كتاب : الكامل في التاريخ
المؤلف : ابن الأثير

وفيها، في ذي الحجة، توفي محمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن الوليد أبو علي المتكلم، كان أحد رؤساء المعتزلة وأئمتهم، ولزم بيته خمسين سنة لم يقدر على أن يخرج منه من عامة بغداد، وأخذ الكلام عن أبي الحسين البصري وعبد الجبار الهمذاني القاضي، ومن جملة تلاميذه ابن برهان، وهو أكبر منه.
وفي هذه السنة توفي القاضي أبو الحسن هبة الله بن محمد بن السيبي، قاضي الحريم، بنهر معلى، ومولده سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وكان يذاكر الإمام المقتدي بأمر الله، وولي ابنه أبو الفرج عبد الوهاب بين يدي قاضي القضاة ابن الدامغاني.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو العز بن صدقة، وزير شرف الدولة، ببغداد، وكان قد قبض عليه شرف الدولة وسجنه بالرحبة، فهرب منها إلى بغداد، فمات بعد وصوله إلى مأمنه بأربعة أشهرر، وكان كريماً متواضعاً لم تغيره الولاية عن إخوانه.
وفيها، في رجب، توفي قاضي القضاة أبو عبد الله بن الدامغاني، ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ودخل بغداد سنة تسع عشرة وأربعمائة، وكان قد صحب القاضي أبا العلاء بن صاعد، وحضر ببغداد مجلس أبي الحسين القدوري، وولي قضاء القضاة بعده القاضي أبو بكر بن المظفر بن بكران الشامي، وهو من أكبر أصحاب القاضي أبي الطيب الطبري.
وفيها توفي عبد الرحمن بن مأمون بن علي أبو سعد المتولي مدرس النظامية، وهو من أصحاب القاضي حسين المروروذي وتمم كتاب الإبانة.
ثم دخلت سنة تسع وسبعين وأربعمائة

ذكر قتل سليمان بن قتلمش
لما قتل سليمان بن قتلمش شرف الدولة مسلم بن قريش على ما ذكرناه، أرسل إلى ابن الحتيتي العباسي، مقدم أهل حلب، يطلب منه تسليمها إليه، فأنفذ إليه، واستمهله إلى أن يكابت السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الحتيتي إلى تتش، صاحب دمشق، يعده أن يسلم إليه حلب، فسار تتش طالباً لحلب، فعلم سليمان بذلك، فسار نحوه مجداً، فوصل إلى تتش وقت السحر على غير تعبئة، فلم يعلم به حتى قرب منه، فعبأ أصحابه.
وكان الأمير أرتق بن أكسب مع تتش، وكان منصوراً لم يشهد حرباً إلا وكان الظفر له، وقد ذكرنا فيما تقدم حضوره مع ابن جهير على آمد، وإطلاقه شرف الدولة من آمد، فلما فعل ذلك خاف أن ينهي ابن جهير ذلك إلى السلطان، ففارق خدمته، ولحق بتاج الدولة تتش، فأقطعه البيت المقدس، وحضر معه هذه الحرب، فأبلى فيها بلاء حسناً، وحرض العرب على القتال، فانهزم أصحاب سليمان، وثبت وهو في القلب، فلما رأى انهزام عساكره أخرج سكيناً معه فقتل نفسه، وقيل بل قتل في المعركة، واستولى تتش على عسكره.
وكان سليمان بن قتلمش، في السنة الماضية، في صفر، قد أنفذ جثة شرف الدولة إلى حلب على بغل ملفوفة في إزار، وطلب من أهلها أن يسلموها إليه. وفي هذه السنة في صفر أرسل تتش جثة سليمان في إزار ليسلموها إليه، فأجابه ابن الحتيتي أنه يكاتب السلطان، ومهما أمره فعل، فحصر تتش البلد، وأقام عليه، وضيق على أهله.
وكان ابن الحتيتي قد سلم كل برج من أبراجها إلى رجل من أعيان البلد ليحفظه، وسلم برجاً فيها إلى إنسان يعرف بابن الرعوي. ثم إن ابن الحتيتي أوحشه بكلام أغلظ له فيه، وكان هذا الرجل شديد القوة، ورأى ما الناس فيه من الشدة، فدعاه ذلك إلى أن أرسل إلى تتش يستدعيه،وواعده ليلة يرفع الرجال إلى السورفي الحبال، فأتى تتش للميعاد الذي ذكره، فأصعد الرجال في الحبال والسلاليم، وملك تتش المدينة، واستجار ابن الحتيتي بالأمير أرتق فشفع فيه، وأما القلعة فكان بها سالم بن مالك بن بدران، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم بن قريش، فأقام تتش يحصر القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه الخبر بوصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه، فرحل عنها.
ذكر ملك السلطان حلب وغيرها

كان ابن الحتيتي قد كاتب السلطان ملكشاه يستدعيه ليسلم إليه حلب، لما خاف تاج الدولة تتش، فسار إليه من أصبهان في جمادى الآخرة، وجعل على مقدمته الأمير برسق، وبوزان، وغيرهما من الأمراء، وجعل طريقه على الموصل، فوصلها في رجب، وسار منها، فلما وصل إلى حران سلمها إليه ابن الشاطر، فأقطعها السلطان لمحمد بن شرف الدولة، وسار إلى الرها، وهي بيد الروم، فحصرها وملكها، وكانوا قد اشتروها من ابن عطير، وتقدم ذكر ذلك، وسار إلى قلعة جعبر، فحصرها يوماً وليلة وملكها، وقتل من بها من بني قشير، وأخذ جعبر من صاحبها، وهو شيخ أعمى، وولدين له، وكانت الأذية بهم عظيمة يقطعون الطرق ويلجأون إليها.
ثم عبر الفرات إلى مدينة حلب، فملك في طريقه مدينة منبج، فلما قارب حلب رحل عنها أخوه تتش، وكان قد ملك المدينة، كما ذكرناه، وسار عنها يسلك البرية، ومعه الأمير أرتق، فأشار بكبس عسكر السلطان، وقال: إنهم قد وصلوا، وبهم وبدوابهم من التعب ما ليس عندهم معه امتناع، ولو فعل لظفر بهم.
فقال تتش: لا أكسر جاه أخي الذي أنا مستظل بظله، فإنه يعود بالوهن علي أولاً.
وسار إلى دمشق، ولما وصل السلطان إلى حلب تسلم المدينة، وسلم إليه سالم بن مالك القلعة على أن يعوضه عنها قلعة جعبر، وكان سالم قد امتنع بها أولاً، فأمر السلطان أن يرمى إليه رشقاً واحداً بالسهام، فرمى الجيش، فكادت الشمس تحتجب لكثرة السهام، فصانع عنها بقلعة جعبر وسلمها، وسلم السلطان إليه قلعة جعبر، فبقيت بيده وبيد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأرسل إليه الأمير نصر بن علي بن منقذ الكناني، صاحب شيزر، فدخل في طاعته، وسلم إليه اللاذقية، وكفر طاب، وأفامية، فأجابه إلى المسالمة، وترك قصده، وأقر عليه شيزر.
ولما ملك السلطان حلب سلمها إلى قسيم الدولة آقسنقر، فعمرها، وأحسن السيرة فيها.
وأما ابن الحتيتي فإنه كان واثقاً بإحسان السلطان ونظام الملك إليه، لأنه استدعاهما، فلما ملك السلطان البلد طلب أهله أن يعفيهم من ابن الحتيتي، فأجابهم إلى ذلك، واستصحبه معه، وأرسله إلى ديار بكر، فافتقر، وتوفي بها على حال شديدة من الفقر، وقتل ولده بأنطاكية، قتله الفرنج لما ملكوها.
ذكر وفاة بهاء الدولة منصور بن مزيد

وولاية ابنه صدقة
في هذه السنة، في ربيع الأول، توفي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، صاحب الحلة، والنيل، وغيرهما مما يجاورها، ولما سمع نظام الملك خبر وفاته قال: مات أجل صاحب عمامة، وكان فاضلاً قرأ على علي بن برهان، فبرع بذكائه في الذي استفاد منه، وله شعر حسن، فمنه:
فإن أنا لم أحمل عظيماً ولم أقد ... لهاماً، ولم أصبر على فعل معظم
ولم أجر الجاني، وأمنع حوزه، ... غداة أنادي للفخار وأنتمي
وله في صاحب له يكنى أبا مالك يرثيه:
فإن كان أودى خدننا، ونديمنا، ... أبو مالك، فالنائبات تنوب
فكل ابن أنثى لا محالة ميت، ... وفي كل حي للمنون نصيب
ولو رد حزن، أو بكاء لهالك، ... بكيناه ما هبت صباً وجنوب
ولما توفي أرسل الخليفة إلى ولده سيف الدولة صدقة نقيب العلويين أبا الغنائم يعزيه، وسار سيف الدولة إلى السلطان ملكشاه، فخلع عليه، وولاه ما كان لأبيه، وأكثر الشعراء مراثي بهاء الدولة.
ذكر وقعة الزلاقة بالأندلس
وهزيمة الفرنج
قد تقدم ملك الفرنج طليطلة، وما فعله المعتمد بن عباد برسول الأذفونش، ملك الفرنج، وعود المعتمد إلى إشبيلية. فلما عاد إليها، وسمع مشايخ قرطبة بما جرى، ورأوا قوة الفرنج، وضعف المسلمين، واستعانة بعض ملوكهم بالفرنج على بعض، اجتمعوا وقالوا: هذه بلاد الأندلس قد غلب عليها الفرنج، ولم يبق منها إلا القليل، وإن استمرت الأحوال على ما نرى عادت نصرانية كما كانت.

وساروا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، فقالوا له: ألا تنظر إلى ما فيه المسلمون من الصغار والذلة، وعطائهم الجزية بعد أن كانوا يأخذونها، وقد رأينا رأياً نعرضه عليك. قال: ما هو؟ قالوا: نكتب إلى عرب إفريقية ونبذل لهم، فإذا وصلوا إلينا قاسمناهم أموالنا، وخرجنا معهم مجاهدين في سبيل الله. قال: نخاف، إذا وصلوا إلينا يخربون بلادنا، كما فعلوا بإفريقية، ويتركون الفرنج ويبدأون بكم، والمرابطون أصلح منهم وأقرب إلينا.
قالوا له: فكاتب أمير المسلمين، وارغب إليه ليعبر إلينا، ويرسل بعض قواده.
وقدم عليهم المعتمد بن عباد، وهم في ذلك، فعرض عليه القاضي ابن أدهم ما كانوا فيه، فقال له ابن عباد: أنت رسولي إليه في ذلك، فامتنع، وإنما أراد أن يبريء نفسه من تهمة، فألح عليه المعتمد، فسار إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فأبلغه الرسالة، وأعلمه ما فيه المسلمون من الخوف من الأذفونش.
وكان أمير المسلمين بمدينة سبتة، ففي الحال أمر بعبور العساكر إلى الأندلس، وأرسل إلى مراكش في طلب من بقي من عساكره، فأقبلت إليه تتلو بعضها بعضاً، فلما تكاملت عنده عبر البحر وسار، فاجتمع بالمعتمد بن عباد بإشبيلية، وكان قد جمع عساكره أيضاً، وخرج من أهل قرطبة عسكر كثير. وقصده المتطوعة من سائر بلاد الأندلس.
ووصلت الأخبار إلى الأذفونش، فجمع فرسانه وسار من طليطلة، وكتب إلى أمير المسلمين كتاباً كتبه به بعض أدباء المسلمين، يغلظ له القول، ويصف ما عنده من القوة والعدد والعُدد، وبالغ الكاتب في الكتاب. فأمر أمير المسلمين أبا بكر بن القصيرة أن يجيبه، وكان كاتباً مفلقاً، فكتب فأجاد، فلما قرأه على أمير المسلمين قال: هذا كتاب طويل، أحضر كتاب الأذفونش واكتب في ظهره الذي يكون ستراً له.
فلما عاد الكتاب إلى الأذفونش ارتاع لذلك، وعلم أنه بلي برجل له عزم وحزم، فازداد استعداداً، فرأى في منامه كأنه راكب فيل، وبين يديه طبل صغير، وهو ينقر فيه، فقص رؤياه على القسيسين، فلم يعرفوا تأويلها، فأحضر رجلاً مسلماً، عالماً بتعبير الرؤيا، فقصها عليه، فاستعفاه من تعبيرها، فلم يعفه، فقال: تأويل هذه الرؤيا من كتاب الله العزيز، وهو قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " السورة، وقوله تعالى: " فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير " ، ويقتضي هلاك هذا الجيش الذي تجمعه.
فما اجتمع جيشه رأى كثرته فأعجبته، فأحضر ذلك المعبر، وقال له: بهذا الجيش ألقى إله محمد، صاحب كتابكم. فانصرف المعبر، وقال لبعض المسلمين: هذا الملك هالك وكل من معه، وذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثلاث مهلكات " الحديث، وفيه: " وإعجاب المرء بنفسه " .
وسار أمير المسلمين، والمعتمد بن عباد، حتى أتوا أرضاً يقال لها الزلاقة، من بلد بطليوس، وأتى الأذفونش فنزل موضعاً بينه وبينهم ثمانية عشر ميلاً، فقيل لأمير المسلمين: إن ابن عباد ربما لم ينصح، ولا يبذل نفسه دونك. فأرسل إليه أمير المسلمين يأمره أن يكون في المقدمة، ففعل ذلك، وسار، وقد ضرب الأذفونش خيامه في لحف جبل، والمعتمد في سفح جبل آخر، يتراءون، وينزل أمير المسلمين وراء الجبل الذي عنده المعتمد، وظن الأذفونش أن عساكر المسلمين ليس إلا الذي يراه.
وكان الفرنج في خمسين ألفاً، فتيقنوا الغلب، وأرسل الأذفونش إلى المعتمد في ميقات القتال، وقصده الملك، فقال: غداً الجمعة، وبعده الأحد، فيكون اللقاء يوم الاثنين، فقد وصلنا على حال تعب، واستقر الأمر على هذا، وركب ليلة الجمعة سحراً، وصبح بجيشه جيش المعتمد بكرة الجمعة، غدراً، وظناً منه أن ذلك المخيم هو جميع عسكر المسلمين، فوقع القتال بينهم فصبر المسلمون، فأشرفوا على الهزيمة.
وكان المعتمد قد أرسل إلى أمير المسلمين يعلمه بمجيء الفرنج للحرب، فقال: احملوني إلى خيام الفرنج، فسار إليها، فبينما هم في القتال وصل أمير المسلمين إلى خيام الفرنج، فنهبها، وقتل من فيها، فلما رأى الفرنج ذلك لم يتمالكوا أن انهزموا، وأخذهم السيف، وتبعهم المعتمد من خلفهم، ولقيهم أمير المسلمين من بين أيديهم، ووضع فيهم السيف، فلم يفلت منهم أحد، ونجا الأذفونش في نفر يسير، وجعل المسلمون من رؤوس القتلى كوماً كثيرةً، فكانوا يؤذنون عليها إلى أن جيفت فأحرقوها.

وكانت الوقعة يوم الجمعة في العشر الأول من شهر رمضان سنة تسع وسبعين، وأصاب المعتمد جراحات في وجهه، وظهرت ذلك اليوم شجاعته. ولم يرجع من الفرنج إلى بلادهم غير ثلاثمائة فارس، وغنم المسلمون كل ما لهم من مال وسلاح ودواب وغير ذلك.
وعاد ابن عباد إلى إشبيلية، ورجع أمير المسلمين إلى الجزيرة الخضراء، وعبر إلى سبتة، وسار إلى مراكش، فأقام بها إلى العام المقبل، وعاد إلى الأندلس، وحضر معه المعتمد بن عباد في عسكره، وعبد الله بن بلكين الصنهاجي، صاحب غرناطة، في عسكره، وساروا حتى نزلوا على ليط، وهو حصن منيع بيد الفرنج، فحصروه حصراً شديداً فلم يقدروا على فتحه، فرحلوا عنه بعد مدة، ولم يخرج إليهم أحد من الفرنج لما أصابهم في العام الماضي، فعاد ابن عباد إلى إشبيلية، وعاد أمير المسلمين إلى غرناظة، وهي طريقه، ومعه عبد الله بن بلكين، فغدر به أمير المسلمين، وأخذ غرناطة منه وأخرجه منها، فرأى في قصوره من الأموال والذخائر ما لم يحوه ملك قبله بالأندلس، ومن جملة ما وجده سبحة فيها أربعمائة جوهرة، قومت كل جوهر بمائة دينار، ومن الجواهر ما له قيمة جليلة، إلى غير ذلك من الثياب والعدد وغيرها، وأخذ معه عبد الله، وأخاه تميماً ابني بلكين إلى مراكش، فكانت غرناطة أول ما ملكه من بلاد الأندلس.
وقد ذكرنا فيما تقدم سبب دخول صنهاجة إلى الأندلس، وعود من عاد منهم إلى المعز بإفريقية، وكان آخر من بقي منهم بالأندلس عبد الله هذا، وأخذت مدينته، ورحل إلى العدوة.
ولما رجع أمير المسلمين إلى مراكش أطاعه من كان لم يطعه من بلاد السوس، وورغة، وقلعة مهدي، وقال له علماء الأندلس إنه ليس طاعته بواجبة حتى يخطب للخليفة، ويأتيه تقليد منه بالبلاد، فأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله ببغداد، فأتاه الخلع، والأعلام، والتقليد، ولقب بأمير المسلمين، وناصر الدين.
ذكر دخول السلطان إلى بغدادفي هذه السنة دخل السلطان ملكشاه بغداد في ذي الحجة، بعد أن فتح حلب وغيرها من بلاد الشام، والجزيرة، وهي أول قدمة قدمها، ونزل بدار المملكة، وركب من الغد إلى الحلبة، ولعب بالجوكان والكرة، وأرسل إلى الخليفة هدايا كثيرة، فقبلها الخليفة، ومن الغد أرسل نظام الملك إلى الخليفة خدمة كثيرة، فقبلها، وزار السلطان ونظام الملك مشهد موسى بن جعفر، وقبر معروف، وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة، وغيرها من القبور المعروفة، فقال ابن زكرويه الواسطي يهنيء نظام الملك بقصيدة منها:
زرت المشاهد زورة مشهودة، ... أرضت مضاجع من بها مدفون
فكأنك الغيث استهل بتربها، ... وكأنها بك روضة ومعين
فازت قداحك بالثواب وأنجحت ... ولك الإله على النجاح ضمين
وهي مشهورة.
وطلب نظام الملك إلى دار الخلافة ليلاً، فمضى في الزبزب، وعاد من ليلته، ومضى السلطان ونظام الملك إلى الصيد في البرية، فزارا المشهدين: مشهد أمير المؤمنين علي، ومشهد الحسين، عليه السلام، ودخل السلطان البر، فاصطاد شيئاً كثيراً من الغزلان وغيرها، وأمر ببناء منارة القرون بالسبيعي، وعاد السلطان إلى بغداد، ودخل الخليفة، فخلع عليه الخلع السلطانية.
ولما خرج من عنده لم يزل نظام الملك قائماً يقدم أميراً أميراً إلى الخليفة، وكلما قدم أميراً يقول: هذا العبد فلان بن فلان، وأقطاعه كذا وكذا، وعدة عسكره كذا وكذا، إلى أن أتى على آخر الأمراء، وفوض الخليفة إلى السلطان أمر البلاد والعباد، وأمره بالعدل فيهم، وطلب السلطان أن يقبل يد الخليفة، فلم يجبه، فسأل أن يقبل خاتمه، فأعطاه إياه فقبله، ووضعه على عينه، وأمره الخليفة بالعود فعاد.
وخلع الخليفة أيضاً على نظام الملك، ودخل نظام الملك إلى المدرسة النظامية، وجلس في خزانة الكتب، وطالع فيها كتباً، وسمع الناس عليه بالمدرسة جزء حديث، وأملى جزءاً آخر.
وأقام السلطان ببغداد إلى صفر سنة ثمانين، وسار منها إلى أصبهان.
ذكر عدة حوادث

في هذه السنة، في المحرم، جرى بين أهل الكرخ وأهل باب البصرة فتنة قتل فيها جماعة، من جملتهم القاضي أبو الحسن ابن القاضي أبي الحسين بن الغريق الهاشمي، الخطيب، أصابه سهم فمات منه، ولما قتل تولى ابنه الشريف أبو تمام ما كان إليه من الخطابة، وكان العميد كمال الملك الدهستاني ببغداد، فسار بخيله ورجله إلى القنطرة العتيقة، وأعان أهل الكرخ، ثم جرت بينهم ثانية في شوال منها، فأعان الحجاج على أهل الكرخ، فانهزموا، وبلغ الناس إلى درب اللؤلؤ، وكاد أهل الكرخ يهلكون، فخرج أبو الحسن بن برغوث العلوي إلى مقدم الأحداث من السنة، فسأله العفو، فعاد عنهم ورد الناس.
وفيها زاد الماء بدجلة تاسع عشر حزيران، وجاء المطر يومين ببغداد.
وفيها، في ربيع الأول، أرسل العميد كمال الملك إلى الأنبار، فتسلمها من بني عقيل، وخرجت من أيديهم.
وفيها، في ربيع الآخر، فرغت المنارة بجامع القصر وأذن فيها.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد الشريف أبو القاسم علي بن أبي يعلى الحسني الدبوسي إلى بغداد، في تجمل عظيم، لم ير مثله لفقيه، ورتب مدرساً بالنظامية بعد أبي سعد المتولي.
وفيها أمر السلطان أن يزاد في إقطاع وكلاء الخليفة نهر برزى من طريق خراسان، وعشرة آلاف دينار من معاملة بغداد.
وفيها أقطع السلطان ملكشاه محمد بن شرف الدولة مسلم مدينة الرحبة وأعمالها، وحران، وسروج، والرقة، والخابور، وزوجه بأخته زليخا خاتون، فتسلم البلاد جميعها ما عدا حران، فإن محمد بن الشاطر امتنع من تسليمها، فلما وصل السلطان إلى الشام نزل عنها ابن الشاطر، فسلمها السلطان إلى محمد.
وفيها وقع ببغداد صاعقتان، فكسرت إحداهما أسطوانتين، وأحرقت قطناً في صناديق، ولم تحترق الصناديق، وقتلت الثانية رجلاً.
وفيها كانت زلازل بالعراق، والجزيرة، والشام، وكثير من البلاد، فخربت كثيراً من البلاد، وفارق الناس مساكنهم إلى الصحراء، فلما سكنت عادوا.
وفيها عزل فخر الدولة بن جهير عن ديار بكر، وسلمها السلطان إلى العميد أبي علي البلخي، وجعله عاملاً عليها.
وفيها أسقط اسم الخليفة المصري من الحرمين الشريفين، وذكر اسم الخليفة المقتدي بأمر الله.
وفيها أسقط السلطان المكوس والاجتيازات بالعراق.
وفيها حصر تميم بن المعز بن باديس ،صاحب إفريقية، مدينتي قابس وسفاقس في وقت واحد، وفرق عليهما العساكر.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو الحسن بن فضال المجاشعي، النحوي، المقري.
وفي ربيع الآخر توفي شيخ الشيوخ أبو سعد الصوفي، النسابوري، وهو الذي تولى بناء الرباط بنهر المعلى، وبنى وقوفه، وهو رباط شيخ الشيوخ الآن، وبنى وقوف المدرسة النظامية، وكان عالي الهمة، كثير التعصب لمن يلتجيء إليه، وجدد تربة معروف الكرخي بعد أن احترقت، وكانت له منزلة كبيرة عند السلطان، وكان يقال: نحمد الله الذي أخرج رأس أبي سعد من مرقعة، ولو أخرجه من قباء لهلكنا.
وفيها توفي أبو علي محمد بن أحمد الشيري، البصري، وكان خيراً، حافظاً للقرآن، ذا مال كثير، وهو آخر من روى سنن أبي داود السجستاني عن أبي عمر الهاشمي.
وفيها توفي الشريف أبو نصر الزينبي، العباسي، نقيب الهاشميين، وهو محدث مشهور عالي الإسناد.
ثم دخلت سنة ثمانين وأربعمائة

ذكر زفاف ابنة السلطان إلى الخليفة
في المحرم نقل جهاز ابنة السلطان ملكشاه إلى دار الخلافة على مائة وثلاثين جملاً مجللة بالديباج الرومي، وكان أكثر الأحمال الذهب والفضة وثلاث عماريات، وعلى أربع وسبعين بغلاً مجللة بأنواع الديباج الملكي، وأجراسها وقلائدها من الذهب والفضة، وكان على ستة منها اثنا عشر صندوقاً من فضة لا يقدر ما فيها من الجواهر والحلي، وبين يدي البغال ثلاثة وثلاثون فرساً من الخيل الرائقة، عليها مراكب الذهب مرصعة بأنواع الجوهر، ومهد عظيم كثير الذهب.
وسار بين يدي الجهاز سعد الدولة كوهرائين، والأمير برسق، وغيرهما، ونثر أهل نهر معلى عليهم الدنانير والثياب، وكان السلطان قد خرج عن بغداد متصيداً، ثم أرسل الخليفة الوزير أبا شجاع إلى تركان خاتون، زوجة السلطان، وبين يديه نحو ثلاثمائة موكبية، ومثلها مشاعل، ولم يبق في الحريم دكان إلا وقد أشعل فيها الشمعة والاثنتان وأكثر من ذلك.

وأرسل الخليفة مع ظفر خادمه محفة لم ير مثلها حسناً، وقال الوزير لتركان خاتون: سيدنا ومولانا أمير المؤمنين يقول: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وقد أذن في نقل الوديعة إلى داره. فأجابت بالسمع والطاعة، وحضر نظام الملك فمن دونه من أعيان دولة السلطان، وكل منهم معه من الشمع والمشاعل الكثير، وجاء نساء الأمراء الكبار ومن دونهم كل واحدة منهن منفردة في جماعتها وتجملها، وبين أيديهن الشمع الموكبيات والمشاعل يحمل ذلك جميعه الفرسان.
ثم جاءت الخاتون ابنة السلطان، بعد الجميع، في محفة مجللة، عليها من الذهب والجواهر أكثر شيء، وقد أحاط بالمحفة مائتا جارية من الأتراك بالمراكب العجيبة، وسارت إلى دار الخلافة، وكانت ليلة مشهودة لم ير ببغداد مثلها.
فلما كان الغد أحضر الخليفة أمراء السلطان لسماط أمر بعمله حكي أن فيه أربعين ألف منا من السكر، وخلع عليهم كلهم، وعلى كل من له ذكر في العسكر، وأرسل الخلع إلى الخاتون زوجة السلطان، وإلى جميع الخواتين، وعاد السلطان من الصيد بعد ذلك.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة ولد للسلطان ابن من تركان خاتون، وسماه محموداً، وهو الذي خطب له بالمملكة بعد.
وفيها سلم السلطان ملكشاه مدينة حلب والقلعة إلى مملوكة آقسنقر، فوليها، وأظهر فيها العدل وحسن السيرة، وكان زوج دادو السلطان ملكشاه، وهي التي تحضنه وتربيه، وماتت بحلب سنة أربع وثمانين.
وفيها استبق ساعيان أحدهما للسلطان، فضلي، والآخر للأمير قماج، مرعوشي، فسبق ساعي السلطان، وقد تقدم ذكر الفضلي والمرعوشي أيام معز الدولة بن بويه.
وفيها جعل السلطان ولي عهده ولده أبا شجاع أحمد، ولقبه ملك الملوك، عضد الدولة، وتاج الملة، عدة أمير المؤمنين، وأرسل إلى الخليفة بعد مسيره من بغداد، ليخطب له ببغداد بذلك، فخطب له في شعبان، ونثر الذهب على الخطباء.
وفيها، في شعبان، انحدر سعد الدولة كوهرائين إلى واسط لمحاربة مهذب الدولة بن أبي الجبر، صاحب البطائح، ولما فارق بغداد كثرت فيها الفتن.
وفيها، في ذي القعدة، ولد للخليفة من ابنة السلطان ولد سماه جعفراً، وكناه أبا الفضل، وزين البلد لأجل ذلك.
وفيها استولى العميد كمال الملك أبو الفتح الدهستاني، عميد العراق، على مدينة هيت، أخذها صلحاً ومضى إليها، وعاد عنها في ذي القعدة.
وفيها وقعت فتنة بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، قتل فيها كثير من الناس.
وفيها كسفت الشمس كسوفاً كلياً.
وفيها توفي الأمير أبو منصور قتلغ أمير الحاج، وحج أميراً اثنتي عشرة سنة، وكانت له في العرب عدة وقعات، وكانوا يخافونه، ولما مات قال نظام الملك: مات اليوم ألف رجل، وولي إمارة الحاج نجم الدولة خمارتكين.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن سعد أبو القاسم الساوي، سمع الحديث الكثير من أبي سعد الصيرفي وغيره، وروى عنه الناس، وكان ثقة، وطاهر بن الحسين أبو الوفا البندنيجي، الهمذاني، كان شاعراً، أديباً، وكان يمدح لا لعرض الدنيا، ومدح نظام الملك بقصيدتين كل واحدة منهما تزيد على أربعين بيتاً، إحداهما ليس فيها نقطة، والأخرى جميع حروفها منقوطة.
وفيها توفيت فاطمة بنت علي المؤدب، المعروفة ببنت الأقرع، الكاتبة، كانت من أحسن الناس خطاً على طريقة ابن البواب، وسمعت الحديث وأسمعته.
وفيها، في ذي القعدة، توفي غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابي، صاحب التاريخ، وظهر له مال كثير، وكان له معروف وصدقة.
ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وأربعمائة؟

ذكر الفتنة ببغداد
في هذه السنة، في صفر، شرع أهل باب البصرة في بناء القنطرة الجديدة، ونقلوا الآجر في أطباق الذهب والفضة وبين أيديهم الدبادب، واجتمع إليهم أهل المحال، وكثر عندهم أهلباب الأزج في خلق لا يحصى.

واتفق أن كوهرائين سار في سميرية، وأصحابه يسيرون على شاطيء دجلة بسيره، فوقف أهل باب الأزج على امرأة كانت تسقي الناس من مزملة لها على دجلة، فحملوا عليها، على عادة لهم، وجعلوا يكسرون الجرار، ويقولون: الماء للسبيل! فلما رأت سعد الدولة كوهرائين استغاثت به، فأمر بإبعادهم عنها، فضربهم الأتراك بالمقارع، فسل العامة سيوفهم وضربوا وجه فرس حاجبه سليمان، وهو أخص أصحابه، فسقط عن الفرس، فحمل كوهرائين الحنق على أن خرج من السميرية إليهم راجلاً، فحمل أحدهم عليه، فطعنه بأسفل رمحه، فألقاه في الماء والطين، فحمل أصحابه على العامة، فقاتلوهم، وحرصوا على الظفر بالذي طعنه، فلم يصلوا إليه، وأخذ ثمانية نفرر، فقتل أحدهم، وقطع أعصاب ثلاثة نفر، وأرسل قباءه إلى الديوان وفيه أثر الطعنة والطين يستنفر على أهل باب الأزج. ثم إن أهل الكرخ عقدوا لأنفسهم طاقاً آخر على باب طاق الحراني، وفعلوا كفعل أهل البصرة.
ذكر إخراج الأتراك من حريم الخلافةفي هذه السنة، في ربيع الآخر، أمر الخليفة بإخراج الأتراك الذين مع الخاتون زوجته ابنة السلطان من حريم دار الخلافة.
وسبب ذلك أن تركياً منهم اشترى من طواف الفاكهة، فتماكسا، فشتم الطواف التركي، فأخذ التركي صنجة من الميزان وضرب بها رأس الطواف فشجه، فاجتمعت العامة، وكاد يكون بينهم وبين الأتراك شر، واستغاثوا، وشنعوا، فأمر الخليفة بإخراج الأتراك، فأخرجوا عن آخرهم، في ساعة واحدة، على أقبح صورة، وقت العشاء الآخرة.
ذكر ملك الروم مدينة زويلة

وعودهم عنها
في هذه السنة فتح الروم مدينة زويلة من إفريقية، وهي بقرب المهدية.
وسبب ذلك أن الأمير تميم بن المعز بن باديس، صاحبها، أكثر غزو بلادهم في البحر، فخربها، وشتت أهلها، فاجتمعوا من كل جهة، واتفقوا على إنشاء الشواني لغزو المهدية، ودخل معهم البيشانيون، والجنوبيون، وهما من الفرنج، فأقاموا يعمرون الأسطول أربع سنين، واجتمعوا بجزيرة قوصرة في أربع مائة قطعة، فكتب أهل قوصرة كتاباً على جناح طائر يذكرون وصولهم وعددهم وحكمهم على الجزيرة، فأراد تميم أن يسير عثمان بن سعيد المعروف بالمهر، مقدم الأسطول الذي له، ليمنعهم من النزول، فمنعه من ذلك بعض قواده، واسمه عبد الله بن منكوت، لعداوة بينه وبين المهر، فجاءت الروم، وأرسلوا، وطلعوا إلى البر، ونهبوا، وخربوا، وأحرقوا، ودخلوا زويلة ونهبوها، وكانت عساكر تميم غائبة في قتال الخارجين عن طاعته.
ثم صالح تميم الروم على ثلاثين ألف دينار، ورد جميع ما حووه من السبي، وكان تميم يبذل المال الكثير في الغرض الحقير، فكيف في الغرض الكبير، حكي عنه أنه بذل للعرب، لما استولوا على حصن له يسمى قناطة ليس بالعظيم، اثني عشر ألف دينار حتى هدمه، فقيل له: هذا سرف في المال، فقال: هو شرف في الحال.
ذكر وفاة الناصر بن علناس
وولاية ولده المنصور
في هذه السنة مات الناصر بن علناس بن حماد، وولي بعده ابنه المنصور، فاقتفى آثار أبيه في الحزم والعزم والرئاسة، ووصله كتب الملوك ورسلهم بالتعزية بأبيه والتهنئة بالملك، منهم: يوسف بن تاشفين، وتميم بن المعز، وغيرهما.
ذكر وفاة إبراهيم ملك غزنة وملك ابنه مسعودفي هذه السنة توفي الملك المؤيد إبراهيم بن مسعود بن محمود بن سبكتكين، صاحب غزنة، وكان عادلاً، كريماً، مجاهداً، وقد ذكرنا من فتوحه ما وصل إلينا، وكان عاقلاً، ذا رأي متين، فمن آرائه أن السلطان ملكشاه بن ألب أرسلان السلجوقي جمع عساكره وسار يريد غزنة، ونزل باسفرار، فكتب إبراهيم بن مسعود كتاباً إلى جماعة من أعيان أمراء ملكشاه يشكرهم، ويعتد لهم بما فعلوا من تحسين قصد ملكشاه بلاده ليتم لنا ما استقر بيننا من الظفر به، وتخليصهم من يده، ويعدهم الإحسان على ذلك، وأمر القاصد بالكتب أن يتعرض لملكشاه في الصيد، ففعل ذلك، فأخذ، وأحضر عند السلطان، فسأله عن حاله، فأنكره، فأمر السلطان بجلده، فجلد، فدفع الكتب إليه بعد جهد ومشقة، فلما وقف ملكشاه عليها تحيل من أمرائه وعاد، ولم يقل لأحد من أمرائه في هذا الأمر شيئاً خوفاً أن يستوحشوا منه.

وكان يكتب بخطه، كل سنة، مصحفاً، ويبعثه مع الصدقات إلى مكة، وكان يقول: لو كنت موضع أبي مسعود، بعد وفاة جدي محمود، لما انفصمت عرى مملكتنا، ولكني الآن عاجز عن أن أسترد ما أخذوه، واستولى عليه ملوك قد اتسعت مملكتهم، وعظمت عساكرهم.
ولما توفي ملك بعده ابنه مسعود، ولقبه جلال الدين، وكان قد زوجه أبوه بابنة السلطان ملكشاه، وأخرج نظام الملك في هذا الإملاك والزفاف مائة دينار.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة حج الوزير أبو شجاع، وزير الخليفة، واستناب ابنه ربيب الدولة أبا منصور، ونقيب النقباء طراد بن محمد الزينبي.
وفيها أسقط السلطان ما كان يؤخذ من الحجاج من الخفارة.
وفيها جمع آقسنقر، صاحب حلب، عسكره وسار إلى قلعة شيزر فحصرها، وصاحبها ابن منقذ، وضيق عليها، ونهب ربضها، ثم صالحه صاحبها وعاد إلى حلب.
وفيها توفي أبو بكر أحمد بن أبي حاتم عبد الصمد بن أبي الفضل الغورجي، الهروي، والقاضي محمود بن محمد بن القاسم أبو عامر الأزدي، المهلبي، راوياً جامع الترمذي عن أبي محمد الجراحي، رواه عنهما أبو الفتح الكروخي.
وتوفي عبد الله بن محمد بن علي بن محمد أبو إسماعيل، الأنصاري، الهروي، شيخ الإسلام، ومولده سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وكان شديد التعصب في المذاهب، ومحمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الباقرحي، ومولده في شعبان، وهو من أهل الحديث والرواية.
وفي المحرم توفيت ابنة الغالب بالله بن القادر ودفنت عند قبر أحمد، وكانت ترجع إلى دين، ومعروف كثير، لم يبلغ أحد في فعل الخير ما بلغت.
وفي شعبان توفي عبد العزيز الصحراوي الزاهد.
وفيها توفي الملك أحمد ابن السلطان ملكشاه بمرو، وكان ولي عهد أبيه في السلطنة، وكان عمره إحدى عشرة سنة، وجلس الناس ببغداد للعزاء سبعة أيام في دار الخلافة، ولم يركب أحد فرساً، وخرج النساء ينحن في الأسواق، واجتمع الخلق الكثير في الكرخ للتفرج والمناحات، وسود أهل الكرخ أبواب عقودهم إظهاراً للحزن عليه.
ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة

ذكر الفتنة ببغداد بين العامة
في هذه السنة، في صفر، كبس أهل باب البصرة الكرخ، فقتلوا رجلاً وجرحوا آخر، فأغلق أهل الكرخ الأسواق، ورفعوا المصاحف، وحملوا ثياب الرجلين وهي بالدم، ومضوا إلى دار العميد كمال الملك أبي الفتح الدهستاني مستغيثين، فأرسل إلى النقيب طراد بن محمد يطلب منه إحضار القاتلين، فقصد طراد دار الأمير بوزان بقصر ابن المأمون، فطالبه بوزان بهم، ووكل به، فأرسل الخليفة إلى بوزان يعرفه حال النقيب طراد، ومحله، ومنزلته، فخلى سبيله واعتذر إليه، فسكن العميد كمال الملك الفتنة، وكف الناس بعضهم عن بعض، ثم سار إلى السلطان، فعاد الناس إلى ما كانوا فيه من الفتنة، ولم ينقض يوم إلا عن قتلى وجرحى.
ذكر ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهرفي هذه السنة ملك السلطان ملكشاه ما وراء النهر.
وسبب ذلك أن سمرقند كان قد ملكها أحمد خان بن خضر خان، أخو شمس الملك، الذي كان قبله، وهو ابن أخي تركان خاتون، زوجة السلطان ملكشاه، وكان صبياً ظالماً، قبيح السيرة، يكثر مصادرة الرعية، فنفروا منه، وكتبوا إلى السلطان سراً يستغيثون به، ويسألونه القدوم عليهم ليملك بلادهم، وحضر الفقيه أبو طاهر بن علك الشافعي عند السلطان شاكياً، وكان يخاف من أحمد خان لكثرة ماله، فأظهر السفر للتجارة والحج، فاجتمع بالسلطان، وشكا إليه، وأطمعه في البلاد. فتحركت دواعي السلطان إلى ملكها، فسار من أصبهان.
وكان قد وصل إليه، وهو فيها، رسول ملك الروم، ومعه الخراج المقرر عليه، فأخذه نظام الملك معهم إلى ما وراء النهر، وحضر فتح البلاد، فلما وصل إلى كاشغر أذن له نظام الملك في العود إلى بلاده، وقال: أحب أن يذكر عنا في التواريخ أن ملك الروم حمل الجزية وأوصلها إلى باب كاشغر لينهي إلى صاحبه سعة ملك السلطان ليعظم خوفه منه، ولا يحدث نفسه بخلاف الطاعة. وهذا يدل على همة عالية تعلو على العيوق.

ولما سار السلطان من أصبهان إلى خراسان جمع العساكر من البلاد جميعها، فعبر النهر بجيوش لا يحصرها ديوان، ولا تدخل تحت الإحصاء، فلما قطع النهر قصد بخارى، وأخذ ما على طريقه، ثم سار إليها وملكها وما جاورها من البلاد، وقصد سمرقند ونازلها، وكانت الملطفات قد قدمها إلى أهل البلد يعدهم النصر، والخلاص مما هم فيه من الظلم، وحصر البلد، وضيق عليه، وأعانه أهل البلد بالإقامات، وفرق أحمد خان، صاحب سمرقند، أبراج السور على الأمراء ومن يثق به من أهل البلد، وسلم برجاً يقال به برج العيار إلى رجل علوي كان مختصاً به، فنصح في القتال.
فاتفق أن ولداً لهذا العلوي أخذ أسيراً ببخارى، فهدد الأب بقتله، فتراخى عن القتال، فسهل الأمر على السلطان ملكشاه، ورمى من السور عدة ثلم بالمنجنيقات، وأخذ ذلك البرج، فلما صعد عسكر السلطان إلى السور هرب أحمد خان، واختفى في بيوت بعض العامة فغمز عليه وأخذ وحمل إلى السلطان وفي رقبته حبل، فأكرمه السلطان، وأطلقه وأرسله إلى أصبهان، ومعه من يحفظه، ورتب بسمرقند الأمير العميد أبا طاهر عميد خوارزم.
وسار السلطان قاصداً كاشغر، فبلغ إلى يوزكند، وهو بلد يجري على بابه نهر، وأرسل منها رسلاً إلى ملك كاشغر يأمره بإقامة الخطبة، وضرب السكة باسمه ويتوعده إن خالف بالمسير إليه. ففعل ذلك وأطاع، وحضر عند السلطان، فأكرمه وعظمه، وتابع الإنعام عليه، وأعاده إلى بلده.
ورجع السلطان إلى خراسان، فلما أبعد عن سمرقند لم يتفق أهلها وعسكرها المعروفون بالجكلية مع العميد أبي طاهر، نائب السلطان عندهم، حتى كادوا يثبون عليه، فاحتال حتى خرج من عندهم، ومضى إلى خوارزم.
ذكر عصيان سمرقندكان مقدم العسكر المعروف بالجكلية، واسمه عين الدولة، قد خاف السلطان لهذا الحادث، فكاتب يعقوب تكين أخا ملك كاشغر، ومملكته تعرف بآب نباشي، وبيده قلعتها، واستحضره، فحضر عنده بسمرقند، واتفقا، ثم إن يعقوب علم أن أمره لا يستقيم معه، فوضع عليه الرعية الذين كان أساء إليهم، حتى ادعوا عليه دماء قوم كان قتلهم، وأخذ الفتاوى عليه فقتله، واتصلت الأخبار بالسلطان ملكشاه بذلك، فعاد إلى سمرقند.
ذكر فتح سمرقند الفتح الثانيلما اتصلت الأخبار بعصيان سمرقند بالسلطان ملكشاه، وقتل عين الدولة، مقدم الجكلية، عاد إلى سمرقند، فلما وصل إلى بخارى هرب يعقوب المستولي على سمرقند، ومضى إلى فرغانة، ولحق بولايته.
ووصل جماعة من عسكره إلى السلطان مستأمنين، فلقوه بقرية تعرف بالطواويس، ولما وصل السلطان إلى سمرقند ملكها، ورتب بها الأمير أبر، وسار في أثر يعقوب حتى نزل بيوزكند، وأرسل العساكر إلى سائر الأكناف في طلبه.
وأرسل السلطان إلى ملك كاشغر، وهو أخو يعقوب، ليجد في أمره، ويرسله إليه، فاتفق أن عسكر يعقوب شغبوا عليه، ونهبوا خزائنه، واضطروه إلى أن هرب على فرسه، ودخل إلى أخيه بكاشغر مستجيراً به. فسمع السلطان بذلك، فأرسل إلى ملك كاشغر يتوعده، إن لم يرسله إليه، أن يقصد بلاده، ويصير هو العدو، فخاف أن يمنع السلطان، وأنف أن يسلم أخاه بعد أن استجار به وإن كانت بينهما عداوة قديمة، ومنافسة في الملك عظيمة، لما يلزمه فيه العار، فأداه اجتهاده إلى أن قبض على أخيه يعقوب، وأظهر أنه كان في طلبه، فظفر به، وسيره مع ولده، وجماعة من أصحابه، وكلهم بيعقوب، وأرسل معهم هدايا كثيرة للسلطان، وأمر ولده أنه إذا وصل إلى قلعة بقرب السلطان أن يسمل يعقوب ويتركه، فإن رضي السلطان بذلك، وإلا سلمه إليه.
فلما وصلوا إلى القلعة عزم ابن ملك كاشغر أن يسمل عمه، وينفذ فيه ما أمره به أبوه، فتقدم بكتفه وإلقائه على الأرض، ففعلوا به ذلك، فبينما هم على تلك الحال، وقد أحموا الميل ليسلموه، إذ سمعوا ضجة عظيمة، فتركوه، وتشاوروا بينهم، وظهر عليهم انكسار، ثم أرادوا بعد ذلك سمله، ومنع منه بعض، فقال لهم يعقوب: أخبروني عن حالكم، وما يفوتكم الذي تريدونه مني، وإذا فعلتم بي شيئاً ربما ندمتم عليه.

