كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

كان صاحب هراة الأمير إيتكين بينه وبين الغز مهادنة، فلما توفي ملك الغور محمد طمع في بلادهم، فغزاهم غير مرة، ونهب وأغار، فلما كان في شهر رمضان من هذه السنة، جمع إيتكين جموعه وسار إلى بلاد الغور، وساروا إلى باميان وإلى ولاية بست والرخج فسلمهما إلى بعض أولاد ملك الغور؛ وأما إيتكين فإنه توغل في بلاد الغور، فأتاه أهلها وقاتلوه وصدوه، وصدقوه القتال، فانهزم عسكره، وقتل هو في المعركة.
ذكر ملك شاه مازندران قومس وبسطامقد ذكرنا استيلاء المؤيد صاحب نيسابور على قومس وبسطام وتلك البلاد، وأنه استناب بها مملوكه تنكز، فلما كان هذه السنة جهز شاه مازندران جيشاً واستعمل عليهم أميراً له يعرف بسابق الدين القزويني، فسار إلى دامغان فملكها، فجمع تنكز من عنده من العساكر وسار إليه إلى دامغان، فخرج إليه القزويني، فوصل إلى تنكز على غرة منه، فلم يشعر ه وعسكره إلا وقد كبسهم القزويني ووضع السيف فيهم، فتفرقوا وولوا منهزمين، واستولى عسكر شاه مازندران على تلك البلاد، وعاد تنكز إلى المؤيد صاحب نيسابور، واشتغل بالغرة على بسطام وبلاد قومس.
ذكر عصيان غمارة بالمغربلما تحقق الناس موت عبد المؤمن سنة تسع وخمسين، ثارت قبائل غمارة مع مفتاح بن عمرو، وكان مقدماً كبيراً فيهم، وتبعوه بأجمعهم، وامتنعوا في جبالهم، وهي معاقل مانعة، وهم أمم جمة، فتجهز إليهم أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، ومعه أخواه عمرو وعثمان، في جيش كبير من الموحدين والعرب، وتقدموا إليهم، فاقتتلوا سنة إحدى وستين وخمسمائة، فانهزمت غمارة، وقتل منهم كثير، وفيمن قتل مفتاح بن عمرو مقدمهم، وجماعة من أعيانهم ومقدميهم، وملكوا بلادهم عنوة.
وكان هناك قبائل كثيرة يريدون الفتنة، فانتظروا ما يكون من غمارة، فلما قتلوا ذلت تلك القبائل وانقادوا للطاعة، ولم يبق متحرك لفتنة ومعصية فسكنت الدهماء في جميع المغرب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة أغار الأمير محمد بن أنز على بلد الإسماعيلية بخراسان وأهلها غافلون، فقتل منهم وغنم وسبى وأكثر وملأ أصحابه أيديهم من ذلك.
وفيها توفي أبو الفضل نصر بن خلف ملك سجستان، وعمره أكثر من مائة سنة، ومدة ملكه ثمانون سنة، وملك بعده ابنه شمس الدين أبو الفتح احمد بن نصر؛ وكان أبو الفضل ملكاً عادلاً عفيفاً عن رعيته، وله آثار حسنة في نصرة السلطان سنجر في غير موقف.
وفيها خرج ملك الروم من القسطنطينية في عساكر لا تحصى وقصد بلاد الإسلام التي بيد قلج أرسلان وابن دانشمند، فاجتمع التركمان في تلك البلاد في جمع كبير، فكانوا يغيرون على أطراف عسكره ليلاً، فإذا أصبح لا يرى أحداً.
وكثر القتل في الروم حتى بلغت عدة القتلى عشرات ألوف، فعاد إلى القسطنطينية، ولما عاد ملك المسلمون منه عدة حصون.
وفيها توفي الإمام عمر الخوارزمي خطيب بلخ ومفتيها بها؛ والقاضي أبو بكر المحمودي صاحب التصانيف والأشعار، وله مقامات بالفارسية على نمط مقامات الحريري بالعربية.
ثم دخلت سنة ستين وخمسمائة

ذكر وفاة شاه مازندران وملك ابنه بعده
في هذه السنة، ثامن ربيع الأول، توفي شاه مازندران رستم بن علي ابن شهريار بن قارن، ولما توفي كتم ابنه الحسن بن علاء الدين موته أياماً، حتى استولى على سائر الحصون والبلاد ثم أظهره، فلما ظهر خبر وفاته أظهر إيثاق صاحب جرجان ودهستان المنازعة لولده في الملك، ولم يرع حق أبيه عليه، فإنه لم يزل يذب عنه ويحميه إذا التجأ إليه، ولكن الملك عقيم، ولم يحصل من منازعته على شيء غير سوء السمعة وقبح الأحدوثة.
ذكر حصر عسكر المؤيد نسا ورحيلهم عنهاكان المؤيد قد سير جيشاً إلى مدينة نسا، فحصرها إلى جمادى الأولى في هذه السنة، فسير خوارزم شاه ايل أرسلان بن أتسز جيشاً إلى نسا، فلما قربوها رحل عنها عسكر المؤيد وعادوا إلى نيسابور أواخر جمادى الأولى.
وسار عسكر المؤيد إلى عسكر خوارزم، لأنهم توجهوا إلى نيسابور، فتقدم العسكر المؤيدي ليردهم عنها، فلما سمع العسكر الخوارزم بهم رجع عنهم، وصار صاحب نسا في طاعة خوارزمشاه والخطبة له فيها.

وسار عسكر خوارزم إلى دهستان، فالتجأ صاحبها الأمير إيثاق إلى المؤيد، صاحب نيسابور، بعد تمكن الوحشة بينهما، فقبله المؤيد وسير إليه جيشاً كثيفاً، فأقاموا عنده حتى دفع الضرر عن نفسه وبلده من جهة طبرستان، وأما دهستان فإن عسكر خوارزم غلبوا عليها وصار لهم فيها شحنة.
ذكر استيلاء المؤيد على هراةقد ذكرنا قتل صاحب هراة سنة تسع وخمسين، فلما قتل تجهز الأمراء الغزية وساروا إلى هراة وحصروها، وقد تولى أمرها إنسان يلقب أثير الدين، وكان له ميل إلى الغز، وهو يحاربهم ظاهراً، ويراسلهم باطناً، فهلك لهذا السبب خلق كثير من اهل هراة، فاجتمع أهلها فقتلوه، وقام مقامه أبو الفتوح علي بن فضل الله الطغرائي، فأرسل أهلها إلى المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور، بالطاعة والانقياد إليه، فسير إليهم مملوكه سيف الدين تنكز في جيش، وسير جيشاً آخر أغاروا على سرخس، ، ومرو، فاخذوا دواب الغز وعادوا سالمين. فلما سمع الغز بذلك رحلوا عن هراة إلى مرو.
ذكر الحرب بين قلج ارسلان وبين ابن دانشمندفي هذه السنة كانت الفتنة بين الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب قونية وما يجاورها من بلد الروم، وبين ياغي أرسلان بن دانشمند، صاحب ملطية وما يجاورها من بلد الروم، وجرى بينهما حرب شديدة.
وسببها ان قلج أرسلان تزوج ابنة الملك صليق بن علي بن أبي القاسم، فسيرت الزوجة إلى قلج أرسلان مع جهاز كثير لا يعلم قدره، وأغار ياغي أرسلان صاحب ملطية عليه، وأخذ العروس وما معها وأراد أن يزوجها بابن أخيه ذي النون بن محمد بن دانشمند، فامرها بالردة عن الإسلام ففعلت لينفسخ النكاح من قج أرسلان ثم عادت إلى اللإسلام، فزوجها من ابن أخيه، فجمع قلج ارسسلان عسكره وسار إلى ابن دانشمند، فالتقيا واقتتلا، فانهزم قلج أرسلان، والتجأ إلى ملك الروم، واستنصره، فأرسل إليه جيشاً كثيراً، فمات ياغي أرسلان بن دانشمند في تلك الأيام، وملك قلج أرسلان بعض بلاده، واصطلح هو والملك إبراهيم بن محمد بن دانشمند، لأنه ملك البلاد بعد عمه أرسلان، واستولى ذو النون بن محمد بن دانشمند على مدينة قيسارية، وملك شاهان شاه بن مسعود أخو قلج أرسلان على مدينة أنكورية واستقرت القاعدة بينهم واتفقوا.
ذكر الفتنة بين نور الدين وقلج أرسلانفي هذه السنة كانت وحشة متأكدة بين نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام، وبين قلج ارسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب الروم، أدت إلى الحرب والتضاغن، فلما بلغ خبرها إلى مصر كتب الصالح بن رزيك، وزير صاحب مصر، إلى قلج أرسلان ينهاه عن ذلك ويأمره بموافقته، وكتب فيه شعراً:
نقول ولكن أين من يتفهم ... ويعلم وجه الرأي والرأي مبهم
وما كل من قاس الأمور وساسها ... يوفق للأمر الذي هو أحزم
وما أحد في الملك يبقى مخلداً ... وما أحد مما قضى الله يسلم
أمن بعد ما ذاق العدى طعم حربكم ... بفيهم وكانت وهي صاب وعلقم
رجعتم إلى حكم التنافس بينكم ... وفيكم من الشحناء نار تضرم
أما عندكم من يتقي الله وحده ... أما في رعاياكم من الناس مسل
تعالوا لعل الله ينصر دينه ... إذا ما نصرنا الدين نحن وأنتم
وننهض نحو الكافرين بعزمة ... بأمثالها تحوى البلاد وتقسم
وهي أطول من هذا. هكذا ذكر بعض العلماء هذه الحادثة وأن الصالح أرسل بهذا الشعر، فإن كان الشعر للصالح فينبغي ان تكون قبل هذا التاريخ، لأن الصالح قتل سنة ست وخمسين في رمضان، وإن لم يكن الشعر له فالحادثة في هذا التاريخ، ويحتمل أن يكون هذا التنافس كان أيام الصالح فكتب الأبيات ثم امتد إلى الآن.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في صفر، وقع بأصفهان فتنة عظيمة بين صدر الدين عبد اللطيف بن الخجندي وبين القاضي وغيره من أصحاب المذاهب، بسبب التعصب للمذاهب، فدام القتال بين الطائفتين ثمانية أيام متتابعة قتل فيها خلق كثير، واحترق وهدم كثير من الدور والأسواق، ثم افترقوا على أقبح صورة.

وفيها بنى الإسماعيلية قلعة بالقرب من قزوين فقيل لشمس الدين إيلدكز عنها، فلم يكن له إنكار لهذه الحال خوفاً من شرهم وغائلتهم، فتقدموا بعد ذلك إلى قزوين فحصروها، وقاتلهم أهلها أشد قتال رآه الناس.
وحكى لي بعض أصدقائنا بل مشايخنا من الأئمة الفضلاء قال: كنت بقزوين أشتغل بالعلم، وكان بها إنسان يقود جمعاً كبيراً، وكان موصوفاً بالشجاعة، وله عصابة حمراء، إذا قاتل عصب بها رأسه، قال: كنت أحبه وأشتهي الجلوس معه؛ فبينما أنا عنده يوماً إذا هو يقول: كأني بالملاحدة وقد قصدوا البلد غداً، فخرجنا إليهم وقاتلناهم، فكنت أول الناس وأنا متعصب بهذه العصابة، فقاتلناهم فلم يقتل غيري، ثم ترجع الملاحدة، ويرجع أهل البلد.
قال: فوالله لما كان الغد إذ وقع الصوت بوصول الملاحدة، فخرج الناس؛ قال: فذكرت قول الرجل، فخرجت والله ليس لي همة إلا أن أنظر هل يصح ما قال أم لا. قال: فلم يكن إلا قليل حتى عاد الناس وهو محمول على أيديهم قتيلاً بعصابته الحمراء، وذكروا أنه لم يقتل بينهم غيره، فبقيت متعجباً من قوله كيف صح، ولم يتغير منه شيء، ومن أين له هذا اليقين؟ ولما حكى لي هذه الحكاية لم أسأله عن تاريخها، وإنما كان في هذه المدة في تلك البلاد، فلهذا أثبتها هذه السنة على الظن والتخمين.
وفيها قبض المؤيد أي أبه، صاحب نيسابور، على وزيره ضياء الملك بن أبي طالب سعد بن أبي القاسم محمود الرازي وحبسه، واستوزر بعده نصير الدين أبا بكر محمد بن أبي نصر محمد المستوفي، وكان أيام السلطان سنجر يتولى إشراف ديوانه، وهو من أعيان الدولة السنجرية.
وفي هذه السنة وردت الأخبار أن الناس حجوا سنة تسع وخمسين، ولقوا شدة، وانقطع منهم خلق كثير في فيد والثعلبية وواقصة وغيرها، وهلك كثير، ولم يمض الحاج إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، لهذه الأسباب، ولشدة الغلاء فيها، وعدم ما يقتات، ووقع الوباء في البادية وهلك منهم عالم لا يحصون، وهلكت مواشيهم، وكانت الأسعار بمكة غالية.
وفيها، في صفر، قبض المستنجد بالله على الأمير توبة بن العقيلي، وكان قد هرب منه قرباً عظيماً بحيث يخلو معه، وأحبه المستنجد محبة كثيرة، فحسده الوزير ابن هبيرة، فوضع كتباً من العجم مع قوم وأمرهم أن يتعرضوا ليؤخذوا، ففعلوا ذلك وأخذوا وأحضروا عند الخليفة، فأظهروا الكتب بعد الامتناع الشديد، فلما وقف الخليفة عليها خرج إلى نهر الملك يتصيد، وكانت حلل توبة على الفرات، فحضر عنده، فأمر بالقبض عليه، فقبض وأدخل بغداد ليلاً وحبس، فكان آخر العهد به، فلم يمتع الوزير بعده بالحياة بل مات بعد ثلاثة أشهر. وكان توبة من أكمل العرب مروءة وعقلاً وسخاء وإجازة، واجتمع فيه من خلال الكمال ما تفرق في الناس.
وفيها، في ربيع الأول، توفي الشهاب محمود بن عبد العزيز الحامدي الهروي وزير السلطان أرسلان، ووزير أتابكه شمس الدين إيلدكز.
وفيها توفي عون الدين الوزير ابن هبيرة، واسمه يحيى بن محمد أبو المظفر، ، ووزير الخليفة، وكان موته في جمادى الأولى ومولده سنة تسعين وأربعمائة، ودفن بالمدرسة التي بناها للحنابلة بباب البصرة، وكان حنبلي المذهب، ديناً، خيراً، عالماً، يسمع حديث النبي، صلى الله عليه وسلم، وله فيه التصانيف الحسنة؛ وكان ذا رأي سديد، ونافق على المقتفي نفاقاً عظيماً، حتى إن المقتفي كان يقول: لم يزر لبني العباس مثله؛ ولما مات قبض على أولاده وأهله.
وتوفي بهذه السنة محمد بن سعد البغدادي بالموصل، وله شعر حسن، فمن قوله:
أفدي الذي وكلني حبه ... بطول إعلال وإمراض
ولست أدري بعد ذا كله ... أساخط مولاي أم راض
وفيها توفي الشيخ الإمام أبو القاسم عمر بن عكرمة بن البرزي الشافعي، تفقه على الفقيه الكيا الهراسي، وكان واحد عصره في الفقه تأتيه الفتاوى من العراق وخراسان وسائر البلاد، وهو من جزيرة ابن عمر.
ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة

ذكر فتح المنيطرة من بلد الفرنج

في هذه السنة فتح نور الدين محمود بن زنكي حصن المنيطرة من الشام، وكان بيد الفرنج، ولم يحشد له، ولا جمع عساكره، وإنما سار إليه جريدة على غرة منهم، وعلم أنه إن جمع العساكر حذروا وجمعوا، وانتهز الفرصة وسار إلى المنيطرة وحصره، وجد في قتاله، فأخذه عنوة وقهراً، وقتل من بها وسبى، وغنم غنيمة كثيرة، فإن الذين به كانوا أمنين، فأخذتهم خيا الله بغتة وهم لا يشعرون، ولم يجتمع للفرنج لدفعه إلا وقد ملكه، ولو علوا أنه جريدةفي قلة من العساكر لأسرعوا إليه، وإنما ظنوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفرقوا وأيسوا من رده.
ذكر قتل خطلبرس مقطع واسطفي هذه السنة قتل خطلبرس مقطع واسط، قتله ابن أخي شملة صاحب خوزستان.
وسبب ذلك أن ابن سنكا، وهو ابن أخي شملة، كان قد صاهر منكوبرس مقطع البصرة، فاتفق أن المستنجد بالله قتل منكوبرس سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فلما قتل قصد ابن سنكا البصرة ونهب قراها، فأرسل من بغداد إلى كمشتكين، صاحب البصرة، بمحاربة ابن سنكا، فقال: أنا عامل لست بصاحب جيش؛ يعني أنه ضامن لا يقدر على إقامة عسكر، فطمع ابن سنكا، وأصعد إلى واسط، ونهب سوادها، فجمع خطلبرس مقطعها جمعاً وخرج إلى قتاله.
وكاتب ابن سنكا الأمراء الذين مع خطلبرس، فاستمالهم ثم قاتلهم فانهزم عسكره فقتله، وأخذ ابن سنكا علم خطلبرس فنصبه، فلما رآه أصحابه ظنوه باقياً، فجعلوا يعودون إليه، وكل من رجع أخذه ابن سنكا فقتله وأسره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة خرج الكرج في جمع كثير، وأغاروا على البلدان حتى بلغوا كنجة، فقتلوا واسروا وسبوا ونهبوا ما لا يحصى.
وفيها توفي الحسن بن العباس بن رستم أبو عبد الله الأصفهاني الرستمي، الشيخ الصالح، وهو مشهور ويروي عن أحمد بن خلف وغيره.
وفيها، في ربيع الآخر، توفي الشيخ عبد القادر بن أبي صالح أبو محمد الجيلي، المقيم ببغداد، ومولده سنة سبعين وأربعمائة، وكان من الصلاح على حالة كبيرة، وهو حنبلي المذهب، ومدرسته ورباطه مشهوران ببغداد.
ثم دخلت سنة اثنتين وستين وخمسمائة

ذكر عود أسد الدين شيركوه إلى مصر
قد ذكرناه سنة تسع وخمسين مسير أسد الدين شيركوه إلى مصر، وما كان منه، وقفوله إلى الشام، فلما وصل إلى الشام أقام على حاله في خدمة نور الدين إلى الآن.
وكان بعد عوده منها لا يزال يتحدث بها وبقصدها، وكان عنده من الحرص على ذلك كثير، فلما كان هذه السنة تجهز وسار في ربيع الآخر في جيش قوي، وسير معه نور الدين جماعة من الأمراء، فبلغت عدتهم ألفي فارس، وكان كارهاً لذلك، ولكن لما رأى جد أسد الدين في المسير لم يمكنه إلا أن يسير معه جمعاً خوفاً من حادث يتجدد عليهم فيضعف الإسلام، فلما اجتمع معه عسكره سار إلى مصر على البر، وترك بلاد الفرنج على يمينه، فوصل الديار المصرية، فقصد اطفيح، وعبر النيل عندها إلى الجانب الغربي، ونزل بالجيزة مقابل مصر، وتصرف في البلاد الغربية، وحكم عليها، وأقام نيفاً وخمسين يوماً.
وكان شاور لما بلغه مجيء أسد الدين إليهم قد أرسل إلى الفرنج يستنجدهم، فأتوه على الصعب والذلول، طمعاً في ملكها وخوفاً أن يملكها أسد الدين فلا يبقى لهم في بلادهم مقام معه ومع نور الدين، فالرجاء يقودهم، والخوف يسوقهم؛ فلما وصلوا إلى مصر عبروا إلى الجانب الغربي، وكان أسد الدين وعساكره قد ساروا إلى الصعيد، فبلغ مكاناً يعرف بالبابين، وسارت العساكر المصرية والفرنج وراءه، فأدركوه بها في الخامس والعشرين من جمادى الآخرة وكان أرسل إلى المصريين والفرنج جواسيس، فعادوا إليه وأخبروه بكثرة عددهم وعددهم، وجدهم في طلبه، فعزم على قتالهم، إلا أنه خاف من أصحابه أن تضعف نفوسهم عن الثبات في هذا المقام الخطر الذي عطبهم فيه أقرب من سلامتهم، لقلة أعدادهم وبعدهم عن أوطانهم وبلادهم، وخطر الطريق، فاستشارهم، فكلهم أشاروا عليه بعبور النيل إلى الجانب الشرقي والعود إلى الشام، وقالوا له: إن نحن انهزمنا، وهو الذي يغلب على الظن، فإلى أين نلتجئ، وبمن نحتمي، وكل من في هذه الديار من جندي وعامي وفلاح عدو لنا؟

فقام أميرمن مماليك نور الدين يقال له شرف الدين بزغش، صاحب شقيف، وكان شجاعاً، وقال: من يخاف القتل والأسر فلا يخدم الملوك بل يكون في بيته مع امرأته، والله لئن عدنا إلى نور الدين من غير غلبة ولا بلاء نعذر فيه ليأخذن مالنا من أقطاع وجامكية، وليعودن علينا بجميع ما أخذناه منذ خدمناه إلى يومنا هذا ويقول: تأخذون أموال المسلمين وتفرون عن عدوهم، وتسلمون مثل مصر إلى الكفار! والحق بيده.
فقال أسد الدين: هذا الرأي، وبه أعمل؛ وقال ابن أخيه صلاح الدين مثله، وكثر الموافقون لهم، واجتمعت الكلمة على القتال، فأقام بمكانه حتى أدركه المصريون والفرنج وهو على تعبئة، وجعل الأثقال في القلب يتكثر بها، ولأنه لم يمكنه أن يتركها بمكان آخر فينهبها أهل البلاد، وجعل صلاح الدين في القلب، وقال له ولمن معه: إن المصريين والفرنج يجعلون حملتهم على القلب ظناً منهم أني فيه، فإذا حملوا عليكم فلا تصدقوهم القتال، ولا تهلكوا نفوسكم، واندفعوا بين أيديهم فإذا عادوا عنكم فارجعوا في أعقابهم.
واختار هو من شجعان عسكره جمعاً يثق بهم ويعرف صبرهم في الحرب، ووقف بهم في الميمنة، فلما تقاتل الطائفتان فعل الفرنج ما ذكره، وحملوا على القلب، فقاتلهم من به قتالاً يسيراً، وانهزموا بين أيديهم غير متفرقين وتبعهم الفرنج، فحمل حينئذ أسد الدين فيمن معه على من تخلف عن الذين حملوا من المسلمين والفرنج الفارس والراجل، فهزمهم، ووضع السيف فيهم، فأثخن وأكثر القتل والأسر، فلما عاد الفرنج من المنهزمين رأوا عسكرهم مهزوماً، والأرض منهم قفراً، فانهزموا أيضاً، وكان هذا من أعجب ما يؤرخ أن ألفي فارس تهزم عساكر مصر وفرنج الساحل.
ذكر ملك أسد الدين الإسكندرية

وعوده إلى الشام
لما انهزم الفرنج والمصريون من أسد الدين بالبابين سار إلى ثغر الإسكندرية وجبى ما في القرى على طريقه من الأموال، ووصل إلى الإسكندرية، فتسلمها بمساعدة من ألها سلموها إليه، فاستناب بها صلاح الدين ابن أخيه وعاد إلى الصعيد فملكه وجبى أمواله وأقام به حتى صام رمضان.
وأما المصريون والفرنج فإنهم عادوا واجتمعوا على القاهرة، وأصلحوا حال عساكرهم، وجمعوا وساروا إلى الإسكندرية، فحصروا صلاح الدين بها، واشتد الحصار، وقل الطعام على من بها، فصبر أهلها على ذلك، وسار أسد الدين من الصعيد إليهم، وكان شاور قد افسد من معه من التركمان، فوصل رسل الفرنج والمصريين يطلبون الصلح، وبذلوا له خمسين ألف دينار سوى ما أخذه من البلاد، فأجابوا إلى ذلك وشرط على الفرنج أن لا يقيموا بالبلاد ولا يتملكوا منها قرية واحدة، فأجابوا إلى ذلك، واصطلحوا وعاد إلى الشام، ونسلم المصريون الإسكندرية في نصف شوال، ووصل شيركوه إلى دمشق ثامن عشر ذي القعدة.
وأما الفرنج فإنهم استقر بينهم وبين المصريين أن يكون لهم بالقاهرة شحنة، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين من إنفاذ عسكر إليهم، ويكون لهم من دخل مصر كل سنة مائة ألف دينار. هذا كله استقر مع شاور، فإن العاضد لم يكن له معه حكم لأنه قد حجر عليه وحجبه عن الأمور كلها، وعاد الفرنج إلى بلادهم بالساحل الشامي، وتركوا بمصر جماعة من مشاهير فرسانهم، وكان الكامل شجاع بن شاور قد أرسل إلى نور الدين مع بعض الأمراء ينهي محبته وولاءه، ويسأله الدخول في طاعته، وضمن على نفسه إن يفعل هذا ويجمع الكلمة بمصر على طاعته، وبذل مالاً يحمله كل سنة، فأجابه إلى ذلك، وحمل إليه مالاً جزيلاً، فبقي الأمر على ذلك إلى أن قصد الفرنج مصر سنة أربع وستين وخمسمائة، فكان ما نذكره هناك إن شاء الله تعالى.
ذكر ملك نور الدين صافيثا وعريمةفي هذه السنة جمع نور الدين العساكر، فسار إليه أخوه قطب الدين من الموصل وغيره، فاجتمعوا على حمص، فدخل نور الدين بالعساكر بلاد الفرنج، فاجتازوا حصن الأكراد، فأغاروا ونهبوا وقصدوا عرقة فنازلوها وحصروها وقصدوا حلبة وأخذوها وخربوها، وسارت عساكر المسلمين في بلادهم يميناً وشمالاً تغير وتخرب البلاد، وفتحوا العريمة وصافيثا، وعادوا إلى حمص فصاموا بها رمضان.

ثم ساروا إلى بانياس، وقصدوا حصن هونين، وهو للفرنج أيضاً، من أمنع حصونهم ومعاقلهم، فانهزم الفرنج عنه وأحرقوه، فوصل نور الدين من الغد فهدم سوره جميعه، وأراد الدخول إلى بيروت، فتجدد في العسكر خلف أوجب التفرق، فعاد قطب الدين إلى الموصل، وأعطاه نور الدين مدينة الرقة على الفرات، وكانت له، فأخذها في طريقه وعاد إلى الموصل.
؟

ذكرقصد ابن سنكا البصرة
في هذه السنة عاد ابن سنكا فقصد البصرة، ونهب بلدها وخربه من الجهة الشرقية، وسار إلى مطارا، فخرج إليه كمشتكين، صاحب البصرة، وواقعه واقتتلوا قتالاً صبر فيه الفريقان ثم انهزم كمشتكين إلى واسط فاجتمع بشرف الدين أبي جعفر بن البلدي الناظر فيها، ومعهما مقطعهما أرغش، واتصلت الأخبار بأن ابن سنكا واصل إلى واسط، فخاف الناس منه خوفاً شديداً، فلم يصل إليها.
ذكر قصد شملة العراقفي هذه السنة وصل شملة صاحب خوزستان إلى قلعة الماهكي، من أعمال بغداد، وأرسل إلى الخليفة المستنجد بالله يطلب شيئاً من البلاد، ويشتط بالطلب، فسير الخليفة إليه أكثر عساكره ليمنعوه، وأرسل إليه يوسف الدمشقي يلومه ويحذره عاقبة فعله، فاعتذر بأن إيلدكز والسلطان أرسلان شاه أقطعا الملك الذي عنده، وهو ولد ملكشاه، البصرة وواسط والحلة وعرض التوقيع بذلك، وقال: أنا أقنع بثلث ذلك؛ فعاد الدمشقي بذلك، فأمر الخليفة بلعنه، وأنه من الخوارج، وجمعت العساكر وسيرت إلى أرغش المسترشدي، وكان بالنعمانية هو وشرف الدين أبو جعفر بن البلدي، ناظر واسط، مقابل شملة.
ثم إن شملة أرسل قلج ابن أخيه في طائفة من العسكر لقتال طائفة من الأكراد، فركب أرغش في بعض العسكر الذي عنده وسار إلى قلج فحاربه، فأسر قلج وبعض أصحابه وسيرهم إلى بغداد، وبلغ شملة وطلب الصلح، فلم تقع الإجابة إليه، ثم إن ارغش سقط عن فرسه بعد الوقعة فمات وبقي شملة مقيماً مقابل عسكر الخليفة، فلما علم انه لا قدرة له عليهم رحل وعاد إلى بلاده، وكانت مدة سفره أربعة أشهر.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة عصى غازي بن حسان المنبجي على نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام، وكان نور الدين قد اقطعه مدينة منبج، فامتنع عليه فيها، فسير إليهم عسكراً فحصروه وأخذوها منه، وأقطعها نور الدين أخاه قطب الدين ينال بن حسان، وكان عادلاً، خيراً، محسناً إلى الرعية، جميل السيرة، فبقي فيها إلى أن أخذها منه صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة.
وفيها توفي فخر الدين قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق صاحب حصن كيفا واكثر ديار بكر، ولما اشتد مرضه أرسل إلى نور الدين محمود، صاحب الشام، يقول له: بيننا صحبة في جهاد الكفار أريد أن ترعى بها ولدي؛ ثم توفي، وملك بعده ولده نور الدين محمد، فقام نور الدين الشامي بنصرته والذب عنه، بحيث أن أخاه قطب الدين مودوداً، صاحب الموصل أراد قصد بلاده، فأرسل إليه أخوه نور الدين يمنعه، ويقول له: إن قصدته او تعرضت إلى بلاده منعتك قهراً؛ فامتنع من قصده.
وفيها توفي أبو المعالي محمد بن الحسين بن حمدون الكاتب ببغداد، وكان على ديوان الزمام، فقبض عليه فمات محبوساً.
وفيها توفي قماج المسترشدي ولد الأمير يزدن، وهو من أكابر الأمراء ببغداد.
ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة
ذكر فراق زين الدين الموصل
وتحكم قطب الدين في البلاد
في هذه السنة فارق زين الدين علي بن بكتكين، النائب عن قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، خدمة صاحبه الموصل، وسار إلى إربل، وكان هو الحاكم بالدولة، وأكثر البلاد بيده، منها إربل، وفيها بيته واولاده وخزائنه، ومنها شهرزور وجميع القلاع التي معها، وجميع بلد الهكارية وقلاعه، ومنها العمادية وغيرها، وبلد الحميديه، وتكريت وسنجار وحران، وقلعة الموصل هو بها، وكان قد أصابه طرش وعمى ايضاً، فلما عزم على مفارقة الموصل إلى بيته بإربل سلم جميع ما كان بيده من البلاد إلى قطب الدين مودود، وبقي معه إربل حسب.
وكان شجاعاً، عادلاً، حسن السيرة، سليم القلب، ميمون النقيبة، لم ينهزم في حرب قط، وكان

كريماً كثير العطاء للجند وغيرهم، مدحه الحيص بيص بقصيدة، فلما أراد أن ينشده قال: أنا لا أعرف ما يقول، ولكني أعلم أنه يريد شيئاً؛ فأمر له بخمسمائة دينار وفرس وخلعة وثياب مجموع ذلك ألف دينار، ولم يزل بإربل إلى أن مات بها بهذه السنة.ولما فارق زين الدين قلعة الموصل سلمها قطب الدين إلى فخر الدين عبد المسيح، وحكمه في البلاد، فعمر القلعة، وكانت خراباً لأن زين الدين كان قليل الالتفات إلى العمارة، وسار عبد المسيح سيرة سديدة وسياسة عظيمة، وهو خصي أبيض من مماليك زنكي أتابك عماد الدين.
ذكر الحرب بين البهلوان وصاحب مراغةفي هذه السنة أرسل آقسنقر الأحمديلي، صاحب مراغة، إلى بغداد يسأل أن يخطب للملك الذي هو عنده، وهو ولد السلطان محمد شاه، ويبذل أنه لا يطأ أرض العراق، ولا يطلب شيئاً غير ذلك، وبذل مالاً يحمله إذا أجيب إلى ما التمسه، فأجيب بتطييب قلبه.
وبلغ الخبر إيلدكز صاحب البلاد، فساءه ذلك، وجهز عسكراً كثيفاً، وجعل المقدم عليهم ابنه البهلوان، وسيرهم إلى آقسنقر، فوقعت بينهم حرب أجلت عن هزيمة آقسنقر وتحصنه بمراغة.
ونازله البهلوان بها وحصره وضيق عليه. ثم ترددت الرسل بينهم، فاصطلحوا، وعاد البهلوان إلى أبيه بهمذان.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة استوزر الخليفة المستنجد بالله شرف الدين أبا جعفر أحمد بن محمد بن سعيد المعروف بابن البلدي، وكان ناظراً بواسط أبان في ولايتها عن كفاية عظيمة، فأحضره الخليفة واستوزره، وكان عضد الدين أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء قد تحكم تحكماً عظيماً، فتقدم الخليفة إلى ابن البلدي بكف يده وأيدي أهله وأصحابه، ففعل ذلك ووكل بتاج الدين أخي أستاذ الدار، وطالبه بحساب نهر الملك، لأنه كان يتولاه من أيام المقتفي، وكذلك فعل بغيره، فحصل بذلك أموالاً جمة، وخافه أستاذ الدار على نفسه، فحمل مالاً كثيراً.
وفي هذه السنة توفي عبد الكريم بن محمد بن منصور أبو سعيد بن أبو بكر ابن أبي المظفر السمعاني المروزي، الفقيه الشافعي وكان مكثراً من سماع الحديث سافر في طلبه وسمع منه ما لم يسمعه غيره، ورحل إلى ما وراء النهر وخراسان دفعات، ودخل إلى بلاد البل وأصفهان والعراق والموصل والجزيرة والشام وغير ذلك من البلاد، وله التصانيف المشهورة منها: ذيل تاريخ بغداد وتاريخ مدينة مرو، وكتاب النسب، وغير ذلك، أحسن فيها ما شاء، وقد جمع مشيخته فزادت عدتهم على أربعة آلاف شيخ، وقد ذكره أبو الفرج بن الجوزي فقطعه.
فمن جملة قوله فيه أنه كان يأخذ الشيخ ببغداد ويعبر به إلى فوق نهر عيسى فيقول: حدثني فلان بما وراء النهر، وهذا بارد جداً فإن الرجل سافر إلى ما وراء النهر حقاً، وسمع في عامة بلاده من عامة شيوخه، فأي حاجة به إلى هذا التلبيس البارد؟ وإنما ذنبه عند ابن الجوزي انه شافعي، وله أسوة بغيره، فإن ابن الجوزي لم يبق على أحد إلا مكسري الحنابلة.
وفيها توفي قاضي القضاة أبو البركات جعفر بن عبد الواحد الثقفي في جمادى الآخرة.
وفيها توفي يوسف الدمشقي مدرس النظامية بخوزستان، وكان قد سار رسولاً إلى شملة.
وفيها توفي الشيخ أبو النجيب الشهرزوري الصوفي الفقيه، وكان من الصالحين المشهورين، ودفن في بغداد.
ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

ذكر ملك نور الدين قلعة جعبر
في هذه السنة ملك نور الدين محمود بن زنكي قلعة جعبر، أخذها من صاحبها شهاب الدين مللك بن علي بن مالك العقيلي، وكانت بيده ويد آبائه من قبله من أيام السلطان ملك شاه، وقد تقدم ذكر ذلك، وهي من أمنع القلاع وأحصنها مطلة على الفرات من الجانب الشرقي.

وأما سبب ملكها فإن صاحبها نزل منها يتصيد، فأخذوه بنو كلاب وحملوه إلى نور الدين في رجب سنة ثلاث وستين، فاعتقله وأحسن إليه، ورغبه في المال والإقطاع ليسلم إليه القلعة، فلم يفعل، فعدل إلى الشدة والعنف، وتهدده، فلم يفعل، فسير إليها نور الدين عسكراً مقدمه الأمير فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني، فحصرها مدة، فلم يظفر منها بشيء، فأمدهم بعسكر آخر، وجعل على الجميع الأمير مجد الدين أبا بكر المعروف بابن الداية، وهو رضيع نور الدين ، وأكبر أمرائه، فحصرها أيضاً فلم ير له فيها مطمعاً، فسلك مع صاحبها طريق اللين، وأشار عليه أن يأخذ من نور الدين العوض ولا يخاطر في حفظها بنفسه، فقبل قوله وسلمها، فاخذ عوضاً عنها سروج وأعمالها والملاحة التي بين حلب وباب بزاعة، وعشرين ألف دينار معجلة، وهذا إقطاع عظيم جداً، إلا أنه لا حصن فيه.
وهذا آخر أمر بني مالك بالقلعة ولكل أمر أمد ولكل ولاية نهاية. بلغني أنه قيل لصاحبها: أيما أحب إليك وأحسن مقاماً، سروج الشام أم القلعة؟ هذه أكثر مالاً وأما العز ففارقناه بالقلعة.
ذكر ملك أسد الدين مصر وقتل شاورفي هذه السنة، في ربيع الأول، سار أسد الدين شيركوه بن شاذي إلى ديار مصر، فملكها ومعه العساكر النورية.
وسبب ذلك من مكن الفرنج من البلاد المصرية، وأنهم جعلوا لهم في القاهرة شحنة وتسلموا أبوابها، وجعلوا لهم فيها جماعة من شجعانهم واعيان فرسانهم، وحكموا المسلمين حكماً جائراً، وركبوهم بالأذى العظيم، فلما رأوا ذلك، وأن البلاد ليس فيها من يردهم، أرسلوا إلى ملك الفرنج ، بالشام، وهو مري ولم يكن للفرنج مذ ظهر مثله شجاعة ومكراً ودهاء، يستدعونه ليملكها، وأعلموه خلوها من ممانع، وهونوا أمرها عليه، فلم يجبهم إلى ذلك، فاجتمع إليه فرسان الفرنج وذوو الرأي منهم، وأشاروا عليه بقصدها وتملكها، فقال لهم: الرأي عندي أننا لا نقصدها، فإنها طعمة لنا، وأموالها تساق إلينا، نتقوى بها على نور الدين، وإن نحن قصدناها لنتملكها فإن صاحبها وعساكره، وعامة بلاده وفلاحيها، لا يسلمونها إلينا، ويقاتلوننا دونها، ويحملهم الخوف منا إلى تسليمها إلى نور الدين، ولئن أخذها وصار له فيها مثل أسد الدين، فهو هلاك الفرنج وإجلائهم من أرض الشام؛ فلم يقبلوا قوله، وقالوا له: لا مانع فيها ولا حامي، وغلى أن يتجهز عسكر نور الدين، ويسير إليها، نكون نحن قد ملكناها، وفرغنا من أمرها، وحينئذ يتمنى نور الدين منا السلامة.
فسار معهم على كره وشرعوا يتجهزون ويظهرون أنهم يريدون قصد مدينة حمص، فلما سمع نور الدين شرع أيضاً يجمع عساكره، وأمرهم بالقدوم عليه، وجد الفرنج في السير إلى مصر، فقدموها ، ونازلوا مدينة بلبيس، وملكوها قهراً مستهل صفر، ونهبوها وقتلوا فيها وأسروا وسبوا.
وكان جماعة من أعيان المصريين قد كاتبوا الفرنج، ووعدوهم النصرة عداوة منهم لشاور، منهم ابن الخياط، وابن فرجلة، فقوي جنان الفرنج، وساروا من بلبيس إلى مصر ، فنزلوا على القاهرة عاشر صفر وحصروها، فخاف الناس منهم أن يفعلوا بهم كما فعلوا بأهل بلبيس، فحملهم الخوف منهم على الامتناع، فحفظوا البلد، وقاتلوا دونه وبذلوا جهدهم في حفظه، فلو أن الفرنج أحسنوا السيرة في بلبيس لملكوا مصر والقاهرة، ولكن الله تعالى حسن لهم ما فعلوا ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
وأمر شاور بإحراق مدينة مصر تاسع صفر، وأمر أهلها بالانتقال منها إلى القاهرة، وأن ينهب البلد، فانتقلوا، وبقوا على الطرق، ونهبت المدينة وافتقر أهلها، وذهبت أموالهم ونعمتهم قبل نزول الفرنج عليهم بيوم، خوفاً أن يملكها الفرنج، فبقيت النار تحرقها أربعة وخمسين يوماً.
وأرسل الخليفة العاضد إلى نور الدين يستغيث به، ويعرفه ضعف المسلمين عن دفع الفرنج، وأرسل في الكتب شعور النساء وقال: هذه شعور نسائي من قصري يستغثن بك لتنقذهن من الفرنج؛ فشرع في تسيير الجيوش.

