضاف إليه مثل جيشه، فلّما وصل قسطنطينية الهواء، وهي مدينة قديمة حصينة، نزل بها، وأتاه كثير من كُتامة الذين لم يطيعوا أبا عبد الله، فقتل في طريقه كثيراً من أصحاب أبي عبدالله، وخاف أبو عبد الله منه، وجميع كُتامة، وأقام بقُسطنطينية ستّة أشهر، وأبو عبدالله متحصّن في الجبل.
فلمّا رأى إبراهيم أنّ أبا عبد الله لا يتقدّم إليه بادر وزحف بالعساكر المجتمعة إلى بلد اسمه كرمة، فأخرج إليه أبو عبد الله خيلاً اختارها ليختبر نزوله، فوافاها بالموضع المذكور، فلمّا رأى إبراهيم الخيل قصد إليها بنفسه، ولم يصحبه إليها أحدٌ من جيشه، وكانت أثقال العسكر على ظهور الدوابّ لم تحطّ، ونشبت الحرب، واقتتلوا قتالاً شديداً.
واتّصل الخبر بأبي عبدالله، فزحف بالعساكر، فوقعت الهزيمة على إبراهيم ومَن معه، فجُرح، وعُقر فرسه، وتمّت الهزيمة على الجيش جميعه، وأسلموا الأثقال بأسرها، فغنمها أبو عبدالله، وقتل منهم خلقاً كثيراً، وتمّ أمر إبراهيم إلى القَيروان، فشاشت بلاد إفريقية، وعظم أمر أبي عبد الله، واستقرّت دولته، وكتب أبو عبد الله كتاباً إلى المهديّ، وهو في سجن سِجِلماسة، يبشّره، وسيّر الكتاب مع بعض ثقاته، فدخل السجن في زيّ قصّاب يبيع اللحم، فاجتمع به وعرّفه ذلك.
وسار أبو عبد الله إلى مدينة طُبْنَة، ونصب عليها الدبابات، ونقب برجاً وبدنة، فسقط السور بعد قتال شديد، وملك البلد، فاحتمى المقدّمون بحصن البلد، فحصرهم، فطلبوا الأمان، فأمّنهم، وأمّن أهل البلد، وسار إلى مدينة بَلَزْمة، وكان قد حصرها مراراً كثيرة فلم يظفر بها، فلمّا حصرها الآن ضيّق عليها، وجدّ في القتال، ونصب عليها الدبابات، ورماها بالنار، فأحرقها، وفتحها بالسيف وقتل الرجال، وهدم الأسوار.

واتّصلت الأخبار بزيادة الله، فعظم عليه وأخذ في الجمع والحشد، فجمع عسكراً عدّتهم اثنا عشر ألفاً، وأمرّ عليهم هارونَ بن الطُّبنيّ، فسار، واجتمع معه خلق كثير، وقصد مدينة دار ملوك، وكان أهلها قد أطاعوا أبا عبدالله، فقتل هارون أهلها، وهدم الحصن، ولقيه في طريقه خيل لأبي عبدالله كان قد أرسلها ليختبروا عسكره، فلمّا رآها العسكر اضطربوا، وصاحوا صيحة عظيمة، وهربوا من غير قتال، فظنّ أصحاب أبي عبدالله أنّها مكيدة، فلمّا ظهر أنّها هزيمة استدركوا الأمر، ووضعوا السيف، فما يحصى مَن قتلوا، وقُتل هارون أمير العسكر، وفتح أبو عبدالله مدينة تيجس صلحاً، فاشتدّ الأمر حينئذ على زيادة الله، وأخرج الأموال، وجيّش الجيوش، وخرج بنفسه إلى محاربة أبي عبدالله، فوصل إلى الأُرْبُس في سنة خمس وتسعين ومائتين، فقال له وجوه دولته: إنّك تغرّر بنفسك، فإن يكن عليك لا يبقى لنا ملجأ والرأي أن ترجع إلى مستقرّ ملكك، وترسل الجيش مع مَن تثق به، فإن كان الفتح لنا فنصل إليك، وإن كان غير ذلك فتكون ملجأ لنا.
ورجع ففعل ذلك، وسيّر الجيش، وقدّم عليه رجلاً من بني عمّه يقال له إبراهيم بن أبي الأغلب، وكان شجاعاًن وبلغ أبا عبدالله الخبر، وكان أهل باغاية قد كاتبوه بالطاعة، فسار إليهم، فلمّا قر منها هرب عاملها إلى الاُربُس، فدخلها أبو عبدالله، وترك بها جنداً، وعاد إلى إنكِجَان، ووصل الخبر إلى زيادة الله، فزاده غمّاً وحوناً، فقال له إنسان كان يضحّكه: يا مولانا لقد عملتُ بيت شعر، فعسى تجعل من يلحّنه وتشرب عليه واترك هذا الحزن؛ فقال: ما هو ؟ فقال المضحك للمغّنين: غنّوا شعراً كذا، وقولوا بعد فراغ كلّ بيت:
اشرب واسقينا من القرن يكفينا
فلمّا غنّوا طرب زيادة الله، وشرب، وانهمك في الأكل والشرب والشهوات، فلمّا رأى ذلك أصحابه ساعدوه على مراده.
ثمّ إنّ أبا عبدالله أخرج إلى مدينة مَجَانةَ فافتتحها عنوةً، وقتل عاملها، وسيّر عسكراً آخر إلى مدينة تيفاش، فملكها وأمّن أهلها.
وقصد جماعة من رؤساء القبائل أبا عبدالله يطلبون منه الأمان فأمّنهم، وسار بنفسه إلى مسكيانة ثمّ إلى تَبِسّةَ، ثم إلى مدبرة، فوجد فيها أهل قصر الإفريقي ومدينة مَرمَجَنّة، ومدينة مَجَانَة، وأخلاطاً من الناس قد التجأوا إليها وتحصّنوا فيها، وهي حصينة، فنزل عليها، وقاتلها، فأصابه علّة الحصى، وكانت تعتاده، فشغل بنفسه، وطلب أهلها الأمان فأمّنهم بعض أهل العسكر، ففتحوا الحصن، فدخلها العسكر، ووضعوا السيف، وانتهبوا.
وبلغ ذلك أبا عبدالله، فعظم عليه، ورحل، فنزل على القصرين من قمودة وطلب أهلها الأمان فأمّنهم، وبلغ إبراهيم بن أبي الأغلب، أمير الجيش الذي سيره زيادة الله، أنّ أبا عبدالله يريد أنت يقصد زيادة الله برَقّادةَ، ولم يكن مع زيادة الله كبير عسكر، فخرج من الأُربُس ونزل دردمين، وسيّر أبو عبدالله سرّية إلى دردمين، فجرى بينهما وبين أصحاب زيادة الله قتال، فقُتل من أصحاب أبي عبدالله جماعة، وانهزم الباقون.
واستبطأ أبو عبدالله خبرهم، فسار في جميع عساكره، فلقي أصحابه منهزمين، فلمّا رأوه قويت قلوبهم، ورجعوا، وكرّوا على أصحاب إبراهيم، وقتلوا منهم جماعة، وحجز الليل بينهم.
ثمّ سار أبو عبدالله إلى قَسطيلة، فحصرها، فقاتله أهلها، ثمّ طلبوا الأمان فأمّنهم، وأخذ ما كان لزيادة الله فيها من الأموال والعُدد، ورحل إلى قَفْصَةَ، فطلب أهلها الأمان فأمّنهم، ورجع إلى باغاية، فترك بها جيشاً، وعاد إلى جبل إنكِجَان.
فسار إبراهيم بن أبي الأغلب في جيشه إلى باغاية وحصرها، فبلغ الخبر أبا عبدالله، فجمع عسكره وسار مجدّاً إليها، ووجّه اثني عشر ألف فارس، وأمر مقدّمهم أن يسير إلى باغاية، فإن كان إبراهيم قد رحل عنها فلا يجاوز فجّ العَرعار، فمضى الجيشُ، وكان أصحاب أبي عبد الله الذين في باغاية قد قاتلوا عسكر إبراهيم قتالاً شديداً، فلمّا رأى صبرهم عجب هو وأصحابه منهم، فأرعب ذلك قلوبهم؛ ثمّ بلغهم قرب العسكر منهم، فعاد إبراهيم بعساكره، فوصل عسكر أبي عبدالله، فلم يرَ واحداً، فنهبوا ما وجدوا وعادوا.

ورجع إبراهيم إلى الأُربُس. ولمّا دخل فصل الربيع، وطاب الزمان، جمع أبو عبدالله عساكره، فبلغت مائتَيْ ألف فارس وراجل، واجتمع من عساكر زيادة الله بالأُربُس مع إبراهيم ما لا يُحصى، وسار أبو عبدالله، أوّل جُمادى الآخرة سنة ستّ وتسعين ومائتين، فالتقوا، واقتتلوا أشدّ قتال، وطال زمانه، وظهر أصحاب زيادة الله، فلمّا رأى ذلك أبو عبدالله اختار من أصحابه ستّمائة راجل، وأمرهم أن يأتوا عسكر زيادة الله من خلفهم، فمضوا لما أمرهم في الطريق الذي أمرهم بسلوكه.
واتّفق أنّ إبراهيم فعل مثل ذلك، فالتقى الطائفتان، فاقتتلوا في مضيق هناك فانهزم أصحاب إبراهيم، ووقع الصوت في عسكره بكمين أبي عبدالله وانهزموا، وتفرّقوا، وهرب كلّ قوم إلى جهة بلادهم، وهرب إبراهيم وبعض من معه إلى القَيروان، وتبعهم أصحاب أبي عبدالله يقتلون ويأسرون، وغنموا الأموال والخيل والعُدَد، ودخل أصحابه مدينة الأُربُس فقتلوا بها خلقاً عظيماً، ودخل كثير من أهلها الجامع فقُتل فيه أكثر من ثلاثة آلاف ونهبوا البلد، وكانت الوقعة أواخر جمادى الآخرة، وانصرف أبو عبدالله إلى قمودة.
فلمّا وصل خبر الهزيمة إلى زيادة الله هرب إلى الديار المصريّة، وكان من أمره ما تقدّم ذكره، ولمّا هرب زيادة الله هرب أهل مدينة رقّادة على وجوههم، في الليل، إلى القصر القديم، وإلى القيروان، وسُوسة، ودخل أهل القَيروان رقّادة ونهبوا ما فيها، وأخذ القويُّ الضعيفَ، ونُهبت قصور بني الأغلب، وبقي النهب ستّة أيّام.
ووصل إبراهيم بن أبي الأغلب إلى القَيروان، فقصد قصر الإِمارة، واجتمع إليه أهل القَيروان، ونادى مناديه بالأمان، وتسكين الناس، وذكر لهم أحوال زيادة الله، وما كان عليه، حتّى أفسد ملكه؛ وصغّر أمر أبي عبد الله الشيعيّ، ووعدهم أن يقاتل عنهم، ويحمي حريمهم وبلدهم، وطلب منهم المساعدة بالسمع والطاعة والأموال، فقالوا: إنّما نحن فقهاء، وعامّة، وتجار، وما في أموالنا ما يبلغ غرضك، وليس لنا بالقتال طاقة؛ فأمرهم بالانصراف، فلمّا خرجوا من عنده وأعلموا الناس بما قاله صاحوا به: اخرج عنّا، فما لك عندنا سمع ولا طاعة ! وشتموه، فخرج عنهم وهم يرجمونه.
ولمّا بلغ أبا عبد الله هرب زيادة الله كان بناحية سَبِيبَةَ، ورحل فنزل بوادي النمل، وقدّم بين يديه عروبة بن يوسف، وحسن بن أبي خنزير، في ألف فارس إلى رقّادة، فوجدوا الناس ينهبون ما بقي من الأمتعة والأثاث، فأمّنوهم ولم يتعرّضوا لأحد، وتركوا لكلّ واحد ما حمله، فأتى الناس إلى القَيروان، فأخبروه الخبر، ففرح أهلها.
وخرج الفقهاء ووجوه البلد إلى لقاء أبي عبدالله، فلقوه، وسلّموا عليه، وهنّأوه بالفتح، فردّ عليهم ردّاً حسناً، وحدّثهم، وأعطاهم الأمان، فأعجبهم ذلك وسرّهم، وذمّوا زيادة الله، وذكروا مساوئه، فقال لهم: ما كان إلاّ قويّاً، وله مَنَعة، ودولة شامخة، وما قصرّ في مدافعته، ولكنّ أمر الله لا يُعانَد ولا يُدافَع ! فأمسكوا عن الكلام، ورجعوا إلى القَيروان.
ودخل رقّادة يوم السبت، مستهلّ رجب من سنة ستّ وتسعين ومائتين، فنزل ببعض قصورها، وفرّق دورها على كُتامة، ولم يكن بقي أحد من أهلها فيها، وأمر فنودي بالأمان، فرجع الناس إلى أوطانهم، وأخرج العمّال إلى البلاد، وطلب أهلَ الشرّ فقتلهم، وأمر أن يجمع ما كان لزيادة الله من الأموال، والسلاح، وغير ذلك، فاجتمع كثير منه، وفيه كثير من الجواري لهنّ مقدار وحظّ من الجمال، فسأل عمّن يكفلهنّ، فذُكر له امرأة صالحة كانت لزيادة الله، فأحضرها، وأحسن إليها، وأمر بحفظهنّ، وأمر لهنّ بما يصلحهنّ ولم ينظر إلى واحدة منهنّ.
ولمّا حضرت الجمعة أمر الخطباء بالقَيروان ورَقّادة، فخطبوا ولم يذكروا أحداً، وأمر بضرب السكّة، وأن لا يُنقش عليها اسمٌ، ولكنّه جعل مكان الاسم من وجه: بلغت حجّة الله؛ ومن الوجه الآخر: تفرّق أعداء الله؛ ونقش على السلاح: عُدّةٌ في سبيل الله؛ ووسم الخيل على أفخاذها: الملك لله؛ وأقام على ما كان عليه من لبس الدون الخشن، والقليل من الطعام الغليظ.
ذكر مسير أبي عبد الله إلى سِجِلماسة وظهور المهديّ

لمّا استقرّت الأمور لأبي عبد الله في رقّادة وسائر بلاد أفريقية أتاه أخوه أبو العبّاس محمّد، ففرح به، وكان هو الكبير، فسار أبو عبد الله في رمضان من السنة من رقّادة، واستخلف على إفريقية أخاه أبا العبّاس، وأبا زاكي، وسار في جيوش عظيمة، فاهتزّ المغرب لخروجه، وخافته زَناتة، وزالت القبائل عن طريقه، وجاءته رسلهم ودخلوا في طاعته.
فلمّا قر من سِجِلْماسة، وانتهى خبره إلى ألِيْسَع بن مِدرار، أمير سجلماسة، أرسل إلى المهديّ، وهو في حبسه، على ما ذكرناه، يسأله عن نسبه وحاله، وهل إليه قصد أبو عبد الله ؟ فحلف له المهديّ أنّه ما رأى أبا عبدالله؛ ولا عرفه، وإنّما أنا رجل تاجر؛ فاعتُقل في دار وحدة، وكذلك فعل بولده أبي القاسم، وجعل عليهما الحرس، وقرّر ولده أيضاً، فما حال عن كلام أبيه، وقرّر رجلاً كانوا معه، وضربهم، فلم يقرّوا بشيء.
وسمع أبو عبد الله ذلك، فشقّ عليه، فأرسل إلى ألِيْسَع يتلطّفه، وأنّه لم يقصد الحرب، وإنّما له حاجة مهمّة عنده، ووعده الجميل، فرمى الكتاب، وقتل الرسل، فعاوده بالملاطفة خوفاً على المهديّ، ولم يذكره له، فقتل الرسول أيضاً، فأسرع أبو عبد الله في السير، ونزل عليه، فخرج إليه ألِيْسَع، وقاتله يومه ذلك، وافترقوا، فلمّا جنّهم الليل هرب أليسع وأصحابه من أهله وبني عمّه، وبات أبو عبدالله ومَن معه فيغمّ عظيم لا يعلمون ما صنع بالمهديّ وولده، فلمّا أصبح خرج إليه أهل البلد، وأعلموه بهرب أليسع، فدخل هو وأصحابه البلد، وأتوا المكان الذي فيه المهديّ، فاستخرجه، واستخرج ولده، فكانت في الناس مسرّة عظيمة كادت تذهب بعقولهم، فأركبهما، ومشى هو ورؤساء القبائل بين أيديهما، وأبو عبدالله يقول للناس: هذا مولاكم، وهو يبكي من شدّة الفرح، حتّى وصل إلى فسطاط قد ضُرب له، فنزل فيه، وأمر بطلب أليسع، فطُلب، فأُدرك، فأُخذ وضُرب بالسياط ثمّ قُتل.
فلمّا ظهر المهديُّ أقام بسِجِلماسة أربعين يوماً، وسار إلى أفريقية، وأحضر الأموال من إنكجان، فجعلها أحمالاً وأخذها معه، ووصل إلى رقّادة العشر الأخير من ربيع الآخر من سنة سبع وتسعين ومائتين، وزال ملك بني الأغلب، وملك بني مدرار الذين منهم ألِيسع وكان لهم ثلاثون ومائة سنة منفردين بسجلماسة، وزال ملك بني رستم من تاهرَت، ولهم ستون ومائة سنة تفرّدوا بتاهَرت، وملك المهديُّ جميع ذلك، فلمّا قرب من رقّادة تلقّاه أهلها، وأهل القَيروان، وأبو عبدالله، ورؤساء كُتامة مشاةً بين يديه، وولده خلفه، فسلّموا عليه، فردّ جميلاً، وأمرهم بالانصراف، ونزل بقصر من قصور رقّادة، وأمر يوم الجمعة بذكر اسمه في الخطبة في البلاد، وتلقّب بالمهديّ أمير المؤمنين.
وجلس بعد الجمعة رجل يُعرف بالشريف، ومعه الدعاة، وأحضروا الناس بالعنف والشدّة، ودعوهم إلى مذهبهم، فمن أجاب أُحسن إليه، ومَن أبى حُبس، فلم يدخل في مذهبهم إلاّ بعض الناس، وهم قليل، وقُتل كثير ممّن لم يوافقهم على قولهم.
وعَرض عليه أبو عبدالله جواريَ زيادة الله، فاختار منهنّ كثيراً لنفسه ولولده أيضاً، وفرّق ما بقي على وجوه كُتامة، وقسّم عليهم أعمال إفريقية، ودوّن الدواوين، وجبى الأموال، واستقرّت قدمه، ودانت له أهل البلاد، واستعمل العمّال عليها جميعها؛ فاستعمل على جزيرة صِقلّية الحسن بن أحمد ابن أبي خنزير، فوصل إلى مازَرَ عاشر ذي الحجّة سنة سبع وتسعين ومائتين، فولّى أخاه على جرجنت، وجعل قاضياً بصقلّية إسحاق بن المنهال، وهو أوّل قاضٍ تولّى بها للمهديّ العلويّ.
وبقي ابن أبي خنزير إلى سنة ثمان وتسعين، فسار في عسكره إلى دَمَنْشَ، فغنم، وسبى، وأحر، وعاد فبقي مدّة يسيرة، وأساء السيرة في أهلها، فثاروا به، وأخذوه وحبسوه، وكتبوا إلى المهديّ بذلك، واعتذروا، فقبل عذرهم، واستعمل عليهم عليَّ بن عمر البَلَويَّ، فوصل آخر ذي الحجّة سنة تسع وتسعين ومائتين.
ذكر قتل أبي عبد الله الشيعيّ وأخيه أبي العبّاس
في سنة ثمان وتسعين ومائتين قُتل أبو عبد الله الشيعيُّ، قتله المهديَّ عبيد الله.

