كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

ثم خرج علي من عنده وخرج عثمان على أثره فجلس على المنبر ثم قال: أما بعد فإن لكل شيء آفة ولكل أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة وعاهة هذه النعمة عيابون طعانون يرونكم ما تحبون ويسترون عنكم ما تكرهون، يقولون لكم ويقولون، أمثال النعام يتبعون أول ناعق، أحب مواردهم إليهم البعيد، لا يشربون إلا نغصاً ولا يردون إلا عكراً، لا يقوم لهم رائد وقد أعيتهم الأمور، ألا فقد والله عبتم علي ما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطئكم برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه فدنتم له على ما أحببتم وكرهتم، ولنت لكم وأوطأتمك كتف وكففت يدي ولساني عنكم فاجترأتم علي. أما والله لأنا أعز نفراً وأقرب ناصراً وأكثر عدداً وأحرى، إن قلت هلم أتي إلي، ولقد عددت لكم أقراناً، وأفضلت عليكم فضولاً، وكشرت لكم عن نابي، وأخرجتم مني خلقاً لم أكن أحسنه ومنطقاً لم أنطق به، فكفوا عني ألسنتكم وعيبكم وطعنكم على ولاتكم، فإني كففت عنكم من لو كان هو الذي يكلمكم لرضيتم منه بدون منطقي هذا. ألا فما تفقدون من حقكم؟ والله ما قصرت عن بلوغ ما بلغ من كان قبل ولم تكونوا تختلفون عليه.
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكمنا والله ما بيننا وبينكم السيف، نحن وأنتم والله كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضنا فنبت بكم ... مغارسكم تبنون في دمن الثرى
فقال عثمان: اسكت لا سكت، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا! ألم أتقدم إليك أن لا تنطق؟ فسكت مروان ونزل عثمان عن المنبر، فاشتد قوله على الناس وعظم وزاد تألبهم عليه.
ذكر عدة حوادثوحج هذه السنة بالناس عثمان. وفي هذه السنة توفي كعب الأحبار، وهو كعب بن ماتع، وأسلم أيام عمر. وفيها مات أبو عبس عبد الرحمن بن جبر الأنصاري، شهد بدراً. وفيها مات مسطح بن أثاثة المطلبي، وهو ابن ست وخمسين سنة، وقيل: بل عاش وشهد صفين مع علي، وهو الأكثر، وكان بدرياً. وفيها توفي عبادة بن الصامت الأنصاري، وهو ممن شهد العقبة، وكان نقيباً بدرياً؛ وعاقل بن البكير، وهو بدري أيضاً.
ثم دخلت سنة خمس وثلاثين

ذكر مسير من سار إلى حصر عثمان
قيل: في هذه السنة كان مسير من سار من أهل مصر إلى ذي خشب، ومسير من سار من أهل العراق إلى ذي المروة.
وكان سبب ذلك أن عبد الله بن سبأ كان يهودياً من أهل صنعاء أمه سوداء، وأسلم أيام عثمان، ثم تنقل في الحجاز ثم بالبصرة ثم بالكوفة ثم بالشام يريد إضلال الناس فلم يقدر منهم على ذلك، فأخرجه أهل الشام، فأتى مصر فأقام فيهم وقال لهم: العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذب أن محمداً يرجع، فوضع لهم الرجعة، فقبلت منه، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان لكل نبي وصي، وعلي وصي محمد، فمن أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصيه، وإن عثمان أخذها بغير حق، فانهضوا في هذا الأمر وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا به الناس.
وبث دعاته، وكاتب من استفسد في الأمصار وكاتبوه، ودعوا في السر إلى ما هو عليه رأيهم وصاروا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيب ولاتهم، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر ما يصنعون، حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا بذلك الأرض إذاعة، فيقول أهل كل مصر: إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء، إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع الأمصار، فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس. فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ فقال: ما جاءني إلا السلامة وأنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا علي. قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالاً ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بأخبارهم.
فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة، وأرسل أسامة بن زيد إلى البصرة، وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر، وأرسل عبد الله بن عمر إلى الشام، وفرق رجالاً سواهم، فرجعوا جميعاً قبل عمار فقالوا: ما أنكرنا شيئاً أيها الناس ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم. وتأخر عمار حتى ظنوا أنه قد اغتيل، فوصل كتاب من عبد الله بن أبي سرح يذكر أن عماراً قد استماله قومٌ بمصر وانقطعوا إليه، منهم: عبد الله بن السوداء، وخالد بن ملجم، وسودان بن حمران، وكنانة بن بشر.

فكتب عثمان إلى أهل الأمصار: أما بعد فإني آخذ عمالي بموافاتي كل موسم، وقد رفع إلي أهل المدينة أن أقواماً يشتمون ويضربون، فمن ادعى شيئاً من ذلك فليواف الموسم يأخذ حقه حيث كان مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين. فلما قرىء في الأمصار بكى الناس ودعوا لعثمان. وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه في الموسم: عبد الله بن عامر، وعبد الله بن سعد، ومعاوية، وأدخل معهم سعيد بن العاص وعمراً، فقال: ويحكم ما هذه الشكاية والإذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقاً عليكم وما يعصب هذا إلا بي! فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن العوام؟ ألم يرجع رسلك ولم يشافههم أحد بشيء؟ والله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلاً ولا يحل الأخذ بهذه الإذاعة! فقال: أشيروا علي. فقال سعيد: هذا أمر مصنوع يلقى في السر فيتحدث به الناس، ودواء ذلك طلب هؤلاء وقتل الذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم فإنه خير من أن تدعهم. وقال معاوية: قد وليتني فوليت قوماً لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتيهما، والرأي حسب الأدب. وقال عمرو: أرى أنك قد لنت لهم ورخيت عليهم وزدتهم على ما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين.
فقال عثمان: قد سمعت كل ما أشرتم به علي ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه ليفتحن فنكفكه باللين والمؤاتاة إلا في حدود الله، فإن فتح فلا يكون لأحد علي حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيراً، وإن رحى الفتنة لدائرة، فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها. سكنوا الناس وهبوا لهم حقوقهم، فإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها. فلما نفر عثمان وشخص معاوية والأمراء معه واستقل على الطريق رجز به الحادي فقال:
قد علمت ضوامر المطي ... وضمرات عوج القسي
أن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلفٌ رضي
وطلحة الحامي لها ولي
فقال كعب: كذبت بل يلي بعده صاحب البغلة الشهباء، يعني معاوية؛ فطمع فيها من يومئذٍ.
فلما قدم عثمان المدينة دعا علياً وطلحة والزبير وعنده معاوية، فحمد الله معاوية ثم قال: أنتم أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وخيرته من خلفه وولاة أمر هذه الأمة، لا يطمع فيه أحد غيركم، اخترتم صاحبكم عن غير غلبة ولا طمع، وقد كبر وولي عمره ولو انتظرتم به الهرم لكان قريباً مع أني أرجو أن يكون أكرم على الله أن يبلغه ذلك، وقد فشت مقالة خفتها عليكم فيما عتبتم فيه من شيء، فهذه يدي لكم به، ولا تطمعوا الناس في أمركم، فوالله إن طمعوا فيه لا رأيتم منها أبداً إلا إدباراً.
قال علي: ما لك ولذلك لا أم لك؟ قال: دع أمي فإنها ليست بشر أمهاتكم، قد أسلمت وبايعت النبي، صلى الله عليه وسلم، وأجبني عما أقول لك. فقال عثمان: صدق ابن أخي، أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبي اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما بسبيل احتساباً، وإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك المال لما أقوم به فيه ورأيت أن ذلك لي، فإن رأيتم ذلك خطأً فردوه فأمري لأمركم تبع. فقالوا: قد أصبت وأحسنت، قد أعطيت عبد الله ابن خالد بن أسيد خمسين ألفاً، وأعطيت مروان خمسة عشر ألفاً. فأخذ منهما ذلك، فرضوا وخرجوا راضين.
وقال معاوية لعثمان: اخرج معي إلى الشام فإنهم على الطاعة قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به. فقال: لا أبيع جوار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بشيء وإن كان فيه قطع خيط عنقي. قال: فإن بعثت إليك جنداً منهم يقيم معك لنائبه إن نابت؟ قال: لا أضيق على جيران رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: والله لتغتالن ولتغزين! فقال: حسبي الله ونعم الوكيل!

ثم خرج معاوية فمر على نفر من المهاجرين فيهم علي وطلحة والزبير وعليه ثياب السفر، فقام عليهم وقال: إنكم قد علمتم أن هذا الأمر كان الناس يتغالبون عليه حتى بعث الله نبيه، صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتفاضلون السابقة والقدمة والاجتهاد، فإن أخذوا بذلك فالأمر أمرهم والناس لهم تبع، وإن طلبوا الدنيا بالتغالب سلبوا ذلك ورده الله إلى غيرهم، وإن الله على البدل لقادر، وإني قد خلفت فيكم شيخاً فاستوصوا به خيراً وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك. ثم ودعهم ومضى. فقال علي: ما كنت أرى في هذا خيراً. فقال الزبير: والله ما كان قط أعظم في صدرك وصدورنا منه اليوم.
واتعد المنحرفون عن عثمان يوماً يخرجون فيه بالأمصار جميعاً إذا سار عنها الأمراء، فلم يتهيأ لهم ذلك، ولما رجع الأمراء ولم يتم لهم الوثوب صاروا يكاتبون في القدوم إلى المدينة لينظروا فيما يريدون ويسألوا عثمان عن أشياء لتطير في الناس. وكان بمصر محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة يحرضان على عثمان.
فلما خرج المصريون خرج فيهم عبد الرحمن بن عديس البلوي في خمسمائة، وقيل: في ألف، وفيهم كنانة بن بشر الليثي وسودان بن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرب العكي؛ وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الأصم العامري، وهم في عداد أهل مصر وعليهم جميعاً عمرو بن الأصم؛ وخرج أهل البصرة فيهم حكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد وبشر بن شريح القيسي وابن المحترش، وهم بعداد أهل مصر، وأميرهم حرقوص بن زهير السعدي؛ فخرجوا جميعاً في شوال وأظهروا أنهم يريدون الحج، فلما كانوا من المدينة على ثلاث تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب، وكان هواهم في طلحة، وتقدم ناس من أهل الكوفة، وكان هواهم في الزبير، ونزلوا الأعوص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وكان هواهم في علي، ونزلوا عامتهم بذي المروة، ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله بن الأصم وقالا لهم: لا تعجلوا حتى ندخل المدينة ونرتاد لكم، فقد بلغنا أنهم عسكروا لنا، فوالله إن كان هذا حقاً واستحلوا قتالنا بعد علم حالنا إن أمرنا لباطل، وإن كان الذي بلغنا باطلاً رجعنا إليكم بالخبر. قالوا: اذهبا. فذهبا فدخلا المدينة فلقيا أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، وعلياً وطلحة والزبير، فقالا: إنما نريد هذا البيت ونستعفي من بعض عمالنا، واستأذناهم في الدخول، فكلمهما أبي ونهاهما، فرجعا إلى أصحابهما. فاجتمع نفر من أهل مصر فأتوا علياً، ونفر من أهل البصرة فأتوا طلحة، ونفر من أهل الكوفة فأتوا الزبير، وقال كل فريق منهم: إن بايعنا صاحبنا وإلا كذبناهم وفرقنا جماعتهم ثم رجعنا عليهم حتى نبغتهم. فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت متقلداً سيفه، وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمع إليه، فسلموا عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال: لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة وجيش ذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد، صلى الله عليه وسلم، فانصرفوا عنه. وأتى البصريون طلحة فقال لهم مثل ذلك، وكان قد أرسل ابنيه إلى عثمان، وأتى الكوفيون الزبير فقال لهم مثل ذلك، وكان قد أرسل ابنه عبد الله إلى عثمان.
فرجعوا وتفرقوا عن ذي خشب وذي المروة والأعوص إلى عسكرهم ليتفرق أهل المدينة ثم يرجعوا إليهم. فلما بلغوا عسكرهم تفرق أهل المدينة، فرجعوا بهم، فلم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها، ونزلوها وأحاطوا بعثمان وقالوا: من كف يده فهو آمن. وصلى عثمان بالناس أياماً، ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا الناس من كلامه، وأتاهم أهل المدينة وفيهم علي فقال لهم: ما ردكم بعد ذهابكم؟ فقالوا: أخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا. وأتى طلحة الكوفيين فسألهم عن عودهم فقالوا مثل ذلك. وأتى الزبير البصريين فقالوا مثل ذلك، وكل منهم يقول: نحن نمنع إخواننا ونصرهم، كأنما كانوا على ميعاد. فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل حتى رجعتم علينا؟ هذا والله أمر أبرم بليل! فقالوا: ضعوه كيف شئتم، لا حاجة لنا في هذا الرجل، ليعتزل عنا. وعثمان يصلي بهم وهم يصلون خلفه، وهم أدق في عينه من التراب، وكانوا يمنعون الناس من الاجتماع.

وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستنجدهم ويأمرهم بالحث للمنع عنه ويعرفهم ما الناس فيه. فخرج أهل الأمصار على الصعب والذلول، فبعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري، وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج، وخرج من الكوفة القعقاع بن عمرو وقام بالكوفة نفر يحضون على إعانة أهل المدينة، منهم: عقبة بن عامر وعبد الله بن أبي أوفى وحنظلة الكاتب وغيرهم من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن التابعين: مسروق والأسود وشريح وعبد الله بن حكيم وغيرهم، وقام بالبصرة: عمران بن حصين وأنس ابن مالك وهشام بن عامر وغيرهم من الصحابة ومن التابعين: كعب بن سور وهرم بن حيان وغيرهما، وقام بالشام جماعة من الصحابة والتابعين وكذلك بمصر.
ولما جاءت الجمعة التي على أثر دخولهم المدينة، خرج عثمان فصلى بالناس ثم قام على المنبر فقال: يا هؤلاء، الله الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم ملعونون على لسان محمد، صلى الله عليه وسلم، فامحوا الخطأ بالصواب. فقام محمد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك، فأقعده حكيم بن جبلة، وقام زيد بن ثابت فأقعده محمد بن أبي قتيرة، وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى أخرجوهم من المسجد، وحصبوا عثمان حتى صرع عن المنبر مغشياً عليه، فأدخل داره واستقتل نفر من أهل المدينة مع عثمان، منهم: سعد بن أبي وقاص والحسين بن علي وزيد بن ثابت وأبو هريرة. فأرسل إليهم عثمان يعزم عليهم بالانصراف، فانصرفوا، وأقبل علي وطلحة والزبير فدخلوا على عثمان يعودونه من صرعته ويشكون إليه ما يجدون، وكان عند عثمان نفر من بني أمية فيهم مروان بن الحكم، فقالوا كلهم لعلي: أهلكتنا وصنعت هذا الصنيع؛ والله لئن بلغت الذي تريد لتمرن عليك الدنيا! فقام مغضباً وعاد هو والجماعة إلى منازلهم. وصلى عثمان بالناس بعد ما نزلوا به في المسجد ثلاثين يوماً، ثم منعوه الصلاة، وصلى بالناس أميرهم الغافقي ودان له المصريون، والكوفيون والبصريون، وتفرق أهل المدينة في حيطانهم ولزموا بيوتهم لا يجلس أحد ولا يخرج إلا بسيفه ليمتنع به، وكان الحصار أربعين يوماً ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح.
وقد قيل: إن محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي حذيفة كانا بمصر يحرضان على عثمان، وسار محمد بن أبي بكر مع من سار إلى عثمان، وأقام ابن أبي حذيفة بمصر وغلب عليها لما سار عنها عبد الله بن سعد، على ما يأتي. فلما خرج المصريون إلى قصد عثمان أظهروا أنهم يريدون العمرة وخرجوا في رجب وعليهم عبد الرحمن بن عديس البلوي، وبعث عبد الله بن سعد رسولاً إلى عثمان يخبره بحالهم وأنهم قد أظهروا العمرة وقصدهم خلعه أو قتله، فخطب عثمان الناس وأعلمهم حالهم، وقال لهم: إنهم قد أسرعوا إلى الفتنة واستطالوا عمري، والله لئن فارقتهم ليتمنون أن عمري كان عليهم مكان كل يوم سنة مما يرون من الدماء المسفوكة والإحن والأثرة الظاهرة والأحكام المغيرة.
وكان عبد الله بن سعد قد خرج إلى عثمان في آثار المصريين بإذن له، فلما كان بأيلة بلغه أن المصريين رجعوا إلى عثمان فحصروه، وأن محمد بن أبي حذيفة غلب على مصر واستجابوا له، فعاد عبد الله إلى مصر فمنع عنها، فأتى فلسطين فأقام بها حتى قتل عثمان.
فلما نزل القوم ذا خشب يريدون قتل عثمان إن لم ينزع عما يكرهون، ولما رأى عثمان ذلك جاء إلى علي فدخل عليه بيته فقال له: يا ابن عم، إن قرابتي قريبة ولي عليك حق عظيم، وقد جاء ما ترى من هؤلاء القوم وهم مصبحي، ولك عند الناس قدر وهم يسمعون منك، وأحب أن تركب إليهم فتردهم عني، فإن في دخولهم علي توهيناً لأمري وجرأة علي! فقال علي: على أي شيء أردهم عنك؟ قال: على أن أصير إلى ما أشرت إليه ورأيته لي. فقال علي: إني قد كلمتك مرة بعد أخرى فكل ذلك نخرج ونقول ثم ترجع عنه، وهذا من فعل مروان وابن عامر ومعاوية وعبد الله بن سعد، فإنك أطعتهم وعصيتني. قال عثمان: فأنا أعصيهم وأطيعك.

فأمر الناس فركب معه من المهاجرين والأنصار ثلاثون رجلاً فيهم سعيد بن زيد وأبو جهم العدوي وجبير بن مطعم وحكيم بن حزام ومروان وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، ومن الأنصار أبو أسيد الساعدي وأبو حميد وزيد بن ثابت وحسان بن ثابت وكعب بن مالك، ومن العرب نيار بن مركز، فأتوا المصريين فكلموهم، وكان الذي يكلمهم علي ومحمد بن مسلمة، فسمعوا مقالتهما ورجعوا إلى مصر. فقال ابن عديس لمحمد بن مسلمة: أتوصينا بحاجة؟ قال: نعم، تتقي الله وترد من قبلك عن إمامهم فإنه قد وعدنا أن يرجع وينزع. قال بن عديس: أفعل إن شاء الله. ورجع علي ومن معه إلى المدينة، فدخل على عثمان فأخبره برجوعهم وكلمه بما في نفسه ثم خرج من عنده، فمكث عثمان ذلك اليوم، وجاءه مروان بكرة الغد فقال له: تكلم وأعلم الناس أن أهل مصر قد رجعوا وأن ما بلغهم عن إمامهم كان باطلاً قبل أن يجيء الناس إليك من أمصارهم ويأتيك ما لا تستطيع دفعه. ففعل عثمان، فلما خطب الناس قال له عمرو بن العاص: اتق الله يا عثمان، فإنك قد ركبت أموراً وركبناها معك، فتب إلى الله نتب. فناداه عثمان: وإنك هنالك يا ابن النابغة! قملت والله جبتك منذ عزلتك عن العمل! فنودي من ناحية أخرى: تب إلى الله. فرفع يديه وقال: اللهم إني أول تائب. تاب إليك. ورجع إلى منزله.
وخرج عمرو بن العاص إلى منزله بفلسطين، وكان يقول: والله إني كنت لألقى الراعي فأحرضه على عثمان. وأتى علياً وطلحة والزبير فحرضهم على عثمان، فبينما هو بقصره بفلسطين ومعه ابناه محمد وعبد الله وسلامة بن روح الجذامي إذ مر به راكب من المدينة، فسأله عمرو عن عثمان، فقال: هو محصور. قال عمرو: أنا أبو عبد الله، قد يضرط العير والمكواة في النار. ثم مر به راكب آخر فسأله فقال: قتل عثمان. فقال عمرو: أنا أبو عبد الله، إذا حككت قرحةً نكأتها. فقال له سلامة بن روح: يا معشر قريش كان بينكم وبين العرب باب فكسرتموه فما حملكم على ذلك! فقال: أردنا أن نخرج الحق من خاصرة الباطل ليكون الناس في الحق شرعاً سواء.
وقيل: إن علياً لما رجع من عند المصريين بعد رجوعهم إلى عثمان قال له: تكلم كلاماً يسمعه الناس منك ويشهدون عليك ويشهد الله على ما في قلبك من النزوع والأمانة، فإن البلاد قد تمخضت عليك، فلا آمن أن يجيء ركبٌ آخر من الكوفة والبصرة فتقول: يا علي اركب إليهم، فإن لم افعل رأيتني قد قطعت رحمك واستخففت بحقك. فخرج عثمان فخطب الخطبة التي نزع فيها وأعطى الناس من نفسه التوبة وقال: أنا أول من اتعظ، أستغفر الله مما فعلة وأتوب إليه، فمثلي نزع وتاب، فإذا نزلت فليأتني أشرافكم فليروا في رأيهم، فوالله لئن ردني الحق عبداً لأستنن بسنة العبد ولأذلن ذل العبد وما عن الله مذهب إلا إليه، فوالله لأعطينكم الرضا ولأنحين مروان وذويه ولا أحتجب عنكم! فرق الناس وبكوا حتى أخضلوا لحاهم وبكى هو أيضاً.

فلما نزل عثمان وجد مروان وسعيداً ونفراً من بني أمية في منزله لم يكونوا شهدوا خطبته، فلما جلس قال مروان: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟ فقالت نائلة بنت الفرافصة امرأة عثمان: لا بل اصمت فإنهم والله قاتلوه ومؤثموه، إنه قد قال مقالةً لا ينبغي له أن ينزع عنها. فقال لها مروان: ما أنت وذاك! فوالله قد مات أبوك وما يحسن يتوضأ! فقالت: مهلاً يا مروان عن ذكر الآباء! تخبر عن أبي وهو غائب تكذب عليه وإن أباك لا يستطيع أن يدفع عن نفسه؟ أما والله لولا أنه عمه وأنه يناله غمه لأخبرتك عنه ما لن أكذب عليه. قالت: فأعرض عنها مروان، فقال: يا أمير المؤمنين أتكلم أم أسكت؟ قال: تكلم. فقال مروان: بأبي أنت وأمي، والله لوددت أن مقالتك هذه كانت وأنت ممتنع فكنت أول من رضي بها وأعان عليها، ولكنك قلت ما قلت وقد بلغ الحزام الطبيين وخلف السيل الزبى، وحين أعطى الخطة الذليلة الذليل؛ والله لإقامة على خطيئة يستغفر منها أجمل من توبة يخوف عليها، وأنت إن شئت تقربت بالتوبة ولم تقر بالخطيئة؛ وقد اجتمع بالباب أمثال الجبال من الناس. فقال عثمان: فاخرج إليهم فكلمهم فإني أستحيي أن أكلمهم. فخرج مروان إلى الباب والناس يركب بعضهم بعضاً، فقال: ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم قد جئتم لنهبٍ؟ شاهت الوجوه! ألا من أريد؟ جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا من أيدينا! اخرجوا عنا، والله لئن رمتمونا ليمرن عليكم منا أمر لا يسركم ولا تحمدوا غب رأيكم. ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله ما نحن بمغلوبين على ما في أيدينا. فرجع الناس وأتى بعضهم علياً فأخبره الخبر.
فأقبل علي على عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث فقال: أحضرت خطبة عثمان؟ قال: نعم. قال: أفحضرت مقالة مروان للناس؟ قال: نعم. فقال علي: أي عباد الله! يا للمسلمين! إني إن قعدت في بيتي قال لي: تركتني وقرابتي وحقي، وإني إن تكلمت فجاء ما يريد يلعب به مروان فصار سيقةً له يسوقه حيث يشاء بعد كبر السن وصحبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقام مغضباً حتى دخل على عثمان فقال له: أما رضيت من مروان ولا رضي منك إلا بتحرفك عن دينك وعن عقلك مثل جمل الظعينة يقاد حيث يسار به؟ والله ما مروان بذي رأي في دينه ولا نفسه! وأيم الله إني لأراه يوردك ولا يصدرك! وما أنا عائد بعد مقامي هذا لمعاتبتك، أذهبت شرفك وغلبت على رأيك.
فلما خرج علي دخلت عليه امرأته نائلة ابنة الفرافصة فقالت: قد سمعت قول علي لك وليس يعاودك وقد أطعت مروان يقودك حيث شاء. قال: فما أصنع؟ قالت: تتقي الله وتتبع سنة صاحبيك، فإنك متى أطعت مروان قتلك، ومروان ليس له عند الناس قدر ولا هيبة ولا محبة، وإنما تركك الناس لمكانه، فأرسل إلى علي فاستصلحه فإن له قرابة منك وهو لا يعصى. فأرسل عثمان إلى علي فلم يأته وقال: قد أعلمته أني غير عائد. فبلغ مروان مقالة نائلة فيه فجلس بين يدي عثمان فقال: يا ابنة الفرافصة! فقال عثمان: لا تذكرنها بحرف فأسود وجهك، فهي والله أنصح لي! فكف مروان.
وأتى عثمان إلى علي بمنزله ليلاً وقال له: إني غير عائد، وإني فاعل. فقال له علي: بعد ما تكلمت على منبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأعطيت من نفسك ثم دخلت بيتك فخرج مروان إلى الناس يشتمهم على بابك ويؤذيهم. فخرج عثمان من عنده وهو يقول: خذلتني وجرأت الناس علي. فقال علي: والله إني لأكثر الناس ذباً عنك، ولكني كلما جئت بشيء أظنه لك رضا جاء مروان بأخرى فسمعت قوله وتركت قولي.
ولم يعد علي يعمل ما كان يعمل إلى أن منع عثمان الماء. فقال علي لطلحة: أريد أن تدخل عليه الروايا، وغضب غضباً شديداً حتى دخلت الروايا على عثمان.

قال: وقد قيل إن علياً كان عند حصر عثمان بخيبر، فقدم المدينة والناس مجتمعون عند طلحة، وكان ممن له فيه أثر، فلما قدم علي أتاه عثمان وقال له: أما بعد فإن لي حق الإسلام وحق الإخاء والقرابة والصهر، ولو لم يكن من ذلك شيء وكنا في الجاهلية لكان عاراً على بني عبد مناف أن ينتزع أخو بني تيم، يعني طلحة، أمرهم. فقال له علي: سيأتيك الخبر، ثم خرج إلى المسجد فرأى أسامة فتوكأ على يده حتى دخل دار طلحة، وهو في خلوة من الناس، فقال له: يا طلحة ما هذا الأمر الذي وقعت فيه؟ فقال: يا أبا الحسن بعد ما مس الحزام الطبيين. فانصرف علي حتى أتى بيت المال فقال: افتحوه، فلم يجوا المفاتيح، فكسر الباب وأعطى الناس، فانصرفوا من عند طلحة حتى بقي وحده، وسر بذلك عثمان، وجاء طلحة فدخل على عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين أردت أمراً فحال الله بيني وبينه! فقال عثمان: والله ما جئت تائباً، ولكن جئت مغلوباً، الله حسيبك يا طلحة!
ذكر مقتل عثمانقد ذكرنا سبب مسير الناس إلى قتل عثمان، وقد تركنا كثيراً من الأسباب التي جعلها الناس ذريعة إلى قتله لعلل دعت إلى ذلك، ونذكر الآن كيف قتل وما كان بدء ذلك واتبداء الجرأة عليه قبل قتله.
فكان من ذلك أن إبلاً من إبل الصدقة قدم بها على عثمان فوهبها لبعض بني الحكم، فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف، فأخذها وقسمها بين الناس وعثمان في الدار.
قيل: وكان أول من اجترأ على عثمان بالمنطق جبلة بن عمرو الساعدي، مر به عثمان وهو في نادي قومه وبيده جامعة، فسلم فرد القوم، فقال جبلة: لم تردون على رجل فعل كذا وكذا؟ ثم قال لعثمان: والله لأطرحن هذه الجامعة في عنقك أو لتتركن بطانتك هذه الخبيثة: مروان وابن عامر وابن سعد، منهم من نزل القرآن بذمه وأباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دمه. فاجترأ الناس عليه، وقد تقدم قول عمرو بن العاص له في خطبته.
قيل: وخطب يوماً وبيده عصا كان النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر يخطبون عليها، فأخذه جهجاه الغفاري من يده وكسرها على ركبته اليمنى فرمي في ذلك المكان بأكلة.
وقيل: كتب جمع من أهل المدينة من الصحابة وغيرهم إلى من بالآفاق منهم: إن أردتم الجهاد فهلموا إليه فإن دين محمد، صلى الله عليه وسلم، قد أفسده خليفتكم فأقيموه. فاختلفت قلوب الناس على ما تقدم ذكره، وجاء المصريون، كما ذكرنا، إلى المدينة، فخرج إليهم علي ومحمد بن مسلمة، كما تقدم، فكلماهم فعادوا ثم رجعوا، فلما رجعوا انطلق إليهم محمد بن مسلمة فسألهم عن سبب عودهم، فأخرجوا صحيفة في أنبوبة رصاص وقالوا: وجدنا غلام عثمان بالبويب على بعير من إبل الصدقة، ففتشنا متاعه فوجدنا فيه هذه الصحيفة يأمر فيها بجلد عبد الرحمن بن عديس وعمرو بن الحمق وعروة بن البياع وحبسهم وحلق رؤوسهم ولحاهم وصلب بعضهم. وقيل: إن الذي أخذت منه الصحيفة أبو الأعور السلمي. فلما رأوه سألوه عن مسيرة وهل معه كتاب فقال: لا. فسألوه في أي شيء هو، فتغير كلامه، فأنكروه وفتشوه وأخذوا الكتاب منه وعادوا وعاد الكوفيون والبصريون. فلما عاد أهل مصر أخبروا بذلك محمد بن مسلمة وقالوا له: قد كلمنا علياً ووعدنا أن يكلمه، وكلمنا سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فقالا: لا ندخل في أمركم. وقالوا لمحمد ابن مسلمة ليحضر مع علي عند عثمان بعد الظهر، فوعدهم بذلك، فدخل علي ومحمد بن مسلمة على عثمان فاستأذنا للمصريين عليه، وعنده مروان، فقال: دعني أكلمهم. فقال عثمان: اسكت فض الله فاك! ما أنت وهذا الأمر؟ اخرج عني! فخرج مروان: وقال علي ومحمد لعثمان ما قال المصريون، فأقسم بالله: ما كتبته ولا علم لي به. فقال محمد: صدق، هذا من عمل مروان.
ودخل عليه المصريون فلم يسلموا عليه بالخلافة، فعرفوا الشر فيهم، وتكلموا فذكر ابن عديس ما فعل عبد الله بن سعد بالمسلمين وأهل الذمة والاستئثار في الغنائم، فإذا قيل له في ذلك قال: هذا كتاب أمير المؤمنين. وذكروا شيئاً مما أحدث بالمدينة، وقالوا له: وخرجنا من مصر ونحن نريد قتلك فردنا علي ومحمد ابن مسلمة وضمنا لنا النزوع عن كل ما تكلمنا فيه، فرجعنا إلى بلادنا فرأينا غلامك وكتابك وعليه خاتمك تأمر عبد الله بجلدنا والمثلة بنا وطول الحبس.

فحلف عثمان أنه ما كتب ولا أمر ولا علم. فقال علي ومحمد: صدق عثمان. قال المصريون:فمن كتبه؟ قال: لا أدري. قالوا: فيجترأ عليك ويبعث غلامك وجملاً من الصدقة وينقش على خاتمك ويبعث إلى عاملك بهذه الأمور العظيمة وأنت لا تعلم؟ قال: نعم. قالوا: ما أنت إلا صادق أو كاذب، فإن كنت كاذباً فقد استحققت الخلع لما أمرت به من قتلنا بغير حق، وإن كنت صادقاً فقد استحققت أن تخلع نفسك لضعفك عن هذا الأمر وغفلتك وخبث بطانتك، ولا ينبغي لنا أن نترك هذا الأمر بيد من تقطع الأمور دونه لضعفه وغفلته، فاخلع نفسك منه كما خلعك الله! فقال: لا أنزع قميصاً ألسنيه الله، ولكني أتوب وأنزع. قالوا: لو كان هذا أول ذنب تبت منه قبلنا، ولكنا رأيناك تتوب ثم تعود ولسنا منصرفين حتى نخلعك أو نقتلك أو تلحق أرواحنا بالله تعالى، وإن منعك أصحابك وأهلك قاتلناهم حتى نخلص إليك. فقال: أما إن أتبرأ من خلافة الله فالقتل أحب إلي من ذلك، وأما قولكم تقاتلون من منعني فإني لا آمر أحداً بقتالكم، فمن قاتلكم فبغير أمري قاتل، ولو أردت قتالكم لكتبت إلى الأجناد فقدموا علي أو لحقت ببعض أطرافي. وكثرت الأصوات واللغط.
فقام علي فخرج وأخرج المصريين ومضى علي إلى منزله، وحصر المصريون عثمان، وكتب إلى معاوية وابن عامر وأمراء الأجناد يستنجدهم ويأمرهم بالعجل وإرسال الجنود إليه. فتربص به معاوية، فقام في أهل الشام يزيد بن أسد القسري جد خالج بن عبد الله القسري فتبعه خلق كثير، فسار بهم إلى عثمان، فلما كانوا بوادي القرى بلغهم قتل عثمان فرجعوا. وقيل: بل سار من الشام حبيب بن مسلمة الفهري، وسار من البصرة مجاشع بن مسعود السلمي، فلما وصلوا الربذة ونزلت مقدمتهم صراراً بناحية المدينة أتاهم قتل عثمان فرجعوا.
وكان عثمان قد استشار نصحاءه في أمره، فأشاروا عليه أن يرسل إلى علي يطلب إليه أن يردهم ويعطيهم ما يرضيهم ليطاولهم حتى يأتيه إمداده. فقال: إنهم لا يقبلون التعلل، وقد كان مني في المرة الأولى ما كان. فقال مروان: أعطهم ما سألوك وطاولهم ما طاولوك، فإنهم قوم بغوا عليك ولا عهد لهم. فدعا علياً فقال له: قد ترى ما كان من لناس ولست آمنهم على دمي، فارددهم عني فإني أعطيهم ما يريدون من الحق من نفسي وغيري. فقال علي: الناس إلى عدلك أحوج منهم إلى قتلك، ولا يرضون إلا بالرضا، وقد كنت أعطيتهم أولاً عهداً فلم تف به فلا تغرني هذه المرة فإني معطيهم علك الحق. فقال: أعطهم فوالله لأفين لهم. فخرج علي إلى الناس فقال لهم: أيها الناس إنكم إنما طلبتم الحق وقد أعطيتموه وقد زعم أنه منصفكم من نفسه. فقال الناس: قبلنا فاستوثق منه لنا فإنا لا نرضى بقول دون فعل. فدخل عليه علي فأعلمه فقال: اضرب بيني وبينهم أجلاً فإني لا أقدر على أن أرد ما كرهوا في يوم واحد. فقال علي: أما ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك. قال: نعم، فأجلني فيما في المدينة ثلاثة أيام، فأجابه إلى ذلك، وكتب بينهم كتاباً على رد كل مظلمة وعزل كل عامل كرهوه.

فكف الناس عنه، فجعل يتأهل للقتال ويستعد بالسلاح واتخذ جنداً، فلما مضت الأيام الثلاثة ولم يغير شيئاً ثار به الناس، وخرج عمرو بن حزم الأنصاري إلى المصريين فأعلمهم الحال، وهم بذي خشب، فقدموا المدينة وطلبوا منه عزل عماله ورد مظالمهم. فقال: والله لتفعلن أو لتخلعن أو لتقتلن. فأبى عليهم وقال: لا أنزع سربالاً سربلنيه الله. فحصروه واشتد الحصار عليه، فأرسل إلى علي وطلحة والزبير فحضروا، فأشرف عليهم فقال: يا أيها الناس اجلسوا. فجلسوا المحارب والمسالم. فقال لهم: يا أهل المدينة أستودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي، ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أنكم دعوتم الله عند مصاب عمر أن يختار لكم ويجمعكم على خيركم؟ أتقولون إن الله لم يستجب لكم وهنتم عليه وأنتم أهل حقه؟ أم تقولون: هان على الله دينه فلم يبال من ولي الدين لم يتفرق أهله يومئذ؟ أم تقولون: لم يكن أخذٌ عن مشورة إنما كان مكابرة فوكل الله الأمة إذا عصته ولم يشاوروا في الإمامة؟ أم تقولون: إن الله لم يعلم عاقبة أمري! وأنشدكم بالله أتعلمون لي من سابقة خير وقدم خير قدمه الله لي ما يوجب على كل من جاء بعدي أن يعرفوا لي فضلها! فمهلاً لا تقتلوني فإنه لا يحل إلا قتل ثلاثة: رجل زنى بعد إحصانه، أو كفر بعد إيمانه، أو قتل نفساً بغير حق، فإنكم إذا قتلتموني وضعتم السيف على رقابكم ثم لم يرفع الله عنكم الاختلاف أبداً.
قالوا: أما ما ذكرت من استخارة الناس بعد عمر ثم ولوك فإن كل ما صنع الله خيرة، ولكن الله جعلك بلية ابتلى بها عباده، وأما ما ذكرت من قدمك وسلفك مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقد كنت كذلك وكنت أهلاً للولاية، ولكن أحدثت ما علمته ولا نترك إقامة الحق عليك مخافة الفتنة عاماً قابلاً، وأما قولك: إنه لا يحل إلا قتل ثلاثة، فإنا نجد في كتاب الله قتل غير الثلاثة الذين سميت، قتل من سعى في الأرض فساداً، وقتل من بغى ثم قاتل على بغيه، وقتل من حال دون شيء من الحق ومنعه وقاتل دونه، وقد بغيت ومنعت وحلت دونه وكابرت عليه ولم تقد من نفسك من ظلمت، وقد تمسكت بالإمارة علينا، فإن زعمت أنك لم تكابرنا عليه فإن الذين قاموا دونك ومنعوك منا إنما يقاتلون لتمسكك بالإمارة، فلو خلعت نفسك لانصرفوا عن القتال معك! فسكت عثمان ولزم الدار وأمر أهل المدينة بالرجوع وأقسم عليهم، فرجعوا إلا الحسن بن علي وابن عباس ومحمد بن طلحة وعبد الله بن الزبير وأشباهاً لهم، واجتمع إليه ناس كثير، فكانت مدة الحصار أربعين يوماً، فلما مضت ثماني عشرة ليلة قدم ركبان من الأمصار فأخبروا بخبر من تهيأ إليهم من الجنود وشجعوا الناس، فعندها حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء. فأرسل عثمان إلى علي سراً وإلى طلحة والزبير وأزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، إنهم قد منعوني الماء فإن قدرتم أن ترسلوا إلينا ماء فافعلوا. فكان أولهم إجابة علي، وأم حبيبة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، فجاء علي في الغلس فقال: يا أيها الناس إن الذي تفعلون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تقطعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة، فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي! فقالوا: لا والله ولا نعمة عين! فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت ورجعت، وجاءت أم حبيبة على بغلةٍ لها مشتملة على إداوة فضربوا وجه بغلتها فقالت: إن وصايا بني أمية عند هذا الرجل، فأحببت أن أسأله عنها لئلا تهلك أموال الأيتام والأرامل. فقالوا: كاذبة، وقطعوا حبل البغلة بالسيف، فنفرت وكادت تسقط عنها، فتلقاها الناس فأخذوها وذهبوا بها إلى بيتها.