فقيل له: إن طغرل بن ينال أسرى من ثمانين فرسخاً في عشرات ألوف من العساكر، وكبس أخاك بكاشغر، فأخذه أسيراً، ونهب عسكره، وعاد إلى بلاده، فقال لهم: هذا الذي تريدون تفعلونه بي ليس مما تتقربون به إلى الله تعالى وإنما تفعلونه اتباعاً لأمر أخي، وقد زال أمره، ووعدهم الإحسان فأطلقوه.
فلما رأى السلطان ذلك ورأى طمع طغرل بن ينال، ومسيره إلى كاشغر، وقبض صاحبها، وملكه لها مع قربه منه، خاف أن ينحل بعض أمره وتزول هيبته، وعلم أنه متى قصد طغرل سار من بين يديه، فإن عاد عنه رجع إلى بلاده، وكذلك يعقوب أخو صاحب كاشغر، وأنه لا يمكنه المقام لسعة البلاد وراءه وخوف الموت بها، فوضع تاج الملك على أن يسعى في إصلاح أمر يعقوب معه، ففعل ما أمره به السلطان، فاتفق هو ويعقوب، وعاد إلى خراسان، وجعل يعقوب مقابل طغرل يمنعه من القوة، وملك البلاد، وكل منهما يقوم في وجه الآخر.
ذكر عود ابنة السلطان إلى أبيهاوفي هذه السنة أرسل السلطان إلى الخليفة يطلب ابنته طلباً لا بد منه.
وسبب ذلك أنها أرسلت تشكو من الخليفة، وتذكر أنه كثير الاطراح لها، والإعراض عنها، فأذن لها في المسير، فسارت في ربيع الأول، وسار معها ابنها من الخليفة أبو الفضل جعفر بن المقتدي بأمر الله، ومعهما سائر أرباب الدولة، ومشى، مع محفتها، سعد الدولة كوهرائين، وخدم دار الخلافة الأكابر، وخرج الوزير وشيعهم إلى النهروان وعاد.
وسارت الخاتون إلى أصبهان، فأقامت بها إلى ذي القعدة، وتوفيت، وجلس الوزير ببغداد للعزاء سبعة أيام، وأكثر الشعراء مراثيها ببغداد، وبعسكر السلطان.
ذكر فتح عسكر مصر عكا

وغيرها من الشام
في هذه السنة خرجت عساكر مصر إلى الشام في جماعة من المقدمين، فحصروا مدينة صور، وكان قد تغلب عليها القاضي عين الدولة بن أبي عقيل، وامتنع عليهم، ثم توفي، ووليها أولاده، فحصرهم العسكر المصري فلم يكن لهم من القوة ما يمتنعون بها، فسلموها إليهم.
ثم سار العسكر عنها إلى مدينة صيدا، ففعلوا بها كذلك.
ثم ساروا إلى مدينة عكا، فحصروها، وضيقوا على أهلها، فافتتحوها.
وقصدوا مدينة جبيل، فملكوها أيضاً، وأصلحوا أحوال هذه البلاد، وقرروا قواعدها، وساروا عنها إلى مصر عائدين، واستعمل أمير الجيوش على هذه البلاد الأمراء والعمال.
ذكر الفتنة بين أهل بغداد ثانيةوفي هذه السنة، في جمادى الأولى، كثرت الفتن ببغداد بين أهل الكرخ وغيرها من المحال، وقتل بينهم عدد كثير، واستولى أهل المحال على قطعة كبيرة من نهر الدجاج، فنهبوها، وأحرقوها، فنزل شحنة بغداد، وهو خمارتكين النائب عن كوهرائين، على دجلة في خيله ورجله، ليكف الناس عن الفتنة، فلم ينتهوا، وكان أهل الكرخ يجرون عليه وعلى أصحابه الجرايات والإقامات.
وفي بعض الأيام وصل أهل باب البصرة إلى سويقة غالب، فخرج من أهل الكرخ من لم تجر عادته بالقتال، فقاتلوهم حتى كشفوهم. فركب خدم الخليفة، والحجاب، والنقباء، وغيرهم من أعيان الحنابلة، كابن عقيل، والكلوذاني، وغيرهما، إلى الشحنة، وساروا معه إلى أهل الكرخ، فقرأ عليهم مثالاً من الخليفة يأمرهم بالكف، ومعاودة السكون، وحضور الجماعة والجمعة، والتدين بمذهب أهل السنة، فأجابوا إلى الطاعة.
فبينما هم كذلك أتاهم الصارخ من نهر الدجاج بأن السنة قد قصدوهم، والقتال عندهم، فمضوا مع الشحنة، ومنعوا من الفتنة، وسكن الناس وكتب أهل الكرخ على أبواب مساجدهم: خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ومن عند هذا اليوم ثار أهل الكرخ، وقصدوا شارع ابن أبي عوف ونهبوه، وفي جملة ما نهبوا دار أبي الفضل بن خيرون المعدل، فقصد الديوان مستنفراً، ومعه الناس، ورفع العامة الصلبان وهجموا على الوزير في حجرته، وأكثروا من الكلام الشنيع، وقتل ذلك اليوم رجل هاشمي من أهل باب الأزج بسهم أصابه، فثار العامة هناك بعلوي كان مقيماً بينهم، فقتلوه وحرقوه، وجرى من النهب، والقتل، والفساد أمور عظيمة، فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل عسكراً إلى بغداد، فطلبوا المفسدين والعيارين، فهربوا منهم، فهدمت دورهم، وقتل منهم ونفي وسكنت الفتنة، وأمن الناس.
ذكر حيلة لأمير المسلمين ظهرت ظهوراً غريباً

كان بالمغرب إنسان اسمه محمد بن إبراهيم الكزولي، سيد قبيلة كزولة ومالك جبلها، وهو جبل شامخ، وهي قبيلة كثيرة، وبينه وبين أمير المسلمين يوسف بن تاشفين مودة واجتماع، فلما كان هذه السنة أرسل يوسف إلى محمد بن إبراهيم يطلب الاجتماع به، فركب إليه محمد، فلما قاربه خافه على نفسه، فعاد إلى جبله، واحتاط لنفسه، فكتب إليه يوسف، وحلف له أنه ما أراد به إلا الخير، ولم يحدث نفسه بغدر. فلم يركن محمد إليه.
فدعا يوسف حجاماً، وأعطاه مائة دينار، وضمن له مائة دينار أخرى، إن هو سار إلى محمد بن إبراهيم واحتال على قتله. فسار الحجام، ومعه مشاريط مسمومة، فصعد الجبل، فلما كان الغد خرج ينادي لصناعته بالقرب من مساكن محمد، فسمع محمد الصوت، فقال: هذا الحجام من بلدنا؟ فقيل: إنه غريب، فقال: أراه يكثر الصياح، وقد ارتبت بذلك، ائتوني به. فأحضر عنده، فاستدعى حجاماً آخر وأمره أن يحجمه بمشاريطه التي معه، فامتنع الحجام الغريب، فأمسك وحجم فمات، وتعجب الناس من فطنته.
فلما بلغ ذلك يوسف ازداد غيظه، ولج في السعي في أذى يوصله إليه، فاستمال قوماً من أصحاب محمد، فمالوا إليه، فأرسل إليهم جراراً من عسل مسموم، فحضروا عند محمد وقالوا: قد وصل إلينا قوم معهم جرار من عسل أحسن ما يكون، وأردنا إتحافك به، وأحضروها بين يديه، فلما رآه أمر بإحضار خبز، وأمر أولئك الذين أهدوا إليه العسل أن يأكلوا منه، فامتنعوا، واستعفوه من أكله، فلم يقبل منهم، وقال: من لم يأكل قتل بالسيف، فأكلوا، فماتوا عن آخرهم.
فكتب إلى يوسف بن تاشفين: إنك قد أردت قتلي بكل وجه، فلم يظفرك الله بذلك، فكف عن شرك، فقد أعطاك الله المغرب بأسره، ولم يعطني غير هذا الجبل، وهو في بلادك كالشامة البيضاء في الثور الأسود، فلم تقنع بما أعطاك الله، عز وجل. فلما رأى يوسف أن سره قد انكشف وأنه لا يمكنه في أمره شيء لحصانة جبله أعرض عنه وتركه.
ذكر ملك العرب مدينة سوسة

وأخذها منهم
في هذه السنة نقض ابن علوي ما بينه وبين تميم بن المعز بن باديس أمير إفريقية من العهد، وسار في جميع من عشيرته العرب، فوصل إلى مدينة سوسة من بلاد إفريقية، وأهلها غارون لم يعلموا به، فدخلها عنوة، وجرى بينه وبين من بها من العسكر والعامة قتال، فقتل من الطائفتين جماعة وكثر القتل في أصحابه والأسر، وعلم أنه لا يتم له مع تميم حال، ففارقها، وخرج منها إلى حلته من الصحراء.
وكان بإفريقية هذه السنة غلاء شديد، وبقي كذلك إلى سنة أربع وثمانين، وصلحت أحوال أهلها، وأخصبت البلاد، ورخصت الأسعار، وأكثر أهلها الزرع.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قطعت الحرامية الطريق على قفل كبير بولاية حلب، فركب آقسنقر في جماعة من عسكره وتبعهم، ولم يزل حتى أخذهم وقتلهم، فأمنت الطرق بولايته.
وفيها ورد العميد الأغر أبو المحاسن عبد الجليل بن علي الدهستاني إلى بغداد عميداً، وعزل أخوه كمال الملك على ما ذكرناه.
وفيها درس الإمام أبو بكر الشاشي في المدرسة التي بناها تاج الملك مستوفي السلطان بباب إبرز من بغداد، وهي المدرسة التاجية المشهورة.
وفيها عمرت منارة جامع حلب.
وفيها توفي الخطيب أبو عبد الله الحسين بن أحمد بن عبد الواحد بن أبي الحديد السلمي، خطيب دمشق، في ذي الحجة.
وفيها توفي أحمد بن محمد بن صاعد بن محمد أبو نصر النيسابوري رئيسها، ومولده سنة عشر وأربعمائة، وكان من العلماء، وعاصم بن الحسن بن محمد بن علي بن عاصم العاصمي البغدادي من أهل الكرخ، كان ظريفاً كيساً، له شعر حسن، فمنه:
ماذا على متلون الأخلاق ... لو زارني، فأبثه أشواقي
وأبوح بالشكوى إليه تذللاً، ... وأفض ختم الدمع من آماقي
فعساه يسمح بالوصال لمدنف ... ذي لوعة، وصبابة، مشتاق
أسر الفؤاد، ولم يرق لموثق ... ما ضره لو جاد بالإطلاق
إن كان قد لسبت عقارب صدغه ... قلبي، فإن رضابه درياقي
وقال أيضاً:
فديت من ذبت شوقاً من محبته، ... وصرت من هجره فوق الفراش لقا
سمعته يتغنى، وهو مصطبح، ... أفديه مصطبحاً منه، ومغتبقا
وأخلفتك ابنة البكري ما وعدت، ... وأصبح الحبل منه واهياً خلقا

والصحيحأنه توفي سنة ثلاث وثمانين.
وفيها، في جمادى الآخرة، توفي الشريف أبو القاسم العلوي، الدبوسي، المدرس بالنظامية ببغداد، وكان فاضلاً فصيحاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة

ذكر وفاة فخر الدولة ابن جهير
في هذه السنة، في المحرم، توفي فخر الدولة أبو نصر محمد بن محمد بن جهير الذي كان وزير الخليفة بمدينة الموصل، ومولده بها سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وتزوج إلى أبي العقارب شيخها، ونظر في إملاك جارية قرواش، المعروفة بسرهنك، ثم خدم بركة بن المقلد، حتى قبض على أخيه قرواش وحبسه، ومضى بهدايا إلى ملك الروم، فاجتمع هو ورسول نصر الدولة بن مروان، فتقدم فخر الدولة عليه، فنازعه رسول ابن مروان، فقال فخر الدولة لملك الروم: أنا أستحق التقدم عليه لأن صاحبه يؤدي الخراج إلى صاحبي.
فلما عاد إلى قريش بن بدران أراد القبض عليه، فاستجار بأبي الشداد، وكانت عقيل تجير على أمرائها، وسار إلى حلب، فوزر لمعز الدولة أبي ثمال ابن صالح. ثم مضى إلى ملطية، ومنها إلى ابن مروان، فقال له: كيف أمنتني وقد فعلت برسولي ما فعلت عند ملك الروم؟ فقال: حملني على ذلك نصح صاحبي. فاستوزره، فعمر بلاده.
ووزر بعد نصر الدولة لولده، ثم سار إلى بغداد، وولي وزارة الخليفة، على ما ذكرناه، وتولى أخذ ديار بكر من بني مروان، على ما ذكرناه أيضاً، ثم أخذها منه السلطان، فسار إلى الموصل فتوفي بها.
ذكر نهب العرب البصرةوفي هذه السنة، في جمادى الأولى، نهب العرب البصرة نهباً قبيحاً.
وسبب ذلك أنه ورد إلى بغداد، في بعض السنين، رجل أشقر من سواد النيل يدعي الأدب، والنجوم، ويستجري الناس، فلقبه أهل بغداد تليا، وكان نازلاً في بعض الخانات، فسرق ثياباً من الديباج وغيره، وأخفاها في خلفا، وسار بهم، فرآها الذين يحفظون الطريق، فمنعوه من السفر اتهاماً له، وحملوه إلى المقدم عليهم، فأطلقه لحرمة العلم.
فسار إلى أمير من أمراء العرب من بني عامر، وبلاده متاخمة الأحساء، وقال له: أنت تملك الأرض، وقد فعل أجدادك بالحاج كذا وكذا، وأفعالهم مشهورة، مذكورة في التواريخ، وحسن له نهب البصرة وأخذها، فجمع من العرب ما يزيد على عشرة آلاف مقاتل، وقصد البصرة، وبها العميد عصمة، وليس معه من الجند إلا اليسير، لكون الدنيا آمنة من ذاعر، ولأن الناس في جنة من هيبة السلطان، فخرج إليهم في أصحابه، وحاربهم، ولم يمكنهم من دخول البلد، فأتاه من أخبره أن أهل البلد يريدون أن يسلموه إلى العرب، فخاف، ففارقهم، وقصد الجزيرة التي هي مكان القلعة بنهر معقل.
فلما عاد أهل البلد بذلك فارقوا ديارهم وانصرفوا، ودخل العرب حينئذ البصرة، وقد قويت نفوسهم، ونهبوا ما فيها نهباً شنيعاً، فكانوا ينهبون نهاراً، وأصحاب العميد عصمة ينهبون ليلاً، وأحرقوا مواضع عدة، وفي جملة ما أحرقوا داران للكتب إحداهما وقفت قبل أيام عضد الدولة ابن بويه، فقال عضد الدولة: هذه مكرمة سبقنا إليها، وهي أول دار وقفت في الإسلام. والأخرى وقفها الوزير أبو منصور بن شاه مردان، وكان بها نفائس الكتب وأعيانها، وأحرقوا أيضاً النحاسين وغيرها من الأماكن.
وخربت وقوف البصرة التي لم يكن لها نظير، من جملتها: وقوف على الحمال الدائرة على شاطيء دجلة، وعلى الدواليب التي تحمل الماء وترقيه إلى قنى الرصاص الجارية إلى المصانع، وهي على فراسخ من البلد، وهي من عمل محمد بن سليمان الهاشمي وغيره.
وكان فعل العرب بالبصرة أول خرق جرى في أيام السلطان ملكشاه. فلما فعلوا ذلك، وبلغ الخبر إلى بغداد، انحدر سعد الدولة كوهرائين، وسيف الدولة صدقة بن مزيد إلى البصرة لإصلاح أمورها، فوجدوا العرب قد فارقوها.
ثم إن تليا أخذ بالبحرين، وأرسل إلى السلطان، فشهره ببغداد سنة أربع وثمانين على جمل، وعلى رأسه طرطور، وهو يصفع بالدرة، والناس يشتمونه، ويسبهم، ثم أمر به فصلب.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة قدم الإمام أبو عبد الله الطبري بغداد، في المحرم، بمنشور من نظام الملك بتوليته تدريس المدرسة النظامية، ثم ورد بعده، في شهر ربيع الآخر من السنة، أبو محمد عبد الوهاب الشيرازي، وهو أيضاً معه منشور بالتدريس، فاستقر أن يدرس يوماً، والطبري يوماً.
ثم دخلت سنة أربع وثمانين وأربعمائة

ذكر عزل الوزير أبي شجاع
ووزارة عميد الدولة بن جهير
في هذه السنة، في ربيع الأول، عزل الوزير أبو شجاع من وزارة الخليفة.
وكان سبب عزله أن إنساناً يهودياً ببغداد يقال له أبو سعد بن سمحا كان وكيل السلطان ونظام الملك، فلقيه إنسان يبيع الحصر، فصفعه صفعة أزالت عمامته عن رأسه، فأخذ الرجل، وحمل إلى الديوان، وسئل عن السبب في فعله، فقال: هو وضعني على نفسه، فسار كوهرائين ومعه ابن سمحا اليهودي إلى العسكر يشكوان، وكانا متفقين على الشكاية من الوزير أبي شجاع.
فلما سارا خرج توقيع الخليفة بإلزام أهل الذمة بالغيار، ولبس ما شرط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه فهربوا كل مهرب، أسلم بعضهم، فممن أسلم أبو سعد العلاء بن الحسن بن وهب بن موصلايا الكاتب، وابن أخيه أبو نصر هبة الله بن الحسن بن علي صاحب الخبر، أسلما على يدي الخليفة.
ونقل أيضاً عنه إلى السلطان ونظام الملك أنه يكسر أغراضهم ويقبح أفعالهم، حتى إنه لما ورد الخبر بفتح السلطان سمرقند قال: وما هذا مما يبشر به، كأنه قد فتح بلاد الروم، هل أتى إلا إلى قوم مسلمين موحدين، فاستباح منهم ما لا يستباح من المشركين! فلما وصل كوهرائين وابن سمحا إلى العسكر وشكوا من الوزير إلى السلطان ونظام الملك، وأخبراهما بجميع ما يقول عنهما، ويكسر من أغراضهما، أرسلا إلى الخليفة في عزله، فعزله، وأمره بلزوم بيته، وكان عزله يوم الخميس، فلما أمر بذلك أنشد:
تولاها وليس له عدو، ... وفارقها وليس له صديق
فلما كان الغد، يوم الجمعة، خرج من داره إلى الجامع راجلاً، واجتمع الخلق العظيم عليه، فأمر أن لا يخرج من بيته، ولما عزل استنيب في الوزراة أبو سعد بن موصلايا، كاتب الإنشاء، وأرسل الخليفة إلى السلطان ونظام الملك يستدعي عميد الدولة بن جهير ليستوزره، فسير إليه، فاستوزره في ذي الحجة من هذه السنة، وركب إليه نظام الملك، فهنأه بالوزارة في داره، وأكثر الشعراء تهنئته بالعود إلى الوزارة.
ذكر ملك أمير المسلمين بلاد الأندلس التي للمسلمينفي هذه السنة، في رجب، ملك أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، صاحب بلاد المغرب، من بلاد الأندلس ما هو بيد المسلمين: قرطبة وإشبيلية، وقبض على المعتمد بن عباد صاحبها، وملك غيرها من الأندلس.
ولقد جرى للرشيد بن المعتمد حادثة شبيهة بحادثة الأمين محمد بن هارون الرشيد. قال أبو بكر عيسى بن اللبانة الداني، من مدينة دانية: كنت يوماً عند الرشيد بن المعتمد في مجلس أنسه سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، فجرى ذكر غرناطة، وملك أمير المسلمين لها، وقد ذكرنا أخذها في وقعة الزلاقة، فلما ذكرناها تفجع، وتلهف، واسترجع، وذكر قصرها، فدعونا لقصره بالدوام، ولملكه بتراخي الأيام. فأمر عند ذلك أبا بكر الإشبيلي بالغناء فغنى:
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت، وطال عليها سالف الأبد
فاستحالت مسرته، وتجهمت أسرته. ثم أمر بالغناء من ستارته فغني:
إن شئت أن لا ترى صبراً لمصطبر، ... فانظر إلى أي حال أصبح الطلل
فتأكد تطيره، واشتد اربداد وجهه وتغيره، وأمر مغنية أخرى بالغناء، فغنت:
يا لهف نفسي على مال أفرقه ... على المقلين من أهل المروءات
إن اعتذاري إلى من جاء يسألني ... ما ليس عندي من إحدى المصيبات
قال ابن اللبانة: فتلافيت الحال بأن قمت فقلت:
محل مكرمة لا هد مبناه، ... وشمل مأثرة لا شته الله
البيت كالبيت لكن زاد ذا شرفاً، ... إن الرشيد مع المعتد ركناه
ثاو على أنجم الجوزاء مقعده، ... وراحل في سبيل الله مثواه
حتم على الملك أن يقوى وقد وصلت ... بالشرق والغرب يمناه ويسراه
بأس توقد، فاحمرت لواحظه ... ونائل شب، فاخضرت عذاراه
فلعمري قد بسطت من نفسه، وأعدت عليه بعض أنسه. على أني وقعت فيما وقع فيه الكل بقولي البيت كالبيت. وأمر إثر ذلك بالغناء فغني:
ولما قضينا من منى كل حاجة، ... ولم يبق إلا أن تزم الركائب

فأيقنا أن هذه الطير، تعقب الغير. فلما أراد أمير المسلمين ملك الأندلس سار من مراكش إلى سبتة، وأقام بها، وسير العساكر مع سير بن أبي بكر وغيره إلى الأندلس، فعبروا الخليج فأتوا مدينة مرسية، فملكوها وأعمالها، وأخرجوا صاحبها أبا عبد الرحمن بن طاهر منها، وساروا إلى مدينة شاطبة ومدينة دانية فملكوهما.
وكانت بلنسية قد ملكها الفرنج قديماً، بعد أن حصروها سبع سنين، فلما سمعوا بوقعة الزلاقة فارقوها، فملكها المسلمون أيضاً، وعمروها وسكنوها، فصارت الآن للمرابطين.
وكانوا قد ملكوا غرناطة نوبة الزلاقة، فقصدوا مدينة إشبيلية، وبها صاحبها المعتمد بن عباد، فحصروه بها، وضيقوا عليه، فقاتل أهلها قتالاً شديداً، وظهر من شجاعة المعتمد، وشدة بأسه، وحسن دفاعه عن بلده ما لم يشاهد من غيره ما يقاربه، فكان يلقي نفسه في المواقف التي لا يرجى خلاصه منها، فيسلم بشجاعته، وشدة نفسه، ولكن إذا نفدت اامدة، لم تغن العدة.
وكانت الفرنج قد سمعوا بقصد عساكر المرابطين بلاد الأندلس، فخافوا أن يملكوها ثم يقصدوا بلادهم، فجمعوا فأكثروا، وساروا ليساعدوا المعتمد، ويعينوه على المرابطين، فسمع سير بن أبي بكر، مقدم المرابطين، بمسيرهم، ففارق إشبيلية وتوجه إلى لقاء الفرنج، فلقيهم، وقاتلهم، وهزمهم، وعاد إلى إشبيلية فحصرها، ولم يزل الحصار دائماً، والقتال مستمراً إلى العشرين من رجب من هذه السنة، فعظم الحرب ذلك اليوم، واشتد الأمر على أهل البلد، ودخله المرابطون من واديه، ونهب جميع ما فيه، ولم يبقوا على سبد ولا لبد، وسلبوا الناس ثيابهم، فخرجوا من مساكنهم يسترون عوراتهم بأيديهم، وسبيت المخدرات، وانتهكت الحرمات، فأخذ المعتمد أسيراً، ومعه أولاده الذكور والإناث، بعد أن استأصلوا جميع مالهم، فلم يصحبهم من ملكهم بلغة زاد.
وقيل: إن المعتمد سلم البلد بأمان، وكتب نسخة الأمان والعهد، واستحلفهم به لنفسه، وأهله، وماله، وعبيده، وجميع ما يتعلق بأسبابه. فلما سلم إليهم إشبيلية لم يفوا له، وأخذوهم أسراء، ومالهم غنيمة، وسير المعتمد وأهله إلى مدينة أغماث، فحبسوا فيها، وفعل أمير المسلمين بهم أفعالاً لم يسلكها أحد ممن قبله، ولا يفعلها أحد ممن يأتي بعده، إلا من رضي لنفسه بهذه الرذيلة، وذلك أنه سجنهم فلم يجر عليهم ما يقوم بهم، حتى كانت بنات المعتمد يغزلن للناس بأجرة ينفقونها على أنفسهم، وذكر ذلك المعتمد في أبيات ترد عند ذكر وفاته، فأبان أميرر المسلمين بهذا الفعل عن صغر نفس ولؤم قدرة.
وأغمات هذه مدينة في سفح جبل بالقرب من مراكش، وسيرد من ذكر المعتمد عند موته، سنة ثمان وثمانين، ما يعرف به محله.
قال أبو بكر بن اللبانة: زرت المعتمد بعد أسره بأغمات، وقلت أبياتاً عند دخولي إليه، منها:
لم أقل في الثقاف كان ثقافاً، ... كنت قلباً به، وكان شغافا
يمكث الزهر في الكمام، ولكن ... بعد مكث الكمام يدنو قطافا
وإذا ما الهلال غاب بغيم ... لم يكن ذلك المغيب انكسافا
إنما أنت درة للمعالي، ... ركب الدهر فوقها أصدافا
حجب البيت منك شخصاً كريماً، ... مثلما تحجب الدنان السلافا
أنت للفضل كعبة، ولو أني ... كنت أستطيع لالتزمت الطوافا
قال: وجرت بيني وبينه مخاطبات ألذ من غفلات الرقيب، وأشهى من رشفات الحبيب، وأدل على السماح، من فجر على صباح.
ولما أخذ المعتمد وأهله قتل ولداه الفتح ويزيد بين يديه صبراً، فقال في ذلك:
يقولون صبراً! لا سبيل إلى الصبر، ... سأبكي، وأبكي ما تطاول من عمري
أفتح لقد فتحت لي باب رحمة، ... كما بيزيد، الله قد زاد في أجري
هوى بكما المقدار عني، ولم أمت، ... فأدعى وفياً، قد نكصت إلى الغدر
ولو عدتما لاخترتما العود في الثرى ... إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
أبا خالد أورثتني البث خالداً، ... أبا نصر مذ ودعت ودعني نصري
وكان المعتمد يكاتبه فضلاء البلاد، وهو محبوس، بالنثر والنظم، يتوجعون له، ويذمون الزمان وأهله، حيث مثله منكوب، فمن ذلك ما قاله عبد الجبار بن أبي بكر بن حمديس، وكتبه إليه يذكر مسيرهم عن إشبيلية إلى أغمات:

جرى لك جد بالكرام عثور، ... وجار زمان كنت منه تجير
لقد أصبحت بيض الظبى في غمودها ... إناثاً لترك الضرب، وهي ذكور
ولما رحلتم بالندى في أكفكم، ... وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعت لساني بالقيامة قد أتت، ... ألا فانظروا كيف الجبال تسير
وقال شاعره ابن اللبانة في حادثته أيضاً:
تبكي السماء بدمع رائح غادي ... على البهاليل من أبناء عباد
على الجبال التي هدت قوعدها ... وكانت الأرض منها تحت أوتاد
عريسة دخلتها النائبات على ... أساود منهم فيها وآساد
وكعبة كانت الآمال تعمرها، ... فاليوم لا عاكف فيها، ولا باد
ولما استقصى عسكر أمير المسلمين ملوك الأندلس، وأخذ بلادهم، جمع ملوكهم وسيرهم إلى بلاد الغرب، وفرقهم فيها " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " .
ولما فرغ سير من إشبيلية سار إلى المرية فنازلها، وكان صاحبها محمد بن معن بن صمادح، فقال لولده: ما دام المعتمد بإشبيلية فلا نبالي بالمرابطين. فلما سمع بملكهم لها، وما جرى للمعتمد، مات في تلك الأيام غماً وكمداً، فلما مات سار ولده الحاجب وأهله في مراكب، ومعهم كل مالهم، وقصدوا بلاد بني حماد، فأحسنوا إليهم.
وكان عمر بن الأفطس، صاحب بطليوس، ممن أعان سير على المعتمد، فلما فتحت إشبيلية رجع ابن الأفطس إلى بلده، فسار إليه سير، وحاربه، فغلبه، وأخذ بلده منه، وأخذه أسيراً هو وولده الفضل، فقتلهما، فقال عمر حين أرادوا قتله: قدموا ولدي قبلي للقتل ليكون في صحيفتي! فقتل ولده قبله، وقتل هو بعده، واحتوى سير على ذخائرهم وأموالهم.
ولم يترك من ملوك الأندلس سوى بني هود، فإنه لم يقصد بلادهم، وهي شرق الأندلس، وكان صاحبها حينئذ المستعين بالله بن هود، وهو من الشجعان الذين يضرب المثل بهم، وكان قد أعد كل ما يحتاج إليه في الحصار، وترك عنده ما يكفيه عدة سنين بمدينة روطة، وكانت قلعة حصينة، وكانت رعيته تخافه، ولم يزل يهادي أمير المسلمين، قبل أن يقصد بلاد الأندلس ويملكها، ويواصله، ويكثر مراسلته، فرعى له ذلك، حتى إنه أوصى ابنه علي بن يوسف عند موته بترك التعرض لبلاد بني هود، وقال: اتركهم بينك وبين العدو، فإنهم شجعان.
ذكر ملك الفرنج جزيرة صقليةفي هذه السنة استولى الفرنج، لعنهم الله، على جميع جزيرة صقلية، أعادها الله تعالى إلى الإسلام والمسلمين.
وسبب ذلك أن صقلية كان الأمير عليها سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة أبا الفتوح يوسف بن عبد الله بن محمد بن أبي الحسين، ولاه عليها العزيز العلوي، صاحب مصر وإفريقية، فأصابه هذه السنة فالج، فتعطل جانبه الأيسر، وضعف جانبه الأيمن، فاستناب ابنه جعفراً، فبقي كذلك ضابطاً للبلاد، حسن السيرة في أهلها إلى سنة خمس وأربعمائة، فخالف عليه أخوه علي، وأعانه جمع من البربر والعبيد، فأخرج إليه أخوه جعفر جنداً من المدينة، فاقتتلوا سابع شعبان، وقتل من البربر والعبيد خلق كثير، وهرب من بقي منهم وأخذ علي أسيراً، فقتله أخوه جعفر، وعظم قتله على أبيه، فكان بين خروجه وقتله ثمانية أيام.
وأمر جعفر حينئذ أن ينفى كل بربري بالجزيرة، فنفوا إلى إفريقية، وأمر بقتل العبيد، فقتلوا عن آخرهم وجعل جنده كلهم من أهل صقلية. فقل العسكر بالجزيرة، وطمع أهل الجزيرة في الأمراء، فلم يمض إلا يسير حتى ثار به أهل صقلية، وأخرجوه، وخلعوه، وأرادوا قتله.
وسبب ذلك أنه ولى عليهم إنساناً صادرهم، وأخذ الأعشار من غلاتهم، واستخف بقوادهم وشيوخ البلد، وقهر جعفر إخوته، واستطال عليهم، فلم يشعر إلا وقد زحف إليه أهل البلد كبيرهم وصغيرهم، فحصروه في قصره في المحرم سنة عشر وأربعمائة، وأشرفوا على أخذه، فخرج إليهم أبوه يوسف في محفة، وكانوا له محبين، فلطف بهم ورفق، فبكوا رحمة له من مرضه، وذكروا له ما أحدث ابنه عليهم، وطلبوا أن يستعمل ابنه أحمد المعروف بالأكحل، ففعل ذلك.
وخاف يوسف على ابنه جعفر منهم، فسيره في مركب إلى مصر، وسار أبوه يوسف بعده، ومعهما من الأموال ستمائة ألف دينار وسبعون ألفاً، وكان ليوسف من الدواب ثلاثة عشر ألف حجرة، سوى البغال وغيرها، ومات بمصر وليس له إلا دابة واحدة.

ولما ولي الأكحل أخذ أمره بالحزم والاجتهاد، وجمع المقاتلة، وبث سراياه في بلاد الكفرة، فكانوا يحرقون، ويغنمون، ويسبون، ويخربون البلاد، وأطاعه جميع قلاع صقلية التي للمسلمين.
وكان للأكحل ابن اسمه جعفر كان يستنيبه إذا سافر، فخالف سيرة أبيه، ثم إن الأكحل جمع أهل صقلية وقال: أحب أن أشيلكم على الإفريقيين الذين قد شاركوكم في بلادكم، والرأي إخراجهم، فقالوا: قد صاهرناهم وصرنا شيئاً واحداً، فصرفهم. ثم أرسل إلى الإفريقيين، فقال لهم مثل ذلك، فأجابوه إلى ما أراد، فجمعهم حوله، فكان يحمي أملاكهم، ويأخذ الخراج من أملاك أهل صقلية، فسار من أهل صقلية جماعة إلى المعز ابن باديس، وشكوا إليه ما حل بهم، وقالوا: نحب أن نكون في طاعتك، وإلا سلمنا البلاد إلى الروم، وذلك سنة سبع وعشرين وأربعمائة، فسير معهم ولده عبد الله في عسكر، فدخل المدينة، وحصر الأكحل في الخلاصة. ثم اختلف أهل صقلية، وأراد بعضهم نصرة الأكحل، فقتله الذين أحضروا عبد الله بن المعز.
ثم إن الصقليين رجع بعضهم على بعض، وقالوا: أدخلتم غيركم عليكم، والله لا كانت عاقبة أمركم فيه إلى خير! فعزموا على حرب عسكر المعز، فاجتمعوا وزحفوا في المراكب إلى إفريقية، وولى أهل الجزيرة عليهم حسناً الصمصام، أخا الأكحل، فاضطربت أحوالهم، واستولى الأراذل، وانفرد كل إنسان ببلد، وأخرجوا الصمصام، فانفرد القائد عبد الله بن منكوت بمازر وطرابنش وغيرهما، وانفرد القائد علي بن نعمة، المعروف بابن الحواس، بقصريانة وجرجنت وغيرهما، وانفرد ابن الثمنة بمدينة سرقوسة، وقطانية، وتزوج بأخت ابن الحواس.
ثم إنه جرى بينها وبين زوجها كلام فأغلظ كل منهما لصاحبه، وهو سكران، فأمر ابن الثمنة بفصدها في عضديها، وتركها لتموت، فسمع ولده إبراهيم، فحضر، وأحضر الأطباء، وعالجها إلى أن عادت قوتها، ولما أصبح أبوه ندم، واعتذر إليها بالسكر، فأظهرت قبول عذره.
ثم إنها طلبت منه بعد مدة أن تزو أخاها، فأذن لها، وسير معها التحف والهدايا، فلما وصلت ذكرت لأخيها ما فعل بها، فحلف أنه لا يعيدها إليه، فأرسل ابن الثمنة يطلبها، فلم يردها إليه، فجمع ابن الثمنة عسكره، وكان قد استولى على أكثر الجزيرة، وخطب له بالمدينة، وسار، وحصر ابن الحواس بقصريانة، فخرج إليه فقاتله، فانهزم ابن الثمنة، وتبعه إلى قرب مدينتة قطانية، وعاد عنه بعد أن قتل من أصحابه فأكثر.
فلما رأى ابن الثمنة أن عساكره قد تمزقت، سولت له نفسه الانتصار بالكفار لما يريده الله تعالى، فسار إلى مدينة مالطة، وهي بيد الفرنج قد ملكوها لما خرج بردويل الفرنجي الذي تقدم ذكره سنة اثنتين وسبعين وثلاث مائة، واستوطنها الفرنج إلى الآن، وكان ملكها حينئذ رجار الفرنجي في جمع من الفرنج، فوصل إليهم ابن الثمنة وقال: أنا أملككم الجزيرة! فقالوا: إن فيها جنداً كثيراً، ولا طاقة لنا بهم، فقال: إنهم مختلفون، وأكثرهم يسمع قولي، ولا يخالفون أمري. فساروا معه في رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة، فلم يلقوا من يدافعهم، فاستولوا على ما مروا به في طريقهم، وقصد بهم إلى قصريانة فحصروها، فخرج إليهم ابن الحواس، فقاتلهم، فهزمه الفرنج، فرجع إلى الحصن، فرحلوا عنه، وساروا في الجزيرة، واستولوا على مواضع كثيرة، وفارقها كثير من أهلها من العلماء والصالحين، وسار جماعة من أهل صقلية إلى المعز بن باديس، وذكروا له ما الناس فيه بالجزيرة من الخلف، وغلبة الفرنج على كثير منها، فعمر أسطولاً كبيراً، وشحنه بالرجال والعدد، وكان الزمان شتاء، فساروا إلى قوصرة، فهاج عليهم البحر، فغرق أكثرهم، ولم ينج إلا القليل.
وكان ذهاب هذا الأسطول مما أضعف المعز، وقوى عليه العرب، حتى أخذوا البلاد منه.
فملك حينئذ الفرنج أكثر البلاد على مهل وتؤدة، لا يمنعهم أحد، واشتغل صاحب إفريقية بما دهمه من العرب، ومات المعز سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وولي ابنه تميم، فبعث أيضاً أسطولاً وعسكراً إلى الجزيرة، وقدم عليه ولديه أيوب وعلياً، فوصلوا لى صقلية، فنزل أيوب والعسكر المدينة، ونزل علي جرجنت، ثم انتقل أيوب إلى جرجنت، فأمر علي بن الحواسأن ينزل في قصره، وأرسل هدية كثيرة.

فلما أقام أيوب فيها أحبه أهلها، فحسده ابن الحواس، فكتب إليهم ليخرجوه، فلم يفعلوا، فسار إليه في عسكره، وقاتله، فشد أهل جرجنت من أيوب، وقاتلوا معه، فبينما ابن الحواس يقاتل أتاه سهم غرب فقتله، فملك العسكر عليهم أيوب.
ثم وقع بعد ذلك بين أهل المدينة وبين عبيد تميم فتنة أدت إلى القتال، ثم زاد الشر بينهم، فاجتمع أيوب وعلي أخوه، ورجعا في الأسطول إلى إفريقية سنة إحدى وستين، وصحبهم جماعة من أعيان صقلية والأسطولية، ولم يبق للفرنج ممانع، فاستولوا على الجزيرة، ولم يثبت بين أيديهم غير قصريانة وجرجنت، فحصرهما الفرنج، وضيقوا على المسلمين بهما، فضاق الأمر على أهلهما حتى أكلوا الميتة، ولم يبق عندهم ما يأكلونه. فأما جرجنت فسلموها إلى الفرنج، وبقيت قصريانة بعدها ثلاث سنين، فلما اشتد الأمر عليهم أذعنوا إلى التسليم، فتسلمها الفرنج، لعنهم الله، سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وملك رجار جميع الجزيرة وأسكنها الروم والفرنج مع المسلمين، ولم يترك لأحد من أهلها حماماً، ولا دكاناً، ولا طاحوناً.
ومات رجار، بعد ذلك، قبل التسعين والأربعمائة، وملك بعده ولده رجار، فسلك طريق ملوك المسلمين من الجنائب والحجاب، والسلاحية، والجاندارية، وغير ذلك، وخالف عادة الفرنج، فإنهم لا يعرفون شيئاً منه، وجعل له ديوان المظالم ترفع إليه شكوى المظلومين، فينصفهم ولو من ولده، وأكرم المسلمين، وقربهم ومنع عنهم الفرنج، فأحبوه، وعمر أسطولاً كبيراً، وملك الجزائر التي بين المهدية وصقلية، مثل مالطة، وقوصرة، وجربة، وقرقنة، وتطاول إلى سواحل إفريقية، فكان منه ما نذكره إن شاء الله.
ذكر وصول السلطان إلى بغدادفي هذه السنة، في شهر رمضان، وصل السلطان إلى بغداد، وهي المرة الثانية، ونزل بدار المملكة، ونزل أصحابه متفرقين، ووصل إليه أخوه تاج الدولة تتش، وقسيم الدولة آقسنقر، صاحب حلب، وغيرهما من زعماء الأطراف، وعمل الميلاد ببغداد، وتأنقوا في عمله، فذكر الناس أنهم لم يروا ببغداد مثله أبداً، وأكثر الشعراء وصف تلك الليلة، فممن قال المطرز:
وكل نار على العشاق مضرمة ... من نار قلبي، أو من ليلة السذق
نار تجلت بها الظلماء، واشتبهت ... بسدفة الليل فيه غرة الفلق
وزارت الشمس فيها البدر واصطلحا ... على الكواكب بعد الغيظ والحنق
مدت على الأرض بسطاً من جواهرها ... ما بين مجتمع مار ومفترق
مثل المصابيح إلا أنها نزلت ... من السماء بلا رجم ولا حرق
أعجب بنار ورضوان يسعرها ... ومالك قائم منها على فرق
في مجلس ضحكت روض الجنان له ... لما جلا ثغره عن واضح يقق
وللشموع عيون كلما نظرت ... تظلمت من يديها أنجم الغسق
من كل مرهفة الأعطاف كالغصن ... المياد، لكنه عار من الورق
إني لأعجب منها، وهي وادعة ... تبكي، وعيشتها من ضربة العنق
وفي هذه المرة أمر بعمارة جامع السلطان، فابتديء في عمارته في المحرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة، وعمل قبلته بهرام منجمه، وجماعة من أصحاب الرصد، وابتدأ بعده نظام الملك، وتاج الملوك، والأمراء الكبار بعمل دور لهم يسكنونها إذا قدموا بغداد، فلم تطل مدتهم بعدها، وتفرق شملهم بالموت، والقتل، وغير ذلك في باقي سنتهم، ولم تغن عنهم عساكرهم وما جمعوا شيئاً، فسبحان الدائم الذي لا يزول أمره.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة وصل ابن أبي هاشم من مكة مستغيثاً من التركمان.
وفي آخرها مرض نظام الملك ببغداد، فعالج نفسه بالصدقة، فكان يجتمع بمدرسته من الفقراء والمساكين من لا يحصى، وتصدق عنه الأعيان، والأمراء من عسكر السلطان، فعوفي، وأرسل له الخليفة خلعاً نفيسة.
وفيها، في تاسع شعبان، كان بالشام، وكثير من البلاد، زلازل كثيرة، وكان أكثرها بالشام، ففارق الناس مساكنهم، وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن، وهلك تحتها عالم كثير، وخرب من سورها تسعون برجاً، فأمر السلطان ملكشاه بعمارتها.