وأما الفرنج فإنهم اشتدوا في حصار القاهرة وضيقوا على أهلها، وشاور هو المتولي للأمر والعساكر والقتال، فضاق به الأمر، وضعف عن ردهم فأخلد إلى أعمال الحيلة، فأرسل إلى ملك الفرنج يذكر له مودته ومحبته القديمة له، وان هواه معه لخوفه من نور الدين والعاضد، وإنما المسلمون لا يوافقونه على التسليم إليه، ويشير بالصلح، وأخذ مال لئلا يتسلم نور الدين، فأجابه إلى ذلك على أن يعطوه ألف ألف دينار مصرية، يعجل البعض، ويمهل البعض فاستقرت القاعدة على ذلك.
ورأى الفرنج أن البلاد قد امتنعت عليهم وربما سلمت إلى نور الدين، فأجابوا كارهين، وقالوا: نأخذ المال فنتقوى به، ونعاود البلاد بقوة لا نبالي معها بنور الدين (ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين) آل عمران) فعجل لهم شاور مائة ألف ألف دينار، وسألهم الرحيل عنه ليجمع لهم المال، فرحلوا قريباً، وجعل شاور يجمع لهم المال من أهل القاهرة ومصر، فلم يتحصل له إلا قدر لا يبلغ خمسة آلاف دينار، وسببه أن أهل مصر كانوا قد احترقت دورهم وما، وما سلم نهب، وهم لا يقدرون على الأقوات فضلاً عن الأقساط.
وأما القاهرة فالأغلب على أهلها الجند وغلمانهم، فلهذا تعذرت عليهم الأموال، وهم في خلال هذا يراسلون نور الدين بما الناس فيه، وبذلوا له ثلث بلاد مصر، وأن يكون أسد الدين مقيماً عندهم في عسكر، وأقطاعهم في الديار المصرية أيضاً خارجاً عن الثلث الذي لهم.
وكان نور الدين لما وصله كتب العاضد بحلب أرسل إلى أسد الدين يستدعيه إليه، فخرج القاصد في طلبه، فلقيه على باب حلب، وقد قدمها من حمص وكان إقطاعه، وكان سبب وصوله ان كتب المصريين وصلته أيضاً في المعنى، فسار أيضاً إلى نور الدين، واجتمع به، وعجب نور الدين من حضوره في الحال، وسره ذلك، وتفاءل به، وأمر بالتجهيز إلى مصر، وأعطاه مائتي ألف دينار سوى الثياب والدواب والأسلحة وغير ذلك، وحكمه في العسكر والخزائن، واختار من العسكر ألفي فارس، وأخذ المال، وجمع ستة آلاف فارس، وسار هو ونور الدين إلى دمشق، فوصلها سلخ صفر، ورحل إلى رأس الماء، وأعطى نور الدين كل فارس ممن مع أسد الدين عشرين ديناراً معونة غير محسوبة من جامكيته، وأضاف إلى أسد الدين جماعة أخرى من الأمراء منهم: مملوكه عز الدين جورديك، وعز الدين قلج، وشرف الدين بزغش، وعين الدولة الياروقي، وقطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وصلاح الدين يوسف بن أيوب، أخي شيركوه، على كره منه، (عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ((البقرة) أحب نور الدين مسير صلاح الدين، وفيه ذهاب بيته؛ وكره صلاح الدين المسير، وفيه سعادته وملكه، وسيد ذلك عند موت شيركوه، إن شاء الله تعالى.
وسار أسد الدين شيركوه من رأس الماء مجداً منتصف ربيع الأول، فلما قارب مصر رحل الفرنج عنها عائدين إلى بلادهم بخفي حنين خائبين مما أملوا، وسمع نور الدين بعودهم، فسره ذلك، وأمر بضرب البشائر في البلاد، وبث رسله في الآفاق مبشرين بذلك، فإنه كان فتحاً جديداً لمصر وحفظاً لسائر بلاد الشام وغيرها.
فأما أسد الدين فإنه وصل إلى القاهرة سابع جمادى الآخرة، ودخل إليها، واجتمع بالعاضد لدين الله، وخلع عليه وعاد إلى خيامه بالعاضدية، وفرح به أهل مصر، وأجريت عليه وعلى عسكره الجرايات الكثيرة، والإقامات الوافرة، ولم يمكن شاور المنع عن ذلك لأنه رأى العساكر كثيرة مع شيركوه وهوى العاضد معهم، فلم يتجاسر على إظهار ما في نفسه، وشرع يماطل أسد الدين في تقرير ما كان بذل لنور الدين من المال، وإقطاع الجند، وإفراد ثلث البلاد لنور الدين، وهو يركب كل يوم إلى أسد الدين ويسير معه ويعده ويمنيه (وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ) ثم إنه عزم على أن يعمل دعوة يدعو إليها أسد الدين والأمراء الذين معه ويقبض عليهم، ويستخدم من معهم من الجند فيمنع بهم البلاد من الفرنج، فنهاه ابنه الكامل، وقال له: والله لئن عزمت على هذا لأعرفن شيركوه. فقال له أبوه: والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعاً. فقال: صدقت ولئن نقتل ونحن مسلمون والبلاد إسلامية، خير من أن نقتل وقد ملكها الفرنج، فإنه ليس بينك وبين عود الفرنج إلا أن يسمعوا بالقبض على شيركوه، وحينئذ لو مشى العاضد إلى نور الدين لم يرسل معه فارساً واحداً ويملكون البلاد؛ فترك ما كان عزم عليه.

ولما رأى العسكر النوري مطل شاور خافوا شره، فاتفق صلاح الدين يوسف بن أيوب وعز الدين جورديك وغيرهما على قتل شاور، فاعلموا أسد الدين فنهاهم عنه، فسكتوا وهم على ذلك العزم من قتله، فاتفق أن شاور قصد عسكر أسد الدين على عادته، فلم يجده في الخيام، وكان قد مضى يزور قبر الإمام الشافعي رضي الله عنه، فلقيه صلاح الدين يوسف وجورديك في جمع من العسكر، وخدموه، واعلموه بأن شيركوه في زيارة قبر الإمام الشافعي، فقال: نمضي إليه، فساروا جميعاً، فسايره صلاح الدين وجورديك وألقياه عن فرسه إلى الأرض، فهرب أصحابه عنه، فاخذ أسيراً، فلم يمكنهم قتله بغير أسد الدين، فتوكلوا بحفظه، وسيروا فأعلوا أسد الدين الحال، فحضر، ولم يمكنه إلا إتمام ما عملوه، وسمع الخليفة العاضد صاحب مصر الخبر، فأرسل إلى أسد الدين يطلب منه إنفاذ رأس شاور، وتابع الرسل بذلك، فقتل وأرسل رأسه إلى العاضد في السابع عشر من ربيع الآخر.
ودخل أسد الدين القاهرة، فرأى من اجتماع الخلق فخافهم على نفسه، فقال لهم: أمير المؤمنين، يعني العاضد، يأمركم بنهب دار شاور؛ فتفرق الناس عنه إليها فنهبوها، وقصد هو قصر العاضد، فخلع عليه خلع الوزارة، ولقب املك المنصور أمير الجيوش، وسار بالخلع إلى دار الوزارة، وهي التي كان فيها شاور، فلم ير فيها ما يقعد عليه، واستقر في الأمر، وغلب عليه، ولم يبق له مانع ولا منازع، واستعمل على الأعمال من يثق به من أصحابه واقطع البلاد لعساكره.
وأما الكامل بن شاور فإنه لما قتل أبوه دخل القصر هو وأخوته معتصمين به، فكان آخر العهد بهم، فكان شيركوه يتأسف عليه كيف عدم لأنه بلغه ما كان منه مع أبيه في منعه من قتل شيركوه، وكان يقول: وددت أنه بقي لأحسن إليه جزاء الصنيعة.
ذكر وفاة أسد الدين شيركوهلما ثبت قدم أسد الدين، وظن أنه لم يبق له منازع، أتاه أجله (حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة (، فتوفي يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وستين وخمسمائة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام.
وأما ابتداء أمره واتصاله بنور الدين، فإنه كان هو وأخوه نجم الدين أيوب ابنا الشاذي من بلد دوين، وأصلهما من الأكراد الروادية، وهذا النسل هم أشرف الأكراد، فقدما العراق، وخدما مجاهد الدين بهروز شحنة بغداد، فرأى من نجم الدين عقلاً ورأياً وافراً وحسن سيرة، وكان أكبر من شيركوه، فجعله مستحفظاً لقلعة تكريت، وهي له، فسار إإليها ومعه أخوه شيركوه، فلما انهزم أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر بالعراق من قراجة الساقي على ما ذكرناه سنة ست وعشرين وخمسمائة، وصل منهزماً إلى تكريت، فخدمه نجم الدين، وأقام له السفن فعبر دجلة هناك، وتبعه أصحابه، فأحسن أيوب صحبتهم وسيرهم.ثم إن شيركوه قتل إنساناً بتكريت لملاحة جرت بينهما، فأخرجهما بهروز من القلعة، فسارا إلى الشهيد زنكي، فأحسن إليهما، وعرف لهما خدمتهما، وأقطعهما إقطاعاً حسناً، فلما ملك قلعة بعلبك جعل أيوب مستحفظاً عليها؛ فلما قتل الشهيد حصر عسكر دمشق بعلبك وهو بها، فضاق عليه المر، وكان سيف الدين غازي بن زنكي مشغولاً عنه بإصلاح البلاد، فاضطر إلى تسليمها إليهم، فسلمها على إقطاع ذكره، فأجيب إلى ذلك، وصار من اكبر الأمراء بدمشق.
واتصل أخوه أسد الدين شيركوه بنور الدين محمود بعد قتل زنكي، وكان يخمه في أيام والدهن فقربه وقدمه، ورأى منه شجاعة يعجز عنها غيره، فزاده حتى صار له حمص والرحبة وغيرهما، وجعله مقدم عسكره، فلما أراد نور الدين ملك دمشق أمره فراسل أخاه أيوب وهو بها، وطاب منه المساعدة على فتحها، فأجاب إلى ما يراد منه على إقطاع ذكره له ولأخيه، وقرى يتملكانها، فأعطاهما ما طلبا، وفتح دمشق على ما ذكرناه، ووفى لهما، وصارا أعظم أمراء دولته. فلما أراد أن يرسل العساكر إلى مصر، لم ير لهذا الأمر العظيم والمقام الخطير غيره، فأرسله، ففعل ما ذكرناه.
ذكر ملك صلاح الدين مصرلما توفي أسد الدين شيركوه كان معه صلاح الدين ابن أخيه أيوب ابن شاذي قد سار معه على كره منه للمسير.

حكى لي عنه بعض أصدقائنا ممن كان قريباً إليه خصيصاً به قال: لما وردت كتب العاضد على نور الدين يستغيث به من الفرنج، ويطلب إرسال العساكر، أحضرني وأعلمني الحال، وقال: تمضي إلى عمك أسد الدين بحمص مع رسولي إليه ليحضر، وتحثه أنت على الإسراع، فما يحتمل الأمر التأخير؛ ففعلت وخرجنا من حلب، فما كنا على ميل من حلب حتى لقيناه قادماً في هذا المعنى، فأمره نور الدين بالمسير، فلما قال له نور الدين ذلك التفت عمي إلي فقال لي: تجهز يا يوسف! فقلت: والله لو أعطيت ملك مصر ما سرت إليها، فلقد قاسيت بالإسكندرية ما لا أنساه أبداً. فقال لنور الدين: لا بد من مسيره معي فتأمر به، فأمرني نور الدين، وأنا أستقيل، وانقضى المجلس. وتجهز أسد الدين، ولم يبق غير المسير؛ قال لي نور الدين: لا بد من مسيرك مع عمك؛ فشكوت إليه الضائقة وعدم البرك، فأعطاني ما تجهزت به فكأنما أساق إلى الموت، فسرت معه وملكها، ثم توفي فملكني الله ما لم اكن أطمع في بعضه.
وأما كيفية ولايته، فإن جماعة من الأمراء النورية الذين كانوا بمصر طلبوا التقدم على العساكر، وولاية الوزارة العاضدية بعده، منهم عين الدولة الياروقي، وقطب الدين، وسيف الدين المشطوب الهكاري، وشهاب الدين محمود الحارمي، وهو خال صلاح الدين، وكل واحد من هؤلاء يخطبها، وقد جمع أصحابه ليغال عليها، فأرسل العاضد إلى صلاح الدين فأحضره عنده، وخلع عليه، وولاه الوزارة بعد عمه.
وكان الذي حمله على ذلك أن أصحابه قالوا: ليس في الجماعة أضعف ولا أصغر سناً من يوسف، والرأي أن يولى، فإنه لا يخرج من تحت حكمنا، ثم نضع على العساكر من يستميلهم إلينا، فيصير عندنا من الجنود من نمنع بهم البلاد، ثم نأخذ يوسف أو نخرجه.
فلما خلع عليه لقب الناصر لم يطعه أحد من أولئك الأمراء الذين يريدون الأمر لأنفسهم، ولا خدموه. وكان الفقيه عيسى الهكاري معه، فسعى مع المشطوب حتى أماله إليه، وقال له: إن هذا الأمرلا يصل إليك مع عين الدولة والحارمي وغيرهما؛ ثم قصد الحارمي وقال: هذا صلاح الدين هو ابن أختك وعزه وملكه لك، وقد استقام له الأمر فلا تكن أول من يسعى في إخراجه عنه ولا يصل إليك؛ فمال إليه أيضاً، ثم فعل مثل هذا بالباقين، وكلهم أطاع غير عين الدولة الياروقي فإنه قال: أنا لا أخدم يوسف؛ وعاد إلى نور الدين بالشام ومعه غيره من الأمراء، وثبت قدم صلاح الدين، ومع هذا فهو نائب عن نور الدين.
وكان نور الدين يكاتبه بالأمير الأسفهسلار، ويكتب علامته على رأس الكتاب تعظيماً عن أن يكتب اسمه، وكان لا يفرده بكتاب بل يكتب الأمير الأسفهسلار صلاح الدين وجميع الأمراء بالديار والمصرية يفعلون كذا.
واستمال صلاح الدين قلوب الناس، وبذل الأموال، فمالوا إليه وأحبوه وضعف أمر العاضد، ثم أرسل صلاح الدين يطلب من نور الدين أن يرسل إليه أخوته وأهله، فأرسلهم إليه، وشرع عليهم طاعته والقيام بأمره ومساعدته، وكلهم فعل ذلك، وأخذت إقطاعات الأمراء المصريين فأعطاها أهله والأمراء الذين معه، وزادهم، فازدادوا له حباً وطاعة.
قد اعتبرت التواريخ، فرأيت كثيراً من التواريخ الإسلامية التي يمكن ضبطها، ورأيت كثيرأ ممن يبتدئ الملك تنتقل الدولة عن صلبه إلى بعض أهله وأقاربه، منهم أول الإسلام: معاوية بن أبي سفيان، أول من ملك من أهل بيته، فنقل الملك عن أعقابه إلى بني مروان من بني عمه؛ ثم السامانية أول من استبد منهم نصر بن أحمد، فانتقل الملك عنه إلى أخيه إسماعيل بن أحمد وأعقابه؛ ثم يعقوب الصفار، وهو أول من ملك من أهل بيته، فانتقل الملك إلى أخيه عمرو وأعقابه؛ ثم عماد الدولة بنبويه أول من ملك من أهله انتقل الملك عنه إلى أخويه ركن الدولة وعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة، ومعز الدولة؛ ثم خلص في أعقاب ركن الدولة؛ ثم الدولة السلجوقية أول من ملك منهم طغرل بك انتقل الملك إلى أولاد أخيه، داود؛ ثم شيركوه هذا كما ذكرناه انتقل الملك إلى أعقاب أخيه أيوب؛ ثم إن صلاح الدين لما أنشأ الدولة وعظمها، وصار كأنه أول لها، نقل الملك إلى أعقاب أخيه العادل ولم يبق بيد أعقابه غير حلب.

وهذه اعظم الدول الإسلامية، ولولا خوف التطويل لذكرنا أكثر من هذا، والذي أظنه السبب في ذلك أن الذي يكون أول دولة يكثر ويأخذ الملك وقلوب من كان فيه متعلقة به فلهذا يحرمه الله أعقابه ومن يفعل ذلك من أجلهم عقوبة له.
ذكر وقعة السودان بمصرفي هذه السنة في أوائل ذي القعدة قتل مؤتمن الخلافة، وهو خصي كان بقصر العاضد، إليه الحكم فيه، والتقدم على جميع من يحويه، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفرنج واستدعائهم إلى البلاد، والتقوي بهم على صلاح الدين ومن معه، وسيروا الكتب مع إنسان يثقون به، وأقاموا ينتظرون جوابه، وسار ذلك القاصد إلى البئر البيضاء، فلقيه إنسان تركماني، فرأى معه نعلين جديدين، فأخذهما منه وقال في نفسه: لو كانا مما يلبسه هذا الرجل لكانا خلقين، فإنه رث الهيئة، وارتاب به وبهما، فأتي بهما صلاح الدين ففتقهما، فرأى الكتاب فيهما، فقرأه وسكت عليه.
وكان مقصود مؤتمن الخلافة ان يتحرك الفرنج إلى الديار المصرية، فإذا وصلوا إليها خرج صلاح الدين في العساكر إلى قتالهم، فيثور مؤتمن الخلافة بمن معه من المصريين على مخلفيهم فيقتلونهم، ثم يخرجون بأجمعهم يتبعون صلاح الدين، فيأتونه من وراء ظهره، والفرنج من بين يديه، فلا يبق لهم باقية.فلما قرأ الكتاب سأل عن كاتبه فقيل: رجل يهودي، فأحضر، فأمر بضربه تقريره، فابتدأ وأسلم وأخبره الخبر، وأخفى صلاح الدين الحال.
واستشعر مؤتمن الخلافة فلازم القصر ولم يخرج منه خوفاً، وإذا خرج لم يبعد صلاح الدين لا يظهر له شيئاً من الطلب، لئلا ينكر الحال ذلك، فلما طال الأمر خرج من القصر إلى قرية له تعرف بالحرقانية للتنزه، فلما علم به صلاح الدين أرسل إليه جماعة، فأخذوه وقتلوه وأتوه برأسه، وعزل جميع الخدم الذين يتولون أمر الخلافة واستعمل على الجميع بهاء الدين قراقوش، وهو خصي أبيض، وكان لا يجري في القصر صغير ولا كبير إلا بأمره وحكمه، فغضب السودان الذين بمصر لقتل مؤتمن الخلافة حمية، ولنه كان يتعصب لهم، فحشدوا وأجمعوا، فزادت عدتهم على خمسين ألفاً، وقصدوا حرب الأجناد الصلاحية، فاجتمع العسكر أيضاً وقاتلوهم بين القصرين.
وكثر القتل في الفريقين، فأرسل صلاح الدين إلى محلتهم المعروفة بالمنصورة، فأحرقها على أموالهم وأولادهم وحرمهم، فلما أتاهم الخبر بذلك ولوا منهزمين، فركبهم السيف، وأخذت عليهم أفواه السكك فطلبوا الأمان بعد أن كثر فيهم القتل، فاجيبوا إلى ذلك، فأخرجوا من مصر إلى الجيزة، فعبر إليهم وزير الدولة توارنشاه أخو صلاح الدين الأكبر في طائفة من العسكر، فأبادهم بالسيف، ولم يبق منهم إلا القليل الشريد، وكفى الله تعالى شرهم، والله أعلم.
ذكر ملك شملة فارس وإخراجه عنهافي هذه السنة ملك شملة صاحب خوزستان بلاد فارس، وأخرج عنها، وسبب ذلك أن زنكي بن دكلا صاحبها أساء السيرة مع عسكره فأرسلوا إلى شملة بخوزستان وحسنوا له قصد فارس، فجمع عساكره وتجهز وسار إليها، فخرج إليه زنكي بن دكلا، ووقعت بينهم حرب خامر فيها أصحاب زنكي عليه، فانهزم في شرزمة من عسكره، ونجا بنفسه، وقصد الأكراد الشوانكار والتجأ إليهم، فاجاره صاحبها، وأحسن ضيافته.
ونزل شملة ببلاد فارس فملكها، فأساء السيرة إلى أهلها، ونهب ابن أخيه ابن سنكا البلاد فتغيرت بواطن أهلها عليه، واجتمع إلى زنكي بعض العسكر الذين خامروا عليه، ولما رأوا من سوء سيرة شملة فيهم، فكثر جمعه مع الأكراد الشوانكار ونزل بهم إلى البلاد وكاتب عسكره ووعدهم الإحسان فأقبلوا إليه فقصد شملة واستعاد زنكي بلاده ورجع إلى ملكه وعاد شملة إلى بلاده خوزستان.
ذكر ملك إيلدكز الريفي هذه السنة ملك إيلدكز مدينة الري والبلاد التي كانت بيد إينانج.

وسبب ذلك أن إيلدكز كان قد استقر الأمر بينه وبين إينانج على مال يؤديه إلى إيلدكز، فمنعه سنتين، فأرسل إيلدكز يطلب المال فاعتذر بكثرة حاشيته وغلمانه، فتجهز إيلدكز وطلب الري، فالتقاه إينانج وحاربه حرباً عظيمة، فانهزم إينانج ومضى منهزماً، فتحصن بقلعة طبرق، فحصره إيلدكز فيها وأرسل سراً جماعة من مماليكه، فأطمعهم في الإقطاعات والأموال والإحسان العظيم ليقتلوا إينانج، فقتلوه، وكانوا جماعة كثيرة، وسلموا البلد إلى إيلدكز، فرتب فيه عمر بن علي ياغ، وعاد إلى همذان، ولم يف للغلمان الذين قتلوا إينانج وسلموا البلد إليه بما وعدهم وقال: مثل هؤلاء ينبغي أن لا يستخدم؛ وأبعدهم عنه، فتفرقوا في البلاد، فسار بعضهم، وهو الذي تولى قتله، إلى خوارزم شاه، فصلبه خوارزم شاه نكالاً بما فعل بصاحبه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة رؤي في دار الخليفة المستنجد بالله رجل غريب في الطريق الذي يركب فيه وفي زنده سكين صغيرة، وفي يده سكين أخرى كبيرة، فأخذوه وقرروه ، فقال: أنا من حلب. فحبس وعوقب البواب، ولم يعلم من أين دخل.
وفيها قبض ابن البلدي وزير الخليفة على الحسين بن محمد المعروف بابن السيبي، وعلى أخيه الأصغر، وكانا ابني عمة عضد الدين أستاذ الدار، وكان الأصغر عامل البيمارستان، فقطعت يده ورجله، قيل كان عنده صنج زائدة يقبض بها وتحمل إلى الديوان بالصنج الصحيحة؛ وقيل غير ذلك، وحمل إلى البيمارستان فمات فيه. وكان شاعراً، فمن شعره وهو في الحبس هذه الأبيات:
سلام على أهلي وصحبي وجلاسي ... ومن في فؤادي ذكرهم راسب راسي
أعالج فيكم كل هم ولا أرى ... لداء همومي غير رؤيتكم آسي
لقد أبدت الأيام لي كل شدة ... تشيب لها الأكباد فضلاً عن الراسي
فيا ابنة عبد الله صبراً على الذي ... لقيت فهذا الحكم من مالك الناس
فلو أبصرت عيناك ذلي بكيت لي ... بدمع سوي بالمدامع رجاس
أقول لقلبي والهموم تنوشه ... وقد حدثته النفس بالضر والياس
فلو هم طيف من خيال يزوركم ... لمانعه دون المغالق حراس
وما حذري إلا على النفس لا على ... سواها لأني حلف فقر وإفلاس
وفيها توفي المعمر ابن عبد الواحد بن رجار أبو أحمد الأصفهاني الحافظ، يروي عن أصحاب أبي نعيم، وكان موته بالبداية ذاهباً إلى الحج في ذي القعدة.
وفي رجب منها توفي الشيخ ابو محمد الفارقي المتكلم على الناس، وكان أحد الزهاد، له كرامات كثيرة، وكان يتكلم على الخاطر، وكلامه مجموع مشهور.
وفيها مات جعيفر الرقاث من ندماء دار الخلافة.
وفي شوال منها توفي القاضي أبو الحسن علي بن محمد بن يحيى القريشي الدمشقي.
وفي ذي الحجة توفي نجم الدين بن محمد بن علي بن القاسم الشهرزوري قاضي الموصل، وولي ابنه حجة الدين عبد القاهر القضاء .
ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

ذكر حصر الفرنج دمياط
في هذه السنة، في صفر، نزل الفرنج على مدينة دمياط من الديار المصرية وحصروها، وكان الفرنج بالشام ، لما ملك أسد الدين شيركوه مصر، قد خافوه ، وأيقنوا بالهلاك، وكاتبوا الفرنج الذين بصقلية والأندلس وغيرهما يستمدونهم ويعرفونهم ما تجدد من ملك الأتراك مصر، وأنهم خائفون على البيت المقدس منهم، فأدخلوا جماعة من القسوس والرهبان يحرضونهم على الحركة، فأمدوهم بالأموال والرجال والسلاح، واتعدوا للنزول على دمياط ظناً منهم أنهم يملكونها، ويتخذونها ظهراً يملكون به الديار المصرية (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً (فإلى أن دخلوا كان أسد الدين قد مات وملك صلاح الدين، فاجتمعوا عليها وحصروها، وضيقوا على من بها .
فأرسل إليها صلاح الدين العساكر في النيل وحشر فيها كل من عنده، وأمدهم بالأموال والسلاح والذخائر، وأرسل إلى نور الدين يشكو ما هم فيه من المخافة، ويقول: إني إن تأخرت عن دمياط ملكها الفرنج، وإن سرت إليها خلفني المصريون في أهلها وأموالها بالشر، وخرجوا عن طاعتي، وساروا في أثري، والفرنج من أمامي، فلا يبقى لنا باقية.

فسير نور الدين العساكر إليه أرسالاً يتلو بعضها بعضاً، ثم سار هو بنفسه إلى بلاد الفرنج الشامية، ونهبها ، وأغار عليها واستباحها، فوصلت الغارات إلى ما لم تكن تبلغه قبل، لخل البلاد من مانع.
فلما رأى الفرنج تتابع العساكر إلى مصر، ودخول نور الدين إلى بلادهم ونهبها وتخريبها، رجعوا خائبين لم يظفروا بشيء، ووجدوا بلادهم خراباً، وأهلها بين قتيل وأسير، فكانوا موضع المثل : (خرجت النعامة تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين (. وكانت مدة مقامهم على دمياط خمسين يوماً أخرج فيها صلاح الدين أموالاً لا تحصى. حكي لي أنه قال: ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إلي مدة لمقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار مصرية سوى الثياب وغيرها.
ذكر حصر نور الدين الكركفي هذه السنة، في جمادى الآخرة سار نورالدين إلى بلاد الفرنج، فحصر الكرك، وهو امنع المعاقل على طرف البر.
وكان سبب ذلك أن صلاح الدين أرسل إلى نور الدين يطلب أن يرسل إليه والده نجم الدين أيوب، فجهزه نور الدين وسيره، وسير معه عسكراً، واجتمع معه من التجار خلق كثير، وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أنس وصحبة، فخاف نور الدين عليهم من الفرنج، فسار في عساكره إلى الكرك، فحصره وضيق عليه ونصب عليه المجانيق، فأتاه الخبر أن الفرنج قد جمعوا له، وساروا إليه، وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب بن الرقيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، فرحل نور الدين نحو هذين المقدمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتحق بهما باقي الفرنج، فلما قاربهما رجعا القهقري واجتمعا بباقي الفرنج.
وسلك نور الدين وسط بلادهم ينهب ويحرق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام، فنزل على عشترا، وأقام ينتظر حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يبرحوا من مكانهم، فأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة الحادثة فرحل.
وأما نجم الدين أيوب فإنه وصل إلى مصر سالماً هو ومن معه وخرج العاضد الخليفة فالتقاه إكراماً له.
ذكر غزوة لسرية نوريةكان شهاب الدين إلياس بن إيلغازي بن أرتك، صاحب قلعة البيرة، قد سار في عسكره، وهو في مائتي فارس، إلى نور الدين وهو بعشترا، فلما وصل إلى قرية اللبوة، وهي من عمل بعلبك، ركب متصيداً، فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال، فوقع بعضهم على بعض ، واقتتلوا واشتد القتال، وصبر الفريقان لاسيما المسلمون، فإن ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية، وكثر القتلى بين الطائفتين، فانهزم الفرنج، وعمهم القتل والأسر، فلم يفلت منهم إلا من لا يعتد به.
وسار شهاب الدين برؤوس القتلى والأسرى إلى نور الدين، فركب نور الدين والعسكر، فلقوهم، فرأى نور الدين في الرؤوس رأس مقدم الإسبتار، صاحب حصن الأكراد، وكان من الشجاعة بمحل كبير، وكان شجاً في حلوق المسلمين.
ذكر الزلزلة وما فعلته بالشامفي هذه السنة أيضاً، ثاني عشر شوال، كانت زلازل عظيمة متتابعة هائلة لم ير الناس مثلها، وعمت اكثر البلاد من الشام والجزيرة والموصل والعراق وغيرها من البلاد، وأشدها كان بالشام، فخربت كثيراً من دمشق وبعلبك وحمص وحماة وشيزر وبعرين وحلب وغيرها، وتهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحد.
فلما أتاه الخبر سار إلى بعلبك ليعمر ما انهدم من سورها وقلعتها ، فلما وصلها أتاه خبر باقي البلاد وخراب أسوارها وقلاعها، وخلوها من أهلها، فجعل ببعلبك من يعمرها ويحميها ويحفظها، وسار إلى حمص ففعل مثل ذلك، ثم إلى حماة ثم إلى بعرين، وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، ثم أتى مدينة حلب، فرأى فيها من آثار الزلزلة ما ليس بغيرها من البلاد، فإنها كانت قد أتت عليها وبلغ الرعب ممن نجا كل مبلغ، وكانوا لا يقدرون أن يأووا إلى مساكنهم خوفاً من الزلزلة ، فأقام بظاهرها، وباشر عمارتها بنفسه، فلم يزل كذلك حتى أحكم أسوار البلاد وجوامعها.
وأما بلاد الفرنج فان الزلازل أيضاً عملت بها كذلك فاشتغلوا بعمارة بلادهم خوفاً من نور الدين عليها، فاشتغل كل منهم بعمارة بلاده خوفاً من الآخر.
ذكر وفاة قطب الدين مودود بن زنكي

وملك ابنه سيف الدين غازي

في هذه السنة،في ذي الحجة، مات قطب الدين مودود بن زنكي، ابن آقسنقر،صاحب الموصل بالموصل، وكان مرضه حمى حادة، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لأبنه الأكبر عماد الدين زنكي، ثم عدل عنه إلى ابنه الأكبر سيف الدين غازي، وإنما صرف الملك عن ابنه الأكبر عماد الدين زنكي بن مودود لأن القيم بأمور دولته، والمقدم فيها، كان خادماً له يقال له فخر الدين عبد المسيح، وكان يكره عماد الدين لأنه كان طوع عمه نور الدين، لكثرة مقامه عنده، ولأنه زوج ابنته، وكان نور الدين يبغض عبد المسيح، فاتفق فخر الدين وخاتون ابنة حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي، وهي والدة سيف الدين، على صرف الملك عن عماد الدين إلى سيف الدين، فرحل عماد الدين إلى عمه نور الدين مستنصراً به ليعينه على أخذ الملك لنفسه.
وتوفي قطب الدين وعمره نحو أربعين سنة، وكان ملكه إحدى وعشرين سنة وخمسة اشهر ونصفاً، وكان فخر الدين هو المدبر للأمور والحاكم في الدولة، وكان قطب الدين من أحسن الملوك سيرة وأعفهم عن أموال رعيته، محسناً إليهم ، كثير الإنعام عليهم، محبوباً إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفاً على شريفهم ووضيعهم، كريم الأخلاق، حسن الصحبة معهم، فكأن القائل أراد بقوله:
خلق كماء المزن طيب مذاقه ... والروضة الغناء طيب نسيم
كالسيف لكن فيه حلم واسع ... عمن جنى والسيف غير حليم
كالغيث إلا أن وابل جوده ... أبداً وجود الغيث غير مقيم
كالدهر إلا أنه ذو رحمة ... والدهر قاسي القلب غير رحيم
وكان سريع الانفعال للخير، بطيئاً عن الشر، جم المناقب، قليل المعايب، رحمه الله ورضي عنه وعن جميع المسلمين بمنه وكرمه، إنه جواد كريم .
ذكر حالة ينبغي للملوك أن يحترزوا من مثلهاحدثني والدي، رحمه الله، قال: كنت أتولى جزيرة ابن عمر، لقطب الدين، كما علمتم، فلما كان قبل موته بيسير أتانا كتاب من الديوان بالموصل يأمرون بمساحة جميع بساتين العقيمة، وهذه العقيمة هي قرية تحاذي الجزيرة بينهما دجلة، ولها بساتين كثيرة بعضها يمسح فيؤخذ منه على كل جريب شيء معلوم، وبعضها عليه خراج، وبعضها مطلق من الجميع.
قال: وكان لي فيها ملك كثير، فكنت أقول: إن المصلحة أن لا يغير على الناس شيئاً، وما أقول هذا لأجل ملكي، فإنني أنا أمسح ملكي، وإنما أريد أن يدوم الدعاء من الناس للدولة، فجاءني كتاب النائب يقول: لا بد من المساحة. قال: فأظهرت الأمر، وكان بها قوم صالحون، لي بهم أنس، وبيننا مودة، فجاءني الناس كلهم، وأولئك معهم، يطلبون المراجعة، فأعلمتهم أنني رجعت وما أجبت إلى ذلك، فجاءني منهم رجلان أعرف صلاحهما، وطلبا مني المعاودة والمخاطبة ثانية، ففعلت، فأصروا على المسح فعرفتهما الحال.
قال: فما مضى إلا عدة أيام، وإذ قد جاءني الرجلان، فلما رايتهما ظننت أنهما جاءا يطلبان المعاودة، فعجبت منهما، وأخذت أعتذر إليهما، فقالا: ما جئنا إليك في هذا، وإنما جئنا نعرفك إن حاجتنا قضيت. قال: فظننت أنهما قد أرسلا إلى الموصل إلى من يشفع لهما. فقلت: من الذي خاطب في هذا بالموصل؟ فقالا: إن حاجتنا قد قضيت من السماء، ولكافة أهل العقيمة.
قال: فظننت أن هذا مما حدثا به نفوسهما، ثم قاما عني، فلم يمض غير عشرة أيام وإذ قد جاءنا كتاب من الموصل يأمرون بإطلاق المساحة والمحبسين والمكوس، ويأمرون بالصدقة، ويقال: إن السلطان، يعني قطب الدين، مريض، يعني على حالة شديدة ، ثم بعد يومين أو ثلاثة جاءنا الكتاب بوفاته، فعجبت من قولهما، واعتقدته كرامة لهما، فصار والدي بعد ذلك يكثر إكرامهما واحترامهما ويزورهما.
ذكر الحرب بين عساكر عبد المؤمن وابن مردنيشكان محمد بن سعيد بن مردنيش، ملك شرق الأندلس، قد اتفق هو والفرنج، وامتنع على عبد المؤمن وابنه بعده، فاستفحل أمره، لا سيما بعد وفاة عبد المؤمن، فلما كان هذه السنة جهز إليه يوسف بن عبد المؤمن العساكر الكثيرة مع أخيه عمر بن عبد المؤمن، فجاسوا بلاده وخربوها، وأخذوا مدينتين من بلاده، وأخافوا عساكر جنوده، وأقاموا ببلاده مدة يتنقلون فيها ويجبون الأموال.
ذكر وفاة صاحب كرمان

والخلف بين أولاده

في هذه السنة توفي الملك طغرل بن قاورت صاحب كرمان، واختلف أولاده بهرام شاه وأرسلان شاه، وهو الأكبر، وجرى بينهما قتال انهزم فيه بهرامشاه ومعه أخ له اسمه تركان شاه، فملك البلاد أرسلان شاه ومضى بهرام شاه إلى خراسان، فدخل على المؤيد صاحب نيسابور واستنجده، فأنجده بعساكر سار بها إلى كرمان، فجرى بين الأخوين حرب ظفر بها بهرام شاه، وهرب أرسلان شاه، فقصد أصفهان مستجيراً بإيلدكز، فأنفذ معه عسكراً، واستنقذوا البلاد من بهرامشاه وسلموها إلى أخيه أرسلان شاه فعاد بهرام شاه إلى نيسابور مستجيراً بالمؤيد صاحبها، فأقام عنده، فاتفق أن أخاه ارسلان شاه مات، فسار إلى كرمان فملكها، وأقام بها بغير منازع.
ذكرعدة حوادثفي هذه السنة، كثرت الأذية من عبد الملك بن محمد بن عطاء، وتطرق بلاد حلوان، ونهب وأفسد، وتطرق الحجاج، فأنفذ إليه من بغداد عسكر فنازلوه في قلاعه وضايقوه، ونهبوا أمواله، وأموال أهله، حتى أذعن بالطاعة، ولا يعاود أذى الحجاجولا غيرهم، فعاد العسكر عنه.
وفيها توفي مجد الدين أبو بكر بن الداية، وهو رضيع نور الدين، وكان أعظم الأمراء منزلة عنده، وله أقطاعة حلب وحارم وقلعة جعبر، فلما توفي رد نور الدين ما كان له إلى أخيه شمس الدين علي بن الداية.
وفيها ، في شعبان، توفي أحمد ابن صالح بن شافع أبو الفضل الجيلي ببغداد، وهو من مشهوري المحدثين.
ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة

ذكر وفاة المستنجد بالله
في هذه السنة ، تاسع ربيع الآخر، توفي المستنجد بالله أبو المظفر يوسف ابن المقتفي لأمر الله أبي عبد الله محمد بن المستظهر بالله، وقد تقدم باقي النسب في غير موضع، وأمه أم ولد، اسمها طاووس، وقيل نرجس، رومية، ومولده مستهل ربيع الآخر سنة عشر وخمسمائة، وكانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهراً وستة أيام، وكان أسمر، تام القامة، طويل اللحية.
وكان سبب موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبر أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيب على أن يصف له ما يؤذيه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع لضعفه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات.
وهكذا سمعته من غير واحد ممن يعلم الحال، وقيل إن الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمره بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصلبهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخط إلى الوزير؛ ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، رحمه الله.
وكان وزيره حينئذ أبا جعفر البلدي، وبينه وبين أستاذ الدار عضد الدين عداوة مستحكمة، لأن المستنجد بالله كان يأمره بأشياء تتعلق بهما فيفعلها، فكانا يظنان أنه هو الذي يسعى بهما، فلما مرض المستنجد، وأرجف بموته، ركب الوزير ومعه الأمراء والأجناد وغيرهم بالعدة، فلم يتحقق عنده خبر موته، فأرسل إليه عضد الدين يقول: إن أمير المؤمنين قد خف مابه من مرض، وأقبلت العافية، فخاف الوزير أن يدخل دار الخلافة بالجند، فربما أنكر عليه ذلك، فعاد إلى داره وتفرق الناس عنه، وكان عضد الدين وقطب الدين قد استعدا للهرب لما ركب الوزير خوفاً منه إن دخل الدار أن يأخذهما، فلما عاد أغلق أستاذ الدار أبواب الدار، وأظهروا وفاة المستنجد، وأحضر هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيئ بأمر الله، وشرطا عليه شروطاً أن يكون عضد الدين وزيراً، وابنه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك.
ولم يتولى الخلافة من اسمه الحسن إلا الحسن بن علي بن أبي طالب والمستضيئبأمر الله، واتفقا في الكنية والكرم، فبايعه أهل بيته البيعة الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناس في الغد في التاج بيعة عامة، وأظهر من العدل أضعاف ما عمل أبوه، وفرق أموالاً جليلة المقدار.

وعلم الوزير ابن البلدي فسقط في يده وقرع سنه ندماً على ما فرط في عوده حيث لا ينفعه، واتاه من يستدعيه للجلوس للعزاء والبيعة للمستضيئ، فمضى إلى دار الخلافة، فلما دخلها صرف إلى موضع وقتل وقطع قطعاً، وألقي في دجلة، رحمه الله، وأخذ جميع ما في داره، فرأيا فيها خطوط المستنجد بالله يأمره فيها بالقبض عليهما، وخط الوزير قد راجعه في ذلك، وصرفه عنه، فلما وقفا عليهما عرفا براءته مما كانا يظنان فيه، فندما حيث فرطا في قتله.
وكان المستنجد بالله من أحسن الخلفاء سيرة مع الرعية، عادلاً فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيراً من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئاً، وكان شديداً على أهل العيث والفساد والسعاية بالناس.
بلغني أنه قبض على إنسان كان يسعى بالناس، فأطال حبسه، فشفع فيه بعض أصحابه المختصين بخدمته، وبذل عنه عشرة آلاف دينار، فقال: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وتحضر لي إنساناً آخر مثله لأكف شره عن الناس؛ ولم يطلقه. ورد كثيراً من الأموال على أصحابها، وقبض على القاضي ابن المرخم، وأخذ منه مالاً كثيراً، فأعاده على أصحابه أيضاً، وكان ابن المرخم ظالماً جائراً في أحكامه.
ذكر ملك نور الدين الموصل

وإقرار سيف الدين عليها
لما بلغ نور الدين محموداً وفاة أخيه قطب الدين مودود، صاحب الموصل، وملك ولده سيف الدين غازي الموصل والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمر معه، وتحكمه عليه، أنف لذلك وكبر لديه وعظم عليه، وكان يبغض فخر الدين لما يبلغه عنه من خشونة سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي وملكهم؛ وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبرت الفرات، عند قلعة جعبر، مستهل المحرم من هذه السنة، وقصد الرقة فحصرها وأخذها.
ثم سار إلى الخابور فملكه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمع العساكر، فاتاه بها نور الدين محمد بن قرا ارسلان بن داود، صاحب حصن كيفا، وكثر جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيق وملكها، وسلمها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين.
وكان قد جاءته كتب الأمراء الذين بالموصل سراً، يبذلون له الطاعة، ويحثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل فأتى مدينة بلد، وعبر دجلة عندها مخاضة إلى الجانب الشرقي، وسار فنزل شرق الموصل على حصن نينوى، ودجلة بينه وبين الموصل. ومن العجب أن يوم نزوله سقط من سور الموصل بدنة كبيرة.
وكان سيف الدين غازي وفخر الدين قد سيرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد يستنجده على عمه نور الدين، فأرسل إيلدكز رسولاً إلى نور الدين ينهاه عن التعرض للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسلطان، فلا تقصدها؛ فلم يلتفت إليه، وقال للرسول: قل لصاحبك أنا أصلح لأولاد أخي منك، فلم تدخل نفسك بيننا؟ وعند الفراغ من إصلاح بلادهم يكون الحديث معك على باب همذان، فإنك قد ملكت هذه المملكة العظيمة، وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها، وقد بليت أنا، ولي مثل ربع بلادك، بالفرنج، وهم أشجع العالم، فأخذت معظم بلادهم، وأسرت ملوكهم، ولا يحل لي السكوت عنك، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت وإزالة الظلم عن المسلمين.فأقام نور الدين على الموصل، فعزم من بها من الأمراء على مجاهرة فخر الدين عبد المسيح بالعصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين فعلم ذلك، فأرسل إلى نور الدين بتسليم البلد إليه على أن يقره بيد سيف الدين، ويطلب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرط أن فخر الدين يأخذه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعاً يرضيه، فتسلم البلد ثالث عشر جمادى الأولى من هذه السنة، ودخل القلعة من باب السر لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه حلف أن لا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولما ملكها أطلق ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالم، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميع بلاده من الشام ومصر.