وسبب ذلك أنّ المهديّ لمّا استقامت له البلاد، ودانت له العباد، وباشر الأمور بنفسه، وكفّ يد أبي عبد الله، ويد أخيه أبي العبّاس، داخل أبا العبّاس الحسد، وعظُم عليه الفطام عن الأمر والنهي، والأخذ والعطاء، فأقبل يُزري على المهديّ في مجلس أخيه، ويتكلّم فيه، وأخوه ينهاه، ولا يرضى فعله، فلا يزيده ذلك إلاّ لجاجاً.
ثمّ إنّه أظهر أبا عبدالله على ما في نفسه، وقال له: ملكتَ أمراً، فجئت بمن أزالك عنه، وكان الواجب عليه أن لا يسقط حقّك.
ولم يزل حتّى أثّر في قلب أخيه، فقال يوماً للمهديّ: لو كنتَ تجلس في قصرك، وتتركني مع كُتامة آمرهم وأنهاهم، لأنّي عارفٌ بعاداتهم، لكان أهيب لك في أعين الناس.
وكان المهديُّ سمع شيئاً ممّا يجري بين أبي عبد الله وأخيه، فتحقّق ذلك، غير أنّه ردّ ردّاً لطيفاً، فصار أبو العبّاس يشير إلى المقدّمين بشيء من ذلك، فمن رأى منه قبولاً كشف له ما في نفسه، وقال: ما جازاكم على ما فعلتم، وذكر لهم الأموال التي أخذها المهديُّ من إنكِجَان، وقال: هلاّ قسّمها فيكم ! وكلّ ذلك يتّصل بالمهديّ، وهو يتغافل، وأبو عبدالله يداري، ثمّ صار أبو العبّاس يقول: إن هذا ليس الذي كنّا نعتقد طاعته، وندعو إليه لأنّ المهديّ يختم بالحجّة، ويأتي بالآيات الباهرة، فأخذ قوله بقلوب كثير من الناس، منهم إنسان من كُتامة يقال له شيخ المشايخ، فواجه المهديَّ بذلك، وقال: إن كنتَ المهديَّ فأظهر لنا آيةً، فقد شككنا فيك؛ فقتله المهديُّ، فخافه أبو عبدالله، وعلم أنّ المهديّ قد تغيّر عليه، فاتّفق هو وأخوه ومن معهما على الاجتماع عند أبي زاكي، وعزموا على قتل المهدي واجتمع معهم قبائل كُتامة إلاّ قليلاً منهم.
وكان معهم رجل يُظهر أنّه منهم، وينقل ما يجري إلى المهديّ، ودخلوا عليه مراراً فلم يجسروا على قتله، فاتّفق أنّهم اجتمعوا ليلة عند أبي زاكي، فلمّا أصبحوا لبس أبو عبدالله ثوبه مقلوباً ودخل على المهديّ، فرأى ثوبه، فلم يعرّفه به، ثمّ دخل عليه ثلاثة أيّام والقميص بحاله، فقال له المهديُّ: ما هذا الأمر الذي أذهلك عن إصلاح ثوبك ؟ فهو مقلوب منذ ثلاثة أيّام فعلمتُ أنّك ما نزعتَه؛ فقال: ما علمتُ بذلك إلاّ ساعتي هذه؛ قال: أين كنتَ البارحة والليالي قبلها ؟ فسكت أبو عبدالله؛ فقال: أليس بتّ في دار أبي زاكي ؟ قال: بلى. قال: وما الذي أخرجك من دارك ؟ قال: خفتُ. قال: وهل يخاف الإنسان إلا من عدوّه ؟ فعلم أنّ أمره ظهر للمهديّ، فخرج وأخبر أصحابه، وخافوا، وتخلّفوا عن الحضور.
فذُكر ذلك للمهديّ، وعنده رجل يقال له ابن القديم، كان من جملة القوم، وعنده أموال كثيرة، من أموال زيادة الله، فقال: يا مولاي إن شئتِ أتيتُك بهم، ومضى فجاء بهم، فعلم المهديُّ صحّة ما قيل عنه، فلاطفهم وفرّقهم في البلاد، وجعل أبا زاكي والياً على طرابلس، وكتب إلى عاملها أن يقتله عند وصوله، فلمّا وصلها قتله عاملها، وأرسل رأسه إلى المهديّ، فهرب ابن القديم، فأُخذ، فأمر المهديُّ بقتله فقُتل.
وأمر المهديُّ عُرُوبة ورجالاً معه أن يرصدوا أبا عبدالله وأخاه أبا العبّاس، ويقتلوهما، فلمّا وصلا إلى قرب القصر حمل عروبة على أبي عبدالله، فقال: لا تفعل يا بنيّ ! فقال: الذي أمَرتَنا بطاعته أمرنا بقتلك؛ فقُتل هو وأخوه، وكان قتلهما في اليوم الذي قُتل فيه أبو زاكي، فقيل: إنّ المهديّ صلّى على أبي عبدالله، وقال: رحمك الله: أبا عبدالله، وجزاك خيراً بجميل سعيك.
وثارت فتنة بسبب قتلهما، وجرّد أصحابهما السيوف، فركب المهديُّ وأمّن الناس، فسكنوا، ثمّ تَتّبعهم حتّى قتلهم.
وثارت فتنة ثانية بين كُتامة وأهل القَيروان، قُتل فيها خلق كثير، فخرج المهديُّ وسكّن الفتنة، وكفّ الدعاة عن طلب التشيّع من العامّة.
ولمّا استقامت الدولة للمهديّ عهد إلى ولده أبي القاسم نِزار بالخلافة، ورجعت كُتامة إلى بلادهم، فأقاموا طفلاً وقالوا: هذا هو المهديُّ، ثمّ زعموا أنّه نبيّ يوحى إليه، وزعموا أنّ أبا عبدالله لم يمُتْ، وزحفوا إلى مدينة مِيلة، فبلغ ذلك المهديَّ فأخرج ابنه أبا القاسم، فحصرهم، فقاتلوه فهزمهم واتّبعهم حتّى أجلاهم إلى البحر، وقتل منهم خلقاً عظيماً، وقتل الطفل الذي أقاموه.
وخالف عليه أهل صقلّية مع ابن وهب، فأنفذ إليهم أسطولاً، ففتحها وأتى بابن وهب فقتله.

وخالف عليه أهل تاهَرت، فعزاها، ففتحها، وقتل أهل الخلاف، وقتل جماعة من بني الأغلب برقّادة كانوا قد رجعوا إليها بعد وفاة زيادة الله.
ذكر عدّة حوادث
فيها سُيّر القاسم بن سيما وجماعة من القوّاد في طلب الحسين بن حَمدان، فساروا حتّى بلغوا قَرِقِيسياء والرَّحَبة، فلم يظفروا به، فكتب المقتدر إلى أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، وهو الأمير بالموصِل، يأمره بطلب أخيه الحسين، فسار هو والقاسم بن سيما، فالتقوا عند تَكريت، فانهزم الحسين، فأرسل أخاه إبراهيم بن حَمدان يطلب الأمان، فأُجيب إلى ذلك، ودخل بغداد، وخُلع عليه، وعُقد له على قُمّ وقاشان، فسار غليها وصرف عنها العبّاس بن عمرو.
وفيها وصل بارس غلام إسماعيل السامانيّ، وقُلّد ديار ربيعة، وقد تقدّم ذكره.
وفيها كانت وقعة بين طاهر بن محمّد بن عمرو بن الليث وبين سُبكرى غلام عمرو، فأسر طاهراً ووجّهه وأخاه يعقوب بن محمّد بن عمرو إلى المقتدر مع كاتبه عبد الرحمن بن جعفر الشيرازيّ، فأُدخلا بغداد أسيرين، فحُبسا، وكان سُبكرى قد تغلّب على فارس بغير أمر الخليفة، فلمّا وصل كاتبه قرّر أمره على مال يحمله، وكان وصوله إلى بغداد سنة سبع وتسعين.
وفيها خُلع على مؤنس المظفَّر الخادم، وأُمر بالمسير إلى غزو الروم، فسار في جمع كثيف، فغزا من ناحية مَلَطْية، ومعه أبو الأغر السلميُّ، فظفر وغنم وأسر منهم جماعة وعاد.
وفيها قّلّد يوسف بن أبي الساج أعمال أرمينية وأذربيجان، وضمنها بمائة ألف وعشرين ألف دينار، فسار إليها من الدَّينَور.
وفيها سقط ببغداد ثلج كثير من بُكرة إلى العصر، فصار على الأرض أربع أصابع، وكان معه برد شديد، وجمد الماء والخلّ والبيض والأدهان، وهلك النخل، وكثير من الشجر؛ وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها توفّي محمّد بن طاهر بن عبدالله بن طاهر.
وفيها قُتل سَوْسَن حاجب المقتدر، وسبب ذلك أنّه كان له أثر في أمر ابن المعتزّ، فلمّا بويع ابن المعتّز واستحجب غيره لزم المقتدر، فلمّا استوزر ابن الفرات تفرّد بالأمور، فعاداه سوسن، وسعى في فساد حاله، فأعلم ابنُ الفرات المقتدر بالله بحال سوسن، وأنّه كان ممّن أعان ابن المعتّز فقبض عليه وقتله.
وفيها توفّي محمّد بن داود بن الجرّاح عمّ عليّ بن عيسى الوزير، وكان عالماً بالكتابة.
وفيها توفّي عبدالله بن جعفر بن خاقان، وأبو عبد الرحمن الدهكانيُّ.
ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين

ذكر استيلاء الليث على فارس وقتله
في هذه السنة سار الليث بن عليّ بن الليث من سِجِستان إلى فارس في جيش وأخذها، واستولى عليها، وهرب سُبكرى عنها إلى أرّجان، فلمّا بلغ الخبر المقتدر جهّز مؤنساً الخادم وسيّره إلى فارس، معونة لسُبكرى، فاجتمعا بأرّجان.
وبلغ خر اجتماعهما الليثَ، فسار إليهما، فأتاه الخبر بمسير الحسين ابن حَمدان من قُمّ إلى البيضاء، معونة لمؤنس، فسيّر أخاه في بعض جيشه إلى شيراز ليحفظها، ثمّ سار في بعض جنده في طريق مختصر ليواقع الحسين ابن حَمدان، فأخذ به الدليل في طريق الرجّالة، فهلك أكثر دوابّه، ولقي هو وأصحابه مشقّة عظيمة، فقتل الدليل، وعدل عن ذلك الطريق، فأشرف على عسكر مؤنس، فظنّه هو وأصحابه أنّه عسكره الذي سُيّر مع أخيه إلى شيراز، فكبّروا، فثار إليهم مؤنس وسُبكرى في جندهما، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عسكر الليث، وأُخذ هو أسيراً.
فلمّا أسره مؤنس قال له أصحابه: إنّ المصلحة أن نقبض على سُبكرى، ونستولي على بلاد فارس، ونكتب إلى الخليفة ليقرّها عليك؛ فقال: سأفعل غداً، إذا صار إلينا على عادته، فلمّا جاء الليل أرسل مؤنس إلى سُبكرى سرّاً يعرّفه ما أشار به أصحابه، وأمره بالمسير من ليلته إلى شِيراز، ففعل، فلمّا أصبح مؤنس قال لأصحابه: أرى سُبكرى قد تأخّر عنّا، فتعرّفوا خبره؛ فسار إليه بعضهم، وعاد فأخبره أنّ سُبكرى سار من ليلته إلى شِيراز، فلام أصحابه، وقالب: من جهتكم بلغه الخبر حتّى استوحش؛ وعاد مؤنس ومعه الليث إلى بغداد، وعاد الحسين بن حَمدان إلى قمّ.
ذكر أخذ فارس من سُبكرى

لمّا عاد مؤنس عن سُبكرى استولى كاتبه عبد الرحمن بن جعفر على الأمور، فحسده أصحاب سُبكرى، فنقلوا عنه أنّه كاتب الخليفة، وأنّه قد حلّف أكثر القوّاد له، فقبض عليه وقيّده وحبسه، واستكتب مكانه إسماعيل ابن إبراهيم البمّيّ، فحمله على العصيان ومَنْع ما كان يحمله إلى الخليفة، ففعل ذلك.
فكتب عبد الرحمن بن جعفر إلى ابن الفرات، وزير الخليفة، يعرّفه ذلك، وأنّه لمّا نهى سُبكرى عن العصيان قبض عليه، فكتب ابن الفرات إلى مؤنس، وهو بواسط، يأمره بالعود إلى فارس، ويعجزه حيث لم يقبض على سُبكرى، ويحمله مع الليث إلى بغداد؛ فعاد مؤنس إلى الأهواز.
وأرسل سُبكرى مؤنساً، وهاداه، وسأله أن يتوسّط حاله مع الخليفة، فكتب في أمره، وبذل عنه مالاً، فلم يستقرّ بينهم شيء؛ وعلم ابن الفرات أنّ مؤنساً يميل إلى سُبكرى، فأنفذ وصيفاً كاتبه، وجماعة من القوّاد، ومحمّد بن جعفر الفريابيّ، وعوّل عليه في فتح فارس، وكتب إلى مؤنس يأمره باستصحاب الليث معه إلى بغداد، فعاد مؤنس.
وسار محمّد بن جعفر إلى فارس، وواقع سُبكرى على باب شيراز، فانهزم سُبكرى إلى بمّ وتحصّن بها، وتبعه محمّد بن جعفر وحصره بها، فخرج إليه سُبكرى وحاربه مرة ثانية، فهزمه محمّد ونهب ماله ودخل سُبكرى مفازة خراسان، فظفر به صاحب خُراسان، على ما نذكره، واستولى محمّد ابن جعفر على فارس فاستعمل عليها قنبجاً خادم الأفشين، والصحيح أنّ فتح فارس كان سنة ثمان وتسعين.
ذكر عدّة حوادث
وفيها وجّه المقتدر القاسم بن سيما لغزو الصائفة؛ وحجّ بالناس الفضل ابن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها توفّي عيسى النُّوشريُّ في شعبان بمصر، بعد موت أبي العبّاس ابن بِسطام بعشرة أيّام، ودُفن بالبيت المقدّس، واستعمل المقتدر مكانه تكين الخادم، وخلع عليه منتصف شهر رمضان.
وفيها توفّي أبو عبدالله محمّد بن سالم، صاحب سهل بن عبد الله التُّستريّ.
وفيها توفّي الفيض بن الخضر، وقيل ابن محمّد أبو الفيض الأولاشيُّ الطَّرسوسيُّ، وأبو بكر محمّد بن داود بن عليّ الأصفهانيُّ الفقيه الظاهريُّ، وموسى بن إسحاق القاضي، والقاضي أبو محمّد يوسف بن يعقوب بن حمّاد وله تسع وثمانون سنة.
ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتينذكر استيلاء أحمد بن إسماعيل على سِجِستان
في هذه السنة، في رجب، استولى أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ على سِجِستان.
وسبب ذلك أنّه لمّا استقرّ أمره، وثبت ملكه، خرج في سنة سبع وتسعين ومائتين إلى الرَّيّ، وكان يسكن بخارى، ثمّ سار إلى هراة، فسيّر منها جيشاً في المحرّم سنة ثمان وتسعين إلى سِجِستان، وسيّر جماعة من أعيان قوّاده وأمرائه، منهم أحمد بن سهل، ومحمّد بن المظفَّر، وسيمجور الدواتيُّ، وهو والد آل سيمجور ولاة خُراسان للسامانيّة، وسيرد ذكرهم، واستعمل أحمد على هذا الجيش الحسينَ بن عليّ المَروَرُوذيَّ، فساروا حتّى أتوا سجستان، وبها المعدَّل بن عليّ بن الليث الصَّفّار وهو صاحبها.
فلمّا بلغ المعدَّل خبرهم سيّر أخاه أبا عليّ محمّد بن عليّ بن الليث إلى بُست والرُخَّج ليحمي أموالها، ويرسل منها الميرة إلى سجستان، فسار المير أحمد بن إسماعيل إلى أبي عليّ ببُست، وجاذبه، وأخذه أسيراً، وعاد به إلى هَراة.
وأمّا الجيش الذي بسجستان فإنّهم حصروا المُعدَّل، وضايقوه، فلمّا بلغه أنّ أخاه أبا عليّ محمّداً قد أُخذ أسيراً، صالح الحسينَ بن عليّ، واستأمن إليه، فاستولى الحسين على سجستان، فاستعمل عليها الأميرَ أحمد أبا صالح منصور بن إسحاق، وهو ابن عمّه، وانصرف الحسين عنها ومعه المعدّل إلى بخارى؛ ثمّ إنّ سجستان خالف أهلها سنة ثلاثمائة على ما نذكره.
ولمّا استولى السامانيّة على سجستان بلغهم خبر مسير سُبكرى في المفازة من فارس إلى سجستان، فسيّروا إليه جيشاً، فلقوه وهو وعسكره قد أهلكهم التعب، فأخذوه أسيراً، واستولوا على عسكره، وكتب الأمير أحمد إلى المقتدر بذلك، وبالفتح، فكتب إليه يشكره على ذلك، ويأمره بحمل سُبكرى، ومحمّد بن عليّ بن الليث، إلى بغداد، فسيّرهما، وأُدخلا بغداد مشهورَيّن على فيلَينْ، وأعاد المقتدر رسل أحمد، صاحب خُراسان، ومعهم الهدايا والخلع.؟
ذكر عدّة حوادث

فيها أطلق الأمير أحمد بن إسماعيل عمّه إسحاق بن أحمد من محبسه، وأعاده إلى سَمَرْقَنْد وفَرْغانة.
وفيها توفّي محمّد بن جعفر الفريابيُّ، وقنبج الخادم أمير فارس، فاستعمل عليها عبدَ الله بن إبراهيم المِسْمعيَّ، وأضاف إليه كَرْمان.
وفيها جُعلت أمُّ موسى الهاشميّة قَهرمانة دار المقتدر بالله، فكانت تؤدّي الرسائل من المقتدر وأمّه إلى الوزير، وإنّما ذكرناها لأنّ لها فيما بعد من الحكم في الدولة ما أوجب ذكرها، وإلاّ كان الإضراب عنها أولى.
وفيها غزا القاسم بن سيما الصائفة.
وفيها، في رجب، توفّي المظفَّر بن جاخ، أمير اليمن، وحُمل إلى مكّة ودُفن بها، واستعمل الخليفة على اليمن بعده ملاحظاً؛ وحجّ بالناس في هذه السنة الفضل بن عبد الملك الهاشميُّ.
وفيها، في شعبان، أُخذ جماعة ببغداد، قيل إنّهم أصحاب رجل يدّعي الربوبيّة، يُعرف بمحمّد بن بشر.
وفيها هبّت ريح شديدة حارة صفراء بحديثة الموصل، فمات لشدّة حرّها جماعة كثيرة.
وفيها توفّي أبو القاسم جُنَيْد بن محمّد الصُّوفُّي، وكان إمام الدنيا في زمانه، وأخذ الفقه عن أبي ثور، صاحب الشافعيّ، والتصوّف عن سريّ السقطيّ.
وفيها توفّي أبو برزة الحاسب، واسمه الفضل بن محمد.
وفيها توفّي القاسم بن العبّاس أبو محمّد المعشريُّ، وإنّما قيل له المعشريُّ لأنّه ابن بنت أبي معشر نجيح المدنيّ، وكان زاهداً فقيهاً.
وفيها توفّي أحمد بن سعيد بن مسعود بن عصام أبو العبّاس، ومحمّد بن إياس والد أبي زكرياء، صاحب تاريخ الموصل، وكان خيّراً فاضلاً، وهو أزديّ.
ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين

ذكر القبض على ابن الفرات
ووزارة الخاقاني
ّ
في هذه السنة قبض المقتدر على الوزير أبي الحسن بن الفرات في ذي الحجّة، وكان قد ظهر، قبل القبض عليه بمدة يسيرة، ثلاثة كواكب مذنّبة، أحدها ظهر آخر رمضان في بُرج الأسد، والآخر ظهر في ذي القعدة في المشرق، والثالث ظهر في المغرب في ذي القعدة أيضاً في برج العقرب.
ولمّا قبض على الوزير وكّل بداره، وهتك حُرمه، ونهب ماله، ونُهبت دور أصحابه ومَن يتعلّق به، وافتتنت بغداد لقبضه، ولقي الناس شدّة ثلاثة أيّام، ثمّ سكنوا.
وكانت مدّة وزارته هذه السنة، وهي الوزارة الأولى، ثلاث سنين وثمانية أشهر وثلاثة عشر يوماً، وقُلّد أبو عليّ محمّد بن يحيى بن عبيدالله بن يحيى بن خاقان الوزارة، فرتّب أصحاب الدواوين؛ وتولّى مناظرة ابن الفرات أبو الحسين أحمد بن يحيى بن أبي البغل، وكان أخوه أبو الحسن بن أبي البغل مقيماً بأصبهان، فسعى أخوه له في الوزارة هو وأمّ موسى القهرمانة، فأذن المقتدر في حضوره ليتولّى الوزارة، فحضر، فلّما بلغ ذلك الخاقانيَّ انحلّت أموره، فدخل على الخليفة وأخبره بذلك، فأمره بالقبض على أبي الحسن، وأبي الحسين أخيه، فقبض على أبي الحسن وكتب في القبض على أبي الحسين، فقُبض أيضاً، ثمّ خاف القهرمانة، فأطلقهما واستعملهما.
ثمّ إنّ أمور الخاقانيّ انحلّتْ لأنّه كان ضجوراً، ضيّق الصدر مهملاً لقراءة كتب العُمّال، وجباية الأموال، وكان يتقرّب إلى الخاصّة والعامّة، فمنع خدم السلطان وخواصّه أن يخاطبوه بالعبد، وكان إذا رأى جماعة من الملاحين والعامّة يصلّون جماعة، ينزل ويصلّي معهم، وإذا سأله أحدٌ حاجةً دقّ صدره وقال، نعم وكرامة، فسُمّي: دقّ صدره، إلاّ أنّه قصّر في إطلاق الأموال للفرسان والقوّاد، فنفروا عنه واتّضعت الوزارة بفعله ما تقدّم.
وكان أولاده قد تحكّموا عليه، فكلّ منهم يسعى لمن يرتشي منه، وكان يولّي في الأيّام القليلة عدّة من العُمّال، حتّى إنّه ولَّى بالكوفة، في مدّة عشرين يوماً، سبعةً من العُمّال، فاجتمعوا في الطريق، فعرَضوا توقيعاتهم، فسار الخير منهم، وعاد الباقون يطلبون ما خدموا به أولاده، فقيل فيه:
وزيرٌ قد تكاملَ في الرّقاعهْ ... يولّي ثمّ يَعْزِلُ بَعْدَ ساعَهْ
إذا أهل الرُّشى اجتمعوا لدَيهِ ... فخَيرُ القَومِ اوفَرُهُم بضاعَهْ
وليسَ يُلامُ في هذا بحالٍ ... لأنّ الشيخَ أفلَتَ من مَجَاعَهْ

ثمّ زاد الأمر، حتّى تحكّم أصحابه، فكانوا يطلقون الأموال ويفسدون الأحوال، فانحلّت القواعد، وخبثت النيّات، واشتغل الخليفة بعزل وزرائه والقبض عليهم، والرجوع إلى قول النساء والخدم، والتصرّف على مقتضى آرائهم، فخرجت الممالك، وطمع العمّال في الأطراف، وكان ما نذكره فيما بعد.
ثمّ إنّ الخليفة أحضر الوزر ابن الفُرات من محبسه، فجعله عنده في بعض الحُجر مكرماً، فكان يَعِرض عليه مطالعات العمّال وغير ذلك، وأكرمه، وأحسن إليه، بعدَ أن أخذ أمواله.
ذكر عدّة حوادث
فيها غزا رستم أمير الثغور الصائفة من ناحية طَرَسُوس، ومعه دميانة، فحصر حصن مَليح الأرمنيّ، ثمّ دخل بلده وأحرقه.
وفيها دخل بغداد العظيم والأغبر وهما من قوّاد زكرويه القُرمطيّ، دخلا بالأمان؛ وحجّ بالناس الفضل بن عبد الملك.
وفيها جاء نفر من القَرامطة من أصحاب أبي سعيد الجنّابيّ إلى باب البصرة، وكان عليها محمّد بن إسحاق بن كنداجيق، وكان وصولهم يوم الجمعة، والناس في الصلاة، فوقع الصوت بمجيء القَرامطة، فخرج إليهم الموكَّلون بحفظ باب البصرة، فرأوا رجلَيْن منهم، فخرجوا إليهما، فقتل القرامطة منهم رجلاً وعادوا فخرج إليهم محمّد بن إسحاق في جمع، فلم يرهم، فسيّر في أثرهم جماعة، فأدركوهم، وكانوا نحو ثلاثين رجلاًن فقاتلوهم، فقُتل بينهم جماعة، وعاد ابن كنداجيق وأغلق أبواب البصرة، ظنّاً منه أنّ أولئك القرامطة كانوا مقدّمة لأصحابهم، وكاتب الوزير ببغداد يعرّفه وصول القرامطة ويستمدّه، فلمّا أصبح ولم يرَ للقرامطة أثراً ندم على ما فعل، وسيّر إليه من بغداد عسكراً مع بعض القوّاد.
وفيها خالف أهل طرابلس الغرب على المهديّ، عبيدالله العلويّ، فسيّر إليها عسكراً فحاصرها، فلم يظفر بها، فسيّر إليها المهديُّ ابنَهُ أبا القاسم في جُمادى الآخرة سنة ثلاثمائة، فحاصرها، وصابرها، واشتدّ في القتال، فعدمت الأقوات في البلد حتّى أكل أهله الميتة. ففتح البلد عنفاً، وعفا عن أهله، وأخذ أموالاً عظيمة من الذين أثاروا الخلاف وغرّم أهل البلد جميع ما أخرجه على عسكره، وأخذ وجوه البلد رهائن عنده، واستعمل عليه عاملاً وانصرف.
وفيها كانت زلازل بالقَيروان لم يُرَ مثلها شدّة وعظمة، وثار أهل القَيروان، فقتلوا من كُتامة نحو ألف رجل.
وفيها توفّي محمّد بن أحمد بن كَيسان أبو الحسن النحويُّ، وكان عالماً بنحو البصريّين والكوفيّين، لأنّه أخذه عن ثعلب والمبرّد.
وفيها توفّي محمّد بن السريّ القنطريُّ، وأبو صالح الحافظ، وأبو عليّ ابن سيبويه، وأبو يعقوب إسحاق بن حُنَينْ الطبيب.
ثم دخلت سنة ثلاثمائةذكر عزل الخاقانيّ عن الوزارة
ووزارة عليّ بن عيسى
في هذه السنة ظهر للمقتدر تخليط الخاقانيّ، وعجزه في الوزارة، فأراد عزله، وإعادة أبي الحسن بن الفرات إلى الوزارة، فمنعه مؤنس الخادم عن ابن الفرات لنفوره عنه لأمور، منها: إنفاذ الجيش إلى فارس مع غيره، وإعادته إلى بغداد، وقد ذكرناه، فقال للمقتدر: متى أعدتَه ظنّ الناس أنّك إنّما قبضتَ عليه شرهاً في ماله، والمصلحة أن تستدعي عليَّ بن عيسى من مكّة وتجعله وزيراً، فهو الكافي الثقة، الصحيح العمل، المتين الدين.