وفيها، في شوال، توفي أبو طاهر عبد الرحمن بن محمد بن علك الفقيه الشافعي، وهو من رؤساء الفقهاء الشافعية، وهو الذي تقدم ذكره في فتح سمرقند، ومشى أرباب الدولة السلطانية كلهم في جنازته، إلا نظام الملك، فإنه اعتذر بعلو السن، وأكثر البكاء عليه، ودفن عند الشيخ أبي إسحاق بباب ابرز، وزار السلطان قبره.
وتفوي محمد بن عبد الله بن الحسين أبو بكر الناصح الحنفي، قاضي الري، وكان من أعيان الفقهاء الحنفية يميل إلى الاعتزال، وكان موته في رجب.
وفيها في شعبان توفي أبو الحسن علي بن الحسين بن طاووس المقري بمدينة صور.
ثم دخلت سنة خمس وثمانين وأربعمائة

ذكر الحرب بين المسلمين والفرنج بجيان
في هذه السنة جمع أذفونش عساكره، وجموعه، وغزا بلاد جيان من الأندلس، فلقيه المسلمون وقاتلوه، واشتدت الحرب، فكانت الهزيمة أولاً على المسلمين، إن الله تعالى رد لهم الكرة على الفرنج، فهزموهم، وأكثروا القتل فيهم، ولم ينج إلا الأذفونش في نفر يسير، وكانت هذه الوقعة من أشهر الوقائع، بعد الزلاقة، وأكثر الشعراء ذكرها في أشعارهم.
ذكر استيلاء تتش على حمص وغيرها من ساحل الشاملما كان السلطان ببغداد قدم إليه أخوه تاج الدولة تتش من دمشق، وقسيم الدولة آقسنقر من حلب، وبوزان من الرها، فلما أذن لهم السلطان في العود إلى بلادهم أمر قسيم الدولة وبوزان أن يسيرا مع عساكرهما في خدمة أخيه تاج الدولة، حتى يستولي على ما للخليفة المستنصر العلوي، بساحل الشام، من البلاد، ويسير، وهم معه، إلى مصر ليملكها.
فساروا أجمعون إلى الشام، ونزل على حمص، وبها ابن ملاعب صاحبها، وكان الضرر به وبأولاده عظيماً على المسلمين، فحصروا البلد، وضيقوا على من به، فملكه تاج الدولة، وأخذ ابن ملاعب وولديه، وسار إلى قلعة عرقة فملكها عنوة، وسار إلى قلعة أفامية فملكها أيضاً، وكان بها خادم للمصري، فنزل بالأمان فأمنه، ثم سار إلى طرابلس فنازلها، فرأى صاحبها جلال الملك ابن عمار جيشاً لا يدفع إلا بحيلة، فأرسل إلى الأمراء الذين مع تاج الدولة، وأطمعهم ليصلحوا حاله، فلم ير فيهم مطمعاً.
وكان مع قسيم الدولة آقسنقر وزير له اسمه زرين كمر، فراسله ابن عمار فرأى عنده ليناً، فأتحفه وأعطاه، فسعى مع صاحبها قسيم الدولة في إصلاح حاله ليدفع عنه، وحمل له ثلاثين ألف دينار، وتحفاً بمثلها، وعرض عليه المناشير التي بيده من السلطان بالبلد، والتقدم إلى النواب بتلك البلاد بمساعدته، والشد بيده، فأغلظ له تاج الدولة، وقال: هل أنت تابع لي؟ فقال آقسنقر: أنا أتابعك إلا في معصية السلطان، ورحل من الغد عن موضعه، فاضطر تاج الدولة إلى الرحيل، فرحل غضبان، وعاد بوزان أيضاً إلى بلاده، فانتقض هذا الأمر.
ذكر ملك السلطان اليمنوكان ممن حضر أيضاً عند السلطان ببغداد جبق أمير التركمان، وهو صاحب قرميسين وغيرها، فأمره السلطان أن يسير هو ومعه جماعة من أمراء السلطان ذكرهم، إلى الحجاز واليمن، ويكون أمرهم إلى سعد الدولة كوهرائين، ليفتحوا البلاد هناك، فاستعمل عليهم سعد الدولة أميراً اسمه ترشك، فساروا حتى وردوا اليمن، فاستولوا عليها، وأساءوا السيرة في أهلها، ولم يتركوا فاحشة ولا سيئة إلا ارتكبوها، وملكوا عدن، وظهر على ترشك الجدري، فتوفي في سابع يوم من وصوله إليها، وكان عمره سبعين سنة، فعاد أصحابه إلى بغداد، وحملوه، فدفنوه عند قبر أبي حنيفة، رحمة الله عليه.
ذكر مقتل نظام الملكفي هذه السنة، عاشر رمضان، قتل نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الوزير بالقرب من نهاوند، وكان هو والسلطان في أصبهان، وقد عاد إلى بغداد، فلما كان بهذا المكان، بعد أن فرغ من إفطاره، وخرج في محفته إلى خيمة حرمه، أتاه صبي ديلمي من الباطنية، في صورة مستميح، أو مستغيث، فضربه بسكين كانت معه، فقضى عليه وهرب، فعثر بطنب خيمة، فأدركوه فقتلوه، وركب السلطان إلى خيمه، فسكن عسكره وأصحابه.
وبقي وزير السلطان ثلاثين سنة سوى ما وزر للسلطان ألب أرسلان، صاحب خراسان، أيام عمه طغرلبك، قبل أن يتولى السلطنة، وكان علت سنه، فإنه كان مولده سنة ثمان وأربعمائة.

وكان سبب قتله أن عثمان بن جمال الملك بن نظام الملك كان قد ولاه جده نظام الملك رئاسة مرو، وأرسل السلطان إليها شحنة يقال له قودن، وهو من أكبر مماليكه، ومن أعظم الأمراء في دولته، فجرى بينه وبين عثمان منازعة في شيء، فحملت عثمان حداثة سنه، وتمكنه، وطمعه بجده، على أن قبض عليه، وأخرق به، ثم أطلقه، فقصد السلطان مستغيثاً شاكياً، فأرسل السلطان إلى نظام الملك رسالة مع تاج الدولة ومجد الملك البلاساني وغيرهما من أرباب دولته يقول له: إن كنت شريكي في الملك، ويدك مع يدي في السلطنة، فلذلك حكم، وإن كنت نائبي، وبحكمي، فيجب أن تلزم حد التبعية والنيابة، وهؤلاء أولادك قد استولى كل واحد منهم على كورة عظيمة، وولي ولاية كبيرة، ولم يقنعهم ذلك، حتى تجاوزوا أمر السياسة وطمعوا إلى أن فعلوا كذا وكذا، وأطال القول، وأرسل معهم الأمير يلبرد، وكان من خواصه وثقاته، وقال له: تعرفني ما يقول، فربما كتم هؤلاء شيئاً.
فحضروا عند نظام الملك وأوردوا عليه الرسالة، فقال لهم: قولوا للسلطان إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حين قتل أبوه فقمت بتدبير أمره، وقمعت الخوارج عليه من أهله، وغيرهم، منهم: فلان وفلان، وذكر جماعة من خرج عليه، وهو ذلك الوقت يتمسك بي ويلزمني، ولا يخالفني، فلما قدت الأمور إليه، وجمعت الكلمة عليه، وفتحت له الأمصار القريبة والبعيدة، وأطاعه القاصي والداني، أقبل يتجنى لي الذنوب، ويسمع في السعايات؟ قولوا له عني: إن ثبات تلك القلنسوة معذوق بهذه الدواة، وإن اتفاقهما رباط كل رغيبة وسبب كل غنيمة، ومتى أطبقت هذه زالت تلك، فإن عزم على تغيير فليتزود للاحتياط قبل وقوعه، وليأخذ الحذر من الحادث أمام طروقه، وأطال فيما هذا سبيله، ثم قال لهم: قولوا للسلطان عني مهما أردتم، فقد أهمني ما لحقني من توبيخه وفت في عضدي.
فلما خرجوا من عنده اتفقوا على كتمان ما جرى عن السلطان، وأن يقولوا له ما مضمونه العبودية والتنصل، ومضوا إلى منازلهم، وكان الليل قد انتصف، ومضى يلبرد إلى السلطان فأعلمه ما جرى، وبكر الجماعة إلى السلطان، وهو ينتظرهم، فقالوا له من الاعتذار والعبودية ما كانوا اتفقوا عليه، فقال لهم السلطان: إنه لم يقل هذا، وإنما قال كيت وكيت، فأشاروا حينئذ بكتمان ذلك رعاية لحق نظام الملك، وسابقته، فوقع التدبير عليه، حتى تم عليه من القتل ما تم. ومات السلطان بعده بخمسة وثلاثين يوماً، وانحلت الدولة، ووقع السيف، وكان قول نظام الملك شبه الكرامة له، وأكثر الشعراء مراثيه، فمن جيد ما قيل فيه قول شبل الدولة مقاتل بن عطية:
كان الوزير نظام الملك لؤلؤة ... يتيمة صاغها الرحمن من شرف
عزت، فلم تعرف الأيام قيمتها ... فردها، غيرة منه، إلى الصدف
ورأى بعضهم نظام الملك بعد قتله في المنام، فسأله عن حاله، فقال: كان يعرض علي جميع عملي لولا الحديدة التي أصبت بها، يعني القتل.
ذكر ابتداء حاله وشيء من أخبارهأما ابتداء حاله، فكان من أبناء الدهاقين بطوس، فزال ما كان لأبيه من مال، وملك، وتوفيت أمه وهو رضيع، فكان أبوه يطوف به على المرضعات فيرضعنه حسبة، حتى شب، وتعلم العربية، وسر الله فيه يدعوه إلى علو الهمة، والاشتغال بالعلم، فتفقه، وصار فاضلاً، وسمع الحديث الكثير، ثم اشتغل بالأعمال السلطانية، ولم يزل الدهر يعلو به ويخفض حضراً وسفراً.
وكان يطوف بلاد خراسان، ووصل إلى غزنة في صحبة بعض المتصرفين، ثم لزم أبا علي بن شاذان متولي الأمور ببلخ لداود والد السلطان ألب أرسلان، فحسنت حاله معه، وظهرت كفايته وأمانته، وصار معروفاً عندهم بذلك، فلما حضرت أبا علي بن شاذان الوفاة أوصى الملك ألب أرسلان به، وعرفه حاله، فولاه شغله، ثم صار وزيراً له إلى أن ولي السلطنة بعد عمه طغرلبك، واستمر على الوزارة لأنه ظهرت منه كفاية عظيمة، وآراء سديدة قادت السلطنة إلى ألب أرسلان، فلما توفي ألب أرسلان قام بأمر ابنه ملكشاه، وقد تقدم ذكر هذه الجمل مستوفى مشروحاً.

وقيل إن ابتداء أمره أنه كان يكتب للأمير تاجر، صاحب بلخ، وكان الأمير يصادره في رأس كل سنة، ويأخذ ما معه، ويقول له: قد سمنت يا حسن! ويدفع إليه فرساً ومقرعة ويقول: هذا يكفيك، فلما طال ذلك عليه أخفى ولديه فخر الملك، ومؤيد الملك، وهرب إلى جغري بك داود، والد ألب أرسلان، فوقف فرسه في الطريق، فقال: اللهم إني أسألك فرساً تخلصني عليه! فسار غير بعيد، فلقيه تركماني وتحته فرس جواد، فقال لنظام الملك: انزل عن فرسك، فنزل عنه، فأخذه التركماني وأعطاه فرسه، فركبه وقال له: لا تنسني يا حسن. قال نظام الملك: فقويت نفسي بذلك، وعملت أنه ابتداء سعادة. فسار نظام الملك إلى مرو، ودخل على داود، فلما رآه أخذ بيده، وسلمه إلى والده ألب أرسلان، وقال له: هذا حسن الطوسي، فتسلمه، واتخذه والداً ولا تخالفه.
وكان الأمير تاجر لما سمع بهرب نظام الملك سار في أثره إلى مرو، فقال لداود: هذا كاتبي ونائبي قد أخذ أموالي، فقال له داود: حديثك مع محمد، يعني ألب أرسلان، فكان اسمه محمد، فلم يتجاسر تاجر على خطابه، فتركه وعاد.
وأما أخباره، فإنه كان عالماً، ديناً، جواداً، عادلاً، حليماً، كثير الصفح عن المذنبين طويل الصمت، كان مجلسه عامراً بالقراء، والفقهاء، وأئمة المسلمين، وأهل الخير والصلاح، أمر ببناء المدارس في سائر الأمصار والبلاد، وأجرى لها الجرايات العظيمة، وأملى الحديث بالبلاد: ببغداد وخراسان وغيرهما، وكان يقول: إني لست من أهل هذا الشأن، لما تولاه، ولكني أحب أن أجعل نفسي على قطار نقلة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان إذا سمع المؤذن أمسك عن كل ما هو فيه وتجنبه، فإذا فرغ لا يبدأ بشيء قبل الصلاة، وكان، إذا غفل المؤذن ودخل الوقت يأمره بالأذان، وهذا غاية حال المنقطعين إلى العبادة في حفظ الأوقات، ولزوم الصلوات.
وأسقط المكوس والضرائب، وأزال لعن الأشعرية من المنابر، وكان الوزير عميد الملك الكندري قد حسن للسلطان طغرلبك التقدم بلعن الرافضة، فأمره بذلك، فأضاف إليهم الأشعرية، ولعن الجميع، فلهذا فارق كثير من الأئمة بلادهم، مثل إمام الحرمين، وأبي القاسم القشيري، وغيرهما، فلما ولي ألب أرسلان السلطنة أسقط نظام الملك ذلك جميعه، وأعاد العلماء إلى أوطانهم.
وكان نظام الملك إذا دخل عليه الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، يقوم لهما، ويجلس في مسنده، كما هو، وإذا دخل أبو علي الفارمذي يقوم إليه، ويجلسه في مكانه، ويجلس هو بين يديه، فقيل له في ذلك، فقال: إن هذين وأمثالهما إذ دخلوا علي يقولون لي: أنت كذا وكذا، يثنون علي بما ليس في، فيزيدني كلامهم عجباً وتيهاً، وهذا الشيخ يذكر لي عيوب نفسي، وما أنا فيه من الظلم، فتنكسر نفسي لذلك، وأرجع عن كثير مما أنا فيه.
وقال نظام الملك: كنت أتمنى أن يكون لي قرية خالصة، ومسجد أتفرد فيه لعبادة ربي، ثم بعد ذلك تمنيت أن يكون لي قطعة أرض أتقوت بريعها، ومسجد أعبد الله فيه، وأما الآن فأنا أتمنى أن يكون لي رغيف كل يوم، ومسجد أعبد الله فيه.
وقيل: كان ليلة يأكل الطعام، وبجانبه أخوه أبو القاسم، وبالجانب الآخر عميد خراسان، وإلى جانب العميد إنسان فقير، مقطوع اليد، فنظر نظام الملك، فرأى العميد يتجنب الأكل مع المقطوع، فأمره بالانتقال إلى الجانب الآخر، وقرب المقطوع إليه فأكل معه.
وكانت عادته أن يحضر الفقراء طعامه، ويقربهم إليه، ويدنيهم. وأخباره مشهورة كثيرة، قد جمعت لها المجاميع السائرة في البلاد.
ذكر وفاة السلطان وذكر بعض سيرتهسار السلطان ملكشاه، بعد قتل نظام الملك، إلى بغداد، ودخلها في الرابع والعشرين من شهر رمضان، ولقيه وزير الخليفة عميد الدولة بن جهير، وظهرت من تاج الملك كفاية عظيمة، وكان السلطان قد أمر أن تفصل خلع الوزارة لتاج الملك، وكان هو الذي سعى بنظام الملك، فلما فرغ من الخلع، ولم يبق غير لبسها والجلوس في الدست، اتفق أن السلطان خرج إلى الصيد، وعاد ثالث شوال مريضاً، وأنشب الموت أظفاره فيه، ولم يمنع عنه سعة ملكه، وكثرة عساكره.
وكان سبب مرضه أنه أكل لحم صيد فحم وافتصد، ولم يستوف إخراج الدم، فثقل مرضه، وكانت حمى محرقة، فتوفي ليلة الجمعة، النصف من شوال.

ولما ثقل نقل أرباب دولته أموالهم إلى حريم دار الخلافة، ولما توفي سترت زوجته تركان خاتون المعروفة بخاتون الجلالية موته وكتمته، وأعادت جعفر ابن الخليفة من ابنة السلطان إلى أبيه المقتدي بأمر الله، وسارت من بغداد والسلطان معها محمولاً، وبذلت الأموال للأمراء سراً، واستحلفتهم لابنها محمود، وكان تاج الملك يتولى ذلك لها، وأرسلت قوام الدولة كربوقا الذي صار صاحب الموصل إلى أصبهان بخاتم السلطان، فاستنزل مستحفظ القلعة، وتسلمها، وأظهر أن السلطان أمره بذلك، ولم يسمع بسلطان مثله لم يصل عليه أحد، ولم يلطم عليه وجه.
وكان مولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان من أحسن الناس صورة ومعنى، وخطب له من حدود الصين إلى آخر الشام، ومن أقاصي بلاد الإسلام في الشمال إلى آخر بلاد اليمن، وحمل إليه ملوك الروم الجزية، ولم يفته مطلب، وانقضت أيامه على أمن عام، وسكون شامل، وعدل مطرد.
ومن أفعاله أنه لما خرج عليه أخوه تكش بخراسان اجتاز بمشهد علي بن موسى الرضا بطوس، فزاره، فلما خرج قال لنظام الملك: بأي شيء دعوت؟ قال: دعوت الله أن ينصرك، فقال: أما أنا فلم أدع بهذا بل قلت: اللهم انصر أصلحنا للمسلمين، وأنفعنا للرعية.
وحكي عنه أن سوادياً لقيه وهو يبكي، فاستغاث به، وقال: كنت ابتعت بطيخاً بدريهمات لا أملك سواها، فغلبني عليه ثلاثة نفر من الأتراك، فأخذوه مني. فقال السلطان له: اقعد! ثم أحضر فراشاً وقال: قد اشتهيت بطيخاً، وكان ذلك عند أول استوائه، وأمره بطلبه من العسكر، فغاب ثم عاد ومعه البطيخ، فأمره بإحضار من وجده عنده، فأحضره، فسأله السلطان من أين له ذلك البطيخ؟ فقال غلماني جاؤوني به، فأمر أن يجيء بهم إليه، فمضى، وأمرهم بالهرب، وعاد فقال: لم أجدهم، فقال للسوادي: خذ مملوكي هذا فقد وهبته لك عوضاً عن بطيخك، ويحضر الذين أخذوه، والله لئن أطلقته لأضربن عنقك. فأخذه السوادي، فاشترى الغلام نفسه منه بثلاثمائة دينار، فعاد السوادي إلى الس، وقال: قد بعته نفسه بثلاثمائة دينار، فقال: أرضيت بذلك؟ قال: نعم! قال: امض مصاحباً.
وقال عبد السميع بن داود العباسي: شاهدت ملكشاه وقد أتاه رجلان من أرض العراق السفلى، من قرية الحدادية، يعرفان بابني غزال، فلقياه، فوقف لهما، فقالا: إن مقطعنا الأمير خماراتكين قد صادرنا بألف وستمائة دينار، وقد كسر ثنيتي أحدنا، وأراهما الس، وقد قصدناك لتقتص لنا منه، فإن أخذت بحقنا كما أوجب الله عليك، وإلا فالله يحكم بيننا.
قال فرأيت السلطان وقد نزل عن دابته وقال: ليمسك كل واحد منكما بطرف كمي، واسحباني إلى خواجه حسن، يعني نظام الملك، فامتنعا من ذلك، واعتذرا، وأقسم عليهما إلا فعلا، فأخذ كل واحد منهما بكم من كميه ومشى معهما إلى نظام الملك، فبلغه الخبر، فخرج مسرعاً فلقيه وقبل الأرض، وقال: يا سلطان العالم! ما حملك على هذا؟ فقال: كيف يكون حالي غداً عند الله إذا طولبت بحقوق المسلمين، وقد قلدتك هذا الأمر لتكفيني مثل هذا الموقف، فإن نال الرعية أذى فأنت المطالب، فانظر لي ولنفسك.
فقبل الأرض، ومشى في خدمته، وعاد من وقته، وكتب بعزل الأمير خمارتكين عن إقطاعه، ورد المال عليهما، وأعطاهما مائة دينار من عنده، وأمرهما بإثبات البينة أنه قلع ثنيتيه ليقلع ثنيتيه عوضهما، فرضيا وانصرفا.
وقيل إنه ورد بغداد ثلاث دفعات، فخافه الناس من غلاء الأسعار، وتعدي الجند، فكانت الأسعار أرخص منها قبل قدومه، وكان الناس يخترقون عساكره ليلاً ونهاراً، فلا يخافون أحداً، ولم يتعد عليهم أحد، وأسقط المكوس والمؤن من جميع البلاد، وعمر الطرق، والقناطر، والربط التي في المفاوز، وحفر الأنهار الخراب، وعمر الجامع ببغداد، وعمل المصانع بطريق مكة، وبنى البلد بأصبهان، وبنى منارة القرون بالسبيعي بطريق مكة، وبنى مثلها بما وراء النهر، واصطاد مرة صيداً كثيراً، فأمره بعده، فكان عشرة آلاف رأس، فأمر بصدقة عشرة آلاف دينار، وقال: إنني خائف من الله تعالى كيف أزهقت أرواح هذه الحيوانات بغير ضرورة ولا مأكلة، وفرق من الثياب والأموال بين أصحابه ما لا يحصى، وصار بعد ذلك كلما صاد شيئاً تصدق بعدده دنانير، وهذا فعل من يحاسب نفسه على حركاته وسكناته، وقد أكثر الشعراء مراثيه أيضاً.

وقيل إن بعض أمراء السلطان كان نازلاً بهراة مع بعض العلماء اسمه عبد الرحمن في داره، فقال يوماً ذلك الأمير للسلطان، وهو سكران: إن عبد الرحمن يشرب الخمر، ويعبد الأصنام من دون الله تعالى، ويحلل الحرام، فلم يجبه ملكشاه، فلما كان الغد صحا ذلك الأمير، فأخذ السلطان السيف، وقال له: اصدقني عن فلان، وإلا قتلتك! فطلب منه الأمان، فأمنه، فقال: إن عبد الرحمن له دار حسناء، وزوجة جميلة، فأردت أن تقتله فأفوز بداره وزوجته، فأبعده السلطان، وشكر الله تعالى على التوقف عن قبول سعايته، وتصدق بأموال جليلة المقدار.
ذكر ملك ابنه الملك محمود

وما كان من حال ابنه الأكبر بركيارق إلى أن ملك
لما مات السلطان ملكشاه كتمت زوجته تركان خاتون موته، كما ذكرناه، وأرسلت إلى الأمراء سراً فأرضتهم، واستحلفتهم لولدها محمود، وعمره أربع سنين وشهور، وأرسلت إلى الخليفة المقتدي في الخطبة لولدها أيضاً، فأجابها، وشرط أن يكون اسم السلطنة لولدها، والخطبة له، ويكون المدبر لزعامة الجيوش، ورعاية البلد، هو الأمير أنر، ويصدر عن رأي تاج الملك، ويكون ترتيب العمال، وجباية الأموال إلى تاج الملك أيضاً، وكان تاج الملك هو الذي يدبر الأمر بين يدي خاتون.
فلما جاءت رسالة الخليفة إلى خاتون بذلك امتنعت من قبوله، فقيل لها: إن ولدك صغير، ولا يجيز الشرع ولايته، وكان المخاطب لها في ذلك الغزالي، فأذعنت له، وأجابت إليه، فخطب لولدها، ولقب ناصر الدنيا والدين، وكانت الخطبة يوم الجمعة الثاني والعشرين من شوال من السنة، وخطب له بالحرمين الشريفين.
ولما مات السلطان ملكشاه أرسلت تركان خاتون إلى أصبهان في القبض على بركيارق ابن السلطان، وهو أكبر أولاده، خافته أن ينازع ولدها في السلطنة، فقبض عليه، فلما ظهر موت ملكشاه وثب المماليك النظامية على سلاح كان لنظام الملك بأصبهان، فأخذوه وثاروا في البلد، وأخرجوا بركيارق من الحبس، وخطبوا له بأصبهان وملكوه، وكانت والدة بركيارق زبيدة ابنة ياقوتي بن داود، وهي ابنة عم ملكشاه، خائفة على ولدها من خاتون أم محمود، فأتاها الفرج بالمماليك النظامية.
وسارت تركان خاتون من بغداد إلى أصبهان، فطالب العسكر تاج الملك بالأموال، فوعدهم، فلما وصلوا إلى قلعة برجين صعد إليها لينزل الأموال منها، فلما استقر فيها عصى على خاتون، ولم ينزل خوفاً من العسكر، فساروا عنه، ونهبوا خزائنه، فلم يجدوا بها شيئاً، فإنه كان قد علم ما جرى، فاستظهر وأخفاه.
ولما وصلت تركان خاتون إلى أصبهان لحقها تاج الملك، واعتذر بأن مستحفظ القلعة حبسه، وأنه هرب منه إليها، فقبلت عذره.
وأما بركيارق فإنه لما قاربت خاتون وابنها محمود أصبهان خرج منها هو ومن معه من النظامية، وساروا نحو الري، فلقيهم أرغش النظامي في عساكره، ومعه جماعة من الأمراء، وصاروا يداً واحدة، وإنما حمل النظامية على الميل إلى بركيارق كراهتهم لتاج الملك لأنه عدو نظام الملك، والمتهم بقتله، فلما اجتمعوا حصروا قلعة طبرك وأخذوها عنوة، فسيرت خاتون العساكر إلى قتال بركيارق، فالتقى العسكران بالقرب من بروجرد، فانحاز جماعة من الأمراء الذين في عسكر خاتون إلى بركيارق، منهم: الأمير يلبرد، وكمشتكين الجاندار، وغيرهما، فقوي بهم، وجرت الحرب بينهم أواخر ذي الحجة، واشتد القتال، فانهزم عسكر خاتون وعادوا إلى أصبهان، وسار بركيارق في أثرهم فحصرهم بأصبهان.
ذكر قتل تاج الملككان تاج الملك مع عسكر خاتون، وشهد الوقعة، فهرب إلى نواحي بروجرد، فأخذ وحمل إلى عسكر بركيارق، وهو يحاصر أصبهان، وكان يعرف كفايته، فأراد أن يستوزره، فشرع تاج الملك في إصلاح كبار النظامية، وفرق فيهم مائتي ألف دينار سوى العروض، فزال ما في قلوبهم.
فلما بلغ عثمان نائب نظام الملك الخبر ساءه، فوضع الغلمان الأصاغر على الاستغاثة، وأن لا يقنعوا إلا بقتل قاتل صاحبهم، ففعلوا، فانفسخ ما دبره تاج الملك، وهجم النظامية عليه فقتلوه، وفصلوا أجزاء، وكان قتله في المحرم سنة ست وثمانين، وحملت إلى بغداد إحدى أصابعه.

وكان كثير الفضائل، جم المناقب، وإنما غطى محاسنه ممالأته على قتل نظام الملك، وهو الذي بنى تربة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وعمل المدرسة التي إلى جانبها، ورتب بها الشيخ أبا بكر الشاسي، وكان عمره حين قتل سبعاً وأربعين سنة.
؟؟

ذكر ما فعله العرب بالحجاج والكوفة
سار الحجاج هذه السنة من بغداد، فقدموا الكوفة، ورحلوا منها، فخرجت عليهم خفاجة، وقد طمعوا بموت السلطان، وبعد العسكر، فأوقعوا بهم، وقتلوا أكثر الجند الذين معهم، وانهزم باقيهم، ونهبوا الحجاج، وقصدوا الكوفة فدخلوها، وأغاروا عليها، وقتلوا في أهلها، فرماهم الناس بالنشاب، فخرجوا بعد أن نهبوا، وأخذوا ثياب من لقوه من الرجال والنساء، وفصل الخبر إلى بغداد، فسيرت العساكر منها، فلما سمع بنو خفاجة انهزموا، فأدركهم العسكر، فقتل منهم خلق كثير، ونهبت أموالهم، وضعفت خفاجة بعد هذه الوقعة.
ذكر عدة حوادثفيها، في ربيع الأول، عاد السلطان من بغداد إلى أصبهان، وأخذ معه الأمير أبا الفضل جعفر ابن الخليفة المقتدي بأمر الله من ابنة السلطان، وتفرق الأمراء إلى بلادهم، ثم عاد إلى بغداد، فتوفي كما ذكرناه.
وفيها، في جمادى الأولى، احترق نهر المعلى، فاحترق عقد الحديد إلى خربة الهراس، إلى باب دار الضرب، واحترق سوق الصاغة والصيارف، والمخلطين، والريحانيين، وكان الحريق من الظهر إلى العصر، فاحترق منها الأمر العظيم في الزمان القليل، واحترق من الناس خلق كثير، ثم ركب عميد الدولة بن جهير، وزير الخليفة، وجمع السقائين، ولم يزل راكباً حتى طفئت النار.
وفي هذه السنة توفي عبد الباقي بن محمد بن الحسين بن ناقيا الشاعر البغدادي، سمع الحديث، وكان يتهم بأنه يطعن على الشرائع، فلما مات كانت يده مقبوضة، فلم يطق الغاسل فتحها، فبعد جهد فتحت فإذا فيها مكتوب:
نزلت بجار لا يخيب ضيفه، ... أرجي نجاتي من عذاب جهنم
وإني على خوفي من الله واثق ... بإنعامه، والله أكرم منعم
وفيها توفي هبة الله بن عبد الوارث بن علي بن أحمد أبو القاسم الشيرازي الحافظ، أحد الرحالين في طلب الحديث شرقاً وغرباً، وقدم الموصل من العراق، وهو الذي أظهر سماع الجعديات لأبي محمد الصريفيني، ولم يكن يعرف ذلك.
ثم دخلت سنة ست وثمانين وأربعمائة
ذكر وزارة ابن نظام الملك لبركيارق
كان عز الملك أبو عبد الله الحسين بن نظام الملك مقيماً بخوارزم، حاكماً فيها وفي كل ما يتعلق بها، إليه المرجع في كل أمورها السلطانية، فلما كان قبل أن يقتل أبوه حضر عنده خدمة له وللسلطان، فقتل أبوه، ومات السلطان، فأقام بأصبهان إلى الآن.
فلما حصرها بركيارق، وكان أكثر عسكره النظامية، خرج من أصبهان هو وغيره من إخوته، فلما اتصل ببركيارق احترمه، وأكرمه، وفوض أمور دولته إليه، وجعله وزيراً له.
ذكر حال تتش بن ألب أرسلانكان تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق وما جاورها من بلاد الشام، فلما كان قبل موت أخيه السلطان ملكشاه، سار من دمشق إليه ببغداد، فلما كان بهيت بلغه موته، فأخذ هيت، واستولى عليها، وعاد إلى دمشق يتجهز لطلب السلطنة، فجمع العساكر، وأخرج الأموال وسار نحو حلب، وبها قسيم الدولة آقسنقر، فرأى قسيم الدولة اختلاف أولاد صاحبه ملكشاه، وصغرهم، فعلم أنه لا يطيق دفع تتش، فصالحه، وصار معه، وأرسل إلى باغي سيان، صاحب أنطاكية، وإلى بوزان، صاحب الرها وحران، يشير عليهما بطاعة تاج الدولة تتش حتى يروا ما يكون من أولاد ملكشاه، ففعلوا، وصاروا معه، وخطبوا له في بلادهم، وقصدوا الرحبة، فحصروها، وملكوها في المحرم من هذه السنة، وخطب لنفسه بالسلطنة.
ثم ساروا إلى نصيبين، فحصروها، فسب أهلها تاج الدولة، ففتحها عنوة وقهراً، وقتل من أهلها خلقاً كثيراً، ونهبت الأموال، وفعل فيها الأفعال القبيحة، ثم سلمها إلى الأمير محمد بن شرف الدولة العقيلي، وسار يريد الموصل، وأتاه الكافي بن فخر الدولة بن جهير، وكان في جزيرة ابن عمر، فأكرمه، واستوزره.
ذكر وقعة المضيع وأخذ الموصل من العرب

كان إبراهيم بن قريش بن بدران، أمير بني عقيل، قد استدعاه السلطان ملكشاه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة ليحاسبه، فلما حضر عنده اعتقله، وأنفذ فخر الدولة بن جهير إلى البلاد، فملك الموصل وغيرها، وبقي إبراهيم مع ملكشاه، وسار معه إلى سمرقند، وعاد إلى بغداد، فلما مات ملكشاه أطلقته تركان خاتون من الاعتقال، فسار إلى الموصل.
وكان ملكشاه قد أقطع عمته صفية مدينة بلد، وكانت زوجة شرف الدولة، ولها منه ابنها علي، وكانت قد تزوجت بعد شرف الدولة بأخيه إبراهيم، فلما مات ملكشاه قصدت الموصل، ومعها ابنها علي، فقصدها محمد بن شرف الدولة، وأراد أخذ الموصل، فافترقت العرب فرقتين: فرقة معه، وأخرى مع صفية وابنها علي، واقتتلوا بالموصل عند الكناسة، فظفر علي، وانهزم محمد، وملك علي الموصل.
فلما وصل إبراهيم إلى جهينة، وبينه وبين الموصل أربعة فراسخ، سمع أن الأمير علياً ابن أخيه شرف الدولة قد ملكها، ومعه أمه صفية، عمة ملكشاه، فأقام مكانه، وراسل صفية خاتون، وترددت الرسل، فسلمت البلد إليه، فأقام به.
فلما ملك تتش نصيبين أرسل إليه يأمره أن يخطب له بالسلطنة، ويعطيه طريقاً إلى بغداد لينحدر، ويطلب الخطبة بالسلطنة، فامتنع إبراهيم من ذلك، فسار تتش إليه، وتقدم إبراهيم أيضاً نحوه، فالتقوا بالمضيع، من أعمال الموصل، في ربيع الأول، وكان إبراهيم في ثلاثين ألفاً، وكان تتش في عشرة آلاف، وكان آقسنقر على ميمنته، وبوزان على ميسرته، فحمل العرب على بوزان، فانهزم، وحمل آقسنقر على العرب فهزمهم، وتمت الهزيمة على إبراهيم والعرب، وأخذ إبراهيم أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقتلوا صبراً، ونهبت أموال العرب وما معهم من الإبل والغنم والخيل وغير ذلك، وقتل كثير من نساء العرب أنفسهن خوفاً من السبي والفضيحة.
وملك تتش بلادهم الموصل وغيرها، واستناب بها علي بن شرف الدولة مسلم، وأمه صفية عمة تتش، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة، وساعده كوهرائين على ذلك، فقيل لرسوله: إنا ننتظر وصول الرسل من العسكر، فعاد إلى تتش بالجواب.
ذكر ملك تتش ديار بكر وأذربيجان

وعوده إلى الشام
فلما فرغ تاج الدولة تتش من أمر العرب، وملك الموصل وغيرها من بلادهم، سار إلى ديار بكر في ربيع الآخر، فملك ميافارقين وسائر ديار بكر من ابن مروان، وسار منها إلى أذربيجان. فانتهى خبره إلى ابن أخيه ركن الدين بركيارق، وكان قد استولى على كثير من البلاد، منها: الري، وهمذان، وما بينهما، فلما تحقق الحال سار في عساكره ليمنع عمه عن البلاد، فلما تقارب العسكران قال قسيم الدولة آقسنقر لبوزان: إنما أطعنا هذا الرجل لننظر ما يكون من أولاد صاحبنا، والآن فقد ظهر ابنه، ونريد أن نكون معه. فاتفقا على ذلك وفارقا تتش، وصارا مع بركيارق.
فلما رأى تاج الدولة تتش ذلك علم أنه لا قوة له بهم، فعاد إلى الشام، واستقامت البلاد لبركيارق، فلما قوي أمره سار كوهرائين إلى العسكر يعتذر من مساعدته لتاج الدولة تتش، وأعانه برسق، وتعصب عليه كمشتكين الجاندار، فأخذ إقطاعه، وأعطي الأمير يلبرد زيادة، وولي شحنكية بغداد عوض كوهرائين، وتفرق عن كوهرائين أصحابه، فكان ما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر حصر عسكر مصر صور
وملكهم لها
في هذه السنة، في جمادى الآخرة، ملك عسكر المستنصر بالله العلوي، صاحب مصر، مدينة صور.
وسبب ذلك ما ذكرناه سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة: إن أمير الجيوش بدراً، وزير المستنصر، سير العساكر إلى مدينة صور، وغيرها، من ساحل الشام، وكان من بها قد امتنع من طاعتهم، فملكها، وقرر أمورها، وجعل فيها الأمراء.
وكان قد ولى مدينة صور الأمير الذي يعرف بمنير الدولة الجيوشي، فعصى على المستنصر وأمير الجيوش، وامتنع بصور، فسيرت العساكر من مصر إليه، وكان أهل صور قد أنكروا على منير الدولة عصيانه على سلطانه، فلما وصل العسكر المصري إلى صور وحصروها وقاتلوها ثار أهلها، ونادوا بشعار المستنصر وأمير الجيوش، وسلموا البلد، وهجم العسكر المصري بغير مانع ولا مدافع، ونهب من البلد شيء كثير، وأسر منير الدولة ومن معه من أصحابه، وحملوا إلى مصر، وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار، فأجحفت بهم.
ولما وصل منير الدولة إلى مصر ومعه الأسرى قتلوا جميعهم ولم يعف عن واحد منهم.

ذكر قتل إسماعيل بن ياقوتي
في هذه السنة، في شعبان، قتل إسماعيل بن ياقوتي بن داود، وهو خال بركيارق، وابن عم ملكشاه.
وسبب قتله أنه كان بأذربيجان أميراً عليها، فأرسلت إليه تركان خاتون، زوجة ملكشاه، تطمعه أن تتزوج به، وتدعوه إلى محاربة بركيارق، فأجابها إلى ذلك، وجمع خلقاً كثيراً من التركمان وغيرهم، وصار أصحاب سرهنك ساوتكين في خيله، وأرسلت إليه تركان خاتون كربوقا، وغيره من الأمراء، في عسكر كثير مدداً له، فجمع بركيارق عساكره، وسار إلى حرب خاله إسماعيل، فالتقوا عند الكرج، فانحاز الأمير يلبرد إلى بركيارق، وصار معه، فانهزم إسماعيل وعسكره، وتوجه إلى أصبهان، فأكرمته تركان خاتون، وخطبت له، وضربت اسمه على الدينار بعد ابنها محمود بن ملكشاه.
وكاد الأمر في الوصلة يتم بينهما، فامتنع الأمراء من ذلك لا سيما الأمير أنر، وهو مدبر الأمر، وصاحب الجيش، وآثروا خروج إسماعيل عنهم، وخافوه، وخاف هو أيضاً منهم، ففارقهم، وراسل أخته زبيدة والدة بركيارق في اللحاق بهم، فأذنت له في ذلك، فوصل إليهم، وأقام عندهم أياماً يسيرة، فخلا به كمشتكين الجاندار، وآقسنقر، وبوزان، وبسطوه في القول، فأطلعهم على سره، وأنه يريد السلطنة، وقتل بركيارق، فوثبوا عليه فقتلوه، وأعلموا أخته خبره فسكتت عنه.
ذكر أخذ الحجاجفي هذه السنة انقطع الحج من العراق لأسباب أوجبت ذلك، وسار الحاج من دمشق مع أمير أقامه تاج الدولة تتش صاحبها، فلما قضوا حجهم وعادوا سائرين سير أمير مكة، وهو محمد بن أبي هاشم، عسكراً فلحقوهم بالقرب من مكة، ونهبوا كثيراً من أموالهم وجمالهم، فعادوا إليها، ولقوه، وسألوه أن يعيد عليهم ما أخذ منهم، وشكوا إليه بعد ديارهم، فأعاد بعض ما أخذ منهم، فلما أيسوا منه ساروا من مكة عائدين على أقبح صورة، فلما أبعدوا عنها ظهر عليهم جموع من العرب في عدة جهات، فصانعوهم على مال أخذوه من الحاج، بعد أن قتل منهم جماعة وافرة، وهلك فيه قوم بالضعف والانقطاع، وعاد السالم على أقبح صورة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في جمادى الأولى، قدم إلى بغداد أردشيرين بن منصور أبو الحسين الواعظ، العبادي، وأكثر الوعظ بالمدرسة النظامية، وهو مروزي، وقدم بغداد قاصداً للحج، وكان له قبول عظيم، بحيث أن الغزالي وغيره من الأئمة ومشايخ الصوفية الكبار يحضرون مجلسه، وذرع في بعض المجالس الأرض التي فيها الرجال، فكان طولها مائة وخمس وسبعين ذراعاً، وعرضها مائة وعشرين ذراعاً، وكانوا يزدحمون ازدحاماً كثيراً، وكان النساء أكثر من ذلك، وكان له كرامات ظاهرة، وعبادات كثيرة.
وكان سبب منعه من الوعظ أنه نهى أن يتعامل الناس ببيع القراضة بالصحيح، وقال هو ربا، فمنع من الوعظ، وأخرج من البلد.
وفيها وقعت الفتنة ببغداد بني العامة، وقصد كل فريق الفريق الآخر، وقطعوا الطرقات بالجانب الغربي، وقتل أهل النصرية مصلحياً، فأرسل كوهرائين فأحرقها، واتصلت الفتنة بين أهل الكرخ وباب البصرة، وكان للعميد الأغر أبي المحاسن الدهستاني في إطفاء هذه الفتنة أثر حسن.
وفيها، في شعبان، سار سيف الدولة صدقة بن مزيد إلى السلطان بركيارق، فلقيه بنصيبين، وسار معه إلى بغداد، فوصلها في ذي القعدة ومعه وزيره عز الملك بن نظام الملك، وخرج عميد الدولة والناس إلى لقائه من عقرقوف.
وفيها ولد للمستظهر بالله ولد سمي الفضل، وكني أبا منصور، ولقب عمدة الدين، وهو المسترشد بالله.
وفيها، في رمضان، قتل الأمير يلبرد، قتله بركيارق، وكان من الأمراء الكبار مع أبيه، فزاده بركيارق إقطاع كوهرائين، وشحنكية بغداد، فلما وصل إلى دقوقا أعيد منها لأنه تكلم، فيما يتعلق بوالدة السلطان بركيارق، بكلام شنيع، فلما وصل إليه أصبح مقتولاً.
وفيها، في المحرم، توفي علي بن أحمد بن يوسف أبو الحسن القرشي، الهكاري، المعروف بشيخ الإسلام، وكان فاضلاًن عابداً، كثير السماع، إلا أن الغرائب في حديثه كثيرة لا يدرى ما سببها، والأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن علي بن جعفر العجلي، المعروف بابن ماكولا، مصنف كتاب الإكمال، قتله غلمانه الأتراك بكرمان، ومولده سنة اثنتين وأربعمائة، وكان حافظاً.

وفيها، في صفر، توفي أبو محمد عامر الضرير، وكان فقيهاً شافعياً، مقرئاً، نحوياً، وكان يصلي في رمضان بالإمام المقتدي بأمر الله.
وفي جمادى الأولى توفي الأمير أبو الفضل جعفر بن المقتدي، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، وإليه تنسب الجعفريات.
وفي رجب توفي الشيخ أبو سعد عبد الواحد بن أحمد بن المحسن الوكيل بالمخزن، وكان فقيهاً شافعياً، كثير الإحسان إلى أهل العلم، وكان محموداً في ولايته.
وفيها توفي كمال الملك الدهستاني الذي كان عميد بغداد.
وفي رمضان توفي المشطب بن محمد الحنفي بالكحيل من أرض الموصل، وكان الخليفة قد أرسله إلى بركيارق، وكان بالموصل، ومعه تاج الرؤساء أبو نصر بن الموصلايا، وكان شيخاً كبيراً، عالماً، مكرماً عند الملوك، وحمل إلى العراق، ودفن عند أبي حنيفة.
وفيه توفي القاضي أبو علي يعقوب بن إبراهيم المرزباني، قاضي باب الأزج، وولي مكانه القاضي ابو المعالي عزيزي، وكان أبو المعالي شافعياً، أشعرياً، مغالياً، وله مع أهل باب الأزج أقاصيص وحكايات عجيبة.
وفيها توفي نصر بن الحسن بن القاسم بن الفضل أبو الليث، وأبو الفتح التنكتي، له كنيتان، سافر في البلاد شرقاً وغرباً، روى صحيح مسلم وغيره، وكان ثقة، ومولده سنة ست وأربعمائة.
وفي ذي الحجة منها توفي أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الحنبلي، الفقيه وكان وافر العلم، غزير الدين، حسن الوعظ والسمت.
ثم دخلت سنة سبع وثمانين وأربعمائة

ذكر الخطبة للسلطان بركيارق
في هذه السنة، يوم الجمعة رابع عشر المحرم، خطب ببغداد للسلطان بركيارق بن ملكشاه، وكان قدمها أواخر سنة ست وثمانين، وأرسل إلى الخليفة المقتدي بأمر الله يطلب الخطبة، فأجيب إلى ذلك، وخطب له، ولقب ركن الدين.
وحمل الوزير عميد الدولة بن جهير الخلع إلى بركيارق، فلبسها، وعرض التقليد على الخليفة ليعلم عليه، فعلم فيه، وتوفي فجأة على ما نذكره، إن شاء الله تعالى، وولي ابنه الإمام المستظهر بالله الخلافة، فأرسل الخلع والتقليد إلى السلطان بركيارق، فأقام ببغداد إلى ربيع الأول من السنة، وسار عنها إلى الموصل.
ذكر وفاة المقتدي بأمر اللهفي هذه السنة، يوم السبت خامس عشر المحرم، توفي الإمام المقتدي بأمر الله أبو القاسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله أمير المؤمنين فجأة، وكان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركيارق ليعلم فيه، فقرأه، وتدبره، وعلم فيه، ثم قدم إليه طعام، فأكل منه، وغسل يديه، وعنده قهرمانته شمس النهار، فقال لها: ما هذه الأشخاص التي دخلت علي بغير إذن؟ قالت: فالتفت فلم أر شيئاً، ورأيته قد تغيرت حالته، واسترخت يداه ورجلاه، وانحلت قوته، وسقط إلى الأرض، فظننتها غشية قد لاحقته، فحللت أزرار ثوبه، فوجدته وقد ظهرت عليه أمارات الموت، ومات لوقته.
قالت: فتماسكت، وقلت لجارية عندي: ليس هذا وقت إظهار الجزع والبكاء، فإن صحت قتلتك، وأحضرت الوزير فأعلمته الحال، فشرعوا في البيعة لولي العهد، وجهزوا المقتدي، وصلى عليه ابنه المستظهر، بالله، ودفنوه، وكان عمره ثمانياً وثلاثين سنة وثمانية أشهر وسبعة أيام، وكانت خلافته تسع عشرة سنة وثمانية أشهر غير يومين، وأمه أم ولد أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، أدركت خلافته، وخلافة ابنه المستظهر بالله، وخلافة ابن ابنه المسترشد بالله.
ووزر له فخر الدولة أبو نصر بن جهير، ثم أبو شجاع، ثم عميد الدولة أبو منصور بن جهير.
وقضاته: أبو عبد الله الدامغاني، ثم أبو بكر الشامي.
وكانت أيامه كثيرة الخير، واسعة الرزق، وعظمت الخلافة أكثر مما كان من قبله، وانعمرت ببغداد عدة محال في خلافته منها: البصلية، والقطيعة، والحلبة، والمقتدية، والأجمة، ودرب القيار، وخربة ابن جردة، وخربة الهراس، والخاتونيتين.
وأمر بنفي المغنيات والمفسدات من بغداد، وبيع دورهن، فنفين، ومنع الناس أن يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، وقلع الهرادي، والأبراج التي للطيور، ومنع من اللعب بها لأجل الاطلاع على حرم الناس، ومنع من إجراء ماء الحمامات إلى دجلة، وألزم أربابها بحفر آبار للمياه، وأمر أن من يغسل السمك المالح يعبر إلى النجمي فيغسله هناك، ومنع الملاحين أن يحملوا الرجال والنساء مجتمعين، وكان قوي النفس، عظيم الهمة من رجال بني العباس.