ووصله ، وهو على الموصل يحاصرها، خلعة من الخليفة المستضيئ بأمر الله، فلبسها، ولما ملك الموصل خلعها على سيف الدين ابن أخيه، وأمره وهو بالموصل بعمارة الجامع النوري، وركب هو بنفسه إلى موضعه فرآه، وصعد منارة مسجد أبي حاضر فأشرف منها على موضع الجامع، فأمر أن يضاف إلى الأرض التي شاهدها ما يجاورها من الدور والحوانيت، وأن لا يؤخذ منها شيء بغير اختيار أصحابه. وولى الشيخ عمر الملا عمارته، وكان من الصالحين الأخيار، فاشترى الأملاك من أصحابها بأوفر الأثمان، وعمره، فخرج عليه أموال كثيرة، وفرغ من عمارته سنة ثمان وستين وخمسمائة.
وعاد إلى الشام واستناب في قلعة الموصل خصياً له اسمه كمشتكين، ولقبه سعد الدين، وأمر سيف الدين أن لا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحكمه في البلاد واقطع مدينة سنجار لعماد الدين ابن أخيه قطب الدين، فلما فعل ذلك قال كمال الدين بن الشهرزوري: هذا طريق إلى أذىً يحصل لبيت أتابك لأن عماد الدين كبير لا يرى طاعة سيف الدين، وسيف الدين هو الملك لا يرى الإغضاء لعماد الدين فيحصل الخلف، ويطمع الأعداء، فكان كذلك على ما نذكره سنة سبعين وخمسمائة، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يوماًن واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغير اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعاً كبيراً.
ذكر غزو صلاح الدين بلاد الفرنج

وفتح إيلة
وفي هذه السنة سار صلاح الدين أيضاً عن مصر إلى بلاد الفرنج، فأغار على أعمال عسقلان والرملة، وهجم على ربض غزة فنهبه، واتاه ملك الفرنج في قلة من العسكر مسرعين لرده عن البلاد، فقاتلهم وهزمهم، وأفلت ملك الفرنج بعد ان اشرف أن يؤخذ أسيراً، وعاد إلى مصر، وعمل مراكب مفصلة، وحملها قطعاً على الجبال في البر، وقصد إيلة، فجمع قطع المراكب وألقاها في البحر، وحصر إيلة براً وبحراً، وفتحها في العشر الأول من ربيع الآخر، واستباح أهلها وما فيها وعاد إلى مصر.
ذكر ما اعتمده صلاح الدين بمصركان بمصر داراً للشحنة تسمى دار المعونة يحبس فيها من يريد حبسه فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وأزال ما كان بها من الظلم، وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضاً، وعزل القضاة المصريين، وكانوا شيعة، وأقام قاضياً شافعياً في مصر، فاستناب القضاة الشافعية في جميع البلاد، في العشرين من جمادى الآخرة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اشترى تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين منازل العز بمصر، وبناها مدرسة للشافعية.
وفيها أغار شمس الدولة توارنشاه أخو صلاح الدين أيضاً على الأعراب الذين بالصعيد، وكانوا قد أفسدوا في البلاد، ومدوا أيديهم، فكفوا عما كانوا يفعلونه.
وفيها مات القاضي ابن الخلال من اعيان الكتاب المصريين وفضلائهم، وكان صاحب ديوان الإنشاء بها.
وفيها وقع حريق ببغداد في درب المطبخ، وفي خرابة ابن جردة.
وفيها توفي الأمير نصر بن المستظهر بالله، عم المستنجد بالله وحموه، وهو أخر من مات من أولاد المستظهر بالله، وكان موته في ذي القعدة، ودفن في الترب بالرصافة.
وفيها جعل ظهير الدين أبو بكر نصر بن العطار صاحب المخزن ببغداد، ولقب ظهير الدين. وفيها حج بالناس الأمير طاشتكين المستنجدي، وكان نعم الأمير، رحمه الله.
ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة
ذكر إقامة الخطبة العباسية بمصر
وانقراض الدولة العلوية
في هذه السنة، في ثاني جمعة من المحرم، قطعت خطبة العاضد لدين الله أبي محمد الإمام عبد الله بن يوسف بن الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد ابن أبي القاسم محمد بن المستنصر بالله أبي تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله أبي علي المنصور بن العزيز بالله أبي منصور ابن نزار بن المعز لدين الله أبي تميم معد بن المنصور بالله أبي الظاهر إسماعيل ابن القائم بأمر الله أبي القاسم محمد بن المهدي بالله أبي محمد عبيد الله، وهو أول العلويين من هذا البيت الذين خطب لهم بالخلافة، وخوطبوا بإمرة المؤمنين.

وكان سبب الخطبة العباسية بمصر أن صلاح الدين بن أيوب لما ثبت قدمه بمصر وزال المخالفون له، وضعف أمر الخليفة العاضد بها، وصار قصره يحكم فيه صلاح الدين ونائبه قراقوش، وهو خصي، كان من أعيان الأمراء الأسدية، كلهم يرجعون إليه، فكتب إليه نور الدين محمود بن زنكي يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة المستضيئية، فامتنع صلاح الدين، واعتذر بالخوف من أهل الديار المصرية عليه لميلهم إلى العلويين.
وكان صلاح الدين يكره قطع الخطبة لهم، ويريد بقاءهم خوفاً من نور الدين، فإنه كان يخافه أن يدخل الديار المصرية ويأخذها منه، فكان يريد ان يكون العاضد معه، حتى إذا قصده نور الدين امتنع به وبأهل مصر عليه؛ فلما اعتذر إلى نور الدين بذلك لم يقبل عذره، وألح عليه بقطع خطبته، والزمه إلزاماً لا فسحة له في مخالفته، وكان على الحقيقة نائب نور الدين، واتفق أن العاضد مرض هذا الوقت مرضاً شديداً، فلما عزم صلاح الدين على قطع خطبته استشار أمراءه، فمنهم من أشار به ولم يفكر بالمصريين، ومنهم من خافهم إلا أنه ما يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين.
وكان قد دخل إلى مصر إنسان أعجمي يعرف بالأمير العالم، رأيته أنا بالموصل، فلما رأى ما هم فيه من الإحجام، وأن أحداً لا يتجاسر أن يخطب للعباسيين قال: أنا أبتدئ بالخطبة لهم؛ فلما كان أول جمعة من المحرم صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستضيئ بأمر الله فلم ينكر أحد ذلك، فلما كان الجمعة الثانية أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيئ، ففعلوا ذلك فلم ينتتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر بلاد مصر، ففعل. وكان العاضد قد اشتد مرضه فلم يعلمه أحد من أهله وأصحابه بقطع الخطبة، وقالوا: إن عوفي فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن نفجعه بمثل هذه الحادثة قبل موته، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم بقطع الخطبة.
ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصر الخلافة، وعلى جميع ما فيه، فحفظه بهاء الدين قراقوش الذي كان قد رتبه قبل موت العاضد، فحمل الجميع إلى صلاح الدين، وكان من كثرته يخرج عن الإحصاء، وفيه من الأعلاق النفيسة والأشياء الغريبة ما تخلو الدنيا بمثله، ومن الجواهر التي لم توجد عند أحد غيرهم، فمنه الجبل الياقوت، وزنه سبعة عشر درهماً، أو سبعة عشر مثقالاً، أنا لا أشك، لأنني رأيته ووزنته؛ واللؤلؤ الذي لم يوجد مثله، ومنه النصاب الزمرد الذي طوله أربع أصابع في عرض عقد كبير؛ ووجد فيه طبل كان بالقرب من موضع العاضد، وقد احتاطوا عليه بالحفظ، فلما رأوه ظنوه عمل لأجل اللعب به فسخروا من العاضد، فاخذه إنسان فضرب به فضرط فتضاحكوا منه، ثم آخر كذلك، وكان كل من ضرب به ضرط، فألقاه أحدهم فكسره فإذا الطبل لأجل قولنج فندموا على كسره لما قيل لهم ذلك.
وكان فيه من الكتب النفيسة المعدومة المثل ما لا يعد، فباع جميع ما فيه، ونقل أهل العاضد إلى موضع من القصر، ووكل بهم من يحفظهم، وأخرج جميع من فيه من أمة وعبدن فباع البعض، وأعتق البعض، ووهب البعض، وخلى القصر من سكانه كأن لم يغن بالأمس، فسبحان الحي الدائم الذي لا يزول ملكه، ولا تغيره الدهور ولا يقرب النقص حماه.
ولما اشتد مرض العاضد أرسل إلى صلاح الدين يستدعيه، فظن ذلك خديعة، فلم يمض إليه، فلما توفي علم صدقه، فندم على تخلفه عنه، وكان يصفه كثيراً بالكرم، ولين الجانب، وغلبة الخير على طبعه، وانقياده؛ وكان في نسبه تسعة خطب لهم بالخلافة وهم: الحافظ والمستنصر والظاهر والحاكم والعزيز والمعز والمنصور والقائم والمهدي؛ ومنهم من لم يخطب له بالخلافة: أبوه يوسف بن الحافظ، وجد أبيه، وهو الأمير أبو القاسم محمد بن المستنصر، وبقي من خطب له بالخلافة وليس من آبائه: المستعلي ، والآمر، والظافر، والفائز، وجميع من خطب له منهم بالخلافة أربعة عشر خليفة منهم بإفريقية: المهدي، والقائم، والمنصور ، والمعز، إلى أن سار إلى مصر ، ومنهم بمصر: المعز المذكور، وهو أول من خرج إليها من إفريقية، والعزيز، والحاكم، والظاهر، والمستنصر، والمستعلي، والأمر، والحافظ، والظافر، والفائز، والعاضد، وجميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة تسع وتسعين ومائتين إلى أن توفي العاضد مائتان واثنتان وسبعون سنة وشهر تقريباً.

وهذا دأب الدنيا لم تعط إلا واستردت، ولم تحلو إلا وتمرمرت، ولم تصف إلا وتكدرت، بل صفوها لا يخلو من الكدر وكدرها قد يخلو من الصفو. نسأل الله تعالى أن يقبل بقلوبنا إليه ويرينا الدنيا حقيقة، ويزهدنا فيها، ويرغبنا في الآخرة، إنه سميع الدعاء قريب من الإجابة.
ولما وصلت البشارة إلى بغداد بذلك ضربت البشائر بها عدة أيام، وزينت بغداد وظهر من الفرح والجذل ما لا حد عليه. وسيرت الخلع مع عماد الدين صندل، وهو من خواص الخدم المقتفوية والمقدمين في الدولة لنور الدين وصلاح الدين، فسار صندل إلى نور الدين وألبسه الخلعة، وسير الخلعة التي لصلاح الدين وللخطباء بالديار المصرية، والأعلام السود، ثم إن صندلاً هذا صار أستاذ الدار للخليفة المستضيئ بأمر الله في بغداد، وكان يدري الفقه على المذهب الشافعي، وسمع الحديث ورواه، ويعرف أشياء حسنة، وفيه دين، وله معروف كثير، وهو من محاسن بغداد.
ذكر الوحشة بين نور الدين وصلاح الدينفي هذه السنة جرت أمور أوجبت أن تأثر نور الدين من صلاح الدين، ولم يظهر ذلك. وكان سببه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر من هذه السنة إلى بلاد الفرنج غازياً ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيق على من به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمان واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك.
فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصداً بلاد الفرنج ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين : إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، ملكها، ومتى زال الفرنج عن الطريق وأخذ ملكهم لم يبق بديار مصر مقام مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماع به، وحينئذ يكون هو المتحكم فيك بما شاء، إن شاء تركك وغن شاء عزلك، فقد لا تقدر على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر.
فرحل عن الشوبك عائدأً إلى مصر، ولم يأخذه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، فإنه يخاف عليها من البعد عنها أن يقوه أهلها على من تخلف بها وان يخرجوهم وتعود ممتنعة، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغير عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها.
وظهر ذلك فسمع صلاح الدين الخبر، فجمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه ، واستشارهم فلم يجبه أحد بكلمة واحدة، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد؛ ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتم تقي الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثر محبة لك من جميع ما ترى، ووالله لو رأيت أنا وخالك هذا نور الدين، لم يمكننا إلا أن نقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنفك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنك بغيرنا؟ وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحده لم يتجاسروا على الثبات على سروجهم، وهذه البلاد له، ونحن مماليكه ونوابه بها، فإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا؛ والرأي أن تكتب كتاباً من نجاب تقول فيه: بلغني بأنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأي حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجاباً يضع في رقبتي منديلاً ويأخذني إليك، وما هاهنا من يمنع عليك.
وأقام الأمراء وغيرهم وتفرقوا على هذا، فلما خلا به أيوب قال له: بأي عقل فعلت هذا؟ أما تعلم أن نور الدين إذا سمع عزمنا على منعه ومحاربته جعلنا أهم الوجوه إليه، وحينئذ لا تقوى به، وأما الآن، إذا بلغه ما جرى وطاعتنا له تركنا واشتغل بغيرنا؛ والأقدار تعمل عملها. ووالله لو أراد نور الدين قصبة من قصب السكر لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أقتل.
ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قصده واشتغل بغيره، فكان الأمر كما ظنه أيوب، فتوفي نور الدين ولم يقصده، وملك صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أحسن الآراء وأجودها.
ذكر غزوة إلى الفرنج بالشام

في هذه السنة خرج مركبان من مصر إلى الشام فأرسيا بمدينة لاذقية، فأخذهما الفرنج، وهما مملوءان من الأمتعة والتجار، وكان بينهم وبين نور الدين هدنة، فنكثوا وغدروا، فأرسل نور الدين إليهم في المعنى وإعادة ما أخذوه من أموال التجار، فغالطوه، واحتجوا بأمور منها أن المركبين كانا قد انكسرا ودخلهما الماء.
وكان الشرط أن كل مركب ينكسر ويدخله الماء يأخذونه، فلم يقبل مغالطتهم، وجمع العساكر، وبث السرايا في بلادهم بعضها نحو أنطاكية، وبعضها نحو طرابلس، وحصر هو حصن عرقة، وخرب ربضه، وأرسل طائفة من العسكر إلى حصن صافيثا وعريمة، فأخذهما عنوة، ونهب وخرب، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وعادوا إليه وهو بعرقة، فسار في العساكر جميعها إلى أن قارب طرابلس ينهب ويخرب ويحرق ويقتل.
وأما الذين ساروا إلى أنطاكية ففعلوا في ولايتها مثل ما فعل نور الدين في ولاية طرابلس، فراسله الفرنج، وبذلوا إعادة ما أخذوه من المركبين، وتجديد الهدنة معهم، فأجابهم إلى ذلك، وأعادوا ما أخذوا وهم صاغرون، وقد خربت بلادهم وغنمت أموالهم.
ذكر وفاة ابن مردنيش

وملك يعقوب بن عبد المؤمن بلاده
في هذه السنة توي الأمير محمد بن سعد بن مردنيش، صاحب البلاد بشرق الأندلس، وهي: مرسية وبلنسية وغيرهما، ووصى أولاده ان يقصدوا بعد موته الأمير أبا يوسف يعقوب بن عبد المؤمن، صاحب المغرب والأندلس، وتسلموا البلاد وتدخلوا في طاعته، فلما مات قصدوا يعقوب، وكان قد اجتاز إلى الأندلس في مائة ألف مقاتل قبل موت ابن مردنيش، فحين رآهم يوسف فرح بهم، وسره قدومهم عليه، وتسلم بلادهم وتزوج أختهم، وأكرمهم، وعظم أمرهم، ووصلهم بالأمال الجزيلة، وأقاموا معه.
ذكر عبور الخطا جيحون
والحرب بينهم وبين خوارزمشاه
في هذه السنة عبر الخطا نهرجيحون يريدون خوارزم، فسمع صاحبها خوارزمشاه أرسلان بن أتسز، فجمع عساكره وسار إلى آموية ليقاتلهم ويصدهم، فمرض، وأقام بها، وسير بعض جيشه مع أمير كبير إليهم، فلقيهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم الخوارزميون، وأسر مقدمهم، ورجع به الخطا إلى ما وراء النهر، وعاد خوارزم شاه إلى خوارزم مريضاً.
في هذه السنة اتخذ نور الدين بالشام الحمام الهوادي، وهي التي يقال لها المناسيب، وهي تطير من البلاد البعيدة إلى أوكارها، وجعلها في جميع بلاده.
وسبب ذلك أنه لما اتسعت بلاده، وطالت مملكته وعرضت أكنافها، وتباعدت أوائلها عن أواخرها، ثم إنها جاورت بلاد الفرنج، وكانوا ربما نازلوا حصناً من ثغوره، فإلى أن يصل الخبر، ويسير إليهم يكونون قد بلغوا غرضهم منه، فأمر بالحمام ليصل الخبر إليه في يومه،وأجرى الجرايات على المرتبين لحفظها وإقامتها، فحصل منها الراحة العظيمة، والنفع الكبير للمسلمين.
وفيها عزل الخليفة المستضيئ بأمر الله وزيره عضد الدين أبا الفرج بن رئيس الرؤساء مكرهاً لأن قطب الدين قايماز ألزمه بعزله، فلم يمكنه مخالفته.
وفيها مات أبو محمد عبد الله بن أحمد الخشاب اللغوي، وكان قيماً بالعربية وسمع الحديث الكثير إلى أن مات.
وفيها مات البوري الفقيه الشافعي، تفقه على محمد بن يحيى، وقدم بغداد ووعظ، وكان يذم الحنابلة، وكثرت أتباعه، فأصابه إسهال، فمات هو وجماعة من أصحابه، فقيل: إن الحنابلة أهدوا إليه حلوى فمات هو وكل من أكل منها.
وفيها مات القرطبي أبو بكر يحيى بن سعدون بن تمام الأزدي، وكان إماماً في القراءة والنحو وغيره من العلوم، زاهداً عابداً، انتفع به الناس بالموصل، وفيها كانت وفاته.
ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة
ذكر وفاة خوارزم شاه أرسلان
وملك ولده سلطان شاه وبعده ولده الآخر تكش وقتل المؤيد وملك ابنه
في هذه السنة توفي خوارزم شاه أرسلان بن أتسز بن محمد بن أنوشتكين، قد عاد من قتال الخطا مريضاً، فتوفي، وملك بعده سلطان شاه مسعود، ودبرت والدته المملكة والعساكر.

وكان ابنه الأكبر علاء الدين تكش مقيماً في الجند قد أقطعه أبوه إياها، فلما بلغه موت أبيه وتولية أخيه الصغير انف من ذلك، وقصد ملك الخطا، واستمده على أخيه واستمده على أخيه، وأطمعه في الأموال وذخائر خوارزم، فسير معه جيشاً كثيفاً مقدمهم قوماً، فساروا حتى قاربوا خوارزم، فخرج سلطان شاه وأمه إلى المؤيد، فأهدى له هدية جليلة المقدار، ووعده أموال خوارزم وذخائرها،فاغتر بقوله، وجمع جيوشه وسار معه حتى بلغ سوبرني، بليدة على عشرين فرسخاً من خوارزم، وكان تكش قد عسكر بالقرب منها، فتقدم إليهم، فلما تراءى الجمعان انهزم عسكر المؤيد، وكسر المؤيد وأخذ أسيراً، وجيء به إلى خوارزم شاه تكش، فأمر بقتله، فقتل بين يديه صبراً.
وهرب سلطان شاه، وأخذ إلى دهستان، فقصده خوارزم شاه تكش، فافتتح المدينة عنوة، فهرب سلطان شاه وأخذت أمه فقتلها تكش، وعاد خوارزم.
ولما عاد المنهزمون من عسكر المؤيد إلى نيسابور ملكوا ابنه طغان شاه أبا بكر بن المؤيد، واتصل به سلطان شاه، ثم سار من هناك إلى غياث الدين ملك الغورية، فأكرمه وعظمه وأحسن ضيافته.
وأما علاء الدين تكش، فإنه لما ثبت قدمه بخوارزم اتصلت به رسل الخطا بالاقتراحات والتحكم كعادتهم، فأخذته حمية الملك والدين، وقتل أحد أقارب الملك، وكان قد ورد إليه ومعه جماعة أرسلهم ملكهم في مطالبة خوارزم شاه بالمال، فأمر خوارزم شاه أعيان خوارزم،فقتل كل واحد منهم رجلاً من الخطا، فلم يسلم منهم أحد، ونبذوا إلى ملك الخطا عهده.
وبلغ ذلك سلطان شاه، فسار إلى ملك الخطا واغتنم الفرصة بهذه الحال واستنجده على أخيه علاء الدين تكش، وزعم له أن أهل خوارزم معه يريدونه، ويختارون ملكه عليهم، ولو رأوه لسلموا البلد إليه، فسير معه جيشاً كثيراً من الخطا مع قوما أيضاً، فوصلوا إلى خوارزم، فحصروها، فأمر خوارزم شاه علاء الدين بإجراء ماء جيحون عليهم فكادوا يغرقون، فرحلوا ولم يبلغوا منها غرضاً، ولحقهم الندم حيث لم ينفعهم، ولاموا سلطان شاه وعنفوه، فقال لقوما: لو أرسلت معي جيشاً إلى مرو لاستخلصتها من يد دينار الغزي؛ وكان قد استولى عليها من حين كانت فتنة الغز إلى الآن، فسير معه جيشاً، فنزل على سرخس على غرة من أهلها، وهجموا على الغز فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، فلم يتركوا بها أحداً منهم، وألقى دينار ملكهم نفسه في خندق القلعة، فأخرج منه ودخل القلعة وتحصن بها.
وسار سلطان شاه إلى مور فملكها، وعاد الخطا إلى ما وراء النهر، وجعل سلطان شاه دأبه قتال الغز وقصدهم، والقتل فيهم، والنهب منهم، فلما عجز دينار عن مقاومته أرسل إلى نيسابور إلى طغان شاه ابن المؤيد يقول له ليرسل إليه من يسلم إليه قلعة سرخس، فأرسل إليه جيشاً مع أمير اسمه قراقوش، فسلم إليه دينار القلعة ولحق بطغان شاه، فقصد سلطان شاه سرخس وحصر قلعتها، وبلغ ذلك طغان شاه، فجمع جيوشه وقصد سرخس فلما التقى هو وسلطان شاه فر طغان شاه إلى نيسابور، وذلك سنة ست وسبعين وخمسمائة، فأخلى قراقوش قلعة سرخس ولحق بصاحبه، وملكها سلطان شاه، ثم أخذ طوس، وإلزام، وضيق الأمر على طغان شاه بعلو همته، وقلة قراره، وحرصه على طلب الملك.
وكان طغان شاه يحب الدعة ومعاقرة الخمر، فلم يزل الحال كذلك إلى أن مات طغان شاه سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة في المحرم، وملك ابنه سنجر شاه، فغلب عليه مملوك جده المؤيد، اسمه منكلي تكين، فتفرق الأمراء أنفة من تحكمه ، واتصل أكثرهم بسلطان شاه، وسار الملك دينار إلى كرمان، ومعه الغز، فملكها.
وأما منكلي تكين فإنه أساء السيرة في الرعية، وأخذ أموالهم، وقتل بعض الأمراء، فسمع خوارزم شاه بذلك، فسار إليه فحصره في نيسابور في ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، فحصرها شهرين فلم يظفر بها وعاد إلى خوارزم، ثم رجع سنة ثلاث وثمانين إلى نيسابور فحصرها، وطلبوا منه الأمان، فأمنهم، فسلموا البلد إليه، فقتل منكلي تكين وأخذ سنجر شاه وأكرمه، وأنزله بخوارزم، وأحسن إليه، فأرسل إلى نيسابور يستميل أهلها ليعود إليهم، فسمع به خوارزم شاه، فأخذ سنجر شاه فسلمه، وكان قد تزوج بأمه وزوجه انته، فماتت، فزوجه بأخته، وبقي عنده إلى أن مات سنة خمس وتسعين وخمسمائة.

ذكر هذا أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي في كتاب مشارب التجارب، وقد ذكر غيره من العلماء بالتواريخ هذه الحوادث مخالفة لهذا في بعض الأمور مع تقديم وتأخير، ونحن نوردها، فقال إن تكش خوارزم شاه ايل أرسلان أخرج اخاه سلطان شاه من خوارزم، وكان قد ملكها بعد موت أبيه، فجاء إلى مرو فأزاح الغز عنها، فخرجوا أياماً، ثم عادوا عليه فأخرجوه منها، وانتهبوا خزانته، وقتلوا أكثر رجاله، فعبر إلى الخطا فاستنجدهم، وضمن لهم مالاً ، وجاء بجيش عظيم، فاخرج الغز عن مرو وسرخس ونسا وأبيورد وملكها ورد الخطا.
فلما ابعدوا كاتب غياث الدين الغوري يطلب منه أن ينزل عن هراة وبوشنج وباذغيس وما والاها، ويتوعده إن هو لم ينزل عن ذلك، فأجابه غياث الدين يطلب منه إقامة الخطبة له بمرو وسرخس وما ملكه من بلاد خراسان، فلما سمع الرسالة سار عن مرو وشن الغارات على باذغيس وبيوار وما والاها، وحصر بوشنج ونهب الرساتيق، وصادر الرعايا، فلما سمع غياث الدين ذلك لم يرض لنفسه أن يسير هو بل سير ملك سجستان، وكاتب ابن أخته بهاء الدين سام، صاحب باميان، باللحاق به، لأن أخاه شهاب الدين كان بالهند، والزمان شتاء، فجاء بهاء الدين ابن أخت غياث الدين وملك سجستان ومن معهما من العساكر، ووافق ذلك وصول سلطان شاه إلى هراة، فلما علم بوصولهم عاد إلى مرو من غير أن يقاتلها، وأحرق كل ما مر به من البلاد ونهبه، وأقام بمرو إلى الربيع، وأعاد مراسلة غياث الدين في المعنى، فأرسل إلى أخيه شهاب الدين يعرفه الحال، فنادى في عساكره الرحيل لساعته، وعاد إلى خراسان، واجتمع هو وأخوه غياث الدين وملك سجستان وغيرهم من العساكر، وقصدوا سلطان شاه، فلما علم ذلك جمع عساكره واجتمع عليه، من الغز المفسدين، وقطاع الطرق، ومن عنده طمع، خلق كثير، فنزل غياث الدين ومن معه من الطالقان، ونزل سلطان شاه بمرو الروذ، وتقدم عسكر الغورية إليه، وتواعدوا للمصاف.
وبقوا كذلك شهرين والرسل تتردد بين غياث الدين وبين سلطان شاه، وشهاب الدين يطلب من أخيه غياث الدين الإذن في الحرب، فلا يتركه، وتقرر الأمر على أن يسلم غياث الدين إلى سلطان شاه بوشنج وباذغيس وقلاع بيوار، وكره ذلك شهاب الدين وبهاء الدين سام صاحب باميان، إلا أنهما لم يخالفا غياث الدين؛ وفي آخر الأمر حضر رسول سلطان شاه يطلب أن يحضر شهاب الدين وبهاء الدين هذا الأمر؛ فأرسل غياث الدين إليهما، فأعادا الجواب: إننا مماليك ومهما تفعل لا يمكننا مخالفتك.
فبينما الناس مجتمعون في تحرير الأمر وإذ قد أقبل مجد الدين العلوي الهروي، وكان خصيصاً بغياث الدين بحيث يفعل في ملكه ما لا يخالف، فجاء العلوي ويده في يد ألب غازي ابن أخت غياث الدين، قد كتبوا الكتاب، وقد أحضر غياث الدين أخاه شهاب الدين وبهاء الدين سام ملك الباميان، فجاء العلوي كأنه يسار غياث الدين، ووقف في وسط الحلقة، وقال للرسول: يا فلان! تقول لسلطان شاه: قد تم لك الصلح من جانب السلطان الأعظم، ومن شهاب الدين، وبهاء الدين، ويقول لك العلوي خصمك: أنا ومولانا ألب غازي بيننا وبينك السيف؛ ثم صرخ صرخة ومزق ثيابه، وحثا التراب على رأسه وأقبل على غياث الدين، وقال له: هذا واحد طرده أخوك، وأخرجه فريداً وحيداً، لم تترك له ما ملكناه بأسيافنا من الغز والأتراك السنجرية؟ فإذا سمع هذا عنا يجيئ أخوه يطلب منازعته الهند وجميع ما بيدك؛ فحرك غياث الدين رأسه ولم يتفوه بكلمة، فقال الملك سجستان للعلوي: اترك الأمر ينصلح.
فلما لم يتكلم غياث الدين مع العلوي قال شهاب الدين لجاووشيته: نادوا في العسكر بالتجهز للحرب، والتقدم إلى مرو الروذ؛ وقام، وأنشد العلوي بيتاً من الشعر عجمياً معناه: إن الموت تحت السيوف أسهل من الرضى بالدنية؛ فرجع الرسول إلى سلطان شاه وأعلمه الحال، فرتب عساكره للمصاف، والتقى الفريقان واقتتلوا، فصبروا للحرب، فانهزم سلطان شاه وعساكره، وأخذ أكثر أصحابه أسرى، فأطلقهم غياث الدين ، ودخل سلطان شاه مرو في عشرين فارساً، ولحق به من أصحابه نحو ألف خمسمائة فارس.

ولما سمع خوارزم شاه تكش بما جرى لأخيه سار من خوارزم في ألفي فارس وأرسل إلى جيحون ثلاثة آلاف فارس يقطعون الطريق على أخيه عن أراد الخطا، وجد في السير ليقبض على أخيه قبل أن يقوى، فأتت الأخبار سلطان شاه بذلك، فلم يقدر على عبور جيحون إلى الخطا، فسار إلى غياث الدين وكتب إليه يعلمه قصده إليه، فكتب إلى هراة و غيرها من بلاده بإكرامه واحترامه وحمل الإقامات إليه ،ففعل به ذلك ،وقدم على غياث الدين ،والتقاه ،وأكرمه وأنزله معه في داره، وأنزل أصحاب سلطان شاه كل إنسان منهم عند من هو في طبقته، فأنزل الوزير عند وزيره، والعارض عند عارضه، وكذلك غيرهم، وأقام عنده حتى انسلخ الشتاء فأرسل علاء الدين بن خوارزم شاه إلى غياث الدين يذكره ما صنعه أخوه سلطان شاه معه من تخريب بلاده، وجمع العساكر عليه، ويشير بالقبض عليه ورده إليه، فأنزل الرسول، وإذ قد أتاه كتاب نائبه بهراة يخبره أن كتاب خوارزم شاه جاءه يتهدده، فأجابه انه لا يظهر لخوارزمشاه أنه اعلمه بالحال، واحضر الرسول، وقال له: تقول لعلاء الدين: أما قولك إن سلطان شاه اخرب البلاد وأراد ملكها، فلعمري أنه ملك وابن ملك، وله همة عالية، وإذا أراد الملك، فمثله أراده، وللأمور مدبر يوصلها إلى مستحقها، وقد التجأ إلي، وينبغي أن تنزاح عن بلاده، وتعطيه نصيبه مما خلف أبوه، ومن الأملاك التي خلف، والأموال، وأحلف لكما يميناً على المودة والمصافاة، وتخطب لي بخوارزم، وتزوج أخي شهاب الدين بأختك.
فلما سمع خوارزم شاه الرسالة امتعض لذلك وكتب إلى غياث الدين كتاباً يتهدده بقصد بلاده، فجهز غياث الدين العساكر مع ابن أخت ألب غازي وصاحب سجستان، وسيرهما مع سلطان شاه إلى خواروم، وكتب إلى المؤيد صاحب نيسابور يستنجده، وكان قد صار بينهما مصاهرة: زوج المؤيد ابنة طغان شاه بابنة غياث الدين، فجمع المؤيد عساكره، وأقام بظاهر نيسابور على طريق خواروم.
وكان خوارزم شاه قد سار عن خوارزم إلى لقاء عسكر الغورية الذين مع أخيه سلطان شاه، وقد نزلوا بطرف الرمل، فبينما هو في مسيره أتاه خبر المؤيد انه قد جمع عساكره، وانه على قصد خوارزم إذا فارقها، فسقط في يديه وعاد فوقع في قلبه، وعاد إلى خوارزم، فأخذ أمواله وذخائره وعبر جيحون إلى الخطا، وأخلى خوارزم فوقع بها خبط عظيم، فحضر جماعة من أعيانها عند ألب غازي وسألوه إرسال أمير معهم يضبط البلد، فخاف أن تكون مكيدة، فلم يفعل. فبينما هم في ذلك توفي سلطان شاه، سلخ رمضان سنة تسع وثمانين وخمسمائة، فكتب ألب غازي إلى غياث الدين يعلمه الخبر، فكتب إليه يأمره بالعود إليه، فرجع ومعه أصحاب سلطان شاه، فأمر غياث الدين بأن يستخدموا، وأقطع الأجناد الإقطاعات الجيدة، وكلهم قابل إحسانه بكفران، وسنذكر باقي أخبارهم.
ولما سمع خوارزم شاه تكش بوفاة أخيه عاد إلى خوارزم، وأرسل إلى سرخس ومرو شحناء، فجهز إليهم أمير هراة عمر المرغني جيشاً فأخبرهم، وقال: حتى نستأذن السلطان غياث الدين؛ وأرسل خوارزم شاه رسولاً إلى غياث الدين يطلب الصلح والمصاهرة، وسير مع رسوله جماعة من الفقهاء خراسان والعلويين، ومعهم وجيه الدين محمد بن محمود، وهو الذي جعل غياث الدين شافعياً، وكان له عنده منزلة كبيرة، فوعظوه، وخوفوه الله تعالى، وأعلموه أن خوارزم شاه يراسلهم ويتهددهم بأنه يجيئ بالأتراك والخطا ويستبيح حريمهم وأموالهم، وقالوا له: إما أن تحضر أنت بنفسك، وتجعل مرو دار ملكك، حتى ينقطع طمع الكافرين عن البلاد ويأمن أهلها، وإما أن تصالح خوارزم شاه؛ فأجاب إلى الصلح وترك معارضة البلاد.
فلما سمع من بخراسان من الغز بذاك طمعوا في البلاد، فعادوا إلى النهب والإحراق والتخريب، فسمع خوارزم شاه فجمع عساكره وحضر بخراسان، ودخل مرو وسرخس ونسا وأبيورد وغيرها، وأصلح البلاد، وتطرق إلى طوس وهي للمؤيد صاحب نيسابور،فجمع المؤيد جيوشه وسار إليه، فلما سمع خوارزم شاه بمسيره إليه عاد إلى خوارزم، فلما وصل إلى الرمل أقام بطرفه، فلما سمع المؤيد بعود خوارزم شاه طمع فيه وتبعه، فلما سمع خوارزم شاه بذلك أرسل إلى المناهل التي في البرية فألقى فيها الجيف والتراب بحيث لم يمكن الانتفاع بها.

فلما توسط المؤيد البرية طلب الماء فلم يجده، فجاء خوارزم شاه إليه وهو على تلك الحال،ومعه الماء على الجمال، فأحاط به، فأما عسكره فاستسلموا بأسرهم، وجيئ بالمؤيد أسيراً إلى خوارزم شاه، فأمر بضرب عنقه، فقال: يا مخنث هذا فعال الناس؟ فلم يلتفت إليه، وقتله وحمل رأسه إلى خوارزم.
فلما قتل ملك نيسابور ملك ما كان له ابنه طغان شاه. فلما كان من قابل جمع خوارزم شاه عساكره وسار إلى نيسابور، فحاصرها وقاتلها، فمنعه طغان شاه فعاد عنه ثم رجع إليه، فخرج إليه طغان شاه فقاتله، فأسر طغان شاه وأخذه فزوجه أخته، وحمله معه إلى خوارزم، وملك نيسابور وجميع ما كان لطغان شاه من الملك وعظم شأنه وقوي أمره.
هذا الذي ذكره في هذه الرواية مخالف لما تقدم، ولو أمكن الجمع بين الروايتين لفعلت، فإن أحدهما قد قدم ما أخره الآخر، فلهذا أوردنا جميع ما قالاه، ولبعد البلاد عنا لم نعلم أي القولين أصح أن نذكره ونترك الآخر، وإنما أوردتها في موضع واحد لأن أيام سلطان شاه لم تطل له ولأعقابه حتى تتفرق على السنين، فلهذا أوردتها متتابعة.
ذكر غاره الفرنج على بلد حوران

وغارة المسلمين على بلد الفرنج
في هذه السنة، في ربيع الأول، اجتوعت الفرنج وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه، وبلغ الخبر إلى نور الدين وكان قد برز ونزل هو وعسكره بالكسوة، فسار إليهم مجداً، وقدم بجموعه عليهم، فلما علموا بقربه منهم دخلوا إلى السواد، وهو من أعمال دمشق أيضاً، ولحقهم المسلمون وتخطفوا من في ساقتهم ونالوا منهم، وسار نور الدين فنزل في عشترا، وسير منها سرية إلى أعمال طبرية، فشنوا الغارات عليها، فنهبوا وسبوا، وأحرقوا وخربوا،فسمع الفرنج ذلك، فرحلوا إليهم ليمنعوه عن بلادهم، فلما وصلوا كان المسلمون قد فرغوا من نهبهم وغنيمتهم، وعادوا وعبروا النهر.
وأدركهم الفرنج، فوقف مقابلهم شجعان المسلمين وحماتهم يقاتلونهم، فاشتد القتال وصبر الفريقان، الفرنج يرومون أن يلحقوا الغنيمة فيردوها، والمسلمون يريدون أن يمنعونهم عنها لينجو بها من قد سار معها، فلما طال القتال بينهم وأبعدت الغنيمة وسلمت مع المسلمين عاد الفرنج ولم يقدروا أن يستردوا منها شيئاً.
ذكر مسير شمس الدولة إلى بلد النوبةفي هذه السنة، في جمادى الأولى، سار شمس الدولة توارنشاه بن أيوب أخو صلاح الدين الأكبر من مصر إلى بلد النوبة، فوصل إلى أول بلادهم ليتغلب عليه ويتملكه.
وكان سبب ذلك أن صلاح الدين وأهله كانوا يعلمون أن نور الدين كان على عزم الدخول إلى مصر وأخذها منهم، فاستقر الرأي بينهم أنهم يتملكون إما بلاد النوبة أو بلاد اليمن، حتى إذا وصل إليهم نور الدين لقوه وصدوه عن البلاد، فإن قووا على منعه أقاموا بمصر، وإن عجزوا عن ذلك ركبوا البحر ولحقوا بالبلاد التي افتتحوها؛ فجهز شمس الدولة وسار إلى أسوان؛ ومنها إلى بلد النوبة، فنازل قلعة اسمها أبريم، فحصرها، وقاتله أهلها، فلم يكن لهم بقتال العسكر الإسلامي قوة، لأنهم ليس لهم جنة تقيهم السهام وغيرها من آلة الحرب، فسلموها، فملكها وأقام فيها، ولم ير للبلاد دخلاً يرغب فيه وتحتمل المشقة لأجله، وقوتهم الذرة، فلما رأى عدم الحاصل، وقشف العيش مع مباشرة الحروب ومعاناة التعب والمشقة، وتركها وعاد إلى مصر بما غنم، وكان عامة غنيمتهم العبيد والجواري.
؟ذكر ظفر لمليح بن ليون بالروم في هذه السنة، في جمادى الأولى، هزم مليح بن ليون الأرمني، صاحب بلاد الدروب المجاورة لحلب، عسكر الروم من القسطنطينية.
وسبب ذلك أن نور الدين كان قد استخدم مليحاً المذكور، وأقطعه إقطاعاً سنياً وكان ملازم الخدمة لنور الدين، ومشاهداً لحروبه مع الفرنج، ومباشراً لها؛ وكان هذا من جيد الرأي وصائبه، فغن نور الدين لما قيل له في معنى استخدامه وإعطائه الإقطاع من بلاد الإسلام قال: استعين به على قتال أهل ملته، وأريح طائفة من عسكري تكون بإزائه لتمنعه من الإغارة على البلاد المجاورة له.

وكان مليح أيضاً يتقوى بنور الدين على ما يجاوره من الأرمن والروم، وكانت مدينة أدنة والمصيصة وطرسوس بيد ملك الروم، صاحب القسطنطينية، فأخذها مليح منهم لأنها تجاور بلاده، فسير إليه ملك الروم جيشاً كثيفاً ، وجعل عليهم بعض أعيان البطارقة من أقاربه، فلقيهم مليح ومعه طائفة من عسكر نور الدين فقاتلهم وصدقهم القتال، وصابرهم، فانهزمت الروم، وكثر فيهم القتل والأسر، وقويت شوكة مليح، وانقطع أمل الروم من تلك البلاد.
وأرسل مليح إلى نور الدين كثيراً من غنائمهم ومن الأسرى ثلاثين رجلاً من مشهوريهم وأعيانهم، فسير نور الدين بعض ذلك إللى الخليفة المستضيئ بأمر الله، وكتب يعتد بهذا الفتح لأن بعض جنده فعلوه.
؟

ذكر وفاة إيلدكز
في هذه السنة، توفي أتابك إيلدكز بهمذان، وملك بعده ابنه محمد البهلوان، ولم يختلف عليه أحد، وكان إيلدكز هذا مملوكاً للكمال السميرمي، وزير السلطان محمود، فلما قتل الكمال، كما ذكرناه، صار إيلدكز إلى السلطان محمود، فلما ولي السلطان مسعود السلطنة ولاه أرانية، فمضى إليها، ولم يعد يحضر عند السلطان مسعود ولا غيره، ثم ملك أكثر أذربيجان وبلاد الجبل وهمذان وغيرها، واصفهان والري وما والاهما من البلاد، وخطب بالسلطنة لابن امرأته أرسلان شاه بن طغرل؛ وكان عسكره خمسين ألف فارس سوى الأتباع، واتسع ملكه من باب تفليس إلى كرمان، ولم يكن السلطان أرسلان شاه معه حكم إنما كان له جراية تصل إليه.
وبلغ من تحكمه عليه أنه شرب ذات ليلة، فوهب ما في خزانته، وكان كثيراً، فلما سمع إيلدكز بذلك استعاده جميعه، وقال له: متى أخرجت المال في غير وجههن أخذته أيضاً من غير وجهه، وظلمت الرعية.
وكان إيلدكز عاقلاً، حسن السيرة، يجلس بنفسه للرعية، ويسمع شكاويهم، وينصف بعضهم من بعض
ذكر وصول الترك إلى إفريقية
وملكهم طرابلس وغيرها
في هذه السنة سارت طائفة من الترك من ديار مصر مع قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى جبال نفوسة، واجتمع مسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط، وهو من أعيان العرب هناك، وكان خارجاً عن طاعة عبد المؤمن وأولاده، فاتفقا، وكثر جمعهما، ونزلا على طرابلس الغرب فحاصراها وضيقا على أهلها، ثم فتحت فاستولى قراقوش، وأسكن اهله قصرها، وملك كثيراً من بلاد إفريقية ما خلا المهدية وسفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع.
وصار مع قراقوش عسكر كثير، فحكم على تلك البلاد بمساعدة الععرب بما جبلت عليه من التخريب والنهب، والإساد بقطع الأشجار والثمار، وغير ذلك، فجمع بها أموالاً عظيمة وجعلها بمدينة قابس، وقويت نفسه وحدثته بالاستيلاء على جميع لإفريقية لبعد أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحبها عنها، وكان ما سنذكره إن شاء الله.
ذكر غزو ابن عبد المؤمن الفرنج بالأندلسفي هذه السنة جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكره وسار من إشبيلية إلى الغزو، فقصد بلاد الفرنج، ونزل على مدينة رندة، وهي بالقرب من طليطلة شرقاً منها، وحصرها، واجتمعت الفرنج على ابن الأذفونش ملك طليطلة في جمع كثير، فلم يقدروا على لقاء المسلمين.
فاتفق أن الغلاء اشتد على المسلمين، وعدمت الأقوات عندهم، وهم في جمع كثير، فاضطروا إلى مفارقة بلاد الفرنج، فعادوا إلى إشبيلية، وأقام أبو يعقوب بها سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وهو في ذلك يجهز العساكر ويسيرها إلى غزو بلاد الفرنج في كل وقت، فكان فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها من العرب من الشجاعة ما لا يوصف، وصار الفارس من العرب يبرز بين الصفين ويطلب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرز إليه أحد، ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش.
ذكر نهب نهاوند

في هذه السنة نهب عسكر شملة نهاوند. وسبب ذلك أن شملة كان أيام إيلدكز لا يزال يطلب منه نهاوند لكونها مجاورة بلاده، ويبذل فيها الأموال، فلا يجيبه إلى ذلك، فلما مات إيلدكز، وملك بعده محمد البهلوان، وسار إلى أذربيجان لإصلاحها أنفذ شملة ابن أخيه ابن سنكا لأخذ نهاوند، وبلغ أهل البلد الخبر، فتحصنوا، وحصرهم، وقاتلهم وقاتلوهن وأفحشوا في سبه، فلما علم أنه لا طاقة له بهم رجع إلى تستر، وهي قريبة منها، وأرسل أهل نهاوند إلى البهلوان يطلبون منه نجدة، فتأخرت عنهم، فلما اطمأنوا خرج ابن سنكا من تستر في خمس مائة فارس جريدة، وسار يوماً وليلة فقطع أربعين فرسخاً حتى وصل إلى نهاوند، وضرب البوق وأظهر أنه من أصحاب البهلوان، لأنه جاءهم من ناحيته، ففتح أهل البلد له الأبواب فدخله، فلما توسط قبض على القاضي والرؤساء وصلبهم، ونهب البلد وأحرقه، وقطع أنف الوالي وأطلقه، وتوجه نحو ماسبذان قاصداً العراق.
ذكر قصد نور الدين بلاد قلج أرسلانفي هذه السنة سار نور الدين محمود بن زنكي إلى مملكة عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس وأقصرا وغيرها، عازماً على حربه وأخذ بلاده منه.
وكان سبب ذلك أن ذي النون بن دانشمند صاحب ملطية وسيواس قصده قلج أرسلان وأخذ بلاده، وأخرجه عنها طريداً فريداً، فسار إلى نور الدين مستجيراً به وملتجئاً إليه، فأكرم نزله، وأحسن إليه، وحمل له ما يليق أن يحمل إلى الملوك ووعده النصرة والسعي في رد ملكه إليه.
ثم أنه أرسل إلى قلج أرسلان يشفع إليه في إعادة بلاد ذي النون إليه، فلم يجبه إلى ذلك، فسار نور الدين إليه فابتدئ بكيسون وبهنسى ومرعش ومرزبان، فملكها وما بينها؛ وكان ملكه لمرعش أوائل ذي القعدة، والباقي بعدها، فلما ملكها سير طائفة من عسكره إلى سيواس فملكوها.
وكان قلج أرسلان لما سار نور الدين إلى بلاده قد سار من طرفها الذي يلي الشام إلى وسطها، وراسل نور الدين يستعطفه ويسأله الصلح، فتوقف نور الدين عن قصده رجاء أن ينصلح الأمر بغير حرب، فأتاه عن الفرنج ما أزعجه، فأجابه إلى الصلح، وشرط عليه أن ينجده بعساكر إلى الغزاة، وقال له: أنت مجاور الروم ولا تغزوهم، وبلادك قطعة كبيرة من بلاد الإسلام، ولا بد من الغزاة معي. فأجابه إلى ذلك، وتبقى سيواس على حالها بيد نواب نور الدين وهي لذي النون، فبقي العسكر فيها في خدمة ذي النون إلى أن مات نور الدين، فلما مات رحل عسكره عنها، وعاد قلج أرسلان وملكها، وهي بيد أولاده إلى الآن سنة عشرين وستمائة.
ولما كان نور الدين في هذه السفرة جاءه رسول كمال الدين أبي الفضل محمد بن عبد الله بن الشهرزوري من بغداد ومعه منشور من الخليفة بالموصل والجزيرة وبإربل وخلاط الشام بلاد قلج أرسلان وديار مصر.
ذكر رحيل صلاح الدين عن مصر

إلى الكرك وعوده عنها
في هذه السنة، في شوال، رحل صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكره جميعها إلى بلاد الفرنج يريد حصر الكرك، والاجتماع مع نور الدين عليهن والإتفاق على قصد بلاد الفرنج من جهتين كل واحد منهما في جهة بعسكره.
وسبب ذلك ان نور الدين لما أكر على صلاح الدين عوده من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قصد مصر وأخذها منه، أرسل يعتذر، ويعد من نفسه بالحركة على ما يقرره نور الدين، فاستقرت القاعدة بينهما أن صلاح الدين يخرج من مصر ونور الدين يسير من دمشق، فأيهما سبق صاحبه يقيم إلى أن يصل الآخر إليه، وتواعدا على يوم معلوم يكون فيه وصولهما؛ فسار صلاح الدين عن مصر لأن طريقه أصعب وأبعد وأشق، ووصل إلى الكرك وحصره.
وأما نور الدين فإنه لما وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مصر فرق الأموال، وحصل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصل إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاح الدين بقربه خافه هو وجميع أهله، واتفق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين، لأنهم علموا أنه إن اجتمعا كان عزله على نور الدين سهلاً.