فأمر المقتدر بإحضاره، فأنفذ مَن يحضره، فوصل إلى بغداد أوّل سنة إحدى وثلاثمائة، وجلس في الوزارة، وقُبض على الخاقانيّ وسُلّم إليه، فأحسن قبضه، ووسّع عليه، وتولّى عليُّ بن عيسى، ولازم العمل والنظر في الأمور، وردّ المظالم، وأطلق من المكوس شيئاً كثيراً بمكّة وفارس، وأطلق المواخير والمُفسدات بدوْبق، وأسقط زيادات كان الخاقانيُّ قد زادها للجند، لأنّه عمل الدخل والخرج، فرأى الخرج أكثر، فأسقط أولئك، وأمر بعمارة المساجد والجوامع، وتبييضها وفرشها بالحصر، وإشعال الأضواء فيها، وأجرى للأئمة، والقراء، والمؤذنين، أرزاقاً، وأمر بإصلاح البيمارستانات، وعمل ما يحتاج إليه المرضى من الأدوية، وقرّر فيها فضلاء الأطبّاء، وأنصف المظلومين، وأسقط ما زيد في خراج الضياع، ولمّا عُزل الخاقانيُّ أكثر الناس التزوير على خطّه بمسامحات وإدرارات، فنظر عليُّ بن عيسى في تلك الخطوط، فأنكرها، وأراد إسقاطها، فخاف ذمّ الناس، ورأى أن ينفذها إلى الخاقانيّ ليميّز الصحيح من المزوّر عليه، فيكون الذمّ له، فلمّا عُرضت تلك الخطوط عليه قال: هذه جميعها خطّي وأنا أمرتُ بها؛ فلمّا عاد الرسول إلى عليّ بن عيسى بذلك قال: والله لقد كذب، وقد علم المزوَّر من غيره، ولكنّه اعترف بها ليحمده الناس ويذمّوني؛ وأمر بها فأُجيزتْ.
وقال الخاقانيُّ لولده: يا بنيّ هذه ليست خطّي، ولكنّه أنفذها أليّ وقد عرف الصحيح من السقيم، ولكنّه أراد أن يأخذ الشوك بأيدينا، ويبغّضنا إلى الناس، وقد عكست مقصوده.
ذكر خلاف سجستان وعودها إلى طاعة أحمد ابن إسماعيل السامانيّ
وفي هذه السنة أنفذ الأمير أبو نصر أحمد بن إسماعيل السامانيُّ عسكراً إلى سِجِستان ليفتحها ثانياً، وكانت قد عصتْ عليه، وخالف مَن بها.
وسبب ذلك أنّ محمَد بن هُرمُز، المعروف بالمولى الصندليّ، كان خارجيّ المذهب، وكان قد أقام ببخارى وهو من أهل سِجِستان، وكان شيخاً كبيراً، فجاء يوماً إلى الحسين بن عليّ بن محمّد العارض يطلب رزقه، فقال له: إنّ الأصلح لمثلك من الشيوخ أن يلزم رباطاً يعبد الله فيه، حتّى يوافيه أجله؛ فغاظه ذلك، فانصرف إلى سِجِستان والوالي عليها منصور بن إسحاق، فاستمال جماعةً من الخوارج، ودعا إلى الصَّفّار، وبايع في السرّ لعمرو بن يعقوب بن محمّد بن عمرو بن الليث، وكان رئيسهم محمّد بن العبّاس، المعروف بابن الحَفّار، وكان شديد القوّة، فخرجوا، وقبضوا على منصور بن إسحاق أميرهم وحبسوه في سجن أرْكٍ وخطبوا لعمرو بن يعقوب، وسلّموا إليه سجستان.
فلمّا بلغ الخبر إلى المير أحمد بن إسماعيل سيّر الجيوش مع الحسين ابن عليّ، مرّةً ثانية إلى زَرَنْجَ، في سنة ثلاثمائة، فحصرها تسعة أشهر، فصعد يوماً محمّد بن هُرمُز الصندليُّ إلى السور، وقال: ما حاجتكم إلى أذى شيخ لا يصلح إلا للزوم رباط ؟ يذكرهم بما قاله العارض ببخارى؛ واتّفق أنّ الصندلي مات، فاستأمن عمرو بن يعقوب الصَّفّار وابن الحفّار إلى الحسين بن عليّ، وأطلقوا عن منصور بن إسحاق، وكان الحسين بن عليّ يكرم ابن الحفّار ويقرّبه، فواطأ ابن الحفّار جماعة على الفتك بالحسين، فعلم الحسين ذلك، وكان ابن الحفّار يدخل على الحسين، لا يحجب عنه، فدخل إليه يماً وهو مشتمل على سيف، فأمر الحسين بالقبض عليه، وأخذه معه إلى بخارى.
ولمّا انتهى خبر فتح سِجِستان إلى المير أحمد استعمل عليها سيمجورَ الدواتيَّ، وأمر الحسينَ بالرجوع إليهن فرجع ومعه عمرو بن يعقوب وابن الحفّار وغيرهما، وكان عوده في ذي الحجّة سنة ثلاثمائة، واستعمل الأمير أحمدُ منصوراً ابن عمّه إسحاق على نَيسابور وأنفذه إليها، وتوفّي ابن الحفّار.
ذكر طاعة أهل صقلّية للمقتدر
وعودهم إلى طاعة المهديّ العلويّ
قد ذكرنا سنة سبع وتسعين ومائتين استعمال المهديّ عليَّ بن عمر على صِقلّية، فلمّا وليها كان شيخاً ليّناً، فلم يرض أهل صِقلّية بسيرته، فعزلوه عنهم، وولّوا على أنفسهم أحمد بن قرهب، فلمّا وليّ سيّر سريّة إلى أرض قِلُّورِيَةَ، فغنموا منها، وأسروا من الروم وعادوا.

وأرسل سنة ثلاثمائة ابنه عليّاً إلى قلعة طَبَرْمين في جيش، وأمره بحصرها، وكان غرضه إذا ملكها أن يجعل بها ولده وأمواله وعبيده، فإذا رأى من أهل صقلّية ما يكره امتنع بها، فحصرها ابنه ستّة أشهر، ثمّ اختلف العسكر عليه، وكرهوا المُقام، فأحرقوا خيمته، وسواد العسكر، وأرادوا قتله، فمنعهم العرب.
ودعا أحمد بن قرهب الناس إلى طاعة المقتدر، فأجابوه إلى ذلك، فخَطب له بصِقلّية، وقَطع خطبة المهديّ، وأخرج ابن قرهب جيشاً في البحر إلى ساحل أفريقية، فلقوا هناك أسطول المهديّ ومقدّمه الحسن بن أبي خنزير، فأحرقوا الأسطول، وقتلوا الحسن، وحملوا رأسه إلى ابن قرهب، وسار الأسطول الصقلّيُّ إلى مدينة سَفَاقُس، فخرّبوها، وساروا إلى طرابلس، فوجدوا فيها القائم بن المهديّ، فعادوا.
ووصلت الخلع السود والألوية إلى ابن قرهب من المقتدر، ثمّ أخرج مراكب فيها جيش إلى قِلُّورِيَةَ، فغنم جيشه، وخربوا وعادوا؛ وسيّر أيضاً اسطولاً إلى إفريقية، فخرج عليه أسطول المهديّ، فظفروا بالذي لابن قرهب وأخذوه، ولم يستقم بعد ذلك لابن قرهب حال، وأدبر أمره، وطمع فيه الناس، وكانوا يخافونه.
وخاف منه أهل جرجنت، وعصوا أمره، وكاتبوا المهديّ، فلمّا رأى ذلك أهل البلاد كاتبوا المهديَّ أيضاً، وكرهوا الفتنة، وثاروا بابن قرهب، وأخذوه أسيراً سنة ثلاثمائة وحبسوه، وأرسلوه إلى المهديّ مع جماعة من خاصّته، فأمر بقتلهم على قبر ابن أبي خنزير، فقُتلوا، واستعمل على صقلّية أبا سعيد موسى بن أحمد، وسيّر معه جماعة كثيرة من شيوخ كُتامة، فوصلوا إلى طَرَابُنُش.
وسبب إرسال العسكر معه أنّ ابن قرهب كان قد كتب إلى المهديّ يقول له: إنّ أهل صقلّية يكثرون الشغب على أمرائهم، ولا يطيعونهم، وينهبون أموالهم، ولا يزول ذلك إلاّ بعسكر يقهرهم ويزيل الرئاسة عن رؤسائهم، ففعل المهديُّ ذلك، فلمّا وصل معه العسكر خاف منه أهل صقلّية، فاجتمع عليه أهل جرجنت وأهل المدينة وغيرها، فتحصّن منهم أبو سعيد وعمل على نفسه سوراً إلى البحر، وصار المرسى معه، فاقتتلوا، فانهزم أهل صقلّية، وقُتل جماعة من رؤسائهم، وأُسر جماعة، وطل أهل المدينة الأمان، فأمّنهم إلا رجلَيْن هما أثارا الفتنة، فرضوا بذلك وتسلّم الرجلَيْن، وسيّرهما إلى المهديّ بإفريقية، وتسلّم المدينة، وهدم أبوابها، وأتاه كتاب المهديّ يأمره بالعفو عن العامّة.
ذكر وفاة عبد الله بن محمّد صاحب الأندلس وولاية عبد الرحمن الناصر
وفيها توفّي عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية الأمويُّ، صاحب الأندلس، في ربيع الأوّل، وكان عمره اثنتين وأربعين سنة، وكان أبيض، أصهب، أزرق، ربعة، يخضب بالسواد، وكانت ولايته خمساً وعشرين سنة وأحد عشر شهراً، وخلّف أحد عشر ولداً ذكراً، أحدهم محمّد المقتول، قتله في حدّ من الحدود، وهو والد عبد الرحمن الناصر.
ولمّا توفّي وليَ بعده ابن ابنه هذا محمّد، واسمه عبد الرحمن بن محمّد ابن عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن الحاكم بن هِشام بن عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس ابن معاوية بن هِشام بن عبد الملك بن مَروان بن الحاكم الأمويّ، وأمّه أمّ ولد تسمّى مرتة، وكان عمره لمّا قُتل أبوه عشرين يوماً.
وكانت ولايته من المستطرف لأنّه كان شاباً، وبالحضرة أعمامه وأعمام أبيه، فلم يختلفوا عليه، ووُلِّيَ الإمارة والبلاد كلّها، وقد اختلف عليهم قبله، وامتنع حصون بكورة رَيّة وحصن بُبَشْتَر فحاربه، حتّى صلحت البلاد بناحيته، وكان مَن بطُليطُلة أيضاً قد خالفوا، فقاتلهم حتّى عادوا إلى الطاعة، ولم يزل يقاتل المخالفين حتّى أذعنوا له، وأطاعوه نيّفاً وعشرين سنة، فاستقامت البلاد، وأمنت في دولته، ومضى لحال سبيله.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة عُزل عبد الله بن إبراهيم المِسْمعيُّ عن فارس وكَرمان واستُعمل عليها بدر الحمّاميُّ، وكان بدر يتقلّد أصبهان، واستُعمل بعده على أصبهان عليُّ بن وهسوذان الديلميُّ.
وفيها ورد الخبر إلى بغداد، ورسوله من عامل بَرقة، وهي من عمل مصر وما بعدها بأربعة فراسخ لمصر وما وراء ذلك من عمل المغرب، بخبر خارجيّ خرج عليهم، وأنهم ظفروا به وبعسكره، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ووصل على يد الرسول من أنوفهم وآذانهم شيء كثير.

وفيها كثرت الأمراض والعلل ببغداد.
وفيها كلبت الكلاب والذئاب بالبادية، فأهلكت خلقاً كثيراً.
وفيها وُلِّيَ بشر الأفشينيُّ طَرَسُوس.
وفيها قُلّد مؤنس المظفَّر الحرمَينْ والثغور.
وفيها انقضّت الكواكب انقضاضاً كثيراً إلى جهة المشرق.
وفيها مات أسكندروس بن لاون ملك الروم، وملك بعده ابنه، واسمه قسطنطين، وعمره اثنتا عشرة سنة.
وفيها توفّي عبيدالله بن عبدالله بن طاهر بن الحسين، وكان مولده سنة ثلاث وعشرين ومائتين.
وفيها توفّي أحمد بن عليّ الحدّاد، وقيل سنة تسع وتسعين ومائتين، وهو الصحيح.
وفيها توفّي أحمد بن يعقوب ابن أخي العرق المقرئ، والحسين بن عمر بن أبي الأخوص، وعليُّ بن طيفور النشويُّ، وأبو عمر القتّات.
وفيها، في ربيع الآخر، توفّي يحيى بن عليّ بن يحيى المنجّم المعروف بالنديم.
ثم دخلت سنة إحدى وثلاثمائةفي هذه السنة خُلع على الأمر أبي العبّاس بن المقتدر بالله، وقُلد أعمال مصر والمغرب، وعمره أربع سنين، واستخلف له على مصر مؤنس الخادم، وأبو العبّاس هذا هو الذي وليَ الخلافة بعد القاهر بالله، ولُقّبَ الراضي بالله.
وخُلع أيضاً على الأمير عليّ بن المقتدر، ووليَ الرّيّ، ودنباوند، وقزوين، وزنجان، وأبهر.
وفيها أُحضر بدار عيسى رجل يُعرف بالحلاّج ويكنّى أبا محمّد، وكان مشعبذاً في قول بعضهم، وصاحب حقيقة في قول بعضهم، ومعه صاحب له، فقيل، إنّه يدّعي الربوبيّة، وصُلب هو وصاحبه ثلاثة أيّام، كلّ يوم من بُكرة إلى انتصاف النهار، ثمّ يؤمَرُ بهما إلى الحبس، وسنذكر أخباره واختلاف الناس فيه عند صلبه.
وفيها، في صفر، عُزل أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان عن الموصل، وقُلّد يُمن الطولونيُّ المعونة بالموصل، ثمّ صُرف عنها في هذه السنة، واستُعمل عليها نحرير الخادم الصغير.
وفيها خالف أبو الهيجاء عبدُ الله بن حَمدان على المقتدر فسُيّر إليه مؤنس المظفَّر، وعلى مقدّمته بنّيّ بن نفسي، خرج إلى الموصل منتصف صفرٍ ومعه جماعة من القوّاد، وخرج مؤنس في ربيع الأوّل، فلمّا علم أبو الهيجاء بذلك قصد مؤنساً مستأمناً من تلقاء نفسه، وورد معه إلى بغداد، فخلع المقتدر عليه.
وفيها توفّي دميانة أمير الثغور وبحر الروم، وقُلّد مكانه ابن بلك.
ذكر قتل الأمير أبي نصر الساماني

وولاية ولده نصر
وفي هذه السنة قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل بن أحمد السامانيُّ صاحب خراسان وما وراء النهر، وكان مولعاً بالصيد، فخرج إلى فربر متصيّداً، فلمّا انصرف أمر بإحراق ما اشتمل عليه عسكره، وانصرف، فورد عليه كتاب نائبه بطبرستان، وهو أبو العبّاس صعلوك، وكان يليها بعد وفاة ابن نوح بها، يخبره بظهور الحسن بن عليّ العلويّ الأطروش بها، وتغلّبه عليها، وأنّه أخرجه عنها، فغمّ ذلك أحمد، وعاد إلى معسكره الذي أحرقه فنزل عليه فتطيّر الناس من ذلك.
وكان له أسدٌ يربطه كلّ ليلة على باب مبيته، فلا يجسر أحد أن يقربه، فأغفلوا إحضار الأسد تلك الليلة، فدخل إليه جماعة من غلمانه، فذبحوه على سريره وهربوا، وكان قَتْله ليلة الخميس لسبع بقين من جُمادى الآخرة سنة إحدى وثلاثمائة، فحُمل إلى بخارى فدُفن بها، ولُقّب حينئذ بالشهيد، وطُلب أولئك الغلمان، فأُخذ بعضهم فقُتل.
ووليَ الأمر بعده ولده أبو الحسن نصر بن أحمد، وهو ابن ثماني سنين، وكانت ولايته ثلاثين سنة وثلاثة وثلاثين يوماً، وكان موته في رجب سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، ولُقّب بالسعيد، وبايعه أصحاب أبيه ببخارى بعد دفن أبيه، وكان الذي تولّى ذلك أحمد بن محمّد بن الليث، وكان متولّي أمر بخارى، فحمله على عاتقه، وبايع له الناس، ولّما حمله خدم أبيه ليظهر للناس خافهم وقال: أتريدون أن تقتلوني كما قتلتم أبي ؟ فقالوا: لا إنّما نريد أن تكون موضع أبيك أميراً؛ فسكن روعه.

واستصغر الناس نصراً، واستضعفوه، وظنّوا أنّ أمره لا ينتظم مع قوّة عمّ أبيه الأمير إسحاق بن أحمد، وهو شيخ السامانيّة، وهو صاحب سَمَرْقند، ومَيْل الناس بما وراء النهر سوى بخارى إليه وإلى أولاده، وتولّى تدبير دولة السعيد نصر بن أحمد أبو عبدالله محمّد بن أحمد الجَيْهانيُّ، فأمضى الأمور، وضبط المملكة، واتّفق هو وحشم نصر بن أحمد على تدبير الأمر فأحكموه، ومع هذا، فإنّ أصحاب الأطراف طمعوا في البلاد، فخرجوا من النواحي على ما نذكره.
فممنّ خرج عن طاعته سِجِستان، وعمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد بسَمرقند، وابناه منصور وإلياس ابنا إسحاق، ومحمّد بن ا لحسين بن مت، وأبو الحسن بن يوسف، والحسين بن عليّ المَرْورُوذيُّ، ومحمّد بن جيد، وأحمد بن سهل، وليلى بن نعمان، صاحب العلويّين بَطَبِرستان، ووقّعه سيمجور مع أبي الحسن بن الناصر، وقراتكين، وما كان بن كالي، وخرج عليه إخوته يحى ومنصور وإبراهيم، أولاد أحمد بن إسماعيل، وجعفر بن أبي جعفر، وابن داود، ومحمّد بن إلياس، ونصر بن محمّد بن مت، ومرداويج ووشمكير ابنا زيار، وكان السعيد مظفَّراً منصوراً عليهم.
ذكر أمر سجستانولّما قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل خالف أهل سجِستان على ولده نصر، وانصرف عنها سيمجور الدواتيٌّ، فولاّها المقتدر بالله بدراً الكبير، فأنفذ إليها الفضلَ بن حميد، وأبا يزيد خالد بن محمد المروزيّ، وكان عُبيد الله بن أحمد الجَيْهانيُّ ببُستَ، والرُّخَّج، وسعد الطالقانيُّ بغَزنة من جهة السعيد نصر بن أحمد، فقصدهما الفضل خالد، وانكشف عنهما عبيدالله، وقبضا على سعد الطالقانيّ وأنفذاه إلى بغداد، واستولى الفضل وخالد على غزنة وبُست، ثمّ اعتلَّ الفضل، وانفرد خالد بالأمور، وعصى على الخليفة، فأنفذ إليه دركاً أخا نجح الطولونيّ، فقاتله فهزمه خالد.
وسار خالد إلى كَرمان، فأنفذ إليه بدر جيشاً، فقاتلهم خالد، فجُرح، وانهزم أصحابه، وأُخذ هو أسيراً، فمات، فحُمل رأسه إلى بغداد.
ذكر خروج إسحاق بن أحمد وابن إلياسوفي هذه السنة، وهي إحدى وثلاثمائة، خرج على السعيد نصر بن أحمد ابن إسماعيل عمّ أبيه إسحاق بن أحمد بن أسد وابنه إلياس، وكان إسحاق بسَمَرْقَنْد لّما قُتل أحمد بن إسماعيل ووليَ ابنه نصر بن أحمد، فلمّا بلغه ذلك عصى بها، وقام ابنه إلياس يأمر الجيش، وقوي أمرهما، فساروا نحو بخارى، فسار إليه حمويه بن عليّ في عسكر، وكان ذلك في شهر رمضان، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسحاق إلى سَمَرْقَنْد، ثمّ جمع وعاد مرّة ثانية، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم إسحاق أيضاً، وتبعه حموية إلى سَمَرْقَنْد فملكها قهراً.
واختفى إسحاق، وطلبه حموية، ووضع عليه العيون والرصد، فضاق بإسحاق مكانه، فأظهر نفسه، واستأمن إلى حموية فأمّنه وحمله إلى بخارى فأقام بها إلى أن مات.
وأمّا ابنه إلياس فإنّه سار إلى فرغانة، وبقي بها إلى أن خرج ثانياً.
ذكر ظهور الحسن بن عليّ الأطروش
وفيها استولى الحسن بن عليّ بن الحسن بن عمر بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب على طَبَرِسْتان، وكان يلقّب بالناصر.
وكان سبب ظهوره ما نذكره، وقد ذكرنا فيما تقدّم عصيان محمّد ابن هارون على أحمد بن إسماعيل، وهربه منه، وغير ذلك، ثمّ إنّ الأمير أحمد بن إسماعيل استعمل على طبرستان أبا العبّاس عبدالله بن محمّد بن نوح، فأحسن فيهم السيرة، وعدل فيهم، وأكرم مَن بها من العلويّين، وبالغ في الإحسان إليهم، وراسل رؤساء الديلم، وهاداهم، واستمالهم.
وكان الحسن بن عليّ الأطروش قد دخل الديلم بعد قتل محمّد بن زيد، وأقام بينهم نحو ثلاث عشرة سنة يدعوهم إلى الإسلام، ويقتصر منهم على العشر، ويدافع عنهم ابن حسّان ملكهم، فأسلم منهم خلق كثير، واجتمعوا عليه، وبنى في بلادهم مساجد.
وكان للمسلمين بإزائهم ثغور مثل: قَزوين، وسالوس، وغيرهما، وكان بمدينة سالوس حصن منيع قديم، فهدمه الأطروش حين أسلم الديلم والجيل؛ ثمّ إنّه جعل يدعوهم إلى الخروج معه إلى طبرستان، فلا يجيبونه إلى ذلك لإحسان ابن نوح، فاتّفق أنّ الأمير أحمد عزل ابنَ نوح عن طبرستان وولاّها سلاماً، فلم يحسن سياسة أهلها، وهاج عليه الديلم، فقاتلهم وهزمهم، واستقال عن ولايتها، فعزله الأمير أحمد، وأعاد إليها ابن نوح، فصلحت البلاد معه.