ذكر خلافة المستظهر بالله
لما توفي المقتدي بأمر الله، أحضر ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله، وأعلم بموته، وحضر الوزير فبايعه، وركب إلى السلطان بركيارق، فأعلمه الحال، وأخذ بيعته للمستظهر بالله.
فلما كان اليوم الثالث من موت المقتدي أظهر ذلك، وحضر عز الملك ابن نظام الملك وزير بركيارق، وأخوه بهاء الملك، وأمراء السلطان، وجمع أرباب المناصب: النقيبان طراد العباسي، والمعمر العلوي في أصحابهما، وقاضي القضاة، والغزالي، والشاشي، وغيرهما من العلماء، فجلسوا في العزاء، وبايعوا، وكان للمستظهر بالله لما بويع ست عشرة سنة وشهران.
ذكر قتل قسيم الدولة آقسنقر
وملك تتش حلب والجزيرة وديار بكر وأذربيجان وهمذان والخطبة له ببغداد
في هذه السنة، في جمادى الأولى، قتل قسيم الدولة آقسنقر، جد ملوكنا بالموصل الآن، أولاد الشهيد زنكي بن آقسنقر.
وسبب قتله أن تاج الدولة تتش لما عاد من أذربيجان منهزماً لم يزل يجمع العساكر، فكثرت جموعه، وعظم حشده، فسار في هذا التاريخ عن دمشق نحو حلب ليطلب السلطنة، فاجتمع قسيم الدولة آقسنقر، وبوزان، وأمدهما ركن الدين بركيارق بالأمير كربوقا الذي صار بعد صاحب الموصل، فلما اجتمعوا ساروا إلى طريقه، فلقوه عند نهر سبعين قريباً من تل السلطان، بينه وبين حلب ستة فراسخ، واقتتلوا، واشتد القتال، فخامر بعض العسكر الذين مع آقسنقر، فانهزموا، وتبعهم الباقون، فتمت الهزيمة، وثبت آقسنقر، فأخذ أسيراً، وأحضر عند تتش، فقال له: لو ظفرت بي ما كنت صنعت؟ قال: كنت أقتلك! فقال له: أنا أحكم عليك بما كنت تحكم علي، فقتله صبراً.
وسار نحو حلب، وكان قد دخل إليها كربوقا، وبوزان، فحفظاها منه، وحصرها تتش ولج في قتالها حتى ملكها، سلمها إليه المقيم بقلعة الشريف، ومنها دخل البلد، وأخذهما أسيرين، وأرسل إلى حران والرها ليسلموه من بهما وكانتا لبوزان، فامتنعوا من التسليم غليه، فقتل بوزان، وأرسل رأسه إليهم وتسلم البلدين.
وأم كربوقا فإنه أرسله إلى حمص، فسجنه بها إلى أن أخرجه الملك رضوان بعد قتل أبيه تتش.
وكان قسيم الدولة أحسن الأمراء سياسة لرعيته، وحفظاً لهم، وكانت بلاده بين رخص عام، وعدل شامل، وأمن واسع، وكان قد شرط على أهل كل قرية من بلاده، متى أخذ عندهم قفل، أو أحد من الناس، غرم أهلها جميع ما يؤخذ من الأموال من قليل وكثير، فكانت السيارة، إذا بلغوا قرية من بلاده، ألقوا رحالهم وناموا، وحرسهم أهل القرية إلى أن يرحلوا، فأمنت الطرق.
وأما وفاؤه، وحسن عهده، فيكفيه فخراً أنه قتل في حفظ بيت صاحبه وولي نعمته.
فلما ملك تتش حران والرها سار إلى الديار الجزرية فملكها جميعها، ثم ملك ديار بكر وخلاط، وسار إلى أذربيجان فملك بلادها كلها، ثم سار منها إلى همذان فملكها، ورأى بها فخر الملك بن نظام الملك، وكان بخراسان، فسار منها إلى السلطان بركيارق ليخدمه، فوقع عليه الأمير قماج، وهو من عسكر محمود ابن السلطان ملكشاه بأصبهان، فنهب فخر الملك، فهرب منه ونجا بنفسه، فجاء إلى همذان فصادفه تتش بها، فأراد قتله، فشفع فيه باغي سيان، وأشار عليه أن يستوزره لميل الناس إلى بيته، فاستوزره، وأرسل إلى بغداد يطلب الخطبة من الخليفة المستظهر بالله، وكان شحنته ببغداد ايتكين جب، فلازم الخدمة بالديوان، وألح في طلبها، فأجيب إلى ذلك، بعد أن سمعوا أن بركيارق قد انهزم من عسكر عمه تتش، على ما نذكره.
ذكر انهزام بركيارق من عمه تتش
وملكه أصبهان بعد ذلك
في هذه السنة، في شوال، انهزم بركيارق من عسكر عمه تتش. وكان بركيارق بنصيبين، فلما سمع بمسير عمه إلى أذربيجان، سار هو من نصيبين، وعبر دجلة من بلد فوق الموصل، وسار إلى إربل، ومنها إلى بلد سرخاب بن بدر إلى أن لقي بينه وبين عمه تسعة فراسخ، ولم يكن معه غير ألف رجل، وكان عمه في خمسين ألف رجل، فسار الأمير يعقوب بن آبق من عسكر عمه، فكبسه وهزمه، ونهب سواده، ولم يبق معه إلا برسق، وكمشتكين الجاندار، واليارق، وهم من الأمراء الكبار، فسار إلى أصبهان.

وكانت خاتون أم أخيه محمود قد ماتت، على ما نذكره، فمنعه من بها من الدخول إليها، ثم أذنوا له خديعة منهم ليقبضوا عليه، فلما قاربها خرج أخوه الملك محمود فلقيه، ودخل البلد، واحتاطوا عليه، فاتفق أن أخاه محموداً حم وجدر، فأراد الأمراء أن يكحلوا بركيارق، فقال لهم أمين الدولة ابن التلميذ الطبيب: إن الملك محموداً قد جدر، وما كأنه يسلم منه، وأراكم تكرهون أن يليكم، ويملك البلاد تاج الدولة، فلا تعجلوا على بركيارق، فإن مات محمود أقيموه ملكاً، وإن سلم محمود فأنتم تقدرون على كحله. فمات محمود سلخ شوال، فكان هذا من الفرج بعد الشدة، وجلس بركيارق للعزاء بأخيه.
وكان مولد محمود في صفر سنة ثمانين وأربعمائة. وقصده مؤيد الملك بن نظام الملك، فاستوزره في ذي الحجة، وكان أخوه عز الملك بن نظام الملك قد مات لما كان مع بركيارق بالموصل، وحمل إلى بغداد، فدفن بالنظامية، وكان أصبح الناس وجهاً، وأحسنهم خلقاً وسيرة، وكان قد أجرى الناس على ما بأيديهم من توقيعات أبيه في الإطلاقات من خاصته، منها ببغداد مائتا كر غلة، وثمانية عشر ألف دينار أميري.
ثم إن بركيارق جدر، بعد أخيه، وعوفي وسلم، فلما عوفي كاتب مؤيد الملك وزيره الأمراء العراقيين، والخراسانيين، واستمالهم، فعادوا كلهم إلى بركيارق، فعظم شأنه وكثر عسكره.
ذكر وفاة أمير الجيوش بمصرفي هذه السنة، في ذي القعدة، توفي أمير الجيوش بدر الجمالي، صاحب الجيش بمصر، وقد جاوز ثمانين سنة، وكان هو الحاكم في دولة المستنصر، والمرجوع إليه.
وكان قد استعمله على الشام سنة خمس وخمسين وأربعمائة، وجرى بينه وبين الرعية والجند بدمشق ما خاف منه عى نفسه، فخرج عنها هارباً، وجمع وحشد، وقدم إلى الشام فاستولى عليه بأسره سنة ست وخمسين، ثم خالفه أهل دمشق مرة أخرى، فهرب منهم سنة ستين، وخرب العامة والجند قرص الإمارة، ثم مضى أمير الجيوش إلى مصر، وتقدم بها، وصار صاحب الأمر.
قال علقمة بن عبد الرزاق العليمي: قصدت بدراً الجمالي بمصر، فرأيت أشراف الناس وكبراءهم وشعراءهم على بابه، قد طال مقامهم ولم يصلوا إليه، قال: فبينا أنا كذلك إذ خرج بدر يريد الصيد، فخرج علقمة في أثره، وأقام إلى أن رجع من صيده، فلما قاربه وقف على نشز من الأرض، وأومأ برقعة في يده، وأنشأ يقول:
نحن التجا قنا، ... درٌ وجود يمينك المبتاع
قلب، وفتشها بسمعك إنما ... هي جوهر تختاره الأسماع
كسدت علينا بالشآم، وكلما ... قل النفاق تعطل الصناع
فأتاك يحملها إليك تجارها ... ومطيها الآمال والأطماع
حتى أناخوها ببابك، والرجا ... من دونك السمسار والبياع
فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرم، ولا كعب، ولا القعقاع
وسبقت هذا الناس في طلب العلى ... فالناس، بعدك كلهم أتباع
يا بدر أقسم لو بك اعتصم الورى، ... ولجوا إليك جميعهم، ما ضاعوا
وكان على يد بدر بازي فألقاه وانفرد عن الجيش، وجعل يسترد الأبيات وهو ينشدها إلى أن استقر في مجلسه، ثم قال لجماعة غلمانه وخاصته: من أحبني فليخلع على هذا الشاعر، فخرج من عنده ومعه سبعون بغلاً، يحمل الخلع والتحف، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج من عنده وفرق كثيراً من ذلك على الشعراء، ولما مات بدر قام بما كان إليه ابنه الأفضل.
ذكر وفاة المستنصر وولاية ابنه المستعليفي هذه السنة، ثامن عشر ذي الحجة، توفي المستنصر بالله أبو تميم معد بن أبي الحسن علي الظاهر لإعزاز دين الله العلوي، صاحب مصر والشام، وكانت خلافته ستين سنة وأربعة أشهر، وكان عمره سبعاً وستين سنة، وهو الذي خطب به البساسيري ببغداد، وقد ذكرنا ذلك.
وكان الحسن بن الصباح، رئيس هذه الطائفة الإسماعيلية، قد قصده في زي تاجر، واجتمع به وخاطبه في إقامة الدعوة له ببلاد العجم، فعاد ودعا الناس إليه سراً، ثم أظهرها، وملك القلاع، كما ذكرناه، وقال للمستنصر: من إمامي بعدك؟ فقال: ابني نزار، وهو أكبر أولاده، والإسماعيلية إلى يومنا هذا يقولون بإمامة نزار.

ولقي المستنصر شدائد وأهوالاً، وانفتقت عليه بديار مصر، أخرج فيها أمواله وذخائره إلى أن بقي لا يملك غير سجادته التي يجلس عليها، وهو مع هذا صابر خاشع، وقد أتينا على ذكر هذا سنة سبع وستين وأربعمائة وغيرها.
ولما مات ولي بعده ابنه أبو القاسم أحمد المستعلي بالله، ومولده في المحرم سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان قد عهد في حياته بالخلافة لابنه نزار، فخلعه الأفضل وبايع المستعلي بالله.
وسبب خلعه أن الأفضل ركب مرة، أيام المستنصر، ودخل دهليز القصر من باب الذهب راكباً، ونزار خارج، والمجاز مظلم، فلم يره الأفضل، فصاح به نزار: انزل، يا أرمني، كلب، عن الفرس، ما أقل أدبك! فحقدها عليه، فلما مات المستنصر خلعه خوفاً منه على نفسه، وبايع المستعلي، فهرب نزار إلى الإسكندرية، وبها ناصر الدولة أفتكين، فبايعه أهل الإسكندرية وسموه المصطفى لدين الله، فخطب الناس، ولعن الأفضل، وأعانه أيضاً القاضي جلال الدولة بن عمار، قاضي الإسكندرية، فسار إليه الأفضل، وحاصره بالإسكندرية، فعاد عنه مقهوراً، ثم ازداد عسكراً، وسار إليه، فحصره وأخذه، وأخذ أفتكين فتقله، وتسلم المستعلي نزاراً فبنى عليه حائطاً فمات، وقتل القاضي جلال الدولة بن عمار ومن أعانه.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، رأى بعض اليهود بالغرب رؤيا أنهم سيطيرون، فأخبر اليهود بذلك، فوهبوا أموالهم وذخائرهم، وجعلوا ينتظرون الطيران، فلم يطيروا، وصاروا ضحكة بين الأمم.
وفي هذا الشهر كانت بالشام زلازل كثيرة متتابعة يطول مكثها، إلا أنه لم يكن الهدم كثيراً.
وفيها كانت الفتنة بين أهل نهر طابق وأهل باب الأرجا، فاحترقت نهر طابق، وصارت تلولاً، فلما احترقت عبر يمن، صاحب الشرطة، فقتل رجلاً مستوراً، فنفر الناس منه، وعزل في اليوم الثالث.
وفيها توفي محمد بن أبي هاشم الحسيني، أمير مكة، وقد جاوز سبعين سنة، ولم يكن له ما يمدح به، وكان قد نهب بعض الحجاج سنة ست وثمانين وقتل منهم خلقاً كثيراً.
وفيها، في ربيع الأول، قتل السلطان بركيارق عمه تكش وغرقه، وقتل ولده معه، وكان ملكشاه قد أخذه، لما خرج عليه، وكحله، وحبسه بقلعة تكريت، فلما ملك بركيارق أحضره إليه ببغداد، وسار بمسيره، فظفر بملطفات إليه من أخيه تتش يحثه على اللحاق به، وقيل إنه أراد المسير إلى بلخ لأن أهلها كانوا يريدونه، فقتله، فلما غرق بقي بسر من رأى، فحمل إلى بغداد، فدفن عند قبر أبي حنيفة.
وفيها، في جمادى الآخرة، كانت وقعة بين الأمير أنر وتورانشاه، ابن قاورت بك، وكانت تركان خاتون الجلالية، والدة محمود بن ملكشاه، قد أرسلته في عسكر ليأخذ بلاد فارس من تورانشاه، ولم يحسن الأمير أنر تدبير بلاد فارس، فاستوحش منه الأجناد، واجتمعوا مع تورانشاه وهزموا أنر، ومات تورانشاه، بعد الكسرة بشهر، من سهم أصابه فيها.
وفيها استولى أصبهبذ بن ساوتكين على مكة، حرسها الله، عنوة، وهرب منها الأمير قاسم بن أبي هاشم العلوي صاحبها، وأقام بها إلى شوال، وجمع الأمير قاسم وكبسه بعسفان، وجرى بينهما حرب في شوال من هذه السنة، فانهزم أصبهبذ، ودخل قاسم إلى مكة، ومضى أصبهبذ إلى الشام وقدم إلى بغداد.
وفيها، في رجب، أحرق شحنة بغداد، وهو أيتكين، جب باب البصرة، وسبب ذلك أن النقيب طراداً الزينبي كان له كاتب يعرف بابن سنان، فقتل، فأنفذ النقيب إلى الشحنة يستدعي منه من يقيم السياسة، فأنفذ حاجبه محمداً، فرجمه أهل باب البصرة، وأدموه، فرجع إلى صاحبه فشكا إليه منهم، فأمر أخاه بقصدهم ومعاقبتهم على فعلهم، فسار إليهم في جماعة كثيرة، وتبعهم أهل الكرخ، فأحرقوا ونهبوا، فأرسل الخليفة إلى الشحنة يأمره بالكف عنهم فكف.
وفيها، في رمضان، توفيت تركان خاتون الجلالية بأصبهان، وهي ابنة طفغاج خان، وهو من نسل افراسياب التركي، وكانت قد برزت من أصبهان لتسير إلى تاج الدولة تتش لتتصل به، فمرضت وعادت وماتت، وأوصت إلى الأمير أنر وإلى الأمير سرمز شحنة أصبهان بحفظ المملكة على ابنها محمود، ولم يكن بقي بيداها سوى قصبة أصبهان، ومعها عشرة آلاف فارس أتراك.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الحسين بن الموصلايا، كاتب ديوان الزمام ببغداد.
ثم دخلت سنة ثمان وثمانين وأربعمائة

ذكر دخول جمع من الترك إفريقية
وما كان منهم

في هذه السنة غدر شاهملك التركي بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس، وقبض عليه.
وكان شاهملك هذا من أولاد بعض الأمراء الأتراك ببلاد الشرق، فناله في بلده أمر اقتضى خروجه منه، فسار إلى مصر في مائة فارس، فأكرمه الأفضل أمير الجيوش، وأعطاه إقطاعاً ومالاً، ثم بلغه عنه أسباب أوجبت إخراجه من مصر، فخرج هو وأصحابه هاربين، فاحتالوا حتى أخذوا سلاحاً وخيلاً وتوجهوا إلى المغرب، فوصلوا إلى طرابلس الغرب، وأهل البلد كارهون لواليها، فأدخلوهم البلد، وأخرجوا الوالي، وصار شاهملك أمير البلد.
فسمع تميم الخبر، فأرسل العساكر إليها، فحصروها، وضيقوا على الترك ففتحوها، ووصل شاهملك معهم إلى المهدية، فسر به تميم وبمن معه، قال: ولد لي مائة ولد أنتفع بهم، وكانوا لا يخطيء لهم سهم.
فلم تطل الأيام حتى جرى منهم أمر غير تميماً عليهم، فعلم شاهملك ذلك، وكان داهياً، خبيثاً، فخرج يحيى بن تميم إلى الصيد في جماعة من أعيان أصحابه نحو مائة فارس، ومعه شاهملك، وكان أبوه تميم قد تقدم إليه أن لا يقرب شاهملك، فلم يقبل. فلما أبعدوا في طلب الصيد غدر به شاهملك فقبض عليه، وسار به وبمن أخذ معه من أصحابه إلى مدينة سفاقس.
وبلغ الخبر تميماً، فركب، وسير العساكر في أثرهم، فلم يدركوهم، ووصل شاهملك بيحيى بن تميم إلى سفاقس، فركب صاحبها، واسمه حمو، وكان قد خالف على تميم، ولقي يحيى، ومشى في ركابه راجلاً، وقبل يده وعظمه، واعترف له بالعبودية، فأقام عنده أياماً، ولم يذكره أبوه بكلمة، وكان قد جعله ولي عهده، فلما أخذ أقام أبوه مقامه ابناً له آخر اسمه المثنى.
ثم إن صاحب سفاقس خاف يحيى على نفسه أن يثور معه الجند وأهل البلد ويملكوه عليهم، فأرسل إلى تميم كتاباً يسأله في إنفاذ الأتراك وأولادهم إليه ليرسل ابنه يحيى، ففعل ذلك بعد امتناع، وقدم يحيى، فحجبه أبوه عنه مدة، ثم أعاده إلى حاله، ورضي عنه، ثم جهز تميم عسكراً إلى سفاقس، ويحيى معهم، فساروا إليها وحصروها براً وبحراً، وضيقوا على الأتراك بها، وأقاموا عليها شهرين، واستولوا عليها، وفارقها الأتراك إلى قابس.
وكان تميم لما رضي عن ابنه يحيى عظم ذلك على ابنه الآخر المثنى، وداخله الحسد، فلم يملك نفسه، فنقل عنه إلى أبيه ما غير قلبه عليه، فأمر بإخراجه من المهدية بأهله وأصحابه، فركب البحر ومضى إلى سفاقس، فلم يمكنه عامله من الدخول إليها، وقصد مدينة قابس، وبها أمير يقال له مكين بن كامل الدهسماني، فأنزله وأكرمه، فحسن له المثنى الخروج معه إلى سفاقس والمهدية، وأطمعه فيهما، وضمن الإنفاق على الجند من ماله، فجمع مكين من يمكنه جمعه، وسار إلى سفاقس، ومعهما شاهملك التركي وأصحابه، فنزلوا على سفاقس وقاتلوها.
وسمع تميم، فجرد إليها جنداً، فلما علم المثنى ومن معه أنهم لا طاقة لهم بها ساروا عنها إلى المهدية، فنزلوا عليها وقاتلوها، وكان الذي يتولى القتال في المهدية يحيى بن تميم، وظهرت منه شهامة، وشجاعة، وحزم، وحسن تدبير، فلم يبلغ أولئك منها غرضاً، فعادوا خائبين، وقد تلف ما كان مع المثنى من مال وغيره، وعظم أمر يحيى، وصار وهو المشار إليه.
ذكر قتل أحمد خان صاحب سمرقندفي هذه السنة، في المحرم، قتل أحمد خان، صاحب سمرقند، وكان قد كرهه عسكره واتهموه بفساد الاعتقاد، وقالوا: هو زنديق.
وكان سبب ذلك أن السلطان ملكشاه، لما فتح سمرقند وأسر أحمد خان هذا، قد وكل به جماعة من الديلم، فحسنوا له معتقدهم، وأخرجوه إلى الإباحة، فلما عاد إلى سمرقند كان يظهر منه أشياء تدل على انحلاله من الدين، فلما كرهه أصحابه، وعزموا على قتله، قالوا لمستحفظ قلعة كاسان، وهو طغرل ينال بك، ليظهر العصيان ليسير أحمد خان معهم من سمرقند إلى قتاله، فيتمكنوا من قتله، فعصى طغرل ينال بك، فسار أحمد خان والعسكر إلى قتاله، فلما نازل القلعة تمكن العسكر منه، وقبضوا عليه، وعادوا إلى سمرقند، وأحضروا القضاة والفقهاء، وأقاموا خصوصاً ادعوا عليه الزندقة، فجحد، فشهد عليه جماعة بذلك، فأفتى الفقهاء بقتله، فخنقوه، وأجلسوا ابن عمه مسعوداً مكانه وأطاعوه.
ذكر ما فعله يوسف بن آبق ببغداد

في هذه السنة، في صفر، سير الملك تتش يوسف بن آبق التركماني شحنة لبغداد، ومعه جمع من التركمان، فمنع من دخول بغداد، وورد إليه صدقة بن مزيد صاحب الحلة وكان يكره تتش، ولم يخطب له في بلاده، فلما سمع ابن آبق بوصوله عاد إلى طريق خراسان ونهب باجسرا، وقاتله العسكر ببعقوبا، فهزمهم ونهبهم أفحش نهب وأكثر معه من التركمان وعاد إلى بغداد.
وكان صدقة قد رجع إلى الحلة، فدخل يوسف بن آبق إلى بغداد، وأراد نهبها والإيقاع بأهلها، فمنعه أمير كان معه من ذلك، ثم وصل إليه الخبر بقتل تتش، فرحل عن بغداد إلى الموصل، وسار من هناك إلى حلب.
ذكر الحرب بين بركيارق وتتش وقتل تتشفي هذه السنة، في صفر، قتل تتش بن ألب أرسلان.
وكان سبب ذلك أنه لما هزم السلطان بركيارق، كما ذكرناه، سار من موضع الوقعة إلى همذان، وقد تحصن بها أمير آخر، فرحل تتش عنها، فتبعه أمير آخر لأجل أثقاله، فعاد عليه تتش فكسره، فعاد إلى همذان، واستأمن إليه، وصار معه.
وبلغ تتش مرض بركيارق، فسار إلى أصبهان، فاستأذنه أمير آخر في قصد جرباذقان لإقامة الضيافة وما يحتاج إليه، فأذن له، فسار إليها، ومنها إلى أصبهان، وعرفهم خبر تتش.
وعلم تتش خبره، فنهب جرباذقان، وسار إلى الري، وراسل الأمراء الذين بأصبهان يدعوهم إلى طاعته، ويبذل لهم البذول الكثيرة، وكان بركيارق مريضاً بالجدري، فأجابوه يعدونه بالانحياز إليه، وهم ينتظرون ما يكون من بركيارق. فلما عوفي أرسلوا إلى تتش: ليس بيننا غير السيف، وساروا مع بركيارق من أصبهان، وهم في نفر يسير، فلما بلغوا جرباذقان أقبلت إليهم العساكر من كل مكان، حتى صاروا في ثلاثين ألفاً، فالتقوا بموضع قريب من الري، فانهزم عسكر تتش وثبت هو، فقتل، قيل قتله بعض أصحاب آقسنقر، صاحب حلب، أخذاً بثأر صاحبه.
وكان قد قبض على فخر الملك بن نظام الملك، وهو معه، فأطلق، واستقام الأمر والسلطنة لبركيارق، وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، بالأمس ينهزم من عمه تتش، ويصل إلى أصبهان في نفر يسير، فلا يتبعه أحد، ولو تبعه عشرون فارساً لأخذوه لأنه بقي على باب أصبهان عدة أيام، ثم لما دخلها أراد الأمراء كحله، فاتفق أن أخاه حم ثاني يوم وصوله، وجدر، فمات، فقام في الملك مقامه، ثم جدر هو وأصابه مع سرسام، فعوفي، وبقي مذ كسره عمه إلى أن عوفي وسار عن أصبهان أربعة أشهر لم يتحرك عمه، ولا عمل شيئاً، ولو قصده وهو مريض أو وقت مرض أخيه لملك البلاد:
ولله سر في علاك، وإنما ... كلام العدى ضربٌ من الهذيان
ذكر حال الملك رضوان وأخيه دقاق بعد قتل أبيهمااكن تاج الدولة تتش قد أوصى أصحابه بطاعة ابن الملك رضوان، وكتب إليه من بلد الجبل، قبل المصاف الذي قتل فيه، يأمره أن يسير إلى العراق، ويقيم بدار المملكة، فسار في عدد كثير منهم: إيلغازي بن أرتق، وكان قد سار إلى تتش، فتركه عند ابنه رضوان، ومنهم: الأمير وثاب بن محمود بن صالح بن مرداس، وغيرهما، فلما قارب هيت بلغه قتل أبيه، فعاد إلى حلب، ومعه والدته، فملكها، وكان بها أبو القاسم الحسن بن علي الخوارزمي، قد سلمها إليه تتش وحكمه في البلد والقلعة.
ولحق رضوان زوج أمه جناح الدولة الحسين بن أيتكين، وكان مع تتش، فسلم من المعركة، وكان مع رضوان أيضاً أخواه الصغيران: أبو طالب وبهرام، وكانوا كلهم مع أبي القاسم كالأضياف لتحكمه في البلد، واستمال جناح الدولة المغاربة، وكانوا أكثر جند القلعة، فلما انتصف الليل نادوا بشعار الملك رضوان، واحتاطوا على أبي القاسم، وأرسل إليه رضوان يطيب قلبه، فاعتذر، فبل عذره، وخطب لرضوان على منابر حلب وأعمالها، ولم يكن يخطب له بل كانت الخطبة لأبيه، بعد قتله، نحو شهرين.
وسار جناح الدولة في تدبير المملكة سيرة حسنة، وخالف عليهم الأمير باغي بن سيان بن محمد بن ألب التركماني، صاحب أنطاكية، ثم صالحهم، وأشار على الملك رضوان بقصد ديار بكر، لخلوها من وال يحفظها، فساروا جميعاً، وقدم عليهم أمراء الأطراف الذين كان تتش رتبهم فيها، وقصدوا سروج فسبقهم إليها الأمير سقمان بن أرتق جد أصحاب الحصن اليوم، وأخذها، ومنعهم عنها، وأمر أهل البلد فخرجوا إلى رضوان وتظلموا إليه من عساكره وما يفسدون من غلاتهم، ويسألونه الرحيل، فرحل عنهم إلى الرها.

وكان بها رجل من الروم يقال له الفارقليط، وكان يضمن البلد من بوزان، فقاتل المسلمين بمن معه، واحتمى بالقلعة، وشاهدوا من شجاعته ما لم يكونوا يظنونه، ثم ملكها رضوان، وطلب باغي سيان القلعة من رضوان، فوهبها له، فتسلمها وحصنها، ورتب رجالها، وأرسل إليهم أهل حران يطلبونهم ليسلموا إليهم حران، فسمع ذلك قراجة أميرها، فاتهم ابن المفتي، وكان ابن المفتي هذا قد اعتمد عليه تتش في حفظ البلد، فأخذه، وأخذ معه بني أخيه، فصلبهم.
ووصل الخبر إلى رضوان، وقد اختلف جناح الدولة وباغي سيان، وأضمر كل واحد منهما الغدر بصاحبه، فهرب جناح الدولة إلى حلب، فدخلها، واجتمع بزوجته أم الملك رضوان، وسار رضوان وباغي سيان، فعبرا الفرات إلى حلب، فسمعا بدخول جناح الدولة إليها، ففارق باغي سيان الملك رضوان، وسار إلى أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، وسار رضوان إلى حلب.
وأما دقاق بن تتش فإنه كان سيره أبوه إلى عمه السلطان ملكشاه ببغداد، وخطب له ابنة السلطان، وسار بعد وفاة السلطان مع خاتون الجلالية وابنها محمود إلى أصبهان، وخرج إلى السلطان بركيارق سراً، وصار معه، ثم لحق بأبيه، وحضر معه الوقعة التي قتل فيها.
فلما قتل أبوه أخذه غلام لأبيه اسمه أيتكين الحلبي، وسار به إلى حلب، وأقام عند أخيه الملك رضوان، فراسله الأمير ساوتكين الخادم الوالي بقلعة دمشق سراً، يدعوه ليملكه دمشق، فهرب من حلب سراً، وجد في السير، فأرسل أخوه رضوان عدة من الخيالة، فلم يدركوه، فلما وصل إلى دمشق فرح به الخادم، وأظهر الاستبشار، ولقيه، فلما دخلها أرسل إليه باغي سيان يشير عليه بالتفرد بملك دمشق عن أخيه رضوان.
واتفق وصول معتمد الدولة طغدكين إلى دمشق، ومعه جماعة من خواص تتش وعسكره، وقد سلموا، فإنه كان قد شهد الحرب مع صاحبه، وأسر، فبقي إلى الآن، وخلص من الأسر، فلما وصل إلى دمشق لقيه الملك دقاق وأرباب دولته، وبالغوا في إكرامه، وكان زوج والدة دقاق فمال إليه لذلك، وحكمه في بلاده، وعملوا على قتل الخادم ساوتكين، فقتلوه، وسار إليهم باغي سيان من أنطاكية، ومعه أبو القاسم الخوارزمي، فجعله وزيراً لدقاق، وحكمه في دولته.
ذكر وفاة المعتمد بن عبادفي هذه السنة توفي المعتمد بن عباد، الذي كان صاحب الأندلس، مسجوناً بأغمات، من بلد المغرب، وقد ذكرنا كيف أخذت بلاده منه سنة أربع وثمانين وأربعمائة، فبقي مسجوناً إلى الآن، وتوفي، وكان من محاسن الدنيا كرماً، وعلماً، وشجاعة، ورئاسة تامة، وأخباره مشهورة، وآثاره مدونة.
وله أشعار حسنة، فمنها ما قاله لما أخذ ملكه وحبس:
سلت علي يد الخطوب سيوفها ... فجذذن من جسدي الحصيف الأمتنا
ضربت بها أيدي الخطوب، وإنما ... ضربت رقاب الآملين بها المنى
يا آملي العادات من نفحاتنا، ... كفوا، فإن الدهر كف أكفنا
وله قصيدة يصف القيد في رجله:
تعطف في ساقي تعطف أرقم، ... يساورها عضاً بأنياب ضيغم
وإني من كان الرجال بسيبه، ... ومن سيفه في جنة وجهنم
وقال في يوم عيد:
فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا، ... فساءك العيد في أغمات، مأسورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً، ... فردك الدهر منهياً، ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به، ... فإنما بات بالأحلام مسرورا
وكان شاعره أبو بكر بن اللبانة يأتيه وهو مسجون، فيمدحه لا لجدوى ينالها منه، بل رعاية لحقه وإحسانه القديم إليه. فلما توفي أتاه، فوقف على قبره، يوم عيد، والناس عند قبور أهليهم، وأنشد بصوت عال:
ملك الملوك أسامع فأنادي، ... أم قد عداك عن الجواب عوادي
لما خلت منك القصور، ولم تكن ... فيها، كما قد كنت في الأعياد
فمثلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وتخذت قبرك موضع الإنشاد
وأخذ في إتمام القصيدة، فاجتمع الناس كلهم عليه يبكون. ولو أخذنا في تفصيل مناقبه ومحاسنه لطال الأمر، فلنقف عند هذا.
ذكر وفاة الوزير أبي شجاع

في هذه السنة توفي الوزير أبو شجاع محمد بن الحسين بن عبد الله، وزير الخليفة، في جمادى الآخرة، وأصله من روذراور، وولد بالأهواز، وقرأ الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وكان عالماً بالعربية، وله تصانيف منها: ذيل تجارب الأمم، وكان عفيفاً، عادلاً، حسن السيرة، كثير الخير والمعروف، وكان موته بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مجاوراً فيها.
ولما حضره الموت أمر فحمل إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فوقف بالحضرة وبكى، وقال: يا رسول الله! قال الله عز وجل: " ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً " ، وقد جئت معترفاً بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك.
وبكى فأكثر، وتوفي من يومه، ودفن عند قبر إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر الفتنة بنيسابورفي هذه السنة، في ذي الحجة، جمع أمير كبير من أمراء خراسان جمعاً كثيراً، وسار بهم إلى نيسابور، فحصرها، فاجتمع أهلها وقاتلوه أشد قتال، ولازم حصارهم نحو أربعين يوماً، فلما لم يجد له مطمعاً فيها سار عنها في المحرم سنة تسع وثمانين، فلما فارقها وقعت الفتنة بها بين الكرامية وسائر الطوائف من أهلها، فقتل بينهم قتلى كثيرة.
وكان مقدم الشافعية أبا القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ومقدم الحنفية القاضي محمد بن أحمد بن صاعد، وهما متفقان على الكرامية، ومقدم الكرامية محمشاد، فكان الظفر للشافعية والحنفية على الكرامية، فخربت مدارسهم، وقتل كثير منهم ومن غيرهم، وكانت فتنة عظيمة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الآخر، شرع الخليفة في عمل سور على الحريم، وأذن الوزير عميد الدولة بن جهير للعامة في التفرج والعمل، فزينوا البلد، وعملوا القباب، وجدوا في عمارته.
وفيها، في رمضان، جرح السلطان بركيارق، جرحه إنسان ستري له، من أهل سجستان، في عضده، ثم أخذ الرجل، وأعانه رجلان أيضاً من أهل سجستان، فلما ضرب الرجل الجارح اعترف أن هذين الرجلين وضعاه، واعترفا بذلك، فضربا الضرب الشديد، ليقرا على من أمرهما بذلك، فلم يقرا، فقربا إلى الفيل ليجعلا تحت قوائمه، وقدم أحدهما، فقال: اتركوني أنا أعرفكم، فتركوه، فقال لصاحبه: يا أخي لا بد من هذه القتلة، فلا تفضح أهل سجستان بإفشاء الأسرار، فقتلا.
وفيها توجه الإمام أبو حامد الغزالي إلى الشام، وزار القدس، وترك التدريس في النظامية، واستناب أخاه، وتزهد، ولبس الخشن، وأكل الدون، وفي هذه السفرة صنف إحياء علوم الدين، وسمعه منه الخلق الكثير بدمشق، وعاد إلى بغداد بعدما حج في السنة التالية، وسار إلى خراسان.
وفيها، في ربيع الأول، خطب لولي العهد أبي الفضل منصور بن المستظهر بالله.
وفيها عزل بركيارق وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك، واستوزره أخاه فخر الملك، وسبب ذلك أن بركيارق لما هزم عمه تتش، وقتله، أرسل خادماً ليحضر والدته زبيدة خاتون من أصبهان، فاتفق مؤيد الملك مع جماعة من الأمراء، وأشاروا عليه بتركها، فقال: لا أريد الملك إلا لها، وبوجودها عندي، فلما وصلت إليه وعلمت الحال تنكرت على مؤيد الملك، وكان مجد الملك أبو الفضل البلاساني قد صحبها في طريقها، وعلم أنه لا يتم له أمر مع مؤيد الملك، وكان بين مؤيد الملك وأخيه فخر الملك تباعد بسبب جواهر خلفها أبوهم نظام الملك، فلما علم فخر الملك تنكر أم السلطان على أخيه مؤيد الملك أرسل وبذل أموالاً جزيلة في الوزارة، فأجيب إلى ذلك، وعزل أخوه وولي هو.
وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، توفي أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي، الفقيه الحنبلي، وكان عارفاً بعدة علوم، وكان قريباً من السلاطين.
وفيها، في رجب، توفي أبو الفضل أحمد بن الحسن بن خيرون المعروف بابن الباقلاني، وهو مشهور، ومولده سنة ست وأربعمائة.

وفيها، في شعبان، توفي قاضي القضاة أبو بكر محمد بن المظفر الشامي، وكان من أصحاب أبي الطيب الطبري، ولم يأخذ على القضاء أجراً، وأقر الحق مقره، ولم يحاب أحداً من خلق الله، ادعى عنده بعض الأتراك على رجل شيئاً، فقال: ألك بينة؟ قال: نعم! فلان، والمشطب الفقيه الفرغاني، فقال: لا أقبل شهادة المشطب لأنه يلبس الحرير، فقال التركي: فالسلطان ونظام الملك يلبسان الحرير، فقال: لو شهدا عندي على باقة بقل لم أقبل شهادتهما، وولي القضاء بعده أبو الحسن علي ابن قاضي القضاة أبي عبد الله محمد الدامغاني.
وفيها مات القاضي أبو يوسف عبد السلام بن محمد القزويني، ومولده سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان مغالياً في الاعتزال، وقيل كان زيدي المذهب.
وفيها توفي القاضي أبو بكر بن الرطبي، قاضي دجيل، وكان شافعي المذهب، وولي بعده أخوه أبو العباس أحمد بن الحسن بن أحمد أبو الفضل الحداد الأصبهاني، صاحب أبي نعيم الحافظ، روى عنه حلية الأولياء، وهو أكبر من أخيه أبي المعالي، وأبو عبد الله محمد بن أبي نصر فتوح بن عبد الله بن حميد الحميدي الأندلسي، ولد قبل العشرين وأربعمائة، وسمع الحديث ببلده، ومصر، والحجاز، والعراق، وهو مصنف الجمع بين الصحيحين، وكان ثقة فاضلاً، وتوفي في ذي الحجة، ووقف كتبه فانتفع بها الناس.
ثم دخلت سنة تسع وثمانين وأربعمائة

ذكر قتل يوسف بن آبق
في هذه السنة، في المحرم، قتل يوسف بن آبق الذي ذكرنا أنه سيره تاج الدولة تتش إلى بغداد ونهب سوداها.
وكان سبب قتله أنه كان بحلب، بعد قتل تاج الدولة، وكان بحلب إنسان يقال له المجن، وهو رئيس الأحداث بها، وله أتباع كثيرون، فحضر عند جناح الدولة حسين، وقال له: إن يوسف بن آبق يكاتب باغي سيان، وهو على عزم الفساد، واستأذنه في قتله، فأذن له، وطلب أن يعينه بجماعة من الأجناد، ففعل ذلك، فقصد المجن الدار التي بها يوسف، فكبسها من الباب والسطح، وأخذ يوسف فقتله، ونهب كل ما كان في داره، وبقي بحلب حاكماً، فحدثته نفسه بالتفرد بالحكم عن الملك رضوان، فقال لجناح الدولة: إن الملك رضوان أمرني بقتلك، فخذ لنفسك، فهرب جناح الدولة إلى حمص، وكانت له، فلما انفرد المجن بالحكم تغير عليه رضوان، وأراد منه أن يفارق البلد، فلم يفعل، وركب في أصحابه، فلو هم بالمحاربة لفعل، ثم أمر أصحابه أن ينهبوا ماله، وأثاثه، ودوابه، ففعلوا ذلك، واختفى، فطلب فوجد بعد ثلاثة أيام، فأخذ وعوقب وعذب، ثم قتل هو وأولاده، وكان من السواد يشق الخشب، ثم بلغ هذه الحالة.
ذكر وفاة منصور بن مروانفي هذه السنة، في المحرم، توفي منصور بن نظام الدين بن نصر الدولة بن مروان، صاحب ديار بكر، وهو الذي انقرض أمر بني مروان على يده، حين حاربه فخر الدولة بن جهير، وكان جكرمش قد قبض عليه بالجزيرة، وتركه عند رجل يهودي، فمات في داره، وحملته زوجته إلى تربة آبائه، فدفنته ثم حجت، وعادت إلى بلد البشنوية، فابتاعت ديراً من بلد فنك بقرب جزيرة ابن عمر، وأقامت فيه تعبد الله.
كوان منصور شجاعاً، شديد البخل، له في البخل حكايات عجيبة. فتعساً لطالب الدنيا، المعرض عن الآخرة، ألا ينظر إلى فعلها بأبنائها، بينما منصور هذا ملك من بيت ملك آل أمره إلى أن مات في بيت يهودي، نسأل الله تعالى أن يحسن أعمالنا، ويصلح عاقبة أمرنا في الدنيا والآخرة بمنه وكرمه.
ذكر ملك تميم مدينة قابس أيضاً
في هذه السنة ملك تميم بن المعز مدينة قابس، وأخرج منها أخاه عمراً.
وسبب ذلك أنها كان بها إنسان يقال له قاضي بن إبراهيم بن بلمونة فمات، فولى أهلها عليهم عمرو بن المعز، فأساء السيرة، وكان قاضي بن إبراهيم عاصياً على تميم، وتميم يعرض عنه، فسلك عمرو طريقه في ذلك، فأخرج تميم العساكر إلى أخيه عمرو ليأخذ المدينة منه، فقال له بعض أصحابه: يا مولانا لما كان فيها قاضي توانيت عنه وتركته، فلما وليها أخوك جردت إليه العساكر، فقال: لما كان فيها غلام من عبيدنا كان زواله سهلاً علينا، وأما اليوم، وابن المعز بالمهدية، وابن المعز بقابس، فهذا ما لا يمكن السكوت عليه.
وفي فتحها يقول ابن خطيب سوسة القصيدة المشهورة التي أولها:
ضحك الزمان، وكان يلقى عابسا ... لما فتحت بحد السيف قابسا

الله يعلم ما حويت ثمارها ... إلا وكان أبوك، قبل، الغارسا
من كان في زرق الأسنة خاطباً، ... كانت له قلل البلاد عرائسا
فابشر تميم بن المعز بفتكة ... تركتك من أكناف قابس قابسا
ولوا، فكم تركوا هناك مصانعاً ... ومقاصراً، ومخالداً، ومجالسا
فكأنها قلب، وهن وساوس، ... جاء اليقين، فذاد عنه وساوسا
ذكر ملك كربوقا الموصلفي هذه السنة، في ذي القعدة، ملك قوام الدولة أبو سعيد كربوقا مدينة الموصل، وقد ذكرنا أن تاج الدولة تتش أسره لما قتل آقسنقر وبوزان، فلما أسره أبقى عليه، طمعاً في استصلاح حميه الأمير أنر، ولم يكن له بلد يملكه إذا قتله، كما فعل الأمير بوزان، فإنه قتله واستولى على بلاده الرها وحران.
ولم يزل قوام الدولة محبوساً بحلب إلى أن قتل تتش، وملك ابنه الملك رضوان حلب فأرسل السلطان بركيارق رسولاً يأمره بإطلاقه وإطلاق أخيه التونتاش، فلما أطلقا سارا واجتمع عليهما كثير من العساكر البطالين، فأتيا حران فتسلماها، وكاتبهما محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، وهو بنصيبين، ومعه ثروان بن وهيب، وأبو الهيجاء الكردي، يستنصرون بهما على الأمير علي بن شرف الدولة، وكان بالموصل قد جعله بها تاج الدولة تتش بعد وقعة المضيع.
فسار كربوقا إليهم، فلقيه محمد بن شرف الدولة على مرحلتين من نصيبين، واستحلفهما لنفسه، فقبض عليه كربوقا بعد اليمين، وحمله معه، وأتى نصيبين، فامتنعت عليه، فحصرها أربعين يوماً، وتسلمها، وسار إلى الموصل فحصرها، فلم يظفر منها بشيء، فسار عنها إلى بلد، وقتل بها محمد بن شرف الدولة، وغرقه، وعاد إلى حصار الموصل، ونزل على فرسخ منها بقرية باحلافا، وترك التونتاش شرقي الموصل، فاستنجد علي بن مسلم صاحبها بالأمير جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه نجدة له، فلما علم التونتاش بذلك سار إلى طريقه، فقاتله، فانهزم جكرمش، وعاد إلى الجزيرة منهزماً، وصار في طاعة كربوقا، وأعانه على حصر الموصل، وعدمت الأقوات بها وكل شيء، حتى ما يوقدونه، فأوقدوا القير، وحب القطن.
فلما ضاق بصاحبها علي الأمر وفارقها وسار إلى الأمير صدقة بن مزيد بالحلة، وتسلم كربوقا البلد بعد أن حصره تسعة أشهر، وخافه أهله لأنه بلغهم أن التونتاش يريد نهبهم، وأن كربوقا يمنعه من ذلك، فاشتغل التونتاش بالقبض على أعيان البلد، ومطالبتهم بودائع البلد، واستطال على كربوقا، فأمر بقتله، فقتل في اليوم الثالث، وأمن الناس شره، وأحسن كربوقا السيرة فيهم، وسار نحو الرحبة، فمنع عنها، فملكها ونهبها واستناب بها وعاد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة اجتمع ستة كواكب في برج الحوت، وهي الشمس، والقمر، والمشتري، والزهرة، والمريخ، وعطارد، فحكم المنجمون بطوفان يكون في الناس يقارب طوفان نوح، فأحضر الخليفة المستظهر بالله ابن عيسون المنجم، فسأله، فقال: إن طوفان نوحان اجتمعت الكواكب السبعة في برج الحوت، والآن فقد اجتمع ستة منها، وليس منها زحل، فلو كان معها لكان مثل طوفان نوح، ولكن أقول إن مدينة، أو بقعة من الأرض يجتمع فيها عالم كثير من بلاد كثيرة، فيغرقون، فخافوا على بغداد، لكثرة من يجتمع فيها من البلاد، فأحكمت المسنيات، والمواضع التي يخشى منها الانفجار والغرق.
فاتفق أن الحجاج نزلوا بوادي المياقت، بعد نخلة، فأتاهم سيل عظيم فأغرق أكثرهم، ونجا من تعلق بالجبال، وذهب المال، والداوب، والأزواد، وغير ذلك، فخلع الخليفة على المنجم.
وفيها، في صفر، درس الشيخ أبو عبد الله الطبري الفقيه الشافعي بالمدرسة النظامية ببغداد، رتبه فيها فخر الملك بن نظام الملك، وزير بركيارق.
وفيها أغارت خفاجة على بلد سيف الدولة صدقة بن مزيد، فأرسل في أثرهم عسكراً، مقدمه ابن عمه قريش بن بدران بن دبيس بن مزيد، فأسرته خفاجة، وأطلقوه، وقصدوا مشهد الحسين بن علي، عليه السلام، فتظاهروا فيه بالفساد والمنكر، فوجه إليهم صدقة جيشاً، فكبسوهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً في المشهد، حتى عند الضريح، وألقى رجل منهم نفسه وهو على فرسه من على السور، فسلم هو والفرس.