فلما عاد أرسل الفقيه عيسى إلى نور الدين يعتذر عن رحيله بأنه كان قد استخلف أباه نجم الدين أيوب على ديار مصر، وأنه مريض شديد المرض، ويخاف أن يحدث عليه حادث الموت فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه من التحف والهدايا ما يجل عن الوصف؛ فجاء الرسول إلى نور الدين واعلمه ذلك فعظم عليه وعلم المراد من العود، إلا أنه لم يظهر للرسول تأثراً بل قال له: حفظ مصر أهم عندنا من غيرنا.
وسار صلاح الدين إلى مصر فوجد أباه قد قضى نحبه ولحق بربه، ورب كلمة تقول لقائلها دعني. وكان سبب موت نجم الدين انه ركب يوماً فرساً بمصر، فنفر به الفرس نفرة شديدة، فسقط عن ظهره فحمل إلى قصره وقيذاً، وبقي أياماً ، ومات في السابع والعشرين من ذي الحجة، وكان خيراً، عاقلاً، حسن السيرة كريماً جواداً كثير الإحسان إلى الفقراء والصوفية. والمجالسة لهم. وقد تقدم من ذكره وابتداء أمره وأمر أخيه شيركوه ما لا حاجة إلى إعادته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زادت دجلة زيادة كثيرة أشرفت بها بغداد على الغرق في شعبان، وسدوا أبواب الدروب، ووصل الماء إلى قبة احمد بن حنبل ووصل إلى النظامية ورباط شيخ الشيوخ، واشتغل العالم بالعمل في القورج، ثم نقص وكفى الناس شره.
وفيها وقعت النار ببغداد من درب بهروز إلى باب جامع القصر، ومن الجانب الآخر من حجر النحاس إلى دار أم الخليفة.
وفيها أغار بنو حزن من خفاجة على سواد العراق، وسبب ذلك أن الحماية كانت لهم لسواد العراق، فلما تمكن يزدن من البلاد وتسلم الحلة أخذها منهم، وجعلها لبني كعب من خفاجة.
وأغار بنو حزن على السواد، فسار يزدن في عسكر ومعه الغضبان الخفاجي، وهو من بني كعب، لقتال بني حزن، فبينما هم سائرون ليلاً رمى بعض الجند الغضبان بسهم فقتله لفساده، وكان في السواد فلما قتل عاد العسكر إلى بغداد وأعيدت خفارة السواد إلى بني حزن.
وفيها خرج برجم الإيوائي في جمع من التركمان، في حياة إيلدكز، وتطرق أعمال همذان، ونهب الدينور، واستباح الحريم.
وسمع إيلدكز الخبر وهو بنقجوان، فسار مجداً فيمن خف معه من عسكره، فقصده، فهرب برجم إلى أن قارب بغداد، وتبعه إيلدكز فظن الخليفة أنها حيلة ليصل إلى بغداد فجأة، فشرع في جمع العساكر وعمل السور، فأرسل إلى إيلدكز الخلع والألقاب الكبيرة، فاعتذر أنه لم يقصد إلا كف فساد هؤلاء، ولم يتعد قنطرة خانقين وعاد؛ وفيها توفي الأمير يزدن، وهو من أكابر أمراء بغداد، وكان يتشيع، فوقع بسببه فتنة بين السنة والشيعة بواسط لأن الشيعة جلسوا له للعزاء وأظهر السنة الشماتة به فآل إلى القتال فقتل بينهم جماعة.
ولما مات أقطع أخوه تنامش ما كان لأخيه وهو مدينة واسط، ولقب علاء الدين.
وفيها أرسل نور الدين محمود بن زنكي رسولاً إلى الخليفة وكان الرسول القاضي كمال الدين أبا الفضل محمد بن عبد الله الشهرزوري، قاضي بلاده جميعها مع الوقوف والديوان، وحمله رسالة مضمونها الخدمة للديوان، وما هو عليه من جهاد الكفار، وفتح بلادهم، ويطلب تقليداً بما بيده من البلاد، مصر والشام والجزيرة والموصل، وبما في طاعته كديار بكر وما يجاور ذلك كخلاط وبلاد قلج أرسلان، وأن يعطى من الأقطاع بسواد العراق ما كان لأبيه زنكي وهو: صريفين ودرب هارون، والتمس أرضاً على شاطئ دجلة يبنيها مدرسة للشافعية، ويوقف عليها صريفين ودرب هارون، فأكرم كمال الدين إكراماً لم يكرم به رسول قبله، وأجيب إلى ما التمسه، فمات نور الدين قبل الشروع في بناء المدرسة، رحمه الله.
ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة

ذكر ملك شمس الدولة زبيد وعدن
وغيرهما من بلاد اليمن
قد ذكرنا قبل أن صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب مصر، وأهله كانوا يخافون من نور الدين محمود أن يدخل إلى مصر فيأخذها منهم، فشرعوا في تحصيل مملكة يقصدونها ويتملكونها تكون عدة لهم إن أخرجهم نور الدين من مصر ساروا إليها وأقاموا بها، فسيروا شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، وهو أخوا صلاح الدين الأكبر، إلى بلد النوبة، فكان ما ذكرناه.
فلما عاد إلى مصر استأذنوا نور الدين في أن يسير إلى اليمن لقصد عبد النبي، صاحب زبيد لأجل قطع الخطبة العباسية، فأذن في ذلك.

وكان بمصر شاعر اسمه عمارة من أهل اليمن، فكاك يحسن لشمس الدولة قصد اليمن، ويصف البلاد له، ويعظم ذلك في عينه، فزاده قوله رغبة فيها، فشرع يتجهز ويعد الأزواد والروايا والسلاح وغيره من الآلات، وجند الأجناد، فجمع وحشد، وسار عن مصر مستهل رجب، فوصل إلى مكة، أعزها الله تعالى، ومنها إلى زبيد، وفيها صاحبها المتغلب عليها المعروف بعبد النبي، فلما قرب منها رآه أهلها، فاستقلوا من معه، فقال لهم عبد النبي: كأنكم بهؤلاء وقد حمي عليهم الحر فهلكوا وما هم إلى أكلة رأس؛ فخرج إليهم بعسكره، فقاتلهم شمس الدولة ومن معه، فلم يثبت أهل زبيد وانهزموا، ووصل المصريون إلى سور زبيد، فلم يجدوا عليه من يمنعهم، فنصبوا السلالم، وصعدوا السور، فملكوا البلد عنوة ونهبوه وأكثروا النهب، واخذوا عبد النبي أسيراً وزوجته المدعوة بالحرة، وكانت امرأة صالحة كثيرة الصدقة لا سيما إذا حجت، فإن فقراء الحاج كانوا يجدون عندها صدقة دارة ، وخيراً كثيراً، ومعروفاً عظيماًن وسلم شمس الدولة عبد النبي إلى بعض أمراءه، يقال له سيف الدولة مبارك بن كامل من بني منقذ، أصحاب شيزر، وأمره أن يستخرج منه الأموال، فأعطاه منها شيئاً كثيراً، ثم إنه دلهم على قبر قكان قد صنعه لوالدهن وبنى عليه بنية عظيمة، وله هناك دفائن كثيرة، فأعلمهم بها، فاستخرجت الأموال من هناك وكانت جليلة المقدار، وأما الحرة فإنها أيضاً تدلهم على ودائع لها، فأخذ منها مالاً كثيراً.
ولما ملكوا زبيد واستقر الأمر لهم بها، ودان أهلها، وأقيمت فيها الخطبة العباسية، اصلحوا حالها، وساروا إلى عدن، وهي على البحر، ولها مرسى عظيم، وهي فرضة الهند والزنج والحبشة، وعمان وكرمان، وكيس، وفارس ، وغير ذلك، وهي من جهة البر من أمنع البلاد وأحصنها، وصاحبها إنسان اسمه ياسر، فلو أقام بها ولم يخرج عنها لعادوا خائبين، وإنما حمله جهله وانقضاء مدته على الخروج إليهم ومباشرة قتالهم، فسار إليهم وقاتلهم، فانهزم ياسر ومن معه، وسبقهم بعض عسكر شمس الدولة، فدخلوا البلد قبل أهله، فملكوه، وأخذوا صاحبه ياسر أسيراً، وأرادوا نهب البلد، فمنعهم شمس الدولة، وقال: ما جئنا لنخرب البلاد، وغنما جئنا لنملكها ونعمرها وننتفع بدخلها؛ فلم ينهب منها أحد شيئاً، فبقيت على حالها وثبت ملكه واستقر أمره.
ولما مضى إلى عدن كان معه عبد النبي صاحب زبيد مأسوراً، فلما دخل إلى عدن قال: سبحان الله! كنت قد علمت أنني ادخل إلى عدن في موكب كبير فأنا انتظر ذلك وأسر به، ولم أكن أعلم أنني أدخلها على هذه الحال.
ولما فرغ شمس الدولة من أمر عدن عاد إلى زبيد، وملك أيضاً قلعة التعكر والجند وغيرها من المعاقل والحصون، واستناب بعدن عز الدين عثمان بن الزنجيلي، وبزبيد سيف الدولة مبارك ابن منقذ، وجعل في كل قلعة نائباً من أصحابه، وألقى ملكهم باليمن جرانه ودام، وأحسن شمس الدولة إلى أهالي البلاد، واستصفى طاعتهم بالعدل والإحسان، وعادت زبيد إلى أحسن أحوالها من العمارة والأمن.
ذكر قتل جماعة من المصريين

أرادوا الوثوب بصلاح الدين
في هذه السنة، ثاني رمضان، صلب صلاح الدين يوسف بن أيوب جماعة ممن أرادوا الوثوب به من أصحاب الخلفاء العلويين.
وسبب ذلك أن جماعة من شيعة العلويين منهم عمارة بن أبي الحسن اليمني الشاعر، وعبد الصمد الكاتب، والقاضي العويرس، وداعي الدعاة، وغيرهم من جند المصريين ورجالتهم السودان، وحاشية القصر، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين وجنده، واتفق رأيهم على استدعاء الفرنج من صقلية، ومن ساحل الشام إلى ديار مصر على شيء بذلوه لهم من المال والبلاد، فإذا قصدوا البلاد، فإن خرج صلاح الدين إليهم بنفسه ثاروا هم بالقاهرة ومصر وأعادوا الدولة العلوية، وعاد من معه من العسكر الذين وافقوهم عنه، فلا يبقى له مقام مقابل الفرنج، وإن كان صلاح الدين يقيم ويرسل العساكر إليهم ثاروا به، وأخذوه أخذاً باليد لعدم وجود الناصر له والمساعد، وقال لهم عمارة: وأنا قد أبعدت أخاه إلى اليمن خوفاً أن يسد مسده وتجتمع الكلمة عليه بعده.

وأرسلوا إلى الفرنج بصقلية والساحل في ذلك، وتقررت القاعدة بينهم، ولم يبق إلا رحيل الفرنج، وكان من لطف الله بالمسلمين أن الجماعة المصريين ادخلوا معهم في هذا الأمر الأمير زين الدين علي بن نجا الواعظ، المعروف بابن نجية، ورتبوا الخليفة والوزير والحاجب والداعي والقاضي، إلا أن بني رزيك قالوا: يكون الوزير منا؛ وبني شاور قالوا: يكون الوزير منا؛ فلما علم ابن نجا الحال حضر عند صلاح الدين، وأعلمه حقيقة الأمر، فأمر بملازمتهم، ومخالطتهم، ومواطأتهم على ما يريدون ان يفعلوه، وتعريفه ما يتجدد أولاً بأول، ففعل ذلك وصار يطالعه بكل ما عزموا عليه.
ثم وصل رسول من ملك الفرنج بالساحل الشامي إلى صلاح الدين بهدية ورسالة، وهو في الظاهر إليه، والباطن إلى أولئك الجماعة، وكان يرسل إليهم بعض النصارى وتأتيه رسلهم، فأتى الخبر إلى صلاح الدين من بلاد الفرنج بجلية الحال، فوضع صلاح الدين على الرسول بعض من يثق به من النصارى، وداخله، فأخبره الرسول بالخبر على حقيقته، فقبض حينئذ على المقدمين في هذه الحادثة منهم: عمارة وعبد الصمد والعويرس وغيرهم وصلبهم.
وقيل في كشف أمرهم إن عبد الصمد المذكور كان إذا لقي القاضي الفاضل الكاتب الصلاحي يخدمه ويتقرب إليه بجهده وطاقته، فلقيه يوماً، فلم يلتفت إليه، فقال القاضي الفاضل: ما هذا إلا لسبب. وخاف أن يكون قد صار له باطن من صلاح الدين، فأحضر علي بن نجا الواعظ وأخبره الحال، وقال: أريد أن تكشف لي الأمر؛ فسعى في كشفه فلم ير لم من جانب صلاح الدين شيئاً، فعدل إلى الجانب الآخر، فكشف الحال، وحضر عند القاضي العادل وأعلمه، فقال: تحضر الساعة عند صلاح الدين وتنهي الحال إليه، فحضر عند صلاح الدين وهو في الجامع، فذكر له الحال، فقام وأخذ الجماعة وقررهم، فأقروا، فأمر بصلبهم.
وكان عمارة بينه وبين الفاضل عداوة من أيام العاضد وقبلها، فلما أراد صلبه قام القاضي الفاضل وخاطب صلاح الدين في إطلاقه، وظن عمارة أنه يحرض على هلاكه، فقال لصلاح الدين: يامولانا لا تسمع منه في حقي، فغضب الفاضل وخرج، وقال صلاح الدين لعمارة: إنه كان يشفع فيك؛ فندم، ثم أخرج عمارة ليصلب، فطلب أن يمر به على مجلس الفاضل، فاجتازوا به عليه، فأغلق بابه ولم يجتمع به، فقال عمارة:
عبد الرحيم قد احتجب ... إن الخلاص هو العجب
ثم صلب هو والجماعة، ونودي في أجناد المصريين بالرحيل من ديار مصر ومفارقتها إلى أقاصي الصعيد، واحتيط على من بالقصر من سلالة العاضد وغيره من أهله.
وأما الذين نافقوا على صلاح الدين من جنده فلم يعرض لهم، ولا أعلمهم انه علم بحالهم، وأما الفرنج، فإن فرنج صقلية قصدوا الإسكندرية على ما نذكره إن شاء الله تعالى، لأنهم لم يتصل بهم ظهور الخبر عند صلاح الدين؛ وأما فرنج الشام فإنهم لم يتحركوا لعلمهم بحقيقة الحال. وكان عمارة شاعراً مفلقاً، فمن شعره:
لو أن قلبي يوم كاظمة معي ... لملكته وكظمت فيض الأدمع
قلب كفاك من الصبابة أنه ... لبى نداء الظاعنين وما دعي
ما القلب أول غادر فألومه ... هي شيمة الأيام مذ خلقت معي
ومن الظنون الفاسدات توهمي ... بعد اليقين بقاءه في أضلعي
وله أيضاً:
لي في هوى الرشا العذري إعذار ... لم يبق لي مذ أقر الدمع إنكار
لي في القدود وفي لثم الخدود وفي ... ضم النهود لبانات وأوطار
هذا اختياري فوافق إن رضيت به ... أو لا فدعني وما أهوى وأختار
وله ديوان شعر مشهور في غاية الحسن والرقة والملاحة.
ذكر وفاة نور الدين محمود بن زنكيفي هذه السنة توفي نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب الشام وديار الجزيرة ومصر، يوم الأربعاء حادي عشر شوال، بعلة الخوانيق، ودفن بقلعة دمشق، ونقل منها إلى المدرسة التي أنشأها بدمشق، عند سوق الخواصين.
ومن عجيب الاتفاق أنه ركب ثاني شوال وإلى جانبه بعض الأمراء الأخيار، فقال له الأمير: سبحان من يعلم هل نجتمع هنا في العام المقبل أم لا؟ فقال نور الدين: لا تقل هكذا، بل سبحان من يعلم هل نجتمع بعد شهر أم لا؟ فمات نور الدين رحمه الله، بعد أحد عشر يوماً، ومات الأمير قبل الحول، فأخذ كل منهما بما قاله.

وكان قد شرع يتجهز للدخول إلى مصر لأخذها من صلاح الدين يوسف ابن أيوب، فإنه رأى منه فتوراً في غزو الفرنج من ناحيته، وكان يعلم انه إنما يمنع صلاح الدين من الغزو الخوف منه ومن الاجتماع به، فإنه يؤثر كون الفرنج في الطريق ليمتنع بهم عن نور الدين، فأرسل إلى الموصل وديار الجزيرة وديار بكر يطلب العساكر للغزاة، وكان عزمه أن يتركها مع ابن أخيه سيف الدين غازي، صاحب الموصل بالشام، ويسير هو بعساكره إلى مصر، فبينما هو يتجهز لذلك أتاه أمر الله الذي لا مرد له.
حكى لي طبيب يعرف بالطبيب الرحبي وهو كان يخدم نور الدين، وهو من حذاق الأطباء، قال: استدعاني نور الدين في مرضه الذي توفي فيه مع غيري من الأطباء، فدخلنا إليه وهو في بيت صغير في قلعة دمشق، وقد تمكنت الخوانيق منه، وقارب الهلاك، فلا يكاد يسمع صوته؛ وكان يخلو فيه للتعبد، فابتدأ به المرض، فلم ينتقل عنه، فلما دخلنا ورأيت ما به قلت له: كان ينبغي أن لا تؤخر إحضارنا إلى أن يشتد بك المرض الآن، وينبغي أن تعجل الانتقال من هذا المكان إلى مكان فسيح مضيء، فله اثر في هذا المرض. وشرعنا في علاجه، وأشرنا بالفصد، فقال: ابن ستين لا يفتصد، وامتنع به، فعالجناه بغيره، فلم ينجع فيه الدواء، وعظم الداء، ومات، رحمه الله ورضي عنه.
وكان أسمر، طويل القامة، ليس له لحية إلا في حنكه، وكان واسع الجبهة، حسن الصورة، حلو العينين، وكان قد اتسع ملكه جداً، وخطب له بالحرمين الشريفين، وباليمن، لما دخلها شمس الدولة بن أيوب وملكها، وكان مولده سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وطبق ذكره الأرض بحسن سيرته وعدله. وقد طالعت سير الملوك المتقدمين، فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحرياً للعدل منه.
وقد أتينا على كثير من ذلك في كتاب الباهر من أخبار دولتهم، ولنذكر هاهنا نبذة مختصرة لعل يقف عليها من له حكم فيقتدي به؛ فمن ذلك زهده وعبادته وعلمه، فإنه كان لا يأكل ولا يلبس ولا يتصرف في الذي يخصه إلا من ملك كان له قد اشتراه من سهمه من الغنيمة ومن الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، ولقد شكت إليه زوجته من الضائقة، فأعطاها ثلاث دكاكين في حمص كانت له، منها يحصل له في السنة نحو عشرين ديناراً، فلما استقلتها قال: ليس لي إلا هذا، وجميع ما يدي أنا خازن فيه للمسلمين لا أخونهم فيه، ولا أخوض نار جهنم لأجلك.
وكان يصلي كثيراً بالليل، وله فيه أوراد حسنة، وكان كما قيل:
جمع الشجاعة والخشوع لربه ... ما أحسن المحراب في المحراب
وكان عارفاً بالفقه على مذهب أبي حنيفة، ليس عنده فيه تعصب، وسمع الحديث، واسمعه طلباً للأجر.
وأما عدله، فإنه لم يترك في بلاده ، على سعتها، وكساً ولا عشراً بل أطلقها جميعها في مصر والشام والجزيرة والموصل، وكان يعظم الشريعة، ويقف عند أحكامها؛ وأحضره إنسان إلى مجلس الحكم، فمضى معه إليه، وأرسل إلى القاضي كمال الدين الشهرزوري يقول: قد جئت محاكماً، فاسلك معي ما تسلك مع الخصوم؛ وظهر الحق له، فوهبه الخصم الذي أحضره، وقال: أردت أن أترك له ما يدعيه، وإنما خفت أن يكون الباعث لي على ذلك الكبر والأنفة من الحضور إلى مجلس الشريعة، فحضرت، ثم وهبته ما يدعيه.
وبنى دار العدل في بلاده، وكان يجلس هو والقاضي بها ينصف المظلوم، ولو أنه يهودي، من الظالم ولو أنه ولده أم أكبر أمير عنده.
وأما شجاعته فإليها النهاية، وكان في الحرب يأخذ قوسين وتركشين ليقاتل بها، فقال له القطب النشاوي الفقيه: بالله عليك لا تخاطر بنفسك وبالإسلام والمسلمين، فإن أصبت في معركة لا يبقى من المسلمين أحد إلا أخذه السيف. فقال له نور الدين: ومن محمود حتى يقال له ذلك؟ من قبلي من حفظ البلاد والإسلام؟ ذلك الله الذي لا إله إلا هو.

وأما فعله الصالح، فإنه بنى أسوار مدن الشام جميعها وقلاعها، فمنها دمشق وحمص وحماة وحلب وشيزر وبعلبك وغيرها، وبنى المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبنى الجامع النوري بالموصل، وبنى البيمارستانات والخانات في الطرق، وبنى الخانكاهات للصوفية في جميع البلاد، ووقف على الجميع الوقوف الكثيرة. سمعت أن حاصل وقفه كل شهر تسعة آلاف دينار صوري. وكان يكرم العلماء وأهل الدين ويعظمهم ويعطيهم ويقوم إليهم ويجلسهم معه، وينبسط معهم، ولا يرد لهم قولاً، ويكاتبهم بخط يده؛ وكان وقوراً مهيباً مع تواضعه، وبالجملة فحسناته كثيرة ومناقبه غزيرة لا يحتملها هذا الكتاب.
ذكر ملك ولده الملك الصالحلما توفي نور الدين قام ابنه الملك الصالح إسماعيل بالملك بعده، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وحلف له الأمراء والمقدمون بدمشق، وأقام بها، وأطاعه الناس بالشام وصلاح الدين بمصر، وخطب له بها، وضرب السكة باسمه، وتولى تربيته الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك المعروف بابن المقدم، وصار مدبر دولته؛ فقال له كمال الدين بن الشهرزوري ولمن معه من الأمراء: قد علمتم أن صلاح الدين صاحب مصر هو من مماليك نور الدين ونوابه أصحاب نور الدين، والمصلحة أن نشاوره في الذي نفعله، ولا نخرجه من بيننا فيخرج عن طاعتنا، ويجعل ذلك حجة علينا، وهو أقوى منا، لأنه قد انفرد اليوم بملك مصر؛ فلم يوافق هذا القول أغراضهم، وخافوا أن يدخل صلاح الدين ويخرجهم، فلم يمض غير قليل حتى وردت كتب صلاح الدين إلى الملك الصالح يعزيه ويهنئه بالملك، وأرسل دنانير مصرية عليها اسمه ويعرفه أن الخطبة والطاعة له كما كانت لأبيه.
فلما سار سيف الدين غازي، صاحب الموصل، وملك البلاد الجزرية، على ما نذكرهن أرسل صلاح الدين أيضاً إلى الملك الصالح يعتبه حيث لم يعلمه قصد سيف الدولة بلاده وأخذها، ليحضر في خدمته ويكف سيف الدين، وكتب إلى كمال الدين والأمراء يقول: لو أن نور الدين يعلم أن فيكم من يقوم مقامي ن أو يثق به مثل ثقته بي لسلم إليه مصر التي هي اعظم ممالكه وولاياته، ولو لم يعجل عليه الموت لم يعهد إلى أحد بتربية ولده والقيام بخدمته غيري، وأراكم قد تفردتم بمولاي وابن مولاي دوني، وسوف أصل إلى خدمته، وأجازي إنعام والده بخدمة يظهر أثرها، وأجازي كلاً منكم على سوء صنيعه في ترك الذب عن بلاده.
وتمسك ابن المقدم وجماعة من الأمراء بالملك الصالح، ولم يرسلوه إلى حلب، خوفاً أن يغلبهم عليه شمس الدين علي بن الداية، فإنه كان أكبر الأمراء النورية، وإنما منعه من الاتصال به والقيام على خدمته مرض لحق به، وكان هو وأخوته بحلب، وأمرها إليهم، وعساكرها معهم في حياة نور الدين وبعده، ولما عجز عن الحركة أرسل إلى الملك الصالح يدعوه إلى حلب ليمنع به البلاد الجزرية من سيف الدين ابن عمه قطب الدين، فلم يمكنه الأمراء الذين معه من الانتقال إلى حلب لما ذكرناه.
ذكر ملك سيف الدين البلاد الجزريةكان نور الدين قبل أن يمرض قد أرسل إلى البلاد الشرقية، الموصل وديار الجزيرة وغيرها، يستدعي العساكر منها للغزاة، والمراد غيرها، وقد تقدم ذكره، فسار سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود بن زنكي، صاحب الموصل، في عساكره، وعلى مقدمته الخادم سعد الدين كمشتكين الذي كان قد جعله نور الدين بقلعة الموصل مع سيف الدين، فلما كانوا ببعض الطريق وصلت الأخبار بوفاة نور الدين، فأما سعد الدين فإنه كان في المقدمة، فهرب جريدة.
وأما سيف الدين فأخذ كل ما كان له من برك وغيره، وعاد إلى نصيبين فملكها، وأرسل الشحن إلى الخابور فاستولوا عليه، وأقطعه، وسار هو إلى حران فحصرها عدة أيام، وبها مملوك لنور الدين يقال له قايماز الحراني، فامتنع بها، وأطاع بعد ذلك على أن تكون حران له، ونزل إلى خدمة سيف الدين، فقبض عليه وأخذ حران منه، وسار إلى الرها فحصرها وملكها، وكان بها خادم خصي أسود لنور الدين فسلمها وطلب عوضاً عنها قلعة الزعفران من أعمال جزيرة ابن عمر، فأعطيها، ثم أخذت منه، ثم صار إلى أن يستعطي ما يقوته.
وسير سيف الدين إلى الرقة فملكها، وكذلك سروج، واستكمل ملك جميع بلاد الجزيرة سوى قلعة جعبر، فإنها كانت منيعة، وسوى رأس عين، فإنها كانت لقطب الدين، صاحب ماردين، وهو ابن خال سيف الدين، فلم يتعرض إليها.

وكان شمس الدين علي بن الداية، وهو أكبر الأمراء النورية، بحلب مع عساكرها، فلم يقدر على العبور إلى سيف الدين ليمنعه من أخذ البلاد، لفالج كان به، فأرسل إلى دمشق يطلب الملك الصالح، فلم يرسل إليه، لما ذكرناه؛ ولما ملك سيف الدين الديار الجزرية قال له فخر الدين عبد المسيح، وكان قد وصل إليه من سيواس بعد موت نور الدين ، وهو الذي أقر له الملك بعد أبيه قطب الدين، فظن أن سيف الدين يرعى له ذلكن فلم يجن ثمرة ما غرس، وكان عنده كبعض الأمراء، قال له: الرأي أن تعبر إلى الشام فليس به مانع؛ فقال له أكبر أمراءه، وهو أمير يقال له عز الدين محمود المعروف بزلفندار: قد ملكت أكثر ما كان لأبيك، والمصلحة أن تعود؛ فرجع إلى قوله، وعاد إلى الموصل ليقضي الله مراً كان مفعولاً.
ذكر حصر الفرنج بانياس وعودهم عنهالما مات نور الدين محمود ، صاحب الشام، اجتمعت الفرنج وساروا إلى قلعة بانياس من أعمال دمشق فحصروها، فجمع شمس الدين محمد بن المقدم العسكر عنده بدمشق، فخرج عنها، فراسلهم، ولاطفهم، ثم أغلظ لهم بالقول، وقال لهم: إن أنتم صالحتمونا وعدتم عن بانياس، فنحن على ما كنا عليه، وإلا فنرسل إلى سيف الدين، صاحب الموصل، ونصالحه، ونستنجده، ونرسل إلى صلاح الدين بمصر فنستنجده، ونقصد بلادكم من جهاتها كلها، ولا تقومون لنا. وأنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين، والآن قد زال ذلك الخوف، وإذا طلبناه إلى بلادكم فلا يمتنع. فعلموا صدقه، فصالحوه على شيء من المال أخذوه وأسرى أطلقوا كانوا عند المسلمين وتقررت الهدنة.
فلما سمع صلاح الدين بذلك أنكره واستعظمه، وكتب إلى الملك الصالح والأمراء الذين معه يقح لهم ما فعلوه ويبذل من نفسه قصد بلاد الفرنج ومقارعتهم وإزعاجهم عن قصد شيء من بلاد الملك الصالح؛ وكان قصده أن يصير له طريق إلى بلاد الشام ليتملك البلاد، والأمراء الشاميون إنما صالحوا الفرنج خوفاً منه ومن سيف الدين غازين صاحب الموصل، فإنه كان قد أخذ البلاد الجزرية، وخافوا منه أن يعبر إلى الشام، فرأوا صلح الفرنج أصلح من أن يجيء هذا من الغرب وهذا من الشرق، وهم مشغولون عن ردهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، وقع الحريق ببغداد فاحترق أكثر الظفرية ومواضع غيرها، ودام الحريق إلى بكرة وطفئت النار.
وفيها، في شعبان، بنى ابن سنكا، وهو ابن أخي شملة، صاحب خوزستان، قلعة بالقرب من الماهكي ليتقوى بها على الاستيلاء على تلك الأعمال، فسير إليه الخليفة العساكر من بغداد لمنعه، فالتقوا وحمل بنفسه على الميمنة فهزمها، واقتتل الناس قتالاً عظيماً، وأسر ابن أخي شملة، وحمل رأسه إلى بغداد، فعلق بباب النوبي، وهدمت القلعة.
وفيها، في رمضان، توالت الأمطار في ديار بكر والجزيرة والموصل، فدامت أربعين يوماً ما رأينا الشمس فيها غير مرتين، كل مرة مقدار لحظة، وخربت المساكن وغيرها، وكثر الهدم، ومات تحته كثير من الناس، وزادت دجلة زيادة عظيمة، وكان أكثرها ببغداد، فإنها زادت على كل زيادة تقدمت منذ بنيت بغداد بذراع وكسر، وخاف الناس الغرق، وفارقوا البلد، وأقاموا على شاطئ دجلة خوفاً من انفتاح القورج وغيره، وكانوا كلما انفتح موضع بادروا بسده، ونبع الماء في البلاليع، وخرب كثيراً من الدور، ودخل الماء إلى البيمارستان العضدي، ودخلت السفن من الشبابيك التي له، فإنها كانت قد تقلعت، فمن الله على الناس بنقص الماء بعد أن أشرفوا على الغرق.
وفيها في جمادى الأولى، كانت الفتنة ببغداد بين قطب الدين قايماز والخليفة، وسببها أن الخليفة أمر بإعادة عضد الدين بن رئيس الرؤساء إلى الوزارة، فمنع منه قطب الدين، وأغلق باب النوبي وباب العامة، وبقيت دار الخليفة كالمحاصرة، فأجاب الخليفة إلى ترك وزارته، فقال قطب الدين: لا أقنع إلا بإخراج عضد الدين من بغداد؛ فأمر بالخروج منها، فالتجأ إلى صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل، فأخذه إلى رباطه وأجاره، ونقله إلى دار الوزير بقطفتا، فأقام بها، ثم عاد إلى بيته في جمادى الآخرة.

وفيها سقط الأمير أبو العباس أحمد بن الخليفة، وهو الذي صر خليفة، من قبة عالية إلى ارض التاج ومعه غلام له اسمه نجاح، فألقى نفسه بعده، وسلم ابن الخليفة ونجاح، فقيل لنجاح: لم ألقيت نفسك؟ فقال: ما كنت أريد البقاء بعد مولاي؛ فرعى له الأمير أبو العباس ذلك؛ فلما صار خليفة جعله شرابياً، وصارت الدولة جميعها بحكمه، ولقبه الملك الرحيم عز الدين، وبالغ في الإحسان إليه والتقديم له، وخدمه جميع الأمراء بالعراق والوزراء وغيرهم.
وفيها، في رمضان، وقع ببغداد برد كبار ما رأى الناس مثله، فهدم الدور، وقتل جماعة من الناس وكثيراً من المواشي، فوزنت بردة منها فكانت سبعة أرطال، وكان عامته كالنارنج يكسر الأغصان. هكذا ذكره أبو الفرج بن الجوزي في تاريخه، والعهدة عليه.
وفيها كانت وقعة عظيمة بين المؤيد، ن صاحب نيسابور، وبين شاه مازندران، قتل فيها كثير من الطائفتين، فانهزم شاه مازندران، ودخل المؤيد بلد الديلم وخربه وفتك بأهله وعاد عنه.
وفيها وقعت وقعة كبيرة بين أهل باب البصرة وأهل باب الكرخ، وسببها أن الماء لما زاد سكر أهل الكرخ سكراً رد الماء عنهم، فغرق مسجد فيه شجرة، فانقلعت، فصاح أهل الكرخ انقلعت الشجرة، لعن الله العشرة! فقامت الفتنة، فتقدم الخليفة إلى علاء الدين تنامش بكفهم، فمال على أهل باب البصرة لأنه كان شيعياً، وأراد خول المحلة، فمنعه أهلها، وأغلقوا الأبواب ووقفوا على السور؛ وأراد إحراق الأبواب، فبلغ ذلك الخليفة فأنكره أشد إنكار، وأمر بإعادة تنامش، فعاد، ودامت الفتنة أسبوعاً، ثم انفصل الحال من غير توسط سلطان.
وفيها عبر الروم خليج القسطنطينية وقصد بلاد قلج ارسلان، فجرى بينهما حرب استظهر فيها المسلمون، فلما رأى ملك الروم عجزه عاد إلى بلاده، وقد قتل من عسكره جماعة كثيرة.
وفيها في جمادى الأولى، مات أحمد بن علي بن المعمر بن محمد بن عبد الله أبو عبد الله العلوي الحسيني نقيب العلويين ببغداد.
وفيها توفي الحافظ أبو العلاء الحسن بن احمد بن الحسن بن أحمد بن محمد العطار الهمذاني، سافر الكثير في طلب الحديث وقراءة القرآن واللغة، وكان من أعيان المحدثين في زمانه، وكان له قبول عظيم ببلده عند العامة والخاصة.
وفيها توفي أبو محمد سعيد بن المبارك المعروف بابن الدهان النحوي البغدادي بالموصل، وكان إماماً في النحو، له التصانيف المشهورة منها الغرة وغيرها.
ثم دخلت سنة سبعين وخمسمائة

ذكر وصول أسطول صقلية إلى الإسكندرية
وانهزامه عنها
في هذه السنة، في المحرم، ظفر أهل الإسكندرية وعسكر مصر بأسطول الفرنج من صقلية، وكان سبب ذلك ما ذكرناه من إرسال أهل مصر إلى ملك الفرنج بساحل الشام، وإلى صاحب صقلية، ليقصدوا ديار مصر ليثوروا بصلاح الدين ويخرجوه من مصر، فجهز صاحب صقلية أسطولاً كثيراً، عدته مائتا شيني تحمل الرجالة، وست وثلاثون طريدة تحمل الخيل، وستة مراكب تحمل آلة الحرب، وأربعون مركباً تحمل الأزواد، وفيها من الراجل خمسون ألفاً، ومن الفرسان ألف وخمسمائة، منها خمسمائة تركبلي.