فأشرف عثمان يوماً فسلم عليهم ثم قال: أنشدكم الله هل تعلمون أني اشتريت بئر رومة بمالي ليستعذب بها فجعلت رشائي فيها كرجل من المسلمين؟ قالوا: نعم. قال: فلم تمنعوني أن أشرب منها حتى أفطر على ماء البحر؟ ثم قال: أنشدكم بالله هل تعلمون أني اشتريت أرض كذا فزدتها في المسجد؟ قيل: نعم. قال: فهل علمتم أن أحداً منع أن يصلي فيه قبلي؟ ثم قال: أنشدكم بالله أتعلمون أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال عني كذا وكذا؟ أشياء في شأنه. ففشا النهي في الناس يقولون: مهلاً عن أمير المؤمنين. فقام الأشتر فقال: لعله مكر به وبكم. وخرجت عائشة إلى الحج واستتبعت أخاها محمداً فأبى، فقالت: والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولون لأفعلن. فقال له حنظلة الكاتب: نستتبعك أم المؤمنين فلا تتبعها وتتبع ذؤبان العرب إلى ما لا يحل؟ وإن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبك عليه بنو عبد مناف. ثم رجع حنظلة إلى الكوفة وهو يقول:
عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرومون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلاً ذليلا
وكانوا كاليهود وكالنصارى ... سواء كلهم ضلوا السبيلا
وبلغ طلحة والزبير ما لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات. فأشرف عثمان على الناس فاستدعى ابن عباس فأمره أن يحج بالناس، وكان ممن لزم الباب، فقال: جهاد هؤلاء أحب إلي من الحج. فأقسم عليه فانطلق.
قال عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة: دخلت على عثمان فأخذ بيدي فأسمعني كلام من على بابه، فمنهم من يقول: ما تنتظرون به؟ ومنهم من يقول: انظروا عسى أن يراجع. قال: فبينما نحن واقفون إذ مر طلحة فقال: أين ابن عديس؟ فقام إليه فناجاه ثم رجع ابن عديس فقال لأصحابه: لا تتركوا أحداً يدخل على عثمان ولا يخرج من عنده. فقال لي عثمان: هذا ما أمر به طلحة، اللهم اكفني طلحة فإنه حمل علي هؤلاء وألبهم علي! والله إني لأرجو أن يكون منها صفراً وأن يسفك دمه! قال: فأردت أن أخرج فمنعوني حتى أمرهم محمد بن أبي بكر فتركوني أخرج. وقيل: إن الزبير خرج من المدينة قبل أن يقتل عثمان، وقيل: أدرك قتله.
ولما رأى المصريون أن أهل الموسم يريدون قصدهم وأن يجمعوا ذلك إلى حجهم مع ما بلغهم من مسير أهل الأمصار قالوا: لا يخرجنا من هذا الأمر الذي وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل فيشتغل الناس عنا بذلك. فراموا الباب فمنعهم الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان وسعيد بن العاص ومن معهم من أبناء الصحابة واجتلدوا، فزجرهم عثمان وقال: أنتم في حلٍ من نصرتي، فأبوا، ففتح الباب لمنعهم، فلما خرج ورآه المصريون رجعوا فركبهم هؤلاء وأقسم عثمان على أصحابه ليدخلن فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين، فقام رجل من أسلم يقال له نيار بن عياض، وكان من الصحابة، فنادى عثمان، فبينا هو يناشده أن يعتزلهم إذ رماه كثير بن الصلت الكندي بسهم فقتله.
فقالوا لعثمان عند ذلك: ادفع إلينا قاتله لنقتله به. قال: لم أكن لأقتل رجلاً نصرني وأنتم تريدون قتلي. فلما رأوا ذلك ثاروا إلى الباب، فلم يمنعهم أحد منه، والباب مغلق لا يقدرون على الدخول منه، فجاؤوا بنار فأحرقوه والسقيفة التي على الباب، وثار أهل الدار، وعثمان يصلي قد افتتح طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى... فما شغله ما سمع، ما يخطىء وما يتتعتع، حتى أتى عليها، فلما فرغ جلس إلى المصحف يقرأ فيه، وقرأ: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) آل عمران: 173، فقال لمن عنده بالدار: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قد عهد إلي عهداً فأنا صابر عليه، ولم يحرقوا الباب إلا وهم يطلبون ما هو أعظم منه، فأحرج على رجل أن يستقتل أو يقاتل، وقال للحسن: إن أباك الآن لفي أمر عظيم من أمرك فأقسمت عليك لما خرجت إليه. فتقدموا فقاتلوا ولم يسمعوا قوله، فبرز المغيرة بن الأخنس بن شريق، وكان قد تعجل من الحج، في عصابة لينصروا عثمان وهو معه في الدار، وارتجز يقول:
قد علمت ذات القرون الميل ... والحلي والأنامل الطفول
لتصدقن بيعتي خليلي ... بصارمٍ ذي رونقٍ مصقول
لا أستقيل إذ أقلت قيلي

وخرج الحسن بن علي وهو يقول:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى طمار شمام
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزاباً على رغم معد
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:
صبرنا غداة الدار والموت واقف ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنا غداة الروع في الدار نصرةً ... نشافههم بالضرب والموت نائب
وكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير فكان يحدث عن عثمان بآخر ما كان عليه، وأقبل أبو هريرة والناس محجمون فقال: هذا يوم طاب فيه الضرب! ونادى: (يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) غافر: 41، وبرز مروان وهو يقول:
قد علمت ذات القرون الميل ... والكف والأنامل الطفول
أني أروع أول الرعيل ... بغارةٍ مثل القطا الشليل
فبرز إليه رجل من بني ليث يدعى النباع، فضربه مروان وضرب هو مروان على رقبته فأثبته وقطع إحدى علباويه، فعاش مروان بعد ذلك أوقص، وقام إليه عبيد بن رفاعة الزرقي ليدفف عليه، فقامت فاطمة أم إبراهيم بن عدي، وكانت أرضعت مروان وأرضعت له، فقالت: إن كنت تريد قتله فقد قتل، وإن كنت تريد أن تلعب بلحمه فهذا قبيح! فتركه وأدخلته بيتها، فعرف لها بنوه ذلك واستعملوا ابنها إبراهيم بعد. ونزل إلى المغيرة بن الأخنس بن شريق رجلٌ فقتل المغيرة، قال: فلما سمع الناس يذكرونه قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال له عبد الرحمن بن عديس: ما لك؟ فقال: رأيت فيما يرى النائم هاتفاً يهتف فقال: بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار، فابتليت به.
واقتحم الناس الدار من الدور التي حولها ودخلوها من دار عمرٍو بن حزم إلى دار عثمان حتى ملؤوها ولا يشعر من بالباب، وغلب الناس على عثمان وندبوا رجلاً يقتله، فانتدب له رجل، فدخل عليه البيت فقال: اخلعها وندعك. فقال: ويحك! والله ما كشفت امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على عورتي منذ بايعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولست خالعاً قميصاً كسانيه الله تعالى حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل الشقاوة! فخرج عنه، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: والله لا ينجينا من الناس إلا قتله ولا يحل لنا قتله. فأدخلوا عليه رجلاً من بني ليث فقال له: لست بصاحبي لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، دعا لك أن تحفظ يوم كذا وكذا ولن تضيع. فرجع عنه وفارق القوم. ودخل عليه رجل من قريش فقال له: إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دماً حراماً. فرجع وفارق أصحابه. وجاء عبد الله بن سلام ينهاهم عن قتله فقال: يا قوم لا تسلوا سيف الله فيكم، فوالله إن سللتموه لا تغمدوه! ويلكم! إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة، فإن قتلتموه لا يقوم إلا بالسيف. ويلكم! إن مدينتكم محفوفة بالملائكة فإن قتلتموه ليتركنها. فقالوا: يا ابن اليهودية ما أنت وهذا! فرجع عنهم. وكان آخر من دخل عليه ممن رجع محمد بن أبي بكر، فقال له عثمان: ويلك أعلى الله تغضب؟ هل لي إليك جرم إلا حقه أخذته منك؟.
فأخذ محمد لحيته وقال: قد أخزاك الله يا نعثل! فقال: لست بنعثل ولكني عثمان وأمير المؤمنين، وكانوا يلقبون به عثمان. فقال محمد: ما أعنى عنك معاوية وفلان وفلان! فقال عثمان: يا ابن أخي فما كان أبوك ليقبض عليها. فقال محمد: لو رآك أبي تعمل هذه الأعمال أنكرها عليك، والذي أريد بك أشد من قبضي عليها! فقال عثمان: أستنصر الله عليك واستعين به! فتركه وخرج.
وقيل: بل طعن جبينه بمشقص كان في يده. والأول أصح.
قال: فلما خرج محمد وعرفوا انكساره ثار قتيرة وسودان بن حمران والغافقي، فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله، فاستدار المصحف واستقر بين يديه وسالت عليه الدماء، وجاء سودان ليضربه، فأكبت عليه امرأته واتقت السيف بيدها، فنفح أصابعها فأطن أصابع يدها وولت، فغمز أوراكها وقال: إنها لكبيرة العجز! وضرب عثمان فقتله.

وقيل: الذي قتله كنانة بن بشر التجيبي. وكان عثمان رأى النبي، صلى الله عليه وسلم، تلك الليلة يقول له: إنك تفطر الليلة عندنا. فلما قتل سقط من دمه على قوله تعالى: (فسيكفيكهم الله) البقرة: 137. ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه، وكان عثمان قد أعتق من كف يده منهم، فلما ضربه سودان ضرب بعض الغلمان رقبة سودان فقتله، ووثب قتيرة على الغلام فقتله، وانتهبوا ما في البيت وخرجوا ثم أغلقوه على ثلاثة قتلى، فلما خرجوا وثب غلام عثمان على قتيرة فقتله، وثار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى أخذوا ما على النساء، وأخذ كلثوم التجيبي ملاءةً من على نائلة، فضربه غلام لعثمان فقتله، وتنادوا: أدركوا بيت المال ولا تسبقوا إليه، فسمع أصحاب بيت المال كلامهم وليس فيه إلا غرارتان، فقالوا: النجاء فإن القوم إنما يحاولون الدنيا! فهربوا، وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس.
وقيل: إنهم ندموا على قتله. وأما عمرو بن الحمق فوثب على صدره وبه رمق فطعنه تسع طعنات، قال: فأما ثلاث منها فإني طعنتهن إياه لله تعالى، وأما ستفلما كان في صدري عليه. وأرادوا قطع رأسه فوقعت نائلة عليه وأم البنين فصحن وضربن الوجوه. فقال ابن عديس: اتركوه. وأقبل عمير ابن ضابىء فوثب عليه فكسر ضلعاً من أضلاعه وقال: سجنت أبي حتى مات في السجن.
وكان قتله لثماني عشر خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين يوم الجمعة، وكانت خلافته اثنتي عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وقيل: إلا ثمانية أيام، وقيل: بل كان قتله لثماني عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين، وقيل: بل قتل أيام التشريق وكان عمره اثنتين وثمانين سنة، وقيل: ثمانياً وثمانين سنة، وقيل: تسعين سنة، وقيل: خمساً وسبعين سنة، وقيل: ستاً وثمانين سنة.
ذكر الموضع الذي دفن فيه

ومن صلى عليه
قيل: بقي عثمان ثلاثة أيام لا يدفن، ثم إن حكيم بن حزام القرشي وجبير ابن مطعم كلما علياً في أن يأذن في دفنه، ففعل، فلما سمع من قصده بذلك قعدوا له في الطريق بالحجارة، وخرج به ناس يسير من أهله وغيرهم، وفيهم الزبير والحسن وأبو جهم بن حذيفة ومروان، بين المغرب والعشاء، فأتوا به حائطاً من حيطان المدينة يسمى حش كوكب، وهو خارج البقيع، فصلى عليه جبير بن مطعم، وقيل: حكيم بن حزام، وقيل: مروان، وجاء ناس من الأنصار ليمنعوا من الصلاة عليه ثم تركوهم خوفاً من الفتنة. وأرسل علي إلى من أراد أن يرجم سريره ممن جلس على الطريق لما سمع بهم فمنعهم عنه، ودفن في حش كوكب. فلما ظهر معاوية بن أبي سفيان على الناس أمر بذلك الحائط فهدم وأدخل في البقيع وأمر الناس فدفنوا أمواتهم حول قبره حتى اتصل الدفن بمقابر المسلمين. وقيل: إنما دفن بالبقيع مما يلي حش كوكب. وقيل: شهد جنازته علي وطلحة وزيد بن ثابت وكعب بن مالك وعامة من ثم من أصحابه. قال: وقيل لم يغسل وكفن في ثيابه.
ذكر بعض سيرة عثمانقال الحسن البصري: دخلت المسجد فإذا أنا بعثمان متكئاً على ردائه، فأتاه سقاءان يختصمان إليه، فقضى بينهما. وقال الشعبي: لم يمت عمر بن الخطاب حتى ملته قريش وقد كان حصرهم بالمدينة، وقال: أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد، فإن كان الرجل منهم ليستأذنه في الغزو فيقول: قد كان لك في غزوك مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما يبلغك، وخير لك من غزوك اليوم أن لا ترى الدنيا ولا تراك. وكان يفعل هذا بالمهاجرين من قريش ولم يكن يفعله بغيرهم من أهل مكة. فلما ولي عثمان خلى عنهم فانتشروا في البلاد وانقطع إليهم الناس وكان أحب إليهم من عمر. قيل: وحج عثمان بالناس سنوات خلافته كلها إلا آخر حجة، وحج بأزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، كما كان يصنع عمر. وكتب إلى الأمصار أن يوافيه العمال في الموسم ومن يشكو منهم، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأنه مع الضعيف على القوي مادام مظلوماً.
وقيل: كان أول منكر ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا طيران الحمام والرمي على الجلاهقات، وهي قوس البندق، واستعمل عليها عثمان رجلاً من بني ليث سنة ثمان من خلافته، فقص الطيور وكسر الجلاهقات.

قيل: وسأل رجل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان، فقال: كان يتيماً في حجر عثمان وكان والي أيتام أهل بيته ومحتملاً كلهم، فسأل عثمان العمل، فقال: يا بني لو كنت رضاً لاستعملتك. قال: فأذن لي فأخرج فأطلب الرزق. قال: اذهب حيث شئت، وجهزه من عنده وحمله وأعطاه، فلما وقع إلى مصر كان فيمن أعان عليه حين منعه الإمارة. قال: وعمار بن ياسر؟ قال: كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذلك تعادياً بين أهل عمار وأهل عباس، وكانا تقاذفا.
قيل: سئل سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان. قال: الغضب والطمع، كان من الإسلام بمكان فغره أقوام فطمع، وكانت له دالة فلزمه حق، فأخذه عثمان من ظهره، فاجتمع هذا إلى ذلك فصار مذمماً بعد أن كان محمداً. قيل: واستخف رجل بالعباس بن عبد المطلب فضربه عثمان فاستحسن منه ذلك، فقال: ايفخم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عمه وأرخص في الاستخفاف به! لقد خالف رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من فعل ذلك ورضي به. قيل: وكان كعب بن ذي الحبكة النهدي يلعب بالنارنجيات، فبلغ عثمان، فكتب إلى الوليد أن يوجعه ضرباً، فعزره وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان، وفيه: إنه قد وجد بكم فجدوا وإياكم والهزل. فغضب كعب وكان في الذين خرجوا عليه، وكان سيره إلى دنباوند، فقال في ذلك للوليد:
لعمري لئن طردتني ما إلى التي ... طمعت بها من سقطتي سبيل
رجوت رجوعي يا ابن أروى ورجعتي ... إلى الحق دهراً، غال ذلك غول
فإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يومٍ وليلةٍ ... عليك بدنباوندكم لطويل
قال: وأما ضابىء بن الحرث البرجمي فإنه استعار في زمن الوليد بن عقبة من قوم من الأنصار كلباً يدعى قرحان يصيد الظباء فحبسه عنهم، فانتزعه الأنصاريون منه قهراً، فهجاهم وقال:
تجشم دوني وفد قرحان خطةً ... تضل لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعاً طاعمين كأنما ... خباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
فاستعدوا عليه عثمان، فعزره وحبسه، فما زال في السجن حتى مات فيه. وقال في الفتك معتذراً إلى أصحابه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكي حلائله
وقائلةٍ قد مات في السجن ضابىءٌ ... ألا من لخصمٍ لم يجد من يحاوله
فلذاك صار ابنه عمير سبئياً. قال: وأما كميل بن زياد وعمير بن ضابىء فإنهما سارا إلى المدينة لقتل عثمان، فأما عمير فإنه نكل عنه، وأما كميل فإنه جسر وثاوره، فوجأ عثمان وجهه فوقع على استه فقال: أوجعتني يا أمير المؤمنين! قال: أولست بفاتك؟ قال: لا والله. فقال عثمان: فاستقد مني، وقال: دونك، فعفا عنه، وبقيا إلى أيام الحجاج فقتلهما، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
قيل: وكان لعثمان على طلحة بن عبيد الله خمسون ألفاً، فقال له يوماً: قد تهيأ مالك فاقبضه. قال: هو لك معونة على مروءتك. قيل: فلما حضر عثمان قال علي لطلحة: أنشدك الله ألا رددت الناس عن عثمان! قال: لا والله حتى تعطيني بنو أمية الحق من أنفسها.
وكان عثمان يلقب ذا النورين لأنه جمع بين ابنتي النبي، صلى الله عليه وسلم.
قال الأصمعي: استعمل عبد الله بن عامر قطن بن عبد عوف على كرمان، فأقبل جيش للمسلمين فمنعهم سيل في واد من العبور، وخشي قطن الفوت فقال: من عبر له ألف درهم. فحملوا أنفسهم وعبروا، وكانوا أربعة آلاف، فأعطاهم أربعة آلاف ألف درهم، فأبى ابن عامر أن يجري ذلك له وكتب إلى عثمان، فكتب عثمان: أن احسبها له فإنه إنما أعان بها في سبيل الله، فلذلك سميت الجوائز لإجازة الوادي.

وقال حسان بن زيد: سمعت علياً وهو يخطب الناس ويقول بأعلى صوته: يا أيها الناس إنكم تكثرون في وفي عثمان، فإن مثلي ومثله كما قال الله تعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ إخواناً على سررٍ متقابلين) الحجر: . وقال أبو حميد الساعدي، وهو بدري وكان مجانباً لعثمان، فلما قتل عثمان قال: والله ما أردنا قتله، اللهم لك علي أن لا أفعل كذا وكذا ولا أضحك حتى ألقاك.
ذكر نسبه وصفته وكنيتهأما نسبه فهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها أم حكيم بنت عبد المطلب.
وأما صفته فإنه كان رجلاً ليس بالطويل ولا بالقصير، حسن الوجه، رقيق البشرة، بوجهه أثر جدري، كبير اللحية عظيمها، أسمر اللون، أصلع، عظيم الكراديس، عظيم ما بين المنكبين، يصفر لحيته، وقيل: كان كثير شعر الرأس، أروح الرجلين.
وأما كنيته فإنه كان يكنى أبا عبد الله بولد جاءه من رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اسمه عبد الله، توفي وعمره ست سنين، نقره ديك في عينه فمرض فمات في دمادى الأولى سنة أربع من الهجرة، وقيل: كان يكنى أبا عمرو.
ذكر وقت إسلامه وهجرتهقيل: كان إسلامه قديماً قبل دخول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دار الأرقم، وكان ممن هاجر إلى الحبشة الهجرة الأولى والثانية ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
ذكر أزواجه وأولادهتزوج رقية وأم كلثوم ابنتي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فولدت له رقية عبد الله، وتزوج فاختة بنت غزوان، فولدت له عبد الله الأصغر، هلك، وتزوج أم عمرو بنت جندب بن عمرو بن حممة الدوسية، ولدت له عمراً وخالداً وأباناً وعمر ومريم؛ وتزوج فاطمة بنت الوليد بن المغيرة المخزومية، ولدت له الوليد وسعيداً وأم سعيد؛ وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، ولدت له عبد الملك، هلك؛ وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة، ولدت له عائشة وأم أبان وأم عمرو؛ وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية، ولدت له مريم بنت عثمان، وقيل: ولدت له أم البنين بنت عيينة عبد الملك وعتبة، وولدت له نائلة عنبسة، وكان له منها أيضاً ابنة تدعى أم البنين، وكانت عند عبد الله بن يزيد بن أبي سفيان؛ وقتل عثمان وعنده رملة ابنة شيبة ونائلة وأم البنين ابنة عيينة وفاختة بنت غزوان، غير أنه طلق أم البنين وهو محصور.
فهؤلاء أزواجه في الجاهلية والإسلام وأولاه.
ذكر أسماء عماله في هذه السنةكان عماله هذه السنة على مكة: عبد الله بن الحضرمي، وعلى الطائف القاسم بن ربيعة الثقفي، وعلى صنعاء يعلى بن منية، وعلى الجند عبد الله بن ربيعة، وعلى البصرة عبد الله بن عامر، خرج منها ولم يول عثمان عليها أحداً، وعلى الكوفة سعيد بن العاص أخرج منها ولم يترك يدخلها. وعلى الشام معاوية بن أبي سفيان، وعامل معاوية على حمص عبد الرحمن بن خالد، وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى الأردن أبو الأعور السلمي، وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكناني، وعلى البحر عبد الله بن قيس الفزاري، وعلى القضاء أبو الدرداء في قول بعضهم، والصحيح أنه كان قد توفي قبل أن قتل عثمان، وكان عامل عثمان على الكوفة أبو موسى على الصلاة، وعلى خراج السواد جابر بن فلان المزني، وهو صاحب المسناة إلى جانب الكوفة، وسماك الأنصاري، وعلى حربها القعقاع بن عمرو، وعلى قرقيسيا جرير بن عبد الله، وعلى أذربيجان الأشعث بن قيس الكندي، وعلى حلوان عتيبة بن النهاس، وعلى ماه مالك بن حبيب، وعلى همذان النسير، وعلى الري سعيد بن قيس، وعلى أصبهان السائب بن الأقرع، وعلى ماسبذان خنيس، وعلى بيت المال عقبة بن عامر، وكان على قضاء عثمان زيد بن ثابت.
عتيبة بن النهاس بالتاء فوقها نقطتان، وبعدها ياء تحتها نقطتان، وآخره باء موحدة. وعيينة بن حصن بالياء تحتها نقطتان، وياء ثانية، وآخره نون، تصغير عين. والنسير بالنون، والسين المهملة، تصغير نسر.
ذكر الخبر عمن كان يصلي في مسجد النبي

صلى الله عليه وسلم حين حصر عثمان

قيل: وجاء ذلك اليوم الذي منع فيه عثمان الصلاة سعد القرظ، وهو المؤذن، إلى علي بن أبي طالب، فقال: من يصلي بالناس؟ فقال: ادع خالد ابن زيد، فدعاه، فصلى بالناس، فهو أول يوم عرف أن اسم أبي أيوب الأنصاري خالد بن زيد، فصلى أياماً ثم صلى بعد ذلك بالناس، وقيل: بل أمر علي سهل بن حنيف فصلى بالناس من أول ذي الحجة إلى يوم العيد، ثم صلى علي بالناس العيد، ثم صلى بهم حتى قتل عثمان. وقد تقدم غير ذلك في ذكر قتله.
ذكر ما قيل فيه من الشعرقال حسان بن ثابت الأنصاري:
أتركتم غزو الدروب وراءكم ... وغزوتمونا عند قبر محمد
فلبئس هدي المسلمين هديتم ... ولبئس أمر الفاجر المتعمد
إن تقدموا نجعل قرى سرواتكم ... حول المدينة كل لينٍ مذود
أو تدبروا فلبئس ما سافرتم ... ولمثل أمر أميركم لم يرشد
وكأن اصحاب النبي عشيةً ... بدنٌ تذبح عند باب المسجد
أبكي أبا عمرٍو لحسن بلائه ... أمسى ضجيعاً في بقيع الغرقد
وقال أيضاً:
إن تمس دار ابن أروى اليوم خاوية ... بابٌ صريعٌ وبابٌ محرقٌ خرب
فقد يصادف باغي الخير حاجته ... فيها ويهوي إليها الذكر والحسب
يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا ... بغارةٍ عصبٍ من خلفها عصب
فيهم حبيبٌ شهاب الموت يقدمهم ... مستلئماً قد بدا في وجهه الغضب
وقال أيضاً:
من سره الموت صرفاً لا مزاج له ... فليأت مأسدةً في دار عثمانا
مستشعري حلق الماذي قد شفعت ... قبل المخاطم بيضٌ زان أبدانا
صبراً فدىً لكم أمي وما ولدت ... قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا
فقد رضينا بأهل الشام نافرةً ... وبالأمير وبالإخوان إخوانا
إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ... ما دمت حياً وما سميت حسانا
لتسمعن وشيكاً في ديارهم: ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحوا باشمط عنوان السجود به ... يقطع الليل تسبيحاً وقرآنا
قال أبو عمر بن عبد البر، وقد ذكر بعض هذه الأبيات فقال: وق زاد فيها أهل الشام، ولم أر لذكره وجهاً، يعني ما فيها من ذكر علي، وهو:
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ... ما كان بين عليٍ وابن عفانا
وقال الوليد بن عقبة بن أبي معيط يحرض أخاه عمارة:
ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
فإن يك ظن بابن أمي صادقاً ... عمارة لا يطلب بذحلٍ ولا وتر
يبيت وأوتار ابن عفان عنده ... مخيمةٌ بين الخورنق والقصر
فأجابه الفضل بن العباس:
أتطلب ثأراً لست منه ولا له ... وأين ابن ذكوان الصفوري من عمرو
كما اتصلت بنت الحمار بأمها ... وتنسى أباها إذ تسامي أولي الفخر
ألا إن خير الناس بعد ثلاثةٍ ... وصي النبي المصطفى عند ذي الذكر
وأول من صلى وصنو نبيه ... وأول من أردى الغواة لدى بدرٍ
فلو رأت الأنصار ظلم ابن أمكم ... بزعمكم كانوا له حاضري النصر
كفى ذاك عيباً أن يشيروا بقتله ... وأن يسلموا للأحابيش من مصر
قوله: وأين ابن ذكوان، فإن الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو واسمه ذكوان بن أمية بن عبد شمس، ويذكر جماعة منى النسابين أن ذكوان مولى لأمية، فتبناه وكناه أبا عمرو، ويعني: إنك مولى لست من بني أمية حتى تكون ممن يطلب بثأر عثمان.
وقال غيرهم من الشعراء أيضاً بعد مقتله فيما بين مادح وهاجٍ، ومن ناع وباك، ومن سار فرح، فممن مدحه حسان، كما تقدم، وكعب بن مالك في آخرين غيرهم كذلك.
ذكر بيعة علي بن أبي طالب

ذكر بيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب

وفي هذه السنة بويع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وقد اختلفوا في كيفية بيعته، فقيل: إنه لما قتل عثمان اجتمع أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين والأنصار وفيهم طلحة والزبير، فأتوا علياً فقالوا له: إنه لابد للناس من إمام. قال: لا حاجة لي أمركم فمن اخترتم رضيت به. فقالوا: ما نختار غيرك، وترددوا إليه مراراً وقالوا له في آخر ذلك: إنا لا نعلم أحداً أحق به منك، لا أقدم سابقةً، ولا أقرب قرابةً من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فقال: لا تفعلوا فإني أكون وزيراً خيراً من أن أكون أميراً. فقالوا: والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك. قال: ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيةً ولا تكون إلا في المسجد. وكان في بيته، وقيل: في حائط لبني عمرو بن مبذول، فخرج إلى المسجد وعليه إزار وطاق وعمامة خز ونعلاه في يده متوكئاً على قوس، فبايعه الناس؛ وكان أول من بايعه من الناس طلحة بن عبيد الله، فنظر إليه حبيب بن ذؤيب فقال: إنا لله! أول من بدأ بالبيعة يد شلاء، لا يتم هذا الأمر! وبايعه الزبير. وقال لهما علي: إن أحببتما أن تبايعاني وإن أحببتما بايعتكما. فقالا: بل نبايعك. وقالا بعد ذلك: إنما فعلنا ذلك خشية على نفوسنا، وعرفنا أنه لا يبايعنا. وهربا إلى مكة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر. وبايعه الناس، وجاؤوا بسعد بن أبي وقاص، فقال علي: بايع، فقال: لا، حتى يبايع الناس، والله ما عليك مني بأس. فقال: خلوا سبيله. وجاؤوا بابن عمر بايع. قال: لا، حتى يبايع الناس. قال: ائتني بكفيل. قال: لا أرى كفيلاً. قال الأشتر: دعني أضرب عنقه! قال علي: دعوه أنا كفيله، إنك ما علمت لسيء الخلق صغيراً ولا كبيراً.
وبايعت الأنصار إلا نفيراً يسيراً، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن مخلد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان ابن بشير، وزيد بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، وكانوا عثمانية؛ فأما حسان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع، وأما زيد بن ثابت فولاه عثمان الديوان وبيت المال، فلما حصر عثمان قال: يا معشر الأنصار كونوا أنصاراً لله، مرتين، فقال له أبو أيوب: ما تنصره إلا أنه أكثر لك من العبدان. وأما كعب بن مالك فاستعمله على صدقة مزينة وترك له ما أخذ منهم؛ ولم يبايعه عبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وسلمة بن سلامة ابن وقش، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة.
فأما النعمان بن بشير فإنه أخذ أصابع نائلة امرأة عثمان التي قطعت وقميص عثمان الذي قتل فيه وهرب به فلحق بالشام، فكان معاوية يعلق قميص عثمان وفيه الأصابع، فإذا رأى ذلك أهل الشام ازدادوا غيظاً وجداً في أمرهم، ثم رفعه، فإذا أحس منهم بفتور يقول له عمرو بن العاص: حرك لها حوارها تحن، فيعلقها.
وقد قيل: إن طلحة والزبير إنما بايعا علياً كرهاً، وقيل: لم يبايعه الزبير ولا صهيب ولا سلمة بن سلامة بن وقش وأسامة بن زيد.

فأما على قول من قال: إن طلحة والزبير بايعا كرهاً فقال: إن عثمان لما قتل بقيت المدينة خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه، ووجدوا طلحة في حائط له، ووجدوا سعداً والزبير قد خرجا من المدينة، ووجدوا بني أمية قد هربوا غلا من لم يطق الهرب، وهرب سعيد والوليد ومروان إلى مكة، وتبعهم غيرهم، فأتى المصريون علياً فباعدهم، وأتى الكوفيون الزبير فباعدهم، وأتى البصريون طلحة فباعدهم، وكانوا مجتمعين على قتل عثمان مختلفين فيمن يلي الخلافة. فأرسلوا إلى سعد يطلبونه، فقال: إني وابن عمر لا حاجة لنا فيها، فأتوا ابن عمر فلم يجبهم، فبقوا حيارى. وقال بعضهم لبعض: لئن جرع الناس إلى أمصارهم بغير إمام لم نأمن الاختلاف وفساد الأمة. فجمعوا أهل المدينة لهم: يا أهل المدينة أنتم أهل الشورى، وأنتم تعقدون الإمامة، وحكمكم جائز على الأمة، فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبعٌ، وقد أجلناكم يومكم، فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غداً علياً وطلحة والزبير وأناساً كثيراً! فغشي الناس علياً فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من بين القرى. فقال علي: دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وله ألوان لا تقوم به القلوب ولا تثبت عليه العقول. فقالوا: ننشدك الله! ألا ترى ما نحن فيه؟ ألا ترى الإسلام؟ ألا ترى الفتنة؟ ألا تخاف الله؟ فقال: قد أجبتكم، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، وإن تركتموني فإنما أنا كأحدكم، ألا إني أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه. ثم افترقوا على ذلك واتعدوا الغد.
وتشاور الناس فيما بينهم وقالوا: إن دخل طلحة والزبير فقد استقامت، فبعث البصريون إلى الزبير حكيم بن جبلة وقالوا: احذر لا تحابه، ومعه نفر، فجاؤوا به يحدونه بالسيف، فبايع، وبعثوا إلى طلحة الأشتر ومعه نفر، فأتى طلحة، فقال: دعني أنظر ما يصنع الناس، فلم يدعه، فجاء به يتله تلاً عنيفاً، وصعد المنبر فبايع. وكان الزبير يقول: جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت والسيف على عنقي، وأهل مصر فرحون بما اجتمع عليه أهل المدينة، وقد خشع أهل الكوفة والبصرة أن صاروا أتباعاً لأهل مصر وازدادوا بذلك على طلحة والزبير غيظاً.
ولما أصبحوا يوم البيعة، وهو يوم الجمعة، حضر الناس المسجد، وجاء علي فصعد المنبر وقال: أيها الناس، عن ملأٍ وإذن، إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلا أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي دونكم إلا مفاتيح ما لكم معي وليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم وإلا فلا أجد على أحد. فقالوا: نحن على ما فارقناك عليه بالأمس. فقال: اللهم اشهد. ولما جاؤوا بطلحة ليبايع قال: إنما أبايع كرهاً. فبايع، وكان به شلل، فقال رجل يعتاف: إنا لله وإنا إليه راجعون، أول يد بايعت يد شلاء، لا يتم هذا الأمر! ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك وبايع، وفي الزبير اختلاف، ثم جيء بعده بقوم كانوا قد تخلفوا فقالوا: نبايع على إقامة كتاب الله في القريب والبعيد والعزيز والذليل، فبايعهم، ثم قام العامة فبايعوا، وصار الأمر أمر أهل المدينة وكأنهم كما كانوا فيه وتفرقوا إلى منازلهم.
وبويع يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، والناس يحسبون بيعته من يوم قتل عثمان.
وأول خطبة خطبها علي حين استخلف حمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الله أنزل كتاباً هادياً يبين فيه الخير والشر، فخذوا بالخير ودعوا الشر، الفرائض الفرائض أدوها إلى الله تعالى يؤدكم إلى الجنة. إن الله حرم حرماتٍ غير مجهولة وفضل حرمة المسلم على الحرم كلها، وشد بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين، فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده إلا بالحق، لا يحل دم امرىء مسلم إلا بما يجب. بادروا أمر العامة، وخاصة أحدكم الموت، فإن الناس أمامكم وإن ما من خلفكم الساعة تحدوكم. تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر الناس أخراهم. اتقوا الله عباد الله في بلاده وعباده، إنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. أطيعوا الله فلا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشر فدعوه، (واذكروا إذ أنتم قليلٌ مستضعفون في الأرض) الأنفال: 26. ولما فرغ من الخطبة وهو على المنبر قال السبئية.

خذها إليك واحذرن أبا حسن ... إنا نمر الأمر إمرار الرسن
صولة أقوامٍ كأشداد السفن ... بمشرفياتٍ كغدران اللبن
ونطعن الملك بلينٍ كالشطن ... حتى يمرن على غير عنن
فقال علي:
إني عجزت عجزةً لا أعتذر ... سوف أكيس بعدها وأستمر
أرفع من ذيلي ما كنت أجر ... وأجمع الأمر الشتيت المنتشر
إن لم يشاغبني العجول المنتصر ... إن تتركوني والسلاح يبتدر
ورجع علي إلى بيته، فدخل عليه طلحة والزبير في عدد من الصحابة فقالوا: يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم. فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهو خلاطكم يسومونكم ما شاؤوا، فهل ترون موضعاً لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأياً ترونه أبداً إلا أن يشاء الله. إن هذا الأمر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة، وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبداً. إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور: فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا، حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدأوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا. واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها، وإنما هيجه على ذلك هرب بني أمية وتفرق القوم، فبعضهم يقول ما قال علي، وبعضهم يقول: نقضي الذي علينا ولا نؤخره، والله إن علياً لمستغنٍ برأيه وليكونن أشد على قريش من غيره.
فسمع ذلك فخطبهم وذكر فضلهم وحاجته إليهم ونظره لهم وقيامه دونهم وأنه ليس له من سلطانهم إلا ذاك والأجر من الله عليه، ونادى: برئت الذمة من عبد لا يرجع إلى مولاه. فتذامرت السبئية والأعراب وقالوا: لنا غداً مثلها ولا نستطيع نحتج فيهم بشيء. وقال: أيها الناس أخرجوا عنكم الأعراب فليلحقوا بمياههم، فأبت السبئية وأطاعهم الأعراب. فدخل علي بيته، ودخل عليه طلحة والزبير وعدةٌ من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: دونكم ثأركم فاقتلوه. فقالوا: عشوا من ذلك. فقال: هم والله بعد اليوم أعشى! وقال:
ولو أن قومي طاوعتني سراتهم ... أمرتهم أمراً يديخ الأعاديا
وقال طلحة: دعني آت البصرة فلا يفجأك إلا وأنا في خيل. وقال الزبير: دعني آت الكوفة فلا يفجأك إلا وأنا في خيل. فقال: حتى أنظر في ذلك.
قيل: وقال ابن عباس: أتيت علياً بعد قتل عثمان عند عودي من مكة فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرته هذه: إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأي اليوم تحرز به ما في غد، وإن الضياع اليوم يضيع به ما في غد، أقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيت عليه ذلك وقلت: لا أداهن في ديني ولا أعطي الدنية في أمري. قال: فإن كنت أبيت علي فانزع من شئت واتر معاوية، فإن في معاوية جرأة، وهو في أهل الشام يستمع منه، ولك حجة في إثباته، وكان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام. فقلت: لا والله لا أستعمل معاوية يومين! ثم انصرف من عندي وأنا أعرف فيه أنه يود أني مخطىء، ثم عاد إلي فقال: إني أشرت عليك أول مرة بالذي أشرت وخالفتني فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذي رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله وهم أهون شوكة مما كان. قال ابن عباس: فقلت لعلي: أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما المرة الثانية فقد غشك. قال: ولم نصحني؟ قلت: لأن معاوية وأصحابه أهل دنيا فمتى ثبتهم لا يبالون من ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون: أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك، فتنتفض عليك الشام وأهل العراق، مع أني لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك، وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلي أن أقلعه من منزله، وقال علي: والله لا أعطيه إلا السيف! ثم تمثل:
وما ميتةٌ إن متها غير عاجز ... بعارٍ إذا ما غالت النفس غولها

فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجلٌ شجاع لست صاحب رأي في الحرب، أما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (الحرب خدعة)؟ فقال: بلى. فقلت: أما والله لئن أطعتني لأصدرنهم بعد ورد، ولأتركنهم ينظرون في دبر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها في غير نقصان عليك ولا إثم لك. فقال: يا ابن عباس لست من هناتك ولا من هنات معاوية في شيء. قال ابن عباس: فقلت له: أطعني والحق بما لك بينبع وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غداً. فأبى علي فقال: تشير علي وأرى فإذا عصيتك فأطعني. قال: فقلت: افعل، إن أيسر ما لك عندي الطاعة. فقال له علي: تسير إلى الشام فقد وليتكها. فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وعامله ولست آمن أن يضرب عنقي بعثمان، وإن أدنى ما هو صانعٌ أن يحبسني فيتحكم علي لقرابتي منك، وإن كل ما حمل عليك حمل علي، ولكن اكتب إلى معاوية فمنه وعده. فقال: لا والله، لا كان هذا أبداً!
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، أعني سنة خمس وثلاثين، سار قسطنطين بن هرقل في ألف مركب يريد أرض المسلمين قبل قتل عثمان، فسلط الله عليهم ريحاً عاصفاً فغرقهم ونجا قسطنطين فأتى صقلية، فصنعوا له حماماً، فدخله فقتلوه فيه وقالوا: قتلت رجالنا. هكذا قال أبو جعفر.
وهذا قسطنطين هو الذي هزمه المسلمون في غزوة الصواري سنة إحدى وثلاثين، وقتله أهل صقلية في الحمام، وإن كانوا قد اختلفوا في السنة التي كانت الوقعة فيها، فلولا قوله: إن المراكب غرقت، لكانت هذه الحادثة هي تلك، فإنها في قول بعضهم: كانت سنة خمس وثلاثين.
وفي خلافة عثمان مات أوس بن خولي الأنصاري؛ وفي خلافة عثمان أيضاً مات الجلاس بن سويد الأنصاري، وكان من المنافقين على عهد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وحسنت توبته؛ وفيها مات الحرث بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب، والد الملقب بببة؛ وفي آخرها مات الحكم بن أبي العاص، وهو والد مروان وعم عثمان؛ وفيهها مات حبان بن منقذ الأنصاري، وهو والد يحيى بن حبان، بفتح الحاء المهملة وبالباء الموحدة؛ وفيها مات عبد الله ابن قيس بن خالد الأنصاري، وقيل: بل قتل بأحد شهيداً؛ وفي خلافته مات قطبة بن عامر الأنصاري، وهو عقبي بدري؛ وفي خلافته مات زيد بن خارجة بن زيد الأنصاري، وهو الذي تكلم بعد موته؛ وفيها قتل معبد بن العباس بن عبد المطلب بإفريقية في آخر خلافة عثمان؛ وفيها مات معيقيب بن أبي فاطمة، وكان من مهاجرة الحبشة، وكان على خاتم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: بل مات سنة أربعين في خلافة علي؛ وفيها مات مطيع بن الأسود العدوي، وكان إسلامه يوم الفتح؛ وفي خلافته مات نعيم بن مسعود الأشجعي، وقيل: بل قتل في وقعة الجمل مع مجاشع بن مسعد؛ وفي خلافته مات عبد الله بن حذافة السهمي، وهو بدري، وكان فيه دعابة؛ وفيها مات عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي والد عمر الشاعر، وكان قد جاء من اليمن لينصر عثمان لما حصر فسقط عن راحلته فمات؛ وأبو رافع مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقيل: مات في خلافة علي، وهو اصح؛ وفي خلافته توفي أبو سبرة بن أبي رهم العامري من عامر بن لؤي، وهو بدري، وفيها مات هاشم بن عتبة بن ربيعة خال معاوية، أسلم يوم الفتح وكان صالحاً؛ وفيها مات أبو الدرداء، وقيل: عاش بعده، والأول أصح.
ثم دخلت سنة ست وثلاثينذكر تفريق عليّ عماله وخلاف معاوية
وفي هذه السنة فرق علي عماله على الأمصار، فبعث عثمان بن حنيف على البصرة، وعمارة بن شهاب على الكوفة، وكانت له هجرة، وعبيد الله بن عباس على اليمن، وقيس بن سعد على مصر، وسهل بن حنيف على الشام.