وفي هذه السنة، في صفر، توفي القاضي أبو مسلم وادع بن سليمان قاضي معرة النعمان والمستولي على أمورها، وكان رجل زمانه همة وعلماً.
وفيها، في ربيع الأول، توفي أبو بكر محمد بن عبد الباقي المعروف بابن الخاضبة، المحدث، وكان عالماً.
وفيها، في رمضان، توفي أبو بكر عمر بن السمرقندي، ومولده سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
وفيها، في رمضان، توفي أبو الفضل عبد الملك بن إبراهيم المقدسي المعروف بالهمذاني، وكان عالماً في عدة علوم، وقد قارب ثمانين سنة.
ثم دخلت سنة تسعين وأربعمائة

ذكر قتل أرسلان أرغون
في هذه السنة، في المحرم، قتل أرسلان أرغون بن ألب أرسلان، أخو السلطان ملكشاه، بمرو، وكان قد ملك خراسان.
وسبب قتله أنه كان شديداً على غلمانه، كثير الإهانة لهم والعقوبة، وكانوا يخافونه خوفاً عظيماً، فاتفق أنه الآن طلب غلاماً له، فدخل عليه وليس معه أحد، فأنكر عليه تأخره عن الخدمة، فاعتذر، فلم يقبل عذره، وضربه، فأخرج الغلام سكيناً معه وقتله، وأخذ الغلام، فقيل له: لم فعلت هذا؟ فقال: لأريح الناس من ظلمه.
وكان سبب ملكه خراسان أنه كان له، أيام أخيه ملكشاه، من الإقطاع ما مقداره سبعة آلاف دينار، وكان معه ببغداد لما مات، فسار إلى همذان في سبعة غلمان، واتصل به جماعة، فسار إلى نيسابور، فلم يجد فيها مطمعاً، فتمم إلى مرو، وكان شحنة مرو أمير اسمه قودن من مماليك ملكشاه، وهو الذي كان سبب تنكر السلطان ملكشاه على نظام الملك، وقد تقدم ذلك في قتل نظام الملك، فمال إلى أرسلان أرغون، وسلم البلد إليه، فأقبلت العساكر إليه، وقصد بلخ، وبها فخر الملك بن نظام الملك، فسار عنها، ووزر لتاج الدولة تتش، على ما ذكرناه.
وملك أرسلان أرغون بلخ، وترمذ، ونيسابور، وعامة خراسان، وأرسل إلى السلطان بركيارق وإلى وزيره مؤيد الملك بن نظام الملك يطلب أن يقر عليه خراسان، كما كانت لجده داود، ما عدا نيسابور، ويبذل الأموال ولا ينازع في السلطنة. فسكت عنه بركيارق لاشتغاله بأخيه محمود وعمه تتش، فلما عزل السلطان بركيارق مؤيد الملك عن وزارته، ووليها أخوه فخر الملك، واستولى على الأمور مجد الملك البلاساني، قطع أرسلان أرغون مراسلة بركيارق، وقال: لا أرضى لنفسي مخاطبة البلاساني، فندب بركيارق حينئذ عمه بوربرس بن ألب أرسلان، وسيره في العساكر لقتاله.
وكان قد اتصل بأرسلان عماد الملك أبو القاسم بن نظام الملك، ووزر له، فلما وصلت العساكر إلى خراسان لقيهم أرسلان أرغون، وقاتلهم، وانهزم منهم، وسار منهزماً إلى بلخ، وأقام بوربرس والعساكر التي معه بهراة.
ثم جمع أرغون عساكر جمة وسار إلى مرو، فحصرها أياماً، وفتحها عنوة، وقتل فيها وأكثر، وقلع أبواب سورها وهدمه، فسار إليه بوربرس من هراة، فالتقيا وتصافا، فانهزم بوربرس سنة ثمان وثمانين.
وسبب هزيمته أنه كان معه من جملة العساكر التي سيرها معه بركيارق أمير آخر ملكشاه، وهو من أكابر الأمراء، والأمير مسعود بن تاجر، وكان أبوه مقدم عسكر داود، جد ملكشاه، ولمسعود منزلة كبيرة، ومحل عظيم، عند الناس كافة، وكان بين أمير آخر وبين أرسلان مودة قديمة، فأرسل إليه أرسلان أرغون يستميله، ويدعوه إلى طاعته، فأجابه إلى ذلك.
ثم إن مسعود بن تاجر قصد أمير آخر زائراً له، ومعه ولده، فأخذهما وقتلهما، فضعف أمر بوربرس، وانهزم من أرسلان أرغون، وتفرق عسكره، وأسر، وحمل إلى أرسلان أرغون، وهو أخوه، فحبسه بترمذ، ثم أمر به فخنق بعد سنة من حبسه، وقتل أكابر عسكر خراسان ممن كان يخافه ويخشى تحكمه عليه، وصادر وزيره عماد الملك بثلاثمائة ألف دينار، وقتله، وخرب أسوار مدن خراسان، منها: سور سبزوار، وسور مرو الشاهجان، وقلعة سرخس، وقهندز نيسابور، وسور شهرستان، وغير ذلك، خربه جميعه سنة تسع وثمانين، ثم إنه قتل هذه السنة كما ذكرنا.
ذكر استيلاء عسكر مصر على مدينة صورفي هذه السنة، في ربيع الأول، وصل عسكر كثير من مصر إلى ثغر صور، بساحل الشام، فحصرها وملكها.

وسبب ذلك أن الوالي بها، ويعرف بكتيلة، أظهر العصيان على المستعلي، صاحب مصر، والخروج عن طاعته، فسير إليه جيشاً، فحصروه بها، وضيقوا عليه وعلى من معه من جندي وعامي، ثم افتتحها عنوة بالسيف، وقتل بها خلق كثير، ونهب منها المال الجزيل، وأخذ الوالي أسيراً بغير أمان، وحمل إلى مصر فقتل بها.
ذكر ملك بركيارق خراسان

وتسليمها إلى أخيه سنجر
كان بركيارق قد جهز العساكر مع أخيه الملك سنجر، وسيرها إلى خراسان لقتال عمه أرسلان أرغون، وجعل الأمير قماج أتابك سنجر، ورتب في وزارته أبا الفتح علي بن الحسين الطغرائي، فلما وصلوا إلى الدامغان بلغهم خبر قتله، فأقاموا، حتى لحقهم السلطان بركيارق، وساروا إلى نيسابور، فوصل إليها خامس جمادى الأولى من السنة وملكها بغير قتال، وكذلك سائر البلاد الخراسانية، وساروا إلى بلخ.
وكان عسكر أرسلان أرغون قد ملكوا بعد قتله ابناً له صغيراً، عمره سبع سنين، فلما سمعوا بوصول السلطان أبعدوا إلى جبال طخارستان، وأرسلوا يطلبون الأمان، فأجابهم إلى ذلك، فعادوا ومعهم ابن أرسلان أرغون، فأحسن السلطان لقاءه، وأعطاه ما كان لأبيه من الإقطاع أيام ملكشاه، وكان وصوله إلى السلطان في خمسة عشر ألف فارس، فما انقضى يومهم حتى فارقوه، واتصلت كل طائفة منهم بأمير تخدمه، وبقي وحده مع خادم لأبيه، فأخذته والدة السلطان بركيارق إليها، وأقامت له من يتولى خدمته وتربيته.
وسار بركيارق إلى ترمذ فسلمت إليه، وأقام عند بلخ سبعة أشهر، وأرسل إلى ما وراء النهر، فأقيمت له الخطبة بسمرقند وغيرها، ودانت له البلاد.
ذكر خروج أمير أميران بخراسان مخالفاً
في هذه السنة لما كان السلطان بركيارق بخراسان خالف عليه أمير اسمه محمد بن سليمان، ويعرف بأمير أميران، وهو ابن عم ملكشاه، وتوجه إلى بلخ، واستمد من صاحب غزنة، فأمده بجيش كثير، وفيلة، وشرط عليه أن يخطب له في جميع ما يفتحه من خراسان، فقويت شوكته، ومد يده في البلاد، فسار إليه الملك سنجر بن ملكشاه جريدة، ولا يعلم به أمير أميران، فكبسه، فجرى بينهما قتال ساعة، ثم أسر، وحمل إلى بين يدي سنجر، فأمر به فكحل.
ذكر عصيان الأمير قودن ويارقطاش على السلطان واستعمال حبشي على خراسانفي هذه السنة عصى يارقطاش وقدون على السلطان بركيارق.
وسبب ذلك أن الأمير قودن كان قد صار في جملة الأمير قماج، فتوفي، والسلطان بمرو، فاستوحش قودن، وأظهر المرض، وتأخر بمرو بعد مسير السلطان إلى العراق، وكان من جملة أمراء السلطان أمير اسمه اكنجي، وقد ولاه السلطان خوارزم، ولقبه خوارزمشاه، فجمع عساكره وسار في عشرة آلاف فارس ليلحق السلطان، فسبق العسكر إلى مرو في ثلاثمائة فارس، وتشاغل بالشرب، فاتفق قودن وأمير آخر اسمه يارقطاش على قتله، فجمعا خمسمائة فارس وكبسوه وقتلوه، وساروا إلى خوارزم، وأظهروا أن السلطان قد استعملهما عليها فتسلماها.
وبلغ الخبر إلى السلطان، فتم المسير إلى العراق، لما بلغه من خروج الأمير أنر ومؤيد الملك عن طاعته، وأعاد أمير داذ حبشي بن التونتاق في جيش إلى خراسان لقتالهما، فسار إلى هراة، وأقام ينتظر اجتماع العساكر معه، فعاجلاه في خمسة عشر ألفاً، فعلم أمير داذ أنه لا طاقة له بهما، فعبر جيحون، فسارا إليه، وتقدم يارقطاش ليلحقه قودن، فعاجله يارقطاش وحده وقاتله، فانهزم يارقطاش وأخذ أسيراً.
وبلغ الخبر إلى قودن، فثار به عسكره، ونهبوا خزائنه وما معه، فبقي في سبعة نفر، فهرب إلى بخارى، فقبض عليه صاحبها، ثم أحسن إليه، وبقي عنده، وسار من هناك إلى الملك سنجر ببلخ، فقبله أحسن قبول، وبذل له قودن أن يكفيه أموره، ويقوم بجمع العساكر على طاعته، فقدر أنه مات عن قريب، وأما يارقطاش فبقي أسيراً إلى أن قتل أمير داذ، وكان من أمره ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ابتداء دولة محمد بن خوارزمشاه

في هذه السنة أمر بركيارق الأمير حبشي بن التونتاق على خراسان، كما ذكرنا، فلما صفت له، وقتل قودن، كما ذكرنا قبل، ولي خوارزم الأمير محمد بن أنوشتكين، وكان أبوه أنوشتكين مملوك أمير من السلجوقية، اسمه بلكباك، قد اشتراه من رجل من غرشستان فقيل له أنوشتكين غرشحه، فكبر، وعلا أمره، وكان حسن الطريقة، كامل الأوصاف، وكان مقدماً، مرجوعاً إليه، وولد له ولد سماه محمداً، وهو هذا، وعلمه، وخرجه، وأحسن تأديبه، وتقدم بنفسه، وبالعناية الأزلية.
فلما ولي أمير داذ حبشي خراسان كان خوارزمشاه اكنجي قد قتل، وقد تقدم ذكره، ونظر الأمير حبشي فيمن يوليه خوارزم، فوقع اختياره على محمد بن أنوشتكين، فولاه خوارزم، ولقبه خوارزمشاه، فقصر أوقاته على معدلة ينشرها، ومكرمة يفعلها، وقرب أهل العلم والدين، فازداد ذكره حسناً، ومحله علواً.
ولما ملك السلطان سنجر خراسان أقر محمداً خوارزمشاه على خوارزم وأعمالها، فظهرت كفايته وشهامته، فعظم سنجر محله وقدره.
ثم إن بعض ملوك الأتراك جمع جموعاً، وقصد خوارزم، ومحمد غائب عنها، وكان طغرلتكين بن اكنجي، الذي كان أبوه خوارزمشاه، قبل، عند السلطان سنجر، فهرب منه، والتحق بالأتراك على خوارزم، فلما سمع خوارزمشاه محمد الخبر بادر إلى خوارزم، وأرسل إلى سنجر يستمده، وكان بنيسابور، فسار في العساكر إليه، فلم ينتظره محمد، فلما قارب خوارزم هرب الأتراك إلى منقشلاغ، وطغرلتكين أيضاً رحل إلى حندخان، وكفي خوارزمشاه شرهم.
ولما توفي خوارزمشاه ولي بعده ابنه إتسز، فمد ظلال الأمن، وأفاض العدل، وكان قد قاد الجيوش أيام أبيه، وقصد بلاد الأعداء، وباشر الحروب، فملك مدينة منقشلاغ.
ولما ولي بعد أبيه قربه السلطان سنجر، وعظمه، واعتضد به، واستصحبه معه في أسفاره وحروبه، فظهرت منه الكفاية والشهامة، فزاده تقدماً وعلواً، وهو ابتداء ملك بيت خوارزمشاه تكش، وابنه محمد الذي ظهرت التتر عليه، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر الحرب بين رضوان وأخيه دقاقفي هذه السنة سار الملك رضوان إلى دمشق، وبها أخوه دقاق، عازماً على أخذها منه، فلما قاربها، ورأى حصانتها وامتناعها، علم عجزه عنها، فرحل إلى نابلس، وسار إلى القدس ليأخذه، فلم يمكنه، وانقطعت العساكر عنه، فعاد ومعه باغي سيان، صاحب أنطاكية، وجناح الدولة.
ثم إن باغي سيان فارق رضوان، وقصد دقاق، وحسن له محاصرة أخيه بحلب، جزاء لما فعله، فجمع عساكر كثيرة وسار ومعه باغي سيان، فأرسل رضوان رسولاً إلى سقمان بن أرتق، وهو بسروج، يستنجده، فأتاه في خلق كثير من التركمان، فسار نحو أخيه، فالتقيا بقنسرين، فاقتتلا، فانهزم دقاق وعسكره، ونهبت خيامهم وجميع مالهم، وعاد رضوان إلى حلب، ثم اتفقا على أن يخطب لرضوان بدمشق قبل دقاق، وبأنطاكية، وقيل كانت هذه الحادثة سنة تسع وثمانين.
ذكر الخطبة للعلوي المصري بولاية رضوانفي هذه السنة خطب الملك رضوان في كثير من ولايته للمستعلي بأمر الله العلوي، صاحب مصر.
وسبب ذلك أنه كان عنده الأمير جناح الدولة، وهو زوج أمه، فرأى من رضوان تغيراً، فسار إلى حمص، وهي له، فلما رأى باغي سيان بعده عن رضوان صالحه، وقدم إليه بحلب، ونزل بظاهرها.
وكان لرضوان منجم يقال له الحكيم أسعد، وكان يميل إليه، فقدمه بعد مسير جناح الدولة، فحسن له مذاهب العلويين المصريين، وأتته رسل المصريين يدعونه إلى طاعتهم، ويبذلون له المال، وإنفاذ العساكر إليه ليملك دمشق، فخطب لهم بشيزر، وجميع الأعمال سوى أنطاكية، وحلب، والمعرة، أربع جمع، ثم حضر عنده سقمان بن أرتق، وباغي سيان، صاحب أنطاكية، فأنكرا ذلك واسعظماه، فأعاد الخطبة العباسية في هذه السنة، وأرسل إلى بغداد يعتذر مما كان منه.
وسار باغي سيان إلى أنطاكية، فلم يقم بها غير ثلاثة أيام حتى وصل الفرنج إليها وحصروها، وكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة كانت فتنة عظيمة بخراسان بين أهل سبزوار وأهل خسروجرد، وقتال عظيم، فقتل بينهم جماعة كثيرة، وانهزم أهل خسروجرد.
وفيها قتل عثمان، وكيل دار نظام الملك، وكان سبب قتله أنه كان كاتب صاحب غزنة بالأخبار من قبل السلطان، فأخذ وحبس بترمذ مدة، ثم اطلع عليه وهو في الحبس، أنه كان يكاتبه أيضاً فقتل.

وفي صفر منها قتل عبد الرحمن السميرمي، وزير أم السلطان بركيارق، قتله باطني غيلة، وقتل الباطني بعده.
وفيها، في شعبان، ظهر كوكب كبير له ذؤابة، وأقام يطلع عشرين يوماً، ثم غاب ولم يظهر.
وفيها توفي النقيب الطاهر أبو الغنائم محمد بن عبد الله، وكان ديناً، سخياً، كريماً، متعصباً، حنفي المذهب، وولي النقابة بعده ولده أبو الفتوح حيذرة.
وفيها توفي أبو القاسم يحيى بن أحمد السيبي وهو ابن مائة سنة وسنتين، وهو صحيح الحواس، وكان مقرئاً، محدثاً، حاضر القلب.
وفيها قتل أرغش النظامي، مملوك نظام الملك، بالري وكان قد بلغ مبلغاً عظيماً بحيث أنه تزوج ابنة ياقوتي عم السلطان بركيارق، قتله باطني، وقتل قاتله.
وقتل برسق في شهر رمضان، وهو من أكابر الأمراء، قتله باطني، وكان برسق من أصحاب السلطان طغرلبك، وهو أول شحنة كان ببغداد.
ثم دخلت سنة إحدى وتسعين وأربعمائة

ذكر ملك الفرنج مدينة أنطاكية
كان ابتداء ظهور دولة الفرنج، واشتداد أمرهم، وخروجهم إلى بلاد الإسلام، واستيلائهم على بعضها، سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، فملكوا مدينة طليطلة وغيرها من بلاد الأندلس، وقد تقدم ذكر ذلك.
ثم قصدوا سنة أربع وثمانين وأربعمائة جزيرة صقلية وملكوها، وقد ذكرته أيضاً، وتطرقوا إلى أطراف إفريقية، فملكوا منها شيئاً وأخذ منهم، ثم ملكوا غيره على ما تراه.
فلما كان سنة تسعين وأربعمائة خرجوا إلى بلاد الشام، وكان سبب خروجهم أن ملكهم بردويل جمع جمعاً كثيراً من الفرنج، وكان نسيب رجار الفرنجي الذي ملك صقلية، فأرسل إلى رجار يقول له: قد جمعت جمعاً كثيراً، وأنا واصل إليك، وسائر من عندك إلى إفريقية أفتحها، وأكون مجاوراً لك.
فجمع رجار أصحابه، واستشارهم في ذلك، وقالوا: وحق الإنجيل هذا جيد لنا ولهم وتصبح البلاد بلاد النصرانية. فرفع رجله وحبق حبقة عظيمة وقال: وحق ديني، هذه خير من كلامكم! قالوا: وكيف ذلك؟ قال: إذا وصلوا إلي أحتاج إلى كفلة كثيرة، ومراكب تحملهم إلى إفريقية، وعساكر من عندي أيضاً، فإن فتحوا البلاد كانت لهم، وصارت المؤونة لهم من صقلية، وينقطع عني ما يصل من المال من ثمن الغلات كل سنة، وإن لم يفلحوا رجعوا إلى بلادي، وتأذيت بهم، ويقول تميم غدرت بي، ونقضت عهدي، وتنقطع الوصلة والأسفار بيننا، وبلاد إفريقية باقية لنا، متى وجدنا قوة أخذناها.
وأحضر رسوله، وقال له: إذا عزمتم على جهاد المسلمين، فأفضل ذلك فتح بيت المقدس، تخلصونه من أيديهم ويكون لكم الفخر، وأما إفريقية فبيني وبين أهلها أيمان وعهود.
فتجهزوا، وخرجوا إلى الشام، وقيل: إن أصحاب مصر من العلويين، لما رأوا قوة الدولة السلجوقية، وتمكنها واستيلاءها على بلاد الشام إلى غزة، ولم يبق بينهم وبين مصر ولاية أخرى تمنعهم ودخول أقسيس إلى مصر وحصرها، خافوا، وأرسلوا إلى الفرنج يدعونهم إلى الخروج إلى الشام ليملكوه، ويكونوا بينهم وبين المسلمين، والله أعلم.
فلما عزم الفرنج على قصد بلاد الشام، ساروا إلى القسططينية ليعبروا المجاز إلى بلاد المسلمين، ويسيروا في البر، فيكون أسهل عليهم، فلما وصلوا إليها منعهم ملك الروم من الاجتياز ببلاده، وقال: لا أمكنكم من العبور إلى بلاد الإسلام حتى تحلفوا لي أنكم تسلمون إلي أنطاكية، وكان قصده أن يحثهم على الخروج إلى بلاد الإسلام، ظناً منه أنهم أتراك لا يبقون منهم أحداً، لما رأى من صرامتهم وملكهم البلاد.
فأجابوه إلى ذلك، وعبروا الخليج عند القسطنطينية سنة تسعين، ووصلوا إلى بلاد قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، وهو قونية وغيرها، فلما وصلوا إليها لقيهم قلج أرسلان في جموعه، ومنعهم، فقاتلوه فهزموه في رجب سنة تسعين، واجتازوا في بلاده إلى بلاد ابن الأرمني، فسلكوها، وخرجوا إلى أنطاكية فحصروها.

ولما سمع صاحبها باغي سيان بتوجههم إليها، خاف من النصارى الذي بها، فأخرج المسلمين من أهلها، ليس معهم غيرهم، وأمرهم بحفر الخندق، ثم أخرج من الغد النصارى لعمل الخندق أيضاً، ليس معهم مسلم، فعملوا فيه إلى العصر، فلما أرادوا دخول البلد منعهم، وقال لهم: أنطاكية لكم تهبونها لي حتى أنظر ما يكون منا ومن الفرنج، فقالوا له: من يحفظ أبناءنا ونساءنا؟ فقال: أنا أخلفكم فيهم، فأمسكوا، وأقاموا في عسكر الفرنج، فحصروها تسعة أشهر، وظهر من شجاعة باغي سيان، وجودة رأيه، وحزمه، واحتياطه ما لم يشاهد من غيره، فهلك أكثر الفرنج موتاً، ولو بقوا على كثرتهم التي خرجوا فيها لطبقوا بلاد الإسلام، وحفظ باغي سيان أهل نصارى أنطاكية الذين أخرجهم، وكف الأيدي المتطرقة إليهم.
فلما طال مقام الفرنج على أنطاكية راسلوا أحد المستحفظين للأبراج، وهو زراد يعرف بروزبه، وبذلوا له مالاً وأقطاعاً، وكان يتولى حفظ برج يلي الوادي، وهو مبني على شباك في الوادي، فلما تقرر الأمر بينهم وبين هذا الملعون الزراد، جاؤوا إلى الشباك ففتحوه ودخلوا منه، وصعد جماعة كثيرة بالحبال، فلما زادت عدتهم على خمسمائة ضربوا البوق، وذلك عند السحر، وقد تعب الناس من كثرة السهر والحراسة، فاستيقظ باغي سيان، فسأل عن الحال، فقيل: إن هذا البوق من القلعة، ولا شك أنها قد ملكت، ولم يكن من القلعة، وإنما كان من ذلك البرج، فدخله الرعب، وفتح باب البلد، وخرج هارباً في ثلاثين غلاماً على وجهه، فجاء نائبه في حفظ البلد، فسأل عنه، فقيل إنه هرب، فخرج من باب آخر هارباً، وكان ذلك معونة للفرنج، ولو ثبت ساعة لهلكوا.
ثم إن الفرنج دخلوا البلد من الباب، ونهبوه، وقتلوا من فيه من المسلمين، وذلك في جمادى الأولى.
وأما باغي سيان فإنه لما طلع عليه النهار رجع إليه عقله، وكان كالولهان، فرأى نفسه وقد قطع عدة فراسخ، فقال لمن معه: أين أنا؟ فقيل: على أربعة فراسخ من أنطاكية، فندم كيف خلص سالماً، ولم يقاتل حتى يزيلهم عن البلد أو يقتل، وجعل يتلهف، ويسترجع على ترك أهله وأولاده والمسلمين، فلشدة ما لحقه سقط عن فرسه مغشياً عليه، فلما سقط إلى الأرض أراد أصحابه أن يركبوه، فلم يكن فيه مسكة قد قارب الموت فتركوه وساروا عنه، واجتاز به إنسان أرمني كان يقطع الحطب، وهو بآخر رمق، فقتله وأخذ رأسه وحمله إلى الفرنج بأنطاكية.
وكان الفرنج قد كاتبوا صاحب حلب، ودمشق، بأننا لا نقصد غير البلاد التي كانت بيد الروم، لا نطلب سواها، مكراً منهم وخديعة، حتى لا يساعدوا صاحب أنطاكية.
ذكر مسير المسلمين إلى الفرنج

وما كان منهم
لما سمع قوام الدولة كربوقا بحال الفرنج، وملكهم أنطاكية، جمع العساكر وسار إلى الشام، وأقام بمرج دابق، واجتمعت معه عساكر الشام، تركها وعربها سوى من كان بحلب، فاجتمع معه دقاق بن تتش وطغتكين أتابك، وجناح الدولة، صاحب حمص، وأرسلان تاش، صاحب سنجار، وسليمان بن أرتق، وغيرهم من الأمراء ممن ليس مثلهم. فلما سمعت الفرنج عظمت المصيبة عليهم، وخافوا لما هم فيه من الوهن، وقلة الأقوات عندهم، وسار المسلمون، فنازلوهم على أنطاكية، وأساء كربوقا السيرة، فيمن معه من المسلمين، وأغضب الأمراء وتكبر عليهم ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذه الحال، فأغضبهم ذلك، وأضمروا له في أنفسهم الغدر، إذا كان قتال، وعزموا على إسلامه عند المصدوقة.
وأقام الفرنج بأنطاكية، بعد أن ملكوها، اثني عشر يوماً لي لهم ما يأكلونه، وتقوت الأقوياء بدوابهم، والضعفاء بالميتة وورق الشجر، فلما رأوا ذلك أرسلوا إلى كربوقا يطلبون منه الأمان ليخرجوا من البلد، فلم يعطهم ما طلبوا، وقال: لا تخرجون إلا بالسيف.
وكان معهم من الملوك بردويل، وصنجيل، وكندفري، والقمص، صاحب الرها، وبيمنت، صاحب أنطاكية، وهو المقدم عليهم. وكان معهم راهب مطاع فيهم، وكان داهية من الرجال، فقال لهم: إن المسيح، عليه السلام، كان له حربة مدفونة بالقسيان الذي بأنطاكية، وهو بناء عظيم، فإن وجدتموها فإنكم تظفرون، وإن لم تجدوها فالهلاك متحقق.

وكان قد دفن قبل ذلك حربة في مكان فيه، وعفى أثرها، وأمرهم بالصوم والتوبة، ففعلوا ذلك ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع أدخلهم الموضع جميعهم، ومعهم عامتهم، والصناع منهم، وحفروا في جميع الأماكن فوجدوها كما ذكر، فقال لهم: أبشروا بالظفر، فخرجوا في اليوم الخامس من الباب متفرقين من خمسة، وستة، ونحو ذلك، فقال المسلمون لكربوقا: ينبغي أن تقف على الباب، فتقتل كل من يخرج، فإن أمرهم الآن، وهم متفرقون، سهل. فقال: لا تفعلوا! أمهلوهم حتى يتكامل خروجهم فنقتلهم. ولم يمكن من معاجلتهم، فقتل قوم من المسلمين جماعة من الخارجين، فجاء إليهم هو بنفسه، ومنعهم، ونهاهم.
فلما تكامل خروج الفرنج، ولم يبق بأنطاكية أحد منهم، ضربوا مصافاً عظيماً، فولى المسلمون منهزمين، لما عاملهم به كربوقا أولاً من الاستهانة بهم، والإعراض عنهم، وثانياً من منعهم عن قتل الفرنج، وتمت الهزيمة عليهم، ولم يضرب أحد منهم بسيف، ولا طعن برمح، ولا رمى بسهم، وآخر من انهزم سقمان بن أرتق، وجناح الدولة، لأنهما كانا في الكمين، وانهزم كربوقا معهم. فلما رأى الفرنج ذلك ظنوه مكيدة، إذ لم يجر قتال ينهزم من مثله، وخافوا أن يتبعوهم، وثبت جماعة من المجاهدين، وقاتلوا حسبة، وطلباً للشهادة، فقتل الفرنج منهم ألوفاً، وغنموا ما في العسكر من الأقوات والأموال والأثاث والدواب والأسلحة، فصلحت حالهم، وعادت إليهم قوتهم.
ذكر ملك الفرنج معرة النعمانلما فعل الفرنج بالمسلمين ما فعلوا ساروا إلى معرة النعمان، فنازلوها، وحصروها، وقاتلهم أهلها قتالاً شديداً، ورأى الفرنج منهم شدة ونكاية، ولقوا منهم الجد في حربهم، والاجتهاد في قتالهم، فعملوا عند ذلك برجاً من خشب يوازي سور المدينة، ووقع القتال عليه، فلم يضر المسلمين ذلك، فلما كان الليل خاف قوم من المسلمين، وتداخلهم الفشل والهلع، وظنوا أنهم إذا تحصنوا ببعض الدور الكبار امتنعوا بها، فنزلوا من السور وأخلوا الموضع الذي كانوا يحفظونه، فرآهم طائفة أخرى، ففعلوا كفعلهم، فخلا مكانهم أيضاً من السور.
ولم تزل ننبع طائفة منهم التي تليها في النزول، حتى خلا السور، فصعد الفرنج إليه على السلاليم، فلما علوه تحير المسلمون، ودخلوا دورهم، فوضع الفرنج فيهم السيف ثلاثة أيام، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف، وسبوا السبي الكثير، وملكوه، وأقاموا أربعين يوماً. وساروا إلى عرقة فحصروها أربعة أشهر، ونقبوا سورها عدة نقوب، فلم يقدروا عليها، وراسلهم منقذ، صاحب شيزر، فصالحهم عليها، وساروا إلى حمص وحصروها، فصالحهم صاحبها جناح الدولة، وخرجوا على طريق النواقير إلى عكا، فلم يقدروا عليها.
ذكر الحرب بين الملك سنجر ودولتشاهكان دولتشاه من أبناء الملوك السلجوقية، فاجتمع عليهم جمع من عساكر بيغو أخي طغرلبك، وكانوا بطخارستان، فأخذوا ولوالج وكمنج، فسار إليهم السلطان سنجر وعساكره. فوصل إلى بلخ، فدخلها في رجب من هذه السنة، وخرج منها لقتال دولتشاه، فلم يكن له من الجموع ما ثبت مقابل عسكر سنجر، فقاتلوا شيئاً من قتال، وانهزموا، وأخذوا دولتشاه أسيراً، وأحضر عند سنجر، فعفا عنه من القتل، وحبسه، ثم بعد ذلك كحله، وسير سنجر جيشاً إلى مدينة ترمذ، فملكوها، وأسلمها إلى طغرلتكين.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة فتح تميم بن المعز بن باديس، صاحب إفريقية، جزيرة جربة وجزيرة قرقنة، ومدينة تونس، وكان بإفريقية غلاء شديد هلك فيه كثير من الناس.
وفيها أرسل الخليفة رسولاً إلى السلطان بركيارق مستنفراً على الفرنج، ومبالغاً في تعظيم الأمر وتداركه قبل أن يزداد قوة.
وفي هذه السنة، في شعبان، توفي أبو الحسن أحمد بن عبد القادر بن محمد بن يوسف، ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة، وكان فاضلاً في الحديث.
وفيها توفي أبو الفضل عبد الوهاب بن أبي محمد التميمي الحنبلي، وكان فاضلاً، فصيحاً.
وفيها، في شوال، توفي طراد بن محمد الزينبي، وهو عالي الإسناد في الحديث، وولي نقابة العباسيين من بعده ابنه شرف الدين علي بن طراد.
وفيها، في ذي القعدة، توفي أبو الفتح المظفر بن رئيس الرؤساء أبي القاسم بن المسلمة، وكان بيته مجمع الفضلاء وأهل الدين، ومن جملة من كان عنده إلى أن توفي الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.

وفيها توفي أبو الفرج سهل بن بشر بن أحمد الاسفراييني، وهو من أعيان المحدثين.
ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائةذكر عصيان الأمير أُنر وقتله
لما سار السلطان بركيارق إلى خراسان ولى الأمير أنر بلاد فارس جميعها، وكانت قد تغلب عليها الشوانكارة على اختلاف بطونهم وقبائلهم، واستعانوا بصاحب كرمان إيران شاه بن قاورت، فاجتمعوا، وصافوا الأمير أنر، وكسروه، وعاد مفلولاً إلى أصبهان، وأرسل إلى السلطان يستأذنه في اللحاق به إلى خراسان، فأمره بالمقام ببلد الجبال، وولاه إمارة العراق، وكاتب العساكر المجاورة له بطاعته. فأقام بأصبهان، وسار منها إلى أقطاعه بأذربيجان، وعاد وقد انتشر أمر الباطنية بأصبهان، فندب نفسه لقتالهم، وحصر قلعة على جبل أصبهان.
واتصل به مؤيد الملك بن نظام الملك، وكان ببغداد، فسار منها إلى الحلة، فأكرمه صدقة، وسار من عنده إلى الأمير أنر، فلما اجتمع بالأمير أنر خوفه هو وغيره من السلطان بركيارق، وعظموا عليه الاجتماع به، وحسنوا له البعد عنه، وأشاروا عليه بمكاتبة غياث الدين محمد بن ملكشاه، وهو إذ ذاك بكنجة، فعزم على المخالفة للسلطان، وتحدث فيه، فظهر ذلك، فزاد خوفه من السلطان، فجمع من العساكر المعروفين بالشجاعة نحو عشرة آلاف فارس، وسار من أصبهان إلى الري، وأرسل إلى السلطان يقول: إنه مملوك، ومطيع، إن سلم إليه مجد الملك البلاساني، وإن لم يسلمه إليه فهو عاص خارج عن الطاعة.
فبينما هو يفطر، وكان عادته أن يصوم أياماً من الأسبوع، فلما قارب الفراغ من الإفطار هجم عليه ثلاثة نفر من الأتراك المولدين بخوارزم، وهم من جملة خيله، فصدم أحدهم المشعل فألقاه، وصدم الآخر الشمعة فأطفأها، وضربه الثالث بالسكين فقتله، وقتل معه جانداره، واختلط الناس في الظلمة، ونهبوا خزائنه، وتفرق عسكره، وبقي ملقى فلم يوجد ما يحمل عليه، ثم حمل إلى داره بأصبهان، ودفن بها.
ووصل خبر قتله إلى السلطان بركيارق، وهو بخوار الري، قد خرج من خراسان عازماً على قتاله، وهو على غاية الحذر من قتاله وعاقبة أمره، وفرح مجد الملك البلاساني بقتله، وكان له مثل يومه عن قريب، وكان عمر أنر سبعاً وثلاثين سنة، وكان كثير الصوم والصلاة والخير والمحبة للصالحين.
ذكر ملك الفرنج لعنهم الله البيت المقدسكان البيت المقدس لتاج الدولة تتش، وأقطعه للأمير سقمان بن أرتق التركماني، فلما ظفر الفرنج بالأتراك على أنطاكية، وقتلوا فيهم، ضعفوا، وتفرقوا، فلما رأى المصريون ضعف الأتراك ساروا إليه، ومقدمهم الأفضل بن بدر الجمالي، وحصروه وبه الأمير سقمان، وإيلغازي، ابنا أرتق، وابن عمهما سونج، وابن أخيهما ياقوتي، ونصبوا عليه نيفاً وأربعين منجنيقاً، فهدموا مواضع من سوره، وقاتلهم أهل البلد، فدام القتال والحصار نيفاً وأربعين يوماً، وملكوه بالأمان في شعبان سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
وأحسن الأفضل إلى سقمان وإيلغازي ومن معهما، وأجزل لهم العطاء، وسيرهم فساروا إلى دمشق، ثم عبروا الفرات، فأقام سقمان ببلد الرها وسار إيلغازي إلى العراق، واستناب المصريون فيه رجلاً يعرف بافتخار الدولة، وبقي فيه إلى الآن. فقصد الفرنج، بعد أن حصروا عكا، فلم يقدروا عليها، فلما وصلوا إليه حصروه نيفاً وأربعين يوماً، ونصبوا عليه برجين أحدهما من ناحية صهيون، وأحرقه المسلمون، وقتلوا كل من به.
فلما فرغوا من إحراقه أتاهم المستغيث بأن المدينة قد ملكت من الجانب الآخر، وملكوها من جهة الشمال منه ضحوة نهار يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان، وركب الناس السيف، ولبث الفرنج في البلدة أسبوعاً يقتلون فيه المسلمين، واحتمى جماعة من المسلمين بمحراب داود، فاعتصموا به، وقاتلوا فيه ثلاثة أيام، فبذل لهم الفرنج الأمان، فسلموه إليهم، ووفى لهم الفرنج، وخرجوا ليلاً إلى عسقلان فأقاموا بها.

وقتل الفرنج، بالمسجد الأقصى، ما يزيد على سبعين ألفاً، منهم جماعة كثيرة من أئمة المسلمين، وعلمائهم، وعبادهم، وزهادهم، ممن فارق الأوطان وجاور بذلك الموضع الشريف، وأخذوا من عند الصخرة نيفاً وأربعين قنديلاً من الفضة، وزن كل قنديل ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا تنوراً من فضة وزنه أربعون رطلاً بالشامي، وأخذوا من القناديل الصغار مائة وخمسين قنديلاً نقرة، ومن الذهب نيفاً وعشرين قنديلاً، وغنموا منه ما لا يقع عليه الإحصاء.
وورد المستنفرون من الشام، في رمضان، إلى بغداد صحبة القاضي أبي سعد الهروي، فأوردوا في الديوان كلاماً أبكى العيون، وأوجع القلوب، وقاموا بالجامع يوم الجمعة، فاستغاثوا، وبكوا وأبكوا، وذكر ما دهم المسلمين بذلك البلد الشريف المعظم من قتل الرجال، وسبي الحريم والأولاد، ونهب الأموال، فلشدة ما أصابهم أفطروا، فأمر الخليفة أن يسير القاضي أبو محمد الدامغاني، وأبو بكر الشاشي، وأبو القاسم الزنجاني، وأبو الوفا بن عقيل، وأبو سعد الحلواني، وأبو الحسين بن سماك، فساروا إلى حلوان، فبلغهم قتل مجد الملك البلاساني، على ما نذكره، فعادوا من غير بلوغ أرب، ولا قضاء حاجة.
واختلف السلاطين على ما نذكره، فتمكن الفرنج من البلاد، فقال أبو المظفر الآبيوردي، في هذا المعنى، أبياتاً منها:
مزجنا دماء بالدموع السواجم، ... فلم يبق منا عرضة للمراجم
وشر سلاح المرء دمع يفيضه، ... إذا الحرب شبت نارها بالصوارم
فإيهاً، بني الإسلام، إن وراءكم ... وقائع يلحقن الذرى بالمناسم
أتهويمة في ظل أمن وغبطة، ... وعيش كنوار الخميلة ناعم
وكيف تنام العين ملء جفونها، ... على هفوات أيقظت كل نائم
وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ... ظهور المذاكي، أو بطون القشاعم
تسومهم الروم الهوان، وأنتم ... تجرون ذيل الخفض فعل المسالم
وكم من دماء قد أبيحت، ومن دمى ... تواري حياءً حسنها بالمعاصم
بحيث السيوف البيض محمرة الظبى ... وسمر العوالي داميات اللهاذم
وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة ... تظل لها الولدان شيب القوادم
وتلك حروب من يغب عن غمارها ... ليسلم، يقرع بعدها سنجر نادم
سللن بأيدي المشركين قواضباً، ... ستغمد منهم في الطلى والجماجم
يكاد لهن المستجن بطيبةٍ ... ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم
أرى أمتي لا يشرعون إلى العدى ... رماحهم، والدين واهي الدعائم
ويجتنبون النار خوفاً من الردى، ... ولا يحسبون العار ضربة لازم
أترضى صناديد الأعاريب بالأذى، ... ويغضي على ذل كماة الأعاجم
ومنها:
فليتهم، إذ لم يذودوا حمية ... عن الدين، ضنوا غيرة بالمحارم
وإن زهدوا في الأجرن إذ حمس الوغى، ... فهلا أتوه رغبة في الغنائم
لئن أذعنت تلك الخياشم للبرى، ... فلا عطسوا إلا بأجدع راغم
دعوناكم، والحرب ترنو ملحةً ... إلينا، بألحاظ النسور القشاعم
تراقب فينا غارة عربية، ... تطيل عليها الروم عض الأباهم
فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه، ... رمينا إلى أعدائنا بالجرائم
ذكر الحرب بين المصريين والفرنجفي هذه السنة، في رمضان، كانت وقعة بين العساكر المصرية والفرنج، وسببها أن المصريين لما بلغهم ما تم على أهل القدس، جمع الأفضل أمير الجيوش العساكر، وحشد، وسار إلى عسقلان، وأرسل إلى الفرنج ينكر عليهم ما فعلوا، ويتهددهم، فأعادوا الرسول بالجواب ورحلوا على أثره، وطلعوا على المصريين، عقيب وصول الرسول، ولم يكن عند المصريين خبر من وصولهم، ولا من حركتهم، ولم يكونوا على أهبة القتال، فنادوا إلى ركوب خيولهم، ولبسوا أسلحتهم، وأعجلهم الفرنج، فهزموهم، وقتلوا منهم من قتل، وغنموا ما في المعسكر من مال وسلاح وغير ذلك.