وكان المقدم عليهم ابن عم صاحب صقلية، وسيره إلى الإسكندرية من ديار مصر، فوصلوا إليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة سنة تسع وستين، على حين غفلة من أهلها وطمأنينة، فخرج أهل الإسكندرية بعدتهم وسلاحهم ليمنعوهم من النزول، وابعدوا عن البلد، فمنعهم الوالي من ذلك، وأمرهم بملازمة السور، ونزل الفرنج إلى البر مما يلي البحر والمنارة وتقدموا إلى المدينة ونصبوا عليها الدبابات والمجانيق وقاتلوا أشد قتال، وصبر لهم أهل البلد، ولم يكن عندهم من العسكر إلا القليل، ورأى الفرنج من شجاعة أهل الإسكندرية وحسن سلاحهم ما راعهم وسيرت الكتب بالحال إلى صلاح الدين يستدعونه لدفع العدو عنهم، ودام القتال أول يوم إلى آخر النهار، ثم عاود الفرنج القتال في اليوم الثاني، وجدوا، ولازموا الزحف، حتى وصلت الدبابات إلى قرب السور، ووصل ذلك اليوم من العساكر الإسلامية كل من كان له في أقطاعة، وهو قريب من الإسكندرية، فقويت بهم نفوس أهلها، وأحسنوا القتال والصبر، فلما كان اليوم الثالث فتح المسلمون باب البلد وخرجوا منه على الفرنج من كل جانب، وهم غارون، وكثر الصياح من كل الجهات، فارتاع الفرنج واشتد القتال، فوصل المسلمون إلى الدبابات فأحرقوها، وصبروا للقتال فأنزل الله نصره عليهم، وظهرت أماراته، ولم يزالوا مباشرين القتال حتى أخر النهار، ودخل أهل البلد إليه وهم فرحون مستبشرون بما رأوا من تباشير الظفر وقوتهم، وفشل الفرنج وفتور حربهم، وكثرة القتل والجراح في رجالاتهم.
وأما صلاح الدين فإنه لما وصله الخبر سار بعساكره، وسير مملوكاً له ومعه ثلاث جنائب ليجد السير عليها إلى الإسكندرية يبشر بوصوله، وسير طائفة من العسكر إلى دمياط خوفاً عليها، واحتياطاً لها، فسار ذلك المملوك، فوصل الإسكندرية من يومه وقت العصر، والناس قد رجعوا من القتال، فنادى في البلد بمجيء صلاح الدين والعساكر مسرعين، فلما سمع الناس ذلك عادوا إلى القتال، و قد زال ما بهم من تعب وألم الجراح، وكل منهم يظن ان صلاح الدين معه، فهو يقاتل قتال من يريد أن يشاهد قتاله.
وسمع الفرنج بقرب صلاح الدين في عساكره، فسقط في أيديهم، وازدادوا تعباً وفتوراً، فهاجمهم المسلمون عند اختلاط الظلام، ووصلوا إلى خيامهم فغنموها بما فيها من الأسلحة الكثيرة والتحملات العظيمة، وكثر القتل في رجالة الفرنج، فهرب كثير منهم إلى البحر، وقربوا شوانيهم إلى إلى الساحل ليركبوا فيها، فسلم بعضهم وركب، وغرق بعضهم، وغاص بعض المسلمين بالماء وخرق بعض شواني الفرنج فغرقت، فخاف الباقون من ذلك، فولوا هاربين، واحتمى ثلاثمائة من فرسان الفرنج على رأس تل، فقاتلهم المسلمون إلى بكرة، ودام القتال إلى أن أضحى النهار، فغلبهم أهل البلد وقهروهم فصاروا بين قتيل وأسير، كفى الله المسلمين شرهم وحاق بالكافرين مكرهم.
ذكر خلاف الكنز بصعيد مصرفي أول هذه السنة خالف الكنز بصعيد مصر، واجتمع إليه من رعية البلاد والسودان والعرب وغيرهم خلق كثير، وكان هناك أمير من الصلاحية في أقطاعه، وهو أخو الأمير أبو الهيجاء السمين، فقتله الكنز، فعظم قتله على أخيه، وهو من أكبر الأمراء وأشجعهم، فسار إلى قتال الكنز، وسير معه صلاح الدين جماعة من الأمراء، وكثيراً من العسكر، ووصلوا إلى مدينة طود، فاحتمت عليهم، فقاتلوا من بها، وظفروا بهم، وقتلوا منهم كثيراُ، وذلوا بعد العز وقهروا واستكانوا.
ثم سار العسكر بعد فراغهم من طود إلى الكنز، وهو في طغيانه يعمه، فقاتلوه، فقتل هو ومن معه من الأعراب وغيرهم، وأمنت بعده البلاد واطمأن أهلها.
ذكر ملك صلاح الدين دمشق

في هذه السنة، سلخ ربيع الأول، ملك صلاح الدين يوسف بن أيوب مدينة دمشق. وسبب ذلك أن نور الدين لما مات وملك ابنه الملك الصالح بعده كان بدمشق، كان سعد الدين كمشتكين قد هرب من سيف الدين غازي إلى حلب، كما ذكرناه، فأقام بها عند شمس الدين بن الداية، فلما استولى سيف الدين على البلاد الجزرية خاف ابن الداية أن يغير إلى حلب فيملكها، فأرسل سعد الدين إلى دمشق ليحضر الملك الصالح ومعه العساكر إلى حلب، فلما قارب دمشق سير إليه شمس الدين محمد بن المقدم عسكراً فنهبوه، وعاد منهزماً إلى حلب، فأخلف عليه ابن الداية عوض ما أخذ منه، ثم إن الأمراء الذين بدمشق نظروا في المصلحة، فعلموا أن مسيره إلى حلب أصلح للدولة من مقامه بدمشق، فأرسلوا إلى ابن الدية يطلبون إرسال سعد الدين ليأخذ الملك الصالح، فجهزه وسيره وعلى نفسها براقش تجني، فسار إلى دمشق في المحرم من هذه السنة، واخذ الملك الصالح وعاد إلى حلب، فلما وصلوا إليها قبض سعد الدين على شمس الدين بن الداية وأخوته، وعلى ابن الخشاب رئيس حلب ومقدم الأحداث فيها، ولولا مرض شمس الدين بن الداية لم يتمكن من ذلك.
واستبد سعد الدين بتدبير الملك الصالح، فخافه ابن المقدم وغيره من الأمراء الذين بدمشق وقالوا: إذا استقر أمر حلب أخذ الملك الصالح وسار به إلينا، وفعل مثل ما فعل بحلب؛ وكاتبوا سيف الدين غازي صاحب الموصل ليعبر الفرات إليهم ليسلموا إليه دمشق فيمنع عنها ويقصده ابن عمه وعسكر حلب من وراء ظهره فيهلك. وأشار عليه بهذا زلفندار عز الدين، والجبان يقدر البعيد من الشر قريباً، ويرى الجبن حزماً كما قال:
يرى الجبناء أن الجبن حزم ... وتلك طبيعة الرجل الجبان
فلما أشار عيه بهذا الرأي زلفندار قبله وامتنع عن قصد دمشق، وراسل سعد الدين الملك الصالح وصالحهما على ما أخذه من البلاد، فلما امتنع عن العبور إلى دمشق عظم خوفهم، وقالوا: حيث صالحهم سيف الدين لم يبق لهم مانع عن المسير إلينا؛ فكاتبوا حينئذ صلاح الدين يوسف بن أيوب، صاحب مصر، واستدعوه ليملكوه عليهم، وكان كبيرهم في ذلك شمس الدين بن المقدم، ومن أشبه أباه فما ظلم، وقد ذكرنا مخامرة أبيه في تسليم سنجار سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
فلما وصلت الرسل إلى صلاح الدين بذلك لم يلبث، وسار جريدة في سبع مائة فارس والفرنج في طريقه، فلم يبال بهم، فلما وطئ ارض الشام قصد بصرى، وكان بها حينئذ صاحبها وهو من جملة من كاتبه، فخرج ولقيه، فلما رأى قلة من معه خاف على نفسه، واجتمع بالقاضي الفاضل وقال: ما أرى معكم عسكراً، وهذا بلد عظيم لا يقصد بمثل هذا العسكر ولو منعكم من به ساعة من النهار أخذكم أهل السواد، فإن كان معكم مال سهل الأمر. فقال معنا مال كثير يكون خمسين ألف دينار؛ فضرب صاحب بصرى على رأسه وقال: هلكتم وأهلكتمونا؛ وجميع ما كان معهم عشرة آلاف دينار.
ثم سار صلاح الدين إلى دمشق فخرج كل من بها من العسكر إليه، فلقوه وخدموه، ودخل البلد، ونزل في دار والده المعروفة بدار العقيقي، وكانت القلعة بيد خادم اسمه ريحان، فأحضر صلاح الدين كمال الدين بن الشهرزوري وهو قاضي البلد والحاكم في جميع أموره من الديوان والوقف وغير ذلك، وأرسله إلى ريحان ليسلم القلعة إليه، وقال: أنا مملوك الملك الصالح، وما جئت إلا لأنصره وأخدمه، وأعيد البلاد التي أخذت منه إليه؛ وكان يخطب له في بلاده كلها، فصعد كمال الدين إلى ريحان، ولم يزل معه حتى سلم القلعة، فصعد صلاح الدين غليها، وأخذ ما فيها من الأموال، وأخرجها واتسع بها وثبت قدمه، وقويت نفسه، وهو مع هذا يظهر الطاعة للملك الصالح، ويخاطبه بالمملوك، والخطبة والسكة باسمه.
ذكر ملك صلاح الدين مدينتي حمص وحماة

لما استقر ملك صلاح الدين لدمشق، وقرر أمرها، استخلف بها أخاه سيف الإسلام طغدكين بن أيوب، وسار إلى مدينة حمص مستهل جمادى الأولى، وكانت حمص وحماة وقلعة بعين وسلمية وتل خالد والرها من بلد الجزيرة في أقطاع الأمير فخر الدين مسعود الزعفراني، فلما مات نور الدين لم يمكنه المقام بها لسوء سيرته في أهلها، ولم يكن له في قلاع هذه البلاد حكم إنما فيها ولاة لنور الدين. وكان بقلعة حمص وال يحفظها، فلما نزل صلاح الدين على حمص، حادي عشر الشهر المذكور، راسل من فيها بالتسليم، فامتنعوا، فقاتلهم من الغد، فملك البلد وأمن أهله، وامتنعت عليه القلعة وبقيت ممتنعة إلى أن عاد من حلب، على ما نذكره إن شاء الله، وترك بمدينة حمص من يحفظها، ويمنع من بالقلعة من التصرف، وأن تصعد إليهم ميرة.
وسار إلى مدينة حماة، وهو في جميع أحواله لا يظهر إلا طاعة الملك الصالح بن نور الدين، وانه إنما خرج لحفظ بلاده عليه من الفرنج، واستعادة ما أخذه سيف الدين صاحب الموصل من البلاد الجزرية، فلما وصل إلى حماة ملك المدينة مستهل جمادى الآخرة، وكان بقلعتها الأمير عز الدين جورديك، وهو من المماليك النورية، فامتنع من التسليم إلى صلاح الدين، فأرسل إليه صلاح الدين ما يعرفه ما هو عليه من طاعة الملك الصالح، وإنما يريد حفظ بلاده عليه، فاستحلفه جورديك على ذلك فحلف له وسيره إلى حلب في اجتماع الكلمة على طاعة الملك الصالح، وفي إطلاق شمس الدين علي وحسن وعثمان أولاد الداية من السجن، فسار جورديك إلى حلب، واستخلف بقلعة حماة أخاه ليحفظها، فلما وصل جورديك إلى حلب قبض عليه كمشتكين وسجنه، فلما علم أخوه بذلك سلم القلعة إلى صلاح الدين فملكها.
ذكر حصر صلاح الدين حلب وعوده عنها

وملكه قلعة حمص وبعلبك
لما ملك صلاح الدين حماة سار إلى حلب فحصرها ثالث جمادى الآخرة، فقاتله أهلها، وركب الملك الصالح، وهو صبي عمره اثنتا عشر سنة، وجمع أهل حلب وقال لهم: قد عرفتم إحسان أبي إليكم ومحبته لكم وسيرته فيكم، وأنا يتيمكم، وقد جاء هذا الظالم الجاحد إحسان والدي إليه يأخذ بلدي ولا يراقب الله تعالى، ولا الخلق، وقال من هذا كثير وبكى فأبكى الناس، فبذلوا له الأموال والأنفس، واتفقوا على القتال دونه، والمنع عن بلده، وجدوا في القتال، وفيهم شجاعة، وقد ألفوا الحرب واعتادوها، حيث كان الفرنج بالقرب نهم، فكانوا يخرجون ويقاتلون صلاح الدين عند جبل حوشن، فلا يقدر على القرب من البلد.
وأرسل سعد الدين كمشتكين إلى سنان مقدم الإسماعيلية، وبذل له أموالاً كثيرة ليقتلوا صلاح الدين، فأرسلوا جماعة منهم إلى عسكره، فلما وصلوا رآهم أمير اسمه خمارتكين، صاحب قلعة أبي قبيس، فعرفهم لأنه جارهم في البلاد،كثير الاجتماع بهم والقتال لهم، فلما رآهم قال لهم: ما الذي أقدمكم وفي أي شيء جئتم؟ فجرحوه جراحات مثخنة، وحمل أحدهم على صلاح الدين ليقتله، فقتل دونه، وقاتل الباقون من الإسماعيلية، فقتلوا جماعة ثم قتلوا.
وبقي صلاح الدين محاصراً لحلب إلى سلخ جمادى الآخرة، ورحل عنها مستهل رجب وسبب رحيله أن القمص ريمند الصنجيلي، صاحب طرابلس، كان قد أسره نور الدين على حارم سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وبقي في الحبس إلى هذه السنة، فأطلقه سعد الدين بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية وألف أسير، فلما وصل إلى بلده اجتمع الفرنج عليه يهنئونه بالسلامة، وكان عظيماً فيهم من أعيان شياطينهم، فاتفق أن مري ملك الفرنج، لعنه الله، مات أول هذه السنة، وكان أعظم ملوكهم شجاعة وأجودهم رأياً ومكراً ومكيده، فلما توفي خلف ابناً مجذوماً عاجزاً عن تدبير الملك، فملكه الفرنج صورة لا معنى تحتها، وتولى القمص ريمند تدبير الملك، وإليه الحل والعقد، عن أمره يصدرون، فأرسل إليه من بحلب يطلبون منه أن يقصد بعض البلاد التي بيد صلاح الدين ليرحل عنهم، فسار إلى حمص ونازلها سابع رجب، فلما تجهز لقصدها سمع صلاح الدين الخبر فرحل عن حلب، فوصل إلى حماة ثامن رجب، بعد نزول الفرنج على حمص بيوم، ثم رحل إلى الرستن، فلما سمع الفرنج بقربه رحلوا عن حمص، ووصل صلاح الدين إليها، فحصر القلعة إلى أن ملكها في الحادي والعشرين من شعبان من السنة، فصار أكثر الشام بيده.

ولما ملك حمص سار منها إلى بعلبك، وبها خادم اسمه يمن، وهو وال عليها من أيام نور الدين، فحصرها صلاح الدين، فأرسل يمن يطلب الأمان له ولمن عنده، فأمنهم صلاح الدين، وسلم القلعة رابع شهر رمضان من السنة المذكورة.
ذكر حصر سيف الدين أخاه عماد الدين بسنجارلما ملك صلاح الدين دمشق وحمص وحماة كتب الملك الصالح إسماعيل ابن نور الدين إلى ابن عمه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود، يستنجده على صلاح الدين، ويطلب أن يعبر إليه ليقصدوا صلاح الدين ويأخذوا البلاد منه، فجمع سيف الدولة عساكره، وكاتب أخاه عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، يأمره أن ينزل إليه بعساكره ليجتمعا على المسير إلى الشام، فامتنع من ذلك.
وكان صلاح الدين قد كاتب عماد الدين وأطمعه في الملك لأنه هو الكبير، فحمله الطمع على الامتناع عن أخيه، فلما رأى سيف الدين امتناعه جهز أخاه عز الدين مسعوداً في عسكر كثير، هو معظم عسكره، وسيره إلى الشام، وجعل المقدم على العسكر مع أخيه عز الدين محمود ويلقب أيضاً زلفندار،وجعله المدبر للأمر، وسار سيف الدين إلى سنجار فحصرها في شهر رمضان وقاتلها، وجد في القتال، وامتنع عماد الدين بها، وأحسن حفظها والذب عنها، فدام الحصار عليها، فبينما هو يحاصرها أتاه الخبر بانهزام عسكره مع أخيه عز الدين مسعود من صلاح الدين، فراسل حينئذ أخاه عماد الدين وصالحه على ما بيده، ورحل إلى الموصل، وثبت قدم صلاح الدين بعد الهزيمة، وخافه الناس، وترددت الرسل بينه وبين سيف الدين غازي في الصلح، فلم يستقر حال.
انهزام سيف الدين من صلاح الدين

ذكر انهزام عسكر سيف الدين من صلاح الدين وحصره مدينة حلب
في هذه السنة سار عسكر سيف الدين مع أخيه عز الدين وعز الدين زلفندار إلى حلب، واجتمع معهما عساكر حلب، وساروا كلهم إلى صلاح الدين ليحاربوه، فارسل صلاح الدين إلى سيف الدين يبذل تسليم حمص وحماة، وأن يقر بيده مدينة دمشق، وهو فيها نائب الملك الصالح، فلم يجب إلى ذلك، وقال: لا بد من تسليم جميع ما أخذ من بلاد الشام ويعود إلى مصر.
وكان صلاح الدين يجمع عساكره ويتجهز للحرب، فلما امتنع سيف الدين من إجابته إلى ما بذل سار في عساكره إلى عز الدين مسعود وزلفندار، فالتقوا تاسع عشر رمضان، بالقرب من مدينة حماة، بموضع يقال له قرون حماة، وكان زلفندار جاهلاً بالحروب والقتال، غير عالم بتدبيرها، مع جبن فيه، إلا انه قد رزق سعادة وقبولاً من سيف الدين، فلما التقى الجمعان لم يثبت العسكر السيفي، وانهزموا لا يلوي أخ على أخيه، وثبت عز الدين أخو سيف الدين بعد انهزام أصحابه، فلما رأى صلاح الدين ثباته قال: إما أن هذا أشجع الناس، أم أنه لا يعرف الحرب؛ وأمر أصحابه بالحملة عليه، فحملوا فأزاحوه عن موقفه،وتمت الهزيمة عليهم.
وتبعهم صلاح الدين وعسكره حتى جازوا معسكرهم، وغنموا منهم غنائم كثيرة، وآلة، وسلاحاً عظيماً ودواب فارهة، وعادوا بعد طول البيكار مستريحين، وعاد المنهزمون إلى حلب، وتبعهم صلاح الدين، فنازلهم بها محاصراً لها ومقاتلاً، وقطع خطبة الملك الصالح بن نور الدين، وأزال اسمه عن السكة في بلاده، ودام محاصراً لهم، فلما طال الأمر عليهم راسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام ولهم ما بأيديهم منها، فأجابهم إلى ذلك، وانتظم الصلح ورحل عن حلب في العشر الأول من شوال ووصل إلى حماة، ووصلت إليه بها خلع الخليفة مع رسوله.
ذكر ملك صلاح الدين قلعة بعرين

في هذه السنة، في العشر الأول من شوال، ملك صلاح الدين قلعة بعرين من الشام،وكان صاحبها فخر الدين مسعود بن الزعفراني، وهو من أكابر الأمراء النورية، فلما رأى قوة صلاح الدين نزل منها، واتصل بصلاح الدين، ظن أنه يكرمه ويشاركه في ملكه، ولا ينفرد عنه بأمر مثل ما كان مع نور الدين، فلم ير من ذلك شيئاً، ففارقه، ولم يكن بقي من أقطاعه الذي كان له في الأيام النوريه غير بعرين ونائبه بها، فلما صالح صلاح الدين الملك الصالح بحلب، عاد إلى حماة وسار منها إلى بعرين، وهي قريبة منها، فحصرها ونصب عليها المجانيق، وأدام قتالها، فسلمها واليها بالأمان، فلما ملكها عاد إلى حماة، فأقطعها خاله شهاب الدين محمود بن تكش الحارمي، وأقطع حمص ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه، وسار منها إلى دمشق فدخلها أواخر شوال من السنة.
ذكر ملك البهلوان مدينة تبريزفي هذه السنة ملك البهلوان بن إيلدكز مدينة تبريز، وهي من جملة بلاد آقسنقر الأحمديلي، وسبب ذلك أن البهلوان سار إلى مراغة وحصرها، وكان ابن أقسنقر الأحمديلي صاحبها قد مات ووصى بالملك لابنه فلك الدين، فقصده البهلوان، ونزل على قلعة روبين دز وحصرها فامتنعت عليه، فتركها، وحصر مراغة، وسير أخاه قزل أرسلان في جيش إلى مدينة تبريز فحصرها أيضاً.
وكان البهلوان يقاتل أهل مراغة فظفروا بطائفة من عسكره فخلع عليهم صدر الدين قاضي مراغة، وأطلقهم، فحسن ذلك عند البهلوان، وشرع القاضي في الصلح على ان يسلموا تبريز إلى البهلوان، فأجيب إلى ذلك، واستقرت القاعدة عليه، وحلف كل واحد منهما إلى صاحبه، وتسلم البهلوان تبريز وأعطاها أخاه قزل أرسلان، ورحل عن مراغة.
ذكر وفاة شملةفي هذه السنة، مات شملة التركماني، صاحب خوزستان، وكان قد كثرت ولايته، وعظم شانه، وبنى عدة حصون، وبقي كذلك زيادة على عشرين سنة.
وكان سبب موته انه قصد بعض التركمان، فعلموا بذلك، فاستعانوا بشمس الدين البهلوان بن إيلدكز، صاحب عراق العجم، فسير إليهم جيشاً، فاقتتلوا فأصاب شملة سهم، ثم أخذ أسيراً وولده وابن أخيه، وتوفي بعد يومين، وهو من التركمان الأقشرية، ولما مات ملك ابنه بعده.
ذكر هرب قطب الدين قايماز من بغدادفي هذه السنة، في شوال، سير علاء الدين تنامش، وهو من اكابر الأمراء ببغداد، وهو ابن أحمد قطب الدين قايماز زوج اخته، عسكراً إلى الغراف، فنهبوا أهله وبالغوا في أذاهم، فجاء منهم جماعة إلى بغداد واستغاثوا، فلم يغاثوا لضعف الخليفة مع قايماز وتنامش، وتحكمهما عليه، فقصدوا جامع القصر واستغاثوا فيهن ومنعوا الخطيب، وفاتت الصلاة اكثر الناس، فأنكر الخليفة ما جرى، فلم يلتفت قطب الدين وتنامش إلى ما فعل، واحتقروه، فلا جرم لم يمهلهم الله تعالى لاحتقارهم الدعاء وازدرائهم أهله.
فلما كان الخامس من ذي القعدة قصد قطب الدين قايماز أذى ظهير الدين بن العطار، وكان صاحب المخزن، وهو خاص الخليفة، وله به عناية تامة، فلم يراع الخليفة في صاحبه، فارسل إليه يستدعيه ليحضر عنده، فهرب، فاحرق قطب الدين داره، وحال الأمراء على المساعدة والمظاهرة له، وجمعهم، وقصد دار الخليفة لعلمه أن ابن العطار فيها، فلما علم الخليفة ذلك ورأى الغلبة صعد إلى سطح داره وظهر للعامة وأمر خادماً فصاح واستغاث، وقال للعامة: مال قطب الدين لكم ودمه لي؛ فقصد الخلق كلهم دار قطب الدين للنهب، فلم يمكنه المقام لضيق الشوارع وغلبة العامة، فهرب من داره من باب فتحة فيظهرها، لكثرة الخلق على بابها، وخرج من بغداد ونهبت داره، وأخذ منها من الأموال ما لا يحد ولا يحصى، فرؤي فيها من التنعم ما ليس لأحد مثله، فمن جملة ذلك ان بيت الطهارة الذي كان له فيه سلسلة ذهب من السقف إلى محاذي وجه القاعد على الخلا، وفي أسفلها كرة كبيرة ذهب، مخرمة، محشوة بالمسك والعنبر ليشمها إذا قعد، فتشبث بها إنسان وقطعها وأخذها، ودخل بعض الصعاليك فاخذ عدة أكياس مملوءة دنانير.

وكان الأقوياء قد وقفوا على الباب يأخذون ما يخرج به الناس، فلما أخذ ذلك الصعلوك الأكياس قصد المطبخ فاخذ منه قدراً مملوئة طبيخاً، وألقى الأكياس فيها وحملها على رأسه وخرج بها، والناس يضحكون منه، فيقول: أنا أريد شيئاً أطعمه عيالي اليوم؛ فنجا بما معه، فاستغنى بعد ذلك، فظهر المال، ولم يبق من نعمة قطب الدين في ساعة واحدة كثير ولا قليل.
ولما خرج من البلد تبه تنامش وجماعة من الأمراء، فنهبت دورهم أيضاً، وأخذت أموالهم واحرق أكثرها، وسار قطب الدين إلى الحلة ومعه الأمراء، فسير الخليفة غليه صدر الدين شيخ الشيوخ، فلم يزل به يخدعه حتى سار عن الحلة إلى الموصل على البر، فلحقه ومن معه عطش شديد فهلك أكثرهم من شدة الحر والعطش، ومات قطب الدين قبل وصوله إلى الموصل فحمل ودفن بظاهر باب العمادي وقبره مشهور هناك.
وهذا عاقبة عصيان الخليفة، وكفران الإحسان، والظلم، سوء التدبير، فإنه ظلم أهل العراق، وكفر إحسان الخليفة الذي كان قد غمره، ولو أقام بالحلة وجمع العساكر عاود بغداد لاستولى على الأمور كلها كما كان، فإن عامة بغداد كانوا يريدونه، وكان قوي بالاستيلاء على البلاد فأطاعوه.
ولما مات في ذي الحجة وصل علاء الدين تنامش إلى الموصل، فأقام مديدة، ثم أمره الخليفة بالقدوم إلى بغداد، فعاد إليها، وبقي فيها إلى أن مات بغير إقطاع، وكان هذا آخر أمرهم.
ولما أقام قطب الدين بالحلة امتنع الحاج من السفر، فتأخروا إلى أن رحل عنها، فدخلوا من الكوفة إلى عرفات في ثمانية عشر يوماً، وهذا ما لم يسمع بمثله، وفات كثير منهم الحج.
ولما هرب قطب الدين خلع الخليفة على عضد الدين الوزير وأعيد إلى الوزارة. قال بعض الشعراء في قطب الدين وتنامش هذه الأبيات:
إن كنت معتبراً بملك زائل ... وحوادث عنقية الإدلاج
فدع العجائب والتواريخ الأولى ... وانظر إلى قايماز وابن قماج
عطف الزمان عليهما فسقاهما ... من كأسه صرفاً بغير مزاج
فتبدلوا بعد القصور وظلها ... ونعيمها بمهامه وفجاج
فليحذر الباقون من أمثالها ... نكبات دهر خائن مزعاج
وكان قطب الدين كريماً، طلق الوجه، محباً للعدل والإحسان، كثير البذل للمال. والذي كان جرى منه غنما كان يحمله عليه تنامش ولم يكن بإرادته.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة مات زعيم الدين صاحب المخزن، واسمه يحيى بن عبد الله ابن محمد بن المعمر بن جعفر أبو الفضل، وحج بالناس عدة سنين، وغليه الحكم في الطريق، وناب عن الوزارة، وتنقل في هذه الأعمال اكثر من عشرين سنة، وكان يحفظ القرآن.
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وخمسمائة

ذكر انهزام سيف الدين من صلاح الدين
في هذه السنة، عاشر شوال، كان المصاف بين سيف الدين غازي بن مودود وبين صلاح الدين يوسف بن أيوب بتل السلطان، على مرحلة من حلب، على طريق حماة، وانهزم سيف الدين.
وسبب ذلك أنه لما انهزم أخوه عز الدين مسعود من صلاح الدين في العام الماضي وصالح سيف الدين أخاه عماد الدين صاحب سنجار، عاد إلى الموصل، وجمع عساكره، وفرق فيهم الأموال، واستنجد صاحب حصن كيفا، وصاحب ماردين وغيرها، فاجتمعت معه عساكره كثيرة بلغت عدتهم ستة آلاف فارس، فسار إلى نصبين في ربيع الأول من هذه السنة، وأقام بها فأطال المقام حتى انقضى الشتاء وهو مقيم، فضجر العسكر ونفدت نفقاتهم، وصار العود إلى بيوتهم مع الهزيمة أحب إليهم من الظفر لما يتوقعونه، إن ظفروا، من طول المقام بالشام بعد هذه المدة.

ثم سار إلى حلب، فنزل إليه سعد الدين كمشتكين الخادم، مدبر دولة الملك الصالح، ومعه عساكر حلب، وكان صلاح الدين في قلة من العساكر لأنه كان صالح الفرنج في المحرم من هذه السنة، على ما نذكره إن شاء الله، وقد سير عساكره إلى مصر، فأرسل يستدعيها، فلو عاجلوه لبلغوا غرضهم منه، لكنهم تريثوا وتأخروا عنه، فجاءته عساكره، فسار من دمشق إلى ناحية حلب، ليلقى سيف الدين، فالتقى العسكران بتل السلطان، وكان سيف الدين قد سبقه، فلما وصل صلاح الدين كان وصوله العصر، وقد تعب هو وأصحابه وعطشوا، فألقوا نفوسهم إلى الأرض ليس بهم حركة، فأشار جماعة على سيف الدين بقتالهم وهم على هذا الحال، فقال زلفندار: ما بنا هذه الحاجة إلى قتال هذا الخارجي في هذه الساعة، غداً بكرة نأخذهم كلهم؛ فترك القتال إلى الغد.
فلما اصبحوا اصطفوا للقتال، فجعل زلفندار، وهو المدبر للعسكر السيفي، أعلامهم في وهدة من الأرض، لا يراها إلا من هو بالقرب منها، فلما لم يرها الناس ظنوا أن السلطان قد هزم، فلم يثبتوا وانهزموا، ولم يلو أخ على أخيه، ولم يقتل بين الفريقين على كثرتهم غير رجل واحد، ووصل سيف الدين إلى حلب، وترك بها أخاه عز الدين مسعوداً في جمع من العسكر، ولم يقم هو، وعبر الفرات، وسار إلى الموصل، وهو لا يصدق أنه ينجو.
وظن أن صلاح الدين يعبر الفرات ويقصده بالموصل، فاستشار وزيره جلال الدين، ومجاهد الدين قايماز، في مفارقة الموصل، والاعتصام بقلعة عقر الحميدية، فقال له مجاهد الدين: أرأيت إن ملكت الموصل عليك، أتقدر أن تمنع ببعض أبراج الفصيل؟ فقال : لا. فقال: برج في الفصيل خير من القعر؛ وما زال الملوك ينهزمون ويعاودون الحرب، واتفق هو والوزير على شد أزره، وتقوية قلبه، فثبت ثم أعرض عن زلفندار وعزله واستعمل مكانه على إمارة الجيوش مجاهد الدين قايماز، على ما نذكره إن شاء الله.
وقد ذكر العماد الكاتب في كتاب البرق الشامي في تاريخ الدولة الصلاحية أن سيف الدين كان عسكره في هذه الوقعة عشرين ألف فارس، ولم يكن كذلكن غنما كان على التحقيق يزيد على ستة آلاف فارس اقل من خمسمائة، فإنني وقفت على جريدة العرض، وترتيب العسكر للمصاف ميمنة وميسرة وقلباًن وجاليشة، وغير ذلك، وكان المتولي لذلك والكاتب له أخي مجد الدين أبا السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم، رحمه الله، وإنما قصد العماد أن يعظم أمر صاحبه بأنه هزم بستة آلاف عشرين ألفاً، والحق أحق أن يتبع، ثم ياليت شعري كم هي الموصل وأعمالها إلى الفرات حتى يكون لها وفيها عشرون ألف فارس؟
ذكر ملك صلاح الدين بعد الكسرة

من بلاد الصالح نور الدين
لما انهزم سيف الدين وعسكره ووصلوا إلى حلب عاد سيف الدين إلى الموصل كما ذكرناه، وترك بحلب أخاه عز الدين مسعوداً في طائفة من العسكر نجدة للملك الصالح، وأما صلاح الدين فإنه لما استولى على أثقال العسكر الموصلي هو وعسكره، وغنموها واتسعوا بها وقووا، سار إلى بزاعة فحصرها، وقاتله من بالقلعة، ثم تسلمها وجعل بها من يحفظها، وسار إلى مدينة منبج فحصرها آخر شوال، وبها صاحب قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، وكان شديد العداوة لصلاح الدين والتحريض عليه، والإطماع فيه، والطعن فيه، فصلاح الدين حنق عليه متهدد له، فأما المدينة فملكها، ولم تمتنع عليه، وبقي القلعة وبها صاحبها قد جمع إليها الرجال والذخائر والسلاح، فحصره صلاح الدين وضيق عليه وزحف إلى القلعة، فوصل النقابون إلى السور فنقبوها وملكوها عنوة، وغنم العسكر الصلاحي كل ما بها، وأخذ صاحبها ينال أسيراً، فأخذ صلاح الدين كل ماله واصبح فقيراً لا يملك نقيراً، ثم أطلقه صلاح الدين فسار إلى الموصل، فأقطعه سيف الدين غازي مدينة الرقة.

ولما فرغ صلاح الدين من منبج سار إلى قلعة إعزاز، فنازلها ثالث ذي القعدة من السنة، وهي من أحصن القلاع وأمنعها، فنازلها وحصرها، وأحاط بها وضيق على من فيها ونصب عليها المجانيق، وقتل عليها كثير من العسكر؛ فبينما صلاح الدين يوماً في خيمة لبعض أمراءه يقال له جاولي، وهو مقدم الطائفة الأسدية، إذ وثب عليه باطني فضربه بسكين في رأسه فجرحه، فلولا أن المغفر الزند كانت تحت القلنسوة لقتله، فأمسك صلاح الدين يد الباطني بيده، إلا انه لا يقدر على منعه من الضرب بالكلية، إنما يضرب ضرباً ضعيفاً، فبقي الباطني يضربه في رقبته بالسكين، وكان عليه كزاغند فكانت الضربات تقع في زيق الكزاغند فتقطعه، والزرد يمنعها من الوصول إلى رقبته لبعد اجله فجاء أمير من أمراءه اسمه يازكش، فأمسك السكين بكفه فجرحه الباطني، ولم يطلقها من يده إلى أن قتل الباطني، وجاء آخر من الإسماعيلية فقتل أيضاً، وثلث فقتل، وركب صلاح الدين إلى خيمته كالمذعور لا يصدق بنجاته، ثم اعتبر جنده، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه اقره على خدمته، ولازم حصار إعزاز ثمانية وثلاثين يوماً، كل يوم اشد قتالاً مما قبله، وكثرت النقوب فيهان فأذعن من بها، وسلموا القلعة غليه، فتسلمها حادي عشر ذي الحجة.
ذكر حصر صلاح الدين مدينة حلب

والصلح عليها
لما ملك صلاح الدين إعزاز رحل إلى حلب فنازلها منتصف ذي الحجة وحصرها، وبها الملك الصالح ومن معه من العساكر، وقد قام العامة في حفظ البلد القيام المرضي، بحيث انهم منعوا صلاح الدين من القرب من البلد، لأنه كان إذا تقدم للقتال خسر هو وأصحابه، كثر الجراح فيهم والقتل، كانوا يخرجون ويقاتلونه خارج البلد، فترك القتال وأخلد للمطاولة.
وانقضت سنة إحدى وسبعين ودخلت سنة اثنتين وسبعين، وهو محاصر لها، ثم ترددت الرسل بينهم في الصلح في العشرين من المحرم، فوقعت الإجابة إليه من الجانبين، لأن أهل حلب خافوا من طول الحصار، فإنهم ربما ضعفوا، وصلاح الدين رأى انه لا يقدر على الدنو من البلد، ولا على قتال من به، فأجاب أيضاً، وتقررت القاعدة في الصلح للجميع، للملك الصالح، ولسيف الدين صاحب الموصل، ولصاحب الحصن، ولصاحب ماردين، وتحالفوا واستقرت القاعدة ان يكونوا كلهم عوناً على الناكث الغادر.
فلما انفصل الأمر وتم الصلح رحل صلاح الدين عن حلب، بعد أن أعاد قلعة إعزاز إلى الملك الصالح، فإنه اخرج إلى صلاح الدين أختاً له طفلة، فأكرمها صلاح الدين وحمل لها شيئاً كثيراً، وقال لها : ما تريدين؟ قالت: أريد قلعة إعزاز؛ وكانوا قد علموها ذلك، فسلمها إليهم، ورحل إلى بلد الإسماعيلية.
ذكر الفتنة بمكة وعزل أميرها وإقامة غيرهفي هذه السنة، في ذي الحجة، كان بمكة حرب شديدة بين أمير الحاج طاشتكين وبين الأمير مكثر أمير مكة، وكان الخليفة قد أمر أمير الحاج بعزل مكثر وإقامة أخيه داود مقامه.
وسبب ذلك أنه كان قد بنى قلعة على جبل أبي قبيس، فلما سار الحاج من عرفات لم يبيتوا بالمزدلفة، وإنما اجتازوا بها، فلم يرموا الجمار، إنما بعضهم رمى بعضها وهو سائر، ونزلوا الأبطح فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربوهم، وقتل من الفريقين جماعة، وصاح الناس: الغزاة إلى مكة، فهجموا عليها، فهرب أمير مكة مكثر، فصعد القلعة التي بناها على جبل أبي قبيس فحصروه بها، ففارقها وسار عن مكة، وولي أخوه داود الإمارة، ونهب كثير من الحاج مكة وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها الشيء الكثير، وأحرقوا دوراً كثيرة.
ومن أعجب ما جرى فيها أن إنساناً زراقاً ضرب داراً بقارورة نفط فأحرقها، وكانت لأيتام، فأحرقت ما فيها، ثم أخذ قارورة أخرى ليضرب فيها مكاناً آخر، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها، فاحترق هو بها، فبقي ثلاثة أيام يعذب بالحريق ثم مات.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شهر رمضان، انكسفت الشمس جميعها، وأظلمت الأرض حتى بقي الوقت كأنه ليل مظلم، وظهرت الكواكب، وكان ذلك ضحوة النهار، يوم الجمعة التاسع والعشرين منه، وكنت حينئذ صبياً بظاهر جزيرة ابن عمر مع شيخ لنا من العلماء أقرأ عليه الحساب، فلما رأيت ذلك خفت خوفاً شديداً، وتمسكت به، فقوي قلبي، وكان عالماً بالنجوم أيضاَ ، وقال لي: الآن تر هذا جميعه، فانصرف سريعاً.

وفيها ولي الخليفة المستضيء بأمر الله حجابة الباب أبا طالب نصر بن علي الناقد، وكان يلقب في صغره قنبراً، فصاروا يصيحون به ذلك إذا خرج، فأمر الخليفة أن يركب معه جماعة من الأتراك ويمنعوا الناس من ذلك، فامتنعوا، فلما كان العيد خلع عليه ليركب في الموكب، فاشترى جماعة من أهل بغداد من القنابر شيئاً كثيراً، وعزموا على إرسالها في الموكب إذا رأوا ابن الناقد، فأنهي ذلك إلى الخليفة، وقيل له يصير الموكب ضحكة، فعزله وولى ابن المعوج.
وفيها، في ذي الحجة، يوم العيد، وقعت فتنة ببغداد، بين العامة وبعض الأتراك بسبب أخذ جمال النحر، فقتل بينهم جماعة ونهب شيء كثير من الأموال، ففرق الخليفة أموالاً جليلة فيمن نهب ماله.
وفيها زلزلت بلاد العجم من حد العراق إلى ما وراء الري، وهلك فيها خلق كثير، وتهدمت دور كثيرة، وأكثر ذلك كان بالري وقزوين.
وفيها، في ربيع الآخر، استوزر سيف الدين غازي جلال الدين أبا الحسن علي بن جمال الدين محمد بن علي، وكان ابوه جمال الدين وزير البيت الأتابكي، وقد تقدمت أخباره، وهو المشهود بالجود والأفضال، ولما ولي جلال الدين الوزارة ظهرت منه كفاية عظيمة، ومعرفة تامة بقوانين الوزارة، وله مكاتبات وعهود حسنة مدونة مشهورة، وكان جواداً فاضلاً خيراً، عمره، لما ولي الوزارة خمس وعشرون سنة.
وفيها، في ذي الحجة ، استناب سيف الدين أيضاً عنه بقلعة الموصل مجاهد الدين قايماز، وفوض إليه الأمور، وكان قبل ذلك قد فوض إليه الأمر بمدينة إربل وأعمالها، وكان ، رحمه الله، من صالحي الأمراء وأرباب المعروف، بنى كثيراً من الجوامع والخانات في الطرق، والقناطر على الأنهار والربط وغير ذلك من أبواب البر، وكان دائم الصدقة، كثير الإحسان، عادل السيرة، رحمه الله.
وفيها قبض الخليفة علي عماد الدين صندل المقتفوي، أستاذ الدار، ورتب مكانه أبا الفضل هبة الله بن علي بن هبه الله بن الصاحب.
وفيها، في رمضان، قدم شمس الدولة توارنشاه بن أيوب الذي ملك اليمن إلى دمشق لما سمع أن أخاه صلاح الدين قد ملكها، وقد حن إلى الوطن والأتراب، ففارق اليمن وسار إلى الشام، وأرسل من الطريق إلى أخيه يعلمه بوصوله، وكتب في الكتاب شعراً من قول ابن المنجم المصري:
وإلى صلاح الدين أشكو أنني ... من بعده مضنى الجوانح مولع
جزعاً لبعد الدار منه ولم أكن ... لولا هواه لبعد دار أجزع
فلأركبن إليه متن عزائمي ... ويخب بي ركب الغرام ويوسع
ولأقطعن من النهار هواجراً ... قلب النهار بحرها يتقطع
ولأسرين الليل لا يسرى به ... طيف الخيال ولا البروق اللمع
وأقدمن إليه قلبي مخبراً ... أني بجسمي من قريب أتبع
حتى أشاهد منه أسعد طلعة ... من أفقها صبح السعادة يطلع
وفي هذه السنة، في المحرم، برز صلاح الدين من دمشق، وقد عظم شأنه بما ملكه من بلاد الشام، وبكسره عسكر الموصل، فخافه الفرنج وغيرهم، وعزم على دخول بلدهم، ونبه والإغارة عليه، فأرسلوا إليه يطلبون الهدنة معه، فأجابهم إليها وصالحهم، فأمر العساكر المصرية بالعود إلى مصر، والاستراحة إلى أن يعود طلبهم، وشرط عليهم أنه متى أرسل يستدعيهم لا يتأخرون، فساروا إليها وأقاموا بها إلى أن استدعاهم للحرب مع سيف الدين على ما نذكره.
وفيها مات أبو الحسن علي بن عساكر البطائحي المقرئ، وكان قد سمع الحديث الكثير ورواه، وكان نحوياً جيداً.
وفي ذي الحجة، منها ، توفي أبو سعد محمد بن سعيد بن محمد بن الرزاز، سمع الحديث ورواه، وله شعر جيد، فمن ذلك أنه كتب إليه بعض أصدقائه مكاتبة وضمنها شعراً، فأجابه:
يا من أياديه تغني من يعددها ... وليس يحصي مالها من لها يصف
عجزت عن شكر ما أوليت من كرم ... وصرت عبداً ولي في ذلك الشرف
أهديت منظوم شعر كله درر ... فكل ناظم عقد دونه يقف
إذا أتيت ببيت منه كان لنا ... قصراً ودر المعاني له شرف
وإن أتيت أنا بيت يناقضه ... أتيت ولكن ببيت سقفه يكف
ما كنت منه ولا من أهله أبداً ... وإنما حين أدنو منه أقتطف

وقيل كانت وفاته سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وهو الصحيح.
ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة

ذكر نهب صلاح الدين بلد الإسماعيلية
لما رحل صلاح الدين من حلب، على ما ذكرناه قبل، قصد بلاد الإسماعيلية، في المحرم ليقاتلهم بما فعلوه من الوثوب عليه وإرادة قتله، فنهب بلدهم وخربه وأحرقه، وحصر قلعة مصياب، وهي أعظم حصونهم، وأحصن قلاعهم، فنصب عليها المجانيق، وضيق على من بها، ولم يزل كذلك، فأرسل سنان مقدم الإسماعيلية إلى شهاب الدين الحارمي، صاحب حماة، وهو ابن خال صلاح الدين، يسأله أن يدخل بينهم ويصلح الحال ويشفع فيهم، ويقول له: إن لم تفعل قتلناك وجميع أهل صلاح الدين وأمراءه، فحضر شهاب الدين عند صلاح الدين وشفع فيهم وسأل الصفح عنهم، فأجابه إلى ذلك، وصالحهم، ورحل عنهم.
وكان عسكره قد ملوا من طول البيكار، وقد امتلأت أيديهم من غنائم عسكر الموصل، ونهب بلد الإسماعيلية، فطلبوا العود إلى بلادهم للراحة، فأذن لهم، وسار هو إلى مصر مع عسكرها، لأنه قد طال بعده عنها، ولم يمكنه المضي إليها فيما تقدم خوفاً على بلاد الشام؛ فلما انهزم سيف الدين، وحصر هو حلب، وملك بلادها، واصطلحوا، امن على البلاد، فسار إلى مصر، فلما وصل إليها أمر ببناء سور على مصر في الشعاري والغياض والقاهرة والقلعة التي على جبل المقطم، دوره تسعة وعشرون ألف ذراع وثلاثمائة ذراع بالذراع الهاشمي، ولم يزل العمل فيه إلى أن مات صلاح الدين.
ذكر ظفر المسلمين بالفرنج والفرنج بالمسلمينكان شمس الدين محمد بن عبد الملك بن المقدم صاحب بعلبك، قد أتاه خبراً ان جمعاً من الفرنج قد قصدوا البقاع من أعمال بعلبك، وأغاروا عليها، فسار إليهم، وكمن لهم في الشعاري والغياض، وأوقع بهم، وقتل فيهم وأكثر، وأسر نحو مائتي رجل منهم وسيرهم إلى صلاح الدين.
وكان شمس الدولة توارنشاه، أخو صلاح الدين، وهو الذي ملك اليمن، قد وصل إلى دمشق، كما ذكرناه، وهو فيها، فسمع أن طائفة من الفرنج قد خرجوا من بلادهم إلى أعمال دمشق، فسار إليهم ولقيهم عند عين الجر في تلك المروج، فلم يثبت لهم، وانهزم عنهم، فظفروا بجمع من أصحابه، فأسروهم، منهم سيف الدين أبو بكر بن السلار، وهو من أعيان الجند الدمشقيين، واجترأ الفرنج بعده، وانبسطوا في تلك الولاية، وجبروا الكسر الذي ناله منهم ابن المقدم.
عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين
ذكر عصيان صاحب شهرزور على سيف الدين وعوده إلى طاعته
في هذه السنة عصى شهاب الدين محمد بن بزان، صاحب شهرزور، على سيف الدين غازي وكان في طاعته وتحت حكمه.
وكان سبب ذلك أن مجاهد الدين قايماز كان متولياً مدينة أربل، وكان بينه وبين ابن بزان عداوة محكمة، فلما استناب سيف الدين مجاهد الدين بالموصل خاف ابن بزان ان يناله منه أذى، فأظهر الامتناع من النزول إلى الخدمة، فأرسل إليه جلال الدين وزيره سيف الدين كتاباً يأمره بمعاودة الطاعة، ويحذره عاقبة المخالفة، وهو من احسن الكتب وأبلغها في هذا المعنى، ولولا خوف التطويل لذكرته، فليطلب من مكاتباته؛ فلما وصل إليه الكتاب والرسول، بادر إلى حضور الخدمة بالموصل وزال الخلف.
ذكر فرج بعد شدة يتعلق بالتاريخبالقرب من جزيرة ابن عمر حصن منيع من امنع المعاقل اسمه فنك، وهو على راس جبل عال، وهو للأكراد البشنوية، له بأيديهم نحو ثلاثمائة سنة؛ وكان صاحبه هذه السنة أمير منهم اسمه إبراهيم، وله أخ اسمه عيسى، قد خرج منه، وهو لا يزال يسعى في أخذه من أخيه إبراهيم ن فأطاعه بعض بطانة إبراهيم، وفتح باب السر ليلاً، واصعد منه إلى رأس القلعة نيفاً وعشرين رجلاً من أصحاب عيسى، فقبضوا على إبراهيم ومن عنده، ولم يكن عنده إلا نفر من خواصه، وهذه قلة على صخرة كبيرة مرتفعة عن سائر القلعة ارتفاعاً كثيراُ؛ وبها يسكن الأمير وأهله وخواصه، وباقي الجند في القلعة تحت القلة، فلما قبضوا إبراهيم جعلوه في خزانة، وضربه بعضهم بسيف في يده على عاتقه، فلم يصنع شيئاً، فلما جعل في الخزانة وكل به رجلان، وصعد الباقون إلى سطح القلة، ولا يشكون ان القلعة لهم لا مانع عنها.