فأما سهل فإنه خرج حتى إذا كان بتبوك لقيته خيلٌ فقالوا: من أنت؟ قال: أمير. قالوا: على أي شيء؟ أمير المؤمنينعلى الشام. قالوا: إن كان بعثك عثمان فحي هلاً بك، وإن كان بعثك غيره فارجع. قال: أوما سمعتم بالذي كان؟ قالوا: بلى. فرجع إلى علي. وأما قيس بن سعد فإنه لما انتهى إلى أيلة لقيته خيلٌ فقالوا له: من أنت؟ قال: من فالة عثمان، فأنا أطلب من آوي إليه فأنتصر به لله. قالوا: من أنت؟ قال: قيس بن سعد. قالوا: امض. فمضى حتى دخل مصر. فافترق أهل مصر فرقاً، فرقة دخلت في الجماعة فكانوا معه، وفرقة اعتزلت بخرنبا وقالوا: إن قتل قتلة عثمان فنحن معكم، وإلا فنحن على دديلتنا حتى نحرك أو نصيب حاجتنا، وفرقة قالوا: نحن مع علي ما لم يقد من إخواننا، وهم في ذلك مع الجماعة. وكتب قيس إلى علي بذلك.
وأما عثمان بن حنيف فسار ولم يرده أحد عن دخول البصرة ولم يجد لابن عامر في ذلك رأياً ولا استقلالاً بحرب، وافترق الناس بها، فاتبعت فرقةٌ القوم، ودخلت فرقةٌ في الجماعة، وقالت فرقة: ننظر ما يصنع أهل المدينة فتصنع كما صنعوا. وأما عمارة بن شهاب فلما بلغ زبالة لقيه طليحة بن خويلد، وكان خرج يطلب بثأر عثمان وهو يقول: لهفي على أمر لم يسبقني ولم أدركه! وكان خروجه عند عود القعقاع من إغاثة عثمان، فلما لقي عمارة قال له: ارجع، فإن القوم لا يريدون بأميرهم بدلاً، فإن أبيت ضربت عنقك. فرجع عمارة إلى علي بالخبر. وانطلق عبيد الله بن عباس إلى اليمن، فجمع يعلى بن منية كل شيء من الجباية وخرج به إلى مكة فقدمها بالمال، ودخل عبيد الله اليمن.
ولما رجع سهل بن حنيف من الشام وأتت علياً الأخبار دعا طلحة والزبير فقال: إن الأمر الذي كنت أحذركم قد وقع، وإن الذي قد وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة كالنار كلما سعرت ازدادت واستثارت. فقالا له: ائذن لنا نخرج من المدينة فإما أن نكاثر وإما أن تدعنا. فقال: سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بداً فآخر الداء الكي.
وكتب إلى معاوية وإلى أبي موسى. فكتب إليه أبو موسى بطاعة أهل الكوفة وبيعتهم، وبين الكاره منهم للذي كان والراضي ومن بين ذلك حتى كان علي كأنه يشاهدهم. وكان رسول علي إلى أبي موسى معبدٌ الأسلمي، وكان رسوله إلى معاوية سبرة الجهني، فقدم عليه، فلم يجبه معاوية بشيء، كلما تنجز جوابه لم يزد على قوله:
أدم إدامة حصن أو خذا بيدي ... حرباً ضروساً تشب الجذل والضرما
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله ... شنعاء شيبت الأصداغ واللمما
أعيا المسود بها والسيدون فلم ... يوجد لنا غيرنا مولىً ولا حكما
حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر دعا معاوية رجلاً من بني عبس يدعى قبيصة فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه: من معاوية إلى علي: وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثم أوصاه بما يقول، وأعاد رسول علي معه. فخرجا فقدما المدينة في ربيع الأول، فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار، فتبعه الناس ينظرون إليه، وعلموا أن معاوية معترض، ودخل الرسول على علي فدفع إليه الطومار، ففض ختمه فلم يجد فيه كتاباً. فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، إن الرسول لا يقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود. قال: ممن؟ قال: من خيط رقبتك. وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق. قال: أمني يطلبون دم عثمان، ألست موتوراً كترة عثمان؟ اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان! نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء الله، فإنه إذا أراد أمراً اصابه، اخرج. قال: وأنا آمنٌ؟ قال: وأنت آمن. فخرج العبسي وصاحت السبئية وقالت: هذا الكلب رسول الكلاب، اقتلوه! فنادى: يا آل مضر! يا آل قيس! الخيل والنهل! أقسم بالله ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحول والركاب! وتعاونوا عليه، فمنعه مضر، فجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله لا يفلح هؤلاء أبداً، أتاهم ما يوعدون، لقد حل بهم ما يجدون، انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم.

وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله أهل القبلة، أيجسر عليه أم ينكل عنه؟ وقد بلغهم أن ابنه الحسن دعاه إلى القعود وترك الناس، فدسوا زياد بن حنظلة التميمي وكان منقطعاً إلى علي فجلس إليه ساعة، فقال له علي: يا زياد تيسر، فقال: لأي شيء؟ فقال: لغزو الشام. فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال:
ومن لم يصانع في أمورٍ كثيرةٍ ... يضرس بأنيابٍ ويوطأ بمنسم
فتمثل علي وكأنه لا يريده:
متى تجمع القلب الزكي وصارماً ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
فخرج زياد والناس ينتظرونه وقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا قوم. فعرفوا ما هو فاعل. واستأذنه طلحة والزبير في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة؛ ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء، وولى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد ولاه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله على مقدمته، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يول ممن خرج على عثمان أحداً، وكتب إلى قيس بن سعد وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى أن يندبوا الناس إلى أهل الشام، ودعا أهل المدينة إلى قتالهم وقال لهم: إن في سلطان الله عصمة أمركم فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها، والله لتفعلن أو لينقلن عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبداً حتى يأرز الأمر إليها، انهضوا إلى هؤلاء الذين يريدون تفريق جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم.
خرنبا بفتح الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح النون، والباء الموحدة، وآخره ألف.
ذكر ابتداء وقعة الجملفبينما هم كذلك على التجهز لأهل الشام أتاهم الخبر عن طلحة والزبير وعائشة وأهل مكة بنحو آخر وأنهم على الخلاف، فأعلم علي الناس ذلك، وأن عائشة وطلحة والزبير قد سخطوا إمارته ودعوا الناس إلى الإصلاح وقال لهم: سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، وأكف إن كفوا، وأقتصر على ما بلغني. عنهم.
ثم أتاه أنهم يريدون البصرة، فسره ذلك وقال: إن الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم. فقال له ابن عباس: إن الذي سرك من ذلك ليسوءني، إن الكوفة فسطاط فيه من أعلام العرب، ولا يحملهم عدة القوم، ولا يزال فيها من يسمو إلى أمر لا يناله، فإذا كان كذلك شغب علي الذي قد نال ما يريد حتى تكسر حدته.
فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول، وتهيأ للخروج إليهم، فندب أهل المدينة للمسير معهم فتثاقلوا، فبعث إلى عبد الله بن عمر كميلاً النخعي، فجاء به، فدعاه إلى الخروج معه، فقال: إنما أنا من أهل المدينة وقد دخلوا في هذا الأمر فدخلت معهم، فإن يخرجوا أخرج معهم، وإن يقعدوا أقعد. قال: فأعطني كفيلاً. قال: لا أفعل. فقال له علي: لولا ما أعرف من سوء خلقك صغيراً وكبيراً لأنكرتني، دعوه فأنا كفيله. فرجع ابن عمر إلى المدينة وهم يقولون: والله ما ندري كيف نصنع، إن الأمر لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا.
فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم ابنة علي، وهي زوجة عمر، بالذي سمع، وأنه يخرج معتمراً مقيماً على طاعة علي ما خلا النهوض. فأصبح علي فقيل له: حدث الليلة حدث هو أشد من طلحة والزبير وعائشة ومعاوية. قال: وما ذاك؟ قالوا: خرج ابن عمر إلى الشام فأتى السوق وأعد الظهر والرجال وأخذ لكل طريق طلاباً وماج الناس. فسمعت أم كلثوم فأتت علياً فأخبرته الخبر، فطابت نفسه وقال: انصرفوا، والله ما كذبت ولا كذب، والله إنه عندي ثقة. فانصرفوا.
وكان سبب اجتماعهم بمكة أن عائشة كانت خرجت إليها، وعثمان محصور، ثم خرجت من مكة تريد المدينة. فلما كانت بسرف لقيها رجلٌ من أخوالها من بني ليث يقال له عبيد بن أبي سلمة، وهو ابن أم كلاب، فقالت له: مهيم؟ قال: قتل عثمان وبقوا ثمانياً. قالت: ثم صنعوا ماذا؟ قال: اجتمعوا على بيعة علي. فقالت: ليت هذه انطبقت على هذه إن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني! فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله عثمان مظلوماً، والله لأطلبن بدمه! فقال لها: ولم؟ والله إن أول أمال حرفه لأنت، ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر. قالت: إنهم استتابوه ثم قتلوه، وقد قلت وقالوا، وقولي الأخير خير من قولي الأول. فقال لها ابن أم كلاب:

فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السقف من فوقنا ... ولم ينكسف شمسنا والقمر
وقد بايع الناس ذا تدرإ ... يزيل الشبا ويقيم الصغر
ويلبس للحرب أثوابها ... وما من وفى مثل من قد غدر
فانصرفت إلى مكة فقصدت الحجر فسترت فيه، فاجتمع الناس حولها، فقالت: أيها الناس إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المقتول ظلماً بالأمس ونقموا عليه استعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أمثالهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم فتابعهم ونزع لهم عنها. فلما لم يجدوا حجة ولا عذراً بادروا بالعدوان فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام والشهر الحرام وأخذوا المال الحرام، والله لإصبعٌ من عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم! ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنباً لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء، أي يغسل.
فقال عبد الله بن عامر الحضرمي، وكان عامل عثمان على مكة: ها أنا أول طالب! فكان أول مجيب، وتبعه بنو أمية على ذلك، وكانوا هربوا من المدينة بعد قتل عثمان إلى مكة ورفعوا رؤوسهم، وكان أول ما تكلموا بالحجاز وتبعهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية، وقدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة بمال كثير، ويعلى بن أمية، وهو ابن منية، من اليمن ومعه ستمائة بعير وستمائة ألف درهم، فأناخ بالأبطح، وقدم طلحة والزبير من المدينة فلقيا عائشة، فقالت: ما وراءكما؟ فقالا: إنا تحملنا هراباً من المدينة من غوغاء وأعراب وفارقنا قومماً حيارى لا يعرفون حقاً ولا ينكرون باطلاً ولا يمنعون أنفسهم. فقالت: انهضوا إلى هذه الغوغاء. فقالوا: نأتي الشام. فقال ابن عامر: قد كفاكم الشام معاوية، فأتوا البصرة فإن لي به بها صنائع ولهم في طلحة هوىً. قالوا: قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب، فهلا أقمت كما أقام معاوية فنكفى بك ثم نأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب؟ فلم يجدوا عنده جواباً مقبولاً، فاستقام الرأي على البصرة، وقالوا لها: نترك المدينة فإنا خرجنا فكان معنا من لا يطيق من بها من الغوغاء ونأتي بلداً مضيعاً سيحتجون علينا ببيعة علي فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة، فإن أصلح الله الأمر كان الذي أردنا، وإلا دفعنا بجهدنا حتى يقضي الله ما أراد.
فأجابتهم إلى ذلك. ودعوا عبد الله بن عمر ليسير معهم، فابى وقال: أنا من أهل المدينة أفعل ما يفعلون. فتركوه.
وكان أزواج النبي، صلى الله عليه وسلم، معها على قصد المدينة، فلما تغير رأيها إلى البصرة تركن ذلك، وأجابتهم حفصة إلى المسير معهم، فمنعها أخوها عبد الله بن عمر. وجهزهم يعلى بن منية بستمائة بعير وستمائة ألف درهم، وجهزهم ابن عامر بمال كثير، ونادى مناديها: إن أم المؤمنين وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة، فمن أراد إعزاز الإسلام وقتال المحلين والطلب بثأر عثمان وليس له مركب وجهاز فليأت! فحملوا ستمائة على ستمائة بعير وساروا في ألف، وقيل: في تسعمائة من أهل المدينة ومكة، ولحقهم الناس فكانوا في ثلاثة آلاف رجل. وبعثت أم الفضل بنت الحرث أم عبد الله بن عباس رجلاً من جهينة يدعى ظفراً فاستأجرته على أن يأتي علياً بالخبر، فقدم على علي بكتابها.
وخرجت عائشة ومن معها من مكة، فلما خرجوا منها وأذن مروان بن الحكم، ثم جاء حتى وقف على طلحة والزبير فقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن بالصلاة؟ فقال عبد الله بن الزبير: على أبي عبد الله، يعني أباه الزبير. وقال محمد بن طلحة: على أبي محمد، يعني أباه طلحة. فأرسلت عائشة إلى مروان وقالت له: أتريد أن تفرق أمرنا! ليصل بالناس ابن أختي، تعني عبد الله بن الزبير. وقيل: بلى صلى بالناس عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد حتى قتل، فكان معاذ ابن عبيد الله يقول: والله لو ظفرنا لاقتتلنا، ما كان الزبير يترك طلحة والأمر ولا كان طلحة يترك الزبير والأمر.

وتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات عرق فبكوا على الإسلام، فلم ير يوم كان أكثر باكياً وباكيةً من ذلك اليوم، فكان يسمى يوم النحيب. فلما بلغوا ذات عرق لقي سعيد بن العاص مروان بن الحكم وأصحابه بها فقال: أين تذهبون وتتركون ثأركم على أعجاز الإبل وراءكم؟ يعني عائشة وطلحة والزبير، اقتلوهم ثم ارجعوا إلى منازلكم. فقالوا: نسير فلعلنا نقتل قتلة عثمان جميعاً. فخلا سعيد بطلحة والزبير فقال: إن ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ اصدقاني. قالا: نجعله لأحدنا أينا اختاره الناس. قال: بل تجعلونه لولد عثمان فإنكم خرجتم تطلبون بدمه. فقالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأيتام! قال: فلا أراني أسعى إلا لإخراجها من بني عبد مناف. فرجع ورجع عبد الله ابن خالد بن أسيد، وقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما قال سعيد، من كان ههنا من ثقيف فليرجع. فرجع ومضى القوم ومعهم أبان والوليد ابنا عثمان.
وأعطى يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بثمانين ديناراً، فركبته، وقيل: بل كان جملها لرجل من عرينة.
قال العرني: بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب فقال: أتبيع جملك؟ قلت: نعم. قال: بكم؟ قلت: بألف درهم. قال: أمجنون أنت؟ قلت: ولم؟ والله ما طلبت عليه أحداً إلا أدركته ولا طلبني وأنا عليه أحدٌ إلا فته. قال: لو تعلم لمن نريده! إنما نريده لأم المؤمنين عائشة! فقلت: خذه بغير ثمن. قال: بل ترجع معنا إلى الرحل فنعطيك ناقة ودراهم. قال: فرجعت معه فأعطوني ناقة مهرية وأربعمائة درهم أو ستمائة، وقالوا لي: يا أخا عرينة هل لك دلالة بالطريق؟ قلت: أنا من أدل الناس. قالوا: فسر معنا. فسرت معهم فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا الحوأب، وهو ماء، فنبحتنا كلابه، فقالوا: أي ماء هذا؟ فقلت: هذا ماء الحواب. فصرخت عائشة بأعلى صوتها وقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهيه، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول وعنده نساؤه: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب! ثم ضربت عضد بعيرها فأناخته وقالت: ردوني، أنا والله صاحبة ماء الحوأب. فأناخوا حولها يوماً وليلة، فقال لها عبد الله بن الزبير: إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجاء النجاء! قد أدرككم علي بن أبي طالب. فارتحلوا نحو البصرة فلما كانوا بفنائها لقيهم عمير بن عبد الله التميمي وقال: يا أم المؤمنين أنشدك الله أن تقدمي اليوم على قوم لم تراسلي منهم أحداً فعجلي ابن عامر فإن له بها صنائع فليذهب إليهم ليلقوا الناس إلى أن تقدمي ويسمعوا ما جئتم به. فأرسلته فاندس إلى البصرة، فأتى القوم، وكتبت عائشة إلى رجال من أهل البصرة وإلى الأحنف بن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم وأقامت بالحفير تنتظر الجواب.
ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران بن حصين وكان رجل عامة، وألزه بأبي الأسود الدئلي، وكان رجل خاصة، وقال لهما: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها. فخرجا فانتهيا إليها بالحفير، فأذنت لهما، فدخلا وسلما وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك لنسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت: والله ما مثل يعطي لبنيه الخبر، إن الغوغاء ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأحدثوا فيه وآووا المحدثين فاستوجبوا لعنة الله ولعنة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترةٍ ولا عذر فاستحلوا الدم الحرام وسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر الحرام فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء وما الناس فيه وراءنا وما ينبغي لهم من إصلاح هذه القصة، وقرأت: (لا خير في كثيرٍ من نجواهم) النساء: 114 الآية، فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به ومنكر ننهاكم عنه.
فخرج عمران وأبو الأسود من عندها فأتيا طلحة وقالا: ما أقدمك؟ فقال: الطلب بدم عثمان. فقالا: ألم تبايع علياً؟ فقال: بلى والسيف على عنقي وما أستقيل علياً البيعة إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان. ثم أتيا الزبير فقالا له مثل قولهما لطلحة، وقال لهما مثل قول طلحة، فرجعا إلى عثمان بن حنيف ونادى مناديها بالرحيل، فدخلا على عثمان فبادر أبو الأسود عمران فقال:
يا ابن حنيفٍ قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئماً وشمر

فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون، دارت رحى الإسلام ورب الكعبة فانظروا بأي زيفان تزيف. فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركاً طويلاً. قال: فأشر علي يا عمران. قال: اعتزل فإني قاعد. قال عثمان: بل أمنعهم حتى يأتي أمير المؤمنين. فانصرف عمران إلى بيته وقام عثمان في أمره، فأتاه هشام بن عامر فقال: إن هذا الأمر الذي تريده يسلم إلى شر مما تكره، إن هذا فتقٌ لا يرتق، وصدعٌ لا يجبر، فارفق بهم وسامحهم حتى يأتي أمر علي. فأبى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بلبس السلاح، فاجتمعوا إلى المسجد، وأمرهم بالتجهز، وأمر رجلاً دسه إلى الناس خدعاً كوفياً قيسياً، فقام فقال: أيها الناس أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء القوم إن كانوا جاؤوا خائفين، فقد أتوا من بلد يأمن فيه الطير، وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان فما نحن بقتلة عثمان، فأطيعوني وردوهم من حيث جاؤوا. فقام الأسود ابن سريع السعدي فقال: أو زعموا أنا قتلة عثمان؟ إنما أتوا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا. فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصراً فكسره ذلك.
فأقبلت عائشة فيمن معها حتى انتهوا إلى المربد فدخلوا من أعلاه ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يكون معها، فاجتمع القوم بالمربد، فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد وعثمان في ميسرته، فأنصتوا له، فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان وفضله وما استحل منه ودعا إلى الطلب بدمه وحثهم عليه، وكذلك الزبير. فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرا. وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا وأمرا بالباطل، فقد بايعا علياً ثم جاءا يقولان، وتحاثى الناس وتحاصبوا وأرهجوا.
فتكلمت عائشة، وكانت جهورية الصوت، فحمدت الله وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا عنهم، فننظر في ذلك فنجده بريئاً تقياً وفياً، ونجدهم فجرة غدرة كذبة، وهم يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا كاثروه واقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والشهر الحرام والبلد الحرام بلا ترةٍ ولا عذر، ألا إن مما ينبغي ولا ينبغي لكم غيره، أخذ قتلة عثمان وإقامة كتاب الله، وقرأت: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله) آل عمران: 23 الآية؛ فافترق أصحاب عثمان فرقتين، فرقة قالت: صدقت وبرت، وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما جئتم به! فتحاثوا وتحاصبوا. فلما رأت عائشة ذلك انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان بن حنيف حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين، وبقي أصحاب عثمان على حالهم، ومال بعضهم إلى عائشة وبقي بعضهم مع عثمان.
وأقبل جارية بن قدامة السعدي وقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك! إنه من رأى قتالك يرى قتلك! لئن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا مكرهة فاستعيني بالناس.
وخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة والزبير فقال: أما أنت يازبير فحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بيدك وأرى أمكما معكما فهل جئتما بنسائكما؟ قالا: لا. قال: فما أنا منكم في شيء؛ واعتزل وقال في ذلك:
صنتم حلائلكم وقدتم أمكم ... هذا لعمرك قلة الإنصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها ... فهوت تشق البيد بالإيجاف
غرضاً يقاتل دونها أبناؤها ... بالنبل والخطي والأسياف
هكت بطلحة والزبير ستورها ... هذا امخبر عنهم والكافي

وأقبل حكيم بن جبلة العبدي وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا ليسمك حكيم وأصحابه، فلم ينته وقاتلهم وأصحاب عائشة كافون يدفعون عن أنفسهم وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، فاقتتلوا على فم السكة، وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا إلى مقبرة بني مازن وحجز الليل بينهم، ورجع عثمان إلى القصر، وأتى أصحاب عائشة إلى ناحية دار الرزق وباتوا يتأهبون وبات الناس يأتونهم واجتمعوا بساحة دار الرزق. فغاداهم حكيم بن جبلة وهو يسب وبيده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسبه؟ قال: عائشة. قال: يا ابن الخبيثة الأم المؤمنين تقول هذا؟ فطعنه حكيم فقتله. ثم مر بامرأة وهو يسبها أيضاً، فقالت له: ألأم المؤمنين تقول هذا يا ابن الخبيثة؟ فطعنها فقتلها. ثم سار فاقتتلوا بدار الرزق قتالاً شديداً إلى أن زال النهار وكثر القتل في أصحاب عثمان بن حنيف وكثر الجراح في الفريقين. فلما عضتهم الحرب تنادوا إلى الصلح وتوادعوا، فكتبوا بينهم كتاباً على أن يبعثوا رسولاً إلى المدينة يسأل أهلها، فإن كان طلحة والزبير أكرها خرج عثمان ابن حنيف عن البصرة وأخلاها لهما، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير، وكتبوا بينهم كتاباً بذلك. وسار كعب بن سور إلى أهل المدينة يسألهم. فلما قدمها اجتمع الناس إليه، وكان يوم جمعة، فقام وقال: يا أهل المدينة، أنا رسول أهل البصرة، نسألكم هل أكره طلحة والزبير على بيعة علي أم أتياها طائعين؟ فلم يجبه أحد إلا أسامة بن زيد فإنه قام وقال: إنهما بايعا وهما مكرهان. فأمر به تمام بن العباس فواثبه سهل بن حنيف والناس وثار صهيب وأبو أيوب في عدة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا أن يقتل أسامة فقالوا: اللهم نعم. فتركوه، وأخذ صهيب أسامة بيده إلى منزله وقال له: أما وسعك ما وسعنا من السكوت؟ قال: ما كنت أظن أن الأمر كما أرى. فرجع كعب وبلغ علياً الخبر، فكتب إلى عثمان يعجزه وقال: والله ما أكرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كان يريدان الخلع فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظروا.
فقدم الكتاب على عثمان، وقدم كعب بن سور، فأرسلوا إلى عثمان ليخرج، فاحتج بالكتاب وقال: هذا أمر آخر غير ما كنا فيه. فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة ذات رياح ومطر ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء، وكانوا يؤخرونها، فأبطأ عثمان، فقدما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسيابجة السلاح ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد فقتلوا، وهم أربعون رجلاً، فأدخلا الرجال على عثمان فأخرجوه إليهما. فلما وصل إليهما توطؤوه وما بقيت في وجهه شعرة، فاستعظما ذلك وأرسلا إلى عائشة يعلمانها الخبر، فأرسلت إليهما أن خلوا سبيله.
وقيل: لما أخذ عثمان أرسله إلى عائشة يستشيرونها في أمره، فقالت: اقتلوه. فقالت لها امرأة: نشدتك الله في عثمان وصحبته لرسول الله، صلى الله عليه وسلم! فقالت لهم: احبسوه. فقال لهم مجاشع بن مسعود: اضربوه وانتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه. فضربوه أربعين سوطاً ونتفوا لحيته وحاجبيه وأشفار عينيه وحبسوه ثم أطلقوه وجعلوا على بيت المال عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق.
وقد قيل في إخراج عثمان غير ما تقدم، وذلك أن عائشة وطلحة والزبير لما قدموا البصرة كتبت عائشة إلى زيد بن صوحان: من عائشة أم المؤمنين حبيبة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى ابنها الخالص زيد بن صوحان، أما بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاقدم فانصرنا، فإن لم تفعل فخذل الناس عن علي.
فكتب إليها: أما بعد فأنا ابنك الخالص، لئن اعتزلت ورجعت إلى بيتك وإلا فأنا أول من نابذك.
وقال زيد: رحم الله أم المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها وأمرنا أن نقاتل، فتركت ما أمرت به وأمرتنا به وصنعت ما أمرنا به ونهتنا عنه.
وكان على البصرة عند قدومها عثمان بن حنيف فقال لهم: ما نقمتم على صاحبكم؟ فقالوا: لم نره أولى بها منا وقد صنع ما صنع. قال: فإن الرجل أمرني فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم به على أن أصلي أنا بالناس حتى يأتينا كتابه.

فوقفوا عنه، فكتب فلم يلبث إلا يومين أو ثلاثة حتى وثبوا على عثمان عند مدينة الرزق فظروا وأرادوا قتله ثم خشوا غضب الأنصار فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه وضربوه وحبسوه. وقام طلحة والزبير خطيبين فقالا: يا أهل البصرة توبة لحوبة، إنما أردنا أن نستعتب أمير المؤمنين عثمان فغلب السفهاء الحلماء فقتلوه! فقال الناس لطلحة: يا أبا محمد قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا. فقال الزبير: هل جاءكم مني كتاب في شأنه؟ ثم ذكر قتل عثمان وأظهر عيب علي، فقام إليه رجل من عبد القيس فقال: أيها الرجل أنصت حتى نتكلم. فأنصت. فقال العبدي: يا معشر المهاجرين أنتم أول من أجاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكان لكم بذلك فضل ثم دخل الناس في الإسلام كما دخلتم، فلما توفي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بايعتم رجلاً منكم فرضينا وسلمنا ولم تستأمرونا في شيء من ذلك، فجعل الله للمسلمين في إمارته بركة، ثم مات واستخلف عليكم رجلاً فلم تشاورونا في ذلك فرضينا وسلمنا، فلما توفي جعل أمركم إلى ستة نفر فاخترتم عثمان وبايعتموه عن غير مشورتنا، ثم أنكرتم منه شيئاً فقتلتموه عن غير مشورة منا، ثم بايعتم علياً عن غير مشورة منا، فما الذي نقمتم عليه فنقاتله؟ هل استأثر بفيء أو علم بغير الحق أو أتى شيئاً تنكرونه فنكون معكم عليه، وإلا فما هذا؟ فهموا بقتل ذلك الرجل، فمنعته عشيرته، فلما كان الغد وثبوا عليه وعلى من معه فقتلوا منهم سبعين. وبقي طلحة والزبير بعد أخذ عثمان بالبصرة ومعهما بيت المال والحرس والناس، ومن لم يكن معهما استتر.
وبلغ حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان بن حنيف فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره! فجاء في جماعة من عبد القيس ومن تبعه من ربيعة وتوجه نحو دار الرزق، وبها طعام أراد عبد الله بن الزبير أن يرزقه أصحابه، فقال له عبد الله: ما لك يا حكيم؟ قال: نريد أن نرتزق من هذا الطعام وأن تخلوا عثمان فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي، وايم الله لو أجد أعواناً عليكم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلهم، ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم، أما تخافون الله؟ بم تستحلون الدم الحرام؟ قال: بدم عثمان. قال: فالذين قتلتم هم قتلوا عثمان، أما تخافون مقت الله؟ فقال له عبد الله: لا نرزقكم من هذا الطعام ولا نخلي سبيل عثمان حتى تخلع علياً. فقال حكيم: اللهم إنك حكم عدل فاشهد، وقال لأصحابه: لست في شك من قتال هؤلاء القوم، فمن كان في شك فلينصرف. وتقدم فقاتلهم. فقال طلحة والزبير: الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا تبق منهم أحداً! فاقتتلوا قتالاً شديداً، ومع حكيم أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير، وابن المحترش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن بن الحرث بن هشام، فزحف طلحة لحكيم وهو في ثلثمائة، وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول:
أضربهم باليابس ... ضرب غلامٍ عابس
من الحياة آيس ... في الغرفات نافس
فضرب رجل رجله فقطعها، فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه فصرعه وأتاه فقتله ثم اتكأ عليه وقال:
يا ساقي لن تراعي ... إن معي ذراعي
احمي بها كراعي
وقال أيضاً:
ليس علي أن أموت عار ... والعار في الناس هو الفرار
والمجد لا يفضحه الدمار
فأتى عليه رجل وهو رثيث، رأسه على آخر، فقال: ما لك يا حكيم؟ قال: قتلت. قال: من قتلك؟ قال: وسادتي. فاحتمله وضمه في سبعين من أصحابه، وتكلم يومئذ حكيم وإنه لقائم على رجل واحدة، وإن السيوف لتأخذهم وما يتتعتع ويقول: إنا خلفنا هذين، وقد بايعا علياً وأعطياه الطاعة ثم أقبلا مخالفين محاربين يطلبان بدم عثمان، ففرقا بيننا ونحن أهل دار وجوار، اللهم إنهما لم يريدا عثمان! فناداه منادٍ: يا خبيث! جزعت حين عضك نكال الله إلى كلام من نصبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم وفرقتم من الجماعة وأصبتم من الدماء، فذق وبال الله وانتقامه. وقتلوا وقتل معهم، قتله يزيد بن الأسحم الحداني، فوجد حكيم قتيلاً بين يزيد وأخيه كعب.

وقيل: قتله رجل يقال له ضخيم وقتل معه ابنه الأشرف وأخوه الرعل بن جبلة. ولما قتل حكيم أرادوا قتل عثمان بن حنيف فقال لهم: أما إن سهلاً بالمدينة فإن قتلتموني انتصر، فخلوا سبيله، فقصد علياً. وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه، فلجأوا إلى قومهم، فنادى منادي طلحة والزبير: من كان فيهم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم، فجيء بهم فقتلوا ولم ينج منهم إلا حرقوص بن زهير، فإن عشيرته بني سعد منعوه، وكان منهم، فنالهم من ذلك أمر شديد، وضربوا فيه أجلاً وخشنوا صدور بني سعد، وكانوا عثمانية، فاعتزلوا، وغضبت عبد القيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم الطاعة لعلي، فأمر طلحة والزبير للناس بأعطياتهم وأرزاقهم وفضلا أهل السمع والطاعة، فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حين منعوهم الفضول فبادروهم إلى بيت المال وأكب عليهم الناس فأصابوا منهم وخرجوا حتى نزلوا على طريق علي. وأقام طلحة والزبير وليس معهما ثأر إلا حرقوص بن زهير، وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه، وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة بما كان منهم وتأمرهم أن يثبطوا الناس عن علي وتحثهم على طلب قتلة عثمان، وكتبت إلى أهل اليمامة وإلى أهل المدينة بما كان منهم أيضاً، وسيرت الكتب.
وكانت هذه الوقعة لخمس ليال بقين من شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
وبايع أهل البصرة طلحة والزبير، فلما بايعوهما قال الزبير: ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي أقتله بياتاً أو صباحاً قبل أن يصل إلينا! فلم يجبه أحد، فقال: إن هذه للفتنة التي كنا نحدث عنها. فقال له مولاه: أتسميها فتنة وتقاتل فيها؟ قال: ويلك! إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا وأنا أعلم موضع قدمي فيه غير هذا الأمر فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر! وقال علقمة بن وقاص الليثي: لما خرج طلحة والزبير وعائشة رأيت طلحة وأحب المجالس إليه أخلاها وهو ضارب بلحيته على صدره، فقلت: يا أبا محمد أرى أحب المجالس إليك أخلاها وأنت ضارب بلحيتك على صدرك، إن كرهت شيئاً فاجلس. قال: فقال لي: يا علقمة بينا نحن يد واحدة على من سوانا إذ صرنا جبلين من حديد يطلب بعضنا بعضاً، إنه كان مني في عثمان شيء ليس توبتي إلا أن يسفك دمي في طلب دمه. قال: فقلت: فرد ابنك محمداً فإن لك ضيعة وعيالاً، فإن يك شيء يخلفك. قال: فامنعه. قال: فأتيت محمداً ابنه فقلت له: لو أقمت فإن حدث به حدث كنت تخلفه في عياله وضيعته. قال: ما أحب أن أسأل عنه الركبان.
يعلى بن منية بضم الميم، وسكون النون، والياء المعجمة باثنتين من تحتها، وهي أمه، واسم أبيه أمية. عبد الله بن خالد بن أسيد. جارية ابن قدامة بالجيم. حكيم بن جبلة بضم الحاء، وفتح الكاف، وقيل بفتح الحاء، وكسر الكاف. وصوحان بضم الصاد، وآخره نون.
ذكر مسير علي إلى البصرة والوقعةقد ذكرنا فيما تقدم تجهز علي إلى الشام، فبينما هو على ذلك أتاه الخبر عن طلحة والزبير وعائشة من مكة بما عزموا عليه، فلما بلغه ذلك دعا وجوه أهل المدينة وخطبهم، فحمد الله واثنى عليه ثم قال: إن آخر هذا الأمر لا يصلح إلا بما صلح به أوله، فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم. فتثاقلوا، فلما رأى زياد بن حنظلة تثاقل الناس انتدب إلى علي وقال له: من تثاقل عنك فإنا نخف معك فنقاتل دونك. وقام رجلان صالحان من أعلام الأنصار، أحدهما أبو الهيثم ابن التيهان، وهو بدري، والثاني خزيمة بن ثابت، وقيل: هو ذو الشهادتين، وقال الحكم: ليس بذي الشهادتين، مات ذو الشهادتين أيام عثمان، فأجابه إلى نصرته.

قال الشعبي: ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة نفر بدريون ما لهم سابع. وقال سعيد بن زيد: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، لخير يعملونه إلا وعلي أحدهم، قيل: وقال أبو قتادة الأنصاري لعلي: يا أمير المؤمنين إن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قلدني هذا السيف وقد أغمدته زماناً وقد حان تجريده على هؤلاء القوم الظالمين الذين لا يألون الأمة غشاً، وقد أحببت أن تقدمني فقدمني. وقالت أم سلمة: يا أمير المؤمنين لولا أن أعصي الله وأنك لا تقبله مني لخرجت معك، وهذا ابن عمي، وهو والله أعز علي من نفسي، يخرج معك ويشهد مشاهدك. فخرج معه وهو لم يزل معه، واستعمله علي على البحرين ثم عزله واستعمل النعمان بن عجلان الزرقي. فلما أراد علي المسير إلى البصرة وكان يرجو أن يدرك طلحة والزبير فيردهما قبل وصولهما إلى البصرة أو يوقع بهما، فلما سار استخلف على المدينة تمام بن العباس، وعلى مكة قثم بن العباس، وقيل: أمر على المدينة سهل بن حنيف، وسار علي من المدينة في تعبيته التي تعباها لأه الشام آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، فقالت أخت علي بن عدي من بني عبد شمس:
لا هم فاعقر بعلي جمله ... ولا تبارك في بعيرٍ حمله
ألا علي بن عدي ليس له
وخرج معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في تسعمائة، وهو يرجو أن يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج أو يأخذهم، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال: يا أمير المؤمنين لا تخرج منها، فوالله إن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً! فسبوه. فقال: دعوا الرجل من أصحاب محمد، صلى الله عليه وسلم.
وسار حتى انتهى إلى الربذة، فلما انتهى إليها أتاه خبر سبقهم، فأقام بها يأتمر ما يفعل، وأتاه ابنه الحسن في الطريق فقال له: لقد أمرتك فعصيتني فتقتل غداً بمضيعة لا ناصر لك. فقال له علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية، وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان أن تخرج من المدينة فيقتل ولست بها، ثم أمرتك يوم قتل أن لا تبايع حتى تأتيك وفود العرب وبيعة أهل كل مصر فإنهم لن يقطعوا أمراً دونك، فأبيت علي، وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يد غيرك، فعصيتني في ذلك كله.
فقال: أي بني! أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط بعثمان، فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما قولك: لا تبايع حتى يبايع أهل الأمصار، فإن الأمر أمر أهل المدينة وكرهنا أن يضيع هذا الأمر، ولقد مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس أبا بكر الصديق فبايعته، ثم إن أبا بكر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني، فبايع الناس عمر فبايعته، ثم إن عمر انتقل إلى رحمة الله وما أرى أحداً أحق بهذا الأمر مني فجعلني سهماً من ستة أسهم، فبايع الناس عثمان فبايعته، ثم سار الناس إلى عثمان فقتلوه وبايعوني طائعين غير مكرهين، فأنا مقاتل من خالفني بمن أطاعني حتى يحكم الله، وهو خير الحاكمين. وأما قولك أن أجلس في بيتي حين خرج طلحة والزبير، فكيف لي بما قد لزمني أو من تريدني؟ أتريدني أن أكون كالضبع التي يحاط بها ويقال ليست ههنا حتى يحل عرقوباها حتى تخرج! وإذا لم أنظر فيما يلزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه؟ فكف عنك يا بني.