وانهزم الأفضل، فدخل عسقلان، ومضى جماعة من المنهزمين فاستتروا بشجر الجميز، وكان هناك كثيراً، فأحرق الفرنج بعض الشجر، حتى هلك من فيه، وقتلوا من خرج منه، وعاد الأفضل في خواصه إلى مصر، ونازل الفرنج عسقلان، وضايقوها، فبذل لهم أهلها قطيعة اثني عشر ألف دينار، وقيل عشرين ألف دينار، ثم عادوا إلى القدس.
ذكر ابتداء ظهور السلطان محمد بن ملكشاهكان السلطان محمد وسنجر أخوين لأم وأب، أمهما أم ولد، ولما مات أبوه ملكشاه كان محمد معه ببغداد، فسار مع أخيه محمود، وتركان خاتون زوجة والده إلى أصبهان، ولما حصر بركيارق أصبهان خرج محمد متخفياً، ومضى إلى والدته، وهي في عسكر أخيه بركيارق، وقصد أخاه السلطان بركيارق، وسار معه إلى بغداد سنة ست وثمانين وأربعمائة، وأقطعه بركيارق كنجة وأعمالها، وجعل معه أتابكاً له الأمير قتلغ تكين، فلما قوي محمد قتله، واستولى على جميع أعمال أران الذي من جملته كنجة، فعرف ذلك الوقت شهامة محمد.
وكان السلطان ملكشاه قد أخذ تلك البلاد من فضلون بن أبي الأسوار الروادي، وسلمها إلى سرهنك ساوتكين الخادم، وأقطع فضلون أستراباذ، وعاد فضلون ضمن بلاده، ثم عصى فيها لما قوي، فأرسل السلطان إليه الأمير بوزان، فحاربه وأسره، وأقطع بلاده لجماعة منهم: باغي سيان، صاحب أنطاكية، ولما مات باغي سيان عاد ولده إلى ولاية أبيه في هذه البلاد، وتوفي فضلون ببغداد سنة أربع وثمانين وهو على غاية من الإضاقة في مسجد على دجلة.
وقد ذكرنا فيما تقدم تنقل الأحوال بمؤيد الملك عبيد الله بن نظام الملك، وأنه كان عند الأمير أنر، فحسن له عصيان السلطان بركيارق، فلما قتل أنر سار إلى الملك محمد، فأشار عليه بمخالفة أخيه، والسعي في طلب السلطنة واستوزر مؤيد الملك.
واتفق قتل مجد الملك البلاساني، واستيحاش العسكر من السلطان بركيارق، وفارقوه وساروا نحو السلطان محمد، فلقوه بخرقان، فصاروا معه، وساروا نحو الري.
وكان السلطان بركيارق لما فارقه عسكره سار مجداً إلى الري، فأتاه بها الأمير نيال بن أنوشتكين الحسامي، وهو من أكابر الأمراء، ووصل إليه أيضاً عز الملك منصور بن نظام الملك، وأمه ابنة ملك الأبخاز، ومعه عساكر جمة، فبلغه مسير أخيه محمد إليه في العساكر، فسار من الري إلى أصبهان، فلم يفتح أهلها له الأبواب، فسار إلى خوزستان، على ما نذكره.
وورد السلطان محمد إلى الري ثاني ذي القعدة، فوجد زبيدة خاتون والدة السلطان بركيارق قد تخلفت بعد ابنها، فأخذها مؤيد الملك وسجنها في القلعة، وأخذ خطها بخمسة آلاف دينار، وأراد قتلها، وأشار عليه ثقاته أن لا يفعل ذلك، فلم يقبل منهم، وقالوا له: العسكر محبون لولدها، وإنما استوحشوا منه لأجلها، ومتى قتلت عدلوا عليه، فلا تغتر بهؤلاء الجند، فإنهم غدروا بمن أحسن إليهم أوثق ما كان بهم، فلم يصغ إلى قولهم، ورفعها إلى القلعة، وخنقت، وكان عمرها اثنتين وأربعين سنة. فلما أسر السلطان بركيارق مؤيد الملك رأى خطه في تذكرته بخمسة آلاف دينار، فكان أعظم الأسباب في قتله.
ذكر الخطبة ببغداد للملك محمدلما قوي أمر السلطان محمد سار إليه سعد الدولة كوهرائين من بغداد، وكان قد استوحش من السلطان بركيارق، فاجتمع هو وكربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب الجزيرة، وسرخاب بن بدر، صاحب كنكور، وغيرها، فساروا إلى السلطان محمد، فلقوه بقم، فرد سعد الدولة إلى بغداد، وخلع عليه، وسار كربوقا وجكرمش في خدمته إلى أصبهان، ولما وصل كوهرائين إلى بغداد خاطب الخليفة في الخطبة للسلطان محمد، فأجاب إلى ذلك، وخطب له يوم الجمعة سابع عشر ذي الحجة، ولقب غياث الدنيا والدين.
ذكر قتل مجد الملك البلاسانيقد ذكرنا تحكم مجد الملك أبي الفضل أسعد بن محمد في دولة السلطان بركيارق، وتمكنه منها. فلما بلغ الغاية التي لا مزيد عليها جاءته نكبات الدنيا ومصائبها من حيث لا يحتسب.
وأما سبب قتله، فإن الباطنية لما توالى منهم قتل الأمراء الأكابر من الدولة السلطانية، نسبوا ذلك إليه، وأنه هو الذي وضعهم على قتل من قتلوه، وعظم ذلك قتل الأمير برسق، فاتهم أولاده زنكي واقبوري وغيرهما، مجد الملك بقتله، وفارقوا السلطان.

وسار السلطان إلى زنجان لأنه بلغه خروج السلطان عليه، على ما ذكرناه، فطمع حينئذ الأمراء، فأرسل أمير آخر، وبلكابك، وطغايرك ابن اليزن، وغيرهم، إلى الأمراء بني برسق يستحضرونهم إليهم ليتفقوا معهم على مطالبة السلطان بتسليم مجد الملك إليهم ليقتلوه، فحضروا عندهم، فأرسلوا إلى السلطان بركيارق، وهم بسجاس، مدينة قريبة من همذان، يلتمسون تسليمه إليهم، ووافقهم على ذلك العسكر جميعه، وقالوا: إن سلم إلينا فنحن العبيد الملازمون للخدمة، وإن منعنا فارقنا، وأخذنا قهراً. فمنع السلطان منه، فأرسل مجد الملك إلى السلطان يقول له: المصلحة أن تحفظ أمراء دولتك، وتقتلني أنت لئلا يقتلني القوم فيكون فيه وهن على دولتك. فلم تطب نفس السلطان بقتله، وأرسل إليهم يستحلفهم على حفظ نفسه، وحبسه في بعض القلاع. فلما حلفوا سلمه إليهم، فقتله الغلمان قبل أن يصل إليهم، فسكنت الفتنة.
ومن العجب أنه كان لا يفارقه كفنه سفراً وحضراً، ففي بعض الأيام فتح خازنه صندوقاً، فرأى الكفن، فقال: وما أصنع بهذا؟ إن أمري لا يؤول إلى كفن، والله ما أبقى إلا طريحاً على الأرض. فكان كذلك، ورب كلمة تقول لقائلها دعني.
ولما قتل حمل رأسه إلى مؤيد الملك بن نظام الملك. وكان مجد الملك خيراً، كثير الصلاة بالليل، كثير الصدقة، لا سيما على العلويين وأرباب البيوتات، وكان يكره سفك الدماء، وكان يتشيع إلا أنه كان يذكر الصحابة ذكراً حسناً، ويلعن من يسبهم. ولما قتل أرسل الأمراء يقولون للسلطان: المصلحة أن تعود إلى الري، ونحن نمضي إلى أخيك فنقاتله ونقضي هذا المهم. فسار بعد امتناع، وتبعه مائتا فارس لا غير، ونهب العسكر سرادق السلطان ووالدته وجميع أصحابه، وعاد إلى الري، وسار العسكر إلى السلطان محمد.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شعبان، وصل الكيا أبو الحسن علي بن محمد الطبري المعروف بالهراس، الفقيه الشافعي، ولقبه عماد الدين شمس الإسلام، برسالة من السلطان بركيارق إلى الخليفة، وهو من أصحاب إمام الحرمين أبي المعالي الجويني، ومولده سنة خمسين وأربعمائة، واعتنى بأمره مجد الملك البلاساني، وقام له الوزير عميد الدولة بن جهير لما دخل عليه.
وفيها قتل أبو القاسم ابن إمام الحرمين أبي المعالي الجويني بنيسابور! وكان خطيبها، واتهم العامة الزروع جميعها، ولحق الناس بعده وباء جارف، فمات منهم خلق كثير عجزوا عن دفنهم لكثرتهم.
وفيها، في شعبان، توفي أبو الغنائم الفارقي، الفقيه الشافعي، بجزيرة ابن عمر، وكان إماماً فاضلاً زاهداً.
وفيها، في صفر، توفي أبو عبد الله الحسين بن طلحة النعالي، وعمره نحو تسعين سنة، وكان عالي الإسناد في الحديث، وقيل توفي سنة ثلاث وتسعين.
وفيها، في شعبان، توفي أبو غالب محمد بن علي بن عبد الواحد بن الصباغ الفقيه الشافعي، تفقه على ابن عمه أبي نصر، وكان حسن الخلق، متواضعاً.
ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة

ذكر إعادة خطبة السلطان بركيارق ببغداد
في هذه السنة أعيدت الخطبة للسلطان بركيارق ببغداد.
وسبب ذلك أن بركيارق سار في العام الماضي من الري إلى خوزستان، فدخلها وجميع من معه على حال سيئة، وكان أمير عسكره حينئذ ينال ابن أنوشتكين الحسامي، وأتاه غيره من الأمراء، وسار إلى واسط، فظلم عسكره الناس، ونهبوا البلاد، واتصل به الأمير صدقة بن مزيد، صاحب الحلة، ووثب على السلطان قوم ليقتلوه، فأخذوا وأحضروا بين يديه، فاعترفوا أن الأمير سرمز، شحنة أصبهان، وضعهم على قتله، فقتل أحدهم، وحبس الباقون، وسار إلى بغداد، فدخلها سابع عشر صفر، وخطب له ببغداد يوم الجمعة منتصف صفر قبل وصوله بيومين.
وكان سعد الدولة كوهرائين بالشفيعي، وهو في طاعة السلطان محمد، فسار إلى داي مرج، ومعه إيلغازي بن أرتق وغيره من الأمراء، فأرسل إلى مؤيد الملك والسلطان محمد يستحثهما على الوصول إليه، فأرسلا إليه كربوقا، صاحب الموصل، وجكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، فأما جكرمش فاستأذن كوهرائين في العود إلى بلده، وقال إنه قد اختلت الأحوال، فأذن له، وبقي مع كوهرائين جماعة من الأمراء، فاتفقوا على أن يصدروا عن رأي واحد لا يختلفون، ثم اتفقت آراؤهم على أن كتبوا إلى السلطان بركيارق يقولون له: اخرج إلينا، فما فينا من يقاتلك.

وكان الذي أشار بذا كربوقا، وقال لكوهرائين: إننا لم نظفر من محمد ومؤيد الملك بطائل، وكان منحرفاً عن مؤيد الملك. فسار بركيارق إليهم، فترجلوا، وقبلوا الأرض، وعادوا معه إلى بغداد، وأعاد إلى كوهرائين جميع ما كان أخذ له من سلاح ودواب وغير ذلك، واستوزر بركيارق ببغداد الأعز أبا المحاسن عبد الجليل بن علي بن محمد الدهستاني، وقبض على عميد الدولة ابن جهير، وزير الخليفة، وطالبه بالحاصل من ديار بكر والموصل لما تولاها هو وأبوه أيام ملكشاه، فاستقر الأمر على مائة ألف دينار وستين ألف دينار يحملها إليه، وخلع الخليفة السلطان بركيارق.
ذكر الوقعة بين السلطانين بركيارق ومحمد وإعادة خطبة محمد ببغدادفي هذه السنة سار بركيارق من بغداد على شهرزور، فأقام بها ثلاثة أيام، والتحق به عالم كثير من التركمان وغيرهم، فسار نحو أخيه السلطان محمد ليحاربه، فكاتبه رئيس همذان ليسير إليها ويأخذ أقطاع الأمراء الذين مع أخيه، فلم يفعل، وسار نحو أخيه، فوقعت الحرب بينهم رابع رجب، وهو المصاف الأول بين بركيارق وأخيه السلطان محمد بإسبيذروذ، ومعناه النهر الأبيض، وهو على عدة فراسخ من همذان.
وكان مع محمد نحو عشرين ألف مقاتل، وكان محمد في القلب، ومعه الأمير سرمز، وعلى ميمنته أمير آخُر، وابنه إباز، على ميسرته مؤيد الملك، والنظامية، وكان السلطان بركيارق في القلب، ووزيره الأعز أبو المحاسن، وعلى ميمنته كوهرائين وعز الدولة بن صدقة بن مزيد، وسرخاب بن بدر، وعلى ميسرته كربوقا وغيره، فحمل كوهرائين من ميمنة بركيارق على ميسرة محمد، وبها مؤيد الملك، والنظامية، فانهزموا، ودخل عسكر بركيارق في خيامهم، فنهبوهم، وحملت ميمنة محمد على ميسرة بركيارق، فانهزمت الميسرة، وانضافت ميمنة محمد إليه في القلب على بركيارق، ومن معه، فانهزم بركيارق، ووقف محمد مكانه، وعاد كوهرائين من طلب المنهزمين الذين انهزموا بين يديه، وكبا به فرسه، فأتاه خراساني فقتله، وأخذ رأسه، وتفرقت عساكر بركيارق، وبقي في خمسين فارساً.
وأما وزيره الأعز أبو المحاسن فإنه أخذ أسيراً، فأكرمه مؤيد الملك بن نظام الملك، ونصب له خيماً وخركاة، وحمل إليه الفرش والكسوة، وضمنه عمادة بغداد، وأعاده إليها، وأمره بالمخاطبة في إعادة الخطبة للسلطان محمد ببغداد، فلما وصل إليها خاطب في ذلك، فأجيب إليه وخطب له يوم الجمعة رابع عشر رجب.
ذكر قتل سعد الدولة كوهرائينفي هذه السنة، في رجب قتل سعد الدولة كوهرائين في الحرب المذكورة قبل، وكان ابتداء أمره أنه كان خادماً للملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بويه، انتقل إليه من امرأة من قرقوب بخوزستان، وكان إذا توجه إلى الأهواز حضر عندها، واستعرض حوائجها، وأصاب أهلها منه خيراً كثيراً، فأرسله أبو كاليجار مع ابنه أبي نصر إلى بغداد، فلما قبض عليه السلطان طغرلبك مضى معه إلى قلعة طبرك، فلما مات أبو نصر انتقل إلى خدمة السلطان ألب ارسلان، ووقاه بنفسه لما جرحه يوسف الخوارزمي.
وكان ألب أرسلان قد أقطعه واسط، وجعله شحنة لبغداد، فلما قتل ألب أرسلان أرسله ابنه ملكشاه إلى بغداد، فأحضر له الخلع والتقليد، ورأى ما لم يره خادم قبله من نفوذ الأمر، وتمام القدرة، وطاعة أعيان الأمراء، وخدمتهم إياه، وكان حليماً، كريماً، حسن السيرة، لم يصادر أحداً من أهل ولايته، ومناقبه كثيرة.
ذكر حال السلطان بركيارق بعد الهزيمةوانهزامه من أخيه سنجر أيضاً وقتل أمير داذ حبشي
لما انهزم السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد سار قليلاً، وهو في خمسين فارساً، ونزل عتمة، واستراح، وقصد الري، وأرسل إلى من كان يعلم أنه يريده، ويؤثر دولته، فاستدعاه، فاجتمع معه جمع صالح، فسار إلى اسفرايين، وكاتب أمير داذ حبشي نب التونتاق، وهو بدامغان، يستدعيه، فأجابه يشير عليه بالمقام بنيسابور حتى يأتيه، وكان حينئذ أكثر خراسان وطبرستان وجرجان، فلما وصل بركيارق إلى نيسابور قبض على رؤياتها، وخرج بهم، وأطلقهم بعد ذلك، وتمسك بعميد خراسان أبي محمد، وأبي القاسم بن أبي المعالي الجويني. فأما أبو القاسم فمات مسموماً في قبضه، وقد تقدم أنه قتل سنة اثنتين وتسعين.

وعاد بركيارق فاستدعى أمير داذ، فاعتذر بقصد السلطان سنجر بلاده في عساكر بلخ، ويسأل السلطان بركيارق أن يصل إليه ليعينه على الملك سنجر، فسار إليه في ألف فارس، فلم يعلم بقدومه إلا الأمراء الكبار من أصحاب سنجر، ولم يعلموا الأصاغر لئلا ينهزموا.
وكان مع أمير داذ عشرون ألف فارس، فيهم من رجالة الباطنية خمسة آلاف، ووقع المصاف بين بركيارق وأخيه سنجر خارج النوشجان، وكان الأمير بزغش في ميمنة سنجر، والأمير كندكز في ميسرته، والأمير رستم في القلب، فحمل بركيارق على رستم فطعنه فقتله، وانهزم أصحابه وأصحاب سنجر، واشتغل العسكر بالنهب، فحمل عليهم بزغش وكندكز، فقتلا المنهزمين، وانهزم الرجالة إلى مضيق بين جبلين، فأرسل عليهم الماء فأهلكهم، ووقعت الهزيمة على أصحاب بركيارق، وكان قد أخذ والدة أخيه سنجر لما انهزم أصحابه أولاً، فخافت أن يقتلها بأمه، فأحضرها وطيب قلبها، وقال: إنما أخذتك حتى يطلق أخي سنجر من عنده من الأسرى، ولست كفؤاً لوالدتي حتى أقتلك. فلما أطلق سنجر الأسرى أطلقها بركيارق.
وهرب أمير داذ إلى بعض القرى، وأخذه بعض التركمان، فأعطاه في نفسه مائة ألف دينار، فلم يطلقه، وحمله إلى بزغش فقتله.
وسار بركيارق إلى جرجان ثم إلى دامغان، وسار في البرية، ورؤي في بعض المواضع ومعه سبعة عشر فارساً، وجمازة واحدة، ثم كثر جمعه، وصار معه ثلاثة آلاف فارس، منهم: جاولي سقاووا، وغيره، وسار إلى أصبهان بمكاتبة من أهلها، فسمع السلطان محمد، فسبقه إليها، فعاد إلى سميرم.
ذكر فتح تميم بن المعز مدينة سفاقسفي هذه السنة فتح تميم بن المعز مدينة سفاقس، وكان صاحبها حمو دق عاد فتغلب عليها، واشتد أمره بوزير كان عنده قد قصده، وهو من كتاب المعز، كان حسن الرأي والتدبير، فاستقامت به دولته، وعظم شأنه، فأرسل إليه تميم يطلبه ليستخدمه، ووعده، وبالغ في استمالته، فلم يقبل، فسير تميم جيشاً إلى حصار سفاقس، وأمر الأمير الذي جعله مقدم الجيش أن يهدم ما حول المدينة ويحرقه، ويقطع الأشجار سوى ما يتعلق بذلك الوزير فإنه لا يتعرض له، ويبالغ في صيانته، ففعل ذلك، فلما رأى حمو ما فعل بأملاك الناس، ما عدا الوزير، اتهمه، فقتله، فانحل نظام دولته، وتسلم عسكر تميم المدينة، وخرج حمو منها، وقصد مكن بن كامل الدهماني، فأقام عنده، فأحسن إليه، ولم يزل عنده حتى مات.
ذكر عزل عميد الدولة من وزارة الخليفة ووفاتهلما أطلق مؤيد الدولة، وزير السلطان محمد، الأعز أبا المحاسن، وزير بركيارق، وضمنه عمادة بغداد، أمره أن يخاطب الخليفة بعزل وزيره عميد الدولة بن جهير، فسار من العسكر، وسمع عميد الدولة الخبر، فأمر أصبهبذ صباوة بن خمارتكين بالخروج إلى طريق الأعز وقتله.
وكان أصبهبذ قد حضر الحرب مع بركيارق، ولما انهزم العسكر قصد بغداد، فخرج إلى طريق الأعز أبي المحاسن، فلقيه قريباً من بعقوبا، فأوقع بمن معه، والتجأ الأعز إلى القرية واحتمى، فلما رأى أصبهبذ صباوة ذلك أرسل إليه يقول له: إنك وزير السلطان بركيارق، وأنا مملوكه، فإن كنت على خدمته فاخرج إلينا حتى نسير إلى بغداد ونقيم الخطبة للسلطان، وأنت الصاحب الذي لا يخالف، وإن لم تجب إلى هذا، فما بيننا غير السيف. فأجابه الأعز إلى ذلك، واجتمعا، فعرفه صباوة الذي أمره به عميد الدولة من قتله، وباتا تلك الليلة، وأرسل الأعز إلى الأمير إيلغازي بن أرتق، وكان قد ورد في صحبته، وفارقه نحو الراذان، فحضر في الليل، فانقطع حينئذ أمل صباوة منه، وفارقه.
وسار الأعز إلى بغداد وخاطب في عزل عميد الدولة، فعزل في رمضان، وأخذ من ماله خمسة وعشرون ألف دينار، وقبض عليه وعلى إخوته، وبقي معزولاً إلى سادس عشر شوال، فتوفي محبوساً في دار الخلافة، ومولده في المحرم سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان عاقلاً، كريماً، حليماً، إلا أنه كان عظيم الكبر، يكاد يعد كلامه عداً، وكان إذا كلم إنساناً كلمات يسيرة هنيء ذلك الرجل بكلامه.
ذكر ظفر المسلمين بالفرنج

في ذي القعدة من هذه السنة لقي كمشتكين بن الدانشمند طايلو، وإنما قيل له ابن الدانشمند لأن أباه كان معلماً للتركمان وتقلبت به الأحوال، حتى ملك، وهو صاحب ملطية وسيواس وغيرهما، بيمند الفرنجي، وهو من مقدمي الفرنج، قريب ملطية، وكان صاحبها قد كاتبه، واستقدمه إليه، فورد عليه في خمسة آلاف، فلقيهم ابن الدانشمند، فانهزم بيمند وأسر.
ثم وصل من البحر سبعة قمامصة من الفرنج، وأرادوا تخليص بيمند، فأتوا إلى قلعة تسمى أنكورية، فأخذوها وقتلوا من بها من المسلمين، وساروا إلى قلعة أخرى فيها إسماعيل بن الدانشمند، وحصروها، فجمع ابن الدانشمند جمعاً كثيراً، ولقي الفرنج، وجعل له كميناً، وقاتلهم، وخرج الكمين عليهم، فلم يفلت أحد من الفرنج، وكانوا ثلاثمائة ألف، غير ثلاثة آلاف هربوا ليلاً وأفلتوا مجروحين.
وسار ابن الدانشمند إلى ملطية، فملكها وأسر صاحبها، ثم خرج إليه عسكر الفرنج من أنطاكية، فلقيهم وكسرهم، وكانت هذه الوقائع في شهور قريبة.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة زاد العيارين بالجانب الغربي من بغداد، في شعبان، وعظم ضررهم، فأمر الخليفة كمال الدولة يمن بتهذيب البلد، فأخذ جماعة من أعيانهم، وطلب الباقين فهربوا.
وفيها أيضاً انحلت الأسعار بالعراق، وكان كر الحنطة قد بلغ سبعين ديناراً، وربما زاد كثيراً في بعض الأوقات، وانقطعت الأمطار، ويبست الأنهار، وكثر الموت، حتى عجزوا عن دفن الموتى، فحمل في بعض الأوقات ستة أموات على نعش واحد، وعدمت الأدوية والعقاقير.
وفيها، في رجب، سار بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، إلى قلعة أفامية، فحصرها، وقاتل أهلها أياماً، وأفسد زروعها ثم رحل عنها.
وفيها. في آخر رمضان، قتل الأمير بلكابك سرمز بأصبهان، بدار السلطان محمد، وكان كثير الاحتياط من الباطنية لا يفارقه لبس الدرع ومن يمنع عنه، ففي ذلك اليوم لم يلبس درعاً، ودخل دار السلطان في قلة، فقتله الباطنية، فقتل واحد ونجا آخر.
وفيها توفي أبو الحسن البسطامي الصوفي، ورباطه مشهور على دجلة غربي بغداد، بناه أبو الغنائم بن المحلبان.
وفيها مات أبو نصر بن أبي عبد الله بن جردة، وأصله من عكبرا، وإليه ينسب مسجد ابن جردة، وخرابة ابن جردة ببغداد.
وفيها توفي أبو علي يحيى نب جزلة الطبيب، وكان نصرانياً فأسلم، وهو مصنف كتاب المنهاج.
وفيها، في شوال، توفي عبد الرزاق الصوفي، الغزنوي، المقيم برباط عتاب، وحج عدة حجات على التجريد، ولم يخلف ما تكفن فيه، فقالت زوجته: إذا مت افتضحنا، قال: لم نفتضح؟ قالت: لأنك ليس لك ما تكفن فيه. فقال: إنما أفتضح إذا خلفت ما أكفن فيه.
وفيها، في رمضان، توفي عز الدولة أبو المكارم محمد بن سيف الدولة صدقة بن مزيد.
ثم دخلت سنة أربع وتسعين وأربعمائة

ذكر الحرب بين السلطانين بركيارق ومحمد
وقتل مؤيد الملك
في هذه السنة، ثالث جمادى الآخرة، كان المصاف الثاني بين السلطان بركيارق والسلطان محمد، وقد ذكرنا سنة ثلاث وتسعين انهزام السلطان بركيارق من أخيه السلطان محمد، وتنقله في البلاد، إلى أصبهان، وأنه لم يدخلها، وسار منها إلى خوزستان، وأتى عسكر مكرم، فأتاه الأميران زنكي والبكي ابنا برسق، وصارا معه، وأقام بها شهرين، وسار منها إلى همذان، فاتصل به الأمير إياز.
وكان سبب ذلك أن أمير آخر قد مات مذ قريب، فاتهم إياز مؤيد الملك بأنه سقاه السم، وقوى ذلك عنده أن وزير أمير آخر هرب عقيب موته، فازداد ظن إياز باتهامه، فظفر بالوزير، فقتله.
وكان إياز قد اتخذ أمير آخر ولداً، واتصل به العسكر، ووصى له بجميع ماله، فحين استوحش لهذا السبب كاتب السلطان بركيارق، واتصل به، ومعه خمسة آلاف فارس، وصار من جملة عسكره.
وسار السلطان محمد إلى لقاء أخيه، فلما تقارب العسكران استأمن الأمير سرخاب بن كيخسرو، صاحب آوة، إلى السلطان بركيارق، فأكرمه. ووقع المصاف ثالث جمادى الآخرة، وكان مع السلطان بركيارق خمسون ألفاً، ومع أخيه السلطان محمد خمسة عشر ألفاً، فالتقوا، فاقتتلوا يومهم أجمع، وكان النفر بعد النفر يستأمنون من عسكر محمد إلى بركيارق، فيحسن إليهم.

ومن العجب الدال على الظفر أن رجالة بركيارق احتاجوا إلى تراس، فوصل إليه يوم المصاف بكرة اثنا عشر حملاً سلاحاً من همذان منها ثمانية أحمال تراس، ففرقت فيهم، فلما وصلت نزل السلطان بركيارق، وصلى ركعتين شكراً لله تعالى.
ولم يزل القتال بينهم إلى آخر النهار، فانهزم السلطان محمد وعسكره، وأسر مؤيد الملك، أسره غلام لمجد الملك البلاساني وأحضر عند السلطان بركيارق، فسبه، وأوقفه على ما اعتمده معه من سب والدته مرة، ونسبته إلى مذهب الباطنية أخرى، ومن حمل أخيه محمد على عصيانه، والخروج عن طاعته إلى غير ذلك، ومؤيد الملك ساكت لا يعيد كلمة، فقتله بركيارق بيده، وألقي على الأرض عدة أيام، حتى سأل الأمير إياز في دفنه، فأذن فيه، فحمل إلى تربة أبيه بأصبهان فدفن معه.
وكان بخيلاً، سيء السيرة مع الأمراء، إلا أنه كان كثير المر والحيل في إصلاح أمر الملك، وكان عمره لما قتل نحو خمسين سنة.
وكان السلطان بركيارق قد استوزر في صفر الأعز أبا المحاسن عبد الجليل ابن علي الدهستاني، فلما قتل مؤيد الملك أرسل الوزير أبو المحاسن رسولاً إلى بغداد، وهو أبو إبراهيم الأسداباذي، لأخذ أموال مؤيد الملك، فنزل ببغداد بدار مؤيد الملك، وسلم إليه محمد الشرابي، وهو ابن خالة مؤيد الملك، فأخذت منه الأموال والجواهر بعد مكروه أصابه، وعذاب ناله، وأخذ له ذخائر من مواضع أخر ببلاد العجم منها: قطعة بلخش، وزنها واحد وأربعون مثقالاً.
ولما فرغ السلطان بركيارق من هذه الوقعة سار إلى الري. فوصل إليه هناك قوام الدولة كربوقا، صاحب الموصل، ونور الدولة دبيس بن صدقة بن مزيد.
ذكر حال السلطان محمد بعد الهزيمة

واجتماع بأخيه الملك سنجر
لما انهزم السلطان محمد، سار طالباً خراسان إلى أخيه سنجر، وهما لأم واحدة، فأقام بجرجان، وراسل أخاه يطلب منه مالاً وكسوة، وغير ذلك، فسير إليه ما طلب، وترددت الرسل بينهما، حتى تحالفا واتفقا.
ولم يكن بقي مع السلطان محمد غير أميرين في نحو ثلاثمائة فارس، فلما استقرت القواعد بينهما سار الملك سنجر من خراسان في عساكره نحو أخيه السلطان محمد، فاجتمعا بجرجان، وسارا منها إلى دامغان، فخربها العسكر الخراساني، ومضى أهلها هاربين إلى قلعة كردكوه، وخرب العسكر ما قدروا عليه من البلاد، وعم الغلاء تلك الأصقاع، حتى أكل الناس الميتة والكلاب، وأكل الناس بعضهم بعضاً، وسارا إلى الري، فلما وصلا إليها انضم إليهما النظامية وغيرهم، فكثر جمعهما، وعظمت شوكتهما، وتمكنت من القلوب هيبتهما.
ذكر ما فعله السلطان بركيارق ودخوله بغدادلما كان السلطان بركيارق بالري، بعد انهزام أخيه محمد، اجتمعت عليه العساكر الكثيرة، فصار معه نحو مائة ألف فارس، ثم إنهم ضاقت عليهم الميرة، فتفرقت العساكر، فعاد دبيس بن صدقة إلى أبيه، وخرج الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي بأذربيجان، فسير إليه قوام الدولة كربوقا في عشرة آلاف فارس، واستأذن الأمير إياز في أن يقصد داره بهمذان يصوم بها شهر رمضان، ويعود بعد الفطر، فأذن له، وتفرقت العساكر لمثل ذلك، وبقي في العدد القليل.
فلما بلغه أن أخويه قد جمعا الجموع، وحشدا الجنود، وأنهما لما بلغهما قلة من معه جدا في المسير إليه، وطويا المنازل ليعاجلاه، قبل أن يجمع جموعه وعساكره، فلما قارباه سار من مكانه، وقد طمع فيه من كان يهابه، وأيس منه من كان يرجوه، فقصد نحو همذان ليجتمع هو وإياز، فبلغه أن إياز قد راسل السلطان محمداً ليكون معه ومن جملة أعوانه، خوفاً على ولايته، وهي همذان وغيرها، فلما سمع ذلك عاد عنها، وقصد خوزستان، فلما قرب من تستر كاتب الأمراء بني برسق يستدعيهم إليه، فلم يحضروا لما علموا أن إياز لم يحضر، وللخوف من السلطان محمد، فسار نحو العراق، فلما بلغ حلوان أتاه رسول الأمير إياز يسأل التوقف ليصل إليه.
وسبب ذلك أن إياز راسل السلطان محمد في الانضمام إليه، والمصير في جملة عسكره، فلم يقبله، وسير العساكر إلى همذان، ففارقها منهزماً، ولحق بالسلطان بركيارق، فأقام السلطان بركيارق بحلوان، ووصل إليه إياز، وساروا جميعهم إلى بغداد.

وأخذ عسكر محمد ما تخلف للأمير إياز بهمذان من مال، ودواب، وبرك، وغير ذلك، فإنه أعجل عنه، وكان من جملته خمسمائة حصان عربية، قيل كان يساوي كل حصان منها ما بين ثلاثمائة دينار إلى خمسمائة دينار، ونهبوا داره، وصادروا جماعة من أصحابه، وصودر رئيس همذان بمائة ألف دينار.
ولما وصل إياز إلى بركيارق تكاملت عدتهم خمسة آلاف فارس، وقد ذهبت خيامهم وثقلهم، ووصل بركيارق إلى بغداد سابع عشر ذي القعدة، وأرسل الخليفة إلى طريقه يلتقيه أمين الدولة بن موصلايا في الموكب، ولما كان عيد الأضحى نفذ الخليفة منبراً إلى دار السلطان، وخطب عليه الشريف أبو الكرم، وصلى صلاة العيد، ولم يحضر بركيارق لأنه كان مريضاً.
وضاقت الأموال على بركيارق، فلم يكن عنده ما يخرجه على نفسه وعلى عساكره، فأرسل إلى الخليفة يشكو الضائقة وقلة المال، ويطلب أن يعان بما يخرجه، فتقرر الأمر بعد المراجعات على خمسين ألف دينار، حملها الخليفة إليه، ومد بركيارق وأصحابه أيديهم إلى أموال الناس، فعم ضررهم، وتمنى أهل البلاد زوالهم عنهم، ودعتهم الضرورة إلى أن ارتكبوا خطة شنعاء، وذلك أنه قدم عليهم أبو محمد عبيد الله بن منصور، المعروف بابن صليحة، قاضي جبلة من بلاد الشام وصاحبها، منهزماً من الفرنج، على ما نذكره، ومعه أموال جليلة المقدار، فأخذوها منه.
ذكر خلاف صدقة بن مزيد على بركيارقفي هذه السنة خرج الأمير صدقة بن منصور بن دبيس بن مزيد، صاحب الحلة، عن طاعة السلطان بركيارق، وقطع خطبته من بلاده، وخطب فيه للسلطان محمد.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز أبا المحاسن الدهستاني، وزير السلطان بركيارق، أرسل إلى صدقة يقول له: قد تخلف عندك لخزانة السلطان ألف ألف دينار، وكذا وكذا دينار لسنين كثيرة، فإن أرسلتها، وإلا سيرنا العساكر إلى بلادك وأخذناها منك. فلنا سمع هذه الرسالة قطع الخطبة، وخطب لمحمد.
فلما وصل السلطان بركيارق إلى بغداد على هذه الحال أرسل إليه مرة بعد مرة يدعوه إلى الحضور عنده، فلم يجب إلى ذلك، فأرسل إليه الأمير إياز يشير عليه بقصد خدمة السلطان، ويضمن له كل ما يريده، فقال: لا أحضر، ولا أطيع السلطان، إلا إذا سلم وزيره أبا المحاسن إلي، وإن لم يفعل فلا يتصور مني الحضور عنده أبداً، ويكون في ذلك ما يكون، فإن سلمه إلي، فأنا العبد المخلص في العبودية بالحسن والطاعة. فلم يجب إلى ذلك، فتم على مقاطعته، وأرسل إلى الكوفة، وطرد عنها النائب بها عن السلطان واستضافها إليه.
ذكر وصول السلطان محمد إلى بغداد

ورحيل السلطان بركيارق عنها
في هذه السنة، في السابع والعشرين من ذي الحجة، وصل السلطان محمد وسنجر إلى بغداد، وكان السلطان محمد لما استولى على همذان وغيرها سار إلى بغداد، فلما وصل إلى حلوان سار إليه إيلغازي بن أرتق في عساكره، وخدمه، وأحسن في الخدمة، وكان عسكر محمد يزيد على عشرة آلاف فارس سوى الأتباع.
فلما وصلت الأخبار بذلك كان بركيارق على شدة من المرض، يرجف عليه خواصه بكرة وعشياً، فماج أصحابه، وخافوا، واضطربوا، وحاروا، وعبروا به في محفة إلى الجانب الغربي، فنزلوا بالرملة، ولم يبق في بركيارق غير روح يتردد، وتيقن أصحابه موته، وتشاوروا في كفنه، وموضع دفنه.
فبينما هم كذلك إذ قال لهم: إني أجد نفسي قد قويت، وحركتي قد تزايدت، فطابت نفوسهم، وساروا، وقد وصل العسكر الآخر، فتراءى الجمعان بينهما دجلة، وجرى بينهما مراماة وسباب، وكان أكثر ما يسبهم عسكر يا باطنية، يعيرونهم بذلك، ونهبوا البلاد في طريقهم إلى أن وصلوا إلى واسط.
ووصل السلطان محمد إلى بغداد، فنزل بدار المملكة، فبرز إليه توقيع الخليفة المستظهر بالله يتضمن الامتعاض من سوء سيرة بركيارق ومن معه، والاستبشار بقدومه، وخطب به بالديوان، ونزل الملك سنجر بدار كوهرائين، وكان محمد قد استوزر بعد مؤيد الملك خطير الملك أبا منصور محمد بن الحسين، وقدم إليه في المحرم سنة خمس وتسعين الأمير سيف الدولة صدقة، وخرج الخلق كلهم إلى لقائه.
ذكر حال قاضي جبلة

هو أبو محمد عبيد الله بن منصور المعروف بابن صليحة، وكان والده رئيسها أيام كان الروم مالكين لها على المسلمين، يقضي بينهم، فلما ضعف أمر الروم، وملكها المسلمون، وصارت تحت حكم جلال الملك أبي الحسن علي بن عمار، صاحب طرابلس، وكان منصور على عادته في الحكم فيها. فلما توفي منصور قام ابنه أبو محمد مقامه، وأحب الجندية، واختار الجند، فظهرت شهامته، فأراد ابن عمار أن يقبض عليه، فاستشعر منه، وعصى عليه، وأقام الخطبة العباسية، فبذل ابن عمار لدقاق بن تتش مالاً ليقصده ويحصره، ففعل، وحصره، فلم يظفر منه بشيء، وأصيب صاحبه أتابك طغتكين بنشابة في ركبتيه وبقي أثرها.
وبقي أبو محمد بها مطاعاً إلى أن جاء الفرنج، لعنهم الله، فحصروها، فأظهر أن السلطان بركيارق قد توجه إلى الشام، وشاع هذا، فرحل الفرنج، فلما تحققوا اشتغال السلطان عنهم عاودوا حصاره، فأظهر أن المصريين قد توجهوا لحربهم، فرحلوا ثانياً، ثم عادوا، فقرر مع النصارى الذين بها أن يراسلوا الفرنج، ويواعدوهم إلى برج من أبراج البلد ليسلموه إليهم ويملكوا البلد، فلما أتتهم الرسالة جهزوا نحو ثلاثمائة رجل من أعيانهم وشجعانهم، فتقدموا إلى ذلك البرج، فلم يزالوا يرقون في الحبال، واحداً بعد واحد، وكلما صار عند ابن صليحة، وهو على السور، رجل منهم قتله إلى أن قتلهم أجمعين، فلما أصبحوا رمى الرؤوس إليهم فرحلوا عنه.
وحصروه مرة أخرى، ونصبوا على البلد برج خشب، وهدموا برجاً من أبراجه، وأصبحوا وقد بناه أبو محمد، ثم نقب في السور نقوباً، وخرج من الباب وقاتلهم، فانهزم منهم، وتبعوه، فخرج أصحابه من تلك النقوب، فأتوا الفرنج من ظهورهم، فولوا منهزمين وأسر مقدمهم المعروف بكند اصطبل، فافتدى نفسه بمال جزيل.
ثم علم أنهم لا يقعدون عن طلبه، وليس له من يمنعهم عنه، فأرسل إلى طغتكين أتابك يلتمس منه إنفاذ من يثق به ليسلم إليه ثغر جبلة، ويحميه ليصل هو إلى دمشق بماله وأهله، فأجابه إلى ما التمس، وسير إليه ولده تاج الملوك بوري، فسلم إليه البلد، ورحل إلى دمشق، وسأله أن يسيره إلى بغداد، ففعل، وسيره ومعه من يحميه إلى أن وصل إلى الأنبار.
ولما صار بدمشق أرسل ابن عمار صاحب طرابلس إلى الملك دقاق، وقال: سلم إلي ابن صليحة عرياناً، وخذ ماله أجمع، وأنا أعطيك ثلاثمائة ألف دينار، فلم يفعل. فلما وصل إلى الأنبار أقام بها أياماً، ثم سار إلى بغداد، وبها السلطان بركيارق، فلما وصل أحضره الوزير الأعز أبو المحاسن عنده، وقال له: السلطان محتاج، والعساكر يطالبونه بما ليس عنده، ونريد منك ثلاثين ألف دينار، وتكون له منة عظيمة، تستحق بها المكافأة والشكر. فقال: السمع والطاعة، ولم يطلب أن يحط شيئاً، وقال: إن رحلي ومالي في الأنبار بالدار التي نزلتها، فأرسل الوزير إليها جماعة، فوجدوا فيها مالاً كثيراً، وأعلاقاً نفيسة، فمن جملة ذلك ألف ومائة قطعة مصاغ عجيب الصنعة، ومن الملابس والعمائم التي لا يوجد مثلها شيء كثير.
كان ينبغي أن نذكر هذه الحوادث التي بعد انهزام السلطان محمد إلى ها هنا، بعد قتل الباطنية، فإنها كانت أواخر السنة، وكان قتلهم في شعبان، وإنما قدمناها لنتبع بعض الحادثة بعضاً لا يفصل بينها شيء.
وأما تاج الملوك بوري، فإنه لما ملك جبلة، وتمكن منها، أساء السيرة هو وأصحابه مع أهلها، وفعلوا بهم أفعالاً أنكروها، فراسلوا القاضي فخر الملك أبا علي عمار بن محمد بن عمار، صاحب طرابلس، وشكوا إليه ما يفعل بهم، وطلبوا منه أن يرسل إليهم بعض أصحابه ليسلموا إليه البلد، ففعل ذلك، وسير إليهم عسكراً، فدخلوا جبلة، واجتمعوا بأهلها، وقاتلوا تاج الملوك ومن معه، فانهزم الأتراك، وملك عسكر ابن عمار جبلة وأخذوا تاج الملوك أسيراً، وحملوه إلى طرابلس، فأكرمه ابن عمار، وأحسن إليه، وسيره إلى أبيه بدمشق، واعتذر إليه، وعرفه صورة الحال، وأنه خاف أن يملك الفرنج جبلة.
ذكر قتل الباطنيةفي هذه السنة، في شعبان، أمر السلطان بركيارق بقتل الباطنية، وهم الإسماعيلية وهم الذين كانوا قديماً يسمون قرامطة، ونحن نبتديء بأول أمرهم الآن ثم بسبب قتلهم.