ثمّ إنّه مات بها، واستعمل عليها أبو العبّاس محمّد بن إبراهيم صُعلوك، فغيّر رسوم ابن نوح، وأساء السيرة، وقطع عن رؤساء الديلم ما كان يهديه إليهم ابن نوح، فانتهز الحسن بن عليّ الفرصة، وهيّج الديلم عليه ودعاهم إلى الخروج معه، فأجابوه وخرجوا معه، وقصدهم صُعلوك، فالتقوا بمكان يسمّى نَوْرُوز وهو على شاطئ البحر، على يوم من سالوس، فانهزم ابن صُعلوك، وقُتل من أصحابه نحو أربعة آلاف رجل، وحصر الأطروش الباقين ثمّ أمّنهم على أموالهم وأنفسهم وأهليهم، فخرجوا إليه، فأمّنهم وعاد عنهم إلى آمل، وانتهى إليهم الحسن بن القاسم الداعي العلويُّ، وكان ختَن الأطروش، فقتلهم عن آخرهم لأنّه لم يكن أمّنهم، ولا عاهدهم، واستولى الأطروش على طبرستان.
وخرج صعلوك إلى الرَّيّ، وذلك سنة إحدى وثلاثمائة، ثمّ سار منها إلى بغداد، كان الأطروش قد أسلم على يده من الديلم الذين هم وراء أسفيدروذ إلى ناحية آمل، وهم يذهبون مذهب الشيعة.
وكان الأطروش زيديَّ المذهب، شاعراً مفلقاً، ظريفاً، علاّمة، إماماً في الفِقه والدين، كثير المُجون، حسن النادرة.
حُكي عنه أنّه استعمل عبدالله بن المبارك على جُرجان، وكان يُرمى بالأُبنة، فاستعجزه الحسن يوماً في شغل له وأنكره عليه، فقال: أيّها الأمير ! أنا أحتاج إلى رجال أجلاد يعينونني؛ فقال: قد بلغني ذلك.
وكان سبب صممه أنّه ضُرب على رأسه بسيف في حرب محمّد بن زيد فطرش؛ وكان له من الأولاد أبو الحسن، وأبو القاسم، وأبو الحسين، فقال يوماً لأبنه أبي الحسن: يا بنيّ ! ها هنا شيء من الغراء نلصق به كاغداً ؟ فقال: لا، إنّما ها هنا بالخاء، فحقدها عليه، ولم يولّه شيئاً، وولّى ابنيه أبا القاسم والحسين، وكان أبو الحسن ينكر تركه معزولاً، ويقول: أنا أشرف منهما لأنّ أمّي حسنيّة، وأمّهما أمَة.
وكان أبو الحسن شاعراً، وله مناقضات مع ابن المعتزّ، ولحق أبو الحسن بابن أبي الساج، فخرج معه يوماً متصيّداً، فسقط عن دابّته فبقي راجلاً، فمرّ به ابن أبي الساج فقال له: اركب معي على دابّتي ! فقال: أيّها الأمير لا يصلح بطلان على دابّة.
ذكر القرامطة وقتل الجُنّابيّ
في هذه السنة قُتل أبو سعيد الحسن بن بَهرام الجُنّابيُّ كبير القرامطة، قتله خادم له صَقلبيّ، في الحمّام، فلمّا قتله استدعى رجلاً من أكابر رؤسائهم وقال له: السيّد يستدعيك؛ فلمّا دخل قتله، ففعل ذلك بأربعة نفر من رؤسائهم، واستدعى الخامس، فلمّا دخل فطن لذلك، فأمسك بيد الخادم وصاح، فدخل الناس، وصاح النساء، وجرى بينهم وبين الخادم مناظرات ثمّ قتلوه.
وكان أبو سعيد قد عهد إلى ابنه سعيد، وهو الأكبر، فعجز عن الأمر، فغلبه أخوه الأصغر أبو طاهر سليمان، وكان شهماً شجاعاً، ويرد من أخباره ما يُعلم به محلّه.
ولّما قُتل أبو سعيد كان قد استولى على هَجَر والإحساء والقَطيف والطائف، وسائر بلاد الحرين؛ وكان المقتدر قد كتب إلى أبي سعيد كتاباً ليّناً في معنى مَن عندّه من أسرى المسلمين، ويناظره، ويقيم الدليل على فساد مذهبه، ونفّذه مع الرسل، فلمّا وصلوا إلى البصرة بلغهم خبر موته، فأعلموا الخليفة بذلك، فأمرهم بالمسير إلى ولده، فأتوا أبا طاهر بالكتاب، فأكرم الرسل، وأطلق الأسرى، ونفّذهم إلى بغداد، وأجاب عن الكتاب.
ذكر مسير جيش المهديّ إلى مصر
في هذه السنة جهّز المهديُّ العساكر من إفريقية، وسيّرها مع ولده أبي القاسم إلى الديار المصريّة، فساروا إلى برقة، واستولوا عليها في ذي الحجّة، وساروا إلى مصر، فملك الإسكندريّة والفيّوم، وصار في يده أكثر البلاد، وضيّق على أهلها، فسيّر إليها المقتدر بالله مؤنساً الخادم في جيش كثيف، فحاربهم وأجلاهم عن مصر، فعادوا إلى المغرب مهزومين.
ذكر عدّة حوادث
وفي هذه السنة كثرت الأمراض الدموية بالعراق، ومات بها خلق كثير، وأكثرهم بالحربيّة، فإنّها أُغلقت بها دور كثيرة لفناء أهلها.
وفيها توفّي جعفر بن محمّد بن الحسن الفريابيُّ ببغداد، والقاضي أبو عبدالله محمّد بن أحمد بن محمّد بن أبي بكر المقدّميُّ الثقفيُّ.
ثم دخلت سنة اثنتين وثلاثمائة

في هذه السنة أُمر عليُّ بن عيسى الوزير بالمسير إلى طَرَسُوس لغزو الصائفة، فسار في ألفَيْ فارس معونةً لبشر الخادم والي طَرَسُوس، فلم يتيسّر لهم غزو الصائفة، فغزوها شاتية في برد شديد وثلج.
وفيها تنحّى الحسن بن عليّ الأطروش العلويُّ عن آمل، بعد غلبته عليها، كما ذكرناه، وسار إلى سالوس، ووجّه إليه صُعلوك جيشاً من الرَّيّ، فلقيهم الحسن، وهزمهم، وعاد إلى آمل.
وكان الحسن بن عليّ حسن السيرة، عادلاً، ولم يرَ الناس مثله في عدله، وحُسن سيرته، وإقامته الحقّ، وقد ذكره ابن مِسكويه في كتاب تجارب الأمم فقال: الحسن بن عليّ الداعي، وليس به، إنّما الداعي عليُّ بن القاسم، وهو ختَن هذا على ما ذكرناه.
وفيها قبض المقتدر على أبي عبدالله الحسين بن عبدالله المعروف بابن الجصّاص الجوهريّ، وأخذ ما في بيته من صنوف الأموال، وكان قيمته أربعة آلاف ألف دينار، وكان هو يدّعي أنّ قيمة ما أُخذ منه عشرون ألف ألف دينار وأكثر من ذلك.
ذكر مخالفة منصور بن إسحاقوفي هذه السنة خالف منصور بن إسحاق بن أحمد بن أسد على الأمير نصر بن أحمد، ووافقه على المخالفة الحسينُ بن عليّ المَرْورُوذيُّ، ومحمّد ابن حَيد.
وكان سبب ذلك أنّ الحسين بن عليّ لّما افتتح سِجِسْتان، الدفعة الأولى على ما ذكرناه، للأمير أحمد بن إسماعيل طمع أن يتولاها، فوليها منصور بن إسحاق هذا، فخالف أهلها، وحبسوا منصوراً، فأنفذ الأمير أحمد عليّاً أيضاً، فافتتحها ثانياً، وطمع أن يتولاّها فوليها سيمجور، وقد ذكرنا هذا جميعه.
فلمّا وليها سيمجور استوحش عليٌّ لذلك، ونفر منه، وتحدّث مع منصور بن إسحاق في الموافقة والتعاضد بعد موت الأمير أحمد، وتكون إمارة خراسان لمنصور، ويكون الحسين بن عليّ خليفته على أعماله، فاتّفقا على ذلك فلمّا قُتل الأمير أحمد بن إسماعيل كان منصور بن إسحاق بنيسابور، والحسين بهرَاة، فأظهر الحسين العصيان، وسار إلى منصور يحثّه على ما كانا اتّفقا عليه، فخالف أيضاً، وخطب لمنصور بنيسابور فتوجه إليها من بخارى حموية بن علي في عسكر ضخم لمحاربتهما، فاتّفق أنّ منصوراً مات، فقيل إنّ الحسين بن عليّ سمّه، فلمّا قاربه حموية سار الحسين بن عليّ عن نَيسابور إلى هَراة وأقام بها.
وكان محمّد بن حَيد على شُرطة بخارى مدّة طويلة، فسُيّر من بخارى إلى نَيسابور لشغل يقوم به، فوردها، ثمّ عاد عنها بغير أمر، فكتب إليه من بخارى بالإنكار عليه، فخاف على نفسه، فعدل عن الطريق إلى الحسين بن عليّ بهراة، فسار الحسين بن عليّ من هراة إلى نَيسابور، واستخلف بهراة أخاه منصور بن عليّ، واستولى على نَيسابور، فسُيّر من بخارى إليه أحمد بن سهل لمحاربته، فابتدأ أحمد بهراء فحصرها وأخذها، واستأمن إله منصور بن عليّ، وسار أحمد من هراة إلى نيسابور، وكان وصوله إليها في ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثمائة، فنازل الحسين، وحصره، وقاتله، فانهزم أصحاب الحسين، وأُسر الحسين بن عليّ، وأقام أحمد بن سهل بنَيسابور.
وكان ينبغي أن نذكر استيلاء أحمد على نَيسابور، وأسر الحسين سنة ستّ وثلاثمائة، لكن رأينا أن نجمع سياق الحادثة لئلاّ يُنسى أوّلها.
وأمّا ابن حَيد فإنّه كان بمرو، فلمّا بلغه استيلاء أحمد بن سهل على نَيسابور، وأسره الحسين بن عليّ، سار إليه، فقبض عليه أحمد وأخذ ماله وسواده، وسيّره والحسين بن عليّ إلى بخارى، فأمّا ابن حَيد فإنّه سُيّر إلى خُوارزم فمات بها.
وأمّا الحسين بن عليّ فإنّه حُبس ببخارى إلى أن خلَّصه أبو عبدالله الجيهانيُّ، وعاد إلى خدمة الأمير نصر بن أحمد، فبينما هو يوماً عنده إذ طلب الأمير نصر ماء، فأُتي بماء في كوز غير حسن الصنعة، فقال الحسين بن عليّ لأحمد بن حموية، وكان حاضراً: ألا يهدي والدك إلى الأمير من نَيسابور من هذه الكيزان اللطاف النظاف ؟ فقال أحمد: إنّما يُهدي أبي إلى الأمير مثلك ومثلَ أحمد بن سهل، ومثلَ ليلة الديلميّ، لا الكيزان؛ فأطرق الحسين مُفحَماً، وأعجب نصراً قوله.
ذكر خبر مصر مع العلويّ المهديّ
وفيها أنفذ أبو محمّد عبيدُ الله العلويُّ الملقّب بالمهديّ جيشاً من إفريقية مع قائد من قوّاده يقال له حُباسة إلى الإسكندريّة، فغلب عليها.

وكان مسيره في البحر، ثمّ سار منها إلى مصر، فنزل بين مصر والإسكندريّة، فبلغ ذلك المقتدر، فأرسل مؤنساً الخادم في عسكر إلى مصر لمحاربة حُباسة، وأمدّه بالسلاح والمال، فسار إليها، فالتقى العسكران في جُمادى الأولى، فاقتتلوا قتالاً شديداً فقُتل من الفريقَيْن جمع كثير، وجُرح مثلهم، ثمّ كان بينهم وقعة أخرى بنحوها، ثمّ وقعة ثالثة ورابعة، فانهزم فيها المغاربة أصحاب العلويّ، وقُتلوا، وأُسروا، فكان مبلغ القتلى سبعة آلاف مع الأسرى وهرب الباقون.
وكانت هذه الوقعة سلخ جمادى الآخرة، وعادوا إلى الغرب، فلمّا وصلوا إلى الغرب قتل المهديُّ حُباسةَ.
وفيها خالف عروبة بن يوسف الكُتاميُّ على المهديّ بالقَيروان، واجتمع إليه خلق كثير من كُتامة والبرابر، فأخرج المهديُّ إليهم مولاه غالباً، فاقتتلوا قتالاً شديداً في محضر القَيروان، فقُتل عروبة وبنو عمّه، وقُتل معهم عالم لا يحصون، وجُمعت رؤوس مقدّميهم في قفّة وحُملت إلى المهديّ، فقال: ما أعجب أمور الدنيا ؟؟؟! قد جمعت هذه القفّة رؤوس هؤلاء، وقد كان يضيق بعساكرهم فضاء المغرب.
ذكر عدة حوادثفيها غزا بشر الخادم والي طَرَسُوس بلاد الروم، ففتح فيها وغنم وسبى، وأسر مائة وخمسين بطريقاً، وكان السبي نحواً من ألفَيْ رأس.
وفيها أوقع مؤنس الخادم بناحية وادي الذئاب بمن هنالك من الأعراب من بني شيبان، فقتل منهم خلقاً كثيراً، ونهب بيوتهم فأصاب فيها من أموال التجار التي كانوا أخذوها بقطع الطريق ما لا يحصى.
وفيها في ذي الحجّة ماتت بدعة المغنّية، مولاة عَريب مولى المأمون.
وفيها، في ذي الحجّة، خرجت الأعراب من الحاجر على الحجّاج، فقطعوا عليهم الطريق، وأخذوا من العين وما معهم من الأمتعة والجمال ما أرادوا، وأخذوا مائتين وخمسين امرأة؛ وحجّ بالناس هذه السنة الفضل بن عبد الملك.
وفيها قُلّد أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان الموصل.
وفيها مات الشاه بن ميكال.
وفيها، في ليلة الأضحى، انقضّ ثلاثة كواكب كبار اثنان أوّل الليل وواحد آخره سوى كواكب صغار كثيرة.
وإلى آخر هذه السنة انتهى تاريخ أبي جعفر الطبريّ، رحمه الله، ورأيتُ في بعض النسخ إلى آخر سنة ثلاث وثلاثمائة، وقيل إنّ سنة ثلاث هي زيادة فيه، وليس من تاريخ الطبريّ، والله أعلم.
وفيها توفّي إسحاق بن أبي حسّان الأنماطيُّ، وإبراهيم بن شريك، وأبو عيسى بن القزّاز، وأبو العبّاس البرّانيُّ، وعليُّ بن محمّد بن نصر بن بسام الشاعر وله نيّف وسبعون سنة.
ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثمائة

ذكر أمر الحسين بن حمدان
في هذه السنة خرج الحسين بن حَمدان بالجزيرة عن طاعة المقتدر.
وسبب ذلك أنّ الوزير عليّ بن عيسى طالبه بمال عليه من ديار ربيعة، وهو يتولاّها، فدافعه، فأمره بتسليم البلاد إلى عُمّال السلطان، فامتنع.
وكان مؤنس الخادم غائباً بمصر لمحاربة عسكر المهديّ العلويّ، صاحب إفريقية، فجهّز الوزير رائقاً الكبير في جيش وسيّره إلى الحسين بن حمدان، وكتب إلى مؤنس يأمره بالمسير إلى ديار الجزيرة لقتال الحسين، بعد فراغه من أصحاب العلويّ، فسار رائع إلى الحسين بن حمدان.
وجمع لهم الحسين نحو عشرين ألف فارس، وسار إليهم فوصل إلى الحبشة وهم قد قاربوها، فلّما رأوا كثرة جيشه علموا عجزهم عنه لأنّهم كانوا أربعة آلاف فارس، فانحازوا إلى جانب دجلة، ونزلوا بموضع ليس له طريق إلاّ من وجه واحد، وجاء الحسين فنزل عليهم وحصرهم، ومنع الميرة عنهم من فوق ومن أسفل، فضاقت عليهم الأقوات والعلوفات، فأرسلوا إليه يبذلون له أن يولّيه الخليفة ما كان بيده ويعود عنهم، فلم يجب إلى ذلك.
ولزم حصارهم، وأدام قتالهم إلى أن عاد مؤنس من الشام، فلّما سمع العسكر بقربه قويت نفوسهم وضعفت نفوس الحسين ومَن معه، فخرج العسكر إليه ليلاً وكبسوه، فانهزم وعاد إلى ديار ربيعة، وسار العسكر فنزلوا على الموصل.
وسمع مؤنس خبر الحسين، وجدّ مؤنس في المسير نحو الحسين، واستصحب معه أحمد بن كَيْغَلَغ، فلّما قرب منه راسله الحسين يعتذر، وتردّدت الرسل بينهما، فلم يستقر حال، فرحل مؤنس نحو الحسين حتّى نزل بإزاء جزيرة ابن عمر، ورحل الحسين نحو أرمينية مع ثقله وأولاده، وتفرّق عسكر الحسين عنه، وصاروا إلى مؤنس.

ثمّ إنّ مؤنساً جهّز جيشاً في أثر الحسين، مقدّمهم بُلَيق ومعه سيما الجزريُّ، وجنى الصّفوانيُّ، فتبعوه إلى تل فافان، فرأوها خاوية على عروشها، قد قتل أهلها وأحرقها، فجدّوا في أتّباعه فأدركوه فقاتلوه، فانهزم من بقي معه من أصحابه، وأُسر هو ومعه ابنه عبد الوهّاب وجميع أهله وأكثر مَنْ صَحِبه، وقبض أملاكه.
وعاد مؤنس إلى بغداد؟؟؟؟؟؟؟ على طريق الموصل والحسين معه، فأُركب على جمل هو وابنه وعليهما البرانس، واللبود الطوال، وقمصان من شعر أحمر، وحُبس الحسين وابنه عند زيدان القهرمانة، وقبض المقتدر على أبي الهيجاء بن حمدان وعلى جميع إخوته وحُبسوا، وكان قد هرب بعض أولاد الحسين بن حمدان، فجمع جمعاً ومضى نحو آمِد، فأوقع بهم مستحفظها، وقتل ابن الحسين وأنفذ رأسه إلى بغداد.
ذكر بناء المهديّة
في هذه السنة خرج المهديُّ بنفسه إلى تونس وقرطاجَنّة وغيرهما يرتاد موضعاً على ساحل البحر يتّخذ فيه مدينة.
وكان يجد في الكتب خروج أبي يزيد على دولته، ومن أجله بنى المهديّة، فلم يجد موضعاً أحسن ولا أحصن من موضع المهديّة، وهي جزيرة متّصلة بالبّر كهيئة كفّ متّصلةٍ بزند، فبناها وجعلها دار ملكه، وجعل لها سوراً محكماً وأبواباً عظيمة وزْن كلّ مصراع مائة قنطار.
وكان ابتداء بنائها يوم السبت لخمس خلون من ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثمائة، فلّما ارتفع السور أمر رامياً أن يرمي بالقوس سهماً إلى ناحية المغرب، فرمى سهمه فانتهى إلى موضع المصلّى، فقال: إلى موضع هذا يصل صاحب الحمار، يعني أبا يزيد الخارجيّ، لأنّه كان يركب حماراً.
وكان يأمر الصُّنّاع بما يعملون، ثمّ أمر أن ينقر دار صناعة في الجبل تسع مائةَ شيني، وعليها باب مغلق؛ ونقر في أرضها أهراء للطعام، ومصانع للماء، وبنى فيها القصور والدور، فلّما فرغ منها قال: اليوم أمنتُ على الفاطميّات، يعني بناته، وارتحل عنها.
ولّما رأى إعجاب الناس بها، وبحصانتها، كما يقول: هذا لساعة من نهار، وكان كذلك لأنّ أبا يزيد وصل إلى موضع السهم، ووقف فيه ساعة، وعاد ولم يظفر.
ذكر عدّة حوادث
فيها أغارت الروم على الثغور الجزريّة، وقصدوا حصن نصور، وسبوا مَن فيه، وجرى على الناس أمر عظيم، وكانت الجنود متشاغلة بأمر الحسين ابن حمدان.
وفيها عاد الحُجّاج وقد لقوا من العطش والخوف شدّة، وخرج جماعة من العرب على أبي حامد ورقاء بن محمّد المرتّب على الثعلبيّة لحفظ الطريق، فقاتلهم، وظفر بهم، وقتل جماعة منهم، وأسر الباقين وحملهم إلى بغداد، فأمر المقتدر بتسليمهم إلى صاحب الشُّرطة ليحبسهم، فثارت بهم العامة فقتلوهم وألقوهم في دجلة.
وفيها ظهر بالجامدة إنسان زعم أنّه علويّ فقتل العامل بها ونهبها، وأخذ من دار الخراج أموالاً كثيرة، ثمّ قُتل بعد ظهوره بيسير، وقُتل معه جماعة من أصحابه، وأُسر جماعة.
وفيها ظهرت الروم وعليهم الغثيط فأوقعوا بجماعة من مقاتلة طَرَسُوس والغزاة، فقتلوا منهم نحو ستّمائة فارس، ولم يكن للمسلمين صائفة.
وفيها خرج مليح الأرمنيُّ إلى مَرْعَش، ! فعاث في بلدها، وأسر جماعة ممّن حولها وعاد.
وفيها وقع الحريق ببغداد في عدّة مواضع، فاحترق كثير منها.
وفيها توفّي أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي، صاحب كتاب السُّنَن، بمكّة، ودُفن بين الصفا والمروة؛ والحسن بن سفيان النسويُّ.
وفيها توفّي أبو بكر محمّد بن عينونة بنَصِيبين، وكان يتولّى أعمال الخراج والضياع بديار ربيعة، ولّما توفّي وليَ ابنه الحسن مكانه.
وفيها توفّي أبو عليّ محمّد بن عبد الوهّاب الجُبائيُّ المعتزليُّ.
وفيها توفّي يموت بن المزرّع العبديُّ، وهو ابن أخت الجاحظ، توفّي بدمشق.
ثم دخلت سنة أربع وثلاثمائة