ولما قدم علي الربذة وسمع بها خبر القوم أرسل منها إلى الكوفة محمد بن أبي بكر الصديق ومحمد بن جعفر وكتب إليهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم لما حدث، فكونوا لدين الله أعواناً وأنصاراً وانهضوا إلينا، فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخواناً. فمضيا وبقي علي بالربذة يتهيأ، وأرسل إلى المدينة فأتاه ما يريده من دابة وسلاح وأمر أمره وقام في الناس فخطبهم وقال: إن الله تبارك وتعالى أعزنا بالإسلام ورفعنا به وجعلنا به إخواناً بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد، فجرى الناس على ذلك ما شاء الله، الإسلام دينهم والحق فيهم والكتاب إمامهم، حتى أصيب هذا الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة! ألا إن هذه الأمة لابد مفترقة كما افترقت الأمم قبلها، فنعوذ بالله من شر ما هو كائن؛ ثم عاد ثانية وقال: إنه لابد مما هو كائن أن يكون، ألا وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل بعملي، وقد أدركتم ورأيتم، فالزموا دينكم واهدوا بهديي فإنه هدي نبيكم واتبعوا سنته وأعرضوا عما أشكل عليكم حتى تعرضوه على القرآن فما عرفه القرآن فالزموه وما أنكره فردوه، وارضوا بالله رباً وبالإسلام ديناً ومحمد نبياً وبالقرآن حكماً وإماماً.
فلما أراد المسير من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفعاعة بن رافع فقال: يا أمير المؤمنين أي شيء تريد وأين تذهب بنا؟ فقال: أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه. قال: فإن لم يجيبونا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر. قال: فإن لم يرضوا؟ قال: ندعهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم. قال: فنعم إذاً. وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال: لأرضينك بالفعل كما أرضيتني بالقوم؛ وقال:
دراكها دراكها قبل الفوت ... فانفر بنا واسم بنا نحو الصوت
لا وألت نفسي إن كرهت الموت
والله لننصرن الله كما سمانا أنصاراً! ثم أتاه جمعة من طيء وهو بالربذة، فقيل لعلي: هذه جماعة قد أتتك، منهم من يريد الخروج معك ومنهم من يريد التسليم عليك. قال: جزى الله كليهما خيراً وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً. فلما دخلوا عليه قال لهم: ما شهدتمونا به؟ قالوا: شهدناك بكل ما تحب. فقال: جزاكم الله خيراً فقد أسلمتم طائعين وقاتلتم المرتدين ووافيتم بصدقاتكم المسلمين. فنهض سعيد بن عبيد الطائي فقال: يا أمير المؤمنين إن من الناس من يعبر لسانه عما في قلبه، وإني والله ما أجد لساني يعبر عما في قلبي، وسأجهد وبالله التوفيق، أما أنا فسأنصح لك في السر والعلانية، وأقاتل عدوك في كل موطن، وأرى من لحق لك ما لا أرها لأحد غيرك من أهل زمانك لفضلك وقرابتك. فقال: رحمك الله! قد أدى لسانك عما يجن ضميرك. فقتل معه بصفين.
وسار علي من الربذة وعلى مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجراح وعلى الميمنة عبد الله بن عباس وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد، والراية مع محمد بن الحنفية، وعلي على ناقة حمراء يقود فرساً كميتاً.
فلما نزل بفيد أتته أسد وطيء فعرضوا عليه أنفسهم، فقال: الزموا قراركم، في المهاجرين كفاية. وأتاه رجل بفيد من الكوفة، فقال له: من الرجل؟ قال: عامر بن مطر الشيباني. قال: أخبر عما وراءك. فأخبره، فسأله عن أبي موسى، فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى صاحبه، وإن أردت القتال فليس بصاحبه. فقال علي: والله ما اريد إلا الصلح حتى يرد علينا.
ولما نزل علي الثعلبية أتاه الذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فأخبر أصحابه الخبر فقال: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير. فلما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم بن جبلة وقتلة عثمان فقال: الله أكبر! ما ينجيني من طلحة والزبير إن أصابا ثأرهما! وقال:
دعا حكيمٌ دعوة الزماع ... حل بها منزلة النزاع

فلما انتهى إلى ذي قار أتاه فيها عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعرة، وقيل: أتاه بالربذة، وكانوا قد نتفوا شعر رأسه ولحيته، وعلى ما ذكرناه، فقال: يا أمير المؤمنين بعثتني ذا لحية وقد جئتك أمرد. فقال: أصبت أجراً وخيراً، إن الناس وليهم قبل رجلان فعملا بالكتاب والسنة، ثم وليهم ثالث فقالوا وفعلوا، ثم بايعوني وبايعني طلحة والزبير، ثم نكثا بيعتي وألبا الناس علي، ومن العجب انقيادهما لأبي بكر وعمر وعثمان وخلافهما علي، والله إنهما ليعلمان أني لست بدون رجل ممن تقدم، اللهم فاحلل ما عقدا ولا تبرم ما أحكما في أنفسهما وأرهما المساءة فيما قد عملا! وأقام بذي قار ينتظر محمداً ومحمداً، فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس، فقال: عبد القيس خير ربيعة وفي كل ربيعة خير، وقال:
يا لهف نفسي على ربيعه ... ربيعة السامعة المطيعه
قد سبقتني فيهم الوقيعه ... دعا علي دعوةً سميعه
حلوا بها المنزلة الرفيعه
وعرضت عليه بكر بن وائل فقال لها ما قال لطيء واسد. وأما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فأتيا أبا موسى بكتاب علي وقاما في الناس بأمره، فلم يجابا إلى شيء. فلما أمسوا دخل ناس من أهل الحجى على أبي موسى فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرأي بالأمس ليس اليوم، إن الذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جر عليكم ما ترون، إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا، فاختاروا. فلم ينفر إليه أحد، فغضب محمد ومحمد وأغلظا لأبي موسى. فقال لهما: والله إن بيعة عثمان لفي عنقي وعنق صاحبكما، فإن لم يكن بد من قتال لا نقاتل أحداً حتى نفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا.
فانطلقا إلى علي فأخبراه الخبر وهو بذي قار، فقال للأشتر، وكان معه: أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء، اذهب أنت وابن عباس فأصلح ما أفسدت. فخرجا فقدما الكوفة فكلما أبا موسى واستعانا عليه بنفر من أهل الكوفة، فقام لهم أبو موسى وخطبهم وقال: أيها الناس إن أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، الذين صحبوه أعلم بالله وبرسوله ممن لم يصحبه، وإن لكم علينا لحقاً، وأنا مؤد إليكم نصيحة، كان الرأي أن لا تستخفوا بسلطان الله وأن لا تجترئوا على الله وأن تأخذوا من قدم عليكم من المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا فهم أعلم بمن تصلح له الإمامة، وهذه فتنة صماء، النائم فيها خير من اليقظان، واليقظان خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الراكب، والراكب خير من الساعي، فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فأغمدوا السيوف وانصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهد حتى يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة.

فرجع ابن عباس والأشتر إلى علي فأخبراه الخبر، فأرسل ابنه الحسن وعمار ابن ياسر، وقال لعمار: انطلق فأصلح ما أفسدت. فأقبلا حتى دخلا المسجد، وكان أول من أتاهما المسروق بن الأجدع فسلم عليهما، وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان علام قتلتم عثمان؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب أبشارنا. قال: فوالله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لكان خيراً للصابرين. فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه وأقبل على عمار فقال: يا أبا اليقظان أعدوت على أمير المؤمنين فيمن عدا فأحللت نفسك مع الفجار؟ فقال: لم أفعل ولم يسؤني. فقطع الحسن عليهما الكلام وأقبل على أبي موسى فقال له: لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على شيء. فقال: صدقت يا بأبي أنت وأمي، ولكن المستشار مؤتمن، سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب). وقد جعلنا الله إخواناً وقد حرم علينا دماءنا وأموالنا. فغضب عمار وسبه وقام وقال: يا أيها الناس إنما قال له وحده: أنت فيها قاعداً خير منك قائماً. فقام رجل من بني تميم فسب عماراً وقال: أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا! وثار زيد بن صوحان وطبقته وثار الناس وجعل أبو موسى يكفكف الناس، ووقف زيد على باب المسجد ومعه كتاب إليه من عائشة تأمره فيه بملازمة بيته أو نصرتها، وكتاب إلى أهل الكوفة بمعناه، فأخرجهما فقرأهما على الناس، فلما فرغ منهما قال: أمرت أن تقر في بيتها وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة، فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا به. فقال له شبث بن ربعي: يا عماني - لأنه من عبد القيس وهم يسكنون عمان - سرقت بجلولاء فقطعت يدك وعصيت أم المؤمنين! وتهاوى الناس.
وقام أبو موسى وقال: أيها الناس أطيعوني وكوني جرثومة من جراثيم العرب يأوي إليكم المظلوم ويأمن فيكم الخائف، إن الفتنة إذا أقبلت شبهت فإذا أدبرت بينت، وإن هذه الفتنة فاقرة كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصبا والدبور تذر الحليم وهو حيران كابن أمس، شيموا سيوفكم وقصدوا رماحكم وقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم، خلوا قريشاً إذا أبوا إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل علم بالأمراء، استنصحوني ولا تسغشوني، أطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياك ويشقى بحر هذه الفتنة من جناها.
فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس رد الفرات على أدراجه، أردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ، فإن قدرت على ذلك فستقدر على ما تريد، فدع عنك ما لست مدركه! سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين، انفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق.
فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق، أحب لكم أن ترشدوا ولأقولن لكم قولاً هو الحق، أما ما قال الأمير فهو الحق، لو أن إليه سبيلاً، وأما ما قال زيد فزيد عدو هذا الأمر فلا تستنصحوه، والقول الذي هو الحق أنه لابد من إمارة تنظم الناس وتزع الظالم وتعز المظلوم، وهذا أمير المؤمنين ولي بما ولي وقد أنصف في الدعاء، وإنما يدعو إلى الإصلاح، فانفروا وكونا من هذا الأمر بمرأى ومسمع.

وقال عبد الخير الخيراني: يا أبا موسى هل بايع طلحة والزبير؟ قال: نعم. قال: هل أحدث علي ما يحل بن نقض بيعته؟ قال: لا أدري. قال: لا دريت، نحن نتركك حتى تدري، هل تعلم أحداً خارجاً من هذه الفتنة؟ إنما الناس أربع فرق: علي بظهر الكوفة، وطلحة والزبير بالبصرة، ومعاوية بالشام، وفرقة بالحجاز لا غناء بها ولا يقاتل بها عدو. فقال أبو موسى: أولئك خير الناس، وهي فتنة. فقال عبد الخير: غلب عليك غشك يا أبا موسى! فقال سيحان ابن صوحان: أيها الناس لابد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من والٍ يدفع الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس، وهذا واليكم يدعوكم لتنظروا فيما بينه وبين صاحبيه، وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين، فمن نهض إليه فإنا سائرون معه. فلما فرغ سيحان قال عمار: هذا ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يستنفركم إلى زوجة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وإلى طلحة والزبير، وإني أشهد أنها زوجته في الدنيا والآخرة، فانظروا ثم انظروا في الحق فقاتلوا معه. فقال له رجل: أنا مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له. فقال له الحسن: اكفف عنا فإن للإصلاح أهلاً. وقام الحسن بن علي فقال: أيها الناس أجيبوا دعوة أمركم وسيروا إلى إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه، ووالله لأن يليه أولو النهى أمثل في العاجل والآجل وخير في العاقبة، فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما ابتلينا به وابتليتم، وإن أمير المؤمنين يقول: قد خرجت مخرجي هذا ظالماً أو مظلوماً، وإني أذكر الله رجلاً رعى حق الله إلا نفر، فإن كنت مظلوماً أعانني وإن كنت ظالماً أخذ مني، والله إن طلحة والزبير لأول من بايعني وأول من غدر، فهل استأثرت بمال أو بدلت حكماً؟ فانفروا فمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر. فسامح الناس وأجابوا ورضوا. وأتى قوم من طيء عدي بن حاتم فقالوا: ماذا ترى وما تأمر؟ فقال: قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلى جميل وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه، ونحن سائرون وناظرون. فقام هند بن عمرو فقال: إن أمير المؤمنين قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه، فاسمعوا إلى قوله وانتهوا إلى أمره وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم.
وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافاً وثقالاً، مروا وأنا أولكم. فأذعن الناس للمسير، فقال الحسن: أيها الناس إني عاذٍ فمن شاء منكم أن يخرج معي على الظهر ومن شهاء في الماء. فنفر معه قريب من تسعة آلاف،أخذ في البر ستة آلاف ومائتان، وأخذ في الماء ألفان وأربعمائة.
وقيل: إن علياً أرسل الأشتر بعد ابنه الحسن وعمار إلى الكوفة، فدخلها والناس في المسجد وأبو موسى يخطبهم ويثبطهم والحسن وعمار معه في منازعة، وكذلك سائر الناس، كما تقدم، فجعل الأشتر لا يمر بقبيلة فيها جماعة إلا دعاهم، ويقول: اتبعوني إلى القصر، فانتهى إلى القصر في جماعة الناس، فدخله وأبو موسى في المسجد يخطبهم ويثبطهم والحسن يقول له: اعتزل عملنا لا أم لك! وتنح عن منبرنا! وعمار ينازعه، فأخرج الأشتر غلمان أبي موسى من القصر، فخرجوا يعدون وينادون: يا أبا موسى هذا الأشتر قد دخل القصر فضربنا وأخرجنا. فنزل أبو موسى فدخل القصر فصاح به الأشتر: اخرج لا أم لك أخرج الله نفسك! فقال: أجلني هذه العشية. فقال: هي لك ولا تبيتن في القصر الليلة. ودخل الناس ينهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر وقال: أنا له جار. فكفوا عنه. فنفر الناس في العدد المذكور.

وقيل: إن عدد من سار من الكوفة اثنا عشر ألف رجل ورجل. قال أبو الطفيل: سمعت علياً يقول ذلك قبل وصولهم، فقعدت فأحصيتهم فما زادوا رجلاً ولا نقصوا رجلاً. وكان على كنانة وأسد وتميم والرباب ومزينة معقل ابن يسار الرياحي، وكان على سبع قيس سعد بن مسعود الثقفي عم المختار، وعلى بكر وتغلب وعلة بن محدوج الذهلي، وكان على مذحج والأشعرين حجر ابن عدي، وعلى بجيلة وأنمار وخثعم والأزد مخنف بن سليم الأزدي، فقدموا على أمير المؤمنين بذي قار، فلقيهم في ناس معه فيهم ابن عباس فرحب بهم وقال: يا أهل الكوفة أنتم قاتلتم ملوك العجم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فمنعتم حوزتكم وأعنتم الناس على عدوهم، وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن يرجعوا فذاك الذي نريد، وإن يلجوا داويناهم بالرفق حتى يبدأونا بظلم، ولم ندع أمراً فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله. واجتمعوا عنده بذي قار وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي وأهل البصرة ينتظرونه وهم ألوف.
وكان رؤساء الجماعة من الكوفيين: القعقاع بن عمرو وسعد بن مالك وهند ابن عمرو والهيثم بن شهاب، وكان رؤساء النفار: زيد بن صوحان والأشتر وعدي بن حاتم والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس، وأمثال لهم ليسوا دونهم، إلا أنهم لم يؤمروا؛ منهم حجر بن عدي. فلما نزلوا بذي قار دعا علي القعقاع فأرسله إلى أهل البصرة وقال: الق هذين الرجلين، وكان القعقاع من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، فادعهما إلى الألفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة، وقال له: كيف تصنع فيما جاءك منهما وليس عندك فيه وصاة مني؟ قال: نلقاهم بالذي أمرت به. فإذا جاء منهم ما ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا رأينا وكلمناهم كما نسمع ونرى أنه ينبغي. قال: أنت لها. فخرج القعقاع حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة فسلم عليها وقال: أي أمة ما أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني الإصلاح بين الناس. قال: فابعثي إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما. فبعثت إليهما، فجاءا، فقال لهما: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها، فقالت: الإصلاح بين الناس، فما تقولان أنتما، أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان. قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ فوالله لئن عرفناه لنصلحن ولئن أنكرناه لا نصلح. قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركاً للقرآن. قال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم كنتم تاركين لما تقولون، وإن قاتلتموهم والذين اعتزلوكم فأديلوا عليكم فالذي حذرتم وقويتم به هذا الأمر أعظم مما أراكم تكرهون، وإن أنتم منعتم مضر وربيعة من هذه البلاد اجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلائ كما اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير.
قالت عائشة: فماذا تقول أنت؟ قال: أقول: إن هذا الأمر دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك بثأر هذا الرجل وعافية وسلامة لهذه الأمة، وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا المال، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم، ولا تعرضونا للبلاء فتعرضوا له فيصرعنا وإياكم. وايم الله إني لأقول هذا القول وأدعوكم إليه! وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي حدث أمر ليس يقدر، وليس كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا القبيلة الرجل. قالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر.
فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه. وأقبلت وفود العرب من أهل البصرة نحو علي بذي قار قبل رجوع القعقاع لينظروا ما رأى إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أي حال نهضوا إليهم وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قتالهم على بال.

فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة قال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه بخبرهم، وسأل علي جرير بن شرس عن طلحة والزبير فأخبره بدقيق أمرهما وجليله وقال له: أما الزبير فيقول: بايعنا كرهاً، وأما طلحة فيتمثل الأشعار ويقول:
ألا أبلغ بني بكرٍ رسولاً ... فليس إلى بني كعبٍ سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل الساعدين له فضول
فتمثل علي عندها:
ألم تعلم أبا سمعان أنا ... نرد الشيخ مثلك ذا الصداع
ويذهل عقله بالحرب حتى ... يقوم فيستجيب بغير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر ... وما بك يا سراقة ومن دفاع
ورجعت وفود أهل البصرة برأي أهل الكوفة، ورجع القعقاع من البصرة، فقام علي خطيباً فحمد الله وذكر الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة بالخليفة بعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم الذي يليه ثم الذي يليه، ثم حدث هذا الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا وحسدوا من أفاءها الله عليه وعلى الفضيلة وأرادوا رد الإسلام والأشياء على أدبارها، والله بالغ أمره. ألا وإني راحل غداً فارتحلوا، ولا يرتحلن أحد أعان على عثمان بشيء من أمور الناس، وليغن السفهاء عني أنفسهم. فاجتمع نفر، منهم: علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة القيسي وشريح بن أوفى والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي بسير من سار، وجاء معهم المصريون وابن السوداء وخالد بن ملجم فتشاوروا فقالوا: ما الرأي؟ وهذا علي وهو والله أبصر بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان وأقرب إلى العمل بذلك، وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه سواهم والقليل من غيرهم، فكيف به إذا شام القوم وشاموه ورأوا قلتنا في كثرتهم، وأنتم والله ترادون وما أنتم بالحي من شيء! فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما علي فلم نعرف رأيه إلى اليوم، ورأي الناس فينا واحد، فإن يصطلحوا مع علي فعلي دمائنا، فهلموا بنا نثب على علي فنلحقه بعثمان فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون. فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت، أنتم يا قتلة عثمان بذي قار ألفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة، وهذا ابن الحنظلية، يعني طلحة، وأصحابه في نحو من خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلاً. فقال علباء ابن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم، فإن قلوا كان أقوى لعدوهم عليهم، وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم، دعوهم وارجعوا فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تقوون به وامتنعوا من الناس. فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، ود والله الناس أنكم انفردتم ولم تكونوا مع أقوام برآء، ولو انفردتم لتخطفكم الناس كل شيء. فقال عدي بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت، ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في خوض الحديث، فأما إذا وقع ما وقع ونزل من الناس بهذه المنزلة فإن لنا عتاداً من خيول وسلاح، فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أمسكنا. فقال ابن السوداء: أحسنت. وقال سالم ابن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإني لم ارد ذلك، والله لئن لقيتهم غداً لا أرجع إلى شيء، وأحلف بالله إنكم لتفرقن السيف فرق قوم لا تصير أمورهم إلا إلى السيف. فقال ابن السوداء: قد قال قولاً. وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا، ولا تؤخروا أمراً ينبغي لكم تعجيله، ولا تعجلوا أمراً ينبغي لكم تأخيره، فإنا عند الناس بشر المنازل وما أدري ما الناس صانعون إذا ما هم التقوا. وقال ابن السوداء: يا قوم إن عزكم في خلطة الناس، فإذا التقى الناس غداً فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر، فمن أنتم معه لا يجد بداً من أن يمتنع، ويشغل الله علياً وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما تكرهون. فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون.

وأصبح علي على ظهر ومضى، ومضى معه الناس حتى نزل على عبد القيس فانضموا إليه، وسار من هناك فنزل الزاوية، وسار من الزاوية يريد البصرة، وسار طلحة والزبير وعائشة من الفرضة، فالتقوا عند موضع قصر عبيد الله بن زياد. فلما نزل الناس أرسل شقيق بن ثور إلى عمرو بن مرحوم العبدي أن اخرج فإذا خرجت فمل بنا إلى عسكر علي. فخرجا في عبد القيس وبكر بن وائل فعدلوا إلى عسكر علي، فقال الناس: من كان هؤلاء معه غلب. وأقاموا ثلاثة أيام لم يكن بينهم قتال، فكان يرسل علي إليهم يكلمهم ويدعوهم، وكان نزولهم يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، ونزل بهم علي وقد سبق أصحابه وهم يتلاحقون به. فلما نزل قال أبو الجرباء للزبير: إن الرأي أن تبعث ألف فارس إلى علي قبل أن يوافي إليه أصحابه. فقال: إنا لنعرف أمور الحرب ولكنهم أهل دعوتنا وهذا أمر حدثٌ لم يكن قبل اليوم، من لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة، وقد فارقنا وفدهم على أمر وأنا أرجو أن يتم لنا الصلح فأبشروا واصبروا. وأقبل صبرة بن شيمان فقال لطلحة والزبير: انتهزا بنا هذا الرجل فإن الرأي في الحرب خير من الشدة. فقالا: إن هذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه سنة من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد زعم قوم أنه لا يجوز تحريكه، وهم علي ومن معه، وقلنا نحن: إنه لا ينبغي لنا أن نتركه ولا نؤخره، وقد قال علي: ترك هؤلاء القوم شر وهو خير من شر منه، وقد كان يتبين لنا، وقد جاءت الأحكام بين المسلمين بأعمها منفعة. وقال كعب بن سور: يا قوم اقطعوا هذا العنق ن هؤلاء القوم، فأجابوه بنحو ما تقدم. وقام علي فخطب الناس، فقام إليه الأعور بن بنان المنقري فساله عن إقدامهم على أهل البصرة، فقال له علي: على الإصلاح وإطفاء النائرة لعل الله يجمع شمل هذه الأمة بنا ويضع حربهم. قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا. قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا. قال: فهل لهم من هذا مثل الذي عليهم؟ قال: نعم.
وقام إليه أبو سلامة الدألاني فقال: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله بذلك؟ قال: نعم. قال: أفترى لك حجة بتأخير ذلك؟ قال: نعم، إن الشيء إذا كان لا يدرك فإن الحكم فيه أحوطه وأعمه نفعاً. قال: فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غداً؟ قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقى قلبه لله إلا أدخله الله الجنة.

وقال في خطبته: أيها الناس املكوا عن هؤلاء القوم أيديكم وألسنتكم وإياكم أن تسبقونا فإن المخصوم غداً من خصم اليوم. وبعث إليهم حكيم بن سلامة ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع فكفوا حتى ننزل وننظر في هذا الأمر. وخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمرين قد منعوا حرقوص بن زهير وهم معتزلون، وكان الأحنف قد بايع علياً بالمدينة بعد قتل عثمان لأنه كان قد حج وعاد من الحج فبايعه. قال الأحنف: ولم أبايع علياً حتى لقيت طلحة والزبير وعائشة بالمدينة وأنا أريد الحج وعثمان محصور، فقلت لكل منهم: إن الرجل مقتول فمن تأمرونني أبايع؟ فكلهم قال: بايع علياً. فقلت: أترضونه لي؟ فقالوا: نعم. فلما قضيت حجي ورجعت إلى المدينة رأيت عثمان قد قتل فبايعت علياً ورجعت إلى أهلي ورأيت الأمر قد استقام. فبينما أنا كذلك إذ أتاني آتٍ فقال: هذه عائشة وطلحة والزبير بالخريبة يدعونك. فقلت: ما جاء بهم؟ قال: يستنصرونك على قتال علي في دم عثمان، فأتاني أفظع أمر، فقلت: إن خذلاني أم المؤمنين وحواري رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لشديدٌ، وإن قتال ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أمروني ببيعته أشد، فلما أتيتهم قالوا: جئنا لكذا وكذا. قال: فقلت: يا أم المؤمنين ويا زبير ويا طلحة، نشدتكم الله أقلت لكم. من تأمرونني أبايع؟ فقلتم: بايع علياً. فقالوا: نعم ولكنه بدل وغير. فقلت: والله لا أقاتلكم ومعكم أم المؤمنين ولا اقاتل ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وقد أمرتموني ببيعته، ولكني أعتزل. فأذنوا له في ذلك، فاعتزل بالجلحاء ومعه زهاء ستة آلاف، وهي من البصرة على فرسخين. فلما قدم علي أتاه الأحنف فقال له: إن قومنا بالبصرة يزعمون أنك إن ظهرت عليهم غداً قتلت رجالهم وسبيت نساءهم. قال: ما مثلي يخاف هذا منه، وهل يحل هذا إلا لمن تولى وكفر وهم قوم مسلمون؟ قال: اختر مني واحدة من اثنتين، إما أن اقاتل معك وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف. قال: فكيف بما أعطيت أصحابك من الاعتزال؟ قال: إن من الوفاء لله قتالهم. قال: فاكفف عنا عشرة آلاف سيف. فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود ونادى: يا آل خندف! فأجابه ناس، ونادى: يا آل تميم! فأجابه ناس، ثم نادى: يا آل سعد! فلم يبق سعدي إلا أجابه، فاعتزل بهم ونظر ما يصنع الناس، فلما كان القتال وظفر علي دخلوا فيما دخل فيه الناس وافرين.
فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس عليه سلاح، فقيل لعلي: هذا الزبير. فقال: أما إنه أحرى الرجلين إن ذكر بالله تعالى أن يذكر.

وخرج طلحة فخرج إليهما حتى اختلفت أعناق دوابهم، فقال علي: لعمري قد أعددتما سلاحاً وخيلاً ورجالاً إن كنتما أعددتما عند الله عذراً، فاتقيا الله ولا تكونا (كالتي نقضت غزلها من بعد قوةٍ أنكاثاً) النحل: 92، ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دمكما، فهل من حدث أحل لكما دمي؟ قال طلحة: ألبت على عثمان. قال علي: (يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق) النور: 25. يا طلحة، تطلب بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان! يا طلحة، أجئت بعرس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، تقاتل بها وخبأت عرسك في البيت! أما بايعتني؟ قال: بايعتك والسيف على عنقي. فقال علي للزبير: يا زبير ما أخرجك؟ قال: أنت، ولا أراك لهذا الأمر أهلاً ولا أولى به منا. فقال له علي: ألست له أهلاً بعد عثمان؟ قد كنا نعدك من بني عبد المطلب حتى بلغ ابنك ابن السوء ففرق بيننا. وذكره أشياء، وقال له: تذكر يوم مررت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في بني غنم فنظر إلي فضحك وضحكت إليه فقلت له لا يدع ابن أبي طالب زهوه، فقال لك رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (ليس به زهو، لتقاتلنه وأنت ظالم له). قال: اللهم نعم، ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً. فانصرف علي إلى أصحابه فقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهداً أن لا يقاتلكم. ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن منذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا. قالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب. قال له ابنه عبد الله: جمعت بين هذين الغارين حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب، لكنك خشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتيةٌ أنجادٌ وأن تحتها الموت الأحمر فجبنت. فأحفظه ذلك، وقال: إني حلفت أن لا أقاتله. قال: كفر عن يمينك وقاتله. فأعتق غلامه مكحولاً، وقيل سرجس، فقال عبد الرحمن بن سليمان التميمي:
لم أر كاليوم أخا إخوان ... أعجب من مكفر الأيمان
الأبيات. وقيل: إنما عاد الزبير عن القتال لما سمع أن عمار بن ياسر مع علي، فخاف أن يقتل عماراً، وقد قال النبي، صلى الله عليه وسلم: (يا عمار تقتلك الفئة الباغية)، فرده ابنه عبد الله، كما ذكرناه. وافترق أهل البصرة ثلاث فرق: فرقة مع طلحة والزبير، وفرقة مع علي، وفرقة لا ترى القتال، منهم الأحنف وعمران بن حصين وغيرهما. وجاءت عائشة فنزلت في مسجد الحدان في الأزد، ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان، فقال له كعب بن سور: إن الجموع إذا تراءت لم تستطع، إنما هي بحور تدفق، فأطعني ولا تشهدهم واعتزل بقومك فإني أخاف أن لا يكون صلح، ودع مضر وربيعة فهما أخوان فإن اصطلحا فالصلح أردنا وإن اقتتلا كنا حكاماً عليهم غداً.
وكان كعب في الجاهلية نصرانياً، فقال له صبرة: أخشى أن يكون فيك شيء من النصرانية! أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين الناس وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير إن ردوا عليهم الصلح وأدع الطلب بدم عثمان؟ والله لا أفعل هذا أبداً! فأطبق أهل اليمن على الحضور، وحضر مع عائشة المنجاب بن راشد في الرباب، وهم: تيم، وعدي، وثور، وعكل بنو عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، وضبة بن أد بن طابخة، وحضر أيضاً أبو الجرباء في بني عمرو بن تميم، وهلال بن وكيع في بني حنظلة، وصبرة بن شيمان على الأزد، ومجاشع بن مسعود السلمي على سليم، وزفر بن الحرث في بني عامر و على غطفان أعصر بن النعمان الباهلي، وعلى اليمن ذو الآجرة الحميري.

ولما خرج طلحة والزبير نزلت مضر جميعاً وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت ربيعة فوقهم وهم لا يشكون في الصلح، ونزلت اليمن أسفل منهم ولا يشكون في الصلح، وعائشة في الحدان، والناس بالزابونة على رؤسائهم هؤلاء، وهم ثلاثون ألفاً، وردو حكيماً ومالكاً إلى علي إننا على ما فارقنا عليه القعقاع، ونزل علي بحيالهم، فنزلت مضر إلى مضر، وربيعة إلى ربيعة، واليمن إلى اليم، فكان بعضهم يخرج إلى بعض لا يذكرون إلا الصلح، وكان أصحاب علي عشرين ألفاً، وخرج علي وطلحة والزبير فتواقفوا فلم يروا أمراً أمثل من الصلح ووضع الحرب، فافترقوا على ذلك. وبعث علي من العشي عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير، وبعثاهما محمد بن أبي طلحة إلى علي، وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه، وطلحة والزبير إلى رؤساء أصحابهما بذلك، فباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية التي أشرفوا عليها والصلح، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة وقد أشرفوا على الهلكة، وباتوا يتشاورون، فاجتمعوا على إنشاب الحرب، فغدوا مع الغلس وما يشعر بهم، فخرجوا متسللين وعليهم ظلمة، فقصد مضرهم إلى مضرهم، وربيعتهم إلى ربيعتهم، ويمنهم إلى يمنهم، فوضعوا فيهم السلاح، فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين أتوهم، وبعث طلحة والزبير إلى الميمنة، وهم ربيعة، أميراً عليها عبد الرحمن بن الحرث، وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب، وثبتا في القلب وقالا: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلاً. فقالا: قد علمنا أن علياً غير منته حتى يسفك الدماء وأنه لن يطاوعنا. فرد أهل البصرة أولئك الكوفيين إلى عسكرهم.
فسمع علي وأهل الكوفة الصوة وقد وضع السبئية رجلاً قريباً منه يخبره بما يريد، فلما قال علي: ما هذا؟ قال ذلك الرجل: ما شعرنا إلا وقوم منهم قد بيتونا فرددناهم فوجدنا القوم على رجل فركبونا وثار الناس. فارسل علي صاحب الميمنة إلى الميمنة وصاحب الميسرة إلى الميسرة وقال: لقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهين حتى يسفكا الدماء وأنهما لن يطاوعانا والسبئية لا تفتر إنشاباً، ونادى علي في الناس: كفوا فلا شيء، وكان من رأيهم جميعاً في تلك الفتنة أن لا يقتتلوا حتى يبدأوا، يطلبون بذلك الحجة، وأن لا يقتلوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح ولا يستحلوا سلباً ولا يرزأوا بالبصرة سلاحاً ولا ثياباً ولامتاعاً. وأقبل كعب بن سور حتى أتى عائشة فقال: أدركي فقد أبى القوم إلا القتال لعل الله أن يصلح بك.
فركبت وألبسوا هودجها الأدراع، فلما برزت من البيوت وهي على الجمل بحيث تسمع الغوغاء وقفت واقتتل الناس وقاتل الزبير فحمل عليه عمار ابن ياسر فجعل يحوزه بالرمح والزبير كافٌّ عنه ويقول: أتقتلني يا أبا اليقظان؟ فيقول: لا يا أبا عبد الله. وإنما كف الزبير عنه لقول رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (تقتل عمار الفئة الباغية)، ولولا ذلك لقتله. وبينما عائشة واقفة إذ سمعت ضجةً شديدةً فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر. قالت: بخير أو بشر؟ قالوا: بشر، فما فجأها إلا الهزيمة، فمضى الزبير من وجهه إلى وادي السباع، وإنما فارق المعركة لأنه قاتل تعذيراً لما ذكر له علي.
وأما طلحة فأتاه سهم غربٍ فأصابه فشك رجله بصفحة الفرس وهو ينادي: إلي إلي عباد الله! الصبر الصبر! فقال له القعقاع بن عمرو: يا أبا محمد إنك لجريح وإنك عما تريد لعليل، فادخل البيوت. فدخل ودمه يسيل وهو يقول: اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى، فلما امتلأ خفه دماً وثقل قال لغلامه: أردفني وأمسكني وأبلغني مكاناً أنزل فيه. فدخل البصرة، فأنزله في دار خربة فمات فيها، وقيل: إنه اجتاز به رجل من أصحاب علي فقال له: أنت من أصحاب أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قال: امدد يدك أبايعك له؛ فبايعه، فخاف أن يموت وليس في عنقه بيعة. ولما قضى دفن في بني سعد، وقال: لم أر شيخاً أضيع دماً مني. وتمثل عند دخول البصرة مثله ومثل الزبير:
فإن تكن الحوادث أقصدتني ... وأخطأهن سهمي حين أرمي
فقد ضيعت حين تبعت سهماً ... سفاهاً ما سفهت وضل حلمي
ندمت ندامة الكسعي لما ... شريت رضا بني سهمٍ برغمي
أطعتهم بفرقة آل لأيٍ ... فألقوا للسباع دمي ولحمي

وكان الذي رمى طلحة مروان بن الحكم، وقيل غيره. وأما الزبير فإنه مر بعسكر الأحنف بن قيس فقال: والله ما هذا انحياز، جمع بين المسلمين حتى ضرب بعضهم بعضاً لحق ببيته. وقال الأحنف للناس: من يأتيني بخبره؟ فقال عمرو بن جرموز لأصحابه: أنا، فاتبعه، فلما لحقه نظر إليه الزبير قال: ما وراءك؟ قال: إنما أريد أن أسألك. فقال غلام للزبير اسمه عطية: إنه معد. قال: ما يهولك من رجل! وحضرت الصلا، فقال ابن جرموز: الصلاة. فقال الزبير: الصلاة، فلما نزلا استدبره ابن جرموز فطعنه في جربان درعه فقتله وأخذ فرسه وسلاحه وخاتمه وخلى عن الغلام فدفنه بوادي السباع ورجع إلى الناس بالخبر. وقال الأحنف لابن جرموز: والله ما أدري أحسنت أم أسأت.
فأتى ابن جرموز علياً فقال لحاجبه: استأذن لقاتل الزبير. فقال علي: ائذن له وبشره بالنار. وأحضر سيف الزبير عند علي فأخذه فنظر إليه وقال: طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله، صلى الله عليه وسلم! وبعث به إلى عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس يريدون البصرة، فلما رأوا الخيل أطافت بالجمل عادوا قلباً كما كانوا حيث التقوا وعادوا في أمر جديد، ووقفت ربيعة بالبصرة ميمنة وبعضهم ميسرة، وقالت عائشة لما انجلت الوقعة وانهزم الناس لكعب بن سور: خل عن الجمل وتقدم بالمصحف فادعهم إليه. وناولته مصحفاً. فاستقبل القوم والسبئية أمامهم فرموه رشقاً واحداً فقتلوه ورموا أم المؤمنين في هودجها، فجعلت تنادي: البقية البقية يا بني! ويعلو صوتها كثرة: الله الله! اذكروا الله والحساب! فيأبون إلا إقداماً، فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن قالت: أيها الناس العنوا قتلة عثمان وأشياعهم. وأقبلت تدعو، وضج الناس بالدعاء. فسمع لي فقال: ما هذه الضجة؟ قالوا: عائشة تدعو على قتلة عثمان وأشياعهم. فقال علي: اللهم العن قتلة عثمان! فأرسلت إلى عبد الرحمن بن عتاب وعبد الرحمن بن الحرث بن هشام أن اثبتا مكانكما، وحرضت الناس حين رأت القوم يريدونها ولا يكفون، فحملت مضر البصرة حتى قصفت مضر الكوفة حتى زحم علي فنخس قفا ابنه محمد، وكانت الراية معه، وقال له: احمل! فتقدم حتى لم يجد متقدماً إلا على سنان رمح، فأخذ علي الراية من يده وقال: يا بني بين يدي.
وحملت مضر الكوفة، فاجتلدوتا قدام الجمل حتى ضرسوا والمجنبتان على حالهما لا تصنع شيئاً، ومع علي قوم من غير مضر، منهم زيد بن صوحان، طلبوا ذلك منه، فقال له رجل: تنح إلى قومك، ما لك ولهذا الموقف؟ ألست تعلم أن مضر بحيالك والجمل بين يديك وأن الموت دونه؟ فقال: الموت خيرٌ من الحياة، الموت أريد، فأصيب هو وأخوه سيحان وارتث صعصعة أخوهما واشتدت الحرب، فلما رأى علي ذلك بعث إلى ربيعة وغلى اليمن أن اجمعوا من يليكم. فقام رجل من عبد القيس من أصحاب علي فقال: ندعوكم إلى كتاب الله. فقالوا: وكيف يدعونا إليه من لا يستقيم ولا يقيم حدود الله وقد قتل كعب بن سور داعي الله! ورمته ربيعة رشقاً واحداً فقتلوه، فقام مسلم بن عبد الله العجلي مكانه فرشقوه رشقاً واحداً فقتلوه، ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم، وأبى أهل الكوفة إلا القتال ولم يريدوا إلا عائشة، فذكرت أصحابها فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا ثم رجعوا فاقتتلوا وتزاحف الناس وظهرت يمن البصرة على يمن الكوفة فهزمتهم، وربيعة البصرة على ربيعة الكوفة فهزمتهم، ثم عاد يمن الكوفة فقتل على رايتهم عشرة، خمسة من همدان وخمسة من سائر اليمن. فلما رأى ذلك يزيد بن قيس أخذها فثبتت في يده وهو يقول:
قد عشت يا نفسي وقد عشيت ... دهراً فقدك اليوم ما بقيت
ألب طول العمر ما حييت
وإنما تمثلها، وقال ابن أبي نمران الهمداني:
جردت سيفي في رجال الأزد ... أضرب في كهولهم والمرد
كل طويل الساعدين نهد

ورجعت ربيعة الكوفة فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل على رايتهم، وهم في الميسرة: زيد وعبد الله بن رقبة وأبو عبيدة بن راشد بن سلمى وهو يقول: اللهم أنت هديتنا من الضلالة واستنقذتنا من الجهالة وابتليتنا بالفتنة فكنا في شبهة وعلى ريبة، وقتل. واشتد الأمر حتى لزقت ميمنة أهل الكوفة بقلبهم وميسرة أهل البصرة بقلبهم ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن كانوا إلى جنبهم، وفعل مثل ذلك ميسرة أهل الكوفة بميمنة أهل البصرة، فلما رأى الشجعان من مضر الكوفة والبصرة الصبر تنادوا: طرفوا إذا فرغ الصبر، فجعلوا يقصدون الأطراف الأيدي والأرجل، فما رؤي وقعة كانت أعظم منها قبلها ولا بعدها ولا أكثر ذراعاً مقطوعة ولا رجلاً مقطوعة، واصيبت يد عبد الرحمن ابن عتاب قبل قتله. فنظرت عائشة من يسارها فقالت: من القوم عن يساري؟ قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد. فقالت: يا آل غسان حافظوا اليوم على جلادكم الذي كنا نسمع به، وتمثلت:
وجالد من غسان أهل حفاظها ... وكعب وأوسٌ جالدت وشبيب
فكان الأزد يأخذون بعر الجمل يشمونه ويقولون: بعر جمل أمنا ريحه ريح المسك. وقالت لمن عن يمينها: من القوم عن يميني؟ قال: بكر بن وائل. قالت: لكم يقول القائل:
وجاؤوا إلينا في الحديد كأنهم ... من العزة القعساء بكر بن وائل
إنما بإزائكم عبد القيس. فاقتتلوا أشد من قتالهم قبل ذلك. وأقبلت على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية. قالت: بخ بخ سيوف أبطحية قرشية! فجالدوا جلاداً يتفادى منه. ثم أطافت بها بنو ضبة فقالت: ويهاً جمرة الجمرات! فلما رقوا خالطهم بنو عدي بن عبد مناة وكثروا حولها، فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدي خالطنا إخوتنا، فأقاموا رأس الجمل وضربوا ضرباً شديداً ليس بالتعذير ولا يعدلون بالتطريف، حتى إذا كثر ذلك وظهر في العسكرين جميعأً راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع الجمل، وصار مجنبتا علي إلى القلب، وفعل ذلك أهل البصرة، وكره القوم بعضهم بعضاً. وأخذ عميرة بن يثربي برأس الجمل وكان قاضي البصرة قبل كعب بن سور، فشهد الجمل هو وأخوه عبد الله، فقال علي: من يحمل على الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو الجملي المرادي، فاعترضه ابن يثربي فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي، ثم حمل علباء بن الهيثم فاعترضه ابن يثربي فقتله وقتل سيحان بن صوحان وارتث صعصعة، وقال ابن يثربي:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ... قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان على دين علي
وقال ابن يثربي أيضاً:
أضربهم ولا أرى أبا حسن ... كفى بهذا حزناً من الحزن
إنما نمر الأمر إمرار الرسن
فناداه عمار: لقد عذت بحريز وما إليك من سبيل، فإن كنت صادقاً فاخرج من هذه الكتيبة إلي. فترك الزمام في يد رجل من بني عدي، حتى إذا كان بين الصفين تقدم عمار، وهو ابن تسعين سنة، وقيل أكثر من ذلك، عليه فرو وقد شد وسطه بحبل ليف، وهو أضعف من بارزه، واسترجع الناس وقالوا: هذا لاحق بأصحابه، وضربه ابن يثربي فاتقاه عمار بدرقته فنشب سيفه فيها فعالجه فلم يخرج، وأسف عمار لرجليه فضربه فقطهما فوقع على استه وأخذ أسيراً فأتي به إلى علي، فقال: استبقني. فقال: أبعد ثلاثة تقتلهم! وأمر به فقتل. وقيل: إن المقتول عمرو بن يثربي وإن عميرة بقي حتى ولي قضاء البصرة مع معاوية، ولما قتل ابن يثربي تولى ذلك العدوي الزمام فتركه بيد رجل من بني عدي وبرز، فخرج إليه ربيعة العقيلي يرتجز ويقول:
يا أمتا أعق أمٍ نعلم ... والأم تغذو ولداً وترحم
ألا ترين كم شجاعٍ يكلم ... وتختلى منه يدٌ ومعصم
كذب فهي من أبر أمٍ نعلم. ثم اقتتلا فأثخن كل واحد منهما صاحبه، فماتا جميعاً، وقام مقام العدوي الحرث الضبي، فما رؤي أشد منه، وجعل يقول:
نحن بنو ضبة أصحاب الجمل ... نبارز القرن إذا القرن نزل
ننعى ابن عفانٍ بأطراف الأسل ... الموت أحلى عندنا من العسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
وقيل: إن هذه الأبيات لوسيم بن عمرو الضبي، وكان عمرو يحرض أصحابه يوم الجمل، وقد أخذ الخطام، ويقول:
نحن بنو ضبة لا نفر ... حتى نرى جماجماً تخر
يخر منها العلق المحمر
ويقول:

يا أمتا يا عيس لن تراعي ... كل بنيك بطلٌ شجاع
ويقول:
يا أمتا يا زوجة النبي ... يا زوجة المبارك المهدي
ولم يزل الأمر كذلك حتى قتل على الخطام أربعون رجلاً. قالت عائشة: ما زال جملي معتدلاً حتى فقدت أصوات بني ضبة. قال: وأخذ الخطام سبعون رجلاً من قريش كلهم يقتل وهو آخذ بخطام الجمل، وكان ممن أخذ بزمام الجمل محمد بن طلحة، وقال: يا أمتاه مريني بأمرك. قالت: آمرك أن تكون خير بني آدم إن تركت، فجعل لا يحمل عليه أحد إلا حمل عليه، وقال: حاميم لا ينصرون، واجتمع عليه نفر كلهم ادعى قتله، المكعبر الأسدي، والمكعبر الضبي، ومعاوية بن شداد العبسي، وعفار السعدي النصري، فأنفذه بعضهم بالرمح، ففي ذلك يقول:
وأشعث قوامٍ بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعاً لليدين وللفم
يذكرني حاميم والرمح شاجرٌ ... فهلا تلا حاميم قبل التقدم
على غير شيءٍ غير أن ليس تابعاً ... علياً ومن لا يتبع الحق يندم
وأخذ الخطام عمرو بن الأشرف فجعل لا يدنو منه أحدٌ إلا خبطه بالسيف، فأقبل إليه الحرث بن زهير الأزدي وهو يقول:
يا أمنا يا خير أم نعلم ... أما ترين كم شجاع يكلم
وتختلى هامته والمعصم
فاختلفا ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، وأحدق أهل النجدات والشجاعة بعائشة، فكان لا يأخذ الخطام أحد إلا قتل، وكان لا يأخذه والراية إلا معروف عند المطيفين بالجمل فينتسب: أنا فلان بن فلان، فوالله إن كان ليقاتلون عليه وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت، وما رامه أحد من أصحاب علي إلا قتل أو أفلت ثم لم يعد، وحمل عدي بن حاتم الطائي عليهم ففقئت عينه، وجاء عبد الله بن الزبير ولم يتكلم فقالت: من أنت؟ فقال: ابنك ابن أختك. قالت: واثكل أسماء! وانتهى إليه الأشتر، فاقتتلا، فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحاً شديداً، وضربه عبد الله ضربةً خفيفة، واعتنق كل رجل منهما صاحبه وسقطا إلى الأرض يعتركان، فقال ابن الزبير:
اقتلوني ومالكاً ... واقتلوا مالكاً معي
فلو يعلمون من مالك لقتلوه، إنما كان يعرف بالأشتر، فحمل أصحاب علي وعائشة فخلصوهما. قال الأشتر: لقيت عبد الرحمن بن عتاب فلقيت أشد الناس وأخرقه ما لبثت أن قتلته، ولقيت الأسود بن عوف فلقيت أشد الناس وأشجعه فما كدت أنجو منه فتمنيت أني لم أكن لقيته، ولحقني جندب بن زهير الغامدي فضربته فقتلته، قال: ورأيت عبد الله بن حكيم بن حزام وعنده راية قريش وهو يقاتل عدي بن حاتم وهما يتصاولان تصاول الفحلين فتعاورناه فقتلناه. قال: وأخذ الخطام الأسود بن أبي البختر فقتل، وهو قرشي أيضاً، وأخذه عمرو بن الأشرف فقتل وقتل معه ثلاثة عشر رجلاً من أهل بيته، وهو أزدي، وجرح مروان بن الحكم، وجرح عبد الله بن الزبير سبعاً وثلاثين جراحة من طعنة ورمية، قال: وما رأيت مثل يوم الجمل ما ينهزم منا أحد وما نحن إلا كالجبل الأسود، وما يأخذ بخطام الجمل أحد إلا قتل حتى ضاع الخطام، ونادى علي: اعقروا الجمل فإنه إن عقر تفرقوا، فضربه رجل فسقط فما سمعت صوتاً قط أشد من عجيج الجمل. وكانت راية الأزد من أهل الكوفة مع مخنف بن سليم فقتل وأخذها الصقعب، وأخوه عبد الله بن سليم فقتل، وأخذها العلاء بن عروة، فكان الفتح وهي بيده. وكانت راية عبد القيس من أهل الكوفة مع القاسم بن سليم فقتل، وقتل معه زيد وسيحان ابنا صوحان، وأخذها عدة نفر فقتلوا، منهم عبد الله بن رقية، ثم أخذها منقذ بن النعمان فدفعها إلى ابنه مرة بن منقذ فانقضت الحرب وهي في يده، وكانت راية بكر بن وائل في بني ذهل مع الحرث بن حسان الذهلي، فأقدم وقال: يا معشر بكر لم يكن أحد له من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، مثل منزلة صاحبكم فانصروه، فتقدم وقاتلهم فقتل ابنه وخمسة من بني أهله، وقتل الحرث، فقيل فيه:
أنعى الرئيس الحرث بن حسان ... لآل ذهل ولآل شيبان
وقال رجل من بني ذهل:
تنعى لنا خير امرىء من عدنان ... عند الطعان ونزال الأقران
وقال أخوه بشر بن حسان:
أنا ابن حسان بن خوط وأبي ... رسول بكر كلها إلى النبي

وقتل رجال من بني محدوج، وقتل من بني ذهل خمسة وثلاثون رجلاً، وقال رجل لأخيه وهو يقاتل: يا أخي ما أحسن قتالنا إن كنا على الحق! قال: فإنا على الحق، إن الناس أخذوا يميناً وشمالاً، وإنا تمسكنا بأهل بيت نبينا؛ فقاتلا حتى قتلا. وجرح يومئذ عمير بن الأهلب الضبي، فمر به رجل من أصحاب علي وهو في الجرحى يفحص برجليه ويقول:
لقد أوردتنا حومة الموت أمنا ... فلم ننصرف إلا ونحن رواء
لقد كان في نصر ابن ضبة أمه ... وشيعتها مندوحةٌ وغناء
أطعنا قريشاً ضلةً من حلومنا ... ونصرتنا أهل الحجاز عناء
أطعنا بني تيم بن مرة شقوةً ... وهل تيم إلا أعبدٌ وإماء
فقال له الرجل: قل لا إله إلا الله. قال: ادن مني فلقني فبي صمم. فدنا منه الرجل، فوثب عليه فعض أذنه فقطعها.
وقيل في عقر الجمل: إن القعقاع لقي الأشتر وقد عاد من القتال عند الجمل فقال: هل لك في العود؟ فلم يجبه. فقال: يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك، وحمل القعقاع والزمام مع زفر بن الحرث، وكان آخر من أخذ الخطام، فلم يبق شيخ من بني عامر إلا أصيب قدام الجمل، وزفر بن الحرث يرتجز ويقول:
يا أمنا مثلك لا يراع ... كل بنيك بطلٌ شجاع
ليس بوهواهٍ ولا براع
وقال القعقاع:
إذا وردنا آجناً جهرناه ... ولا يطاق ورد ما منعناه
وزحف إلى زفر بن الحرث الكلائي، وتسرعت عامر إلى حربه فأصيبوا، فقال القعقاع لبجير بن دلجة، وهو من أصحاب علي: يا بجير بن دلجة صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن تصابوا وتصاب أم المؤمنين. فقال بجير: يا آل ضبة! يا عمرو بن دلجة! ادع بي إليك، فدعاه، فقال: أنا آمن حتى أرجع عنكم؟ قال: نعم. فاجتث ساق البعير فرمى نفسه على شقه وجرجر البعير، فقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون. واجتمع هو وزفر على قط بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه، وإنه كالقنفذ لما فيه من السهام، ثم أطافا به، وفر من وراء ذلك من الناس. فلما انهزموا أمر علي منادياً فنادى: ألا لا تتبعوا مدبراً ولا تجهزوا على جريح ولا تدخلوا الدور. وأمر علي نفراً أن يحملوا الهودج من بين القتلى، وأمر أخاها محمد بن أبي بكر أن يضرب عليها قبة، وقال: انظر هل وصل إليها شيء من جراحة؟ فأدخل راسه في هودجها، فقالت: من أنت؟ فقال: أبغض أهلك إليك. قالت: ابن الخثعمية؟ قال: نعم. قالت: يا بأبي، الحمد لله الذي عافاك! وقيل: لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج فنحياه، فأدخل محمد يده فيه، فقالت: من هذا؟ فقال: أخوك البر. قالت: عقق! قال: يا أخية هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك؟ قال: فمن إذاً الضلال؟ قالت: بل الهداة. وقال لها عمار: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أماه؟ قالت: لست لك بأم. قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الذي نقمتم، هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه! فأبرزوا هودجها فوضعوه ليس قربها أحد، وأتاها علي فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. وجاء أعين بن ضبيعة ابن أعين المجاشعي حتى اطلع في الهودج، فقالت:إليك لعنك الله! فقال: والله ما أرى إلا حميراء! فقالت له: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك. فقتل بالبصرة، وسلب، وقطعت يده ورمي عرياناً في خربة من خربات الأزد. ثم أتى وجوه الناس عائشة وفيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها فقالت: إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعرف كوفيك؟ قال: نعم، ذاك الذي قال: أعق أم نعلم، وكذب، إنك لأبر أمٍ نعلم ولكن لم تطاعي. قالت: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
وخرج من عندها فأتى علياً، فقال له علي: والله لوددت أني مت من قبل اليوم بعشرين سنة، وكان علي يقول ذلك اليوم بعد الفراغ من القتال:
إليك أشكو عجري وبجري ... ومعشراً أغشوا علي بصري
قتلت منهم مضراً بمضري ... شفيت نفسي وقتلت معشري

فلما كان الليل أدخلها أخوها محمد بن أبي بكر البصرة فأنزلها في دار عبد الله ابن خلف الخزاعي على صفية بنت الحرث بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان ابن عبد الدر، وهي أم طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف، وتسلل الجرحى من بين القتلى ليلاً فدخلوا البصرة، فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثاً وأذن للناس في دفن موتاهم، فخرجوا إليهم فدفنوهم، وطاف علي في القتلى، فلما أتى على كعب بن سور قال: أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون! وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم، يعني أنهم كانوا يطيفون به، واجتمعوا على الرضا به لصلاتهم، ومر على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال: لهفي عليك يا أبا محمد! إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشاً صرعى، أنت والله كما قال الشاعر:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه ... إذا ما هوا استغنى ويبعده الفقر
وجعل كلما مر برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم. وصلى علي على القتلى من أهل البصرة والكوفة، وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر من شيء وبعث به إلى مسجد البصرة وقال: من عرف شيئاً فليأخذه إلا سلاحاً كان في الخزائن عليه سمة السلطان. وكان جميع القتلى عشرة آلاف نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من أصحاب عائشة، وقيل غير ذلك، وقتل من ضبة ألف رجل، وقتل من بني عدي حول الجمل سبعون رجلاً كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ. ولما فرغ علي من الوقعة أتاه الأحنف بن قيس في بني سعد، وكانوا قد اعتزلوا القتال، فقال له علي: تربصت؟ فقال: ما كنت أراني إلا وقد أحسنت وبأمرك كان ما كان يا أمير المؤمنين، فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد وأنت إلي غداً أحوج منك أمس، فاعرف إحساني واستصف مودتي لغدٍ ولا تقل مثل هذا فإني لم أزل لك ناصحاً.
ثم دخل علي البصرة يوم الإثنين فبايعه أهلها على راياتهم حتى الجرحى والمستأمنة، وأتاه عبد الرحمن بن أبي بكرة في المستأمنين أيضاً فبايعه، فقال له علي: و ما عمل المتربص المتقاعد بي أيضاً؟ يعني أباه أبا بكرة! فقال: والله إنه لمريض وإنه على مسرتك لحريص. فقال علي: امش أمامي! فمشى معه إلى أبيه، فلما دخل عليه علي قال له تقاعدت بي وتربصت؟ ووضع يده على صدره وقال: هذا وجع بين؛ واعتذر إليه، فقبل عذره، واراده على البصرة، فامتنع وقال: رجل من أهلك يسكن إليه الناس وسأشير عليه. فافترقا على ابن عباس، وولى زياداً على الخراج وبيت المال، وأمر ابن عباس أن يسمع منه ويطيع، وكان زياد معتزلاً. ثم راح إلى عائشة، وهي في دار عبد الله بن خلف، وهي أعظم دار بالبصرة، فوجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان ابني خلف، وكان عبد الله قتل مع عائشة وعثمان قتل مع علي، وكانت صفية زوجة عبد الله مختمرة تبكي، فلما رأته قالت له: يا علي! يا قاتل الأحبة! يا مفرق الجمع! أيتم الله منك بنيك كما أيتمت ولد عبد الله منه! فلم يرد عليها شيئاً. ودخل على عائشة فسلم عليها وقعد عندها، ثم قال: جبهتنا صفية، أما إني لم أرها منذ كانت جارية.
فلما خرج علي أعادت عليه القول، فكف بغلته وقال: لقد هممت أن أفتح هذا الباب، وأشار إلى باب في الدار، وأقتل من فيه، وكان فيه ناس من الجرحى، فأخبر علي بمكانهم فتغافل عنهم فسكت، وكان مذهبه أن لا يقتل مدبراً ولا يذفف على جريح ولا يكشف ستراً ولا يأخذ مالاً.
ولما خرج علي من عند عائشة قال له رجل من أزد: والله لا تغلبنا هذه المرأة! فغضب وقال: مه! لا تهتكن ستراً ولا تدخلن داراً لا تهيجن امرأة بأذى وإن شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم، فإن النساء ضعيفات، ولقد كنا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات، فكيف إذا هن مسلمات؟ ومضى علي فلحقه رجل فقال له: يا أمير المؤمنين قام رجلان على الباب فتناولا من هو أمض شتيمة لك من صفية. قال: ويحك لعلها عائشة! قال: نعم. قال أحدهما: جزيت عنا أمنا عقوقنا. وقال الآخر: يا أمي توبي فقد أخطأت. فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب، فأقبل بمن كان عليه، فأحالوا على رجلين من أزد الكوفة، وهما: عجلان وسعد ابنا عبد الله، فضربهما مائة سوط وأخرجهما من ثيابهما.

وسألت عائشة يومئذ عمن قتل من الناس منهم معها ومنهم عليها والناس عندها، فكلما نعي واحد من الجميع قالت: يرحمه الله. فقيل لها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلان في الجنة، وفلان في الجنة، وقال علي: إني لأرجو أن لا يكون أحد نقى قلبه لله من هؤلاء إلا أدخله الله الجنة.
ثم جهز علي عائشة بكل ما ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع وغير ذلك وبعث معها كل من نجا مم خرج معها إلا من أحب المقام، واختار لها أربعين امرأة من نساء البصرة المعروفات، وسير معها أخاها محمد بن أبي بكر، فلما كان اليوم الذي ارتحلت فيه أتاها علي فوقف لها وحضر الناس فخرجت وودعتهم وقالت: يا بني لا يعتب بعضنا على بعض، إنه والله ما كان بيني وبين علي في القديم إلا ما يكون بيني وبينها إلا ذاك، وإنها لزوجة نبيكم في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت غرة رجب وشيعها أميالاً وسرح بنيه معها يوماً، فكان وجهها إلى مكة، فأقامت إلى الحج ثم رجعت إلى المدينة، وقال لها عمار حين ودعها: ما أبعد هذا المسير من العهد الذي عهد إليك! قالت: والله إنك ما علمت لقوال بالحق. قال: الحمد لله الذي قضى على لسانك لي.
وأما المنهزمون فقد ذكرنا حالهم، وكان منهم: عتبة بن أبي سفيان، فخرج هو وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم فساروا في البلاد، فلقيهم عصمة ابن أبير التيمي فقال لهم: هل لكم في الجوار؟ فقالوا: نعم. فأجارهم وأنزلهم حتى برأت جراحهم وسيرهم نحو الشام في أربعمائة راكب، فلما وصلوا إلى دومة الجندل قالوا: قد وفيت ذمتك وقضيت ما عليك. فرجع. وأما ابن عامر فإنه خرج أيضاً فلقيه رجلٌ مه بني حرقوص يدعى مري، فأجاره وسيره إلى الشام. وأما مروان بن الحكم فاستجار بمالك بن مسمع، فأجاره ووفى له، وحفظ له بنو مروان ذلك في خلافتهم وانتفع بهم وشرفوه بذلك. وقيل: إن مروان نزل مع عائشة بدار عبد الله بن خلف وصحبها إلى الحجاز، فلما سارت إلى مكة سار إلى المدينة. وأما عبد الله بن الزبير فإنه نزل بدار رجل من الأزد يدعى وزيراً، فقال له: ائت أم المؤمنين فأعلمها بمكاني ولا يعلم محمد بن أبي بكر. فأتى عائشة فأخبرها، فقالت: علي بمحمد. فقال لها: إنه قد نهاني أن يعلم محمد. فلم تسمع قوله وأرسلت إلى محمد وقالت: اذهب مع هذا الرجل حتى تأتيني بابن أختك. فانطلق معه، وخرج عبد الله ومحمد حتى انتهيا إلى دار عائشة في دار عبد الله بن خلف.
ولما فرغ علي من بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فرأى فيه ستمائة ألف وزيادة، فقسمها على من شهد معه، فأصاب كل رجل منهم خمسمائة خمسمائة، فقال لهم: إن أظفركم الله بالشام فلكم مثلها إلى أعطياتكم. فخاض في ذلك السبئية، وطعنوا على علي من وراء وراء، وطعنوا فيه أيضاً حين نهاهم عن أخذ أموالهم، فقالوا: ما له يحل لنا دماءهم ويحرم علينا أموالهم؟ فقال لهم علي: القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا ومن لج حتى يصاب فقتاله مني على الصدر والنحر.
وقال القعقاع: ما رأيت شيئاً أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال صفين، لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ونتكىء على أزجتنا وهم مثل ذلك، حتى لو أن الرجال مشت عليها لاستقلت بهم. وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لما كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنا بالرماح حتى تكسرت وتشبكت في صدورنا وصدورهم حتى لو سيرت عليها الخيل لسارت. ثم قال علي: السيوف يا بني المهاجرين! فما شبهت أصواتها إلا بضرب القصارين.
وعلم أهل المدينة بالوقعة يوم الحرب قبل أن تغرب الشمس من نسر مر بماء حول المدينة ومعه شيء معلق فسقط منه فإذا كف فيه خاتم نقشه: عبد الرحمن بن عتاب. وعلم من بين مكة والمدينة والبصرة بالوقعة بما ينقل إليهم النسور من الأيدي والأقدام.
وأراد علي المقام بالبصرة لإصلاح حالها فأعجلته السبئية عن المقام، فإنهم ارتحلوا بغير إذنه، فارتحل في آثارهم ليقطع عليهم أمراً إن أرادوه.
وقد قيل في سبب القتال يوم الجمل غير ما تقدم مع الاتفاق على مسير أصحاب عائشة ونزولهم البصرة والوقعة الأولى مع عثمان بن حنيف وحكيم.

وأما مسير علي وعزل أبي موسى فقيل فيه: إن علياً لما أرسل محمد بن أبي بكر إلى أبي موسى وجرى له ما تقدم سار هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى علي بالربذة فأعلمه الحال، فأعاده علي إلى أبي موسى يقول له: أرسل الناس فإني لم أولك إلا لتكون من أعواني على الحق. فامتنع أبو موسى، فكتب هاشم إلى علي: إني قدمت على رجلٍ غالٍ مشاقق ظاهر الشنآن، وأرسل الكتاب مع المحل ابن خليفة الطائي، فبعث علي الحسن ابنه وعمار بن ياسر يستنفران الناس، وبعث قرظة بن كعب الأنصاري أميراً، وكتب معه إلى أبي موسى: إني قد بعثت الحسن وعماراً يستنفران الناس، وبعثت قرظة ابن كعب والياً على الكوفة، فاعتزل عملنا مذموماً مدحوراً، وإن لم تفعل فإني قد أمرته أن ينابذك، فإن نابذته فظفر بك يقطعك إرباً إرباً. فلما قدم الكتاب على أبي موسى اعتزل، واستنفر الحسن الناس، فنفروا نحو ما تقدم، وسار علي نحو البصرة، فقال جون بن قتادة: كنت مع الزبير فجاء فارس يسير فقال: السلام عليك أيها الأمير، فرد عليه، فقال: إن هؤلاء القوم قد أتوا مكان كذا وكذا فلم أر أرث سلاحاً ولا أقل عدداً ولا أرعب قلوباً منهم. ثم انصرف عنه، وجاء فارس آخر فقال له: إن القوم قد بلغوا مكان كذا وكذا فسمعوا بما جمع الله لكم من العدد والعدة فخافوا فولوا مدبرين. فقال الزبير: إيهاً عنك! فوالله لو لم يجد علي بن أبي طالب إلا العرفج لدب إلينا فيه فانصرف.
وجاء فارس، وقد كادت الخيل تخرج من الرهج، فقال: هؤلاء القوم قد أتوك فلقيت عماراً فقلت له وقال لي. فقال الزبير: إنه ليس فيهم! فقال الرجل: بلى والله إنه لفيهم. فقال الزبير: والله ما جعله الله فيهم. فقال الرجل: بلى والله. فلما كرر عليه أرسل الزبير رجلين ينظران، فانطلقا ثم رجعا فقالا: صدق الرجل. فقال الزبير: يا جدع أنفاه! يا قطع ظهراه! ثم أخذته رعدة فجعل السلاح ينتفض. قال جون: فقلت ثكلتني أمي! هذا الذي كنت أريد أن أموت معه أو أعيش، ما أخذه هذا الأمر إلا لشيء سمعه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وانصرف جون فاعتزل، وجاء علي، فلما تواقف الناس دعا الزبير وطلحة فتوافقوا، وذكر من أمر الزبير وعوده وتكفيره عن يمينه مثل ما تقدم، فلما أبوا إلا القتال قال علي: أيكم يأخذ هذا المصحف يدعوهم إلى ما فيه فإن قطعت يده أخذه بيده الأخرى فإن قطعت أخذه بأسنانه وهو مقتول؟ فقال شاب: أنا. فطاف به على أصحابه فلم يجبه إلا ذلك الشاب، ثلاث مرات، فسلمه إليه، فدعاهم، فقطعت يده اليمنى، فأخذه باليسرى، فقطعت، فأخذه بصدره والدماء تسيل على قبائه، فقتل، فقال علي: الآن حل قتالهم. فقالت أم الفتى:
لا هم إن مسلماً دعاهم ... يتلو كتاب الله لايخشاهم
وأمهم قائمةٌ تراهم ... تأمرهم بالقتل لا تنهاهم
قد خضبت من علقٍ لحاهم
وحملت ميمنة علي على ميسرتهم، فاقتتلوا، فلاذ الناس بعائشة، وكان أكثرهم من ضبة والأزد، وكان قتالهم من ارتفاع النهار إلى قريب من العصر ثم انهزموا، ونادى رجلٌ من الأزد: كروا، فضربه محمد بن علي فقطع يده، فقال: يامعشر الأزد فروا، واستحر القتل في الأزد فنادوا: نحن على دين علي. فقال رجل من بني ليث:
سائل بنا حين لقينا الأزدا ... والخيل تعدو أشقراً ووردا
لما قطعنا كبدهم والزندا ... سحقاً لهم في رأيهم وبعدا
وحمل عمار بن ياسر على الزبير فجعل يحوزه بالرمح، فقال: أتريد أن تقتلني يا أبا اليقظان؟ فقال: لا يا أبا عبد الله، انصرف، وجرح عبد الله بن الزبير فألقى نفسه في الجرحى ثم برأ. وعقر الجمل، واحتمل محمد ابن أبي بكر عائشة فأنزلها وضرب عليها قبة، فوقف علي عليها وقال لها: استنفرت الناس وقد فروا وألبت بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً، في كلام كثير. فقالت عائشة: ملكت فأسجع، نعم ما ابتليت قومك اليوم! فسرحها وأرسل معها جماعة من رجال ونساء وجهزها بما تحتاج.
لم أذكر في وقعة الجمل إلا ما ذكره أبو جعفر إذا كان أوثق من نقل التاريخ، فإن الناس قد حشوا تواريخهم بمقتضى أهوائهم.

وممن قتل يوم الجمل عبد الرحمن بن عبيد الله أخو طلحة، له صحبة، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس بن عامر بن لؤي، له صحبة. وفيها قتل المحرز ابن حارثة بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس، له صحبة، واستعمله عمر على مكة ثم عزله، وفيها قتل معرض بن علاط السلمي أخو الحجاج بن علاط، وقتل مع علي، وفيها قتل مجاشع ومجالد ابنا مسعود السلميان مع عائشة، لهما صحبة، فأما مجاشع فلا شك أنه قتل في الجمل، وقتل عبد الله بن حكيم بن حزام الأسدي القرشي مع عائشة، وكان إسلامه يوم الفتح، وفيها قتل هند ابن أبي هالة الأسيدي، أمه خديجة بنت خويلد زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، مع علي، وقيل: مات بالبصرة: والأول أصح.
الأسيدي بضم الهمزة، منسوب إلى أسيد بتشديد الياء، وهم بطن من تميم.
وقتل هلال بن وكيع بن بشر التميمي مع عائشة، له صحبة، وفيها قتل معاذ بن عفراء أخو معوذ، وهما ابنا الحرث بن رفاعة الأنصاريان، وشهدا بدراً، وقتل مع علي، وقيل: عاش وقتل في وقعة الحرة.
التيهان بفتح التاء فوقها نقطتان، وتشديد الياء تحتها نقطتان، وآخره نون. وشبث بفتح الشين المعجمة، والباء الموحدة، وآخره ثاء مثلثة. وسيحان بفتح السين المهملة، وسكون الياء تحتها نقطتان، وفتح الحاء المهملة، وآخره نون. ونجبة بفتح النون والجيم، والباء الموحدة. وعميرة بفتح العين، وكسر الميم. وأبير بضم الهمزة، وفتح الباء الموحدة. والخريت بكسر الخاء المعجمة، والراء المشددة، وسكون الياء المثناة من تحتها نقطتان، وفي آخره تاء فوقها نقطتان.
ذكر قصد الخوارج سجستانفي هذه السنة بعد الفراغ من وقعة الجمل خرج حسكة بن عتاب الحبطي وعمران بن الفضيل البرجمي في صعاليك من العرب حتى نزلوا زالق من سجستان، وقد نكث أهلها، فأصابوا منها مالاً ثم أتوا زرنج وقد خافهم مرزبانها فصالحهم ودخلوها، فقال الراجز:
بشر سجستان بجوعٍ وحرب ... بابن الفضيل وصعاليك العرب
لا فضةٌ تغنيهم ولا ذهب
فبعث علي عبد الرحمن بن جرو الطائي، فقتله حسكة، فكتب علي إلى عبد الله بن العباس يأمره أن يولي سجستان رجلاً ويسيرة إليها في أربعة آلاف، فوجه ربعي بن كاس العنبري ومعه الحصين بن أبي الحر العنبري، فلما ورد سجستان قاتلهم حسكة وقتلوه، وضبط ربع البلاد، وكان فيروز حصين ينسب إلى الحصين بن أبي الحر هذا، وهو من سجستان.
ذكر قتل محمد بن أبي حذيفةفي هذه السنة قتل محمد بن أبي حذيفة، وكان أبوه أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس قد قتل يوم اليمامة، وترك ابنه محمداً هذا، فكفله عثمان ابن عفان وأحسن تربيته، وكان فيما قيل: أصاب شراباً فحده عثمان، ثم تنسك محمد وأقبل على العبادة وطلب من عثمان أن يوليه عملاً، فقال: لو كنت أهلاً لذلك لوليتك. فقال له: إني قد رغبت في غزو البحر فأذن لي في إتيان مصر، فأذن له وجهزه، فلما قدمها رأى الناس عبادته فلزموه وعظموه، وغزا مع عبد الله بن سعد غزوة الصواري.
وكان محمد يعيبه ويعيب عثمان بتوليته ويقول: استعمل رجلاً أباح رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دمه. فكتب عبد الله إلى عثمان: إن محمداً قد أفسد علي البلاد هو ومحمد بن أبي بكر. فكتب إليه: أما ابن أبي بكر فإنه يوهب لأبيه ولعائشة، وأما ابن أبي حذيفة فإنه ابني وابن أخي وتربيتي وهو فرخ قريش. فكتب إليه: إن هذا الفرخ قد استوى ريشه ولم يبق إلا أن يطير. فبعث عثمان إلى ابن أبي حذيفة بثلاثين ألف درهم وبجمل عليه كسوة، فوضعها محمد في المسجد ثم قال: يا معشر المسلمين ألا ترون إلى عثمان يخادعني عن ديني ويرشوني عليه! فازداد أهل مصر تعظيماً له وطعناً على عثمان، وبايعوه على رياستهم، فكتب إليه عثمان يذكره بره به وتربيته إياه وقيامه بشأنه، ويقول: إنك كفرت إحساني أحوج ما كنت إلى شكرك. فلم يرده ذلك عن ذمه وتأليب الناس عليه وحثهم على المسير إلى حصره ومساعدة من يريد ذلك.

فلما سار المصريون إلى عثمان، أقام هو بمصر، وخرج عنها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فاستولى عليها وضبطها فلم يزل بها مقيماً حتى قتل عثمان وبويع علي، واتفق معاوية وعمرو بن العاص على خلاف علي، فسار إلى مصر قبل قدوم قيس بن سعد إليها أميراً، فأراد دخولها فلم يقدر على ذلك، فخدع محمداً حتى خرج منها إلى العريش في ألف رجل فتحصن بها، فنصب عليه المنجنيق حتى نزل في ثلاثين من أصحابه فقتل.
وهذا القول ليس بشيء لأن علياً استعمل قيساً على مصر أول ما بويع له، ولو أن ابن أبي حذيفة قتله معاوية وعمرو قبل وصول قيس إلى مصر لاستوليا عليها لأنه لم يكن بها أمير يمنعهما عنها، ولا خلاف أن استيلاء معاوية وعمرو عليها كان بعد صفين، والله أعلم.
وقيل غير ذلك، وهو أن محمد بن أبي حذيفة سير المصريين إلى عثمان، فلما حصروه أخرج محمدٌ عبد الله بن سعد عن مصر، وهو عامل عثمان، واستولى عليها، فنزل عبد الله على تخوم مصر وانتظر أمر عثمان، فطلع عليه راكب فسأله، فأخبره بقتل عثمان، فاسترجع، وسأله عما صنع الناس بعده، فأخبره ببيعة علي، فاسترجع، فقا له: كأن إمرة علي تعدل عندك قتل عثمان! قال: نعم. قال: أظنك عبد الله بن سعد. فقال: نعم. فقال له: إن كانت لك في نفسك حاجة فالنجاء النجاء، فإن رأى أمير المؤمنين علي فيك وفي أصحابك إن ظفر بكم أن يقتلكم أو ينفيكم، وهذا بعدي أمير يقدم عليك. فقال: من هو؟ قال: قيس بن سعد بن عبادة. قال عبد الله بن سعد: أبعد الله محمد بن أبي حذيفة، فإنه بغى على ابن عمه وسعى عليه، وقد كفله ورباه وأحسن إليه، فأساء جواره وجهز إليه الرجال حتى قتل ثم ولى عليه من هو أبعد منه ومن عثمان ولم يمتعه بسلطان بلاده شهراً ولم يره لذلك أهلاً. وخرج عبد الله هارباً حتى قدم على معاوية.
وهذا القول يدل على أن قيساً ولي مصر ومحمد بن أبي حذيفة حي، وهو الصحيح.
وقيل: إن عمراً سار إلى مصر بعد صفين، فلقيه محمد بن أبي حذيفة في جيش، فلما رأى عمرو كثرة من معه أرسل إليه، فالتقيا واجتمعا، فقال له عمرو: إنه قد كان ما ترى وقد بايعت هذا الرجل، يعني معاوية، وما أنا براضٍ بكثير من أمره، وإني لأعلم أن صاحبك علياً أفضل من معاوية نفساً وقديمً وألى بهذا الأمر، فواعدني موعداً ألتقي معك فيه في غير جيش، تأتي في مائة وآتي في مثلها، وليس معنا إلا السيوف في القرب. فتعاهدا وتعاقدا على ذلك واتعدا العريش، ورجع عمرو إلى معاوية، فأخبره الخبر، فلما جاء الأجل سار كل واحد منهما إلى صاحبه في مائة، وجعل عمرو له جيشاً خلفه لينطوي خبره، فلما التقيا بالعريش قدم جيش عمرو على أثره، فعلم محمد أنه قد غدر به، فدخل قصراً بالعريش فتحصن به، فحصره عمرو ورماه بالمنجنيق حتى أخذ أسيراً، وبعث به عمرو إلى معاوية فسجنه، وكانت ابنة قرظة امرأة معاوية ابنة عمه محمد بن أبي حذيفة أمها فاطمة بنت عتبة، فكانت تصنع له طعاماً ترسله إليه، فأرسلت إليه يوماً في الطعام مبارد، فبرد بها قيود وهرب فاختفى في غار فأخذ وقتل، والله أعلم.
وقيل: إنه بقي محبوساً إلى أن قتل حجر بن عدي، ثم إنه هرب، فطلبه مالك بن هبيرة السكوني فظفر به فقتله غضباً لحجر، وكان مالك قد شفع إلى معاوية في حجر فلم يشفعه. وقيل: إن محمد بن أبي حذيفة لما قتل محمد بن أبي بكر خرج في جمع كثير إلى عمرو فآمنه عمرو ثم غدر به وحمله إلى معاوية بفلسطين فحبسه، ثم إنه هرب، فأظهر معاوية للناس أنه كره هربه وأمر بطلبه، فسار في أثره عبيد الله بن عمرو بن ظلام الخثعمي فأدركه بحوران في غار، وجاءت حمر تدخل الغار، فلما رأت محمداً نفرت منه، وكان هناك ناس يحصدون، فقالوا: والله إن لنفرة هذه الحمر لشأناً. فذهبوا إلى الغار فرأوه، فخرجوا من عنده، فوافقهم عبيد الله فسألهم عنه ووصفه لهم، فقالوا: هو في الغار، فأخرجه وكره أن يأتي به معاوية فيخلي سبيله، فضرب عنقه، وكان ابن خال معاوية.
ذكر ولاية قيس بن سعد مصر

وفي هذه السنة في صفر بعث علي قيس بن سعد أميراً على مصر، وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان من ذوي الرأي والبأس، فقال له: سر إلى مصر فقد وليتكها واخرج إلى رحلك واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند، فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك، وأحسن إلى المحسن واشتد على المريب، وارفق بالعامة والخاصة، فإن الرفق يمن. فقال له قيس: أما قولك: اخرج إليها بجند، فوالله لئن لم أدخلها إلا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبداً، فأنا أدع ذلك الجند لك، فإن كنت احتجت إليهم كانوا منك قريباً، وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدة. فخرج قيس حتى دخل مصر في سبعة من أصحابه على الوجه الذي تقدم ذكره، فصعد المنبر فجلس عليه وامر بكتاب أمير المؤمنين فقرى على أهل مص بإمارته ويأمرهم بمبايعته ومساعدته وإعانته على الحق، ثم قام قيس خطيباً وقال: الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكبت الظالمين، أيها الناس إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا، صلى الله عليه وسلم، فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم.
فقام الناس الناس فبايعوا واستقامت مصر، وبعث عليها عماله إلا قرية منها يقال لها خرنبا فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان، عليهم رجل من بني كنانة ثم من بني مدلج اسمه يزيد بن الحرث، فبعث إلى قيس يدعو إلى الطلب بدم عثمان. وكان مسلمة بن مخلد قد أظهر الطلب أيضاً بدم عثمان، فأرسل إليه قيس: ويحك أعلي تثب! فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك! فبعث إليه مسلمة: إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر.
وبعث قيس، وكان حازماً، إلى أهل خرنبا: إني لا أكرهكم على البيعة وإني كاف عنكم؛ فهادنهم جبى الخراج ليس أحد ينازعه، وخرج أمير المؤمنين إلى الجمل ورجع وهو بمكانه، فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام ومخافة أن يقبل علي في أهل العراق وقيس في أهل مصر فيقع بينهما معاوية، فكتب معاوية إلى قيس: سلام عليك، أما بعد فإنكم نقمتم على عثمان ضربة بسوط أو شتيمة رجل أو تسيير آخر واستعمال فتى، وقد علمتم أن دمه لا يحل لكم، فقد ركبتم عظيماً وجئتم أمراً إداً، فثب إلى الله يا قيس، فإنك من المجلبين على عثمان، فأما صاحبك فإنا استيقنا أنه الذي أغرى به الناس وحملهم حتى قتلوه، وإنه لم يسلم من دمه عظم قومك، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطالب بدم عثمان فافعل وتابعنا على أمرنا ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني ما شئت فإني أعطيك واكتب إلي برأيك.
فلما جاءه الكتاب أحب أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل إلى حربه، فكتب إليه: أما بعد فقد فهمت ما ذكرته من قتلة عثمان فذلك شيء لم أقاربه، وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى به حتى قتلوه، وهذا مما لم أطلع عليه، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم من دم عثمان، فأول الناس كان فيه قياماً عشيرتي، وأما ما عرضته من متابعتك فهذا أمر لي فيه نظر وفكرة، وليس هذا مما يسرع إليه، وأنا كاف عنك وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه حتى ترى ونرى إن شاء الله تعالى.
فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقارباً مباعداً، فكتب إليه: أما بعد فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلماً ولا متباعداً فأعدك حرباً، وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ومعه عدد الرجال وبيده أعنة الخيل، والسلام.
فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يفيد معه المدافعة والمماطلة أظهر له ما في نفسه، فكتب إليه: أما بعد فالعجب من اغترارك بي وطمعك في واستسقاطك إياي، أتسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمارة وأقولهم بالحق وأهداهم سبيلاً وأقربهم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسيلة وتأمرني بالدخول في طاعتك، طاعة أبعد الناس من هذا الأمر وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلاً وأبعدهم من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسيلة، ولد ضالين مضلين، طاغوتٍ من طواغيت إبليس! وأما قولك إني مالىء عليك مصر خيلاً ورجالاً، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهم إليك إنك لذو جد، والسلام.