فأول ما عرف من أحوالهم، أعني هذه الدعوة الأخيرة التي اشتهرت بالباطنية، والإسماعيلية، في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلاً، فصلوا صلاة العيد في ساوة، ففطن بهم الشحنة، فأخذهم وحبسهم، ثم سئل فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم.
ثم إنهم دعوا مؤذناً من أهل ساوة كان مقيماً بأصبهان، فلم يجبهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينم عليهم، فقتلوه، فهو أول قتيل لهم، وأول دم أراقوه، فبلغ خبره إلى نظام الملك، فأمر بأخذ من يتهم بقتله، فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر، فقتل، ومثل به، وجروا برجله في الأسواق، فهو أول قتيل منهم، وكان والده واعظاً، وقدم إلى بغداد مع السلطان بركيارق سنة ست وثمانين فحظي منه، ثم قصد البصرة فولي القضاء بها، ثم توجه في رسالة إلى كرمان، فقتله العامة في الفتنة التي جرت، وذكروا أنه باطني.
ثم إن الباطنية قتلوا نظام الملك، وهي أول فتكة مشهورة كانت لهم، وقالوا: قتل نجاراً فقتلناه به.
وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند قاين، كان متقدمه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقووا به، فاجتازت بهم قافلة عظيمة من كرمان إلى قاين، فخرج عليهم ومعه أصحابه والباطنية فقتل أهل القفل أجمعين، ولم ينج منهم غير رجل تركماني، فوصل إلى قاين فأخبر بالقصة، فتسارع أهلها مع القاضي الكرماني إلى جهادهم، فلم يقدروا عليهم.
ثم قتل نظام الملك، ومات السلطان ملكشاه، فعظم أمرهم، واشتدت شوكتهم، وقويت أطماعهم.
وكان سبب قوتهم بأصبهان أن السلطان بركيارق لما حصر أصبهان، وبها أخوه محمود، وأمه خاتون الجلالية، وعاد عنهم ظهرت مقالة الباطنية بها، وانتشرت، وكانوا متفرقين في المحال، فاجتمعوا، وصاروا يسرقون من قدروا عليه من مخالفيهم ويقتلونهم، فعلوا هذا بخلق كثير، وزاد الأمر، حتى إن الإنسان كان إذا تأخر عن بيته عن الوقت المعتاد تيقنوا قتله، وقعدوا للعزاء به، فحذر الناس، وصاروا لا ينفرد أحد، وأخذوا في بعض الأيام مؤذناً، أخذه جار له باطني، فقام أهله للنياحة عليه، فأصعده الباطنية إلى سطح داره وأروه أهله كيف يلطمون ويبكون، وهو لا يقدر أن يتكلم خوفاً منهم.
ذكر ما فعل بهم العامة بأصبهانلما عمت هذه المصيبة الناس بأصبهان، أذن الله تعالى في هتك أستارهم، والانتقام منهم، فاتفق أن رجلاً دخل دار صديق له، فرأى فيها ثياباً، ومداسات، وملابس لم يعهدها، فخرج من عنده، وتحدث بما كان، فكشف الناس عنها، فعلموا أنها من المقتولين.
وثار الناس كافة يبحثون عمن قتل منهم، ويستكشفون، فظهروا على الدروب التي هم فيها، وإنهم كانوا إذا اجتاز بهم إنسان أخذوه إلى دار منها وقتلوه وألقوه في بئر في الدار قد صنعت لذلك.
وكان على باب درب منها رجل ضرير، فإذا اجتاز به إنسان يسأله أن يقوده خطوات إلى باب الدرب، فيفعل ذلك، فإذا دخل الدرب أخذ وقتل، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجم الغفير بالأسلحة، وأمر بحفر أخاديد، وأوقد فيها النيران، وجعل العامة يأتون بالباطنية أفواجاً ومنفردين، فيلقون في النار، وجعلوا إنساناً على أخاديد النيران وسموه مالكاً، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً.
ذكر قلاعهم التي استولوا عليها ببلاد العجمواستولوا على عدة حصون منها قلعة أصبهان، وهذه القلعة لم تكن قديماً، وإنما بناها السلطان ملكشاه.
وسبب بنائها أنه كان أتاه رجل من مقدمي الروم، فأسلم وصار معه، فاتفق أنه سار يوماً إلى الصيد، فهرب منه كلب حسن الصيد، وصعد هذا الجبل، فتبع السلطان والرومي معه، فوجده موضع القلعة، فقال له الرومي: لو أن عندنا مثل هذا الجبل لجعلنا عليه حصناً ننتفع به، فأمر ببناء القلعة، ومنع منها نظام الملك، فلم يقبل قوله، فلما فرغت جعل فيها دزداراً.

فلما انقضت أيام السلطان ملكشاه، وصارت أصبهان بيد خاتون أزالت الدزدار، وجعلت غيره فيها، وهو إنسان ديلمي اسمه زيار، فمات، وصار بالقلعة إنسان خوزي، فاتصل به أحمد بن عطاش، وكان الباطنية قد ألبسوه تاجاً، وجمعواً له أموالاً، وقدموه عليهم مع جهله، وإنما كان أبوه مقدماً فيهم، فلما اتصل بالدزدار بقي معه، ووثق به، وقلده الأمور، فلما توفي الدزدار استولى أحمد بن عطاش عليها، ونال المسلمين منها ضرر عظيم من أخذ الأموال، وقتل النفوس، وقطع الطريق، والخوف الدائم، فكانوا يقولون: إن قلعة يدل عليها كلب، ويشير بها كافر لا بد وأن يكون خاتمة أمرها الشر.
ومنها ألموت، وهي من نواحي قزوين، قيل إن ملكاً من ملوك الديلم كان كثير التصيد، فأرسل يوماً عقاباً، وتبعه، فرآه سقط على موضع هذه القلعة، فوجده موضعاً حصيناً، فأمر ببناء قلعة عليه، فسماها أله موت، ومعناه بلسان الديلم: تعليم العقاب، ويقال لذلك الموضع وما يجاوره طالقان.
وفيها قلاع حصينة أشهرها ألموت، وكانت هذه النواحي في ضمان شرفشاه الجعفري، وقد استناب فيها رجلاً علوياً، فيه بله وسلامة صدر.
وكان الحسن بن الصباح رجلاً شهماً، كافياً، عالماً بالهندسة، والحساب، والنجوم، والسحر، وغير ذلك، وكان رئيس الري إنسان يقال له أبو مسلم، وهو صهر نظام الملك، فاتهم الحسن بن الصباح بدخول جماعة من دعاة المصريين عليه، فخافه ابن الصباح، وكان نظام الملك يكرمه، وقال له يوماً من طريق الفراسة: عن قريب يضل هذا الرجل ضعفاء العوام، فلما هرب الحسن من أبي مسلم طلبه فلم يدركه.
وكان الحسن من جملة تلامذة ابن عطاش، الطبيب الذي ملك قلعة أصبهان، ومضى ابن الصباح فطاف البلاد، ووصل إلى مصر، ودخل على المستنصر صاحبها، فأكرمه، وأعطاه مالاً، وأمره أن يدعو الناس إلى إمامته، فقال له الحسن: فمن الإمام بعدك؟ فأشار إلى ابنه نزار، وعاد من مصر إلى الشام، والجزيرة، وديار بكر، والروم، ورجع إلى خراسان، ودخل كاشغر، وما وراء النهر، يطوف على قوم يضلهم، فلما رأى قلعة ألموت، واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم، وطمع في إغوائهم، ودعاهم في السر، وأظهر الزهد، ولبس المسح، فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة حسن الظن فيه، يجلس إليه يتبرك به، فلما أحكم الحسن أمره، دخل يوماً على العلوي بالقلعة، فقال له ابن الصباح: اخرج من هذه القلعة، فتبسم العلوي، وظنه يمزح، فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي، فأخرجوه إلى دامغان، وأعطاه ماله وملك القلعة.
ولما بلغ الخبر إلى نظام الملك بعث عسكراً إلى قلعة ألموت، فحصروه فيها، وأخذوا عليه الطرق، فضاق ذرعه بالحصر، فأرسل من قتل نظام الملك، فلما قتل رجع العسكر عنها.
ثم إن السلطان محمد بن ملكشاه جهز نحوها العساكر، فحصرها، وسيرد ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
ومنها طبس، وبعض قهستان، وكان سبب ملكهم لها أن قهستان كان قد بقي فيها بقايا من بني سيمجور، أمراء خراسان، أيام السامانية، وكان قد بقي من نسلهم رجل يقال له المنور، وكان رئيساً مطاعاً عند الخاصة والعامة، فلما ولي كلسارغ قهستان ظلم الناس وعسفهم، وأراد أختاً للمنور بغير حل، فحمل ذلك المنور على أن التجأ إلى الإسماعيلية، وصار معهم، فعظم حالهم في قهستان، واستولوا عليها ومن جملتها خور، وخوسف، وزوزن، وقاين، وتون، وتلك الأطراف المجاورة لها.
ومنها قلعة وسنمكوه، ملكوها، وهي بقرب أبهر، سنة أربع وثمانين، وتأذى بهم الناس، لاسيما أهل أبهر، فاستغاثوا بالسلطان بركيارق، فجعل عليها من يحاصرها، فحوصرت ثمانية أشهر، وأخذت منهم سنة تسع وثمانين، وقتل كل من بها عن آخرهم.
ومنها قلعة خالنجان على خمسة فراسخ من أصبهان، كانت لمؤيد الملك بن نظام الملك، وانتقلت إلى جاولي سقاوو، فجعل بها إنساناً تركياً، فصادقه نجار باطني، وأهدى له هدية جميلة، ولزمه حتى وثق به، وسلم إليه مفاتيح القلعة، فعمل دعوة للتركي وأصحابه، فسقاهم الخمر، فأسكرهم، واستدعى ابن عطاش، فجاء في جماعة من أصحابه، فسلم إليهم القلعة، فقتلوا من بها سوى التركي فإنه هرب، وقوي ابن عطاش بها، وصار له على أهل أصبهان القطائع الكثيرة.
ومن قلاعهم المذكورة أستوناوند، وهي بين الري وآمل، ملكوها بعد ملكشاه، نزل منها صاحبها، فقتل وأخذت منه.

ومنها أردهن، وملكها أبو الفتوح ابن أخت الحسن بن الصباح.
ومنها كردكوة وهي مشهورة.
ومنها قلعة الناظر بخوزستان، وقلعة الطنبور وبينها وبين أرجان فرسخان أخذها أبو حمزة الإسكاف، وهو من أهل أرجان، سافر إلى مصر، وعاد داعية لهم.
وقلعة خلادخان، وهي بين فارس وخوزستان، وأقام بها المفسدون نحو مائتي سنة يقطعون الطريق حتى فتحها عضد الدولة بن بويه، وقتل من بها.
فلما صارت الدولة لملكشاه أقطعها الأمير أنر، فجعل بها دزداراً، فأنفذ إليه الباطنية الذين بأرجان يطلبون مه بيعها فأبى، فقالوا له: نحن نرسل إليك من يناظرك حتى يظهر لك الحق، فأجابهم إلى ذلك، فأرسلوا إليه إنساناً ديلمياً يناظره، وكان للدزدار مملوك قد رباه، وسلم إليه مفاتيح القلعة، فاستماله الباطني، فأجابه إلى القبض على صاحبه، وتسليم القلعة إليهم، فقبض عليه، وسلم القلعة إليهم، ثم أطلقه، واستولوا بعد ذلك على عدة قلاع هذه أشهرها.
ذكر ما فعله جاولي سقاووا بالباطنيةفي هذه السنة قتل جاولي سقاوو خلقاً كثيراً منهم.
وسبب ذلك أن هذا الأمير كانت ولايته البلاد التي بين رامهرمز وأرجان.
فلما ملك الباطنية القلاع المذكورة بخوزستان وفارس، وعظم شرهم، وقطعوا الطريق بتلك البلاد، واقف جماعة من أصحابه، حتى أظهروا الشغب عليه، وفارقوه، وقصدوا الباطنية، وأظهروا أنهم معهم، وعلى رأيهم، فأقاموا عندهم حتى وثقوا بهم.
ثم أظهر جاولي أن الأمراء بني برسق يريدون قصده وأخذ بلاده، وأنه عازم على مفارقتها لعجزه عنهم، والمسير إلى همذان، فلما ظهر ذلك وسار قال من عند الباطنية من أصحابه ممن لهم الرأي: إننا نخرج إليه طريقه ونأخذه وما معه من الأموال، فساروا إليه في ثلاثمائة من أعيانهم وصناديدهم، فلما التقوا صار من معهم من أصحاب جاولي عليهم، ووضعوا السيف فيهم فلم يفلت منهم سوى ثلاثة نفر، صعدوا إلى الجبل وهربوا، وغنم جاولي ما معهم من دواب، وسلاح، وغير ذلك.
ذكر قتل صاحب كرمان الباطني

وملك غيره
كان تيرانشاه بن تورانشاه بن قاورت بك هو الذي قتل الأتراك الإسماعيلية، وليسوا منسوبين إلى هذه الطائفية الباطنية، إنما نسبوا إلى أمير اسمه إسماعيل، وكانوا من أهل السنة، قتل منهم ألفي رجل صبراً، وقطع أيدي ألفين، ووفد عليه إنسان يقال له: أبو زرعة، كان كاتباً بخوزستان، فحسن له مذهب الباطنية، فأجاب إليه.
وكان عنده فقيه حنفي يقال له: أحمد بن الحسين البلخي، كان مطاعاً في الناس، فأحضره عنده ليلاً، وأطال الجلوس معه، فلما خرج من عنده أتبعه بمن قتله، فلما أصبح الناس دخلوا عليه، وفيهم صاحب جيشه، فقال لتيرانشاه: أيها الملك من قتل هذا الفقيه؟ فقال: أنت شحنة البلد، تسألني من قتله؟ فقال: أنا أعرف قاتله! ونهض من عنده، ففارقه في ثلاثمائة فارس، وسار إلى أصبهان، فأرسل في أثره ألفي فارس ليردوه، فقاتلهم، وهزمهم، وسار إلى أصبهان، وبها السلطان محمد ومؤيد الملك، فأكرمه السلطان، وقال: أنت والد الملوك.
وامتعض عسكر كرمان بعد مسيره، واجتمعوا، وقاتلوا تيرانشاه، وأخرجوه عن مدينة بردسير التي هي مدينة كرمان، فلما فارقها اتفق القاضي والجند، وأقاموا أرسلانشاه بن كرمانشاه بن قاورت بك، وسار تيرانشاه إلى مدينة بم من كرمان، فحاربه أهلها ومنعوه منها، وأخذوا ما معه من أموال وجواهر، وقصد قلعة سميرم وتحصن بها، وفيها أمير يعرف بمحمد بهستون، فأرسل أرسلانشاه جيشاً حصروا القلعة، فقال محمد بهستون لتيرانشاه: انصرف عني، فلست أرى الغدر بك، وأنا رجل مسلم، ومقامك عندي يؤذيني، وأتهم بك في ديني. فلما عزم على الخروج أرسل محمد بهستون إلى مقدم الجيش الذي يحاصرونهم يعلمه بمسير تيرانشاه، فجرد عسكراً إلى طريقه، فخرجوا عليه، وأخذوه وما معه، وأخذوا أيضاً أبا زرعة، فأرسل أرسلانشاه فقتلهما، وتسلم جميع بلاد كرمان.
ذكر السبب في قتل بركيارق الباطنيةلما اشتد أمر الباطنية، وقويت شوكتهم، وكثر عددهم، صار بينهم وبين أعدائهم ذحول وإحن، فلما قتلوا جماعة من الأمراء الأكابر، وكان أكثر من قتلوا من هو في طاعة محمد، مخالف للسلطان بركيارق، مثل شحنة أصبهان سرمز، وأرغش، وكمش النظاميين، وصهره، وغيرهم، نسب أعداء بركيارق ذلك إليه، واتهموه بالميل إليهم.

فلما ظفر السلطان بركيارق، وهزم أخاه السلطان محمداً، وقتل مؤيد الملك وزيره، انبسط جماعة منهم في العسكر، واستغووا كثيراً منهم، وأدخلوهم في مذهبهم، وكادوا يظهرون بالكثرة والقوة، وحصل بالعسكر منهم طائفة من وجوههم، وزاد أمرهم، فصاروا يتهددون من لا يوافقهم بالقتل، فصار يخافهم من يخالفهم، حتى إنهم لم يتجاسر أحد منهم، لا أمير ولا متقدم، على الخروج من منزله حاسراً بل يلبس تحت ثيابه درعاً، حتى إن الوزير الأعز أبا المحاسن كان يلبس زردية تحت ثيابه، واستأذن السلطان بركيارق خواصه في الدخول عليه بسلاحهم، وعرفوه خوفهم ممن يقاتلهم، فأذن لهم في ذلك.
وأشاروا على السلطان أن يفتك بهم قبل أن يعجز عن تلافي أمرهم، وأعلموه ما يتهمه الناس به من الميل إلى مذهبهم، حتى إن عسكر أخيه السلطان محمد يشنعون بذلك، وكانوا في المصاف يكبرون عليهم، ويقولون يا باطنية. فاجتمعت هذه البواعث كلها، فأذن السلطان في قتلهم، والفتك بهم، وركب هو والعسكر معه، وطلبوهم، وأخذوا جماعة من خيامهم ولم يفلت منهم إلا من لم يعرف.
وكان ممن اتهم بأنه مقدمهم الأمير محمد بن دشمنزيار بن علاء الدولة أبي جعفر بن كاكويه، صاحب يزد، فهرب، وسار يومه وليلته، فلما كان اليوم الثاني وجد في العسكر قد ضل الطريق ولا يشعر، فقتل، وهذا موضع المثل: " أتتك بحائن رجلاه " ، ونهبت خيامه، فوجد عنده السلاح المعد، وأخرج الجماعة المتهمون إلى الميدان فقتلوا، وقتل منهم جماعة براء لم يكونوا منهم سعى بهم أعداؤهم، وفيمن قتل ولد كيقباذ، مستحفظ تكريت، فلم يغير والده خطبة بركيارق، ولكن شرع في تحصين القلعة وعمارتها، ونقض جامع البلد، وكان يقاربها، لئلا يؤتى منه، وجعل بيعة في البلد جامعاً، وصلى الناس فيه.
وكتب إلى بغداد بالقبض على أبي إبراهيم الأسداباذي الذي كان قد وصل إليها رسولاً من بركيارق ليأخذ مال مؤيد الملك، وكان من أعيانهم ورؤوسهم، فأخذ وحبس، فلما أرادوا قتله قال: هبوا أنكم قتلتموني، أتقدرون على قتل من بالقلاع والمدن؟ فقتل، ولم يصل عليه أحد، وألقي خارج السور، وكان له ولد كبير قتل بالعسكر معهم.
وقد كان أهل عانة نسبوا إلى هذا المذهب قديماً، فأنهي حالهم إلى الوزير أبي شجاع أيام المقتدي بأمر الله، فأحضرهم إلى بغداد، فسأل مشايخهم على الذي يقال فيهم، فأنكروا وجحدوا، فأطلقهم.
واتهم أيضاً الكيا الهراس، المدرس بالنظامية، بأنه باطني، ونقل ذلك عنه إلى السلطان محمد، فأمر بالقبض عليه، فأرسل المستظهر بالله من استخلصه، وشهد له بصحة الاعتقاد، وعلو الدرجة في العلم، فأطلق.
ذكر حصر الأمير بزغش قهستان وطبسفي هذه السنة جمع الأمير بزغش، وهو أكبر أمير مع السلطان سنجر، جموعاً كثيرة، وقواهم بالمال والسلاح، وسار إلى بلد الإسماعيلية، فنهبه، وخربه، وقتل فيهم فأكثر، وحصر طبس، وضيق عليها، ورماها بالمنجنيق، فخرب كثيراً من سورها، وضعف من بها، ولم يبق إلا أخذها، فأرسلوا إليها الرشا الكثيرة، واستنزلوه عما كان يريده منهم، فرحل عنهم وتركهم، فعاودوا عمارة ما انهدم من سورها، وملأوها ذخائر من سلاح وأقوات وغير ذلك، ثم عاودهم بزغش سنة سبع وتسعين، فكان ما نذكره إن شاء الله تعالى.
ذكر ما ملك الفرنج من الشامفيها سار كندفري، ملك الفرنج بالشام، وهو صاحب البيت المقدس، إلى مدينة عكة، بشاحل الشام، فحصرها، فأصابه سهم فقتله، وكان قد عمر مدينة يافا وسلمها إلى قمص من الفرنج اسمه: طنكري، فلما قتل كندفري سار أخوه بغدوين إلى البيت المقدس في خمسمائة فارس وراجل، فبلغ الملك دقاق، صاحب دمشق، خبره، فنهض إليه في عسكره، ومعه الأمير جناح الدولة في جموعه، فقاتله، فنصر على الفرنج.
وفيها ملك الفرنج مدينة سروج من بلاد الجزيرة، وسبب ذلك أن الفرنج كانوا قد ملكوا مدينة الرها بمكاتبة من أهلها لأن أكثرهم أرمن، وليس بها من المسلمين إلا القليل، فلما كان الآن جمع سقمان بسروج جمعاً كثيراً من التركمان، وزحف إليهم، فلقوه وقاتلوه، فهزموه في ربيع الأول. فلما تمت الهزيمة على المسلمين سار الفرنج إلى سروج، فحصروها وتسلموها، وقتلوا كثيراً من أهلها وسبوا حريمهم، ونهبوا أموالهم، ولم يسلم إلا من مضى منهزماً.

ومنها ملك الفرنج مدينة حيفا، وهي بالقرب من عكة على ساحل البحر، ملكوها عنوة، وملكوا أرسوف بالأمان، وأخرجوا أهلها منها.
وفيها، في رجب، ملكوا مدينة قيسارية بالسيف، وقتلوا أهلها، ونهبوا ما فيها.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في شهر رمضان، تقدم الخليفة المستظهر بالله بفتح جامع القصر، وأن يصلى فيه صلاة التراويح، ولم تكن جرت بذلك عادة، وأمر بالجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا أيضاً لم تجر به عادة، وإنما ترك الجهر بالبسملة في جوامع بغداد لأن العلويين أصحاب مصر كانوا يجهرون بها، فترك ذلك مخالفة لهم لا اتباعاً لمذهب أحمد الإمام، وأمر أيضاً بالقنوت على مذهب الشافعي، فلما كانت الليلة التاسعة والعشرون ختم في جامع القصر، وازدحم الناس عنده، وكان زعيم الرؤساء أبو القاسم علي بن فخر الدولة بن جهير أخو عميد الدولة قد أطلق من الاعتقال، فاختلط الناس، وخرج إلى ظاهر بغداد من ثلمة في السور، وسار إلى سيف الدولة صدقة بن مزيد، فاستقبله وأنزله وأكرمه.
وفيها، في المحرم، توفي جمال الدولة أبو نصر بن رئيس الرؤساء بن المسلمة، وهو أستاذ دار الخليفة.
وفيه توفي القاضي أحمد بن محمد بن عبد الواحد أبو منصور بن الصباغ الفقيه الشافعي، وأخذ الفقه عن ابن عمه الشيخ أبي نصر بن الصباغ، وكان يصوم الدهر، وروى الحديث عن القاضي أبي الطيب الطبري وغيره.
وفيه توفي شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور المستوفي، الخوارزمي، بأصبهان، وكان مستوفياً في ديوان السلطان ملكشاه، فبذل مائة ألف دينار حتى ترك الاستيفاء، وبنى مشهداً على قبر أبي حنيفة، رحمة الله عليه، ومدرسة بباب الطاق، ومدرسة بمرو جميعها للحنفيين.
وفيها، في صفر، توفي القاضي أبو المعالي عزيزي، وكان شافعياً، أشعرياً، وهو من جيلان، وله مصنفات كثيرة حسنة، وكان ورعاً، وله مع أهل باب الأزج أخبار ظريفة، وكان قاضياً عليهم، وكانوا يبغضونه ويبغضهم.
وتوفي أسعد بن مسعود بن علي بن محمد أبو إبراهيم العتبي من ولد عتبة بن غزوان نيسابوري، ولد سنة أربع وأربعمائة، وروى عن أبي بكر الحيري وغيره.
وتوفي في صفر محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن الحسن بن محمد بن طوق أبو الفضائل الربعي الموصلي الفقيه الشافعي، تفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وسمع الحديث من أبي الطيب الطبري وغيره، وكان ثقاً صالحاً.
وتوفي في ربيع الأول منها محمد بن علي بن عبيد الله بن أحمد بن صالح بن سليمان بن ودعان أبو نصر القاضي الموصلي، وهو صاحب الأربعين الودعانية وقد تكملوا فيها، فقيل إنه سرقها، وكانت تصنيف زيد بن رفاعة الهاشمي، والغالب عال حديثه المناكير.
وتوفي فيها، في ربيع الأول، نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر القاري أبو الخطاب، ومولده سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، سمع ابن رزقويه وغيره، وصارت إليه الرحلة لعلو إسناده، وكان سماعه صحيحاً.
ثم دخلت سنة خمس وتسعين وأربعمائة

ذكر وفاة المستعلي بالله
وولاية الآمر بأحكام الله
في هذه السنة توفي المستعلي بالله أبو القاسم أحمد بن معد المستنصر بالله العلوي، الخليفة المصري، لسبع عشرة خلت من صفر، وكان مولده في العشرين من شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة، وكانت خلافته سبع سنين وقريب شهرين، وكان المدبر لدولته الأفضل.
ولما توفي ولي بعده ابنه أبو علي المنصور، ومولده ثالث عشر المحرم سنة تسعين وأربعمائة، وبويع له بالخلافة في اليوم الذي مات فيه أبوه، وله خمس سنين وشهر وأربعة أيام، ولقب الآمر بأحكام الله، ولم يكن من تسمى بالخلافة قط أصغر منه ومن المستنصر، وكان المستنصر أكبر من هذا، ولم يقدر يركب وحده على الفرس لصغر سنه، وقام بتدبير دولته الأفضل ابن أمير الجيوش أحسن قيام، ولم يزل كذلك يدبر الأمر إلى أن قتل سنة خمس عشرة وخمسمائة.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق والسلطان محمد والصلح بينهمافي هذه السنة، في صفر، كان المصاف الثالث بين السلطانين بركيارق ومحمد.

قد ذكرنا سنة أربع وتسعين قدوم السلطان محمد إلى بغداد، ورحيل السلطان بركيارق عنها إلى واسط مريضاً، فأقام السلطان محمد ببغداد إلى سابع عشر المحرم من هذه السنة، وسار عنها هو وأخوه السلطان سنجر عائدين إلى بلادهما، وسنجر يقصد خراسان، والسلطان محمد يقصد همذان. فلما سار محمد عن بغداد وصلت الأخبار أن بركيارق قد اعترض خاص الخليفة بواسط وسمع منه في حق الخليفة ما يقبح نقله، فأرسله الخليفة وأعاد السلطان محمداً إلى بغداد، وذكر له ما نقل إليه، وعزم على الحركة مع محمد إلى قتال بركيارق، فقال السلطان محمد: لا حاجة إلى حركة أمير المؤمنين، فإني أقوم في هذا القيام المرضي. وسار عائداً، ورتب ببغداد أبا المعالي المفضل ابن عبد الرزاق في جباية الأموال وإيلغازي شحنة.
وكان لما دخل بغداد قد خلف عسكره بطريق خراسان، فنهبوا البلاد وخربوها، فأخذهم السلطان محمد معه، وجد السير إلى روذراور.
وأما السلطان بركيارق فقد تقدم سنة أربع وتسعين أنه سار من بغداد عند وصول محمد إليها قاصداً إلى واسط، فلما سمع عسكر واسط بقربه منهم، خافوا منه، وأخذوا نساءهم، وأولادهم، وأموالهم، وجمعوا السفن جميعها، وانحدروا إلى الزبيدية، فأقاموا هناك.
ووصل السلطان، وهو شديد المرض، يحمل في محفة، وقد هلك من دواب عسكره ومتاعهم الكثير، فإنهم كانوا يجدون السرير خوفاً أن يتبعهم السلطان محمد، أو الأمير صدقة، صاحب الحلة، فكانوا كلما جازوا قنطرة هدموها، ليمتنع من يجتاز بها من اتباعهم.
ولما وصلوا إلى واسط عوفي بركيارق، ولم يكن له ولأصحابه همة غير العبور من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي، فلم يجد هناك سفينة، وكان الزمان شاتياً، شديد البرد، والماء زائداً، وكان أهل البلد قد خافوهم، فلزموا الجامع وبيوتهم، فخلت الطرق والأسواق من مجتاز فيها، فخرج القاضي أبو علي الفارقي إلى العسكر، واجتمع بالأمير إياز، والوزير، واستعطفهما للخلق، وطلب إنفاذ شحنة لتطمئن القلوب، فأجابوه إلى ملتمسه، وقالوا له: نريد أن تجمع لنا من يعبر دوابنا في الماء، ونسبح معها، فجمع لهم من شباب واسط، وأعطاهم الأجرة الوافرة، فعبروا دوابهم من الخيل والبغال والجمال، وكان الأمير إياز بنفسه يسوق الدواب، ويفعل ما يفعله الغلمان، ولم يكن معهم غير سفينة واحدة انحدرت مع السلطان من بغداد، فعبروا أموالهم ورحالهم فيها. فلما صاروا في الجانب الشرقي اطمأنوا، ونهب العسكر البلد، فرجع القاضي وجدد الخطاب في الكف عنهم، فأجيب إلى ذلك، فأرسل معه من يمنع من النهب.
ثم إن عسكر واسط أرسلوا إلى السلطان بركيارق يطلبون الأمان ليحضروا الخدمة فأمنهم، فحضر أكثرهم عنده، وساروا معه إلى بلاد بني برسق، فحضروا أيضاً عنده وخدموه، واجتمعت العساكر عليه.
وبلغه مسير أخيه محمد عن بغداد، فسار يتبعه على نهاوند، فأدركه بروذراور، وكان العسكران متقاربين في العدة، كل واحد منهما أربعة آلاف فارس من الأتراك، فتصافوا، أول يوم، جميع النهار، ولم يجر بينهم قتال لشدة البرد، وعادوا في اليوم الثاني، ثم تواقفوا كذلك، ثم كان الرجل يخرج من أحد الصفين فيخرج إليه من يقاتله، فإذا تقاربا اعتنق كل واحد منهما صاحبه، وسلم عليه، ويعود عنه.
ثم خرج الأمير بلدجي وغيره من عسكر محمد إلى الأمير إياز والوزير الأعز، فاجتمعوا، واتفقوا على الصلح، لما قد عم الناس من الضرر، والملل، والوهن، فاستقرت القاعدة أن يكون بركيارق السلطان، ومحمد الملك، ويضرب له ثلاث نوب، ويكون له من البلاد جنزة وأعمالها، وأذربيجان، وديار بكر، والجزيرة، والموصل، وأن يمده السلطان بركيارق بالعساكر، حتى يفتح ما يمتنع عليه منها، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وانصرف الفريقان من المصاف رابع ربيع الأول، وسار بركيارق إلى مرج قراتكين قاصداً ساوة، والسلطان محمد إلى أسداباذ، وتفرق العسكران وقصد الملك أمير أقطاعه.
ذكر الحرب بين السلطان بركيارق ومحمد وانفساخ الصلح بينهمافي هذه السنة، في جمادى الأولى، كان المصاف الرابع بين السلطان بركيارق وأخيه محمد.

وكان سببه أن السلطان محمداً سار من روذراور، من الوقعة المذكورة، إلى أسداباذ، ومنها إلى قزوين، ونسب الأمراء الذين سعوا في الصلح إلى المخامرة عليه، والتقاعد به، فوضع رئيس قزوين أن يتوسل إليه بأولئك الأمراء ليحضر دعوته، فاستشفع الرئيس بهم إلى السلطان، فحضر دعوته، بعد أن امتنع، ووصى خواصه بحمل السلاح تحت أقبيتهم، وحضر الدعوة ومعه الأمير أيتكين، وبسمل، فقتل الأمير بسمل، وهو من أكابر الأمراء، وكحل الأمير أيتكين.
وكان الأمير ينال بن أنوشتكين الحسامي قد فارق بركيارق، وأقام مجاهداً للباطنية الذين في القلاع والجبال، فقصد الآن السلطان محمداً، وسار معه إلى الري يضرب النوب الخمس، واجتمعت إليه العساكر، وأقام ثمانية أيام، ووافاه أخوه السلطان بركيارق في اليوم التاسع، ووقع بينهما المصاف عند الري، وكانت عدة العسكريين متقاربة كل عسكر منهما عشرة آلاف فارس، فلما اصطفوا حمل الأمير سرخاب بن كيخسرو الديلمي، صاحب أبة، على الأمير ينال، فهزمه، وتبعه في الهزيمة جميع عسكر محمد، وتفرقوا، ومضى معظمهم نحو طبرستان، ولم يقتل في هذا المصاف غير رجل واحد قتل صبراً.
ومضى قطعة من المنهزمين نحو قزوين، ونهبت خزائن محمد، ومضى في نفر يسير إلى أصبهان، وحمل هو علمه بيده ليتبعه أصحابه، وسار في طلبه الأمير البكي بن برسق، والأمير إياز إلى قم، وتتبع السلطان بركيارق أصحاب أخيه محمد، وأخذ أموالهم.
ذكر حصار السلطان محمد بأصبهانلما انهزم السلطان محمد من الوقعة التي ذكرناها بالري، مضى إلى أصبهان في سبعين فارساً، والبلد في حكمه، وفيه نائبه، ومعه من الأمراء ينال، وغيره من الأمراء، ودخل المدينة في ربيع الأول، وأمر بتجديد ما تشعث من السور، وهذا السور هو الذي بناه علاء الدولة بن كاكويه سنة تسع وعشرين وأربعمائة، عند خوفه من طغرلبك، وأمر محمد بتعميق الخندق حتى صعد الماء فيه، وسلم إلى كل أمير باباً، وكان معه في البلد ألف ومائة فارس وخمس مائة راجل، ونصب المجانيق.
ولما علم السلطان بركيارق بمسير أخيه محمد إلى أصبهان سار يتبعه، فوصلها في جمادى الأولى، وعساكره كثيرة، تزيد على خمسة عشر ألف فارس، ومعها مائة ألف من الحواشي، وأقام يحاصر البلد، وضيق عليه.
وكان السلطان محمد يدور كل ليلة على سور البلد ثلاث دفعات، فلما زاد الأمر في الحصار، أخرج الضعفاء والفقراء من البلد، حتى خلت المحال، وعدمت الأقوات، وأكل الناس الخيل، والجمال، وغير ذلك، وقلت الأموال، فاضطر السلطان محمد إلى أن يستقرض من أعيان البلد، فأخذ مالاً عظيماً، ثم عاود الجند الطلب، فقسط على أهل البلد شيئاً آخر، وأخذه منهم بالشدة والعنف، فلم تزل الأسعار تغلو، حتى بلغ عشرة أمنان من الحنطة بدينار، وأربعة أرطال لحماً بدينار، وكل مائة رطل تبناً بأربعة دنانير، ورخصت الأمتعة وهانت لعدم الطالب.
وكانت الأسعار، في عسكر بركيارق، رخيصة. فبقي الحصار على البلد إلى عاشر ذي الحجة، فلما رأى السلطان محمد أنه لا قدرة له على الدفع عن البلد، وكلما جاء أمره يضعف، قوي عزمه على مفارقته وقصد جهة أخرى، يجمع فيها العساكر، ويعود يدفع الخصم عن الحصار، فسار عن البلد في مائة وخمسين فارساً، ومعه الأمير ينال، واستخلف بالبلد جماعة من الأمراء الكبار في باقي العسكر، فلما فارق العسكر والبلد لم يكن في دوابهم ما يدوم على السير، لقلة العلف في الحصار، فنزل على ستة فراسخ.
فلما سمع بركيارق بمسيره سير وراءه الأمير إياز في عسكر كثير، وأمره بالجد في السير في طلبه، فقيل: إن محمداً سبقهم، فلم يدركوه، فرجعوا، وقيل: بل أدركوه، فأرسل إلى الأمير إياز يقول: أنت تعلم أنني لي في رقبتك عهود وأيمان ما نقضت، ولم يكن مني إليك ما تبالغ في أذاي. فعاد عنه، وأرسل له خيلاً، وأخذ علمه، والجتر، وثلاثة أحمال دنانير، وعاد إلى بركيارق، فدخل عليه، وأعلام أخيه السلطان محمد منكوسة، فأنكر بركيارق ذلك، وقال: إن كان قد أساء، فلا ينبغي أن يعتمد معه هذا، فأخبره الخبر، فاستحسن ذلك منه.

فلما فارق محمد أصبهان اجتمع من المفسدين، والسوادية، ومن يريد النهب، ما يزيد على مائة ألف نفس، وزحفوا إلى البلد بالسلاليم، والدبابات، وطموا الخندق بالتبن، والتصقوا بالسور، وصعد الناس في السلاليم فقاتلهم أهل البلد قتال من يريد أن يحمي حريمه وماله، فعادوا خائبين، فحينئذ أشار الأمراء على بركيارق بالرحيل، فرحل ثامن عشر ذي الحجة من السنة، واستخلف على البلد القديم، الذي يقال له شهرستان، ترشك الصوابي في ألف فارس مع ابنه ملكشاه، وسار إلى همذان، وكان هذا من أعجب ما سطر أن سلطاناً محصوراً قد تقطعت مواده، وهو يخطب له في أكثر البلاد، ثم يخلص من الحصر الشديد، وينجو من العساكر الكثيرة التي كلها قد شرع إليه رمحه، وفوّق إليه سهمه.
ذكر قتل الوزير الأعز

ووزارة الخطير أبي منصور
في هذه السنة، ثاني عشر صفر، قتل الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل ابن محمد الدهستاني، وزير السلطان بركيارق على أصبهان، وكان مع بركيارق محاصراً لها، فركب هذا اليوم من خيمته إلى خدمة السلطان، فجاء شاب أشقر، قيل: إنه كان من غلمان أبي سعيد الحداد، وكان الوزير قتله في العام الماضي، فانتهز الفرصة فيه، وقيل: كان باطنياً، فجرحه عدة جراحات، فتفرق أصحابه عنه، ثم عادوا إليه، فجرح أقربهم منه جراحات أثخنته، وعاد إلى الوزير فتركه بآخر رمق.
وكان كريماً، واسع الصدر، حسن الخلق، كثير العمارة، ونفر الناس منه لأنه دخل في الوزارة، وقد تغيرت القوانين، ولم يبق دخل ولا مال، ففعل للضرورة ما خافه الناس بسببه.
وكان حسن المعاملة مع التجار، فاستغنى به خلق كثير، فكانوا يسألونه ليعاملهم، فلما قتل ضاع منهم مال كثير.
حكي أن بعض التجار باعه متاعاً بألف دينار، فقال له: خذ بها حنطة من الراذان خمسين كراً، كل كر بعشرين ديناراً، فامتنع التاجر من أخذها، وقال: لا أريد غير الدنانير. فلما كان من الغد دخل إليه التاجر، فقال له: يهنئك، يا فلان! فقال: وما هو؟ قال: خبر حنطتك، فقال: ما لي حنطة، ولا أريدها، قال: بلى، وقد بيعت كل كر بخمسين ديناراً، فقال: أنا لم أتقبل بها! فقال الوزير: ما كنت لأفسخ عقداً عقدته. قال: فخرجت، وأخذت ثمن الحنطة ألفين وخمسمائة دينار، وأضفت إليها مثلها وعاملته، فقتل فضاع الجميع.
وكان قد نفق عليه عمل الكيمياء، واختص به إنسان كيميائي، فكان يعده الشهر بعد الشهر، والحول بعد الحول، وقال له بعض أصحابه، وقد أحاله عليه بكر حنطة، فاستزاده: لو كان صادقاً في عمله، لما كان يستزيد من القدر القليل، وقتل ولم يصح له منه شيء.
ولما قتل الأعز أبو المحاسن وزر بعده الوزير الخطير أبو منصور الميبذي الذي كان وزير السلطان محمد.
وكان سبب فراقه لوزارة محمد أنه كان معه بأصبهان، وبركيارق يحاصره، وقد سلم إليه محمد باباً من أبوابها ليحفظها، فقال له الأمير ينال بن أنوشتكين: كنت قد كلفتنا، ونحن بالري، لنقصد همذان، وقلت: أنا أقيم بالعسكر من مالي، وأحصل لهم ما يقوم بهم، ولا بد من ذلك. فقال الخطير: أنا أفعل ذلك. فلما كان الليل فارق البلد، وخرج من الباب الذي كان مسلماً إليه، وقصد بلده ميبذ، وأقام بقلعتها متحصناً، فأرسل إليه السلطان بركيارق وحصره، فنزل منها مستأمناً، فحمل على بغل بإكاف إلى العسكر، فوصله في طريقه قتل الوزير الأعز، وكتاب السلطان له بالأمان، وطيب قلبه، فلما وصل إلى العسكر خلع عليه واستوزره.
حادثة يعتبر بهافي سنة ثلاث وتسعين بيع رحل بني جهير ودورهم بباب العامة، ووصل ثمن ذلك إلى مؤيد الملك، ثم قتل في سنة أربع وتسعين مؤيد الملك، وبيع ماله وبركة، وأخذ الجميع وحمل إلى الوزير الأعز، وقتل الوزير الأعز، هذه السنة، وبيع رحله، واقتسمت أمواله، وأخذ السلطان ومن ولي بعده أكثرها، وتفرقت أيدي سبا، وهذا عاقبة خدمة الملوك.
ذكر الفتنة بين إيلغازي وعامة بغدادفي هذه السنة، في رجب، كانت فتنة شديدة بين عسكر الأمير إيلغازي ابن أرتق، شحنة بغداد، وبين عامتها.