ذكر عزل ابن وهسوذان عن أصبهان

في هذه السنة، في المحرم، أرسل عليُّ بن وهسوذان، وهو متولّي الحر بأصبهان، غلاماً كان ربّاه وتَبنّاه إلى أحمد بن شاه، متولّي الخراج، في حاجة فلقيه راكباً فكلّمه في حاجة مولاه، ورفع صوته، فشتمه أحمد وقال: يا مؤاجر تكلّمني بهذا على الطريق ! وحرد عليه، فعاد إلى مولاه باكياً، وعرّفه ذلك، فقال: صدق، لولا أنّك مؤاجر لقتلتَه؛ فعاد الغلام فلقيه وهو راكب فقتله، فأنكر الخليفة ذلك، وصرف عليَّ بن وهسوذان عن أصبهان، وولّى مكانه أحمد بن مسرور البَلْخيّ، وأقام ابن وهسوذان بنواحي الجبل.
ذكر وزارة ابن الفرات الثانيةوعزل عليّ بن عيسى
في هذه السنة، في ذي الحجّة، عُزل عليُّ بن عيسى عن الوزارة، وأُعيد إليها أبو الحسن عليُّ بن الفرات.
وكان سبب ذلك أنّ أبا الحسن بن الفرات كان محبوساً، وكان المقتدر يشاوره وهو في محبسه، ويرجع إلى قوله؛ وكان عليُّ بن عيسى يمشّي أمر الوزارة، ولم يتبع أصحاب ابن الفرات وأسبابه لا غيره، وكان جميل المحضر، قليل الشرّ، فبلغه أنّ أبا الحسن بن الفرات قد تحدّث له جماعة من أصحاب الخليفة في إعادته إلى الوزارة، فسارعَ واستعفى من الوزارة، وسأل في ذلك، فأنكر المقتدر عليه، ومنعه من ذلك، فسكن.
فلّما كان آخر ذي القعدة جاءته أمّ موسى القهرمانة لتتفّق معه على ما يحتاج حرم الدار والحاشية التي للدار من الكسوات والنفقات، فوصلتْ إليه وهو نائم، فقال لها حاجبه: إنّه نائم ولا أجسر أن أوقظه، فاجلسي في الدار ساعةً حتّى يستيقظ؛ فغضبت من هذا وعادت، واستيقظ عليُّ بن عيسى في الحال، فأرسل إليها حاجبَه وولده يعتذر، فلم يُقْبَلْ منه، ودخلت على المقتدر وتحرصت على الوزير عنده وعند أمّه، فعزله عن الوزارة، وقبض عليه ثامن ذي القعدة.
وأُعيد ابن الفرات إلى الوزارة، وضمن على نفسه أن يحمل كلّ يوم إلى بيت المال ألف دينار وخمسمائة دينار، فقبض على أصحاب الوزير عليّ بن عيسى وعاد فقبض على الخاقانيّ الوزير وأصحابه، واعترض العُمّال وغيرهم، وعاد عليهم بأموال عظيمة ليقوم بما ضمنه.
وكان عليُّ بن عيسى قد تعجّل بمال من الخراج لينفقه في العيد، فاتّسع به ابن الفرات.
وكان قد كاتب العمّالَ بالبلاد كفارس، والأهواز، وبلاد الجبل، وغيرها في حمل المال، وحثّهم على ذلك غاية الحثّ، فوصل بعد قبضه، فادّعى ابن الفرات الكفاية والنهضة في جمع المال.
وكان أبو عليّ بن مثقلة مستخفياً مُذ قُبض ابن الفرات إلى الآن، فلّما عاد ابن الفرات إلى الوزارة ظهر، فاشخصه ابن الفرات وقرّبه.
ذكر أمر يوسف بن أبي الساجكان يوسف بن أبي الساج على أذربيجان وأرمينية قد وليَ الحربَ، والصلاة، والأحكام، وغيرها، منذ أوّل وزارة ابن الفرات الأولى، وعليه مال يؤدّيه إلى ديوان الخلافة، فلمّا عُزل ابن الفرات ووليَ الخاقانيُّ الوزارة، وبعده عليُّ بن عيسى، طمع فأخَّر حمل بعض المال، فاجتمع له ما قويت به نفسه على الامتناع، وبقي كذلك إلى هذه السنة.
فلمّا بلغه القبض على الوزير عليّ بن عيسى أظهر أن الخليفة أنفذ له عهداً بالرَّي، وأنّ الوزير عليّ بن عيسى سعى له في ذلك، فأنفذه إليه، وجمع العساكر وسار إلى الرَّيّ وبها محمّد بن عليّ صُعلوك يتولّى أمرها لصاحب خُراسان، وهو الأمير نصر بن أحمد بن إسماعيل السامانيُّ، وكان صُعلوك قد تغلّب على الرَّيّ وما يليها، أيّام وزارة عليّ بن عيسى، ثمّ أرسل إلى ديوان الخلافة فقاطع عليها بمال يحمله، فلمّا بلغه مسير يوسف بن أبي الساج نحوه سار إلى خُراسان، فدخل يوسف الرَّيّ واستولى عليها وعلى قزوين وزنجان وأبهر، فلمّا بلغ المقتدر فعله، وقوله إنّ عليّ بن عيسى أنفذ له العهد واللواء بذلك، أنكره واستعظمه.
وكتب يوسف إلى الوزير ابن الفرات يعرّفه أنّ عليّ بن عيسى أنفذ إليه بعهده على هذه الأماكن، وأنّه افتتحها وطرد عنها المتغلّبين عليها، ويعتذر بذلك، ويذكر كثرة ما أخرجه، فعظم ذلك على المقتدر، وأمر ابن الفرات أن يسأل عليَّ بن عيسى عن الذي ذكره يوسف، فأحضره وسأله، فأنكر ذلك وقال: سلوا الكتّاب وحاشية الخليفة، فإنّ العهد واللواء لا بدّ أن يسير بهما بعض خدم الخليفة، أو بعض قوّاده؛ فعلموا صدقه.

وكتب ابن الفرات إلى ابن أبي الساج ينكر عليه تعرّضه لهذه البلاد، وكذبه على الوزير عليّ بن عيسى، وجهّز العساكر لمحاربته، وكان مسير العساكر سنة خمس وثلاثمائة.
وكان المقدّم على العسكر خاقان المُفلطحي، ومعه جماعة من القوّاد كأحمد ابن مسرور البَلْخيّ، وسيما الجزريّ، ونحرير الصغير، فساروا، ولقوا يوسف، واقتتلوا، فهزمهم يوسف، وأسر منهم جماعة، وأدخلهم الرَّيّ مشهورين على الجمال، فسيّر الخليفة مؤنساً الخادم في جيش كثيف إلى محاربته، فسار، وانضم إليه العسكر الذي كان مع خاقان، فصُرف خاقان عن أعمال الجبل، ووليها نحرير الصغير.
وسار مؤنس فأتاه أحمد بن عليّ، وهو أخو محمّد بن عليّ صعلوك، مستأمناً، فأكرمه ووصله؛ وكتب ابن أبي الساج يسأل الرضى، وأن يقاطع على أعمال الريّ وما يليها على سبعمائة ألف دينار لبيت المال، سوى ما يحتاج إليه الجند وغيرهم، فلم يجبه المقتدر إلى ذلك، ولو بذل مِلء الأرض لما أقرّه على الريّ يوماً واحداً لإقدامه على التزوير، فلمّا عرف ابن أبي الساج ذلك سار عن الريّ بعد أن أخربها، وجبى خراجها في عشرة أيّام.
وقلّد الخليفة الريّ وقَزوين وأبهر وصيفاً البكتمريَّ، وطلب ابن أبي الساج أن يقاطع على ما كان بيده من الولاية، فأشار ابن الفرات بأجابته إلى ذلك فعارضه نصر الحاجب، وابن الحواريّ، وقالا: لا يجوز أن يجاب إلى ذلك إلاّ بعد أن يطأ البساط.
ونسب ابن الفرات إلى مواطأة ابن أبي الساج والميل معه، فحصل بينهما وبين ابن الفرات عداوة، فامتنع المقتدر من إجابته إلى ذلك إلى أن يحضر في خدمته بنفسه، فلمّا رأى يوسف أنّ دمه على خطر إن حضر لخدمته حارب مؤنساً، فانهزم مؤنس إلى زنجان، وقُتل من قوّاده سيما بن بويه، وأسر جماعة منهم، فيهم هلال بن بدر، فأدخلهم أردبيل مشتهرين على الجمال.
وأقام مؤنس بزنجان يجمع العساكر، ويستمدّ الخليفة، وكاتبه ابن أبي الساج في الصلح، وتراسلا في ذلك، وكتب مؤنس إلى الخليفة، فلم يجبه إلى ذلك، فلمّا كان في المحرّم سنة سبع وثلاثمائة، والوزير يومئذ حامد بن العبّاس، اجتمع لمؤنس عسكر كبير، فسار إلى يوسف، فتواقعا على باب أردبيل، فانهزم عسكر يوسف، وأُسر يوسف وجماعة من أصحابه، وعاد بهم مؤنس إلى بغداد، فدخلها في المحرّم أيضاً، وأدخل يوسف أيضاً بغداد مشتهراً على جمل، وعليه برنس بأذناب الثعالب، فأُدخل إلى المقتدر، ثمّ حُبس بدار الخليفة عند زيدان القهرمانة.
ولمّا ظفر مؤنس بابن أبي الساج قلّد عليَّ بن وهسوذان أعمال الريّ، ودنباوند، وقَزوين، وأبهر، زنجان، وجعل أموالها لرجاله، وقلّد أصبهان، وقُمّ، وقَاشان، وساوة لأحمد بن عليّ بن صعلوك، وسار عن أذربيجان.
ذكر حال هذه البلاد بعد مسير مؤنسلمّا سار مؤنس عن أذربيجان إلى العراق وثب سُبُك غلام يوسف بن أبي الساج على بلاد أذربيجان، فملكها، واجتمع إليه عسكر عظيم، فأنفذ إليه مؤنس محمّدَ بن عبيدالله الفارقيَّ، وقلّده البلاد، وسار إلى سُبُك وحاربه، فانهزم الفارقيُّ وسار إلى بغداد، وتمكّن سُبُك من البلاد، ثمّ كتب إلى الخليفة يسأل أن يقاطع على أذربيجان، فأجيب إلى ذلك، وقُرّر عليه كلّ سنة مائتان وعشرون ألف دينار، وأُنفذت إليه الخلع والعهد، فلم يقف على ما قرّره.
ثمّ وثب أحمد بن مسافر، صاحب الطرم، على ابن أخيه عليّ بن وهسوذان وهو مقيم بناحية قزوين، فقتله على فراشه، وهرب إلى بلده، فاستعمل مكان عليّ بن وهسوذان وصيفاً البكتمريَّ، وقلّد محمّد بن سليمان صاحب الجيش أعمال الخراج بها.
وسار أحمد بن عليّ بن صعلوك من قُمّ إلى الريّ، فدخلها، فأنفذ الخليفة ينكر عليه ذلك ويأمره بالعود إلى قمّ فعاد، ثمّ إنّه أظهر الخلاف، وصرف عمّال الخراج عن قمّ، واستعدّ للمسير إلى الريّ، فكوتب نحرير الصغير، وهو على هَمذان، ليسير هو ووصيف إلى الريّ لمنع أحمد بن عليّ عنها فساروا إليها، فلقيهم أحمد بن عليّ على باب الريّ، فهزمهم أحمد، وقُتل محمّد ابن سليمان، واستولى أحمد على الريّ، وكاتب نصراً الحاجب ليصلح أمره مع الخليفة، ففعل ذلك، وأصلح أمره، وقرّر عليه عن الريّ ودنباوند وقَزوين وزنجان وأبهر مائة وستّين ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بغداد، فنزل أحمد عن قمّ، فاستعمل الخليفة عليها من ينظر فيها.

ذكر تغلّب كثير بن أحمد على سجستان ومحاربته
كان كثير بن أحمد بن شهفور قد تغلّب على أعمال سجستان، فكتب الخليفة إلى بدر بن عبدالله الحمّاميّ، وهو متقلّد أعمال فارس، يأمره أن يرسل جيشاً يحاربون كثيراً، ويؤمّر عليهم دردا، ويستعمل على الخراج بها زيد ابن إبراهيم، فجهّز بدر جيشاً كثيفاً وسيّرهم، فلمّا وصلوا قاتلهم كثير، فلم يكن له بهم قوّة، وضعف أمره وكادوا يملكون البلد، فبلغ أهل البلد أنّ زيداً معه قيود وأغلال لأعيانهم، فاجتمعوا مع كثير، وشدّوا منه، وقاتلوا معه، فهزموا عسكر الخليفة، وأسروا زيداً، فوجدوا معه القيود والأغلال، فجعلوها في رجليه وعنقه.
وكتب كثير إلى الخليفة يتبرّأ من ذلك، ويجعل الذنب فيه لأهل البلد، فأرسل الخليفة إلى بدر الحمّاميّ يأمره أن يسير بنفسه إلى قتال كثير، فتجهّز بدر، فلمّا سمع كثير ذلك خاف، فأرسل يطلب المقاطعة على مال يحمله كل سنة، فأُجيب إلى ذلك، وقوطع على خمسمائة ألف درهم، وقُرّرت البلاد عليه.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة، في الصيف، خافت العامّة ببغداد من حيوان كانوا يسمّونه الزبزب، ويقولون إنّهم يرونه في الليل على سطوحهم، وإنّه يأكل أطفالهم، وربّما عضّ يد الرجل وثَدْيَ المرأة فقطعهما وهرب بهما، فكان الناس يتحارسون، ويتزاعقون، ويضربون بالطشوت والصوانيّ وغيرها ليفزعوه، فارتجَّتْ بغداد لذلك. ثم إنّ أصحاب السلطان صادوا ليلة حيواناً أبلق بسواد، قصير اليدين والرجلين، فقالوا: هذا هو الزبزب، وصلبوه على الجسر، فسكن الناس، وهذه دابّة تسمّى طبرة، وأصحاب اللصوص حاجتهم لاشتغال الناس عنهم.
وفيها توفّي الناصر العلويُّ، صاحب طَبَرِسْتان، في شعبان وعمره تسع وسبعون سنة، وبقيت طبرستان في أيدي العلويّة إلى أن قُتل الداعي، وهو الحسن بن القاسم، سنة ستّ عشرة وثلاثمائة على ما نذكره.
وفيها خالف أبو يزيد خالد بن محمّد المادرائيُّ على المقتدر بالله بكرمان، وكان يتولّى الخراج، وسار منها إلى شيراز يريد التغلّب على فارس، فخرج إله بدر الحمّاميُّ فحاربه وقتله، وحُمل رأسه إلى بغداد وطيف به.
وفيها سار مؤنس المظفَّر إلى بلاد الروم لغزاة الصائفة، فلمّا صار بالموصل قلّد سُبُك المفلحي بازَبْدَى وقَرْدَى، وقلّد عثمانَ العنزيَّ مدينة بلد، وباعيناثا، وسنجار، وقلّد وصيفاً البكتمريَّ باقي بلاد ربيعة، وسار مؤنس إلى مَلَطْية وغزا فيها، وكتب إلى أبي القاسم عليّ بن أحمد ابن بِسطام أن يغزو من طَرَسُوس في أهلها، ففعل.
وفتح مؤنس حصوناً كثيرة من الروم، وأثر آثاراً جميلة، وعتب عليه أهل الثغور وقالوا: لو شاء لفعل أكثر من هذا؛ وعاد إلى بغداد، فأكرمه الخليفة وخلع عليه.
وفيها توفّي يَمُوتُ بن المزرّع العبديُّ، وهو ابن أخت الجاحظ، وسليمان بن محمّد بن أحمد أبو موسى النحويُّ المعروف بالحامض أخذ العلم عن ثعلب، وكانت وفاته في ذي الحجّة، وكان من أصحاب ثعلب، ويوسف ابن الحسين بن عليّ، أبو يعقوب الرازيّ، وهو من أصحاب ذي النون المصريّ، وهو صاحب قصّة الفأرة معه.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثمائةفي هذه السنة، في المحرّم، وصل رسولان من ملك الروم إلى المقتدر يطلبان المهادنة والفداء، فأُكرما إكراماً كثيراً، وأُدخلا على الوزير وهو في أكمل أُبّهة، وقد صفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة، وأدّيا الرسالة إليه؛ ثمّ إنّهما دخلا على المقتدر، وقد جلس لهما، واصطفّ الأجناد بالسلاح والزينة التامّة، وأدّيا الرسالة، فأجابهما المقتدر إلى ما طلب ملك الروم من الفداء، وسيّر مؤنساً الخادم ليحضر الفداء، وجعله أميراً على كلّ بلد يدخله يتصرّف فيه على ما يريد إلى أن يخرج عنه، وسيّر معه جمعاً من الجنود، وأطلق لهم أرزاقاً واسعة، وأنفذ معه مائة ألف وعشرين ألف دينار لفداء أسرى المسلمين، وسار مؤنس والرسل، وكان الفداء على يد مؤنس.
وفيها أُطلق أبو الهيجاء عبدالله بن حمدان، وإخوته، وأهل بيته من الحبس، وكانوا محبوسين بدار الخليفة، وقد تقدّم ذكر حبسهم وسببه.
وفيها مات العبّاس بن عمرو الغنويُّ وكان متقلّداً أعمال الحرب بديار مضر، فجُعل مكانه وصيف البكتمريُّ، فلم يقدر على ضبط العمل، فعُزل، وجُعل مكانه جنّي الصفوانيُّ، فضبطه أحسن ضبط.

وفي هذه السنة كانت بالبصرة فتنة عظيمة، وسببها أنّه كان الحسن ابن الخليل بن رمال متقلّداً أعمال الحرب بالبصرة، وأقام بها سنين، وجرت بينه وبين العامّة من مضر وربيعة فتن كثيرة، وسكنت، ثمّ ثارت بينهم فتنة اتّصلت، فلم يمكنه الخروج من منزله برحبة بني نمر، واجتمع الجند كلّهم معه، وكان لا يوجد أحد منهم في طريق إلاّ قُتل، حتّى حوصرت، وغُوّرت القناة التي يجري فيها الماء إلى بني نُمير، فاضطّر إلى الركوب إلى المسجد الجامع، فقتل من العامّة خلقاً كثيراً.
فلمّا عجز عن إصلاحهم خرج هو ومعه الأعيان من أهل البصرة إلى واسط، فعُزل عنها، واستعمل أبو دلف هاشم بن محمّد الخزاعيُّ عليها فبقي نحو سنة وصُرف عنها، ووليها سُبُك المفلحيُّ نيابة عن شفيع المقتدريّ.
وفيها عُقد لثمال الخادم على الغزاة في بحر الروم، وسار.
وفيها غزا جنّي الصفوانيُّ بلاد الروم، فغنم ونهب وسبَى وعاد سالماً.
وفي هذه السنة مات أبو خليفة المحدّثُ البصريُّ.
وفيها، في جُمادى الأولى، مات أبو جعفر بن محمّد بن عثمان العسكريُّ المعروف بالسَّمّان، ويُعرف أيضاً بالعمريّ، رئيس الإماميّة، وكان يدّعي أنّه الباب إلى الإمام المنتظر، وأوصى إلى أبي القاسم بن الحسين بن روح.
وفي آخرها توفّي أحمد بن محمّد بن شُريح وكان عالماً بمذهب الشافعيَّ.
ثم دخلت سنة ست وثلاثمائة

ذكر عزل ابن الفرات
ووزارة حامد بن العبّاس
في هذه السنة، في جُمادى الآخرة، قُبض على الوزير أبي الحسن بن الفرات، وكانت مدّة وزارته هذه، وهي الثانية، سنة واحدة وخمسة أشهر وتسعة عشر يوماً.
وكان سبب ذلك أنّه أخّر إطلاق أرزاق الفرسان، واحتجّ عليهم بضيق الأموال، وأنّها أُخرجت في محاربة ابن أبي الساج، وأنّ الارتفاع نقص بأخذ يوسف أموال الريّ وأعمالها، فشغب الجند شغباً عظيماً، وخرجوا إلى لمصلّى، والتمس ابن الفرات من المقتدر إطلاق مائتَيْ ألف دينار من بيت المال الخاص ليضيف إليها مائتَيْ ألف دينار يحصلها، ويصرف الجميع في أرزاق الجند، فاشتدّ ذلك على المقتدر، وأرسل إليه: إنّك ضمنتَ أنّك ترضي جميع الأجناد، وتقوم بجميع النفقات الراتبة على العادة الأولى وتحمل بعد ذلك ما ضمنت أنّك تحمله يوماً بيوم، فأراك تطلب من بيت المال الخاص؛ فاحتجّ بقلّة الارتفاع، وما أخذه ابن أبي الساج من الارتفاع وما خرج على محاربته؛ فلم يسمع المقتدر حجّته وتنكّر له عليه.
وقيل: كان سبب قبضة أنّ المقتدر قيل له: إنّ ابن الفرات يريد إرسال الحسين بن حمدان إلى ابن أبي الساج ليحاربه، وإذا صار عنده اتّفقا عليك؛ ثمّ إنّ ابن الفرات قال للمقتدر في إرسال الحسين إلى ابن أبي الساج، فقتل ابنَ حمدان في جمادى الأولى، وقبض على ابن الفرات في جمادى الآخرة.
ثمّ إنّ بعض العُمّال ذكر لابن الفرات ما يتحصّل لحامد بن العبّاس من أعمال واسط زيادة على ضمانه، فاستكثره، وأمره أن يكاتبه بذلك، فكاتبه، فخاف حامد أن يؤخذ ويطالب بذلك المال، فكتب إلى نصر الحاجب وإلى والدة المقتدر، وضمن لهما مالاً ليتحدّثا له في الوزارة، فذكر للمقتدر حاله وسعة نفسه، وكثرة أتباعه، وأنّه له أربع مائة مملوك يحملون السلاح؛ واتّفق ذلك عند نفرة المقتدر عن ابن الفرات، فأمره بالحضور من واسط، فحضر، وقبض على ابن الفرات وولده المحسن وأصحابهما وأتباعهما.
ولّما وصل حامد إلى بغداد أقام ثلاثة أيّام في دار الخليفة، فكان يتحدّث مع الناس، ويضاحكهم، ويقوم لهم، فبان للخدم ولأبي القاسم بن الحواريّ وحاشية الدار قلّة معرفته بالوزارة، وقال له حاجبه: يا مولانا ! الوزير يحتاج إلى لُبْسه، وجَلْسه، وعَبْسه؛ فقال له: تعني أن تلبس، وتقعد، فلا تقوم لأحد، ولا تضحك في وجه أحد، ولا تحدّث أحداً ؟ قال: نعم.
قال حامد: إنّ الله أعطاني وجهاً طلقاً، وخَلقاً حسناً، وما كنتُ بالذي أعبس وجهي، وأقبح خَلقي لأجل الوزارة؛ فعابوه عند المقتدر، ونسبوه إلى الجهل بأمور الوزارة، فأمر المقتدر بإطلاق عليّ بن عيسى من محبسه، وجعله يتولّى الدواوين شبه النائب عن حامد، فكان يراجعه في الأمور ويصدر عن رأيه، ثمّ إنّه استبدّ بالأمر دون حامد، ولم يبق لحامد غير اسم الوزارة ومعناها لعليّ، حتّى قيل فيهما:
هذا وزيرٌ بلا سوادٍ ... وذا سوادٌ بلا وزير