فلما رأى معاوية كتابه أيس منه وثقل عليه مكانه ولم تنجع حيله فيه، فكاده من قبل علي، فقال لأهل الشام: لا تسبوا قيس بن سعد ولا تدعوا إلى غزوه فإنه لنا شيعة قد تأتينا كتبه ونصيحته سراً، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خرنبا، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم! وافتعل كتاباً عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان والدخول معه في ذلك وقرأه على أهل الشام.
فبلغ ذلك علياً، أبلغه ذلك محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب، وأعلمته عيونه بالشام، فأعظمه وأكبره، فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك. فقال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يربيك، اعزل قيساً عن مصر. فقال علي: إني والله ما أصدق بهذا عنه. فقال عبد الله: اعزله فإن كان هذا حقاً لا يعتزل لك. فإنهك كذلك إذ جاءهم كتاب من قيس يخبر أمير المؤمنين بحال المعتزلين وكفه عن قتالهم. فقال ابن جعفر: ما أخوفني أن يكون ذلك ممالأة منه، فمره بقتالهم. فكتب إليه يأمره بقتالهم فلما قرأ الكتاب كتب جوابه: أما بعد فقد عجبت لأمرك تأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لعدوك! ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوك، فأطعني يا أمير المؤمنين واكفف عنهم فإن الرأي تركهم، والسلام. فلما قرأ علي الكتاب قال ابن جعفر: يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر واعزل قيساً، فقد بلغني أن قيساً يقول: إن سلطاناً لا يستقيم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء.
وكان ابن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه؛ فبعث علي محمد بن أبي بكر إلى مصر، وقيل: بعث الأشتر النخعي، فمات بالطريق، فبعث محمداًن فقدم محمد على قيس بمصر، فقال له قيس: ما بال أمير المؤمنين؟ ما غيره؟ دخل أحد بيني وبينه؟ قال: لا، وهذا السلطان سلطانك. قال: لا والله لا أقيم. وخرج منها مقبلاً إلى المدينة وهو غضبان لعزله، فجاءه حسان بن ثابت، وكان عثمانياًن يشمت به، فقال له: قتلت عثمان ونزعك علي، فبقي عليك الإثم ولم يحسن لك الشكر! فقال له قيس: يا أعمى القلب والبصر! والله لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حرباً لضربت عنقك! اخرج عني! ثم أخاف مروان بن الحكم قيساً بالمدينة، فخرج منها هو وسهل بن حنيف إلى علي فشهدا معه صفين. فكتب معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له: لو أمددت علياً بمائة ألف مقاتل لكان أيسر عندي من قيس بن سعد في رأيه ومكانه.
فلما قدم قيس على علي وأخبره الخبر، علم أنه كان يقاسي أموراً عظاماً من المكايدة، وجاءهم خبر قتل محمد بن أبي بكر، فعظم محل قيس عنده وأطاعه في الأمر كله.
ولما قدم محمد مصر قرأ كتاب علي على أهل مصر ثم قام فخطب فقال: الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق وبصرنا وإياكم كثيراً مما كان عمي عنه الجاهلون. ألا إن أمير المؤمنين ولاني أمركم وعهد إلي ما سمعتم، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك فإنه هو الهادي له، وإن رأيتم عاملاً لي عمل بغير الحق فارفعوه إلي وعاتبوني فيه فإني بذلك أسعد وأنتم بذلك جديرون، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته.
ثم نزل ولبث شهراً كاملاً حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس، فقال لهم: إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا. فأجابوه: إنا لا نفعل، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمرنا فلا تعجل لحربنا. فأبى عليهم، فامتنعوا منه وأخذوا حذرهم، فكانت وقعة صفين وهم هائبون لمحمد.
فلما رجع علي عن معاوية وصار الأمر إلى التحكيم طمعوا في محمد وأظهروا له المبارزة، فبعث محمد الحرث بن جمهان الجعفي إلى أهل خرنبا وفيها يزيد بن الحرث مع بني كنانة ومن معه، فقاتلهم فقاتلوه وقتلوه. فبعث محم إليهم أيضاً ابن مضاهم الكلبي فقتلوه.
وقد قيل: إنه جرى بين محمد ومعاوية مكاتبات كرهت ذكرها فإنها مما لا يحتمل سماعها العامة.
وفيها قدم أبراز مرزبان مرو إلى علي بعد الجمل مقراً بالصلح، فكتب له كتاباً إلى دهاقين مرو والأساورة ومن بمرو، ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور، فبعث علي خليد بن قرة، وقيل: ابن طريف اليربوعي، إلى خراسان.
ذكر قدوم عمرو بن العاص على معاوية

ومتابعته له

قيل: كان عمرو بن العاص قد سار عن المدينة، قبل أن يقتل عثمان، نحو فلسطين.
وسبب ذلك أنه لما أحيط بعثمان قال: يا أهل المدينة لا يقيم أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله بذل، من لم يستطع نصره فليهرب. فسار، وقيل غير ذلك، وقد تقدم، وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، فسكن فلسطين، فمر به راكب من المدينة، فقال له عمرو: ما اسمك؟ قال: حصيرة. قال عمرو: حصر الرجل! فما الخبر؟ قال: تركت عثمان محصوراً. ثم مر به راكب آخر بعد أيام فقال له عمرو: ما اسمك؟ قال: قتال. قال: قتل الرجل! فما الخبر؟ قال: قتل عثمان، ولم يكن شيء إلى أن سرت. ثم مر به راكب من المدينة، فقال له عمرو: ما اسمك؟ قال: حرب. قال عمرو: يكون حرب، وقال له: ما الخبر؟ فقال: بايع الناس علياً. فقال سلم بن زنباع: يا معشر العرب كان بينكم وبين العرب باب فكسر فاتخذوا باباً غيره. فقال عمرو: ذلك الذي نريده. ثم ارتحل عمرو راجلاً معه ابناه يبكي كما تبكي المرأة وهو يقول: واعثماناه! أنعى الحياء والدين! حتى قدم دمشق، وكان قد علم الذي يكون فعمل عليه، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان قد بعثه إلى عمان، فسمع من حبر هناك شيئاً عرف مصداقه، فسأله عن وفاة النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن يكون بعده، فأخبره بأبي بكر وأن مدته قصيرة، ثم يلي بعده رجل من قومه مثله تطول مدته ويقتل غيلة ثم يلي بعده رجل من قومه تطول مدته ويقتل عن ملإٍ، قال: ذلك أشد، ثم يلي بعده رجل من قومه ينتشرالناس عليه ويكون على رأسه حرب شديدة، ثم يقتل قبل أن يجتمع الناس عليه، ثم يلي بعده أمير الأرض المقدسة فيطول ملكه وتجتمع عليه أهل تلك الفرقة ثم يموت.
وقيل: إن عمراً لما بلغه قتل عثمان قال: أنا أبو عبد الله أنا قتلته وأنا بوادي السباع، إن يل هذا الأمر طلحة فهو فتى العرب سيباً، وإن يله ابن أبي طالبٍ فهو أكره من يليه إلي. فبلغه بيعة علي فاشتد عليه وأقام ينتظر ما يصنع الناس، فأتاه مسير عائشة وطلحة والزبير، فأقام ينتظر ما يصنعون، فأتاه الخبر بوقعة الجمل فأرتج عليه أمره، فسمع أن معاوية بالشام لا يبايع علياً وأنه يعظم شأن عثمان، وكان معاوية أحب إليه من علي، فدعا ابنيه عبد الله ومحمداً فاستشارهما وقال: ما تريان؟ أما علي فلا خير عنده، وهو يدل بسابقته، وهو غير مشركي في شيء من أمره. فقال له ابنه عبد الله: توفي النبي، صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر وعمر وهم عنك راضون، فأرى أن تكف يدك وتجلس في بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه. وقال له ابنه محمد: أنت نابٌ من أنياب العرب ولا ارى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك فيه صوت. فقال عمرو: أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في آخرتي وأسلم لي في ديني، وأما أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي وشر لي في آخرتي. ثم خرج ومعه ابناه حتى قدم على معاوية، فوجد أهل الشام يحضون معاوية على الطلب بدم عثمان، وقال عمرو: أنتم على الحق، اطلبوا بدم الخليفة المظلوم، ومعاوية لا يلتفت إليه، فقال لعمرو وابناه: ألا ترى معاوية لا يلتفت إليك؟ فانصرف إلى غيره. فدخل عمرو على معاوية فقال له: والله لعجب لك! إني أرفدك بما أرفدك وأنت معرض عني، أما والله إن قاتلنا معك نطلب بدم الخليفة إن في النفس من ذلك ما فيها حيث تقاتل من تعلم سابقته وفضله وقرابته، ولكنا إنما أردنا هذه الدنيا. فصالحه معاوية وعطف عليه.
ذكر ابتداء وقعة صفينلما عاد علي من البصرة بعد فراغه من الجمل قصد الكوفة وأرسل إلى جرير ابن عبد الله البجلي، وكان عاملاً على همذان استعمله عثمان، وإلى الأشعث ابن قيس، وكان على أذربيجان استعمله عثمان أيضاً، يأمرهما بأخذ البيعة والحضور عنده، فلما حضرا عنده أراد علي أن يرسل رسولاً إلى معاوية، قال جرير: أرسلني إليه فإنه لي ود. فقال الأشتر: لا تفعل فإن هواه مع معاوية. فقال علي: دعه حتى ننظر ما الذي يرجع إلينا به. فبعثه وكتب معه كتاباً إلى معاوية يعلمه فيه باجتماع المهاجرين والأنصار على بيعته ونكث طلحة والزبير وحربه إياهما ويدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون والأنصار من طاعته.

فسار جرير إلى معاوية، فلما قدم عليه ماطله واستنظره واستشار عمراً، فاشار عليه أن يجمع أهل الشام ويلزم علياً دم عثمان ويقاتله بهم، ففعل معاوية ذلك، وكان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الذي قتل فيخ مخضوباً بالدم بأصابع زوجته نائلة إصبعان منها وشيء من الكف وإصبعان مقطوعتان من أصولهما ونصف الإبهام، وضع معاوية القميص على المنبر وجمع الأجناد إليه فبكوا على القميص مدة وهو على المنبر والأصابع معلقة فيه، واقسم رجال من أهل الشام أن لا يمسهم الماء إلا للغسل من الجنابة، وأن لا يناموا على الفرش حتى يقتلوا قتلة عثمان، ومن قام دونهم قتلوه. فلما عاد جرير إلى أمير المؤمنين علي وأخبره خبر معاوية واجتماع أهل الشام معه على قتاله وأنهم يبكون على عثمان ويقولون: إن علياً قتله وآوى قتلته وأنهم لا ينتهون عنه حتى يقتلهم أو يقتلوه، قال الأشتر لعلي: قد كنت نهيتك أن ترسل جريراً وأخبرتك بعداوته وغشه، ولو كنت أرسلتني لكان خيراً من هذا الذي أقام عنده حتى لم يدع باباً يرجو فتحه إلا فتحه، ولا باباً يخاف منه إلا أغلقه. فقال جرير: لو كنت ثم لقتلوك، لقد ذكروا أنك من قتلة عثمان. فقال الأشتر: والله لو أتيتهم لم يعيني جوابهم ولحملت معاوية على خطة أعجله فيها عن الفكر، ولو أطاعني فيك أمير المؤمنين لحبسك وأشباهك حتى يستقيم هذا الأمر. فخرج جرير إلى قرقيسيا وكتب إلى معاوية، فكتب إليه معاوية يأمره بالقدوم إليه.
وقيل: كان الذي حمل معاوية على رد جرير البجلي غير مقضي الحاجة شرحبيب بن السمط الكندي.
وكان سبب ذلك أن شرحبيلاً كان قد سيره عمر بن الخطاب إلى العراق إلى سعد بن أبي وقاص وكان معه، فقدمه سعد وقربه، فحسده الأشعث بن قيس الكندي لمنافسة بينهما، فوفد جرير البجلي على عمر، فقال له الأشعث: إن قدرت أن تنال من شرحبيل عند عمر فافعل. فلما قدم على عمر سأله عمر عن الناس، فأحسن الثناء على سعد، قال: وقد قال شعراً:
ألا ليتني والمرء سعد بن مالك ... وزبراً وابن السمط في لجة البحر
فيغرق أصحابي وأخرج سالماً ... على ظهر قرقورٍ أنادي أبا بكر
فكتب عمر إلى سعد يأمره بأن يرسل زبراً وشرحبيلاً إليه، فأرسلهما، فأمسك زبراً بالمدينة وسير شرحبيلاً إلى الشام، فشرف وتقدم، وكان أبوه السمط من غزة الشام. فلما قدم جرير بكتاب علي إلى معاوية في البيعة انتظر معاوية قدوم شرحبيل، فلما قدم عليه أخبره معاوية بما قدم فيه جرير، فقال: كان أمير المؤمنين عثمان خليفتنا، فإن قويت على الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا. فانصرف جرير، فقال النجاشي:
شرحبيل ما للدين فارقت أمرنا ... ولكن لبغض المالكي جرير
وقولك ما قد قلت عن أمر أشعثٍ ... فأصبحت كالحادي بغير بعير
جرير بن عبد الله بن جابر بن مالك، فنسب إلى جده مالك.
وخرج علي فعسكر بالنخيلة، وتخلف عنه نفر من أهل الكوفة، منهم: مرة الهمذاني ومسروق، أخذا أعطياتهما وقصدا قزوين، فأما مسروق فإنه كان يستغفر الله من تخلفه عن علي بصفين، وقدم عليه عبد الله بن عباس فيمن معه من أهل البصرة، وبلغ ذلك معاوية، فاستشار عمراً، فقال: أما إذا سار علي فسر إليه بنفسك ولا تغب عنه برأيك ومكيدتك. فتجهز معاوية وتجهز الناس وحضهم عمرو وضعف علياً وأصحابه وقال: إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم ووهنوا شوكتهم وفلوا حدهم، وأهل البصرة مخالفون لعلي بمن قتل منهم، وقد تفانت صناديدهم وصناديد أهل الكوفة يوم الجمل، وإنما سار علي في شرذمة قليلة وقد قتل خليفتكم، والله الله في حقكم أن تضيعوه وفي دمكم أن تطلوه! وكتب معاوية أهل الشام وعقد لواء لعمرو ولواء لابنيه عبد الله ومحمد ولواء لغلامه وردان، وعقد علي لواء لغلامه قنبر، فقال عمرو:
هل يغنين وردان عني قنبرا ... وتغني السكون عني حميرا
إذا الكماة لبسوا السنورا
فبلغ ذلك علياً فقال:
لأصبحن العاصي ابن العاصي ... سبعين ألفاً عاقدي النواصي
مجنبين الخيل بالقلاص ... مستحقبين حلق الدلاص
فلما سمع معاوية ذلك قال: ما أرى علياً إلا وقد وفى لك. وسار معاوية وتأنى في مسيره، فلما رأى ذلك الوليد بن عقبة بعث إليه يقول:

ألا ابلغ معاوية بن حربٍ ... فإنك من أخي ثقةٍ مليم
قطعت الدهر كالسدم المعنى ... تهدر في دمشق فما تريم
وإنك والكتاب إلى عليٍ ... كدابغةٍ وقد حلم الأديم
يمينك الإمارة كل ركبٍ ... لأنقاض العراق بها رسيم
وليس أخو التراث بمن توانى ... ولكن طالب الترة الغشوم
ولو كنت القتيل وكان حياً ... لجرد لا ألف ولا غشوم
ولا نكلٌ عن الأوتار حتى ... يبيء بها ولا برمٌ جثوم
وقومك بالمدينة قد أبيروا ... فهم صرعى كأنهم الهشيم
فكتب إليه معاوية:
ومستعجبٍ مما يرى من أناتنا ... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وبعث علي زياد بن النضر الحارثي طليعة في ثماني آلاف، وبعث مع شريح ابن هانىء أربعة آلاف، وسار علي من النخيلة وأخذ معه من بالمدائن من المقاتلة، وولى على المدائن سعد بن مسعود، عم المختار بن أبي عبيد الثقفي. ولما سار علي كان معه نابغة بني جعدة، فحدا به يوماً فقال:
قد علم المصران والعراق ... أن علياً فحلها العتاق
أبيض جحجاحٌ له رواق ... إن الأولى جاروك لا أفاقوا
لكم سباقٌ ولهم سباق ... قد علمت ذلكم الرفاق
ووجه عليٌّ من المدائن معقل بن قيس في ثلاثة آلاف، وأمره أن يأخذ على الموصل حتى يوافيه على الرقة، فلما وصل إلى الرقة قال لأهلها ليعملوا له جسراً يعبر عليه إلى الشام، فأبوا، وكانوا قد ضموا سفنهم إليهم، فنهض من عندهم ليعبر على جسر منبج وخلف عليهم الأشتر، فناداهم الأشتر وقال: أقسم بالله لئن لم تعملوا جسراً يعبر عليه أمير المؤمنين لأجردن فيكم السيف ولأقتلن الرجال ولآخذن الأموال! فلقي بعضهم بعضاً وقالوا: إنه الأشتر وإنه قمنٌ أن يفي لكم بما حلف عليه أو يأتي بأكثر منه. فنصبوا له جسراً وعبر عليه علي وأصحابه وازدحموا عليه، فسقطت قلنسوة عبد الله بن أبي الحصين الأزدي فنزل فأخذها ثم ركب، وسقطت قلنسوة عبد الله بن الحجاج الأزدي فنزل فأخذها، ثم قال لصاحبه:
فإن يك ظن الزاجري الطير صادقاً ... كما زعموا أقتل وشيكاً وتقتل
فقال ابن أبي الحصين: ما شيء أحب إلي مما ذكرت! فقتلا جميعاً بصفين.
ولما بلغ علي الفرات دعا زياد بن النضر الحارثي وشريح بن هانىء فسرحهما أمامه في اثني عشر ألفاً نحو معاوية على حالهما التي خرجا عليها من الكوفة. وكان سبب عودهما إليه أنهما حيث سيرهما علي من الكوفة أخذا على شاطىء الفرات مما يلي البر. فلما بلغا عانات بلغهما أن معاوية قد أقبل في جنود الشام، فقالا: لا والله ما هذا لنا برأي نسير وبيننا وبين المسلمين وأمير المؤمنين هذا البحر! وما لنا خير في أن نلقى جنود الشام بقلة من معنا. فذهبوا ليعبروا من عانات، فمنعهم أهلها. فرجعوا فعبروا من هيت، فلحقوا علياً دون قرقيسيا، فلما لحقوا علياً قال: مقدمتي تأتيني من ورائي. فأخبره شريح وزياد بما كان، فقال: سددتما. فلما عبر الفرات سيرهما أمامه، فلما انتهيا إلى سور الروم لقيهما أبو الأعور السلمي في جند من أهل الشام، فأرسلا إلى علي فأعلماه، فأرسل علي إلى الأشتر وأمره بالسرعة وقال له: إذا قدمت فأنت عليهم، وإياك أن تبدأ القوم بقتال إلا أن يبدأوك حتى تلقاهم فتدعوهم وتسمع منهم ولا يحملك بغضهم على قتالهم قبل دعائهم والإعذار إليهم مرة بعد مرة، واجعل على ميمنتك زياداً وعلى ميسرتك شريحاً، ولا تدن منهم دنو من يريد أن ينشب الحرب، ولا تباعد منهم تباعد من يهاب البأس حتى أقدم عليك، فإني حثيث المسير في إثرك إن شاء الله تعالى. وكتب علي إلى شريح وزياد بذلك وأمرهما بطاعة الأشتر.

فسار الأشتر حتى قدم عليهم واتبع ما أمره وكف عن القتال، ولم يزالوا متواقفين حتى إذا كان عند المساء حمل عليهم أبو الأعور السلمي، فثبتوا له واضطربوا ساعة، ثم انصرف أهل الشام وخرج إليهم من الغد هاشم بن عتبة المرقال، وخرج إليه أبو الأعور، فاقتتلوا يومهم وصبر بعضهم لبعض ثم انصرفوا، وحمل عليهم الأشتر وقال: أروني أبا الأعور؛ وتراجعوا، ووقف أبو الأعور وراء المكان الذي كان فيه أول مرة، وجاء الأشتر فصف أصحابه بمكان أبي الأعور بالأمس، فقال الأشتر لسنان بن مالك النخعي: انطلق إلى أبي الأعور فادعه إلى البراز. فقال: إلى مبارزتي أو مبارزتك. فقال الأشتر: لو أمرتك بمبارزته فعلت؟ قال: نعم، والله لو أمرتني أن أعترض صفهم بسيفي لفعلت! فدعا له وقال: إنما تدعوه لمبارزتي. فخرج إليهم فقال: آمنوني فإني رسول، فآمنوه، فانتهى إلى أبي الأعور وقال له: إن الأشتر يدعوك إلى أن تبارزه، فسكت طويلاً ثم قال: إن خفة الأشتر وسوء رأيه حملاه على إجلاء عمال عثمان عن العراق وتقبيح محاسنه وعلى أن سار إليه في داره حتى قتله فأصبح متبعاً بدمه لا حاجة لي في مبارزته. قال له الرسول: قد قلت فاسمع مني أجبك. قال: لا حاجة لي في جوابك، اذهب عني! فصاح به أصحابه، فانصرف عنه ورجع إلى الأشتر فأخبره، فقال: لنفسه نظر. فوقفوا حتى حجز الليل بينهم، وعاد الشاميون من الليل وأصبح عليٌّ غدوة عند الأشتر، وتقدم الأشتر ومن معه فانتهى إلى معاوية فواقفه ولحق بهم علي فتواقفوا طويلاً.
ثم إن علياً طلب لعسكره موضعاً ينزل فيه، وكان معاوية قد سبق فنزلا منزلاً اختاره بسيطاً واسعاً أفيح وأخذ شريعة الفرات، وليس في ذلك الصقع شريعة غيرها، وجعلها في حيزه، وبعث عليها أبا الأعور السلمي يحميها ويمنعها، فطلب أصحاب علي شريعة غيرها فلم يجدوا، فأتوا علياً فأخبروه بفعلهم وبعطش الناس، فدعا صعصعة بن صوحان فأرسله إلى معاوية يقول له: إنا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الإعذار إليكم، فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، ونحن من رأينا الكف حتى ندعوك ونحتج عليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء والناس غير منتهين، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينكم وفيما قدمنا له، فإن أردت أن نترك ما جئنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.
فقال معاوية لأصحابه: ما ترون؟ فقال الوليد بن عقبة وعبد الله بن سعد: امنعهم الماء كما منعوه ابن عفان، اقتلهم عطشاً قتلهم الله! فقال عمرو بن العاص: خل بين القوم وبين الماء وإنهم لن يعطشوا وأنت ريان ولكن بغير الماء، فانظر فيما بينك وبين الله. فأعاد الوليد وعبد الله بن سعد مقالتهما وقالا: امنعهم الماء إلى الليل، فإنهم إن لم يقدروا عليه رجعوا وكان رجوعهم هزيمة، امنعهم الماء منعهم الله إياه يوم القيامة! قال صعصعة: إنما يمنعه الله الفجرة وشربة الخمر، لعنك الله ولعن هذا الفاسق! يعني الوليد بن عقبة. فشتموه وتهددوه.
وقد قيل: إن الوليد وابن أبي سرح لم يشهدا صفين.
فرجع صعصعة فأخبره بما كان وأن معاوية قال: سيأتيكم رأيي، فسرب الخيل إلى أبي الأعور ليمنعهم الماء، فلما سمع علي ذلك قال: قاتلوهم على الماء. فقال الأشعث بن قيس الكندي: أنا أسير إليهم. فسار إليهم، فلما دنوا منهم ثاروا في وجوههم فرموهم بالنبل فتراموا ساعةً ثم تطاعنوا بالرماح ثم صاروا إلى السيوف فاقتتلوا ساعة، وأرسل معاوية يزيد بن أسد البجلي القسري، جد خالد بن عبد الله القسري، في الخيل إلى أبي الأعور، فأقبلوا، فأرسل علي شبث بن ربعي الرياحي، فازداد القتال، فأرسل معاوية عمرو بن العاص في جند كثير، فأخذ يمد أبا الأعور ويزيد بن أسد، وأرسل علي الأشتر في جمع عظيم وجعل يمد الأشعث وشبثاً، فاشتد القتال، فقال عبد الله بن عوف الأزدي الأحمري:
خلوا لنا ماء الفرات الجاري ... أو اثبتوا لجحفلٍ جرار
لكل قرمٍ مستميتٍ شاري ... مطاعن برمحه كرار
ضراب هامات العدى مغوار ... لم يخش غير الواحد القهار

وقاتلوهم حتى خلوا بينهم وبين الماء وصار في أيدي أصحاب علي، فقالوا: والله لا نسقيه أهل الشام! فأرسل علي إلى أصحابه: أن خذوا من الماء حاجتكم وخلوا عنهم، فإن الله نصركم ببغيهم وظلمهم. ومكث علي يومين لا يرسل إليهم أحداً ولا يأتيه أحد، ثم إن علياً دعا أبا عمرو بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن ربعي التميمي، فقال لهم: ائتوا هذا الرجل وادعوه إلى الله وإلى الطاعة والجماعة. فقال له شبث: يا أمير المؤمنين ألا تطمعه في سلطان توليه إياه أو منزلة تكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ قال: انطلقوا إليه واحتجوا عليه وانظروا ما رأيه. وهذا في أول ذي الحجة. فأتوه فدخلوا عليه، فابتدأ بشير بن عمرو الأنصاري فحمد الله وأثنى عليه وقال: يا معاوية إن الدنيا عنك زائلةٌ، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله محاسبك بعملك ومجازيك عليه، وإني أنشدك الله أن لا تفرق جماعة هذه الأمة وأن لا تسفك دماءها بينها.
فقطع عليه معاوية الكلام وقال: هلا أوصيت بذلك صاحبك؟ فقال أبو عمرو: إن صاحبي ليس مثلك، إن صاحبي أحق البرية كلها بهذا الأمر في الفضل والدين والسابقة في الإسلام والقرابة بالرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: فماذا يقول؟ قال: يأمرك بتقوى الله وأن تجيب انب عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق فإنه أسلم لك في دنياك وخير لك في عاقبة أمرك! قال معاوية: ونترك دم ابن عفان؟ لا والله لا أفعل ذلك أبداً.
قال: فذهب سعيد بن قيس يتكلم، فبادره شبث بن ربعي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معاوية قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه والله لا يخفى علينا ما تطلب، إنك لم تجد شيئاً تستغوي به الناس وتستميل به أهواءهم وتستخلص به طاعتهم إلا قولك: قتل إمامكم مظلوماً فنحن نطلب دمه، فاستجاب لك سفهاء طغام، وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر وأحببت له القتل لهذه المنزلة التي أصبحت تطلب، ورب متمني أمر وطالبه يحول الله دونه، وربما أوتي المتمني أمنيته وفوق أمنيته، ووالله ما لك في واحدة منهما خير! والله إن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالاً! ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق من ربك صلي النار! فاتق الله يا معاوية ودع ما أنت عليه ولا تنازع الأمر أهله.
قال: فحمد معاوية الله ثم قال: أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفة حلمك أن قطعت على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه ثم اعترضت بعد فيما لا علم لك به، فقد كذبت ولؤمت أيها الأعرابي الجلف الجافي في كل ما ذكرت ووصفت! انصرفوا من عندي فليس بيني وبينكم إلا السيف. وغضب، وخرج القوم. فقال له شبث بن ربعي: أتهول بالسيف؟ أقسم بالله لنعجلنها إليك.
فأتوا علياً فأخبروه بذلك، فأخذ علي يأمر الرجل ذا الشرف فيخرج ومعه جماعة من أصحابه ويخرج إليه آخر من أصحاب معاوية ومعه جماعة، فيقتتلان في خيلهما ثم ينصرفان، وكرهوا أن يلقوا جمع أهل العراق بجمع أهل الشام لما خافوا أن يكون فيه من الاستئصال والهلاك، فكان علي يخرج مرة الأشتر ومرةً حجر بن عدي الكندي ومرةً شبث بن ربعي ومرةً خالد بن المعمر ومرةً زياد بن النضر الحارثي ومرةً زياد بن خصفة التيمي ومرة سعيد بن قيس الهمداني ومرةً معقل بن قيس الرياحي ومرةً قيس بن سعد الأنصاري، وكان الأشتر أكثرهم خروجاً. وكان معاوية يخرج إليهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأبا الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة الفهري وابن ذي الكلاع الحميري وعبيد الله ابن عمر بن الخطاب وشرحبيب بن السمط الكندي وحمرة بن مالك الهمداني، فاقتتلوا أيام ذي الحجة كلها، وربما اقتتلوا في اليوم الواحد مرتين.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة مات حذيفة بن اليمان بعد قتل عثمان بيسير ولم يدرك الجمل، وقتل ابناه صفوان وسعيد مع علي بصفين بوصية أبيهما، وقيل: مات سنة خمس وثلاثين، والأول أصح. وفيها مات سلمان الفارسي في قول بعضهم، وكان عمره مائتين وخمسين سنة، هذا أقل ما قيل فيه، وقيل: ثلثمائة وخمسون سنة، وكان قد أدرك بعض أصحاب المسيح، عليه السلام. وعبد الله ابن سعد بن أبي سرح مات بعسقلان حيث خرج معاوية إلى صفين وكره الخروج معه. ومات فيها عبد الرحمن بن عديس البلوي أمير القادمين من مصر لقتل عثمان، وكان ممن بايع النبي، صلى الله عليه وسلم، تحت الشجرة، وقيل: بل قتل بالشام. وفيها مات قدامة بن مظعون الجمحي، وهو من مهاجرة الحبشة، وشهد بدراً. وفيها توفي عمرو بن أبي عمرو بن ضبة الفهري أبو شداد، شهد بدراً. وفيها استعمل علي على الري يزيد بن حجية التيمي تيم اللات، فكسر من خراجها ثلاثين ألفاً، فكتب إليه يستدعيه، فحضر، فسأله عن المال قال: أين ما غللته من المال؟ قال: ما أخذت شيئاً! فخفقه بالدرة خفقات وحبسه ووكل به سعداً مولاه، فهرب منه يزيد إلى الشام، فسوغه معاوية المال، فكان ينال من علي، وبقي بالشام إلى أن اجتمع الأمر لمعاوية فسار معه إلى العراق فولاه الري، فقيل: إنه شهد مع علي الجمل وصفين والنهروان، ثم ولاه الري، وهو الصحيح، فكان ما تقدم ذكره.
ثم دخلت سنة سبع وثلاثين

ذكر تتمة أمر صفين
في هذه السنة في المحرم منها جرت موادعةٌ بين علي ومعاوية، توادعا على ترك الحرب بينهما حتى ينقضي المحرم طمعاً في الصلح، واختلفت بينهما الرسل، فبعث علي عدي بن حاتم ويزيد بن قيس الأرحبي وشبث بن ربعي وزياد ابن خصفة.
فتكلم عدي بن حاتم فحمد الله وقال: أما بعد فإنا أتيناك ندعوك إلى أمر يجمع الله به كلمتنا وأمتنا ونحقن به الدماء ونصلح ذات البين، إن ابن عمك سيد المسلمين أفضلها سابقةً وأحسنها في الإسلام أثراً، وقد استجمع له الناس ولم يبق أحد غيرك وغير من معك، فاحذر يا معاوية لا يصبك وأصحابك مثل يوم الجمل! فقال له معاوية: كأنك إنما جئت متهدداً لم تأت مصلحاً! هيهات يا عدي! كلا والله إني لابن حرب لا يقعقع له بالشنان، وإنك والله من المجلبين على عثمان، وإنك من قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله به! فقال له شبث وزياد بن خصفة جواباً واحداً: أتيناك فيما يصلحنا وإياك فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينفع من القول والفعل وأجبنا فيما يعم نفعه. وقال يزيد ابن قيس: إنا لم نأت إلا لنبلغك ما أرسلنا به إليك ونؤدي عنك ما سمعنا منك، ولن ندع أن نصح لك وأن نذكر ما يكون به الحجة عليك ويرجع إلى الألفة والجماعة، إن صاحبنا من قد عرف المسلمون فضله ولا يخفى عليك، فاتق الله يا معاوية ولا تخالفه، فإنا والله ما رأينا في الناس رجلاً قط أعمل بالتقوى ولا أزهد في الدنيا ولا أجمع لخصال الخير كلها معه.
فحمد الله معاوية ثم قال: أما بعد فإنكم دعوتم إلى الطاعة والجماعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فمعنا هي، وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها لأن صاحبكم قتل خليفتنا وفرق جماعتنا وآوى ثأرنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله فنحن لا نرد عليه ذلك فليدفع إلينا قتلة عثمان لنقتلهم ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال شبث بن ربعي: أيسرك يا معاوية أن تقتل عماراً؟ فقال: وما يمنعني من ذلك؟ لو تمكنت من ابن سمية لقتلته بمولى عثمان. فقال شبث: والذي لا إله غيره لا تصل إلى ذلك حتى تندر الهام عن الكواهل وتضيق الأرض الفضاء عليك! فقال معاوية: لو كان ذلك لكانت عليك أضيق! وتفرق القوم عن معاوية، وبعث معاوية إلى زياد بن خصفة فخلا به وقال له: يا أخا ربيعة، إن علياً قطع أرحامنا وقتل إمامنا وآوى قتلة صاحبنا، وإني أسألك النصر عليه بعشيرتك ثم لك عهد الله وميثاقه أني أوليك إذا ظهرت أي المصرين أحببت. فقال زياد: أما بعد فإني على بينة من ربي وما أنعم الله علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين! وقام. فقال معاوية لعمرو بن العاص: ليس نكلم رجلاً منهم فيجيب إلى خير، ما قلوبهم إلا كقلب واحد.

وبعث معاوية إلى علي حبيب بن مسلمة الفهري وشرحبيل بن السمط ومعن ابن يزيد بن الأخنس، فدخلوا عليه، فحمد الله حبيبٌ وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن عثمان كان خليفة مهدياً يعمل بكتاب الله وينيب إلى أمره، فاستثقلتم حياته واستبطأتم وفاته فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان إن زعمت أنك لم تقتله نقتلهم به، ثم اعتزل أمر الناس فيكون أمرهم شورى بينهم، يولونه من أجمعوا عليه. فقال له علي: ما أنت لا أم لك والعزل وهذا الأمر؟ اسكت فإنك لست هناك ولا بأهل له. فقال: والله لتريني بحيث ! فقال له علي: وما أنت؟ لا أبقى الله عليك إن أبقيت علينا، اذهب فصوب وصعد ما بدا لك! وقال شرحبيل: ما كلامي إلا مثل كلام صاحبي، فهل عندك جواب غير هذا؟ فقال علي: ليس عندي جواب غيره.
ثم حمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد فإن الله تعالى بعث محمداً، صلى الله عليه وسلم، بالحق فأنقذ به من الضلالة والهلكة وجمع به من الفرقة ثم قبضه الله إليه فاستخلف الناس أبا بكر، واستخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة وعدلا، وقد وجدنا عليهما أن توليا الأمور ونحن آل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فغفرنا ذلك لهما، وولى الناس عثمان فعمل بأشياء عابها الناس فساروا إليه فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمورهم فقالوا لي: بايع، فأبيت، فقالوا: بايع فإن الأمة لا ترضى إلا بك وإنا نخاف إن لم تفعل أن يتفرق الناس، فبايعتهم، فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعاني وخلاف معاوية الذي لم يجعل له سابقة في الدين ولا سلف صدق في الإسلام، طليق ابن طليق، حزب من الأحزاب، لم يزل حرباً لله ورسوله هو وأبوه حتى دخلا في الإسلام كارهين، ولا عجب إلا من اختلافكم معه وانقيادكم له وتتركون آل بيت نبيكم الذي لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم! ألا إني أدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإماتة الباطل وإحياء الحق ومعالم الدين! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين. فقالا: تشهد أن عثمان قتل مظلوماً؟ فقال لهما: لا أقول إنه قتل مظلوماً ولا ظالماً. قالا: فمن لم يزعم أنه قتل مظلوماً فنحن منه برآء. وانصرفا، فقال علي، كرم الله وجهه: (إنك لا تسمع الموتى) إلى قوله: (فهم مسلمون) النمل: 80 - 81، ثم قال لأصحابه: لا يكن هؤلاء في الجد في ضلالهم أجد منكم في الجد في حقكم وطاعة ربكم.
فتنازع عامر بن قيس الحذمري ثم الطائي وعدي بن حاتم الطائي في الراية بصفين، وكانت حذمر أكثر من بني عدي رهط حاتم، فقال عبد الله بن خليفة البولاني عند علي: يا بني حذمر أعلى عدي تتوثبون وهل فيكم وفي آبائكم مثل عدي وأبيه؟ أليس بحامي القرية ومانع الماء يوم روية؟ أليس ابن ذي المرباع، وابن جواد العرب، وابن المنهب ماله ومانع جاره، ومن لم يغدر ولم يفجر ولم يبخل ولم يمنن ولم يجبن؟ هاتوا في آبائكم مثل أبيه، أوفيكم مثله، أليس أفضلكم في الإسلام ووافدكم إلى النبي، صلى الله عليه وسلم؟ أليس برأسكم يوم النخيلة ويوم القادسية ويوم المدائن ويوم جلولاء ويوم نهاوند ويوم تستر؟ فقال علي: حسبك يا ابن خليفة. وقال علي: لتحضر جماعة طيء. فأتوه، فقال: من كان رأسكم في هذه المواطن؟ قالوا: عدي. فقال ابن خليفة: سلهم يا أمير المؤمنين أليسوا راضين برياسة عدي؟ ففعل، فقالوا: بلى. فقال علي: فعدي أحقكم بالراية، وأخذها. فلما كان ايام حجر بن عدي طلب زيادٌ عبد الله بن خليفة ليبعثه مع حجر، فسار إلى الجبلين ووعده عدي أن يرده وأن يسأل فيه، فطال عليه ذلك، فقال شعراً، منه:
أتنسى بلائي سادراً يا ابن حاتمٍ ... عشية ما أغنت عديك حذمرا
فدافعت عنك القوم حتى تخاذلوا ... وكنت أنا الخصم اللد العذورا
فولوا وما قاموا مقامي كأنما ... رأوني ليثاً بالأباءة مخدرا
نصرتك إذ خام القريب وأبعد ال ... بعيد وقد أفردت نصراً مؤزرا
فكان جزائي أن أجرر بينكم ... سحيباً وأن أولى الهوان وأوسرا
وكم عدةٍ لي منك أنك راجعي ... فلم تغن بالميعاد عني حبترا
وسترد قصته بتمامها، إن شاء الله تعالى.

فلما انسلخ المحرم أمر علي منادياً تعبئة الناس للقتال فنادى: يا أهل الشام! يقول لكم أمير المؤمنين: قد استدمتكم لتراجعوا الحق وتنيبوا إليه، فلم تنتهوا عن طغيانكم ولم تجيبوا إلى الحق، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين! فاجتمع أهل الشام إلى أمرائهم ورؤسائهم، خرج معاوية وعمرو يكتبان الكتائب ويعبيان الناس، وكذلك فعل أمير المؤمنين، وقال للناس: لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم، فأنتم بحمد الله على حجة، وترككم قتالهم حجة أخرى، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريحٍ ولا تكشفوا عورةً ولا تمثلوا بقتيل، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم، ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس. وكان يقول بهذا المعنى لأصحابه في كل موطن، وحرض أصحابه فقال: عباد الله اتقوا الله وغضوا الأبصار واخفضوا الأصوات وأقلوا الكلام ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمزاولة والمناضلة والمعانقة والمكادمة والملازمة، (فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون) الأنفال: 45، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين) الأنفال: 46، اللهم ألهمهم الصبر وأنزل عليهم النصر وأعظم لهم الأجر! وأصبح علي فجعل على خيل الكوفة الأشتر، وعلى جند البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر، وعل رجالة البصرة قيس بن سعد، وهاشم بن عتبة المرقال معه الراية، وجعل مسعر بن فدكي على قراء الكوفة وأهل البصرة. وبعث معاوية على ميمنته ابن ذي الكلاع الحميري، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته أبا الأعور السلمي، وعلى خيل دمشق عمرو بن العاص، وعلى رجالة دمشق مسلم بن عقبة المري، وعلى الناس كلهم الضحاك بن قيس، وبايع رجالٌ من أهل الشام على الموت، فعقلوا أنفسهم بالعمائم، وكانوا خمسة صفوف، وخرجوا أول يوم من صفر فاقتتلوا، وكان على الذين خرجوا من أهل الكوفة الأشتر، وعلى من خرج من أهل الشام حبيب بن مسلمة، فاقتتلوا يومهم قتالاً شديداً معظم النهار ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم مع بعض. ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال، وخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي، فاقتتلوا يومهم ذلك ثم انصرفوا، وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتلوا أشد قتال، وقال عمار: يا أهل العراق أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما وبغى على المسلمين وظاهر المشركين؟ فلما رأى الله يعز دينه ويظهر رسوله أتى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو فيما نرى راهب غير راغب! ثم قبض النبي، صلى الله عليه وسلم، فوالله إن زال بعده معروفاً بعداوة المسلم واتباع المجرم، فاثبتوا له وقاتلوه.
وقال عمار لزياد بن النضر وهو على الخيل: احمل على أهل الشام. فحمل وقاتله الناس وصبروا له، وحمل عمار فأزال عمرو بن العاص عن موضعه، وبارز يومئذ زياد بن النضر أخاه لأمه، واسمه عمرو بن معاوية من بني المنتفق، فلما التقيا تعارفا فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه وتراجع الناس. وخرج من الغد محمد بن علي، وهو ابن الحنفية، وخرج إليه عبيد الله بن عمر بن الخطاب في جمعين عظيمين فاقتتلوا أشد القتال، وأرسل عبيد الله إلى ابن الحنفية يدعوه إلى المبارزة، فخرج إليه، فحرك علي دابته ورد ابنه وبرز علي إلى عبيد الله، فرجع عبيد الله، وقال محمد لأبيه: لو تركتني لرجوت قتله. وقال: يا أمير المؤمنين وكيف تبرز إلى هذا الفاسق؟ والله إني لأرغب بك عن أبيه! فقال علي: يا بني لا تقل في أبيه إلا خيراً. وتراجع الناس. وخرج عبد الله بن عباس في اليوم الخامس، وخرج إليه الوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فسب الوليد بني عبد المطلب، فطلبه ابن عباس ليبارزه فأبى، وقاتل ابن عباس قتالاً شديداً. وخرج في اليوم السادس قيس بن سعد الأنصاري، وخرج إليه ابن ذي الكلاع الحميري، فاقتتلوا قتالاً شديداً ثم انصرفوا. ثم عاد يوم الثلاثاء وخرج الأشتر، وخرج إليه حبيب، فاقتتلوا قتالاً شديداً وانصرفوا عند الظهر.