ووصل من الغد بكرة الأمير عيسى ليتسلم القلعة، وبينها دجلة، وكانت امرأة الأمير إبراهيم في خزانة أخرى، وفيها شباك حديد ثقيل يشرف على القلعة، فجذبته بيدها فانقلع، وجند زوجها في القلعة لا يقدرون على شيء، فلما قلعت الشباك أرادت أن تدلي حبلاً ترفع به الرجال إليها، فلم يكن عندها غير ثياب خام، فوصلت بعضها ببعض ودلتها إلى القلعة، وشدت طرفيها عندها في عود فأصعدت إليها عشرة رجال، ولم يكن يراهم الذين على السطح.
ورأى الأمير عيسى، هو على جانب دجلة، الرجال يصعدون، فصاح هو ومن معه إلى أولئك الذين على السطح ليحذروا، وكانوا كلما صاحوا صاح أهل القلعة لتختلف الأصوات فلا يفهم الذين على السطح، فينزلون ويمنعون من ذلك، فلما اجتمع عندها عشرة رجال أرسلت مع خادم عندها إلى زوجها قدح شراب وأمرته أن يقرب منه كأنه يسقيه الشراب ويعرفه الحال، ففعل ذلك، وجلس بين يديه ليسقيه، وعرفه الحال، فقال: ازدادوا من الرجال، فأصعدت عشرين رجلاً، وخرجوا من عندها، فمد إبراهيم يده إلى الرجلين الموكلين به، فأخذ شعورهما، وأمر الخادم بقتلهما، وكان عنده، فقتلهما بسلاحهما، فخرج واجتمع بأصحابه وأرادوا فتح القلعة ليصعد إليه أصحابه من القلعة، فلم يجد المفاتيح،وكانت مع أولئك الرجال الذين على السطح، فاضطروا إلى الصعود إلى سطح القلة ليأخذوا أصحاب عيسى، فعلموا الحال، فجاؤوا ووقفوا على راس الممرق فلم يقدر أحد ان يصعد، فاخذ بعض أصحاب إبراهيم ترساً وجعله على رأسه، وحصل في الدرجة، وصعد وقاتل القوم على رأس الممرق، حتى صعد أصحابه فقتلوا الجماعة وبقي منهم رجل ألقى نفسه من السطح، فنزل إلى أسفل الجبل فتقطع. فلما رأى عيسى ما حل بأصحابه عاد خائباً مما أمله، واستقر الأمير إبراهيم في قلعته على حاله.
ذكر نهب البندنيجينفي هذه السنة وصل الملك الذي بخوزستان عند شملة، وهو ابن ملكشاه ابن محمود، إلى البندنيجين، فخربها ونهبها وفتك في الناس، وسبى حريمهم، وفعل كل قبيح.
ووصل الخبر إلى بغداد فخرج الوزير عضد الدين وعرض العسكر، ووصل عسكر الحلة وواسط مع طاشتكين أمير الحاج وغرغلي، وساروا نحو العدو، فلما سمع بوصولهم فارق مكانه وعاد، وكان معه من التركمان جمع كثير، فنهبهم عسكر بغداد، ورجعوا من غير أمر بالعود، فأنكر عليهم ذلك، وأمروا بالعود إلى مواقفهم، فعادوا لأوائل شهر رمضان، وقد رجع الملك فنهب من البندنيجين ما كان نهب من النهب الأول، ووقعت بينهم وبين الملك وقعة، ثم افترقوا، فمضى الملك وفارق ولاية العراق وعاد عسكر بغداد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، أقيمت الجمعة في الجامع الذي بناه فخر الدولة بن المطلب بقصر المأمون غربي بغداد .
وفيها أمر صلاح الدين ببناء المدرسة التي على قبر الشافعي، رضي الله عنه، بمصر، وعمل بالقاهرة بيمارستان، ووقف عليهما الوقوف العظيمة الكبيرة.
وفيها رأيت بالموصل خروفين ببطن واحد ورأسين ورقبتين وظهرين وثماني قوائم كأنهما خروفين ببطن واحد، وجه أحدهما إلى وجه الآخر، وهذا من العجائب.
وفيها انقض كوكب أضاءت له الأرض إض اءة كثيرة، وسمع له صوت عظيم وبقي أثره في السماء مقدار ساعة وذهب.
وفيها توفي تاج الدين علي الحسن بن عبد الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء أخو الوزير عضد الدين وزير الخليفة.
وفيها، في المحرم، توفي القاضي كمال الدين أبو الفضل محمد بن عبد الله ابن القاسم الشهرزوري، قاضي دمشق وجميع الشام، وإليه الوقوف بها والديوان، وكان جواداً فاضلاً رئيساً ذا عقل ومعرفة في تدبير الدول، رحمه الله ورضي عنه.
ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة

ذكر انهزام صلاح الدين بالرملة

في هذه السنة، أواخر جمادى الأولى، سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر إلى ساحل الشام لقصد بلاد الفرنج، وجمع معه عساكر كثيرة وجنوداً غزيرة، فلم يزالوا يجدون السير حتى وصلوا عسقلان في الرابع والعشرين منه، فنهبوا واسروا وقتلوا واحرقوا وتفرقوا في تلك الأعمال مغيرين. فلما رأوا أن الفرنج لم يظهر لهم عسكر ولا اجتمع لهم من يحمي البلاد من المسلمين، طمعوا، وانبسطوا، وساروا في الأرض آمنين مطمئنين، ووصل صلاح الدين إلى الرملة، عازماً على أن يقصد بعض حصونهم ليحصره، فوصل إلى نهر، فازدحم الناس للعبور، فلم يرعهم إلا والفرنج أشرفت عليهم بأبطالها وطلابها، وكان مع صلاح الدين بعض العسكر، لأن أكثرهم تفرقوا في طلب الغنيمة، فلما رآهم وقف لهم فيمن معه، وتقدم بين يديه تقي الدين عمر بن محمد ابن أخي صلاح الدين، فباشر القتال بنفسه بين يدي عمه، فقتل من أصحابه جماعة، وكذلك الفرنج، وكان لتقي الدين ولد اسمه أحمد، وهو من احسن الشباب أول ما تكاملت لحيته، فأمره أبوه بالحملة عليهم، فحمل عليهم وقاتلهم وعاد سالماً قد أثر فيهم أثراً كثيراً، فأمره بالعودة إليهم ثانية، فحمل عليهم فقتل شهيداً، ومضى حميداً، رحمه الله ورضي عنه.
وكان اشد الناس قتالاً ذلك اليوم الفقيه عيسى، رحمه الله، وتمت الهزيمة على المسلمين، وحمل بعض الفرنج على صلاح الدين فقاربه حتى كاد ان يصل إليهن فقتل الفرنجي بين يديه، وتكاثر الفرنج عليه ن فمضى منهزماً، يسير قليلاً ويقف ليلحقه العسكر إلى ان دخل الليل، فسلك البرية إلى ان مضى في نفر يسير إلى مصر، ولقوا في طريقهم مشقة شديدة وقل عيهم القوت والماء، وهلك كثير من دواب العسكر جوعاً وعطشاً وسرعة سير.
وأما العسكر الذين كانوا دخلوا بلاد الفرنج في الغارة، فإن أكثرهم ذهب ما بين قتيل وأسير. وكان من جملة من اسر الفقيه عيسى الهكاري، وهو من أعيان الأسدية، وكان جمع العلم والدين والشجاعة، واسر أيضاً أخوه الظهير، وكانا قد سارا منهزمين فضلا الطريق، فأخذا ومعهما جماعة من أصحابهما، وبقوا في الأسر سنين، فافتدى صلاح الدين الفقيه عيسى بستين ألف دينار جماعة كثيرة من الأسرى.
ووصل صلاح الدين إلى القاهرة نصف جمادى الآخرة، ورأيت كتاباً كتبه صلاح الدين بخط يده إلى أخيه شمس الدولة تورانشاه وهو بدمشق، يذكر الوقعة، وفي أوله:
ذكرتك والخط يخطر بيننا ... وقد نهلت منا المثقفة السمر
ويقول فيه: لقد أشرفنا على الهلاك غير مرة، وما أنجانا الله سبحانه منه إلا لمر يريده سبحانه: وما ثبتت إلا وفي نفسها أمر.
ذكر حصر الفرنج مدينة حماةفي هذه السنة، في جمادى الأولى، حصر الفرنج أيضاً مدينة حماة، وسبب ذلك أنه وصل من البحر إلى الساحل الشامي كند كبير من الفرنج من اكبر طواغيتهم، فرأى صلاح الدين بمصر قد عاد منهزماً، فاغتنم خلو البلاد، لأن شمس الدولة بن أيوب كان بدمشق ينوب عن صلاح الدين، وليس عده كثير من العسكر، وكان أيضاً كثير الانهماك في اللذات مائلاً إلى الراحات، فجمع ذلك الكند الفرنجي من بالشام من الفرنج، وفرق فيهم الأموال، وسار إلى مدينة حماة فحصرها وبها صاحبها شهاب الدين محمد الحارمين خال صلاح الدين، وهو مريض شديد المرض، وكان طائفة من العسكر الصلاحي بالقرب منها، فدخلوا إليها وأعانوا من بها.
وقاتل الفرنج على البلد قتالاً شديداً وهجموا بعض الأيام على طرف منه، وكادوا يملكون البلد قهراً وقسراً، فاجتمع أهل البلد مع العسكر إلى تلك الناحية واشتد القتال، وعظم الخطب على الفريقين، واستقل المسلمون وحاموا عن الأنفس والأهل والمال، فاخرجوا الفرنج من البلد إلى ظاهره، ودام القتال ظاهر البلد ليلاً ونهاراً، وقويت نفوس المسلمين حين أخرجوهم من البلد، وطمعوا فيهمن واكثروا فيهم القتل، فرحل الفرنج حينئذ خائبين، وكفى الله المسلمين شرهم، وساروا إلى حارم فحصروها، وكان مقامهم على حماة أربعة أيام، ولما رحل الفرنج عن حماة مات صاحبها شهاب الدين الحارمي، وكان له ابن من أحسن الشباب مات قبله بثلاثة أيام.
ذكر قتل كمشتكين وحصر الفرنج حارم

في هذه السنة قبض الملك الصالح بن نور الدين على سعد الدين كمشتكين، وكان المتولي لمر دولته والحاكم فيها؛ وسبب قبضه انه كان بحلب إنسان من أعيان أهلها يقال له أبو صالح بن العجمي، وكان مقدماً عند نور الدين محمد، فلما مات نور الدين تقدم أيضاً في دولة ولده الملك الصالح، وصار بمنزلة الوزير الكبير المتمكن لكثرة اتباعه بحلب ولأن كل من كان يحسد كمشتكين انضم إلى صالح، وقووا جنانه، وكثروا سواده؛ وكان عنده إقدام وجرأة فصار واحد الدولة بحلب ومن يصدر الجماعة عن رأيه وبأمره.
فبينما هو في بعض الأيام بالجامع وثب به الباطنية فقتلوه ومضى شهيداً، وتمكن بعده سعد الدين وقوي حاله، فلما قتل أحال الجماعة قتله على سعد الدين، وقالوا: هو وضع الباطنية عليه حتى قتلوه، وذكروا ذلك للملك الصالح، ونسبوه إلى العجز، وانه ليس له حكم، وأن سعد الدين قد تحكم عليه واحتقره واستصغره، وقتل وزيره، ولم يزالوا به حتى قبض عليه.
وكانت قلعة حارم لسعد الدين قد اقطعه إياها الملك الصالح، فامتنع من بها بعد قبضه، وتحصنوا بها، فسير سعد الدين غليها تحت الاستظهار ليأمر أصحابه بتسليمها إلى الملك الصالح، فأمرهم بذلك، فامتنعوا، فعذب كمشتكين وأصحابه لا يرونه ولا يرحمونه، فمات في العذاب، وأصر أصحابه على الامتناع والعصيان.
فلما رأى الفرنج ذلك ساروا إلى حارم من حماة في جمادى الأولى، على ما نذكره، ظناً منهم أنهم لا ناصر لهم، وان الملك الصالح صبي قليل العسكر، وصلاح الدين بمصر، فاغنموا هذه الفرصة ونازلوها وأطالوا المقام عليها مدة أربعة أشهر، ونصبوا عليها المجانيق والسلالم، فلم يزالوا كذلك إلى أن بذل لهم الملك الصالح مالاً، وقال لهم: إن صلاح الدين واصل إلى الشام، وربما أسلم القلعة ومن بها إليه، فأجابوه حينئذ إلى الرحيل عنها، فلما رحلوا عنها سير إليها الملك الصالح جيشاً فحصروها، وقد بلغ الجهد منهم بحصار الفرنج، وصاروا أنهم طلائع، وكان قد قتل من أهلها وجرح الكثير، فسلموا القلعة إلى الملك الصالح، فاستناب بها مملوكاً كان لأبيه، اسمه سرخك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في المحرم، خطب للسلطان طغرل بن أرسلان بن طغرل ابن محمد بن ملكشاه المقيم عند إيلدكز بهمذان، وكان أبوه أرسلان قد توفي.
وفيها، سابع شوال، هبت ببغداد ريح عظيمة، فزلزلت الأرض، واشتد الأمر على الناس حتى ظنوا أن القيامة قد قامت، فبقي ذلك ساعة ثم انجلت، وقد وقع كثير من الدور، ومات فيها جماعة كثيرة.
وفيها، رابع ذي القعدة، قتل عضد الدين أبو الفرج محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة وزير الخليفة، وكان قد عزم على الحج فعبر دجلة ليسير، وعبر معه أرباب المناصب، وهو في موكب عظيم، وتقدم إلى أصحابه أن لا يمنعوا عنه أحداً، فلما وصل إلى باب قطفتا لقيه كهل فقال: أنا مظلوم؛ وتقدم ليسمع الوزير كلامه فضربه بسكين في خاصرته، فصاح الوزير: قتلني! ووقع من الدابة، وسقطت عمامته، فغطى رأسه بكمه، وضرب الباطني بسيف، وعاد إلى الوزير فضربه، وأقبل حاجب الباب ابن المعوج لينصر الوزير، فضربه الباطني بسكين وقيل بل ضربه رفيق كان للباطني، ثم قتل الباطني ورفيقه؛ وكان لهما رفيق ثالث، فصاح وبيده سكين وقتل ولم يعمل شيئاً، وأحرقوا ثلاثتهم وحمل الوزير إلى دار له هناك، وحمل حاجب الباب مجروحاً إلى بيته، فمات هو والوزير، وحمل الوزير فدفن عند أبيه بمقبرة الرباط عند جامع المنصور.
وكان الوزير قد رأى في المنام أنه معانق عثمان بن عفان ، وحكى عنه ولده أنه أغتسل قبل خروجه، وقالك هذا غسل الإسلام، وانا مقتول بلا شك؛ وكان مولده في جمادى الأولى سنة أربع عشرة وخمسمائة، وكان أبوه أستاذ دار المقتفي لأمر الله، فلما مات ولي هو مكانه، فبقي كذلك إلى أن مات الممقتفي، فأقره المستنجد على ذلك ورفع قدره، فلما ولي المستضيئ استوزره، وكان حافظاً للقرآن ، سمع الحديث، وله معروف كثير، وكانت دارم مجمعاً للعلماء، وختمت اعماله بالشهادة وهو على قصد الحج.

وفيها كانت فتنة ببغداد، وسببها أنه حضر قوم من مسلمي المدائن إلى بغداد، فشكوا من يهودها، وقالوا: انا مسجد نؤذن فيه ونصلي، وهم مجاور الكنيسة، فقال لنا اليهود: قد آذيتمونا بكثرة الآذان، فقال المؤذن: ما نبالي بذلك، فاختصموا، وكانت فتنة استظهر فيها اليهود، فجاء المسلمون يشكون منهم، فأمر ابن العطار، وهو صاحب المخزن ، بحبسهم، ثم أخرجوا ، فقصدوا جامع القصر، واستغاثوا قبل صلاة الجمعة، فخفف الخطيب الخطبة والصلاة ، فعادوا يستغيثون، فأتاهم جماعة من الجند ومنعوهم، فلما رأى العامة ما فعل بهم غضبوا نصرة للإسلام، فاستغاثوا، وقالوا أشياء قبيحة، وقلعوا طوابيق الجامع، ورجما الجند فهربوا، ثم قصد العامة دكاكين المخلطين، لأن أكثرهم يهود، فنهبوها، وأراد حاجب الباب منعهم، فرجموه فهرب منهم، وانقلب البلد وخربوا الكنيسة التي عند دار البساسيري، وأحرقوا التوراة فاختفى اليهود، وأمر الخليفة ان تنقض الكنيسة التي بالمدائن وتجعلوا مسجداً ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها قوم من المفسدين، فظنها العامة نصبت تخويفاً لهم لأجل ما فعلوا، فعلقوا عليها في الليل جرذاناً ميتة، وأخرج جماعة من الحبس لصوص فصلبوا عليها.
وفيها، في شعبان، قبض سيف الدين غازي، صاحب الموصل، على وزيره جلال الدين علي بن جمال الدين بغير جرم ولا عجز، ولا تقصير، بل لعجز سيف الدين ، فإن جلال الدين كان بينه وبين مجاهد الدين قايماز مشاحنة، فقال مجاهد الدين لسيف الدين: لا بد من قبض الوزير؛ فقض عليه كارهاً لذلك، ثم شفع فيه ابن نيسان رئيس آمد لصهر بينهما، فأخرجن وسار إلى آمد فمرض بها، وعاد إلى دنيسر، فمات سنة أربع وسبعين وعمره سبع وعشرون سنة، وحمل إلى مدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، فدفن عند والده في الرباط الذي بناه بها.
وكان، رحمه الله، من محاسن الدنيا، جمع كرماً، وعلماً، وديناً، وعفة، وحسن سيرة، واستحلفه سيف الدين أنه لا يمضي إلى صلاح الدين لأنه خاف أن يمضي إليه للمودة التي كانت بين جمال الدين وبين نجم الدين أيوب وأسد الدين شيركوه، فبلغني أن صلاح الدين طلبه فلم يقصده لليمين.
وفيها اجتمع طائفة من الفرنج وقصدوا أعمال حمص، فنهبوها وغنموا، وأسروا وسبوا، فسار ناصر الدين محمد بن شيركوه، صاحب حمص وسبقهم ووقف على طريقهم، وكمن لهم، فلما وصلوا إليه خرج إليهم هو والكمين، ووضعوا السيف فيهم، فقتل أكثرهم، وأسر جماعة من مقدميهم، ومن سلم منهم لم يفلت إلا وهو مثخن بالجراح، واسترد منهم جميع ما غنموا فرده على أصحابه.
وفيها، في ربيع الآخر توفي صدقة بن الحسين الحداد، الذي ذيل تاريخ ابن الزغوني ببغداد، وفيها، في جمادى الأولى، توفي محمد بن أحمد بن عبد الجبار الفقيه الحنفي المعروف بالمشطب ببغداد.
ثم دخلت سنة أربع وسبعين وخمسمائة

ذكر قصد الفرنج مدينة حماة أيضا
ً
في هذه السنة، في ربيع الأول، سار جمع كثير من الفرنج بالشام إلى مدينة حماة، وكثر جمعهم من الفرسان والرجالة طمعاً في النهب والغارة، فشنوا الغارة، ونهبوا وخربوا القرى، وأحرقوا، واسروا، وقتلوا، فلما سمع العسكر المقيم بحماة ساروا إليهم، وهم قليل، متوكلين على الله تعالى، فالتقوا، واقتتلوا، وصدق المسلمون القتال، فنصرهم الله تعالى، وانهزم الفرنج، وكثر القتل والأسر فيهم، واستردوا منهم ما غنموه من السواد.
وكان صلاح الدين قد عاد من مصر إلى الشام في شوال من السنة المتقدمة، وهو نازل بظاهر حمص، فحملت الرؤوس والأسرى والأسلاب إليه، فأمر بقتل الأسرى فقتلوا.
ذكر عصيان ابن المقدم على صلاح الدين
وحصر بعلبك وأخذ البلد منه

في هذه السنة عصى شمس الدين محمد بن عبد الملك المقدم على صلاح الدين ببعلبك، وكانت له قد سلمها إليه صلاح الدين لما فتحها جزاء له حيث سلم إليه ابن المقدم دمشق، على ما سبق ذكره، فلم تزل بيده إلى الآن، فطلب شمس الدولة بن أيوب أخو صلاح الدين منه بعلبك، وألح عليه في طلبها لأن تربيته ومنشأه كان بها، وكان يحبها، ويختارها على غيرها من البلاد، وكان الأكبر، فلم يمكن صلاح الدين مخالفته، فأمر شمس الدين بتسليمها إلى أخيه ليعوضه عنها، فلم يجب إلى ذلك، وذكره العهود التي له، وما اعتمده معه من تسليم البلاد، فلم يصغ إليه ولج عليه في أخذها، وسار ابن المقدم إليها، واعتصم بها، فتوجه إليه صلاح الدين، وحصره بها مدة، ثم رحل عنها من غير أن يأخذها، وترك عليه عسكرا يحصره، فلما طال عليه الحصار أرسل إلى صلاح الدين يطلب العوض عنها ليسلمها إليه، فعوضه عنها وسلمها، فأقطعها صلاح الدين أخاه شمس الدولة.
ذكر الغلاء والوباء العامفي هذه السنة انقطعت الأمطار بالكلية في سائر البلاد الشامية والجزيرة والبلاد العراقية، والديار بكرية، والموصل وبلاد الجبل وخلاط، وغير ذلك، واشتد الغلاء، وكان عاماً في سائر البلاد، فبيعت غرارة الحنطة بدمشق، وهي اثنا عشر مكوكاً بالموصلي، بعشرين ديناراً صورية عتقاً، وكان الشعير بالموصل كل ثلاثة مكاكي بدينار أميري، وفي سائر البلاد ما يناسب ذلك.
واستسقى الناس في أقطار الأرض، فلم يسقوا ، وتعذرت الأقوات، وأكلت الناس الميتة وما ناسبها، ودام كذلك إلى آخر سنة خمس وسبعين؛ ثم تبعه بعد ذلك وباء شديد عام أيضاً، كثر فيه الموت، وكان مرض الناس شيئاً واحداً، وهو السرسام، وكان الناس لا يلحقون يدفنون الموتى، إلا أن بعض البلاد كان أشد من البعض.
ثم إن الله تعالى رحم العباد والبلاد والدواب وأرسل الأمطار، وأرخص الأسعار.
ومن عجيب ما رأيت أنني قصدت رجلاً من العلماء الصالحين بالجزيرة لأسمع عليه شيئاً من حديث النبي، عليه السلام، في شهر رمضان سنة خمس وسبعين، والناس أشد ما كانوا غلاء وقنوطاً من الأمطار، وقد توسط الربيع ولم تجئ قطرة واحدة من المطر، فبينا أنا جالس ومعي جماعة ننتظر الشيخ، إذ أقبل إنسان تركماني قد أثر عليه الجوع، وكأنه قد أخرج من قبر، فبكى وشكا الجوع، فأرسلت من يشتري له خبزاً، فتأخر إحضاره لعدمه، وهو يبكي ويتمرغ، على الأرض ويشكو الجوع، فلم يبقى فينا إلا من بكى رحمة له وللناس، ففي الحال تغيمت السماء وجاءت نقط من المطر متفرقة، فضج الناس واستغاثوا،ثم جاء الخبز، فأكل التركماني بعضه، وأخذ الباقي بعضه، وأخذ الباقي ومشى واشتد المطر ودام المطر من تلك الساعة.
ذكر غارات الفرنج على بلاد المسلمينفي هذه السنة، في ذي القعدة، اجتمع الفرنج وساروا إلى بلد دمشق مع ملكهم، فأغاروا على أعمالها فنهبوها وأسروا وقتلوا وسبوا، فأرسل صلاح الدين فرخشاه، ولد أخيه، في جمع من العسكر إليهم، وأمره إذا قاربهم يرسل غليه يخبره على جناح طائر ليسير إليه، وتقدم إليه أن يأمر أهل البلاد بالانتزاح من بين يديي الفرنج، فسار فرخشاه في عسكره يطلبهم، فلم يشعر إلا والفرنج قد خالطوه، فاضطر إلى القتال، فاقتتلوا اشد قتال رآه الناس، وألقى فرخشاه نفسه عليهم، وغشي الحرب ولم يكلها إلى سواه، فانهزم الفرنج ونصر المسلمون عليهم، وقتل من مقدميهم جماعة ومنهم همفري، وما أدراك ما همفري؟ به كان يضرب المثل في الشجاعة والرأي في الحرب، وكان بلاء صبه الله على المسلمين، فأراح الله من شره. وقتل غيره من أضرابه، ولم يبلغ عسكر فرخشاه ألف فارس.وفيها أيضاً أغار البرنس صاحب أنطاكية ولاذقية على جشير المسلمين بشيزر وأخذه، وأغار صاحب طرابلس على جمع كثير من التركمان، فاحتجف أموالهم، وكان صلاح الدين على بانياس، على ما نذكره إن شاء الله تعالى، فسير ولد أخيه تقي الدين عمر إلى حماة وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه إلى مصر، وأمرهما بحفظ البلاد، وحياطة أطرافها من العدو، دمرهم الله تعالى.
ذكر عدة حوادثليلة النصف من ربيع الآخر، انكسف القمر نحو نصف الليل الأخير وغاب منكسفاً.
وفيها أيضاً، في التاسع والعشرين، انكسفت الشمس وقت العصر، فغربت منكسفة.

وفي هذه السنة، في شعبان، توفي الحيص بيص الشاعر، واسمه سعد ابن محمد بن سعد أبو الفوارس، وكان قد سمع الحديث، ومدح الخلفاء والسلاطين والأكابر، وشعره مشهور، فمنه قوله:
كلما أوسعت حلمي جاهلاً ... أوسع فحش له فحش المقال
وإذا شاردة فهت بها ... سبقت مر النعامة والشمال
لا تلمني في شقائي بالعلى ... رغد العيش لربات الحجال
سيف عز زانه رونقه ... فهو بالطبع غني عن سقال
وفي المحرم ماتت شهدة بنت احمد بن عمر الإبري الكاتبة وسمعت الحديث من السراج وطراد وغيرهما، وعمرت حتى قاربت مائة سنة، وسمع عليها خلق كثير الحديث لعلو إسنادها.
ثم دخلت سنة خمس وسبعين وخمسمائة

ذكر تخريب الحصن الذي بناه الفرنج
عند مخاضة الأحزان
كان الفرنج قد بنوا حصناً منيعاً يقارب بانياس، عند بيت يعقوب ، عليه السلام، بمكان يعرف بمخاضة الأحزان؛ فلما سمع صلاح الدين بذلك سار من دمشق إلى بانياس، وأقام بها، وبث الغارات على بلاد الفرنج، ثم سار إلى الحصن ليخبره ثم يعود إليه عند اجتماع العساكر؛ فلما نازل الحصن قاتل من به من الفرنج، ثم عاد عنه، فلما دخلت سنة خمس وسبعين لم يفارق بانياس بل أقام بها وخيله تغير على بلاد العدو.
وأرسل جماعة من عسكره مع جالبي الميرة، فلم تشعر إلا والفرنج مع ملكهم قد خرجوا عليهم، فأرسلوا إلى صلاح الدين يعرفونه الخبر، فسار في العساكر مجداً حتى وافاهم في القتال، فقاتل الفرنج قتالاً شديداً، وحملوا على المسلمين عدة حملات كادوا يزيلونهم عن مواقفهم، ثم أنزل الله نصره على المسلمين، وهزم المشركين، وقتلت منهم مقتلة كثيرة، ونجا ملكهم فريداً وأسر منهم كثير، منهم: ابن البيرزان صاحب الرملة ونابلس، وهو أعظم الفرنج محلاً بعد الملك، وأسروا أيضاً أخا صاحب جبيل، وصاحب طبرية، ومقدم الداوية، ومقدم الاسبارتية، وصاحب جنين وغيرهم، من مشاهير فرسانهم وطواغيتهم، فأما ابن البيرزان فإنه فدى نفسه بمائة ألف وخمسين ألف دينار صورية، وإطلاق ألف أسير من المسلمين، وكان أكثر العمل في هذا اليوم لعز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين؛ وحكي عنه أنه قال: ذكرت في تلك الحال بيتي المتنبي وهما:
فإن تكن الدولات قسماً فإنها ... لمن يرد الموت الزؤام تؤول
ومن هون الدنيا على النفس ساعة ... وللبيض في هام الكماة صليل
فهان الموت في عيني، فألقيت نفسي إليه، وكان ذلك سبب الظفر؛ ثم عاد صلاح الدين إلى بانياس من موضع المعركة، وتجهز للدخول إلى ذلك الحصن ومحاصرته، فسار إليه في ربيع الأول، وأحاط به، وقوى طمعه بالهزيمة المذكورة في فتحه، وبث العساكر في بلد الفرنج للإغارة، ففعلوا ذلك، وجمعوا من الأخشاب والزرجون شيئاً كثيراً ليجعله متارس للمجانيق، فقال له جاولي الأسدي وهو مقدم الأسدية وأكابر الأمراء: الرأي أننا نجربهم بالزحف أول مرة، ونذوق قتال من به، وننظر الحال معهم، فإن استضعفناهم، وإلا فنصب المجانيقما يفوت.
فقبل رأيه، وأمر فنودي بالزحف إليه، والجد في قتاله، فزحفوا واشتد القتال، وعظم المر، فصعد إنسان من العامة بقميص خلق في باشورة الحصن وقاتل على السور لما علاه وتبعه غيره من أضرابه، ولحق بهم الجند فملكوا الباشورة، فصعد الفرنج حينئذ منها إلى أسوار الحصن ليحموا نفوسهم وحصنهم إلى أن يأتيهم المدد.

وكان الفرنج قد جمعوا في طبرية، فألح المسلمون في قتال الحصن، خوفاً من وصول الفرنج وإزاحتهم عنه، وأدركهم الليل، فأمر صلاح الدين بالمبيت بالباشورة إلى الغد، ففعلوا، فلما كان الغد أصبحوا وقد نقبوا الحصن، وعمقوا النقب، وأشعلوا النيران فيه، وانتظروا سقوط السور، فلم يسقط لعرضه، فإنه كان تسعة أذرع بالنجاري، يكون الذراع ذراعاً ونصفاً، فانتظروه يومين ليسقط فلم يسقط، فأمر صلاح الدين بإطفاء النار التي في النقب، فحمل الماء والقي عليها فطفئت، وعاد النقابون فنقبوا، وخرقوا السور، وألقوا فيه النار، فسقط يوم الخميس لست بقين من ربيع الأول، ودخل المسلمون الحصن عنوة واسروا كل من فيه، وأطلقوا من كان به من أسارى المسلمين، ؛ وقتل صلاح الدين كثيراً من أسرى الفرنج، وأدخل الباقين إلى دمشق، وأقام صلاح الدين بمكانه حتى هدم الحصن، وعفى أثره، وألحقه بالأرض، وكان قد بذل الفرنج ستين ألف دينار مصرية ليهدموه بغير قتال، فلم يفعلوا ظناً منهم أنه إذا بقي بناؤه تمكنوا به من كثير من بلاد الإسلام، وأما الفرنج فاجتمعوا بطبرية ليحموا الحصن، فلما أتاهم الخبر بأخذه فت في أعضادهم، فتفرقوا إلى بلادهم، وأكثر الشعراء فيه، فمن ذلك قول صديقنا النشو بن نفاذة، رحمه الله:
هلاك الفرنج أتى عاجلاً ... وقد آن تكسير صلبانها
ولو لم يكن قد دنا حتفها ... لما عمرت بيت أحزانها
وقول علي بن محمد الساعاتي الدمشقي:
أتسكن أوطان النبيين عصبة ... تمين لدى أيمانها وهي تحلف
نصحتكم والنصح للدين واجب ... ذروا بيت يعقوب فقد جاء يوسف
ذكر الحرب بين عسكر صلاح الدين وعسكر قلج أرسلانفي هذه السنة كانت الحرب بين عسكر صلاح الدين يوسف بن أيوب ومقدمه ابن أخيه تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب، وبين عسكر الملك قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، صاحب بلاد قونية، وأقصرا.
وسببها أن نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، رحمه الله، كان قد أخذ قديماً من قلج أرسلان حصن رعبان، وكان بيد شمس الدين بن المقدم إلى الآن، فطمع فيه قلج أرسلان بسبب أن الملك الصالح بحلب بينه وبين صلاح الدين، فأرسل إليه من يحصره، فاجتمع عليه جمع كثير، يقال: كانوا عشرين ألفاً، فأرسل إليهم صلاح الدين تقي الدين في ألف فارس، فواقعهم وقاتلهم وهزمهم، وأصلح حال تلك الولاية، وعاد إلى صلاح الدين، ولم يحضر معه تخريب حصن الأحزان، فكان يفتخر ويقول: هزمت بألف مقاتل عشرين ألفاً.
ذكر وفاة المستضئ بأمر الله وخلافة الناصر لدين اللهفي هذه السنة، في ثاني ذي القعدة، توفي الإمام المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد، رضي الله عنه، وأمه أم ولد أرمنية تدعى غضة؛ وكانت خلافته نحو تسع سنين وسبعة أشهر؛ وكان مولده سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وكان عادلاً حسن السيرة في الرعية، كثير البذل للأموال، غير مبالغ في ما جرت العادة في أخذه؛ وكان الناس معه في أمن عام وإحسان شامل، وطمأنينة وسكون،لم يروا مثله، وكان حليماً قليل المعاقبة على الذنوب، محباً للعفو والصفح عن المذنبين، فعاش حميداً، ومات سعيداً، رضي الله عنه، فكانت أيامه كما قيل:
كأن أيامه من حسن سيرته ... مواسم الحج والأعياد والجمع
ووزر له عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء إلى أن قتل في ذي القعدة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، ولما قتل حكم في الدولة ظهير الدين أبو بكر منصور بن نصر المعروف بابن العطار، وكان خيراً، حسن السيرة، كثير العطاء، وتمكن تمكناً كثيراً، فلما مات المستضيء شرع ظهير الدين ابن العطار في اخذ البيعة لولده الناصر لدين الله، أمير المؤمنين، فلما تمت البيعة صار الحاكم في الدولة أستاذ الدار مجد الدين أبو الفضل بن الصاحب.

وفي سابع ذي القعدة، قبض على ابن العطار ظهير الدين، ووكل عليه في داره، ثم نقل إلى التاج، وقيد ووكل به، وطلبت ودائعه وأمواله، وفي ليلة الأربعاء ثامن عشر ذي القعدة اخرج ميتاً على رأس حمال سراً، فغمز به بعض الناس، فثار به العامة، فألقوه على رأس الحمال، وكشفوا سوءته، وشدوا في ذكره حبلاً وسحبوه في البلد، وكانوا يضعون بيده مغرفة يعني أنها قلم وقد غمسوها في العذرة ويقولون: وقع لنا يا مولانا، إلى غير هذا من الأفعال الشنيعة، ثم خلص من أيديهم ودفن، هذا فعلهم به مع حسن سيرته فيهم وكفه عن أموالهم وأعراضهم؛ وسيرت الرسل إلى الآفاق لأخذ البيعة، فسير صدر الدين شيخ الشيوخ إلى البهلوان، صاحب همذان وأصفهان والري وغيرها، فامتنع من البيعة، فراجعه صدر الدين، واغلظ له في القول، حتى أنه قال لعسكره في حضرته: ليس لهذا عليكم طاعة ما لم يبايع أمير المؤمنين، بل يجب عليكم أن تخلعوه من الأمارة، وتقاتلوه، فاضطر إلى المبايعة والخطبة، وأرسل إلى رضي الدين القزويني مدرس النظامية إلى الموصل لأخذ البيعة، فبايع صاحبها، وخطب للخليفة الناصر لدين الله أمير المؤمنين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة هبت ريح سوداء مظلمة بالديار الجزرية والعراق وغيرها، وعمت اكثر البلاد من الظهر إلى أن مضى من الليل ربعه، وبقيت الدنيا مظلمة لا يبصر الإنسان صاحبه، وكنت حينئذ بالموصل، فصلينا الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة على الظن والتخمين، وأقبل الناس على التوبة والتضرع والاستغفار، وظنوا ان القيامة قد قامت، فلما مضى مقدار ربع الليل زال ذاك الظلام والعتمة التي غطت السماء، فنظرنا فرأينا النجوم، فعلمنا مقدار ما مضى من الليل، لأن الظلام لم يزدد بدخول الليل، وكان كل من يصل من جهة من الجهات يخبر بمثل ذلك.
وفيها في ذي القعدة، نزل شمس الدولة أخو صلاح الدين عن بعلبك، وطلب عوضاً عنها الإسكندرية، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واقطع بعلبك لعز الدين فرخشاه ابن أخيه، فسار إليها، وجمع أصحابه، وأغار على بلاد الفرنج، حتى وصل إلى قلعة صفد، وهي مطلة على طبرية، فسبى وأسر وغنم وخرب وفعل بالفرنج أفاعيل عظيمة.
وأما شمس الدولة فإنه سار إلى مصر وأقام بالإسكندرية، وإذا أراد الله أن يقبض رجلاً بأرض جعل له إليها حاجة، فإنه أقام بها إلى أن مات بها.
وفيها قارب الجامع الذي بناه مجاهد الدين قايماز بظاهر الموصل منجهة باب الجسر الفراغ، وأقيمت فيه الصلوات الخمس والجمعة، وهو من احسن الجوامع.
وفيها توفي أحمد بن عبد الرحمن الصوفي شيخ رباط الزوزني، وسمع الحديث وكان يصوم الدهر؛ وعبد الحق بن عبد الخالق بن يسف، سمع الحديث ورواه، وهو من بيت الحديث؛ والقاضي عمر بن علي بن الخضر أبو الحسن الدمشقي، سمع الحديث ورواه وولي قضاء الحريم؛ وعلي بن أحمد الزيدي، سمع الحديث الكثير، وله وقف كتب كثيرة ببغداد، وكان زاهداً، خيراً، صالحاً؛ ومحمد بن علي بن حمزة أبو علي الأقساسي نقيب العلويين بالكوفة، وكان ينشد كثيراً:
رب قوم في خلائقهم ... عرر قد صيروا غرراً
ستر المال القبيح لهم ... سترى إن زال ما سترا
ومحمد بن محمد بن عبد الكريم المعروف بابن سديد الدولة الأنباري، كاتب الإنشاء بعد أبيه؛ وأبو الفتوح بصر بن عبد الرحمن الدامغاني الفقيه، كان مناظراً حسن المناظرة، كثير العبادة، ودفن عند قبر أبي حنيفة.
ثم دخلت سنة ست وسبعين وخمسمائة

ذكر وفاة سيف الدين صاحب الموصل
وولاية أخيه عز الدين بعده
في هذه السنة، ثالث صفر، توفي سيف الدين غازي بن مودود بن زنكي، صاحب الموصل وديار الجزيرة، وكان مرضه السل، وطال به، ثم أدركه في آخره سرسام، ومات.

ومن عجيب ما يحكى ان الناس خرجوا سنة خمس وسبعين يستسقون لانقطاع الغيث وشدة الغلاء، وخرج سيف الدين في موكبه، فثار به الناس وقصدوه بالاستغاثة، وطلبوا منه ان يأمر بالمنع من بيع الخمر، فأجابهم إلى ذلك، فدخلوا البلد وقصدوا مساكن الخمارين، وخربوا أبوابها، ودخلوها، ونهبوها، وأراقوا ما بها من خمور، وكسروا الظروف، وعملوا ما لا يحل، فاستغاث أصحاب الدور إلى نواب السلطان ، وخصوا بالشكوى رجلاً من الصالحين يقال له أبو الفرج الدقاق، ولم يكن له يد في الذي فعله العامة من النهب، وما لا يجوز فعله، إنما هو أراق الخمور، ونهى العامة على الذي يفعلونه، فلم يسمعوا منه، فلما شكى الخمارون منه أحضر بالقلعة، وضرب على رأسه، فسقطت عمامته، فلما أطلق لينزل من القلعة نزل مكشوف الرأس، فأرادوا تغطيته بعمامته، فلم يفعل، وقال: والله لا غطيت رأسي حتى ينتقم الله لي ممن ظلمني! فلم يمض غير أيام حتى توفي الدزدار الذي تولى أذاه، ثم بعقبه موت سيف الدين، واستمر بها إلى أن مات، وعمره حينئذ نحو ثلاثين سنة. وكانت ولايته عشر سنين وثلاثة أشهر، وكان حسن الصورة، مليح الشباب، تام القامة، ابيض اللون، وكان عاقلاً وقوراً، قليل الالتفات إذا ركب وإذا جلس، عفيفاً لم يذكر عنه ما ينافي العفة.
وكان غيوراً شديد الغيرة لا يدخل دوره غير الخدم الصغار، فإذا كب أحدهم منعه، وكان لا يحب سفك الدماء، ولا أخذ الأموال على شح فيه وجبن.
ولما اشتد مرضه أراد ان يعهد بالملك لابنه معز الدين سنجر شاه، وكان عمره حينئذ اثنتي عشر سنة، فخاف على الدولة من ذلك لأن صلاح الدين يوسف بن أيوب كان قد تمكن بالشام، وقوي أمره، وامتنع أخوه عز الدين مسعود بن مودود من الإذعان لذلك، والإجابة إليه، فأشار الأمراء الأكابر ومجاهد الدين قايماز بأن يجعل الملك بعده في عز الدين أخيه، لما هو عليه من الكبر في السن والشجاعة والعقل وقوة النفس، وأن يعطي ابنيه بعض البلاد، ويكون مرجعهما إلى هز الدين عمهما والمتولي لأمرهما مجاهد الدين قايماز، ففعل ذلك، وجعل الملك في أخيه، وأعطى جزيرة ابن عمر وقلاعها لولده سنجر شاه، وقلعة عقر الحميدية لولده الصغير ناصر الدين كسك.فلما توفي سيف الدين ملك بعده الموصل والبلاد أخوه عز الدين، وكان المدبر للدولة مجاهد الدين، وهو الحاكم في الجميع، واستقرت الأمور ولم يختلف اثنان.
ذكر مسير صلاح الدين لحرب قلج أرسلانفي هذه السنة سار صلاح الدين يوسف بن أيوب من الشام إلى بلاد قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان، وهي ملطية وسيواس وما بينهما، وقونية، ليحاربه.وسبب ذلك أن نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب حصن كيفا وغيره من ديار بكر، كان قد تزوج ابنة قلج أرسلان المذكور، وبقيت عنده مدة، ثم إنه أحب مغنية، فتزوجها، ومال إليها، وحكمت في بلاده وخزائنه، واعرض عن ابنة قلج أرسلان، وتركها نسياً منسياً، فبلغ أباها الخبر، فعزم على قصد نور الدين واخذ بلاده، فأرسل نور الدين إلى صلاح الدين يستجير به ويسأله كف يد قلج ارسلان عنه، فأرسل صلاح الدين إلى قلج أرسلان في المعنى، فأعاد الجواب: إنني كنت قد سلمت إلى نور الدين عدة حصون مجاورة بلاده لما تزوج ابنتي، فحيث آل الأمر معه إلى ما تعلمهن فأنا أريد أن يعيد إلي ما أخذه مني.