ثمّ أنّ حامداً أحضر ابن الفرات ليقابله على أعماله، ووكّل بمناظرته عليَّ ابن أحمد المادرائي ليصحّح عليه الأموال، فلم يقدر على إثبات الحجّة عليه، فانتدب له حامد، وسبّه، ونال منه، وقام إليه فلكمه.
وكان حامد سفيهاً فقال له ابن الفرات: أنت على بساط السلطان، وفي دار المملكة، وليس هذا الموضع ممّا تعرفه من بَيْدَرٍ تقسمه، أو غلّة تستفضل في كيلها، ولا هو مثل أكار تشتمه؛ ثمّ قال لشفيع اللؤلؤيّ: قل لأمير المؤمنين عني أنّ حامداً إنّما حمله على الدخول في الوزارة، وليس من أهلها، إنّني أوجبت عليه أكثر من ألفَيّ ألف دينار من فضل ضمانه، وألححت في مطالبته بها، فظنّ أنّها تندفع عنه بدخوله في الوزارة، وأنه يضيف إليها غيرها، فاستشاط حامد، وبالغ في شتمه، فأنفذ المقتدر، فأقام ابن الفرات من مجلسه، وردّه إلى محبسه، وقال عليُّ بن عيسى، ونصر الحاجب لحامد: قد جنَيتَ علينا وعلى نفسك جناية عظيمة بما فعلتَه بابن الفرات، وأيقظت منه شيطاناً لا ينام.
ثمّ إنّ ابن الفرات صودر على مال عظيم، وضرب ولده المحسن وأصحابه، وأخذ منهم أموالاً جمة.
وفي هذه السنة عُزل نِزال عن شُرطة بغداد، وجُعل فيها نجح الطولونيُّ، وجُعل في الأرباع فقهاء يكون عمل أصحاب الشُّرطة بفتواهم، فضعفت هيبة السلطنة بذلك، وطمع اللصوص والعيّارون، وكثرت الفتن وكُبست دور التجار، وأُخذت بنات الناس في الطريق المنقطعة، وكثر المفسدون.
ذكر إرسال المهديّ العلويّ العساكر إلى مصر
وفي هذه السنة جهّز المهديُّ صاحب إفريقية جيشاً كثيفاً مع ابنه أبي القاسم، وسيّرهم إلى مصر، وهي المرّة الثانية، فوصل إلى الإِسكندريّة في ربيع الآخر سنة سبع وثلاثمائة، فخرج عامل المقتدر عنها، ودخلها القائم، ورحل إلى مصر، فدخل الجيزة، وملك الأشمونين وكثيراً من الصعيد، وكتب إلى أهل مكّة يدعوهم إلى الدخول في طاعته فلم يقبلوا منه.
ووردت بذلك الأخبار إلى بغداد، فبعث المقتدر بالله مؤنساً الخادم في شعبان، وجدّ في السير فوصل إلى مصر، وكان بينه وبين القائم عدّة وقعات، ووصل من إفريقية ثمانون مركباً نجدةً للقائم، فأرست بالإِسكندريّة، وعليها سليمان الخادم، ويعقوب الكُتاميُّ، وكانا شجاعين، فأمر المقتدر بالله أنّ يسيّر مراكب طَرَسُوس إليهم، فسار خمسة وعشرون مركباً، وفيها النفط والعُدد، ومقدّمها أبو اليمن، فالتقت المراكب بالمراكب، واقتتلوا على رشيد، فظفر أصحاب مراكب المقتدر، وأحرقوا كثيراً من مراكب إفريقية، وهلك أكثر أهلها، وأُسر منهم كثير، وفي الأسرى سليمان الخادم، ويعقوب، فقُتل من الأسرى كثير، وأُطلق كثير، ومات سليمان في الحبس بمصر، وحُمل يعقوب إلى بغداد، ثمّ هرب منها وعاد إلى أفريقية.
وأمّا عسكر القائم فكان بينه وبين مؤنس وقعات كثيرة، وكان الظفر لمؤنس فلُقّب حينئذ بالمظفَّر.
ووقع الوباء في عسكر القائم، والغلاء، فمات منهم كثير من الناس والخيل، فعاد من سلم إلى إفريقية. وسار عسكر مصر في أثرهم، حتّى أبعدوا، فوصل القائم إلى المهديّة في رجب من السنة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة غزا بشر الأفشينيُّ بلاد الروم، فافتتح عدّة حصون، وغنم، وسلم؛ وغزا ثمل في بحر الروم، فغنم، وسبى، وعاد؛ وكان على الموصل أبو أحمد بن حماد الموصليُّ.
وفيها دخل جنّيّ الصفوانيُّ بلاد الروم، فنهب، وخرّب، وأحرق، وفتح وعاد، فقرئت الكتب على المنابر ببغداد بذلك.
وفيها وقعت فتنة ببغداد بين العامّة والحنابلة، فأخذ الخليفة جماعة منهم وسيّرهم إلى البصرة فحُبسوا.
وفيها أمر المقتدر ببناء بيمارستان، فبُني، وأُجري عليه النفقات الكثيرة، وكان يسمّى البيمارستان المقتدريّ.
وفيها توفّي القاضي محمّد بن خلف بن حيّان أبو بكر الضَّبّيُّ المعروف بوكيع، وكان عالماً بأخبار الناس وغيرها، وله تصانيف حسنة؛ والقاضي أبو العبّاس أحمد بن عمر بن سريج الفقيه الشافعيُّ وله سبع وخمسون سنة.
وفيها مات كُنَيْز المغنّي، وهو مشهور بالحذق في الغناء. كُنيز بضمّ الكاف وفتح النون وآخرها زاي.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثمائةفي هذه السنة ضمن حامد بن العبّاس أعمال الخراج، والضياع الخاصّة، والعامّة، والمستحدثة، والفراتيّة بسواد بغداد، والكوفة، وواسط، والبصرة، والأهواز، وأصبهان.

وسبب ذلك أنّه لمّا رأى أنّه قد تعطّل عن الأمر والنهب وتفرّد به عليُّ ابن عيسى شرع في هذا ليصير له حديث وأمر ونهي، واستأذن المقتدر في الانحدار إلى واسط ليدبّر أمر ضمانه الأوّل، فأذن له في ذلك، فانحدر إليها واسم الوزارة عليه، وعليُّ بن عيسى يدبّر الأمور، وأظهر حامد زيادة ظاهرة في الأموال، وزاد زيادة متوفّرة، فسُرّ المقتدر بذلك، وبسط يد حامد في الأعمال، حتّى خافه عليُّ بن عيسى.
ثمّ إنّ السعر تحرّك ببغداد، فثارت العامّة والخاصّة لذلك، واستغاثوا، وكسروا المنابر، وكان حامد يخزن الغلال، وكذلك غيره من القوّاد، ونُهبت عدّة من دكاكين الدقّاقين، فأمر المقتدر بإحضار حامد بن العبّاس، فحضر من الأهواز، فعاد الناس إلى شغبهم، فأنفذ حامد لمنعهم، فقاتلوهم، وأحرقوا الجسرين، وأخرجوا المحبَّسين من السجون، ونهبوا دار صاحب الشُّرطة، ولم يتركوا له شيئاً، فأنفذ المقتدر جيشاً مع غريب الخال، فقاتل العامّة، فهربوا من بين يديه، ودخلوا الجامع بباب الطاق، فوكّل بأبواب الجامع، وأخذ كلّ من فيه فحبسهم، وضرب بعضهم،، وقطع أيدي من يُعرف بالفساد.
ثمّ أمر المقتدرُ من الغد، فنودي في الناس بالأمان، فسكنت الفتنة، ثمّ إنّ حامداً ركب إلى دار المقتدر في الطيّار، فرجمه العامّة، ثمّ أمر المقتدرُ بتسكينهم فسكنوا، وأمر المقتدرُ بفتح مخازن الحنطة والشعير التي لحامد، ولأمّ المقتدر، وغيرهما، وبيع ما فيها، فرخصت الأسعار، وسكن الناس، فقال عليُّ بن عيسى للمقتدر: إنّ سبب غلاء الأسعار إنما هو ضمان حامد لأنّه منع من بيع الغلال في البيادر وخزنها، فأمر بفسخ الضمان عن حامد، وصرف عُمّاله عن السواد، وأمر عليَّ بن عيسى أن يتولّى ذلك، فسكن الناس واطمأنّوا؛ وكان أصحاب حامد يقولون إنّ ذلك الشغب كان بوضع من عليّ بن عيسى.
ذكر أمر أحمد بن سهلفي هذه السنة ظفر الأمير نصر بن أحمد صاحب خراسان وما وراء النهر بأحمد بن سهل، ونحن نذكر حاله من أوّله.
كان أحمد بن سهل هذا من كبار قوّاد الأمير إسماعيل بن أحمد، وولده أحمد بن إسماعيل، وولده نصر بن أحمد، وقد تقدّم من ذكر تقدُّمه على الجيوش في الحروب ما يدلّ على علوّ منزلته.
وهو أحمد بن سهل بن هاشم بن الوليد بن جبَلة بن كامكار بن يزدجرد ابن شهريار الملك، وكان كامكار دهقاناً بنواحي مرو، وإليه يُنسب الورد الكامكاريُّ، وهو الشديد الحمرة، وهو الذي يسمّى بالرَّيّ القصرانيّ، وبالعراق والجزيرة والشام الجُوريّ، يُنسب إلى قصران، وهي قرية بالرَّيّ، وإلى مدينة جور، وهي من مدن فارس.
وكان لأحمد إخوة يقال لهم محمّد، والفضل، والحسين، قُتلوا في عصبية العرب والعجم بمَرو، وكان أحمد خليفة عمرو بن الليث على مَرو، فقبض عليه عمرو، ونقله إلى سِجِسْتان، فحبسه بها، فرأى وهو في السجن كأنّ يوسف النبيّ، عليه السلام، على باب السجن، فقال له: ادعُ الله أن يخلّصني ويولّيني ! فقال له: قد أذن الله في خلاصك، لكنّك لا تلي عملاً برأسك.
ثمّ إنّ أحمد طلب الحمّام فأُدخل إليه، فأخذ النورة فطلى بها رأسه ولحيته فسقط شعره، وخرج من الحمّام ولم يعرفه أحد، فاختفى، فطلبه عمرو فلم يظفر به، ثمّ خرج من سِجِسْتان نحو مرو، فقبض على خليفة عمرو واستولى عليها، واستأمن إلى إسماعيل بن أحمد بخارى، فأكرمه، وقدّمه، ورفع قدره، وكان عاقلاً كتوماً لأسراره.
فلمّا عصى الحسين بن عليّ سيّر إليه أحمد، فظفر به على ما ذكرناه، وضمن له الأمير نصر أشياء لم يفِ له بها، فاستوحش من ذلك، فأتاه يوماً بعض أصحاب أبي جعفر صعلوك، فحادثه، فأنشده أحمد بن سهل، وقد ذكر حاله، وأنّهم لم يفوا له بما وعدوه:
ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتَني ... يميَنك، فانظر أيّ كفّيْك تُبدلُ
وفي الناس أن رثّت حبالُك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار العُلى متحوَّلُ
إذا أنت لم تُنصفْ أخاك وجدتَه ... على طرَف الهِجران إن كان يعقِلُ
وتركبُ حدّ السيفِ من أن تُضيمَه ... إذا لم يكن عن شَفرَةِ السيفِ مرحلُ
إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تكدْ ... إليه بوجهٍ، آخرَ الدهرِ، تُقُبِلُ

قال: فعلمت أنّه قد أضمر المخالفة، فلم تمض إلا أيّام حتّى خالفه بنَيسابور واستولى عليها وأسقط خطبة السعيد نصر بن أحمد، وأنفذ رسولاً إلى بغداد يخطب له أعمال خُراسان.
وسار من نَيسابور إلى جُرجان وبها قراتكين، فحاربه، واستولى عليها، وأخرج قراتكين عنها، ثمّ عاد إلى خُراسان، وقصد مرو فاستولى عليها، وبنى عليها سوراً وتحصّن بها، فأرسل إليه السعيد نصر الجيوش مع حموية بن عليّ من بخارى، فوافى مرو الرُّوذ، فأقام بنواحيها ليخرج إليه أحمد بن سهل منها، فلم يفعل.
ودخل بعض أصحاب أحمد عليه يوماً، وهو يفكر بعد نزول حموية عليه، فقال له صاحبه: لا شكّ أنّ الأمير مشغول القلب لهذا الخطب، فما هو رأي الأمير ؟ فقال: ليس بي ما تظنّ، ولكن ذكرتُ رؤيا رأيتُها في حبس سِجِسْتان، وذكر قول يوسف الصِّدِّيق، عليه السلام: إنّك لا تلي عملاً برأسك. قال: فقلت له: إنّ القوم يغتنمون سلمك، ويعطونك ما تريد، فإن رأيت أن يتوسّط الحال فعلنا؛ فأنشد:
سأغسلُ عنّي العارَ بالسيفِ جالباً ... عليَّ قضاءُ الله ما كانَ جالبا
ولّما رأى حموية أنّه لا يخرج إليه من مرو عمل الحيلة في ذلك، فجعل يقول: قد أدخلتُ ابن سهل في جحر فأرٍ، وسددتُ عليه وجوه الفرار؛ وأشباه هذا من الكلام ليغضب أحمد فيخرج، فلم يفعل ذلك، فحينئذ أمر حموية جماعة من ثقات قوّاده، فكاتبوا أحمد بن سهل سرّاً، وأظهروا له الميل، ودعوه إلى الخروج من مَرْو ليسلّموا إليه حموية، فأجابهم إلى ذلك، لما في نفسه من الغيظ على حموية، فخرج عن مَرْو نحو حموية، فالتقوا على مرحلة من مرو الرُّوذ في رجب سنة سبع وثلاثمائة، فانهزم أصحاب أحمد، وحارب هو إلى أن عجزت دابّته، فنزل عنها واستأمن، فأخذوه أسيراً، وأنفذوه إلى بخارى، فمات بها في الحبس في ذي الحجّة من سنة سبع وثلاثمائة.
وكان الأمير احمد بن إسماعيل بن أحمد يقول: لا ينبغي لأحمد بن سهل أن يغيب عن باب السلطان، فإنّه أن غاب عنه أثار شغلاً عظيماً، كأنّه كان يتوسّم فيه ما فعل، فهكذا ينبغي أن تكون فراسة الملك.
ذكر عدّة حوادث
في هذه السنة وقع حريق بالكرخ من بغداد، فاحترق فيه كثير من الدور والناس.
وفيها قُلّد إبراهيم بن حمدان ديار ربيعة، وقُلّد بنّيّ بن نفسي شهرزور، فامتنعت عليه، فاستمدّ المقتدر، فسيّر إليه جيشاً، فحصرها ولم يفتحها، وقُلّد القتال بالموصل وأعمالها.
وفيها أوقع ثمل متولِّي الغزو في البحر بمراكب للمهديّ العلويّ، صاحب إفريقية، وقتل جماعة ممّن فيها، وأسر خادماً له.
وفيها انقضّ كوكب عظيم فاشتدّ ضوءُه وعظم، وتفرّق ثلاث فرق، وسمع عند انقضاضه مثل صوت الرعد الشديد، ولم يكن في السماء غيم.
وفيها كانت فتنة بالموصل بين أصحاب الطعام وبين الأساكفة، واحترق سوق الأساكفة وما فيه، وكان الوالي على الموصل وأعمالها العبّاس بن محمّد بن إسحاق بن كنداج، وكان خارجاً عن البلد، فسمع بالفتنة، فرجع ليوقع بأهل الموصل، فعزموا على قتاله، وحصنوا البلد، وسدّوا الدروب، فلمّا علم بذلك ترك قتالهم، وأمر الأعراب بتخريب الأعمال، فصاروا يقطعون الطريق على الجسر وفي الميدان، ويقاسمونه، فخرب البلد، فبلغ الخبر إلى الخليفة، فعزله سنة ثمان وثلاثمائة، واستعمل بعده عبدالله بن محمّد الفتّان، وكان عفيفاً، صارماً، كفّ الأعراب عن البلد.
وفيها توفّي أبو يعلى أحمد بن عليّ بن المُثنّى الموصليُّ، صاحب المسند بها.
ثم دخلت سنة ثمان وثلاثمائةفي هذه السنة خلع المقتدر على أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، وقُلّد طريق خُراسان والدِّيَنور، وخلع على أخويه أبي العلاء وأبي السرايا.
وفيها وصل رسول أخي صعلوك بالمال، والهدايا، والتُّحف، ويخبر باستمراره على الطاعة للمقتدر بالله.
وفيها توفّي إبراهيم بن حَمدان في المحرم.
وفيها قُلّد بدر الشرابيُّ دقوقا، وعُكْبَرا، وطريق الموصل.
وفيها توفّي إبراهيم بن محمّد بن سفيان صاحب مسلم بن الحجّاج، ومن طريقه يُروى صحيح مسلم إلى اليوم.
ثم دخلت سنة تسع وثلاثمائةذكر قتل ليلى بن النُّعمان الديلميّ

في هذه السنة قُتل ليلى بن النُّعمان الديلميُّ، وكان ليلى هذا أحد قوّاد أولاد الأُطروش العلويّ، وكان إليه ولاية جُرجان، وكان قد استعمله عليها الحسن ابن القاسم الداعي سنة ثمان وثلاثمائة، وكان أولاد الأُطروش يكاتبونه: المؤيِّد لدين الله المنتصر لآل رسول الله، صلى الله علية وسلم، ليلى بن النُّعمان؛ وكان كريماً، بذّالاً للأموال، شجاعاً، مقداماً على الأهوال.
وسار من جُرجان إلى الدَّامغان، فحاربه أهلها، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وعاد إلى جُرجان، فابتنى أهل الدَّامغان حصناً يَحميهم، وسار قراتكين إليه بجُرجان، فحاربه على نحو عشرة فراسخ من جُرجان، فانهزم قراتكين، واستأمن غلامه بارس إلى ليلى ومعه ألف فارس، فأكرمه ليلى، وزوّجه أخته، واستأمن إليه أبو القاسم بن حفص ابن أخت أحمد بن سهل، فأكرمه ليلى.
ثمّ إنّ الأجناد كثروا على ليلى بن النعمان، فضاقت الأموال عليه، فسار نحو نَيسابور بأمر الحسن بن القاسم الداعي، وتحريض أبي القاسم بن حفص، وكان بها قراتكين، فوردها في ذي الحجّة سنة ثمان وثلاثمائة، وأقام بها الخطبة للداعي، وأنفذ السعيد نصر من بخارى إليه حموية بن عليّ، فالتقوا بطوس، واقتتلوا، فانهزم أكثر أصحاب حموية بن عليّ حتّى بلغوا مَرْو، وثبت حموية، ومحمّد بن عبدالله البلغميُّ، وأبو جعفر صعلوك، وخوارزم شاه، وسيمجور الدواتيُّ فاقتتلوا، فانهزم بعض أصحاب ليلى، ومضى ليلى منهزماً، فدخل ليلى سكّة لم يكن له فيها مخرج، ولحقه بغرا فيها، فلم يقدر ليلى على الهرب، فنزل وتوارى في دار، فقبض عليه بغرا، وأنفذ إلى حمويه فأعلمه بذلك، فأنفذ من قطع رأس ليلى، ونصبه على رمح، فلمّا رآه أصحابه طلبوا الأمان فأُمّنُوا.
ثمّ قال حموية للجند: قد مكّنكم الله من شياطين الجيل والدَّيلم، فأبيدوهم واستريحوا منهم أبد الدهر؛ فلم يفعلوا، وحامى كلّ قائد جماعة، فخرج منهم من خرج بعد ذلك، وكان قتل ليلى في ربيع الأوّل سنة تسع وثلاثمائة، وحُمل رأسه إلى بغداد، وبقي بارس غلام قراتكين بجرجان.
وقيل إنّ حموية لمّا سار إلى قتال ليلى قيل له: أنّ ليلى يستبطئك في قصده، فقال: إنّي البس أحدَ خُفَّيّ للحرب العامَ، والآخر في العام المقبل؛ فبلغ قوله ليلى، فقال: لكنّي ألبس أحد خُفّيّ للحرب قاعداً، والثاني قائماً وراكباً، فلمّا قُتل قال حموية: هكذا مَن تعجّل إلى الحرب.
ذكر قتل الحسين الحلاّج
في هذه السنة قُتل الحسين بن منصور الحلاّج الصوفيُّ وأُحرق، وكان ابتداء حاله أنّه كان يُظهر الزهد والتصوّف، ويُظهر الكرامات، ويخرج للناس فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمدّ يده إلى الهواء فيعيدها مملوءة دراهم عليها مكتوب: (قل هو الله أحد)، ويسمّيها دراهم القدرة، ويخبر الناس بما أكلوه، وما صنعوه في بيوتهم، ويتكلّم بما في ضمائرهم، فافتتن به خلق كثير واعتقدوا فيه الحلول، وبالجملة فإنّ الناس اختلفوا فيه اختلافهم في المسيح، عليه السلام، فَمِنْ قائل أنّه حلّ فيه جزء ألهيّ، ويدّعي فيه الربوبيّة، ومِن قائل أنّه وليّ الله تعالى، وإنّ الذي يظهر منه من جملة كرامات الصالحين، ومِن قائل إنّه مشعبذ، وممَخرق، وساحر كذّاب، ومتكهّن، والجنّ تطيعه فتأتيه بالفاكهة في غير أوانها.
وكان قدم من خُراسان إلى العراق وسار إلى مكّة فأقام بها سنة في الحجر لا يستظلّ تحت سقف شتاءً ولا صيفاً، وكان يصوم الدهر، فإذا جاء العشاء أحضر له القوّام كوز ماء، وقرصاً، فيشربه، وبعض من القرص ثلاث عضّات من جوانبه، فيأكلها ويترك الباقي فيأخذونه، ولا يأكل شيئاً آخر إلى الغد آخر النهار.
وكان شيخ الصوفيّة يومئذ بمكّة عبدالله المغربيّ، فأخذ أصحابه ومشى إلى زيارة الحلاّج، فلم يجده في الحجر، وقيل له: قد صعد إلى جبل أبي قُبَيس؛ فصعد إليه، فرآه على صخرة حافياً، مكشوف الرأس، والعرق يجري منه إلى الأرض، فأخذ أصحابه وعاد ولم يكلّمه، فقال: هذا يتصبّر ويتقوّى على قضاء الله، سوف يبتليه الله بما يعجز عنه صبره وقدرته؛ وعاد الحسين إلى بغداد.