ثم إن علياً قال: حتى متى لا نناهض هؤلاء القوم بأجمعنا؟ فقام في الناس عشية الثلاثاء ليلة الأربعاء خطيباً فحمد الله وأثنى عليه فقال: الحمد لله الذي لا يبرم ما نقض وما أبرم لم ينقضه الناقضون، ولو شاء الله ما اختلف اثنان من خلقه ولا اختلفت الأمة في شيء ولا جحد المفضول ذا الفضل فضله وقد ساقتنا وهؤلاء القوم الأقدار فنحن بمرأى من ربنا ومسمع فلو شاء عجل النقمة وجعل الآخرة دار القرار (ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) النجم: 31، ألا وإنكم لاقو القوم غداً فأطيلوا الليلة القيام وأكثروا تلاوة القرآن واسألوا الله النصر والصبر والقوهم بالجد والحزم، وكونوا صادقين. فقام القوم يصلحون سلاحهم، فمر بهم كبع بن جعيل فقال:
أصبحت الأمة في أمرٍ عجب ... والملك مجموعٌ غداً لمن غلب
فقلت قولاً صادقاً غير كذب ... إن غداً تهلك أعلام العرب
وعبى عليٌّ الناس ليلته حتى الصباح وزحف بالناس، وخرج إليه معاوية في أهل الشام، فسأل علي عن القبائل من أهل الشام فعرف مواقفهم، فقال للأزد: اكفونا الأزد، وقال لخثعم: اكفونا خثعم، وأمر كل قبيلة أن تكفيه أختها من الشام إلا أن تكون قبيلة ليس منها بالشام أحد فيصرفها إلى قبيلة أخرى من الشام ليس بالعراق منهم أحد، مثل بجيلة لم يكن بالشام منها إلا القليل صرفهم إلى لخم.
فتناهض الناس يوم الأربعاء فاقتتلوا قتالاً شديداً نهارهم كله، ثم انصرفوا عند المساء وكلٌّ غير غالب، فلما كان يوم الخميس صلى علي بغلس وخرج بالناس إلى أهل الشام فزحف إليهم وزحفوا معه، وكان على ميمنة علي عبد الله ابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعلى ميسرته عبد الله بن عباس، والقراء مع ثلاثة نفر: عمار، وقيس بن سعد، وعبد الله بن بديل، والناس على راياتهم ومراكزهم، وعلي في القلب في أهل المدينة بين أهل الكوفة وأهل البصرة، وأكثر من معه من أهل المدينة الأنصار ومعه عدد من خزاعة وكنانة وغيرهم من أهل المدينة، وزحف إليهم. ورفع معاوية قبة عظيمة فألقى عليها الثياب وبايعه أكثر أهل الشام على الموت، وأحاط بقبته خيل دمشق. وزحف عبد الله بن بديل في الميمنة نحو حبيب بن مسلمة وهو في ميسرة معاوية، فلم يزل يحوزه ويكشف خيله حتى اضطرهم إلى قبة معاوية عند الظهر، وحرض عبد الله بن بديل أصحابه فقال: ألا إن معاوية ادعى ما ليس له، ونازع الحق أهله، وعاند من ليس مثله، وجادل بالباطل ليدحض به الحق، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب الذين قد زين لهم الضلالة، وزرع في قلوبهم حب الفتنة، ولبس عليهم الأمر، وزادهم رجساً إلى رجسهم، فقاتلوا الطغام الجفاة ولا تخشوهم، (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين) التوبة: 13 - 14.
وحرض علي أصحابه فقال في كلام له: فسووا صفوفكم كالبينان المرصوص، وقدموا الدارع، وأخروا الحاسر، وعضوا على الأضراس، فإنه أنبى للسيوف عن الهام، والتووا في الأطراف فإنه أصون للأسنة، وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش، وأسكن للقلب، وأميتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار، راياتكم فلا تميلوها ولا تزيلوها، ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم، واستعينوا بالصدق والصبر، فإن بعد الصبر ينزل عليكم النصر.
وقام يزيد بن قيس الأرحبي يحرض الناس فقال: إن المسلم من سلم في دينه ورأيه؛ وإن هؤلاء القوم والله لا يقاتلونا على إقامة دين ضيعناه وإحياء حق أمتناه، إن يقاتلوننا إلا على هذه الدنيا ليكونوا جبارين فيها ملوكاً، فلو ظهروا عليكم، لا أراهم الله ظهوراً ولا سروراً، ألزموكم بمثل سعيد والوليد وابن عامر السفيه الضال، يجيز أحدهم بمثل ديته ودية أبيه وجده في جلسه ثم يقول: هذا لي ولا إثم علي، كأنما أعطى تراثه على أبيه وأمه، وإنما هو مال الله أفاءه علينا بأرماحنا وسيوفنا، فقاتلوا عباد الله القوم الظالمين، فإنهم إن يظهروا عليكم يفسدوا عليكم دينكم ودنياكم وهم من قد عرفتم وخبرتم! والله ما ازدادوا إلى يومهم إلا شراً!

وقاتلهم عبد الله بن بديل في الميمنة قتالاً شديداً حتى انتهى إلى قبة معاوية وأقبل الذين تبايعوا على الموت إلى معاوية، فأمرهم أن يصمدوا لابن بديل في الميمنة، وبعث إلى حبيب بن مسلمة في الميسرة فحمل بهم وبمن كان معه على ميمنة الناس فهزمهم، وانكشف أهل العراق من قبل الميمنة حتى لم يبق منهم إلا ابن بديل في مائتين أو ثلثمائة من القراء قد أسند بعضهم إلى بعض وانجفل الناس، وأمر علي سهل بن حنيف فاستقدم فيمن كان معه من أهل المدينة، فاستقبلتهم جموع لأهل الشام عظيمة فاحتملتهم حتى أوقفتهم في الميمنة، وكان فيما بين الميمنة إلى موقف علي في القلب أهل اليمن. فلما انكشفوا انتهت الهزيمة إلى علي، فانصرف علي يمشي نحو الميسرة، فانكشفت عنه مضر من الميسرة وثبتت ربيعة، وكان الحسن والحسين ومحمد بنو علي معه حين قصد الميسرة والنبل يمر بين عاتقه ومنكبيه، وما من بنيه أحد إلا يقيه بنفسه فيرده، فبصر به أحمر مولى أبي سفيان أو عثمان فأقبل نحوه، فخرج إليه كيسان مولى علي فاختلفا بينهما ضربتان فقتله أحمر، فأخذ علي بجيب درع أحمر فجذبه وحمله على عاتقه ثم ضرب به الأرض فكسر منكبيه وعضديه، ودنا منه أهل الشام، فما زاده قربهم إلا إسراعاً، فقال له ابنه الحسن: ما ضرك لو سعيت حتى تنتهي إلى هؤلاء القوم الذين قد صبروا لعدوك من أصحابك؟ فقال: يا بني إن لأبيك يوماً لا يعدوه ولا يبطىء به عنه السعي ولا يعجل به إليه المشي، إن أباك والله لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه. فلما وصل إلى ربيعة نادى بصوت عال كغير المكترث لما فيه الناس: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات ربيعة. قال: بل رايات عصم الله أهلها فصبرهم وثبت أقدامهم. وقال للحضين بن المنذر: يا فتى ألا تدني رايتك هذه ذراعاً؟ قال: بلى والله وعشرة أذرع، فأدناها حتى قال: حسبك مكانك. ولما انتهى علي إلى ربيعة تنادوا بينهم: يا ربيعة إن أصيب فيكم أمير المؤمنين وفيكم رجل حي افتضحتم في العرب! فقاتلوا قتالاً شديداً ما قاتلوا مثله، فلذلك قال علي:
لمن رايةٌ سوداء يخفق ظلها ... إذا قيل قدمها حضين تقدما
ويقدمها في الموت حتى يزيرها ... حياض المنايا تقطر الموت والدما
أذقنا ابن حربٍ طعننا وضرابنا ... بأسيافنا حتى تولى وأحجما
جزى الله قوماً صابروا في لقائهم ... لدى الموت قوماً ما أعف وأكرما
وأطيب أخباراً وأكرم شيمةً ... إذا كان أصوات الرجال تغمغما
ربيعة أعني، إنهم أهل نجدةٍ ... وبأسٍ إذا لاقوا خميساً عرمرما

ومر به الأشتر وهو يقصد الميسرة، والأشتر يركض نحو الفزع قبل الميمنة، فقال له علي: يا مالك! قال: لبيك يا أمير المؤمنين! قال: ائت هؤلاء القوم فقل لهم: أين فراركم من الموت الذي لن تعجزوه إلى الحياة التي لا تبقى لكم؟ فمضى الأشتر فاستقبلا الناس منهزمين فقال لهم ما قال علي، ثم قال: أيها الناس أنا الأشتر، إلي! فأقبل إليه بعضهم وذهب البعض، فنادى: أيها الناس ما أقبح ما قاتلتم مذ اليوم! أخلصوا لي مذحجاً، فأقبلت مذحج إليه، فقال لهم: ما أرضيتم ربكم ولا نصحتم له في عدوكم، وكيف ذلك وأنتم أبناء الحرب، وأصحاب الغارات، وفتيان الصباح، وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، ومذحج الطعان الذي لم يكونوا يسبقون بثأرهم ولا تطل دماؤهم، وما تفعلون هذا اليوم، فإنه مأثور بعده، فانصحوا واصدقوا عدوكم اللقاء فإن الله مع الصادقين. والذي نفسي بيده ما من هؤلاء - وأشار إلى أهل الشام - رجل على مثل جناح بعوضة من دين، اجلوا سواد وجهي يرجع فيه دمه، عليكم بهذا السواد الأعظم، فإن الله لو قد فضه تبعه من بجانبيه. قالوا: تجدنا حيث أحببت. فقصد نحو عظمهم مما يلي الميمنة يزحف إليهم ويردهم، واستقبله شباب من همدان، وكانوا ثمانمائة مقاتل يومئذ، وكانوا صبروا في الميمنة حتى أصيب منهم ثمانون ومائة رجل وقتل منهم أحد عشر رئيساً، كان أولهم ذؤيب بن شريح، ثم شرحبيل ثم مرثد ثم هبيرة ثم يريم ثم سمير أولاد شريح فقتلوا، ثم أخذ الراية عميرة ثم الحرث ابنا بشير فقتلا جميعاً، ثم أخذ الراية سفيان وعبد الله وبكر بنو زيد فقتلوا جميعاً، ثم أخذ الراية وهب بن كريب، فانصرف هو وقومه وهم يقولون: ليت لنا عدتنا من العرب يحالفوننا على الموت ثم نرجع فلا ننصرف أو نقتل أو نظفر! فسمعهم الأشتر يقولون هذا فقال لهم: أنا أحالفكم على أن لا نرجع أبداً حتى نظفر أو نهلك. فوقفوا معه، وفي هذا قال كعب بن جعيل:
وهمدان زرق تبتغي من تحالف
وزحف الأشتر نحو الميمنة وثاب إليه الناس وتراجعوا من أهل البصرة وغيرهم، فلم يقصد كتيبة إلا كشفها ولا جمعاً إلا حازه ورده، فإنه كذلك إذ مر به زياد بن النضر الحارثي يحمل إلى العسكر وقد صرع، وسببه أنه قد كان استلحم عبد الله بن بديل وأصحابه في الميمنة، فتقدم زياد إليهم ورفع رايته لأهل الميمنة، فصبروا وقاتل حتى صرع. ثم مروا بيزيد بن قيس الأرحبي محمولاً نحو العسكر، وكان قد رفع رايته لأهل الميمنة لما صرع زياد وقاتل حتى صرع، فقال الأشتر حين رآه: هذا والله الصبر الجميل والفعل الكريم، ألا يستحي الرجل أن ينصرف ولا يقتل أو يشفى به على القتل؟ وقاتلهم الأشتر قتالاً شديداً، ولزمه الحرث بن جمهان الجعفي يقاتل معه، فما زال هو ومن رجع إليه يقاتلون حتى كشف أهل الشام وألحقهم بمعاوية والصف الذي معه بين صلاة العصر والمغرب، وانتهى إلى عبد الله بن بديل وهو في عصابة من القراء نحو المائتين أو الثلثمائة قد لصقوا بالأرض كأنهم جثاً، فكشف عنهم أهل الشام فأبصروا إخوانهم فقالوا: ما فعل أمير المؤمنين؟ قالوا: حيٌّ صالح في الميسرة يقاتل الناس أمامه. فقالوا: الحمد لله! قد كنا ظننا أنه قد هلك وهلكتم. وقال عبد الله بن بديل لأصحابه: استقدموا بنا. فقال الأشتر: لاتفعل واثبت مع الناس فإنه خير لهم وأبقى لك ولأصحابك. فأبى ومضى كما هو نحو معاوية وحوله كأمثال الجبال وبيده سيفان، وخرج عبد الله أمام أصحابه يقتل كل من دنا منه حتى قتل جماعة، ودنا من معاوية، فنهض إليه الناس من كل جانب وأحيط به وبطائفة من أصحابه فقاتل حتى قتل وقتل ناس من أصحابه، ورجعت طائفة منهم مجرحين. فبعث الأشتر الحرث بن جمهان الجعفي، فحمل على أهل الشام الذين يتبعون من انهزم من أصحاب عبد الله حتى نفسوا عنهم وانتهوا إلى الأشتر، وكان معاوية قد رأى ابن بديل وهو يضرب قدماً، فقال: أترونه كبش القوم؟ فلما قتل أرسل إليه لينظروا من هو، فلم يعرفه أهل الشام، فجاء إليه، فلما رآه عرفه فقال: هذا عبد الله بن بديل، والله لو استطاعت نساء خزاعة لقاتلتنا فضلاً عن رجالها! وتمثل بقول حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت يوماً به الحرب شمرا

وزحف الأشتر بعك والأشعرين وقال لمذحج: اكفونا عكاًن ووقف في همدان وقال لكندة: اكفونا الأشعرين، فاقتتلوا قتالاً شديداً إلى المساء، وقاتلهم الأشتر في همدان وطوائف من الناس، فأزال أهل الشام عن مواضعهم حتى ألحقهم بالصفوف الخمسة المعقلة بالعمائم حول معاوية، ثم حمل عليهم حملة أخرى فصرع أربعة صفوف من المعقلين بالعمائم حتى انتهوا إلى الخامس الذي حول معاوية، ودعا معاوية بفرسه فركب وكان يقول: أردت أن أنهزم فذكرت قول ابن الإطنابة الأنصاري، وكان جاهلياً:
ابت لي عفتي وأبى بلائي ... وإقدامي على البطل المشيح
وإعطائي على المكروه مالي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وقولي كلما جشأت وجاشت: ... مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فمنعني هذا القول من الفرار، ونظر إلي عمرو وقال: اليوم صبر وغداً فخر. فقلت: صدقت. وتقدم جندب بن زهير فبارز رأس أزد الشام، فقتله الشامي وقتل من رهطه عجل وسعد ابنا عبد الله من بني ثعلبة، وقتل أبو زينب بن عوف. وخرج عبد الله بن أبي الحصين الأزدي في القراء الذين مع عمار بن ياسر فأصيب معه، وتقدم عقبة بن حديد النميري وهو يقول: ألا إن مرعى الدنيا أصبح هشيماً، وشجرها خضيداً، وجديدها سملاً، وحلوها مر المذاق، إني قد سئمت الدنيا وعزفت نفسي عنها، وإني أتمنى الشهادة وأتعرض لها في كل جيش وغارة فأبى الله إلا أن يبلغني هذا اليوم، وإني متعرض لها من ساعتي هذه وقد طمعت أن لا أحرمها فما تنتظرون عباد الله بجهاد من عادى الله؟ - في كلام طويل - وقال: يا إخوتي قد بعت هذه الدار بالتي أمامها، وهذا وجهي إليها. فتبعه إخوته عبيد الله وعوف ومالك وقالوا: لا نطلب رزق الدنيا بعدك، فقاتلوا حتى قتلوا. وتقدم شمر بن ذي الجوشن فبارز، فضرب أدهم بن محرز الباهلي بالسيف وجهه وضربه شمر فلم يضره، فعاد شمر إلى رحله فشرب ماء، وكان ظمآن، ثم أخذ الرمح ثم حمل على أدهم فصرعه وقال: هذه بتلك.
وكانت راية بجيلة مع أبي شداد قيس بن هبيرة الأحمسي وهو قيس بن مكشوح، ومكشوح لقب، فقال لقومه: والله لأنتهين بكم إلى صاحب الترس المذهب، وكان صاحبه عبد الرحمن بن خالد، فقاتل الناس قتالاً شديداً وشد بسيفه نحو صاحب الترس، فعرض له مولى رومي لمعاوية فضرب قدم أبي شداد فقطعها، وضربه أبو شداد فقتله، وأشرعت إليه الرماح فقتل، وأخذ الراية عبد الله بن قلع الأحمسي فقاتل حتى قتل، ثم أخذها عفيف بن إياس فلم تزل في يده حتى تحاجز الناس. وقتل حازم بن أبي حازم أخو قيس بن أبي حازم يومئذ، وقتل أبوه أيضاً، له صحبة، ونعيم بن صهيب بن العيلة البجليون مع علي.
فلما رأى علي ميمنة أصحابه قد عادت إلى مواضعها ومواقفها وكشفت من بإزائها من عدوها حتى ضاربوهم في مواقفهم ومراكزهم، أقبل حتى انتهى إليهم فقال: إني قد رأيت جولتكم عن صفوفكم يحوزكم الجفاة الطغام وأعراب الشام وأنتم لهاميم العرب والسنام الأعظم وعمار الليل بتلاوة القرآن وأهل دعوة الحق. فلولا إقبالكم بعد إدباركم، وكركم بعد انحيازكم، لوجب عليكم ما يجب على المولي يوم الزحف دبره وكنتم من الهالكين، ولكن هون وجدي وشفى أحاح نفسي أني رأيتكم بأخرة حزتموهم كما حازوكم وأزلتموهم عن مصافهم كما أزالوكم، تركب أولاهم أخراهم كالإبل المطرودة الهيم، فالآن فاصبروا فقد نزلت عليكم السكينة وثبتكم الله باليقين ليعلم المنهزم أنه مسخط ربه، وموبق نفسه، في كلام طويل.
وكان بشر بن عصمة المري قد لحق بمعاوية، فلما اقتتل الناس بصفين نظر بشر إلى مالك بن العقدية الجشمي وهو يفتك بأهل الشام، فاغتاظ لذلك فحمل على مالك وتجاولا ساعة ثم طعنه بشر بن عصمة فصرعه ولم يقتله وانصرف عنه، وقد ندم على طعنته إياه، وكان جباراً، فقال:
وإني لأرجو من مليكي تجاوزاً ... ومن صاحب الموسوم في الصدر هاجس
دلفت له تحت الغبار بطعنةٍ ... على ساعةٍ فيها الطعان تخالس
فبلغت مقالته ابن العقدية فقال:
ألا أبلغا بشر بن عصمة أنني ... شغلت وألهاني الذين أمارس
وصادفت مني غرةً وأصبتها ... كذلك والأبطال ماضٍ وحابس

وحمل عبد الله بن الطفيل البكائي على أهل الشام، فلما انصرف حمل عليه رجل من بني تميم يقال له قيس بن مرة ممن لحق بمعاوية من أهل العراق فوضع الرمح بين كتفي عبد الله، واعترضه ابن عم لعبد الله اسمه يزيد بن معاوية فوضع الرمح بين كتفي التميمي، فقال له: والله لئن طعنته لأطعننك! فقال له: عليك عهد الله وميثاقه إن رفعت الرمح عن ظهر صاحبك لترفعن سنانك عني! قال: نعم. فرفع التميمي سنانه ورفع يزيد سنانه، فلما رجع الناس إلى الكوفة عتب يزيد على ابن الطفيل، فقال له:
ألم ترني حاميت عنك مناصحاً ... بصفين إذ خلاك كل حميم
ونهنهت عنك الحنظلي وقد أتى ... على سابحٍ ذي ميعةٍ وهزيم
وخرج رجل من آل عك من أهل الشام يسأل المبارزة، فبرز إليه قيس ابن فهدان الكندي فحمل عليه وتجاولا ساعة ثم طعنه عبد الرحمن فقتله، وقال:
لقد علمت عكٌّ بصفين أننا ... إذا التقت الخيلان نطعنها شزرا
ونحمل رايات الطعان بحقها ... فنوردها بيضاً ونصدرها حمرا
وخرج قيس بن يزيد، وهو ممن فر إلى معاوية، فخرج إليه أبو العمرطة ابن يزيد فتعارفا فتوافقا ثم انصرفا وأخبر كل واحد منهما أنه لقي أخاه. وقاتلت طيء يومئذ قتالاً شديداً فعبيت لهم جموع، فأتاهم حمرة بن مالك الهمداني فقال: من القوم؟ فقال له عبد الله بن خليفة، وكان شيعياً شاعراً خطيباً: نحن طيء السهل وطيء الرمل وطيء الجبل الممنوع ذي النخل، نحن طيء الرماح وطيء البطاح فرسان الصباح. فقال حمرة بن مالك: إنك لحسن الثناء على قومك. واقتتل الناس قتالاً شديداً، فناداهم: يا معشر طيء، فدى لكم طارفي وتالدي! قاتلوا على الدين والأحساب. وحمل بشر بن العسوس فقاتل، ففقئت عينه يومئذ، فقال في ذلك:
ألا ليت عيني هذه مثل هذه ... ولم أمش في الأحياء إلا بقائد
ويا ليت رجلي ثم طنت بنصفها ... ويا ليت كفي ثم طاحت بساعدي
ويا ليتني لم أبق بعد مطرفٍ ... وسعدٍ وبعد المستنير بن خالد
فوارس لم تغذ الحواضن مثلهم ... إذا الحرب أبدت عن خدام الخرائد
وقاتلت النخع يومئذ قتالاً شديداً، فأصيب منهم حيان وبكر ابنا هوذة، وشعيب بن نعيم، وربيعة بن مالك بن وهبيل، وأبي أخو علقمة بن قيس الفقيه، وقطعت رجل علقمة يومئذ، فكان يقول: ما أحب أن رجلي أصح مما كانت، وإنها لمما أرجو بها الثواب وحسن الجزاء من ربي. قال: ورأيت أخي في المنام فقلت له: ماذا قدمتم عليه؟ فقال لي: إنا التقينا نحن والقوم عند الله تعالى فاحتججنا فحججناهم،فما سررت بشيء سروري بتلك الرؤيا، وكان يقال لأبي ابي الصلاة لكثرة صلاته. وخرجت حمير في جمعها ومن انضم إليها من أهل الشام، ومقدمهم ذو الكلاع، ومعه عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وهم ميمنة أهل الشام، فقصدوا ربيعة من أهل العراق، وكانت ربيعة ميسرة أهل العراق، وفيهم ابن عباس على الميسرة، فحملوا على ربيعة حملة شديدة، فتضعضعت راية ربيعة، وكانت الراية مع أبي ساسان حضين بن المنذر، فانصرف أهل الشام عنهم، ثم كر عبيد الله بن عمر وقال: يا أهل الشام إن هذا الحي من أهل العراق قتلة عثمان وأنصار علي. فشدوا على الناس شدةً عظيمة، فثبتت ربيعة وصبروا صبراً حسناً إلا قليلاً من الضعفاء والفشلة، وثبت أهل الرايات وأهل الصبر والحفاظ وقاتلوا قتالاً حسناً، وانهزم خالد بن المعمر مع من انهزم، وكان على ربيعة، فلما رأى أصحاب الرايات قد صبروا رجع وصاح بمن انهزم وأمرهم بالرجوع فرجعوا، وكان خالد قد سعي به إلى علي أنه كاتب معاوية، فأحضره علي ومعه ربيعة فسأله علي عما قيل، وقال له: إن كنت فعلت ذلك فالحق بأي بلد شئت لا يكون لمعاوية عليكم حكم. فأنكر ذلك.

وقالت ربيعة: يا أمير المؤمنين لو نعلم أنه فعل ذلك لقتلناه، فاستوثق منه علي بالعهود، فلما فر اتهمه بعض الناس واعتذر هو بأني لما رأيت رجالاً منا قد انهزموا استقبلتهم لأردهم إليكم فأقبلت بمن أطاعني إليكم. ولما رجع إلى مقامه حرض ربيعة فاشتد قتالهم مع حمير وعبيد الله بن عمر حتى كثرت بينهم القتلى فقتل سمير بن الريان العجلي، وكان شديد البأس، وأتى زياد ابن عمر بن خصفة عبد القيس فأعلمهم بما لقيت بكر بن وائل من حمير وقال: يا عبد القيس لا بكر بعد اليوم، فأتت عبد القيس بني بكر فقاتلوا معهم فقتل ذو الكلاع الحميري وعبيد الله بن عمر، قتله محرز بن الصحصح من تيم الله بن ثعلبة من أهل البصرة، وأخذ سيفه ذو الوشاح، وكان لعمر، فلما ملك معاوية العراق أخذه منه، وقيل: بل قتله هانىء بن خطاب الأرحبي، وقيل: قتله مالك بن عمرو التنعي الحضرمي.
وخرج عمار بن ياسر على الناس فقال: اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أقذف بنفسي في هذا البحر لفعلته. اللهم إنك تعلم أني لو أعلم أن رضاك في أن أضع ظبة سيفي في بطني ثم أنحني عليها حتى تخرج من ظهري لفعلته. وإني لا أعلم اليوم عملاً هو أرضى لك من جهاد هؤلاء الفاسقين، ولو أعلم عملاً هو أرضى لك منه لفعلته. والله إني لأرى قوماً ليضربنكم ضرباً يرتاب منه المبطلون، وايم الله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أنا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قال: من يبتغي رضوان الله ربه ولا يرجع إلى مال ولا ولد؟ فأتاه عصابة، فقال: اقصدوا بنا هؤلاء القوم الذين يطلبون دم عثمان، والله ما أرادوا الطلب بدمه ولكنهم ذاقوا الدنيا واستحبوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه منها، ولم يكن لهم سابقة يستحقون بها طاعة الناس والولاية عليهم، فخدعوا اتباعهم وإن قالوا: إمامنا قتل مظلوماً، ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً، فبلغوا ما ترون، فلولا هذه ما تبعهم من الناس رجلان. اللهم إن تنصرنا فطالما نصرت، وإن تجعل لهم الأمر فادخر لهم بما أحدثوا في عبادك العذاب الأليم. ثم مضى ومعه تلك العصابة، فكان لا يمر بواد من أودية صفين إلا تبعه من كان هناك من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، ثم جاء إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وهو المرقال، وكان صاحب راية علي، وكان أعور، فقال: يا هاشم أعوراً وجبناً؟ لا خير في أعور لا يغشى البأس، اركب يا هاشم؛ فركب ومضى معه وهو يقول:
أعور يبغي أهله محلاً ... قد عالج الحياة حتى ملا
لابد أن يفل أو يفلا ... يتلهم بذي الكعوب تلا
وعمار يقول: تقدم يا هاشم، الجنة تحت ظلال السيوف والموت تحت أطراف الأسل، وقد فتحت السماء وتزينت الحور العين. اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه، وتقدم حتى دنا من عمرو بن العاص فقال له: يا عمرو بعت دينك بمصر، تباً لك! فقال له: لا ولكن أطلب بدم عثمان. قال: أنا أشهد على علمي فيك أنك لا تطلب بشيء من فعلك وجه الله وأنك إن لم تقتل اليوم تمت غداً، فانظر إذا أعطي الناس على قدر نياتهم ما نيتك، لقد قاتلت صاحب هذه الراية ثلاثاً مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وهذه الرابعة ما هي بأبر وأتقى. ثم قاتل عمار فلم يرجع وقتل.
وقال حبة بن جوين العرني: قلت لحذيفة بن اليمان: حدثنا فإنا نخاف الفتن. فقال: عليكم بالفئة التي فيها ابن سمية، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: (تقتله الفئة الباغية الناكبة عن الطريق، وإن آخر رزقه ضياح من لبن)، وهو الممزوج بالماء من اللبن. قال حبة: فشهدته يوم قتل وهو يقول: ائتوني بآخر رزق لي في الدنيا، فأتي بضياح من لبن في قدح أروح له حلقة حمراء، فما أخطأ حذيفة مقياس شعرة، فقال: اليوم ألقى الأحبة. محمداً وحزبه، والله لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات هجر لعلمت أننا على الحق وأنهم على الباطل. ثم قتل، قتله أبو الغازية، واحتز رأسه ابن حوي السكسكي؛ وقيل قتله غيره.

وقد كان ذو الكلاع سمع عمرو بن العاص يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعمار بن ياسر: (تقتلك الفئة الباغية، وآخر شربة تشربها ضياح من لبن)، فكان ذو الكلاع يقول لعمرو: ما هذا ويحك يا عمرو؟ فيقول عمرو: إنه سيرجع إلينا، فقتل ذو الكلاع قبل عمار مع معاوية، وأصيب عمار بعده مع علي، فقال عمرو لمعاوية: ما أدري بقتل أيهما أنا أشد فرحاً، بقتل عمار أو بقتل ذي الكلاع، والله لو بقي ذو الكلاع بعد قتل عمار لمال بعامة أهل الشام إلى علي. فأتى جماعةٌ إلى معاوية كلهم يقول: أنا قتلت عماراً. فيقول عمرو: فما سمعته يقول؟ فيخلطون، فأتاه ابن حوي فقال: أنا قتلته فسمعته يقول: اليوم ألقى الأحبة، محمداً وحزبه. فقال له عمرو: أنت صاحبه، ثم قال: رويداً والله ما ظفرت يداك ولقد أسخطت ربك.
قيل: إن أبا الغازية قتل عماراً عاش إلى زمن الحجاج ودخل عليه فأكرمه الحجاج وقال له: أنت قتلت ابن سمية؟ يعني عماراً. قال: نعم. فقال: من سره أن ينظر إلى عظيم الباع يوم القيامة فلينظر إلى هذا الذي قتل ابن سمية، ثم سأله أبو الغازية حاجته فلم يجبه إليها، فقال: نوطىء لهم الدنيا ولا يعطونا منها ويزعم أني عظيم الباع يوم القيامة! فقال الحجاج: أجل والله من كان ضرسه مثل أحد وفخذه مثل جبل ورقان ومجلسه مثل المدينة والربذة إنه لعظيم الباع يوم القيامة، والله لو أن عماراً قتله أهل الأرض كلهم لدخلوا كلهم النار.
وقال عبد الرحمن السلمي: لما قتل عمار دخلت عسكر معاوية لأنظر هل بلغ منهم قتل عمار ما بلغ منا، وكنا إذا تركنا القتال تحدثوا وتحدثنا إليهم، فإذا معاوية وعمرو وأبو الأعور وعبد الله بن عمرو يتسايرون، فأدخلت فرسي بينهم لئلا يفوتني ما يقولون، فقال عبد الله لأبيه: يا أبه قتلتم هذا الرجل في يومكم هذا وقد قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ما قال، قال: وما قال؟ قال: ألم يكن المسلمون ينقلون في بناء مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فغشي عليه فأتاه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فجعل يمسح التراب عن وجهه ويقول: (ويحك يا ابن سمية، الناس ينقلون لبنة لبنة وأنت تنقل لبنتين لبنتين رغبة في الأجر، وأنت مع ذلك تقتلك الفئة الباغية). فقال عمرو لمعاوية: أما تسمع ما يقول عبد الله؟ قال: وما يقول؟ فأخبره، فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ إنما قتله من جاء به. فخرج الناس من فساطيطهم وأخبيتهم يقولون: إنما قتل عماراً من جاء به، فلا أدري من كان أعجب أهو أم هم.
فلما قتل عمار قال علي لربيعة وهمدان: أنتم درعي ورمحي، فانتدب له نحو من اثني عشر ألفاً وتقدمهم علي على بغلة فحملوا معه حملة رجل واحد فلم يبق لأهل الشام صف إلا انتقض وقتلوا كل من انتهوا إليه حتى بلغوا معاوية وعلي يقول:
أقتلهم ولا أرى معاويه ... الجاحظ العين العظيم الحاويه
ثم نادى معاوية فقال علي: علام يقتل الناس بيننا؟ هلم أحاكمك إلى الله فأينا قتل صاحبه استقامت له الأمور. فقال له عمرو: أنصفك. فقال له معاوية: ما أنصفت، إنك لتعلم أنه لم يبرز إليه أحد إلا قتله. فقال له عمرو: ما يحسن بك ترك مبارزته. فقال له معاوية: طمعت فيها بعدي! وكان أصحاب علي قد وكلوا به رجلين يحافظانه لئلا يقاتل، وكان يحمل إذا غفلا فلا يرجع حتى يخضب سيفه، وإنه حمل مرة فلم يرجع حتى انثنى سيفه فألقاه إليهم وقال: لولا أنه أنثنى ما رجعت إليكم. فقال الأعمش لأبي عبد الرحمن: هذا والله ضرب غير مرتاب. فقال أبو عبد الرحمن: سمع القوم شيئاً فأدوه ما كانوا بكاذبين.
وأسر معاوية جماعةً من أصحاب علي، فقال له عمرو: اقتلهم. فقال عمرو ابن أوس الأودي: لا تقتلني فإنك خالي. قال: من أين أنا خالك ولم يكن بيننا وبين أود مصاهرة؟ قال: إن أخبرتك فهو أماني عندك؟ قال: نعم. قال: أليست أختك أم حبيبة زوج النبي، صلى الله عليه وسلم؟ قال: بلى. قال: فإني ابنها وأنت أخوها فأنت خالي. فقال معاوية: ما له لله أبوه! أما كان في هؤلاء من يفطن لها غيره؟ وخلى سبيله، وكان قد أسر علي أسارى كثيرة فخلى سبيلهم، فجاؤوا معاوية وإن عمراً ليقول له وقد أسر أيضاً أسارى كثيرة: اقتلهم، فلما وصل أصحابهم قال معاوية: يا عمرو لو أطعناك في هؤلاء الأسارى لوقعنا في قبيح من الأمر؛ وخلى سبيل من عنده.

وأما هاشم بن عتبة فإنه دعا الناس عند المساء وقال: ألا من كان يريد الله والدار الآخرة فإلي! فأقبل إليه ناس كثير، فحمل على أهل الشام مراراً ويصبرون له، وقاتل قتالاً شديداً وقال لأصحابه: لا يهولنكم ما ترون من صبرهم، فوالله ما هو إلا حمية العرب وصبرها تحت راياتها وإنهم لعلى الضلال وإنكم لعلى الحق. ثم حرض أصحابه وحمل في عصابة من القراء فقاتل قتالاً شديداً حتى رأوا بعض ما يسرون به، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم شاب وهو يقول:
أنا ابن أرباب الملوك غسان ... والدائن اليوم بدين عثمان
نبأنا قراؤنا بما كان ... أن علياً قتل ابن عفان
ثم يحمل فلا يرجع حتى يضرب بسيفه ويشتم ويلعن. فقال له هاشم: يا هذا إن هذا الكلام بعده الخصام، وإن هذا القتال بعده الحساب، فاتق الله فإنه سائلك عن هذا الموقف وما أردت به. قال: فإني قاتلكم لأن صاحبك لا يصلي وأنتم لا تصلون، وإن صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم ساعدتموه على قتله. فقال له هاشم: ما أنت وعثمان، قتله أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبناء أصحابه وقراء الناس، وهم أهل الدين والعلم، وما أهمل أمر هذا الدين طرفة عين. وأما قولك: إن صاحبنا لا يصلي، فإنه أول من صلى وافقه خلق الله في دين الله وأولى بالرسول، صلى الله عليه وسلم، وأما كل من ترى معي فكلهم قارىء لكتاب الله لا ينام الليل تهجداً، فلا يغوينك هؤلاء الأشقياء. فقال الفتى: فهل لي من توبة؟ قال: نعم، تب إلى الله يتب عليك فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. فرجع الفتى، فقال له أهل الشام: خدعك العراقي. فقال: كلا ولكن نصح لي. وقاتل هاشم وأصحابه قتالاً شديداً حتى رأوا الظفر، فأقبلت عليهم عند المغرب كتيبة لتنوخ، فقاتلهم هاشمٌ وهو يقول:
أعور يبغي أهله محلا ... لابد أن يفل أو يفلا
قد عالج الحياة حتى ملا ... يتلهم بذي الكعوب تلا
فقتل يومئذ تسعة أو عشرة، وحمل عليه الحرث بن المنذر التنوخي فطعنه فسقط، فأرسل إليه علي أن قدم لواءك. فقال لرسوله: انظر إلى بطني، فإذا هو قد انشق. فقال الحجاج بن غزية الأنصاري:
فإن تفخروا بابن البديل وهاشمٍ ... فنحن قتلنا ذا الكلاع وحوشبا
ونحن تركنا عند معترك القنا ... أخاك عبيد الله لحماً ملحبا
ونحن أحطنا بالبعير وأهله ... ونحن سقيناكم سماماً مقشبا
ومر علي بكتيبة من أهل الشام فرآهم لا يزولون، وهم غسان، فقال: إن هؤلاء لا يزولون إلا بطعنٍ وضربٍ يفلق الهام ويطيح العظام تسقط منه المعاصم والأكف وحتى تقرع جباههم بعمد الحديد، أين أهل النصر والصبر طلاب الأجر؟ فأتاه عصابة من المسلمين، فدعا ابنه محمداً فقال له: تقدم نحو هذه الراية مشياً رويداً على هينتك حتى إذا أشرعت في صدورهم الرماح فأمسك حتى يأتيك أمري. ففعل وأعد لهم علي مثلهم وسيرهم إلى ابنه محمد وأمره بقتالهم، فحملوا عليهم فأزالوهم عن مواقفهم وأصابوا منهم رجالاً. ومر الأسود بن قيس المرادي بعبد الله بن كعب المرادي وهو صريع، فقال عبد الله: يا أسود! قال: لبيك! وعرفه وقال له: عز علي مصرعك. ثم نزل إليه وقال له: إن كان جارك ليأمن بوائقك وإن كنت لمن الذاكرين الله كثيراً، أوصني رحمك الله. فقال: أوصيك بتقوى الله وأن تناصح أمير المؤمنين وأن تقاتل معه المحلين حتى تظهر أو تلحق بالله، وأبلغه عني السلام وقل له: قاتل على المعركة حتى تجعلها خلف ظهرك، فإنه من اصبح غداً والمعركة خلف ظهره كان العالي، ثم لم يلبث أن مات، فأقبل الأسود إلى علي فأخبره، فقال: رحمه الله، جاهد عدونا في الحياة ونصح لنا في الوفاة. وقيل: إن الذي أشار على أمير المؤمنين علي بهذا عبد الرحمن بن الحنبل الجمحي.