وترددت الرسل بينهما، فلم يستقر حال فيها، فهادن صلاح الدين الفرنج، وسار في عساكره، وكان الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب فيها، فتركها ذات اليسار، وسار على تل باشر إلى رعبان، فأتاه بها نور الدين محمد وأقام عنده، فلما سمع قلج أرسلان بقربه منه أرسل إليه أكبر أمير عنده، ويقول له: إن هذا الرجل فعل مع ابنتي كذا، ولا بد من قصد بلاده، وتعريفه محل نفسه، فلما وصل الرسول، واجتمع بصلاح الدين، وأدى الرسالة،امتعض صلاح الدين لذلك واغتاظ، وقال للرسول: قل لصاحبك والله الذي لا غله إلا هو لئن لم يرجع لأسيرن إلى ملطية وبيني وبينها يومان، ولا أنزل عن فرسي إلا في البلد، ثم أقصد جميع بلاده وآخذها منه.فرأى الرسول أمراً شديداً، فقام من عنده، وكان قد رأى العسكر وما هو عليه من القوة والتجمل، وكثرة السلاح والدواب وغير ذلك، وليس عنده ما يقاربه، فعلم أنه إن قصدهم أخذ بلادهم، فأرسل إليه من الغد يطلب أن يجتمع به، فأحضره فقال له: أريد أن أقول شيئاً من عندي ليس رسالة من عند صاحبي، واحب ان تنصفني. فقال له: قل!! قال: يا مولانا ما هو قبيح بمثلك، وأنت من اعظم السلاطين وأكبرهم شأناً، أن تسمع الناس عنك انك صالحت الفرنج، وتركت الغزو ومصالح المملكة، وأعرضت عن كل ما فيه صلاح لك ولرعيتك وللمسلمين عامة، وجمعت العساكر من أطراف البلاد البعيدة والقريبة، وسرت وخسرت أنت وعساكرك الأموال الكثيرة من أجل قحبة مغنية؟ ما يكون عذرك عند الله تعالى، ثم عند الخليفة وملوك الإسلام والعالم كافة؟ واحسب ان أحداً ما يواجهك بهذا، أما يعلمون أن الأمر هكذا؟ ثم احسب أن قلج ارسلان مات، وهذه ابنته أرسلتني إليك تستجير بك، وتسألك أن تنصفها من زوجها، فإن فعلت، فهو الظن بك أن لا تردها.
فقال: والله الحق بيدك، وإن الأمر لكما تقولن ولكن هذا الرجل دخل علي وتمسك بي ويقبح بي تركه، لكنك أنت اجتمع به، واصلح الحال بينكم على ما تحبون، وأنا أعينكم عليه وأقبح فعله عنده؛ ووعد من نفسه بكل جميل، فاجتمع الرسول بصاحب الحصن، وتردد القول بينهم، فاستقر أن صاحب الحصن يخرج المغنية من عنده بعد سنة، وإن كان لا يفعل ينزل صلاح الدين عن نصرته، ويكون هو وقلج أرسلان عليه، واصطلحوا على ذلك، وعاد صلاح الدين عنه إلى الشام، وعاد نور الدين إلى بلاده ، فلما انقضت المدة أخرج نور الدين المغنية عنه، فتوجهت إلى بغداد، وأقامت بها إلى أن ماتت.
ذكر قصد صلاح الدين بلد ابن ليونوفيها قصد صلاح الدين بلد ابن ليون الأرمني بعد فراغه من أمر قلج أرسلان، وسبب ذلك أن أبن ليون الأرمني قد استمال قوماً من التركمان وبذل لهم الأمان، فأمرهم أن يرعوا مواشيهم في بلاده، وهي بلاد حصينة كلها حصون منيعة، والدخول إليها صعب، لأنها مضائق وجبال وعرة، ثم غدر بهم وسبى حريمهم، واخذ أموالهم، وأسر رجالهم بعد أن قتل منهم من حان أجله.
ونزل صلاح الدين على النهر الأسود، وبث الغارات على بلاده، فخاف ابن ليون على حصن له على رأس جبلن أن يؤخذ فخربه وأحرقه، ، فسمع صلاح الدين بذلك، فأسرع السير إليه، فأدركه قبل أن ينقل ما فيه من ذخائر وأقوات، فغنمها، وانتفع المسلمون بما غنموه، فأرسل ابن ليون يبذل إطلاق ما عنده من الأسرى والسبي وإعادة أموالهم على أن يعودوا عن بلاده، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك واستقر الحال، وأطلق الأسرى وأعيدت أموالهم، وعاد صلاح الدين عنه في جمادى الآخرة.
ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة

ذكر ملك يوسف بن عبد المؤمن مدينة قفصة بعد خلاف صاحبها عليه
في هذه السن ة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى إفريقية،وملك قفصة.

وكان سبب ذلك أن صاحبها ابن عبد المعز بن المعتز لما رأى دخول الترك إلى إفريقية واستيلائهم على بعضها، وانقياد العرب إليهم، طمع أيضاً في الاستبداد والانفراد عن يوسف وكان في طاعته، فأظهر ما في نفسه وخالفه وأظهر العصيان، ووافقه أهل قفصة، فقتلوا كل من كان عندهم من الموحدين أصحاب أبي يعقوب، وكان ذلك في شوال سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة، فأرسل والي بجاية إلى يوسف بن عبد المؤمن يخبره باضطراب أمور البلاد، واجتماع كثير من العرب إلى قراقوش التركي الذي دخل إلى إفريقية وقد تقدم ذكر ذلك وما جرى في قفصة من قتل الموحدين ومساعدة أهل قفصة صاحبهم على ذلك، فشرع في سد الثغور التي يخافها بعد مسيره، فلما فرغ من جميع ذلك جهز العسكر وسار نحو إفريقية سنة خمس وسبعين، ونزل على مدينة قفصة وحصرها ثلاثة أشهرن وهي بلدة حصينة، وأهلها أنجاد، وقطع شجرها.
فلما اشتد الأمر على صاحبها وأهلهان خرج منها مستخفياً لم يعرف به أحد من أهل قفصة ولا من عسكره، وسار إلى خيمة يوسف، وعرف حاجبه انه قد حضر إلى أمير المؤمنين يوسف، فدخل الحاجب واعلم يوسف بوصول صاحب قفصة إلى باب خيمته، فعجب منه كيف أقدم على الحضور عنده بغير عهد، وأمر بإدخاله عليه، فدخل وقبل يده، وقال: قد حضرت أطلب عفو أمير المؤمنين عني وعن أهل بلدي، وان يفعل ما هو أهله؛ واعتذر، فرق له يوسف فعفا عنه وعن أهل البلد، وتسلم المدينة أول سنة ست وسبعين وسير على بن المعز صاحبها إلى بلاد المغرب، فكان فيه مكرماً عزيزاً، وأقطعه ولاية كبيرة؛ ورتب يوسف لقفصة طائفة من أصحابه الموحدين، وحضر مسعود بن زمام أمير العرب عند يوسف أيضاً، فعفا عنه وسيره إلى مراكش، وسار يوسف إلى المهدية، فاتاه بها رسول ملك الفرنج، صاحب صقلية، يلتمس الصلح منه، فهادنه عشر سنين، وكانت بلاد إفريقية مجدبة فتعذر على العسكر القوت وعلف الدواب، فسار إلى المغرب مسرعاً، والله أعلم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة توفي شمس الدولة تورانشاه بن أيوب، أخو صلاح الدين الأكبر، بالإسكندرية، وكان قد أخذها من أخيه إقطاعاً، فأقام بها فتوفي، وكان له أكثر بلاد اليمن، ونوابه هناك يحملون له الأموال من زبيد وعدن، وكل ما بينهما من البلاد والمعاقل، وكان أجود الناس وأسخاهم كفاً، يخرج كل ما يحمل إليه من أموال اليمن، ودخل الإسكندرية، وحكمه في بلاد أخيه صلاح الدين وأمواله نافذ، ومع هذا، فلما مات كان عليه نحم مائتي ألف دينار مصرية ديناً، فوفاها أخوه صلاح الدين عنه لما دخل إلى مصر، فإنه لما بلغه خبر وفاته سار إلى مصر في شعبان من السنة،واستخلف بالشام عز الدين فرخشاه ابن أخيه شاهتشاه، وكان عاقلاً حازماً شجاعاً.
وفيها توفي الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الأصفهاني بالإسكندرية، وكان حافظ الحديث وعالماً به سافر في طلب الكثير.
وتوفي أيضاً في المحرم علي بن عبد الرحيم المعروف بابن العصار اللغوي ببغداد، وسمع الحديث وكان من أصحاب ابن الجواليقي.
ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة

ذكر غزاة إلى بلد الكرك من الشام
في هذه السنة سار فرخشاه نائب صلاح الدين بدمشق إلى أعمال الكرك ونهبها.
وسبب ذلك أن البرنسن صاحب الكر، كان من شياطين الفرنج ومردتهم، وأشدهم عداوة للمسلمين، فتجهز ، وجمع عسكره ومن أمكنه الجمع، وعزم على المسير في البر إلى تيماء، ومنها إلى مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، للاستيلاء على تلك النواحي الشريفة، فسمع عز الدين فرخشاه ذلك، فجمع العساكر الدمشقية وسار إلى بلده ونهبه وخربه، وعاد إلى طرف بلادهم، وأقام ليمنع البرنس من بلاد الإسلام، فامتنع بسببه عن مقصده، فلما طال مقام كل واحد منهم في مقابلة الآخر علم البرنس أن المسلمين لا يعودون حتى يفرق جمعه، ففرقهم وانقطع طمعه من الحركة، فعاد فرخشاه إلى دمشق، وكفى الله المؤمنين شر الكفار.
ذكر تلبيس ينبغي أن يحتاط من مثله

كان سيف الدولة مبارك بن كامل بن منقذ الكناني ينوب عن شمس الدولة أخي صلاح الدين باليمن وتحكم في الأموال والبلاد بعد أن فارقها شمس الدولة،كما ذكرنا، وكان هواه بالشام لأنه وطنه، فأرسل إلى شمس الدولة يطلب الإذن له المجيء إليه، فأذن له في المجيء، فاستناب بزبيد أخاه حطان ابن كامل بن منقذ الكناني، وعاد إلى شمس الدولة، وكان معه بمصر. فمات شمس الدولة، وبقي مع صلاح الدين فقيل عنه: إنه أخذ أموال اليمن وادخرها، وسعى به أعداؤه، فلم يعارضه صلاح الدين.
فلما كان هذه السنة وصلاح الدين بمصر اصطنع سيف الدولة طعاماً وعمل دعوة كبيرة، ودعا إليها أعيان الدولة الصلاحية بقرية تسمى العدوية. وأرسل أصحابه يتجهزون من البلد، ويشترون ما يحتاجون إليه من الأطعمة وغيرها، فقيل لصلاح الدين أن ابن منقذ يريد الهرب، وأصحابه يتزودون له، ومتى دخل اليمن أخرجه عن طاعتك؛ فأرسل صلاح الدين فأخذه والناس عنده وحبسه، فلما سمع صلاح الدين جلية الحال علم أن الحيلة تمت لأعدائه في قبضه، فخفف ما كان عنده عليه، وسهل أمره وصانعه على ثمانين ألف دينار مصرية، سوى ما لحقها من الحمل لأخوة صلاح الدين وأصحابه وأطلقه وأعاده إلى منزلته، وكان أديباً شاعراً.
ذكر إرسال صلاح الدين العساكر إلى اليمنفي هذه السنة سير صلاح الدين جماعة من أمرائه منهم صارم الدين قتلغ أبه، والي مصر، إلى اليمن، للاختلاف الواقع بها بين نواب أخيه شمس الدولة، وهم عز الدين عثمان بن الزنجيلي، والي عدن، وحطان بن منقذ والي زبيد وغيرهما، فإنهم لما بلغهم وفاة صاحبهم اختلفوا وجرت بين عز الدين عثمان وبين حطان حرب، وكل واحد منهما يروم أن يغلب الآخر على ما بيده، واشتد الأمر، فخاف صلاح الدين أن يطمع أهل البلاد فيها بسبب الاختلاف بين أصحابه وأن يخرجوهم من البلاد، فأرسل هؤلاء الأمراء إليها. واستولى قتلغ أبه على زيبد وأزال حطان عنها.
ثم مات قتلغ أبه، فعاد حطان إلى إمارة زبيد، وأطاعه الناس لجوده وشجاعته.
ذكر وفاة الملك الصالح

وملك ابن عمه عز الدين مسعود مدينة حلب
في هذه السنة، في رجب، توفي الملك الصالح إسماعيل بن نور الدين محمود صاحب حلب بها، وعمره نحو تسع عشرة سنة، ولما اشتد مرضه وصف له الأطباء شرب الخمر للتداوي، فقال: لا أفعل حتى أستفتي الفقهاء؛ فاستفتى، فأفتاه فقيه من مدرسي الحنفية بجواز ذلك، فقال له: أرأيت إن قدر الله تعالى بقرب الأجل أيؤخره شرب الخمر؟ فقال له الفقيه: لا فقال: والله لا لقيت الله سبحانه وقد استعملت ما حرمه علي؛ ولم يشربها.
فلما أيس من نفسه، أحضر الأمراء، وسائر الأجناد، ووصاهم بتسليم البلد إلى ابن عمه عز الدين مسعود بن مودود بن زنكي، واستحلفهم على ذلك، فقال له بعضهم: إن عماد الدين ابن عمك أيضاً، وهو زوج أختك، وكان والدك يحبه ويؤثره، وهو تولى تربيته، وليس له غير سنجار، فلو أعطيته البلد لكان أصلحن وعز الدين له من البلاد من نهر الفرات إلى همذان، ولا حاجة به إلى بلدك، فقال له: إن هذا لم يغب عني، ولكن قد علمتم أن صلاح الدين قد تغلب على عامة بلاد الشام سوى ما بيدي، ومتى سلمت حلب إلى عماد الدين يعجز عن حفظها وإن ملكها صلاح الدين لم يبق لأهانا معه مقام، وإن سلمتها إلى عز الدين أمكنه حفظها بكثرة عساكره وبلاده.
فاستحسنوا قوله وعجبوا من جودة فطنته مع شدة مرضه وصغر سنه.
ثم مات، وكان حليماً كريماً عفيف اليد والفرج واللسان، ملازماً للدين، لا يعرف له شيء مما يتعاطاه الملوك والشباب من شرب خمر أو غيره، حسن السيرة في رعيته عادلاً فيهم.

ولما قضى نحبه أرسل الأمراء إلى أتابك عز الدين يستدعونه إلى حلب، فسار هو ومجاهد الدين قايماز إلى الفرات، وأرسل فأحضر الأمراء عنده من حلب،فحضروا، وساروا جميعاً إلى حلب، ودخلها في العشرين من شعبان، وكان صلاح الدين حينئذ بمصر، ولولا ذلك لزاحمهم عليها وقاتلهم، فلما اجتاز طريقه إلى الفرات كان تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين بمدينة منبج، فسار عنها هارباً إلى حماة، وثار أهل حماة، ونادوا بشعار عز الدين، فأشار عسكر حلب على عز الدين بقصد دمشق، وأطمعوه فيها وفي غيرها من بلاد الشام، وأعلموه محبة أهلها له ولأهل بيته، فلم يفعل، وقال:بيننا يمين فلا نغدر به؛ وأقام بحلب عدة شهور، ثم سار عنها إلى الرقة.
ذكر تسليم حلب إلى عماد الدينوأخذ سنجار عوضاً عنها
لما وصل عز الدين إلى الرقة جاءته رسل أخيه عماد الدين، صاحب سنجار، يطلب أن يسلم إليه حلب ويأخذ عنها مدينة سنجار، فلم يجبه إلى ذلك، ولج عماد الدين، وقال: إن سلمتم إلي حلب، وإلا سلمت أنا سنجار إلى صلاح الدين ، فأشار حينئذ جماعة من الأمراء بتسليمها إليه، وكان أشدهم في ذلك مجاهد الدين قايماز، فلم يمكن عز الدين مخالفته لتمكنه في الدولة، وكثرة عساكره وبلاده، وإنما حمل مجاهد الدين على ذلك خوفه من عز الدين، لأنه عظم في نفسه، وكثر معه العسكر.
وكان الأمراء الحلبيون لا يلتفتون إلى مجاهد الدين، ولا يسلكون معه من الأدب ما يفعله عساكر الموصل، فاستقر الأمر على تسليم حلب إلى عماد الدين واخذ سنجار بدلاً عنها، فسار عماد الدين فتسلمها، وسلم سنجار إلى أخيه، وعاد إلى الموصل.
وكان صلاح الدين بحلب قد وصله خبر ملك عز الدين حلب، فعظم عليه الأمر، وخاف أن يسير منها إلى دمشق وغيرها، ويملك الجميع، وأيس من حلب، فلما بلغه خبر ملك عماد الدين لها برز من يومه وسار إلى الشام، وكان من الوهن على دولة عز الدين ما نذكره إن شاء الله.
ذكر حصر صاحب ماردين قلعة البيرة ومصير صاحبها مع صلاح الدينكانت قلعة البيرة، وهي مطلة على الفرات من أرض الجزيرة، لشهاب الدين الآرتقي، وهو أبن عم قطب الدين إيلغازي بن ألبي بن تورتاش بن إيلغازي بن ارتق صاحب ماردين، وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي، صاحب الشام، فمات شهاب الدين وملك القلعة بعده ولده وصار في طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل.
فلما كان هذه السنة أرسل صاحب ماردين إلى عز الدين يطلب منه أن يأذن له في حصر البيرة وأخذها، فأذن له في ذلك، فسار في عسكره إلى قلعة سميساط، وهي له، ونزل بها وسير العسكر إلى البيرة، فحصرها، فلم يظفر منها بطائل، إلا أنهم لازموا الحصار، فأرسل صاحبها إلى صلاح الدين وقد خرج من ديار مصر، على ما نذكره، يطلب منه أن ينجده ويرحل العسكر المارديني عنه، ويكون هو في خدمته، كما كان أبوه في خدمة نور الدين، فأجابه إلى ذلك، وأرسل رسولاً إلى صاحب ماردين يشفع فيه، ويطلب أن يرحل عسكره عنه، فلم يقبل شفاعته.
واشتغل صلاح الدين بما نذكره من الفرنج، فلما رأى صاحب ماردين طول مقام عسكره على البيرة، ولم يبلغوا منها غرضاً، أمرهم بالرحيل عنها، وعاد إلى ماردين، فسار صاحبها إلى صلاح الدين، وكان معه حتى عبر معه الفرات، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كثرت المنكرات ببغداد، فأقام حاجب الباب جماعة لإراقة الخمور، وأخذ المفسدات، فبينما امرأة منهم في موضع، علمت بمجيء أصحاب حاجب الباب، فاضطجعت،وأظهرت أنها مريضة، وارتفع أنينها، فرأوها على تلك الحال، فتركوها وانصرفوا، فاجتهدت بعدهم أن تقوم، فلم تقدر، وجعلت تصيح: الكرب الكرب، إلى أن ماتت. وهذا من أعجب ما يحكى.
وفيها، عاشر ذي الحجة، توفي الأمير همام الدين تتر، صاحب قلعة تكريت بالمزدلفة، كان قد استخلف الأمير عيسى ابن أخي مودود وحج، فتوفي، ودفن بالمعلى مقبرة مكة.
وفيها، في شعبان، توفي عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبي سعيد أبو البركات النحوي المعروف بابن الأنباري ببغداد، وله تصانيف حسنة في النحو، وكان فقيهاً صالحاً.
وفيها توفي إبراهيم بن مهران الفقيه الشافعي بجزيرة ابن عمر، وكان فاضلاً كثير الورع.
ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة

ذكر مسير صلاح الدين إلى الشام

وإغارته على الفرنج
في هذه السنة، خامس المحرم، سار صلاح الدين عن مصر إلى الشام، ومن عجيب ما يحكى من التطير أنه لما برز من القاهرة أقام بخيمته حتى تجتمع العساكر والناس عنده، وأعيان دولته والعلماء وأرباب الآداب، فمن بين مدع له وسائر معه، وكل منهم يقول شيئاً في الوداع والفراق، وما هم بصدده من السفر، وفي الحاضرين معلم لبعض أولاده، فاخرج رأسه من بين الحاضرين وانشد:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
فانقبض صلاح الدين من بعد انبساطه وتطير، وتنكد المجلس على الحاضرين، فلم يعد إليها إلى أن مات بعد طول المدة.
ثم سار عن مصر وتبعه من التجار وأهل البلاد، ومن كان قصد مصر من الشام بسبب الغلاء بالشام وغيره، عالم كثير، فلما سار جعل طريقه على أيلة، فسمع أن الفرنج قد جمعوا له ليحاربوه ويصدوه عن المسير، فلما قارب بلادهم سير الضعفاء والأثقال مع أخيه تاج الملوك بوري إلى دمشق، وبقي هو في العساكر المقاتلة لا غير، فشن الغارات بأطراف بلادهم، وأكثر ذلك ببلد الكرك والشوبك، فلم يخرج إليه منهم أحد، ولا أقدم على الدنو منه، ثم سار فأتى دمشق، فوصلها حادي عشر صفر من السنة.
ذكر ملك المسلمين شقيفاً من الفرنج
في هذه السنة أيضاً، في صفر، فتح المسلمون بالشام شقيفاً من الفرنج، يعرف بحبس جلدك، وهو من أعمال طبرية، مطل على السواد.
وسبب فتحه أن الفرنج لما سمعوا بمسير صلاح الدين من مصر إلى الشام جمعوا له، وحشدوا الفارس والراجل، واجتمعوا بالكرك بالقرب من الطريق، لعلهم ينتهزون فرصة، أو يظفرون بنصرة، وربما عاقوا المسلمين عن المسير بأن يقفوا على بعض المضايق، فلما فعلوا ذلك خلت بلادهم من ناحية الشام، فسمع فرخشاه الخبر، فجمع من عنده من عساكر الشام، ثم قصد بلاد الفرنج وأغار عليها، ونهب دبورية وما يجاورها من القرى، واسر الرجال وقتل فيهم واكثر وسبى النساء، وغنم الأموال وفتح منهم الشقيف، وكان على المسلمين منه أذى شديد، ففرح المسلمون بفتحه فرحاً عظيماً، وأرسل إلى صلاح الدين بالبشارة، فلقيه في الطريق، ففت ذلك في عضد الفرنج، وانكسرت شوكتهم.
ذكر إرسال سيف الإسلام إلى اليمن وتغلبه عليهفي هذه السنة سير صلاح الدين أخاه سيف الإسلام طغدكين إلى بلاد اليمن وأمره بتملكها وقطع الفتن بها، وفوض إليه أمرها، وكان بها حطان بن منقذ، كما ذكرناه قبل، وكتب عز الدين عثمان الزنجيلي متولي عدن إلى صلاح الدين يعرفه باختلال البلاد، ويشير بإرسال بعض أهله إليها لأن حطان كان قوي عليه، فخافه عثمان، فجهز صلاح الدين أخاه سيف الإسلام وسيره إلى أهل اليمن، فوصل إلى زبيد، فخافه حطان ابن منقذ واستشعر منه، وتحصن في بعض القلاع، فلم يزل به سيف الإسلام يؤمنه ويهدي إليه ويتلطفه حتى نزل إليه، فأحسن صحبته، واعتمد معه ما لم يكن يتوقعه من الإحسان؛ فلم يثق حطان به، وطلب نه دستوراً ليقصد الشام، فامتنع في إجابته إظهاراً للرغبة في كونه عنده، فلم يزل حطان يراجعه حتى أذن له، فأخرج أثقاله، وأمواله، وأهله، وأصحابه وكل ما له، وسير الجميع بين يديه.
فلما كان الغد دخل على سيف الإسلام ليودعه، قبض عليه واسترجع جميع ماله فأخذه عن أخره لم يسلم منه قليل ولا كثير، ثم سجنه في بعض القلاع، وكان أخر العهد به، فقيل أنه قتله، وكان في جملة ما اخذ منه الأموال والذهب والعين في سبعين غلافاً زردية مملوءة عيناً. وأما عز الدين عثمان الزنجيلي فإنه لما سمع ما جرى على حطان خاف فسار نحو الشام خائفاً يترقب، وسير معظم أمواله في البحر، فصادفهم مراكب فيها أصحاب سيف الإسلام، فخذوا كل ما لعز الدين، ولم يبق إلا ما صحبه في الطريق، وصفت زبيد وعدن وما معهما من البلاد لسيف الإسلام.
ذكر إغارة صلاح الدين على الغور
وغيره من بلاد الفرنج

لما وصل صلاح الدين إلى دمشق، كما ذكرناه، أقام أياماً يريح ويستريح هو وجنده، ثم سار إلى بلاد الفرنج في ربيع الأول، فقصد طبرية، فنزل بالقرب منها، وخيم في الأقحوانة من الأردن، وجاءت الفرنج بجموعها فنزلت في طبرية، فسير صلاح الدين ابن أخيه فرخشاه إلى بيسان، فدخلها قهراً ، وغنم ما فيها، وقتل وسبى، وجحف الغور غارة شعواء، فعم أهله قتلاً وأسراً، وجاءت العرب فأغارت على جنين واللجون وتلك الولاية، حتى قاربوا مرج عكا.
وسار الفرنج من طبرية، فنزلوا تحت جبل كوكب، فتقدم صلاح الدين إليهم، وأرسل العساكر عليهم يرمونهم بالنشاب، فلم يبرحوا، ولم يتحركوا للقتال، فأمر أبني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه، فحملا على الفرنج فيمن معهما، فقاتلوا قتالاً شديداً، ثم إن الفرنج انحازوا على حاميتهم، فنزلوا غفربلا، فلما رأى صلاح الدين ما قد أثخن فيهم وفي بلادهم عاد عنهم إلى دمشق.
ذكر حصر بيروتثم إنه سار عن دمشق إلى بيروت، فنهب بلدها، وكان قد أمر الأسطول المصري بالمجيء في البحر إليها، فساروا ونازلوها، وأغاروا عليها وعلى بلدها، وسار صلاح الدين فوافاهم ونهب ما لم يصل الأسطول إليه، وحصرها عدة أيام. وكان عازماً على ملازمتها إلى أن يفتحها، فأتاه الخبر وهو عليها أن البحر قد ألقى بطسة للفرنج فيها جمع عظيم منهم إلى دمياط، وكانوا قد خرجوا لزيارة البيت المقدس، فأسروا من بها إلى أن غرق منهم الكثير فكان عدة الأسرى ألفاً وستمائة وستة وسبعين أسيراً، فضربت بذلك البشائر.
ذكر عبور صلاح الدين الفرات

وملكه ديار الجزيرة
في هذه السنة عبر صلاح الدين الفرات إلى الديار الجزرية وملكها.
وسبب ذلك أن مظفر الدين كوكبري بن زين الدين علي بن بكتكين، وهو مقطع حران كان قد أقطعه إياها عز الدين أتابك، المدينة والقلعة، ثقة به واعتماداً عليه، أرسل إلى صلاح الدين هو يحاصر بيروت يعلمه بها أنه معه محب لدولته، ووعده النصرة له إن عبر الفرات، ويطمعه في البلاد ويحثه على الوصول إليها، فسار صلاح الدين عن بيروت، ورسل مظفر الدين تترى إليه يحثه على المجيء، فجد صلاح الدين السير مظهراً أنه يريد حصر حلب ستراً للحال.
فلما قارب الفرات سار إليه مظفر الدين فعبر الفرات واجمع به وعاد معه فقصد البيرة، وهي قلعة منيعة على الفرات، من الجانب الجزري، وكان صاحبها قد سار مع صلاح الدين، وفي طاعته، وقد ذكرنا سبب ذلك قبل، فعبر هو وعسكره الفرات على الجسر الذي عند البيرة.
وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما وصول صلاح الدين إلى الشام قد جمعا العسكر وسارا إلى نصيبين، ليكونا على أهبة واجتماع لئلا يتعرض صلاح الدين إلى حلب، ثم تقدما إلى دارا، فنزلا عندها، فجاءهما أمر لم يكن في الحساب، فلما بلغهما عبور صلاح الدين الفرات، عادا إلى الموصل وأرسلا إلى الرها عسكراً يحميها ويمنعها، فلما سمع صلاح الدين ذلك قوي طمعه في البلاد، ولما عبر صلاح الدين الفرات، كاتب الملوك أصحاب الأطراف ووعدهم، وبذل لهم البذول على نصرته، فأجابه نور الدين محمد بن قراآرسلان، صاحب الحصن، إلى ما طلب منه، لقاعدة كانت قد استقرت بينهما لما كان نور الدين عنده بالشام، فإنه استقر الحال أن صلاح الدين يحصر آمد ويملكها، ويسلمها إليه، وسار صلاح الدين إلى مدينة الرها، فحصرها في جمادى الأولى، وقاتلها أشد قتال. فحدثني بعض من كان بها من الجند انه عد في غلاف رمح أربعة عشر خرقاً وقد خرقته السهام.
ووالى الزحف عليها، وكان بها حينئذ مقطعها، وهو الأمير فخر الدين مسعود بن الزعفراني، فحيث رأى شدة القتال أذعن إلى التسليم، وطلب الأمان وسلم البلد، وصار في خدمة صلاح الدين، فلما ملك المدينة زحف إلى القلعة، فسلمها إليه الدزدار الذي بها على مال أخذه، فلما ملكها سلمها إلى مظفر الدين مع حران، ثم سار عنها، على حران، إلى الرقة، فلما وصل إليها كان بها مقطعها قطب الدين ينال بن حسان المنبجي، فسار عنها إلى عز الدين أتابك، وملكها صلاح الدين، وسار إلى الخابور، قرقيسيا، وماكسين وعابان، فملك جميع ذلك.

فلما استولى على الخابور جميعه سار إلى نصيبين، فملك المدينة لوقتها، وبقيت القلعة، فحصرها عدة أيام، فملكها أيضاً، وأقام بها ليصلح شانها، ثم أقطعها أميراً كان معه يقال له أبو الهيجاء السمين، وسار عنه ومعه نور الدين صاحب الحصن.
وأتاه الخبر أن الفرنج قصدوا دمشق، ونهبوا القرى، ووصلوا إلى داريا، وأرادوا تخريب جامعها، فأرسل النائب بدمشق إليهم جماعة من النصارى يقولون لهم: إذا خربتم الجامع جددنا عمارته، وخربنا كل بيعة لكم في بلادنا، ولا نمكن أحداً من عمارتها، فتركوه، ولما وصل الخبر إلى صلاح الدين بذلك أشار عليه من يتعصب لعز الدين بالعود، فقال: يخربون قرى ونملك عوضها بلاداً، ونعود نعمرها، ونقوى على قصد بلادهم؛ ولم يرجع، فكان كما قال.
ذكر حصر صلاح الدين الموصللما ملك صلاح الدين نصيبين، جمع أمراءه وأرباب المشورة عنده، واستشارهم بأي البلاد يبدأ، وأيها يقصد، بالموصل أم بسنجار أم بجزيرة ابن عمر، فاختلفت آراؤهم، فقال له مظفر الدين كوكبري بن زين الدين: لا ينبغي أن يبدأ بغير الموصل، فإنها في أيدينا لا مانع لها، فإن عز الدين ومجاهد الدين متى سمعا بمسيرنا إليها تركاها وسارا عنها إلى بعض القلاع الجبلية.
ووافقه ناصر الدين محمد ابن عمه شيركوه، وكان قد بذل لصلاح الدين مالاً كثيراً ليقطعه الموصل إذا ملكها، وقد أجابه صلاح الدين إلى ذلك، فأشار بهذا الرأي لهواه، فسار صلاح الدين إلى الموصل، وكان عز الدين صاحبها ومجاهد الدين قد جمعا العساكر الكثيرة ما بين فارس وراجل، وأظهرا من السلاح وآلات الحصار ما حارت له الأبصار، وبذلا الأموال الكثيرة، واخرج مجاهد الدين من ماله كثيراً، واصطلى الأمور بنفسه، فأحسن تدبيرها، وشحنوا ما بقي بأيديهم من البلاد، كالجزيرة وسنجار وإربل وغيرها من البلاد، بالرجال والسلاح والأموال.
وسار صلاح الدين حتى قارب الموصل وترك عسكره، وانفرد هو ومظفر الدين وابن عمه ناصر الدين بن شيركوه، ومعهما نفر من أعيان دولته، وقربوا من البلد، فلما قربه رآه وحققه، فرأى ما هاله وملأ صدره وصدور أصحابه، فإنه رأى بلداً عظيماً كبيراً، ورأى السور والفصيل ملئا من الرجال، وليس فيه شرافة غلا وعليها رجل يقاتل سوى من عليه من عامة البلد المتفرجين، فلما رأى ذلك علم انه لا يقدر على أخذه، وانه يعود خائباً، فقال لناصر الدين ابن عمه: إذا رجعنا إلى المعسكر فاحمل ما بذلت من المال فنحن معك على القول. فقال ناصر الدين: قد رجعت عما بذلت من المال، فإن هذا البلد لا يرام. فقال له ولمظفر الدين: غررتماني وأطمعتماني في غير مطمع، ولو قصدت غيره قبله لكان أسهل أخذاً بالاسم والهيبة التي حصلت لنا، ومتى نازلناه، وعدنا منه، ينكسر ناموسنا ويفل حدنا وشوكتنا.

ثم رجع إلى معسكره وصبح البلد، وكان نزوله عليه في رجب، فنازله وضايقه، ونزل محاذي باب كندة، وانزل صاحب الحصن بباب الجسر، وانزل أخاه تاج الملوك عند الباب العمادي، وانشب القتال، فلم يظفر، وخرج غليه يوماً بعض العامة، فنالوا منه، ولم يمكن عز الدين ومجاهد الدين أحداً من العسكر أن يخرجوا لقتال بل ألزموا الأسوار؛ ثم عن تقي الدين أشار على عمه صلاح الدين بنصب منجنيق، فقال: مثل هذا البلد لا ينصب عليه منجنيق، ومتى نصبناه أخذوه، ولو خربنا برجاً وبدنة من يقدر على الدخول للبلد وفيه هذا الخلق الكثير؟ فألح تقي الدين وقال: نجربهم به؛ فنصب منجنيقاً، فنصب عليه من البلد تسعة مجانيق، وخرج جماعة من العامة فأخذوه وجرى عنده قتال كثير، فأخذ بعض العامة لألكة من رجليه، فيها المسامير الكثيرة، ورمى بها أميراً يقال له جاولي الأسدي، مقدم الأسدية وكبيرهم، فأصاب صدره، فوجد لذلك ألماً شديداً، وأخذ اللاكة وعاد عن القتال إلى صلاح الدين وقال: قد قاتلنا أهل الموصل بحماقات ما رأينا بعد مثلها؛ وألقى اللاكة، وحلف أنه لا يعود يقاتل عليها أنفة حيث ضرب بهذه.ثم إن صلاح الدين رحل من قرب لبلد، ونزل متأخراً، خوفاً من البيات، فإنه لقربه كان لا يأمن ذلك، وكان سببه أيضاً أن مجاهد الدين اخرج في بعض الليالي جماعة من باب السر الذي للقلعة، ومعهم المشاعل، فكان أحدهم يخرج من الباب وينزل إلى دجلة، مما يلي عين الكبريت، ويطفئ المشعل، فرأى العسكر الناس يخرجون، فلو يشكوا في الكبسة، فحملهم ذلك على الرحيل والتأخر ليتعذر البيات على أهل الموصل.
وكان صدر الدين شيخ الشيوخ، رحمه الله، وقد وصل إليه، قبل نزوله على الموصل، ومعه بشير الخادم، وهم من خواص الخليفة الناصر لدين الله، في الصلح، فأقاما معه على الموصل، وترددت الرسل إلى عز الدين ومجاهد الدين في الصلح، فطلب عز الدين إعادة البلاد التي أخذت منهم، فأجاب صلاح الدين إلى ذلك بشرط أن تسلم إليه حلب، فامتنع عز الدين ومجاهد الدين، ثم نزل عن ذلك، وأجاب إلى تسليم البلاد بشرط أن يتركوا إنجاد صاحب حلب عليه، فلم يجيبوه إلى ذلك أيضاً، وقال عز الدين: هو أخي وله العهود والمواثيق ولا يسعني نكثها.
ووصلت أيضاً رسل قزل أرسلان صاحب أذربيجان، ورسل شاه أرمن صاحب خلاط، في المعنى، فلم ينتظم أمر ولا تم صلح؛ فلما رأى صلاح الدين أنه لا ينال من الموصل غرضاً، ولا يحصل على غير العناء والتعب، وأن من بسنجار من العساكر الموصلية يقطعون طريق من يقصدونه من عساكره وأصحابه، سار من الموصل إليها.
ذكر ملكه مدينة سنجارلما سار صلاح الدين عن الموصل إلى سنجار، سير مجاهد الدين إليها عسكراً قوة لها ونجدة، فسمع بهم صلاح الدين، فمنعهم من الوصول إليها، وأوقع بهم، وأخذ سلاحهم ودوابهم وسار إليها ونازلها، وكان بها شرف الدين أمير أميران هندوا أخو عز الدين، صاحب الموصل، في عسكر معه، فحصر البلد وضايقه، وألح في قتاله، فكاتبه بعض أمراء الأكراد الذين به من الزرزارية، وخامر معه، وأشار بقصده من الناحية التي هو بها ليسلم إليه البلد، فطرقه صلاح الدين ليلاً، فسلم إليه ناحيته، فملك الباشورة لا غير. فلما سمع شرف الدين الخبر استكان وخضع، و طلب الأمان، فأمن، ولو قاتل على تلك الناحية لأخرج العسكر الصلاحي عنها، ولو امتنع بالقلعة لحفظها ومنعها، ولكنه عجز، فلما طلب الأمان أجابه صلاح الدين إليه، فأمنه وملك البلد.
وسار شرف الدين ومن معه إلى الموصل، واستقر جميع ما ملكه صلاح الدين بملك سنجار، فإنه كان قصد أن يسترده المواصلة إذا فارقه، لأنه لم يكن فيه حصن غير الرُّها، فلما ملك سنجار صارت على الجميع كالسور، واستناب بها سعد الدين بن معين الدين أنز، وكان من أكابر الأمراء وأحسنهم صورة ومعنى.
؟

ذكر عود صلاح الدين إلى حران
لما ملك صلاح الدين سنجار وقرر قواعدها سار إلى الصين، فلقيه أهلها شاكين من أبي الهيجاء السمين، باكين من ظلمه، متأسفين على دولة عز الدين وعدله فيهم، فلما سمع ذلك أنكر على أبي الهيجاء ظلمه، وعزله عنهم، وأخذه معه، وسار إلى حران، وفرق عساكره ليستريحوا، وبقي جريدة في خواصه وثقات أصحابه، وكان وصوله إليها أوائل ذي القعدة من السنة.
ذكر اجتماع عز الدين وشاه أرمن

في هذه السنة، في ذي الحجة، اجتمع أتابك عز الدين، صاحب الموصل، وشاه أرمن صاحب خلاط، على قتال صلاح الدين.
وسبب ذلك أن رسل عز الدين ترددت إلى شاه أرمن يستنجده ويستنصره على صلاح الدين، فأرسل شاه أرمن إلى صلاح الدين عدة رسل في الشفاعة إليه بالكف عن الموصل وما يتعلق بعز الدين، فلم يجبه إلى ذلك، وغالطه، فأرسل إليه أخيراً مملوكه سيف الدين بكتمر الذي ملك خلاط بعد شاه أرمن، فأتاه وهو يحاصر سنجار يطلب إليه أن يتركها ويرحل عنها، وقال له: إن رحل عنها وإلا فتهدده بقصده ومحاربته؛ فأبلغه بكتمر الشفاعة، فسوّفه في الجواب رجاء أن يفتحها، فلما رأى بكتمر ذلك أبلغه الرسالة الثانية بالتهديد، وفارقه غضبان، ولم يقبل منه خلعة ولا صلة، وأخبر صاحبه الخبر، وخوفه عاقبة الإهمال والتواني عن صلاح الدين، فسار شاه أرمن من خلاط، وكان مخيماً بظاهرها، وسار إلى ماردين، وصاحبها حينئذ قطب الدين بن نجم الدين ألبي، وهو ابن أخت شاه أرمن، وابن خال عز الدين وحموه، لأن عز الدين كان قد زوج ابنته قطب الدين، وحضر مع شاه أرمن دولة شاه صاحب بدليس وأرزن، وسار أتابك عز الدين من الموصل في عسكره جريدة من الأثقال.
وكان صلاح الدين قد ملك سنجار، وسار عنها إلى حران، وفرق عساكره، فلما سمع باجتماعهم سير إلى تقي الدين ابن أخيه، وهو بحماة، يستدعيه، فوصل إليه مسرعاً، وأشار عليه بالرحيل وحذره منه آخرون وكان هوى صلاح الدين في الرحيل، فرحل إلى راس عين، فلما سمعوا برحيله تفرقوا، فعاد شاه أرمن إلا خلاط، واعتذر بأنني أجمع العساكر وأعود، ورجع عز الدين إلى الموصل، وأقام قطب الدين بماردين، وسار صلاح الدين فنزل بحرزم تحت ماردين عدة أيام.
ذكر الظفر بالفرنج في بحر عيذابفي هذه السنة عمل البرنس صاحب الكرك أسطولاً، وفرغ منه بالكرك، ولم يبق إلا جمع قطعه بعضها إلى بعض، وحملها إلى بحر أيله، وجمعها في أسرع وقت.
وفرغ منها وشحنها بالمقاتلة وسيرها، فساروا في البحر، وافترقوا فرقتين: فرقة أقامت على حصن أيلة وهو للمسلمين يحصرونه، ويمنع أهله من ورود الماء، فنال أهله شدة شديدة وضيق عظيم؛ وأما الفرقة الثانية فإنهم ساروا نحو عيذاب، وأفسدوا في السواحل، ونهبوا، وأخذوا ما وجدوا من المراكب الإسلامية ومن فيها من التجار، وبتغوا الناس في بلادهم على حين غفلة منهم، فإنهم لم يعهدوا بهذا البحر فرنجياً قط لا تاجراً ولا محارباً.
وكان بمصر الملك العادل أبو بكر بن أيوب ينوب عن أخيه صلاح الدين، فعمر أسطولاً وسيره، وفيه جمع كثير من المسلمين، ومقدمهم حسام الدين لؤلؤ، وهو متولي الأسطول بديار مصر، وكان مظفراً فيه، شجاعاً، كريماً، فسار لؤلؤ مجداً في طلبهم، فأبتدأ بالذين على أيلة فانقض عليهم انقضاض العقاب على صيدها، فقاتلهم، فقتل بعضهم، وأسر الباقي؛ وسار من وقته بعد الظفر يقص أثر الذين قصدوا عيذاب، فلم يرهم، وكانوا قد أغاروا على ما وجدوه بها، وقتلوا من لقوه عندها، وساروا إلى غير ذلك المرسى ليفعلوا كما فعلوا فيه؛ وكانوا عازمين على الدخول إلى الحجاز مكة والمدينة، حرسهما الله تعالى، وأخذ الحاج ومنعهم عن البيت الحرام، والدخول بعد ذلك إلى اليمن.
فلما وصل لؤلؤ إلى عيذاب ولم يرهم سار يقفو أثرهم، فبلغ رابغ وساحل الجوزاء وغيرهما، فأدركهم بساحل الجوزاء، فأوقع بهم هناك، فلما رأوا العطب وشاهدوا الهلاك خرجوا إلى البر، واعتصموا ببعض تلك الشعاب، فنزل لؤلؤ من مراكبه إليهم، وقاتلهم أشد قتال، وأخذ خيلاً من الأعراب الذين هناك، فركبها، وقاتلهم فساناً ورجالة، فظفر بهم وقتل أكثرهم، وأخذ الباقين أسرى، وأرسل بعضهم إلى منى لينحروا بها عقوبة لمن رام إخافة حرم الله تعالى وحرم رسوله صلى الله عليه وسلم، وعاد بالباقين إلى مصر، فقتلوا جميعهم.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي عز الدين فرخشاه ابن أخي صلاح الدين، وكان ينوب عنه بدمشق، وهو ثقته من أهله، وكان اعتماده عليه أكثر من جميع أهله وامرأته، وكان شجاعاً كريماً، فاضلاً، عالماً بالأدب وغيره، وله شعر جيد من بين أشعار الملوك.