وأمّا سبب قتله فإنّه نُقل عنه عند عوده إلى بغداد إلى الوزير حامد ابن العبّاس أنّه أحيا جماعة، وأنّه يحيي الموتى، وأنّ الجنّ يخدمونه، وأنّهم يُحضرون عنده ما يشتهي، وأنّه قد موّه على جماعة من حواشي الخليفة، وأنّ نصراً الحاجب قد مال إليه وغيره، فالتمس حامد الوزير من المقتدر بالله أن يسلّم إليه الحلاّج وأصحابه، فدفع عنه نصر الحاجب، فألحّ الوزير، فأمر المقتدر بتسليمه إليه، فأخذه، وأُخذ معه إنسان يُعرف بالشمريّ، وغيره، قيل إنّهم يعتقدون أنّه إلهٌ، فقرّرهم، فاعترفوا أنّهم قد صحّ عندهم أنّه إلهٌ، وأنّه يحيي الموتى، وقابلوا الحلاّج على ذلك، فأنكره وقال: أعوذ بالله أن ادّعي الربوبيّة، أبو النّبّوة، وإنّما أنا رجل أعبد الله، عزّ وجلّ! فأحضر حامد القاضي أبا عمرو والقاضي أبا جعفر بن البهلول، وجماعة من وجوه الفقهاء والشهود، فاستفتاهم، فقالوا: لا يفتى في أمره بشيء، إلاّ أن يصحّ عندنا ما يوجب قتله، ولا يجوز قبول قول مَن يدّعي عليه ما ادعاه إلا ببيّنة إقرار.
وكان حامد يخرج الحلاّج إلى مجلسه، ويستنطقه، فلا يظهر منه ما تكرهه الشريعة المطهرة.
وطال الأمر على ذلك وحامد الوزير مجدّ في أمره، وجرى له معه قصص يطول شرحها، وفي آخرها أنّ الوزير رأى له كتاباً حكى فيه أنّ الإنسان إذا أراد الحجّ، ولم يمكنه، أفرد من داره بيتاً لا يلحقه شيء من النجاسات، ولا يدخله أحد، فإذا حضرت أيّام الحجّ طاف حوله، وفعل ما يفعله الحاجّ بمكّة، ثمّ يجمع ثلاثين يتيماً، ويعمل أجود طَعامٍ يمكنه، ويُطعمُهُم في ذلك البيت، ويَخدُمهم بنفسه، فإذا فرغوا كساهم، وأعطى كلّ واحد منهم سبعة دراهم، فإذا فعل ذلك كان كمَنْ حجّ.
فلمّا قرئ هذا على الوزير قال القاضي أبو عمرو للحلاّج: من أين لك هذا ؟ قال: من كتاب الإخلاص للحسن البصريّ؛ قال له القاضي: كذبتَ يا حلالَ الدم ! قد سمعناه بمكّة وليس فيه هذا؛ فلمّا قال له: يا حَلالَ الدمِ، وسمعها الوزير قال له: اكتب بهذا؛ فدافعه أبو عمرو، فألزمه حامد، فكتب بإباحة دمه، وكتب بعده من حضر المجلس.
ولّما سمع الحلاّج ذلك قال: ما يحلّ لكم دمي واعتقادي الإسلام ومذهبي السُّنّة، ولي فيها كتب موجودة، فالله الله في دمي ! وتفرّق الناس.
وكتب الوزير إلى الخليفة يستأذنه في قتله، وأرسل الفتاوى إليه، فأذن في قتله، فسلّمه الوزير إلى صاحب الشّرطة، فضربه ألف سوط فما تأوّه، ثمّ قطع يده، ثم رجله، ثم يده، ثمّ رجله، ثمّ قُتل وأُحرق بالنار، فلمّا صار رماداً أُلقي في دجلة، ونصب الرأس ببغداد، وأُرسل إلى خُراسان لأنّه كان له بها أصحاب، فأقبل بعض أصحابه يقولون: إنّه لم يُقتل، وإنّما أُلقي شبه على دابّة، وإنّه يجيء بعد أربعين يوماً؛ وبعضهم يقول: لقيتُه على حمار بطريق النَّهروان، وإنّه قال لهم: لا تكونوا مثل هؤلاء البقر الذي يظنّون أنّي ضُربت وقُتلتُ.
ذكر عدّة حوادث
وفيها، في ربيع الأوّل، وقع حريق كبير في الكرخ، فاحترق فيه بشر كثير.
وفيها استعمل المقتدر على حرب الموصل ومعونتها محمّد بن نصر الحاجب، في جُمادى الأولى، وسار إلها فيه، فلمّا وصل إليها أوقع بمن خالفه من الأكراد المارانيّة، فقتل، وأسر، وأرسل إلى بغداد نيّفاً وثمانين أسيراً، فشُهروا.
وفيها قُلّد داود بن حمدان ديار ربيعة.
وفيها توفّي أبو العبّاس أحمد بن محمّد بن سهل بن عطاء الآدميُّ الصوفيُّ من كبار مشايخهم وعُمائهم، وأبو إسحاق إبراهيم بن هارون الحرّانيُّ الطبيب، وأبو محمّد عبدالله بن حمدون النديم.
ثم دخلت سنة عشر وثلاثمائة

ذكر حرب سيمجور
مع أبي الحسين بن العلوي
ّ
قد ذكرنا قتل ليلى بن النُّعمان، وأنّ جُرجان تخلّف بها بارس غلام قراتكين، فلمّا قُتل ليلى بن النُّعمان عاد قراتكين إلى جُرجان، فاستأمن إليه غلامه ارس، فقتله قراتكين، وانصرف عن جُرجان، وقدمها أبو الحسين ابن الحسن بن عليّ الأُطروش العلويّ، الملقّب والده بالناصر، وأقام بها، فأنفذ إليه السعيد نصر بن أحمد سيمجورَ الدواتيَّ في أربعة آلاف فارس، فنزل على فرسخين من جُرجان، وحاصر أبا الحسين نحو شهر من هذه السنة.

وخرج إليه أبو الحسين في ثمانية آلاف رجل من الدَّيلم، والجُرجانيّة، وصاحب جيشه سُرخاب بن وهسوذان ابن عمّ ما كان بن كالي الديلميّ، فتحاربا حرباً عظيمة، وكان سيمجور قد جعل كميناً من أصحابه، فأبطأوا عنه، فانهزم سيمجور، ووقع أصحاب أبي الحسين في عسكر سيمجور، واشتغلوا بالنهب والغارة، فخرج عليهم الكمين بعد الظفر، فقتلوا من الديلم والجُرجانيّة نحو أربعة آلاف رجل، وانهزم أبو الحسين، وركب في البحر ثمّ عاد إلى أسّتراباذ، واجتمع إليه فلّ أصحابه.
وكان سُرخاب قد تبع سيمجور في هزيمته، فلمّا عاد رأى أصحابه مقتّلين مشرّدين، فسار إلى استراباذ، واستصحب معه عيال أصحابه ومخلّفيهم، وأقام بها مع أبي الحسين بن الناصر، ثم سمع سيمجور بظفر أصحابه، فعاد إليهم، وأقام بجرجان، ثمّ اعتلّ سُرخاب ومات، ورجع ابن الناصر إلى سارية، واستخلف ما كانَ بن كالي على استراباذ، فاجتمع إليه الديلم، وقدّموه، وأمّروه على أنفسهم.
ثمّ سار محمّد بن عبيد الله البلغميُّ وسيمجور إلى باب استراباذ، وحاربوا ما كان بن كالي، فلمّا طال مقامهم اتّفقوا معه على أن يخرج عن استراباذ إلى سارية، وبذلوا له على هذا مالاً ليظهر للناس أنّهم قد افتتحوها، ثمّ ينصرفون عنها ويعود إليها، ففعل وسار إلى سارية، ثمّ رحلوا عن استراباذ إلى جُرجان، ثمّ إلى نَيسابور، وجعلوا بُغرا باستراباذ، فلمّا ساروا عنها عاد إليها ما كان بن إلى، ففارقها بغرا أليلأ جُرجان، وأساء السيرة في أهلها، وخرج إليه ما كان، فرجع بُغرا إلى نَيسابور، وأقام ما كان بجرجان؛ ونحن نذكر ابتداء حال ما كان، وننقلها عند قتله سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ذكر خروج إلياس بن إسحاق بن أحمد بن أسد السامانيّ
ثمّ خرج إلياس بن إسحاق بن أحمد، المقدَّم ذكره أنّه خرج مع أبيه، وانهزم إلى فرغانة، فلمّا بلغ فرغانة أقام بها إلى أن خرج ثانياً، واستعان عند خروجه بمحمّد بن الحسين بن متّ، وجمع من الترك، فاجتمع معه ثلاثون ألف عنان، فقصد سَمَرْقَنْد مشاقّاً للسعيد نصر بن أحمد، فسيّر إليه نصر أبا عمرو محمّد بن أسد وغيره في ألفين وخمسمائة رجل، فكمنوا خارج سَمَرْقَنْد يوم ورود إلياس، فلمّا وردها، واشتغل هو ومَن معه بالنزول، خرج الكمين عليه من بين الشجر، ووضعوا السيوف فيهم، فانهزم إلياس وأصحابه، فوصل إلياس إلى فرغانة، ووصل ابن متّ إلى اسبيجاب، ومنها إلى ناحية طراز، فكوتب دهقان الناحية التي نزلها، وأُطمع، وقَبض عليه، وقتلهن وأنفذ رأسه إلى بخارى.
وكان ابن متّ شجاعاً، وكان قد سخّر جمالاً عند خروجه، فجاء أصحابه يطلبونها منه، فقال: سأردّها عليكم ببغداد، يعني أنّه لا يردّ شيئاً من بغداد، ثقةً بكثرة جمعه وقوّته، فجاءت الأقدار بما لم يكن في الحسا.
ثمّ عاد إلياس فخرج مرّة ثالثة، وأعانه أبو الفضل بن أبي يوسف، صاحب الشاش، فسيّر إليه محمّد بن ألِيسَع، فحاربهم، فانهزم إلياس إلى كاشْغَر، وأُسر أبو الفضل، وحُمل إلى بخارى فمات بها.
وأمّا إلياس فصاهر دهقان كاشْغَر طغانتكين، واستقرّ بها، ثمّ وليَ محمّد بن المظفَّر فرغانة، فرجع إليها إلياس بن إسحاق معانداً، فحاربه محمّد ابن المظفَّر، فهزمه مرّة أخرى، فعاد إلى كاشغر، فكاتبه محمّد بن المظفّر، واستماله، ولطف به، فأمن إلياس إليهن وحضره إلى بخارى، فأكرمه السعيد، وصاهره، وأقام معه.
ذكر وفاة محمّد بن جرير الطبريّ
وفي هذه السنة توفّي محمّد بن جرير الطبريُّ، صاحب التاريخ، ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ودفن ليلاً بداره، لأنّ العامّة اجتمعت، ومنعت من دفنه نهاراً، وادعو عليه الرفض، ثمّ ادعوا عليه الإلحاد؛ وكان عليٌّ بن عيسى يقولك والله لو سُئِل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه، ولا فهموه، وهكذا ذكره ابن مِسكويه صاحب تجارب الأمم، وحُوشي ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء.
وأمّا ما ذكره عن تعصّب العامّة، فليس الأمر كذلك، وأنّما بعض الحنابلة تعصّبوا عليه، ووقعوا فيه، فتبعهم غيرهم، ولذلك سبَب، وهو أنّ الطبريّ جمع كتاباً ذكر فيه اختلاف الفقهاء، لم يصنف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حَنبَل، فقيل له في ذلك، فقال: لم يكن فقيهاً، وإنّما كان محدّثاً، فاشتدّ ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، فشغبوا عليه، وقالوا ما أرادوا:

حَسدوا الفَتى إذ لم ينالوا سَعيّة ... فالناسُ أعداءٌ له وخُصومُ
كضرائرِ الحَسناءِ قُلنَ لِوَجهِها ... حسَداً وبَغياً إنّه لَدَمِيمُ
وقد ذكرت شيئاً من كلام الأئمّة في أبي جعفر يُعلم منه محلّه في العلم، والثقة، وحسن الاعتقاد، فمن ذلك ما قاله الإمام أبو بكر الخطيب، بعد أن ذكر مَن روى الطبريُّ عنه، ومَن روى عن الطبريّ، فقال: وكان أحد أئمّة العلماء يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظاً لكتاب الله، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالمعاني، فقيهاً في أحكام القرآن، عالماً بالسن وطرقها، صحيحها وسقيمها، ناسخها ومنسوخها، عارفاً بأقاويل الصحابة والتابعين، ومَن بعدّهم في الأحكام، ومسائل الحلال والحرام، خبيراً بأيّام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، والكتاب الذي في التفسير لم يصنّف مثله، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة، وأخبار من أقاويل الفقهاء؛ وتفرّد بمسائل حُفظتْ عنه.
وقال أبو أحمد الحسين بن عليّ بن محمّد الرازيُّ: أوّل ما سألني الإمام أبو بكر بن خُزَيمة قال لي: كتبتَ عن محمّد بن جرير الطبريّ ؟ قلتُ: لا ! قال: لِمَ ؟ قلتك لا يظهر، وكانت الحنابلة تمنع من الدخول عليه؛ فقال: بئس ما فعلت ! ليتك لم تكتب عن كلّ مَن كتبت عنه؛ وسمعت عن أبي جعفر، وقال حسين: واسمه الحسين بن عليّ التميميُّ، عن ابن خُزَيمة نحو ما تقدم.
وقال ابن خُزيمة حين طالع كتاب التفسير للطبريّ: ما أعلم على أديم الأرض أعلم من أبي جعفر، ولقد ظلمتْه الحنابلة.
وقال أبو محمّد عبدالله بن أحمد الفرغانيُّ، بعد أن ذكر تصانيفه: وكان أبو جعفر ممّن لا يأخذه في الله لومة لائم، ولا يعدل، في علمه وتبيانه، عن حقّ يلزمه لربّه للمسلمين، إلى باطل لرغبة ولا رهبة، مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل، وحاسد، وملحد.
وأمّا أهل الدين والورع فغير منكرين علمه، وفضله، وزهده، وتركه الدنيا مع إقبالها عليه، وقناعته بما كان يرد عليه من قرية خلّفها له أبوه بطبرستان يسيرة؛ ومناقبه كثيرة لا يحتمل ها هنا أكثر من هذا.
ذكر عدة حوادثفيها أطلق المقتدر يوسفَ بن أبي الساج من الحبس بشفاعة مؤنس الخادم وحُمل إليه، ودخل إلى المقتدر، وخلع عليه، ثمّ عقد له على الرّيّ، وقَزوين، وأبهر، وزنجان، وأذربيجان، وقرّر عليه خمسمائة ألف دينار محمولة كلّ سنة إلى بيت المال سوى أرزاق العساكر الذين بهذه البلاد.
وخلع في هذا اليوم على وصيف البكتمريّ، وعلى طاهر ويعقوب ابنَيْ محمّد بن عمرو بن الليث.
وتجهّز يوسف، وضمّ إليه المقتدرُ بالله العساكر مع وصيف البكتمريّ، وسار عن بغداد في جمادى الآخرة إلى أذربيجان، وأمر أن يجعل طريقه على الموصل، وينظر في أمر ديار ربيعة، فقدم إلى الموصل، ونظر في الأعمال، وسار إلى أذربيجان، فرأى غلامه سُبُكاً قد مات.
وفيها قُلّد نازوك الشُّرطة ببغداد.
وفيها وصلت هدية إلى أبي زبور الحسين بن أحمد الماذرائي من مصر وفيها بغلة، ومعها فِلْوٌ يتبعها، ويرضع منها، وغلام طويل اللسان، ويلحق لسانه أرنبة أنفه.
وفيها قبض المقتدر على أمّ موسى القهرمانة، وكان سبب ذلك أنّها زوّجت ابنة أختها من أبي العبّاس أحمد بن محمّد بن إسحاق بن المتوكّل على الله، وكان محسناً، له نعمة ظاهرة، ومروءة حسنة، وكان يرشّح للخلافة، فلمّا صاهرتْه أكثرت من النثار والدعوات، وخسّرت أموالاً جليلة، فتكلّم أعداؤها، وسعوا بها إلى المقتدر، وقالوا إنّها قد سعت لأبي العبّاس في الخلافة، وحلّفت له القوّاد؛ وكثر القول عليها، فقبض عليها، وأخذ منها أموالاً عظيمة وجواهر نفيسة. وفيها غزا المسلمون في البرّ والبحر، فغنموا وسلموا.
وفيها كان بالموصل شغب من العامّة، وقتلوا خليفة محمّد بن نصر الحاجب بها، فتجهّز العسكر من بغداد إلى الموصل.
وفيها، في جُمادى الآخرة، انقضّ كوكب عظيم له ذنب في المشرق في برج السنبلة، طوله نحو ذراعَينْ.
وفيها سار محمّد بن نصر الحاجب من الموصل إلى الغزاة على قَالِيقَلا، فغزا الروم من تلك الناحية، ودخل أهل طَرَسُوس ملَطْية، فظفروا، وبلغوا من بلاد الروم والظفر بهم ما لم يظنّوه وعادوا.

وفيها توفّي أبو عبد الله محمّد بن العبّاس بن محمّد بن أبي محمّد اليزيديُّ الأديب، أخذ العلم عن ثعلب والرياشيّ. وحج بالناس هذه السنة إسحاق عبد الملك الهاشمي.
ثم دخلت سنة إحدى عشرة وثلاثمائة

ذكر عزل حامد وولاية ابن الفرات
في هذه السنة، في ربيع الآخر، عزل المقتدرُ حامدَ بن العبّاس عن الوزارة، وعليَّ بن عيسى عن الدواوين، وخلع على أبي الحسين بن الفرات، وأعيد إلى الوزارة.
وكان سبب ذلك أن المقتدر ضجر من استغاثة الأولاد، والحُرَم، والخدم والحاشية من تأخير أرزاقهم، فإنّ عليّ بن عيسى كان يؤخّرها، فإذا اجتمع عدّة شهور أعطاهم البعض، وأسقط البعض، وحطّ من أرزاق العمّال في كلّ سنة شهرَيْن، وغيرهم ممّن له رزق، فزادت عداوة الناس له.
وكان حامد بن العبّاس قد ضجر من المُقام ببغداد، وليس إليه من الأمر شيء غير لبس السواد، وأنف من طّراح عليّ بن عيسى بجانبه، فإنّه كان يُهينه في توقيعاته بالإطلاق عليه لضامنه بعض الأعمال، وكان يكتب: ليطلق جهبذ الوزير أعزّه الله، وليبادر نائب الوزير.
وكان إذا شكا إليه بعض نوّاب حامد يكتب على القصّة: إنّما عقد الضمان، على النائب الوزيريّ، عن الحقوق الواجبة السلطانيّة، فليتقدّم إلى عمّاله بكفّ الظلم عن الرعيّة. فاستأذن حامد، وسار إلى واسط لينظر في ضمانه، فأذن له، وجرى بين مفلح الأسود وبين حامد كلام، قال له حامد: لقد هممتُ أن أشتري مائة خادم أسود، وأسمّيهم مُفلحاً، وأهبهم لغلماني؛ فحقده مُفلح، وكان خصّيصاً بالمقتدر، فسعى معه المحسن بن الفرات لوالده بالوزارة، وضمن أموالاً جليلة، وكتب على يد رقعة يقول: أن يُسلّم الوزير، وعليّ بن عيسى، وابن الحواريّ، وشفيع اللؤلؤيّ، ونصر الحاجب، وأمّ موسى القهرمانة، والمادرانيّون يستخرج منهم سبعة آلاف ألف دينار.
وكان المحسن مطلقاً، وكان يواصل السعاية بهؤلاء الجماعة، وذكر ابن الفرات للمقتدر ما كان يأخذه ابن الحواريّ كلّ سنة من المال، فاستكثره، فقبض على عليّ بن عيسى في ربيع الآخر، وسُلّم إلى زيدان القهرمانة، فحبسته في الحجرة التي كان ابن الفرات محبوساً فيها، وأُطلق ابن الفرات، وخُلع عليه، وتولّى الوزارة، وخُلع على ابنه المحسن، وهذه الوزارة الثالثة لابن الفرات.
وكان أبو عليّ بن مقلة قد سعى بابن الفرات، وكان يتقلّد بعض الأعمال أيّام حامد، فحضر عند ابن الفرات، وكان ابن الفرات هو الذي قدّم ابن مقلة، وربّاه، وأحسن إليه، ولّما قيل عنه إنّه سعى به لم يصدق ذلك، حنّى تكرّر ذلك منه.
ثمّ إنّ حامداً صعد من واسط، فسيّر إليه ابن الفرات من يقبض عليه في الطريق وعلى أصحابه، فقبض على بعض أصحابه، وسمع حامد فهرب واختفى ببغداد؛ ثمّ إنّ حامداً لبس زيّ راهب، وخرج من مكانه الذي اختفى فيه، ومشى إلى نصر الحاجب، فاستأذن عليه، فأذن له، فدخل عليه، وسأله إيصال حاله إلى الخليفة، فاستدعى نصر مفلحاً الخادم وقال: هذا يستأذن إلى الخليفة، إذا كان عند حرمه.
فلمّا حضر مُفلح فرأى حامداً قال: أهلاً بمولانا الوزير؛ أين مماليكك السودان الذين سمّيتَ كلّ واحد منهم مُفلحاً ؟ فسأله نصر أن لا يؤاخذه، وقال له: حامد يسأل أن يكون محبسه في دار الخليفة، ولا يُسلّم إلى ابن الفرات.