قال: فاقتتل الناس تلك الليلة كلها إلى الصباح، وهي ليلة الهرير، فتطاعنوا حتى تقصفت الرماح، وتراموا حتى نفد النبل وأخذوا السيوف، وعليٌّ يسير فيما بين الميمنة والميسرة ويأمر كل كتيبة أن تقدم على التي تليها، فلم يزل يفعل ذلك حتى أصبح والمعركة كلها خلف ظهره، والأشتر في الميمنة وابن عباس في الميسرة وعلي في القلب والناس يقتتلون من كل جانب، وذلك يوم الجمعة، وأخذ الأشتر يزحف بالميمنة ويقاتل فيها، وكان قد تولاها عشية الخميس وليلة الجمعة إلى ارتفاع الضحى، ويقول لأصحابه: ازحفوا قيد هذا الرمح، ويزحف بهم نحو أهل الشام، فإذا فعل ذلك بهم قال: ازحفوا قيد هذه القوس، فإذا فعلوا سألهم مثل ذلك حتى مل أكثر الناس الإقدام. فلما رأى الأشتر ذلك قال: أعيذكم بالله أن ترضعوا الغنم سائر اليوم! ثم دعا بفرسه فركبه وترك رايته مع حيان بن هوذة النخعي وخرج يسير في الكتائب ويقول: من يشتري نفسه ويقاتل مع الأشتر حتى يظهر أو يلحق بالله؟ فاجتمع إليه ناس كثير فيهم حيان بن هوذة النخعي وغيره. فرجع إلى المكان الذي كان فيه وقال لهم: شدوا شدة، فدىً لكم خالي وعمي، ترضون بها الرب وتعزون بها الدين! ثم نزل وضرب وجه دابته وقال لصاحب رايته: اقدم بها، وحمل على القوم وحملوا معه، فضرب أهل الشام حتى اتهى بهم إلى عسكرهم، ثم قاتلوه عند العسكر قتالاً شديداً، وقتل صاحب رايته. ولما رأى علي الظفر من ناحيته أمده بالرجال، فقال عمرو بن العاص لوردان مولاه: أتدري ما مثلي ومثلك ومثل الأشتر؟ قال: لا. قال: كالأشقر إن تقدم وإن تأخر عقر، لئن تأخرت لأضربن عنقك. قال: أما والله يا أبا عبد الله لأوردنك حياض الموت، ضع يدك على عاتقي؛ ثم جعل يتقدم ويتقدم ويقول: لأوردنك حياض الموت، واشتد القتال.
فلما رأى عمرو أن أمر أهل العراق قد اشتد وخاف الهلاك قال لمعاوية: هل لك في أمر أعرضه عليك لا يزيدنا إلا اجتماعاً ولا يزيدهم إلا فرقة؟ قال: نعم. قال: نرفع المصاحف ثم نقول لما فيها: هذا حكم بيننا وبينكم، فإن أبى بعضهم أن يقبلها وجدت فيهم من يقول: ينبغي لنا أن نقبل، فتكون فرقة بينهم، وإن قبلوا ما فيها رفعنا القتال عنا إلى أجل.

فرفعوا المصاحف بالرماح وقالوا: هذا حكم كتاب الله، عز وجل، بيننا وبينكم، من لثغور الشام بعد أهله؟ من لثغور العراق بعد أهله؟ فلما رآها الناس قالوا: نجيب إلى كتاب الله. فقال لهم علي: عباد الله امضوا على حقكم وصدقكم وقتال عدوكم فإن معاوية وعمراً وابن أبي معيط وحبيباً وابن أبي سرح والضحاك ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن، أنا أعرف بهم منكم، قد صحبتهم أطفالاً ثم رجالاً فكانوا شر أطفال وشر رجال، ويحكم والله ما رفعوها إلا خديعةً ووهناً ومكيدةً. فقالوا له: لا يسعنا أن ندعى إلى كتاب الله فتأبى أن نقبله! فقال لهم علي: فإني إنما أقاتلهم ليدينوا الحكم الكتاب فإنهم قد عصوا الله فيما أمرهم ونسوا عهده ونبذوا كتابه. فقال له مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي، في عصابة من القراء الذين صاروا خوارج بعد ذلك: يا علي أجب إلى كتاب الله، عز وجل، إذ دعيت إليه وإلا دفعناك برمتك إلى القوم أو نفعل بك ما فعلنا بابن عفان! قال: فاحفظوا عني نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي، فإن تطيعوني فقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدا لكم. قالوا: ابعث إلى الأشتر فليأتك. فبعث عليٌّ يزيد بن هانىء إلى الأشتر يستدعيه. فقال الأشتر: ليست هذه الساعة بالساعة التي ينبغي لك أن تزيلني فيها عن موقفي، إنني قد رجوت أن يفتح الله لي! فرجع يزيد فأخبره، وارتفعت الأصوات وارتفع الرهج من ناحية الأشتر، فقالوا: والله ما نراك إلا أمرته أن يقاتل! فقال لعي: هل رأيتموني ساررته؟ أليس كلمته على رؤوسكم وأنتم تسمعون؟ قالوا: فابعث إليه فليأتك وإلا والله اعتزلناك! فقال له: ويلك يا يزيد! قل له: أقبل إلي فإن الفتنة قد وقعت. فأبلغه ذلك، فقال الأشتر: ألرفع المصاحف؟ قال: نعم. قال: والله لقد ظننت أنها ستوقع اختلافاً وفرقة! إنها مشورة ابن العاهر! ألا ترى إلى الفتح؟ ألا ترى ما يلقون؟ ألا ترى ما صنع الله لنا؟ لن ينبغي أن أدع هؤلاء، وانصرف عنهم. فقال له يزيد: أتحب أن تظفر وأمير المؤمنين يسلم إلى عدوه أو يقتل؟ قال: لا والله، سبحان الله! فأعلمه بقولهم، فأقبل إليهم الأشتر وقال: يا أهل العراق! يا أهل الذل والوهن! أحين علوتم القوم وظنوا أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها وهم والله قد تركوا ما أمر الله به فيها وسنة من أنزلت عليه؟ فأمهلوني فاقاً فإني قد أحسست بالفتح. قالوا: لا. قال: أمهلوني عدو الفرس فإني قد طمعت في النصر. قالوا: إذن ندخل معك في خطيئتك. قال: فخبروني عنكم متى كنتم محقين؟ أحين تاقتلون وخياركم يقتلون؟ فأنتم الآن إذ أمسكتم عن القتال مبطلون أم أنتم الآن محقون؟ فقتلاكم الذين لا تنكرون فضلهم وهم خير منكم في النار. قالوا: دعنا منك يا أشتر، قاتلناهم لله وندع قتالهم لله! قال: خدعتم فانخدعتم ودعيتم إلى وضع الحرب فأجبتم، يا أصحاب الجباه السود! كنا نظن صلاتكم زهادة في الدنيا وشوقاً إلى لقاء الله، فلا أرى مرادكم إلا الدنيا، ألا قبحاً يا أشباه النيب الجلالة! ما أنتم برائين بعدها عزاً أبداً فابعدوا كما بعد القوم الظالمون! فسبوه وسبهم وضربوا وجه دابته بسياطهم وضرب وجوه دوابهم بسوطه فصاح به وبهم علي فكفوا. وقال الناس: قد قبلنا أن نجعل القرآن بيننا وبينهم حكماً.

فجاء الأشعث بن قيس إلى علي فقال: أرى الناس قد رضوا بما دعوهم إليه من حكم القرآن فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد. قال: ائته. فأتاه، فقال لمعاوية: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟ قال: لنرجع نحن وأنتم إلى ما أمر الله به في كتابه، تبعثون رجلاً ترضون به ونبعث نحن رجلاً نرضى به، نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه ثم نتبع ما اتفقا عليه. قال له الأشعث: هذا الحق. فعاد إلى علي فأخبره، فقال الناس: قد رضينا وقبلنا. فقال أهل الشام: قد رضينا عمراً. وقال الأشعث وأولئك القوم الذين صاروا خوارج: إنا قد رضينا بأبي موسى الأشعري. فقال علي: قد عصيتموني في أول الأمر فلا تعصوني الآن، لا أرى أن أولي أبا موسى. فقال الأشعث وزيد ابن حصين ومسعر بن فدكي: لا نرضى إلا به فإنه قد حذرنا ما وقعنا فيه. قال علي: فإنه ليس بثقة، قد فارقني وخذل الناس عني ثم هرب مني حتى آمنته بعد أشهر، ولكن هذا ابن عباس أوليه ذلك. قالوا: والله لا نبالي أنت كنت أم ابن عباس! لا نريد إلا رجلاً هو منك ومن معاوية سواء. قال علي: فإني أجعل الأشتر. قالوا: وهل سعر الأرض غير الأشتر؟ فقال: قد أبيتم إلا أبا موسى؟ قالوا: نعم. قال: فاصنعوا ما أردتم.
فبعثوا إليه وقد اعتزل القتال وهو بعرض، فأتاه مولى له فقال: إن الناس قد اصطلحوا. فقال: الحمد لله. قال: قد جعلوك حكماً. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وجاء أبو موسى حتى دخل العسكر، وجاء الأشتر علياً فقال: ألزني بعمرو بن العاص فوالله لئن ملأت عيني منه لأقتلنه. وجاء الأحنف بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين إنك قد رميت بحجر الأرض وإني قد عجمت أبا موسى وحلبت أشطره فوجدته كليل الشفرة قريب القعر، وإنه لا يصلح لهؤلاء القوم إلا رجل يدنو منهم حتى يصير في أكفهم ويبعد حتى يصير بمنزلة النجم منهم، فإن أبيت أن تجعلني حكماً فاجعلني ثانياً أو ثالثاً، فإنه لن يعقد عقدة إلا حللتها، ولا يحل عقدة أعقدها لك إلا عقدت أخرى أحكم منها.
فأبى الناس إلا أبا موسى والرضا بالكتاب. فقال الأحنف: إن أبيتم إلا أبا موسى فأدفئوا ظهره بالرجال.
وحضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب القضية بحضوره، فكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تقاضى عليه أمير المؤمنين. فقال عمرو: اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وأما أميرنا فلا. فقال الأحنف: لا تمح اسم إمارة المؤمنين فإني أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبداً، لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً. فأبى ذلك علي ملياً من النهار، ثم إن الأشعث ابن قيس قال: امح هذا الاسم، فمحي، فقال علي: الله أكبر! سنة بسنة. والله إني لكاتب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوم الحديبية فكتبت: محمد رسول الله، وقالوا: لست برسول الله ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فأمرني رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بمحوه، فقلت: لا أستطيع. فقال: أرنيه، فاريته، فمحاه بيده وقال: إنك ستدعى إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو: سبحان الله! أنشبه بالكفار ونحن مؤمنون! فقال علي: يا ابن النابغة ومتى لم تكن للفاسقين ولياً وللمؤمنين عدواً؟ فقال عمرو: والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال علي: إني لأرجو أن يطهر الله مجلسي منك ومن أشباهك. وكتب الكتاب: هذا ما تقاضى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، قاضى علي على أهل الكوفة ومن معهم وقاضى معاوية على أهل الشام ومن معهم، إننا ننزل عند حكم الله وكتابه وأن لا يجمع بيننا غيره، وأن كتاب الله بيننا من فاتحته إلى خاتمته نحيي ما أحيا ونميت ما أمات، فما وجد الحكمان في كتاب الله، وهما أبو موسى عبد الله بن قيس، وعمرو بن العاص، عملا به، وما لم يجداه في كتاب الله فالسنة العادلة الجامعة غير المفرقة. وأخذ الحكمان من علي ومعاوية ومن الجندين من العهود والمواثيق أنهما آمنان على أنفسهما وأهليهما والأمة لهما أنصار على الذي يتقاضيان عليه، وعلى عبد الله بن قيس وعمرو بن العاص عهد الله وميثاقه أن يحكما بين هذه الأمة لا يرادها في حرب ولا فرقة حتى يعصيا، وأجل القضاء إلى رمضان، وإن أحبا أن يؤخرا ذلك أخراه، وإن مكان قضيتهما مكان عدل بين أهل الكوفة وأهل الشام.

وشهد من أصحاب علي الأشعث بن قيس وسعيد بن قيس الهمداني ووقاء بن سمي البجلي وعبد الله بن محل العجلي وحجر بن عدي الكندي وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الطفيل العامري وعقبة بن زياد الحضرمي ويزيد بن حجية التميمي ومالك بن كعب الهمداني، ومن أصحاب معاوية أبو الأعور السلمي وحبيب بن مسلمة وزمل بن عمرو العذري وحمرة ابن مالك الهمداني وعبد الرحمن بن خالد المخزومي وسبيع بن يزيد الأنصاري وعتبة بن أبي سفيان ويزيد بن الحر العبسي.
وقيل للأشتر ليكتب فيها، فقال: لا صحبتني يميني ولا نفعتني بعدها شمالي إن خط لي في هذه الصحيفة اسم على صلح ولا موادعة، أولست على بينة من ربي من ضلال عدوي، أولستم قد رأيتم الظفر؟ فقال له الأشعث: والله ما رأيت ظفراً، هلم إلينا لا رغبة بك عنا. فقال: بلى والله، الرغبة عنك في الدنيا للدنيا وفي الآخرة للآخرة، لقد سفك الله بسيفي دماء رجال ما أنت خير عندي منهم ولا أحرم دماً. قال: فكأنما قصع الله على أنف الأشعث الحمم. وخرج الأشعث بالكتاب يقرؤه على الناس حتى مر على طائفة من بني تميم فيهم عروة بن أدية أخو أبي بلال فقرأه عليهم، فقال عروة: تحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم إلا لله! ثم شد بسيفه فضرب به عجز دابة الأشعث ضربةً خفيفة واندفعت الدابة، وصاح به أصحاب الأشعث، فرجع، وغضب للأشعث قومه وناس كثير من أهل اليمن، فمشى إليه الأحنف بن قيس ومسعر بن فدكي وناس من تميم فاعتذروا، فقبل وشكر.
وكتب الكتاب يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من صفر سنة سبع وثلاثين، واتفقوا على أن يوافي أمير المؤمنينعلي موضع الحكمين بدومة الجندل أو بأذرح في شهر رمضان. وقيل لعلي: إن الأشتر لا يقر بما في الصحيفة ولا يرى إلا قتال القوم. فقال علي: وأنا والله ما رضيت ولا أحببت أن ترضوا، فإذا أبيتم إلا أن ترضوا فقد رضيت وإذا رضيت فلا يصلح الرجوع بعد الرضا ولا التبديل بعد الإقرار إلا أن يعصى الله ويتعدى كتابه، فقاتلوا من ترك أمر الله، وأما الذي ذكرتم من تركه أمري وما أنا عليه فليس من أولئك فلست أخاف على ذلك، يا ليت فيكم مثله اثنين! يا ليت فيكم مثله واحداً يرى في عدوي ما أرى إذاً لخفت علي مؤونتكم ورجوت أن يستقيم لي بعض أودكم، وقد نهيتكم فعصيتموني، فكنت أنا وأنتم كما قال أخو هوازن:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
والله لقد فعلتم فعلةً ضعضعت قوةً وأسقطت منةً وأورثت وهناً وذلةً، ولما كنتم الأعلين وخاف عدوكم الاجتياح واستحر بهم القتل ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف فدعوكم إلى ما فيها ليفتنوكم عنهم ويقطعوا الحرب ويتربصوا بكم المنون خديعةً ومكيدةً، فأعطيتموهم ما سألوا، وأبيتم إلا أن تدهنوا وتجيروا، وايم الله ما أظنكم بعدها توفقون الرشد ولا تصيبون باب الحزم.
ثم رجع الناس عن صفين، فلما رجع علي خالفت الحرورية وخرجت، كان ذلك أول ما ظهرت وأنكرت تحكيم الرجال، ورجعوا على غير الطريق الذي أقبلوا فيه، أخذوا على طريق البر، وعادوا وهم أعداء متباغضون وقد فشا فيهم التحكيم يقطعون الطريق بالتشاتم والتضارب بالسياط، يقول الخوارج: يا أعداء الله أدهنتم في أمر الله، ويقول الآخرون: فارقتم إمامنا وفرقتم جماعتنا.

وساروا حتى جازوا النخيلة ورأوا بيوت الكوفة، فإذا بشيخ في ظل بيت عليه أثر المرض، فسلم عليه أمير المؤمنين، فرد رداً حسناً، فقال له علي: أرى وجهك متغيراً، أمن مرض؟ قال: نعم. قال: لعلك كرهته. قال: ما أحب أنه بغيري. فقال: أليس احتساباً للخير فيما أصابك؟ قال: بلى. قال: فأبشر برحمة ربك وغفران ذنبك، من أنت يا عبد الله؟ قال: صالح ابن سليم. قال: ممن أنت؟ قال: أما الأصل فمن سلامان طيء، وأما الدعوة ولاجوار ففي سليم بن منصور. فقال: سبحان الله ما أحسن اسمك واسم أبيك ومن اعتزيت إليه واسم ادعائك! هل شهدت معنا غزاتنا هذه؟ قال: لا والله ولقد أردتها ولكن ما ترى من أثر الحمى منعني عنها. فقال: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) التوبة: 91 الآية، خبرني ما يقول الناس فيما كان بيننا وبين أهل الشام؟ قال: فيهم المسرور، وهم أغشاء الناس، وفيهم المكبوت الآسف بما كان بينك وبينهم، وأولئك نصحاء الناس لك. قال: صدقت، جعل الله ما كان من شكواك حطاً لسيئاتك، فإن المرض لا أجر فيه ولكن لا يدع على العبد ذنباً إلا حطه، وإنما الأجر في القول باللسان والعمل باليد والرجل، وإن الله، عز وجل، ليدخل بصدق النية والسريرة الصالحة عالماً من عباده الجنة. ثم مضى غير بعيد فلقيه عبد الله بن وديعة الأنصاري فدنا منه وسلم عليه وسايره، فقال له: ما سمعت الناس يقولون إن علياً كان له جمع عظيم ففرقه، وكان له حصن حصين فهدمه، فمتى يبني ما هدم ويجمع ما فرق؟ ولو كان مضى بمن أطاعه إذ عصاه من عصاه فقاتل حتى يظفر أو يهلك كان ذلك الحزم. قال علي: أنا هدمت أم هم هدموا؟ أنا فرقت أم هم فرقوا؟ أما قولهم: لو كان مضى بمن أطاعه فقاتل حتى يظفر أو يهلك، فوالله ما خفي هذا عني، وإن كنت لسخياً بنفسي عن الدنيا طيب النفس بالموت، ولقد هممت بالإقدام على القوم فنظرت إلى هذين قد ابتدراني، يعني الحسن والحسين، ونظرت إلى هذين قد استقدماني، يعني عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي، فعلمت أن هذين إن هلكا انقطع نسل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من هذه الأمة وكرهت ذلك وأشفقت على هذين أن يهلكا، وأيم الله لئن لقيتهم بعد يومي هذا لألقينهم وليسوا معي في عسكر ولا دار.
ثم مضى وإذا على يمينه قبور سبعة أو ثمانية فقال علي: ما هذه؟ فقيل: يا أمير المؤمنين إن خباب بن الأرت توفي بعد مخرجك وأوصى بأن يدفن في الظهر، وكان الناس إنما يدفنون في دورهم وأفنيتهم، وكان أول من دفن بظاهر الكوفة ودفن الناس إلى جنبه، فقال علي: رحم الله خباباً فلقد أسلم راغباً وهاجر طائعاً وعاش مجاهداً وابتلي في جسمه أحوالاً ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً، ووقف عليها وقال: السلام عليكم يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة من المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات! أنتم لنا سلفٌ فارط ونحن لكم تبعٌ وبكم عما قليل لاحقون! اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز بعفوك عنا وعنهم! طوبى لمن ذكر المعاد وعمل للحساب وقنع بالكفاف ورضي عن الله، عز وجل! ثم أقبل حتى حاذى سكة الثوريين فسمع البكاء فقال: ما هذه الأصوات؟ فقيل: البكاء على قتلى صفين. فقال: أما إني أشهد لمن قتل منهم صابراً محتسباً بالشهادة. ثم مر بالفائشيين فسمع مثل ذلك، ثم مر بالشباميين فسمع رجة شديدة فوقف فخرج إليه حرب بن شرحبيل الشبامي، فقال له علي: أيغلبكم نساؤكم؟ ألا تنهونهن عن هذا الرنين؟ قال: يا أمير المؤمنين لو كانت داراً أو دارين أو ثلاثاً قدرنا على ذلك، ولكن قتل من هذا الحي ثمانون ومائة قتيل، فليس دار إلا وفيها البكاء، فأما نحن معشر الرجال فإنا لا نبكي ولكنا نفرح بالشهادة. قال علي: رحم الله قتلاكم وموتاكم! فأقبل يمشي معه وعلي راكب، فقال له عليك ارجع، ووقف ثم قال له: ارجع فإن مشي مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن. ثم مضى حتى مر بالناعطيين وكان جلهم عثمانية، فسمع بعضهم يقول: والله ما صنع علي شيئاً، ذهب ثم انصرف في غير شيء، فلما رأوا أبلسوا، فقال علي لأصحابه: وجوه قوم ما رأوا الشام. ثم قال لأصحابه: قوم فارقناهم آنفاً خير من هؤلاء. ثم قال:
أخوك الذي إن أجرضتك ملمةٌ ... من الدهر لم يبرح لبثك واجما
وليس أخوك بالذي إن تشعبت ... عليك الأمور ظل لحاك لائما

ثم مضى فلم يزل يذكر الله حتى دخل القصر. فلما دخل الكوفة لم يدخل الخوراج معه فأتوا حروراء فنزلوا بها. وقتل أويس القرني بصفين، وقيل: بل مات بدمشق، وقيل: بأرمينية، وقيل: بسجتسان. وفيها قتل جندب ابن زهير الأزدي، وهو من الصحابة، مع علي، وقتل بصفين أيضاً حابس ابن سعد الطائي مع معاوية، وهو خال يزيد بن عدي بن حاتم، فقتل يزيد قاتله غدراً، فأراد عدي إسلامه إلى أولياء المقتول فهرب إلى معاوية. وممن شهد صفين مع علي خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ولم يقاتل، فلما قتل عمار ابن ياسر جرد سيفه وقاتل حتى قتل، وقال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (تقتل عماراً الفئة الباغية)، وقتل مع علي سهيل ابن عمرو بن أبي عمر الأنصاري، وهو بدري. وممن شهد وقتل فيها مع علي من المهاجرين خالد بن الوليد، وله صحبة.
شريح بن هانىء بضم الشين، وآخره حاء مهملة. الهمداني بفتح الهاء، وسكون الميم، وفتح الدال المهملة، نسبة إلى همدان: قبيلة كبيرة من اليمن. حمرة بن مالك بضم الحاء المهملة، وسكون الميم، وآخره راء. حضين بن المنذر بضم الحاء المهملة، وفتح الضاد المعجمة. يريم بفتح الياء تحتها نقطتان، وكسر الراء، وسكون الياء الثانية، وآخره ميم. بديل بن ورقاء بضم الباء الموحدة وفتح الدال المهملة. حازم بن أبي حازم بالحاء المهملة. حبة بن جوين بفتح الحاء المهملة، والباء المشددة الموحدة. والعرني بضم العين المهملة، وفتح الراء، وآخره نون.
ذكر استعمال جعدة بن هبيرة على خراسانوفي هذه السنة بعث علي جعدة بن هبيرة المخزومي إلى خراسان بعد عوده من صفين، فانتهى إلى نيسابور، وقد كفروا وامتنعوا، فرجع إلى علي، فبعث خليد بن قرة اليربوعي، فحاصر أهلها حتى صالحوه وصالحه أهل مرو.
ذكر اعتزال الخوارج علياً ورجوعهم إليه
ولما رجع علي من صفين فارقة الخوارج وأتوا حروراء، فنزل بها منهم اثنا عشر ألفاً، ونادى مناديهم: إن أمير القتال شبث بن ربعي التميمي، وأمير الصلاة عبد الله بن الكوا اليشكري، والأمر شورى بعد الفتح، والبيعة لله، عز وجل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. فلما سمع علي ذلك وأصحابه قامت الشيعة فقالوا له: في أعناقنا بيعة ثانية، نحن أوياء من واليت وأعداء من عاديت. فقالت الخوارج: استبقم أنتم وأهل الشام إلى الكفر كفرسي رهان، بايع أهل الشام معاوية على ما أحبوا وكرهوا، وبايعتم أنتم علياً على أنكم أولياء من والى وأعداء من عادى. فقال لهم زياد بن النضر: والله ما بسط علي يده فبايعناه قط والله ما بسط علي يده فبايعناه قط إلا على كتاب الله وسنة نبيه، ولكنكم لما خالفتموه جاءته شيعته فقالوا له: نحن أولياء من واليت وأعداء من عاديت، ونحن كذلك، وهو على الحق والهدى ومن خالفه ضال مضل.
وبعث علي عبد الله بن عباس إلى الخوارج وقال: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتيك. فخرج إليهم فأقبلوا يكلمونه، فلم يصبر حتى راجعهم، فقال: ما نقمتم من الحكمين وقد قال تعالى: (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما) النساء: 35، فكيف بأمة محمد، صلى الله عليه وسلم؟ فقالت الخوارج: أما ما جعل الله حكمه إلى الناس وأمرهم بالنظر فيه فهو إليهم، وما حكم فأمضاه فليس للعباد أن ينظروا فيه، حكم في الزاني مائة جلدة، وفي السارق القطع، فليس للعباد أن ينظروا في هذا، قال ابن عباس: فإن الله تعالى يقول: (يحكم به ذوا عدلٍ منكم) المائدة: 95. فقالوا: أو تجعل الحكم في الصيد والحرث وبين المرأة وزوجها كالحكم في دماء المسلمين؟ وقالوا له: أعدلٌ عندك عمرو بن العاص وهو بالأمس يقاتلنا؟ فإن كان عدلاً فلسنا بعدول، وقد حكمتم في أمر الله الرجال، وقد أمضى الله حكمه في معاوية وأصحابه أن يقتلوا أو يرجعوا، وقد كتبتم بينكم وبينهم كتاباً وجعلتم بينكم الموادعة، وقد قطع الله الموادعة بين المسلمين وأهل الحرب مذ نزلت براءة إلا من أقر بالجزية.
وبعث علي زياد بن النضر فقال: أنظر بأي رؤوسهم هم أشد إطافة. فأخبره بأنه لم يرهم عند رجل أكثر منهم عند يزيد بن قيس.

فخرج علي في الناس حتى دخل إليهم، فأتى فسطاط يزيد بن قيس فدخله فصلى فيه ركعتين وأمره على أصبهان والري، ثم خرج حتى انتهى إليهم وهم يخاصمون ابن عباس فقال: ألم أنهك عن كلامهم؟ ثم تكلم فقال: اللهم هذا مقامٌ من يفلج فيه كان أولى بالفلج يوم القيامة. ثم قال لهم: من زعيمكم؟ قالوا: ابن الكوا. قال: فما أخرجكم علينا؟ قالوا: حكومتك يوم صفين. قال: أنشدكم الله، أتعلمون أنهم حيث رفعوا المصاحف وقلتم نجيبهم قلت لكم إني أعلم بالقوم منكم أنهم ليسوا باصحاب دين؟ وذكر ما كان قاله لهم، ثم قال لهم: قد اشترطت على الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن ويميتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن فليس لنا أن نخالف، وإن أبيا فنحن عن حكمهما برآء.
قالوا: فخبرنا أتراه عدلاً تحكيم الرجال في الدماء؟ فقال: إنا لسنا حكمنا الرجال إنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن إنما هو خط مسطور بين دفتين لا ينطق إنما يتكلم به الرجال. قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته بينكم؟ قال: ليعلم الجاهل ويتثبت العالم، ولعل الله يصلح في هذه الهدنة هذه الأمة، ادخلوا مصركم رحمكم الله. فدخلوا من عند آخرهم.
قيل: والخوارج يزعمون أنهم قالوا له: صدقت قد كنا كما ذكرت وكان ذلك كفراً منا وقد تبنا إلى الله فتب كما تبنا نبايعك وإلا فنحن مخالفون. فبايعنا علي وقال: ادخلوا فلنمكث ستة أشهر حتى نجبي المال ويسمن الكراع ثم نخرج إلى عدونا. وقد كذب الخوارج فيما زعموا.
ذكر اجتماع الحكمينولما جاء وقت اجتماع الحكمين أرسل علي أربعمائة رجل عليهم شريح ابن هانىء الحارثي وأوصاه أن يقول لعمرو بن العاص: إن علياً يقول لك: إن أفضل الناس عند الله، عز وجل، من كان العمل بالحق أحب إليه وإن نقصه من الباطل وإن زاده. يا عمرو والله إنك لتعلم أين موضع الحق فلم تتجاهل؟ إن أوتيت طمعاً يسيراً كنت لله به ولأوليائه عدواً، وكأن والله ما أوتيت قد زال عنك! ويحك فلا تكن للخائنين خصيماً وللظالمين ظهيراً، أما إني أعلم بيومك الذي أنت فيه نادم، وهو يوم وفاتك، تتمنى أنك لم تظهر لمسلم عداوة ولم تأخذ على حكم رشوة.
فلما بلغه تغير وجهه ثم قال: متى كنت قبل مشورة علي أو أنتهي إلى أمره أو أعتد برأيه؟ فقال له: وما يمنعك يا ابن النابغة أن تقبل من مولاك وسيد المسلمين بعد نبيهم مشورته؟ فقد كان من هو خير منك أبو بكر وعمر يستشيرانه ويعملان برأيه. فقال له: إن مثلي لا يكلم مثلك. قال شريح: بأي أبويك ترغب عني يا ابن النابغة؟ أبأبيك الوسط أم بأمك النابغة؟ فقام عنه.
وأرسل علي أيضاً معهم عبد الله بن عباس ليصلي بهم ويلي أمورهم، ومعهم أبو موسى الأشعري.
وأرسل معاوية عمرو بن العاص في أربعمائة من أهل الشام حتى توافوا من دومة الجندل بأذرح. وكان عمرو إذا أتاه كتاب من معاوية لا يدرى بما جاء فيه ولا يسأله أهل الشام عن شيء؛ وكان أهل العراق يسألون ابن عباس عن كتاب يصله من علي، فإن كتمهم ظنوا به الظنون وقالوا: أتراه كتب بكذا وكذا؟ فقال لهم ابن عباس: أما تعقلون؟ أما ترون رسول معاوية يجيء لا يعلم أحد بما جاء به ولا يسمع لهم صياح، وأنتم عندي كل يوم تظنون في الظنون؟ وحضر معهم ابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وابن الزبير وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام وعبد الرحمن بن عبد يغوث الزهري وأبو جهم بن حذيفة العدوي والمغيرة بن شعبة.
وكان سعد بن أبي وقاص على ماء لبني سليم بالبادية، فأتاه ابنه عمر فقال له: إن أبا موسى وعمراً قد شهدهما نفرٌ من قريش فاحضر معهم فإنك صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأحد الشورى ولم تدخل في شيء كرهته هذه الأمة وأنت أحق الناس بالخلافة. فلم يفعل، وقيل: بل حضرهم سعد وندم على حضوره فأحرم بعمرة من بيت المقدس.

وقال المغيرة بن شعبة لرجال من قريش: أترون أحداً يستطيع أن يأتي برأي يعلم به أيجتمع الحكمان أم لا؟ فقالوا: لا. فقال: إني أعلمه منهما. فدخل على عمرو بن العاص فقال: كيف ترانا معشر من اعتزل الحب؟ فإنا قد شككنا في الأمر الذي استبان لكم فيها. فقال له عمرو: أراكم خلف البرار أمام الفجار. فانصرف المغيرة إلى أبي موسى فقال له مثل قوله لعمرو. فقال له أبو موسى: أراكم أثبت الناس رأياً، فيكم بقية الناس. فعاد المغيرة إلى أصحابه وقال لهم: لا يجتمع هذان على أمر واحد.
فلما اجتمع الحكمان قال عمرو: يا أبا موسى ألست تعلم أن عثمان قتل مظلوماً؟ قال: أشهد. قال: ألست تعلم أن معاوية وآل معاوية أولياؤه؟ قال: بلى. قال: فما يمنعك منه وبيته في قريش كما قد علمت؟ فإن خفت أن يقول الناس: ليست له سابقة، فقل وجدته ولي عثمان الخليفة المظلوم والطالب بدمه الحسن السياسة والتدبير وهو أخو أم حبيبة زوج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكاتبه وقد صحبه وعرض له بسلطان.
فقال أبو موسى: يا عمرو اتق الله! فأما ما ذكرت من شرف معاوية فإن هذا ليس على الشرف تولاه أهله، ولو كان على الشرف لكان لآل أبرهة ابن الصباح، إنما هو لأهل الدين والفضل، مع أني لو كنت معطيه أفضل قريش شرفاً أعطيته علي بن أبي طالب، وأما قولك: إن معاوية ولي دم عثمان فوله هذا الأمر، فلم أكن لأوليه وأدع المهاجرين الأولين، وأما تعريضك لي بالسلطان، فوالله لو خرج معاوية لي من سلطانه كله لما وليته، وما كنت لأرتشي في حكم الله! ولكنك إن شئت أحيينا اسم عمر بن الخطاب، رحمه الله.
قال له عمرو: فما يمنعك من ابني وأنت تعلم فضله وصلاحه؟ فقال: إن ابنك رجل صدق ولكنك قد غمسته في هذه الفتنة. فقال عمرو: إن هذا الأمر لا يصلح إلا لرجل له ضرس يأكل ويطعم؛ وكانت في ابن عمر غفلة؛ فقال له ابن الزبير: أفطن فانتبه! فقال عبد الله بن عمر: والله لا أرشو عليها شيئاً أبداً. وقال: يا ابن العاص إن العرب قد أسندت إليك أمرها بعد ما تقارعوا بالسيوف فلا تردنهم في فتنة.
وكان عمرو قد عود أبا موسى أن يقدمه في الكلام يقول له: أنت صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأسن مني فتكلم، وتعود ذلك أبو موسى، وأراد عمرو بذلك كله أن يقدمه في خلع علي، فلما أراده عمرو على ابنه وعلى معاوية فأبى وأراد أبو موسى بن عمر فأبى عمرو، قال له عمرو: خبرني ما رأيك؟ قال: أرى أن نخلع هذين الرجلين ونجعل الأمر شورى فيختار المسلمون لأنفسهم من أحبوا. فقال عمرو: الرأي ما رأيت. فأقبلا إلى الناس وهم مجتمعون، فقال عمرو: يا أبا موسى أعلمهم أن رأينا قد اتفق. فتكلم أبو موسى فقال: إن رأينا قد اتفق على أمر نرجو أن يصلح الله به أمر هذه الأمة. فقال عمرو: صدق وبر، تقدم يا أبا موسى فتكلم. فتقدم أبو موسى، فقال له ابن عباس: ويحك! والله إني لأظنه قد خدعك، إن كنتما اتفقتما على أمر فقدمه فليتكلم به قبلك ثم تكلم به بعده، فإنه رجلٌ غادر ولا آمن أن يكون قد أعطاك الرضا بينكما فإذا قمت في الناس خالفك.
وكان أبو موسى مغفلاً فقال: إنا قد اتفقنا، وقال: أيها الناس إنا قد نظرنا في أمر هذه الأمة فلم نر أصلح لأمرها ولا ألم لشعثها من أمر قد أجمع رأيي ورأي عمرو عليه، وهو أن نخلع علياً ومعاوية ويولي الناس أمرهم من أحبوا، وإني قد خلعت علياً ومعاوية فاستقبلوا أمركم وولوا عليكم من رأيتموه أهلاً. ثم تنحى.
وأقبل عمرو فقام وقال: إن هذا قد قال ما سمعتموه وخلع صاحبه، وأنا أخلع صاحبه كما خلعه وأثبت صاحبي معاوية، فإنه ولي ابن عفان والطالب بدمه وأحق الناس بمقامه.
فقال سعد: ما أضعفك يا أبا موسى عن عمرو ومكايده! فقال أبو موسى: فما أصنع؟ وافقني على أمر ثم نزع عنه! فقال ابن عباس: لا ذنب لك يا أبا موسى، الذنب لمن قدمك في هذا المقام. قال: غدر فما أصنع؟ فقال ابن عمر: انظروا إلى ما صار أمر هذه الأمة! صار إلى رجل ما يبالي ما صنع وإلى آخر ضعيف.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: لو مات الأشعري قبل هذا اليوم لكان خيراً له.

وقال أبو موسى الأشعري لعمرو: لا وفقك الله، غدرت وفجرت! إنما مثلك (كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) الأعراف: 176. قال عمرو: إنما مثلك (كمثل الحمار يحمل أسفاراً) الجمعة: 5. فحمل شريح بن هانىء على عمرو فضربه بالسوط وحمل ابن لعمرو على شريح فضربه بالسوط أيضاً وحجز الناس بينهم. وكان شريح يقول بعد ذلك: ما ندمت على شيء ندامتي على ضرب عمرو بالسوط ولم أضربه بالسيف.
والتمس أهل الشام أبا موسى فهرب إلى مكة، ثم انصرف عمرو وأهل الشام إلى معاوية فسلموا عليه بالخلافة، ورجع ابن عباس وشريح إلى علي، وكان علي إذا صلى الغداة يقنت فيقول: اللهم العن معاوية وعمراً وأبا الأعور وحبيباً وعبد الرحمن بن خالد والضحاك بن قيس والوليد! فبلغ ذلك معاوية فكان إذا قنت سب علياً وابن عباس والحسن والحسين والأشتر.
وقد قيل: إن معاوية حضر الحكمين وإنه قام عشيةً في الناس فقال: أما بعد من كان متكلماً في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه. قال ابن عمر: فاطلعت حبوتي فأردت أن أقول يتكلم فيه رجال قاتلوك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق الجماعة ويسفك فيها دم، وكان ما وعد الله فيه الجنان أحب إلي من ذلك، فلما انصرفت إلى المنزل جاءني حبيب بن مسلمة فقال: ما منعك أن تتكلم حين سمعت هذا الرجل يتكلم؟ قلت: أردت ذلك ثم خشيت. فقال حبيب: وفقت وعصمت، وهذا أصح لأنه ورد في الصحيح.
ذكر خبر الخوارج عند توجيه الحكمين وخبر يوم النهرلما أراد علي أن يبعث أبا موسى للحكومة أتاه رجلان من الخوارج: زرعة ابن البرج الطائي وحرقوص بن زهير السعدي فقالا له: لا حكم إلا لله! فقال علي: لا حكم إلا لله. وقال حرقوص بن زهير: تب من خطيئتك وارجع عن قضيتك واخرج بنا إلى عدونا نقاتلهم حتى نلقى ربنا. فقال علي: قد أردتكم على ذلك فعصيتموني وقد كتبنا بيننا وبين القوم كتاباً وشرطنا شروطاً وأعطينا عليها عهوداً، وقد قال الله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) النحل: 91. فقال حرقوص: ذلك ذنب ينبغي أن تتوب عنه. فقال علي: ما هو ذنب ولكنه عجزٌ عن الرأي وقد نهيتكم. فقال زرعة: يا علي لئن لم تدع تحكيم الرجال لأقاتلنك، اطلب وجه الله تعالى. فقال علي: بؤساً لك ما أشقاك! كأني بك قتيلاً تسفي عليك الرياح! قال: وددت لو كان ذلك. فخرجا من عنده يحكمان.
وخطب علي ذات يوم، فحكمت المحكمة في جوانب المسجد، فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! إن سكتوا غممناهم، وإن تكلموا حججناهم، وإن خرجوا علينا قاتلناهم. فوثب يزيد بن عاصم المحاربي فقال: الحمد لله غير مودع ربنا ولا مستغنى عنه! اللهم إنا نعوذ بك من إعطاء الدنية في الدين إدهانٌ في أمر الله وذل راجع بأهله إلى سخط الله، يا علي أبالقتل تخوفنا؟ أما والله إني لأرجو أن نضربكم بها عما قليل غير مصفحات، ثم لتعلم أينا أولى بها صلياً. ثم خرج هو وإخوة له ثلاثة فأصيبوا مع الخوارج بالنهر وأصيب أحدهم بعد ذلك بالنخيلة.
ثم خطب علي يوماً آخر فقام رجل فقال: لا حكم إلا لله! ثم توالى عدة رجال يحكمون. فقال علي: الله أكبر، كلمة حق أريد بها باطل! أما إن لكم عندنا ثلاثاً ما صحبتمونا: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسمه، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا، ولا نقاتلكم حتى تبدأونا، وإنما فيكم أمر الله. ثم رجع إلى مكانه من الخطبة.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34