وسببها أن إيلغازي كان بطريق خراسان، فعاد إلى بغداد. فلما وصل أتى جماعة من أصحابه إلى دجلة، فنادوا ملاحاً ليعبر بهم، فتأخر، فرماه أحدهم بنشابة، فوقعت في مشعره فمات، فأخذ العامة القاتل، وقصدوا باب النوبي، فلقيهم ولد إيلغازي مع جماعة، فاستنقذوه، ورجمهم العامة بسوق الثلاثاء، فمضى إلى أبيه مستغيثاً، فأخذ حاجب الباب من له في هذه الحادثة عمل فلم يقنع إيلغازي ذلك، فعبر بأصحابه إلى محلة الملاحين، المعروفة بمربعة القطانين، ويتبعهم خلق كثير، فنهبوا ما وجدوا وقدروا عليه، فعطف عليهم العيارون فقتلوا أكثرهم.
ونزل من سلم في السفن ليعبروا دجلة، فلما توسطوها ألقى الملاحون أنفسهم في الماء وتركوهم فغرقوا، فكان الغريق أكثر من القتيل، وجمع إيلغازي التركمان، وأراد نهب الجانب الغربي، فأرسل الخليفة قاضي القضاة، والكيا الهراس، المدرس بالنظامية، فمنعاه من ذلك، فامتنع.
ذكر قصد صاحب البصرة مدينة واسط وعوده عنهافي هذه السنة، في العشرين من شوال، قصد الأمير إسماعيل، صاحب البصرة، مدينة واسط للاستيلاء عليها.
ونحن نبتديء بذكر إسماعيل، وتنقل الأحوال به إلى أن ملك البصرة، وهو إسماعيل بن سلانجق، وكان إليه في أيام ملكشاه شحنكية الري، ولما وليها كان أهل الري والرستاقية قد أعيوا من وليهم، وعجز الولاة عنهم، فسلك معهم طريقاً أصلحهم بها، وقتل منهم مقتلة عظيمة فتهذبوا بها، وأرسل من شعورهم إلى السلطان ما عمل منه مقاود وشكلاً للدواب، ثم عزل عنها.
ثم إن السلطان بركيارق أقطع البصرة للأمير قماج، فأرسل إليها هذا الأمير إسماعيل نائباً عنه، فلما فارق قماج بركيارق، وانتقل إلى خراسان، حدثته نفسه بالتغلب على البصرة، والاستبداد، فانحدر مهذب الدولة بن أبي الجبر من البطيحة إليه ليحاربه، ومعه معقل بن صدقة بن منصور بن الحسين الأسدي، صاحب الجزيرة الدبيسية، فأقبلا في جمع كثير من السفن والخيل، ووصلوا إلى مطارا.
فبينما معقل يقاتل قريباً من القلعة التي بناها ينال بمطارا، وجددها إسماعيل وأحكمها، أتاه سهم غرب فقتله، فعاد ابن أبي الجبر إلى البطيحة، وأخذ إسماعيل سفنه، وذلك سنة إحدى وتسعين، فاستمد ابن أبي الجبر كوهرائين، فأمده بأبي الحسن الهروي، وعباس بن أبي الجبر، فلقياه، فكسرهما وأسرهما، وأطلق عباساً على مال أرسله أبوه، واصطلحا.
وأما الهروي فبقي في حبسه مدة، ثم أطلقه على خمسة آلاف دينار، فلم يصح له منها شيء.
وقوي حال إسماعيل، فبنى قلعة بالأبلة، وقلعة بالشاطيء مقابل مطارا، وصار مخوف الجانب وأمن البصريون به، وأسقط شيئاً من المكوس، واتسعت إمارته باشتغال السلاطين، وملك المشان، واستضافها إلى ما بيده.
فلما كان هذه السنة كاتبه بعض عسكر واسط بالتسليم إليه، فقوي طمعه في واسط، فأصعد في السفن إلى نهرابان، وراسلهم في التسليم، فامتنعوا من ذلك، وقالوا: راسلناك، وقد رأينا غير ذلك الرأي. فأصعد إلى الجانب الشرقي، فخيم تحت النخيل، وسفنه بين يديه، وخيم جند واسط حذاءه، وراسلهم، ووعدهم، وهم لا يجيبونه.
واتفقت العامة مع الجند، وشتموه أقبح شتم، فلما أيس منهم عاد إلى البصرة، وساروا بإزائه من الجانب الآخر، فوصل إلى العمر، وعبر طائفة من أصحابه فوق البلد، وهو يظن أن البلد خال، وأن الناس قد خرجوا منه، لما رأى كثرة من بإزائه، فيوقع الحريق في البلد، فإذا رجع الأتراك عاد هو من ورائهم، فكان ظنه خائباً لأن العامة كانوا على دجلة، أولهم في البلد، وآخرهم مع الأتراك بإزائه.
فلما عبر أصحابه عاد الأتراك عليهم، ومعهم العامة، فقتلوا منهم ثلاثين رجلاً، وأسروا خلقاً كثيراً، وألقى الباقون أنفسهم في الماء، فأتاه من ذلك مصيبة لم يظنها، وصار أعيان أصحابه مأسورين، وعاد إلى البصرة، وكان عوده من سعادته، فإنه كان قد قصد الأمير أبو سعد محمد بن مضر بن محمود البصرة ذلك الوقت، وله أعمال واسعة، منها: نصف عمان، وجنابة، وسيراف، وجزيرة بني نفيس.

وكان سبب قصده إياها أنه كان قد صار مع إسماعيل إنسان يعرف بجعفرك، وآخر اسمه زنجويه، والثالث بأبي الفضل الأبلي، فأطمعوه في أن يعمل مراكب يرسل فيها مقاتلة في البحر إلى أبي سعد هذا وغيره، فعمل نيفاً وعشرين قطعة، فلما علم أبو سعد الحال أرسل جماعة كثيرة من أصحابه في نحو خمسين قطعة، فأتوا إلى دجلة البصرة، وذلك في السنة الخالية، فأقاموا بها محاربين، وظفروا بطائفة من أصحاب إسماعيل، وقتلوا صاحب قلعة الأبلة، وكاتبوا بني برسق بخوزستان يطلبون أن يرسلوا عسكراً ليساعدوهم على أخذ البصرة، فتمادى الجواب، وركن الطائفتان إلى الصلح، على أن يسلم إليهم إسماعيل جعفرك ورفيقه، ويقطعهم مواضع ذكروها من أعمال البصرة.
فلما رجعوا لم يفعل شيئاً من ذلك، وأخذ مركبين لقوم من أصحاب أبي سعد، فحمله ذلك على أن سار بنفسه في قطع كثيرة تزيد على مائة قطعة بين كبيرة وصغيرة، ووصل إلى فوهة نهر الأبلة.
وخرج عسكر إسماعيل في عدة مراكب، ووقع القتال بينهم، وكان البحريون في نحو عشرة آلاف، وإسماعيل في سبعمائة، وأصعد البحريون في دجلة، فأحرقوا عدة مواضع، وتفرق عسكر إسماعيل، فبعضه بالأبلة، وبعضه بنهر الدير، وبعضه في مواضع أخر.
فلما ضعف إسماعيل عن مقاومة أبي سعد طلب من وكيل الخليفة، على ما يتعلق بديوانه من البلاد، أن يسعى في الصلح، فأرسل إليه في ذلك، فأعاد الجواب يذكر قبح ما عامله به إسماعيل مرة بعد أخرى، وتكررت الرسائل بينهم، فأجاب إلى الصلح، فاصطلحا، واجتمعا، وعاد أبو سعد إلى بلاده، وحمل كل واحد منهما لصاحبه هدية جميلة.
ذكر وفاة كربوقا وملك موسى التركماني الموصل وجكرمش بعده وملك سقمان الحصن
في هذه السنة، في ذي القعدة، توفي قوام الدولة كربوقا، عند مدينة خوي، وكان السلطان بركيارق قد أرسله في العام الماضي إلى أذربيجان، كما ذكرناه، فاستولى على أكثرها، وأتى إلى خوي، فمرض بها ثلاثة عشر يوماً، وكان معه أصبهبذ صباوة بن خمارتكين، وسنقرجه، فوصى إلى سنقرجه، وأمر الأتراك بطاعته، وأخذ له على عسكره العهد، ومات على أربعة فراسخ من خوي، ولف في زلية لعدم ما يكفن فيه ودفن بخوي.
وسار سنقرجه وأكثر العسكر إلى الموصل، فتسلمها، فأقام بها ثلاثة أيام، وكان أعيان الموصل قد كاتبوا موسى التركماني، وهو بحض كيفا ينوب عن كربوقا فيها، وسألوه أن يبادر إليهم ليسلموا إليه البلد، فسار مجداً، فسمع سنقرجه بوصوله، فظن أنه جاء إليه خدمة له، فخرج ليستقبله في أهل البلد، فلما تقاربا نزل كل واحد منهما لصاحبه عن فرسه، واعتنقا، وبكيا على قوام الدولة، فتسايرا.
فقال سنقرجه لموسى في جملة حديثه: أنا مقصودي من جميع ما كان لصاحبنا المخدة، والمنصب، والأموال، والولايات لكم وبحكمكم. فقال موسى: من نحن حتى يكون لنا مناصب ودسوت؟ الأمر في هذا إلى السلطان يرتب فيه من يريد، ويولي من يختار. وجرى بينهما محاورات، فجذب سنقرجه سيفه وضربه صفحاً على رأسه فجرحه، فألقى موسى نفسه إلى الأرض، وجذب سنقرجه فألقاه إلى الأرض، وكان مع موسى ولد منصور بن مروان الذي كان أبوه صاحب ديار بكر، فجذب سكيناً وضرب بها رأس سنقرجه فأبانه، ودخل موسى البلد، وخلع على أصحاب سنقرجه، وطيب نفوسهم فصارت الولاية له.
ولما سمع شمس الدولة جكرمش، صاحب جزيرة ابن عمر، الخبر قصد نصيبين وتسلمها، وسار موسى قاصداً إلى الجزيرة، فلما قارب جكرمش غدر بموسى عسكره، وصاروا مع جكرمش، فعاد موسى إلى الموصل، وقصده جكرمش، وحصره مدة طويلة، فاستعان موسى بالأمير سقمان بن أرتق، وهو يومئذ بديار بكر، وأعطاه حصن كيفا وعشرة آلاف دينار، فسار سقمان إليه، فرحل جكرمش عنه.
وخرج موسى لاستقبال سقمان، فلما كان موسى عند قرية تسمى كراثا، وثب عليه عدة من الغلمان القوامية، فقتلوه: رماه أحدهم بنشابة فقتله، فعاد أصحابه منهزمين، ودفن على تل هناك يعرف الآن بتل موسى، ورجع الأمير سقمان إلى الحصن، فملكها وهي بيد أولاده إلى يومنا هذا، سنة عشرين وستمائة، وصاحبها حينئذ غازي بن قرا أرسلان بن داود بن سقمان بن أرتق.
وقصد جكرمش الموصل وحصرها أياماً، ثم تسلمها صلحاً، وأحسن السيرة فيها، وأخذ القوامية الذين قتلوا موسى، فقتلهم واستولى بعد ذلك على الخابور، وملك العرب والأكراد، فأطاعوه.
ذكر حال صنجيل الفرنجي

وما كان منه في حصار طرابلس
كان صنجيل الفرنجي، لعنه الله، قد لقي قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش، صاحب قونية، وكان صنجيل في مائة ألف مقاتل، وكان قلج أرسلان في عدد قليل، فاقتتلوا، فانهزم الفرنج وقتل منهم كثير، وأسر كثير، وعاد قلج أرسلان بالغنائم، والظفر الذي لم يحسبه.
ومضى صنجيل مهزوماً في ثلاثمائة، فوصل إلى الشام، فأرسل فخر الملك بن عمار، صاحب طرابلس، إلى الأمير ياخز، خليفة جناح الدولة على حمص، فإلى الملك دقاق بن تتش، يقول: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فخرج الأمير ياخز بنفسه، وسير دقاق ألفي مقاتل، وأتتهم الأمداد من طرابلس، فاجتمعوا على باب طرابلس، وصافوا صنجيل هناك، فأخرج مائة من عسكره إلى أهل طرابلس، ومائة إلى عسكر دمشق، وخمسين إلى عسكر حمص، وبقي هو في خمسين.
فأما عسكر حمص فإنهم انكسروا عند المشاهدة، وولوا منهزمين، وتبعهم عسكر دمشق.
وأما أهل طرابلس فإنهم قاتلوا المائة الذين قاتلوهم، فلما شاهد ذلك صنجيل حمل في المائتين الباقيتين، فكسروا أهل طرابلس، وقتلوا منهم سبعة آلاف رجل، ونازل صنجيل طرابلس وحصرها.
وأتاه أهل الجبل فأعانوه على حصارها، وكذلك أهل السواد، وأكثرهم نصارى، فقاتل من بها أشد قتال، فقتل من الفرنج ثلاثمائة، ثم إنه هادنهم على مال وخيل، فرحل عنهم إلى مدينة أنطرسوس، وهي من أعمال طرابلس، فحصرها، وفتحها، وقتل من بها من المسلمين، ورحل إلى حصن الطوبان، وهو يقارب رفنية، ومقدمه يقال له ابن العريض، فقاتلهم، فنصر عليه أهل الحصن، وأسر ابن العريض منه فارساً من أكابر فرسانه، فبذل صنجيل في فدائه عشرة آلاف دينار وألف أسير، فلم يجبه ابن العريض إلى ذلك.
ذكر ما فعله الفرنجفي هذه السنة أطلق الدانشمند بيمند الفرنجي، صاحب أنطاكية، وكان قد أسره، وقد تقدم ذكر ذلك، وأخذ مائة ألف دينار، وشرط عليه إطلاق ابنه باغي سيان الذي كان صاحب أنطاكية، وكانت في أسره.
ولما خلص بيمند من أسره عاد إلى أنطاكية، فقويت نفوس أهلها به، ولم يستقر حتى أرسل إلى أهل العواصم وقنسرين وما جاورها يطالبهم بالإتاوة، فورد على المسلمين من ذلك ما طمس المعالم التي بناها الدانشمند.
وفيها سار صنجيل إلى حصن الأكراد فحصره، فجمع جناح الدولة عسكره ليسير إليه ويكبسه، فقتله باطني بالمسجد الجامع، فقيل: إن الملك رضوان ربيبه وضع عليه من قتله، فلما قتل صبح صنجيل حمص من الغد، ونازلها، وحصر أهلها، وملك أعمالها.
ونزل القمص على عكة في جمادى الآخرة، وضيق عليها، وكاد يأخذها، ونصب عليها المنجنيقات والأبراج، وكان له في البحر ست عشرة قطعة، فاجتمع المسلمون من سائر السواحل، وأتوا إلى منجنيقاتهم، وأبراجهم، فأحرقوها، وأحرقوا سفنهم أيضاً، وكان ذلك نصراً عجيباً أذل الله به الكفار.
وفيها صار القمص الفرنجي، صاحب الرها، إلى بيروت من ساحل الشام، وحصرها وضايقها، وأطال المقام عليها، فلم ير فيها طمعاً فرحل عنها.
وفيها، في رجب، خرجت عساكر مصر إلى عسقلان ليمنعوا الفرنج عما بقي في أيديهم من البلاد الشامية، فسمع بهم بردويل، صاحب القدس، فسار إليهم في سبعمائة فارس، وقاتلهم، فنصر الله المسلمين، وانهزم الفرنج، وكثر القتل فيهم، وانهزم بردويل، فاختفى في أجمة قصب، فأحرقت تلك الأجمة، ولحقت النار بعض جسده، ونجا منها إلى الرملة، فتبعه المسلمون، وأحاطوا به فتنكر، وخرج منها إلى يافا، وكثر القتل والأسر في أصحابه.
ذكر عود قلعة خفتيذكان إلى سرخاب بن بدرفي هذه السنة عادت قلعة خفتيذكان إلى الأمير سرخاب بن بدر بن مهلهل.
وكان سبب أخذها منه أن القرابلي، وهو من قبيل من التركمان يقال لهم سلغر، كان قد أتى إلى بلد سرخاب، فمنعه من المراعي، وقتل جماعة من أصحابه، فمضى قرابلي إلى التركمان، واستجاش بهم، وجاء في عسكر كثير، فلقيه سرخاب وقاتله، فقتل قرابلي من أصحابه الأكراد قريباً من ألفي رجل، وانهزم سرخاب إلى بعض جباله في عشرين رجلاً.

فلما سمع المستحفظان بقلعة خفتيذكان ذلك، وكانا رجلين حدثتهما أنفسهما بالاستيلاء عليها، وكان بها ذخائره، وأمواله، وقدرها يزيد على ألفي دينار، فتملكاها، واجتاز بها السلطان بركيارق، فأنفذا إليه مائتي ألف دينار، واستولى التركمان على جميع بلاد سرخاب بن بدر، سوى دقوقا وشهرزور، فلما كان هذا الوقت قتل أحد المستحفظين الآخر، وأرسل إلى سرخاب يطلب منه الأمان ليسلم إليه القلعة، فأمنه على نفسه، وعلى ما حصل بيده من أموالها، فسلمها إليه ووفى له.
ذكر قتل قدرخان صاحب سمرقندقد ذكرنا قبل قدوم الملك سنجر مع أخيه السلطان محمد إلى بغداد وعوده إلى خراسان، فلما وصل إلى نيسابور خطب لأخيه محمد بخراسان جميعها، ولما كان ببغداد طمع قدرخان جبريل بن عمر، صاحب سمرقند، في خراسان لبعده عنها، وجمع عساكر تملأ الأرض، قيل: كانوا مائة ألف مقاتل فيهم مسلمون وكفار، وقصد بلاد سنجر.
وكان أمير من أمراء سنجر، اسمه كندغدي، قد كاتب قدرخان بالأخبار، وأعلمه مرض سنجر، بعد عوده إلى بلاده، وأنه قد أشفى على الهلاك، وقوى طمعه بالاختلاف الواقع بين السلطانين بركيارق ومحمد، وبشدة عداوة بركيارق لسنجر، وأشار عليه بالسرعة مهما الاختلاف واقع، وأنه متى أسرع ملك خراسان والعراق. فبادر قدرخان وأقدم، وقصد البلاد، فبلغ السلطان سنجر الخبر، وكان قد عوفي، فبادر وسار نحوه قاصداً قتاله ومنعه عن البلاد، وكان من جملة من معه كندغدي المذكور، وهو لا يتهمه بشيء مما فعل، فوصل إلى بلخ في ستة آلاف فارس، فبقي بينه وبين قدرخان نحو خمسة أيام، فهرب كندغدي إلى قدرخان، وحلف كل واحد منهما لصاحبه على الاتفاق والمناصحة، وسار من عنده إلى ترمذ، فملكها. وكان الباعث للكندغدي على ما فعل حسده للأمير بزغش على منزلته.
ثم تقدم قدرخان، فلما تدانى العسكران أرسل سنجر يذكر قدرخان العهود والمواثيق القديمة، فلم يصغ إلى قوله، وأذكى سنجر العيون والجواسيس على قدرخان، فكان لا يخفى عنه شيء من خبره، فأتاه من أخبره أنه نزل بالقرب من بلخ، وأنه خرج متصيداً في ثلاثمائة فارس، فندب سنجر، عند ذلك، الأمير بزغش لقصده، فسار إليه، فلحقه وهو على تلك الحال، فقاتله، فلم يصبر من مع قدرخان، فانهزموا، وأسر كندغدي وقدرخان، وأحضرهما عند سنجر، فأما قدرخان فإنه قبل الأرض واعتذر، فقال له سنجر: إن خدمتنا، أو لم تخدمنا، فما جزاؤك إلا السيف، ثم أمر به فقتل.
فلما سمع كندغدي الخبر نجا بنفسه، ونزل في قناة، ومشى فيها فرسخين تحت الأرض، على ما به من النقرس، وقتل فيها حيتين عظيمتين، وسبق أصحابه إلى مخرجها، وسار منها في ثلاثمائة فارس إلى غزنة. وقيل: بل جمع سنجر عساكر كثيرة، والتقى هو وقدرخان، وجرى بينهما مصاف، وقتال عظيم، أكثر فيه القتل فيهم، فانهزم قدرخان وعسكره، وحمل أسيراً إلى سنجر، فقتله، وحصر ترمذ، وبها كندغدي، فطلب الأمان، فأمنه سنجر، ونزل إليه، وسلم ترمذ، فأمره سنجر بمفارقة بلاده، فسار إلى غزنة، فلما وصل إليها أكرمه صاحبها علاء الدولة، وحل عنده المحل الكبير.
واتفق أن صاحب غزنة عزم على قصد أوتان، وهي جبال منيعة، على أربعين فرسخاً من غزنة، وقد عصى عليه قوم، وتحصنوا بمعاقلها، ووعور مسالكها، فقاتلهم عسكر علاء الدولة، فلم يظفروا منهم بطائل، فتقدم كندغدي منفرداً عنهم، فأبلى بلاء حسناً، ونصر عليهم، وأخذ غنائمهم، وحملها إلى علاء الدولة، فلم يقبل منها شيئاً، ووفرها عليه، فغضب العسكر، وحسدوه على ذلك، وعلى قربه من صاحبهم، ونفاقه عليه، فأشاروا بقبضه، وقالوا: إنا لا نأمن أن يقصد بعض الأماكن فيفعل في أمر الدولة ما لا يمكن تلافيه. فقال: قد تحققت قصدكم، ولكن بمن أقبض عليه؟ فإني أخاف أن آمركم بالقبض عليه، فينالكم منه ما تفتضحون به. فقالوا: الصواب أن توليه ولاية ويقبض عليه إذا سار إليها. فولاه حصنين جرت عادته أن يسجن فيهما من يخاف جانبه، فسار إليهما.

فلما قاربهما عرف ما يراد منه، فأحرق جميع ماله، ونحر جماله، وسار جريدة، وكان في مدة مقامه بغزنة يسأل عن الطرق وتشعبها، فإنه ندم على قصد تلك الجهة، فلما سار سأل راعياً عن الطريق التي يريدها، فدله، فأخذه معه خوفاً أن يكون قد غره، ولم يزل سائراً إلى أن وصل إلى قريب هراة، فمات هناك، وهو من مماليك تتش بن ألب أرسلان الذي كحله أخوه ملكشاه، وسجنه بتكريت، وقد تقدم ذكر حادثته.
ذكر ملك محمد خان سمرقندفي هذه السنة أحضر السلطان سنجر محمداً أرسلان خان بن سليمان بن داود بلراخان، من مرو، وملكه سمرقند، بعد قتل قدرخان، وكان محمد خان هذا من أولاد الخانية بما وراء النهر، وأمه ابنة السلطان ملكشاه، فدفع عسكر ملك آبائه، فقصد مرو، وأقام بها إلى الآن.
فلما قتل قدرخان ولاه سنجر أعماله، وسير معه العساكر الكثيرة، فعبروا النهر، فأطاعه العساكر بتلك البلاد جميعها، وعظم شأنه، وكثرت جموعه، إلا أنه انتصب له أمير اسمه هاغوبك، وزاحمه في الملك، فطمع فيه، فجرى له معه حروب احتاج في بعضها إلى الاستنجاد بعساكر سنجر، على ما نذكره بعد إن شاء الله تعالى.
ولما ملك محمد خان البلاد أحسن إلى الرعايا بوصية من سنجر، وحقن الدماء، وصار بابه مقصداً، وجنابه ملجأ.
ذكر عدة حوادثفي هذه السنة، في ربيع الأول، خرج تاج الرؤساء ابن أخت أمين الدولة أبي سعد بن الموصلايا إلى الحلة السيفية، مستجيراً بسيف الدولة صدقة.
وسبب ذلك أن الوزير الأعز وزير السلطان بركيارق كان ينسب إليه أنه هو الذي يميل جانب الخليفة إلى السلطان محمد، فسار خائفاً، واعتزل خاله أمين الدولة الديوان، وجلس في داره، فلما قتل الوزير الأعز، على ما ذكرنا، عاد تاج الرؤساء من الحلة إلى بغداد، وعاد خاله إلى منصبه.
وفي ربيع الأول أيضاً ورد العميد المهذب أبو المجد، أخو الوزير الأعز، إلى بغداد، نائباً عن أخيه، ظناً منه أن إيلغازي لا يخالفهم، حيث كان بركيارق ومحمد قد اتفقا، كما ذكرناه، فقبض عليه إيلغازي، ولم يتغير عن طاعة محمد.
وفيها، في جمادى الأولى، ورد إلى بغداد ابن تكش بن ألب أرسلان، وكان قد استولى على الموصل، فخدعه من كان بها، حتى سار عنها إلى بغداد، فلما وصل إليها زوجه إيلغازي بن أرتق ابنته.
وفيها، في شهر رمضان، استوزر الخليفة سديد الملك أبا المعالي بن عبد الرزاق، ولقب عضد الدين.
وفيها، في صفر، قتل الربعيون بهيت قاضي البلد أبا علي بن المثنى، وكان ورعاً، فقيهاً، حنفياً، من أصحاب القاضي أبي عبد الله الدامغاني، وكان هذا القاضي على ما جرت به عادة القضاة هناك من الدخول بين القبائل، فنسبوه في ذلك إلى التحامل عليهم، فقتله أحدهم، فندم الباقون على قتله، وقد فات الأمر.
وفيها بنى سيف الدولة صدقة بن مزيد الحلة بالجامعين، وسكنها، وإنما كان يسكن هو وآباؤه قبله في البيوت العربية.
وفي جمادى الأولى قتل المؤيد بن شرف الدولة مسلم بن قريش أمير بني عقيل، قتله بنو نمير عند هيت قصاصاً.
وفيها توفي القاضي البندنيجي الضرير، الفقيه الشافعي، انتقل إلى مكة، فجاور بها أربعين سنة يدرس الفقه، ويسمع الحديث، ويشتغل بالعبادة.
وفيها توفي أبو عبد الله الحسين بن محمد الطبري بأصبهان، وكان يدرس فقه الشافعي بالمدرسة النظامية، وقد جاوز تسعين سنة، وهو من أصحاب أبي إسحاق.
وفيها توفي الأمير منظور بن عمارة الحسيني، أمير المدينة، على ساكنها السلام، وقام ولده مقامه، وهو من ولد المهنا، وقد كان قتل المعمار الذي أنفذه مجد الملك البلاساني لعمارة القبة التي على قبر الحسن بن علي والعباس، رضي الله عنهما، وكان من أهل قم، فلما قتل البلاساني قتله منظور بعد أن أمنه، وكان قد هرب منه إلى مكة، فأرسل إليه بأمانه.
؟؟

ثم دخلت سنة ست وتسعين وأربعمائة
ذكر استيلاء ينال على الري
وأخذها منه ووصوله إلى بغداد

كانت الخطبة بالري للسلطان بركيارق، فلما خرج السلطان محمد من أصبهان، على ما ذكرناه، ومعه ينال بن أنوشتكين الحسامي، استأذنه في قصد الري وإقامة الخطبة له بها، فأذن له، فسار هو وأخوه علي بن أنوشتكين، فوصلا إليها في صفر، فأطاع من بها من نواب بركيارق، وخطب لمحمد بالري، واستولى ينال على البلد، وعسف أهله، وصادرهم بمائتي ألف دينار، وأقام بها إلى النصف من ربيع الأول، فورد إليه الأمير برسق بن برسق من عند السلطان بركيارق، فوقع القتال بينهم على باب الري، فانهزم ينال وأخوه علي.
فأما علي فعاد إلى ولايته قزوين، وسلك ينال الجبال، فقتل من أصحابه كثير، وتشتتوا، فأتى إلى بغداد في سبعمائة رجل، فأكرمه الخليفة، واجتمع هو وإيلغازي وسقمان ابنا أرتق بمشهد أبي حنيفة، وتحالفوا على مناصحة السلطان محمد، وساروا إلى سيف الدولة صدقة، فحلف لهم أيضاً على ذلك، وعادوا.
ذكر ما فعله ينال بالعراققد ذكرنا وصول ينال بن أنوشتكين إلى بغداد قبل. فلما استقر ببغداد ظلم الناس بالبلاد جميعاً، وصادرهم، واستطال أصحابه على العامة بالضرب والقتل والتقسيط، وصادر العمال.
فأرسل إليه الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن الدامغاني ينهاه عن ذلك، ويقبح عنده ما يرتكبه من الظلم والعدوان، وتردد أيضاً إلى إيلغازي، وكان ينال قد تزوج هذه الأيام بأخته، وهي التي كانت زوجة تاج الدولة تتش، حتى توسط الأمر معه، فمضوا إليه، وحلفوه على الطاعة، وترك ظلم الرعية، وكف أصحابه، ومنعهم، فحلف، ولم يقف على اليمين، ونكث ودام على الظلم وسوء السيرة.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة صدقة، وعرفه ما يفعله ينال من نهب الأموال، وسفك الدماء، وطلب منه أن يحضر بنفسه ليكف ينال، فسار من حلته في رمضان، ووصل بغداد رابع شوال، وضرب خيامه بالنجمي، واجتمع هو وينال، وإيلغازي، ونواب ديوان الخليفة، وتقررت القواعد على مال يأخذه ويرحل عن العراق، فطلب ينال المهلة، فعاد صدقة عاشر شوال إلى حلته، وترك ولده دبيساً ببغداد ليمنعه من الظلم والتعدي عما استقر الأمر عليه، فبقي ينال إلى مستهل ذي القعدة، وسار إلى أوانا، فنهب، وقطع الطريق، وعسف الناس، وبالغ في الفعل القبيح، وأقطع القرى لأصحابه، فأرسل الخليفة إلى صدقة في ذلك، فأرسل ألف فارس، وساروا إليه ومعهم جماعة من أصحاب الخليفة، وإيلغازي، شحنة بغداد، فلما سمع ينال بقربهم منه عبر دجلة، وسار إلى باجسري وشعثها، وقصد شهرابان، فمنعه أهلها، فقاتلهم، فقتل بينهم قتلى، ورحل عنهم، وسار إلى أذربيجان قاصداً إلى السلطان محمد، وعاد دبيس بن صدقة، وإيلغازي، شحنة بغداذ، إلى مواضعهم.
ذكر وصول كمشتكين القيصري شحنة إلى بغداد والفتنة بينه وبين إيلغازي وسقمان وصدقة
في هذه السنة، منتصف ربيع الأول، ورد كمشتكين القيصري إلى بغداد، شحنة، أرسله إليها السلطان بركيارق، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة رحيل بركيارق من أصبهان إلى همذان، فلما وصلها أرسل إلى بغداد كمشتكين شحنة، فلما سمع إيلغازي، وهو شحنة ببغداد، للسلطان محمد، أرسل إلى أخيه سقمان بن أرتق، صاحب حصن كيفا، يستدعيه إليه ليعتضد به على منعه، وسار إلى سيف الدولة صدقة بالحلة، واجتمع به، وسأله تجديد عهد في دفع من يقصده من جهة بركيارق، فأجابه إلى ذلك وحلف له، فعاد إيلغازي.
وورد سقمان في عساكر، ونهب في طريقه تكريت، وسبب تمكنه منها أنه أرسل جماعة من التركمان إلى تكريت، معهم أحمال جبن، وسمن، وعسل، فباعوا ما معهم، وأظهروا أن سقمان قد عاد عن الانحدار، فاطمأن أهل البلد، ووثب التركمان، تلك الليلة، على الحراس فقتلوهم، وفتحوا الأبواب، وورد إليها سقمان، ودخلها ونهبها، ولما وصل إلى بغداد نزل بالرملة.

وأما كمشتكين فوصل، أول ربيع الأول، إلى قرميسين، وأرسل إلى من له هوى مع بركيارق، وأعلمهم بقربه منهم، فخرج إليه جماعة منهم، فلقوه بالبندنيجين، وأعلموه الأحوال، وأشاروا عليه بالمعاجلة، فأسرع السير، فوصل إلى بغداد منتصف ربيع الأول، ففارق إيلغازي داره، واجتمع بأخيه سقمان، وأصعدا من الرملة، ونهبا بعض قرى دجيل، فسار طائفة من عسكر كمشتكين وراءهما، ثم عادوا عنهما، وخطب للسلطان بركيارق ببغداد، فأرسل كمشتكين القيصري إلى سيف الدولة صدقة، ومعه حاجب من ديوان الخليفة، في طاعة بركيارق، فلم يجب إلى ذلك، وكشف القناع ببغداد في مخالفته، وسار من الحلة إلى جسر صرصر، فقطعت خطبة بركيارق ببغداد، ولم يذكر على منابرها أحد من السلاطين، واقتصر الخطباء على الدعاء للخليفة لا غير.
ولما وصل سيف الدولة إلى صرصر أرسل إيلغازي وسقمان، وكانا بحربى، يعرفهما أنه قد أتى لنصرتهما، فعادا ونهبا دجيلاً، ولم يبقيا على قرية كبيرة ولا صغيرة، وأخذت الأموال، وافتضت الأبكار، ونهب العرب والأكراد الذين مع سيف الدولة بنهر ملك، إلا أنهم لم ينقل عنهم مثل التركمان من أخذ النساء والفساد معهن، لكنهم استقصوا في أخذ الأموال بالضرب والإحراق، وبطلت معايش الناس، وغلت الأسعار، فكان الخبز يساوي عشرة أرطال بقيراط، فصار ثلاثة أرطال بقيراط، وجميع الأشياء كذلك.
فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة في الإصلاح، فلم تستقر قاعدة، وعاد إيلغازي وسقمان ومعهما دبيس بن سيف الدولة صدقة من دجيل، فخيموا بالرملة، فقصدهم جماعة كثيرة من العامة، فقاتلوهم، فقتل من العامة أربعة نفر، وأخذ منهم جماعة، فأطلقوا بعد أن أخذت أسلحتهم، وازداد الأمر شدة على الناس، فأرسل الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن بن الدامغاني، وتاج الرؤساء بن الموصلايا إلى سيف الدولة يأمره بالكف عن الأمر الذي هو ملابسه، ويعرفه ما الناس فيه، ويعظم الأمر عليه، فأظهر طاعة الخليفة، إن أخرج القيصري من بغداد، وإلا فليس غير السيف، وأرعد وأبرق.
فلما عاد الرسول استقر الأمر على إخراج القيصري من بغداد، ففارقها ثاني عشر ربيع الآخر، وسار إلى النهروان، وعاد سيف الدولة إلى بلده، وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد، وسار القيصري إلى واسط، فخاف الناس منه، وأرادوا الانحدار منها ليأمنوا، فمنعهم القيصري، وخطب لبركيارق بواسط ونهبوا كثيراً من سوادها.
فلما سمع صدقة ذلك سار إلى واسط، فدخلها، وعدل في أهلها، وكف عسكره عن أذاهم، ووصل إليه إيلغازي بواسط، وفارقها القيصري، ونزل متحصناً بدجلة، فقيل لسيف الدولة: إن هناك مخاضة، فسار إليها بعسكره وقد لبسوا السلاح، فلما رآهم عسكر القيصري تفرقوا عنه، وبقي في خواص أصحابه، فطلب الأمان من سيف الدولة، فأمنه، فحضر عنده، فأكرمه، وقال له: قد سمنت، قال: وتركتنا نسمن؟ أخرجتنا من بغداد، ثم من واسط، ونحن لا نعقل.
ثم بذل صدقة الأمان لجميع عسكر واسط، ومن كان مع القيصري، سوى رجلين، فعادا إليه فأمنهما، وعاد القيصري إلى بركيارق، وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وخطب بعده لسيف الدولة وإيلغازي، واستناب كل واحد منهما فيها ولده، وعادا عنها في العشرين من جمادى الأولى، وأمن أهل واسط مما كانوا يخافونه.
فأما إيلغازي فإنه أصعد إلى بغداد، وأما سيف الدولة صدقة فإنه عاد إلى الحلة، وأرسل ولده الأصغر منصوراً مع إيلغازي إلى المستظهر بالله يسأله الرضا عنه، فإنه كان قد سخط بسبب هذه الحادثة، فوصل إلى بغداد، وخاطب في ذلك، فأجيب إليه.
ذكر استيلاء صدقة على هيتكانت مدينة هيت لشرف الدولة مسلم بن قريش، أقطعه إياها السلطان ألب أرسلان، ولم تزل معه حتى قتل، فنظر فيها عمداء بغداد إلى أن مات السلطان ملكشاه، ثم أخذها أخوه تتش بن ألب أرسلان. فلما استولى السلطان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة ثروان بن وهب بن وهيبة، وأقام هو جماعة من بني عقيل عند سيف الدولة صدقة، وكانا متصافيين، وكان صدقة يزوره كثيراً ثم تنافرا.

وكان سبب ذلك أن صدقة زوج بنتاً له من ابن عمه، وكان ثروان قد خطبها، فلم يجبه إلى ذلك، فتحالفت عقيل، وهم في حلة سيف الدولة، أن يكونوا يداً واحدة عليه، فأنكر صدقة ذلك، وحج ثروان عقيب ذلك وعاد مريضاً، فوكل به صدقة، وقال: لا بد من هيت، فأرسل ثروان حاجبه، وكتب خطه بتسليم البلد إليه.
وكان بهيت حينئذ محمد بن رافع بن رفاع بن ضبيعة بن مالك بن مقلد بن جعفر، وأرسل صدقة ابنه دبيساً مع الحاجب ليتسلمها فلم يسلم إليه محمد، فعاد دبيس إلى أبيه، فلما أخذ صدقة واسطاً، هذه النوبة، أصعد في عسكره إلى هيت، فخرج إليه منصور بن كثير ابن أخي ثروان، ومعه جماعة من أصحابه، فلقوا سيف الدولة، وحاربوه ساعة من النهار.
ثم إن جماعة من الربعيين فتحوا لسيف الدولة البلد، فدخله أصحابه، فلما رأى ذلك منصور ومن معه سلموا البلد إليه، فملكه يوم نزوله، وخلع على منصور وجماعة من وجوه أصحابه، وعاد إلى حلته، واستخلف عليه ابن عمه ثابت بن كامل.
ذكر الحرب بين بركيارق ومحمدفي هذه السنة، ثامن جمادى الآخرة، كان المصاف الخامس بين السلطان بركيارق والسلطان محمد.
وكانت كنجة وبلاد أران جميعها للسلطان محمد، وبها عسكره، ومقدمهم الأمير غزغلي، فلما طال مقام محمد بأصبهان محصوراً توجه غزغلي والأمير منصور بن نظام الملك وابن أخيه محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك قاصدين لنصرته، ليراهم بعين الطاعة.
وكان آخر ما تقام فيه الخطبة لمحمد زنجان مما يلي أذربيجان، فوصلوا إلى الري في العشرين من ذي الحجة سنة خمس وتسعين، ففارقه عسكر بركيارق، ودخلوه وأقاموا به ثلاثة أيام.
ووصلهم الخبر بخروج السلطان محمد من أصبهان، وأنه وصل إلى ساوة، فساروا إليه، ولحقوه بهمذان ومعه ينال وعلي ابنا أنوشتكين الحسامي، فبلغ عددهم ستة آلاف فارس، فأقاموا بها إلى أواخر المحرم، فأتاهم الخبر بأن السلطان بركيارق قد أتاهم، فتلونوا في رأيهم، فسار ينال وعلي ابنا أنوشتكين إلى الري، على ما ذكرناه، وعزم السلطان محمد على التوجه إلى شروان، فوصل إلى أردبيل، فأرسل إليه الملك مودود بن إسماعيل بن ياقوتي، صاحب بعض أذربيجان، وكانت قبله لأبيه إسماعيل بن ياقوتي، وهو خال السلطان بركيارق، وكانت أخته زوجة السلطان محمد، وهو مطالب السلطان بركيارق بثأر أبيه، وقد تقدم مقتله أول دولة بركيارق، وقال له: ينبغي أن تقدم إلينا لتجتمع كلمتنا على طاعتك، وقتال خصمنا، فسار إليه مجداً، وتصيد في طريقه بين أردبيل وبيلقان، وانفرد عن عسكره، فوثب عليه نمر، وهو غافل، فجرح السلطان محمداً في عضده، فأخذ سكيناً وشق بها جوف النمر فألقاه عن فرسه ونجا.
ثم إن مودود بن إسماعيل توفي في النصف من ربيع الأول، وعمره اثنتان وعشرون سنة، ولما بلغ بركيارق اجتماع السلطان محمد والملك مودود سار غير متوقف، فوصل بعد موت مودود، وكان عسكر مودود قد اجتمعوا على طاعة السلطان محمد، وحلفوا له، وفيهم سكمان القبطي، ومحمد بن باغي سيان، الذي كان أبوه صاحب أنطاكية، وقزل أرسلان بن السبع الأحمر، فلما وصل بركيارق وقعت الحرب بينهما على باب خوي من أذربيجان عند غروب الشمس، ودامت إلى العشاء الآخرة.
فاتفق أن الأمير إياز أخذ معه خمسمائة فارس مستريحين، وحمل بهم، وقد أعيا العسكر من الجهتين، على عسكر السلطان محمد، فكسرهم، وولوا الأدبار لا يلوي أحد على أحد.
فأما السلطان بركيارق فإنه قصد جبلاً بين مراغة وتبريز، كثير العشب والماء، فأقام به أياماً، وسار إلى زنجان.
وأما السلطان محمد فإنه سار مع جماعة من أصحابه إلى أرجيش، من بلاد أرمينية، على أربعين فرسخاً من الوقعة، وهي من أعمال خلاط، من جملة أقطاع الأمير سكمان القبطي، وسار منها إلى خلاط، واتصل به الأمير علي صاحب أرزن الروم، وتوجه إلى آني، وصاحبها منوجهر أخو فضلون الروادي، ومنها سار إلى تبريز من أذربيجان. وسنذكر باقي أخبارهم سنة سبع وتسعين عند صلحهم إن شاء الله.

وكان الأمير محمد بن مؤيد الملك بن نظام الملك مع السلطان محمد في هذه الوقعة، فمر منهماً، ودخل ديار بكر، وانحدر منها إلى جزيرة ابن عمر، وسار منها إلى بغداد، وكان في حياة أبيه يقيم ببغداد في سوق المدرسة، فاتصلت الشكاوى منه إلى أبيه، فكتب إلى كوهرائين بالقبض عليه، فاستجار بدار الخلافة، وتوجه سنة اثنتين وتسعين إلى مجد الملك البلاساني، ووالده حينئذ بكنجة عند السلطان محمد، قبل أن يخطب لنفسه بالسلطنة، وتوجه بعد قتل مجد الملك إلى والده، وقد صار وزير السلطان محمد، وخطب لمحمد بالسلطنة، وبقي بعد قتل والده، واتصل بالسلطان محمد، وحضر معه هذه الحرب فانهزم.
ذكر عزل سديد الملك وزير الخليفة ونظر أبي سعد بن الموصلايا في الوزارةفي هذه السنة، منتصف رجب، قبض على الوزير سديد الملك أبي المعالي، وزير الخليفة، وحبس في دار بدار الخلافة، وكان أهله قد وردوا عليه من أصبهان، فنقلوا إليه، وكان محبسه جميلاً.
وسبب عزله جهله بقواعد ديوان الخلافة، فإنه قضى عمره في أعمال السلاطين، وليس لهم هذه القواعد، ولما قبض عاد أمين الدولة بن الموصلايا إلى النظر في الديوان.
ومن عجيب ما جرى من الكلام الذي وقع بعد أيام أن سديد الملك كان يسكن في دار عميد الدولة بن جهير، وجلس فيها مجلساً عاماً يحضره الناس لوعظ المؤيد عيسى الغزنوي، فأنشدوا أبياتاً ارتجلها:
سديد الملك سدت، وخضت بحراً ... عميق اللج، فاحفظ فيه روحك
وأحي معالم الخيرات، واجعل ... لسان الصدق في الدنيا فتوحك
وفي الماضين معتبر، فأسرج ... مروحك في السلامة، أو جموحك
ثم قال سديد الملك: من شرب من مرقة السلطان احترقت شفتاه، ولو بعد زمان، ثم أشار إلى الدار وقرأ: " وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم " ، فقبض على الوزير بعد أيام.
ذكر ملك الملك دقاق مدينة الرحبةفي هذه السنة، في شعبان، ملك الملك دقاق بن تتش، صاحب دمشق، مدينة الرحبة، وكانت بيد إنسان اسمه قايماز من مماليك السلطان ألب أرسلان، فلما قتل كربوقا استولى عليها، فسار دقاق وطغتكين أتابكه إليه، وحصراه بها، ثم رحل عنه.
وتوفي قايماز هذه السنة في صفر، وقام مقامه غلام تركي اسمه حسن، فأبعد عنه كثيراً من جنده، وخطب لنفسه، وخاف من دقاق، فاستظهر، وأخذ جماعة من السالارية الذين يخافهم، فقبض عليهم، وقتل جماعة من أعيان البلد، وحبس آخرين وصادرهم. فتوجه دقاق إليه وحصره، فسلم العامة البلد إليه، واعتصم حسن بالقلعة، فأمنه دقاق، فسلم القلعة إليه، فأقطعه إقطاعاً كثيراً بالشام، وقرر أمر الرحبة، وأحسن إلى أهلها، وجعل فيها من يحفظها، ورحل عنها إلى دمشق.
ذكر أخبار الفرنج بالشامكان الأفضل أمير الجيوش بمصر قد أنفذ ملوكاً لأبيه، لقبه سعد الدولة، ويعرف بالطواشي، إلى الشام لحرب الفرنج، فلقيهم بين الرملة ويافا، ومقدم الفرنج يعرف ببغدوين، لعنه الله تعالى، وتصافوا واقتتلوا، فحملت الفرنج حملة صادقة، فانهزم المسلمون.
وكان المنجمون يقولون لسعد الدولة: إنك تموت متردياً، فكان يحذر من ركوب الخيل، حتى إنه ولي بيروت وأرضها مفروشة بالبلاط، فقلعه خوفاً أن يزلق به فرسه، أو يعثر، فلم ينفعه الحذر عند نزول القدر، فلما كانت هذه الوقعة انهزم، فتردى به فرسه، فسقط ميتاً، وملك الفرنج خيمه وجميع ما للمسلمين.
فأرسل الأفضل بعده ابنه شرف المعالي في جمع كثير، فالتقوا هم والفرنج بيازوز،، بقرب الرملة، فانهزم الفرنج، وقتل منهم مقتلة عظيمة، وعاد من سلم منهم مغلولين، فلما رأى بغدوين شدة الأمر، وخاف القتل والأسر، ألقى نفسه في الحشيش واختفى فيه، فلما أبعد المسلمون خرج منه إلى الرملة. وسار شرف المعالي بن الأفضل من المعركة، ونزل على قصر بالرملة، وبه سبعمائة من أعيان الفرنج، وفيهم بغدوين، فخرج متخفياً إلى يافا، وقاتل ابن الأفضل من بقي خمسة عشر يوماً، ثم أخذهم، فقتل منهم أربعمائة صبراً، وأسر ثلاثمائة إلى مصر.
ثم اختلف أصحابه في مقصدهم، فقال يوم: نقصد البيت المقدس ونتملكه، وقال قوم: نقصد يافا ونملكها.

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34