فدخل مُفلح، وقال ضدّ ما قيل له، فأمر المقتدر بتسليمه إلى ابن الفرات، فأُرسل إليه، فحبسه في دار حسنة، وأجرى عليه من الطعام، والكسوة، والطيب، وغير ذلك ما كان له وهو وزير، ثمّ أحضره، وأحضر الفقهاء والعمّال، وناظره على ما وصل إليه من المال، وطالبه به، فأقرّ بجهات تقارب ألف ألف دينار وضمنه المحسن بن أبي الحسن بن الفرات من المقتدر بخمسمائة ألف دينار، فسلّمه إليه، فعذّبه بأنواع العذاب، وأنفذه إلى واسط مع بعض أصحابه ليبيع ما له بواسط، وأمرهم بأن يسقوه سمّاً، فسقوه سمّاً في بيض مشوي، وكان طلبه، فأصابه إسهال، فلمّا وصل إلى واسط أفرط الإغيام به، وكان قد تسلّمه محمّد بن علي البَزَوْفريُّ، فلما رأى حاله أحضر القاضي والشهود ليشهدوا عليه أن ليس له في أمره صنع، فلمّا حضروا عند حامد قال لهم: إن أصحاب المحسن سقوني سمّاً في بيض مشوي، فأنا أموت منه، وليس لمحمّد في أمري صنع، لكنّه قد أخذ قطعة من أموالي وأمتعتي، وجعل يحشوها في المَساور، وتباع المِسْوَرةُ في السوق بمحضر من أمين السلطان بخمسة دراهم، ووضع عليها مَن يشتريها ويحملها إليه، فيكون فيها أمتعة تساوي ثلاثة آلاف دينار، فاشهدوا على ذلك.
وكان صاحب الخبر حاضراً، فكتب ذلك، وسيّره، وندم البزوفريُّ على ما فعل، ثمّ مات حامد في رمضان من هذه السنة، ثمّ صودر عليُّ بن عيسى بثلاثمائة ألف دينار، فأخذه المحسن بن الفرات ليستوفي منه المال، فعذّبه وصفعه فلم يؤدّ إليه شيئاً.
وبلغ الخبر الوزير أبا الحسن بن الفرات، فأنكر على ابنه ذلك، لأنّ عليّاً كان محسناً إليهم أيّام ولايته، وكان قد أعطى المحسن، وقت نكبته، عشرة آلاف درهم، وأدّى عليُّ بن عيسى مال المصادرة، وسيّره ابن الفرات إلى مكّة وكتب إلى أمير مكّة لِيُسيّره إلى صنعاء، ثمّ قبض ابن الفرات على أبي عليّ بن مقلة، ثمّ أطلقه؛ وقبض على ابن الحواريّ، وكان خِصّيصاً بالمقتدر، وسلّمه إلى ابنه المحسن، فعذّبه عذاباً شديداً، وكان المحسن وقحاً، سيئ الأدب ظالماً، ذا قسوة شديدة، وكان الناس يسمّونه الخبيث بن الطيّب؛ وسيّر ابن الحواريّ إلى الأهواز ليستخرج منه الأموال التي له، فضربه الموكَّل به حتّى مات.
وقبض أيضاً على الحسين بن أحمد، ومحمّد بن عليّ المادرانيّين، وكان الحسين قد تولّى مصر والشام، فصادرهما على ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار، ثمّ صادر جماعة من الكتّاب ونكبهم.
ثمّ إنّ ابن الفرات خوّف المقتدر من مؤنس الخادم، وأشار عليه بأن يسيّره عن الحضرة إلى الشام ليكون هنالك، فسمع قوله، وأمره بالمسير، وكان قد عاد من الغزاة، فسأل أن يقيم عدّة أيّام بقيت من شهر رمضان، فأُجيب إلى ذلك، وخرج في يوم شديد المطر.
وسبب ذلك أنّ مؤنساً لمّا قدم ذكر للمقتدر ما اعتمده ابن الفرات من مصادرات الناس، وما يفعله ابنه من تعذيبهم وضربهم، إلى غير ذلك من أعمالهم، فخافه ابن الفرات، فأبعده عن المقتدر، ثمّ سعى ابن الفرات بنصر الحاجب، وأطمع المقتدر في ماله وكثرته، فالتجأ نصر إلى أمّ المقتدر، فمنعته من ابن الفرات.
ذكر القرامطةوفيها قصد أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الهجريُّ البصرة، فوصلها ليلاً في ألف وسبعمائة رجل، ومعه السلاليم الشعر، فوضعها على السور، وصعد أصحابه ففتحوا الباب، وقتلوا الموكلين به؛ وكان ذلك في ربيع الآخر.
وكان على البصرة سُبُك المُفلحيُّ، فلم يشعر بهم إلاّ في السَّحَر، ولم يعلم أنّهم القرامطة بل اعتقد أنّهم عرب تجمّعوا، فركب إليهم، ولقيهم، فقتلوه ووضعوا السيف في أهل البصرة، وهرب الناس إلى الكَلإِ وحاربوا القرامطة عشرة أيّام، فظفر بهم القرامطة، وقتلوا خلقاً كثيراً وطرح الناس أنفسهم في الماء، فغرق أكثرهم.
وأقام أبو طاهر سبعة عشر يوماً يحمل منها ما يقدر عليه من المال والأمتعة، والنساء والصبيان، فعاد إلى بلده؛ واستعمل المقتدر على البصرة محمّد بن عبدالله الفارقيّ، فانحدر إليها وقد سار الهجريُّ عنها.
ذكر استيلاء ابن أبي الساج على الرَّيّ

في هذه السنة سار يوسف بن أبي الساج من أذربيجان إلى الرَّيّ، فحاربه أحمد بن عليّ أخو صعلوك، فانهزم أصحاب احمد وقُتل هو في المعركة، وأنفذ رأسه إلى بغداد؛ وكان أحمد بن عليّ قد فارق أخاه صعلوكاً، وسار إلى المقتدر فأُقطع الريّ كما ذكرناه، ثمّ عصى، وهادن ما كان بن كالي وأولاد الحسن بن عليّ الأطروش، وهم بطبرستان، وجُرجان، وفارق طاعة المقتدر وعصى عليه؛ ووصل رأسه إلى بغداد.
وكان ابن الفرات يقع في نصر الحاجب، ويقول للمقتدر أنّه هو الذي أمر أحمد بن عليّ بالعصيان لمودّة بينهما.
وكان قتلُ أحمد بن عليّ آخر ذي القعدة، واستولى ابن أبي الساج على الرَّيّ، ودخلها في ذي الحجّة من السنة، ثمّ سار عنها في أوّل سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة إلى همذان، واستخلف بالريّ غلامه مُفلحاً، فأخرجه أهل الريّ عنهم، فلحق يوسف، وعاد يوسف إلى الريّ في جُمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة واستولى عليها.
ذكر عدّة حوادث
وفيها غزا مؤنس المظفَّر بلاد الروم، فغنم وفتح حصوناً، وغزا ثمل أيضاً في البحر، فغنم من السبي ألف رأس، ومن الدوابّ ثمانية آلاف رأس، ومن الغنم مائتي ألف رأس، ومن الذهب والفضّة شيئاً كثيراً.
وفيها ظهر جراد كثير بالعراق، فأضرّ بالغلاّت والشجر وعظم.
وفيها استُعمل بنّيّ بن نفيس على حرب أصبهان.
وفيها توفّي بدر المعتضديُّ بفارس، وهو أميرها، ووليَ ابنه محمّد مكانه.
وفيها توفّي أبو محمّد أحمد بن محمّد بن الحسين الجُريريُّ الصوفيُّ، وهو من مشاهير مشايخهم الجُريريّ بضمّ الجيم؛ وأبو إسحاق إبراهيم بن السرّيّ الزجّاج النحويُّ، صاحب كتاب معاني القرآن.
ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة

ذكر حادثة غريبة
في هذه السنة ظهر في دار كان يسكنها المقتدر بالله إنسان أعجميٌّ، وعليه ثياب فاخرة، وتحتها ممّا يلي بدنه قميص صوف، ومعه مِقْدحة، وكبريت، ومِحْبرة، وأقلام، وسكّين، وكاغد، وفي كيس سَويق، وسكر، وحبل طويل من قُنّب، يقال إنّه دخل مع الصُنّاع، فبقي هناك، فعطش، فخرج يطلب الماء فأُخذ، فأحضروه عند ابن الفرات، فسأله عن حاله، فقال: لا أخبر إلاّ صاحب الدار، فرفق به، فلم يخبره بشيء، وقال: لا أخبر إلاّ صاحب الدار، فضربوه ليقرّروه، فقال: بسم الله بدأتم بالشر ؟ ولزم هذه اللفظة، ثمّ جعل يقول بالفارسيّة: ندانم معناه لا أدري، فأمر به فأُحرق.
وأنكر ابن الفرات على نصر الحاجب هذه الحال حيث هو الحاجب، وعظّم الأمر بين يدي المقتدر، ونسبه إلى إنه أخفاه لقتل المقتدر، فقال نصر: لِمَ أقتل أمير المؤمنين وقد رفعني من الثرى إلى الثريا ؟ إنّما يسعى في قتله من صادره، وأخذ أمواله، وأطال حبسه هذه السنين، وأخذ ضياعه؛ وصار لابن الفرات بسبب هذا حديث في معنى نصر.
ذكر أخذ الحاجّ
في هذه السنة سار أبو طاهر القرمطيُّ إلى الهَبِير في عسكر عظيم ليلقى الحاجّ سنة إحدى عشرة وثلاثمائة في رجوعهم من مكّة، فأوقع بقافلة تقدّمت معظم الحاجّ، وكان فيها خلق كثير من أهل بغداد وغيرهم، فنهبهم؛ واتّصل الخبر بباقي الحاجّ وهم بفَيد، فأقاموا بها حتّى فني زادهم، فارتحلوا مسرعين.
وكان أبو الهيجاء بن حَمدان قد أشار عليهم بالعود إلى وادي القُرى، وأنّهم لا يقيمون بفَيد، فاستطالوا الطريق، ولم يقبلوا منه، وكان إلى أبي الهيجاء طريق الكوفة وكثير الحاجّ، فلمّا فني زادهم ساروا على طريق الكوفة، فأوقع بهم القرامطة، وأخذوهم، وأسروا أبا الهيجاء، وأحمد ابن كشمرد، ونحرير، وأحمد بن بدر عمّ والدة المقتدر، وأخذ أبو طاهر جمال الحجّاج جميعها، وما أراد من الأمتعة، والأموال، والنساء، والصبيان، وعاد إلى هَجَر وترك الحاجّ في مواضعهم، فمات أكثرهم جوعاً، وعطشاً، ومن حرّ الشمس.
وكان عُمْرُ أبي طاهر حينئذ سبع عشرة سنة، وانقلبت بغداد، واجتمع حُرَم المأخوذين إلى حُرَم المنكوبين الذي نكبهم ابن الفرات، وجعلن ينادين: القُرمطيُّ الصغير أبو طاهر قتل المسلمين في طريق مكّة، والقُرمطيُّ الكبير ابن الفرات قد قتل المسلمين ببغداد.

وكانت صورة فظيعة شنيعة، وكسر العامّة منابر الجوامع، وسوّدوا المحاريب يوم الجمعة لستّ خلون من صفر، وضعفت نفس ابن الفرات، وحضر عند المقتدر ليأخذ أمره فيما فعله، وحضر نصر الحاجب المشورة، فانبسط لسانه على ابن الفرات، وقال له: الساعة تقول أيّ شيء نصنع، وما هو الرأي بعد أن زعزعتَ أركان الدولة، وعرَّضتَها للزوال في الباطن بالميل مع كلّ عدوّ يظهر ومكاتبته، ومهادنته وفي الظاهر بإبعادك مؤنساً ومن معه إلى الرَّقّة، وهم سيوف الدولة، فمن يدفع الآن هذا الرجل أن قصد الحضرة، أنت أو ولدك ؟ وقد ظهر الآن أنّ مقصودك بإبعاد مؤنس وبالقبض عليَّ وعلى غيري أن تستضعف الدولة وتقوي اعداءها لتشفي غيظ قلبك ممّن صادرك وأخذ أموالك، ومن الذي سلّم النّاس إلى القرمطيّ غيرك لما يجمع بينكما من التشيع والرفض ؟ وقد ظهر أيضاً أنّ ذلك الرجل العجميّ كان من أصحاب القُرمطيّ، وأنت أوصلتَه.
فحلف ابن الفرات أنّه ما كاتب القُرمطيَّ، ولا هاداه، ولا رأى ذلك الأعجميَّ إلا تلك الساعة؛ والمقتدر معرض عنه، وأشار نصر على المقتدر أن يحضر مؤنساً ومَن معه، ففعل ذلك، وكتب إليه بالحضور فسار إلى ذلك، ونهض ابن الفرات، فركب في طيارة فرجمه العامّة حتّى كاد يغرق.
وتقدّم المقتدر إلى ياقوت بالمسير إلى الكوفة ليمنعها من القرامطة، فخرج في جمع كثير، ومع ولداه المظفَّر ومحمّد، فخرج على ذلك العسكر مال عظيم، وورد الخبر بعود القرامطة، فعطل مسير ياقوت.
ووصل مؤنس المظفَّر إلى بغداد، ولّما رأى المحسن ابن الوزير ابن الفرات انحلال أمورهم، وأخذ كلّ مَن كان محبوساً عنده من المصادرين، فقتلهم لأنّه كان قد أخذ منهم أموالاً جليلة، ولم يوصلها إلى المقتدر، فخاف أن يقرّوا عليه.
ذكر القبض على الوزير ابن الفرات

وولده المحسن
ثمّ إنّ الإرجاف كثر على ابن الفرات، فكتب إلى المقتدر يعرّفه ذلك، وأنّ الناس إنّما عادوه لنصحه وشفقته، وأخذ حقوقه منهم، فأنفذ المقتدر إليه يسكّنه، ويطيّب قلبه، فركب هو وولده إلى المقتدر، فأدخلهما إليه، فطيّب قلوبهما فخرجا من عنده فمنعهما نصر الحاجب من الخروج ووكّل بهما، فدخل مُفلح على المقتدر، وأشار عليه بتأخير عزله، فأمر بإطلاقهما، فخرج هو وابنه المحسن، فأمّا المحسن فإنّه اختفى، وأمّا الوزير فإنّه جلس عامّة نهاره يمضي الأشغال إلى الليل، ثمّ بات مفكراً، فلمّا أصبح سمعه بعض خدمه ينشد:
وأصبَحَ لا يَدري، وإن كان حازماً، ... أقُدّامَه خيرٌ له أم وراءُه
فلمّا أصبح الغد، وهو الثامن من ربيع الأوّل، وارتفع النهار أتاه نازوك، وبليق في عدّة من الجند، فدخلوا إلى الوزير، وهو عند الحرم، فأخرجوه حافياً مكشوف الرأس، وأُخذ إلى دجلة، فألقى عليه بليق طيلساناً غطى به رأسه، وحُمل إلى طيار فيه مؤنس المظفَّر، ومعه هلال بن بدر، فاعتذر إليه ابن الفرات، وألان كلامه، فقال له: أنا الآن الأستاذ، وكنتُ بالأمس الخائن الساعي في فساد الدولة، وأخرجتَني والمطر على رأسي ورؤوس أصحابي، لم تمهلني.
ثمّ سُلّم إلى شفيع اللؤلؤي، فحُبس عنده، وكانت مدّة وزارته هذه عشرة أشهر وثمانية عشر يوماً، وأُخذ أصحابه وأولاده ولم ينج منهم إلاّ المحسن، فإنّه اختفى؛ وصودر ابن الفرات على جملة من المال مبلغها ألف ألف دينار.
ذكر وزارة أبي القاسم الخاقانّي
ولّما تغيّر حال ابن الفرات سعى عبدالله بن محمّد بن عُبيد الله بن يحيى ابن خاقان أبو القاسم بن أبي عليّ الخاقانيّ في الوزارة، وكتب خطّه أنّه يتكفّل ابن الفرات وأصحابه بمصادرة ألفَيْ ألف دينار، وسعى له مؤنس الخادم، وهارون بن غريب الخال، ونصر الحاجب.
وكان أبو عليّ الخاقانيُّ، والد أبي القاسم، مريضاً شديد المرض، وقد تغيّر عليه لكبر سنّه، فلم يعلم بشيء من حال ولده؛ وتولّى أبو القاسم الوزارة تاسع ربيع الأوّل، وكان المقتدر يكرهه، فلمّا سمع ابن الفرات، وهو محبوس، بولايته قال: الخليفة هو الذي نُكِبَ لا أنا، يعني أنّ الوزير عاجز لا يعرف أمر الوزارة.
ولّما وزَر الخاقانيُّ شفع إليه مؤنس الخادم في إعادة عليّ بن عيسى من صنعاء إلى مكّة، فكتب إلى جعفر عامل اليمن في الإذن لعليّ بن عيسى في العود إلى مكّة، ففعل ذلك، وأذن لعليّ في الاطلاع على أعمال مصر والشام.

ومات أبو عليّ الخاقانيُّ في وزارة ولده هذه.
ذكر قتل ابن الفرات وولده المحسنوكان المحسن ابن الوزير ابن الفرات مختفياً، كما ذكرنا، وكان عند حماته حزانة، وهي والدة الفضل بن جعفر بن الفرات، وكانت تأخذه كلّ يوم إلى المقبرة، وتعود به إلى المنازل التي يثق بأهلها عشاء وهو في زيّ امرأة، فمضت يوماً إلى مقابر قريش، وأدركها الليل، فبعد عليها الطريق، فأشارت عليها امرأة معها أن تقصد امرأة صالحة تعرفها بالخير، تختفي عندها، فأخذت المحسن وقصدت تلك المرأة وقالت لها: معنا صبيّة بكر نريد بيتاً نكون فيه؛ فأمرتهم بالدخول إلى دارها، وسلّمت إليهم قبّة في الدار، فأدخلن المحسن إليها، وجلست النساء اللائي معه في صفّة بين يدي باب القبّة، فجاءت جارية سوداء، فرأت المحسن في القبّة، فعادت إلى مولاتها، فأخبرتها أنّ في الدار رجلاً، فجاءت صاحبتها، فلمّا رأته عرفته.
وكان المحسن قد أخذ زوجها ليصادره، فلمّا رأى الناسَ في داره يُجلدون، ويشقَّون، ويعذَّبون، مات فجأةً، فلمّا رأت المرأة المحسن وعرفته ركبت في سفينة، وقصدت دار الخليفة وصاحت: معي نصيحة لأمير المؤمنين ! فأحضرها نصر الحاجب، فأخبرته بخبر المحسن، فانتهى ذلك إلى المقتدر، فأمر نازوك، صاحب الشُّرطة، أن يسير معها ويحضره، فأخذها معه إلى منزلها، ودخل المنزل، وأخذ المحسن وعاد به إلى المقتدر، فردّه إلى دار الوزير، فعُذب بأنواع العذاب ليجيب إلى مصادرة يبذلها، فلم يجبهم إلى دينار واحد، وقال: لا أجمع لكم بين نفسي ومالي؛ واشتدّ العذاب عليه بحيث امتنع عن الطعام فلمّا علم ذلك المقتدر أمر بحمله مع أبيه إلى دار الخلافة، فقال الوزير أبو القاسم لمؤنس، وهارون بن غريب الخال، ونصر الحاجب: إن يُنقل ابن الفرات إلى دار الخلافة بذل أمواله، وأطمع المقتدر في أموالنا، وضمننا منه، وتسلّمنا فأهلكنا؛ فوضعوا القوّاد والجند، حتّى قالوا للخليفة: إنّه لا بدّ من قتل ابن الفرات وولده، فإنّنا لا نأمن على أنفسنا ما داما في الحياة.
وتردّدت الرسائل في ذلك، وأشار مؤنس، وهارون بن غريب، ونصر الحاجب بموافقتهم وإجابتهم إلى ما طلبوا، فأمر نازوك بقتلهما، فذبحهما كما يذبح الغنم.
وكان ابن الفرات قد أصبح يوم الأحد صائماً، فأُتي بطعام فلم يأكله، فأُتي أيضاً بطعام ليُفطر عليه، فلم يفطر، وقال: رأيتُ أخي العبّاس في النوم يقول لي: أنت وولدك عندنا يوم الاثنين؛ ولا شكّ أنّنا نُقتل؛ فقُتل ابنه المحسن يوم الاثنين لثلاث عشرة خلت من ربيع الآخر، وحُمل رأسه إلى أبيه، فارتاع لذلك شديداً، ثمّ عُرض أبوه على السيف فقال: ليس إلاّ السيف، راجعوا في أمري، فإن عندي أموالاً جمّة، وجواهر كثيرة؛ فقيل له: جلّ الأمر عن ذلك ! وقُتل وكان عمره إحدى وسبعين سنة، وعمر ولده المحسن ثلاثاً وثلاثين سنة، فلمّا قُتلا حُمل رأساهما إلى المقتدر بالله، فأمر بتغريقهما.
وقد كان أبو الحسن بن الفرات يقولك إن المقتدر بالله يقتلني، فصحّ قوله، فمن ذلك أنّه عاد من عنده يوماً، وهو مُفكر كثير الهمّ، فقيل له في ذلك، فقال: كنتُ عند أمير المؤمنين فما خاطبتُه في شيء من الأشياء إلاّ قال ل نعم، فقلتُ له الشيء وضدّه، ففي كلّ ذلك يقول نعم؛ فقيل له: هذا لحُسن ظنّه بك، وثقته بما تقول، واعتماده على شفقتك؛ فقال: لا والله، ولكنه أذن لكلّ قائل، وما يؤمنيّ أن يقال له بقتل الوزير، فيقول نعم؛ والله إنّه قاتلي ! ولّما قُتل ركب هارون بن غريب مسرعاً إلى الوزير الخاقانيّ، وهنّأه بقتله، فأُغمي عليه، حتّى ظنّ هارون ومَن هناك أنّه قد مات، وصرخ أهله وأصحابه عليه، فلمّا أفاق من غشيته لم يفارقه هارون حتّى أخذ منه ألفَي دينار.
وأمّا أولاده سوى المحسن فإنّ مؤنساً المظفَّر شفع في ابنَيْه عبدالله وأبي نصر، فأُطلقا له، فخلع عليهما، ووصلهما بعشرين ألف دينار، وصودر ابنه الحسن على عشرين ألف دينار، وأُطلق إلى منزله.
وكان الوزير أبو الحسن بن الفرات كريماً، ذا رئاسة وكفاية في عمله، حسن السؤال والجواب، ولم يكن له سيّئة ألاّ ولده المحسن.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34