وكان ابتداء مرضه أنه خرج من دمشق إلى غزو الفرنج، فمرض، وعاد مريضاً، فمات، ووصل خبر موته إلى صلاح الدين، وقد عبر الفرات إلى الديار الجزرية، فأعاد شمس الدين محمد بن المقدم إلى دمشق ليكون مقدماً على عسكرها.
وفيها مات فخر الدولة أبو المظفر بن الحسن بن هبة الله بن المطلب. كان أبوه وزير الخليفة، وأخوه أستاذ الدار، فتصوف هو من زمن الصبا، وبنى مدرسة ورباطاً ببغداد عند عقد المصطنع، وبنى جامعاً بالجانب الغربي منها.
وفيها توفي الأمير أبو منصور هاشم ولد المستضيء بأمر الله ودفن عند أبيه.
وفيها توفي أبو العباس أحمد بن علي بن الرفيعي من سواد واسط، وكان صالحاً ذا قبول عظيم عند الناس، وله من التلامذة ما لا يحصى.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة

ذكر ملك صلاح الدين آمد
وتسليمها إلى صاحب الحصن
قد ذكرنا نزول صلاح الدين بحرزم، تحت ماردين، فلم ير لطمعه وجهاً، وسار عنها إلى آمد، على طريق البارعية، وكان نور الدين محمد بن قرا أرسلان يطالبه في كل وقت بقصدها وأخذها وتسليمها إليه، على ما استقرت القاعدة بينهما، فوصل إلى آمد سابع عشر ذي الحجة من سنة ثمان وسبعين ونازلها، و أقام يحاصرها.
وكان المتولي لأمرها والحاكم فيها بهاء الدين بن نيسان؛ وكان صاحبها ليس له من الأمر شيء مع ابن نيسان، فلما نازلها صلاح الدين أساء ابن نيسان التدبير، ولم يعط الناس من الذخائر شيئاً، ولا فرق فيهم ديناراً ولا قوتاً، وقال لأهل البلد: قاتلوا عن نفوسكم. فقال له بعض أصحابه: ليس العدو بكافر حتى يقاتلوا عن نفوسهم. فلم يفعل شيئاً. وقاتلهم صلاح الدين، ونصب المجانيق، وزحف إليها، وهي الغاية في الحصانة والمنعة، بها وبسورها يضرب المثل، وابن نيسان على حاله من الشح بالمال، وتصرفه تصرف من ولت سعادته وأدبرت دولته؛ فلما رأى الناس ذلك منه تهاونوا بالقتال، وجنحوا إلى السلامة.
وكانت أيام ابن نيسان قد طالت، وثقلت على أهل البلد لسوء صنيعهم وملكتهم وتضييقهم عليهم في مكاسبهم، فالناس كارهون لهان محبون لانقراضها. وأمر صلاح الدين أن يكتب على السهام إلى أهل البلد يعدهم الخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، فزادهم ذلك تقاعداً وتخاذلاً، وأحبوا ملكه وتركوا القتال؛ فوصل النقابون إلى السور، فنقبوه وعلقوه، فلما رأى الجند وأهل البلد ذلك طمعوا في ابن نيسان واشتطوا في المطالب.
فحين صارت الحال كذلك أخرج ابن نيسان نساءه إلى القاضي الفاضل، وزير صلاح الدين، يسأله أن يأخذ له الأمان ولأهله وماله، وأن يؤخره ثلاثة أيام حتى ينقل ما له بالبلد من الأموال والذخائر؛ فسعى له الفاضل في ذلك، فأجابه صلاح الدين إليه، فسلم البلد في العشر الأول من المحرم هذه السنة، وأخرج خيمه إلى ظاهر البلد، ورام نقل ماله، فتعذر ذلك عليه لزوال حكمه عن أصحابه، واطراحهم أمره ونهيه، فأرسل إلى صلاح الدين يعرفه الحال، ويسأله مساعدته على ذلك، فأمده بالدواب والرجال، فنقل البعض وسرق البعض وانقضت الأيام الثلاثة قبل الفراغ فمنع من الباقي.
وكانت أبراج المدينة مملوءة من أنواع الذخائر، فتركها بحالها، ولو أخرج البعض منها لحفظ البلد وسائر نعمه وأمواله، لكن إذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه؛ فلما تسلمها صلاح الدين سلمها نور الدين إلى صاحب الحصن، فقيل له قبل تسليمها: إن هذه المدينة فيها من الذخائر ما يزيد على ألف ألف دينار، فلو أخذت ذلك وأعطيته جندك وأصحابك، وسلمت البلد إليه فارغاً، لكان راضياً، فإنه لا يطمع في غيره. فامتنع من ذلك، وقال: ما كنت لأعطيه الأصل وأبخل بالفرع؛ فلما تسلم نور الدين البلد اصطنع دعوة عظيمة، ودعا إليها صلاح الدين وأمراءه، ولم يكن دخل البلد، وقدم له ولأصحابه من التحف والهدايا أشياء كثيرة.
ذكر ملك صلاح الدين تل خالد
وعين تاب من أعمال الشام
لما فرغ صلاح الدين من أمر آمد سار إلى الشام، وقصد تل خالد، وهي من أعمال حلب، فحصرها ورماها بالمنجنيق، فنزل أهلها وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلمها في المحرم أيضاً.

ثم سار منها إلى عين تاب فحصرها وبها ناصر الدين محمد، وهو أخو الشيخ إسماعيل الذي كان خازن نور الدين محمود بن زنكي وصاحبه، وكان قد سلمها إليه نور الدين، فبقيت معه إلى الآن. فلما نازله صلاح الدين أرسل إليه يطلب أن يقر الحصن بيده وينزل إلى خدمته ويكون تحت حكمه وطاعته، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلف له عليه، فنزل إليه، وسار في خدمته؛ وكان أيضاً في المحرم من هذه السنة.
ذكر وقعتين مع الفرنج في البحر والشامفي هذه السنة، في العاشر من المحرم، سار أسطول المسلمين من مصر في البحر، فلقوا بُطسة فيها نحو ثلثمائة من الفرنج بالسلاح التام، ومعهم الأموال والسلاح إلى فرنج الساحل، فقاتلوهم، وصبير الفريقان، وكان الظفر للمسلمين، وأخذوا الفرنج أسرى، فقتلوا بعضهم وأبقوا بعضهم أسرى، وغنموا ما معهم وعادوا إلى مصر سالمين.
وفيها أيضاً سارت عصابة كبيرة من الفرنج من نواحي الدارم إلى نواحي مصر ليغيروا وينهبوا، فسمع بهم المسلمون، فخرجوا إليهم على طريق صدر وأيلة، فانتزح الفرنج من بين أيديهم فنزلوا بماء يقال له العسيلة، وسبقوا المسلمين إليه، فأتاهم المسلمون وهم عطاش قد أشرفوا على الهلاك، فرأوا الفرنج قد ملكوا الماء، فأنشأ الله سبحانه وتعالى، بلطفه سحابة عظيمة فمرطوا منها حتى رووا، وكان الزمان قيظاً، والحر شديداً في بر مهلك، فلما رأوا ذلك قويت نفوسهم، ووثقوا بنصر الله لهم، وقاتلوا الفرنج، فنصرهم الله عليهم فقتلوهم، ولم يسلم منهم إلا الشريد الفريد، وغنم المسلمون ما معهم من سلاح ودواب، وعادوا منصورين قاهرين بفضل الله.
ذكر ملك صلاح الدين حلبوفي هذه السنة سار صلاح الدين من عين تاب إلى حلب، فنزل عليها في المحرم أيضاً، في الميدان الأخضر، وأقام به عدة أيام، ثم انتقل إلى جبل جوشن فنزل بأعلاه، وأظهر أنه يريد أن يبني مساكن له ولأصحابه وعساكره، وأقام عليها أياماً والقتال بين العسكرين كل يوم.
وكان صاحب حلب عماد الدين زنكي بن مودود بن زنكي، ومعه العسكر النوري، وهم مجدون في القتال، فلما رأى كثرة الخرج، كأنه شح بالمال، فحضر يوماً عنده بعض أجناده، وطلبوا منه شيئاً، فاعتذر بقلة المال عنده، فقال له بعضهم: من يريد أن يحفظ مثل حلب يخرج الأموال، ولو باع حلي نسائه؛ فمال حينئذ إلى تسليم حلب وأخذ العوض منها، وأرسل مع الأمير طمان الياروقي، وكان يميل إلى صلاح الدين وهواه معه، فلهذا أرسله فقرر قاعدة الصلح على أن يسلم عماد الدين حلب إلى صلاح الدين ويأخذ عوضها سنجار، ونصيبين، والخابور، والرقة وسروج، وجرت اليمن على ذلك وباعها بأوكس الأثمان، أعطى حصناً مثل حلب، وأخذ عوضها قرى ومزارع، فنزل عنها عشر صفر، وتسلمها صلاح الدين، فعجب الناس كلهم من ذلك، وقبحوا ما أتى، حتى إن بعض عامة حلب أحضر اجانة وماء وناداه: أنت لا يصلح لك الملك، وإنما يصلح لك أن تغسل الثياب؛ وأسمعوه المكروه.
واستقر ملك صلاح الدين بملكها، وكان مزلزلاً، فثبت قدمه بتسليمها وكان على شفا جرف هار، وإذا أراد الله أمراً فلا مرد له.
وسار عماد الدين إلى البلاد التي أعطيها عوضاً عن حلب فتسلمها، وأخذ صلاح الدين حلب، واستقر الحال بينهما: إن عماد الدين يحضر في خدمة صلاح الدين بنفسه وعسكره، إذا استدعاه لا يحتج بحجة؛ ومن الاتفاقات العجيبة أن محيي الدين بن الزكي، قاضي دمشق، مدح صلاح الدين بقصيدة منها:
وفتحكم حلباً بالسيف في صفر ... مبشر بفتوح القدس في رجب
فوافق فتح القدس في رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، على ما ذكرناه إن شاء الله تعالى.
ومما كتبه القاضي الفاضل في المعنى عن صلاح الدين: فأعطيناه عن حلب كذا وكذا، وهو صرف على الحقيقة أخذنا فيه الدنانير وأعطيناه الدراهم، ونزلنا عن القرى، وأحرزنا العواصم.
وكتب أيضاً: أعطيناه ما لم يخرج عن اليد، يعني أنه متى شاء أخذه لعدم حصانته.

وكان ي جملة من قتل على حلب تاج الملوك بوري، أخو صلاح الدين الأصغر، وكان فارساً شجاعاً، كريماً حليماً، جامعاً لخصال الخير، ومحاسن الأخلاق، طعن في ركبته فانفكت، فمات منعها بعد أن استقر الصلح بين عماد الدين وصلاح الدين على تسليم حلب قبل أن يدخلها صلاح الدين، فلما استقر أمر الصلح حضر صلاح الدين عند أخيه يعوده، وقال له: هذه حلب قد أخذناها، وهي لك؛ فقال: ذلك لو كان وأنا حي. ووالله لقد أخذتها غالية حيث تفقد مثلي. فبكى صلاح الدين وأبكى.
ولما خرج عماد الدين إلى صلاح الدين، وقد عمل له دعوة احتفل فيها، فبينما هم في سرور إذ جاء إنسان فأسر إلى صلاح الدين بموت أخيه، فلم يظهر هلعاً، ولا جزعاً، وأمر بتجهيزه سراً، ولم يعلم عماد الدين ومن معه في الدعوة، واحتمل الحزن وحده لئلا يتنكر ما هم فيه، وكان هذا من الصبر الجميل.
ذكر فتح صلاح الدين حارملما ملك صلاح الدين حلب كان بقلعة حارم، وهي من أعمال حلب، بعض المماليك النورية، واسمه سرحك، وولاه عليها الملك الصالح عماد الدين، فامتنع من تسليمها إلى صلاح الدين، فراسله صلاح الدين في التسليم، وقال له: اطلب من الإقطاع ما أردت؛ ووعده الإحسان، فاشتط في الطلب، وترددت الرسل بينهما، فراسل الفرنج ليحتمي بهم، فسمع من معه من الأجناد أنه يراسل الفرنج، فخافوا أن يسلمها إليهم، فوثبوا عليه وقبضوه وحبسوه، وراسلوا صلاح الدين يطلبون منه الأمان والإنعام، فأجابهم إلى ما طلبوا، وسلموا إليه الحصن فرتب به دزداراً بعض خواصه.
وأما باقي قلاع حلب، فإن صلاح الدين أقر عين تاب بيد صاحبها، كما تقدم، وأقطع تل خالد لأمير يقال له داروم الباروقي، وهو صاحب تل باشر.
وأما قلعة إعزاز، فإن عماد الدين إسماعيل كان قد خربها، فأقطعها صلاح الدين لأمير يقال له دلدرم سلمان بن جندر، فعمرها. وأقام صلاح الدين بحلب إلى أن فرغ من تقرير قواعدها وأحوالها وديوانها، وأقطع أعمالها، وأرسل منها فجمع العساكر من جميع بلاده.
ذكر القبض على مجاهد الدين

وما حصل من الضرر بذلك
في هذه السنة، في جمادى الأولى، قبض عز الدين مسعود، صاحب الموصل، على نائبه مجاهد الدين قايماز، وكان إليه الحكم في جميع البلاد، واتبع في ذلك هوى من أراد المصلحة لنفسه، ولم ينظر في مضرة صاحبه.
وكان الذي أشار بذلك عز الدين محمود زلفندار، وشرف الدين أحمد ابن أبي الخير الذي كان أبوه صاحب الغراف، وهما من أكابر الأمراء، فلما أراد القبض عليه لم يقدم على ذلك لقوة مجاهد الدين، فأظهر أنه مريض، وانقطع عن الركوب عدة أيام، فدخل إليه مجاهد الدين وحده، وكان خصياً لا يمتنع من الخول على النساء، فلما دخل عليه قبض عليه، وركب لوقته إلى القلعة، فاحتوى على الأموال التي لمجاهد الدين وخزائنه، وولى زلفندار قلعة الموصل بعد مجاهد الدين، وجعل ابن صاحب الغراف أمير حاجب وحكمهما في دولته.
وكان تحت حكم مجاهد الدين حينئذ إربل وأعمالها، ومعه فيها زين الدين يوسف بن زين الدين علي، وهو صبي صغير ليس له من الحكم شيء والحكم والعسكر إلى مجاهد الدين، وتحت حكمه أيضاً جزيرة ابن عمر، وهي لمعز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي بن مودود، وهو أيضاً صبي، والحكم والنواب والعسكر لمجاهد الدين، وبيده أيضاً شهرزور وأعمالها، ونوابه فيها، ودقوقا، ونائبه فيها، وقلعة عقر الحميدية، ونائبه فيها، ولم يبق لعز الدين مسعود بعد أن أخذ صلاح الدين البلاد الجزرية سوى الموصل وقلعتها بيد مجاهد الدين، وهو على الحقيقة الملك واسمه لعز الدين، فلما قبض عليه امتنع صاحب إربل من طاعة عز الدين، واستبد، وكذلك أيضاً صاحب جزيرة ابن عمر، وأرسل الخليفة إلى دقوقا فحصرها وأخذها، ولم يحصل لعز الدين مسعود غير شهر زور والعقر، وصارت إربل والجزيرة أضر شيء على صاحب الموصل، وأرسل صاحبها إلى صلاح الدين بالطاعة له، والكون في خدمته.

وكان الخليفة الناصر لدين الله قد أرسل صدر الدين شيخ الشيوخ، ومعه بشير الخادم الخاص، إلى صلاح الدين في الصلح مع عز الدين، صاحب الموصل، وسير عز الدين معه القاضي محيي الدين أبا حامد بن الشهرزوري في المعنى، فأجاب صلاح الدين إلى ذلك وقال: ليس لكم مع الجزيرة وإربل حديث؛ فامتنع محيي الدين عن ذلك وقال: هما لنا؛ فلم يجب صلاح الدين إلى الصلح إلا بأن تكون إربل والجزيرة معه، فلم يتم أمره، وقوي طمع صلاح الدين في الموصل بقبض مجاهد الدين، فلما رأى صاحب الموصل الضرر بقبض مجاهد الدين قبض على شرف الدين أحمد بن صاحب الغراف وزلفندار، عقوبة لهما، ثم أخرج مجاهد الدين، على ما نذكره إن شاء الله.
ذكر غزو بيسانلما فرغ صلاح الدين من أمر حلب جعل فيها ولده الملك الظاهر غازي، وهو صبي، وجعل معه الأمير سيف الدين يازكج، وكان أكبر الأمراء الأسدية، وسار إلى دمشق، وتجهز للغزو، ومعه عساكر الشام والجزيرة، وديار بكر، وسار إلى بلد الفرنج، فعبر نهر الأردن تاسع جمادى الآخرة من السنة، فرأى أهل تلك النواحي فقد فارقوها خوفاً، فقصد بيسان فأحرقها وخربها، وأغار على ما هناك، فاجتمع الفرنج، وجاءوا إلى قبالته، فحين رأوا كثرة عساكره لم يقدموا عليه، فأقام عليهم، وقد استندوا إلى جبل هناك، وخندقوا عليهم، فأحاط بهم، وعساكر الإسلام ترميهم بالسهام، وتناوشهم القتال، فلم يخرجوا وأقاموا كذلك خمسة أيام، وعاد المسلمون عنهم سابع عشر الشهر، لعل الفرنج يطمعون ويخرجون، فيستدرجونهم ليبلغوا منهم غرضاً، فلما رأى الفرنج ذلك لم يطمعوا أنفسهم في غير السلامة.
وأغار المسلمون على تلك الأعمال يميناً وشمالاً، ووصلوا إلى ما لم يكونوا يطمعون في الوصول إليه والإقدام عليه، فلما كثرت الغنائم معهم رأوا العود إلى بلادهم بما غنموا مع الظفر أولى، فعادوا إلى بلادهم على عزم الغزو.
ذكر غزو الكرك وملك العادل حلبلما عاد صلاح الدين والمسلمون من غزوة بيسان تجهزوا غزو الكرك، فسار إليه في العساكر، وكتب إلى أخيه العادل أبي بكر بن أيوب، وهو نائبه بمصر، يأمره بالخروج بجميع العساكر إلى الكرك. وكان العادل قد أرسل إلى صلاح الدين يطلب منه مدينة حلب وقلعتها، فأجابه إلى ذلك، وأمره أن يخرج معه بأهله وماله، فوصل صلاح الدين إلى الكرك في رجب، ووافاه أخوه العادل في العسكر المصري، وكثر جمعه، وتمكن من حصره، وصعد المسلمون إلى ربضه وملكه، وحصر الحصن من الربض، وتحكم عليه في القتال؛ ونصب عليه سبعة مجانيق لا تزال ترمي بالحجارة ليلاً ونهاراً.
وكان صلاح الدين يظن أن الفرنج لا يمكنونه من حصر الكرك، وأنهم يبذلون جهدهم في رده عنهم، فلم يستصحب معه من آلاف الحصار ما يكفي لمثل ذلك الحصن العظيم والمعقل المنيع، فرحل عنه منتصف شعبان، وسير تقي الدين ابن أخيه إلى مصر نائباً عنه ليتولى ما كان أخوه العادل يتولاه، واستصحب أخاه العادل معه إلى دمشق، وأعطاه مدينة حلب وقلعتها وأعمالها، ومدينة منبج وما يتعلق بها، وسيره إليها في شهر رمضان من السنة، وأحضر ولده الظاهر منها إلى دمشق.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فتح الرباط الذي بنته أم الخليفة بالمأمونية.
وفيها، في ذي الحجة، توفي مكرم بن بختيار أبو الخير الزاهد ببغداد. روى الحديث، وكان كثير البكاء.
وفي جمادى الآخرة توفي محمد بن بختيار بن عبد الله أبو عبد الله المولد الشاعر ويعرف بالأبله، فمن جملة شعره:
أرق دمعي لا بل أراق دمي ... ظلماً بظلم من ريقه الشبم
ذو قامة كالقضيب ناضرة ... وناظر من سقامه سقمي
حصلت من وعده على أصدق ال ... وعد ومن وصله على التهم
ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة

ذكر إطلاق مجاهد الدين من الحبس
وانهزام العجم

في هذه السنة، في المحرم، أطلق أتابك عز الدين، صاحب الموصل، مجاهد الدين قايماز من الحبس بشفاعة شمس الدين البهلوان، صاحب همذان، وبلاد الجبل، وسيره إلى البهلوان وأخيه قزل يستنجدهما على صلاح الدين، فسار إلى قزل أولاً، وهو صاحب أذربيجان، فلم يمكنه من المضي إلى البهلوان، وقال: ما تختاره أنا أفعله؛ وجهز معه عسكراً كثيراً نحو ثلاثة آلاف فارس، وساروا نحو إربل ليحصروها، فلما قاربوها أفسدوا في البلاد وخربوها، ونهبوا وسبوا، وأخذوا النساء قهراً، ولم يقدر مجاهد الدين على منعهم، فسار إليهم زين الدين يوسف، صاحب إربل، في عسكره، فلقيهم وهم متفرقون في القرى ينهبون ويحرقون، فانتهز الفرصة فيهم بتفرقهم، وألقى بنفسه وعسكره على أول من لقيه منهم، فهزمهم وتمت الهزيمة على الجميع، وغنم الأربليون أموالهم ودوابهم وسلاحهم، وعاد العجم إلى بلادهم منهزمين، وعاد صاحب إربل إلى بلده مظفراً غانماً، وعاد مجاهد الدين إلى الموصل، فكان يحكي: إنني ما زلت أنتظر العقوبة من الله تعالى على سوء أفعال العجم، فإنني رأيت منهم ما لم أكن أظنه يفعله مسلم بمسلم، وكنت أنهاهم فلا يسمعون، حتى كان من الهزيمة ما كان.
ذكر وفاة يوسف بن عبد المؤمن

وولاية ابنه يعقوب
في هذه السنة سار أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن إلى بلاد الأندلس، وجاز البحر إليها في جمع عظيم من عساكر المغرب، فإنه جمع وحشد الفارس والراجل؛ فلما عبر الخليج قصد غربي البلاد، فحصر مدينة شنترين، وهي للفرنج، شهراً، فأصابه بها مرض فمات منه في ربيع الأول، وحمل في تابوت إلى مدينة إشبيلية من الأندلس.
وكانت مدة ملكه اثنتين وعشرين سنة وشهراً، ومات عن غير وصية بالملك لأحد من أولاده، فاتفق رأي قواد الموحدين وأولاد عبد المؤمن على تمليك ولده أبي يوسف يعقوب بن يوسف ابن عبد المؤمن فملكوه من الوقت الذي مات فيه أبوه لئلا يكونوا بغير ملك يجمع كلمتهم لقربهم من العدو؛ فقام في ذلك أحسن قيام، وأقام راية الجهاد، وأحسن السيرة في الناس. وكان ديناً مقيماً للحدود في الخاص والعام، فاستقامت له الدولة وانقادت إليه بأسرها مع سعة أقطارها، ورتب ثغور الأندلس وشحنها بالرجال، ورتب المقاتلة في سائر بلادها، وأصلح أحوالها وعاد إلى مراكش.
وكان أبوه يوسف حسن السيرة، وكان طرقه ألين من طريق أبيه مع الناس، يحب العلماء ويقربهم ويشاورهم، وهم أهل خدمته وخاصته. وأحبه الناس ومالوا إليه، وأطاعه من البلاد ما امتنع على أبيه، وسلك في جباية الأموال ما كان أبوه يأخذه، ولم يتعده إلى غيره، واستقامت له البلاد بحسن فعله مع أهلها، ولم يزل كذلك إلى أن توفي، رحمه الله تعالى.
ذكر غزو صلاح الدين الكركفي هذه السنة، في ربيع الآخر، سار صلاح الدين من دمشق يريد الغزو، وجمع عساكره، فأتته من كل ناحية، ومن أتاه نور الدين محمد بن قرا أرسلان، صاحب الحصن. وكتب إلى مصر ليحضر عسكرها عنده على الكرك، فنازل الكرك وحصره، وضيق على من به، وأمر بنصب المجانيق على ربضه، واشتد القتال، فملك المسلمون الربض، وبقي الحصن، وهو الربض على سطح جبل واحد، إلا أن بينهما خندقاً عظيماً عمقه نحو ستين ذراعاً، فأمر صلاح الدين بإلقاء الأحجار والتراب فيه ليطمه، فلم يقدر أحد على الدنو منه لكثرة الرمي عليهم بالسهام من الجرخ والقوس والأحجار من المجانيق، فأمر أن يبني بالأخشاب واللبن ما يمكن الرجال يمشون تحته إلى الخندق ولا يصل إليهم شيء من السهام والأحجار، ففعل ذلك، فصاروا يمشون تحت السقائف ويلقون في الخندق ما يطمه، ومجانيق المسلمين مع ذلك ترمي الحصن ليلاً نهاراً.

وأرسل من فيه من الفرنج إلى ملكهم وفرسانهم يستمدونهم ويعرفونهم عجزهم وضعفهم عن حفظ الحصن، فاجتمعت الفرنج عن آخرها، وساروا إلى نجدتهم عجلين، فلما بلغ الخبر بمسيرهم إلى صلاح الدين رحل عن الكرك إلى طرقهم ليلقاهم ويصاففهم، ويعود بعد أن يهزمهم إلى الكرك، فقرب منهم وخيم ونزل، ولم يمكنه الدنو منهم لخشونة الأرض وصعوبة المسلك إليهم وضيقه، فأقام أياماً ينتظر خروجهم من ذلك المكان ليتمكن منهم، فلم يبرحوا منه خوفاً على نفوسهم، فلما رأى ذلك رحل عنهم عدة فراسخ، وجعل بإزائهم من يعلمه بمسيرهم، فساروا ليلاً إلى الكرك، فلما علم صلاح الدين ذلك علم أنه لا يتمكن حينئذ ولا يبلغ غرضه، فسار إلى مدينة نابلس، ونهب كل ما على طريقه من البلاد؛ فلما وصل إلى نابلس أحرقها وخربها ونهبها، وقتل فيها وأسر من المسلمين، فاستنقذهم، ورحل إلى جينين فنهبها وخربها، وعاد إلى دمشق ونهب ما على طريه وخربه، وبث السرايا في طريقه يميناً وشمالاً يغنون ويخربون، ووصل إلى دمشق.
ذكر ملك الملثمين بجاية

وعودها إلى أولاد عبد المؤمن
في هذه السنة في شعبان، خرج علي بن إسحاق المعروف بابن غانية وهو من أعيان الملثمين الذين كانوا ملوك المغرب، وهو حينئذ صاحب جزيرة ميورقة، إلى بجاية فملكها، وسبب ذلك أنه لما سمع بوفاة يوسف بن عبد المؤمن عمر أسطوله فكان عشرين قطعة وسار في جموعه فأرسى في ساحل بجاية، وخرجت خيله ورجاله من الشواني فكانوا نحو مائتي فارس من الملثمين وأربعة آلاف راجل، فدخل مدينة بجاية بغير قتال لأنه اتفق أن واليها سار عنها قبل ذلك بأيام إلى مراكش ولم يترك فيها جيشاً ولا ممانعاً لعدم عدو يحفظها منه، فجاء الملثم ولم يكن في حسابهم أنه يحدث نفسه بذلك، فأرسى بها ووافقه جماعة من بقايا الدولة بين حماد وصاروا معه فكثر جمعه بهم وقويت نفسه، فسمع خبره والي بجاية فعاد من طريقه ومعه من الموحدين ثلثمائة فارس، فجمع من العرب والقبائل الذين في تلك الجهات نحو ألف فارس، فسمع بهم الملثم وبقربهم منه، فخرج إليهم وقد صار معه قدر ألف فارس، وتواقفوا ساعة فانضاف جميع الجموع التي كانت مع والي بجاية إلى الملثم، فانهزم حينئذ والي بجاية ومن معه من الموحدين وساروا إلى مراكش، وعاد الملثم إلى بجاية فجمع جيشه وخرج إلى أعمال بجاية فأطاعه جميعهم إلا قسنطينة الهوى فحصرها إلى أن جاء جيش من الموحدين من مراكش في صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة في البر والبحر وكان بها يحيى وعبد الله أخو علي بن إسحق الملثم، فخرجا منها هاربين ولحقا بأخيهما فرحل عن قسنطينة وسار إلى إفريقية. وكان سبب إرسال الجيش من مراكش أن والي بجاية وصل إلى يعقوب بن يوسف صاحب المغرب وعرفه ما جرى ببجاية واستيلاء الملثمين عليها وخوفه عاقبة التواني فجهز العساكر في البر عشرين ألف فارس وجهز الأسطول في البحر في خلق كثير واستعادوها.
ذكر وفاة صاحب ماردين وملك ولدهفي هذه السنة مات قطب الدين إيلغازي بن نجم الدين بن ألبي بن تمرتاش ابن إيلغازي بن أرتق صاحب ماردين، وملك بعده ابنه حاسم الدين بولق أرسلان وهو طفل وقام بتربيه وتدبير مملكته نظام الدين البقش مملوك أبيه، وكان شاه أرمن صاحب خلاط خال قطب الدين فحكم في دولته، وهو رتب البقش مع ولده، وكان البقش ديناً خيراً عادلاً حسن السيرة حليماً، فأحسن تربيته وتزود أمه، فلما كبر الولد لم يمكنه النظام من مملكته لخبط وهوج فيه، وكان لنظام الدين هذا مملوك اسمه لؤلؤ قد تحكم في دولته وحكم فيها فكان يحمل النظام على ما يفعله مع الولد، ولم يزل الأمر كذلك إلى أن مات الولد وله أخ أصغر منه لقبه قطب الدين فرتبه النظام في الملك وليس له منه إلا الاسم والحكم إلى النظام ولؤلؤ، فبقي كذلك إلى سنة إحدى وستمائة، فمرض النظام البقش فأتاه قطب الدين يعوده، فلما خرج من عنده معه لؤلؤ وضربه قطب الدين بسكين معه فقتله ثم دخل إلى النظام وبيده السكين فقتله أيضاً وخرج وحده ومعه غلام له وألقى الرأسين إلى الأجناد وكانوا كلهم قد أنشأهم النظام ولؤلؤ فأذعنوا له بالطاعة، فلما تمكن أخرج من أراد وترك من أراد واستولى على قلعة ماردين وأعمالها وقلعة البارعية وصور وهو إلى الآن حاكم فقيهاً حازم في أفعاله.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة توفي صدر الدين شيخ الشيوخ عبد الرحمن بن شيخ الشيوخ إسماعيل بن شيخ الشيوخ أبي سعيد أحمد في شعبان، وكان قد سار في ديوان الخلافة رسولاً إلى صلاح الدين ومعه شهاب الدين بشير الخادم في معنى الصلح بينه وبين عز الدين صاحب الموصل، فوصلا إلى دمشق وصلاح الدين بحصر الكرك، فأقاما إلى أن عاد فلم يستقر في الصلح أمر ومرضا وطلبا العودة إلى العراق، فأشار عليهما صلاح الدين بالمقام إلى أن يصطلحا، فلم يفعل وسارا في الحر فمات بشير بالحسنة.
ومات صدر الدين بالرحبة، ودفن بمشهد البوق، وكان واحد زمانه، قد جمع بين رياسة الدين والدنيا، وكان ملجأ لكل خائف، صالحاً، كريماً، حليماً، وله مناقب كثيرة، ولم يستعمل في مرضه هذا دواء توكلاً على الله تعالى.
وفيها توفي عبد اللطيف بن محمد بن عبد اللطيف الخجندي الفقيه الشافعي، رئيس أصفهان، وكان موته بباب همذان وقد عاد الحج، وله شعر فمنه:
بالحمى دار سقاها مدمعي ... يا سقى الله الحمى من مربع
ليت شعري والأماني ضلة ... هل إلى وادي الغض من مرجع
أذنت علوة للواشي بنا ... ما على علوة لو لم تسمع
أو تحرت رشداً فيما وشى ... أو عفت عني فما قلبي معي
رحمه الله، ورضي عنه وأرضاه.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

ذكر حصر صلاح الدين الموصل
ورحيله عنها لوفاة شاه أرمن
في هذه السنة حصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الموصل مرة ثانية، وكان مسيره من دمشق في ذي القعدة من السنة الماضية، فوصل إلى حلب، وأقام بها إلى أن خرجت السنة، وسار منها فعبر إلى أرض الجزيرة. فلما وصل حران قبض على مظفر الدين كوكبري بن زين الدين الذي كان سبب ملكه الديار الجزرية.
وسبب قبضه عليه أن مظفر الدين كان يراسل صلاح الدين كل وقت، ويشير عليه بقصد الموصل، ويحسن له ذلك ويقوي طمعه، حتى إنه بذل له، إذا سار إليها، خمسين ألف دينار، فلما وصل صلاح الدين إلى حران لم يف له بما بذل من المال، وأنكر ذلك، فقبض عليه، ووكل به، ثم أطلقه، وأعاد إليه مدينتي حران والرها، وكان قد أخذهما منه، وإنما أطلقه لأنه خاف انحراف الناس عنه بالبلاد الجزرية، لأنهم كلهم علموا بما اعتمده مظفر الدين معه من تمليكه البلاد فأطلقه.
وسار صلاح الدين عن حران في ربيع الأول، فحضر عنده عساكر الحصن ودارا ومعز الدين سنجر شاه، صاحب الجزيرة، وهو ابن عز الدين صاحب الموصل، وكان قد فارق طاعة عمه بعد قبض مجاهد الدين، وسار مع صلاح الدين إلى الموصل، فلما وصلوا إلى مدينة بلد سير أتابك عز الدين والدته إلى صلاح الدين ومعها ابنة عمه نور الدين محمود بن زنكي وغيرهما من النساء، وجماعة من أعيان الدولة، يطلبون منه المصالحة، وبذلوا الموافقة، والإنجاد بالعساكر ليعود عنهم، وإنما أرسلهن لأنه وكل من عنده ظنوا أنهن إذا طلبن منه الشام أجابهن إلى ذلك، لا سيما ومعهن ابنة مخدومه وولي نعمته نور الدين، فلما وصلن إليه أنزلهن، وأحضر أصحابه واستشارهم فيما يفعله ويقوله، فأشار أكثرهم بإجابتهن إلى ما طلبن منه؛ وقال له الفقيه عيسى وعلي نب أحمد المشطوب، وهما من بلد الهكارية من أعمال الموصل: مثل الموصل لا يترك لامرأة، فإن عز الدين ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد.
ووافق ذلك هواه، فأعادهن خائبات، واعتذر بأعذار غير مقبولة، ولم يكن إرسالهن عن ضعف ووهن، إنما أرسلهن طلباً لدفع الشر بالتي هي أحسن. فلما عدن رحل صلاح الدين إلى الموصل وهو كالمتيقن أنه يملك البلد، وكان الأمر بخلاف ذلك، فلما قارب البلد نزل على فرسخ منه، وامتد عسكره في تلك الصحراء بنواحي الحلة المراقية، وكان يجري بين العسكرين مناوشات بظاهر الباب العمادي، وكنت إذا ذاك بالموصل، وبذل العامة نفوسهم غيظاً وحنقاً لرده النساء؛ فرأى صلاح الدين ما لم يكن يحسبه، فندم على رجه النساء ندامة الكسعي، حيث فاته حسن الذكر وملك البلد، وعاد على الذين أشاروا بردهن باللوم والتوبيخ.

وجاءته كتب القاضي الفاضل وغيره ممن ليس له هوى في الموصل يقبحون فعله وينكرونه، وأتاه وهو على الموصل زين الدين يوسف بن زين الدين صاحب إربل، فأنزله ومعه أخوه مظفر الدين كوكبري وغيرهما من الأمراء بالجانب الشرقي من الموصل، وسير من المنزلة علي بن أحمد المشطوب الهكاري إلى قلعة الجديدة من بلد الهكارية، فحصرها واجتمع عليه من الأكراد والهكارية كثير، وبقي هناك إلى أن رحل صلاح الدين عن الموصل.
وكان عامة الموصل يعبرون دجلة فيقاتلون من الجانب الشرقي من العسكر ويعودون؛ ولما كان صلاح الدين يحاصر الموصل بلغ أتابك عز الدين صاحبها أن نائبه بالقلعة زلفندار يكاتبه، ويصدر عن رأيه، وضبط الأمور، وأصلح ما كان فسد من الأحوال، حتى آل الأمر إلى الصلح، على ما نذكره إن شاء الله.
وحضر عند صلاح الدين إنسان بغدادي أقام بالموصل، ثم خرج إلى صلاح الدين، فأشار عليه بقطع دجلة عن الموصل إلى ناحية نينوى، وقال: إن دجلة إذا نقلت عن الموصل عطش أهلها فملكناها بغير قتال. فظن صلاح الدين أن قوله صدق، فعزم على ذلك، حتى علم أنه لا يمكن قطعه بالكلية، فإن المدة تطول، والتعب يكثر، ولا فائدة وراءه، وقبحه عنده أصحابه، فأعرض عنه.
وأقام بمكانه من أول ربيع الآخر إلى أن قارب آخره، ثم رحل عنها إلى ميافارقين. وكان سبب ذلك أن شاه أرمن، صاحب خلاط، توفي بها تاسع ربيع الآخر، فوصل الخبر بوفاته في العشرين منه، فعزم على الرحيل إليها وتملكها، حيث إن شاه أرمن لم يخلف ولداً ولا أحداً من أهل بيته يملك بلاده بعده، وإنما قد استولى عليها مملوك له اسمه بكتمر ولقبه سيف الدين، فاستشار صلاح الدين أمراءه ووزراءه، فاختلفوا، فأما من هواه بالموصل فيشير بالمقام وملازمة الحصار لها؛ وأما من يكره أذى البيت الأتابكي فإنه أشار بالرحيل، وقال: إن ولاية خلاط أكبر وأعظم، وهي سائبة لا حافظ لها، و هذه لها سلطان يحفظها ويذب عنها، وإذا ملكنا تلك سهل أمر هذه وغيرها؛ فتردد في أمره، فاتفق أنه جاءه كتب جماعة من أعيان خلاط، من أهلها وأمرائها، يستدعونه ليسلموا إليه البلد، فسار عن الموصل، وكانت مكاتبة من كاتبه خديعة ومكراً، فإن شمس الدين البهلوان بن إيلدكز، صاحب أذربيجان وهمذان وتلك المملكة، قد قصدهم ليأخذ البلاد منهم، وكان قبل ذلك قد زوج شاه أرمن، على كبر سنه، بنتاً له ليجعل ذلك طريقاً إلى ملك خلاط وأعمالها، فلما بلغهم مسيره إليهم كاتبوا صلاح الدين يستدعونه إليهم ليسلموا البلد إليه ليدفعوا به البهلوان يدفعوه بالبهلوان، ويبقى البلد بأيديهم؛ فسار صلاح الدين وسير في مقدمته ابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ومظفر الدين بن زين الدين وغيرهم، فساروا إلى خلاط، ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط، وسار صلاح الدين إلى ميافارقين،؛ وأما البهلوان فإنه سار إلى خلاط، ونزل قريباً منها، وترددت رسل أهل خلاط بينهم وبينه وبين صلاح الدين، ثم إنهم أصلحوا أمرهم مع البهلوان، وصاروا من حزبه وخطبوا له.
ذكر وفاة نور الدين صاحب الحصنفي هذه السنة توفي نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحب الحصن وآمد، لما كان صلاح الدين على الموصل، وخلف ابنين، فملك الأكبر منهما واسمه سقمان، ولقبه قطب الدين، وتولى تدبير الأمور وزيره القوام بن سماقا الأسعردي.
وكان عماد الدين بن قرا أرسلان قد سيره أخوه نور الدين في عساكره إلى صلاح الدين، وهو يحاصر الموصل، وهو معه، فلما بلغه خبر وفاة أخيه سار ليملك البلاد بعد لصغر أولاده، فتعذر عليه ذلك، فسار إلى خرت برت فملكها، وهي بيد أولاده إلى سنة عشرين وستمائة، ولما حصر صلاح الدين ميافارقين حضر عنده ولد نور الدين فأقره على ملك أبيه، ومن جملته آمد، وكانوا خافوا أن يأخذها منهم، فلم يفعل، وردهم إلى بلادهم، وشرط عليهم أن يراجعوه فيما يفعلونه، ويصدروا عن أمره ونهيه، ورتب معه أميراً لقبه صلاح الدين من أصحابه أبيه.
ذكر ملك صلاح الدين ميافارقين

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34